ربيع الأول - 1344هـ
أكتوبر - 1925م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(س6-36) من صاحب الإمضاء في بيروت
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي
الأنام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فإني أرفع لفضيلتكم الأسئلة
الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني
عظيم الشكر.
(1) هل رفع الحجاب عن وجوه المسلمات الحرائر، وإظهار أكفهن ظهرًا
وبطنًا إلى الكوعين [*] خارج الصلاة في الطرقات والأسواق والمجتمعات العامة،
جائز في الشريعة الإسلامية أم لا؟
(2) وهل صوت المرأة الأجنبية المسلمة الحرة عورة، يحرم على الرجال
سماعه أم لا؟
(3-6) وهل التزيي بلبس القبعة (ما يسمونها بالبرنيطة) للرجل المسلم
حرام أو مكروه أم لا؟ فإذا قلتم: حرام أو مكروه. فما الدليل على الحرمة
أو الكراهة؟ وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البدلة الإفرنجية (ما يسمونها
بالسترة والبنطلون) أم لا؟ وهل تجوز صلاة الرجل المسلم وهو متزيٍّ بلبسها بلا
حرمة ولا كراهة، سواء كان إمامًا أو مأمومًا، أو منفردًا أو خطيبًا للجمعة
والعيدين أم لا؟ وهل للمسلمين من الرجال والنساء زي مخصوص يلبسونه أم لا؟
فإذا قلتم: إن لهم زيًّا مخصوصًا يلبسونه فما هو شكله وكيفيته؟ أرجو التفضل
ببيان ذلك.
(7-8) وهل السكروتة (ما يسمونها بالستكروزة) من الدودة أم من النبات؟
وهل يحرم لبسها كالحرير للرجال أم لا؟ وهل حرمة التحلي بلبس الحرير
للرجال من الكبائر أم من الصغائر؟
(9-13) وما هي الحرمة الكبيرة والصغيرة؟ وما كيفية عذابهما؟ وهل
يتفاوتان في العذاب أم لا؟ وهل عذاب القبر للروح والجسد معا أم هو للروح فقط ,
وهل يكون العذاب مستمرًا دائمًا أم منقطعًا؛ أي: يرتفع ويعود وهكذا أم لا؟
(14-16) وما قولكم دام فضلكم في رجل مسلم مؤمن بالغ عاقل حر قتل
نفسًا مسلمة مؤمنة بالغة عاقلة حرة عمدًا بغير حق، ولم يقاصص في الحياة الدنيا لا
بدفع الدية ولا بغيرها مطلقًا وعليه أيضًا ديون ومظالم وخيانات وسرقات وكذب
وغش لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا. ما حكمه في ذلك كله يوم القيامة؟
هل يعذب في قبره بسبب ذلك كله أم عذابه في الآخرة فقط؟ وهل إذا تاب إلى الله
تعالى في الحياة الدنيا من ذلك كله تقبل منه التوبة ولا يعذبه في قبره ولا في الآخرة
أم لا؟
(17) وهل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين أم لا -
وما معناهما - وهما: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون
ويستغفرون الله فيغفر لهم) - رواه الإمام مسلم. (كل شيء يقدر حتى العجز
والكيس) ، رواه الإمامان مسلم وأحمد. أرجوكم أن لا تحيلونا على فتاوى سبقت
لكم في مجلدات مجلة المنار بهذا الخصوص، حيث إنه لم توجد لدينا مجلدات مجلة
المنار مطلقًا. تفضلوا بالجواب، ولكم الأجر والثواب.
(المنار)
إننا نجيب عن هذه المسائل بشيء من الإجمال لبعض مباحثها، ومن التكرار
لبعض معانيها، ولما سبق لنا من تفصيل القول في أكثرها.
***
كشف وجه الحرة وكفيها
نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره أن المسلمين قد أجمعوا على أن على المرأة
أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام، ومن المعلوم أن مدة الإحرام طويلة تبتدئ
من الميقات المعين، وتنتهي بأداء النسك من حج أو عمرة، وأن النساء كن ولا
يزلن يشاركن الرجال في أعمال فرائض النسك وواجباته، وأنهن كن يصلين مع
الرجال، ويتوضأن حيث يتوضؤون في باقي الأوقات والأحوال، فالستر الذي
فرض عليهن في أثناء الصلاة والنسك هو أكمل الستر وأتمه؛ لأنه يكون في أفضل
المجامع الدينية المشتركة بينهن وبين الرجال، ولا ينافي ذلك كونهن يصلين صلاة
الجماعة خلف الرجال، وأنهن قد يفرد لهن المطاف فيطفن وحدهن؛ إذ من المعلوم
بالضرورة أنهن يقبلن على المساجد في الحالة التي يصلين فيها أو يطفن، فيراهن
الرجال، وأنهن يتنقلن مع الرجال من مواقيت الإحرام إلى مكة، ومنها إلى عرفات
والمزدلفة ومنى.
ولا بأس بأن ننقل هنا ملخص مذاهب علماء الأمصار في المسألة في الصلاة
وخارجها عن كتاب المفتي للشيخ الموفق الحنبلي، فإنه كتاب في فقه الإسلام لا في
فقه الحنابلة وحدهم، قال (ص641ج1) :
لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس
لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان، واختلف أهل العلم، فأجمع
أكثرهم على أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه، وأجمع أهل العلم على أن للمرأة
الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن
عليها الإعادة، وقال أبو حنيفة: القدمان ليسا من العورة؛ لأنهما يظهران غالبًا فهما
كالوجه، وإن انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم
تبطل صلاتها. وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها
وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة؛ لأن ابن عباس قال في قوله تعالى:
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) : الوجه والكفين. ولأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المحرمة (أي بالحج أو العمرة) عن لبس
القفازين والنقاب. ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة
تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء، وقال بعض
أصحابنا: المرأة كلها عورة؛ لأنه قد روي في حديث عن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (المرأة كلها عورة) ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر
إليه لأجل الخطبة؛ لأنه مجمع المحاسن اهـ، ومثله في الشرح الكبير (ص
462ج1) .
وذكر الإمام الشوكاني في نيل الأوطار خلاف هذه المذاهب وغيرها، فقال:
(وقد اختلف في مقدار عورة الحرة، فقيل: جميع بدنها ما عدا الوجه
والكفين، وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد قوليه، والشافعي في أحد أقواله،
وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، ومالك. وقيل: والقدمين وموضع الخلخال:
(أي: كالوجه والكفين) ، وإلى ذلك ذهب القاسم في قول وأبو حنيفة في رواية عنه،
والثوري وأبو العباس، وقيل: بل جميعها إلا الوجه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل
وداود , وقيل: جميعها بدون استثناء، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي،
وروى عن أحمد. وسبب اختلاف هذه الأقوال ما وقع من المفسرين من اختلاف في
تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) اهـ.
أقول: بل هنالك أسباب أخرى كما تقدم عن المغني، وأقواها ما كان معروفًا
في الصدر الأول من معاملة النساء للرجال في البيع والشراء والشهادة، وخدمتهن
لجرحى الحرب، وإنما ورد النهي عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية وعن متابعة
نظر الشهوة. وفي حديث ابن عباس من صحيح البخاري وغيره أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أردف الفضل بن العباس خلفه في سفر حجة الوداع، فعرضت له
صلى الله عليه وسلم امرأة خثعمية جميلة تسأله، فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ
النبي - صلى الله عليه وسلم - بذقن الفضل يحول وجهه عن النظر إليها. وفي
رواية الترمذي للقصة أن العباس قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لويت عنق
ابن عمك؟ فقال: (رأيت شابًّا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة) فالنبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يأمر المرأة بستر وجهها، ولم يأمرها ولا أمر الفضل بعدم نظر كل
منهما إلى الآخر، إلا أنه حول وجه الفضل عنها؛ لما رآه يتعمد إطالة النظر إليها
فعلم أنه عن شهوة. ولذلك ورد أن النظرة الأولى للمرء والثانية عليه، وهذا بعد
نزول آية الحجاب بخمس سنين، وقد استدل به من السنة العملية، على أن
الحجاب المنصوص في سورة الأحزاب خاص بنساء النبي - صلى الله عليه
وسلم - كما هو صريح الآيات، ولا سيما قوله تعالى في أولها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} (الأحزاب: 32) إلخ.
وتعليلهم المتقدم لكون الوجه والكفين لا يجب سترهما بالحاجة إلى كشفهما
للبيع والشراء والأخذ والإعطاء، وبما في التغطية من المشقة؛ صريح في عدم
قصر كشفهما على حال الصلاة. ومن حرم كشف الوجه والكفين من الفقهاء
- كالنووي من الشافعية - عللوه بخوف الفتنة، وهو أمر عارض لا أصل ولا غالب
في النظر، فهو يراعى في الأحوال التي هي مظنة الفتنة، وليست دائمة ولا غالبة،
فإن البر والفاجر من جماهير الناس يرون أبرع النساء جمالاً في شوارع الأمصار
العامة، ولا يكاد يفتتن أحد منهم برؤيتهن، على أن الكثيرات منهن يخرجن
متبرجات بكل ما أباحته حرية الفسق من زينة وتهتك وإغراء، وإنما يفتتن بعض
الفجار الذين يبحثون عن الفواجر، فمن يريد التحري لدينه من رجل وامرأة فلا
يخفى عليه، ما كان مظنة الفتنة الواجب عليه اجتنابها والبعد عن مواقف الشبهة
ومواضع الريبة. ولم يكن الأمر بالستر في عصر التشريع إلا لأجل هذا، وقد أبيح
للإماء كشف رؤوسهن مع وجوههن، ومن العلماء من قال: إن عورة الأمة كعورة
الرجل، ما بين السرة والركبة، وربما كانت الفتنة فيهن أشد؛ لأن الوصول إليهن
أيسر، والعفة فيهن أقل وأضعف، ويجب عليهن ما يجب على الحرائر من صيانة
أعراضهن، ويحرم عليهن من الفجور ووسائله ما يحرم عليهن، ولا يقول فقيه
بإباحة تعرضهن للفتنة، فإذا وجدن في مكان يتعرض فيه الفجار لهن فعليهن أن
يسترن رؤوسهن ووجوههن أيضًا وإلا فلا.
وإنا لنعلم أن المتفرنجين من المسلمين يبغون برفع أدب الحجاب عن
المسلمات التوسل إلى مثل إباحة نساء الإفرنج كما فعل الترك، فليحذر المسلمون
الحريصون على دينهم وأعراضهم وأنسابهم ذلك، فإن الخوف من هذه العاقبة هو
الذي يحمل أهل الدين - من صنف العلماء وغيرهم - على إطلاق القول: بوجوب
كذا من الحجاب، وتحريم كذا من السفور مثلاً. والتحريم والتحليل الدينيان حق الرب
وحده على عباده فهو يتوقف على النص، والنص عام وخاص، ومطلق ومقيد،
وتطبيق النصوص على الوقائع والنوازل أعسر مسلكًا من معرفة النصوص وفهم
معانيها، ولذلك ورد في الحديث (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه
أحمد والدارمي وأبو يعلى من حديث وابصة مرفوعًا.
وأما صوت المرأة فليس بعورة فما زال النساء يكالمن الرجل في إفادة العلم
واستفادته، حتى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المحاكمات والشهادات
والمبايعات وغير ذلك من المعاملات: كخطبة النكاح، وكذا الخطب السياسية بغير
نكير. وقال الله لنساء نبيه في آيات الحجاب: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً} (الأحزاب: 32) .
***
مسائل اللباس والزي
قد حققنا هذه المسألة في كتابنا (الحكمة الشرعية) الذي هو أول مؤلفاتنا، ثم
عدنا إليه في المنار مرارًا، وصفوة القول فيه: إن الدين الإسلامي لم يفرض ولم
يحرم على المسلمين زيًّا مخصوصًا، بل ترك هذا وأمثاله من العادات إلى اختيار
الناس، والإسلام دين عام فرضه الله تعالى على جميع الناس كما تراه مفصلاً في
تفسير هذا الجزء، وما يصلح لهم من اللباس في بعض الأقطار لا يصلح في غيرها،
ولكن شرعه حرم عليهم الضرر والضرار، فليس لمسلم أن يرتكب ما يضر نفسه
ولا ما يضر غيره، فاجتناب الضرر والضرار قيد تقيد به جميع المباحات لذاتها
من أكل وشرب ولباس وصناعة وزراعة وغير ذلك، فمن علم بالتجربة أو بقول
الطبيب الصادق أن أكل الخبز أو شرب الماء يضره لمرض مثلاً حرم عليه،
ويقاس على هذا غيره، وما يضر الناس أفرادًا وجماعات أولى بالتحريم مما يضر
النفس، فليس لمسلم أن يضر أحدًا بعبادته فضلاً عن عادته.
فمن عرف هذا الأصل علم أن لبس السراويل المسمى بالبنطلون أو القلنسوة
المسماة بالبرنيطة ليس محرمًا لذاته بل مباحًا، فإن كان هذا اللباس بصفة تصده
عن الصلاة أو تحمله على تأخيرها عن وقتها لتعذر أدائها أو تعسره في حال لبسه،
ككون السراويل حازقًا؛ أي: ضاغطًا على البدن يمنع لشدة ضيقه من السجود،
وككون القلنسوة تمنع منه كذلك بشكلها.. . فإن ذلك يكون ضررًا دينيًّا مقتضيًا
للتحريم ما دام مانعًا، وكذلك إذا كان لبس الحاذق يضر البدن كما قالوه في المشد
الذي تشد النساء به خصورهن. وقد قال الدكتور سنوك المستشرق الهولاندي
المشهور الذي دخل في الإسلام، وجاور في مكة بضع سنين، وكان صديقنا السيد
عبد الله الزواوي مفتي مكة من شيوخه يعتقد صحة إسلامه- قال: إنه ثبت التجربة
الدقيقة في البلاد المختلفة أن المسلمين الذين يتركون زيهم ويلبسون الزي الإفرنجي
يترك أكثرهم الصلاة أو المحافظة عليها، مع العلم بأن أكثرهم يجعلها واسعة لا
يتعذر السجود ولا يتعسر في حال لبسها.
ونحن نزيد على هذا أننا رأينا بالاختبار في مصر أن الذين تركوا الزي
الوطني: الجبة والقباء (القفطان أو الغنباز) ، والعمامة حتى من غير المنسوبين
إلى طبقة رجال العلم والتعليم، واستبدلوا به الزي الإفرنجي، صار أكثرهم
يجلسون في الحانات، ويعاقرون الخمور على قارعة الطريق، ويختلفون إلى
معاهد الرقص والخلاعة ومواخير الزنا جهرًا، ومنهم من غير زيه؛ لأجل هذا
فكان عاصيًا لله تعالى به وسيلة ومقصدًا. وما كل من يلبسه كذلك ولا سيما الذين
اعتادوه من الصغر.
ثم إن هذا الزي قد صار - إذا استثنينا (البرنيطة) - من جملة الأزياء
الوطنية بمصر وبلاد أخرى، يلتزمه جميع رجال الحكومة ما عدا رجال الشرع
عنهم، فإذا أضيفت إليه البرنيطة التي لا تزال خاصة بالإفرنج ومقلديهم من الشعوب
غير الإسلامية، ولا يلبسها من المسلمين إلا الأفراد الذين يسافرون إلى بلاد الإفرنج؛
لأجل التنكر وإيهام أهل البلاد أنهم منهم، ويعتذرون عن هذا بأنهم إذا دخلوا البلاد
بزيهم الوطني يكونون مطمح أنظار الساخرين والمستهزئين، وقد يؤذون منهم.
وهذا اعتذار باطل كما جربنا بنفسنا، فقد زرنا أوربة بزينا الوطني الذي يعد زي
علماء الدين في بلادنا، ولم نلق أذًى من أحد باحتقار ولا غيره، نعم كانت تتوجه إلينا
الأنظار، وتلتفت نحونا الأعناق، ولا سيما إذا صلينا في بعض المتنزهات العامة،
ولكن كان يكون ذلك مع الأدب التام، بل كنا قد نحترم عند الذين يعرفوننا أكثر من
غيرنا.
وقد لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - الجبة الرومية والطيالسة الكسروية
لبيان الجواز، ولكنه أمر أمته بمخالفة الكفار في عادتهم وأزيائهم لا في أمورهم
الدينية فقط، ولما كان هو بمكة كان يخالف المشركين وإن وافق أهل الكتاب، فلما
صار في المدينة كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب لمجاورته لهم فيها، كما أمر بصبغ
الشيب؛ لأنهم لم يكونوا يصبغون، وروى أحمد وابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة
(رضي الله عنه) قال: قلنا يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون،
فقال صلى الله عليه وسلم: (تسرولوا وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب) أي فأمر
بمخالفتهم بالجمع بين الأمرين، ولم يأمر بترك السراويل ألبتة لمخالفتهم؛ إذ الغرض
أن يكون للمسلمين مشخصات من العادات خاصة بهم، ولا يكونوا تابعين
لغيرهم؛ لأن الاستقلال في العادات وغيرها، مما يعد من مشخصات الأمم التي
تعرف بها، يزيد استقلال الأمة في مقوماتها الملية: كالدين واللغة والآداب، وما
يسمونه الثقافة القومية قوة ورسوخًا.
لهذه العلة أجاب عمر (رضي الله عنه) معاوية وغيره ممن طلبوا منه أن
يتجمل أمام أهل بلاد الشام؛ لأنهم اعتادوا أن يروا حكامهم من الروم في مظاهر
عظيمة من الزي وغيره - فقال ما معناه: جئنا لنعلمهم كيف نحكم لا لنتعلم منهم،
ولهذا الغرض نفسه كان يوصي قواده الفاتحين لبلاد الأعاجم وعماله فيها
بالمحافظة على عادات العرب وزيها، وينهاهم عن التشبه بالأعاجم.
روى مسلم في صحيحه عن أبي عثمان النهدي قال: كتب إلينا عمر ونحن
في أذربيجان: يا عتبة بن فرقد إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك،
فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل
الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبوس
الحرير إلا هكذا.. . ورفع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعيه
الوسطى والسبابة وضمهما اهـ. وعتبة هذا كان قائد جيش عمر هنالك. قال النووي
في شرح مسلم: ومقصود عمر (رضي الله عنه) حثهم على خشونة العيش
وصلابتهم في ذلك، ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك، وقد جاء في هذا
الحديث زيادة في مسند أبي عوانة الإسفراييني وغيره بإسناد صحيح قال: أما بعد
فائتزروا، وارتدوا، وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل،
وإياكم والتنعم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا،
واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وابرزوا وارموا الأغراض اهـ.
فقد أمرهم بإلقاء الخفاف والسراويلات، وكانوا يلبسونها في عهد النبي -
صلى الله عليه وسلم - بإذنه كما أمرهم بغير ذلك من لبوس العرب وعاداتهم،
ليحافظوا على مشخصاتهم فلا يندغموا في الأعاجم، ولولا ذلك لاندغموا في
الأعاجم بدلاً من تعريبهم لهم، والتمعدد التشبه بمعد بن عدنان، وكان شديد القوة
والبأس، يؤثر الخشونة في العيش على الترف والرخاوة , وقوله: واقطعوا الركب
هو بضمتين جمع ركاب - ككتاب وكتب - أي: اقطعوا ركب شروجكم، فهذه
الأوامر والنواهي ليست دينية مفروضة على كل مسلم، بل هي من سياسة الإسلام
التي تطلب من جمهور الأمة في مثل هذه الأحوال، ولحكامهم أن يلزموهم إياها
شرعًا، وعليهم طاعتهم فيها إن كانت لتقوية بناء الأمة ورفعة شأن الملة.
وقد التزم هذه السياسة العربية الإسلامية في هذا العصر الشعب الإنكليزي،
ولا سيما في مستعمراته، فهو يتحرى أن يكون ممتازًا أو متبوعًا؛ ولذلك كان
أعز الشعوب نفسًا وأعلاهم همة وقدرًا. وقد رأيت السيد عليًّا ملاحظ أو وكيل
الشحنة (البوليس) في آغره من الهند يلبس قلنسوة (برنيطة) بريطانية،
فكلمته في لبسها وما فيه، وسألته: هل هو شرط رسمي في عمله؟ فقال: إن
الإنكليز يمنعون أهل الهند رسميًّا من لبس هذه البرانيط؛ لئلا يتشبهوا بهم فلا
يلبسها أحد إلا بإذن خاص، ولا يعطى هذا الإذن لكل أحد، وقد أعطيته بعد
أن طلبته؛ لأن التجوال في الشمس عامة النهار يؤذي رأسي.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) المنار: المراد بالكوعين الكوع والكرسوع على التغليب، فالكوع طرف عظم الساعد أو الزند
من جهة إبهام اليد، والكرسوع الطرف الآخر الذي يلي الخنصر، وما بينهما يسمى الرسغ بالضم.(26/416)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مواد المنار
تتزاحم المواد على المنار بتزاحم الأحداث والجوائب في العالم الإسلامي،
فتضيق صحائفه بها وبمواده الثابتة، فنضطر إلى ترك بعض ما بدأنا قبل إتمامه أو
تأخيره، كنا شرعنا في كتابة بحث طويل في مسألة ترجمة القرآن المجيد؛ لإقدام
الحكومة التركية على تنفيذ ما اقترحه بعض ملاحدتهم اللادينيين في أواخر عهد
الدولة العثمانية التي قضوا عليها، فما عتم أن فاجأنا اللادينيون في مصر بكتاب
(الإسلام وأصول الحكم) ، فصرفنا فضل وقتنا إلى السعي؛ لدمغ باطله، وإبطال
ضلالته، وإظهار ما انطوى عليه من الكفر الخفي والجلي، وتأليب علماء المسلمين
وعامتهم عليه، فكتبنا في ذلك عدة مقالات ضاق عنها المنار؛ فنشر بعضها في
جريدة اللواء وبعضها لما ينشر، كما عقدنا مجالس لذلك حضرها بعض علماء
الأزهر، وأساتذة المدارس العليا وغيرهم، ونشرنا صورة حكم هيئة كبار العلماء
على مؤلفه بطرده من علماء الأزهر، وما ترتب عليه من حكم الحكومة بطرده من
المحاكم الشرعية، وسنعود إلى ما تركنا بحسب الحاجة.
__________(26/424)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسرار البلاغة أو فلسفة البيان
(تابع لما نشر في الجزء الخامس)
وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما
يحرك قوي الاستحسان، ويثير الكامن من الاستظراف، فإن التمثيل أخص شيء
بهذا الشان، وأسبق جار في هذا الرهان، وهذا الصنيع صناعته التي هو الإمام
فيها، والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمره في ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه
وعد محاسنه في هذا المعنى، والبدع التي يخترعها بحذقه، والتأليفات التي يصل
إليها برفقه، ازدحمت عليك، وغمرت جانبيك، فلم تدر أيها تذكر، ولا عن أيها
تعبر، كما قال:
إذا أتاها طالب يستامها ... تكاثرت في عينه كرامها
وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما
بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق [1] ، وهو يريك للمعاني
الممثلة بالأوهام شبهًا في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرس،
ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد،
فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح:
هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماءً ومن أخرى نارًا
كما قال:
أنا نار في مرتقى نظر الحا ... سد ماء جارٍ مع الإخوان
وكما يجعل الشيء حلوًا مرًّا، وصابًا عسلاً، وقبيحًا حسنًا، كما قال:
حسن في عيون أعدائه أقـ ... ـبح من ضيفه رأته السوام [2]
ويجعل الشيء أسود أبيض في حال كنحو قوله:
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع [3]
ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضده كما قال:
غرة بهمة ألا إنما كنـ ... ت أغرًّا أيام كنت بهيمًا [4]
ويجعل الشيء قريبًا بعيدًا معًا كقوله:
دانٍ على أيدي العفاة وشاسع
وحاضرًا وغائبًا كما قال:
أيا غائبًا حاضرًا في الفؤاد ... سلام على الحاضر الغائب
ومشرقًا مغربًا كقوله:
له إليكم نفس مشرقة ... إن غاب عنكم مغربًا بدنه
وسائرًا مقيمًا كما يجيء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة،
وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن:
وجوابة الأفق موقوفة ... تسير ولم تبرح الحضرة
وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتوفيقه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة
الرجل في الحجة وحسن تخليصه للكلام، وقد مُثلت تارة بالهناء ومعالجة الإبل
الجربى به [5] , وأخرى بحز القصاب اللحم، وإعماله السكين في تقطيعه وتفريقه في
قولهم: (يضع الهناء مواضع النُقب (وهو الجرب) ، ويطبق المفصل) [6] ،
فانظر هل ترى مزيدًا في التناكر والتنافر على ما بين طلاء القطران، وجنس
القول والبيان، ثم كرر النظر، وتأمل كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء من جمع
أحدهما إلى الآخر ما يأنس إليه العقل ويحمده الطبع، حتى إنك لربما وجدت لهذا
المثل إذا أورد عليك [7] في أثناء الفصول، وحين تبين الفاضل في البيان من
المفضول، قبولاً، ولا ما تجد عند فوح المسك ونشر الغالية [8] ، وقد وقع ذكر الحز
والتطبيق منك موقع ما ينفي الحزازات عن القلب، ويزيل أطباق الوحشة عن
النفس، وتكلف القول في أن للتمثيل في هذا المعنى المدى الذي لا يجارى إليه،
والباع الذي لا يطاول فيه، كالاحتجاج للضرورات، وكفى دليلاً على تصرفه فيه
باليد الصناع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يريك العدم وجودًا والوجود عدمًا،
والميت حيًّا والحي ميتًا، أعني: جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد
موته كأنه لم يمت، وجعل الذكر حياة له كما قال: (ذكرة [9] الفتى عمره الثاني) ،
وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت، وتصييرهم إياه - حين
لم يكن ما يؤثر عنه، ويعرف به - كأنه خارج عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم
يدخل في الوجود.
ولطيفة أخرى له في هذا المعنى هي - إذا نظرت - أعجب، والتعجب بها أحق
ومنها أوجب، وذلك جعل الموت نفسه حياة مستأنفة، حتى يقال: إنه بالموت
استكمل الحياة في قولهم: (فلان عاش حين مات) يراد: الرجل تحمله
النفس الأبية وكرم النفس والأنفة من العار على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس،
ففعل ما فعل كعب بن مامة [10] في الإتيان على نفسه، أو ما يفعله الشجاع
المذكور من القتال دون حريمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال
الأعداء، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر، وحديث يعاد على مر الدهور ويُشهر،
كما قال ابن نباتة:
بأبي وأمي كل ذي ... نفس تعاف الضيم حرهْ
يرضى بأن يرد الردى ... فيميتها ويعيش ذكره
وإنه ليأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة، ويشتق من الأصل الواحد أغصانًا
في كل غصن ثمر على حدة، نحو أن الزند بإيرائه [11] يعطيك شبه الجواد،
والذكي الفطن وشبه النجح في الأمور والظفر بالمراد وبإصلاده [12] شبه البخيل
الذي لا يعطيك شيئًا، والبليد الذي لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى،
وشبه من يخيب سعيه ونحو ذلك. ويعطيك [13] من القمر الشهرة في
الرجل والنباهة والعز والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان والنقصان بعد
الكمال، كقولهم: (هلال نما فعاد بدرًا) يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي
يشبه أصله من الفضل والعقل وسائر معاني الشرف كما قال أبو تمام:
لهفي على تلك الشواهد منهما ... لو أمهلت حتى تصير شمائلا
لغدا سكونهما حجًى وصباهما ... كرمًا وتلك الأريحية نائلا [14]
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدرًا كاملا
وعلى هذا المثل بعينه يضرب مثلاً في ارتفاع الرجل في الشرف والعز من
طبقة إلى أعلى منها كما قال البحتري:
شرف تزيَّد بالعراق إلى الذي ... عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا [15]
مثل الهلال بدا فلم يبرح به ... صوغ الليالي فيه حتى أقمرا
ويعطيك شبه الإنسان في نشأته ونمائه إلى أن يبلغ حد التمام، ثم تراجعه إذا
انقضت مدة الشباب، كما قال:
المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضئيلاً ضعيفًا ثم يتسق [16]
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصًا ثم ينمحق
وكذلك يتفرع من حالتي تمامه ونقصانه فروع لطيفة، فمن ذلك قول ابن بابك:
وأعرت شطر الملك شطر كماله ... والبدر في شطر المسافة يكمل [17]
قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخر الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا
العباس الضبي، وخلع عليهما [18] . وقول أبي بكر الخوارزمي:
أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... مقيمًا وإن عسرت زرت لماما [19]
فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ... أغب وإن زاد الضياء أقاما
المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يحب، فإن
الإغباب أن يتخلل وقتي الحضور وقت يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر
إذا نقص نوره لم يوالِ الطلوع كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي ويمتنع من
الظهور في بعض، وليس الأمر كذلك؛ لأنه على نقصانه يظهر كل ليلة حتى يكون
السرار. وقال ابن بابك في نحوه:
كذا البدر يسفر في تمه ... فإن خاف نقص المحاق انتقب
وهكذا ينظر إلى مقابلته الشمس واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سبب
زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاف، وحصوله في المحاق، وتفاوت حاله
في ذلك، فيصاغ منه أمثال ويبين أشباه ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة:
قد سمعنا بالغر من آل ساسا ... ن ويونان في العصور الخوالي
والملوك الأولى إذا ضاع ذكر ... وُجدوا في سوائر الأمثال
مكرمات إذا البليغ تعاطى ... وصفها لم يجده في الأقوال
وإذا نحن لم نضفها إلى مد ... حك كانت نهاية في الكمال
إن جمعناهما أضر بها الجمـ ... ـع وضاعت فيه ضياع المحال
فهو [19] كالشمس بُعدها يملأ البـ ... ـدر وفي قربها محاق الهلال
وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشبه من بعده وارتفاعه [20] ،
وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري: (دان على أيدي
العفاة) البيتين. ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع كقوله:
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نورًا ساطعا
في أمثال كذلك تكثر، ولم أعرض لما يشبه به من حيث المنظر، وما تدركه
العين نحو تشبيه الشيء بتقويس الهلال ودقته، والوجه بنوره وبهجته، فأنا في
ذكر ما كان تمثيلاً، وكان الشبه فيه منويًّا.
***
فصل آخر
وإن كان مما مضى إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثلاً فهو
في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له والهمة
في طلبه، وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه
أشد.
ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه،
ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل
وألطف، وكانت به أضن وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد
الماء على الظمأ كما قال:
وهن ينبذن [21] من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به،
فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية، وتعمد ما يكسب المعنى
غموضًا مشرفًا له وزائدًا في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا:
إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك، أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب: إني لم
أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في قوله:
فإن المسك بعض دم الغزال ...
وقوله:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
وقوله:
رأيتك في الذين أرى ملوكًا ... كأنك مستقيم في محال
وقول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقوله: [22]
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وقول البحتري:
ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم ... وللسيف حد حين يسطو ورونق
وقول امرئ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل [23] ...
وقوله:
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الأقدام [24]
فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا
يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه؛
ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في
الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة،
كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له وكان:
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا [25]
أو كما قال:
تفتح أبواب الملوك لوجهه ... بغير حجاب دونه أو تملق
وأما التعقيد فإنما كان مذمومًا؛ لأجل أن اللفظ لم يرتب الترتيب الذي بمثله
تحصل الدلالة على الغرض، حتى احتاج السامع أن يطلب المعنى بالحيلة،
ويسعى إليه من غير الطريق كقوله:
وكذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
وإنما ذم هذا الجنس؛ لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في
مثله [26] وكدك بسوء الدلالة، وأودع المعنى لك في قالب غير مستو ولا مملس،
بل خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه منك عسر عليك، وإذا خرج خرج
مشوه الصورة ناقص الحسن.
هذا , وإنما يزيد الطلب فرحًا بالمعنى وأنسًا به وسرورًا بالوقوف عليه إذا
كان لذلك أهلاً، فأما إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة،
ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضد مما بدأت به؛ ولذلك كان أحق
أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك ثم لا يجدي عليك، ويؤرقك ثم لا يروق لك، وما
سبيله إلا سبيل البخيل الذي يدعوه لؤم في نفسه، وفساد في حسه، إلى أن لا
يرضى بضعته في بخله، وحرمان فضله، حتى يأبى التواضع ولين القول؛ فيتيه
ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرض له بابًا ثانيًا من الاحتمال تناهيًا في سخفه، أو
كالذي لا يؤيسك من خيره في أول الأمر فتستريح إلى اليأس، ولكنه يطمعك
ويسحب على المواعيد الكاذبة، حتى إذا طال العناء، وكثر الجهد تكشف عن غير
طائل، وحصلت منه على ندم لتعبك في غير حاصل، وذلك مثل ما تجده لأبي تمام
من تعسفه في اللفظ، وذهابه به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه،
وإغراب في الترتيب يعمى الإعراب في طريقه، ويضل في تعريفه.
كقوله:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن ... لاثنين ثانٍ إذ هما في الغار [27]
وقوله:
يدي لمن شاء رهن من يذق جرعًا ... من راحتيك درى ما الصاب والعسل [28]
ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة، ويعد في وسائط
العقود [29] لا يحوجك إلى الفكر، ولا يحرك من حرصك على طلبه بمنع جانبه،
وببعض الإدلال عليك، وإعطائك الوصل بعد الصد، والقرب بعد البعد، لكان
(باقلَّى حارّ) ، وبيت معنى هو عين القلادة وواسطة العقد، واحدًا [30] ،
ولسقط تفاضل السامعين في الفهم والتصور والتبيين، وكان كل من روى الشعر
عالمًا به، وكل من حفظه - إذا كان يعرف اللغة على الجملة - ناقدًا في تمييز جيده
من رديئه، وكان قول من قال:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... يجيدها إلا كعلم الأباعر
وكقول ابن الرومي:
قلت لمن قال لي عرضت على الأخـ ... ـفش ما قلته فما حمده [31]
قصرت بالشعر حين تعرضه ... على مبين العمى إذا انتقده
ما قال شعرًا ولا رواه فلا ... ثعلبه كان لا ولا أسده
فإن يقل إنني رويت فكالدفـ ... ـتر جهلاً بكل ما اعتقده
وما أشبه ذلك دعوى [32] غير مسموعة ولا مؤهلة للقبول، فإنما أراد بقولهم:
(ما كان معناه إلى قلبك، أسبق من لفظه إلى سمعك) أن يجتهد المتكلم في
ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخل بالدلالة، وعاق دون الإبانة، ولم
يريدوا أن خير الكلام ما كان غفلاً مثل ما يتراجعه الصبيان، ويتكلم به العامة في
السوق.
هذا , وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح
أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفًا، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بد فيها
من بناء ثانٍ على أول، ورد تالٍ إلى سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على
الغرض من قوله: (كالبدر أفرط في العلو) إلى أن تعرف البيت الأول، فتتصور
حقيقة المراد منه ووجه المجاز في كونه دانيًا شاسعًا، وترقم ذلك في قلبك، ثم تعود
إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين
بالأخرى، وترد البصر من هذه إلى تلك، وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط؛
ليشاكل قوله: (شاسع) ؛ لأن الشسوع هو الشديد من البعد، ثم قابله بما لا
يشاكله من مراعاة التناهي في القرب، فقال: (جد قريب) . فهذا هو الذي أردت
بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه
واجتهاد في نيله.
هذا , وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل
تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك، ونشر بزه لديك، قد تحمل فيه المشقة
الشديدة، وقطع إليه الشقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دره حتى غاص، وأنه لم ينل
المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص؟ ومعلوم أن الشيء إذا علم أنه لم ينل
في أصله إلا بعد التعب، ولم يدرك إلا باحتمال النصب، كان للعلم بذلك من أمره
من الدعاء إلى تعظيمه، وأخذ الناس بتفخيمه، ما يكون لمباشرة الجهد فيه،
وملاقاة الكرب دونه، وإذا عثرت بالهوينا على كنز من الذهب لم تخرجك سهولة
وجوده إلى أن تنسى جملة أنه الذي كد الطالب، وحمل المتاعب، حتى إن لم تكن
فيك طبيعة من الجود تتحكم عليك، ومحبة للثناء تستخرج النفيس من يديك، كان
من أقوى حجج الضن الذي يخامر الإنسان أن تقول: (إن لم يكدني فقد كد
غيري) ، كما يقول الوارث للمال المجموع عفوًا إذا ليم على بخله به، وفرط
شحه عليه: إن لم يكن كسبي وكدي، فهو كسب والدي وجدي، ولئن لم ألق فيه
عناء لقد عانى سلفي فيه الشدائد، ولقوا في جمعه الأمرين [33] أفأضيع ما ثمروه،
وأفرق ما جمعوه، وأكون كالهادم لما أنفقت الأعمار في بنائه، والمبيد لما قصرت
الهمم على إنمائه.
وإنك لا تكاد تجد شاعرًا يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب،
ورد البعيد الغريب إلى المألوف القريب - ما يعطي البحتري ويبلغ في هذا مبلغه.
فإنه ليروض لك المهر الأرن رياضة الماهر [34] حتى يعنق من تحتك إعناق القارح
المذلل [35] ، وينزع من شماس الصعب الجامح، حتى يلين لك لين المنقاد المطيع،
ثم لا يمكن ادعاء أن جميع شعره في قلة الحاجة إلى الفكر، والغنى عن فضل
النظر، كقوله:
فؤادي منك ملآن ... وسري فيك إعلان
وقوله:
عن أي ثغر تبتسم ...
وهل ثقل على المتوكل قصائده الجياد حتى قل نشاطه لها واعتناؤه بها؛ إلا
لأنه لم يفهم معانيها كما فهم معاني النوع النازل الذي انحط له إليه؟ أتراك تستجيز
أن تقول: إن قوله: منى النفس في أسماء لو تستطيعها [36] من جنس المعقد
الذي لا يحمد، وإن هذه الضعيفة الأسر [37] الواصلة إلى القلوب من غير فكر،
أولى بالحمد وأحق بالفضل.
هذا، والمعقد من الشعر والكلام لم يذم؛ لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر
على الجملة، بل لأن صاحبه يعثر فكرك في متصرفه [38] ، ويشيك طريقك إلى
المعنى [39] ، ويوعر مذهبك نحوه، بل ربما قسم فكرك، وشعب ظنك [40] حتى لا
تدري من أين تتوصل وكيف تطلب.
وأما الملخص فيفتح لفكرتك الطريق المستوي ويمهده، وإن كان فيه تعاطف
أقام عليه المنار، وأوقد فيه الأنوار، حتى تسلكه سلوك المتبين لوجهته، وتقطعه
قطع الواثق بالنجح في طيته [41] ، فترد الشريعة [42] زرقاء، والروضة غناء [43]
فتنال الري، وتقطف الزهر الجني، [44] وهل شيء أحلى من الفكرة إذا استمرت
وصادفت نهجًا مستقيمًا، ومذهبًا قويًّا، وطريقة تنقاد، وتبينت لها الغاية [45] فيما
ترتاد، فقد قيل: قرة العين وسعة الصدر، وروح القلب وطيب النفس، من أربعة
أمور: الاستبانة للحجة، والأنس بالأحبة، والثقة بالعدة، والمعاينة للغاية. وقال
الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر من الفضيلة: (وأين تقع لذة
البهيمة بالعلوفة [46] ، ولذة السبع بلطع الدم [47] ، وأكل اللحم؛ من سرور الظفر
بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه، وبعد فإذا أعدت الحلبات [48] ؛
لجري الجياد، ونصبت الأهداف ليعرف فضل الرماة في الأبعاد والسداد، فرهان
العقول التي تستبق، ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية
والقياس والاستنباط) .
ولن يبعد المدى في ذلك، ولا يدق المرمى إلا بما تقدم من تقرير الشبه بين
الأشياء المختلفة، فإن الأشياء المشتركة في الجنس، المتفقة في النوع، تستغني
بثبوت الشبه بينها، وقيام الاتفاق فيها عن تعمل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبيته
فيها، وإنها لصنعة تستدعي، جودة القريحة والحذق، الذي يلطف ويدق، في أن
يجمع أعناق المتنافرات المتباينات في ربقة [49] ، ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب
وشبكة [50] ، وما شرفت صنعة ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتاجان من دقة
الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من
زاولهما والطالب لهما في هذا المعنى [51] ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك
إلا من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات، وذلك بين لك فيما تراه من الصناعات
وسائر الأعمال التي تنسب إلى الدقة، فإنك تجد الصورة المعمولة فيها كلما كانت
أجزاؤها أشد اختلافًا في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتم،
والائتلاف أبين، كان شأنها أعجب، والحذق لمصورها أوجب.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المشئم: من أتى الشام، والمعرق: من أتى العراق.
(2) وفي نسختنا: وجوه أعدائه، ولكن قال شيخنا: إن الرواية الصحيحة عيون أعدائه، وإن
قوله حسن؛ خبر لمحذوف هو الممدوح، وفي (عيون) صفة لأقبح الذي هو خبر ثان، والسوام: الماشية.
(3) الأسفع: الأسود المشرب بحمرة، والاسم: السفعة بالضم.
(4) يصف الشيب بأنه غرة شديدة، وإنما كان أغر في الوقت الذي كان فيه بهيمًا؛ أي: أسود الشعر، وفي رواية أبي هلال: مرة بدل بهمة. هذا ما كتبته على البيت في حاشية الطبعة الأولى، وأجازه شيخنا، إلا أنه علق على نسخة الدرس بإزاء قوله: غرة بهمة: أراد من الشدة أنها صعبة الاحتمال
اهـ؛ ولم يظهر لي الآن وجه تفسير البهمة بالشديدة، ومن المعلوم أن الغرة في الأصل البياض في جبهة الفرس فوق قدر الدرهم، ومنه: فرس أغر , والبهمة كالظلمة وزنًا ومعنى، والبهيم: الذي لا شية فيه من غير لونه، ومنه ليل بهيم لا ضوء فيه، ويطلق الأغر على الحسن والأبيض من كل شيء، وعلى السيد الكريم، فإذا كان يصف شيبه فهو يقول: إنه - وإن لمته - غرة كالظلمة في قبحها وكراهته هو أو كراهة الحسان لها، وإنه إنما كان رجلاً أغر في الوقت الذي كان شعره أسود بهيمًا.
(5) الهناء بالكسر: القطران والنقب , كصرد الجرب قال عبد الباقي:
وما الهنا منكم بمشف نقبًا ... وطالما أشفى الهناء النقبا.
(6) يقال: طبق السيف إذا أصاب المفصل، قال الشاعر في وصف سيف:
يصمم أحيانًا وحينًا يطبق ...
ويقال للبليغ: قد طبق المفصل ويقال أيضًا:
يضع الهناء مواضع النقب ...
يعنون أنه ماهر مصيب.
(7) وفي نسخة: إذا ورد عليك.
(8) النشر: الرائحة الطيبة، والغالية: طيب معروف.
(9) الذكرة بالضم: الصيت.
(10) الظاهر أن يقال: فيفعل كما فعل كعب بن مامة، قال شيخنا: هو الإيادي المشهور، آثر رفيقه السعدي بالماء حتى مات عطشًا، ونجا السعدي وله يقول حبيب:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقال له ولحاتم الطائي:
كعب وحاتم اللذان تقسما خطط العلى من طارف وتليد
هذا الذي خلف السحاب ومات ذا ... في الجهد ميتة خضرم صنديد
إلا يكن فيها الشهيد فقومه لا يسمحون له بألف شهيد.
(11) يقال: ورى الزند (كوعد) وأورى: إذا أخرج ناره، ويقال: أصلد: إذا صوت ولم تخرج منه النار.
(12) عطف على قوله: يأتيك من الشيء الواحد إلخ.
(13) يروى حلمًا بدل كرمًا، وقبل البيت الأخير
ولا عقب النجم المرذ بديمة ... ولعاد ذاك الطل جودًا وابلا
والرثاء لولدين لعبد الله بن طاهر ماتا في يوم أحدهما هوى من سطح، والآخر تردى في بئر.
(14) في كتاب المسالك:
عهدوه في خمليج أو ببلنجرا ...
وخمليج وبلنجر والبيضاء: مدن الخزز اهـ , وقوله: تزيد بالعراق؛ أي: ابتدأت زيادته فيه، ثم لا زال يمتد إلى أن وصل إلى الذي عهدوه إلخ، والبيتان من قصيدة قالها في مدح إسحاق بن كنداج
الخزري القائد الكبير عندما توج وقلد السيفين.
(15) اتسق الأمر: انتظم، والقمر كمل وتم نوره.
(16) يروى: ثوب كماله.
(17) وأبا العباس الضبي عطف على ضمير (استوزره) وهو أحمد بن إبراهيم الضبي ولاه الوزارة فخر الدولة أولاً ولقب بالرئيس، ثم ولى بعده الأستاذ أبا علي الجليل، وهجاهما أحد الشعراء من بيت المنجم فقال:
والله والله لا أفلحتم أبدًا ... بعد الوزير ابن عباد ابن عباس
إن جاء منكم جليل فاجلبوا أجلي ... أو جاء منكم رئيس فاقطعوا رأسى
(18) لمامًا بالكسر , أي: غبا.
(19) قوله فهو: أي (مدحك) ، والخطاب للممدوح.
(20) أي: القمر.
(21) النبذ: الطرح وإلقاء الشيء، وفعله من باب ضرب.
(22) أي: الشاعر المجهول , لا النابغة.
(23) المنجرد من الخيل: الأجرد، وهو قصير شعر الجلد، وذلك ممدوح فيها، والأوابد: جمع آبدة للوحوش والطيور التي تقيم في مكان واحد لا تظعن صيفًا ولا شتاء، ويستعار لفظ (قيد الأوابد) للفرس الجواد كأنه لسرعة عدوه وإدراكه لها قيد يمنعها الفرار حتى كأنها مقيدة به.
(24) الجذع بالتحريك: الحدث , والشاب الذي استكمل قوته، وأصله في الأنعام والدواب، وتختلف السن فيها، وجمعه: جذاع , وجذعان بضم الجيم وكسرها، والقارح من ذي الحافر كالبازل من الإبل ما قرح نابه: أي طلع، وهو الذي بلغ نهاية السن التي ليس بعدها سن تسمى، ويكون في التاسعة وما بعدها، وإذا استعمل اللفظان في الناس يراد بالجذع: الحدث النشيط , وبالقارح: العاقل المجرب قال الحريري:
وبرز فيها الجذع على القارح ...
(25) قعقعوا: أي حركوا الحلقة التي هابها غيرهم؛ ليسمع صوت قعقعتها، فيفتح لهم كدأبهم وعادتهم.
(26) مثله بغير تعقيد قول عبد الحميد بك الرافعي الطرابلسي:
بين السيوف وعينيها مناسبة بياض من أجلها قيل للأغماد أجفان. ...
(27) البيت من قصيدة في مدح المعتصم، وقيل: المأمون، وفي رواية: (لاثنين ثاني) ، ورواية أخرى: (ثانيًا) بالنصب مع تسهيل همزة (إذ) ، والرواية الرابعة: (لاثنين ثالثًا) ، وقبل البيت قوله: واعلم بأنك إنما تلقيهم ... في بعض ما حفروا من الآبار
ولو لم يكد للسامري قبيله ... ما خار عجلهم بغير خوار
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم ... لم ترم ناقته بسهم قدار
ولقد شفا الأحشاء من برحائها ... أن صار بابك جار مازيار
وبعده البيت، والبرحاء: شدة الأذى، وبابك ومازيار: علمان لرجلين.
(28) البيت من قصيدة يمدح بها المعتصم أيضًا، وقبل البيت:
كان أمواله والبذل يمحقها ... نهب تعسفه التبذير والنفل
شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيه السهل والجبل
وفي الديوان المطبوع: (تقسمه التبذير أو نفل) ، والنفل بالتحريك: الغنيمة , والهبة والزيادة، وفيه أيضًا: (فيك السهل والجبل) بكاف الخطاب.
(29) الوسائط: جمع واسطة ما كان من الجوهر في وسط العقد , وهو أجوده.
(30) الباقلى بتشديد اللام والقصر ويمد الفول , أي: لكان نداء بائع الفول السخن بهذه الكلمة (باقلي حار) ، وبيت شعر هو بحيث وصفه من الحسن متساويين لا تفاضل بينهما.
(31) يريد علي بن سليم الأخفش , والأبيات من قصيدة طويلة مطلعها:
رقاب أهل الحلوم معتمدة ... مقصودة بالهوان معتمدة.
(32) كلمة دعوى: خبر قوله: وكان قول من قال إلخ.
(33) لقي منه الأمرين , ونزل به الأمران: مثل يضرب في لقاء الشر وعظائم الأمور، والأمران: الهرم والمرض أو الفقر والهرم.
(34) الأرن: البطر المرح معنًى ووزنًا وفعلاً.
(35) أعنق الفرس: أسرع وسار العنق وهو بالتحريك سير فسيح واسع للإبل والدواب، والقارح: ما قرح نابه , أي: طلع.
(36) مطلع قصيدة من غرر قصائده في مدح المتوكل قال:
منى النفس في أسماء لو تستطيعها ... بها وجدها من غادة وولوعها
وقد راعني منها الصدود وإنما ... تصد لشيب في عذاري يروعها
ومنها في المدح:
ولما رعى سرب الرعية ذادها ... عن الجدب مخضرّ التلاع مريعها
علمت يقينًا مذ توكل جعفر ... على الله فيها أنه لا يضيعها
التلاع بالكسر: جمع كلمة تلعة بالفتح، وهي مسيل الماء، وما اتسع من فوهة الوادي والقطعة المرتفعة من الصحراء، والمريع كالخصيب وزنًا ومعنى، ومنها فيه:
وفرسان هيجاء تجيش صدورها ... بأحقادها حتى تضيق دروعها
تقتل من وتر أعز نفوسها ... عليها بأيد ما تكاد تطيعها
إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
فلولا أمير المؤمنين وطوله ... لعادت جيوب والدماء دروعها
والقصيدة كلها محاسن ولكن ينقل عن المتوكل أنه قال: مازال يقول: (عها عها) حتى كدنا نقيء، وهذا هو مراد المصنف بقوله: لأنه لم يفهم معانيها إلخ.
(37) الأسر: إحكام الخلقة ومنه: [نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ] (الإِنسان: 28) .
(38) عثّره بالتشديد , وأعثره: جعله يعثر.
(39) أشاك الطريق: أدخل الشوك فيه.
(40) من شعب الشيء: إذا فرقه.
(41) الطية بالكسر: اسم هيئة من طوى الأرض في سفره، قال شيخنا في طيته: فيما طوى قصده عليه، أقول وفي الأساس: مضى لطيته , وأين طيتك وأمتك (بالفتح أي ما نؤمه ونقصده) ، وبعدت عنا طيته، وهي الجهة التي إليها يطوي البلاد.
(42) الشريعة: مورد الشاربة من النهر.
(43) الغنَّاء بالتشديد: كثيرة الشجر، يقال: غنَّ الوادي يغَنُّ بفتح الغين: إذا كثر شجره.
(44) هو ما جني من ساعته فهو غض ليس بذابل.
(45) الغاية: فاعل تبينت.
(46) العلوفة بالفتح: ما تأكله الدابة، وجمعه علف بضمتين , والعليفة والعلوفة: الناقة تعلفها ولا ترسلها إلى المرعى (ش) وفي المصباح: العلوفة وزان حلوبة وركوبة: ما يعلف من الغنم وغيرها، يطلق بلفظ واحد على الواحدة والجمع، وهو من علف الدابة علفًا، من باب ضرب، واسم المعلوف علف بفتحتين , وجمعه: علاف كجبل وجبال.
(47) لطع الدم من باب فتح: شربه أو لحسه.
(48) الحلبات: جمع حلبة بالفتح وهي مجال الخيل للسباق، ويقال للخيل التي تأتي من كل أوب حلبة (أساس) .
(49) الربق بالكسر: وزان حمل، حبل فيه عدة عرى تشد به إليهم، وكل عروة من العرا التي فيه تسمى ربقةً، ويجمع أيضًا على رباق. وربقت الشاة (من باب قتل) ، أدخلت عنقها في الربقة فهي ربيقة ومربوقة ومن المجاز، ربقته في الأمر. وفي الحديث (خلع ربقة الإسلام من عنقه) .
(50) الشبكة بالضم: نسب القرابة ولحمتها.
(51) أي: دقة الفكر ولطف النظر.(26/425)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة
في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير
(تابع ما قبله)
بعد هذا التمهيد أقول: إن للمسلمين في هذين الكتابين (المغني والشرح
الكبير للمقنع) بضع فوائد:
(إحداها) : أنهم باطلاعهم على أدلة الأحكام يكونون على حظ من البصيرة
في دينهم، كما وصف الله تعالى رسوله وأتباعه بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) .
(ثانيتها) : أن المتلقي لأحكام دينه من فقه أي مذهب من المذاهب المدونة
يخرج باطلاعه على أدلتها في الكتابين من ربقة الجمود على التقليد المحض المذموم
في القرآن، إلى الاتباع المقرون بالبصيرة الذي اشترطه الأئمة فيمن يتلقى العلم
عنهم كما تقدم.
(ثالثتها) : أن من اطلع على أقوال أئمة السلف وعلماء الأمصار أصحاب
المذاهب المختلفة وأدلتهم عليها، بالطريقة التي جرى عليها صاحب المغني وتلميذه
صاحب الشرح الكبير من احترام الجميع، وتقديم الأقدم في التاريخ على غيره في
الذكر غالبًا يكون جديرًا باحترام جميع العلماء وجميع المذاهب، وعدم جعل المسائل
الخلافية سببًا للتفرق أو التعادي بين المسلمين، ولا للتفاضل المفضي إلى ذلك،
فإن المقلد لأي واحد منهم ينبغي أن يقتدي به في سيرته وهديه.
(رابعتها) أن يعلم أن من أدلتهم ومداركهم ما هو مستند إلى نصوص
الكتاب والسنة القطعية أو الظنية، وما مستنده القياس أو الاستنباط من القواعد
العامة أو الخاصة بمذهب دون مذهب: كالمصالح عند المالكية وغيرهم،
والاستحسان عند الحنفية، وبهذا يعلم غلط من زعم أن المسلمين استمدوا أحكام
المعاملات من القوانين الرومانية، ومن زعم أن جميع ما يذكر في كتب الفقه هو
من شرع الله المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى رتب عليه بعضهم
أن من أنكر شيئًا منه أو اعترض عليه يكون مرتدًّا عن الإسلام، وفي بعض هذه
الكتب أن من عمل عملاً يعد في العرف إهانة لشيء من هذه الكتب أو لورقة فتوى
عالم يحكم بردته، ويقتل إذا لم يتب، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر
المسلمين ولا يرثه أولاده؛ لأنه أهان شرع الله، ويلزم منه كذا وكذا! ! بل قال:
إن إهانة العالم كفر؛ لأنها إهانة للشرع إلخ، فهذه تشديدات ردها المحققون.
والحق أن أكثر ما في كتب الفقه مسائل اجتهادية، وآراء ظنية مستنبط بعضها
من أقوال فقهائهم، أو من علل دقيقة من علل القياس ينكر مثلها أكثر علماء السلف
الصالح، فهي تحترم كما يحترم ما يخالفها في المذاهب الأخر على سواء، من باب
احترام العلم واستقلال الرأي، وعدم جعل الخلاف ذريعة للعداوة والبغضاء في
الأمة الواحدة المأمورة بالاتفاق والاعتصام. ولكن لا يتخذ شيء منها من قواعد
الإيمان، ولا يعد مخالفه كافرًا ولا عاصيًا لله تعالى، سواء كان مستدلاًّ أو مقلدًا
لغيره في مخالفتها، ولا يجعل ضعف شيء منها مطعنًا في أصل الشريعة، كما
يفعل ذلك بعض أعداء الإسلام، بل يستعان بمجموعها على التيسير على الناس.
كان كبار علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من مجتهدي السلف يتحامون أن
يسموا ظنونهم الاجتهادية حكم الله وشرع الله، بل كان أعظمهم قدرًا وأوسعهم علمًا
يقول: هذا مبلغ علمي واجتهادي، فإن كان صوابًا فمن الله وله الفضل، وإن كان
خطأً فمني ومن الشيطان، وكان مما يوصي به النبي - صلى الله عليه وسلم -
أمير الجيش أو السرية قوله: (وإذا حاصرت حصنًا فأرادوك أن تنزلهم على حكم
الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم
الله فيهم أم لا) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، وقال ابن القيم في أعلام
الموقعين: لا يجوز للمفتي والحاكم أن يقول: هذا حكم الله أو أحل الله أو حرم الله؛
لما يجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده , وذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية حضر
مجلسًا ذكرت فيه قضية، وقيل: حكم فيها بحكم الله، فقال: بل حكم فيها برأي
زفر بن الهذيل. هذا في عصور التقليد المحض، ولقد صرنا إلى عصر كثر فيه
استقلال الفهم والرأي مع قلة الإلمام بعلوم الدين، فصارت دعوى كون كل ما في
تلك الكتب الفقهية من دين الله وأحكامه التي خاطب بها عباده , منفرة عن دين الله
تعالى، وسببًا للارتداد والإلحاد، فينبغي أن يقال: إنها مستندة إلى الشرع؛
باشتمالها على نصوصه، وجعلها هي الأصل، وببناء الاجتهاد فيها على أصول ثبتت
فيه، ولكن كل اجتهاد يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب.
(خامستها) أن الذي يقرأ الكتابين أو يراجع المسائل فيهما يقف على
مسائل الإجماع، وهي الواجبة قطعًا على جميع المسلمين، فلا يسع أحدًا منهم ترك
شيء منها إلا بعذر شرعي، والواجب أن تراعى في فريضة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بين المسلمين كافة على الإطلاق، وأما المسائل الخلافية فإنما
يؤمر بالواجب أو المندوب، وينهى عن المحرم أو المكروه منها، من يعلم أن
المأمور أو المنهي موافق له في اعتقاده، سواء كانت الموافقة عن دليل أو عن اتباع
مذهب من المذاهب، أو كان يرجو قبول قوله فيه أو دليله عليه، وقد صرحوا بأنه
ليس للشافعي أن يأمر الحنفي بالوضوء من لمس المرأة، أو أن ينكر عليه الصلاة
إذا لم يتوضأ منه، وما أشبه ذلك , ومنها وهو المراد مما قبله أنها هي الجامعة بين
المسلمين، والمناط للاتفاق والوحدة التي تقتضيها أخوة الإيمان، وهو أهم ما نقصد
إليه من كتابتنا هذه.
(سادستها) أنه يعلم من أدلة المذاهب أن جل الأحاديث التي يحتج بها
أهل الحديث على أهل الرأي وعلى القياسيين من علماء الرواية هي من أحاديث
الآحاد، التي لم تكن مستفيضة في العصر الأول أو نقل عن الصحابة والتابعين
خلاف في موضوعها، فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام الذي جرى عليه
عمل النبي وأصحابه، وليست مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ
الشاهد فيه الغائب، بل كانت مما يرد كثيرًا في استفتاء مستفتٍ عرضت له المسألة
فسأل عنها فأجيب، ولعله لو لم يسأل لكان في سعة من العمل باجتهاده فيها، ولكان
خيرًا له وللناس، إذ لو كانت من مهمات الدين التي أراد الله تكليف عباده إياها
لبينها لهم من غير سؤال، فإنه تعالى أعلم بما هو خير لهم، وقد كان النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - يكره كثرة السؤال ونهى عنها؛ لئلا تكون سببًا لكثرة
التكاليف؛ فتعجز الأمة عن القيام بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوني
ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا
نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه الشيخان
من حديث أبي هريرة، ورواه الدارقطني من وجه آخر، وقال: فنزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)
الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تعتدوها، وحد
حدودًا فلا تقربوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من
غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا حسنه
الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه والنووي في الأربعين، وله شواهد في مسند
البزار ومستدرك الحاكم وصححه وغيرهما.
وفوق كل هذا قول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، ومن الجهل الفاضح والجناية على
الدين أن نهدم هذه القواعد والأصول القطعية بأقيسة من ظنون الرأي والقياس، وقد
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب كل مستفت بما يناسب حاله،
وأن بعض فتاواه كانت رخصًا خاصة أو عامة، ومن ذلك أنه رخص لعقبة بن
عامر ولأبي بردة بن نيار بأن يضحي بالجذع (أو العتود) من المعز، وهو ما
رعى وقوي وأتى عليه حول، وقال الجوهري: وخيره ما بلغ سنة. والحديث
متفق عليه والجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، يمنعون التضحية بالجذع من المعز،
ومنه على قول حديث طلق بن علي: إنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -
الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: (إنما هو بضعة
منك) رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، والدارقطني، وصححه بعضهم،
واختلفوا في التصحيح والترجيح بينه وبين حديث بسرة عند الخمسة أيضًا (من
مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ) ، والمحققون من أهل الحديث على ترجيح
حديث بسرة، وأما العمل فقد روي الخلاف فيه عن بعض كبار الصحابة والتابعين
وأهل البيت وعلماء الأمصار.
وحمل الشيخ عبد الوهاب الشعراني الحديثين في ميزانه على مرتبتي التخفيف
والتشديد: أي العزيمة والرخصة كما فعل في جميع مسائل الخلاف، وعلل ذلك
بعلل بعضها معقول، وبعضها لا يعرف مثله إلا عن جماعته الصوفية: ككون سؤر
الكلب يقسي قلب من شربه، أو شرب من الإناء الذي ولغ فيه قبل غسله سبع
مرات إحداهن بالتراب، وقد وافقه علماء عصره في مصر على قاعدته في إرجاع
جميع مسائل الخلاف إلى المرتبتين، وكون أصلها كلها مستمدة من عين الشريعة
على ما في توجيه الكثير منها من البعد، ولعله لرضاهم عن بناء ذلك على
الاعتراف بأن جميع الأئمة المجتهدين على هدى من ربهم؛ وهذا حق من حيث إن
المجتهد إذا أصاب كان له أجران، وإذا أخطأ كان له أجر واحد كما ورد في
الحديث الصحيح، ولكن لا يمكن أن يكون كل اجتهاد صوابًا وهدى، وكل قول قاله
مجتهد حقًّا، وأما العزائم والرخص في الشريعة فحق لا ريب فيه، وفي الحديث
المرفوع (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد
وابن حبان والبيهقي وصححوه، وهو عام، وليست العزائم للخواص والرخص
للعوام، إلا من حيث الخلق والطبع، لا الشرع، وأظهر المسائل في قاعدة
الشعراني ما يدخل في أبواب الطهارة، فإن القطعي منها في القرآن أن الماء مطهر
وطهور، وأن الله يحب المتطهرين، وأن طهارتي الوضوء والغسل فرضان
وشرطان للصلاة، وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4) ، وقوله في
القرآن {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) ، وأن التيمم واجب عند تعذر
استعمال الماء لفقده أو للمرض.
وأما السنة فلم يرد فيها تفصيل قطعي لأعيان النجاسات وأنواع المطهرات،
وكان الأعرابي يجيء من البادية؛ فيسلم، فيعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -
بنفسه أو يأمر أصحابه بتعليمه ما أوجب الله عليه من الوضوء والغسل والتيمم
وأركان الإسلام، وحديث الأعرابي الذي هو عمدة الفقهاء في تحديد أركان الإسلام
مشهور.
ولو كان هنالك نجاسات حكمية تطهيرها تعبدي تتوقف معرفتها على نصوص
تفصيلية خاصة؛ لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تلقينها للأعرابي
وأمثاله، كسائر قواعد العبادة التي كان يتعلمها كل من أسلم، ويبلغه الشاهد الغائب،
كما كانوا يعلمونهم الوضوء والغسل والصلاة مثلاً، ولم تترك النصوص المجملة
الواردة في الطهارة وطلب النظافة بغير بيان تفصيلي، والذي يفهمه أهل لغة
الشرع من ذلك الإطلاق هو طلب التنزه عن جميع الأقذار، والتطهر مما يصيب
البدن أو الثوب أو المكان منها؛ ليكون المؤمن نظيف الظاهر بقدر ما يتيسر له
حسب حاله واجتهاده، كما يجعله الإيمان نظيف الباطن - فالنجس في اللغة هو
المستقذر الذي تنفر منه الطباع، ولفظ النجس لم يرد في القرآن إلا في قوله
تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} (التوبة: 28) ،
الآية والمراد به: النجاسة المعنوية لا الحسية، إلا في قول للشيعة، وورد لفظ
الرجس في تسع آيات أكثرها قطعي في الرجس المعنوي، واحتمال الحسي في
موضعين: أحدهما قوي وهو قوله تعالى: {قُلْ لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام: 145) : أي الخنزير أو كل ما ذكر. وثانيهما ضعيف جدًّا وهو قوله
تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90) ، أما قوة الأول في الخنزير؛ فلأنه كثير التتبع لأكل الأقذار
دائمًا، فهو تعليل لتحريم أكله دائمًا كتحريم الجلالة ما دامت تأكل القذر لا دائمًا،
وأما ضعف الثاني فلأن لفظ رجس خبر عن الخمر وما عطف عليها، وهو لا
يوصف بالنجاسة قطعًا، ولتفسيره في الآية بأنه من عمل الشيطان يوقع به العداوة
والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الخمر غير مستقذرة عند
العرب ولا غيرهم.
وأما أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد فيها هذان اللفظان في
الاستعاذة، وفي لحم الحمر الأهلية، وفي وصف الروث بأنه رجس، وفي رواية
ركس وهو تعليل لكونه لا يصلح للاستنجاء به، وورد أن المسلم لا ينجس حيًّا ولا
ميتًا، وأن الماء طهور لا ينجسه شيء. صححه أحمد، وقيده الجمهور بعدم التغير
بالنجاسة، وبعضهم بحديث (إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث) وسئل صلى الله عليه
وسلم عن دم الحيض فأمر بحته وقرصه ونضحه أو رشه بالماء، وهذا حديث متفق
عليه، وفي حديث آخر غسل الثوب منه بماء وسدر، وورد أن طهور النعلين من
الخبث دلكهما بالأرض، وأن طهور كل أديم (جلد) دباغه، وقال صلى الله عليه
وسلم في الميتة: (إنما حرم أكلها) رواه الجماعة عن ابن عباس مرفوعًا إلا ابن
ماجه، واستدل به من لا يقول بنجاستها، وورد غسل الثوب من المني الرطب،
وتنحيته بإذخرة أو غيرها، وفركه إذا جف، واستدل بهما من قال بطهارته. وفي
حديث أم سلمة: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقال لها صلى
الله عليه وسلم: (يطهره ما بعده) رواه الأربعة، وصح الاستنجاء من البول
والغائط بالحجارة وما في معناها، وهي لا تزيل العين كلها ولا الأثر، والأمر
بغسل العضو من المذي لمن سأل عنه، وينضح الثوب بالماء من بول الغلام الذي
لم يأكل الطعام.
ولما لم يجد العلماء نصوصًا قطعية في أعيان النجاسات والمطهرات غير
أمثال هذه الأخبار الآحادية، اختلف اجتهادهم في فهمها بما نلخص أهمه بالإجمال.
***
المذاهب في النجاسات والمطهرات
قال الإمام ابن رشد الحفيد الأندلسي في (بداية المجتهد) ما نصه:
وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان
ذي الدم (السائل) الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب
حياته , وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت،
إذا كان مسفوحًا أعني: كثيرًا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه وأكثرهم على نجاسة
الخمر، وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين [1] ، واختلفوا في غير ذلك اهـ؛
وقد حصر الإمام الشوكاني النجاسات في الروضة الندية بقوله:
(والنجاسات هي غائط الإنسان مطلقًا وبوله - إلا الذكر الرضيع - ولعاب
كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل
الطهارة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) اهـ؛
وقد علم منه الخلاف في الميتة والدم المسفوح وفي بعض ما ذكره هو خلاف
أيضًا: كلعاب الكلب، وممن قال بطهارته عكرمة ومالك.
واختلف المجتهدون في المطهرات أيضًا فمنهم من يحصر التطهير في الماء
المطلق كالشافعية والحنابلة إلا ما ورد من الاستنجاء بالحجارة ونحوها، وطهارة
جلود الميتة بالدباغ، وطهارة الخمر بتخللها بنفسها، والماء المقيد كماء الورد لا
يطهر عندهم، ويجب عندهم في التطهير إزالة عين النجاسة وصفاتها إلا ما عسر
من لون وريح، وشرطه أن يكون الماء واردًا على المتنجس لا مورودًا إذا كان
قليلاً: أي دون القلتين، وهم أشد الفقهاء توسعًا في النجاسات، ومن مذهبهم أن من
خرج من بين أسنانه دم ولم يطهره بالماء المطلق بقي فمه نجسًا، وكانت صلاته
وصومه باطلين، وإن طال الزمن، مع القطع بزوال النجاسة وأثرها، ولو كان
الصحابة يتطهرون من الدم لتواتر عنهم إذ كانوا في حروب متصلة ولم يكن
لأكثرهم إلا ثوب واحد، وقال الشافعية بالعفو عن النجاسة التي لا يدركها الطرف
كأثر رجل الذبابة، فقالت الحنابلة: بل لا بد من غسل ما تقع عليه وإن لم ير أثره.
وذهب الحنفية إلى أن كل ما يزيل النجاسة من المائعات مطهر، وكذا صقل
الجسم الصقيل: كالسيف والزجاج، وكذا الشمس والهواء والنار، وما يسمونه
انقلاب العين: كالصابون من الزيت النجس - على خلاف في بعض الفروع -
وهؤلاء نظروا إلى مراد الشارع من الطهارة وهو يحصل بذلك، قال في بداية
المجتهد: إن المسلمين اتفقوا على أن الماء الطهور يزيل النجاسة وعلى الاستنجاء
بالحجارة (واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها، فذهب قوم
إلى أن ما كان طاهرًا (فهو) يزيل عين النجاسة مائعًا كان أو جامدًا في أي موضع
كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه،) ، ثم ذكر ما وقع من الجدال بين الحنفية
والشافعية في المسألة، وكون إزالة النجاسة تعبديًّا أو معقول المعنى، واضطرار
الشافعية إلى القول: بأن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في
غيره وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين، وأن المقصود إنما هو إزالة
ذلك الحكم الذي اختص به الماء لا ذهاب عين النجاسة، بل قد تذهب العين ويبقى
الحكم، (قال) : (فباعدوا المقصد، وقد كانوا اتفقوا مع الحنفيين على أن طهارة
النجاسة ليست حكمية؛ أعني: شرعية؛ ولذلك لم تحتج إلى نية - إلى أن قال في
هذا المعنى - وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول: عبادة. إذا ضاق عليه المسلك مع
الخصم فتأمل ذلك، فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع. اهـ؛ أقول: ومن
الغريب أن الذين قالوا: بأن أحكام النجاسة وإزالتها تعبدية أدخلوا فيها القياس
كقياسهم بدن الكلب وشعره على لعابه، وقياس الخنزير على الكلب في كونه يغسل
مما أصابه سبع مرات إحداهن بالتراب.
وكان الحامل لهم على هذا التشديد في أمر النجاسة القول بوجوب إزالتها،
وجعله شرطًا لصحة الصلاة، وهذا محل خلاف أيضًا. (قال) في بداية المجتهد:
وأما الطهارة من النجاسة فمن قال: إنها سنة مؤكدة فيبعد أن يقول: إنها فرض في
الصلاة، ويجوز أن لا يقول ذلك، وحكى عبد الوهاب عن المذهب (أي: مذهب
مالك) قولين: أحدهما: أن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة في حال القدرة
والذكر، والقول الآخر: أنها ليست شرطًا، والذي حكاه من أنها شرط لا يتخرج
على مشهور المذهب من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة إلخ.
وقد استقصى الشوكاني في نيل الأوطار كل ما استدلوا به على اشتراط
الطهارة من النجاسة في صحة الصلاة وبين أنه ليس فيه شيء يدل على الشرطية،
ولكن قد يدل بعضها على وجوب إزالتها، قال: وكون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده
مذهب ضعيف، وبين مطلق الوجوب والشرطية بون بعيد. اهـ.
وجملة القول: إن القطعي المجمع عليه هو أن الطهارة مطلوبة شرعًا، وأن
المفروض منها هو الوضوء، والغسل من الجنابة والحيض والنفاس بالماء والتيمم
عنهما عند فقد الماء أو التضرر باستعماله، وأن مراد الشارع منها النظافة مع
مراعاة اليسر، وعدم الحرج كما قال تعالى بعد آية المائدة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة: 6) ، وإزالة النجاسة أولى
بهذا؛ ولذلك ترك تفصيل أمرها لاجتهاد الأمة، فاختلف اجتهاد علمائها بما ذكرنا
المهم منه مجملاً. فنظر بعضهم إلى أكمل ما يحصل به مراد الشارع: كالشافعية،
والحنابلة، وبالغوا فيه، ونظر بعضهم إلى أدنى ما كلفته الأمة، وأيسر ما يطلب
من بدوها وحضرها وغنيها وفقيرها؛ كالمالكية وتوسط بعضهم فشددوا في بعض
الفروع وتساهلوا في بعض: كالحنفية.
وقد تقدم أن الأئمة لم يكونوا يعدون اجتهادهم تشريعًا عامًا تكلفه الأمة كما تكلف
العمل بنصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة، ولا سببًا للتفرق في
الدين، وأن بعض مقلدتهم شددوا، وعسروا، وجعلوا اختلافهم نقمة لا رحمة؛ حتى
قال بعض متفقهة هذا العصر: بنجاسة كل ما دخلت فيه مادة الغول - (الكحول أو
السبرتو) - من أعطار، وطيوب، وأدهان، وأدوية، وهي كثيرة جدًّا عمت بها
البلوى في الصيدليات، والطب، والصناعات، وشبهتهم أن هذه المادة هي المؤثرة
في الخمور المحرمة، وفاتهم أنها هي المؤثرة في كل المختمرات المحللة بالإجماع
كخميرة العجين أيضًا، على أن هذه المادة أقوى من الماء في التطهير
وإزالة عين النجاسة وصفاتها كما شرحناه في مواضع من المنار.
وإنما غرضنا هنا أن نبين أن يسر الشريعة وحكمة التشريع وكون الاجتهاد
رحمة للأمة إنما يعرف من مجموع كلام المجتهدين، ويفوت من قصر نظره على
مذهب واحد من مذاهبهم، وأن طلاب الإصلاح للأمة الإسلامية ما زالوا يقترحون
تأليف جمعية من علماء المذاهب المتبعة كلها، تضع للأمة كتبًا في العبادات
والمعاملات، تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، ومن اجتهاد جميع المجتهدين،
يراعى فيها اليسر، ورفع الحرج، ودرء المفاسد، ومراعاة المصالح، ومراعاة
العرف، وغير ذلك من القواعد العامة، وهذان الكتابان من أعظم الوسائل لذلك فهو
الفائدة السابعة لما تقدم من فوائدهما، وما وضعناه عليهما من التعليقات فبهذه النية،
ونسأله تعالى أن يعيد لهذه الأمة وحدتها وهدايتها وعزتها، ولن يصلح آخرها إلا ما
صلح به أولها، والحمد لله أولاً وآخرًا.
__________
(1) أي: والفقهاء، ومنهم الإمام ربيعة شيخ مالك، والإمام داود، ومن المتأخرين الإمام الشوكاني.(26/442)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخطر على الحجاز وعلى الإسلام
(1)
في أوائل هذا الصيف ألمَّ بالقاهرة رجل سوري كان يشغل عملاً مهمًّا في
حكومة الشريف علي بجدة، فشرح لنا ما وصلت الحال هنالك من القلة والعسرة
واليأس من كل شيء إلا من الإنكليز، وقال: إنه علم أن الشريف علي بن الحسين
استغاث بالمعتمد الإنكليزي، وعرض عليه أن يطلب من دولته مساعدته على
سلطان نجد، على أن يكون الحجاز كله تحت الحماية الإنكليزية.. . وأن المعتمد
وعده بالكتابة إلى حكومته بذلك، وكتب بالفعل، قال الراوي: وقد سافرت قبل
مجيء الجواب، فإن جاء بعدم القبول فلا شك عندي في أن الملك عليًّا يفر من جدة
مبحرًا إلى حيث يعلم الله تعالى، وتسقط في أيدي الوهابيين، وإن جاء بالقبول
تدخل المسألة في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.
وأقول: قد سبق للشريف علي مثل هذا العرض كما علمنا من الوفد الهندي
الذي كان عنده في جدة في العام الماضي، ولكن المعتمد قال له يومئذ: إن حكومته
على الحياد.
ثم حدثني رجل آخر من الثقات أنه سمع من لسان الشيخ عبد الملك الخطيب
في الإسكندرية يوم أَلمَّ بها الملك فيصل، أن وزارة الداخلية المصرية بلغته أنها
قررت إلغاء الحجز على الذخائر الحربية الهاشمية المحجوزة في السويس، وأن
الحجز عليها كان بإيعاز من الإنكليز لوزير الداخلية إسماعيل صدقي باشا (كان) ،
فعلمت أن هذه الحكومة الماكرة عادت إلى التدخل في أمر الحجاز بمساعدة صنائعها
وملوكها حسين بن علي وأولاده على سلطان نجد، بل على الشعب العربي والأمة
الإسلامية.
وأما السبب في هذا فليس رضا الشريف علي بجعل الحجاز تحت الحماية
الإنكليزية على قواعد والده حسين التي سماها (مقررات النهضة) فقط، بل
السبب الأول المباشر هو بيعه للإنكليز أهم منطقة حجازية حربية، وهي منطقة
العقبة ومعان المجاورة للمدينة المنورة مع اليأس من سلطان نجد أن يسمح بأن
يكون لهم أدنى نفوذ في الحجاز أو غيره من بلاد العرب، وهذا أمر قد أصبح قطعيًّا؛
إذ صرح به السلطان عبد العزيز آل سعود في منشوراته الرسمية، ومنها المنشور
الذي صدر بمكة المكرمة في آخر ذي الحجة الحرام الماضي، ونشر في جريدة أم
القرى، ونقلته عنها أكثر الجرائد المصرية، وناهيك بتصريحه فيه وفيما سبقه بأن
حكومة الحجاز تدار بالنظام الشرعي الذي يقرره المؤتمر الإسلامي العام، الذي
اقترحه هو منذ تصديه لإنقاذ الحجاز من سلطة حسين الشخصية التي عرف فسادها
العالم كله، حتى إن ولي عهده الشريف عليًّا وأنصاره القليلين الذين بايعوه تقربوا
إلى العالم الإسلامي بزعمهم (أنهم خلعوا حسينًا ونصبوا عليًّا ملكًا دستوريًّا على
الحجاز) . وهم كاذبون ومخادعون في دعوى الخلع وفي دعوى الحكومة الدستورية.
لم يكتف الإنكليز بالعود إلى مساعدة هذا البيت المسخر لهم بالمال والسلاح
كما بدؤوا في زمن الحرب الكبرى، بل أنشؤوا يساعدونه على الدعاية الإفسادية في
العالم الإسلامي؛ لتنفيره من الوهابية، وعطفه على البيت الحجازي الذي استولوا
بمساعدته على القدس الشريف والعراق، وأنشبوا براثنهم في قلب الجزيرة العربية،
وبدؤوا يلتهمون الحجاز لقمة بعد لقمة.
أعلن ابن السعود بأنه أرسل جيشًا إلى المدينة المنورة؛ لإخراج الحامية
الهاشمية التي فيها بالحصر دون القتال، ولما كان يعلم أن خصومه يتهمون جيشه
بأنهم إذا استولوا على المدينة المنورة يهدمون الروضة المشرفة وقبة الحرم المعظم،
سبق إلى نفي هذه التهمة والتبرؤ منها، فقال في آخر منشوره الرسمي الذي نشره،
عند إرسال الجيش المذكور ما نصه:
(إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول
صلى الله عليه وسلم، وحاشا أن تحدث نفس مسلم بذلك، إنني أفتديها بنفسي
وولدي ومالي ورجالي) إلخ.
ولكن هذا الاحتياط لا يزيد خصومه إلا جرأة على الكذب والاختلاق، فكما
أنهم اخترعوا للنجديين عقائد يتبرؤون منها، كذلك يختلقون لهم أعمالاً يتبرؤون منها،
ولذلك قلت في تعليقي على هذا المنشور في منار آخر شهر المحرم: وأصدر هذا
المنشور؛ ليعلم العالم الإسلامي بغرضه الشريف، وليحتاط لبهتان دعاية الشريف
علي، ويتقي اتهامه بضرب المدينة أو حرمها المنيع لو دخلها فاتحًا، وقد يكون هذا
الاحتياط مغريًا لا مانعًا من التهمة، بل يستحل علي وقواده فعل ذلك؛ ليتهموا
الوهابيين به كما فعل والده (حسين) ؛ إذ أمر بضرب الكعبة المشرفة بالنار، واتهم
بذلك الترك اهـ.
إنني لست أريد بهذا المقال الانتصار لسلطان نجد على الشريف علي ولا
الطعن بهذا والدفاع عن ذاك، بل أريد تنبيه العالم الإسلامي إلى الخطر الأكبر وهو
استيلاء الأجنبي على مهد دينهم وقبلته ومشاعره وحرم الله ورسوله، واستعانته
على ذلك بعوام المسلمين وبعض خواصهم الدنيويين المسخرين لخدمته، والذين
لولا أمثالهم لم يستول على الهند، ولا على مصر، ولا على القدس والشام
والعراق. وإني لأعرِّض نفسي بهذا التنبيه والتذكير لبلاء عظيم على ضعف أملي
باستفادة جماهير المسلمين من نصحي وتذكيري كما يجب، فالعامة قتلها الجهل،
والخرافات كعبادة القبور، ومعظم خاصة أهل الدنيا قتلهم جهل شر من جهل العامة،
وفساد شر من فسادها، فأصبحوا آلات بأيدي الأجانب يسخرونهم؛ لهدم مجد
دينهم ودنياهم، كما سخروا أمراء الهند وملوكهم في فتحها لهم، ثم سخروا بعض
كبراء المصريين في احتلال مصر وشركتها في السودان، وفي استمرار هذا
الاحتلال والاستئثار بالسودان، ثم سخروا الملك حسينًا والملك فيصلاً والملك عليًّا
والأمير عبد الله، ولا يزالون يسخرونهم في سبيل امتلاكهم للبلاد العربية، وكما
تسخر فرنسة سلطان مراكش اليوم في هدم قوة أبناء جلدته ووطنه ودينه الريفيين،
وهي ما فتحت سلطنته إلا بمسلمي الجزائر، وما فتحت الجزائر من قبل إلا
بمساعدة سلفه الصالحين من سلاطين مراكش.
إن لدى سلطان نجد جندًا يفوق جند الريف المغربي أضعافًا مضاعفة في العدد،
ولا يقل عنه في الشجاعة والصبر عن القتال، بل ربما يفوقه فيهما أيضًا، وإنما
ينقصه النظام الحديث والأسلحة العصرية، وما هما عن متناوله ببعيد لو فطن
سلطانه لذلك وأقدم عليه، وهذا هو الذي يخشاه الإنكليز الطامعون في امتلاك
جزيرة العرب بعد استيلائهم على ما جاورها من البلاد العربية الخصبة؛ ليقتلوا
الإسلام وقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - في عقر دارهم ومهد دينهم، وقد
أعياهم استخدام سلطان نجد وإمام اليمن في هذه السبيل، كما استخدموا الشريف
حسينًا وأولاده، فهم يكيدون لهما المكايد.
وقد كان آخر خدمة عملية خدمهم بها البيت الهاشمي جعله هذه المنطقة
الحربية من أرض الحجاز (العقبة ومعان) تابعة لما يسمونه الانتداب البريطاني،
وآخر دعوة لهم إلى التدخل في أمر الحجاز ما كتبه الشريف حسين من قبرص إلى
الحكومة الإنكليزية يطالبها بالتدخل الفعلي في أمر الحجاز وإخراج النجديين منه وفاءً
بوعدها له - كما لخصته جريدة كوكب الشرق في هذا الأسبوع عن بعض الصحف
الإنكليزية - فأي مسلم يؤمن بالله ورسوله، ويغار على قبلته وشعائر دينه يرضى
أن يكون لأحد من أهل هذا البيت أدنى سلطة في الحجاز؟
قلت: إن الإنكليز عادوا إلى مساعدة البيت الهاشمي حتى في نشر الدعاية
لخداع العالم الإسلامي. وقد بدئت هذه الدعاية بفرية نشرها وكيل الشريف علي
بمصر في المقطم، وهي أن الوهابيين قد جعلوا قبة الحرم النبوي الشريف
والروضة الطاهرة هدفًا للرصاص، ولم تقل هذه الدعاية على ما نعهد من إسرافها
في الكذب: إنهم رموها بالمدافع ولا أنهم أصابوها بسوء.
وقد ثبت رسميًّا أنه ليس معهم مدافع، ومن المعقول ما قاله لنا ضابط مغربي
كان في مدفعية الجيش الهاشمي بالمدينة وهو أن رصاص بنادق الوهابية يستحيل
أن يصل إلى قبة الحرم الشريف؛ لأنهم يعسكرون في مكان بعيد عن العمران؛ لئلا
تصيبهم مدافع حصون المدينة، على أنهم مأمورون رسميًّا بعدم إطلاق النار على
شيء منها، ويعلمون أن رميها يضرهم ولا ينفعهم.
ولكن شركة روتر البريطانية نشرت هذه الفرية في العالم الإسلامي كله
وكبرتها تكبيرًا، وكان سماسرة الإنكليز في كل قطر يشرحونها ويثيرون بها الفتن،
فيصدقهم كثير من المسلمين الغافلين الجاهلين، فأوهموهم أن الوهابيين يريدون
تدمير الحرم النبوي بمدافعهم، بل أذاعوا في بعض الأقطار البعيدة كإيران أنهم
دمروه بالفعل.
فقد علمنا مما جاء من أخبار الهند العامة في جرائدها، والخاصة بنا وببعض
معارفنا أن وفد الشريف علي الذي كان أرسله؛ لبث الدعاية في الهند قد اتفق مع
جماعة أغاخان رئيس الإسماعيلية وغيرهم من الشيعة الباطنية والظاهرية كالخوجة
والبهرة.. . على إثارة الفتنة في المساجد، واستخدموا بالدراهم بعض المعدين
لذلك في كل مكان، فأعدوا لها الخطب والأدعية والاستغاثات، وساعدهم بعض
الوجهاء المناوئين لجمعية الخلافة كأمين صندوقها السابق الذي أكل مئات الألوف
من أموالها، وصار بعد ذلك عدوًّا لها، وتربص بها الدوائر؛ للطعن في رئيسها
وأعضائها، وتشويه سمعتهم كما شوهوا سمعته بخيانته لها.
فقد كتب إلينا أديب سائح من (بمباي) أنه تعجب من وجود هؤلاء الباطنية
في المسجد، ومشاركتهم للمسلمين في الصلاة والدعاء على الوهابية، مع أنهم لا
يصلون صلاتنا، ولا يتوجهون إلى قبلتنا، ولا يحجون، ولا يزورون قبر الرسول-
صلى الله عليه وسلم - مع عبادتهم لمن يزعمون عصمتهم وألوهيتهم من آل بيته؛
ولكن لا عجب فإذا كان معبود هؤلاء (آغاخان) عبدًا للإنكليز قضى حياته في
خدمتهم، فكيف يكون عبيد العبد؟!
ومما يدل على أن الفتنة إنكليزية ما نشره أحد دعاة الشريف علي في المقطم
عن تأثير الدعاية في عدن وما حولها من تهامة اليمن، واحتجاج السلاطين
البريطانيين هنالك، فقد قال الكاتب في أول رسالته: إن الأخبار التي وصلت عن
أحوال بلدة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد تركت إخواننا في عدن اليمن، وفي
هياج عظيم، فقد احتج عظمة سلطان لحج (؟) ، والشيخ فضل بن عبد الله
سلطان العقارب (؟) ، وسلطان الحواشب (؟) ، وسلاطين يافع والعوالق (؟) -
ما أكثر أسماء السلاطين عند الإنكليز! - وجميع أمراء العرب على الفعل الشنيع
الذي ارتكبه رجال ابن سعود في حصارهم المدينة المنورة، ولا عبرة بتكذيب
وكيل ابن سعود، بل إن هذه عقيدتهم إلخ.
نقول: أين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام والملوك الفخام عندما
انتهك الشريف حسين حرمة حرم الله - عز وجل - وقاتل الترك في بطن بكة مع
قول الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة (إنها أحلت له ساعة
من نهار ولن تحل لأحد من بعده) أظن أن خدمته الإنكليز بذلك نسخت هذا
الحديث عندهم.
وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما حاصر الشريف حسين
وأولاده المدينة المنورة والترك فيها، كما يحاصرها الوهابيون اليوم؟ أيحلون له
ذلك؛ لأنه كان يحارب الترك بأمر الإنكليز وسلاحهم ومالهم؟ ويحرمونه على ابن
السعود؛ لأنه يريد أن تكون هي وسائر الحجاز بمنجاة من النفوذ الإنكليزي تحت
رعاية العالم الإسلامي؟
وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما هدد الشريف علي كل
من يقصد أداء فريضة الحج في الموسم الأخير بالقتل، وزعم أن أساطيله بالمرصاد
لكل سفينة تحمل الحجاج إلى ثغور الحجاز الخاضعة للوهابيين: القنفذة والليث
ورابغ؟!
فهل كان المنع من أداء فريضة الحج وإقامة ركن الإسلام مباحًا في دينهم، فلم
يحتجوا على منعه أم مرضاة الإنكليز الذين سعوا لمنع الحج، مرجحة عندهم على
مرضاة الله تعالى؟
وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما أصدر الشريف علي
(إرادته السنية) من عهد قريب بجعل أعظم منطقة حربية من الحجاز تحت
الانتداب الإنكليزي؟ لماذا لم يحتجوا على هذا ولا ذاك؟ أم يريد هؤلاء السلاطين
العظام أن تكون المدينة المنورة ومكة المكرمة تحت الحماية الإنكليزية مثلهم؟
وإذا كان الأمر كذلك فما لهم وللإسلام ولاسم الإسلام؟
إنهم يدعون اتباع مذهب الشافعي رضي الله عنه، فما لهم لا يهتمون من أمر
الحجاز إلا بهدم بعض القبور المشيدة المشرفة التي تعبد من دون الله تعالى، وتؤتى
عندها المعاصي المجمع عليها؟ وقد ذكر الإمام الشافعي في كتابه الأم ما نقله عنه
عمدة الشافعية الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أن أئمة مكة كانوا يهدمون في
عصره ما رفع من القبور عملاً بحديث علي - كرم الله وجهه - (أن لا تدع تمثالاً
إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) أي: بالتراب، فهل كان الشافعي وأولئك
الأئمة من الوهابية؟ أم الوهابية هم المقتدون بهم، والمعتصمون بسنة الرسول
مثلهم، وأنتم وسادتكم من أمراء مكة الذين يتقربون إليكم بتعظيم القبور، وما
يقترف حولها من أعمال الوثنية أعداء السنة والمخالفون لجميع الأئمة؟
لو لم يكن من فتنة جهال المسلمين بقبور الصالحين التي اتبعوا فيها سنن من
قبلهم الذين لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اتخاذ قبور أنبيائهم
وصلحائهم مساجد، وعلى اتخاذ السرج والمساجد عليها إلا جعلهم اتباع السلف
الصالح بهدم بعضها أهم من منع فريضة الحج، وبيع أرض الحجاز للإنكليز؛ لكفى
ذلك موجبًا لهدمها؛ لإزالة هذا الاعتقاد الفاسد، فقد كان علماء الصحابة يتركون
بعض السنن المتفق عليها؛ لئلا يظن العوام بالتزامهم إياها وجوبها، كما روي عن
ابن عباس (رضي الله عنه) في ترك التضحية في عيد النحر، على كونه كان
يذبح الذبائح كل يوم لإطعام الناس، ولذلك نظائر فصل القول فيها الإمام الشاطبي
في كتابه (الاعتصام) فما القول: في بدعة مخالفة للسنة الصحيحة ترتب عليها
من الضلالات والمعاصي والشرك ما هو معروف: كتشيد القبور وتشريفها، وبناء
المساجد وإيقاد السرج عليها، وقد صح لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن
فعل ذلك قبل حدوث افتتان الناس بالطواف بها، ودعاء أصحابها من دون الله تعالى؛
لكشف الضر وقضاء الحاجات ورفع المصائب، ونذر النذور لهم، وذبح القرابين
بأسمائهم، والحلف بهم- إلى غير ذلك من أنواع العبادة - وقد بلغ من شركهم أن
صاروا يصلون لهم لا إلى قبورهم فقط، كما حدثني الشريف محمد شرف عدنان
باشا قال: رأيت رجلاً توجه إلى قبر ابن عباس (رضي الله عنه) في الطائف،
وشرع في الصلاة، فظننت أنه أعمى، فأردت تحويله إلى القبلة فامتنع، ورأيت أنه
بصير، وأنه يتعمد الصلاة إلى القبر مستقبلاً له دون القبلة؛ لأنه يصلي لابن
عباس لا لله تعالى، فقلت للخدم: أخرجوا هذا المشرك من هنا بالقوة؛ ففعلوا.
صرح بعض فقهاء الحنابلة وغيرهم من أهل السنة بوجوب هدم القبور
المشرفة التي لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيدوها وعظموها، وذلك
قبل وجود الوهابية بعدة قرون، كما كان يفعل الأئمة بمكة في زمن الإمام الشافعي،
وقد أمر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بقلع الشجرة التي بايع النبي - صلى
الله عليه وسلم - أصحابه تحتها؛ لأنه علم أن بعض الناس يزورونها، فقلعت
وعفي أثرها، وذلك قبل أن تصل فتنة المسلمين بمثل هذه الآثار إلى عشر معشار
ما وصلت إليه الآن، فهل كان عمر رضي الله عنه وهابيًّا؟
وقد فصلنا القول في هذه البدع من قبل، وليس من غرضنا إعادته الآن، بل
غرضنا أهم من ذلك وهو بيان الخطر على الحجاز من الإنكليز، الذين سعوا لمنع
إدخال السلاح إلى بلاد العرب كلها؛ تمهيدًا للاستيلاء عليها، وأكبر أعوانهم على
ذلك بيت الشريف حسين بن علي، فهو الذي قرر جعل الحجاز وسائر البلاد
العربية تحت الحماية البريطانية، وجرى هو وأولاده على هذا بالفعل، وآخر
جناياتهم إعطاء أعظم منطقة حربية من أرض الحجاز للإنكليز وهي منطقة
(العقبة - معان) التي تمكنهم من الاستيلاء على بقية الحجاز، أو جعله بحيث لا
يقدر أهله أن يعيشوا فيه إلا تابعين للإنكليز؛ لإحاطتهم بهم من البر والبحر،
وسنبين في الفصل التالي من هذا المقال حال الحجاز بين سلطان نجد والشريف
علي، وما يجب على المسلمين من درء الخطر عن مهد دينهم ومشاعره العظام؛
وكون بقاء سلطة بيت الشريف حسين على الحجاز مفضيًا إلى جعله تابعًا
للإمبراطورية البريطانية حتمًا، وكل من يسعى إلى بقاء سلطتهم فيه فهو يخدم
الإنكليز ويحارب الله ورسوله والمسلمين قصد ذلك أم لا، وقد أعذر من أنذر.
***
(2)
الموازنة بين سلطان نجد والبيت الهاشمي
لما زحف جيش ابن السعود؛ لإنقاذ الحجاز من سلطة الشريف حسين كان
ضلع الرأي الإسلامي العام معه، فلم ينتدب شعب من شعوبه، ولا جماعة من
جماعاته، ولا فرد من كبار رجاله للدفاع عنه، بل صرح المعروفون من رجاله
بظلمه وفساد سياسته، وزعموا أنهم خلعوه خلعًا، وكذلك فعلت الجرائد التي كانت
تمدحه وتدافع عنه كالمقطم، واتخذوا ذلك وسيلة لإقناع سلطان نجد بإمكان الاتفاق
بينه وبين ولده الشريف علي الذي سموه ملكًا دستوريًّا، ولو أن سلطان نجد بادر
في ذلك الوقت إلى الاستيلاء على جدة والمدينة المنورة لغنم كنوز الملك حسين
واستعان بها على إصلاح الحجاز، ولعقد المؤتمر الإسلامي، وتقرر فيه نظام الحكم
في الحجاز بما يرضي جميع المسلمين، ولكنه قاس الحجاز على إمارة ابن الرشيد
التي استولى عليها بالحصار الطويل دون المناجزة اختيارًا لخسارة المال على
خسارة الأنفس، فأعطى البيت الحسيني فرصة طويلة للاستعداد الحربي وللدعاية
الإفسادية، ولما هو شر من ذلك وهو العود إلى إقناع الإنكليز بأنه قادر على تمكينهم
من سائر بلاد العرب، فعادوا إلى مساعدته بالمال والدعاية كما تقدم في الفصل
الأول من هذا المقال، فطفقوا يهيجون العالم الإسلامي على الوهابية وسلطانهم،
فوجب أن نقيم الوزن بالقسط بين الفريقين.
***
سيئات جند ابن السعود في الحجاز
إن ما نسب إلى جند ابن السعود من السيئات في الحجاز كان ينحصر في
أمرين:
(أحدهما) : أنهم قتلوا في الطائف بعض الأهالي غير المقاتلين.
(ثانيهما) : أنهم هدموا بعض المباني الأثرية التي يتبرك بها الناس؛ فكل
الدعاية الهاشمية في الطعن فيهم لا تعدو هذين إلا إلى ما يذكر في هذه الأيام من ذم
الإدارة في الحجاز، ولم يثبت من ذلك إلا منع شرب الدخان: كمنع الخمر
والحشيش وأمثال ذلك مما كان يلوث به الحرم الشريف، ولا نبحث في هذا فإنه لا
يتعلق بما نقصد من السياسة العامة ومستقبل الحجاز والإسلام.
فأما الأول فيقع مثله في كل حرب، وفي الغالب يكون خطأ وقد يكون بعضه
لضغائن وأسباب شخصية، فإذا كان قد وقع من الوهابية، فقد وقع قبلهم من خير
جنود البرية، وهم الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البخاري في صحيحه
وغيره عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعث خالد بن الوليد إلى بني خذيمة (داعيًّا لا مقاتلاً) ، فدعاهم إلى الإسلام فلم
يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم
ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل منا
أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا
على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه له فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم -
يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) - مرتين.
وهذا ذنب مضى لا يضر البلاد ولا الأمة وإثمه على من فعله لا نبرئهم منه،
وأما الثاني: فإذا عقد المؤتمر الإسلامي الذي يدعو إليه السلطان ابن السعود، وقرر
أنه خطأ أمكن إعادة تلك المباني أو الأثري منها، بشرط مراعاة أحكام الشرع في
اجتناب كل منكر يتعلق بها، والمنع منه بالقوة المنفذة للشرع.
***
سيئات البيت الهاشمي
وأما سيئات الشريف حسين وأولاده فلا تُعَدُّ وقد ألفنا كتابًا في ذكر بعض
سيئات الأول، جعلناه خطابًا للعالم الإسلامي، وفيه شيء من ظلم ولي عهده،
والشريف علي بالمدينة، ولكننا لا نذكر هنا إلا ما هو خطر على الحجاز وحصنه
من جزيرة العرب وهو:
(1) وضع الشريف حسين عند شروعه في الثورة بإغواء الإنكليز صورة
اتفاق معهم سماها (مقررات النهضة) ، صرح فيها بأنهم الذين هم يؤسسون
الحكومة العربية، وتكون البلاد تحت حمايتهم في داخلها وخارجها، وأعطاهم فيها
حق إشغال ولاية البصرة إلخ، ويؤكد إصراره على ذلك أنه رفع استقالته من الملك
مكررة إلى الحكومة البريطانية في لندن، ونشر ذلك في جريدته التي كانت تسمى
(القبلة) ، وقد عاد الآن إلى مخاطبة الحكومة الإنكليزية بإنجاز وعدها له، وإخراج
ابن السعود من الحجاز، كما أشرنا إليه في الفصل الأول.
(2) لا يزال ولده الشريف فيصل يمهد لهم سبيل امتلاك العراق بالصور
والأساليب التي يأمرونه بها، وكان قد اتفق مع فرنسة على وصايتها الانتدابية على
سورية وعجز عن تنفيذ ذلك.
(3) مهد لهم ولده الشريف عبد الله سبيل امتلاك شرق الأردن، وإخضاع
قبائله وعشائره وما جاورها، فأسسوا فيها حظيرة للطيارات الحربية، وجعلوها
برضاه تابعة لفلسطين في الانتداب، وكانت مستقلة، وأعطاهم وثيقة رسمية بحق
إدارة سكة الحديد الحجازية التي تمر منها، وباسمه وسعيه أخذوا المنطقة الحجازية،
يريدون أخذ منطقة الجوف النجدية باسمه أيضًا، وهم إذا شاؤوا إخراجه في أي
وقت، فإنهم يخرجونه كما أخرجوا والده طوعًا أو كرهًا.
(4) الشريف علي هو الذي أعطاهم المنطقة الحربية الأخيرة من أرض
الحجاز بمحض إرادته (التي يصفها بالسنية تقليدًا لسلاطين آل عثمان) كما تقدم.
ومن المعلوم بالضرورة أن أهل هذا البيت متضامنون في خدمة الإنكليز،
وممالكهم الصورية يعدونها منحة من الإنكليز، ويعلمون أن الشعب الحجازي يمقتهم،
وأنه لا سبيل إلى تمتعهم بعظمة الإمارة والملك إلا بحماية الإنكليز بل في ظلمهم،
فإذا ظلوا متمتعين، بها فلا تمضي إلا سنين قليلة، ويستولي الإنكليز بالفعل على
بلاد العرب وفي مقدمتها الحجاز.
وقد علم من أعمالهم الرسمية أنه لا يردعهم عن ارتكاب أعظم الجنايات
الموبقة - ولا سيما خدمة الإنكليز -خوف من الله ولا حياء من قومهم ولا من أهل
الدين الذي ينتسبون إليه، حتى إن الذي سمى نفسه ملكًا دستوريًّا - وهو علي -
يعطي بعض أرض الحجاز المقدسة للإنكليز بمقتضى (إرادته السنية) ، فأين
الحكومة الدستورية التي ادعاها؟ وأين الحزب الوطني الذي بايعه عليها بعد
ادعاء خلع الملك حسين لاستبداده.. .؟
***
الدعاية الهاشمية
ليس هنالك أحزاب حجازية، ولا مبايعة شعبية دستورية، ولا خلع لمن
ادعى الخلافة الإسلامية، وسمى نفسه ملك البلاد العربية، وإنما هنالك أفراد رباهم
حسين لنفسه قاموا ولا يزالون يقومون بهذه الدعاية التي يعتمد عليها حسين وأولاده،
كما يعتمدون على الإنكليز، ولا يقيمون لغيرهما من العلم والعمل ولا من الناس
وزنًا، منهم عبد الرؤوف أفندي الصبان الملقب بمندوب الحزب الوطني الحجازي
بمصر، وحسين أفندي الصبان مدير جريدة القبلة، وكل ما ينشر في مصر من
الدعاية فهو منهما، ومن الشيخ عبد الملك الخطيب الملقب بوكيل الحكومة العربية.
ومنهم الوفد الذي أرسل إلى الهند فأحدث فيها فتنة لا يستهان بها، وزعيماه
محمد طاهر الدباغ والطيب الساسي، وهما من المغاربة المقيمين بالحجاز،
وثانيهما كان مستخدمًا في إدارة جريدة القبلة الحسينية.
ونرى هؤلاء الدعاة ينفقون الأموال بألوف الجنيهات على الجرائد وغيرها من
حيث تواترت الأخبار بعجز ملكهم الشريف علي عن أداء رواتب الجنود التي
استأجرها من فلسطين وسورية وغيرهما؛ لإقامة ملكه حتى انفض أكثرها من حوله،
وعادت إلى بلادها، ومن أخبار الهند الخاصة أن وفد الهند بذل للشيخ أبي الكلام
أحمد الزعيم الشهير عشرة آلاف جنيه؛ ليبث دعوتهم، ويلقي خطبة في الطعن في
الوهابية، فكان ذلك دليلاً عنده على كذبهم.. . وما هو ممن يعبد المال مثلهم،
فلذلك رد طلبهم، وقد أنشأ هذا الوفد جريدة أسبوعية في بمبي هي أسفه من جريدة
القبلة قليلاً، وأضل سبيلاً، فاغتر بهذه الدعاية كثيرون، وأخذ الزعماء العارفون
بالحقائق على غرة، فتريثوا في الرد على هذه الدعاية حتى خاطبوا ابن السعود في
الأمر بلسان البرق كما فعل ملك مصر، ولما وقفوا على الحقيقة، وأن جيش الإخوان
لم يضرب قبة المسجد النبوي بقنبلة ولا رصاصة، حملوا حملة عظيمة على
دعاية وفد الشريف علي حتى اضطر إلى مغادرة الهند.
***
افتراض الإنكليز للفتنة
في أثناء هذه الضجة أمر الإنكليز حكومة العراق بمطالبة سلطان نجد بإعادة
عقد المؤتمر الذي كان قد اجتمع في الكويت؛ لوضع الحدود بين العراق ونجد
وشرق الأردن والحجاز، وأرسلوا هم من قبلهم وفدًا إلى الحجاز لمفاوضة سلطان
نجد في هذه المسألة، وجل ما يبغونه منه أن يعترف لهم بالحدود الجديدة لمنطقة
شرق الأردن بعد أن ضموا إليها من بلاد الحجاز ما علمنا، وأن يضموا إليها
(الجوف) الذي كان تابعًا لإمارة ابن الرشيد، وصار بعد ذلك جزءًا من سلطنة
نجد.
وإنهم يتوسلون إلى إقناعه بما يخوفونه الآن من تأليب العالم الإسلامي عليه،
وإغراء مصر وإيران وغيرهما من الأقطار الإسلامية به، حتى الهند التي كانت
مشايعة له، فأصبح كثير من أهلها عليه كالإسماعيلية وفرق الشيعة، وبعض عوام
أهل السنة، بحيث إذا عقد المؤتمر الإسلامي الذي يطلبه يسعون بنفوذهم السياسي
والمالي، وخداعهم إلى جعل الأكثرية الساحقة فيه عليه لا له، ومؤيدين لخصمه
الشريف علي عليه. وذلك أن أكثر مسلمي الأرض خاضعون لسلطانهم وسلطان
حليفتهم فرنسة بالفعل، بل يوهمونه أنه يسهل عليهم خداع سائر الشعوب الإسلامية
بموافقة مندوبي هؤلاء، بدليل أنهم هيجوا بعضها بالفعل كالشعب الإيراني، ولكنهم
لا يصرحون بهذه الإيهامات.
فإن هو خاف من ذلك، واعترف لهم بهذه الحدود يكون كمن شحذ مديته
وبخع بها نفسه بيده، ويكون كل هؤلاء المسلمين الذين هاجوا عليه، وطفقت
جرائدهم تطعن في جنده، شركاء له في هذه الجناية على الحجاز وعلى الإسلام،
نعم إن الإنكليز ربما يكافئونه على اعترافهم له بهذه الحدود مكافأة سلبية خادعة، وهي
ما لا يزالون يدعونه من التزامهم موقف الحياد في التنازع بينه وبين الشريف علي،
وماذا يفعل بعد ذلك وهو محاط به من البر والبحر، ولا سيما بعد مد الإنكليز لسكة
الحديد الحربية من فلسطين إلى العراق مارة بأرض الحجاز ونجد؟
الواجب على السلطان عبد العزيز شرعًا وعقلاً وسياسة أن لا يخاف من تهديد
الجنرال كليتن وخداعه، ولا يبالي بوعده ولا بوعيده، فإن دولته المرسلة له لا
تقدر الآن على إيذاء نجد وغيرها من بلاد العرب بأكثر مما فعلت من الدسائس،
ومن مساعدة الحجازيين بما أجملناه في هذا المقال، أعني: إنها لا يمكن أن تسوق
عليه جيوشًا بريطانية تقاتله بها، فإن فرضنا أنها يمكنها أن تحمل دولة إسلامية
على قتاله؛ لإخراجه من الحجاز - وما ذلك بالأمر السهل - فعاقبة ذلك خير له من
السماح للإنكليز بشبر من أرض الحجاز أو من أرض نجد، يأخذونها باختياره ثم لا
تكون عاقبة أمرها إلا القضاء على كل من الحجاز ونجد بعد زمن قليل، ولأن
يضيع الحجاز بيد غيره أشرف له وأسلم من خزي الدنيا والآخرة من أن يضيع بيده.
إذا أحدث الإنكليزي فتنة حربية في الحجاز بأيدي دولة إسلامية فلا ينتظر من
ابن السعود إلا أن يترك الحجاز لهذه الدولة الإسلامية، ويحملها تبعة حفظه أمام الله
والمسلمين، ويزحف بكل قوته على شرق الأردن وفلسطين والعراق، فهو إن فعل
ذلك يجد الترك قد انتهزوا هذه الفرصة وزحفوا على الموصل، وإذا أنقذ العراق
وقلب جزيرة العرب من الإنكليز ذهب تسعة أعشار الخوف على الحجاز ونجد،
ولن ترضى الأمة البريطانية من حكومتها الماكرة أن تحملها أعباء حرب جديدة في
بلاد العرب تضحي فيها مئات الألوف من الإنكليز، وتغتال مئات الملايين من
ذهبهم، بعد أن كادت الديون وبطالة العمال وكساد التجارة تقضي على ثروتهم.
ولئن كانت الحكومة الهندية تظن أنها يمكنها الاعتماد على مسلمي الهند في
إيقاد نيران الحرب في الحجاز؛ بإيهام عوامهم أنها تنقذ بذلك القبور والقباب من
الوهابية، فهي لا تأمن لهم ولا للهندوس في إيقاد نيران الحرب في بلاد العرب
لقتال العرب والترك دفاعًا عن تاج فيصل وعقال أخيه عبد الله، بل هي لا تأمن
عاقبة إرسالهم إلى الحجاز أيضًا؛ لأن العارفين بكيدها للحجاز من ضباطهم وجندهم
كثيرون.
إن الدولة البريطانية لا تثير حربًا جديدةً قط، وما لديها إلا الخداع، فلا
يكونن سلطان نجد من المخدوعين.
لا يتوهمن أحد من ذكرنا لزحف الترك على الموصل أننا نعتقد أن لهم الحق
في ذلك، أو أننا نفضل جعل هذه الولاية تركية على جعلها عربية، كلا، وإنما
نعتقد أن طمع الترك قد يقف عند حد الموصل من بلاد العرب، وأما طمع الإنكليز
فلا يقف عند حد، وهم عازمون قطعًا على امتلاك جميع البلاد العربية، وإزالة
سلطان الإسلام وشريعته من الأرض، فإذا ظفروا بقوة ابن سعود وهي أكبر قوة
عربية في الجزيرة فقل: على العرب وعلى الإسلام السلام، ونعتقد أن ابن سعود إذا
زحف لإنقاذ العراق لأهله يقوم معه معظم العرب، وإقناع العراقيين بذلك سهل.
***
(3)
دسيسة الصلح بين الحجاز ونجد
نحن من المصدقين بأن سلطان نجد كان ولا يزال قادرًا على أخذ جدة والمدينة
المنورة عنوة كما حكي عنه، ثم صرّح به هو رسميًّا. ومن المصدقين بأنه اختار
الحصر بالمطاولة على المناجزة، كراهة لسفك الدماء، وتخريب العمران، ويعتقد
مع هذا أن هذا الاجتهاد كان خطأً، ضرره على سياسة السلطان وعلى الحجاز أكبر
من نفعه، فلو أنه بعد أن علم بما كان من تحصين جدة أعد للهجوم عليه عدته،
وأخذها عنوة لانتهت المسألة الحجازية، وأقبل الحجاج على مكة من جميع الآفاق؛
فاتسع الرزق على أهل الحجاز، وشاهد وفود مسلمي الأرض كلها الفرق العظيم
بين عدل ابن السعود، وتأمينه للبلاد، ومنعه للظلم والإلحاد، وتعففه عن أموال
الحجاج، وإقامته لأحكام الشريعة، وبين بظلم حسين بن علي وإلحاده في حرم الله،
ولعقد المؤتمر الإسلامي العام، وقرر شكل حكومة الحجاز وما يجب من الإصلاح
الديني والعمراني فيه (كما تقدم آنفًا) ، واستراح المسلمون عامة والعرب خاصة،
واطمأنوا بذلك على حرمهم وقبلتهم ومشاعر دينهم، وروضة نبيهم صلى الله عليه
وآله وسلم، وأمنوا نفوذ الأجنبي أن يفسد عليهم أمر دينهم، ويذلهم حيث أعزهم
الله تعالى.
لقد آن للسلطان الذكي العاقل أن يدرك الفرق العظيم بين حصره لابن الرشيد
في جبل شمر، وبين حصره للشريف علي صنيعة الإنكليز وابن صنيعتهم في ثغر
بحري، يتصل فيه بهم وبمن شاؤوا وشاء من العالم، وقد علم بعض ما في ذلك من
الضرر، ومنه أن رجال العرب وكثيرًا من زعماء الإسلام الأعاجم؛ وكثيرًا من
الأجانب كانوا يقدرون قوته الحربية قدرها، وينتظرون أن تتضاعف هذه القوة
بإدخال النظام العصري فيها، وتسليحها بالأسلحة الجديدة التي كانت فاقدة لها،
وكانوا ينتظرون أن تتجدد بذلك دولة عربية قوية، تحفظ بالاتحاد مع قوة الإمام
يحيى مهد الإسلام وجزيرة العرب من النفوذ الأجنبي، وتجدد شباب هذه الأمة.
فلما مرت سنة كاملة، بل قبل أن تنتهي هذه السنة على حصار جدة التي
يحميها أوشاب من متطوعة بلاد كثيرة، استؤجروا للدفاع عنها بحشو بطونهم من
لماج العيش (اللماج بالفتح أدنى ما يؤكل) ، ظن الأكثرون أن هذه قوة يدوية لا
غناء فيها ولا استعداد، ولا قابلية فيه لمناجزة أضعف الجنود المنظمة، مهما يكن
نظامها ناقصًا وضعيفًا، وذهبت بهذا الظن هيبة الوهابيين من أنفس أولئك الظانين،
وانقطع حبل الرجاء بكثير من أولئك الراجين، وزالت مهابة الخوف من كثير من
الخائفين، وصار لطلاب الصلح بين المتحاربين أنصار كثيرون حتى من العارفين
بفساد بيت حسين وظلمهم وكونهم صنيعة الإنكليز، وشبهتهم على هذا، أن القوتين
متكافئتان، لا يرجى حقن الدماء وأمن البلاد وحرية الحج إلا بالصلح بينهما.
ولم يكن ينطق بكلمة الصلح بينهم وبين سلطان نجد قبل هذه الأيام إلا
صنائعهم ودعاة فتنتهم، ولم تردد هذه الكلمة إلا الصحف القليلة التي تنشر دعايتهم
وفي مقدمتها المقطم، فهي التي ما زالت تنشر هذه الدعوة إلى الصلح حكاية عن
بعض دعاة الشريف علي وباسم بعض محرري المقطم، وزعمت أن الوفد المصري
الذي سافر إلى جدة فمكة بأمر جلالة ملك مصر المعظم برئاسة الأستاذ الكبير الشيخ
محمد مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا لم يذهب إلا للوساطة بعقد
الصلح بين الشريف علي وسلطان نجد؛ لما كان من استغاثة الشريف علي بجلالة
الملك في البرقية المشهورة التي نشرت في الصحف المصرية، ونشرناها نحن في
الجزء الخامس من المنار، وإنما يقول المقطم هذا رأيًا لا رواية، ونحن نخالفه في
هذا الرأي، ونرجح أن الوفد أرسل لاختبار حالة الفريقين لا للتدخل في شؤونهما
بالفعل، إذ لا يعقل إقدام هذا المقام الجليل على مثل هذا التدخل إلا بعد العلم
باستعداد الفريقين لقبول وساطته، والعلم بأن الصلح بينهما على قاعدة بقاء الحكم
في الحجاز للشريف علي موافق للمصلحة الإسلامية العامة، وأي مصلحة للإسلام
في توطيد السلطة في الحجاز لمن يدعون أن البلاد ملك لهم، وأنه يباح لهم
التصرف فيها حتى ببيع ما شاؤوا منها للأجانب كما وقع بالفعل؟ ولهذا نعتقد أن
دعاة الفتنة الذين يحرضون الدولة المصرية على قتال الوهابيين، وفتك هذه البقية
الضعيفة من قوى المسلمين بعضها ببعض، لا تثمر لهم دعوتهم إلا الخزي في
الدنيا والآخرة.
إننا نعتقد بما لنا من الاختبار الواسع أن عقد الصلح بين الشريف علي
وسلطان نجد على قاعدة جعل الأول ملكًا في الحجاز يفضي إلى المفاسد الآتية:
(1) عودة الشريف حسين إلى مكة مدعيًا للخلافة الإسلامية تحت حماية
الإنكليز عملاً بمقررات النهضة، فقد علمنا علم اليقين أن أولاده الملوك
البريطانيون على العراق وشرق الأردن والحجاز لا يزالون متمسكين بخلافته، وقد
صرح ولي عهده الشريف علي في (الإرادة السنية) التي أصدرها بجعل منطقة
العقبة وشرق الأردن الحجازية تابعة لشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني
بالتعبير عن والده بالخليقة الأعظم، وإذا هو عاد إلى مكة يعود إليها الظلم والإلحاد
والإفساد والشقاق بين الحجاز وسائر حكومات الجزيرة، ولا سيما نجد، إذ يعود
هو إلى مطالبة سلطنة نجد وإمام اليمن بوجوب اتباعه من حيث هو خليفة الرسول
وأمير المؤمنين، وإلى التصدي لتنفيذ ما وضعه من النظام لوحدة البلاد العربية التي
يسميها (الممالك الهاشمية) ، ومنها أن تكون كلها تابعة له في السياسة والحرب
والإدارة العامة، وحينئذ يسمح لأمرائها بالاستقلال الإداري بشرط رد إمارة ابن
الرشيد وإمارة أولاد عايض اللتين استولى عليها سلطان نجد! ! (راجع: خطاب
عام إلى العالم الإسلامي) فأي إصلاح وخير يرجو الداعون إلى صلح هذه أولى
نتائجه؟
(2) إن الشريف حسينًا صرح بالقول والكتابة والنشر بكفر الوهابية، وأنه
يجب على ولي أمر المسلمين إقامة شرع الله فيهم؛ أي: بقتالهم إلى أن يعودوا إلى
الإسلام الذي يدعيه هو كما يفهمه أو ينقرضوا، وقد اتهم هو الوهابية بمثل هذه
التهمة بالتبع لاتهام سلفه الشريف غالب لسلفهم عند مبدأ ظهورهم، وثبت أنه كاذب
كسلفه وخلفه، فقد استولوا على بلاد الحسا التي كانت سلطة الدولة العثمانية، ولم
يعاملوا الشيعة من أهلها معاملة الكفار في شيء، مع أن الخلاف بين الوهابية
المتعصبين للسنة وبين الشيعة شديد جدًّا، ولذلك نجد شيعة إيران والهند والعراق
وسورية أشد الناس تحاملاً عليهم، حتى إن صديقنا السيد هبة الدين الشهرستاني
الذي كنا نعده من دعاة الجامعة الإسلامية ومن المعتدلين في التشيع ألف رسالة في
صد المسلمين عن الحج، مع وجود الوهابية في الحجاز، وأما أهل الحجاز فقد
اجتمع علماؤهم بعلماء نجد عقب احتلال ابن السعود لها، وقرروا بعد المذاكرة أنه
لا خلاف بينهم في العقيدة، وأنهم كلهم على السنة، كما جرى مثل ذلك عند احتلال
الأمير سعود لمكة المكرمة منذ قرن وسنين حذو القذة بالقذة، فأي مصلحة في عقد
صلح يفضي إلى إعادة تكفير من يدعي الخلافة لأقوى شعوب الجزيرة دينًا ونجدة
وقتاله لهم إن قدر، ولو بمساعدة الإنكليز؛ لأجل إكراههم على ترك السنة وعبادة
القبور؟
(3) إن الشريف حسينًا وأولاده ليس لهم قوة ولا عصبية في بلاد الحجاز
ولا في غيرها من بلاد العرب كما كنا نقول، وثبت قولنا بالفعل بما علمه القاصي
والداني من كون جميع قبائل الحجاز القوية مشايعة لسلطان نجد عليهم، ولولا ذلك
لم يستطع الوهابيون البقاء في الحجاز، ومن كون الجند الذي يدافع عن جدة قد جمعه
الشريف علي وأعوانه من فقراء اليمن وفلسطين وسورية المحتاجين إلى القوت
الضروري؛ ولأجل هذا بنى الشريف حسين ثورته وما سماه (مقررات النهضة)
العربية على تأسيس الإنكليز للمملكة العربية وحمايتها لها من الداخل والخارج،
وكان أول من نشر هذه المقررات الأمير فيصل في سورية، ومن المعلوم
بالضرورة أن الشريف حسينًا وأولاده متكافلون متعاونون في سياستهم، وأن الحجاز
لا يستغني عن مساعدة حكومتي شرق الأردن والعراق، مع عداوته الراسخة لنجد،
وطمعه في إخضاعها هي واليمن وتهامة كما تقدم، ومن المعلوم بالضرورة أن
هاتين الحكومتين بريطانيتان، فلن تكون حينئذ الحجاز غير بريطانية.
***
غرض الإنكليز حماية الحجاز
وجملة القول وخلاصته أن الدولة البريطانية طامعة في ضم جزيرة العرب
إلى الإمبراطورية البريطانية المرنة، وفي القضاء على الإسلام، وعلى سلطان
المسلمين فيها كغيرها من أقطار الأرض، وقد كانت طريقتها في الفتح والاستعمار
خفية، فأصبحت ظاهرة جلية، فهي تصطنع الزعماء ورؤساء الأمم بالمال
والإغواء والإغراء، وتضرب بعضهم ببعض كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود، بل
مثلها كمثل جنة الأدواء (الميكروبات) في إفساد الأجسام، وجنة [1] الشياطين في
إفساد الأرواح، من حيث لا يشعر أولئك ولا هؤلاء، وإنما العالمون بأمر تلك
الجنة أطباء الأجساد النطاسيون، وبأمر هذه الجنة أطباء الاجتماع السياسيون،
وأكثر المسلمين لا يزالون يعتمدون على أطباء الخرافات الدجالين.
وهي لم تحدث هذه الجلبة والضوضاء في تخويف الشيعة وجهلاء المنتسبين
إلى السنة من قوة الوهابيين، التي هي مع قوة إمام اليمن حصنان منيعان في وجه
طمعها في جزيرة العرب إلا لتهون على العالم الإسلامي ما تبغي من التصريح
بحماية الحجاز، فالشيعة يساعدونها على حد المثل (لا حبًّا في علي، ولكن بغضًا
في معاوية) ، وجهلاء المبتدعة من المنتسبين إلى السنة يوافقونها لاعتقادهم أنها
تحمي لهم القبور والآثار التي صارت معبودات لهم، وهنالك آخرون مستذلون
تحت حمايتها يوافقونها على كل شيء جبنًا وجهلاً ونفاقًا، ووالله أنها لشر على
الجميع وخطر على دينهم ودنياهم كلهم، ووالله إن قضاءها على قوة العرب في
جزيرتهم، وجعل مهد دينهم وقبلته وشعائره تحت حمايتها لقضاء على الإسلام كله
مؤذن بزواله وإذلال جميع أهله، ووالله إنه لا يرجى بعد ذلك أن يبقى لإيران ولا
لمصر ولا لغيرهما استقلال، وقد عرف المصريون عاقبة حماية عرش أميرهم من
العرابيين كيف كانت.
إن من الممكن السهل التناول إنشاء قوة عسكرية في جزيرة العرب؛ تحفظ
استقلالها ومجد الإسلام فيها، والإنكليز يحاولون التعجيل بالاستيلاء على الجزيرة
كلها قبل أن يعقل العالم الإسلامي هذا الأمر ويسعى لمساعدة ابن السعود وإمام اليمن
عليه، ولذلك حملت ربيبتها جمعية الأمم على تقرير منع السلاح عنها، فإن تم لهم
ذلك وصار البحر الأحمر إنكليزيًّا محضًا، وصار للإنكليز قوة برية في فلسطين
ممتدة إلى العراق لا تجاورها قوة تحسب لها أدنى حساب، فأي مصري أو إيراني
يسفه نفسه ويخلع عقله، فيزعم أن بلاده يمكن أن تستقل وقد أحاط بها الإنكليز من
البر والبحر؟
وقد ظهر كالشمس في رابعة النهار أن الشريف حسينًا وأولاده هم أكبر أنصار
الإنكليز على الاستيلاء على بلاد العرب ما تم منه وما لم يتم، ولما كان المصريون
يعلمون من هذه الحقيقة ما لا يعلم شيعة إيران والهند لم تؤثر فيهم الدعاية الهاشمية
البريطانية الأخيرة، حتى صرحت جريدة التيمس بالتعجب من ذلك (!) ، وقد آن
للإيرانيين أن يفقهوا هذا، ويتركوا التعصب الضار الذي لم يعد له عذر في هذا
العصر، وقد عرف عقلاء الشيعة في العراق كنه الملك فيصل البريطاني،
وليرجعوا إلى منشآت السيد جمال الدين موقظ مصر وإيران والشرق، ويتدبروا ما
كتبه في الإنكليز.
***
علاوة مؤيدة لما تقدم
كنت بدأت بكتابة هذا المقال لجزء المنار الخامس الذي صدر بتاريخ سلخ
صفر، فلما لم يتسع له أرجأت إتمامه، وقد جاءني بعد نشر بعضه في الجرائد
والمنار وقبل ختامه كتاب من قلب الهند، أكد عندي كل ما رأيته وكتبته من
الأراجيف التي ذاعت في الهند بسعي وفد طاهر الدباغ ودسائس الإنكليز، ومما
جاء فيه (فتأثر كثير من الناس بهذه الأراجيف، وأخذوا يشتمون ابن سعود، بل
بعض من أصحاب الأغراض أخذ يقول: يجب أن تتدخل الدولة البريطانية في
الأمر؛ فتخرج ابن سعود بقوتها العسكرية) ، تأملوا تأملوا، هذا بيت القصيد،
وهو أعظم خيانة صدرت من أحد يدعي الإسلام.
وجاء فيه أيضًا أن الشيخ عبد الباري الفرنج محلي اللكهنوي (وهو نصير
الإنكليز والبيت الهاشمي والمبايع الوحيد من علماء الهند الغافلين لحسين بن علي
بالخلافة) ، ومجتهدي الشيعة وحزب الحكومة الإنكليزية قد أجمعوا أمرهم وعقدوا
في لكهنو مجلسًا كبيرًا؛ لكيد النجديين، فعارضهم في مبادئهم اثنان من أفاضل أهل
السنة العارفين بدسائس الحكومة ومقاصدها السيئة في الحجاز، وجادلاهم بالحجة
فلم يكن لهم عليهم من سلطان إلا السب والضرب، وإخراجهما جرًّا على الأرض،
وقد ذكر ذلك في أكثر الجرائد الهندية.
(ثم بشرنا الكاتب بانتشار الحركة الإصلاحية بعد هذه الدعاية بسرعة (قال) :
حتى إن عباد القبور والقبب يرجعون إلى التوحيد الخالص بمئات الألوف) ،
ورأينا جرائد المسلمين الكبرى في الهند تنشر الأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء
في بدع القبور ووجوب هدم المشيدة المعظمة منها.
نقول: يا حسرة على المسلمين لا يزال يوجد فيهم ألوف وملايين يتصرف
فيهم أعداؤهم، ويسخرونهم كالأنعام، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم كما
وصف الله أهل الكتاب في عصر التنزيل، ومنهم بعض المعممين الجامدين النفعيين
(كالشيخ عبد الباري) ، يسير هؤلاء العلماء في الطريق التي يسوقهم فيها أعداء
دينهم ودنياهم، وهم لا يشعرون بخطره وسوء عاقبته.
***
ما يجب على المسلمين للحجاز
فالواجب على أهل الغيرة والإخلاص والوقوف على الحقائق من المسلمين أن
يتداركوا هذه الفتنة الإنكليزية، ويحولوا بينها وبين حرم الله وحرم رسوله،
وسياجهما من جزيرة العرب، مادامت قوة سلطان نجد مائلة مانعة للنفوذ الإنكليزي
أن يستحوذ عليها. وليتذكروا وصية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في
مرض موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وقوله: (إن الإسلام بدأ غريبًا
وسيعود كما بدأ، ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم عن
ابن عمر، وللترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني مرفوعًا (إن الدين ليأرز
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى حجرها وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية [2]
من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين
يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي) ، فليعقل المسلمون كافة وأهل السنة
خاصة هذه الأحاديث، وليفقهوا حكمتها، ويعملوا بمراد نبيهم - صلى الله عليه
وسلم - منها، ويتعاونوا على إبعاد الإنكليز عن الحجاز تنفيذًا لهذه الوصية،
وليعلموا أن كل من يقربهم من الحجاز فهو عدو لله ورسوله والمسلمين، وفي مقدمة
هؤلاء الأعداء حسين بن علي وأولاده وأنصارهم أجمعون أكتعون أبتعون أبصعون.
يجب على المسلمين المخلصين المعتصمين بكتاب الله وسنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - أن يبادروا إلى عقد المؤتمر الذي دعا إليه سلطان نجد، ويقرروا
إبعاد الإنكليز عن الحجاز وانتزاع منطقة العقبة - معان وسكة الحجاز منهم ومن
فرنسة، ووضع نظام لحكومة الحجاز من قواعده أن لا يكون لغير المسلين أدنى
نفوذ فيه ولا وجود بأي اسم من الأسماء، وليعلموا أنه لا يتم لهم عقد المؤتمر إلا
بقوة سلطان نجد الذي أقام الحجة عليهم بتفويض أمر حكم الحجاز وحفظه إليهم،
فلم يبق لأحد منهم عذر لا للشيعة ولا لمبتدعة القبور ولا لغيرهم، فمهما يكن أمر
هذا السلطان في نفسه وأمر قومه في أنفسهم فهو يعلن رسميًّا أن الحرمين الشريفين
ليسا له ولا لحسين بن علي وأولاده، بل يجب تفويض أمرهما إلى زعماء المسلمين
كافة، فمن يرغب عن هذه الخطة إلى جعلها مملكة موروثة في بيت الشريف حسين
يتصرفون فيه كما شاؤوا، حتى يجعلها تحت حماية أعداء الإسلام والطامعين فيه،
ويبيعون ما شاؤوا من أرضهما، فهم أعدى أعداء الإسلام، ويجب أن يظهر نفاقهم
لجميع المسلمين.
ونقترح على سلطان نجد أن يجدد الدعوة إلى عقد المؤتمر لذلك بصفة رسمية؛
بالكتابة إلى ملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم المستقلة ومنها دولة إيران، وإلى
جماعات الشعوب الإسلامية المعروفة بخدمتها للإسلام، وأن يذكر في كتاب الدعوة
الموضوع الذي يبحث فيه المؤتمر بالتفصيل، وأهمه أن لا يكون لأجنبي مُلك ولا
نفوذ ولا مقام في الحجاز، وأن تكون حكومته حكومة شورى شرعية، ولا يتسع
هذا المقال لبيان رأينا التفصيلي فيه، وسنشرحه عند الحاجة إليه إن شاء الله.
أيها المسلمون، الأمر جدٌّ، والخطب إدٌّ، وليس بعد اليوم كوفة، فإذا استولى
الأجنبي الطامع على مهد دينكم، واستعبد قوم رسولكم، وهم أعرق شعوب الأرض
في الحرية والاستقلال، فماذا يبقى لكم؟ وإذا لم تظهروا الغيرة على حرم ربكم
وحرم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأي شعور يحترم الطامع لكم؟ وأي مقاومة
يخشى منكم؟
لا تسمعوا كلمة لدعاة حسين وعلي وعبد الله وفيصل، فقد ثبتت خيانتهم
للإسلام وللعرب بالفعل، ولم يتجرأ أحد منهم على تكذيبنا في جعل ملكهم على
منطقة عظيمة من الحجاز تحت الانتداب الإنكليزي؛ لأن جريدة شرق الأردن
الرسمية نشرت الخبر كما نشرته صحف سورية والعراق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ *} (الأنفال: 27-28) .
{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الجنة (بكسر الجيم) : النسم الخفية.
(2) الأروية (بضم الهمزة وتشديد الياء) كالأثفية: الوعل.(26/454)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحوال العالم الإسلامي
ابن سعود وإنكلترة
(تأخر نشرها)
ترجمت جريدة ألف با الدمشقية عن جريدة (لاسيري) الإفرنسية أن السلطان
ابن سعود كتب إلى إنكلترة طالبًا التصديق على المطالب الآتية:
(أ) أن تترك إنكلترة ابن السعود ينهي أمره بأسرع ما يمكن مع الملك علي
وجدة.
(ب) أن تعترف بصورة رسمية بسيادته على الحجاز واستقلال نجد
استقلالاً تامًّا، ذاك الاستقلال الذي حذف بعض مواده في الاتفاق الذي عقده مع
إنكلترة عام 1915.
(ج) أن تقبل إنكلترة بوضع الحجاز تحت سلطته بعد انتصاره التام على
الملك علي، ويتعهد لقاء ذلك أن يشكل بصورة دائمة في مكة حكومة وطنية
تعترف إنكلترة باستقلالها التام، ويكون لابن السعود السلطة التامة في تعيين من يشاء
لمكة، أما فيما يتعلق بدستور الحجاز الإداري والديني فإنه يترك أمر تقريره إلى
ممثلي الدول الإسلامية، الذين ينتخبون لجنة يعهد إليها أمر تطبيق الدستور المذكور.
(د) أن تترك إنكلترة له حق تعيين ممثلي حكومة لوندرة في العراق
وشرقي الأردن وفلسطين والبصرة والكويت.
(هـ) أن تعترف له بإطلاق لقب الجلالة عليه نظير اعترافها بلقب أمير
الأفغان والملك فيصل.
(و) أن تضع حدًّا لنشر الدعاية ضده في الهند والعراق والبلاد الأخرى
الواقعة تحت النفوذ الإنكليزي، والتي تمثل الوهابيين كزنادقة.
فردت عليه إنكلترة مقدمة له المطالب التالية: -
(أ) بقاء الحالة على ما هي عليه في شبه جزيرة العرب وتبذل جهودها في
الحصول عليه خلا ما يتعلق بالحجاز طبعًا، ويتعهد ابن السعود أن لا يقسم شبه
جزيرة العرب إلى منطقتي نفوذ، يختص المنطقة الشمالية بنفسه والمنطقة الثانية
بصديقه الإمام يحيى إمام اليمن، وأن لا يعقد مع الإمام يحيى محالفة ما، بل يجب
عليه بالعكس أن يعقد محالفة مع خصم الإمام يحيى؛ أي: مع سعيد بن علي
الإدريسي إمام العسير، وأن يدعمه عند الحاجة.
(ب) أن يعدها ابن سعود بأن لا يهاجم شرق الأردن ولا معان والعقبة
وتبوك، وهي الأراضي التي انضمت مؤخرًا إلى شرقي الأردن؛ أي: أن يحترم
البلاد الواقعة تحت الانتداب الإنكليزي.
(ج) أن يحترم وأن يحمي السكة الحديدية التي تصل شرقي الأردن بالمدينة
ليؤمن طريق الحج.
(د) أن لا يقوم بأي حركة عدائية على حدود العراق الجنوبية.
(هـ) أن لا يهتم مطلقًا بالمسائل المتعلقة بإمارات خليج فارس، وبنوع
خاص إمارتي الكويت والبحرين.
(المنار)
نقل هذا الخبر بعض الصحف السورية والمصرية بما فيه من تحريف وغلط،
فالتحريف كالتعبير عن الكويت بالكوفة، والغلط كالتعبير عن الإدريسي وإمارته
بسعيد ابن علي إمام العسير، والصواب السيد علي بن محمد علي أمير تهامة اليمن،
فإن منطقة عسير تابعة لسلطنة نجد بمقتضى اتفاق سابق مع المرحوم السيد محمد
علي الإدريسي وسلطان نجد، ومنها مطالب حرف (د) والظاهر أن المراد منه أن
يكون لنجد ممثلون في تلك البلاد.
وقد ارتابت بعض الجرائد في صحة هذا الخبر، ولكن المطالب المعزوة إلى
الفريقين هي التي تتبادر إلى الأذهان، وإن أعلن سلطان نجد لا يبغي ضم الحجاز
إلى بلاده، فالظاهر أن الكاتب الفرنسي صورها بما ذكر إذا لم يكن للخبر أصل،
وقد بينا في مقال آخر ما يبغي الإنكليز من سلطان نجد، ونزيد على ذلك موافقة
الكاتب على أنهم يودون لو يعادي إمام اليمن؛ لتتمكن إنكلترة من تهديد كل منهما
بالآخر أو حملهما على القتال لتفني هذه القوة الباقية في جزيرة العرب بأيدي أهلها،
وقد قيل: إن دسائسهم فعلت هذه المرة فعلتها في إمام اليمن، فأغرته بالتحرش
بسلطان نجد، بعد أن عجزت عن إغراء هذا به، وإنه تصدى هذا بدسائسها
للتدخل في مسألة الحجاز وفاقًا لما كان يزعم المقطم من قبل، فإن صح هذا ولا
نخاله صحيحًا يكون الإمام يحيى قد فقد أكبر فضيلة له عند العالم الإسلامي، وهي
عجز إنكلترة عن خداعه، وجعله آلة لمطامعها في جزيرة العرب، وطالما صرح
المقطم بأنه صارح سلطان نجد بالعداء، وأنه سيرسل جنوده لمساعدة الشريف علي
على إخراج الوهابيين من الحجاز، وكنا وما زلنا نسخر من هذه الدعاية لما عندنا من
الأدلة على كذبها، وكونها ليست من مصلحة الإمام في شيء، فإن من أُسس سياسة
الملك حسين جعل اليمن تابعة له كما صرح به في جريدة القبلة، وسلطان نجد لا
يطلب الحجاز ولا اليمن نفسه، وهو أقدر على مهاجمة اليمن من جهة عسير وجهة
الطائف من مهاجمة الإمام له في الحجاز التي لا فائدة له من تركها له، وأما
مشاركة الإمام لغيره من حكام المسلمين وزعمائهم في تقرير أمر الحجاز وفاقًا لما
دعا إليه سلطان نجد فمعقول، ولا بد للإمام من إرسال وفد؛ لحضور مؤتمر مكة،
وقد كان كتب إلينا بعزمه على ذلك، فهذا أمر يقيني عندنا لا نصدق غيره عنه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(26/475)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زيارة زعماء الهند لمصر
ابتهجت مصر في صيف هذا العام بزيارة بعض أكابر زعماء الهند لها، كما
ابتهجت في الشتاء الماضي بإلمام وفد الهند الحجازي بها، وأسفت لعدم تمكنه من
إطالة المقام فيها، وكان لصاحب هذه المجلة الحظ الأوفر من تلك الإلمامة، تمتع
فيها بلقاء صديقه العلامة السيد سليمان الندوي ورفيقيه الكريمين مولانا الشيخ عبد
الماجد العبدايوني والشيخ عبد القادر القصور.
وأما ضيوفها في هذا الصيف فهم الحكيم محمد أجمل خان الدهلوي الملقب
بمسيح الملك، والنواب أمير الدين حاكم ولاية لاري المستقلة في إدارتها،
والدكتور أحمد مختار الأنصاري، وكانوا قد سافروا من الهند إلى أوربة، ثم
افترقوا فيها؛ فجاء الحكيم محمد أجمل خان والنواب أمير الدين بمصر فأقاما فيها
أيامًا، ثم سافر النواب إلى الهند، والحكيم إلى سورية الجنوبية (فلسطين) ،
فالشمالية، فأقام فيها مدة متنقلاً بين مدنها وفي بعض قرى جبل لبنان ذات الهواء
النقي والماء العذب الصافي، وأما الدكتور أحمد مختار الأنصاري فذهب من أوربة
إلى بلاد الترك، ومنها إلى سورية، فمصر، فالهند، وبعد سفره من مصر عاد
إليها الحكيم محمد أجمل خان، فأقام فيها بضعة أيام ثم عاد إلى الهند.
وقد رحبت مصر بهؤلاء الضيوف الكرام، والزعماء الأعلام، ولا سيما
الجماعات والأحزاب التي تخدم الشرق والإسلام، وفي مقدمة المرحبين المرجبين
مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية ومجلس إدارة
مؤتمر الخلافة العام، ومولانا الأستاذ العلامة مفتي الديار المصرية، والأستاذ
العلامة الشيخ حسين والي السكرتير العام للأزهر والمعاهد الدينية ولمؤتمر الخلافة،
وغيرهم من كبار العلماء الأعلام، ويلي جماعة العلماء جمعية الرابطة الشرقية،
فقد قام رئيسها صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري الصديقي (شيخ مشايخ
الصوفية) ، ووكيلها صاحب السعادة أحمد شفيق باشا بما يجب من الحفاوة والإكرام،
ومن الأحزاب السياسية الحزب الوطني، وهو الحزب المصري الذي يعنى بشؤون
العالم الإسلامي، ولا سيما مسلمي الهند دون غيره من الأحزاب المصرية.
كل جماعة من هذه الجماعات قد رحبت بالزعماء الكرام، وأقام كبراؤها لهم
المآدب الحافلة، ودارت بينهم المحاورات في شؤون الإسلام والمسلمين، ومسألة
الخلافة، وغير ذلك من المسائل الدينية والسياسية والاجتماعية، وكذلك كان
شأن هؤلاء الزعماء المخلصين في سائر البلاد الإسلامية التي زاروها في هذه
الرحلة المباركة: أي البحث مع العقلاء من رجال الدين والمتمرسين بالسياسة في حاضر الإسلام ومستقبله.
وأهم المسائل التي كانت موضوع أبحاث الزعماء مسألة استقلال جزيرة
العرب، وحفظها من كل نفوذ أجنبي ولا سيما الحجاز، ومسألة الخلافة، ومسألة
فشو الإلحاد بين النابتة الإسلامية المتفرنجة، ومسألة تغلب العصبية الجنسية على
الوحدة الإسلامية.
وقد كان لكاتب هذه السطور شرف تعريف العلماء وغيرهم بمكانتهم، وحظ
خاص من لقائهم، والبحث معهم والتكريم لهم لأسباب:
(أحدها) : العلاقة القديمة الراسخة بينه وبين مسلمي الهند عامة، والصداقة
الشخصية بينه وبين بعض الزعماء (ولا سيما الحكيم محمد أجمل خان) ، تلك
العلاقة التي كانت سبب دعوة جمعية ندوة العلماء إيانا سنة 132 هـ 1912م،
إلى تولي الصدارة والرياسة لمؤتمر الندوة العام.
(وثانيها) : أنه منذ بضع وعشرين سنة يبحث في هذه المسائل التي اشتد
اهتمام زعماء مسلمي الهند بها في هذه الأيام، وله فيها المقالات والمباحث الكثيرة
في 16 مجلدًا من المنار، وكان لهذه المباحث شأن عند الزعماء وجمهور المفكرين
في الهند نشكره لهم، وله مؤلف مستقل، في مسألة الخلافة قد وعى كل ما يحتاج
المسلمون إليه في أمرها وكل ما يتعلق به.
(وثالثها) : أنه في مصر عضو عامل في الجماعات التي تشتغل بهذه
المباحث الإسلامية: كمؤتمر الخلافة، وجمعية الرابطة الشرقية وغيرهما، أقول:
فلهذه الأسباب كان حظي من لقاء الزعماء مما أشكره لهما أمام قراء المنار في العالم
كله، وإن كنت مع هذا قد عاتبتهم بإدلال المحبة على قلة حظي منهم، وأقنعتهم
بمقتضى المصلحة بالحاجة إلى زمن أوسع لتفصيل بعض المسائل لهم وتمحيصها
معهم.
__________(26/478)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام في جاوه!!
نقلت جريدة الوفاق العربية عن جريدة (هندياباروا) التي تصدر في (بتاوي)
عاصمة جاوه الهولندية بلغة البلاد نبأً غريبًا مغزاه: أن الحكومة الهولندية قد بلغ
من اضطهادها للمسلمين أن تراقبهم في صلاتهم، وتجعلها متوقفة على إذنها، ذلك
أن (ألاسستين رصدين) حاكم مدينة جكجه، دعا إليه الزعيم المسلم الحاج فخر
الدين رئيس الجمعية المحمدية وبعض أعضائها، وناقشهم الحساب على إقامتهم
لصلاة العيد وخطبته في زكاة الفطر، وقال لهم: إنه كان يجب عليهم أن يطلبوا
رخصة من الحكومة بالاجتماع للصلاة وإلقاء الخطبة، وقد ذكرت الجريدة المحاورة
التي دارت بين الحاكم ورئيس الجمعية بالتفصيل، ثم علقت عليها تعليقًا قالت فيه:
لماذا لا تعارض الحكومة المبشرين المنتشرين في البلاد والشوارع، وهم يعنون
بدعوة التبشير؛ لتنصير المسلمين، ويخطبون حيث شاؤوا، وطالما أغووا العامة،
وأدخلوا المئات من المسلمين في النصرانية.
ثم قالت (الوفاق) : إيه أيها الإخوان إنني أشاطركم الحزن بصفتي مسلم،
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) ، ولا أظن أن مثل
هذه الحادثة جرت في عموم الأقطار الإسلامية حتى في أوربا، بل لا تستطيع
الدول الغربية منع المسلمين الصلاة، أو تشترط عليهم طلب الرخصة بها، لما
يترتب على ذلك من غليان شعور المسلمين والتأثر بعاطفة الدين، ومقابلة
الدول الحرة الإسلامية ذلك بالمثل، والتداخل في أمور دينهم بالقوة.. . إلخ.
وأما (المنار) فيقول: إن دول أوربا لا تحسب للدول الإسلامية حسابًا، ولا
تخاف لصلاة أحد من المسلمين في البلاد الأوربية عاقبة ولا مآبًا، فإن أصحاب
المستعمرات الإسلامية منهن متواطئات على السعي لإرجاع المسلمين عن الإسلام
بالتبشير والتعليم، وبالظلم والاضطهاد، ومن رفع رأسه وشكا من سوء معاملتهم
فليس له جزاء إلا السيف والنار، وخراب الديار، ولكن بعضهم يختار في ذلك
سياسة التحذير والخداع، فهل يعتبر المسلمون بذلك، ويتداركوا الخطر بالعلم
والعمل والتعارف والاتحاد، قبل أن يخرج من أيديهم كل ما بقي فيها إلى الآن؟!
__________(26/480)
جمادى الآخرة - 1344هـ
يناير - 1926م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتوى المنار
في حظر ترجمة القرآن
نشرت في ص268 - 274 م11 ج4 منه المؤرخ 29 ربيع الآخر سنة
1326
(س1) من الشيخ أحسن شاه أفندي أحمد (من روسيا)
حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا
نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المهمة: والحج والزكاة، والعمل
بكتب فقه الأئمة الأربعة التي وصفها بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وزعم
أن العمل بها غير جائز، ثم قال في صفات (قوم جديد) ما نصه:
(وأما القوم الجديد فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة، بل
استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية:
(1) العقل.
(2) كلمة الشهادة.
(3) الأخلاق الحسنة.
(4) الجهاد مالاً وبدنًا والحرب.
(5) السعي لإعداد لوازم الحرب.. . إلخ.
ثم بسطنا هذه المسائل من وسائل ومقاصد في المجلد التاسع عشر، وقد صدق
كل ما قلناه وارتأيناه من مقاصد ملاحدة الترك ما فعلته الحكومة الكمالية من إلغاء
الأحكام الشرعية كلها، وجعل جميع سياستها وأحكامها حتى الشخصية مدنية أوربية،
وإلغاء المحاكم الشرعية، والأوقاف الإسلامية، والمدارس الدينية، دع إلغاء ما
عمل باسم الدين من المبتدعات كتكايا أصحاب الطرق مقلدة المتصوفة إلخ، صدقوا
بالفعل كل ما قلناه من مقاصدهم، وكان بعض المسلمين الجاهلين بحال الدولة
التركية وتأثير التفرنج فيها ينكرون علينا ما نقوله عن علم وخبرة وغيرة على
الإسلام، ظنًّا منهم أنه إضعاف للدولة حامية الإسلام، وإنما كان حرصًا على تقوية
الدولة بالإسلام وتقوية الإسلام بالدولة؛ لأننا نعلم ما لا يعلمون من إفضاء هذه
الضلالات والعصبية الجنسية إلى إضاعة هؤلاء المتعصبين المفتونين للإسلام
وللدولة معًا؛ وكذلك كان.
وقد كان بعض الترك الروسيين استفتانا في مسألة الترجمة قبل أن نعلم بهذا
الغرض الفاسد فأفتيناه فيها لذاتها، إذ لم يكن يخطر ببالنا أن أحدًا من المسلمين
يتوسل بذلك إلى إخراج شعب إسلامي من الإسلام - وهذا نص السؤال والجواب:
ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه (بشائر
صدق نبوت) ما ترجمته:
إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين، وجميع المباحثات التي دارت
بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة، وذلك لوجوه:
(الأول) : أن ترجمته بالتمام غير ممكنة لإعجازه من جهة البلاغة.
(والوجه الثاني) : أن فيه كثيرًا من الكلمات لا يوجد لها مقابل في اللغة
التي يترجم إليها، فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير،
ثم إذا نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضًا وَهَلُمَّ
جَرًّا، فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره.
(الوجه الثالث) : أن كلمات الكتب السماوية يستخرج منها بعض إشارات
وأحكام بطريق الحساب، فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق، مثال ذلك أن سعدي
جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت
الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن، وسورة الناس التي هي
آخر سورة، تكون الحروف الباقية ثلاثة وعشرين قال: وفي ذلك إشارة إلى مدة
سني النبوة المحمدية، فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه الفوائد التي
هي من جملة معجزاته، انتهى، (من بشائر صدق نبوت) .
أما أدباؤنا معشر الترك الروسيين، فإنهم مصرون على ترجمته ويقولون: لا
معنى للقول: بأنه لا تجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم، فلذا يذهبون
إلى وجوب ترجمته، وهو الآن يترجم في مدينة قزان، وتطبع ترجمته تدريجًا،
وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية
القفقاز، فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره الإمام الحقير
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحسن شاه أحمد
... ... ... ... ... ... ... ... الكاتب الديني السماوي
(جواب المنار له)
إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم أن لا يبينوا معاني القرآن لأهل كل
لغة بلغتهم، ولو بترجمة بعضه [1] ، لأجل دعوة من ليس من أهله إليه، وإرشاد
من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة، وإن من زلزال المسلمين في دينهم أن
يتفرقوا إلى أمم، تكون رابطة كل أمة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية،
ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله، المعجز بأسلوبه وبلاغته
وهدايته، المتعبد بتلاوته، اكتفاء بأفراد من كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بحسب
ما يفهم المترجم.
هذا الزلزال أثر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين، زين لنا أن
نتفرق وننقسم إلى أجناس، ظانًّا كل جنس منا أن في ذلك حياته، وما ذلك إلا موت
للجميع، ولا نطيل في هذه المسألة هنا، ولكننا نذكر شيئًا مما يخطر في البال من
مفاسد هجر المسلمين للقرآن المنزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) -
استغناءً عنه بترجمة أعجمية يغنيهم عنها تفسيره بلغتهم، مع المحافظة على نصه
المتواتر، المحفوظ من التحريف والتبديل - مع مراعاة الاختصار فنقول:
(1) إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية تطابق الأصل متعذرة كما يعلم من
المسائل الآتية، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن، أو فهم من
عساه يعتمد هوعلى فهمه من المفسرين، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن،
وإنما هي فهم رجل للقرآن يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود
المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره.
(2) إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي، بل هو الدين كله؛ إذ السنة
ليست دينًا إلا من حيث إنها مبينة له. فالذين يأخذون بترجمته يكون دينهم ما فهمه
مترجم القرآن لهم، لا نفس القرآن المنزل من الله تعالى على رسوله محمد - صلى
الله عليه وسلم - والاجتهاد بالقياس إنما هو فرع عن النص، والترجمة ليست نصًّا
من الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بد أن يكون له مستند والترجمة ليست
مستندًا. فعلى هذا لا يسلم لمن يجعلون ترجمة القرآن قرآنًا شيء من أصول
الإسلام.
(3) إن القرآن منع التقليد في الدين، وشنع على المقلدين فأخذ الدين من
ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه، فهو إذًا خروج عن هداية القرآن لا اتباع لها.
(4) يلزم من هذا حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به
المؤمنين في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)
، وأمثالها من الآيات
التي تجعل من مزايا المسلم استعمال عقله وفهمه فيما أنزل الله [2] .
(5) كما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية يلزم منع الاجتهاد
والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم.
(6) أن من عرف لغة القرآن، وما يحتاج إليه في فهمه كالسنة النبوية
وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورًا بالعمل بما يفهمه من
القرآن وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له، كما
يعلم ذلك من معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه فيما فهموه من كيفية
التيممم، إذ عذر المختلفين في فهمها والعمل بها، ومثله معاملته لهم فيما فهموه من
نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة، ولذلك شواهد أخرى، ولا أخال مسلمًا
يجعل لعبارة مترجم القرآن هذه المزية.
(7) إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية لا تخلق جدته، ولا تفتأ
تتجدد هدايته , وتفيض للقارئ على حسب استعداده حكمته , فربما ظهر للمتأخر
من حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله، تصديقًا لعموم حديث (فرُب مبلغ أوعى
من سامع) ، وترجمته تبطل هذه المزية، إذا تقيد القارئ بالمعنى الذي صوره
المترجم بحسب فهمه، مثال ذلك أن المترجم قد يجعل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) من المجاز بالاستعارة؛ أي: إن اتصال الريح
بالسحاب، وحدوث المطر عقب ذلك يشبه تلقيح الذكر للأنثى وحدوث الولد بعد ذلك
كما فهم بعض المفسرين، فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة
التي يترجم بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أطلق،
فإن القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة
فيه، وهو كون الرياح لواقح بالفعل، إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى
إناثه، فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمة حرفية، فإن
هناك أمثلة أخرى، وحسبنا أن يكون هذا موضحًا، والترجمة تقف بنا عند حد من
الفهم، يعوزنا معه الترقي المطلوب.
(8) ذكر الغزالي في كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) أن ترجمة آيات
الصفات الإلهية غير جائزة، واستدل على ذلك بما هو واضح جدًّا، وقد ذكرنا
عبارته في تفسير {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) ، وبين أن الخطأ في ذلك مدرجة للكفر [3] .
(9) ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدم أن من الألفاظ العربية ما لا
يوجد لها فارسية تطابقها - أي: ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله
المترجم في مثل هذه الألفاظ، وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يوقع قارئ
ترجمته في اعتقاد ما لم يرده القرآن؟
(10) قد ذكر في ذلك أيضًا أن من الألفاظ العربية مالها فارسية تطابقها
(لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها
لها) ، فإذا أطلق المترجم اللفظ الفارسي يكون هنا مؤديًا المعنى الحقيقي للفظ
العربي؟ وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من
الأعاجم، وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل
وصفاته وأفعاله.
(11) ذكر أيضًا في هذا المقام: أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركًا في
العربية، ولا يكون في العجمية كذلك، فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنيي
المشترك، ولا يخفى ما فيه، وقد مر نظيره آنفًا.
(12) من المقرر عند العلماء أنه إذا ظهر دليل قطعي على امتناع ظاهر
آية من آيات القرآن فإنه يجب تأويلها حتى تتفق مع ذلك الدليل، والفرق بين تأويل
ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل، لا سيما في الآيات
المتشابهة والألفاظ المشتركة.
(13) إن لنظم القرآن وأسلوبه تأثيرًا خاصًّا في نفس السامع لا يمكن أن
ينقل بالترجمة، وإذا فات يفوت بفوته خير كثير، فيا طالما كان جاذبًا إلى الإسلام،
حتى قال أحد فلاسفة أوربا وهو فرنسي نسيت اسمه: إن محمدًا كان يقرأ القرآن
بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به، فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن
غيره من الأنبياء من المعجزات، وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرة الاحتفال
السنوي لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة
آيات من القرآن، فقال لي الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في
النفس، ثم لما كتب خبر الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك، فإذا كان لتلاوة
القرآن هذا التأثير حتى في نفس غير المؤمن به، فكيف نحرم منها المسلمين
بترجمة القرآن لهم.
(14) إذا ترجم القرآن التركي والفارسي والهندي والصيني إلخ، فلا بد أن
يكون بين هذه التراجم من الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد
الجديد عند النصارى [4] ، وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من
الخلافات التي كنا نقرؤها، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها، فكيف
نختارها بعد ذلك لأنفسنا؟
(15) إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،
بل هو الآية الباقية من آيات النبيين، وإنما يظهر كونه آية باقية محفوظة من
التغيير والتبديل، والتحريف والتصحيف، بالنص الذي نقلناه عمن جاء به من عند
الله، والترجمة ليست كذلك.
هذا ما تراءى لنا من الوجوه المانعة من ترجمته للمسلمين؛ ليكون لهم قرآن
أعجمي بدل القرآن العربي، وإذا كان بعض هذه الوجوه مما يمكن إدخاله في
البعض - وإنما ذكر هكذا لزيادة الإيضاح - فإن هناك وجوهًا أخرى يمكن
استنباطها لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن، بل منها ما تركناه
مع تذكره.
وأما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أن عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب
بقائه غير مفهوم فهي ممنوعة، فإننا نقول: إن فهمه سهل، ولكن ليس لأحد أن
يجعل فهمه حجة على غيره فكيف يجعله دينًا لشعب برمته، وإن لاهتداء المسلم
الأعجمي بالقرآن درجتين: درجة دنيا خاصة بالعوام الذين لا يتيسر لهم طلب العلم
فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ لأجل قراءتها في الصلاة، ويترجم لهم
تفسيرها، وتقرأ أمامهم في مجالس الوعظ بعض الآيات، ويذكر لهم تفسيرها، بلغتهم
كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين، ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم،
وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته، ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير مقلدين
لأحد منهم.
إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام على أيدي الصحابة الكرام قد فهموا أن
للإسلام لغة خاصة به، لا بد أن تكون عامة بين أهله؛ ليفهموا كتابه الذي يدينون
به ويهتدون بهديه، ويعبدون الله بتلاوته، ولتتحقق بينهم الوحدة المشار إليها بقوله
فيه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) ، ويكونوا جديرين بأن
يعتصموا به، وهو حبل الله فلا يتفرقوا، ولتكمل فيهم أخوة الإسلام التي حتمها
عليهم بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ؛ ولذلك انتشرت اللغة
العربية في البلاد التي فتحها الصحابة بسرعة غريبة مع عدم وجود مدارس ولا
كتب ولا أساتذة للتعليم، واستمرت الحال على ذلك في زمن الأمويين في الشرق
والمغرب، وفي أول مدة العباسيين حتى صارت العربية لغة الملايين من الأوربيين
والبربر والقبط والروم والفرس وغيرهم في ممالك تمتد من القاموس المحيط الغربي
(الأتلانتيك) إلى بلاد الهند، فهل كان هذا إلا خيرًا عظيمًا تآخت فيه شعوب كثيرة،
وتعاونت على مدنية كانت زينة للأرض، وضياءً ونورًا لأهلها؟
ثم هفا المأمون في الشرق هفوة سياسية، حركت العصبية الجنسية في الفرس؛
فأنشئوا يتراجعون إلى لغتهم، ويعودون إلى جنسيتهم، وجاء الأتراك ففعلوا
بالعصبية الجنسية ما فعلوا، فسقط مقام الخلافة، وتمزق شمل الإسلام بقوة ملوك
الطوائف، ولكن لم تصل الفتنة بالناس إلى إيجاد قرآن أعجمي للأعاجم وإبقاء
القرآن العربي المنزل خاصًّا بالعرب، بل بقي الدين والعلم عربيين وراء إمامهما
الذي هو القرآن.
فالواجب على دعاة الإصلاح في الإسلام الآن أن يجتهدوا في إعادة الوحدة
الإسلامية إلى ما كانت عليه في الصدر الأول خير قرون الإسلام، وأن يستعينوا
على ذلك بالطرق الصناعية في التعليم، فيجعلوا تعلم العربية إجباريًّا في جميع
مدارس المسلمين، ويحيوا العلم بالإسلام بطريقة استقلالية، لا يتقيدون فيها بآراء
المؤلفين في القرون الماضية المخالفة لطبيعة هذا العصر في أحوالها المدنية
والسياسية، ولكننا نرى بعض المفتونين منا بسياسة أوربا يعاونونها على تقطيع بقية
ما ترك الزمان من الروابط الإسلامية بتقوية العصبيات الجنسية، حتى صار
بعضهم يحاول إغناء بعض شعوبهم عن القرآن المنزل! ألا إنها فتنة في الأرض
وفساد كبير، وقى الله المسلمين شره، فهذا ما أقوله الآن في ترجمة القرآن
للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إمامًا لهم، ودون ترجمته لدعوة غيرهم به
إلى الإسلام، مع أن المترجم بين المعنى الذي يفهمه هو. انتهت الفتوى.
وملخص هذه الفتوى: إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية متعذر، ويترتب
عليه مفاسد كثيرة، فهو محظور لا يبيحه الإسلام؛ لأنه جناية عليه وعلى أهله،
ولا يجوز أن تسمى الترجمة قرآنًا ولا كتاب الله، ولا أن يسند شيء منها إليه تعالى
فيقال: قال الله كذا؛ لأن كتاب الله وقرآنه عربي بالنص القطعي والإجماع الشرعي،
من سلف أهل الملة كلهم وخلفها لا الإجماع الأصولي المختلف فيه، ولأنها ليس لها
شيء من خصائص القرآن اللفظية ولا المعنوية كالإعجاز، وهي لا بد أن تكون
مخالفة له في المعنى كمخالفتها في اللفظ، فإسنادها إليه تعالى كذب عليه وكفر
بكتابه، بل أجمع المسلمون على أنه لا يجوز إبدال لفظ من ألفاظ المصحف بلفظ
آخر يرادفه من اللغة العربية: ككلمتي شك وريب في قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ
لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) ، وأما الترجمة المعنوية التي هي عبارة عن تفسير ما
يحتاج إلى تفسيره منه بلغة أخرى فغير محرم، وإنما تتبع فيه المصلحة الشرعية
بقدرها.
***
أقوال الفقهاء في المسألة
ترجمة القرآن وقراءته وكتابته بغير اللغة العربية [*]
المعوَّل عليه عند الأئمة وسائر العلماء أنه لا يجوز كتابة القرآن ولا قراءته
ولا ترجمته بغير العربية مطلقًا، إلا فيما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من جواز
قراءة القرآن بالفارسية في خصوص الصلاة، وإليك بعض النصوص في ذلك:
قال شيخ الإسلام أبو حسن المرغيناني الحنفي في التجنيس: ويمنع من كتابة
القرآن بالفارسية بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى الإخلال بحفظ القرآن، لأنا أمرنا بحفظ
اللفظ والمعنى فإنه دلالة على النبوة، ولأنه يؤدي إلى التهاون بأمر القرآن اهـ.
وقال في معراج الدراية: من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو
مجنون أو زنديق، والمجنون يداوى، والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر
محمد بن الفضل البخاري اهـ.
وفي الدراية: إن القرآن اسم للنظم والمعنى جميعًا بالإجماع، وقد أنزل حجة
على النبوة، وعلمًا على الهدى، والهدى بمعناه، والحجة بنظمه. وكما أن الإخلال
بالمعنى يسقط حكم القراءة، كذلك الإخلال بالنظم، ولأن حفظ القرآن واجب في
الجملة؛ ليكون حجة على الحكم، ولا قراءة تجب إلا في الصلاة، فعلم أنها متعلقة
بعين ما أنزل ليقع الحفظ بها اهـ.
وروي عن الإمام أبي حنيفة كما في الهداية وغيرها: جواز قراءة القرآن
بالفارسية في الصلاة مطلقًا، وعن الصاحبين: إذا كان لا يحسن العربية، أما إذا
كان يحسنها فلا يجوز، وتفسد صلاته إذا قرأ بغير العربية.
وروى أبو بكر الرازي رجوع الإمام إلى قولهما وعليه الاعتماد , وقال
الإمام الزاهدي في الجامع الصغير: إن ما نقل عن أبي حنيفة وصاحبيه من أن
القراءة بالفارسية تفسد الصلاة؛ لمن قدر على العربية، أما عند العجز فلا فساد
(محله) إذا قرأ بالفارسية كل لفظ بما هو في معناه من غير أن يزيد فيه شيئًا، أما
إذا قرأ على سبيل التفسير فتفسد صلاته بالإجماع اهـ.
وهو تفييد حسن؛ لأنه حينئذ يكون متكلمًا بكلام غير القرآن من كلام الناس
وهو مفسد للصلاة.
وأصل الاختلاف في ذلك كما بدائع الصنائع وأحكام القرآن لحجة الإسلام
الجصاص قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20) ، حيث
أمر بالقراءة، والأمر للوجوب، ولا موضع لوجوب القراءة غير الصلاة، فوجب
أن يكون المراد القراءة في الصلاة، فذهب الصاحبان إلى أنه إذا قرأ بالفارسية وهو
يحسن العربية، فقد قرأ ما ليس بقرآن، فقد خرج عن عهدة الأمر؛ لأن الفارسي
ليس قرآنًا، والقرآن هو المنزل بلغة العرب، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (يوسف: 2) ، وأيضًا فالقرآن هو المعجز، والإعجاز من جهة اللفظ يزول
بزوال النظم العربي، فلا يكون الفارسي قرآنًا لانعدام الإعجاز، ولهذا لم تحرم
قراءته على الجنب والحائض، غير أنه إذا كان لا يحسن العربية، فقد عجز عن
مراعاة لفظه فيجب عليه مراعاة معناه؛ ليكون التكليف بحسب الإمكان اهـ؛
والمراد مطلق المعنى، وإلا فمعنى النظم المعجز لا تؤديه الترجمة كما هو ظاهر.
ولا يعنينا الآن بيان وجه استدلال الإمام بالآية على ما ذهب إليه بعد أن صح
رجوعه إلى قول الصاحبين.
فظهر أن قول الثلاثة بجواز قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة لمن لا
يحسنها ليس مبناه أن الترجمة تصير قرآنًا عند العجز عن أدائه بالعربية، فيفرض
عليه ذلك في هذه الحالة، بل المفروض عليه حينئذ تعلم العربي؛ لأنه القرآن
المأمور به في الصلاة، وإنما هو مبني على الاكتفاء بالمعنى في حقه لعجزه،
ولأنه الميسور له من معنى القرآن الذي هو مجموع النظم والمعنى المأمور به في
الصلاة، ولما كان أداء المفروض موقوفًا على النظم العربي، وليس ذلك ميسورًا
له أتى بالترجمة بدلاً عنه لتقوم مقامه في أداء المعنى المفروض، مع أنها ليست
قرآنًا، لأن القرآن هو كلام الله، المنزل بلغة العرب، والترجمة ليست كذلك،
وفي الدراية: قراءة غير العربي تسمى قرآنًا مجازًا، ألا ترى أنه يصح نفي القرآن
عنه فيقال: ليس بقرآن وإنما هو ترجمته، وإنما جوزناه للعاجز إذا لم يخل بالمعنى؛
لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك
مطلقًا؛ إذ التكليف بحسب الوسع اهـ.
وظاهر أن مسألة القراءة في الصلاة شيء، ومسألة ترجمة القرآن وقراءته
بغير اللغة العربية مطلقًا شيء آخر، والكلام في الثاني دون الأول، ولا يلزم من
جواز الأول - على فرض تسليمه - جواز الثاني، حتى ينسب إلى الإمام وصاحبيه
القول بجواز ترجمة القرآن وقراءته خارج الصلاة، وكتابته بغير اللغة العربية،
وكيف ذلك وقد أجمعت كتبهم على أن الخلاف في خصوص الصلاة، وأصله أن
الأمر بالقراءة إنما هو في الصلاة دون غيرها كما أطبقوا على أنه المراد في قوله
تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (المزمل: 20) ، والقرآن المعروف هو
اللفظ المنزل بلغة العرب خاصة.
وفي شرح أصول البزدوي للإمام عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي:
والقرآن اسم للنظم والمعنى جميعًا في قول عامة العلماء، وهو الصحيح من قول
أبي حنيفة، إلا أنه لم يجعل النظم ركنًا لازمًا في جواز الصلاة خاصة، وإنما هو
لازم فيما سواه من الأحكام الأخرى، كوجوب الاعتقاد، وحرمة كتابة المصحف
بالفارسية، وحرمة المداومة والاعتياد على القراءة بها اهـ.
وقد نقل أن الإمام رجع عن هذا القول في الصلاة أيضًا إلى القول بعدم
جواز الصلاة بالفارسية مطلقًا، فيكون النظم ركنًا لازمًا عنده في كل حالة كما ذكره
العلامة الألوسي في تفسيره عند قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} (الشعراء:
196) ، بناءً على عود الضمير إلى القرآن باعتبار معناه، وفي رواية عنه
تخصيص الجواز بالفارسية؛ لأنها أشرف اللغات بعد العربية، وفي أخرى إنها إنما
تجوز بالفارسية في الصلاة للعاجز عن العربية، وقد صحح رجوعه عن القول
بجواز القراءة بغير العربية مطلقًا جمع من الثقات المحققين لضعف الاستدلال بهذه
الآية عليه كما لا يخفى، فإن الظاهر عود الضمير في الآية على القرآن بتقدير
مضاف؛ أي: وإن ذكر القرآن في الكتب المتقدمة، وهذا كما يقال: إن فلانًا في
دفتر الأمير اهـ؛ ملخصًا.
ومن هذا يعلم ما في استدلال بعضهم بقول الإمام على جواز ترجمة القرآن
بأي لغة خارج الصلاة وداخلها للقادر والعاجز؛ لأنه على رواية التخصيص
بالفارسية لا تجوز بغيرها مطلقًا، وعلى رواية رجوعه إلى قول صاحبيه لا تجوز
خارج الصلاة مطلقًا، ولا للقادر في الصلاة، وعلى رواية الثقات عنه تجوز
مطلقًا بغير العربية في الصلاة وغيرها للقادر والعاجز، والمعول عليه رأيه الأخير
الذي صح رجوعه إليه كما هو رأي الجماعة، فكيف يصح الاستدلال بقوله على
جواز ترجمة القرآن مطلقًا؟ اهـ. (ص31- 36) .
(للبحث بقية)
__________
(1) بالترجمة هنا: المعنوية التفسيرية لا اللفظية الحرفية.
(2) أعني: كقوله تعالى في أول سورة الأعراف: [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] (الأعراف: 3) ، والمنزل إلينا من ربنا هو القرآن العربي كما صرحت به الآيات، فاتباع الترجمة مخالف لكل من الأمر والنهي في هذه الآية.
(3) راجع ص 728 م9 أو 214 من الجزء الثالث من التفسير.
(4) بل يكون الخلاف عندنا أشد لعجز جميع البشر عن ترجمة القرآن دون التوراة والإنجيل.
(*) نقلنا هذا الفصل من رسالة للأستاذ الشيخ محمد حسنين العدوي أحد كبار علماء الأزهر.(26/481)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة فتوى اللباس والزي
وفد نشرت إحدى جرائد مصر مقالاً لكاتب ألماني كبير، يخطئ فيه مصطفى
كمال باشا في إكراهه لقومه الترك على تغيير زيهم الوطني، وخاصة ترك القبلق،
واستبدال البرنيطة به، وإنما خطأه تخطئة صديق ناصح، لا عدو كاشح، وقال:
إن هذا ينافي غرضه وهو تكوين القومية التركية، معللاً له بالقاعدة التي بيناها آنفًا،
وشرحناها من قبل مرارًا، ومما قاله: إن القلبق يفوق البرنيطة جمالاً ومهابة..
ونحن نظن أن مصطفى كمال باشا - وإن لم يكن من علماء الاجتماع
والأخلاق وطبائع الشعوب - لا يجهل أن المحافظة على المشخصات القومية مما
يقوي تكوين الأمة، وأن تقليد شعب لآخر يراه أرقى منه يضعف قيمة المقلد في
نظر نفسه، ويحقرها في قلوب أهلها، ويرفع منزلة الشعب الذي قلده بقدر ذلك،
ونعتقد أنه يتعمد هدم جميع مقومات الشعب التركي ومشخصاته، ما عدا اللغة؛
لأنها إسلامية، أو مستندة إلى الإسلام، وهو يريد أن يسله من الإسلام كما تسل
الشعرة من العجين إن أمكن، وإلا انتزعهم منه كما ينتزع الحسك ذو الأضلاع من
الصوف، أو انتزعه منهم كما تنتزع الروح من الجسد، وقد بحث الذين بثوا هذه
الدعوة في الترك من ملاحدة الروسيين وغيرهم عن مقومات ومشخصات تركية أو
تورانية يستبدلونها بالإسلام، حتى عبادة الذئب الأبيض الذي عبده سلفهم من همج
الوثنيين، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، فاختاروا التشبه بالإفرنج، ولا سيما أفسدهم
دينًا وآدبًا كاللاتين بحجة الحضارة والترقي العصري، وسموه التمغرب، ونحن
نسميه التفرنج، حتى إن بعضهم يستحسن استبضاع نسائهم من الإفرنج بالحلال
وبالحرام لإدخال دمهم (الشريف المدني) في دم الشعب التركي (الفاسد)
لإصلاحه.
فظهر بمجموع ذلك أن هؤلاء الزعماء الدخلاء يريدون إفساد هذا الشعب
التركي بكل نوع من أنواع الفساد الجسمي والعقلي والنفسي، وتكوين شعب آخر
في بلاده مذبذب بين أمشاج الشعوب، روحه غير روحه، ودمه غير دمه،
وأخلاقه غير أخلاقه، وعقائده غير عقائده، فيكون كلغته التي يسمونها التركية،
هي لغة هذبها الإسلام كما هذب أهلها بما دخل في مادتها من الأسماء والأفعال
العربية، وكذا الفارسية. وهم يريدون الآن أن يفعلوا بها ما يفعلون بأهلها، وإن لم
يبق فيها من لغة قدماء الترك بعد أن تتفرنج وتتمغرب معهم، وتكتب بالحروف
اللاتينية كما هو مقرر عندهم إلا قليل، وما يدرينا بعد ذلك لعلهم يغيرون اسمها
أيضًا؟
ومن الثابت في سنن الاجتماع أن تغيير القوانين والنظم والأزياء لا يغير
طبائع الأمم - كما يقول الدكتور غوستاف لوبون - فإن اللاتين الجمهوريين
كاللاتين الملكيين في تشابه حكومتهم وطباعهم، حتى إن الذين مرقوا من الدين منهم
لا تزال التربية الكاثوليكية الموروثة هي الحاكمة على قلوبهم وأرواحهم بعصبيتها،
وإنما فقدوا من الدين فضائله فقط، وكذلك السكسونيون تشابهت حكومتهم الملكية في
بريطانية، وحكومتهم الجمهورية في الولايات المتحدة كما تشابه أهلهما. فالترك
يفقدون بهذا التفرنج اللاتيني ما بقي فيهم من فضائل الإسلام ورابطته الملية، وما
كان لهم من الزعامة في مئات الملايين من البشر، ثم لا يقدرون على التفصي من
الوراثة القومية التي طبعتها الأجيال والقرون في أنفسهم.
فالغرض الأول لهم الآن التفصي من الإسلام بحجة الترقي العصري، وما
في الإسلام شيء مانع من الترقي الذي يطلبونه، وأساسه القوة العسكرية والثروة
والنظام، بل الإسلام يهدي إلى ذلك، ولولاه لم ينل العرب عقب اهتدائهم به من
القوة والحضارة ما فاقوا به جميع الأمم، وظلوا كذلك إلى أن سلبهم الأعاجم
سلطانهم بالقوة الهمجية، ونال الترك وغيرهم به حضارة وملكًا لم يكن لسلفهم مثلها،
ولا ما يدانيها، ولو أنهم فهموا الإسلام فهمًا استقلاليًّا بإتقان لغته، والاجتهاد في
شريعته، لملكوا به الغرب مع الشرق، ولسبقوا جميع شعوب الإفرنج إلى العلوم
والفنون والصناعات، وسائر أسباب القوة والسلطان كما فعل العرب من قبلهم،
وهذا ما يطلبونه الآن بترك ما بقي لهم من تقاليد الإسلام، ويتوسلون إليه بتقليد
الإفرنج في زيهم وفجورهم، قبل إتقان شيء ما من علومهم وفنونهم، والوصول
إلى مثل قوتهم وثروتهم.
أما الزي فقد علمت مما بيناه في أول هذه الفتوى أن ما ورد في السنة وعمل
السلف فيه هو الذي اتبع المسلمين فيه أرقى أمم أوربة، وأما إباحة الفسق والفجور
فهي التي أهلكت جميع أمم الحضارات السابقة، وستهلك أوربة به أيضا كما يتشاءم
جميع حكمائها وعقلائها، وسيعلم العالم مصير الترك بمحاولة مصطفى كمال جعلهم
خلقًا جديدًا بهذه الطرق التي سلكها، ونسأل الله تعالى أن يقيهم سوء عاقبتها.
وجملة القول في لبس البرنيطة وغيرها من أزياء الإفرنج: إنه مباح لذاته،
وإنما يحرم بما يكون وسيلة له من ضعف الرابطة الملية، وتفضيل مشخصات
خصوم الأمة الطامعين فيها على مشخصاتها كما يقصده المتفرنجون في بلاد الترك
وأمثالها كسورية ومصر، وإذا قصد به ما يقصده ملاحدة الترك مما شرحناه في هذه
الفتوى من التوسل به إلى الكفر كان كفرًا.
جواب س 6 السكروتة:
اختلف أكثر الناس في هذا النسيج الذي يرد من الشرق الأقصى ما أصله؟
كما أشير إليه في السؤال، وقد سألت عنه في العام الماضي السيد محمد بن عقيل،
إذ كان ممن اتجر به، فأجابني بأنه رديء الحرير وخشنه، وظاهره أن دوده عين
دود الحرير المعروف عندنا، فإن كان له دود آخر كما روي عن آخرين من تجاره،
ففي جعله من الحرير نظر؛ لأن الديدان والحشرات التي تبني لأنفسها بيوتًا من
لعابها كثيرة، ومنها العنكبوت، وقد اتخذ الإفرنج من بيوتها قفازًا لليدين كما روي
لنا، على أنني كنت عازمًا قبل سؤال ابن عقيل عنه على استجداد ثياب منه؛ إذ
كنت ألبسها في الصيف لخفتها في الحر، ثم تركت ذلك بعد جوابه بما ذكر.
وإنني بعد كتابة ما تقدم وقبل نشره جاءني كتاب من الأخ المحب في الغيب
خادم الإسلام الأمين، ومدير المعارف في الصين (سعيد سليمان) ، ذكر فيه أنه
مرسل إليَّ قليلاً من الحرير الصيني هدية مودة، ثم جاءت الهدية فإذا هي من هذا
النسيج الذي نسميه (السكروتة) ، فعلمنا قطعًا أنهم يسمونه حريرًا.
(ج7و8) حكم التحلي بلبس الرجال الحرير:
قد ثبت نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير، والوعيد عليه
بعدم لبسه في الآخرة، كما في حديث الصحيحين عن عمر وأنس (رضي الله
عنهما) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا (إنما يلبس الحرير في
الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) ، وما ثبت من لبس النبي - صلى الله عليه وسلم
- له محمول على أنه كان قبل النهي عنه، وما قاله أبو داود من أنه لبس الحرير
عشرون نفسًا من الصحابة أو أكثر، منهم أنس (الذي روى خبر الوعيد) ،
فيحتمل أن بعضهم لم يبلغه النهي، أو أنهم حملوه على الكراهة، كما قال به بعض
العلماء، وقووه بأنه لو كان حرامًا لم يلبسه مثل هذا العدد الكثير، ولا سيما مثل
أنس (رضي الله عنه) ، ولأنكره عليهم باقي الصحابة، ولم ينقل ذلك، وحديث
التحريم فيه من العلل ما يمنع الاحتجاج به، والجمهور على أن الخالص منه حرام
على الرجال، وكذا ما أكثره حرير خلافًا للإمامية، وعلى حل ما أكثره قطن أو
صوف مثلاً وكذا المتساوي، واختلفوا هل هو من الكبائر أو الصغائر؟ فجمهور
الشافعية على أنه من الصغائر، وناهيك بتشددهم، وقال بعضهم: بل هو من
الكبائر، ورجحه ابن حجر المكي في الزواجر بناءً على ما اعتمده مؤلف أصله من
تفسير الكبيرة الذي جعل به الكبائر 467 كبيرة، وقد عد منها ما هو مكروه عند
الجمهور تنزيهًا، وقد علمت أن بعض العلماء قال بحله، وبعضهم قال بكراهته،
وأما لبسه لحاجة كحكة فقد صح الإذن به.
(ج9و10) الكبائر والصغائر وعذابهما:
اختلف العلماء في تعريف الكبيرة والصغيرة من الذنوب فقيل: إن الذنب
الواحد يكون كبيرة في بعض الأحوال وصغيرة في بعض؛ إذ من الناس من يرتكب
المعصية بجهالة من غلبة غضب أو شهوة وهو خائف وجل، ولا يلبث أن يتوب
ويصلح عملاً، ومنهم من يرتكبها بغير مبالاة بالدين، ولا خوف من الله، فالكبر
والصغر يرجع إلى حال العاصي لا إلى الذنب في نفسه، وقيل: إن مناط الكبر
والصغر ما يترتب على الذنب من الضرر الذي حرم لأجله، وقيل: إن الكبيرة ما
ورد في الكتاب أو السنة وعيد شديد عليه، وهو ما اعتمده صاحب كتاب الزواجر.
والتحقيق أن من المعاصي ما هو كبيرة في نفسه كالتي وردت بها النصوص في
الصحاح، ومنها ما يختلف باختلاف حال فاعله، ويراجع التفصيل في الزواجر.
وأما كون العقاب على الكبيرة أشد من العقاب على الصغيرة فهو ضروري.
(ج11-13) مسائل عذاب القبر:
المشهور عن جمهور أهل السنة أن عذاب القبر على الروح والجسد معًا،
والمراد بعذاب القبر ما يسمونه عذاب البرزخ؛ أي: مابين الموت والحشر يوم القيامة
سواء دفن الإنسان في قبر أم لا، ففي هذه المدة يشعر الأخيار بنوع من النعيم
والأشرار بنوع من العذاب، ويقول الجمهور: إن النفس وإن كانت هي التي تشعر
بالألم وباللذة لا مانع يمنع أن يكون لها نوع اتصال بالبدن، يصحح كون العذاب
واقعًا عليهما معًا ما دام البدن موجودًا، ومن المعلوم أن الراجح عند متكلمي
الأشاعرة أن الجسم ينعدم فلا يبقى منه شيء، أو إلا عجب الذنب كما قال في
الجوهرة:
وقل يعاد الجسم بالتحقيق ... عن عدم وقيل عن تفريق
ونقل السفاريني في شرح عقيدته عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض أهل
السنة يقولون كالمعتزلة: إن البرزخ على الروح فقط، وإنما يكون العذاب على
الروح والجسد معًا بعد البعث، قال: وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل
الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة (قال) : وليس هذا من
الأقوال الشاذة، بل هو مضاف إلى من يقر بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت
معاد الأبدان والأرواح إلخ (ص22ج2)
ثم نقل السفاريني (في ص24 منه) أدلة ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل
والنحل) على امتناع حياة الإنسان بعد موته قبل يوم القيامة، وتعقبها بما لابن القيم
فيها من التفصيل والتحقيق الذي يؤيد به جمهور أهل السنة.
وأما كون ذلك العذاب مستمرًّا دائمًا أو منقطعًا فظواهر بعض النصوص تدل
على أنه غير دائم، منها قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ
وَعَشِياًّ} (غافر: 46) ، قالوا هي في عذاب البرزخ بدليل ما بعدها وما ورد من
دوام عذاب جهنم، ومنها ما جاء في الصحيحين من خبر اللذين يعذبان في قبورهما،
وإن وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جريدة خضراء شقها وغرزها على
كل قبر منهما مما يرجى أن يكون سبب التخفيف عنهما، وهذا من أمور الغيب التي
لا تعرف إلا بنص من الشارع، وأقرب منه ما ورد من الأمر بالاستغفار للميت، والدعاء له بالتثبيت عند دفنه؛ إذ هو داخل فيما صح من نفع الدعاء عند الله تعالى.
ورد في بعض الأحاديث أن بعض الأعمال الصالحة في الدنيا تنجي فاعلها
من فتنة القبر وعذاب القبر: كالرباط في سبيل الله، وقراءة سورة {تَبَارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ المُلْكُ} (الملك: 1) رواهما الترمذي، وقد أوجزنا في هذه المسائل؛ لأن ما
صح من أخبار عالم الغيب لا ينبغي البحث في صفته وكيفيته ولا الزيادة فيه على
الوارد، ولا يجوز قياسه على المعهود لنا في حياتنا الدنيا، وقد ضرب أبو حامد
الغزالي لمنكري عذاب القبر مثلاً ما يراه النائم أحيانًا من ألم يمسه أو ثعبان يلسعه
ولا يرى عليه أثر للألم بحيث يعرفه من في حضرته.
(ج أسئلة 14- 16) العقاب على حقوق العباد:
من مات وعليه حقوق للعباد من قتل عمد، وديون، ومظالم، وخيانات،
وسرقات، وكذب، وغش لأناس لم يسامحوه بها في الدنيا؛ يعاقبه الله تعالى عليها
في الآخرة، وإن عذبه في البرزخ فإن عذاب الآخرة هو الجزاء الأوفى الذي يكون
بعد الحساب، وأما عذاب البرزخ فهو دون ذلك، ولعله مبني على ما تشعر به
النفس من دنسها وخبثها وسوء تأثير الشرور والفساد والعصيان فيها، والتوبة قد
تسقط عن التائب حقوق الله - عز وجل - ولكنها لا تسقط حقوق العباد، والعقاب
على حقوق العباد نوعان بَيَّنَهُمَا النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (المفلس
من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا،
وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته
وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم
فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.
(ج17) تفسير حديثين:
أما حديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله
فيغفر لهم) ، فقد رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة بزيادة القسم في أوله
(والذي نفسي بيده) ، ورواه من حديث أبي أيوب الأنصاري بلفظ (لولا أنكم
تذنبون؛ لخلق الله خلقًا يذنبون يغفر لهم) ، وبلفظ (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب
يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها الله لهم) ، وكان أبو أيوب - رضي
الله تعالى عنه - يكتم هذا الحديث طول حياته؛ خوفًا من تهاون بعض الناس
بالذنوب اتكالاً على المغفرة، ثم حدث به حين حضرته الوفاة؛ لئلا يكون كاتمًا للعلم.
والمراد من الحديث ترغيب المذنبين في الرجوع إلى الله وطلب المغفرة منه،
وعدم اليأس من رحمته، فهو دواء لمن يغلب عليه الخوف من عقاب الله تعالى
حتى يخشى عليه القنوط من رحمته تعالى، ومعناه أن المغفرة من صفات الأفعال لله
عز وجل، ومن أسمائه الغافر والغفار والغفور، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود مذنب
يغفر ذنبه، كما أن من شأن الإنسان أن يذنب جاهلاً أو ناسيًا أو مغلوبًا لغضبه أو
شهوته، ومن شأن المؤمن أن يندم إذا أذنب، ويستغفر ويكفر عن ذنبه، ومن
شأن الرب الغفور الرحيم أن يقبل التوبة، ويستجيب للمستغفرين، قال تعالى:
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) ، وقال عز
وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِل} (آل عمران: 135- 136) .
ويقابل ذلك أن من أسمائه تعالى المنتقم؛ أي: المجازي بالحق والعدل، ويجمع
بين الأمرين قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: 49-50) ، ومن عقائد أهل السنة الإيمان بوعد الله
ووعيده، وأن الوعد لا يتخلف جملة ولا تفصيلاً، وأن الوعيد ينفذ في الكافرين،
وفي طائفة من عصاة المؤمنين، وهم الذين لا تدركهم المغفرة، وأنه يجب على
المؤمن الخوف من الله والرجاء في الله؛ إذ لا يعلم المغفور لهم إلا الله، ولأبي
الحسن الشاذلي - من أئمة الصوفية - كلمة جامعة في ذلك، وهي: (وقد أبهمت
الأمر علينا؛ لنرجو ونخاف، فأمن خوفنا، ولا تخيب رجائنا) .
وأما حديث (كل شيء بقدر [1] حتى العجز والكيس) ، أو قال: (الكيس
والعجز) ، فقد رواه أحمد ومسلم، كما قال، فهو صحيح السند، والكيس بوزن
البيع: مصدر كاس يكيس، وهو الحذق وحسن التصرف في الأمور، ويقابله
العجز عن حسن التصرف والقيام بالواجب، ومنه حديث (الكيس من دان نفسه،
وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) ،
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححوه. ومعنى الحديث المسؤول
عنه أن الغرائز والصفات النفسية للبشر مخلوقة بقدر الله تعالى الذي أقام به نظام
الكون، وليست من المصادفات أو من الجزاف، وذلك أن القدر هو النظام الذي سبق
في علم الله تعالى لخلق الأشياء، فلم يقع شيء في العالم إلا بخلقه تعالى وتقديره
السابق في علمه، ومنكرو القدر يزعمون أن الله تعالى يخلق الأشياء جزافًا، كما يريد
عند خلقها لا بحسب ما قدره ودبره، وسبق به علمه الأزلي، وهو ما يعبرون عنه
بقوله: (الأمر أُنف) ؛ أي: جديد مستأنف، ولفظ القدر ينافي هذا المعنى، وهو
ثابت بنص القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) ،
وقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر:
21) ، وقد فصلنا هذه المسائل من قبل مرارًا.
__________
(1) كان من غلط الطبع في السؤال أن جعلت الباء الموحدة ياء مثناة هكذا (يقدر) .(26/496)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيه مهم
يظن الكماليون أنهم بارتدادهم عن الإسلام يعاملهم الأوربيون كأنفسهم،
وسيعلمون أنهم إنما يكرهون منهم الإسلام؛ لأنه قوة لهم، ولن يعاملوهم معاملة الأكفاء
وإن تنصروا كما يريد بعضهم. ولكن ماذا يطلب اللادينيون في مصر وسورية من
تقليد الترك فيما يفعلون؟ أيظنون كما يظن الكماليون؟ أم لا يدرون مغبة ما
يصنعون؟
__________(26/504)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسرار البلاغة أو فلسفة البيان
(تابع لما نشر بالجزء السادس)
وإذا كان هذا ثابتًا موجودًا، ومعلومًا معهودًا، من حال الصور المصنوعة،
والأشكال المؤلفة، فاعلم أنها القضية في التمثيل واعمل عليها، واعتقد صحة ما
ذكرت لك من أخذ الشبه للشيء مما يخالفه في الجنس، وينفصل عنه من حيث
ظاهر الحال، حتى يكون [1] هذا شخصيًّا يملأ المكان، وذاك معنى لا يتعدى
الأفهام والأذهان، وحتى إن هذا إنسان يعقل، وذاك جماد أو موات لا يتصف بأنه
يعلم أو يجهل، وهذا نور شمس يبدو في السماء ويطلع، وذاك معنى كلام يوعى
ويسمع، وهذا روح يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمة تؤثر وتحمد، كما قال:
إن المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادًا
وهذا مقال متعصب منكر للفضل حسود، وذاك نار تلتهب في عود، وهذا
مخلاف، وذاك ورق خلاف [2] كما قال ابن الرومي:
بذل الوعد للأخلاء سمحًا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء
وهذا رجل يروم العدو تصغيره والازراء به، فيأبى فضله إلا ظهورًا، وقدره إلا
سموًّا، وذاك شهاب من نار تصوب وهي تعلو، وتخفض وهي ترتفع، كما
قال أيضا:
ثم حاولت بالمثيقيل تصغيري ... فما زدتني سوى التعظيم
كالذي طأطأ الشهاب ليخفى ... وهو أدنى له إلى التضريم
وأخذ هذا المعنى من كلام في حكم الهند، وهو أن الرجل ذا المروءة والفضل
ليكون خامل المنزلة غامض الأمر فما تبرح به مروءته وعقله حتى يستبين ويعرف
كالشعلة من النار التي يصوبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعًا.
هذا هو الموجب للفضيلة والداعي إلى الاستحسان، والشفيع الذي أحظى
التمثيل عند السامعين، واستدعى له الشغف والولوع من قلوب العقلاء الراجحين،
ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للمتمثل، ولم تتصادف [3] هذه الأشياء المتعادية
على حكم المشبه، إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين، ولكن ما يستحضر العقل،
ولم يعن بما تنال الرؤية، بل بما تعلق الرويَّة [4] ، ولم ينظر إلى الأشياء من حيث
توعى، فتحويها الأمكنة، بل من حيث تعيها القلوب الفطنة، ثم على حسب دقة
المسلك، إلى ما استخرج من الشبه ولطف المذهب، وبعد التصعد إلى ما حصل
من الوفاق استحق مدرك [5] ذلك المدح، واستوجب التقديم، واقتضاك العقل أن
تنوه بذكره، وتقضي بالجنى في نتائج فكره [6] نعم وعلى حسب المراتب في ذلك،
وأعطيته في بعض منزلة الحاذق الصنع [7] والملهم المؤيد، والألمعي المحدث [8]
الذي سبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إمامًا، ويكون من بعده تبعًا له
وعيالاً عليه، وحتى تعرف تلك الصنعة بالنسبة إليه، فيقال: صنعة فلان وعمل
فلان. ووضعته في بعض موضع المتعلم الذكي والمقتدي المعيب في اقتدائه، الذي
يحسن التشبه بمن أخذ عنه، ويجيد حكاية العمل الذي استفاده، ويجتهد أن يزداد.
واعلم أني لست أقول لك: إنك متى ألفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على
الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرط، وهو أن تصيب
بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهًا صحيحًا معقولاً، وتجد للملائمة
والتأليف السوي بينهما مذهبًا وإليهما سبيلاً، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب
تشبيهك [9] من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحس،
فأما أن تستكره الوصف وتروم أن تصوره حيث لا يتصور فلا؛ لأنك تكرن في
ذلك بمنزلة الصانع الأخرق، يضع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه
ولا يقبلانه، حتى تخرج الصورة مضطربة، وتجيء فيها نتوٌّ [10] ، ويكون للعين
عنها من تفاوتها نبو، وإنما قيل شبهت ولا تعني في كونك مشبهًا أن تذكر حرف
التشبيه أو تستعير، إنما تكون مشبهًا بالحقيقة بأن ترى الشبه وتبينه، ولا يمكنك
بيان ما لا يكون، وتمثيل ما لا تتمثله الأوهام والظنون.
ولم أرد بقولي: إن الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك
تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أن هناك
مشابهات خفية يدق المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد استحققت الفضل.
ولذلك يشبه المدقق في المعاني كالغائص [11] على الدر. ووزان ذلك أن القطع التي
يجيء من مجموعها صورة الشنف [12] والخاتم أو غيرهما من الصور المركبة من
أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسب - أمكن ذلك التناسب أن يلائم بينها
الملائمة المخصوصة، ويوصل الوصل الخاص - لم يكن ليحصل لك من
تأليفها الصورة المقصودة.
ألا ترى أنك لو جئت بأجزاء مخالفة لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير
إلى الصورة التي كانت من تلك الأول طلبت ما يستحيل، فإنما استحققت الأجرة
على الغوص وإخراج الدر، لا أن الدر كان بك، واكتسى شرفه من جهتك، ولكن
لما كان الوصول إليه صعبًا، وطلبه عسيرًا، ثم رزقت ذلك وجب أن يجزل لك
ويكبر صنيعك.
ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم
لطف وحسن لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتفاق كان ثابتًا بين المشبه
والمشبه به من الجهة التي بها شبهت، إلا أنه كان خفيًّا لا ينجلي إلا بعد التأنق في
استحضار الصور وتذكرها وعرض بعضها على بعض، والتقاط النكتة المقصودة
منها، وتجريدها من سائر ما يتصل بها. نحو أن يشبه الشيء بالشيء في هيئة
الحركة فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة، والهيئةُ مجردة من الجسم وسائر ما فيه من
اللون وغيره من الأوصاف، كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق حيث قال:
وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقًا مرة وانفتاحا
لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له
عن انبساط يعقبه انقباض، وانتشار يتلوه انضمام، ثم فكر في نفسه عن هيآت
الحركات؛ لينظر أيها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة
الخاصة في المصحف إذا جعل يفتحه مرة ويطبقه أخرى، ولم يكن إعجاب هذا
التشبيه لك وإيناسه إياك؛ لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشد الاختلاف فقط، بل
لأن حصل بإزاء الاختلاف اتفاق كأحسن ما يكون، وأتمه، فبمجموع الأمرين- شدة
ائتلاف في شدة اختلاف - حلا وحسن، وراق وفتن.
ويدخل في هذا الموضع الحكاية المعروفة في حديث عدي بن الرقاع، قال
جرير: أنشدني عدي: *عرف الديار توهمًا فاعتادها* [13] فلما بلغ إلى قوله:
(تزجي أغن كأن إبرة روقه) [14] رحمته وقلت: قد وقع، ما عساه يقول: وهو
أعرابي جلف جاف؟ فلما قال: *قلم أصاب من الدواة مدادها* استحالت الرحمة
حسدًا [15] ، فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح
التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من
محل الظن شبه [16] ، وحين أتم التشبيه وأداه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد
موصوف، وعثر على خبيء مكانه غير معروف، وعلى ذلك استحسنوا قول
الخليل، في انقباض كف البخيل.
كفاك لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه
فكفٌّ عن الخير مقبوضة ... كما نقصت مائة سبعه
وكف ثلاثة آلافها ... وتسع مئيها لها منعه [17]
وذلك أنه أراك شكلاً واحدًا في اليدين مع اختلاف العددين، ومع اختلاف
المرتبتين في العدد أيضًا؛ لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد والآخر من
مرتبة المئين والألوف، فلما حصل الاتفاق كأشد ما يكون في شكل اليد مع
الاختلاف كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد كان التشبيه بديعًا، قال
المرزباني: وهذا مما أبدع فيه الخليل؛ لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من
الحساب مختلفين في العدد متشاكلين في الصورة. وقوله هذا إجمال ما فصلته.
ومما ينظر إلى هذا الفصل ويداخله ويرجع إليه حين تحصيله الجنس [18]
الذي يراد فيه كون الشيء من الأفعال سببًا لضده كقولنا: أحسن من حيث قصد
الإساءة، ونفع من حيث أراد الضر. إذا لم يقنع التشاغل بالعبارة الظاهرة،
والطريقة المعروفة، وصور في نفس الإساءة الإحسان، وفي البخل الجود، وفي
المنع العطاء، وفي موجب الذم موجب الحمد، وفي الحالة التي حقها أن تعد على
الرجل حكم ما يعتد له، والفعل الذي هو بصفة ما يعاب وينكر، صفة ما يقبل المنة
ويشكر، فيدل ذلك بما يكون فيه من الوفاق الحسن مع الخلاف البين على حذق
شاعره، وعلى جودة طبعه وحدة خاطره، وعلو مصعده وبعد غوصه، إذا لم يفسده
بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيق في تلخيص الدلالة، وكشف تمام الكشف عن
سرو المعنى وسره [19] بحسن البيان وسحره. مثال ما كان من الشعر بهذه الصفة
قول أبي العتاهية:
جُزيَ البخيل على صالحة ... عني لخفته على ظهري
أعلى وأكرم عن يديه يدي ... فعلت ونزه قدره قدري
ورزقت من جدواه عافية ... أن لا يضيق لشكره صدري
وغنيت خِلوًا من تفضله ... أحنو عليه بأحسن العذر
ما فاتني خير امرئ وضعت ... عني يداه مؤنة الشكر
ومن اللطيف مما يشبه هذا قول الآخر:
أعتقني سوء ما صنعت من الرمـ ... ـق فيا بردها على كبدي
فصرت عبدًا للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد
__________
(1) قوله حتى يكون: غاية في الانفصال (ش) .
(2) الخلاف بالكسر: شجر الصفصاف.
(3) تتلاقى.
(4) الروية: النظر والتفكر. وتعلق (بفتح التاء والعين وتشديد اللام) أصله تتعلق: أي تهوى، ويقال: علق بالمرأة (كتعب) ، وتعلقها إذا هَوِيَها.
(5) ضبطه شيخنا بصيغة اسم المفعول من أدرك.
(6) الجنى بالفتح: مصدر جنى الثمرة، والثمرة نفسها وكل ما يجنى ما دام غضًّا.
(7) يقال: صنع اليدين وصنعهما بكسر النون، وبالتحريك: أي حاذق ماهر.
(8) الألمعي: الذكي المتوقد، والمحدث (بالفتح والتثقيل) الصادق الحدس كأنما حدث بما ظن، والمحدثون بالفتح: الملهمون وكان عمر بن الخطاب منهم كما صح في الحديث.
(9) يوجب التشبيه: يكون منشأ له والاعتبار الذي سوغه (ش) .
(10) قوله: (فيها نتو) حال من ضمير تجيء، وهو بتشديد الواو وأصله بالهمزة نتوء.
(11) كالغائص حكاية للتشبيه، ولعل أصله بالغائص؛ لأنه لا يحتاج إلى التقدير.
(12) الشنف بالفتح القرط الأعلى ج شنوف.
(13) تمام البيت: (من بعد ما شمل البلى إبلادها) ، والإبلاد قطع الأرض عامرة أوغامرة أو الآثار في قول بعضهم. والقصيدة في مدح الوليد بن عبد الملك، ومنها:
... ... ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أمة إصلاحها ورشادها
(ومنها) ... تأتيه أسلاب الأعزة عنوة ... قسرًا ويجمع للحروب عتادها
... وعلمت حتى ما أسائل عالمًا ... عن علم واحدة لكي أزدادها.
(14) الإزجاء: السوق، والأغن: ذو الغنة، وهي صوت يتردد بين اللهاة، والأنف كنون (منك) ، وكذلك صوت الظبي، ولذلك غلب عليه لقب الأغن، والروق: القرن، وإبرته: رأسه، وتكون
سوداء.
(15) يقال: إن الفرزدق كان حاضرًا إنشاد القصيدة، وإنه عندما بلغ عدي قوله: تزجي أغن إلخ، قال (أي: الفرزدق لجرير) : ما تراه يستلب بهذا تشبيهًا؟ فقال جرير: (قلم أصاب من الدواة
مدادها) ، قال: فما رجع الجواب حتى قال عدي ذلك، فقال: ويحك لكأن سمعك في فؤاده مخبوء! فقال جرير: اسكت فقد شغلني سبك عن جيد الكلام (ش) .
(16) شبه فاعل يحضر.
(17) الأبيات من المتقارب، وفي الأول الخرم ومعناها أنه قابض كلتا يديه، وبيانه في حل مسألة العقد، وهي أن اليمنى التي يعقدون بها للآحاد والعشرات إذا أردت أن تعقد بها 93 وهي المائة تنقصها سبعة تقبض الخنصر والبنصر والوسطى، بحيث تكون الأظافر في باطن الكف، وهي عقدة الثلاثة، وتقبض السبابة، وتجعل ظفرها ظاهرًا؛ (لأن ظهور الأظافر للعشرات وإخفاءها للآحاد، وتضع الإبهام على ظهرها، وهي عقدة التسعين فتلك 93 ما حصلت إلا من قبض الكف، وأما اليسرى التي يعقد بها للمئين والألوف فتكون مقبوضة بعقد 3900، وذلك أن تقبض الخنصر والبنصر والوسطى، وهي عقدة 3000، وتقبض السبابة، وتحلق عليها بالإبهام (كعقدة 90 في اليمني) ، وهي عقدة 900، فتلك 3900 حصلت بقبض اليد اليسرى أيضًا.
(18) الجنس: مبتدأ، وقوله قبله: ومما ينظر إلى هذا الفصل خبره.
(19) السرو: الفضل.(26/505)
الكاتب: رفيق بك العظم
__________
الحكومة الإسلامية
كان رفيق بك العظم المؤرخ المشهور (رحمه الله تعالى) شرع في تأليف كتاب
باسم (تاريخ السياسة الإسلامية) ، لم يكتب منه إلا مقدمته، وهي في ملخص
السيرة النبوية، وقد طبعت في هذه الأيام مع بعض رسائله وخطبه، فرأينا أن نقتبس
منها هذا الفصل بمناسبة نشر الكتاب السخيف الذي نشر في هذا العام، في
الطعن في حكومة الإسلام، وهو:
ذكر شيء مما كان على عهده صلى الله عليه وسلم
أو نصت عليه شريعته، وترتب عليه نظام السلطنة الإسلامية
اعلم أن ما ظهرت آثاره في الإسلام من ترتيب الدول، وتنظيم شؤون
الحكومة، واتخاذ شعائر الارتقاء، إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وما لم يكن في عهده فمنصوص عليه في شريعته الطاهرة، وسنته الباهرة،
وذلك: كالإمامة، والوزارة، والولاية، وإمارة الجيش، والقضاء، والخطابة،
والكتابة، والسفارة، والترجمة، والحسبة، والمعاهدات، والأعطيات - أي:
مرتبات الجند - والحجابة، والحراسة، وإمارة الحج، والرسائل، والإقطاع
والديوان، والزمام، وكتابة الجيش، والعقود، والفرائض؛ أي: قسمة المواريث،
وغير ذلك من آثار الفضل في ترتيب الحكومات الإسلامية، مما كان على عهده
صلى الله عليه وسلم، واقتفى أثره به الخلفاء الراشدون، ثم أخذ يتوسع به من
بعدهم من الخلفاء والسلاطين، ويقررونه على أوجه مضبوطة، وقيود وتراتيب لا تخرج عن صفة ما سبق إلا بنوع الترتيب، أو بما فيه الاستزادة من أبهة الملك
وسطوة السلطان. ولكن لما بلغت دول الإسلام أقصى غايات الرفاه، واختلطت
على الخلفاء والسلاطين الأمور باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام؛ أخذت تتحول
تلك الأنظمة والتراتيب إلى أعجمية تارة، وهمجية أخرى، حتى اختل بسبب ذلك
نظام الملك، واستحال حال الدول في بعض العصور إلى ما يشبه ضلال الساري في
ليلة مظلمة، يود سلوك الطريق المنجية فلا يجدها، والعاقبة للمتقين.
وها نحن (أولاء) نورد لك طرفًا من تلك الوظائف والتراتيب بوجه إجمالي،
معززًا بما يؤيده من الكتاب والسنة، ونبدأ من ذلك بالإمامة؛ لأنها المنصب
النبوي المهم فنقولك:
الإمامة
الإمامة هي رئاسة عامة في الدين والدنيا، تنتهي إلى صاحبها خلافة النبوة
في حراسة الدين وسياسة الدنيا، بدليل أن رسول الله - صلى عليه وسلم - لما ثقل
عليه المرض وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وصلى أبو بكر - رضي
الله تعالى عنه - بالناس نيابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذها
الصحابة دليلاً على استنابة أبي بكر في الخلافة العامة، فأقاموه خليفة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر الحكم في الخلافة هكذا، حتى إذا استغرق
الخلفاء بالترف، واستكانوا وراء الحجب، واستثقلوا الظهور للناس والاختلاط
بعامتهم، استنابوا عنهم بالصلاة أولي الكفاءة من أئمة الدين، واكتفوا بمباشرة أمور
السياسة. وقد ثبت أن نصب الإمام واجب على الأمة بالشرع وجوبًا كفائيًّا؛ أي: هو
فرض كفاية إذا قام به البعض - وهم أهل الحل والعقد - سقط عن الباقين.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: تنعقد البيعة للإمام بمن حضرها
من أهل الحل والعقد.
ومنهم من قال: لا تنعقد إلا برضا عامة الناس. ولهم بهذا الصدد أبحاث
طويلة ليس هذا موضع ذكرها، فليرجع إليها في كتب العقائد (وكتاب الأحكام
السلطانية) للماوردي [*] ... ... ...
ومما لا اختلاف فيه وجوب الطاعة للإمام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، فإن طاعة
الإمام العادل واجبة؛ ليتمكن من الأخذ بمقتضى العدل في تنفيذ الأحكام، وتوزيع
الضرائب، وفصل الخصومات، وإقامة الحدود، وتجهيز الجيوش، وسد الثغور،
وقهر المتغلبة، وبالجملة سائر ما يعود على المجتمع الإسلامي بالخير والمصلحة.
قالوا: ومتى استقرت الخلافة العامة لمن هو لها أهل، فلا بد من استنابته في
بعض الوظائف الموكولة إليه أناسًا ذوي كفاءة وعلم ودين: كالوزارة، والإمارة،
والجباية والقضاء، وغير ذلك من الوظائف التي لا يمكن مباشرة جميعها بنفسه،
والاستنابة فيها أصح في التدبير، وأدفع للخلل، وأجمع للنظام. وأهم الوظائف
التي يستنيب فيها هي الوزارة.
الوزارة
اعلم أن الوزارة مرتبة جليلة من مراتب الدولة التي ينتظم بها الملك، وتشاد
عليها دعائم الدولة؛ لهذا اشترط العلماء في الوزارة ما اشترطوه في الخلافة من
الأحكام الجامعة لأوصاف العدل: كالأهلية، والكفاءة، والعلم، والصحة، والعقل.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره،
وإن ذكر أعانه. وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره،
وإذا ذكر لم يعنه) ، وقالوا: إن الوزارة على ضربين، وزارة تفويض (للحكومات
المعتدلة) ووزارة تنفيذ (للحكومات المطلقة) .
فأما وزارة التفويض فهي: أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور
برأيه وإمضاءها على اجتهاده. وهذه بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة في
الحكومات المعتدلة؛ لأن للوزير فيها - متى استكملت فيه الشروط المعتبرة في
وزارة التفويض - أن يحكم بنفسه، وأن يقلد الحكام، وأن ينظر في المظالم أو
يستنيب فيها، وأن يتولى الجهاد بنفسه، وأن يقلد من يتولاه، وأن يباشر الأمور
التي دبرها أو يستنيب فيها [1] .
وبالجملة فقد قالوا في هذه الوزارة: إن كل ما صح عن الإمام صح عن
الوزير إلا ثلاثة أشياء: (أحدها) ولاية العهد، (والثاني) أن للإمام أن يستعفي
الأمة من الإمامة، وليس ذلك للوزير، (والثالث) أن للإمام أن يعزل من قلده
الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام. وما سوى هذه الثلاثة فحكم
التفويض إليه يقتضي جواز فعله، على شرط أن يطالع الإمام بما أمضاه من تدبير
وأنفذه من ولاية؛ لئلا يستبد بالأمر دون الإمام، وللإمام أن يتصفح ما يعرضه عليه
الوزير؛ ليقر منه ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه، إلا الحكم في حق فإنه
ينفذ على وجهه، أو في مال وضع في حقه، فإنه ليس للإمام استرجاعه.
ووجه جواز هذه الوزارة في الإسلام، مأخوذ من قوله تعالى في القرآن حكاية
عن موسى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32) فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فإنها
في الخلافة أولى.
وأما وزارة التنفيذ فإن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، بحيث
يكون الوزير كالواسطة بين الإمام والرعية، ينقل إليه ما وقع، ويؤدي عنه ما أمر،
ويمضي عنه ما حكم، وينفذ ما ذكر. وهذه الوزارة بمثابة ما يسمونه الآن
الوزارة المقيدة في الحكومات المطلقة، ومعنى تقييدها رجوعها في كل عمل إلى
رأي السلطان وأمره فيما يراه، ويشترط في هذه الوزارة أوصاف الأمانة والصدق
والفطنة كي لا يكذب فيما يبلغ، ولا يخون فيما يؤدي، ولا يدلس عليه، ولا يبعد
الصواب عنه، وينسب التساهل في أمور الناس إليه.
وقد رأيت كيف أن موسى الكليم - عليه السلام - طلب أن يجعل الله له
وزيرًا من أهله وهو أخوه هرون، وأما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد أشار
إلى فضل الوزارة وما فيها من الموازرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (وزيراي من
أهل السماء جبريل ومكائيل، ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر) [2] :
أي أن الملائكة توازره بالوحي من السماء، وأبو بكر وعمر يوازرانه في الرض.
وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أبو بكر يرجع في المشورة
إلى عمر وعلي وأكابر الصحابة رضوان الله عليهم. ولما كانت الحكومة الإسلامية
في صدر الإسلام أشبه بالحكومة الديموقراطية حذا حذو أبي بكر - في الرجوع إلى
استشارة أهل العلم والرأي من أكابر سائر المسلمين - الخلفاء الراشدين، ومن أتى
بعدهم من الخلفاء الأمويين، دون اتخاذ وزير مخصوص يسمى بهذا الاسم، أو
يعطى شارة الوزارة، حتى قيام الدولة العباسية، وكان أول خليفة منهم السفاح،
فاتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن سليمان، فكان أول من لقب بالوزير في دولة
الإسلام، ومن ثم أصبحت الوزارة من الرتب الخاصة التي تجري عليها القوانين،
وتدون لها الدواوين، على أشكال شتى كانت تترقى بترقي الدول الإسلامية، وتتدنى
بتدنيها.
***
القضاء
إن ولاية القضاء خطة سامية، تتلو الوزارة في الأهمية، ولها في الشريعة
الإسلامية شروط وأحكام، أفردت لها أبواب مخصوصة في كتب الفقه، لا مجال
لإيرادها في هذا المختصر، وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه،
وقلد القضاء لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله
تعالى عنهم. وقد مر في هذه المقدمة ذكر الحديث الوارد بتقليد معاذ القضاء، ولم
يرد في شريعة من الشرائع ما ورد في الشريعة الإسلامية من البيان بشأن القضاء
وشروطه، وآدابه وأحكامه وحدوده، لهذا كان الخلفاء الراشدون يجلسون للقضاء
بأنفسهم ويستنيبون أحيانًا من عرف بالعلم والنزاهة، وتحققت فيه الأهلية والكفاءة،
وكذا من جاء بعدهم من الخلفاء الأمويين، وبعض الخلفاء العباسيين.
ولما كانت المنازعات في صدر الإسلام، إنما تنشأ عن أمور مشتبهة، يترافع
فيها الخصمان إلى القضاء ليوضحها الحكم، وتتعين فيها جهة الحق، فقد اقتصر
خلفاء السلف على فصل المنازعات، والتشاجر بين الناس بالحكم والقضاء، لالتزام
الناس جهة الحق، وانقيادهم إليه، ولما تجاهر الناس بالظلم، وتغالبت النفوس،
وتغلبت الأهواء، واحتيج في رد الحق وتنفيذ الأحكام إلى القوة الإجرائية؛ تفرعت
عن القضاء ولاية المظالم، فكان الخلفاء من بني أمية، منهم من جلس لرد المظالم
بنفسه، كعمر بن عبد العزيز، ومنهم من أفرد وقتًا مخصوصًا للنظر في رقاع
المتظلمين، ومنهم عبد الملك بن مروان، وهو أول من أفرد يومًا للنظر في
الظلامات، وتصفح قصص المتظلمين، فما احتاج فيه إلى حل مشكل أو حكم منفذ
رده إلى قاضيه أبي إدريس الأزدي، فكان هذا المباشر، وعبد الملك الآمر، ثم مع
التمادي والتدريج، احتاج الخلفاء إلى جعل ولاية المظالم ولاية خاصة تتفرغ عن
ولاية القضاء [3] ، فكانوا يختارون لها ذوي الهيبة وأهل السياسة، لتنفذ بواسطتهم
قوانين العدل، وتستقيم طرق التناصف، وكان آخر من جلس بنفسه لرد المظالم
من الخلفاء العباسيين المأمون، وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نظر في المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام - رضي الله تعالى
عنه - ورجل من الأنصار، وحضره صلى الله عليه وسلم بنفسه.
***
الولاية وإمارة الحرب واللواء والجيش
قد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإمارة كثيرين، منهم
عتاب بن أُسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، استعمله على مكة أميرًا سنة
ثماني من الهجرة وولاة إمارة الموسم والحج بالمسلمين، وذكر الزمخشري في
الكشاف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عتاب بن أُسيد على أهل
مكة وقال: (انطلق فقد استعملتك على أهل بيت الله) ، فكان شديدًا على المريب،
لينًا على المؤمن، ومنهم باذان استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
اليمن، وكان أميرًا عليها من قبل ملوك الفرس، وذكر المؤرخون أن باذان أول
أمير أسلم من العجم، وأول أمير في الإسلام على اليمن.
***
مطلب إمارة الجيش
وأما إمارة الجيش فقد استعمل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرين
أيضًا في سراياه التي كان يبعث بها لقتال المشركين، وأولها في السنة الأولى من
الهجرة سرية عبد الله بن جحش، فقد ذكر المؤرخون وأرباب السير أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو، فلما أراد
المسير بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مكانه عبد الله بن
جحش وآخرها جيش أسامة الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
للمسير إلى الشام وعليه مولاه أسامة بن زيد، وتوفي صلى الله عليه وسلم قبل
مسير الجيش، فسيره بعده أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
***
مطلب اللواء
وأما اللواء فقد قال أرباب السير: إن أول راية عقدت في الإسلام عقدها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن قصي
في ستين أو ثمانين راكبًا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وممن حمل
راية النبي - عليه الصلاة والسلام - ليقاتل بها أبو بكر وعمر وعلي، وحمل رايته
عليه الصلاة والسلام عام الفتح الزبير بن العوام. وذكر أهل السير في أخبار غزوة
بدر الكبرى أنه كان أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رايتان سوداوان
إحداهما مع علي بن أبي طالب، والأخرى - وهي راية الأنصار - كانت مع سعد
بن معاذ، وكانت راية النبي - صلى الله عليه وسلم - الخصوصية سوداء تسمى
العقاب، وكان يحملها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد، فلم
يحضر بها حربًا إلا وكان الظافر فيها.
***
مطلب تقسيم الجيش
وأما الجيش فقد كان على عهده صلى الله عليه وسلم يقسم إلى خمسة أقسام:
المقدمة، والمجنبتان اليمنى واليسرى، والقلب والساقة، وكان لكل قسم رئيس
يسمى صاحبًا، كصاحب المقدمة، وصاحب الساقى إلخ، فقد تولى الساقة بين يدي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة أبو عبيدة بن الجراح، ويوم
حُنين خالد بن الوليد، وتولى بقية الأقسام غيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله
عليهم، وكان في وقت المصاف يقدم على الفرسان رئيسًا، وعلى الرماة وعلى
المشاة رئيسًا، فمن ذلك ما رواه البخاري أن عبد الله بن جبير كان في غزوة أحد
المقدم على الرماة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انضح الخيل عنا
بالنبل [4] لا يأتوننا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من
قبلك) .
***
مطلب الحرس
كان يتولى جيشه عليه الصلاة والسلام في الليل بعض الحرس، فمن ذلك ما
روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قفل من غزوة بلغه أن رجلاً من
المشركين أصيبت امرأته فحلف ليتبعن أثر الجيش؛ ليهريق دمًا من المسلمين،
فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً فقال: (من يكلؤنا ليلتنا؟ فانتدب
رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر) .
***
مطلب حرسه الخصوصي صلى الله عليه وسلم
وكان له صلى الله عليه وسلم حرس خصوصي يحرسونه إذا نام أو كان في
الغزو، وكان من حرسه سعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ وذكوان بن عبد الله
وهذان حرساه يوم بدر على باب العريش الذي بني له يومئذ، ويوم أُحد حرسه
محمد بن مسلمة الأنصاري، ويوم الخندق حرسه الزبير بن العوام وسعد بن أبي
وقاص وعباد بن بشر، وحرسه غيرهم من الصحابة، فلما نزل قوله تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) ترك الحرس.
***
مطلب العرفاء
وكان عند العرب عرفاء للأجناد، وهم دون الرؤساء، بهم يتعرفون أحوال
الجيش، واستمر ذلك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت
ذلك من حديث طويل رواه البخاري، وذلك في قصة وفد هوازن حين جاؤوه
مسلمين.
وقد كان للجيش في عهده - صلى الله عليه وسلم - عيون تأتي بأخبار العدو،
وطلائع تمهد له الطريق، وحملة سلاح، وغير ذلك من متعلقات الجيوش مما لا
يسع هذا الموجز بسطه، فليراجع في كتب السير والحديث.
***
كتابة الجيش والديوان والعطاء
قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكتب الناس، وجرى
العمل بذلك في عصره صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري بسنده عن حذيفة
بن اليمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اكتبوا لي من يلفظ
بالإسلام من الناس) ، فكتبنا له ألفًا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف
وخمسمائة، فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف.
وأما العطاء فقد وردت في ثبوته أحاديث كثيرة، فمنها ما رواه أبو داود عن
عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب حظًّا،
فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار، فدعيت فأعطاني حظين، وكان لي أهل، ثم دعا
بعمي عمار بن ياسر فأعطي حظًّا واحدًا. فثبت مما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم
أمر بكتابة الناس في الجيش، وأنه كان يعطي العطاء ويقسم الفيء.
وأن نوع الديوان كان موجودًا على عهده صلى الله عليه وسلم، وهذا لا
يخالف ما أطبق عليه أهل الأثر من أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -
أول من دون الدواوين، ورتب الأعطيات في الإسلام، فإنما كانت كتابة الناس في
عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحصاء من تعين منهم في بعث البعوث،
ولم تكن في وقت معين ولا بمقدار معين، حيث لم يكثر الناس كثرتهم أيام عمر،
ولا جبيت الأموال، ولا تأكدت الحاجة إلى ضبطهم، وأما عمر فقد رتب الناس في
الدواوين، وقدر لهم الأعطيات، وأجرى عليهم الأرزاق على حدود معينة،
وتراتيب مقررة، بعد أن نصب الكتاب، ومسح البلاد والسواد، ونظم أصول
الجباية، لاتساع الحاجة باتساع الفتوح على الإسلام.
***
الكتابة والرسل
والسفارة والترجمة
كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان
وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فإن غابا كتب أبي بن كعب وزيد بن
ثابت، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة كتب من حضر من الكتاب وهم
معاوية بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد والعلاء
الحضرمي وحنظلة بن الربيع، وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب الوحي
أيضًا فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فلما فتحت مكة استأمن له عثمان بن
عفان وكان أخاه من الرضاعة، فأمنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسن
إسلامه.
وأما كتاب الرسائل والأقطاع فزيد بن ثابت وأبي عبد الله بن الأرقم الزهري،
وهذا كان مواظبًا على كتابة رسائل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك.
وأما العهود والمصالحات فكان يكتبها له صلى الله عليه وسلم علي بن أبي
طالب رضي الله تعالى عنه.
***
الرسل والسفارة
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى
الإسلام، فمن أرسله دحية الكلبي أرسله إلى قيصر، وكتب له كتابًا يدعوه فيه إلى
الإسلام كما رواه البخاري، وأرسل حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس،
وغيرهما لغير هؤلاء الملوك أيضًا، وبعث رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - رسولاً إلى ملك الحبشة ليبعث من عنده في بلده من المسلمين.
وأما تراجمة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر أرباب السير: أن زيد
بن ثابت الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - كان يكتب للملوك، ويجيب بحضرة
النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية،
تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وذكر ابن هشام في البهجة نحوًا منه.
وكانت ترد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب بالسيريانية، فأمر
زيد بن ثابت بتعلمها فتعلمها في بضعة عشر يومًا، وخرج الترمذي عن زيد بن
ثابت - رضي الله تعالى عنه - قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أن أتعلم كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب قال: فما مر بي نصف
شهر حتى تعلمته له قال: فلما تعلمت كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا
كتبوا إليه قرأت له كتابهم.
وفي هذا دليل على وجوب تعلم اللغات إذا كان في تعلمها فائدة للمسلمين.
هذا ما أردنا إيراده في هذا الفصل ملخصًا من (كتاب الإيجاز في سيرة ساكن
الحجاز) للعلامة المرحوم رفاعة بك المصري، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي،
وقد رغبنا حب الاختصار في هذا الموجز بالاكتفاء بما تقدم، وترك ذكر أشياء
كثيرة كانت على عهده صلى الله عليه وسلم: كالحجابة، والخطابة، والمحاسبة،
والجباية، والحسبة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من
وسائل الترقي في الإسلام، فليرجع إليها في كتب السير والحديث اهـ.
__________
(*) المنار: إن كتابنا (الإمامة أو الخلافة العظمى) هو أجمع ما كتب فيها، وفيما يتعلق بها من
المسائل والمباحث الشرعية السياسية والتاريخية وغيرها، وما يجب على المسلمين في هذا العصر
على اختلاف حكوماتهم وشعوبهم.
(1) هذا الحكم في الوزارة جارٍ الآن عند دولتنا العثمانية، فإن الخليفة - أيده الله - يعين الوزير الأول الملقب بالصدر، وهذا يستنيب في الوظائف الوزارية: كالحربية، والداخلية، والمالية، وغيرهم من شاء، وهذه القاعدة أيضًا في جميع الوزارات عند الحكومة الأوربية الآن.
(2) خرج هذا الحديث أبو بكر العربي اهـ، من حاشية الأصل.
(3) وهي تشبه الآن مأمورية الضابطة القضائية اهـ، من حاشية الأصل.
(4) هذا اللفظ عزاه شراح البخاري إلى ابن اسحاق، والوصية في رواية البخاري للرماة كلهم وأولها (لا تبرحوا) إلخ، وكتبه مصححه.(26/512)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة
(تابع لما في الجزء الرابع ص 265)
فصل
وأما المؤاخاة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين
والأنصار لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء وبين
عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى
أنزل الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (الأنفال:
75) ، فصاروا يتوارثون بالقرابة، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوَهُمْ نَصِيبَهُمْ} (النساء: 33) ، وهذا هو المحالفة، واختلف العلماء
هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين:
(أحدهما) : أن ذلك منسوخ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر
الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: (لا حلف في الإسلام،
وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة)
(والثاني) : أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية
الأخرى عنه.
وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال: إنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه
آخى عليًّا ونحو ذلك فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة،
وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف: إما منقطع وإما بإسناد ضعيف،
والذي في الصحيح هو ما تقدم من تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة
تيقن أن ذلك كذب.
وأما عقد الأخوة بين الناس في زمامنا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة
الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: ( {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخو المسلم
لا يسلمه ولا يظلمه) ، وقوله: (لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم
أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه) ، وقوله: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم
حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه) ، ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي
تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة
التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما
أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما
عقد مؤاخاة. وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين
والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان بناءً على أن ذلك منسوخ أم لا، فمن قال:
إنه منسوخ - كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه - قال: إن ذلك غير مشروع،
ومن قال: إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال:
إنه مشروع.
وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول
على المشاركة في الحسنات: وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه. ونحو ذلك،
فهذه كلها شروط باطلة، فإن الأمر يومئذ لله، هو {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} (الانفطار: 19) ، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ
فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94) .
وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها، وما أعلم أحدًا
ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها، بل هو
كلام يقولونه عند غلبة الحال، لا حقيقة له في المآل. وأسعد الناس من قام بما أوجبه
الله ورسوله فضلاً عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك، وهذه المسائل قد
بسطت في غير هذا الموضع، والله أعلم. ... قاله
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن تيمية الحراني ... ...
***
كتاب ابن تيمية إلى الشيخ
نصر المنبجي الصوفي
(قال الراوي) : كتاب كتبه الشيخ الإمام وحيد دهره، وفريد عصره،
علامة زمانه، ناصر السنة، مؤيد الشريعة، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو
العباس أحمد بن تيمية الحراني، فسح الله تعالى في مدته، وأعاد علينا من بركته،
إلى الشيخ القدوة أبي الفتح نصر المنبجي سنة أربع وسبعمائة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر،
فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين
الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته،
وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر
للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين
الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته.
(أما بعد) : فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة
وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوًّا في
الأرض ولا فسادًا منزلة علية، ومودة إليه لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة
والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى والعبادة، وقد بعث الله محمد -
صلى الله عليه وسلم - بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله
- التي هي أصل الأعمال المحبةَ التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ
لِّلَّهِ} (البقرة: 165) ، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) .
ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني كما في
الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث من
كن فيه، وجد حلاوة الإيمان في قلبه، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،
ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن
أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) ، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة
الإيمان معلقًا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله وبكراهة ضد
الإيمان.
وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً) ،
فجعل ذوق طعم الإيمان معلقًا بالرضى بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقًا بالمحبة؛
ليفرق - صلى الله عليه وسلم - بين الذوق والوجد - الذي هو أصل الأعمال
الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة - وبين ما أمر الله به ورسوله، وبين غيره، كما قال
سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل؛ إذ كان
كل من أحب شيئًا فله ذوق بحسب محبته.
ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31) قال الحسن البصري: ادعى
قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله؛ فطالبهم بهذه الآية،
فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة
الرب عبده. وقد ذكر نعت المحبين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) ، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال - الذي
نعت الله به رسوله - الجامع بين منى الجلال والجمال المفرق في الملتين، قلنا: وهو
الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله، ولهذا يوجد
كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق كما قال فيه كبير من كبرائهم:
مشرد عن الوطن ...
مبعد عن السكن ...
يبكي الطلول والدمن ...
يهوى ولا يدري لمن؟ ...
فالشيخ - أحسن الله إليه - قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل
المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة عن المجملة
المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضًا في التوحيد، قال الله تعالى
في أم الكتاب التي هي مفروضة على العبد، وواجبة في كل صلاة أن يقول:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن
الله يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي
ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) قال
الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) قال الله:
أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ، قال: مجدني
عبدي، أو قال: فوض إلي عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا
قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) ، قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل) .
ولهذا روي أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في القرآن،
ومعاني القرآن في المفصل، ومعاني المفصل في أم الكتاب، ومعاني أم الكتاب في
هاتين الكلمتين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وهذا المعنى قد ثناه
الله في مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) ، وفي مثل قوله:
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) ، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في نسكه: (اللهم
هذا منك وإليك) , فهو سبحانه مستحق التوحيد الذي هو دعاؤه، وإخلاص الدين له
دعاء العباد بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء، ونحو
ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة، والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء
إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه
الأول والآخر والباطن والظاهر.
ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب،
فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،
وكلمات الأذان، الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك.
وفي السؤال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) , {رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: 28) {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلمجرمين} (القصص: 17) , {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) ,
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} (آل عمران: 147) ,
{رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون: 118) ونحو ذلك.
وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية والقيومية الكاملة الشاملة
لكل مخلوق من الأعيان والصفات، وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية
التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بها، فيقول: (أعوذ بكلمات الله
التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما
ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن
شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن) فيغيب
ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضًا، ومطلوبه وهو محبوب الحق
ومرضيه من التوحيد الإلهي الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة
رسوله، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، والحب فيه، والبغض فيه، ومن
أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول، فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا: {لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} (الأنعام: 148) ، ومن أخذ بالثاني دون الأول
فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد ولا شاء جميع
الكائنات كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في (كلام) كثير من المتكلمة
والمتفقهة. والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي،
وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة
الخارجين عن الشريعة خفو العدو (؟) وغيرهم، فإن لهم زهادات وعبادات فيها
ما هو غير مأمور به فيفيدهم أحوالاً فيها ما هو فاسد يشبهون من بعض الوجوه
الرهبان وعباد البدود [1] .
ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: كثير من الرجال إذا دخلوا إلى
القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق
للحق، والولي من يكون منازعًا للقدر لا من يكون موافقًا له، وهذا الذي قاله الشيخ
تكلم به على لسان المحمدية [2] ؛ أي: إن المسلم مأمور بأن يفعل ما أمر الله به،
ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع قدر الله بقدر الله كما
جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي - صلى الله تعالى
عليه وسلم -: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض) ، وفي الترمذي
قيل: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها ورُقًى نسترقي بها وتقىً نتقيها هل
ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: (هن من قدر الله) [3] وإلى هذين المعنيين أشار
الحديث الذي رواه الطبراني أيضًا عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه
قال: (يقول الله: يا ابن آدم إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك: وواحدة بيني
وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي؟ فأما التي لي: فتبعدني لا تشرك بي شيئًا، وأما
التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك فمنك
الدعاء وَعَلَيَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأتِ إلى الناس بما تحب أن يؤتوه
إليك) .
ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الإلوهية والربوبية أو توحيد أحدهما للعبد فيه
ثلاث مقامات: (أحدها) مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات
والمأمورات , (والثاني) مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده،
وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن
حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى، وهو فناء القاصرين.
وأما الفناء الكامل المحمدي فهو الفناء عن عبادة السوى والاستعانة بالسوى
وإرادة وجه السوى، وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع،
والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته،
ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه
رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره ولا نافع ولا ضار
ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضًا فعل المأمورات
مع كثرتها وترك الشبهات [4] مع كثرتها لله وحده لا شريك له.
وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، والإسلام العام
والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم
مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) وبقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:
45) ، وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) ؛ ولهذا ترجم البخاري عليه (باب ما جاء أن دين
الأنبياء واحد) .
وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) ، فجمع في الملل الأربع {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحاً} (البقرة: 62) ، وذلك قبل النسخ والتبديل، وخص في أول الآية
المؤمنين وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) ، والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة، والدين
الجامع هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة
المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين.
فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد - صلى الله تعالى عليه
وسلم - {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) ، وبها أنزلت السور
المدنية؛ إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع، وسنت السنن، ونزلت الأحكام
والفرائض والحدود.
فهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإليه تشير
مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال
الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز، فقد يقول في تلك
الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن
أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء. وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا
تؤدى، إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه.
فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا، لا فرق في ذاك بين
السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس
بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات. وفي مثل هذا الحال غلط من غلط بدعوى
الاتحاد والحلول العيني في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في
علي وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر
أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي.
فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله
تعالى وسلم - قال: (يقول الله: عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف
أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته
لوجدتني عنده. عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: ربي كيف أطعمك وأنت رب
العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) ،
ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أن جوع عبده ومحبوبه لقوله: (لوجدت ذلك
عندي) ، ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله: (لوجدتني عنده) ، ولم يقل:
لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه؛ بحيث يرضى أحدهما بما
يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى
عما ينهى عنه.
وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق
في هؤلاء محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولهذا قال تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) ، وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن
يُرْضُوهُ} (التوبة: 62) ، وقال: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) .
وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح
قالها فهذا معناها كقوله: (أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي) ، ونحو ذلك
بها ضلت النصارى، حيث اتبعوا المتشابه كما ذكر الله عنهم في القرآن، لما قدم وفد
نجران على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ناظروه في المسيح.
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: (من عادى لي وليًّا فقد بارزني
بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي
يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي
يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، في يسمع، وبي يبصر،
وبي يبطش، وبي يمشي) ، فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه
العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه.
وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل، وأن قرب الفرائض أن يكون هو
إياه، فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فهذا القرب يجمع الفرائض
والنوافل. فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية
أتباع الأنبياء والمرسلين.
وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية،
وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتابًا اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة
لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد به والله واحدًا بعينه، وإنما الشيخ هو
مجمع المؤمنين فعلينا أن نعينه في الدين والدنيا بما هو اللائق به، وأما هؤلاء
الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم.
وقد كتبت في ذلك كتابًا ربما يرسل إلى الشيخ، وقد كتب سيدنا الشيخ عماد
الدين في ذلك رسائل والله تعالى يعلم وكفى به عليمًا. لولا أني أرى دفع ضرر
هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات - وهو شبيه
بدفع التتار عن المؤمنين - لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكتشف
أسرار الطريق وتهتك أستارها، ولكن الشيخ - أحسن الله تعالى إليه - يعلم أن
مقصود الدعوة النبوية بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن
يكون الدين كله لله، هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (الأحزاب: 45-
46) ، وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 52-53) ، وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذي أنزل الله تعالى
به الكتب، وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيدًا، وحقيقته تعطيل الصانع
وجحود الخالق، وإنما كنت قديمًا ممن يحسن الظن بابن عربي، ويعظمه لما
رأيت في كتبه من الفوائد: مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكنة، والمحكم
المربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على
حقيقة مقصودة، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله
نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب
علينا، فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية
والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء وجب البيان، وكذلك كتب إلينا من أطراف
الشام رجال سالكون، أهل صدق وطلب، أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم،
والشيخ - أيده الله تعالى بنور قلبه، وذكاء نفسه، وحق قصده من نصحه للإسلام
وأهله ولإخوانه السالكين - يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه، ومغفرته
في الدنيا والآخرة.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الظاهر أن البدود جمع بد بالضم، وذكروا أن جمعه بددة وأبداد وبوت بالفارسية الصنم.
(2) كذا ولعل أصله الشريعة المحمدية.
(3) ومنه أثر عمر في الطاعون: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
(4) لعلها المغبهات فإنها أعم.(26/523)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشرق والغرب
رأي الشيخ محمد عبده أيام المجاورة بالأزهر
في المسألة الشرقية ودسائس أوربة في الشرق
قد أدرك الأستاذ الإمام في بدايته منذ كان مجاورًا في الأزهر من حقائق
السياسة ودسائس الإفرنج في بلادنا من طريق الدين والسياسة، وتفرق كلمتنا،
وتعصبنا الديني - ما لم يدركه بعد نصف قرن أو أكثر إلا الأفراد من المتمرسين
بالسياسة في الشرق، فقد كتب في آخر سنة 1293 هـ الموافق لآخر سنة 1876 م
مقالاً طويلاً في أعداد من السنة الأولى لجريدة الأهرام الأسبوعية، جاء فيه بعد
كلام في فضائل الأوربيين ومزاياهم ما نصه:
(إلا أن منهم من يتخذ هذه الفضائل اسمًا، ويتقلدها رسمًا، لتكون آلة
لأعمالهم، وسلمًا لسوء آمالهم، خصوصًا الملك الكبير ذا الأرض الواسعة،
والأقطار الشاسعة، الذي قد منح أهل مملكته تمام الحرية، حتى إنه لا يبيح لهم أن
تدرس العلوم الفلسفية في مدارسهم الرسمية، بل الأهلية، بل إن أراد أحدهم أن
يتبصر، اتخذ له كمينًا وتستر، وأولى أهل ملته من مقتضيات الحنو والشفقة، ما
تنفطر منه قلوب أهل الرأفة والرقة، خصوصًا أهل دينه الكاثوليك الذين مزقهم كل
ممزق، ونفى كثيرًا منهم إلى حيث لا يخاف ولا يفرق، وما ترك وسيلة إلى
الاسترقاق إلا أقامها، ولا ذريعة إلى استعباد غيره إلا قص قصصها، كيف لا وقد
تقلد رتبة البطركية التي هي مقدمة ركب الألوهية، فقام بمأموريته المقدسة ليؤدي
بعض ما أسسه، وكتبه على نفسه من القيام بحقوق الإنسانية والتهافت على تقويم
الحق على الوجه الأحق الأليق، فأوقد نيران الفتنة في بيوت أهل دينه الفقراء
المحتاجين إلى رعاية دولتهم؛ ليجردهم من ذل الشوكة والقوة، ويلبسهم عز الضعف
والمهنة، وينقذهم من ربقة الحرية التي قد نالوها حيث هم على حفظ عهودهم
عاكفون، وعلى إصلاح أحوالهم الداخلية متألبون، يتدللون على دولتهم تدلل
المعشوق على العاشق، وينالون منها ما ينال الولد من والده، أو الحبيب من محبه
الصادق، وليستخلصهم من كل ذلك إلى فضاء عدله الذي قد بسط غطاءه على
أنفاس أهل مملكته، وبحبوحة الحرية التي قد استعبد بها أبناء ملته، وقد صادقه
على ذلك جل الممالك القاسطة، لما لكل واحد منهم من ساقطة ينتظر بها الالتقاط،
وبذلك الملك المقدس في نيلها يكون الارتباط، وهم في ذلك ينادون ياللإنسانية،
وياللحقوق المدنية، وتترنم منهم الخطباء على منابر الظلم والإجحاف بتلاوة آيات
الإقلاع عن الإلحاد واقتناء شرف الإنصاف.
(وإني لست الآن معهم في ميدان المحاكمة حتى أنبئهم أنه قد فعل ذلك بأبناء
دينهم بل أبناء أوطانهم، وهم بمرأى من ذلك ومسمع، ما لا يصح في مثل هذه
الأيام أن يسمع، وقد سودت بذلك وجوه الصحف، ومع ذلك لم يتحرك فيهم عرق
الحماسة، ولا فتحوا في ذلك سجلات السياسة، وإن أمثال أولئك الكل لا يليق بهم
مع هذه الدعوى التي بها منعوا بيع الرقيق قضاءً لحق المساواة، أن يجعلوا تلك
الرأفة والرقة خاصة ببعض المقاطعات، أو منحصرة في جهة من الجهات، بل
كان من الواجب أن ينظروا من وراء حجاب إلى خيوه وخوقند، كما نظروا جهارًا
إلى الصرب والجبل الأسود، فإني لو تكلمت في هذا يطول، أو يجيبني مجيب
بأنهم إلى الآن لم يبلغوا حد الكمال، حتى يفعلوا أفعال الرجال، ولا يتحرشون
تحرش المغتال، وللإنسان كمال سوى ما هم فيه، وتلك التي تتوسم فيها العظم
مباديه.
ولكن أعجب لجعل المسألة شرقية وغربية، فإن العاقل يتفرس في ذلك
أسرارًا خفية، تنبئنا عنها التواريخ القديمة والحديثة، وتحكي ما كانت تفعله
القياصرة بالأكاسرة، والأكاسرة بالقياصرة، حيث كل من الشرقيين والغربيين -
مع سعة أوطانه - ينتهز الفرصة للوثوب على الآخر، فهذا حقد بالميراث جدير
بالاكتراث، إلا أنه لما جمعت الشوكة أسبابها وتوجهت نحو المغرب، وتركت
الشرقيين بحمى يثرب، قويت من الغربيين المهاجمة، وبطلت من الشرقيين آثار
رغبات عدو بلا معادي، ومبارز لا تصده الدواعي والعوادي، فخفي الأمر على
غير بصير، وذهب على غير خبير.
وما أوصل الشرقيين إلى هذا الحد سوى تفرق الآراء، واختلاف الأهواء،
حتى إن بعض الناس ممن لا يُبالى بهم، يتهللون بسوء أحوالهم، ويبتهجون إذا
بشروا بتسلط أعدائهم، وما ذاك إلا من تداني الهمم، وتراكم الظلم، والوقوع في
حفرة الحيوانية، والانحطاط عن درجة الإنسانية، حيث فقدت منهم الغيرة والحمية،
وذلك بدل أن ينبذوا في مثل هذه الأوقات جميع التعصبات الدينية، والاختلافات
المذهبية لحماية أوطانهم ووقايتها من وطأة أعدائهم، الذين لا يرومون من
الاستيلاء علينا معاشر الشرقيين إلا توسعة ممالكهم، والتمكن من استعبادنا بالدخول
تحت حوزتهم، لنكون لهم خزينة عند الافتقار، وترسًا يقون به أوطانهم ورجالهم
مما عسى يبرزه الاستقبال، وبعد ذلك يكون عارًا علينا أي عار، يذهب بهاؤكم،
يتشفى منكم عدوكم، وينهدم بناؤكم، وينقطع من العزة رجاؤكم، أنتم يا معشر
الشرقيين أبناء وطن واحد، تتشاركون في المنافع والمضار وسائر المقاصد، لا
يمس أحدكم خير إلا نال الآخر منه مثل ما نال صاحبه، ولا توجه إليه خير إلا
وهو إلى الآخر يتعاقبه، فما لهممكم تضاءلت، وخطباؤكم تمثلت.
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قَرَّ عينًا بالإياب المسافر
ولم تخاطبوا عدوكم من صميم فؤادكم ...
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... إليك ليوث الغاب من كل جانب
واذكروا إذ تسطر أحوالكم في صحف الرجال، ويستقبل بها ما يأتي من
الأجيال، فإن أنتم أبرزتم حميتكم، ورعيتم حق وطنكم الذي منه ابتدئتم، وفيه
سكنتم، ودافعتم عنه ببذل الأرواح فضلاً عن حسن المقال، وبالجملة سلكتم مسالك
الرجال لا تهوس الأطفال، فتلك مآثر إنسانية تنالون بها مجدكم وفخاركم، وتمتلكون
سعدكم، وحلية يختال فيها من تعقبونه بعدكم، وإلا فالعار والشنار لاحق بكم وليس
إلا أن يحثى تراب الذل في وجوه أعقابكم، وانظروا إلى أحوال سلفكم؛ لتكون
مرآة لأحوالكم، فإن قال قائل:
إن الديانات ألقت بيننا إحنًا ... وأودعتنا أفانين العداوات
فكل واحد منا يتوقد من صاحبه؛ لمخالفته له في مذهبه، ومناوأته إياه في
مشربه، فكيف تميل تلك القلوب لرفع الشقاق، وجمع كلمة الاتفاق، والتخلص من
خسة النفاق؟ فنجيبه: إن مثلنا في ذلك مثل أخوين تولدا من بطن واحد وأصل
واحد، قد يقع بينهما بعض المنازعات المنزلية والمناوشات المعاشية، فيأخذ كلاًّ
منهم ما شاء من الغيرة والحمية، ويكاد أن يفتك كل بالآخر، ومع كل ذلك إنهما
عند اقتراح أجنبي على أحدهما يقوم الآخر بنصرته، ولا يحجم عن رد تبعته،
فتلك العداوات الجزئية لا يصح لدى العاقل أن تضر بمصالحنا الكلية، وعلى
فرض أن لو عدت تلك المزاحمات شيئًا يذكر، وأمرًا يصح إليه النظر، فما أشنع
حال من ينتقم بيد الغير، ويلحق نفسه وعقبه عار السفاهة والضير، أين أنتم من
(تيمستكليس) اليوناني الذي بعدما صنع المكايد مع (دارا) وهزمه، وجاهد ما
جاهد في حماية وطنه، أقصاه اليونانيون وطردوه، وأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه،
فالتجأ إلى (دارا) يستنجده مما اعتراه، فأعظم منزلته، وأكرم مثواه، ثم إن
(دارا) طلب منه أن يحشد جيشًا على اليونانيين، فقال: وجهني إلى أي مكان
قاصٍ أو دانٍ سوى بلاد اليونان، فإنها وطني ومقر تربيتي، لا ترضى همتي
بأن أقدمها لغير أمتي، وإنه وإن كان أهل اليونان طردوني، ولكن تراب اليونان ما
صنع معي قبيحًا، فلما أغلظ عليه (دارا) في الطلب نادته هواتف الإنسانية إن
ذلك من الموت أصعب، فاختار الموت على الحياة، وتناول السم ومات. ألا
فانتبهوا من سنة الغفلة، واتخذوا لكم من الإنسانية ظلة، ومن الفضائل خلة
واحذروا، وبالحمية الوطنية اتقوا واعتصموا. اهـ.
(المنار)
ليتأمل القراء وخاصة أهل سورية ولبنان آراء هذا الرجل التي كتبها منذ
ستين سنة وهو مجاور الأزهر، يجدها عين ما انتهى إليه بحث المحققين من
عقلاء الشرقيين بعد مكابدة الأحداث واختبار أوربة، ولا يزال الكثيرون من أهل
بلادنا مخدوعين وراضين بأن يكونوا آلات بأيدي الأجانب.
__________(26/536)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العالم الإسلامي
الدعوة الرسمية إلى مؤتمر الحجاز
قد جدد السلطان عبد العزيز آل سعود الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة،
ولكن بصورة رسمية لا في الجرائد كما فعل أول مرة، فأرسل مكتوبات باسمه
مختومة بختمه إلى الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات الإسلامية: كمصر وإيران
والترك والأفغان واليمن وتونس، وإلى أشهر الجماعات العلمية الإسلامية في الهند
وسورية وفلسطين، وعبارة هذه المكتوبات واحدة لا فرق فيها إلا عناوين المرسلة
إليهم، وإننا ننشر نص ما أرسله إلى إمام اليمن تخطئة للمقطم الذي زعم -
تأييدًا لهواه - أن هذه الدعوة لم ترسل إليه، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلطنة النجدية وملحقاتها
مكة المكرمة 8 ربيع الآخر سنة 1344 هجرية عدد 221
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة الحسيب
النسيب الأخ المكرم الإمام يحيى حميد الدين حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإننا نرجو لكم ولشعبكم النبيل كل
خير وسعادة ويمن وتقدم، وإني لسعيد أن أمد يدي ليدكم الكريمة بالتعاون على
خدمة الإسلام والمسلمين والبلاد الطاهرة، وإني مملوء ثقة أنه بتعاوننا على الخير
سيكون السبيل السعيد لجميع الشعوب الإسلامية.
يا صاحب الشهامة إني لست من المحبين للحرب وشرورها، وليس لدي
شيء أحب من السلم والسكون والصفاء والهناء والتفرغ للإصلاح، ولكن جيراننا
الأشراف أجبروني على امتشاق الحسام، وخوض غمرات الحرب خمس عشرة
سنة لا في سبيل شيء سوى الطمع على ما بأيدينا، لقد صدونا عن سبيل الله
والمسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، ودنسوا البيت الطاهر
بكل نوع من الموبقات مما لا يتحمله مسلم.
لقد رفعنا علم الجهاد؛ لتطهير بلد الله الحرام وسائر بلاد الله المقدسة [1] من
هذه العائلة التي لم تترك سبيلاً لحسن التفاهم وحسن النية، ولما اقترفت من
الشرور والآثام، وإني - والذي نفسي بيده - لم أرد التسلط على الحجاز ولا تملكه،
وإنما الحجاز وديعة في يدي إلى الوقت الذي يختار الحجازيون لبلادهم واليًا منهم
يكون خاضعًا للعالم الإسلامي، وتحت إشراف الأمم الإسلامية، والشعوب التي
أبدت غيرة تذكر كالهنود.
إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي، التي لا نزال نحارب من أجلها
مجملة فيما يلي:
(1) إن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم، وللعالم الإسلامي من جهة
الحقوق التي لهم في هذه البلاد.
(2) سنجري الاستفتاء التام لاختيار حاكم الحجاز تحت إشراف مندوبي
العالم الإسلامي، ويحدد الوقت اللازم لذلك فيما بعد، وسنسلم الوديعة التي بأيدينا
لهذا الحاكم على الأسس الآتية:
(1) يجب أن يكون السلطان الأول، والمرجع للناس كافة هو الشريعة
الإسلامية المطهرة.
(2) حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها، ولكن لا يصح لها
أن تعلن الحرب على أحد، ويجب أن يوضع لها النظام الذي لا يمكنها من ذلك إذا
أرادت.
(3) لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أية دولة كانت.
(4) لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات اقتصادية مع دولة غير إسلامية.
(5) تحديد الحدود الحجازية، ووضع النظم المالية والقضائية والإدارية
للحجاز موكول للمندوبين المختارين من الأمم الإسلامية، وسيحدد عددهم باعتبار
المركز الذي تشغله كل دولة في العالم الإسلامي والعربي، وسيضم لهؤلاء ثلاثة
مندوبين من جمعية الخلافة وجماعة أهل الحديث وجمعية العلماء في الهند.
هذا ما نويناه لهذه البلاد، وما سنسير عليه في المستقبل إن شاء الله تعالى،
وإنا لنا الأمل العظيم في أن تسرعوا في إرسال مندوبيكم، وإخبارنا عن الوقت
المناسب لعقد هذا المؤتمر، هذا ما لزم بيانه، وفي الختام تقبلوا ما يليق من
التحيات والاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ختم السلطان)
***
خطبة الحكيم محمد أجمل خان في الهند
فيما استفاده في رحلته الأخيرة
قالت جريدة الخلافة الهندية الغراء:
(انعقد في عاصمة الهند (دهلي) اجتماع عظيم حضره آلاف مؤلفة من
علية القوم، وأهل العلم والفضل من الزعماء والرؤساء وقواد الأمة وساستها
ورجال الأمة ومديري شؤونها، لسماع كلمات الزعيم الجليل مسيح الملك الحكيم
محمد أجمل خان بعد عودته من سياحته التي استغرقت ستة أشهر كاملة) .
وهذه ترجمة ما ألقاه عليهم:
(قال) : إنني بعد أن قضيت عدة أشهر ستة في زيارة بلاد العرب، ومعظم
الممالك الشرقية، عدت الآن بفضله تعالى إلى وطني ووطنكم المقدس.
إن قلبي لمفعم بما رأيته أثناء رحلتي في بلاد تتطلعون دائمًا إلى معرفة
شؤونها، والإحاطة بأفكار أبنائها، وآراء زعمائها السياسيين، ورؤسائها الدينيين،
وما يتكنفهم من الأحوال والأهوال، وما هم عليه من الرقي والانحطاط، ولكن
ضيق الوقت يحملني على طرق باب الاختصار، فأكتفي ببيان استنتاجي مما
سمعته ورأيته في رحلتي هذه، وأما تفصيل الرحلة بأكملها فيذهب بأوقاتنا العزيزة
سدىً، ونحن أحوج الناس إلى الوقت لتصريف أمورنا.
زرت كثيرًا من الممالك الغربية، وألممت بأفكار عربية، ثم عدت إلى البلاد
الشرقية المحبوبة كالشام ومصر وفلسطين وغيرها، قابلت أبناء هذه البلاد
واختلطت بهم، ومكثت بين ظهرانيهم مدة نتبادل الآراء والأفكار، متجاذبين
أطراف الأحاديث في مختلف الشؤون، فإذا روح النهضة القومية منتشرة فيهم،
وإذا الشعوب الشرقية المهضومة يكادون يعرفون ما لهم وما عليهم من الحقوق
والواجبات، وإن في العالم الإسلامي اليوم حركة عظيمة جدية، تنبئ بتحقيق
النتيجة المنشودة، وتخليص الشرق يومًا من الأيام من براثن الغرب، فتنال كل
مملكة من ممالكه، وكل شعب من شعوبه حريته، ويسترد استقلاله، ولكن أيها
السادة لا يمكنني تحديد ذلك اليوم المنشود، وإنما هو موقوف على مجهوداتكم
الصادقة، وتضحياتكم واستهدافكم لأشد مما ذقتموه من العذاب والآلام في هذه
السبيل، والله يحرسكم بعين عنايته إذا أخلصتم النية وصدقتم العزيمة.
أيها السادة: إني رأيت ولاحظت في رحلتي هذه -ويالهول ما شهدت ورأيت-
رأيت منظرًا مريعًا، ومشهدًا فظيعًا، وسيشاركني كل ذي غيرة على قومه ودينه
في الأسف على هذا المصاب الأليم، مصاب الطبقة المتعلمة، رجال المستقبل
المعقودة عليهم آمالنا والذين سينوبون عنا في الجهاد الديني والوطني، وسيتولون
قيادة شعوبهم وصون كرامتهم وحفظ كيانهم، هذه الطبقة أخذت تنبذ الدين وراء
ظهرها، وتترك صراط الله العزيز الحميد، أخذت تنحو نحو اللادينيين، وتميل إلى
التفرنج أكثر مما تميل إلى عوائد قومهم واتباع سنن من قبلهم، فإذا استمر أفراد هذه
الطبقة على هذه الحالة، وتمادوا في تجرع كأس اللادينية وإساغته، فعلى الوطن
والوطنية والدين والمستقبل السلام. فويل للأمة، ثم ويل لها إذا تركت أبناءها في
ظلمات الجهل بالدين وديجور الإلحاد. فالدين هو أمضى سلاح في يد الشعوب
والأمم، يمكنهم أن يشقوا به غمام الظلم، ويثلوا به عرش الاستبداد والاستعباد، ومن
الأسف الشديد أن هذه الحالة أخذت تنمو بسرعة شديدة في شبان الترك ومصر
ومتعلمي البلاد العربية، وإبادة هذه الجرثومة القتالة في جسم الشرق المحبوب هينة في المبدأ، ففرض علينا منع تيارها الجارف، ويجب أن نقيم أمامه سدًّا منيعًا
من التعليم الديني الحقيقي حتى لا ترتفع رايتها السوداء فتكتسح البقية الباقية.
إن مسلمي العالم الإسلامي يكادون يكونون كتلة واحدة، وتتحد كلمتهم في
مسألة الخلافة وضرورة مقامها؛ لإصلاح أمورهم الدينية والسياسية، وخير وسيلة
لديهم لنيل مطلوبهم هذا انعقاد مؤتمر إسلامي عام، يجمع مندوبي العالم الإسلامي،
فيبحثون فيما ينفعهم وما يضرهم، ويمهدون طريق سعادتهم الدنيوية والأخروية،
إن أكثر الشعوب الإسلامية يرجحون عقد هذا المؤتمر في مكة المكرمة، وإن
خالفهم بعض آخر في رأيهم هذا.
ومما اطلعت عليه أثناء رحلتي أن الشعوب الإسلامية تعترف بما للهند من
الخدمات البريئة عن الهوى، وتمتاز الأمة المسلمة الهندية في هذا الميدان بنزاهة
أفرادها في الأغراض، وبراءة مجهوداتهم من المقاصد الخبيثة الذاتية، وأيضًا بما
يتحملونه من أنواع المصائب وصنوف التضحية، وبذل النفس والنفيس في سبيل
الإصلاح.
فقد سمعتم الآن أيها السادة أخباركم وسيرتكم من أفواه إخوانكم الشرقيين
إخوانكم في الدين والوطن، الآن علمتم فيمكنكم تقدير أعمالكم، يمكنكم بكل سهولة
أن تستنبطوا منها أن صدوركم الواجفة بأنواع العذاب وضروب الآلام، وأن أيديكم
البيضاء وغيرتكم الشماء على الدين والوطن، ومساعدتكم لإخوانكم، كل هذه قد
أنتجت ثمرة، وستجنون ثمرها بقلب مطمئن وإيمان ثابت، والفضل في ذلك يرجع
إلى التفافكم حول جمعية الخلافة التي لا تألو جهدًا في الوصول إلى نيل مقاصدها
الشريفة، وحقوقها الشرعية، وكفانا برهانًا على خدمات هذه الجمعية، واعتراف
الشعوب الإسلامية بخدماتها العظيمة، أنهم بدؤوا يقتفون أثر مناهجها، ويختارون
مبادئها، ويترسمون خطاها.
أيها السادة:
إننا لا يمكننا يومًا من الأيام التخلص من براثن أعدائنا، أعداء ديننا ووطننا،
أعداء الإنسانية الحرة، أنصار الظلم والاستبداد، أنصار الاستعباد والاستعمار، إلا
إذا أصلحنا حال تعليم أبنائنا وربيناهم تربية صحيحة، وجعلنا محور التربية التعليم
الديني، فإذا هم عرفوا الدين الحقيقي عرفوا الوطن وحقوقه وواجباته، فاسترخصوا
كل تضحية دونه، وصانوا عرضه، وحفظوا بيضته، وإني ليسرني جدًّا أن هذه
الفكرة سائدة في جميع الممالك الإسلامية، إلا أن التنفيذ لا يزال في حيز العدم)
ثم ختم الخطيب كلامه بالثناء على الجامعة الملية الكبرى في دهلي وعلى
أساتذتها، وبالدعاء بالنجاح والفلاح.
***
خطبتان لعالم سوري في الهند
أرسل إلينا صديقنا ووطنينا الأستاذ الفاضل الشيخ محمد عارف سلهب
الطرابلسي هاتين الخطبتين اللتين ألقاهما في عليكره بالهند؛ فننشرهما إجابة لطلبه.
***
الخطبة الأولى - ألقاها بعد قصة المولد
أيها الإخوان:
سعادة الدارين تكون بامتثال الأوامر الإلهية، وبحسن إيفاء الوظائف
الاجتماعية، وتقديم المنافع العمومية على المنافع الذاتية، وبإنشاء المستشفيات
والمدارس العلمية، وببث النصائح والحكم، وببيان أسباب تقدم الأمم، وبالاحتراز
والتوقي مما يعوق التقدم والترقي، فالعلوم الرياضية وعلم الكيمياء والحكمة
الطبيعية لا تخالف الحقائق الدينية، بل لها نفع عظيم في الاطلاع على الحقائق
العلوية والأسرار الربانية، فإن الديانة الإسلامية كافلة لأنواع الاحتياجات
البشرية، ومتكفلة ببقاء انتظام الهيئة الاجتماعية، وقد جاءت بالمصالح الدنيوية
والأخروية، فمن تمسك بها نال السعادة العظمى، والشرف الأسمى.
أيها الإخوان:
من أراد سعادة الدارين فليتق الله فيما أمر، ولينته عما نهى عنه وزجر،
وليشمر عن ساعد الجد والاجتهاد لنشر العلوم وإسعاد العباد، فيا سعادة من استعمر
الأرض، وقام بالواجب والفرض، ونال حياة طيبة وشكر مولاه على ما أولاه،
وجعل دنياه مزرعة لعقباه، ويا خسارة من كانت بضاعته كاسدة، وأخلاقه فاسدة،
محرومًا من النعم الوافرة الفاخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
جاء في الرواية عن الإمام زوج البتول، وابن عم الرسول، باب مدينة العلم
والمواهب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وكرم الله
وجهه - أنه قال: الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر. يعني أن الدعاء بلا سعي
ولا اجتهاد لا ينفع العباد، وجاء في الحديث الشريف عن النبي ذي القدر
المنيف، صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، أنه قال: (خيركم من لم يترك
آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته) [2] يعني: لا ينبغي ترك الآخرة لأجل الدنيا، ولا
ترك الدنيا لأجل الآخرة، بل يلزم السعي للدنيا وللآخرة. وقال الله تعالى في كتابه
المكنون: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) أي،
ليعرفوني فيمتثلوا أوامري، يعنى ما خلق الله الجن والإنس إلا لإيفاء
الوظائف الاجتماعية والدينية.
***
الخطبة الثانية
قال بعد الحمدلة: أيها الإخوان:
إن الله جلت حكمته، وعلت قدرته، أمر برفع أعلام التمدن [3] في أقطار
الأرض في طولها والعرض، فمن حسنت ديانته، طابت مدنيته، التدين هو عين
التمدن، كل شخص متدين فهو متمدن، وبالحض على التعاون الاجتماعي وبذل
الهمم والمساعي جاءت الأحاديث النبوية، والآيات الجليلة القرآنية، لا سيما
احترام العلوم النافعة، والمعارف الجليلة الرافعة، قال عليه الصلاة والسلام:
(ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: ما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس
العلم) ، وقال عليه السلام: (إذا لقيتم شجرة من أشجار الجنة فاقعدوا في ظلالها
وكلوا من ثمارها، قالوا: وكيف يمكن هذا في دار دنيانا يا رسول الله؟ فقال عليه
الصلاة والسلام: إذا لقيتم صاحب العلم فكأنما لقيتم شجرة من أشجار
الجنة) [4] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها
أخذها) [5] المراد من الحكمة كل علم مفيد، وكل صنعة مفيدة.
فالمدنية الإسلامية استنادها على العلوم النافعة، والأعمال الجليلة الرافعة،
ومدارها على التقوى وعلى اكتساب الكمالات والتزين بالصفات العاليات، فهي درة
تاج المدنيات، قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ
أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: 97) الحياة الطيبة، وما أدراكم
ما الحياة الطيبة؟ هي المعيشة في المدنية، بحالة مرضية، طوبى لمن كانت نعم الله عليهم وافرة، وديارهم بالعلوم والآثار النفيسة عامرة، طوبى لمن كانت
مساعيهم عند الهيئة الاجتماعية مشكورة، وسيرهم الحسنة في صحف التاريخ
مسطورة ...
__________
(1) وفي بعض المكتوبات البقاع المقدسة.
(2) المنار: تتمته (ولم يكن كلاًّ على الناس) رواه الخطيب من حديث أنس وأشار في الجامع الصغير إلى صحته، وقال ابن الجوزي لا يصح في إسناده نعيم بن سالم، قال ابن حبان كان يضع الحديث
اهـ والمشهور أنه ضعيف متروك ورواه ابن عساكر عنه بلفظ (ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعًا، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة، ولا تكونوا كلاًّ على الناس) ، أشار السيوطي في الجامع الصغير إلى ضعفه، ولكن الشيخ محمد الحوت قال في كتاب ضعاف الجامع: إن المصنف سكت عليه.
(3) المنار: أراد بالتمدن فيما يظهر الحضارة الإسلامية التي يصفها بعد بقوله (فالمدنية) .
(4) لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في شيء من دواوين السنة ولا غيرها، والذي نعرفه من رواية الحديث (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا) ، ولما سألوه عنها قال: (حلق الذكر) رواه أحمد
والترمذي عن أنس بسند حسن، وقال السيوطي: صحيح، وعند الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: (المساجد) ، وقال: إنه حديث غريب، وعند البيهقي عن ابن عباس أنه قال: (مجالس العلم) وفي سنده رجل لم يسم.
(5) رواه الترمذي عن أبي هريرة بلفظ: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) .(26/540)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اللادينيون في تونس ومصر
وكتاب علي عبد الرازق
ما فتئت جريدة السياسة مصرة على ضلالها في التنويه بهذا الكتاب والثناء
عليه وعلى مؤلفه، فذكرت أخيرًا أنها جاءها من مراسلها الخاص بتونس أنه كان
للضجة التي قامت حولهما بمصر رنة استياء بين طبقات الأحرار والأدباء
والمفكرين (أي: اللادينيين) ، وكذلك كان لموقف حزب الأحرار الدستوريين
وجريدة (السياسة) الذي وقفاه انتصارًا لحرية الرأي وحرية النقد العلمي النزيه أثر
حسن ووقع جميل لدى الطبقات التي عدته تسلية عما أصاب الإسلام خاصة والشرق
عامة من آثار الموقف الأول المحزن، وعما يلحق الدين القيم دين التسامح من هذه
النظرة الخاطئة التي سينظر إليه بها الغرب بعد تلك الضجة.
(قال المراسل) : لكن بعض الجامدين من علماء وطلبة جامع الزيتونة،
ومن الذين يتبعون خطة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) قد نظروا
إلى المسألة من وجه آخر، واستصوبوا خطة زملائهم الأزهريين، وكان كتاب
(الإسلام وأصول الحكم) حديث نواديهم طول هذه المدة، بل إن بعضهم قد عزم على
الكتابة في الموضوع، وكان أول من بدأ منهم الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
كبير علماء المالكية ورئيس مجلسهم الشرعي (محكمة الاستئناف الشرعية) ، فنشر
سلسلة مقالات في جريدة (النهضة) اليومية، لم تتم إلى اليوم، رد فيها ردًّا مطولاً
على تفصيلات ما جاء في الكتاب، وستنشر (النهضة) - على ما اتصل بي من
بعض محرريها - سلسلة مقالات أخرى بهذا المعنى للأستاذ الشيخ محمد بن
يوسف وكيل المجلس الشرعي الحنفي ووكيل كبير علماء الحنفية أيضًا.
وقد نشرت جريدة (الصواب) في أحد أعدادها كلمة ننقلها لقراء (السياسة)
لأنها تعبر عن الرأي المستنير (؟) في قضية هذا الكتاب. قالت الرصيفة:
برز أخيرًا بمصر كتاب ألفه أحد علماء الدين وسماه (الإسلام وأصول الحكم) .
بحث فيه صاحبه بحثًا فلسلفيًّا، ونظر لما بين يديه من الحجج فاستخدمها
بحرية وصراحة تامة، وقد تعرض فيما حبر إلى مسألة الخلافة، وصرح بأنها
ليست من الدين في شيء، فقامت قيامة رجال الأزهر، وحاكمت مشيخة هذا المعهد
الديني الشيخ المذكور، وبعد مرافعات ومناضلات جردته من رتبته العلمية ورفتته
من كافة الوظائف التي كان يشغلها بدعوى أنه مرق من الدين، ولم يقولوا في حقه
حسب العادة: إنه اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) . ا. هـ
هذا وقد منيت مصر بكثير من الحوادث على شاكلة كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) وظهرت فيها أفكار شتى من هذا القبيل، وناهيك بما وقع للشيخ محمد
عبده - رحمه الله - وما اتهم به من مخالفة روح الدين الإسلامي بمناسبة فتوى
البرنيطة (القبعة) والتذكية بالبلط وشركة جرشام الإنكليزية لتأمين الحياة،
ومسألة حمل المطلق على المقيد في آيات الربا، ومع ذلك فقد اقتصر المعترضون
على نقد ما قيل، وتتبعه بالرد إن مخطئًا وإن مصيبًا.
وعلى هذا يظهر أن مصر قد سارت إلى الوراء ليس في الحرية السياسية فقط
بل حتى في حرية القول في الشؤون الدينية التي هي ملك مشاع بين المسلمين،
بشرط أن يكون ذلك ضمن دائرة المعقول، وبمقتضى منطوق ومفهوم النصوص
الواردة على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه.
أما سر هذه المصاولة والمقاومة العنيفة والتحامل من مشايخ الأزهر على ما
يشاع، فإنما هو نيل رضا نواح معينة ذات مطامع في تَبْويء منصب الخلافة.
وسواء كان ذلك حقيقة لا ريب فيها أو هو من باب اللغط والإرجاف الذي كان
وما زال شنشنة العامة والبسطاء، فالذي يسوؤنا في هذه الحادثة بنوع خاص إنما
هو تدخل أحد أعيان علمائنا في الأمر ووقوفه موقف الخصم العنود لهذا الشيخ الذي
أراد - وإن أخطأ - خدمة الإسلام، وتخليصه من وصمات طالما ألصقها به
الغربيون، ولله في خلقه شؤون) اهـ.
(المنار)
إن لجريدة السياسة غرضين في الانتصار لهذا الكتاب وصاحبه:
(أحدهما) : سياسي، وهو ما أشار إليه مراسلها بتونس - الناطق بلسانها -
في طعنه بإخلاص علماء مصر، وتعريضه بذلك المقام العالي، وهو ما يتجنب
المنار الخوض فيه.
(وثانيهما) : ديني اجتماعي، وهو أنها لسان حال اللادينيين في مصر،
وأكبر مفاسد هذا الكتاب أنه يحاول هدم الشريعة الإسلامية من طريق الدين
الإسلامي، فهي لهذا تنصره ولم تجد من مخازيه أهون من مسألة الخلافة، فجعلت
جل خوضها فيها. وجميع اللادينيين في مصر وتونس على رأي أمثالهم من الترك
يرون أن الخلافة سياج للشريعة مهما يكن حال المتولي لأمرها، فلا يسهل هدم
الإسلام مع وجودها ولو بصفة ضعيفة.
ونرى مراسل هذه الجريدة قد شايعها على المغالطة في التحزب له بدعوى
المدافعة عن حرية الرأي، فزعم أن مصر رجعت فيها القهقرى، والصواب أنها
زادت فيها قوة بل غلوًّا، فجريدة السياسة طعنت في الدين وفي كبار علماء الإسلام،
ولم ينلها عقاب ولا حجز.
وقد أخطأ المراسل في تسمية الطعن في الدين، وإنكار المجمع عليه من
أحكامه وأصوله - اجتهادًا فيه، وتبع في هذا جريدة الصواب، وكان كل منهما أفضل
من جريدة السياسة باعترافهما أن صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أخطأ في
اجتهاده، ولكن ما ذكره المراسل من شروط حرية الرأي في الإسلام ينافي كون
الرجل اجتهد فأخطأ؛ لأنه خالف النصوص القطعية والإجماع الصحيح والمعقول،
ولم يدفع شيئًا من شبه أعداء الإسلام عنه، بل كان طعنه فيه أقبح من طعنهم،
ولذلك أثنوا عليه ونوهوا به.
ومن أغرب ما تجرأ عليه هؤلاء اللادينيون بمصر وقلدهم فيه مراسل
جريدتهم في تونس _ تشبيه شر الجناة على الإسلام بخير أنصاره في هذا العصر
الأستاذ الإمام قدس الله روحه، ولم يخجلوا من جعل أنفسهم أولى بالأستاذ الإمام من
أشهر مريديه وأنصاره بمصر وتونس، حتى في المسألة التي ذكروا إنكار بعض
الحامدين على الإمام فيها، وهي الفتوى في ذبائح أهل الكتاب ولبس البرنيطة -
فكما أن صاحب المنار كان أول مريدي الأستاذ الإمام الذين قاموا بنصره وتأييد
فتواه في مصر - كذلك كان العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، فقد
كتب في ذلك رسالة نفيسة أرسلها إِلَيَّ في وقتها، ونوهت بها ولا تزال عندي بخطه.
ولا يخجل اللادينيون اليوم من جعل مراسل السياسة المجهول وصاحب جريدة
الصواب بتونس أولى بالأستاذ الإمام من صاحب المنار ومن العلامة المذكور
والعلامة الشيخ محمد يوسف، وهما أشهر علماء المالكية والحنفية العارفين بحال
العصر، القادرين على خدمة الإسلام في تونس، فإذا كان هذان الأستاذان العصريان
يطعنان في كتاب الشيخ علي عبد الرازق فما القول في سائر علماء تونس الجامدين
المتعصبين لكل ما في كتب الفقه والكلام، ورد كل ما خالف فقهاء مذاهبهم من غير
نظر في الأدلة.
وكأني بجريدة السياسة تقرن بهما قرينهما في العلم والفضل ومعرفة شؤون
العصر العلامة الشيخ محمد الخضر بن الحسين نزيل مصر؛ لأنه ألف كتابًا من
أنفس الكتب في إظهار جهل الشيخ علي عبد الرازق بالإسلام وجنايته عليه، سماه
(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) .
فليهنأ الشيخ علي عبد الرازق وجريدة السياسة بانتصار جريدة الصواب لهما
على هؤلاء العلماء الأعلام، وهي كأمثالها من الجرائد الأسبوعية في مصر ليست
مما يعتد بفهمها ورأيها في مثل هذا الكتاب، ولعل صاحبها لو قرأه لما اغتر بخلابة
ألفاظه وشعريَّاته، ولعلم أنه جان على الإسلام متعمد للتنفير عنه لا مخطئ في
اجتهاده مع إرادته تخليصه مما ألصقه به الغربيون من الوصمات، والظاهر لنا أنه
اغتر بكلام جريدة السياسة فكتب ما كتب، ولكنه على عدم قراءته للكتاب لم يتهور
كما تهورت جريدة السياسة، فكانت جريدته أرقى منها.
__________(26/548)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفسير المنار
تقريظ للأستاذ الفاضل الشيخ محمد أحمد العدوي من علماء الأزهر
تفسير المنار فيما أعلم هو أمثل تفسير يتناسب مع روح العصر الحاضر:
يتجلى فيه للقارئ عظمة التشريع الإسلامي بأسلوب جذاب، يفيض على قارئه
هداية، ويبعث فيه روح الحياة العملية، ويعده لأن يكون عالمًا دينيًّا، وباحثًا
اجتماعيًّا، وأستاذًا أخلاقيًّا، يريه أسباب تفرق الأئمة، ثم يعرفه كيف يجتمع شملها،
ويبين له ما أدخله أعداء الدين عليه من البدع والمحدثات، ثم يرسم له طريق
تطهيره منها.
زد على ذلك ما يصدر به الآية من عقد صلة بينها وبين ما سبقها من الآيات،
وبحث مستفيض في بيان لغة الآية واشتقاق كلماتها، ناقلاً له عن مصادر اللغة
الموثوق بها.
إذا تكلم على آية من آي الأحكام استوفى ما يتعلق بها من أصول، وما يرتبط
بها من آيات وآثار، ويوفق بينها وبين ما عساه أن يتعارض معها من أدلة، ثم
يتكلم على مآخذ الفقهاء بقلم ممتع، ويتخلص منها بما يتفق والآيات الواردة في
موضوعها وترضاه السنة الصحيحة، ويتناسب مع سوقها العربي.
وإذا تعرض لآية من آيات الاجتماع وجدته أعجب وأغرب، تراه قد بنى
فلسفته على سنة الله في الكون، ونواميسه في الخليقة، ونظامه في الأمم والشعوب،
فيصدقه في نظرياته، ويسلمه من العطب في منطقه شأن كل كاتب يعول على
أساس صحيح وحجة ناهضة.
وإذا مرت به آية من آيات الأصول والعقائد بينها على وجه يؤيده سلف الأمة
الصالح، والدليل الراجح، وتشهد له القرون الأولى، ووقف عند ما رسمه الله له،
فلا يخوض في أمور غيبية إلا بإذن من الله تعالى، ويرى في ذلك السلامة للدين،
والبعد عن مواطن الشبه.
وإذا تكلم في تاريخ الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم، وما كان من قومهم
معهم أبان للقارئ أن سنة الله تعالى مع كل من عصاه أن يصب عليه سوط غضبه،
ويحل به عاقبة انتقامه، وسنة من أطاع ربه ونصر داعيه أن يستخلفه في أرضه،
ويبدل ضعفه قوة، وذله عزًّا.
وإذا كتب في آية من آيات الأخلاق ترى منه الوجدان الصادق والناقد البصير،
يرغب في الفضيلة، وينفر من الرذيلة، يوازن بين الخُلق الإسلامي والخُلق
العصري (الغربي) بما لا يدع للشك مجالاً، وللريبة موضعًا، ويُرِي القارئ أن
الخُلق الصحيح إنما هو الخُلق الإسلامي الذي أتى به القرآن الكريم، وبينه الرسول
الصادق صلى الله عليه وسلم. ولعل القارئ لو قرأ كما قرأت، لوجد من مزاياه
أكثر مما وجدت.
وحسبه إنه على طريقة شيخه الأستاذ الإمام في التفسير الذي كان يلقيه على
تلاميذه بالأزهر، جزاه الله وجزى تلميذه عن الدين خير الجزاء.
__________(26/552)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
القضايا الدينية في المحاكم
ونتائج الحرية
إن ما أحدث في مصر منذ عهد إسماعيل باشا من الحرية في الاعتقاد والقول
والعمل قد كان سببًا لمفاسد كثيرة ومصالح قليلة، استباح الكثيرون به الفسق
والفجور، وراجت أسواق البدع، وتجرأ المنافقون على إظهار الكفر والطعن في
الدين، وجبن علماء الدين وقبعوا في كسور بيوتهم وزوايا مدارسهم ومساجدهم، فلم
يبرزوا للإنكار على الفاسقين، ولا لنضال المرتدين؛ لأن الحرية ومخازيها جاءت
من قبل الأمراء والحكام، وقد كان أول صوت سمع في الإنكار على مفاسد الحرية
التي يجب أن تتقى، وفي بيان منافعها التي يجب أن تجتنى، شيخنا الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده في إثر توليته إدارة المطبوعات ورياسة تحرير جريدة الحكومة
الرسمية (الوقائع المصرية) إذ دخلت البلاد في عصر جديد من الإصلاح في أول
عهد إمارة توفيق باشا بتولي رجل مصر الأكبر مصطفى باشا رياض للوزارة، كان
الأستاذ الإمام وإخوانه ومريدوه خطباء منبره، وفرسان حلبته، حتى إذا قضت
الثورة العرابية على ذلك العهد المسعود، وانتهت بالاحتلال البريطاني المنحوس،
وصلت حرية الفساد والشر إلى آخر حدود الإسراف، ولم تكن حرية الصلاح
والإصلاح محظورة، ولكن الاستبداد السابق، والفساد اللاحق، أضعفا الاستعداد،
وقَلَّلا أهل الرشاد والإرشاد، حتى إذا ما انتهت مدة نفي الأستاذ الإمام وعاد إلى
مصر، طفق يطرق أبواب الإصلاح في جميع المصالح الرسمية وغير الرسمية،
فلم يجد على شيء منها أعوانًا حتى قال لي: إن هذه الحرية المطلقة للأمة (دون
الحكومة) في القول والعمل الشخصي والاجتماعي كانت كافية لإصلاح البلاد
والنهوض بها إلى ذروة الفلاح والاستقلال، لولا فساد الأخلاق الذي بذرت بذوره
في عهد إسماعيل باشا.
ولما شرعنا في الإصلاح الديني والاجتماعي بإنشاء المنار وجدنا من كثير من
العلماء الجامدين وشيوخ الطريق الخرافيين، مقاومة عنيفة، ودسائس كثيرة،
ومن أمير البلاد وأحزابه تحريضًا شديدًا، سببه تنويه المنار بالأستاذ الإمام، وثناؤه
عليه ودفاعه عنه. ولكن لم تستطع تلك الدسائس والتحريضات أن تسكت المنار،
ولا أن تقطع عليه طريق الإصلاح، فانتشرت الدعوة حتى في الأزهر بالرغم من
عصبية العلماء الجامدين، أعداء أنفسهم، وأعداء الكتاب والسنة، الذين يعذرون
أنفسهم بالمحافظة على فقه الأئمة، وهم لم يستطيعوا بهذا الفقه الذي لا يعرفون منه
إلا أماني من كتب المتأخرين والمقلدين أن يدفعوا عن الإسلام شبهة، ولا أن يميتوا
به بدعة، ولا أن يحيوا به سنة، ولا أن يحيوه هو أيضًا، فهو يموت بين أيديهم
وأيدي حكامهم، فيدفنونه ويهيلون عليه تراب القوانين وآخرها قانون الأحكام
الشخصية الذي ساعد الحكومة عليه بعضهم وسكت الباقون، بل لم يمنعهم من نصر
البدع والطعن في دين المنكرين على أهلها ونبزهم بالألقاب، ثم السعي لحكم الحاكم
عليهم إما بالعقاب وإما بالكفر، وما يترتب على الردة من الأحكام كالتفريق بين
المرء وزوجه.
وقد رفعت عدة قضايا للمحاكم الشرعية والأهلية في قضايا تتعلق بالردة عن
الإسلام، وبمخالفة تعاليمه وإهانة شعائره بعضها حق وبعضها باطل (أهمها)
قضية رجل انتحل دين البابية البهائية، وزعم أنه لا ينافي الإسلام، فحكمت
المحاكم الشرعية ابتداءً واستئنافًا بردته، والتفريق بينه وبين امرأته. وحكمها هذا
حق ووددنا لو اطلعنا على صورته وأسبابه لننشرها في المنار، وقد ذكرنا من قبل
حكم محكمة دمنهور الشرعية بردة الشيخ محمد أبي زيد بالباطل وتبرئة محكمة
الاستئناف له بالحق.
قضية الشيخ عبد الظاهر:
(ومنها) قضية بعض أنصار البدع والخرافات على الشيخ عبد الظاهر
محمد أبي السمح أحد دعاة السنة وأعداء البدع، فإنهم بعد ضروب من التهم والإيذاء
له ونبزه بلقب الوهابي، أي: المتبع للسلف، حملوا النيابة العمومية على مقاضاته
على ما اتهموه به، فرفعت عليه قضية في محكمة العطارين بالإسكندرية فحكمت
ببراءته، ولدى استئناف الحكم حكمت محكمة الاستئناف بتأييده، وهذا نص حيثياته:
حيث إن النيابة العمومية اتهمت المذكور بأنه في سنة 923 وما قبلها بدائرة
قسم الرمل دنس رموزًا لها حرمة بإحدى المساجد، بأن صعد المنبر وأخذ
البراقين [1] ، وألقى بهما في الأرض، وبأنه أيضًا في الزمان والمكان المذكورين
تعدى على الدين الإسلامي، وعرض بصاحب الشرع بأنه كان يخطب في
المساجد والمجتمعات، وينشر تعاليم مهينة لآداب المذهب ومناقضة لتعليماته
المعروفة، وطلبت عقابه بمقتضى المادتين 138 و139 عقوبات، والمتهم حضر
أمام الجلسة، وأنكر التهمة، وأجاب بما هو مدون بالمحضر.
وحيث إن التهمة المنسوبة هي إلقاؤه البراقين في المسجد وتعديه على الدين
الإسلامي، وحيث إنه بالنسبة لإلقائه براقين في المسجد، ففضلاً عما هو ثابت من
أن هذا العمل حصل من مدة تزيد عن الأربع سنوات، فإن إلقاءها لا عقاب عليه قانونًا إلا إذا كان قصد المتهم من إلقائها إهانة الدين، وثابت من أقوال المتهم أن
قصده كان بعيدًا عن هذه الإهانة؛ إذ علل إلقاءه لهذين البراقين بنفي نسبتهما إلى
السلف الصالح، وعليه فيتعين براءته من هذه التهمة.
وحيث إنه بالنسبة لتعدي المتهم على الدين الإسلامي، وتعريضه بصاحب
الشرع بنشر تعاليم مهينة ومناقضة للدين، قدم المتهم مذكرة بدفاعه عنها تاريخها
26 يناير سنة 1924.
وحيث إن المحكمة ترى من الاطلاع على هذه المذكرة ما يؤخذ منها صراحة
أن المتهم ما كان يطعن ولا يقصد التعريض بالدين، بل إنه كان يفسر القرآن
والأحاديث بما يراه ويعتقده صحيحًا، وحيث إن المحكمة لا تثق بما جاء عن لسان
الشهود مما زاد عما جاء بهذه المذكرة؛ إذ لو كان لأقوال هؤلاء الشهود صحة
لانفض من حوله من يستمعون لدروسه، الذين شهدوا أن المتهم لم يحصل منه طعن
في الدين.
وحيث إنه لذلك تكون التهمة المنسوبة إلى المتهم غير صحيحة، ويتعين
براءته منها عملاً بالمادة 172 ج.
فلهذه الأسباب
وبعد رؤية المادة السالفة الذكر حكمت المحكمة حضوريًّا ببراءة المتهم مما
أُسند إليه وأعفته من المصاريف.
هذا الحكم حكمت به المحكمة بجلستها العلنية المنعقدة في يوم 12 أغسطس
سنة 1924 و11 محرم 1343.
وبعد أن صدر هذا الحكم بالبراءة استأنفته النيابة يوم صدوره.
وبجلسة 6 ديسمبر سنة 1924 و9 جمادى الأولى سنة 1343 نظرته محكمة
الاستئناف الأهلية، وأيدته تحت رياسة حضرة حسن بك زكي محمد القاضي
وبحضور حضرتي محمد بك حسن عزت وحليم بك برسوم القاضيين وحضور
حضرة حسن أفندي لطفي وكيل النيابة وأحمد زكي أفندي السيسي كاتب المحكمة
وهذا نص حيثيات الحكم:
المحكمة: بعد سماع التقرير الذي تلاه حضرة محمد بك حسن عزت وطلبات
النيابة العمومية وبعد الاطلاع على الأوراق والمداولة قانونًا.
حيث إن الاستئناف مقدم في الميعاد القانوني فهو مقبول شكلاً، وحيث إن
الحكم المستأنف في محله للأسباب الواردة به والتي تأخذ بها هذه المحكمة فيتعين
تأييده.
فلهذه الأسباب
وبعد رؤية المادة 172 ج حكمت المحكمة حضوريًّا بقبول الاستئناف شكلاً،
وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف بلا مصاريف.
__________
(1) المراد بالبراقين: العلمان اللذان جرت العادة بوضعهما على جانبي المنبر.(26/553)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(مجموع أدبي تاريخي [*] )
(1) رواية آخر بني سراج.
(2) (خلاصة تاريخ الأندلس) إلى سقوط غرناطة.
(3) كتاب أخبار العصر، في انقضاء دولة بني نصر.
(4) أثارة تاريخية، في أربعة مرسومات سلطانية أندلسية.
نشر في هذه الأيام مجموع مطبوع مشتمل على هذه الآثار التاريخية الأربعة
المتعلقة بتاريخ الأندلس، ذلك الفردوس الأرضي الذي كان أبدع مظهر للحضارة
الإسلامية والثقافة العربية، والموازنة بينهما وبين ما يقابلهما وما قاومهما من
الحضارة الأوربية التي وسموها بالمسيحية، ولم تكن قبل ولا هي الآن من المسيحية
في شيء.
فأما الرواية فهي تاريخية غرامية أدبية، ألفها بالفرنسية الفيكونت
دوشاتوبريان الكاتب الفرنسي الشهير فأجاد، وراعى فيها حق العرب والمسلمين
وشعور الأسبانيين على سواء، بما أورده من تنازع سلطان الغرام في كل من
العاشقين العربي المسلم والأسبانية المسيحية، وسلطان الدين والنفرة الجنسية، فلم
يأت بشيء نستنكره نحن، ولا بشيء يستنكره الآخرون.
وقد ترجمها باللغة العربية الأمير شكيب أرسلان الشهير في أول عهده
بالترجمة والتأليف، وطبعت الطبعة الأولى في مطبعة الأهرام سنة 1897 م،
وترجمتها تشهد له بالإجادة ومتانة الإنشاء وسعة المادة اللغوية منذ عرفت أنامله
الأقلام.
وموضوعها سياحة شاب من بقايا آل سراج من سروات الغرناطيين في
الأندلس حَنَّ إلى ذلك الوطن الذي عمره آباؤه وملكه قومه بضعة قرون، فشد رحاله
من تونس إلى غرناطة، قال المترجم: (وبينما هو يجول في غرناطة مسكن أهله
قبل الجلاء الأخير، ثمالة ما كان بقي في يد الإسلام من ذلك النعيم والملك الكبير،
كانت منه لفتة وقع بصره فيها على فتاة من سريات الأسبانيول فعلقت بقلبه،
ووقع نظرها منه على مثلها؛ فتعاشقا وتوزعت القصة بين حبها وحبه، وحال دون
اقترانهما إعجاب كل منهما بدينه وإخلاصه لربه، ثم ما تبين لابن سراج بعد طول
العشرة من كون معشوقته سلالة من آل بيفار الفاتكين - لدن الجلاء - بآبائه، فرأى
اختلاط دم القاتل بدم المقتول غير خليق بآبائه، ولا ممتزج بشيمة وفائه، بل
مضى كل من العاشقين بحبيبه صبًّا، قد اختلطت مهجتاهما حبًّا، ولم يفرق بينهما
إلا الدين وإلا المودة في القربى) .
ثم ذكر من أسباب ترجمته إياها: ما تضمنته من آداب المحبين، وما فيها من
وصف مكارم الأخلاق، ومزايا الأشراف من الفرسان، والاطلاع على كثير من
الصفات الملكية متزحزحة عن أفق الملأ العلوي إلى عالم الإنسان، استدلالاً على
بديع صنع الله حين يجمع بين الحسن والإحسان، ثم ذكر منها التلذذ بذكرى السلف،
والاستقراء لآثار العرب.
وهذا السبب الأخير وهو الاجتماعي التاريخي، له الشأن الأعلى في قلب كل
مسلم وكل عربي؛ لأن لحضارة الأندلس وآدابها من شعور اللذة المعنوية في هذه
القلوب ما لا يقل عن شعور آدم - عليه السلام - بذكرى جنته، ثم إن لنكبة
الأندلس وما كان من تعصب الأسبانيين وإكراههم المسلمين على التنصر وقسوتهم
في استئصالهم من الأندلس - آلامًا في هذه القلوب كبارًا، لا يزال جرحها نغارًا.
***
(خلاصة تاريخ الأندلس)
وأما خلاصة تاريخ الأندلس فهو من تأليف الأمير، قصد أولاً أن يكون ذيلاً
وجيزًا لهذه الرواية تفهم منه وقائعها، وتظهر مقاصدها، فما زال يسيل مداد القلم
بما يمده به ذلك العلم الواسع بالتاريخ، حتى كان مؤلفًا حافلاً لا يوجد له باللغة
العربية نظير، وقد راجع فيه أشهر ما كتب مؤرخو الأمم الأوربية في هذا
الموضوع، ولم يكتف بما لخصه صاحب نفح الطيب من أخبار سقوط غرناطة،
وأسباب زوال ملك العرب من الأندلس، فإنه قليل ووجيز، على أنه من أهم ما
يجب تدوينه من وقائع التاريخ لما فيه من العبرة للمتأخر بسيرة من قبله، ولا
سيما أسباب قيام الدول وسقوطها، وارتفاع الأمم وهبوطها، فعرب الأندلس يهم كل
عربي وكل مسلم أن يعرف كيف كان آخر عهدهم بتلك المملكة الأوربية التي أسسوا
حضارتها، وكانوا أساتيد أوربة بها.
وقد نشرنا في الجزء الثاني من هذا المجلد (26) نموذجًا من هذا التاريخ
وهو معاهدة صلح غرناطة بين مسلمي العرب ونصارى الأسبانيول، وما كان من
نقض هؤلاء للمعاهدة عروة عروة، وإكراههم المسلمين على التنصر أو الجلاء عن
البلاد، حتى لم يبق منهم أحد، وفي الكتاب من أخبار المعارك واستبسال المقاتلين
ما هو من غرائب التاريخ، كما أن فيه من غرر القصائد ووصف المعاهد ما يعد
من ألطف الآثار الأدبية الأندلسية.
وأما كتاب أخبار العصر فهو تاريخ وجيز لآخر عهد المسلمين بتلك الديار
لمؤلف شهد المعارك بنفسه، ولم يذكر في الكتاب اسمه.
وأما الأثارة التاريخية في المراسيم السلطانية الأندلسية، فهو نموذج تاريخي
أدبي من إنشاء ذلك الوقت، وفي الحالة السياسية الروحية التي حملت السلطان
الأندلسي على كتابة تلك المراسيم لبعض قواد الأسبانيين.
زادت صفحات هذا المجموع على أربعمائة صفحة من قطع المنار، قد طبع
الطبعة الثانية بمطبعة المنار على صنفين من الورق، وجعل ثمن النسخة من
الورق الجيد 20 قرشًا مصريًّا صحيحًا، ومن الورق المتوسط 15 قرشًا، وأجرة
البريد 3 قروش في مصر و4 قروش في الخارج.
***
(الدعاية إلى سبيل المؤمنين)
الأستاذ الشيخ أبو اسحاق إبراهيم آل يوسف أطفيش الجزائري من علماء
المسلمين العصريين الذين يلقبهم المنار بحزب الإصلاح المعتدل، أي: الذين يدعون
إلى الجمع بين هداية الدين الحق اعتقادًا وأدبًا وعملاً وبين ما يتفق معها من مدنية
العصر المبنية على قواعد السيادة والاستقلال والقوة العسكرية والثروة، وإن بين
هذا الفريق من عقلاء الأمة الإسلامية وبين مقلدة الجامدين من (حملة العمائم وسكنة
الأثواب العباعب) نزاعًا مستمرًا، وقتالاً مستحرًا، ميدانه الطروس وأسفه الأقلام،
وإن كتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين) وهو أول أثر من أثار هذا الأستاذ
الغيور في هذا الجهاد - أبرزته المطابع لنا بعد هجرته إلى مصر وإلقائه عصا السير
فيها، رد فيه على رسالة لأحد المتطفلين على التأليف من أولئك الجامدين، الذين
أصبحوا فتنة للكافرين، وحجة على الدين الذي يدعون من علمائه بغير حق، فهم
يعارضون المصلحين في كل قطر، لحثهم المسلمين على العلوم والفنون
والصناعات التي تتوقف عليها القوة والسيادة في هذا العصر، وقد كان هؤلاء سبب
ارتداد أكثر من ارتد عن الإسلام في هذا الزمان من الترك والعرب والفرس
وغيرهم. ولم يذكر المصنف اسم هذه الرسالة ولا اسم مؤلفها ولا بلده؛ لئلا يكون
دالاًّ على الضلالة للمستعد لها، وقد وصلت إلينا رسائل من قبيلها لبعض خطباء
الفتنة في الشام، ومدعي الغيرة على الدين عند العوام، فأرجأنا الرد عليها إلى
فرصة نقرؤها فيها.
وقد لخص صديقنا المؤلف مسائل تلك الرسالة التي رد عليها في عشر (منها)
ذم الفلسفة، والعلوم العصرية، والأسلوب العصري، والتعليم، والفصاحة،
والبلاغة، ومدح الخمول، والذل، والاستكانة! !
وقد استطرد المصنف في الرد إلى مسائل إصلاحية كثيرة تقتضيها حالة
العصر، وترجمة بعض علماء الإباضية - وهو منهم - في الشرق والغرب، وقد
بلغت صفحات كتابه هذا 176 من قطع رسالة التوحيد والإسلام والنصرانية، وطبع
في المطبعة السلفية في سنة 1342 على ورق جيد وثمن النسخة منه.
***
(أسرار البلاغة)
نبشر طلاب علوم البلاغة وآداب اللغة العربية بأننا قد أعدنا طبع هذا الكتاب
المنقطع النظير في هذا الباب بإلحاح وزارة المعارف بطلبه في كل عام مصححًا
على نسخة الأستاذ الإمام التي قرأها للعلماء والطلاب في الجامع الأزهر، وأودعنا
حواشيه جميع تعليقاته عليها، وجعلنا ثمن النسخة منه على حسن ورقها وزيادة
مادتها 25 قرشًا بدلاً من 35.
__________
(*) كتب هذا التقريظ منذ أربعة أشهر.(26/557)
رجب - 1344هـ
فبراير - 1926م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الثورة السورية والحكومة الفرنسية
والتنازع بين الشرق والغرب
حدثت في أوائل الصيف من هذا العام الشمسي (1925م) ثورة في سورية
لم يسبق لها نظير، اقتدح زنادها زعماء دروز حوران، وتولى القيادة العامة لها
سلطان باشا الأطرش الشهير، وقد سبق لهم ثورة أخرى كان هو قائدها أيضًا،
ولكنها كانت ثورة صغيرة موضعية، وأما الثورة الأخيرة فهي ثورة سورية كبيرة،
لا يزال يمتد لهيبها ويتطاير شررها، ولم تكن قسوة السلطة العسكرية الفرنسية
وشدتها في مقاومتها إلا كمحاولة إطفاء النار بزيت البترول والبنزين والبارود، أي
لم تزدها إلا قوة واشتعالاً، وقد أسرفت السلطة في القسوة حتى إنها دمرت المئات
من القرى والمزارع على رؤوس أهلها، وأطلقت المدافع وقذائف الطيارات على
الأحياء الإسلامية خاصة من دمشق، فتبَّرت أهمَّ أحياء المدينة عمرانًا وثروة وآثارًا
قديمة، وقتلت عددًا كثيرًا من النساء والرجال والأطفال، وخرج كثير من
المخدرات من بيوتهن مع أطفالهن ما بين حافيات وناعلات هائمات على وجوههن،
وأجهض كثير من الحوامل، وَجُنَّ مَنْ جُنَّ مِنَ العقائل، وفعلت السلطة نحوًا من
ذلك في مدينة حماة التاريخية أيضًا، فقتلت من قتلت، ثم عذبت من عذبت من
الأبرياء كما ثبت بمحاكمتهم في محكمة عسكرية فرنسية.
ليس من موضوع المنار استقصاء الحوادث التاريخية، ولا من دأبه الوصف
الشعري ولا المبالغة في تصوير حقوق أمته ومصالح قومه، أو هضم حقوق
خصومهم، ولا سيما إذا كان بالباطل، وإنما موضوعه الذي يعنى به قبل كل شيء
بيان الحقائق وفلسفتها ووجوه العبرة فيها، وبذل النصح لكل مستعد لقبوله، وتقرير
المعروف للترغيب فيه، وإنكار المنكر للزجر عنه، وإنني أذكر هنا من الحقائق ما
يعترف به المنصف وإن كان من خصومنا أنفسهم.
***
جناية رجال فرنسة على سورية وعليها
(1) إن ما عمله رجال فرنسة في سورية في بضع سنين قد حمَّل حكومتهم
نفقات باهظة تقدر ببضعة ألوف الملايين من الفرنكات، قيل: إنها لو قسمت على
هذه السنين لأصاب كل سنة قرابة ألف مليون، وخسرت به صيتها الأدبي وسمعتها
السياسية والإدارية، حتى إن أشد الناس كرهًا للترك وطعنًا فيهم صار يرفعهم فوق
الفرنسيس درجات كثيرة.
وقد كان ما نشر من أنباء موبقاتهم في هذه المسألة من المقالات في الجرائد
وما نظم فيها من القصائد، مُشَوِّهًا لسيرة فرنسة في المشارق والمغارب، وهادم لما
شيدته لنفسها من حسن الصيت في عدة أجيال، أو من عهد ثورتها الكبرى إلى الآن،
تلك الثورة التي ثل شعبها فيه عرش ملوكهم الظالمين، وينكرون ما دونها على
السوريين، فهم يفخرون بمقاومة الفرنسي للظالم له ولو من قومه، ويذمون مقاومة
السوري لظالمه الأجنبي عنه! !
ولو كان ما فعلوه في سورية خيرًا لهم وموافقًا لمصلحتهم، لما كان لنا أن
نتكلم فيه معهم، ولكن ثبت به أن احتلال فرنسة لسورية كان شرًّا لسورية، وشرًّا
لحكومة فرنسة وشعبها جميعًا، وأن حكومة فرنسا هي الظالمة لشعبها بما تحمّله من
أعباء هذه النفقات الثقيلة في هذه السنين النحسات، وهي أحوج إليها في عسرتها
الحاضرة، وبما تحمله على سفك دمه فيما ليس له منه فائدة مادية ولا أدبية، بل
فيما فيه ضياع الفائدتين معًا، وأما الظالم للحكومة الفرنسية نفسها في هذا وأمثاله فهم
الرجال الذين توليهم أمر البلاد، وتطلق لهم فيها العنان، فيعيثون فيها فسادًا،
ويسمُّون إفسادهم إصلاحًا، ويتخذون لهم شهداء من أنفسهم ومن صنائعهم وعمالهم
في البلاد، ومن المشاركين لهم في غنائمهم من أرباب رؤوس الأموال وأصحاب
الصحف ورجال الأحزاب في فرنسة، يكذبون على الحكومة، ويرونها الباطل حقًّا،
والمفسدة مصلحة، ويطعنون لها في الأحرار الصادقين، إذا تظلموا أو احتجوا
عليهم، ويوهمونها أن ما يتظلمون منه ما هو بظلم، بل هو عين العدل والفضل،
ولكنهم ينكرون الجميل ويغمضون الحق، إما لبغضهم لفرنسة لخبث طباعهم أو
تعصبهم، وإما لمطامع لهم باطلة لم يجدوا مع العدل الفرنسي وسيلة إليها، وإما
خدمة لدولة أخرى أجنبية يعملون لها.
***
تفسير الانتداب الفعلي والقولي
(2) كل هذا التقتيل والتعذيب، والتخريب والتتبيب، والتدمير والتتبير،
وما يتبعه من المغارم والمآثم، وموبقات الفضائح والمحارم، كله تفسير وتنفيذ
بالفعل لكلمة جديدة وضعت في معاهدة الصلح بعد حرب المدنية في قاموس السياسة،
وهي كلمة (الانتداب) .
وضعت هذه الكلمة دولُ الحلف البريطاني الفرنسي الذين كانوا يسمون قتالهم
للتحالف الجرماني بقتال الحق والعدل والحرية والحضارة، وليس كذلك بل هو
للباطل والجور والهمجية واستعباد الأمم، وفسروه بأنه عبارة عن مساعدة
الشعوب المحررة من العبودية الجديرة بالاستقلال على النهوض بأعباء استقلالها، إلى أن يزول ما يحول دونه من فقرها وضعفها، وتصبح قادرة على السير وحدها،
وزعموا أن الباعث عليه الرأفة والرحمة، لا مجرد العدل، والمكافأة على مساعدتهم
في تلك الحرب، وأن النادب لهم والداعي إلى هذه المكرمة الإنسانية والضامن للدول
المنتدبة الرقيب عليها في تنفيذها كما فسرت إنما هو جمعية الأمم المؤلفة من مسين
أمة ونيف، فهل يجوز إذًا في شرع الرحمة والمحبة أن تترك الدولة المنتدبة هذه
الفضائل الإنسانية كلها، وتخفر عهد هذه الأمم والدول كلها، لأن بعض الشعوب التي
تبذل لها هذه المساعدة لتنتفع بما نالت من الحرية والاستقلال تتألم منها، تأبى
أن تقوى من ضعف، وتغنى من فقر، وتعز بعد ذل، وتتحرر بعد رق؟ فإين
الفضائل الإنسانية؟ وأين العهود الدولية؟
تلك إشارة إلى مسافة الخلف من أقوال منفذي الانتداب وأفعالهم، ثم إنهم
يطلبون منا أن نصدق وعودهم، ونثق بعهودهم، وهم يعلمون أن هذا غير مستطاع،
ولكنهم يريدون إكراهنا بالقوة على أن نحمد مساوئهم، أو نسكت عنها؛ لئلا تجد
الأحزاب المعارضة في مجلسي نوابهم وشيوخهم حجة يسلبون بها منهم هذا السلطان
الاستبدادي المطلق الذي هو أعظم اللذات التي فتن بها البشر، فهم لا يبالون بما
نعتقد نحن فيهم، وإنما يبالون بمن يقول الحق ويطالب بالعدل في بلادهم، وقليل ما
هم.
***
الفرق بين الشرق والعرب في احترام القوة
(3) إن شعوب أوربة شعوب دموية ما زالت تعتمد في جميع شؤونها على
القتال وسفك الدماء حتى صار غريزة فيها، فكل اعتمادهم على القوة المادية
الحربية، بل لما صار ذم القتال وسفك الدماء مما يذم عندهم بالكلام، ويتبرؤون منه
برياء القول، ويدعون أن ما ينفقونه في كل عام من قناطير الذهب المقنطرة التي
تجتاح معظم كسب شعوبهم على الاستعدادات الحربية من برية وبحرية وجوية لا
يراد به إلا السلم، على أن هذه الدعوى على ما فيها من كذب ورياء حجة قطعية
على أنهم لا يمكن أن يرتدعوا عن ذلك إلا بالخوف من القتال؛ لأجل هذا يقيسون
طباع الشرقيين على طباعهم، بل قلبوا الحقيقة وعكسوا القضية فصاروا يزعمون
أن الشرقيين لا يخضعون إلا للقوة، ولا يطيعون الأوامر إلا بالإذلال والإهانة،
ونتيجة هذا أنهم لا يقبلون ما يُسْدونه إليهم من نعم الحماية والوصاية والانتداب إلا
إذا حمل إليهم وحُمِلوا عليه بقوة الحديد والنار، وأقنعوا به بلغة قذائف المدافع
والطيارات، وتدمير السيارات والدبابات، فهم يكررون هذه الأقوال كلما صالوا
على شعب شرقي فدافع عن نفسه ولو بالحجج القولية المنطقية، فيكف إذا حَمل
السيف مستبسلاً لتحميله ما لا يطيق يائسًا من إنصافه، كما يقولون اليوم في قضية
ريف المغرب وفي قضية سورية.
والحق الذي يشاهد اليوم ويحفظه التاريخ من قبل أن الشرقيين يخضعون
للدلائل العقلية، وللوجدانات القلبية، وينقادون بالمسَّلمات المثالية والتخيلات
الشعرية، فتغلب عليه المعنويات، كما استحوذت على الأوربيين الماديات، وأن
المبالغة في الأمرين، مما يعد من عيوب الفريقين.
وقد كان مما انتهى إليه فساد ضعف الشرقيين الاجتماعي والسياسي واستذلال
الاستبداد لهم أن تحول عشقهم للفضائل والكمالات والمجد الصحيح إلى الرضا منها
بالمجد الكاذب والكمال الصوري أو الوهمي، وقد نبه بعض عشاق فرنسة من
وجهاء الموازنة بعض مندوبيها السامين إلى هذا النقص، ونصحوا لهم بأن يراعوه
في إدارة البلاد؛ ليتم لهم أمر السيادة فيها بسهولة وتكون راضية عنهم.
حدثني حبيب باشا السعد المشهور عن نفسه أنه قال للجنرال غورو: إننا
نحن الشرقيين نحب المجد الكاذب، فولونا أعمال البلاد الرسمية، واكتفوا بوضع
مستشارين ومراقبين منكم معنا، يرشدون رؤساء الموظفين إلى ما تريدون منا،
ونحن ننفذه لكم بأحسن ما تنفذونه لأنفسكم، وقد نصح لهم بمثل هذا صديقهم عبد الله
باشا صفير وهو مؤسس الحزب السوري الفرنسي بمصر، وأقام لهم الدليل عليه
بسياسة الإنكليز بمصر التي نجح فيها لورد كرومر أتم النجاح، وقد ذهل سعادة
الباشا عند إسداء هذه النصيحة قولاً وكتابة عما بين الفرنسيس والإنكليز من التباين
في الأخلاق والغرائز وأساليب الاستعمار، وهي لا تخفى على مثله، وقد بينها
الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتبه التي وضعها لمباحث علم الاجتماع،
على أن الإنكليز لم يَسلَموا من شذوذ الغرور بالقوة، وقسوة العظمة، واحتقار
الشرق وأهله كما فعلوا في (حادثة دنشواي) وفي العراق والهند أخيرًا، ولكنهم لم
يبلغوا فيه عشر معشار الفظائع الفرنسية في سورية، وقد أيقنوا أنهم كانوا فيه من
الخاطئين المخطئين، وما رجع بعض كتابهم في هذه الأثناء قول الفرنسيين: إن
أهل الشرق لا يدينون ولا يخضعون إلا لقوة النار والحديد إلا خداعًا وتغريرًا لهم
ليتمادوا في بغيهم.
***
عظمة فرنسة وقوتها الحربية
(4) مما يعتذر به الفرنسيس عن أعمال القسوة، والإمعان في التخريب
والتدمير، والتصميم على حل مشكلة الثورة السورية بقوة الجند، واشتراط تسليم
الثائرين سلاحهم بلا شرط ولا قيد - أن كل ما عدا هذه الطريقة من إدارة البلاد
ومعاملة أهلها يذهب بكرامة فرنسة، ويزيل مهابتها من القلوب، ويوهم أهل البلاد
أن الثوار أقوى منها، وهذا الاعتذار خطأ محض مبني على النظرية التي بيَّنا
فسادها آنفًا، وهي أن هؤلاء الناس أنفسهم لا يعترفون بفضيلة ولا كرامة للدول
والأمم إلا للقوة والقدرة على التقتيل والتخريب، والحق الواقع يفند رأيهم ويؤيد
رأينا، فإنهم كلما اشتدوا في القسوة اشتدت مقاومة الثائرين واستبسلوا في القتال،
واستهانوا بالموت، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يقاتلون مختارين، فقتالهم أدل
على أخلاقهم وما في أنفسهم من قتال الجند الفرنسي وكل جند نظامي، فإن الجند
النظامي إنما يقاتل مكرهًا ومضطرًّا، إذ هو يعلم أن الفارَّ من الزحف جزاؤه القتل
قطعًا، وأن الذي يثبت يجوز أن يبقى وأن ينال مكافأة على ظفره، وقد كان موقدو
نار هذه الثورة خاضعين لفرنسة قبل إهانتهم واحتقارهم وهضم حقوقهم، ومغترين
بوعود رجالها، ولم يبق أحد يصدق لهم قولاً ولا يثق منهم بوعد.
وإنا لنعلم أنه لا يوجد أحد من قواد الثورة ولا من مساعديهم يعتقد أن الثوار
أقوى من فرنسة وأقدر على الحرب، ولا أن سورية كلها تساوي فرنسة أو تقاربها
في القوة الحربية، وإنما يحاربونها لأن رجالها ألجأوهم إلى القتال إلجاءً،
واضطروهم إليه اضطرارًا، إذ أقنعوهم فعلاً بأن سلطتها لا تطاق ولا تحتمل، وأن
القتل الشريف في سبيل الاستقلال، أفضل من الحياة في الذل والفقر والنكال،
ولأن في السوريين من لا يزالون يظنون أن في فرنسة فضيلة غير فضيلة القتل
والقتال يرجى أن تنتصر عليها - وأعني فضيلة الحق والعدل والعمران - وأن
الثورة هي التي يمكن أن توصل إلى محبي الحق والعدل والعمران صوتَ سورية
الذي عجز عن إيصاله إليهم أحرار السوريين بالحجج والبراهين التي يُدلون بها كل
عام، وعند كل حادثة عظيمة وخطب فادح بما يخاطبون به جمعية الأمم وكبريات
الدول وفي مقدمتهم فرنسة، وما ينشرونه في جرائد العالم؛ فيتصدى لتكذيبهم
والطعن فيهم أنصار الأحزاب المالية والعسكرية والجزويتية الذين يستغلون سورية
بما قدمنا أنه ضار بفرنسة حكومتها وأمتها لا بالسوريين وحدهم، ويظنون أن
هؤلاء يمكن أن يؤلفوا مع طلاب الاقتصاد والأحزاب المعارضة قوة في مجلسي
النواب تجبر الحكومة الفرنسية على إنصاف سورية، والاعتراف بحقها في الحرية
والاستقلال، فإن صدق ظنهم هذا أمكن أن تستعيد فرنسة بعض ما فقدت من حسن
صيتها السابق، وكان خيرًا للشعب الفرنسي ولحكومة الجمهورية الفرنسية من
اعتقاد سورية أن فرنسة فقدت كل فضيلة إنسانية، وصارت كالوحوش المفترسة،
ليس لها صفة تفخر بها إلا القتال والتخريب ولو فقدت به ثروتها وشرفها الأدبي.
***
حظ الإنكليز من ثورة سورية
(5) قيل: إن الثورة السورية الحاضرة هي من دسائس الإنكليز، وإنهم
هم المحركون لها، والممدون لنارها بالوقود، ولثوارها بالسلاح والنقود، وقد
خاضت في هذه التهمة بعض الجرائد الفرنسية والمصرية، وهي تهمة باطلة سببها
اعتقاد جميع الشعوب أن الإنكليز هم شياطين الإنس، لا تقع فتنة إلا بدسائسهم
ووساوسهم، وهم يستفيدون من هذه التهمة لأن فرنسة تضطر بتصديقها لذلك إلى
استعتابهم واسترضائهم بمساعدة تبذلها لهم، أو مصلحة لها تنزل لهم عنها، كما
نزلت لهم عن الموصل حتى لا يعارضوها في احتلال دمشق، وما يدرينا أنهم
يحتاجون الآن إلى مساعدتها على الترك في مسألة الموصل أيضًا، وأنها ستبذل لهم
هذه المساعدة كما بذلت لهم الموصل نفسها، وكانت من نصيبها في معاهدة سايكس
بيكو.
إن الإنكليز لا يمكن أن يساعدوا الدروز ولا غيرهم من السوريين على قتال
فرنسة؛ لأنهم يعلمون أن الذي يتجرأ على قتال فرنسة يتجرأ على قتال إنكلترة،
فإنها ليست أعظم من فرنسة قوة عسكرية بل دونها، وكيف يساعدونهم على ذلك
وهم يطمعون في أخذ بلادهم كما قال أحد كبار رجالهم لعربي يثق بإخلاصه لهم وقد
سأله: كيف تتركون سورية لفرنسة وهي بين فلسطين والعراق، فقال له: هل
رأيت إنكليزيًّا يلبس ثوبًا مرقعًا؟ قال: لا، قال: فافهم.
أنا أؤمن بأن الإنكليز يعتقدون أن مآل سورية لهم، كما أؤمن بأنهم ليسوا هم
المحركين للثورة السورية وأنهم لم يساعدوها، وأنهم لا يرون من مصلحتهم ظفر
الثوار بفرنسة، ولا أن يتفقوا معها، وأنهم يتمنون لو تقلل عدد المسلمين والدروز
في سورية، ولا يكرهون أن تستبدل الأرمن بالدروز في حوران ثم لبنان، كما
تفعل هي في تغليب اليهود على العرب في فلسطين، وأؤمن مع هذا بأن الثورة
تمهد لهم السبيل لما يعتقدون من المآل الذي ذكرناه، ولما هو أبعد منه؛ لأنه يورث
العداوة ويورث الحقد بين فرنسة والسوريين وكذا سائر العرب والمسلمين، فإذا
يئس السوريون من الاستقلال الصحيح فإنهم لا يرون بدًّا من توطين أنفسهم على
الانضمام إلى العراق وفلسطين لما في ذلك من الفوائد الاقتصادية والأدبية والقومية،
فإذا اتحدت سورية الكبرى مع العراق يكون المجموع دولة عربية غنية، فأي
سوري أبله يفضل على ذلك ما تفعله فرنسة من جعل سورية الصغرى عدة شعوب،
لكل شعب منها حكومة تسمى دولة، وهي سخرية لا يجهل عوام الحراث والعمال
سببها والغرض منها.
إن للإنكليز حزبًا في سورية يستطيعون دفعه للعمل في كل وقت، ولا يوجد
أقوى منه في البلاد إلا حزب الاستقلال المطلق، وهم لا يدفعونه إلى العمل إلا عند
ارتفاع المانع ووقوع المقتضي، وهم مشهورون بانتظار الفرص والوثوب عليها
عند سنوحها، وفرنسة تقرب لهم الزمن، وتمهد لهم السبيل، وما هذه بالأولى لها
في ذلك ولا بالثانية ولا بالثالثة ولا بالرابعة.
كنت مرة أتكلم مع أحد فضلاء المصريين منذ بضع عشرة سنة في خداع
الإنكليز للفرنسيس فقال لي: كان يعلمنا التاريخ في المدرسة الخديوية عالم فرنسي
باللغة الفرنسية قبل تحويل التعليم إلى الإنكليزية، فذكر مرة مسألة تاريخية من هذا
القبيل، وقال عقب ذكرها: قد خدعنا الإنكليز في ذلك فانخدعنا، ثم ذكر في سنة
أخرى مسألة مثلها وقال هذا القول، فذكرته بالمسألة الأولى وقلت له: وكيف
انخدعتم لهم ثانية وقد علمتم أولاً أنهم خدعوكم؟ قال: وهل وقف الأمر عند هذا
الحد؟ كلا، إنهم سيخدعوننا أيضًا فننخدع.
لا يحسبن أحد أنني أقول هذا للإيقاع بين الدولتين كما هو دأب كتاب السياسة،
إنني لست مغرورًا بنفسي إلى هذا الحد، إنما أنا أكتب ما أعتقد، ولست أستنبط
اعتقادي هذا من الثورة السورية الحاضرة، بل أنا أعتقده منذ علمت بنبأ معاهدة
(سايكس بيكو) في اقتسام الدولتين لبلادنا، وقد قلته لكثيرين أذكر منهم شاهدين
سوريين وشاهدًا فرنسيًّا:
إنني عقب هدنة الحرب الكبرى وبعد احتلال فرنسة لسواحل سورية ابتعت
طائفة من الأقمشة لإرسالها إلى أهل بلادنا (القلمون) بجوار طرابلس الشام؛
لكسوة من تركتهم الحرب فيه عراة لا يجدون ما يكتسبون به، فقيل لي: إن فرنسة
تمنع ذلك، ولا بد من إذنها، فذهبت إلى دار معتمدها السياسي لطلب الإذن، فلقيت
عند السكرتير الشرقي للمعتمد (وهو فرنسي يعرف العربية) حقي بك العظم
وخليل أفندي زينية المشهورين، فجرى بيننا حديث في موضوع سورية أفضى
إلى أن قلت للثلاثة: إنكم تعلمون أنني داعية استقلال لوطني، لا أرضى بحماية
ولا وصاية من فرنسة ولا إنكلترة، وأقول لكم الآن: إنني أعتقد اعتقادًا مبنيًّا
على طول التفكر والتروي أرجو أن تسمعوه وتكتبوه في مذكراتكم، وتدَعوه
للزمان يصدقه أو يكذبه، وهو أن سورية لن تكون في المستقبل لفرنسة، بل هي
ستكون مستقلة خالصة لأهلها إن شاء الله، أو لإنكلترة لا سمح الله.
ولا يستطيع أحد من الفرنسيس ولا من أشياعهم أن يتهمني بأنني من حزب
الإنكليز أو أبث الدعوة لهم، فإنهم جميعًا يعلمون أنني خلفت أستاذنا الأكبر السيد
جمال الدين في الجهر بمعارضة السياسة البريطانية في المسألة العربية والمسألة
الإسلامية بما يعلمون من الشدة، وأنني ما اشتددت في معارضة سياسة الشريف
حسين وأولاده لجهلهم وظلمهم وسوء تصرفهم فقط، بل ذنبهم الأكبر أنهم صنيعة
الإنكليز ويعملون لهم، وقد صرحت لكل من كلمته في هذه المسألة من كبار رجال
فرنسة كغيرهم بأننا نعلم كغيرنا من الواقفين على أحوال الدول والأمم أن إنكلترة
ألين ملمسًا وأحسن سيرة في الاستعمار من فرنسة، كما يشهد بذلك الدكتور
غوستاف لوبون أكبر فلاسفة الاجتماع والتاريخ في فرنسة نفسها، وكنا نعلم هذا
قبل أن نقرأ كتب هذا العالم الكبير، وقبل أن نرى في بلادنا شرًّا مما كنا نسمع
ونقرأ من أخبار مستعمراتها الإفريقية، فماذا نقول اليوم؟ وقد عملوا في الشام ما لم
يسمع بشر منه في تاريخ الشعوب الهمجية كلها إلا أن تكون فظائع التتار، ولقد ثار
أهل العراق وأهل مصر في وجوه الإنكليز، وقتل العراقيون في ثورتهم من الجنود
البريطانية أكثر مما قتل السوريون من الجنود الفرنسية أضعافًا، ولم تفعل جنود
إنكلترة في القاهرة ولا في بغداد مثل ما فعلت جنود فرنسة في دمشق وحماه، دع
تدميرها لقرى الفلاحين على رؤوس أطفالهم، نعم إن الإنكليز فعلوا نحوًا من هذا
في الهند، ولكنهم لم يبلغوا شأو الفرنسيس ولا قاربوا.
وجملة القول في هذه المسألة أن فرنسة تمهد لإنكلترة في سورية اليوم كما
مهدت لها في مصر من قبل بطبعها لا بطوعها، وإنها لن تستطيع أن تبقى في
سورية إلا تحت رحمة الإنكليز ولهذه الرحمة أجل وغاية، وإنها لا بد أن تؤدي لهم
على سكوتهم عنها إلى منتهى ذلك الأجل أجرًا أو جعلاً أو مكافأة كلما أرادوا ذلك
منها (أو كلما دق الكوز بالجرة) وأن ما أشير عليها به من الاقتداء بعمل الإنكليز
في العراق لن يجعلها إن فعلته مساوية للإنكليز في نظر السوريين بحيث يفضلون
بقاءها في سورية على اتحاد سورية الكبرى بالعراق، ولو تحت وصاية الإنكليز أو
رعايتهم، وإنما الذي يمكن أن يفضلها به السوريون ويتبعهم فيه جميع العرب وكذا
جميع المسلمين هو شيء آخر معقول عندنا، ويمكن أن يعقله الفرنسي في فرنسة لا
في سورية، فإن الفرنسي إذا جاء سورية تبدل عقله وشعوره؛ لأنه يصير ملكًا
مطلقًا يتمتع بجميع ما يشتهي في هذه الأرض فينسى مصلحة فرنسة لا مصلحة
سورية فقط، وقد ذكرته لأحد كبار رجالهم في مصر فوافقني عليه، ولكن أمر
تنفيذه ليس إليه، الذي يرضون به هو الاستقلال الحق المطلق مع مساعدة
كالمساعدة التي بذلوها لمحمد علي باشا، وهم يبذلون لفرنسة من الجزاء المادي
والأدبي عليه ما هو خير لها من هذا التحكم الجائر بسلطانهم القومي والتصرف
القاسي، الذي يتلذذ به موظفوها المعددون، وتخسر هي من أموالها ورجالها
وصيتها الأدبي ما ذكرناه في أوائل هذا المقال.
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(26/585)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انحطاط المسلمين
وسكونهم وسبب ذلك [1]
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[2]
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون
بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض،
ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم
كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم
أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي
في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع
الأرض عالمًا كان أو جاهلاً أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر ومن أي
جنس صبا عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف، يلهج
بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به، بل
وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها
قارئهم بعد مئين من السنين لا يتمالك قلبه من الاضطراب، ودمه من الغليان،
ويستفزه الغضب، ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدث عن غريب، أو يحكي عن
عجيب.
المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة
على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم
وبعيدهم ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل
واحد منهم إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام. ومن
فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل
صعب، واقتحام كل خطر، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من
الأحوال حتى ينالوا الولاية خالصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب
السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره،
لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية
يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل
زمان.
المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه
به الشريعة، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات
دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يُلِم
بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون
حركات الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم، ولا يجيش لهم جاش ولا تكون
لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنكليز في بلاد فارس،
ولا يضجرون ولا يتململون، وأن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية
ذهابًا وإيابًا وتفتك، ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم،
بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم، الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين
أيديهم وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
تمسُّك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة
التي هم عليها _ مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة، ويسبق إلى بيان السبب،
فخذ مجملاً منه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات
والوجدانيات النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها تصدر بتقدير
العزيز العليم، لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها،
حتى يصير ما يعبر عنه بالملكة والخلق، وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من
مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل
فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى
الفكر، ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار، ما دامت الأرواح في
الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل ولا أثر لها في الاعتصاب
والالتحام لولا ما تبعث عليه الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، عن تعاون
الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور
الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثار بقية
الأجل، ويكون انبساط النفس لعون القريب، وغضاضة القلب لما يصيبه من ضيم
أو نكبة، جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش والري
والشبع، بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب
بعد ثبوتها والعلم بها، ولم تدعُ ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما
يمكِّن تلك الصلة ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه أو
ألجأته ضرورة إلى ذلك - ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة
في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما
ذكرنا في رابطة النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر
الاعتقادات التي لها أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض إذا
لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه
الجارحة وتمرن عليه، ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلاً
من أشكالها، فلن يكون مُنْشِئًا لآثاره، وإنما يعد في الصور العلمية له رسم
يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه كما قدمنا.
بعد تدبر هذه الأصول البينة والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب
في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن
نصرة إخوانهم وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين المسلمين
في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع التعارف بينهم،
وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، فالعلماء وهم القائمون على حفظ العقائد
وهداية الناس إليها لا تواصل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في غيبة عن حال
العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن شؤون العالم
الأفغاني وهكذا، بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا صلة تجعلهم،
إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر،
أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر إلى نفسه ولا
يتجاوزها كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك
والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش
ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب أن تكون للدولة العثمانية صلات
صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في الشرق؟
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح أن
يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم ولا بلد وبلد إلا طفيف من الإحساس بأن بعض
الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع أقطارهم
بالصدفة إذا التقى بعضهم ببعض في موسم الحجيج العام، وهذا النوع من الإحساس
هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد
أجنبي عن ملته، لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته، كانت الملة كجسم
عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين
أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة
الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة
العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة، دون أن
يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان
الراشدون رضي الله عنهم. كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن
الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة
الخلافة، فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر
والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة، وانشقت عصاها،
وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك، فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج
طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة، ولا يرعون جانب
الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،
وتيمور لنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم
فتفرق الشمل بالكلية، وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد
كل بشأنه، وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا،
كل فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو
إلى الوحدة، وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية
تحويها مخازن الخيال وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من
المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل
المصائب ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على
طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت، كما يكون على
الأموات من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة، ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء قيامًا بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان
الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في
الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم
ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير كل
واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف
الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم
ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شؤون وحدتهم
ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعون أطراف
الوشائج إلى مقعد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله
الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام
بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من
شأنها، ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن
إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع
أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس
بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع
ما يغشاها من النوازل.
ألا إنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين
إلى هذه الوسيلة، وهي أقرب الوسائل وإن التفت إليها في هذه الأيام طائفة من
أرباب الغيرة. ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن
يؤيدوا هذا الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم
التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد
عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما
يعود على دينهم وملتهم بفائدة أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل
الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة، وإلى الله
المصير.
__________
(1) نشرت في العدد الخامس من جريدة العروة الوثقى الذي صدر بباريس في 14 جمادى الآخرة
سنة 1301، و10 إبريل 1884، ونشرناه الآن لتجدد الحاجة إليه كيوم نُشر، ومنه بيان رأي
حكيمي الأمة السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده في مقام الخلافة الإسلامية الناقض لرأي الشيخ
علي عبد الرازق السخيف، وإنما خدم الحكيمان برأيهما الإسلام والمسلمين، وخدم الشيخ علي عبد
الرازق أعداء الإسلام المستعمرين.
(2) (آل عمران: 103) .(26/595)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تربية أمراء العرب قبل الإسلام
وكيف نستفيد منها في هذه الأيام
(وجدت هذه الرسالة فيما لديَّ من أوراق شيخنا الأستاذ الإمام، فرجوت أن
يكون الانتفاع بنشرها الآن أعظم مما كان في عهد من كتبها، وهو كما أظن أستاذ
التربية والتعليم البصير حسن أفندي توفيق المصري رحمه الله وهذا نصها) :
السؤال
ما الذي كانت عليه أمراء العرب قبيل الإسلام، حسبما تفيده أوصافهم المشروحة
في قول الحطيئة:
يسوسون أحلامًا بعيدًا أنّاتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدُّ
أقلُّوا عليهم لا أبًا لأبيكم ... مَن اللوم أو سُدوا المكان الذي سَدُّوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزَوْا بها ... وإن أنعموا لا كدَّروها ولا كدُّوا
مطاعين للهيجا مكاشيف للدُّجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدُّ
ويعذلني أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالذي علمتْ سَعْدُ
وكيف يستفاد من هذه الأبيات أنواع التربية؟ وما هي الطرق العمومية لأجل
الوصول إلى مثل هذه التربية وتكميلها في أمتنا بواسطة المدارس خصوصًا.
***
الجواب
كانت تربية أمراء العرب قبل الإسلام كما ترشد إليه أبيات الحطيئة على أن
يتخرج أولئك الأمراء متوفرة فيهم الشروط التي تؤهلهم إلى سد الأمكنة التي
يشغلونها من المجتمع الإنساني في عصرهم.
وتلك الشروط أوجبتها حالة اجتماع القبائل الذي كان قد أخذ يتقدم تقدمًا عظيمًا
في ذلك الوقت، وذلك لأن من شأن المجتمعات لما تكبر أنها تكون موجهة لجملة
أمور:
(الأول) كما تكون ذريعة لاتساع الحضارة والعمران، تكون سببًا لازدياد
العلوم وانتشار المعارف، ضرورة تبادل الأفكار بين أفراد الجمعية، وتجدد الأمور
التي يقتضيها الترقي في المدنية، ومن المعلوم أنه لا يتم نظام جمعية قلَّت أو
كثرت، إلا إذا كان على رأسها سادة يرجع إليهم الأمر في الحل والعقد، والنقض
والإبرام، وأنه لا يتهيأ لها نجاح في أمورها إذا تولى رئاستها من لا علم لديه.
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا
فاقتضت حالة الاجتماع التي كانت عليها العرب قرب الإسلام أن يكون
لجماعتها المتنوعة رؤساء يقومون بالمصالح العامة، وأن يكون أولئك الرؤساء
لديهم كفاية من المعلومات يتنورون بها في تصرفاتهم، ويهتدون بها في سائر
أحوالهم.
ومن أجل ذلك لزمت تربيتهم تربية فكرية، لائقة بمنزلتهم بين أبناء جنسهم،
ومناسبة للمعروف الجميل في عصرهم.
(الثاني) لما كانت الكبيرة مسببة لعظم الاختلاط بين الناس، وداعية إلى
كثرة العلاقات بينهم، وتتولد عنها الفرص العديدة التي يتمكن فيها الإنسان - إذا
أُهمِل وطبيعته - من الاسترسال في الأهواء المستبدة، والشهوات المهلكة، ومن
التستر على أحواله الخارجة عن حدود الاعتدال، وكان ذلك من دواعي الاختلال
في نظام الاجتماعات - وجب اتباعًا للحكمة ورفقًا للمصلحة، أن يُعود أفراد
الجمعيات على محاسن الأعمال، وخصائص الأخلاق.
ولما كانت الخاصة أسوة العامة في السلوك الإنساني، وكان رؤساء كل
جماعة أول مُطالب باستئصال عروق الشر والفساد، وتمكين أسباب الخير
والصلاح - اقتضت حالة الاجتماع العربي قبيل الإسلام أن يتصف أمراء القبائل
بأكمل ما يرام من الآداب التي يستحقون بها أن يكونوا قدوة لمرؤوسيهم، وأن يكون
لديهم ما يتمكنون به من حمل أقوامهم على الانتظام في الأمور، وحسن السير في
المعاملة، ومن ثم كانوا يرون من المتحتم عليهم أن يكونوا متربين (تربية أدبية)
لائقة بمقامهم، وموافقة لمألوفات قومهم.
(الثالث) عظم المجتمعات ينشأ عنه زيادة حاجات المعيشة، وبسبب تعاون
الأيدي واشتراكها في تحصيل المنافع، تكثر الخيرات وتتوفر أمتعة الحياة،
ويتضح من ذلك أن أهل الدعة والمحبين لأنفسهم، الساعين في منافعهم الشخصية،
يأخذون في تسخير الناس لقضاء حوائجهم من غير أن ينفعوهم بشيء، وأن
الأقوياء والماكرين يطمحون بأطماعهم إلى ما في أيدي الناس واغتصابه منهم بالقوة
إذا أمكن، أو انتزاعه منهم بالحيلة، ومُمانعتهم عنه بكل ما يمكنهم من الطرق؛
ولهذا كان من الضروري للعائش بين قوم أن يكون صحيح الجسم، قوى البدن، ذا
بأس شديد، حتى يتأتى له أن يعمل ما ينفع وينتفع به، ولكي إذا اضطرته الحالة
يمكنه المدافعة عن نفسه ونفيسه ممن يتعدى عليه، وكان من أقصى الواجبات على
من يرصدون أنفسهم لتولي أمور الجمهور أن يتخذوا الوسائل التي يكونون بها من
الأصحاء الأقوياء الأشداء، ليقوموا بواجب حماية الضعفاء ونصر المظلومين،
وحفظ حقوق الناس، ومنع أسباب التعدي من بينهم، وقد علم أمراء العرب
بالتجارب هذه الغاية، فأوجبوا على أنفسهم (تربية جسمية) تعدُّهم لحماية أقوامهم،
وتمكين الأمن بينهم.
فذلك ما كانت عليه تربية أمراء العرب قبيل الإسلام حسبما ترشد إليه
أبيات الحطيئة.
فكانت إذن على أنواع ثلاثة:
(1) تربية فكرية.
(2) تربية أدبية.
(3) تربية جسمية.
فأما التربية الفكرية
فقد جلى نورها في قوله:
(مكاشيف للدجى)
إذ هو عبارة عن أنهم عارفون بالأمور معرفة تامة، مبينون لها تبينًا كاملاً،
فالواحد منهم فضلاً [1] عن أنه نير في نفسه منور لغيره.
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلاً
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جدًّا ولا هزلاً
لأن العلم المتمكن أشبه بالضوء الساطع الذي يشرق على الأشياء فيجعلها في
غاية الظهور حتى للضرير، والجهل المطبق أشبه بالظلام الذي يتراكم عليها
فيصيَّرها في نهاية الخفاء حتى على البصير، كما قيل:
العلم نور، والجهل عمى ...
وقد لخص خلاصتها في قوله:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ...
حيث هو عبارة عن أنهم لا يشرعون في أمر من الأمور إلا أحكموه تمام
الإحكام، فإن الأمر المحكم الذي لا يقبل النقض مدى الأزمان، كالبناء المتقن الذي
لا يتهدم على توالي الأيام، ولا شك أن إبرام الأمور على أحكم نظام يحتاج إلى
علم راسخ وتبصر تام.
***
وأما التربية الأدبية
فقد أودع ثمرتها في قوله:
يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
وفي قوله:
وإن كانت النعماء فيهم جروا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
حيث أفاد أنهم يسلكون مع الناس على مقتضى العقل، ويعاملونهم بالحلم،
ولا يغضبون عليهم إلا في الجد، ويثمر فيهم المعروف، ويحلو منهم الجميل.
تخالهم للحلم صمًّا عن الخنا ... وخرسًا عن الفحشاء عند التهاتر
ومرضى إذا لاقوا حياء ومنة ... وعند الحروب كالليوث الكواسر [2]
لهم عزُّ إنصاف وذل تواضع ... بهم ولهم ذلّت رقاب العشائر
كأن بهم وصمًا يخافون ثاره ... وليس بهم إلا اتقاء المعاثر [3]
أليست هذه مكارم الأخلاق وخصائص الآداب؟
وأما التربية الجسمية
فقد أجمل أثرها في قوله: (مطاعين للهيجا) لأنه لا يجيد الطعان عند
احتدام القتال إلا مَنْ كان له جسم شديد، وقلب من حديد.
وترى الفوارس من مهابة رمحه ... مثل البُغاث خشين وقع الأجدل
الطريقة
التي كانت متخذة في التربية العربية
كانت طريقة تربية العربي طبيعية عملية، بمعنى أن العرب بنوها على
مقتضى طبيعة الإنسان، وطبيعة الأشياء التي يمكنه أن يعلمها، وسنأتي على
تفصيل هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى.
وكانت تلك الطريقة متبعة في جميع أنواع التربية.
***
أما في التربية الفكرية
فكان العربي يدرس على نفس الأشياء، تتمثل له بذاتها، ويتصورها بنفسه،
ويحكم فيها بعقله، ويجربها بشخصه، فيصفها عن مشاهدة، ويقضي فيها على
بصيرة، ويستعملها عن تجربة.
وكان يمشي في طول الأرض وعرضها، فيصعد الجبال والآكام، ويجوب
البراري والقفار، يعبر الأنهار، ويشرف على البحار، وينزل في القرى
والأمصار، فكان يعرف البلاد في مواضعها، ويطلع على الأراضي في مواقعها.
وكان يحضر النوادي، ويسمع فيها أخبار الأولين وسير الماضين، من
أفواه المعمرين والعالمين بأيام الناس، ويشاركهم برأيه في استحسانها أو استقباحها.
وكان يُحصي عدة الأشياء بعقله، ويحسبها جمعًا وتفريقًا في نفسه، وكان
يرسم أشكال الأشياء في ذهنه، ويقدَّر الأبعاد والمسافات بنظره.
وكان يتلقى اللغة حية صحيحة عن أهلها، فكان يسمع الكلمات بأُذنه،
ومعانيها حاضرة لحواسه أو متمثلة لعقله، وكانت تصور له الأشياء البعيدة عن
حسه، أو الغريبة عن عقله، بمشابهاتها المحسوسة له أو المعروفة لديه، وتطرق
مسامعه الأساليب الكلامية البديعة، التي يرى تأثيرها في الناس ولطف مأخذها
بقلوبهم، وحسن مدخلها على أفهامهم، فكان يتلقن اللسان العربي المبين عن أرباب
البلاغة العظيمة، فيحاكيهم في البيان، ويجادلهم في القول، ويسابقهم إلى الإبداع
والاختراع.
***
وأما في التربية الأدبية
فكان يتأدب بآداب القوم الذين يعيش بين ظهرانيهم على وجه التأسي بهم،
فكان يرى القناعة غالبة عليهم فيتخلق بها، ويجد العفة سائدة فيهم فيتحلى بها،
وينظر إلى الكرم وهو منتشر فيهم فيتخذه شيمة له، وهكذا في سائر الأخلاق والشيم،
كان يوجبها على نفسه اقتداءً بأفعالهم وأحوالهم، واتباعًا لما يصدر عنهم من
الحكم الساطعة، وعملاً بما يضربونه من الأمثال السائرة.
***
وأما في التربية الجسمية
فكان نفس إقليم العرب وأحوال معايشهم حاملة للناشئ بينهم على مباشرة
الأعمال التي تُكسبه قوة الجسم، وصلابة الأعضاء، وخفة الحركات، ما بين
انتجاع للمرعى، وارتياد للماء، وسفر لمبادلة المنافع، وما يقتضيه الحل والترحال،
من تحميل الأثقال وتنزيلها، ونصب البيوت وتقويضها، وسلوك السهول
والأوعار في برد الليل وحر النهار، ولا يخفاك ما يلزم من البأس الشديد لمن
يعيش بين الحيوانات الضارية والسباع الكاسرة، ومن يكون عرضة في كل وقت
للإغارات التي تسوقها الأطماع؛ ولذلك كان العربي دائمًا في التمرن على المجالدة
أو المصارعة أو المجاراة أو المطاردة، أو الفروسية وركوب الخيل، أو غير
ذلك من الأعمال التي تجعل الجسم كالحديد، والأعضاء في حركاتها أسرع من
الريح الشديد , ثم إنه كانت تتربى له من كثرة مشاهدة الحروب، وطول مجاورة
الليوث، جراءة وبسالة وقوة نفس، لا يخاف معها لا من مخالب الأسود ولا من
أسلحة الصناديد.
***
الطريقة التي كانت متبعة
في التربية العربية
وبيان أنها طبيعية عملية
من نظر في طبيعة الإنسان ومعلوماته، وكان له معرفة بالتجارب الإنسانية
يجد بين ذلك وبين الطريقة التي كانت مستعملة في التربية العربية تمام الموافقة.
أما في تربية العقول
فلأن الإنسان بالطبع إنما يحصل على المعارف الأولية من طريق الحواسّ،
وعقله دائمًا في احتياج إلى التغذي بالمعلومات التي تصل إليه بواسطتها.
فكلما كانت حواس المرء أكثر تناولاً للأشياء وأعظم تمييزًا لأوصافها
وأسرع وصولاً إلى دقائقها - كان المرء أوسع علمًا وأحدَّ ذهنًا، وأكمل نباهة.
ومن أجل ذلك كان العربي يطّلع بقدر استطاعته على الأشياء بذاتها، ويتمرن على
اكتشاف أسرارها بنفسه، فكان ينشأ غزير المعرفة قوي التصور شديد الفطنة.
ومن (القواعد المقررة) أنه كلما كان العقل أكثر عملاً بنفسه في تصور
الأمور والحكم عليها، كان أقوى حصولاً على المعارف وأمضى نظرًا في
المعلومات، وأقرب إصابة للحقائق. وهذه هي الحكمة في اتخاذ العرب طريقة
الإرشاد في تربية أفكارهم، فكان العربي يقدر على استعمال عقله دائمًا في كل ما
يريد معرفته، وبسبب هذه العادة كان ينفر عن تلقي المسائل تلقينًا صرفًا وقضايا
مُسلَّمة. وإذا مشى مع آراء الناس فلحد ما يعرف سيرها وغايتها، فإن وجدها
مصيبة، وإلا اتبع الصواب. ولذلك كان ينشأ متوقد القريحة، ثاقب الفكر، صائب
الرأي، وزيادة على ذلك أنه لما كان يشغل عقله كان يجد سرورًا من وقوفه بنفسه
على الحقائق، ولذا كان عظيم الشوق إلى المعارف.
(وخلاصة الكلام) أنه لما كان من طبيعة العقل الإنساني العمل بنفسه،
واكتساب المعلومات، إما بواسطة الحواس، وإما بشغله الذاتي، وقد علم بالتجربة
أنه يقوى بالتمرن والتدرب - رأى العرب من الواجب أن تكون الطريقة في تربية
عقولهم إِطْلاعها على الأشياء، وإرشادها إلى كيفية العمل في الحصول على
المعارف، وتمرينها ما أمكن على الشغل بنفسها. وبما أن اللغة بطبيعتها عبارة عن
ألفاظ موضوعة بالاصطلاح للدلالة على المعاني التي يمكن أن تتناولها الأفكار؛
فمن الضروري لمن يريد التكلم بإحدى اللغات أن يقف على أنواع ألفاظها المفردة
والمركبة، وما تدل عليه من المعاني المتنوعة، وبالطبع لا يحصل المرء على
النجاح في اللغة إلا بثلاثة شروط.
(الأول) أن يُلقن مبانيها على وجه الصحة والصواب ليجتنب الأغلاط
اللسانية.
(الثاني) أن يُلقن ألفاظها عند قيام معانيها بذهنه، حتى يكون عنده الارتباط
محكمًا بين الدوالّ والمدلولات، فيأمن اللبس الناشئ عن استعمال المفردات أو
التراكيب في غير ما تُستعمل فيه.
(الثالث) أن يتمرن كثيرًا على محاكاة ما تلَّقاه لتتربى له ملكة النطق على
الهيئة المعروفة فيها، وأن يتعود اختراع الأساليب الكلامية ليكون محاكيًا للغة
بعقل، متصرفًا فيها بفهم، غير محتاج إلى تلقين مستمر.
(فالطريقة) إذن في تعليم اللغة هي التلقين الصحيح، والتعويد على المحاكاة
التعقلية، وعليها جرى العرب.
***
وأما في تربية الآداب
فقد دَلَّ النظر في طبيعة الإنسان على أنه - خصوصًا في ابتداء نشأته - يتَّبع
أكثر مما يبتدع، وتقليداته أكثر من عندياته، وذلك لقلة معرفته بالأمور، وقصور
عقله عن التمييز بين محاسن الأشياء ومساويها. وأفادت التجارب أن طول التعود على الشيء يلحقه بالطبائع؛ فرأى العرب من الحكمة في تربية الأدب أن يكون
للناشئ بينهم أسوة حسنة فيهم، حتى يتعود من صغره على مكارم الأخلاق، فإذا شب
وكبر عقله وجد فيما تعود عليه مثالاً واضحًا للنصائح الأدبية التي تتناثر عليه حينئذ
من أفواه قومه.
***
وأما في تربية الأجسام
فقد رأوا أنه لا طريق لنماء الأبدان وصحتها غير سياسة البطون، ولا سبيل
إلى القوة وشدة البأس غير رياضة الأجسام، ولا وسيلة إلى إشعار القلوب بالجراءة
إلا اقتحام الأخطار، فعملوا على مقتضى ما علموا.
فقد تبين أن الطرق التي كانت تستعملها العرب في التربية طبيعية عملية،
وهذه الطريقة هي التي يؤيدها العقل وتشهد بصحتها التجارب،وقد تكفلت بالنجاح
لكل من يستعملها. ومن يبغي الوقوف على نتيجة اتباعها في تربية الأخلاق
والأجسام، فليطّلع على حال العرب وسِيَرهم، ومن يحب أن يعرف نتيجة اتباعها في
تربية العقول، فليطالع المنشآت العربية شعرًا ونثرًا، ويتفهمها جيدًا، فإنه يجد فيها كثيرًا من العلوم العالية، التي لا يصل إليها إلا فحول أهل المعرفة والدراية.
ولنسُق مثالاً لهذا الأمر الأخير بعض أبيات الشعر الذي هو موضوع كلامنا،
وننظر إلى الأفكار التي يتضمنها والأساليب التي صيغت عليها معانيها، فإليك
أول بيت منه وهو:
يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
عَبَّرَ فيه عن ثلاث صفات للقوم وهي: الحلم المصلح، والغضب الجد،
والعقاب المؤلم، فالصنفان الأولان من المعاني التصورية التي يعرفها الإنسان (في
نفسه) بالوجدان، ويفهمها (من غيره) بالعلامات التي تدل عليها، فعلامة الحلم
السكينة والرزانة مع قيام أسباب الاستفزاز، ومع القدرة على تعجيل الإيقاع
والانتقام، ولا بد من تكرر الأحوال التي تظهر فيها هذه العلامة حتى يصل العقل
بنظره الاستقرائي إلى أن ما وراءها هو الحلم لا العجز، وعلامة الغضب تتبين في
الحركات وتظهر على الوجه، وبالأخص في العينين، ويفهمها الإنسان من أول
وهلة، ومن غير نظر ولا تروٍّ، غير أنه لا بد من التأمل في أسباب الغضب في
كل مرة يحدث فيه، حتى يستنتج أنه إنما يحصل للجد والحق لا للأهواء
والشهوات.
وأما العقاب المؤلم، فهو من المعاني العقلية الصرفة باعتبار أنه من قبيل
الفعل الغامز المقابل لبقية الأغراض، فإذا اعتبر فعلاً خاصًّا فتارة يكون معقولاً
كحرمان المعاقَب من الرضا مثلاً، وتارة يكون محسوسًا كضربه بالسوط مثلاً.
فتلخص أن المعاني الأصلية التي أودعها الحطيئة في ذلك البيت ثلاثة، وأن
طرق إدراكها مختلفة بين الوجدان وبين الفهم مع التعقل، وبين الحس أو العقل
الصرف غير أن المعنى الأول وهو حلم القوم صاغه الشاعر في قالب تخيلي
اختراعي، حيث صور بهيئة الحكم الحملي الإيجابي، وحالة القوم المالكين لنفوسهم،
الموطنين لها على تحمل آلام التعدي أو المخالفات والصبر عليها أزمانًا طوالاً [1]
رغبة في السرور الذي تناله بإرجاع المخالفين إلى الحسنى - بحالة الرائضين للخيل،
الصابرين على حرانها، طلبًا للذة تذليلها والانتفاع بها، أو بحالة السائسين للرعايا،
المتحملين لتعللاتها، انتظارًا للفرح بسلوكها الجادة القويمة. ولا يخفى ما دخل
في تركيب ذلك التخيل الاختراعي من المعاني وهي (السياسة) و (الأشخاص)
التي نسبت إليهم و (العقول) المسوسة و (طول التأني) الموصوفة به العقول،
فالأشخاص إدراكها حسي، وما عداها فعقلي.
ثم إن المعنى الثالث [2] وهو عقاب القوم المؤلم أفاده ضمنًا في قوله: (جاء
الحفيظة والجد) حيث جعل غضبهم هو الغضب الحقيقي والجد الذي لا هزل معه،
وهذا يستلزم استتباع حفيظتهم للنكال، وتلك هي الحكمة في صوغ المعنى الثاني
في صيغة الحكم الشرطي الإيجابي، والبيت الثاني وهو:
أقلوا عليهم لا أبًا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وضّح فيه مطلوبه من اللائمين وما يتمناه فيهم، فتمنى فيهم - ونعوذ بالله -
الخذلان وعدم الناصر، وهو معنى متصوَّر له عقلاً وتمنيه معروف له بالوجدان،
وطلب منهم أحد أمرين: إما ترك لوم الممدوحين، وإما القيام مقامهم، وكل منهما
معنى متصور عقلاً، وكلٌّ من رغبة الأول وكراهة الثاني - لو أمكن حصوله
وجدانية - وطلب حصول المعنى الثاني مبين بصورة اختراعية يتناولها الحس في
البناء، والبيت الثالث وهو:
أولئك قوم إن بنَوْا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
أسفر فيه عن ثلاث صفات: إحكام الأعمال، والوفاء بالمعاهدات، والدوام
على صفاء المحالفات، أما الصفة الأولى فهي معنى عقلي قامت لدى الشاعر
الدلائل الحسية والمعنوية على اتصاف القوم به، فصوره بصورة تخيلية اختراعية
ضمنها الحكم الشرطي الإيجابي المحتوي على معنى البناء الحسي ومعنى الإحسان
المعنوي المنسوب إلى الأشخاص المدركة بالحس، وكل من الصنفين الآخرين
معنى وجداني معبر عنه بصيغة الحكم الشرطي الثبوتي، وكلتاهما تحتاج إلى نظر
ودليل في ثبوتهما للقوم، والصفة الأخيرة وبينها الشاعر على أسلوب تخيلي لا
تخفى المعاني التي تكون منها.. . إلخ.
ومن يتفهم باقي هذا الشعر كغيره من كلام العرب نظمًا ونثرًا على الكيفية
التي شرحنا بها معاني الأبيات السابقة يتضح له أن عقول العرب كانت نيرة،
مدربة على ملاحظة الأمور، متفطنة لدقائقها، ماضية في استحضار المعاني
ومقارنتها، مصيبة في النظر بين أطرافها، وتقرير النِّسب بينها، قادرة على كشف
خفاياها وإبراز المعقول منها في صورة المحسوس، ولا يخفى أن ذلك نتيجة
تربيتها الفكرية على الطريقة الطبيعية العملية.
***
بيان الطرق العمومية
(لأجل الوصول إلى مثل التربية العربية وتكميلها في أمتنا بواسطة المدارس
خصوصًا)
لا شك أن الطريقة التي كانت مستعملة في التربية العربية جديرة بأن نعمل
بها، غير أن مقتضيات الأحوال في زماننا الحاضر ومكاننا الخاص توجب علينا
اتباع تلك الطريقة بعد أن نُدخل فيها من التكميلات ما تكون به موافقة لحالتنا الحالية،
وهذه التكميلات تنتظم في سلك جملة أنواع:
(الأول) لما كان النوع الإنساني في العصر الحالي بالغًا مبلغًا عظيمًا في
المدنية المحتاجة إلى سعة المعارف وإتقان ضبط الأمور - لزم أن تكون الطريقة في
تربية الناشئة هي تعليمهم باللسان والقلم معًا، ليكون الفهم منها ذا أذنين، والكلام ذا
لسانين، ومن أجل ذلك كان من أصول التربية المتحتمة في أيامنا هذه تعليم كل
إنسان القراءة والكتابة؛ لأن محاربة الأمية في عصرنا هي الجهاد الأكبر،
واستئصالها هو فتح الفتوح.
(الثاني) بما أن أحوال الوقت الحالي أوجبت أن يكون الطرف الأعظم من
التربية حاصلاً في (المدارس) تعين بسبب الاجتماع المدرسي أن يكون كل نوع
من أنواع التربية التي شرحناها آنفًا على كيفية خاصة كافلة بالنجاح.
***
الكيفية التي يجب أن تكون
عليها التربية الفكرية
في المدارس
هذه الكيفية لا بد في حصولها من جملة أمور.
(الأول) أن تقسم التلامذة فرقًا على حسب درجات عقولهم ومقدار معارفهم،
وأن يخصص لكل فرقة المكان المناسب لها المستوفي للشروط الصحية، وأن
يُنتخب لها من يليق من المربين والمعلمين الذين تحلَّوا بصفات الكمال.
(الثاني) أن يُعطى لكل فرقة في زمن محدد مقدار من العلوم أو الفنون
مناسب لمداركها، ولائق بذلك الزمن بحيث يمكن تقريره في مدته تقريرًا تامًّا.
(الثالث) أن يُعين لكل علم أو فن الوقت المناسب له من اليوم والأسبوع
على حسب أهميته ومقدار منفعته.
(الرابع) أن تعتبر القراءة والكتابة أساس التعليم، فتضمن الأصول التي
تتفرع منها العلوم والفنون.
(الخامس) أن يكون التعليم على الطريقة العربية التي شرحناها بحيث
يبتدئ بالمحسوسات، ثم يعقب بالمعنويات، ويُقَّدم السهل على الصعب، والمعلوم
قبل المجهول، ويكون في جميع الأحوال إرشادًا جميلاً عربيًّا لجميع القوى العقلية
باعثًا للشوق إلى المعارف.
(السادس) أن يكون درس الأشياء على نفس الأشياء بقدر الإمكان بحيث لا
يعين على صورها أو وصفها وتمثيلها بالكلام إلا إذا تعذر إحضارها، وأن يتوجه
بالتلامذة حينًا فحينًا إلى الأماكن التي يطَّلعون فيها على ذوات الأشياء الطبيعية
والصناعية.
(السابع) أن يكون في مقدمات التعليم تنوير عقول التلامذة بنور الدين
الحنيفي وتغذيتها بالحكم العربية.
__________
(1) فضلاً عن كذا: يستعمل في سياق - كقولك: لا يملك الدرهم فضلاً عن الدينار - النفي ويستغنى عنه هنا بمثل: نير في نفسه وهو على ذلك منور لغيره.
(2) وفي نسخة: ويوم الوغي مثل الليوث الكواسر.
(3) المعاثر: أنواع العثار أو مواضعه، ويجوز أن تكون محرفة عن المعاير من العار.
(4) في الأصل طويلاً أزمانًا، ولعله من سهو النسخ.
(5) قوله: المعنى الثالث يريد يه الثالث من الصفات المودعة في البيت التي ذكرها عقب ذكره، وهي الحلم والغضب والعقاب، لا للمعاني التخيلية التي للأول منها.(26/600)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
كتاب ابن تيمية
إلى الشيخ ناصر المنبجي
هؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يُعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة
التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين، وذلك أن القسمة رباعية، فإن كل
واحد من الاتحاد والحلول إما معين في شخص وإما مطلق، أما الاتحاد والحلول
المعين كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة، وفي المشايخ من جهال
الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معنى إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن، وهو
قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط، وإما بالحلول وهو قول
النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية.
(وأما الحلول المطلق) وهو أن الله تعالى بذاته حالٌّ في كل شيء، فهذا
تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك.
وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحدًا سبقهم إليه إلا من أنكر
وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين
وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض
هي نفس وجود المخلوقات، فلا يُتَصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا
أنه رب العالمين ولا أنه غني وما سواه فقير، لكن تفرقوا على ثلاث طرق، وأكثر
من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم؛ لأنه أمر مبهم.
(الأول) أن يقولوا: إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها، أبدية
أزلية حتى ذوات الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات، وأن وجود الحق
فاض على تلك الذوات، فوجودها وجود الحق، وذواتها ليست ذوات الحق.
ويفرقون بين الوجود والثبوت، فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك،
ويقولون: إن الله سبحانه لم يعطِ أحدًا شيئًا، ولا أغنى أحدًا ولا أسعده ولا أشقاه،
وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك، ويقولون: إن
هذا هو سر القدرة، وإن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في
العدم خارجًا عن نفسه المقدسة، ويقولون: إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من
العالم، وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه، فيكون علمهم وعلم
الله تعالى من معدن واحد، وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه؛
لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به للرسل، ويقولون:
إنهم لم يعبدوا غير الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى، وأن عباد الأصنام
ما عبدوا إلا الله سبحانه، وأن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 23) معنى حكم لا معنى أمر، فما عبد غير الله في كل معبود، فإن الله
تعالى ما قضى بشيء إلا وقع، ويقولون: إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو،
فإنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، وأن قوم نوح قالوا: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ
وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً} (نوح: 23) لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر
ما تركوا منهم؛ لأن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من عرفه وينكره من أنكره،
وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في
الصورة الروحانية، وأن العارف منهم يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى
عبد، فإن الجاهل يقول: هذا حجر وشجر، والعارف يقول: هذا محل إلهي ينبغي
تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وأن عباد الأصنام
ما أخطأوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء، والله يعبد أيضًا كل شيء؛ لأن الأشياء غذاؤها بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها
بالوجود، وهو فقير إليها، وهي فقيرة إليه، وهو خليل كل شيء بهذا
المعنى، ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة وإضافة بين الوجود والثبوت
وليست أمورًا عدمية، ويقولون: (من أسمائه الحسنى العلي عن ماذا وما ثم إلا
هو؟ وعلى ماذا وما ثم غيره؟ فالمسمى محدثات وهي العلية لذاتها وليست إلا هو،
وما نكح سوى نفسه، وما ذبح سوى نفسه، والمتكلم هو عين المستمع) وأن
موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل؛ لضيقه وعدم اتساعه،
وأن موسى كان أوسع في العلم، فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وأن أعلى ما عبد
الهوى، وأن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله. وفرعون كان عندهم من
أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في قوله: أنا ربكم الأعلى، وفي قوله: ما
علمت لكم من إله غيري.
وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول: إن حقيقة
أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض
عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون: نحن على قول فرعون [1] ، وهذه
المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه،
والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياءُ منهم
والأموات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ
لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .
والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص المضاف إلى النبي - صلى
الله تعالى عليه وسلم - أنه جاء به وهو ما إذا فهم المسلم بالاضطرار [2] أن جميع
الأنبياء والمرسلين وجميع الأولياء والصالحين، بل جميع عوام أهل الملل من
اليهود والنصارى والصابئين يبرأون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه
كله، ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع
الخالق البارئ المصور- الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور -
ربهم ورب آبائهم الأولين، رب المشرق والمغرب. ولا يقول أحد منهم: إنه عين
المخلوقات ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى إنهم يقولون: لو زالت
السموات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين:
(أحدهما) أن المعدوم شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة
والرافضة، وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب والسنة والإجماع. وكثير من
متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر كفَّر من يقول بهذا، وإنما غلط هؤلاء من
حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب في
اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله تعالى، فإن مذهب المسلمين
أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق
قبل أن يخلقها، فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي.
ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - سورة
{اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5)
فذكر المراتب الأربع، وهي الوجود العيني الذي خلقه، والوجود الرسمي
المطابق للَّفظي الدالّ على العلمي، وبين أن الله تعالى عَلِمه؛ ولهذا ذكر التعليم
بالقلم، فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة. وهذا القول - أعني قول من يقول: إن المعدوم
شيء ثابت في نفسه خارج عن علم الله تعالى - وإن كان باطلاً ودلالته
واضحة، لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة، وابن العربي وافق
أصحابه، وهو أحد أصلي مذهبه الذي في الفصوص.
(والأصل الثاني) أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق
ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من
المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن العربي أقربهم إلى الإسلام
وأحسن كلامًا في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقر الأمر
والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من
الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم؛ فينتفعون
بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله.
(وأما) صاحبه الصدر الرومي فإنه كان متفلسفًا، فهو أبعد عن الشريعة
والإسلام، ولهذا كان الفاجر التلمساني المُلقَّب بالعفيف يقول: كان شيخي القديم
متروحنًا متفلسفًا، والآخر فيلسوفًا متروحنًا - يعني الصدر الرومي - فإنه كان قد
أخذ عنه، ولم يدرك ابن عربي في كتاب مفتاح غيب الجمع والوجود [3] وغيره
يقول: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين، كما يفرق بين الحيوان المطلق
والحيوان المعين، والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في
الخارج مطلقًا، لا يوجد إلا في الأعيان الخارجة، فحقيقة قوله: إنه ليس لله
سبحانه وجود أصلاً ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات، ولهذا
يقول هو وشيخه: إن الله تعالى لا يرى أصلاً، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا
صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجوده، تعالى
الله عما يقولون.
(وأما) الفاجر التلمساني فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر؛ فإنه لا يفرق
بين الوجود والثبوت كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين كما
يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وأن العبد إنما
يشهد السوى ما دام محجوبًا، فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر؛
ولهذا كان يستحل جميع المحرمات حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول: البنت
والأم والأجنبية شيء واحد ليس في ذلك حرام علينا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا:
حرام، فقلنا: حرام عليكم، وكان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما
التوحيد في كلامنا،وكان يقول: أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول:
القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشَرَح الأسماء الحسنى
على هذا الأصل الذي له، وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء، وشعره في صناعة
الشعر جيد، ولكنه كما قيل: لحم خنزير في طبق صيني، وصنف للنصيرية عقيدة،
وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه.
(وأما) ابن سبعين فإنه في (البدو والإحاطة) يقول أيضًا بوحدة الوجود،
وأنه ما ثم غير، وكذلك ابن الفارض في آخر نظم السلوك، لكن لم يصرح هل
يقول بمثل قول التلمساني أو قول الرومي أو قول ابن العربي، وهم إلى كلام
التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي ما كفره أحد قط مثل
التلمساني، وآخر يقال له البلباني من مشايخ شيراز ومن شعره:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه
وأيضًا:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائقه
وأيضًا:
وتلتذ أن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم
وأيضًا:
ما بال عينك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لايني متنقلاً
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وأيضًا:
ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من حمد ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع في الحكم
وأيضًا:
يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهَّاء وأَمَّار
فإن أطعك وأعص الوجد عُدت عمي ... عن العيان إلى أوهام أخبار
فعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققته تره المنهيَّ يا جاري
وأيضًا:
وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد
إلى أمثال هذه الأشعار، وفي النثر ما لا يحصى، ويوهمون الجهال أنهم
مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة مثل:
سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس
والأوزاعي وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري والفضيل بن عياض
ومعروف الكرخي والشافعي وأبي سليمان وأحمد بن حنبل وبشر الحافي
وعبد الله بن المبارك وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة، إلى مثل المتأخرين
مثل: الجنيد بن محمد القواريري وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان
المكي ومن بعدهم، إلى أبي طالب المكي إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني
والشيخ عدي والشيخ أبي البيان والشيخ أبي مدين والشيخ عقيل والشيخ أبي
الوفاء والشيخ رسلان والشيخ عبد الرحيم والشيخ عبد الله اليونيني والشيخ
القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق ومصر
والمغرب وخراسان من الأولين والآخرين.
كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء ومن هو أرجح منهم، وأن الله سبحانه
ليس هو خلقه ولا جزءًا من خلقه ولا صفة لخلقه، بل هو سبحانه وتعالى مميز
بنفسه المقدسة، بائن بذاته المعظمة عن مخلوقاته، وبذلك جاءت الكتب الأربعة
الإلهية من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وعليه فطر الله تعالى عباده وعلى ذلك
دلت العقول.
وكثيرًا ما كنت أظن أن ظهور مثل هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار،
واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب الذي يزعم أنه
هو الله، فإن هؤلاء عندهم كل شيء هو الله، ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض
وأعظم، وأما على رأي صاحب الفصوص فإن بعض المظاهر والمستجليات يكون
أعظم لعظم ذاته الثابتة في العدم، وأما على رأي الرومي فإن بعض المتعينات
يكون أكبر، فإن بعض جزئيات الكلي أكبر من بعض، وأما على البقية فالكل
أجزاء منه، وبعض الجزء أكبر من بعض، فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من
كبار العارفين، وأكبر من الرسل بعد نبينا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم -
وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فموسى قاتل فرعون الذي يدعي
الربوبية، ويسلط الله تعالى مسيح الهدى الذي قيل فيه: إنه الله تعالى، وهو بريء
من ذلك على مسيح الضلالة الذي قال إنه الله.
ولهذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -
قال: (إنه أعور) [4] ، وكونه قال: (واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى
يموت) وابن الخطيب أنكر أن يكون النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال
هذا؛ لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال أبين من أن يستدل عليه بأنه
أعور، فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية، وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى
والحلولية ظهر سبب دلالة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأمته بهذه العلامة،
فإنه بعث رحمة للعالمين، فإذا كان كثير من الخلق يُجوِّز ظهور الرب في البشر
أو يقول: إنه هو البشر - كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلاً على انتفاء الإلهية
عنه.
وقد خاطبني قديمًا شخص من خيار أصحابنا كان يميل إلى الاتحاد، ثم تاب
منه وذكر هذا الحديث، فبينت له وجهه، وجاء إلينا شخص كان يقول: أنه خاتم
الأولياء، فزعم أن الحلاج لما قال: أنا الحق. كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه
كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من
النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان من هذا الباب، فبينت له فساد هذا،
وأنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة موسى بن عمران، وكان من خاطبه هؤلاء
أعظم من موسى؛ لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة، وهؤلاء يسمعون من
الجن الناطق، وهذا يقوله قوم من الاتحادية، لكن أكثرهم جهال لا يفرقون بين
الاتحاد العام المطلق الذي يذهب إليه الفاجر التلمساني وذووه وبين الاتحاد المعين
الذي يذهب إليه النصارى والغالية.
وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود
كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحًا،
وَقَلَّ أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان.
وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث من أولئك الجهمية، ولكن السلف والأئمة
أعلم بالإسلام وحقائقه فإن كثيرًا من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة، حتى
يتدبرها ويرزق نور. الهدى فلما اطّلع السلف على سر القول نفروا منه، وهذا كما
قال بعض الناس: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل
شيء، وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه تأله ولا تعبد، فهو يصف ربه بصفات
العدم والموات.
وأما المتعبد ففي قلبه تأله وتعبد والقلب لا يقصد إلا موجودًا لا معدومًا،
فيحتاج أن يعبد المخلوقات إما الوجود المطلق وإما بعض المظاهر: كالشمس
والقمر والبشر والأوثان وغير ذلك، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم،
وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى، وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين
المخلوقات، فهم بربهم يعدلون؛ ولهذا حدث الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب
إلى الهند وقال: إن أرض الإسلام لا تسعه. لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء
حتى النبات والحيوان.
وهذا حقيقة قول الاتحادية، وأعرف ناسًا لهم اشتغال بالفلسفة والكلام، وقد
تألهوا على طريق هؤلاء الاتحادية، فإذا أخذوا يصفون الرب سبحانه بالكلام قالوا:
ليس بكذا ليس بكذا، ووصفوه بأنه ليس هو المخلوقات كما يقوله المسلمون، لكن
يجحدون صفات الخالق التي جاءت بها الرسل عليهم السلام، وإذا صار لأحدهم
ذوق ووجد تأله وسلك طريق الاتحادية، وقال: إنه هو الموجودات كلها، فإذا
قيل له: أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟ قال: ذلك وجدى، وهذا ذوقي، فيقال
لهذا الضال: كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد، فأحدهما أو كلاهما باطل، وإنما
الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات، فإن علم القلب وحاله متلازمان
فعلى قدر العلم والمعرفة يكون الوجد والمحبة والحال، ولو سلك هؤلاء طريق
الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له،
ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، واتبعوا طريق السابقين
الأولين - لسلكوا طريق الهدى، ووجدوا برد اليقين وقرة العين، فإن الأمر كما قال
بعض الناس: إن الرسل جاؤوا بإثبات مفصل ونفي مجمل، والصابئة المعطلة
جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فالقرآن مملوء من قوله تعالى في الإثبات:
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التوبة: 115) {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:
20) وأنه {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج: 61) {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: 7) وفي النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً
أَحَدٌ} (الإِخلاص: 4) {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) {سُبْحَانَ رَبِّكَ
رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ} (الصافات: 180-181) .
وهذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ - أيده الله تعالى بالإسلام،
ونفع المسلمين ببركة أنفاسه وحسن مقاصده ونور قلبه - فإن ما فيه نكت
مختصرة، فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب، ولكن ذكرت للشيخ - أحسن الله
تعالى إليه - ما اقتضى الحال أن أذكره، وحامل الكتاب مستوفز عجلان، وأنا
أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين عامتهم وخاصتهم، ويهديهم إلى ما يقربهم،
وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير الذين قال الله سبحانه فيهم: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) انتهى.
__________
(1) كذا في الأصل، ويراجع في رسالة إبطال وحدة الوجود (ص117) من مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام.
(2) كذا في الأصل، وفيه ما ترى، والمعنى أن ما في كتاب الفصوص من أمثال ما ذكر يفهم كل مسلم أنه مخالف لدين الله على ألسنة جميع رسله، وأنه مما يتبرأ منه عوام جميع الملل.
(3) قوله: في كتاب إلخ القطع غير متجه، وكتاب مفتاح غيب الجمع والوجود لصدر الدين الرومي القونوي هذا من شيخ الإسلام نقل مشاهد من كتابه هذا على ضلالته.
(4) تتمة الحديث (وإن الله ليس بأعور) رواه الشيخان من حديث ابن عمر، وهذا لفظ البخاري، وهذه الجملة هي محل التعجب الذي حمل ابن الخطيب وهو الفخر الرازي على إنكار الحديث.(26/613)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية
كتب إليّ الأستاذ أبو الحسنات الهندي أحد أعضاء دار المصنفين في
(أعظمكده - الهند) رحمه الله تعالى، الكتاب الآتي بعد اطّلاعه على قانون
جمعية الرابطة الشرقية في المنار، وهو من دعاة الجامعة الإسلامية.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة المفضال مولانا رشيد رضا صاحب المنار، سلامًا سلامًا.
لقد سرني ما قرأت في صفحات الجرائد الأردوية: أن عصبة من أصحاب
النعرة والغيرة على الشرق من أهل مصر قامت بإصلاح شؤونه وترقية شعوبه،
وإخراج أهله من الذل والانحطاط الذي وصلت هذه الأمم الشرقية إلى غايته،
وألَّفتْ جمعية موسومة بجمعية الرابطة الشرقية، تكون مصر مركزًا لها، وتكون
للجمعية شُعب في كل قطر من الأقطار الشرقية، وزاد فرحي إذ رأيت اسمكم
الشريف من جملة بانيها ومؤسسيها، وكان هذا الفرح والسرور بما أني أحسن الظن
بكم، فإنكم لستم كعامة علماء زماننا هذا، لا يفرقون القشر من اللباب، والماء من
السراب.
بينما كنت في هذا الفرح والسرور إذ وصلتني الأجزاء (الأول والثاني
والثالث) لمجلة المنار الغراء من مجلدها الثالث والعشرين، وقرأت في فاتحة هذا
المجلد ما نصه:
(جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوحدة، وجمع كلمة
الأمة، بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن.. .. ألا وإنه قد أتى الأوان للعمل بما
أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان أهل هذا الزمان، من أهل مصر
والسودان، وسائر العرب والهند والترك والفرس والأفغان) .
فازددت فرحًا على فرح، وبشّرتُ نفسي كما حررتم في هذه الفاتحة (بأن
ليل الذل والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس) ولكن يالخيبة
الأمل إما كان أقصر زمن فرحي وسروري؛ لما طالعت في الجزء الثالث مقاصد
الجمعية وأغراضها، ووجدت الصراحة فيها بأن (غرض الجمعية نشر المعارف
والآداب والفنون الشرقية وتعميمها، وتوسيع نطاقها، وتوثيق روابط التعارف
والتضامن بين الأمم الشرقية على اختلاف أجناسها وأديانها) .
فالألفاظ الأخيرة وإن كانت متشابهة بألفاظ السيد جمال الدين الأفغاني طاب
ثراه، ولكن غرضكم الحقيقي من هذه الجمعية ليس ما كان غرض السيد المرحوم
كما لا يخفى على الناظر في مقاصد جمعيتكم بأول النظر.
أيها الحبر الأعظم: إن مقصد السيد المرحوم الذي قد وجه إليه أفكاره، وبذل
في سبيل جهده قواه، وكتب على نفسه السعي إليه مدة حياته، وأصابه ما أصابه
من البلاء في سبيله - هو إنهاض ما بقي من الدول الإسلامية من ضعفها، وتنبيهها
للقيام على شؤونها تحت ظل الخلافة العظمى، حتى تصير الأمة الإسلامية من
الأمم العزيزة، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجد كان له في الأيام
السالفة [1] ، ولما كان النجاح بهذا العمل الجسيم موقوفًا على تقليص ظل الدول
الغربية عمومًا عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وعلى تنكيس الدولة البريطانية،
خصوصًا في الأقطار الشرقية، بدأ السيد المرحوم هذا الجهاد الأكبر بإصلاح
ذات بين الشرقيين عمومًا، والمسلمين خصوصًا، وبتقوية الصلات العمومية بين
الأمم، وتمكين الألفة في أفرادها، وتأييد المنافع المشتركة بينها، وبالتنبيه على أن
التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة، هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية،
وبالتنقيب عن المسالك الدقيقة التي يسري بها الطامعون في دياجر الغفلات [2] .
أيها العلامة المفضال، هكذا كان سير السيد المرحوم وطريق عمله، وترونه
كما أراه في صفحات مجلته (العروة الوثقى) وهي المجلة التي نفخ السيد المرحوم
بها الروح العالية: روح الحياة، وروح النهضة، التي نرى ذراتها متحركة
وسارية يومًا بعد يوم في الطبقة الراقية من أبناء الشرق، فأين يا مولانا مقاصده العلى
من مقاصد جمعيتكم التي دعوتم إليها أرباب العلم والقلم من أبناء الشرق؟ هل
الجهل فقط هو داء الشرق، ونشر العلوم وتوسيع نطاق المعارف فيه دواؤه؟ هل
تجزمون بأن التعارف العلمي والتضامن الأدبي يؤول على أبناء الشرق بالسعادة
الدنيوية والدينية (التي) تسعد بها الأمم؟ وهل تظنون أن قلوب أبناء الشرق تكون
لها الطمأنينة، وقريحتهم تكون لها السكينة، ويد الأجانب عاملة في شؤونهم تدبر الأمر كيفما تشاء؟ لا والله لا.
نعم ربما يظن قوم في هذه الأزمان أيضًا - مع أن التجارب تعرض عنه
والشواهد تنكره - أن نشر الجرائد، وتأسيس المدارس، وبث العلوم، وتوسيع
نطاق المعارف، أدوية تعالج بها أمراض الأمم المصابة، وأنها هي أسباب تكفل
إنهاض الأمم، وتنبيه أفكارها، وتقويم أخلاقها، ولكن الحق أنه ليس الأمر كذلك.
المدارس في الشرق كثيرة، والجرائد تزداد فيه أعدادها يومًا بعد يوم، وللعلوم
والمعارف دور كثيرة في كل قطر من الأقطار، فمع هذه كلها ما هذا الذل والفقر
والعبودية؟ هل صارت بوجود هذه الأسباب التي يظن سعادة الأمم نتيجة لها أحسن
حالاًً مما كانت عليه قبل زماننا هذا؟ هل استنقذت أنفسها من أنياب الفقر والعسرة؟
هل نجت بها من ورطات الذل والعبودية؟ هل أحكمت الحصون، وسدت الثغور؟
هل نالت بها المنعة والمُنَّة [3] التي تدفع بها غارة الأعداء؟ لا والله لا.
فمع هذا كله إلى أي شيء تدعون الأمم الشرقية عمومًا والمسلمين خصوصًا،
وإلى أي سبيل مسيركم؟
واعلموا يا مولانا أن أول أمر يجب الاهتمام به هو معرفة أصل الداء وأسبابه
الحقيقية، أيمكن لطبيب يعالج مريضًا أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف
ما عرض له من المرض، وما هو سببه؟ كلا ثم كلا، نعم يمكن أن يكون هذا
سير من ليس له الحظ الأوفى من الحذق والكمال، ويكون متطببًا لا طبيبًا، فعلى
الطبيب الحاذق أن يهتم قبل كل شيء بمعرفة أصل الداء وأسبابه، ثم بطريق
علاجه وتعيين دوائه؛ لكي لا يكون الداء أصعب والدواء أعز، فإن معالجة
المرض قبل تعيين أسبابه لا تزيد إلا شدة في المرض، وصعوبة على المريض،
بل ربما تفضي به إلى الموت، فأقول (وهذا قولي في مسألة الأمة المسلمة
خاصة، وأما مسألة الأمم الشرقية فلست الآن بصددها، ويمكن أن أجرد لها فصلاًً
آخر إن ساعدتني الفرصة) .
إن أول مرض لحق الأمة المسلمة هو تشتت أهوائها، وتخالف أميالها، الذي
فرق جمعها وبدَّد شملها، حتى ذهب كل واحد منها إلى ما قاده إليه هواه من غير أن
يراعي جانب الأمة، ويستحفظ فوائدها، أو أن يلتفت إلى ما يمسها، ويهتم بالدفاع
عنها.
انظروا أيها الفاضل الجليل كيف كان بدء الانحلال والضعف في روابط الملة
الإسلامية من جهة دينها ودنياها عندما انفصلت الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة على
عهد العباسية، حيث قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يستجمعوا شرف
العلم والتفقه في الدين، فكثرت بذلك المذاهب، وانفصلت فيها المسالك، ووقع في
الدين الإسلامي تشعب لا مثيل له في دين من الأديان، وكان هذا في مستهل القرن
الثالث من الهجرة النبوية، وبعد ذلك عمت هذه السيول، واندفعت على كل قطر
من أقطار العالم الإسلامي، حتى ما بقي موضع ليسكن فيه الاثنان من المسلمين إلا
وهما المختلفان في المذهب، هذا من جهة دينهم، وأما من جهة دنياهم فاشتد ذلك
الخلاف، وزاد بظهور المغول الذين أوقعوا بالمسلمين قتلاًً وإذلالاًً، حتى أذهلت
الأمة عن أنفسها، وتقطعت الوشائج وانفصمت عرى الاتصال بينهما، فتفرق
الشمل بالكلية، وافترق الناس فرقًا وشيعًا [4] .
هذه هي الداهمة التي دهمت الأمة المسلمة، وطوحتها في غيابة الذل والهوان
وقعر الخمول والسَّكَران [5] ، وما انتبهت وصَحَتْ إلى يومنا هذا انتباهًا صحيحًا
وصحوًا كاملاًً، فالأمر واضح، والطريق ليس بملتبس على من يريد أن يسلك في
سبيل إيقاظها وإنهاضها طريقًا مستقيمًا غير معوج، وما هو إلا السعي في سبيل
توحيد كلمتها، وتشديد ارتباط بعضها مع بعض، هذه كلمة صدق قلتها لكم، وأريد
أن أقولها مرة بعد أخرى، فإن قلبي قد ملئ بها إذعانًا وإيقانًا، وخاصة في زماننا
هذا، خير الأمور التي تستحق أن يجهد في سبيله من يريد الجهاد في سبيل الأمة
وسبيل الدين، بل وفي سبيل الله، هو أن يجاهد في جمع الكلمة المتفرقة لمسلمي
العالم حيثما يمسون، وفي أي قطر يصبحون؛ لأن التشتت والتفرق فقط هو
(أدوى) داء حل بهم، وأهبطهم في هاوية، وما أدراكم ماهيه، إنها هي كون
المسلمين عبيدًا للأجانب حتى في أوطانهم، بعد ما كانوا مولى العالم في الشرق
والغرب.
وها هي (ذي) حقيقة ثابتة لا يسعها الخلاف، جديرة بأن تنظروا إليها. إن
الأمة المسلمة قوية الرجاء بين الأمم، لا تقنط قنوطًا يحكم عليها بالهبوط الثابت،
وبالسبات الدائم، بل كلما قامت لها قيامة رقدت من نوم غفلتها، وانتبهت فقامت
وسارت سير التقدم والرقي، ألا ترون أنها بعدما صدمت بصدمات غارات التتر
والحروب الصليبية جمعت بعد زمن يسير تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية،
وساقت الجيوش إلى أنحاء العالم، ودوخت البلاد، وأرغمت أنوف السلاطين،
حتى دانت لها الدول الإفرنجية، ونفذت أوامرها في الشرق والغرب؟ لا ريب في
أن هذه الأيام كانت للأمة المسلمة أيامًا بيضاء حسانًا، كأنما رجع لها الدهر بأيام
الخلافة العباسية التي لا نظير لها في تاريخ الأمة، ثم بعد ذلك بحكم {وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) قلب لها الدهر ظهر المجن، فأخذت
تنزل من منزلتها الرفيعة، ودست لها الدول الإفرنجية الدسائس، فتفرقت كلمتها،
وتمزقت جمعيتها، حتى ما بقيت دار من دور المسلمين إلا فيها الأمر والحكم
للأجانب إلا ما شاء الله.
ومع هذا كله ارجعوا البصر إلى ما وقع في زماننا هذا من انتصار الجيوش
الإسلامية القاهرة تحت قيادة سيف الله المسلول، آية من آياته الكاملة، الغازي
مصطفى كمال باشا أيده الله بنصر مزيد، فإنها لما سمعت انتصاره على اليونان،
وانتزاعه الدولة العلية من مخالب الأعداء، فاهتزت لها نفوسها، وأحدث هذا الفوز
حركة قوية في طباعها، حتى خافت عواقبها الدولة التي هي أقوى دول العالم
وأعدى عدى الإسلام والمسلمين، وجعل يسعى أربابها في تسكين جأشهم بقولهم
الزور أن نعوذ بالله أن نكون من أعداء الإسلام والمسلمين (والله يعلم ما يسرون
وما يعلنون) .
نعم قلت: إن الأمة المسلمة هي قوية الرجاء، ولها ميل شديد إلى الوحدة كما
هي اجتمعت بعد الانتشار تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية، فقويت بها
شوكتها، وارتقت ارتقاءً نهائيًّا، مع هذا كله نقول: مما لا ريب فيه أنه كان ما
كان لها من جهة دنياها لا من جهة دينها، والحق أن سر ضعفها الحقيقي كان
مضمرًا في دينها؛ ولأجل ذلك ما مضت من أيام شوكتها أيام تذكر، حتى حصل
السبات ونامت، فكأنما كان لها ذاك الحراك تحولاًً من شق إلى شق آخر في نومها
فأقول لكم يا مولانا قول خبير بصير: إنه لا نجاح لمن يريد خدمة الأمة المسلمة إلا
بدعوتها إلى الاعتصام بحبل دينها، والاقتداء بأحكام شريعتها، فإن لدين هذه الأمة
وشريعتها سلطانًا على أنفسها لا يماثله سلطان الحمية الوطنية والنعرة الجنسية،
فكلما دعيت إليها تحركت لها جؤوشها، واهتزت لها نفوسها، ولبَّتْ واجتمعت،
فحينئذ تتنزل الملائكة عليها، ويؤيدها الله بروح منه، ويتحقق معنى الآية المباركة
{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) .
فالشريعة مورد هذه الأمة ومصدرها، والمسلمون كلهم بحكم شريعتهم
ونصوصها الصريحة مجبولون على الوحدة، والجبلة لا تزول، وإن كانت الجبال
عن مقامها تزول، وكيف يمكن هذا والقرآن يتلى بينهم، فيتلون منه صباحًا ومساء
الآيات المحرضة على الوحدة والوفاق {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ، وأمثالها كثيرة لا حاجة إلى سردها هنا.
فإن قال قائل: [6] مع تلك الآيات البينات المحكمات المحرضات على الوحدة
والوفاق، ما في المسلمين من التشتت والافتراق، وهم هم في شدتهم في الدين،
والتمسك بعقائدهم الدينية، والإحساس بداعية الحق في نفوسهم فأقول:
إن الأعمال وإن يكن منشؤها العقائد والأفكار، ولكن يكون صدورها موقوفًا
على ضرورة وداعية تدعو الإنسان إلى إصدارها، فلا يمكن الارتياب في هذا أن
عقيدة المسلمين بالأخوة الدينية، ثابتة موجودة في نفوسهم، وما طلعت الشمس
عليهم يومًا واحدًا وهم عنها غافلون، وأما العلل الحقيقية في تباطؤهم عن ارتباط
بعضهم مع بعض، ونصرة إخوانهم في الدين فهي عديدة:
(منها) زوال كل جامعة بين المسلمين في الأغلب ما عدا العقيدة الدينية
المجردة عما يتبعها من الأعمال، فهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، وانقطع
التواصل، وانعدم التعارف بينهم، فمسلمو الهند في غيبة عن أحوال مسلمي المملكة
العربية والتركية، ومسلمو العرب وفارس في غفلة عن شؤون مسلمي الجزائر
ومراكش.
(ومنها) إيقاد الأعداء نار التشتت والتخالف في المسلمين وإغرائهم بعضهم
على بعض بالحقد والضغينة، حتى كاشفت الأمة الأفغانية بعداوة الأمة الفارسية،
وبارزت الأمة العربية مبارزة للأمة التركية، وهكذا جاهرت القبائل منهم مجاهرة
ضد قبائل أخرى.
فزاد الويل والعويل، وعقب خطب بعد خطب، وحدث كرب بعد كرب،
بإغفال أولي الأمر والرأي من المسلمين عن تأدية ما كلفهم الله تعالى من توحيد
كلمتهم حينما يقع التشتت فيها، وتوثيق روابطهم حينما تنفصم عروتها، حتى
قضى الدهر على المسلمين بالذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، فأصبحوا
حقراء بعد ما كانوا أجلاء، وأمسوا فقراء بعد ما كانوا أغنياء، ولا سبيل إلى
تخلص الأمة من هذه الرزايا التي حلت بها إلا بتوحيد كلمتها، وجمع شتاتها ونظم
شملها، ولم شعثها، فهذا ما عندي من الحق واليقين، وأظن أن لا يرتاب فيه
العقلاء وأرباب الفكر السليم من المسلمين.
واعلموا يا مولانا أن أكثر ما كتبت إليكم في هذا الكتاب هو من آراء السيد
المرحوم الأفغاني تغمده الله برحمة منه، وإن كانت الألفاظ في شيء من العبارات
مترادفة أو متخالفة متباينة، ففي خاتمة الكتاب مع الإطالة فيه لا يحسنني [7] أن
أختمه، ولا أسألكم إرجاع النظر إلى عبارة واضحة حسنة كتبها السيد المرحوم فيما
نحن بصدده، فخذوا هذا نصها:
(فيا أيتها الأمة المرحومة هذه حياتكم فاحفظوها، ودماؤكم فلا تريقوها،
وأرواحكم فلا تزهقوها، وسعادتكم فلا تبيعوها بثمن دون الموت، هذه هي
روابطكم الدينية، فلا تغرنكم الوساوس، ولا تستهويكم الترهات، ولا تدهشكم
زخارف الباطل، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم، واعتصموا بحبال الرابطة
الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي، والفارسي بالهندي،
والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة النسبية، حتى إن الرجل منهم ليألم
لما يصيب أخاه من عاديات الدهر، وإن تناءت دياره، وتقاصت أقطاره، هذه
صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم، وفيها عزكم ومنعتكم، وسلطانكم وسيادتكم
فلا توهنوها.
ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل، فالعدل أساس الكون وبه
قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم، وعليكم أن تتقوا الله وتلزموا أوامره
في حفظ الذمم، ومعرفة الحقوق لأربابها، وحسن المعاملة وإحكام الألفة في المنافع
الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم، وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة، فإن
مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم، كما لا تقوم مصالحهم إلا بمصالحكم، وعليكم أن
لا تجعلوا عصبة الدين وسيلة للعدوان، وذريعة لانتهاك الحقوق، فإن دينكم ينهاكم
عن ذلك، ويوعدكم عليه بأشد العقاب، هذا ولا تجعلوا عصبتكم قاصرة على مجرد
ميل بعضكم لبعض، بل تضافروا بها على مباراة الأمم في القوة والمنعة، والشوكة
والسلطان، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة، والفضائل والكمالات الإنسانية،
اجعلوا عصبتكم سبيلاًً لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد أخيه؛
ليرفعه من هوة النقص إلى شاهق الكمال {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
وفي رسالة أخرى سأعجلكم ببيان جامعة بين المسلمين وطريق القيام بها
والدعوة إليها، فإن كتابي هذا قد طال، فتقبلوا مني في الختام أحسن التحية والسلام
أنا العاجز أبو الحسنات الندوي أحد رفقاء دار المصنفين
... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نزل ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... أعظمكده (الهند)
(المنار)
كتبت إلى هذا العالم المصلح الغيور في مرجوع كتابه هذا بيانًا للفرق بين
الجامعتين الشرقية والإسلامية، وكون إحداهما تعزز الأخرى ولا تنافيها، وقد دعا
موقظ الشرق السيد جمال الدين إليهما معًا، ونبهته لاغترار إخواننا مسلمي الهند
بالكماليين بعد اغترارهم بالاتحاديين إثر غرورهم بالسلطان عبد الحميد، وسوغ
لي هذا ما بدأ به مصطفى كمال باشا من التمهيد لإلغاء الخلافة بالفعل، من جعلها
روحية لا سلطان لصاحبها ولا حكم، فرد على كتابي هذا بالكتاب الثاني، وسننشره
في الجزء الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الغرض مقتبس من ترجمة الأستاذ الإمام للسيد المنشور في أول ترجمته لرسالة السيد في الرد على الدهريين بتصرف.
(2) هذا مأخوذ من منهج العروة الوثقى بتصرف ما (راجع ص222 من الطبعة الثانية للجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام (المنشآت) .
(3) المنة بالضم كالقوة لفظًا ومعنى، وهذه المسألة مأخوذة بالمعنى من مقالة العروة الوثقى التي نشرناها بعنوان (ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها) .
(4) اقتبس الكاتب العبارة في بدء الانحلال والضعف من مقالة العروة الوثقى التي نشرناها في تاريخ الأستاذ الإمام (ج2) بعنوان (انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك) .
(5) السكران بالتحريك: مصدر سكر كالسكر بالضم والسكون.
(6) قوله: مع تلك الآيات إلخ مضطرب، ومراده منه الظاهر والسؤال والجواب مقتبسان من مقالة العروة الوثقى التي أشرنا إليها في الحاشية السابقة، ولكن بسوء تصرف وزيادة ونقص.
(7) يريد أن يقول: إنني على إطالة هذا الكتاب لا يحسن مني أن أختمه قبل أن أسألكم رجع البصر إلى عبارة للسيد الأفغاني واضحة في مقصدي وهذا نصها، وأقول: إن هذه العبارة هي آخر مقالة للتعصب من مقالات العروة الوثقى.(26/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية منكوبي الإعانة السورية
أُلِّفَتْ في القاهرة جمعية لتنظيم جمع الإعانات لمنكوبي سورية على إثر
الدعوة التي أذاعها الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، وافتتح باب التبرع لها هو
وأهل بينه وأعضاء الوفد المصري، وكان المؤسسون للجمعية قد ارتأوا أن تكون
تحت رعاية عالية ورياسة سامية، فطرقوا أبواب بعض كبار الأمراء، فألفوا
آذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وقد آن للناس أن يعرضوا عن ضخامة الألقاب وسمو
الأنساب، ولا يعولوا إلا على أولي الألباب، فإن قيمة النسب الصحيحة لا تعدو
حسن تأثير الوراثة في لب الإنسان وجوهره وهو العقل والقلب، على أن الجمعية
قد أُلِّفَتْ من خيار البيوت المصرية والسورية حسبًا وأدبًا وأمًّا وأبًا، وقد أظهر
الأعضاء السوريون لإخوانهم المصريين رغبتهم في إسناد رياسة الجمعية إلى واحد
منهم، فقال صاحب المعالي فتح الله باشا بركات: بل الأولى أن تختاروا واحدًا
منكم؛ لأن المصاب واقع على شعبكم، وإن كنا نحن والسوريون أمة واحدة باعتبار
آخر، وليس المقام هنا مقام مباراة في رياسة، بل مقام تعاون على تخفيف آلام
نكبة نشعر بها كلنا، وأنا مستعد للعمل معكم تحت رياسة أصغركم سنًّا، فحبذ قوله
هذا أصحاب السماحة والسعادة والعزة عبد الحميد البكري وأحمد شفيق باشا وعبد
الحميد بك سعيد، فلم يسعنا معشر السوريين إلا اتباع إجماعهم، فاعتزلنا الجلسة
وانتخبنا الأمير ميشيل لطف الله لما له من السابقة الحسنة في أمثال هذه الجمعيات
الخيرية سعيًا وإدارة ومساعدة.
هذا وإن شاعر مصر أحمد شوقي بك الملقب بأمير الشعراء بغير منازع
وشاعر الشام خير الدين أفندي الزركلي قد نظم كل منهما قصيدة في كارثة دمشق
وثورة سورية، أنشدتا في حفلة حافلة لجمعية الإعانة، فرأينا أن ننشرهما في
المنار وهذا نص الأولى:
سلام من صبا (بَرَدَى) أرق ... ودمعٌ لا يكفكف يا دمشقُ
ومعذرةُ اليراعة والقوافي ... جلال الرزء عن وصف يدق
وذكرى عن خواطرها،لقلبي ... إليك تَلَفُّتٌ أبدًا وخفقُ
وبي مما رَمَتْكِ به الليالي ... جراحات لها في القلب عمق
دخلتُكِ والأصيل له ائتلاقٌ ... ووجهكِ ضاحك القَسَمات طلق
وتحت جنانكِ الأنهار تجري ... وملء رُباكِ أوراقٌ ووُرْق
وحولي فتيةٌ غرٌّ صِباحٌ ... لهم في الفضل غاياتٌ وسبْقُ
على لَهَوَاتِهم شعراءُ لُسنٌ ... وفي أعطافهم خطباء شُدق
رواةُ قصائدي فأعجب لشعر ... بكلِّ محلة يروية خَلْقٌ
غمزت إباءهم حتى تلظت ... أنوف الأسد واضطرم المدق
وضج من الشكيمة كل حرٍّ ... أبيٍّ من أمية فيهِ عِتق
***
لحاها الله أنباءً توالت ... على سمع الولي بما يَشُقُّ
يفصِّلها إلى الدنيا بريدٌ ... ويُجملها إلى الآفاق برْقُ
تكاد لرَوْعةِ الأحداثِ فيها ... تُخالُ من الخرافةِ وهي صدقٌ
وقيل معالم التاريخ دُكَّت ... وقيل أصابها تَلفٌ وحرقُ
ألستِ دمشق للإسلام ظئرًا ... ومرضعةُ الأبوَّة لا تُعقُ
صلاح الدين تاجك لم يُجمَّلْ ... ولم يُوسَم بأزين منه فرْقُ
وكل حضارة في الأرض طالت ... لها من سرحك العلويِّ عرق
سماؤك من حلى الماضي كتابٌ ... وأرضكِ من حلى التاريخ رَقٌّ
بنيتِ الدُّولة الكبرى وملكًا ... غبارُ حضارتيه لا يُشقُّ
له بالشام أعلامٌ وعرسٌ ... بشائرهُ بأندلس تدق
***
رباع الخلد ويحك ما دهاها ... أحقٌّ أنها دَرَست أحقُّ
وهل غرف الجنان منضَّداتٌ ... وهل لنعيمهنَّ كأمس نسقُ
وأين دُمى المقاصر من حجال ... مُهتكة وأستار تُشَقُّ
برزْن وفي نواحي الأَيْكِ نارٌ ... وخلف الأَيْكِ أَفْراخٌ تُزَقُّ
إذا رُمنَ السلامة من طريقٍ ... أتتْ من دونه للموت طرقُ
ليلٌ للقذائف والمنايا ... وراء سمائه خطفٌ وصعقُ
إذا عصف الحديد احمرَّ أفقٌ ... على جنباته واسودَّ أفقُ
على من راع غيدك بعد وهن ... أبين فؤاده والصخر فرق
وللمستعمرين وإن ألانوا ... قلوب كالحجارة لا تَرقُّ
رماكِ بطيشه ورمى فرنسا ... أخو حرب به صلفٌ وحمقٌ
إذا ما جاءه طلابُ حقٍّ ... يقول عصابة خرجوا وشقوا
***
دمُ الثوار تعرفه فرنسا ... وتعلم أنه نورٌ وحقُّ
جرى في أرضها فيه حياةٌ ... كمنهل السماء وفيه رزقُ
بلادٌ مات فتيتها لتحيا ... وزالوا دون قومهم ليبقوا
وحُرِّرتِ الشعوب على قناها ... فكيف على قناها تُسترقُّ
***
بني سورية أطَّرحوا الأماني ... وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فمن خِدَعِ السياسة أن تغروا ... بألقاب الإمارة وهي رقٌّ
وكم صَيَدٍ بَدَا لك من ذليل ... كما مالت من المصلوب عنقُ
فتوقُ الملكِ تحدُثًُ ثم تمضي ... ولا يمضي لمختلفين فتقُ
نصحتُ ونحن مختلفون دارًا ... ولكن كلنا في الهمِّ شرقُ
ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌ ... بيانٌ غير عطف ونطقُ
وقفتم بين مَوْتٍ أو حياةٍ ... فإن رُمْتمْ نَعيم الدَّهرِ فاشقوا
وللأوطان في دم كل حرٍّ ... يدٌ سَلَفَتْ ودَينٌ مستحقٌ
ومن يَسفي ويشربُ بالمنايا ... إذا الأحرار لمْ يُسقَوْا وَيسقوا؟
ولا يَبني الممالكَ كالضحايا ... ولا يُدني الحقوقَ ولا يحقُّ
ففي القتلى لأجيال حياة ... وفي الأسرى فدى لهمو وعتق
وللحرية الحمراء بابٌ ... بكل يد مضرجة يُدَقُّ
جزاكم ذو الجلال بني دمشق ... وعز الشرق أوله دمشق
نصرتم يوم محنته أخاكم ... وكلُّ أخ بنصر أخيه حقُّ
وما كان الدروزُ قبيلَ شرٍّ ... وإن أُخذوا بما لَمْ يَستحقُّوا
ولكن ذادةٌُ وقراةُ ضيف ... كينبوع الصفا خَشنوا ورَقُّوا
لهم جبلٌ أَشَمٌّ له شِعافٌ ... مواردُ في السحابِ الجونِ بُلْقُ
لكلِّ لبوءة ولكلِّ شِبل ... نِضال دون غابتهِ ورَشقُ
كأن من السموأل فيه شيئًا ... فكلُّ جهاتهِ شرفٌ وخُلُقُ
__________(26/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمعية العلمية للمعارف الإسلامية
أسس بعض المستشرقين من علماء الألمان الأعلام جمعية بهذا الاسم في
(برلين) عاصمة السلطنة الألمانية العامة، وقد كان هؤلاء العلماء يبحثون قبل
تأسيس هذه الجمعية في العلوم الإسلامية، كما أن جماعات أخرى منهم تبحث في
جميع العلوم والفنون وشؤون الأمم، بدقتهم التي فاقوا فيها جميع علماء الشعوب
الأخرى، ولكن هذه الجمعية لها شأن لم يكن لغيرها من جماعات العلماء يرجى أن
يكون فاتحة خير عظيم، وإننا لم نطَّلع على قانونها، وإنما أحدث هذا الرجاء في
أنفسنا ما نشروه من الدعوة إلى التعاون مع علماء المسلمين في مصر وغيرها، وقد
أرسلوا إلينا نسخة من الدعوة العربية المبينة لأغراض الجمعية، وهذا نصها:
***
دعوة الألمان إلى علماء الإسلام
أي سادة العلماء:
لدراسة تعاليم دين الإسلام وتعقب أحوال المسلمين العامة فيما يتعلق بجنسيتهم
ومدنيتهم، وما هم عليه من حالة اقتصادية وعمرانية أسست جمعيتنا التي لا تتداخل
في السياسة قط.
وعملُنا في هذه الجمعية كما يُرى من أغراضها ليس بالأمر الهيِّن إلا أنه
يصير سهلاً زلالاً لو أن إخواننا علماء الدين الإسلامي بسطوا أكفهم للتعاون معنا في
مسعانا تعاونًا علميًّا حتى نحقق أغراضنا (التي) هي إحدى آمال الأمم الإسلامية
الناهضة.
ولما كانت في طليعة تلك الأمم الناهضة مصر: مصر ذلك البلد الذي بقي
حتى اليوم يمد العالم الإسلامي بنور تعاليم تلك الديانة الحنيفة، فإننا نعتقد فيما بيننا
أن أول من يلبي دعوتنا هذه لا شك علماء مصر الأماجد، فهم أكثر منا تشبعًا
بوجوب العمل لتأييد ما نسعى إليه.
نعم إن من نتائج هذا التفاهم العلمي أن تنقشع - قريبًا كان أم بعيدًا - تلك
الضبابة الكثيفة التي مازالت حتى الساعة تحجب الشرق عن أعين الغربيين، وهو
السر الوحيد فيما نراه من بقاء اختلاف كانت له نتائج وخيمة وقاسية، لم تتخلص
منها الأقطار الشرقية والغربية على السواء.
إلا أن ساعة الخلاص تقرب كلما ثبت للغرب شيئًا فشيئًا وجوب الاهتداء
بنور التعاليم الحقة لدين الإسلام، ولن يتهيأ للغرب ذلك حتى يُمدَّ بمساعدة علمية
محضة، وهذا ميدان عمل فسيح لنا ولكم يا حضرات أعلام الإسلام (ولن يضيع
الله أجر من أحسن عملاً) والسلام
... ... ... ... رئيس الجمعية الألمانية للمعارف الإسلامية
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ المستشرق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كامفماير
... ... ... ... ... العنوان:
Prof. Dr. G. Kampffmeier
Werderstr. 10
Berlin - Dahlem Germani
(المنار)
نرجب ونرحب بهؤلاء الأعلام وبجمعيتهم، ونشكر لهم عملهم باللسان والقلم،
والعلم والعمل، وإنا لما يدعوننا لمستجيبون في كل ما نحن عليه قادرون،
وننصح لمشيخة الأزهر أن تجيب دعوتهم، وتطلب الوقوف على جميع أعمالهم
وأبحاثهم، وأن يمد إليهم يد المساعدة في كل ما يطلبون منها، وبذلك تخدم الإسلام
خدمة هي أحق بها من غيرها، ونحث سائر علماء الإسلام في الشرق والغرب على
ذلك أيضًا.
***
المجموعة المباركة في
الصلوات المأثورة
جاءنا من مشيخة الجامع الأزهر الشريف ما يأتي لينشر في المجلة:
أرسل حضرة محمود شفيق البكري التاجر بميت غمر لمشيخة الجامع الأزهر
الشريف مجموعة تدعى (بالمجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال
المبرورة تأليف عبده محمد بابا) لإبداء رأيها نحو ما تضمنته تلك المجموعة من
الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
والمشيخة تعلن أن ما جاء في هذه المجموعة من أحاديث الجزاء ظاهرة
الوضع والاختلاق، سيما ما سماه مؤلفها حديث عبد الله بن السلطان، وفيه إغراء
للعوام على اقتراف المآثم وترك الواجبات، وعدم المبالاة بها اتكالاً على كلمة
استغفار أو دعاء يقولها مرتكب ذلك ليخلص من شر ما اقترف، وأن هذه المجموعة
وأمثالها لا يضعها إلا جاهل أعماه جهله عن الطريق السوي , أو ضال مضل قصد
أن يصرف العوام عن أحكام الشرع الشريف، ويجعلهم في حل من عدم الوقوف
عند حدوده من طريق شبه شرعي اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم)
(المنار)
دعاء عبد الله بن سلطان أو حديثه خرافة مضلة للعامة، كان قد طبعها من
زهاء ثلاثين سنة دجال من الدجاجلة اسمه عبد الله القباج، وبينّا ما فيه من
الإضلال وهدم الدين في العدد 40 من المنار الذي صدر في شعبان سنة 1346،
ثم أعاد طبعه دجال آخر، فعدنا إلى التحذير منه بعد سنين.
__________(26/637)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(الذهب الخالص، المنوه بالعلم القالص)
كتاب في أصول الإيمان والإسلام من العقائد والعبادات والآداب، من تصانيف
أكبر علماء الإباضية وأشهرهم في هذا العصر الشيخ محمد بن يوسف
إطفيش الجزائري رحمه الله تعالى، وقد طبعه في العام الماضي، وعلق عليه
بعض الحواشي تلميذه وحفيد أخيه الأستاذ الشيخ أبو إسحق إبراهيم إطفيش صاحب
كتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين) ومباحث الكتاب مؤلفة من سبعة أركان
(الأول) معرفة الله تعالى وسائر المسائل الاعتقادية، ومنها الفرز بين كبائر الشرك
والنفاق والخوف والرجاء إلخ، وأحكام الولاية والبراءة والوقوف بينهما، والملل
الست وأحكامها (الركن الثاني) في النجاسة والطهارة والصلاة (الركن 3 و4
و5 و6) في الزكاة والصيام والحج والعمرة (الركن السابع) في الحقوق.
فنحث كبار العلماء الرسميين وجميع العلماء المستقلين على الاطلاع على هذا الكتاب
وهو مطبوع بالمطبعة السلفية 1443، على ورق جيد وصفحاته 340 من قطع
المنار، وثمن النسخة منه 25 قرشًا.
***
(المنهاج)
مجلة علمية أدبية إسلامية لمنشئها الأستاذ الشيخ أبي إسحق إبراهيم إطفيش
الجزائري نزيل مصر، وقد صدر منها جزآن حافلان بالمسائل الدينية والأدبية
والتاريخية، وكان من بواكر ثمراتها الرد على كتاب الشيخ علي عبد الرازق
راوندي هذا العصر في محاربة الإسلام، ونصر الإفرنج على المسلمين، ومؤيد
دعاية الملاحدة اللادينيين بشبهات الدين، وإذا كان منشئ هذه المجلة من كبار علماء
الإباضية وخليفة أشهر علمائهم في العصر علمًا وبيتًا، فالمرجو أن تكون مجلته من
أسباب التأليف والوحدة بينهم وبين أهل السنة والشيعة، والخلاف بينهم وبين
الشيعة أشد، وقد كان هو الذي بادر إلى الرد على بعض الكتب التي نشرها بعض
دعاة التشيع في هذه السنين للطعن في أئمة حفاظ السنة ونبذهم بلقب النصب
وكان ردًّا معتدلاً، فعسى أن تنال ما يكافئ اجتهاد منشئها الغيور على الأمة والملة
من الرواج والانتشار، وقيمة الاشتراك فيها 100 قرش.
__________(26/640)
شعبان - 1344هـ
فبراير - 1926م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استفتاء في كلمة للملك فيصل
في الأديان السماوية
(س37) نشرت جريدة الخلافة (خلافت) التي تصدر في بمبى (الهند)
في عددها الذي صدر في 22 صفر من هذه السنة (1344) الاستفتاء الآتي،
وقد نشر في كثير من جرائد الأقطار الإسلامية، ولهج كثير من الناس بعد اطلاعهم
على ما قاله الملك فيصل عن الأديان والأنبياء بأنه ردَّة عن الإسلام، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلماء الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها:
(عقيدة الأمير فيصل ملك العراق ابن الملك حسين بن علي المكي في
الأديان السماوية) .
هذه خطبة للأمير فيصل ابن الشريف حسين، ألقاها في الحفلة التي أقامها
اليهود في دار الرئاسة الحاخامية لليهود في بغداد، ونشرتها جريدة دجلة التي تصدر
هناك في عددها الثاني والعشرين تاريخ 12 ذي القعدة سنة 1329 هـ 19 تموز
سنة 1921 ننقلها للقراء بحروفها، ليطلعوا على حقيقة معتقد هذا الأمير في الأديان
السماوية، وأنه كوالده في اعتماده في كل أموره على الإنكليز لا على الله.
***
الخطبة بنصها
(إني أشكر مواطني الإسرائيليين العراقيين لإقامتهم هذه الحفلة الكريمة التي
أعربت عن شعورهم نحو البلاد، وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى الأعمال التي
تزيد ثقتهم بي، واعتمادهم علي) .
(إني لا أرى في هذا الاحتفال مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، وإني أعتقد
(أنه) لو جاء موسى وعيسى ومحمد إلى هذا الاحتفال، وشهدوا منا ما نقوله من
يهود ونصارى ومسلمين [1] لغضبوا علينا غضبًا شديدًا، أنا أريد أن يقول الجميع:
إننا ساميون عراقيون نرجع إلى جد واحد، وما الاختلاف [2] الدينية والمذاهب إلا
دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، ومتى عرفنا ذلك يرفع
من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين، وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا
أولاد جدٍّ واحد، إننا أولاد سام، وآباؤنا سكنوا العراق مدة طويلة، وقاموا بأمر
تعميره مشتركين، قال أحد الخطباء الآن: إن للأمة العربية أيادي بيض (؟) على
اليهود في جزيرة العرب، وأنا أقول: ما قام العرب تجاه اليهود إلا بالواجب
المفروض الذي لا يطلبون مقابله حمدًا ولا شكرانًا. إن البلاء قد نزل باليهود
والمسلمين [3] على حدٍّ سواء، إني أرغب أن يتزايد الاعتماد في هذه الأيام لننقذ
البلاد من الخراب الذي أنزلته بها أيادي الظلم والاستعمار السابقة التي عاثت
بأرض العراق فسادًا) .
(فإني لم أزل أتذكر كلمة لأكبر رجل في العالم - وهو المستر لويد جورج
زعيم الحكومة الإنكليزية - قالها في مانشستر على ما أظن، وهي قوله: نحن
دخلنا العراق ونرغب أن نرجعها إلى حالها حال جنات النعيم) .
(نحن لا نستطيع أن نبلغ بالبلاد العراقية إلى درجة جنات النعيم في خمسين
عام أو أكثر، ولكننا نقول: كل من سار على الدرب وصل، إن لي الأمل العظيم
في نجاحنا في هذه المسألة؛ لأننا اليوم بعهدة أكبر دولة وأعظم أمة ألا وهي
بريطانيا العظمي، فإن المراحل البعيدة لا نستطيع قطعها، ولكن بمساعدة بريطانيا
ومعاضدتها ستكون المراحل قصيرة، فإنا نبلغ مُنانا إذا ساعدتنا بريطانيا كما هي
تساعدنا اليوم، فبسعي الإنكليز ومعاضدتهم سيكون النجاح قريبًا، إني أرغب أن
أرى هذا النجاح، ولكن من أين لي ذلك العمر الطويل، فإننا إذا لم نراه (؟) فإن
أبناءنا سيشهدوه (؟) ويشكرونا على ذلك العمل، وفي الأخير أقول: إن ليس لي غاية
سوى تقدم البلاد، وليس لي حزب إلا الجميع، وأملي وطيد بأن إخواني
الإسرائيليين سيبذلون جهدهم لرقي البلاد العراقية كما هو شأنهم في البلاد الأخرى
اهـ، انتهت بحروفها.
فنوجه رجاءنا إلى علماء الإسلام أن يفتونا في رجل يعتقد ويصرح على
رءوس الأشهاد بأن الديانات والمذاهب ما هي إلا دسائس دنيوية دسها بعض
الأشخاص أو الأمم الخارجية، وأنه لو جاء موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة
والسلام، وسمعوا كلامه يغضبون عليه غضبًا شديدًا، ومع ذلك هو لا يبالي بهم،
ويريد أن يرفع اسم اليهود والنصارى والمسلمين من بين أفراد الشعب الذي يحكمه،
هل هذا الرجل (يُعد) مسلمًا؟ أفتونا مأجورين اهـ، الاستفتاء.
(جواب المنار)
هذه الكلمة التي قالها فيصل ملك العراق البريطاني هي هِجّيرَى فريقين من
الناس: دعاة اللادينية، وأعداء الرابطة الإسلامية، الذين يرى القارئ بعض
مقاصدهم في مقالنا الخاص بالمسألة السورية - وقد فصلناه من قبل في مقالات
كثيرة - ولقد كان فيصل في غنى عن اتباعهم وعن الحكم بهواه على ما يرضي
رسل الله صلواته وسلامه عليهم وما يغضبهم، لو كان حريصًا على مظاهر الدين
الذي نشأ فيه، نعم كان يسعه أن يدعو اليهود إلى الاتفاق مع المسلمين والنصارى
في التعاون على ترقية العمران في العراق، فإن ذلك لا ينافي استمساك كل منهم
بدينه.
إن كان فيصل يعرف عقائد الإسلام وقواعده التي يكون بها المسلم مسلمًا،
ويؤمن بما جاء في كتاب الله تعالى وبما أجمع عليه المسلمون منها، فعليه إذا لم
يقل بها ويدعُ إليها أن يسكت عنها، أو أن لا يصرح بمخالفتها، وهذا أقل ما يباح
له في مثل ذلك الموقف.
إن حكم الإسلام في الاختلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في الدين هو
أن دين الله تعالى على ألسنة رسله واحد وهو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ
اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19) الآيات، وهو واحد في العقائد والمقاصد، ولكنه مختلف في
الشرائع العملية والمناهج، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48) ، ومن أصول الإسلام أن محمدًا خاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم وأن بعثته عامة، وأنه لا يعتد بدين أحد بلغته دعوته
إلا إذا اتبعه، وأن موسى صلى الله عليه وسلم لو كان حيًّا ما وسعه إلا اتباعه،
وكذا غيره من الرسل {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) .
إن كان فيصل ملك العراق البريطاني مؤمنًا بما ذكر فالواجب عليه أن يقول:
لو جاء موسى وعيسى ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه بالرغم من كل منافق
وكافر مجاهر - لغضبوا غضبًا شديدًا من ترككم لوحدة الإسلام، وعدم اتباع خاتم
الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، الذي بعث هاديًا لإزالة الاختلاف
والاختصام، وناسخًا لما كان من الاختلاف في الشرائع والأحكام، وداعيًا إلى ما
يحبه الله ويرضاه من الإخاء الإنساني العام، ومحرمًا لعصبيات الأجناس والأوطان
والآيات والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، والتفرقة بين من يؤمن بخاتم الرسل ويتبعه ومن يكفر به ويخالفه معلومة بالضرورة، لا يسع مسلمًا جهلها، ومن أنكرها وخالفها لا يعد مسلمًا، ولا أن يعامل معاملة المسلمين في ولاية عامة ولا خاصة ولا زواج ولا إرث ولا غير ذلك، ولولا أن أهل العراق خانعون لسلطة أجنبية قاهرة لطالبه علماؤهم من السنة والشيعة جميعًا أن يصرح بعقيدته، ويتبرأ مما تبادر
إلى أذهان الناس الذين قرأوا خطبته في كل قطر من مخالفة ما ذكر، ويعتذر
عنه بأنه لم يكن يريد بما ذكر في الخطبة ما يخالف شيئًا من تلك الأصول الاعتقادية
القطعية في الإسلام، ولكن العبارة كانت قاصرة - مثلاً - أو يجدد إسلامه.
إذا كان فيصل يجهل ما لا يسع مسلمًا جهله من عقائد الإسلام وأصوله، فهو
بدين اليهود والنصارى وتاريخهما أجهل؛ لأنه لم يتلق علوم الدين ولا غيرها عن
العلماء فيتكلم عن علم، وجل ما يعلمه مقتبس من الجرائد وأحاديث المجالس، ليس
له قاعدة يرجع إليها فيها، فيكون على بينة من مراد قائليها منها، فيظهر أنه سمع
أو قرأ قول بعض أهل العلم والرأي: إن اختلاف المذاهب الذي كان مثار الشقاق
والتفرق بين أهل الدين الواحد كالإسلام، إنما كان سببه البدع والأهواء، والتنازع
على الملك أو الجاه، ثم استغلته الأمم والدول الطامعة في ملك أهله واستعمار
بلادهم كما فعل الإنكليز في الهند، وكما يفعلون الآن في العراق؛ ففهم الكلام مقلوبًا
أو حرفه بهواه فحمله على اختلاف الأديان، جاهلاً أو غير مكترث بالإجماع
ونصوص القرآن، ولو كان كلامه في الخلاف المذهبي بين أهل السنة والشيعة
بقصد جمع كلمتهم لكان يكون له وجه، وكلامه نص في الخلاف بين المسلمين
واليهود والنصارى فلا وجه له.
أي فيصل! إن الخلاف بين اليهود والنصارى منشؤه عدم إيمان اليهود
بالمسيح عليه السلام، وأن الخلاف بين المسلمين من جهة وبين اليهود والنصارى
جميعًا من جهة أخرى هو في التوحيد المحض والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم والقرآن، ولم يكن هذا ولا ذاك (دسائس أجنبية دسها بعض الأشخاص أو
الأمم الخارجية) ؛ ليوقعوا الشقاق بين أبناء سام كما زعمت حتى يصح قولك:
(ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين) ؟
ثم ما معنى قولك بعد هذا: (وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا أولاد جد
واحد، إننا أولاد سام) فهل انتساب الشعوب إلى جد واحد يقتضي عقلاً أو طبعًا أن
يكونوا على دين واحد؟ كيف وأولاد الأب الواحد القريب قد يختلفون في الدين،
ولو صح قولك لما وجد في الأرض دينان، فإن جميع أهل الأرض من أولاد نوح
أبي سام، ومن أولاد آدم عليهما السلام؟
على أن أهل العراق ليسوا كلهم من أولاد سام كما زعمت، فالمشهور أن
الكلدانيين - وهم أقدم أمم الحضارة في العراق - من أولاد كوش بن حام بن نوح،
وفي البلاد كثير من سلائل الفرس الآريين، ويقال: إن الكرد بدوهم، وقيل: من
عرق آخر، وقيل: بل هم من العرب، ومع هذا فقد سمح فيصل لهم بأن يحافظوا
على جنسيتهم، ثم أي حاجة إلى اشتراط انتساب أهل الوطن الواحد إلى جد واحد
من ألوف السنين، وماذا يقول في الإنكليز الذي يمهد لهم سبيل السيادة الدائمة في
البلاد بخطبته هذه وسائر أقواله وأعماله هل هم من أولاد سام أيضًا؟ وهل يقبلون
أن يرتفع اسم النصارى عنهم أو عن بقايا الآشوريين والكلدانيين الذين يتخذونهم
ذريعة لفصم عروة كل اتحاد في العراق، كيف وملك الإنكليز هو حامي الإيمان
المسيحي، وشعبه من أشد شعوب الأرض عناية وبذلاً في سبيل نشر النصرانية؟
ومما أودعه الإنكليز في المعاهدة الإنكليزية العراقية حرية دعاة النصرانية في
العراق؛ ليعملوا ما استطاعوا في تحويل المسلمين فيه عن الإسلام.
يا حسرة على فيصل وعلى أبي فيصل وعلى إخوة فيصل! يا حسرة على
أهل بيت ينتسبون إلى خاتم الرسل وسيد ولد آدم ثم يكون هذا حظ أمته وملته ومنهم!
ولماذا هذا كله؟ لأجل التمتع بلقب (ملك) في ظل الإنكليز، ألا بعدًا لملك زائل
بل لقب باطل، يتوسل إليه بهذه الوسائل، وصاحبه لا يملك به إلا تنفيذ أمر
الأجنبي فيما يهدم به سلطان أمته وتشريع ملتها.
يبشر الملك فيصل البريطاني أهل العراق بأن مستر لويد جورج الذي زعم
أنه أكبر رجل في العالم قال: (نحن دخلنا العراق، ونرغب أن نجعلها جنات
النعيم) ، وأن العوام ورعاة الإبل والغنم في العراق لترتعد فرائصهم من هذه
البشارة؛ لأنها صريحة في أن الإنكليز لا ينشئون هذه الجنات للعراقيين بل لأنفسهم؛
لأنهم ينوون امتلاك العراق وعدم الخروج منه، وفيصل يعتقد هذا ويرضاه،
ولكنه لا يعلم أن أكثر أهل العراق يفهمونه، كما يعلم أنهم إذا فهموه لا يرضونه،
ولذلك بشرهم به! كأنه لا يقرأ كما يقرءون يوم ما يفعل الإنكليز في السودان وفي
مصر أيضًا.
وجملة القول في جواب الاستفتاء أن ما تبادر إلى أفهام الناس في الهند
ومصر وغيرهما من عبارة فيصل هو عين ما عليه المعطلون للأديان، المنكرون
للوحي، الداعون إلى استبدال الروابط الجنسية والوطنية بالدين، ولا مخرج له إذا
أراد أن يحافظ على ظاهر الإسلام لاشتراطه في ملك العراق أو لذاته إلا أن يتأول
لنفسه بأنه لجهله باللغة العربية لم يستطع أن يعبر عن مراده، ويذكر نحوًا مما تقدم
في كلامنا، أو يتوب ويجدد إسلامه، ويجب على علماء العراق مطالبته بذلك،
وأن ينذروه بخلعه إذا أبى، ولا يستطيع هو ولا سادته الإنكليز أن يعاقبوهم على
هذه المطالبة، كما عللنا سكوتهم فيما تقدم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
__________
(1) كذا، ولعل في العبارة حذفًا، والمعنى المفهوم من السياق سابقه ولاحقه أن الرسل يغضبون من انتماء الناس إلى مللهم، إنما يرضون استبدال الجامعة الجنسية والوطنية بها.
(2) كذا، ولعل أصلها الاختلافات.
(3) أي على العرف القديم لا على عرفه الذي اقترحه آنفًا.(26/647)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الخلافة الإسلامية
جاءنا الكتاب الآتي من صاحب الفضيلة والمزايا الجليلة، خادم الملة والأمة،
الأستاذ الكبير، الشيخ مصطفى نجا مفتي ولاية بيروت ورئيس جمعية المقاصد
الإسلامية فيها:
سلام الله تعالى وتحياته ورحمته وبركاته على حضرة العلامة الأجلّ المحقق
المفضال السيد محمد رشيد رضا المكرم زاد الله فضله وعلاه.
(وبعد) فقد اطلعت على كتاب الخلافة الإسلامية الذي يبين للأمة حكم هذه
المسألة المهمة، ويرشد إلى صراط الاستقامة وسبيل السلامة، ويقول: إن
الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو الذي يمكن أن يحيي مدنية الشرق
وينقذ مدنية الغرب، فإن المدنية لا تبقى إلا بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا
بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا الإسلام.
فهو أفضل كتاب أُلِّف في هذا الزمان لهداية الحائرين وتنبيه الغافلين
وإقناع المقلدين الذين انحرفوا عن الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين، لجهلهم
وزعمهم أن الشريعة الإسلامية غير صالحة لكل زمان وأنها علة تأخر المسلمين.
فلحضرتك أيها الأستاذ الداعي إلى الخير، الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر
بكتابك هذا، ومنارك الأسنى، أقدم بعد الدعاء لك بطول البقاء جزيل الشكر
والثناء، على ما أهديت لنا من فرائد الفوائد السنية، وما أبديت من الحقائق المؤيدة
بالأدلة الشرعية والبراهين الجلية، وأسأل الله تعالى أن يجزيك خير الجزاء على
نصحك للأمة، ويمدك بعنايته وعونه بمنه وكرمه.
وبالختام أبث مزيد شوقي إلى ذاتك الكريمة، وأهديك تحية الاحترام والسلام.
في 5 رجب سنة 1334.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم
__________(26/653)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
مسألة صفات الله تعالى وعلوه
بين النفي والإثبات
جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(السؤال) ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين، في رجلين تباحثا في مسألة
الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو، فقال أحدهما: لا يجب على أحد معرفة هذا
ولا البحث عنه، ويعتقد أن الله واحد في ملكه، وهو رب كل شيء وخالقه
ومليكه، ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي، فهل هذا القائل لهذا الكلام
مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئًا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا
إثبات الصفات والعلو ويعرفوه؟ وما معنى التجسيم والحشو؟ أفتونا وابسطوا القول
في هذا مأجورين إن شاء الله تعالى؟
(الجواب) : الحمد لله رب العالمين. يجب على الخلق الإقرار بما جاء به
النبي صلى الله عليه وسلم، فما جاء به القرآن أو السنة المعلومة وجب على الخلق
الإقرار به جملة، وتفصيلاً عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر
بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله.
فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة، إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال الله
تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الوَتِينَ} (الحاقة: 44-46) .
وفي الجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يُحتاج إلى تقريره هنا،
وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء به من القرآن
والسنة كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164) وقال
تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 151) وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ
عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} (البقرة: 231) وقال تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64) وقال تعالى: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ومما جاء به الرسول رضاه عن السابقين الأولين،
وعمَّن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، كما قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100) ومما جاء به الرسول إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله:
{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، ومما جاء به الرسول أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى:
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} (النور: 54) وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ} (المائدة: 67) .
ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أُمر ولم يكتم منها شيئًا، فإن كتمان ما أنزله الله
إليه يناقض موجب الرسالة، كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة، ومن المعلوم
في دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة، كما أنه معصوم من
الكذب فيها. والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره الله، وبين ما أُنزل إليه من
ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه، إذ الدين لم يُعرف إلا
بتبليغه، فعُلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده، كما قال صلى الله عليه
وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) وقال:
(ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم
عن النار إلا وقد حدثتكم به) وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكَر لنا منه علمًا.
إذا تبين هذا فقد صح ووجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله
تعالى من أسماء الله وصفاته مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان
عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، الذين
رضي الله عنهم ورضوا عنه، فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن والسنة، وكانوا
يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: لقد حدثنا
الذين كانوا يقرؤننا القرآن: كعثمان بن عفان وغيره أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي
صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل،
قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. وقد قام عبد الله بن عمر وهو من
أصاغر الصحابة في تعلم البقرة ثماني سنين؛ وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة. وهذا
معلوم من وجوه:
(أحدها) أن العادة المطَّردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم
بالقرآن المنزل عليهم لفظًا ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد
عُلم أن من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك فإنه لا بد
أن يكون راغبًا في فهمه وتصور معانيه، فكيف من قرأ كتاب الله تعالى المنزل
إليهم، الذي به هداهم الله، وبه عرّفهم الحق والباطل والخير والشر والهدى
والضلال والرشاد والغي؟
فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع
المتعلم من العالم حديثًا فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام الله من
المبلِّغ عنه، بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في
تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف
بدون المعاني لا تُحصِّل المقصود إذ اللفظ إنما يراد للمعنى.
(الوجه الثاني) أن الله سبحانه وتعالى قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه
في غير موضع، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29) وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) ، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، فإذا كان قد حض
الكفار والمنافقين على تدبره، عُلم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين على تدبره [1]
وعُلم أن معانيه مما يمكن فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك للمؤمنين (؟)
وهذا يُبين أن معانيه كانت معروفة بيّنة لهم.
(الوجه الثالث) أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2) وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3)
فبين أنه أنزله عربيًّا لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه.
(الوجه الرابع) أنه ذم من لا يفقهه، فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ
جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} (الإسراء: 45-46) وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ
القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) فلو كان المؤمنون لا يفقهونه
أيضًا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به.
(الوجه الخامس) أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون
فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ
يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) وقال
تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً} (الفرقان: 44) وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا
مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 16) وأمثال ذلك.
وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم
يفهموا، وقالوا: ماذا قال آنفًا؟ أي الساعة. وهذا كلام من لم يفقه. قال تعالى:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 16) فمن جعل
السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني
القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى عليه.
(الوجه السادس) أن الصحابة رضي الله عنهم قرأوا للتابعين القرآن كما
قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل
آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد
فحسبك به، وكان ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه [2] من التفسير ما لا يحصيه
إلا الله، والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها.
***
أسباب الاختلاف في التفسير المأثور
فإن قال قائل: قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافًا كثيرًا، ولو كان ذلك
معلومًا عندهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا. فيقال: الاختلاف
الثابت عن الصحابة بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه:
(أحدها) أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه
فالمسمى واحد، وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر، مع أن كلاهما
حق بمنزلة تسمية الله تعالى بأسمائه الحسنى، وتسمية الرسول - صلى الله عليه
وسلم - بأسمائه، وتسمية القرآن العزيز بأسمائه، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ
ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) ، فإذا قيل:
الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى،
وأن كل اسم يدل على نعت لله لا يدل عليه الاسم الآخر، ومثال هذا من التفسير
كلام العلماء في تفسير الصراط المستقيم، فهذا يقول: هو الإسلام، وهذا يقول:
هو القرآن: أي اتباع القرآن، وهذا يقول: السنة والجماعة، وهذا يقول: طريق
العبودية، وهذا يقول: طاعة الله ورسوله، ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه
الصفات كلها ويسمى بهذه الأسماء كلها، ولكن كل واحد منهم دل المخاطَب على
النعت الذي به يعرف الصراط، وينتفع بمعرفة ذلك النعت.
(الوجه الثاني) أن يذكر كل منهم من تفسير الاسم بعض أنواعه أو أعيانه
على سبيل التمثيل للمخاطَب لا على الحصر والإحاطة، كما لو سأل أعجمي عن
معنى لفظ الخبز فأري رغيفًا، وقيل: هذا. فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه لا
إلى ذلك الرغيف خاصة، ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} (فاطر: 32) فالقول الجامع أن
الظالم لنفسه: المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، والمقتصد: (القائم) بأداء
الواجبات وترك المحرمات، والسابق بالخيرات بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله
بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق.
ثم إن كلاًّ منهم يذكر نوعًا من هذا (فإن قال قائل) : الظالم: المؤخر للصلاة
عن وقتها، والمقتصد: المصلي لها في وقتها، والسابق: المصلي لها في أول وقتها
حيث يكون التقديم أفضل، وقال آخر: الظالم لنفسه هو البخيل الذي لا يصل
رحمه ولا تمام [3] زكاته، والمقتصد:القائم بما يجب عليه من الزكاة، وصلة
الرحم، وقِرى الضيف، والإعطاء في النائبة، والسابق: الفاعل للمستحب بعد
الواجب كما فعل الصديق الأكبر حين جاء بماله كله، ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد
شيئًا. وقال آخر: الظالم لنفسه: الذي يصوم عن الطعام لا عن الآثام،والمقتصد:
الذي يصوم عن الطعام والآثام، والسابق: الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى الله
تعالى، وأمثال ذلك - لم تكن الأقوال [4] متنافية، بل كلُّ ذكرَ نوعًا مما تناولته
الآية.
(الوجه الثالث) أن يذكر أحدهم لنزول الآية سببًا، ويذكر الآخر سببًا آخر
لا ينافي الأول، ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعًا أو نزولها مرتين مرة لهذا
ومرة لهذا، وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض، فهذا قليل
بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه، كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة: كبعض
مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والفرائض والطلاق، ونحو ذلك - لا يمنع أن
يكون أصل هذه السنن مأخوذًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجُمَلُها منقولة
عنه بالتواتر.
وقد تبين أن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه - صلى
الله عليه وسلم - أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وقد قال
غير واحد من السلف: إن الحكمة هي السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا
إني أوتيت الكتاب ومثله معه) فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه سواء قيل:
إنه من القرآن ولم نفهمه نحن، أو قيل: ليس في القرآن، كما أن ما اتفق عليه
السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان، فعلينا أن نتبعهم فيه سواء قيل: إنه كان
منصوصًا في السنة ولم يبلغنا ذلك، أو قيل: إنه مما استنبطوه واستخرجوه
باجتهادهم من الكتاب والسنة.
(انتهت المقدمة)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا، ولعل أصله مما يمكنهم تدبره.
(2) ينظر مرجع الضمير في قوله: (عنه) ، فهذان الصحابيان قد أخذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر له قبله، ولعل فيه حذفًا يدل عليه كالتصلية بعد عنه.
(3) كذا الأصل، ولعله ولا يؤدي تمام زكاته.
(4) جواب فإن قال قائل.(26/654)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحجاز والعرب
بين السلطان العامل الصامت
وملوك الدعاية القوَّالين
{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) .
ابتُلي العرب بالترك المتعصبين لجنسهم، يحاولون هدم لغتهم فدينهم، أو
يكونوا تركًا فكان من أمرهم ما كان ... ثم ابتلوا بالشريف حسين بن علي أمير
مكة، فظنوا أنهم ينالون بالنهوض معه استقلالهم فنهضوا، فإذا به وبأولاده يتخذون
العرب سلعًا تجارية يبيعونها للإفرنج؛ ليكونوا ملوكًا في ظل دولتي الاستعمار
الكُبريين، ففقدوا بسوء سياستهم مهد الحضارتين الأموية والعباسية، وقد ظل
بعضهم مخدوعًا باستقلال حسين فولده علي في الحجاز، من حيث كان يسعى
آخرون من أعقلهم وأعلمهم بالحقائق إلى القضاء عليهما قبل أن يفعلا فيه ما فعل
عبد الله في شرق الأردن وفيصل في العراق، وقد قضى الله على الأولين قبل أن
يقضيا على خير تراث للعرب والإسلام، ونسأله تعالى أن يكفيهما الآخرين.
ثم ابتُلي العرب الآن في مهد أمتهم، والمسلمون في مأرز دينهم بزعيم هو في
نفسه خير مما كان يعرف عنه ويقال فيه، كما كان أولئك شرًّا من كل ما كان
يعرف عنهم ويقال فيهم، وهو عبد العزيز بن السعود سلطان نجد، فالمرجو أن
يكون هذا من الابتلاء بالحسنات بعد السيئات وبالخير بعد الشر، كما قال تعالى:
{وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) وقال:
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35) وعسى أن
تكون عاقبة ما ذكر من الابتلاء الرجوع إليه تعالى بإقامة سنته في السياسة
والاجتماع، وشرعه في الحق والعدل والفضل.
ولما كان بعض السوريين وغيرهم مرتابًا في أمر ابن في السعود إما للجهل
بتاريخه وسيرته، وإما لقياسه على حسين وأولاده، وإما لتأثير دعايتهم الطاعنة
فيه، وتأثير دعاية أجدادهم مع الترك في الطعن بسلفه وقومه المنبوزين بلقب
الوهابية، رأيت أن أختم مقالاتي الكثيرة في هذا الموضوع بخلاصة من سيرة
الفريقين.
***
السلطان ابن السعود
لما بلغ أمير نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أشدَّه رأى
نفسه مع والده وأهل بيته ضيوفًا عند ابن الصباح صاحب الكويت؛ إذ كان
ابن الرشيد أمير شمر قد غلبهم بمساعدة الدولة العثمانية على أمرهم، وأخرجهم
من الرياض عاصمة إمارتهم، فماذا فعل هذا الشاب الناشئ؟
عزم على استعادة ملكهم، فاستنفر زهاء ثلاثين رجلاً من قومه، فركب كل
منهم ذلولاً، وخرجوا من الكويت إلى نجد يستنفرون من مروا به من عشائرها في
طريقهم، وهو كما قال الشاعر:
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونقَّب عن ذكر الحوادث جانبًا
فحارب ابن الرشيد المجهز بمدافع الترك ورشاشاتها وقهره، واستعاد إمارة
آبائه وأجداده منه، ثم إنه غزاه بعد ذلك، وكان قد نزل له والده عن إمارة نجد،
فأحسن الإدارة، ونظم القوة، وهجم على عشائر (شمَّر) في جبلهم المنيع،
فحصرهم فيه في أيام الحرب الكبرى وشدة الغلاء، وكان قادرًا على أخذهم عنوة
بالمناجزة، ولكنه على شجاعته يكره سفك الدماء، فيقف فيه عند حد الضرورة،
وما زال يضيق عليهم الخناق حتى نزلوا على حكمه وخضعوا لأمره، فأزال
إمارتهم بضمها إلى إمارته، وحجته أن قطرًا واحدًا يتفق أهله في اللغة والدين
والعادات لا يجوز شرعًا ولا مصلحة أن يكون فيه حكومتان تتقاتلان وعَلَمَان
يتنافسان، وقد وضع من بقي من أسرة آل الرشيد عنده في الرياض، يعاملهم فيها
معاملة أولاده وأهل بيته سواء.
وكان قبل ذلك قد وجه عزمه إلى أخذ سواحل نجد التي على خليج فارس
المعروفة بالحسا من الترك (ويسميها الترك متصرفية نجد) ففاز بذلك، ولكن
الترك رأوا أن يصالحوه كما صالحوا إمام اليمن، ويجعلوه صديقًا لهم بدلاً من
الاستمرار على سفك دماء جيوشهم في بلاد العرب هدرًا من غير فائدة سياسية ولا
اقتصادية كما جربوا في القرون الماضية، فعقدوا معه اتفاقًا رسميًّا اعترفوا له فيه
بأن بلاد نجد إمارة مستقلة، وأن الحكم فيها له ولذريته من بعده بالإرث،واشترطوا
فيه شروطًا هي نافعة له غير ضارة، ككونه إذا احتاج إلى ضباط ينظمون
جيشه أو سلاح ونحوه يطلبه من الدولة دون الأجانب إلخ.
صارت نجد في أيامه إمارة كبيرة أحسن إدارتها، وحفظ الأمن فيها ونظم
الدعوة لنشر الدين والحضارة في قبائلها والقبائل المجاورة لها، كما نظم فيها القوة
المقاتلة تنظيمًا كافيًا لحفظها والأمن من اعتداء أحد من المجاورين لها عليها،
ولكنه ليس تنظيمًا فنيًّا كجيوش دول الحضارة المعروفة، على أن كبرى الدول
صارت تحسب لقوته في البلاد المجاورة له ألف حساب، وخطبت مودته الدولة
البريطانية، وحاولت أن تستعين به على قتال الترك في العراق فأبى، وعقدت معه
اتفاقًا اعترفت له فيه بسيادته على نجد وملحقاتها، ومنها ما كان بيد الدولة العثمانية،
وفي ذلك الاتفاق تقييد لاستقلال نجد الخارجي لا تشعر به حكومتها إلا إذا أرادت
الخروج من عزلتها ومعاملة العالم، فإن لم يكن أُلغي فقد صار إنفاذه اليوم أسهل مما
كان بالأمس؛ لأن الدولة البريطانية أحوج إلى موادة ملك الحجاز وسلطان نجد اليوم
منها إلى سلطان نجد وحدها بالأمس، ولا تزال حريصة عليها في الظاهر، وإن
كانت تكيد له في الباطن، على أنه هو قد صرح في مكة بأن استقلاله مطلق لا
نفوذ عليه ولا في بلاده لأجنبي قط.
فعل كل هذا عبد العزيز آل سعود، وما هذا بقليل على مثله في هذا الزمن
القصير، وهو مع هذا في منتهى التواضع في معيشته وحكمه ومعاشرته للناس من
أهل بلاده وغيرهم، لم تجنح نفسه للترف والنعيم، ولا للزينة والزخرف غير
المعتاد أو المحظور شرعًا، ولا للعظمة والكبرياء، ولا للتمتع بالألقاب الضخمة،
ولا لتسمية أعوانه بالوزراء والحجاب، ولا للإنعام عليهم بالرتب وشارات الشرف
كما فعل الملك حسين، وكذا ولده عبد الله في إمارته الصغيرة الحقيرة التي هو
فيها تحت سيطرة الأجانب وخدمتهم - ولا بثّ دعاية لنفسه ولا لقومه في البلاد
العربية، ولا غيرها من البلاد الإسلامية، لا باسم الوحدة العربية ولا بعنوان
الجامعة الإسلامية، ولا اصطنع جريدة ولا بذل للمادحين ولا للناقدين درهمًا ولا
دينارًا، وهو لا يبالي بالأقوال، وإن كان يبالي بها ويهتم بأمرها ساسة الدول
الكبرى، ويبذلون في سبيلها الملايين. ومن المعلوم أن حاله غير حالهم، وماله
غير مالهم، وبيئته غير بيئتهم، وقد سخّر الله له كثيرين يعملون للمصلحة التي
يبغيها لا له، فأغناه عن استئجار الأقلام المنافقة.
وقد ناصبه الشريف حسين وأولاده العداء منذ صار أمر الحجاز بأيديهم،
وكادوا له وتحرشوا به مرارًا، كان أقواها زحف الشريف عبد الله على (الخرما
وطربة) بأعظم قوة منظمة وُجدت في الحجاز عقب استيلاء حسين على المدينة
المنورة، وخروج الجيش التركي منها بانكسار دولته ودول أحلافه، فكسره الإخوان
شر كسرة، ومزقوا شمل جيشه المنظم، وفرَّ هو منهزمًا يحاكي الإخوان من
الوهابية في زيهم وكلامهم، حتى صرح له والده بأنه كان يفضل قتله على نجاته
بهذه الصورة المزرية، ولم يكتفوا بخزي هذه الكسرة الشائنة، فتحرشوا بالنجديين
بعد ذلك مرارًا، ومنعهم الملك حسين من أداء فريضة الحج، وضيق على تجارتهم
حتى منعها من الحجاز، وأسرف في الكيد والدسائس لسلطانهم، والسعي لإعادة
إمارة ابن الرشيد في نجد، وإمارة آل عايض في (عسير) وضمهما إلى الحجاز،
بل وضع بناء سياسته في جزيرة العرب على أساس تقسيم السلطنة النجدية والبلاد
اليمنية إلى عدة إمارات، تابعة لملك واحد (أي له) في السياسة والعسكرية،
والشؤون العامة، وبالغ هو وأولاده في احتقار السلطان عبد العزيز بن السعود،
حتى إن أضعفهم أجير الإنكليز في مديرية شرق الأردن، لا يعبر عنه إلا بشيخ
عشائر نجد، دع طعنهم في دينه ودين قومه على حد تعيير مادر لحاتم الطائي
بالبخل،.
وقد عاملهم هو بالحلم الواسع فلم يزدهم حلمه إلا بغيًا وغرورًا، حتى إذا
قامت عليه الحجة بوجوب إنقاذ الحجاز من ظلم حسين وإلحاده في الحرم على ما
أفتينا به، بناء على الأخبار التي تواترت برواية الكثير من الحجازيين والآفاقيين
من الحجاج وغيرهم، وقرر ذلك مؤتمر الشورى الذي عقد في الرياض عاصمة
نجد - أمر بالزحف على الطائف الني هي أمنع معاقل الحجاز، ومركز أكبر
قوته العسكرية، فزحف الإخوان من مُتَديِّنَة الحجاز ونجد، فأخذوا الطائف عنوة،
ثم ما وراءه من المعاقل الحصينة، وأعظمها (الهدى وكرى) وفر الشريف
عليّ القائد العام وولي عهد الحسين، كما فرَّ أخوه قبله من بأس الإخوان،
واستأذن قائد الجيش - وهو الشريف خالد بن لؤي أحد شرفاء مكة - من السلطان
بالزحف بمن معه على مكة المكرمة وغيرها، ولو أذن لهم لاستولوا على كنوز الملك
حسين وذخائره كلها، وانتهى أمر الحجاز كله في شهر أو شهرين.
ولكن هذا السلطان العاقل الحليم الصبور أمر بوقف الزحف حتى يحضر
بنفسه، إذ بلغه أنه قد وقع من الإخوان في الطائف شذوذ مخالف للشرع؛ بقتل
بعض الأهالي غير المقاتلين وسلب بعض الأموال، فخاف أن يقع مثل ذلك في
أرض الحرم، ولأنه لا يستحل القتال في الحرم على ما فيه من الخلاف كما بيَّناه
في الفتوى المشار إليها آنفا، فأمر بانتظاره حتى يحضر هو بنفسه، وكان يمكن
الزحف على جدة، أو قطع الطريق على الملك حسين بينها وبين مكة
المكرمة، ولكنه لم يأذن بذلك أيضًا، وقد شرحنا ذلك من قبل.
ثم إنه - أي السلطان - جاء بنفسه وأمهل الملك حسينًا حتى فَرَّ بأمواله
وذخائره إلى جدة، فاستولى على مكة سلمًا، ودخلها هو ومن معه محرمين بالعمرة،
ثم أفرط في التأني والتريث حتى كان ما كان من تحصين الشريف علي لجدة،
ووضع حامية في حصون المدينة المنورة، وكان قد تألف فيها حزب وطني نصبه
ملكًا دستوريًّا على الحجاز بإذن والده، وقد اختار السلطان عبد العزيز حصار جدة
على مناجزتها خلافًا لأكثر أنصاره وأوليائه من النجديين وغيرهم، وصابرها أكثر
من سنة حتى سقطت من تلقاء نفسها، وكان قد حاصر حامية المدينة المنورة أيضًا،
فاستسلمت قبل استسلام جدة بأيام كما علمه الخاص والعام، فكانت العاقبة حَسَنة
على ما كان في الوسائل من الأغلاط، وَتَمَّ (لشيخ عشائر نجد) الاستيلاء على
جميع الحجاز مع عسير، وصار ملكه ممتدًّا من البحر الأحمر إلى خليج فارس،
ولم يزده هذا كله إلا خشية لله تعالى وتواضعًا للناس، وتنزهًا عن الدعوى والتنفج
والتبجح الذي عهدناه من غيره.
***
(2)
الشريف حسين وأولاده
وأما حسين بن علي شريف مكة وأميرها فملكها، فمدعي ملك العرب،
فمنتحل الخلافة الإسلامية - فقد فُتن هو وأولاده بحب المجد الكاذب،والمُلك الصوري
في ظل الأجانب. فأجمعوا أمرهم على جعل البلاد العربية تابعة للدولة البريطانية؛
ليكونوا خلفاء وملوكًا في ظلها، لعلمهم بأنهم من حيث هم هم كالهباء أو كالعدم لا
ظلَّ لهم، وأنه ليس لهم عصبية قومية يتملكون في ظلها وأنه لم يكن لهم ولا
لسلفهم من أمراء مكة حسنة في الحرمين الشريفين في علم ولا عمل يستميلون بها
أهل الحجاز ولا غيرهم من العرب أو المسلمين بتمنيتهم العود إلى مثله، بل لا
يحفظ التاريخ عنهم منذ بضعة قرون إلا الظلم والإلحاد في الحرم، وإنما كان أمراء
مكة يُنصَّبون من قبل الدولة المصرية ثم الدولة العثمانية، ويظلمون الناس من
حجاج وحرميين في ظلهما.
وقد انتفخوا في هذا الزمن كبرًا وعتوًّا وغرورًا بما كان من ميل الإنكليز
الخادع لهم، حتى لم يبقَ في أدمغتهم ولا قلوبهم أدنى ولا أصغر موضع لنصح
ناصح ولا تذكير مذكر، فقد نصحنا ونصح غيرنا لكبيرهم ولصغيرهم بأنه لا رجاء
لهم في حفظ سلطانهم في الحجاز إلا بقوة أمتهم واتحادها وتضمانها، وأن هذا
الاتحاد لا يمكن حصوله في جزيرة العرب إلا على قاعدة الحلف بين حكوماتها
المسلحة، وأعظمها وأقواها حكومتا نجد واليمن، وضمنَّا لهم إقناعهما بذلك إذا
رضي به حسين، ولكن حسينًا لم يرض أن يتنزل درجة من عرش سماء عظموته
وجبروته، ولا أن يتحول خطوة عن جعل جميع البلاد العربية وفي مقدمتها اليمن
ونجد خاضعة لإمبراطوريته وخلافته، كما أشرنا إلى ذلك آنفًا، وإنما كان قصارى
تواضعه أن يعد بالسماح لكل من إمامي اليمن ونجد باستقلال إداري في بعض البلاد
الخاضعة لهما الآن، وهو ما كان خاضعًا لهما قبل الحرب الكبرى، وهو على هذه
الكبرياء والغرور والدعوى لم يتخذ لملكه قوة عسكرية تكفي لحفظ الحجاز من
التعدي عليه، ولم يقدر أن يُخضِع قبائله لطاعته، بل اكتفى من عظمة الملك
بالألقاب والرتب الدولية وأسماء الوزارات الصورية، والموسيقى الملكية، فكان
كما قال الشاعر:
كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
غر حسينًا وعودُ الإنكليز الخادعة؛ لأنه يجهل تاريخ الهند وما هو أقرب
منه إليه وهو تاريخ مصر الحديث.
ثم غر حسينًا مبايعةُ جمهور من الفلسطينيين والسوريين بالخلافة العظمى،
فظن أنه صار إمام المسلمين الأعظم، وكان قبلها يحتقر إمام اليمن وسلطان نجد،
فصار بعدها يحتقر مصر والهند، ويقول فيهما ما قال مالك في الخمر، بل صرح
بتكفير المصريين وشبههم بالأنعام، وصدَّ حكومتهم عن إرسال ركب الحج وما
يتبعه من الأموال والأرزاق إلى أهل الحجاز، وألف لجنة لتضع له المطاعن في
بعض الكتب الإصلاحية ومؤلفيها من المتقدمين والمتأخرين ليبلغ العالم الإسلامي
الامتناع من قراءتها، بما له من السيطرة الدينية بزعمه لانتحاله لمنصب الخلافة،
وللدعاوى العريضة التي كان يمتع بها نفسه بما ينشره في جريدته (القبلة) .
ومما زاد حسينًا غرورًا بنفسه تلك الكنوزُ التي كنزها من مال الرشى الذي
أفاضه عليه الإنكليز وعلى أولاده في عهد الحرب، فقد بلغ - كما روي عن (مستر
لورانس) المستشرق الذي كان يدير دفة سفينة الشرفاء في لجج الصحراء -
ثمانية وأربعين مليونًا من الجنيهات الذهبية، وما كان يبتزه من مال السحت في كل
عام من الحجاج وأهل الحجاز جميعًا، وقد بينا أنواعه في الخطاب العام الذي نشرناه
في المنار.
ومما زاده وزاد أولاده غرورًا تزلف كثير من المنافقين لهم، واصطناعهم
لبعض الجرائد العربية التي تطريهم وتدافع عنهم وتغش الناس بهم، وتجعل
سيئاتهم حسنات، وتهوَّن أمر خصمهم وتنفر العرب والمسلمين منه، ولا سيما
سلطان نجد وقومه، وفي مقدمة هذه الجرائد (المقطم) الذي ثبت على إمداد حسين
فَعَلي في الغي والغرور، ونصره دعايتهما بالإفك وقول الزور. فصبرا وصابرا
إلى أن قضى الله عليهما، وأدال لخصمهما منهما، ولم يستفيدا من هذه المصابرة
إلا خسارة القناطير المقنطرة من الذهب التي جمعاها من السحت والظلم،
وفضيحتهما فيما اختلقا واختلق لهما أنصارهما من الطعن في ابن السعود وقومه.
***
دعاية المقطم لحسين وأولاده
أسرفت جريدة المقطم في الدعاية الحجازية، وسمحت لأحد محرريها بلقبه
المنوط به التوسع في المسائل الشرقية أن يرخي لنفسه العنان في هذا الميدان،
فيقول ما شاء من أنباء معزوّة وغير معزوّة، وآراء معقولة وغير معقولة، ولم تعد
تحسب لما يكشفه المستقبل حسابًا، فكانت في الدعاية لهؤلاء الجاهلين مثلهم على ما
أوتي أصحابها من علم وخبرة وتجارب، ولا نبحث هنا عن علة ذلك وسببه من
سياستهم، ولا فيما هنالك من معاملة مالية بينها وبينهم.
دع ما أذاعوه عن موت ابن السعود بالسل، ودع تأويل أكذوبتهم بعد ظهورها
بأنه مسلول في الدرجة الأخيرة التي لا تطول معها الحياة، فإن هذا وذاك مما
عددناه نحن مُحتمِلٌ للصدق، حتى كذبته لنا أنباء البرق، وتذكَّر إن كنت ناسيًا ما
كانت تنشره من أخبار قوة الملك عَلي الحربية، من جيوش نظامية وبدوية،
وأسلحة لا تقل عن أسلحة الجيوش الألمانية، من سيارات مدرعة ودبابات مروعة،
وطيارات مسلحة تحلق في الجَواء، وأساطيل مواخر في الدأماء، وجحافل تترى
حتى يكاد يضيق بها رحب الفضاء، ومن سعي الملك علي الدستوري تارة للصلح
على ما أوتي من قوة وبأس شديد، كراهة لسفك الدماء وإيثارًا للمودة على البغضاء،
واحترامًا لأرض الحرم المقدسة، وعزمه تارة أخرى على مطاردة الوهابيين
وانتزاع الحرم منهم بالقوة، ثم الزحف على بلادهم، أو يدخل بلدة الرياض عاصمة
سلطنتهم،
هذا من جهة أو من الجهة الواحدة، ومن جهة أخرى - كما تعبر (المقطم)
أن ما عليه الإخوان الوهابيون من الفقر والعوز، وقلة السلاح والذخيرة، والحرمان
من النظام والدربة، ومن وقوع الشقاق بينهم، وخروج بعض القواد على سلطانهم،
واشتعال نيران الفتن في عقر دارهم، والأخطار التي تساورهم من القبائل التي
في جوارهم - كل ذلك من آيات خذلانهم وسوء عاقبة سعيهم.
ومن جهة ثالثة - وإن لم تكن من هجيرى الكاتب - أن ولي عهد إمام اليمن قد
خطب قومه يغريهم بالوهابيين المخالفين في الدين، والمنابزين للزيديين، وأن
هبوات الزحف اليمانية وقسطل سنابك الخيل الزيدية، ستغشى بلاد الحجاز من
الجنوب، فتتلاقى مع جحافل الحجاز من الشمال، وتلتف حول هؤلاء الشراذم من
الإخوان ذات اليمين وذات اليسار، فتحيط بهم من كل مكان، حتى لا يتفلت منها
إنسان.
ومن مزاعم المقطم في هذه الجهة أن سلطان نجد لم يدعُ الإمام يحيى إلى
مؤتمر الحجاز، والحق أنه دعاه، وأنه أول من أجاب الدعوة.
ومن جهة رابعة أن العالم الإسلامي سيكون إلبًا واحدًا على هؤلاء الوهابية
تشيُعًا للأسرة الهاشمية، كما تقتضيه معارف محرري " المقطم " الإسلامية، ولا
سيما بعد أن اتهمهم الصادق المصدوق الصدِّيق الملك علي الهاشمي الدستوري
وكتاب دعايته بهدم القبة الخضراء، المظللة لقبر أفضل من أظلت السماء،
وأقلت الغبراء، صلوات الله تعالى عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأولياء،
وبهدم قبر سيد الشهداء (حمزة رضي الله عنه) إلخ.
ومن جهة خامسة أن مما انفرد به (المقطم) دون أُجَرَاء دعاة البيت الهاشمي
على الاختلاق، تلك المواد التي صورها للمؤتمر الذي عقد بين السلطان والجنرال
جلبرت كلايتن ومن معه من مندوبي العراق لتسوية الحدود بين نجد وبين العراق
وشرق الأردن، فقد ادّعى المقطم أنه وقف على ما تقرر فيها، ونشر مواد تُنفِّر
العالم الإسلامي من سلطان نجد. كذبتها الحكومتان الإنكليزية ثم النجدية، ولكن بعد
أن صدقها الكثيرون في الشرق والغرب ونقلتها عنه صحف كثيرة، لا يخطر في بال
أصحابها أن المقطم تكذب كذبًا صريحًا في أمثال هذه المسائل التاريخية
الرسمية.
ويشبه هذه المواد في ظهور كذبها بعد نشرها تلك المواد التي لفّقتها،
والشروط التي زورتها، في شأن تسليم الملك علي للسلطان ابن السعود في جدة،
وكانت إحدى الجرائد ظنت أن المقطم تلقاها من الوكالة العربية فنقلتها وعزتها إلى
الوكالة، فنفاها الشيخ عبد الملك الخطيب وتبرأ منها، ثم جاءت جريدة أم القرى
المكية ناشرة للشروط الرسمية، فعُلم كذب شروط المقطم الفاضح، وأنا لا أعتقد
أنها لُفقت في إدارة المقطم، وإنما الراجح أن رجال الملك علي الذين فروا من جدة
لقنوهم هذه، كما أن مندوب الملك فيصل في مؤتمر بحرة هو الذي اختلق لهم
شروط مؤتمر (بحرة) وذنب (المقطم) أنه أباح لهم صفحاته على ما يعلم من
كذبهم وحمل تبعته بنشره باسمه، وجعله من معلوماته الثابتة عنده.
ومن جهة سادسة - والجهات الحسية ست - أنه كان مثلهم يجمع بين النقائض
والأضداد؛ فينشر لهم ما يغشون به أمتهم العربية وملتهم الإسلامية من إيهام
استقلالهم وعملهم لاستقلال الأمة وذم الوهابية وسلطانهم، ثم ينشر بعض الأخبار
ولا سيما الرسمية المكذبة لهم، ويكتم ما يمكن كتمانه من التصاقهم بالدولة
البريطانية وجعل الحجاز تحت حمايتها، حتى إن حسينًا لم يتربَّ بخروجه من
الحجاز مذءومًا مدحورًا، ثم من العقبة ملومًا محسورًا، وانتباذه في قبرص مغمورًا
مثبورًا، وخذلان (العظمة البريطانية) له كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، لم يتربَّ بهذه
العاقبة السوءى، فظل يأوي إلى ظل ما سماه (مقررات النهضة) من حماية
الإنكليز لمملكته الوهمية من الداخل والخارج، ولا سيما بعض (الأمراء الحاسدين)
فكتب إلى رئيس الوزارة البريطانية يعاتبه ويطالبه بإخراج ابن السعود من
الحجاز، وقد رد عليه الوزير ردًّا شديدًا، ونشر المقطم كتاب الملك المخدوع ورد
الوزير عليه، فأين هذا مما كان قد نشره من تصريحه بأن استيلاء ابن السعود على
الحجاز آثر عنده من تدخل الإنكليز في شؤونه؟
وكذلك كان فعل ولده علي صرَّح فقد بمثل هذا التصريح، ونشر له المقطم
وغيره أقوالاً توهم حرصه على الاستقلال المطلق دون الأجانب، وتفضيل ابن
السعود عليهم، كما أنه قد ثبت أنه كان يسعى لجعل الحجاز تحت حماية الإنكليز
رسميًّا بشرط أن يخرجوا ابن السعود منه، سمعنا هذا أولاً من الوفد الهندي الذي كان
في جدة، وقد عرفوه من قنصل الإنكليز فيها، ثم سمعناه ممن قدم بعد ذلك من
جدة: كالدكتور خالد الخطيب الذي كان رئيس مصلحة الصحة عند علي.
وثبت أيضًا أنه كان يسعى لرهن جمرك جدة لدولة أجنبية تقرضه مليون جنيه
لمتابعة قتال ابن السعود، وثبت أيضًا أن أخاه الملك فيصلاً سعى له هذا السعي
لدى الدولة البريطانية ثم الدولة الفرنسية عند زيارته لهما في الصيف الماضي، وقد
خاب السعي لديهما ولدي الدولة الإيطالية أيضًا، ولو تم لكان سببًا لعبث الدولة
المستولية على الجمرك باستقلال الحجاز، واحتلالها لثغره الأعظم الذي هو مدخل
أكثر الحجاج.
وقد كان كل انتصار لهما خذلانًا ووبالاً عليهما، ونكالاً وفضيحة لهما وسببًا
لخسارتهما أكثر ما جمعا من مال السحت والخيانة.
ونذكر ههنا على سبيل الاستطراد زيارة الملك فيصل عاصمة فرنسة التي
طردته من سورية أقبح الطرد، في الوقت الذي كانت مدافعها تدمر فيه مدينة دمشق
وغيرها لأجل إقناع حكومتها بنصب أخيه زيد ملكًا عليها، وإقناعها بأن هذه هي
الوسيلة الوحيدة لتوطيد سلطانها الاستعماري فيها.
هذه جملة موجزة من سيرة الملك العربي الفعال، وسيرة ملوك الدعاية
القوالين، وسماسرة الاستعمار الأوربي في البلاد العربية، ولما نشره المقطم من
الدعاية الباطلة لهم، لخّصْتُها وأوردت بعضها بعبارة شعرية أو كالشعرية؛ لئلا
تمج الأسماع قراءتها، إذا هي ذكرت بعبارتها بعد أن اطلعوا عليها في أوقاتها،
ونحن نحفظ قصاصات المقطم الحاوية لها، وإنما كتبناها للعبرة بها، والتحذير من
مثلها، فإننا نرى أن دعاية الإفساد الهاشمية لم تنته بانتهاء أمر الحجاز، وبلغنا أن
رئيس حكومتي حسين وعلي الساقطتين نقل ذلك عن دار المندوب السامي بمصر،
وأن الملك عليًّا أعطى بعد وصوله إلى العراق مائة وخمسين ألف جنيه لتنظيم
دعاية جديدة، فننصح لمن يعنيهم أمر الحجاز من العرب وسائر المسلمين أن يكونوا
على حذر، ويتكاتفوا ويتعاونوا على وقاية مهد أمتهم ودينهم من الخطر، وأن
يقارنوا بين تينك السيرتين بالأعمال، فإنها لا تقبل التضليل كالأقوال، ويفكروا
فيما يجب في الحال، لحسن العاقبة والمآل.
خاتمة كتاب (ملوك العرب) لأمين الريحاني الكاتب الشهير
وهي خلاصة اختباره الشخصي سنة 1343هـ 1924م
رعية الملك حسين تطيعه وتخافه.
رعية ابن سعود تطيعه وتحبه.
رعية الإمام يحيى تطيعه دون حب ودون خوف.
رعية الملك فيصل لا تخاف ولا تحب ولا تطيع إلا مكرهة.
فمَن مِن الملوك المذكورين في شبه الجزيرة يستحق أن يسود العرب؟
__________(26/662)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استيلاء ابن السعود على جميع الحجاز
وثائق تاريخية
(1)
تسليم المدينة المنورة
جاء في العدد الحادي والخمسين من جريدة (أم القرى) الذي صدر بمكة
المكرمة في2جمادى الثانية سنة 1344 الموافق 18 ديسمبر سنة 1925 ما نصه:
لقد كان أكبر هَمٍّ عظمة السلطان - أيده الله - في حربه مع الشريف حسين
وأولاده أن يبذل كل وسعه ومجهوده لمنع حدوث أي حادث مكدر بجانب البلدتين
المقدستين مكة والمدينة، وكان لمَّا تم أمر مكة، ودخل جند عظمة السلطان لها،
قدم بعض أهل المدينة يطلبون الأمان على المدينة وما حولها، ويطلبون إرسال عدد
قليل لاستلام البلدة المقدسة، فأرسل عظمة السلطان قوة قليلة من جنده بقيادة صالح
ابن عدل إلى حوالي المدينة، ولما وجد الحامية التي فيها لا تنوي الاستسلام سِلمًا
أصدر أمره الكريم بعدم مهاجمة المدينة، والاكتفاء بحصارها عن بعد، ولكن ذلك
الحصار لم يكن شاملاً حتى لا يعظم الضيق على تلك البلدة المقدسة، ولما طال أمد
الحرب، ووجد أن ترك أمر المدينة بدون تدبير مرتب يطيل الأمر، بعث عظمة
السلطان قوة تحاصر المدينة، فتمنع وصول الأرزاق لحمايتها، وأرسل لأهلها أن
يخرجوا من البلدة، وأمَّنهم على أرواحهم وأموالهم، واستقبلهم جنده أحسن استقبال،
وسد عوزهم، وحمل قسمًا منهم إلى مكة، وأكرم مثوى الباقين، وإذ ذاك بدأ
الضيق الشديد في المدينة على الحامية، وبدأت فكرة التسليم تسري إلى رجال
الحامية، وقد بعث فريق منهم مصطفى عبد العال يكتب لعظمة السلطان، يطلبون
التسليم على شروط اشترطوها، فأجابهم عظمة السلطان إليها إذا وفوا بشروط
التسليم، وعلى ذلك أمر نجله سمو الأمير محمد بالتوجه لاستلام المدينة، فلما
وصلها لم يوفِّ الذين كاتبوا بالأمان عهدهم في حينه، فازداد الحصار شدة على
الحامية، وهذا نص البرقيات التي تبودلت بين جدة وحامية المدينة بشأن مصطفى
عبد العال، عثرنا عليها في دائرة البرق اللاسلكي في المدينة المنورة، وهذا نصها:
***
البرقيات التي تبودلت بين حكومة جدة وحامية المدينة
المدينة 1 ربيع الثاني - قائد المدينة وكيل الأمير مصطفى عبد العال وصل
مكة بالكتب، صادروا جميع أمواله وأملاكه في الحال.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة 1 (ج1) إلى الملك
نحن لا نشك بأن شحات كاتب ابن سعود بواسطة عبد العال، بعد أن قرأنا
صورة الكتاب المرسل منه، ومختوم بختمه الخاص، وبعد أن حسَّ بمصادرة
أموال مصطفى أخذ جميع صناديقه وذهبه الذي كان وضعه عند مصطفى سابقًا،
ونحن نريد من الله أن يكون هذا ليس له صحة.
... ... ... ... قائد المدينة ... ... ... وكيل الأمير
المدينة 1ج1 - قائد المدينة - وكيل الأمير
إذا ظهر لكم منه حركة اقبضوا عليه هو ومن يلوذ به.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
المدينة 20 ربيع الثاني - قائد المدينة - وكيل الأمير
قرأنا في أم القرى أن مأمورين المدينة طلبوا الأمان، وكاتبوا ابن السعود؛
لأجل التسليم ألحقوا المسألة وكذبوها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة 22ربيع الثاني (كذا في أم القرى) إلى الملك
غدًا سنرسل برقية للعالم الإسلامي ولابن سعود نفسه نكذبه بأن المدينة ما
طلبت التسليم، وسنختمها باسم عموم المأمورين والقبائل وأعيان البلاد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة
جدة 10ج1 إلى الملك
اليوم كتَّبنا الشريف شحات كتابًا إلى ابن سعود وإلى النشمي، وإلى الصعيدي
مصطفى يكذبهم فيه جميعًا بأنه لم يكاتب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة
(نشرنا هذه البرقيات ليعلم الناس أن هؤلاء القوم يعملون العمل ويعرفونه
ثم لا يعتذرون عنه، بل يميلون للكذب فيه ليماروا على الناس، ومما يدل على
ذلك برقية أرسلها الشريف علي لقائد المدينة ليرسلها إلى عمان ليموه على الناس
فيها، وهذا نصها) :
جدة 15ربيع الثاني- وكيل الأمير والقائد وقائد الخط ورئيس الديوان
برقياتكم لشرق الأردن بخصوص إلحاق المدينة إلى الشرق العربي تناقلتها
الصحف العربية الإسلامية، وستضر بموقفنا الحالي جدًّا، الْحَقُوا المسألةَ وكَذِّبوها
في هذه البرقية، اكْتُبوها للأخ عبد الله بعمان تبتدئ (كنا سابقًا نظرًا للضيق الذي
كنا فيه طلبنا معاونتكم لنا فقط، والآن الحمد لله العدوُّ انسحب من أمام خطوطنا،
وقد وصل 350 حمل، ونحن ما زلنا مجاهدين ومدافعين عن قبر الرسول بأرواحنا،
ونبذل الغالي والرخيص في هذا السبيل) عسى ولعل ترتق ما حصل في الأذهان
والأفكار العمومية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
***
المراوغات
لما نشر الشريف علي في الأنحاء الأكاذيب عن المدينة المنورة، وجاءت
الوفود لرؤيتها أخذ يعمل الأساليب المتعددة لخداعهم في المدينة أيضا، وهذا نص
البرقيات التي أرسلها من أجل قنصل إيران.
1ج1- قائد المدينة وكيل الأمير، قائد الخط رئيس الديوان
نبشركم، العدو انسحب من أطراف ينبع، أرسلوا من يتجسس وعرفونا،
وأظن أن العرافة رئيسهم توجه لعندكم، وكذلك محمد ولد ابن سعود توجه لطرفكم،
بناء على الكتب التي أرسلت لأجل التسليم، ومعه قنصل لإيران وعبد الله الفضل،
وهذا الأخير هو عدونا، فلا تخلوه يختلط بالناس، ولا يمشي بنفسه، راقبوه كل
المراقبة، واعرفوا كيف تشتغلوا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
8ج1- المدينة، الشريف شحات
اجْمَعُوا جميع النخاولة والأهالي المظلومين، وخذوهم إلى القنصل الإيراني
ويحكوا له الذي حصل عليهم من الفظائع.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ناصر بن علي
جدة 9ج1 - ناصر بن علي
عرضت عليهم جميع الأهالي والنخاولة المظلومين فلم يعملوا بمشورتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شحات
(وهذا نص البرقية التي أرسلها الشريف علي لمنع دخول وفد جمعية
الخلافة الهندي إلى المدينة المنورة) .
8 ج1 قائد المدينة، وكيل الأمير
بلغنا أكيدًا أن وفد جمعية الخلافة الهندية وصل رابغ، ومنها لمكة، ومنها
سيتوجه لطرفكم، فإذا وصل وأراد دخول البلدة، فاطلبوا منه هل جبتوا أمر من
الحكومة الهاشمية، فإذا ما معهم أمر فلا تدخلوهم، وإذا قالوا: معنا قولوا لهم:
تفضلوا لأن هذا الوفد هو عدونا، وقريبًا سيصل جدة وفد آخر هندي ضد هذا
الوفد فلا يهمكم ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
***
دور الشدة
ومن تاريخ 10 جمادى الأول وبدأت المشادة بين حامية المدينة والشريف علي
وهناك خرج الشريف علي عن جميع الحدود، فأباح في الحرم المدني المقدس
السلب والنهب، وبيع المجوهرات، وهذا نص البرقيات التي عثرنا عليها في هذا
الصدد ننشرها للتاريخ بحروفها وأغلاطها:
جدة5ج1- إلى الملك
نحن لا يهمنا لا ابن السعود ولا السعود بنفسه، إنما الذي يهمنا هو الأرزاق
للجند، الجند بعد ما انتهت من تخريب البيوت بالخارج بدأت تنهب بيوت الداخل،
وعدتونا بإرسال الطيارة بالدراهم المتيسرة، إلى الآن لم نر لها أثرًا دبروا وأرسلوا
لنا الدراهم ولو ببيع إحدى البواخر، وترون منا ما يسركم.
... ... ... ... ... رئيس الديوان ... ... قائد المدينة
المدينة 1ج ... وكيل الأمير ... قائد المدينة
ج جاوبوا ولد السعود بأشد ما يمكنكم حتى لا تجعلوا له باب للمخابرة معكم
قطعيًّا، وهكذا يقطع أمله منكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة ... ... إلى الملك ... ... 10 ج1
تأكد لدينا أن محمد ولد السعود واجه أحد من أهل المدينة في رابغ، وحكوا
له قضية بيع مجوهرات الحرم، ولكن تداركنا الأمر وكذبناها أمام القنصل الإيراني،
بالطبع أم القرى ستنشرها يكون معلومكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة
جدة 13 ج إلى الملك
أمضوها وخلصونا
فهمنا أنكم أنتم الذين مؤخرين إنهاء المسألة بسبب عدم إمضائكم المعاهدة
للإنكليز انقضى الأمر ولا بقي في اليد حيلة، ووقعنا في الذي نخشاه، الجنود ما
عندهم أرزاق إلا ثلاثة أيام، التحويل لا يمكن أخذه من البلدة، العدو الذي جانا قبل
مدة لم يزل باقي هنا ينتظر الدراهم، وقصارى القول: إنه إذا للغد لم ترسلوا
الطيارة في الساعة السادسة سنفاوض العدو.
... ... ... ... ... ... ... عزت عمير، عبد المجيد أحمد
المدينة 13ج1 - وكيل الأمير قائد المدينة قائد الخط رئيس الديوان
ج باكر الثلوث تجيكم الطيارة هل تريدون انتحاري؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة 14 ج 1 إلى الملك
تزييدًا لقوة معنوية الجيش وتنشيطًا لهم وإرهابًا للعدو لا بد من إرسال الطيارة
إلى المدينة، ولو تحوم مؤقتًا وترجع حالاً، لا بد من ذلك، وليس لدينا غير هذا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن عمير
المدينة 1 ج 1 - رئيس الديوان
ج. لعدم وجود البنزين عندنا لا يمكننا إرسالها إلا بعد عشرة أيام لبينما
نحضر لها البنزين في الباخرة مع ذلك سأجتهد أنا والطيارين في ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
المدينة 14ج1- رئيس الديوان
برقياتكم أمس وملحقاتها أزعجتني للغاية، ما أدس عليك يا عبد الله، الحال
واقف معانا بالمرة من شهر وزيادة، وأنا أتشبث لقرض برهن أو ببيع أملاك فلم
نتوفق، الأجانب محتجين بأنهم على الحياد، لولا اعتمادي عليك ما أطلعتك على
هذا، تبصر بالأمر أنا في حيرة بسبب إرسال الطيارة، قلت لكم: بيعوا الذهب
والفضة التي بالحرم قلتو (؟) لما نحتاج فهل بقي احتياج بعد ما تقولوا إلى الغد
للساعة السادسة، إن لم تروا الطيارة فنحن نفاوض العدو، الحالة التي أنتم بها
تجيز لكم عمل كل أمر، انهبوا وكسروا ولا تهددوني بمثل هذا، الحالة التي نحن
فيها لا تقل عن حالتكم، ارحموني دخيلكم، اصبروا مقدار عشرة أيام حيث يصلنا
دراهم من سيدنا نرسل لكم منها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
المدينة 17 ج1 وكيل الأمير، قائد المدينة
بلغنا من نجاب ورد اليوم من مكة أن ولد السعود محمد توجه من طرفكم إلى
رابغ، حققوا وعرِّفونا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة 17 ج1 إلى الملك
ج ولد ابن سعود هنا قائم بتخريب وتجميع العربان، والتضييق علينا.
... ... ... قائد المدينة ... ... ... ... وكيل الأمير
جدة 17 ج1 إلى الملك
ج كررت الشرهة علينا وبالنتيجة تقول: كلوا المحرمات فلا بأس ولكن فيها
مضرة، ولا نرى منكم إلا إشارة الإهانة، بحيث صرحنا للعالم الإسلامي ولا
حصلت فائدة، وهذه من جملة إشارات ما عرضنا لكم ولا عاد فينا صبر بعد ذلك
ونحن بدنا دولة مستقلة، وأنتم استقليتم بها في أول الوقت فكيف تشرهوا علينا في
الآخر.
رئيس الديوان ... قائد الخط ... ... ... ... قائد المدينة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وكيل الأمير ... والقائد ... وعزت ... ... وعبد الله
المدينة 17 ج1 وكيل الأمير والقائد وعزت وعبد الله
ج لولا غلاكم وغلاء من أنتم بجواره، وأعتقد أنكم تقولوا: إني ما شرهت
عليكم، وأكل المحرمات مباح عند الضرورات، مع هذا ما قلت: كلوا حرام وأما
الإهانة منكم ولو صدر مني شيء فبرقياتكم أمس تجعلني مثل المجنون، أقول ولا
أدري عن الذي أقوله وله الحمد الذي ما ضيعت شعوري الغاية هي أن بعد الله أنتم
استنادي اشتغلوا شغل العقال، ونحن ندبر الذي ييسره الله ونرسله لكم إما تحويل
وإما بالطيارة، واستعينوا بالله والصبر، والشدائد لا بد لها من فرج ومثلكم يعرف
كل شيء، وأما شرهتي كما تقولوا في مخابرة الأجانب فأنتم أعرف بذلك، فإذا
فكرتوا تعرفوا محذورها، وقد حررنا على شحات في لزوم تأدية الدراهم لكم مع
استشارتكم في تدبيرها، ولا تقصروا في جهدكم بشيء، وأيضًا أمرنا ناصر يؤكد
عليه في ذلك هل استلم الحوالة من الخجا يكفي ما لقيته يا مسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
جدة 17 ج إلى الملك
من يشك في ثباتنا الذي نوهتم عنه ببرقياتكم المتعددة نحن لا نزال محافظين
على عهدنا ووعدنا حتى نفقد موجودنا، ولكن الدرجة وصلت اللحم، وبعد كل هذا
هل عندكم أمل؟ نحن نريد منكم تأمين معيشة الجند الذي منذ ثلاثة أيام محروم
الطعام، هل رأيتم من يصبر على هذا، وهل كان هذا بمساعدة الأمة التي
تنصرونها، أم بحسن تدبيرنا ودرايتنا، أين الوزراء الذين قلدتهم الأمور؟ أين
الوكلاء؟ أين رجال الدولة؟ أين الذين أوعدوك المعاونة عند الشدائد؟ أين الذين
أشاروا عليك بتطويل المواعدة؟ هذا يومهم أجمعوهم إن استطعتم يفكروا في أمرنا
لأنك تعلم بأن دوام الملك موقوف علينا والله ثم والله نكتب لكم هذا ونحن على ثقة بأن
اليوم هذا هو آخر عهدنا بكل صراحة نقول إذا لم تتوافقوا مع الذين زاحموكم
وأوقعوكم بهذا الموقف الحرج، وتتوسلوا بتخليصنا إذا كان مرادكم حياتنا وحياة
البلاد، وإلا فغيركم بالنتيجة يأخذ الجميل وهذا واقع لا بد منه، تحاويلكم
رفضوها، شحات يجاوبكم، دبرونا اليوم وإلا نسلم عليكم.
... ... ... ... عبد الله عمير ... عزت عبد المجيد ... أحمد
فأجابهم الشريف علي على هذه البرقية برقية حماسية يطلب منهم الصبر
والجلد.
وأعقب الشريف علي هذه البرقيات بالبرقية الآتية:
المدينة 17 وكيل الأمير والقائد ورئيس الديوان وقائد الخط:
لم تجيبوني على برقياتي لأعلم أي ذنب جنيته؛ لتعذيبي بهذه الصورة، ليس
لي رغبة أو مطمع سوى حفظ كيان البلاد وشرفها، ولكن هذه بلية قدرها الله وهو
عالم بالسرائر وبالأعمال، وأملي أنكم تسعوا في حفظ شرف البلاد مهما كانت الحال،
وأما الحياة التعيسة والذليلة فالله لا يحكم بها علينا، كونوا على يقين عند أول
حركة تعملوها تكونون سبب ضياع حياتي وبعده أنتم والبلاد وأنا خصيمكم يوم
القيامة، وأطالبكم بضياع ديني. ... ... ... ... ... ... ... علي
وفي أثناء هذه الزوبعة من البرقيات يرسل الشريف شاكر من ينبع للشريف
علي البرقية الآتية:
جدة 17 ج إلى الملك
استرحم صدور الأمر في إرسال تحويل باقي المرتب من أرز وسمن وبن،
وأيضًا إرسال شيء باسم المملوك خاصة وأرزاق الفداوية والحروب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شاكر
***
دور تسليم
ولما تيقن رجال حامية المدينة أن لا فائدة من إطالة القول مع الشريف علي،
وقد بلغ منهم الضيق مبلغه قرروا التسليم، فبعث قائد المدينة عبد المجيد، وعزت
مدير الخط كتابًا إلى سمو الأمير محمد يطلبان ملاقاته، وأنهما سيخرجان الساعة
الرابعة من صباح الجمعة في 18 جمادى الأولى من المدينة، ويطلبان من يستقبلهما،
فأجاب سمو الأمير طلبتهما، وأرسل إليهما خيالة استقبلتهما، ولما حضرا بين
يدي سموه، فاوضاه في التسليم على شرط إعطاء الأمان لجميع الجنود والضباط
والأهلين، وإعلان عفو عام عما مضى، وأنهم في مقابل ذلك يسلمون المدينة وما
فيها. وفي صباح السبت دخل الأمير ناصر بن سعود وعبد الله الفضل وعزت قائد
الخط إلى المدينة مع فريق من الجنود فاستلموا قلعة سَلْع وما فيها من ذخائر وعتاد،
ووضعوا فيها قوة عسكرية، ثم مروا بجميع المراكز العسكرية والملكية للحكومة،
فاستلموها ووضعوا في كل منها قوة من الجيش النجدي، ولم يأت مساء السبت
حتى كان جندنا قد انتهى من استلام كل شيء في البلدة، وأمن الناس أجمعين.
وفي صباح الأحد تحرك ركاب سمو الأمير بجنوده وراياته قاصدًا المدينة
فوصل دائرة البرق حيث توضأ فيها، ثم سار توًّا لمسجد الرسول - صلى الله عليه
وسلم - فصلى فيه ثم أتى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم [1] ثم رجع فأمر
بمواساة الأهلين، وقد استحضر من (رابغ) ثلاثة آلاف كيس دقيق وأرز لتوزع
على الأهلين.
ولدينا تفاصيل كثيرة عن هذا الفتح ضاق النطاق عنه فنرجئه لفرصة أخرى
إذا احتاج الأمر إليه اهـ.
(ثم نشرت الجريدة في هذا العدد البلاغ العام الذي أذاعه السلطان عقب
فتح المدينة المنورة، وهذا نصه) :
***
(2)
استسلام جدة وبه تم الاستيلاء على الحجاز
(صدر العدد الثاني والخمسين من جريدة (أم القرى) الغراء في جدة في
11 جمادى الآخرة 1344 الموافق 27 ديسمبر 1925) مفصلاً لما ذكر، وهذا
نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
بلاغ عام
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود إلى إخواننا أهل الحجاز
سلمهم الله تعالى: السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فإني أحمد الله إليكم وحده الذي
صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأهنئكم وأهنئ
نفسي بما مَنَّ الله به علينا وعليكم من هذا الفتح الذي أزال الله به الشر، وحقن دماء
المسلمين، وحفظ أموالهم، وأرجو من الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يجعلنا
وإياكم من أنصار دينه ومتبعي هداه.
إخواني: تفهمون أني بذلت جهدي وما تحت يدي في تخليص الحجاز لراحة
أهله وأمن الوافدين إليه طاعة لأمر الله، قال جلَّ من قائل: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ
مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125) ، وقال تعالى:
{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) .
ولقد كان من فضل الله علينا وعلى الناس أن ساد السكون والأمن في الحجاز
من أقصاه إلى أقصاه بعد هذه المدة الطويلة التي ذاق الناس فيها مر الحياة وأتعابها.
ولما مَنَّ الله بما مَنَّ من هذا الفتح السلمي الذي كنا ننتظره ونتوخاه أعلنت
العفو العام عن جميع الجرائم السياسية في البلاد، وأما الجرائم الأخرى فقد أحلت
أمرها للقضاء الشرعي؛ لينظر فيها بما تقتضيه المصلحة الشرعية في العفو.
وإني أبشركم - بحول الله وقوته - أن بلد الله الحرام في إقبال وخير وأمن
وراحة، وإنني - إن شاء الله تعالى - سأبذل جهدي فيما يؤمِّن البلاد المقدسة
ويجلب الراحة والاطمئنان لها.
لقد مضى يوم القول ووصلنا إلى يوم البدء في العمل، فأوصيكم ونفسي
بتقوى الله واتباع مرضاته، والحث على طاعته، فإنه من تمسك بالله كفاه، ومن
عاداه - والعياذ بالله - باء بالخيبة والخسران، إن لكم علينا حقوقًا، ولنا عليكم
حقوقًا، فمن حقوقكم علينا النصح لكم في الباطن والظاهر، واحترام دمائكم
وأعراضكم وأموالكم إلا بحق الشريعة، وحقُّنا عليكم المناصحة والمسلم مرآة أخيه،
فمن رأى منكم منكرًا في أمر دينه أو دنياه فليناصحنا فيه، فإن كان في الدين،
فالمرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في أمر الدنيا
فالعدل مبذول - إن شاء الله - للجميع على السواء.
إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون؛ لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا
للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من نزعات الشياطين والاسترسال وراء
الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار، فإني لا أراعي في هذا الباب
صغيرًا ولا كبيرًا، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره، هذا ما يتعلق
بأمر اليوم الحاضر، وأما مستقبل البلد فلا بد لتقريره من مؤتمر يشترك المسلمون
جميعًا فيه مع أهل الحجاز؛ لينظروا في مستقبل الحجاز ومصالحها.
وأني أسأل الله أن يعيننا جميعًا، ويوفقنا لما فيه الخير والسداد، وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ... ... الفيصل آل سعود
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن
تحريرًا بجدة في 8 جمادى الثانية سنة 1344
... ... ... ... ... ... ... ... ...
***
كيف تم تسليم جدة بين الهجوم والوجوم؟
يعلم الجميع ما كان من عظمة السلطان واختياره خطة الحصار على خطة
الهجوم لإنهاء هذه القضية، ونشرنا مرات عديدة أن السبب في ترجيح هذه الخطة
هي الرغبة في حقن الدماء، وخشية أن يسبب الهجوم فوضى في البلدة تُنتج إصابة
الأبرياء بما لم تكسبه أيديهم.
ولكن في المدة الأخيرة تراءى للناس أن الفوضى ستقع في البلدة هجم الجيش
أو لم يهجم - للانحلال الذي أصاب حكومة جدة في ماليتها ونظامها، ولما رأى عظمة
السلطان ذلك بعث مناشيرًا للجند في جدة يحذرهم من عاقبة التمادي في الباطل، ثم
أقام ينتظر النتائج، ولكن لم يتوسط شهر جمادى الأولى حتى وصل إلى القيادة
العليا أن قسمًا من رجال الحول والطول في حكومة جدة يتآمرون على إحداث
الفوضى في البلدة ونهبها والإخلال فيها، ولما وصل هذا الخبر وتحقق
أمره تقريبًا رأى عظمة السلطان أن ما كان يخشاه سيقع، وأن الحزم
يقضي بتعجيل الهجوم قبل أن تذهب الفوضى بالبلد وأهلها، فأمر مساء الثلاثاء في
29 جمادى الأولى القوة التي وصلت جديدًا من الديار النجدية، وخيمت في الأبطح أن
تتحرك إلى الرغامة، وأمر فريقًا من الجيش الذي بدأ في المسير إلى ينبع أن يعدل
عن طريقه ويرجع إلى جبهة جدة، وأصدر أمره العالي لأخيه سمو الأمير عبد الله
ونجله سمو الأمير فيصل أن يكونا على قدم الاستعداد للعمل، وفي ظهر الأربعاء
ركب عظمة السلطان سيارته الخاصة ومشى إلى الجبهة، وقرر القيام بالهجوم
يوم الجمعة.
***
مفاوضة التسليم
ولكن لم تبلغ السيارة السلطانية (بحرة) حتى شوهد في الطريق سيارة قادمة
من جدة، وشوهد فيها المنشي إحسان الله أحد موظفي دار الاعتماد البريطانية في
جدة يحمل من سعادة المعتمد الكتاب الآتي نصه:
جدة في 16 ديسمبر سنة 1925
حضرة صاحب العظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود
سلطان نجد.
بعد الاحترام: مراعاة للإنسانية ولأجل تسهيل عودة السلام والرفاهية بالحجاز
أكون مسرورًا إذا تفضلتم عظمتكم بالموافقة على مقابلتي بالرغامة غدًا يوم الخميس
قبل الظهر أو بعد ذلك بأسرع ما يمكن هذا، وتفضلوا بقبول وافر التحية وعظيم
الاحترام.
... ... ... ... ... ... نائب معتمد وقنصل بريطانيا العظمى
... ... ... ... ... ... ... ... ... وكيل قنصل جوردن
ولما اطلع عظمة السلطان على هذا الكتاب أرسل لسعادة المعتمد البريطاني
الجواب الآتي:
الرغامة في 30 جمادى الأولى سنة 1344
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى سعادة المعتمد البريطاني المستر
جوردن المفخم
تحيةً وسلامًا: أتشرف بأن أخبر سعادتكم بأني تناولت كتابكم المؤرخ 16
ديسمبر سنة 925، وفهمت ما تضمنه، حالاً حضرنا في (العرضي) لمقابلة
سعادتكم في المحل الذي يخبركم به المنشي إحسان الله،هذا وتفضلوا فائق احتراماتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم السلطاني
وفي الساعة الرابعة من نهار الخميس وصل المعتمد البريطاني إلى مقر
عظمة السلطان وأخبره بأن الحكومة البريطانية لا تزال على موقفها الحيادي في
قضية الحجاز، ولكن بالنظر لما عليه الموقف الحاضر في جدة ولمعرفتي بمحبتكم
للسلم وراحة المسلمين وحقن دمائهم وحقن دماء الأجانب، تقدمت إليكم بناء على
طلب الشريف علي وحكومته في التسليم، وأن توسطي في تقديم هذه الشروط لغاية
إنسانية بحتة ليس إلاَّ.
فأجاب عظمة السلطان على ذلك بأنني ممنون في هذا على شرط أن تكون
الشروط موافقة لنا، فأجاب المعتمد بأن الشروط نعرضها عليكم حتى إذا وافقت
رغباتكم يمكنكم قبولها، وبعد أن اطلع عظمة السلطان عليها قبلها مبدئيًّا بعد إدخال
شيء من التعديل عليها وهذا نصها:
***
اتفاقية التسليم
(1) بالنظر لتنازل الملك علي ومبارحته للحجاز وتسليم بلدة جدة يضمن
السلطان عبد العزيز لكل الموظفين الملكيين والحربيين والأشراف وأهالي جدة
عمومًا والعرب والسكان والقبائل وعوائلهم سلامتهم الشخصية وسلامة أموالهم.
(2) يتعهد الملك علي أن يسلم في الحال جميع أسرى الحرب الموجودين
بجدة إن وجد.
(3) يتعهد السلطان عبد العزيز بأن يمنح العفو العام لكل المذكورين أعلاه.
(4) يجب على جميع الضباط والعساكر أن يُسلَّموا في الحال إلى السلطان
عبد العزيز بجميع أسلحتهم من بنادق ورشاشات ومدافع وطيارات وخلافه، وجميع
المهمات الحربية.
(5) يتعهد الملك علي وجميع الضباط والعساكر بأن لا يخربوا أو يتصرفوا
في أي شيء من الأسلحة والمهمات الحربية جميعها.
(6) يتعهد السلطان عبد العزيز بأن يُرحِّل كافة الضباط والعساكر الذين
يرغبون في العودة إلى أوطانهم، ويتعهد بإعطائهم المصاريف اللازمة لسفرهم.
(7) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يوزع بنسبة معتدلة على كافة الضباط
والعساكر الموجودين بجدة مبلغ خمسة آلاف جنيه.
(8) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يبقى جميع موظفي الحكومة الملكيين
في مراكزهم الذين يجد فيهم الكفاءة في تأدية واجباتهم بأمانة.
(9) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح الملك علي الحق في أن يأخذ معه
الأمتعة الشخصية التي في حوزته بما في ذلك أتوموبيله وسجاجيده وخيوله.
(10) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح عائلة آل الحسين جميع
ممتلكاتهم الشخصية في الحجاز، بشرط أن هذه الممتلكات تكون فعلاً من الموروثة،
ولا تشتمل على الأملاك الثابتة المحولة من الأوقاف بمعرفة الحسين إلى شخصه،
ولا على المباني التي يكون الحسين قد بناها في أثناء ملكه لما كان ملكًا على الحجاز.
(11) يتعهد الملك علي أن يبارح الحجاز قبل يوم الثلاثاء المقبل مساء.
(12) جميع البواخر التي في ملك الحجاز وهي (الطويل ورشدي
والرقمتين ورضوى) تصير ملكًا للسلطان عبد العزيز، ولكن السلطان يصرح إن
لزم الأمر للباخرة رقمتين أن تستعمل لنقل الأمتعة الشخصية التابعة للملك علي
المتنازل ثم ترجع.
(13) يتعهد الملك علي ورجاله وسكان جدة بأن لا يبيعوا أو يخربوا أو
يتصرفوا في أي شيء من أملاك الحكومة مثل اللنشات والسنابيك وخلافه.
(14) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح جميع السكان والضباط والعساكر
الموجودين ينبُع الحقوق والامتيازات المذكورة بعاليه، إلا فيما يختص بتوزيع
النقود.
(15) يتعهد السلطان عبد العزيز أن يمنح العفو للأشخاص المذكورة
أسماؤهم أدناه أيضًا ضمن العفو العام وهم: عبد الوهاب ومحسن وبكري أبناء
يحيى قزاز وعبد الحي بن عابد قزاز، وأحمد وصالح أبناء عبد الرحمن قزاز
وإسماعيل بن يحيى قزاز، والشيخ محمد صالح بتاوي وإخوانه إبراهيم وعبد
الرحمن بتاوي أبناء محمد علي صالح بتاوي، وأبنائهم وأبناء عمهم حسن وزين
بتاوي أبناء محمد نور والشيخ يوسف خشيرم والشيخ عباس ولد يوسف خشيرم
والشيخ ياسين بسيوني والسيد أحمد السقاف وعوائل وأموال جميع المذكورين آنفًا.
(16) إن كان الملك علي أو رجاله في حال من الأحوال يخالف أو يقصر
في تنفيذ أي مادة من المواد المذكورة بعاليه، فإن السلطان عبد العزيز لا يعتبر
نفسه في تلك الحالة مسئولاً عن تأدية ما عليه من هذه الاتفاقية.
(17) يتعهد الطرفان السلطان عبد العزيز والملك علي أن يُكفا عن أي
حركة عدائية أثناء سير هذه المفاوضة. اهـ.
وفي عصر الخميس 1 جمادى الثانية سنة 1344 أمضى عظمة السلطان هذه
الاتفاقية، وفي الساعة السادسة ليلاً من هذا المساء أمضاها الشريف علي،
واعتبرت نافذة من ذلك الوقت.
***
الشريف علي في البارجة
وقد مضى يوما الجمعة والسبت بكل هدوء في جدة، وأخذ الضباط والجنود
فيها يستعدون للتسليم، وكان المنتظر أن الشريف عليًّا يغادر جدة يوم الثلاثاء ولكن
ترتيب التنظيم للتسليم قد يصعب مع وجوده؛ لذلك تقرر سفره من البلدة، وأن يقيم
في السفينة التي تقله إلى عدن ريثما يتم تدبير وسائل الانتقال الذي تحدد
لنهايتها يوم الثلاثاء، وفي الساعة الرابعة من صباح الأحد 4 جمادى الثانية ركب
زورقًا بخاريًّا إلى البارجة البريطانية (كارن فلاور) ، ثم لحق به الشريف شاكر
وكاتبه عبد الله رشيد وبعض نفر من خدمه.
***
الاستسلام
وفي مساء الأحد عاد المعتمد البريطاني إلى الرغامة، وأخبر عظمة السلطان
بأن الشريف عليًّا قد أقام في البارجة البريطانية، وأنه قرر السفر إلى عدن، ومنها
إلى العراق حيث يقيم فيها نهائيًّا.
وأنه (أي المعتمد) يرى أن وظيفته في التوسط ستنتهي في صباح الغد،
ويقدم لعظمة السلطان رئيس الحكومة المؤقتة، وهو القائم مقام عبد الله زينل
ورئيس القوة العسكرية الضابط صادق بك، فشكر له عظمة السلطان سعيه.
وفي صباح الإثنين قدم إلى المقر العالي المعتمد البريطاني، ومعه رئيس
الملكية، ورئيس العسكرية، فدخل سرادق عظمة السلطان، وكان فيه كثير من
الضيوف ورجال الخاصة، وبعد أن استقر بهم المجلس قال سعادة المعتمد ما
يتخلص: بأن المهمة الإنسانية التي سعيت لها، وهي التوسط في حقن الدماء قد
انتهت، وإنني أقدم بصورة رسمية رئيس الملكية ورئيس العسكرية ليكونا مسئولين
أمام عظمتكم، فأجاب عظمة السلطان شاكرًا مثنيًا على همة المعتمد الذي بذلها في
هذا السبيل، ثم رجع المعتمد البريطاني إلى جدة، وأقام الرئيسان يتذاكران مع
عظمة السلطان في الترتيب الذي رتب من أجل ضبط جميع ممتلكات الحكومة
والأشياء التابعة لها.
وانقضى ذلك النهار باستقبال الوفود التي قدمت من جدة لتهنئة عظمة السلطان
بما أتم الله على يديه، ولقد كان في جملتهم الأشراف والعلماء والأعيان، وفيهم
الأستاذ الفاضل الشيخ محمد نصيف والشيخ قاسم زينل وكثير ممن لم تحضرنا
أسماؤهم، وفي جملتهم بعض رجال ديوان الشريف علي وكبار الموظفين عنده،
والكل كان مسرورًا ومستبشرًا بانقضاء هذه الأزمة على هذا الشكل السلمي، الذي
حقنت فيه الدماء وفتحت فيه السبل.
وفي صباح الثلاثاء 6 جمادى الثانية أمر عظمة السلطان خالد بك الحكيم
وحسن بك وفقي وعبد العزيز العتيقي ويوسف ياسين مدير هذه الجريدة بالدخول
إلى جدة والمباشرة باستلام المهمات العسكرية، وترتيب إنفاذ الاتفاقية التي وضعت
من أجل الجنود وضباطهم، والنظر في الحالة العامة بالإجمال، ولقد سارت هذه
الهيئة في سيارة خاصة، ودخلت جدة الساعة الثالثة والنصف صباحًا، وفي تلك
الساعة كانت الدارعة التي تقل الشريف عليًّا تتهيأ للرحيل، وقد نزل إليها فيما بلغنا
بعض الوجهاء وقناصل الدول، فودعوه على ظهر الباخرة ورجعوا، وقد أقلعت
البارجة من ميناء جدة الساعة الرابعة من النهار.
***
دخول عظمة السلطان
وفي صباح الأربعاء 7 جمادى الثانية سنة 1344 تلقى فريق من جند المشاة
ورهط من خيالة الحرس السلطاني الخاص بقيادة سمو الأمير عبد الله أخي عظمة
السلطان الأمر بالمسير من المقر العالي إلى الكندرة للانتظار فيها، لاستقبال عظمته
حين دخوله إليها، وقد أُعِدَّ فيها سرادق خاص لاستقبال المستقبلين.
ولما كانت الساعة الرابعة بلغت سيارة عظمة السلطان بالقرب من الأسلاك
فنزل عن سيارته وامتطى ظهر فرسه، وسار بموكبه المهيب حتى وصل أمام
السرادق المنصوب، حيث كان الناس من كافة الطبقات وقوفًا ينتظرون، فلما نزل
عن ظهر جواده رفع العلم النجدي على باب السرادق، وأخذت المدفعية بإطلاق
مدافع التحية، فأطلقت مائة مدفع ومدفع، وقد جلس عظمته في صدر السرادق،
ومن ورائه سمو أخيه الأمير عبد الله، وبعض أمراء البيت السلطاني، وفريق من
آل الرشيد وبعض خاصته، ولما استقر بعظمته المقام استأذنه القائم مقام بتقديم
معتمدي الدول وقناصلهم فأذن، وكانوا معتمد دولة بريطانيا العظمى، ومعتمد دولة
السوفييت، وقنصل إيطاليا، وقنصل فرنسا، وقنصل مصر، ووكيل قنصل هولندا،
ووكيل قنصل إيران، وكان معهم مندوبو الشركات الأجنبية في جدة، ولما استقر
بهم المقام نهض قنصل إيطاليا، وتكلم باللغة العربية ما ملخصه: إنه بالنظر لأنني
أكبر القناصل سنًّا أتقدم بالنيابة عن نفسي وبالوكالة عن رفاقي بتقديم تهنئتنا
لعظمتكم بدخولكم هذه البلدة بهذه الطريقة السلمية، التي حقنت فيها الدماء، ونتمنى
لكم السعادة والهناء دائمًا.
فأجابه عظمة السلطان بأنني لم أبطئ في الأعمال الحربية إلا انتظارًا لهذه
النتائج السلمية، وإني أشكر سعادة المعتمد البريطاني، وأعرب عن سروري
لحضرات القناصل جميعًا، وأشكرهم على الرغبة التي أبدوها في موقف الانقلاب
الأخير، حيث تَمًّ بسلم كامل حسب الرغبة والمطلوب، وإن شاء الله تعالى سيكون
الحال في الحجاز مما يسبب الراحة لجميع أهل الحجاز وجميع الوافدين إلى هذه
الديار المقدسة.
ثم تكلم القائم مقام وشكر قناصل الدول لمساعدتهم له في الانقلاب الأخير،
ودارت بعد ذلك أحاديث خصوصية , ثم قدم عظمة السلطان أخاه سمو الأمير عبد
الله لحضرات القناصل وقال: إن (فيصلاً) تأخر في المقر لبعض تدابير عسكرية،
وبعد أن تناول الحاضرون القهوة وكؤوس المرطبات، ودَّعوا عظمة السلطان
وانصرفوا مودَّعين بمثل ما استُقبلوا به من الحفاوة.
ثم دخل الضباط العسكريون فوجًا بعد فوج وعظمته يستقبلهم بوجه طلق وثغر
بسام، وبعد ذلك تقدم علماء البلدة وأعيانها فقابلهم أحسن استقبال، وأفاض عليهم
من أحاديثه العذبة وكلامه الجميل، وقد دام وقت الاستقبال ما يقرب من الساعتين،
وأمضى عظمة السلطان يومه وليلته في (الكندرة) .
وفي صباح الخميس 8 جمادى الآخرة قرر عظمته الدخول إلى البلدة فدخلها
ونزل في بيت العالم السلفي الفاضل الشيخ محمد نصيف، ولما وصل المنزل هرع
الناس أفواجًا أفواجًا للتحية والسلام عليه، وقد ألقى بين يديه الشاب الأديب حسين
نصيف خطابًا موجزًا جميلاً، ثم قام بعده الأديب الفاضل الشيخ محمود شلهوب فتكلم
عن الحجاز وحاجاتها نصح فيه ووعظ، ثم قدم تلاميذ مدرسة الفلاح بنشيد يحيون فيه
عظمة السلطان، وتقدم خطيبًا منهم بخطاب تحية جميل، وقد شكر
عظمة السلطان الجميع على ما أظهروه من الحفاوة والتكريم.
__________
(1) المنار: هذه هي السنة التي لم يكن الصحابة يزيدون عليها، فأما صلاة الركعتين فمعروفة والأمر بها مرفوع، وأما السلام فروي عن ابن عمر (رضي الله عنه) أنه كان يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، وينصرف.(26/673)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
كتاب الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي [1]
مقدمة
إني مهتم بمسألة الصحة منذ عشرين سنة اهتمامًا خاصًّا، حتى إنني في زمن
إقامتي بإنكلترا كنت أقوم بنفسي بإعداد طعامي وشرابي؛ ولذلك أتجرأ على القول
بأن تجاربي في هذه المسألة مما يصح الاعتبار به، وقد حصلت بتلك التجارب
على نتائج نهائية جمعتها في الصفحات التالية للقراء.
لقد صدق المثل القائل (الوقاية خير من العلاج) فإن الابتعاد عن المرض
بمراعاة قوانين الصحة أسهل وأسلم من مداواة الأدواء التي لا تصيبنا إلا لجهلنا
وعدم مبالاتنا بتلك القوانين، فعلى هذا يجب على سائر الناس أن يعرفوا قواعد
الصحة معرفة صحيحة، وهذا هو الغرض من تسويد هذه الصفحات لتكون بيانًا
لتلك القواعد، هادية إلى الطرق المثلى لمعالجة الأمراض الكثيرة الوقوع.
قال ملتون: إن الذهن هو الذي يقلب الجنة جحيمًا والجحيم جنة؛ لأن الجنة
ليست في مكان فوق السموات العلى، ولا الجحيم في الدرك الأسفل من
الأرض [2] ! وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه المثل السنسكريتي القائل (تتوقف
عبودية المرء وحريته على حالته الذهنية) هكذا الصحة والمرض منوط أمرهما
بذهن الإنسان نفسه، فالمرض لا يكون نتيجة لأعمالنا وإهمالنا وتفريطنا فقط،
بل لشعورنا وميولنا، وأفكارنا النفسية أيضًا، وقد قال قائل من مشاهير الأطباء:
(الناس يموتون جزعًا من الأمراض، كالجدري والهيضة والطاعون، أكثر مما
يموتون بهذه الأوبئة نفسها) لقد أصاب القائل في قوله، فإن مما لا ريب فيه أن
الجبان أكثر ما يلقى حتفه قبل أجله [3] .
إن الجهل بقواعد الصحة علة من العلل الأساسية للأمراض، فكثيرًا ما نجزع
ونضطرب من مرض تافه جدًّا، ثم نزيده خطرًا وشدة لجهلنا به وبأسبابه وطرق
علاجه، وهذا الجهل نفسه يسوقنا إلى اتخاذ التدابير الخرقاء أو الالتجاء إلى
المتطببين الدجالين، ما أعجب هذه الحالة! ولكن ما أصدقها. فإن علمنا بالأشياء
القريبة منا أقل من علمنا بالأشياء البعيدة، فما أقل ما نعلمه عن قريتنا التي ولدنا
فيها، والتي نعيش فوق أرضها وتحت سمائها طول عمرنا، ولكنا نستطيع أن نعيد
عن ظهر القلب أسماء أنهار إنكلترا وجبالها، ما أشد رغبتنا في معرفة أسماء
النجوم المتلألئة في السماء، على حين أننا قلما نبالي بمعرفة الأشياء التي يحتوي
عليها بيتنا، إن حب المراسح والألعاب الصبيانية المتكلَّفة قد ملك قلوبنا، ولكنا قلما
يخطر في بالنا أن نجيل نظرنا في هذا الملعب الأكبر الذي تلعب فيه الطبيعة أمام
أعيننا لعبها الذي هو فوق كل جد؟
نحن لا نستحي مطلقًا من جهلنا المخل ببنية جسمنا، وكيفية نشوء العظام
والعروق والأعصاب ونموها، وكيفية دوران الدم وتحوله إلى الفساد، وكيفية
سريان الأفكار الخبيثة والأهواء الشيطانية إلى قلوبنا، بل ما هو أعجب من كل ذلك
كيفية قطع ذهننا للمسافات الشاسعة، والأزمان الطويلة (اللانهائية) بينما الجسم لم
يزل ساكنًا! إلى غير ذلك من العجائب التي تحير الألباب! أجل، لا شيء أقرب
إلينا من جسمنا، ولكن ربما لا يوجد شيء نجهله أو نعرض عنه مثل ما نجهل
ونعرض عن جسمنا.
يجب على كل واحد منا أن يزيل هذا النقص المخزي، ويرى من أكبر
وظائفه المحتمة عليه أن يعلم شيئًا من الحقائق الأساسية المتعلقة بجسمه، كذلك
يجب أن يدخل هذا القسم من التعليم في مدارسنا ويجعل إجباريًّا، إن حالتنا الآن
لمخجلة جدًّا، فإنه إذا أصابنا جرح خفيف أو حرق طفيف، فإنا لا نعرف ما نفعل
إذًا، وإذا شاكتنا شوكة في قدمنا نقعد متحيرين لا ندري بم ننقشها؟ وإذا لسعنا
ثعبان عادي فلا تسأل عن جزعنا وفزعنا! أجل، إن هذه الحالة لمخجلة، لو
نتدبرها بجد لنختنقن حياء وخجلاً، ومن يزعم أن جميع الناس عامتهم وخاصتهم لا
يمكن أن يعرفوا هذه الأمور فزعمه باطل، وإني أقدم الصفحات التالية إلى جميع
أولئك الذين لا يحبون المعاذير، بل ينشدون المعرفة والعلم والعمل.
إني لا أزعم أن الحقائق التي أودعتها في هذا الكتاب لم يسبق إليها أحد قبلي،
ولكن سيجد القراء فيه لباب كتب كثيرة في هذا الموضوع، فإني ما أقدمت على
التأليف إلا بعد درس هذه الكتب درسًا وافيًا، وبعد المرور على سلسلة من التجارب
الجدية الشخصية، وعدا هذا فإن قرائي الذين ليس لهم سابق معرفة بالموضوع
سيسلمون من التحير والارتباك في تمحيص الحق من الآراء المتضاربة المتناقضة
التي شحن بها الأطباء كتبهم، فبينما يقول كاتب: إن الماء الساخن يجب استعماله
في حالة خاصة، إذا بالآخر ينقض قوله زاعمًا أنه يجب استعمال الماء البارد فيها،
ولكني قد درست هذه الآراء المتناقضة درسًا وافيًّا بكل تنبه ويقظة، حتى أمكنني
أن أؤكد لقرائي أنه يحسن بهم الاعتماد على أفكاري الخاصة.
لقد تعودنا دعوة الأطباء حتى في أخف الأمراض، وإن عجزنا عن دعوتهم
عملنا بإشارات المتطببين الجاهلين، وما ذلك إلا لأنا قد خدعنا بخداع فظيع،
فأصبحنا نعتقد أنه لا يمكن شفاء المرض إلا بالدواء، إن هذا الوهم لشر الأوهام،
وهو العلة لأكثر متاعب النوع البشري ومصائبه، نعم يجب معالجة الأمراض التي
تعترينا، ولكن ليس (بالأدوية) التي لا يقتصر أمرها على عدم الفائدة، بل قد
تكون ضارة أيضًا، إن انكباب المريض على العقاقير والأدوية حماقة لا تقلُّ عن
حماقة الذي يحاول تنظيف البيت بتغطية الأوساخ المتراكمة فيه عوضًا عن إزالتها،
فكلما ازداد عناية في تغطيتها تزداد هي عفونة ونتنًا، وهكذا تغطية الأمراض
بالأدوية في الجسم الإنساني.
إن المرض ليس إلا (إنذارًا) من الطبيعة بأن الأوساخ قد تراكمت في جزء
من أجزاء البدن، فمن الكياسة إذًا أن نترك الطبيعة تزيل الوسخ بنفسها [4] لا أن
نحول بينها وبين وظيفتها بتغطية المرض بالأدوية، إن الذين يستعملون الأدوية إنما
يضاعفون صعوبة وظيفته الطبيعة، مع أنه من السهل جدًّا أن يعينوها في مهمتها
برعاية القواعد الأولية اللازمة للصحة، كالصوم الذي يمنع تراكم الوسخ،
وكالرياضة المتعبة في الهواء الطلق التي تزيل بعض الأوساخ وتخرجها في صورة
العرق، وإن هناك أمرًا هو رأس الأمور وعمادها في جميع الأحوال وهو أن نظل
دائمًا ضابطين لعقلنا وشعورنا.
لقد جربنا أن قارورة واحدة من الدواء إذا دخلت مرة في البيت لا تخرج منه
أبدًا، بل لا تزال تدعو وتجلب من أخواتها قوارير أخرى، لقد وجدنا جمًّا غفيرًا
من الناس يشكون أمراضًا طول عمرهم مع شدة شغفهم بالأدوية وتهافتهم عليها،
فتراهم يقرعون اليوم باب هذا الطبيب، وغدًا يجرون وراء ذلك الطبيب، وهكذا
يقضون أعمارهم في البحث عن نطاسي يعالجهم ويشفيهم من أوصابهم، ولكن
هيهات أن يفوزوا ببغيتهم وينالوا الصحة والعافية! لقد صدق جوستيس اسطفان
Stephen Justice في قوله: (إن من العجب العجاب أن يعالج الأطباء
الأبدان التي يجهلونها بالعقاقير التي قلما يعرفون حقيقتها!) ، وقد أيد عدد من أعظم
أطباء الغرب هذا الرأي نفسه فاعترف الدكتور إستلي كوبير Cooper istLei
مثلاً بأن علم الأدوية أكثره تَخَرُّصٌ محض وقال الدكتور جوهن فيوربس
Feorbes n. Jot Sir: (إن معظم الأمراض تشفى بعوامل الطبيعة أكثر
من شفائها بالأدوية) وقال الدكتور باكير Baker والدكتور فرانق Frank:
(إن عدد الذين يموتون بالأدوية أكثر من عدد الذين يموتون بالأمراض)
وقد توسع الدكتور موزونغود Mosongood. حتى قال: (إن ضحايا
الأدوية أكثر من ضحايا الحروب والجدوب والأوبئة بمجموعها!) .
وكذلك مما قد جُرِّب أنه إذا كثر الأطباء في بلد ازدادت فيه الأمراض انتشارًا
على قدر عددهم [5] . وقد قويت الرغبة في الأدوية هذه الأيام وازدادت ازديادًا
عظيمًا حتى إن أحقر الصحف السيارة أيضًا قد أصبحت تعتقد أنه إذا لم يسعدها
الحظ بإعلانات أخرى، فإنها لا بد من أن تفوز بإعلانات الأدوية.
لقد قيل لنا في كتاب حديث عن الأدوية المسجلة بأن فرويت سولت [6]
SoLts - Fruit وغيره من المسهلات التي يبلغ ثمنها من روبيتين إلى خمس
روبيات لا تكلف أصحابها إلا بضع مليمات! فلا عجب إذا بالغ أصحابها في
إخفاء طرق تركيبها هذه المبالغة الشديدة.
وعلى هذا نحن نؤكد لقرائنا بأنه لا حاجة لهم أصلاً إلى الأدوية والأطباء،
وكذلك نقول للذين لا يتجرأون على مقاطعة الأطباء والأدوية مقاطعة تامة: تثبتوا
وتصبروا وتبصروا، واستغنوا عن الأطباء ما استطعتم، وإن اضطررتم وفقدتم
كل حيلة، فالحذر كل الحذر من المتطببين، بل عليكم بطبيب حق تتبعون أوامره
بكل دقة، ولا تراجعون طبيبًا غيره إلا بإذنه، ولكن اعلموا وتذكروا دائمًا وقبل
كل شيء بأن الشفاء بيد الله تعالى وحده لا في يد الطبيب.
موهن داس كرم شند غاندي ***
القسم الأول
في الصحة وأسبابها وفيه تسعة أبواب
الباب الأول
الصحة
إن من يأكل ويشرب كثيرًا، ويمشي ويتنقل هنا وهناك على إرادته ولا
يضطر إلى الطبيب يُحسب - عادة - صحيح الجسم سليم البدن. ولكنك إذا دققت
النظر قليلاً في هذا الحسبان ظهر لك سقمه، فإنه قد شوهد كثير من الناس يأكلون
كثيرًا ويغدون ويروحون بحُرِّية، وهم في الحقيقة مصابون بأمراض خفية، وقد
ينخدع هؤلاء الناس أنفسهم بحالتهم فيزعمون أنهم أصحاء من كل الوجوه، وذلك
لعدم مبالاتهم بأمر الصحة وبمعرفتهم إياها معرفة صحيحة.
والحقيقة أنه قلما يوجد في هذه الدنيا الواسعة إنسان صحيح تمام الصحة
بمعنى الكلمة، لقد قيل حقًّا: إن الصحيح تام الصحة إنما هو ذلك الذي يملك عقلاً
صحيحًا كاملاً في جسم صحيح كامل؛ وذلك لأن الإنسان ليس إلا الروح، وأما الجسد
فبمنزلة الظرف للروح [7] ، إن العلاقة بين الروح والجسد قوية جدًّا، حتى إنه إذا
أصيب أحدهما بشيء تأثر به الآخر حالاً، لنأخذ الوردة مثالاً: إن مكان اللون من
الوردة مكان الجسد في الإنسان [8] ومكان الرائحة فيها مكان العقل أو الروح فيه،
ولا أحد يؤثر الوردة الصناعية على الوردة الطبيعية، ويحب استبدالها بها، وسبب
ذلك ظاهر، وهو أن العطرية التي هي روح الوردة لا يمكن إيجادها في الوردة
الصناعية، وهكذا نحن نفضل الإنسان الذي يملك روحًا كبيرًا طاهرًا وأخلاقًا كريمة
عالية، على الرجل الذي لا يملك إلا جسمًا قويًّا مفتول العضلات. لا ريب أن
الجسد أيضًا ضروري كالروح بحيث لا يمكن الاستغناء عن أحدهما، ولكن الروح
أهم بكثير من الجسم على كل حال، فعلى هذا لا يصح أن يوصف الإنسان العاطل
من الأخلاق الطاهرة بالصحة التامة مهما يكن قوي الجسم، وذلك لأن الجسم الذي
يحمل روحًا مريضًا وخلقًا سقيمًا لا يكون إلا مريضًا بنفسه، فالأخلاق الطاهرة على
هذا هي الأساس الحقيقي للصحة الحقيقية، والأفكار الخبيثة والأهواء الشيطانية
ليست إلا أنواعًا وأشكالاً مختلفة للمرض.
لقد تطورت هذه العقيدة في حزب من الناس بأوربا، حتى طفقوا يقولون: إن
التقي النقي صاحب الروح الطاهرة البريئة لا يمرض أبدًا، وإن كل مَنْ يمرض
يبرأ بتطهير روحه، فإنها إذا طهرت قويت بنيته واشتد جسمه، إن هذا الرأي حق
لا غبار عليه، وإن المصلحين في الشرق قد بالغوا في العمل به، ولكننا على كل
حال نستنتج منه: أن تطهير الروح خير وسيلة لنيل الصحة، وأن الصحة لا يمكن
المحافظة عليها إلا بالمحافظة على طهارة الروح.
إن الغضب والحقد واللؤم من أمارات المرض، وقد قال بعض الأطباء: إن
السرقة وغيرها من العادات القبيحة أمراض بالحقيقة [9] فقد وجدوا في إنكلترا نساءً
من الأسر المثرية تدخل المحال التجارية فتسرق منها ما تصل إليه يدها، فعدوا
سرقتها هذه مع غناها وثروتها نوعًا من الجنون، وكذلك يوجد أناس لا يستريحون
إلا أن يشاغبوا ويشاجروا، فهذا أيضًا نوع من المرض.
وإذا تفكرنا على هذا النهج جزمنا بأن الصحة الحقيقية لا يتمتع بها إلا من
كان شخصًا أيِّدًا [10] قوي الأساطين، وثيق الأركان، ليس بسمين سمنًا مفرطًا، ولا
هزيل هزالاً شديدًا، سليم الأسنان والعينين والأذنين، نظيف الأنف طاهره من
المخاط، نظيف الفم، يعرق جلده بسهولة، سليمًا من النتن، وهو فوق ذلك قابض
على أزِمَّة عقله ومشاعره بكل قوة، إن الفوز بمثل هذه الصحة صعب جدًّا، وإن
فزنا بها مرة، فالمحافظة عليها أصعب.
إن السبب الجوهري الذي يحول بيننا وبين الصحة الحقيقية هو ضعف صحة
آبائنا وأجدادنا، وقد قال كاتب شهير: إن تكن حالة الآباء حسنة فحالة أولادهم لا
بد من أن تكون أحسن وأعلى منهم، فإن كان هذا القول صحيحًا، فيضطر الذين
يقولون بأن الدنيا تتقدم إلى تغيير رأيهم. إن المتمتع بالصحة التامة لا يخاف
الموت، وإنّ جزَعنا وفزَعنا من الموت لدليلٌ قاطع على أننا لسنا بأصحاء كما
ينبغي؛ لأن الموت ليس إلا انقلابًا كبيرًا في حياتنا، فينبغي أن نعده خيرًا ونافعًا لنا
بحسب سنن الطبيعة [11] ، وأن من الواجبات الصريحة على كل واحد منا أن ينشد
الصحة التامة، وهذا هو ما ساقنا إلى البحث في الأوراق التالية عن الطرق التي
توصلنا إلى مثل هذه الصحة، وعن الطرق التي تضمن لنا بقاءها ودوامها إذا فزنا
بها.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) للمترجم مقدمة غير مقدمة المؤلف سننشرها بعد.
(2) المنار: إنما يصح هذا القول - دون تعليله - من بعض الوجوه في نعيم الدنيا وعذابها، فإن للأذهان والتصورات تأثيرًا عظيمًا فيها، وأما نعيم جنة الآخرة وعذاب جحيمها فمِن عالَم الغيب الذي هو أعلى من ذهن ملتون وعلومه فليس له أن يحكم فيه.
(3) يعني: أجله الطبيعي الذي كان مستعدًّا له بحسب قوة بنيته لا الأجل المكتوب له عند الله تعالى، أي أجل الجبان الذي يجني على نفسه من حيث يظن أنه يحافظ عليها.
(4) المنار: الأولى أن يقال: إن يساعد الطبيعة أي المزاج على إزالة ذلك، ويدخل في هذه المساعدة الحمية والتدفئة في محلها - وكذا الأدوية - ولكن يحسن التروي في استعمالها وعدم الإسراف فيه والاتكال عليه.
(5) المنار: لعل هذه التجربة وهمية فإن كثرة الأطباء ليست سببًا طبيعيًّا ولا عقليًّا لانتشار الأمراض وكثرتها، بل المعقول أنها سبب للعلم بما لم يكن يُعلم منها، فيظن غير المدقق أنهم سبب لها، فإن كان بعض الأمراض أو المرضى يزيد بجهل بعض الأطباء فلا شك في أن بعضًا آخر هم سبب قضائه.
(6) أي ملح الفواكه.
(7) المنار: إنما يصح هذا بإطلاقه على بعض المذاهب، وأما عندنا فإطلاقه من باب (الحج عرفة) أي ركنه الأهم الأعظم عرفة، وكذلك الروح هي معظم الإنسان ولبه وجوهره ولكن الجسد ركن متمم لحقيقة الإنسان، ولولاه لكان ملكًا أو شيطانًا، وبه صار أجمع منهما للحقائق الكونية ومتصرفًا في المخلوقات بأنواعها، ولو كان الجسد كالظرف للروح كما قال أو كالقفص للعصفور كما قال بعض الصوفية باعتبار آخر لكان إنسانًا بدونه، وليس كذلك بل يكون بدونه روحًا لا إنسانًا، وتمثيل المؤلف بالوردة وما ذكره بعده أشد انطباقًا على ما قلناه.
(8) الصواب أن جسم الوردة الملوَّن هو الذي يعد كجسد الإنسان لا اللون، فإنه عرض له.
(9) المراد أعراض أمراض نفسية وعقلية.
(10) الأيِّد كسيِّد: القوي الشديد من آد يئيد أيدًا.
(11) ذكرنا هذا المعنى في مرثية لنا نظمناها في أوائل طلب العلم؛ قلنا في أولها:
إن المنية غاية الميلاد ... والنعش مثل المهد للأولاد
والله قد خلق الخلائق للبقا ... بعد الفنا وزيارة الألحاد
والموت باب النشاة الأخرى لنا ... وبها كمال الخلق والإيجاد
(ومنها) :
... ... ... ... وانظر لموت الناس بالعين التي ... ترنو بها لولادة الأولاد
... ... ... ... هاتيك مبدأنا وهذا خاتمنا ... طرفان مستويان للنقاد
... ... ... ... بل آخر الطرفين خيرهما فخذ ... بالاعتبار به والاستعداد.(26/691)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الثورة السورية والحكومة الفرنسية
والتنازع بين الشرق والغرب
(تابع لما نشر في الجزء الثامن ص 585)
(6)
(تقاليد السياسة الاستعمارية، والجامعات العربية والدينية والشرقية)
إن للأوربيين تقاليد في السياسة والاستعمار قد جمدوا عليها، وإن لهم فيها
حججًا داحضة قد ألفوها، لا يزالون يلوكونها بألسنتهم، وتقطر سمومها من أقلامهم،
وهم لا يشعرون بأنها لا تصلح لهذا الزمان ولا تروج فيه كما راجت في أزمنة لا
تشبهه، كأنهم على سعة علومهم واختبارهم لم يشعروا بما طرأ على الشعوب والأمم
من التبديل والتحويل، وما تنقَّلت فيه من الأحوال والأطوار، فهم بالجمود على
التقليد يقعون فيما يفرون منه، وينقضون ما بنوا، وينكثون ما فتلوا.
إنهم يخافون عاقبة كل اجتماع في الشرق تستفيد به شعوبه وملله من تظاهرها
على دفع الظلم والضيم عنها، وتعاونها على الارتقاء في أسباب الحرية والعمران،
فإنكلترة وفرنسة تخشيان الجامعة الإسلامية والجامعة العربية وهما اللتان تسعيان
في تكوينهما بدون تنبه منهما ولا شعور، وهما اللتان بثتا في بلاد الشرق فكرة
الجامعة الوطنية بالأقوال، فلما استمسك المصريون والسوريون بعروتهما لم يجدا
من رجال الدولتين إلا المقاومة.
إن أوربة لم تتحول مع الزمان عن السياسة الصليبية بقدر ما تحولت عن
الديانة الصليبية، فبهذه السياسة انتزعت من الدولة العثمانية الممالك الأوربية التي
أكثر سكانها من النصارى، وبعد الفراغ من العمل (للأكثريات) المسيحية تصدت
لحقوق الأقليات، فكانت إنكلترة أول من أطمع الشعب الأرمني بتأسيس دولة
مسيحية له في الأناضول بين أنياب الأسد التركي وبراثنه، وقد كان هذا الشعب
أسعد الشعوب العثمانية في دولة آل عثمان، ومحل الثقة لدى سلاطينهم ووزرائهم
وأغنيائهم، كان هو الذي يدير مالية الدولة بوزراء من أفراده، وكان هو الذي
يتولى شؤون الوزارة الخارجية، إذ كان أكثر سفراء الدولة منهم أيضًا، وكان
ساسة أوربة يتعجبون من هذه الثقة ويعدونها من جهل الدولة، صرح بذلك أكبرهم
شأنًا في عصره وهو البرنس بسمارك لأحمد مختار باشا الغازي وقال له: أنا لا
يمكنني أن أعد رجلاً أرمنيًّا ممثلاً عندي لدولة إسلامية يعد سلطانها خليفة نبي
الإسلام! وقد أفسد الإنكليز الأرمن بهذا الإغواء وحرموهم من تلك السعادة
والهناء، حتى جعلوهم من أشقى شعوب الأرض على ذكائهم ونشاطهم واستعدادهم
لكل حياة هنيئة إلا تأسيس ملك من أقلية ضعيفة بين دولتين حربيتين - دولة الترك
ودولة الروس - فقتل الترك مئات الألوف من رجالهم الخونة وغير الخونة ومن
نسائهم وأطفالهم أيضًا؛ لأن الشر إذا وقع لا يقف عند حدود العدل، والانتقام بعد
الإحن والحقد لا يراعى فيه شعور الرحمة، وأجلَوْا الألوف الكثيرة من ديارهم
فمزقوهم كل ممزق، وصاروا آلة الشر والعدوان لغيرهم، كما فعلت السياسة
الفرنسية فيمن آوتهم إلى سورية منهم، فهي تسلحهم وتغريهم بقتال ثوار السوريين
الذين يسكنون بلادهم ويشاركونهم في خيراتها، وليتهم وقفوا عند هذا الحد بل هم
يقتلون النساء والأطفال أيضًا، وينهبون كل البيوت التي يقدرون على نهبها …
كذلك خلقت إنكلترة في العراق أقلية نصرانية من بقايا الآشوريين، وسلحتهم
وأطمعتهم بتأسيس ملك لهم في العراق؛ لتجعلهم أعداء وخصومًا للمسلمين من
العرب والكرد لا للترك وحدهم، فإذا رسخ فيهم تغرير هذه السياسة الخادعة فربما
تكون عاقبتهم شرًّا من عاقبة الأرمن؛ لأنهم أقل منهم عددًا وبأسًا وذكاءً وعلمًا،
فخير لهم أن يكونوا كقبط مصر مع مسلميها من أن يكونوا كالأرمن مع الترك،
وأنى لهم ذكاء القبط وعلمهم بدسائس أوربة التي تتجر بالمسيحية والمسيحيين.
وأما فرنسة فإن سياستها في كاثوليك سورية معروفة والمعروف لا يعرَّف،
وقد كان أول قائد من قوادها ولَّتْه أمر سورية بعد الحرب - وهو الجنرال غورو -
قد ذكر السوريين في أول صوت رفعه فيهم بأنه من سلالة الصليبيين، وكان أول
عمله تقسيم البلاد إلى ممالك دينية مذهبية، وقد جرى على ذلك وتابعه من جاء بعده:
دولة مسيحية، ودولة إسلامية، ودولة درزية، ودولة عَلَوية، كل ذلك في القسم
الشمالي من سورية التي هي وطن واحد يسكنه شعب متحد اللغة والعادات والمرافق،
لا يمكن أن تستغني فيه دويلة من هذه الدويلات الصغيرة الحقيرة عن الأخرى،
وهم يبذلون كل ما أوتوا من دهاء ومن سلطان لإيقاع الشقاق بين طوائف هذه
الدويلات، فإذا تقرب إليهم فرد أو أفراد من أهلها بكلمة نفاق تؤذن بحب الافتراق
وكراهة الاتحاد، ترتفع بنقلها أصواتهم، وتهتف بها صحفهم وبرقياتهم، حتى تعم
الخافقين، وأما أصوات الأحزاب والجماعات والصحف التي تعبر عن الرأي العام
في طلب الاتحاد الوطني، وكراهة الاقتراق الديني والطائفي والسياسي، فكلما
سمعوا منها صوتًا أسكتوه، وإذا وصل شيء منه إلى أوربة كذبوه.
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
إن أهالي سورية غير مرتاحين ولا راضين بإسكان طُرَدَاء الأرمن في سورية؛
لأنهم يزاحمونهم في رزقها الذي لم يعد يكفيهم ببركة عمران الانتداب، وإن
المسلمين يسيئون الظن في هذا الإسكان وما في معناه بنظر آخر، إذا كان
الفرنسيس لا يبالون بهم فيه لضعفهم، ولا يحسبون حسابًا لعطف أبناء جنسهم
وإخوان دينهم عليهم لجهلهم؛ فلا ينبغي أن يغفلوا عن كونه قد يكون سببًا من
أسباب التهمة التي يشكون منها، ولا يدرون أنهم يشكون مما يفعلون.
فيا ليت شعري كيف يغفل الفرنسيس والإنكليز - الذين يهتدون في سياستهم
واستعمارهم بفلسفة التاريخ وعلوم النفس والاجتماع - عن نتائج أعمالهم في اللَّهج
بالجامعة المسيحية ووجوب حماية المسيحيين وتأسيس الممالك لهم، مع ذم الجامعة
الإسلامية والطعن فيها؟ وكيف يقاومون جامعة الجنسية العربية ويخشون عاقبتها
في سورية ثم يمنعون السوريين من النهوض بالجامعة الوطنية؟ أيحسبون أن
مسلمي سورية وهم الأكثرية العظمى فيها يرضون أن تسلبهم فرنسة كل حق من
حقوق الحياة الاجتماعية والسياسية وطنية كانت أو جنسية أو دينية، وأن يُعدُّوها
مع ذلك مصلحة لشؤونهم فيخضعوا لها طوعًا، ويطرونها مدحًا، ويسبحون بحمدها
بكرة وأصيلاً؟ وأن يرضى أبناء جنسهم وإخوانهم مسلمو أفريقية وآسية منها بذلك،
ويعدون دعوة الجامعة الإسلامية عبثًا لا حاجة إليه؛ لأن جميع الشعوب الإسلامية
في غنى عنها بعدل المسيطرين عليها وإنصافهم، بما ادعته فرنسة من صداقتها
وحبها للمسلمين عند إظهارها الرضا والارتياح لتعيين خليفة تركي تنحصر سلطته
فيما لا يفهمه من أمور الدين؟
إن دهاقين السياسة الاستعمارية هم الذين علموا الشرقيين ما كانوا يجهلون من
واجبات فطرتهم وحقوق أممهم ومللهم وأوطانهم الجامعة، فعلموا بعد جهل إذ كانوا
قد فقدوا العلم، ولكنهم لم يعملوا بعلمهم هذا إذ كانوا قد فقدوا الهمة والعزيمة الرافعة
إلى العمل؛ فهم الآن يسوقونهم إلى العمل سوقًا، بل يدُّعونهم إليه دعًّا، كما فعل
الترك بتعليم العرب العصبية العربية، ثم دفعوهم إلى النهوض بها وهم يشعرون،
فكل ما اتهم به ساسة أوربة أهل الشرق - من جوامع وطنية وقومية ودينية وشرقية
عامة - كان باطلاً فأصبح حقًّا، هم خلقوه خلقًا وهم يربونه جهلاً منهم وحمقًا، فقد
حَبَا حبوًا، ثم مشى مشيًا، وهم يأبون عليه إلا أن يعدو عدوًا، وسيعدو طوعًا أو
كرهًا.
كلما صرخ مكلوم أو صاح مظلوم من جورهم واضطهادهم له في قومه وعقر
داره استعْدَوا عليه أوربة كلها والولايات المتحدة الأميركية أيضًا: يا للغرب مِن
الشرق! إن الحضارة الغربية على خطر، إن نصارى الشرق على خطر، إن
سيادة الجنس الأبيض في الشرق على وشك الزوال، إن السلمين يريدون حكم
القرآن، فالغوث الغوث، هذا آن التناصر والتظاهر، هذا وقت التحالف
والتكانف ... كما قالوا في مسألة الريف المغربي واتهام الأمير محمد عبد الكريم
بإحياء منصب الخلافة، ولم يستحيوا من جعل ثورة سورية إسلامية أيضًا، بل هم
يقولون ذلك ليجعلوها إسلامية، ولو أراد الثوار جعلها جنسية أو إسلامية لوجهوا
دعوتها إلى جميع العرب المجاورين لهم، ولا سيما الوهابية أولي العصبية الدينية
الحقيقية، ولو استنصروهم في الدين بأدلة الدين لنصروهم، ولعجزت السياسة
أن تحول دون نصرهم لهم، ولكانت الطامة الكبرى على المتعصبين على الإسلام
والمسلمين من أهل وطنهم، ولظهر لفرنسة أن هذه السياسة العتيقة لم تعد صالحة لهذا
الزمان، وأن مودة المسلمين الصحيحة خير لها في سورية ولبنان.
***
(7)
السلطان الديني بين الإسلام والنصرانية
قضى عليَّ الاستطراد أن أكتب هنا كلمة وجيزة في هذه المسألة بعد أن كنت
أنوي ترك الإلمام بها فأقول:
من المعلوم من الدين بالضرورة عندنا أن الإسلام دين سيادة وسلطان وتشريع،
ومن المعلوم عن أوربة وأعوانها في الشرق ذم الجمع بين الدين والحكم،
ووجوب الفصل بين الدين والسياسة، ووجوب نسخ الجامعة الدينية بالجامعة
الوطنية، وقد راجت هذه الدعاية الأوربية في الشرق العربي بأقلام محرري
الجرائد العربية من أبناء وطننا السوريين واللبنانيين المسيحيين، حتى صارت من
المسَّلمات عند الجماهير من المسلمين في سورية ومصر وغيرهما من البلاد العربية،
دع إلقاء بذورها وغرس فسيلها في المدارس العصرية في الشرق كله من مسيحية
ورسمية، حتى في البلاد التركية والإيرانية، وقد بلغ من أخذها بالتسليم في مصر
أن بعض مسلمي الإسكندرية كانوا أنكروا على المنار بعض ما كتبه في شأن الدولة
العثمانية وسلطانها، فرغبوا إلى الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أن يكلمني في
ترك مباحث السياسة في المنار؛ لأنها مجلة دينية، فقال لهم: وإذا قال لي إن
الإسلام دين سياسة فماذا أقول له؟
نعم راجت هذه الدعاية في البلاد الإسلامية ذات الحكومات الإسلامية من
عربية وعجمية فكان الغبن والغرم فيها على المسلمين والغُنم لغيرهم، وقد بلغ من
تأثيرها أن تجرأ رجل من اللادينيين معمم متخرج في الأزهر وقاضٍ في محكمة
شرعية على تأليف كتاب مستقل في الدعوة باسم الإسلام إلى جعل الحكومة فيه
(لا دينية) وإنكار التشريع الديني والإمامة الإسلامية العظمى، والطعن فيها،
وأيدته في ذلك أكثر الجرائد التي تسمى إسلامية كالجرائد الإفرنجية سواء.
بُثت الدعاية إلى الحكومة اللادينية في مصر كما بُثت في الدولة العثمانية،
وصرح بعض الملاحدة عندنا بالدعوة إلى التصريح بذلك في الدستور المصري قبل
أن يفعل الترك ما فعلوه بخلافتهم، ولا فرق بين الفريقين كما قلنا من قبل، إلا أن
اللادينيين من الترك هم قواد الجيش وأصحاب السيوف والمدافع، وأن اللادينيين
من المصريين لا قوة لهم إلا في ألسنتهم وأقلامهم؛ لأن القوة الحربية في مصر في
يد الإنكليز وحدهم، وهم ردء لهؤلاء اللادينيين؛ لأنهم يعملون لهم في ظلمهم،
ولولاهم لقضى عليهم الرأي العام الإسلامي على ضعفه، وهم لا يُشكُّون أن
سيقضون عليه.
وأما تأثيرها العملي في سورية فكان أول مظاهره نجوم الأفكار (اللادينية)
في المؤتمر السوري العام الذي قام بأمر استقلال سورية ووضع القانون الأساسي لها،
ثم في الدولة التركية بإلغاء خلافتها، ثم تشريعها الإسلامي حتى في الأحكام
الشخصية وإبطال محاكمها الشرعية وتعليمها الديني، ثم اضطهاد كل من يدعو إلى
الدين الإسلامي أو يدافع عنه.
هذا، وإننا قد خبرنا بأنفسنا أن سياسة نصارى سورية ولبنان الوطنية قد
تغيرت لنا منذ أوائل العهد بالحرب الكبرى؛ إذ اعتقدوا أن الدولة العثمانية ستخسر
نفسها أو بلادها العربية (على أقل تقدير كما يقال) وقد عقدنا في مصر اجتماعات
كثيرة للبحث في مستقبل البلاد السورية علمنا أنهم يطلبون (أولاً) تأسيس دولة
مسيحية في سورية ولبنان (وثانيا) حماية دولة مسيحية قوية لها ولسائر البلاد
السورية.
ثم جرى العمل على هذا بعد الحرب، فرأينا جميع المساعي دينية يقودها
رجال الدين المسيحي، فكان غبطة بطرك الموارنة هو النائب السياسي عن لبنان
الصغير ثم عن لبنان الكبير، حتى حملوه على السفر إلى فرنسة المرة بعد المرة
على ضعفه وعِتيِّ شيخوخته، ولا يزال كذلك. ورأينا فرنسة قد ضمت إليه من
بلاد سورية ذات الأكثرية الإسلامية جميع سواحلها المجاورة له، وجزءًا عظيمًا من
داخليتها العامرة، وراعت في ذلك أن يكون أكثر مجموع أهله من النصارى
لتكون السلطة في أيديهم، ورأيناهم بعد هذا كله يسيرون في انتخاب المجلس
التمثيلي للبلاد على قاعدة عدد الطوائف الدينية، ويسمونها (الطائفية) .
انقلب الوضع وانعكست القضية، فكلما اشتد استمساك النصارى بالسياسة
الدينية أعرض المسلمون عنها، واستمسكوا بالسياسة اللادينية حتى إن بعض علماء
المسلمين الشرعيين ومنهم مفتي الشام رضوا بأن يكونوا أعضاء لإدارة التعليم
اللاديني، ونرى الجرائد الإسلامية تستنكر كل عمل في الحكومة يُفرَّق فيه بين
أبناء الوطن باختلاف أديانهم ومذاهبهم، فقد نال الأجانب ما سعوا له من حَلِّ رابطة
المسلمين الدينية، وصرفهم عن تشريعهم وسلطانه بإقناعهم أن الجامعة الوطنية خير
لهم من الجامعة الدينية، حتى إذا ما قنعوا قلبوا هم وبعض أعوانهم من نصارى
الوطن لهم ظهر المجن، فالفرنسيس والإنكليز هم الذين يمنعون السوريين بالقهر أن
يكونوا أمة بالوطنية، وأن تكون لهم حكومة وطنية، اللهم إلا حيث تكون الغلبة
وعزة الكثرة للمسلمين وحدهم، فحينئذ يقهرونهم على أن يساووا الأقلية الصغرى،
بل أن يعطوها أكثر مما تستحق أضعافًا.
الفرنسيس أعطوا صنائعهم وربائبهم نصارى جبل لبنان ما هو أكبر وأعظم
من جبلهم من بلاد الأكثرية الإسلامية بالرغم من أنوف أهلها، ولم يرضوا أن
يجعلوا بقية سورية المحمدية دولة واحدة؛ لئلا تكون أكبر من (لبنان الكبير)
فجعلوها دولاً متعددة بحسب المذاهب، حتى حاولوا جعل الدويلة التي خصوها باسم
سورية دولتين دمشقية وحلبية؛ لأن السواد الأعظم من سكانها هم أهل السنة،
وطالما أغروا أهل حلب بطلب الاستقلال، ويزعمون أنهم بذلك يراعون رغبة أهل
البلاد وحريتهم لأن فرنسة أم الحرية وحاميتها، يعني بشرط أن تكون لغير
المسلمين، أو لغير مصلحة المسلمين، ثم تدعي مع هذا أن العداء بين الطوائف
الدينية في سورية هو من مساوئها الراسخة، ولا علاج له إلا خضوع الجميع
لسلطان فرنسة العادل الذي يقيم ميزان القسط بين الجميع، والحق أن فرنسة لو
أرادت أن يتفق السوريون أو لو تركت السوريين وشأنهم لاتفقوا، إلا أن تغري
بينهم دولة أخرى مثلها كإنكلترة، ولا ينجح الإغراء حيث تكون الكثرة الساحقة
للمسلمين كما هو ظاهر في مصر وفلسطين وسورية الداخلية، وقد حققنا هذه
المسألة منذ 29 سنة في مقال طويل في التعصب نشرناه في السنة الأولى من المنار.
أنا لا أريد بكتابة هذا الآن الانتقاد المحض على عمل فرنسة، فإنه لا فائدة
فيه، ولا إعلام مسلمي سورية به، فإنهم يعلمون من تفصيل ما أجملت ما لا أعلم،
واعتقادهم في فرنسة أسوأ، فإنني والحق أقول: قد سمعت من بعض كبراء دمشق
قبل نكبتها أن المسلمين يعتقدون أن فرنسة وإنكلترة متعاونتان على إبادة مسلمي
سورية وفلسطين، وجعلهما للنصارى واليهود، فكيف يكون رأيهم بعد تلك، وما
جرى فيها وبعدها من الأهوال، وتقتيل النساء والأطفال؟ ولا أقصد به إغراءهم
بنبذ سلطانها المسمى بالانتداب، فإنه من تحصيل الحاصل، فهم يصارحونها بذلك،
وليس بعد الثورة الحاضرة - التي جاءت بعد ثورات كانت دونها خفاء - حجة،
وإنما أريد به إقامة الحجة على رجال فرنسة الذين تولوا والمتولين الآن لأمر سورية
بأن المسلمين يعتقدون أن كل خلاف وشقاق في البلاد ففي يد فرنسة إزالته بالحق
والعدل.
سبق أن قلت لموسيو (روبيردوكيه) على عهد الجنرال (غورو) في شهر
مارس سنة 1920: اضمن لي النصارى وأنا على ضعفي أضمن لك المسلمين
أو المحمديين كافة ولا أستثني الدروز، وقلت مثل هذا في هذه الأيام [1] لموسيو
(جوفنيل) المفوض السامي الجديد لسورية، وقلت مثله فيما بين ذلك لسعادة سفير
فرنسة المفوض في مصر ليبلغه، وإني أذكِّر به من سمعه مني، وأبلغه
لوزارة الخارجية ووزارة المستعمرات الفرنسيتين، وكل منهما تطّلع على جميع ما يُكتب في المنار عن فرنسة، وتعلمان أن المنار لسان صدق لا لسان دعاية وفتن،
فعسى أن يظهر لأحد من المطّلعين على حجتنا خطأ سياستهم الماضية،
فيبحثوا عن المخرج فيجدوه.
بل شرحت للأول في بيروت وللأخير في مصر الوسيلة الوحيدة التي يمكن
لفرنسة أن تُرضي بها أهل سورية كافة بالحق والعدل والمصلحة المتبادلة، وتربح
بها مودة الأمة العربية والشعوب الإسلامية أيضًا، وقد قال لي موسيو (روبيردوكيه)
على غلوه في الاستعمار ووضعه لأساس التفريق والشقاق في البلاد: إن هذه الخطة
معقولة قابلة للتنفيذ لا خيالية، ولكن تحتاج إلى درس مع العقلاء في صفه تنفيذها،
وأحب أن نعود إلى البحث فيها، أقول: ولكن حال سفري دون ذلك، وسأبينها في
الفصل الأخير من هذا المقال بعد الكلام على سياسة موسيو (دي جوفنيل) .
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بدأت بكتابة هذا مقال منذ أشهر، واقتضت الحال تأخير نشره.(26/699)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مبايعة أهل الحجاز لسلطان نجد
] قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [[1] .
سبحان الذي يُغيّر ولا يتغير، ولا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم،
سبحانه مِن حَكَمْ عَدْلٍ، يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، قد أنقذ أهل حرمه،
وحرم رسوله من ذلك (المنقذ) الجبار، والمرائي الختار، ومن سلالته المخاتلين،
وجعل العاقبة للمتقين.
وردت أنباء الحجاز في الشهر الماضي بأن أهله قد نصَّبوا السلطان عبد
العزيز آل سعود ملكًا عليهم، وكنا كالجمهور نتوقع من رويته تأخير القطع في شأن
حكومة الحجاز إلى أن ينعقد المؤتمر الإسلامي الذي دعا إلى عقده في مكة أو يظهر
اليأس منه، ثم علمنا من الأنباء الرسمية وغير الرسمية التي وصلت إلى مصر أن
أهل الرأي في مكة وجدة أحبوا أن يكون أمر تعيين الحاكم العام في بلادهم لهم دون
غيرهم من أهل الأقطار الإسلامية، الذين لا يعنيهم من أمر الحجاز إلا النظام الذي
يحفظ به الأمن والعدل في البلاد، وتسهيل سبل المناسك والزيارة في الحرمين
الشريفين، وهو ما يجب أن ينظر فيه المؤتمر أولاً، ويليه ما يحب أهل الفضل
والغيرة من المسلمين أن يخدموا به الحجاز من نشر العلم ووسائل العمران، ولذلك
ألحَّ هؤلاء على السلطان بأن يقبل مبايعتهم له، واحتجوا عليه بما صرَّح به مرارًا
من جعل تقرير مصيرهم واختيار حاكمهم لهم - فتمنع وطلب إرجاء ذلك، فعلم به
زعماء النجديين وأهل الحَل والعقد فيهم من العلماء والقواد فجاؤوه وأقاموا عليه
الحجة بوجوب قبول مبايعة أهل الحجاز له؛ لئلا يذهب جهادهم في تطهير الحجاز
من رجس الظلم والإلحاد عبثًا، بل أنذروه عاقبة الامتناع بحديث (لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق) رواه الإمام أحمد وغيره بهذا اللفظ وورد بلفظ آخر
في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن - فلم يسعه إلا الإجابة؛ لأنه ليس بالمستبد
دونهم كالطواغيت الذين أدال الله له منهم.
وإننا ننشر أهم الوثائق الرسمية والتاريخية في ذلك نقلاً عن العدد 55 من
(أم القرى) المكية، الذي صدر بمكة المكرمة في 30 جمادى الآخرة سنة 1344
الموافق 15 يناير سنة 1926، كما نشرنا مثلها في مبايعة الملك حسين بالملك ثم
بالخلافة، مع العلم بأن هذه البيعة اختيارية كان يرى المبايَع تأجيلها، وتلك إجبارية
كان تقرر في السر، ولم يكن أحد يشك في قتل من يمتنع عنها.
***
صورة البيعة الآتية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبايعك يا عظمة
السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود على أن تكون ملكًا على
الحجاز، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عليه الصحابة
رضوان الله عليهم، والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله، وأن يكون
الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شؤونه، وأن تكون مكة
المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعه تحت رعاية الله ثم رعايتكم.
وقد رفعوا مع كتاب البيعة الكتاب الآتي:
***
كتاب كبراء مكة للسلطان
حضرة صاحب العظمة السلطانية أيده الله تعالى
المعروض إلى عظمة السلطان الموفق المُعان أنه قد اجتمع الداعون الموقِّعون
أدناه من أهل الحَل والعقد بمكة المكرمة، وتذاكروا في الأمر وقابلوا بارتياح كل ما
جرى بين عظمتكم وبين الهيئة المتمثلة في مجلسكم العالي صباح أمس من خيرة
الأهلين، وبمناسبة اهتمامهم بذلك، ومزيد بشرهم به سارعوا جميعًا إلى تقرير عقد
البيعة على المنوال المسطور أعلاه، راجين أن ينزل ذلك من رغبات عظمتكم
منزلة القبول، وأن تتفضلوا بتتويجه بالإشارة السلطانية؛ ليكمل لهم مقصدهم الوحيد
بحصول رضائكم العظيم، مسترحمين الإنعام بتعيين وقت عقد البيعة عند البيت
العظيم، والله يديم بالتوفيق أيام دولتكم.
19 جمادى الثانية سنة 1344
عبد القادر الشيبي، حسن عدنان، محمد المرزوقي أبو حسين، محمد سعيد
أبو الخير، عبد اللطيف عالم، محمد شرف رضا، محمد علي كتبي، حسين بن
عبد الله العطاس، عباس عبد العزيز المالكي، عبد الرحمن الزواوي، محمد
صالح قطب، عبد العزيز ريس، عمر جان، أحمد مفتي، عبد الرحمن بشناق،
صالح شطا، بكري قزاز، عبد الله حموده، عبد الله أحمد زواوي، عمر علي
بوقري، محمد عرابي، سجيني عايش ريس، محمد نور عقيلي، عيدروس
بن عقيل السقاف، عمر أحمد فقيه، محمد فقيه، محمد نور فطاني، صدقة
عبد الجبار، عبد الله باسلامة، أحمد أمين سراج، محمود شلهوب، عبد الرحمن
محمد ياسين , محمد علي خوقير.
***
توقيع السلطان على صورة البيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى إخواننا الموقعين
أسماءهم سلام عليكم - وبعد فقد أجبناكم إلى ما طلبتم، ونسأله سبحانه وتعالى
المعونة والتوفيق للجميع.
في 12 جمادى الثانية سنة 1344
... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم الكريم
***
حفلة البيعة
بعد أن أدى الناس صلاة الجمعة يوم 25 جمادى الثانية هرعوا إلى مكان الحفل
عند باب الصفا من المسجد الحرام، حيث فرشت الطنافس، وأُعدَّ مجلس خاص
لعظمة لسلطان، وأقيم منبر أمام مجلسه لخطيب البيعة، ولم تأزف الساعة السابعة
والثلث حتى أقبل الموكب السلطاني المهيب، وأخذ عظمة السلطان مكانه فنادى
المنادي {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) ثم اعتلى المنبر الشيخ عبد الملك مرداد
الخطيب وتلى الخطاب الآتي: (أحمد رب هذا البيت المعظم، وأشكر الله على ما
أنعم به علينا وتكرم، سبحانه وتعالى مَنَّ علينا بنعم لا تُحصى، ومنن لا تُستقصى
أبدل خوفنا بالأمن العام، وأمرنا بالتآلف والتعاضد والوئام، فأحمده جل وعلا حمد
عبد يعرف مقدار نعمته، وأشكره شكر من تداركه الله بإزالة نقمته.
أيها الإخوان: إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بالأمن بعد الخوف،
وبالرخاء بعد الشدة، وقد انقشعت عنا غمة الحروب والعناء، وأقبلت علينا بفضل
الله عز وجل أوقات المسرة والهناء، وقد توحدت الكلمة بحول الله تعالى وقوته،
وتعطف علينا هذا السلطان المحبوب بقبول البيعة المشروعة، الواجبة علينا بعد
طلبنا لها من عظمته، وها أنا أذكر صورة البيعة مع القبول حرفيًّا) وتلا ما
نشرناه قبل هذا.
ولما وصل الخطيب إلى تلاوة نص البيعة باشرت قلاع مكة بإطلاق المدافع
إعلانًا لتلك البيعة، فأطلقت مائة مدفع ومدفع، وما انتهى الخطيب من خطبته حتى
هرع الناس أفواجًا أفواجًا مزدحمين للمبايعة، ولولا رجال الحرس الخاص والشرطة
يوقفون الزحام وينظمون سير المبايعة، لأودى الزحام بغير قليل من الناس، وقد
كان ترتيب المبايعين على الشكل الآتي:
الأشراف، فشيخ السادة، فالوجهاء والأعيان، فالمجلس البلدي، فأهل المدينة
المنورة، فأهل جدة، فبقية خدم الحرم، فالمطوفون والزمازمة، فمشايخ الجاوه،
فأهل الحرم ومشايخ الحارات، فأهل المحلات.
وقد دامت حفلة المسجد الحرام ما يقرب من الساعة، والناس يمرون
ويبايعون، وبعد ذلك مشى جلالة الملك إلى البيت الحرام، فطاف به سبعًا، وصلى
في المقام، ثم شرف دار الحكومة فجلس في سرادقها، واكتظت بالناس على
رحبها، ولما استقر بالحاضرين المقام نهض الشاب الأديب حسن قابل وتلا خطابًا
ذكر فيه خلاصة تاريخية عن الأطوار التي مرت على الحجاز قبل رحيل الترك
عنه إلى يومنا هذا، ثم عرض بما كان عليه الحال في العهد السابق، وأن الحق هو
للحجازيين في تقرير مصيرهم، وأن لا بد للبلاد من ملك مستقل يكون قادرًا على
صيانة الحجاز من الداخل والخارج، وأن الرجل الذي يستطيع القيام بهذا الأمر هو
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، وأنه بالنيابة عن أهل جدة يمد يده مبايعًا،
وطلب من عبد الله رضا أن يقوم ويبايع عن أهل جدة بملكية الحجاز.
ثم قام حضرة الفاضل بكر ناظر فتكلم كلمة تناسب المقام، وتلاه الشاب
الناشئ شاكر بن محمد عامر الزبدي فألقى خطابًا كان له وقع حسن، وتبعه حضرة
الفاضل صدقة منصور فتكلم موجِزًا تاريخ العلاقات بين أمراء جزيرة العرب، وما
أدى (إليه) النزاع الذي كان بين الحجاز ونجد إلى أن وفق الله الكريم بفضله،
وتوحدت الكلمة بين البلدين، ثم أثنى على همة جلالة الملك بما هو أهله.
ثم تكلم عبد الرحمن بشناق بصوت جهوري مخاطبًا جلالة الملك بأن الله ما
أعطاك هذا العطاء إلا لأنك سائر في مرضاته، ودعا الله للأمة بالتوفيق.
ثم تكلم صديقنا الشيخ عبد العزيز العتيقي، فذكر طرفًا من سيرة الأمة زمن
السلف الصالح، ولزوم الاستمساك بذلك الحبل المتين، ليرجع للمسلمين ما كان لهم
من عز وسؤدد.
***
خطاب ملك الحجاز بعد البيعة
ولما انتهى الخطباء من خطبهم أقبل جلالة الملك على الحشد المجتمع بوجهه
الطلق ولسانه العذب، فحمد الله بما هو أهله، وسأله المعونة على الأعمال، ثم
انطلق انطلاق السيل يعظ ويرشد ويدعو للاعتصام بكتاب الله وإلى التوحيد
الخالص، بأسلوب يسترعي الأسماع ويأخذ بالألباب، ثم قال:
(أوصيكم بتقوى الله في جميع أعمالكم، أوصي الجميع بالتقوى، كل يجب
أن يتقي الله في عمله، التاجر في تجارته، والصانع في صنعته، والموظف في
وظيفته، أسمع خطباءكم يقولون: هذا إمام عادل، وهذا كذا، فكل رجل مهما بلغ
من المنازل العليا إذا لم يكن يخشى الله ويطلب مرضاته فلا أثر له ولا لعمله، فمتى
تُرِكَتِ الشهوات، وهُجِرَتِ المحرمات، وعبدنا الله على بصيرة، لاقينا الخير كله،
وهل جاء البلاء للناس إلا من اتباع شهوات النفوس التي فيها خراب الدين والدنيا؟
لذلك أدعوكم إلى الدين، واتباع آثار السلف الصالح، وأن نتخذ الصراحة في
القول، وأن نترك الرياء والملق في الحديث، ومتى اتفق الأمراء والعلماء، كل
واحد منهم يستر على صاحبه، فالأمير يمنح المراتب، والعلماء يُدلِّسون ويتملقون،
ضاعت أمور الناس، وفقدنا - والعياذ بالله - الآخرة والأولى، إنه لم يُفسد الممالك
إلا الملوك وأحفادهم وخدامهم، والعلماء وأعوانهم، وإنني والله لأود أن لا أكون
في هذا المقام، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
(إن الأمر - والحمد لله - قد استتب في البلاد على أحسن حال، ولم يبق
لأحد حجة في النكوب عن العمل الصالح، ولينصرف كل إنسان لإصلاح عمله) .
(إن التمدن الذي فيه حفظ لديننا وأعراضنا وشرفنا فمرحبًا به وأهلاً، وأما
التمدن الذي يؤذينا في أدياننا وأعراضنا وشرفنا، فوالله لو قطعت منا الرقاب
وذهبت فيه العيلات، لم نرضخ له ولم نعمل به) .
(إني أحمد الله الذي جمع الشمل وأمَّن الأوطان، وإن لكم عَلَيَّ عهد الله
وميثاقه أنني أنصح لكم كما أنصح لنفسي وأولادي وعائلتي، أحبكم في الله وأعاديكم
فيه) اهـ.
وقد تعالت الأصوات من الحاضرين (جزاك الله خيرًا جزاك الله خيرًا) .
وقد كانت القهوة العربية تدار على الحاضرين حينًا بعد حين، ثم انصرف
الناس من مجلسهم فرحين مسرورين اهـ.
__________
(1) (آل عمران: 26) .(26/707)
الكاتب: أبو الحسنات الندوي
__________
الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية
الكتاب الثاني
للشيخ أبي الحسنات الندوي رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الفاضل الجليل، والعالم الكامل النبيل، أمتع الله المسلمين بطول
بقائه سلامًا سلامًا.
أما بعد فقد وصلني كتابكم، ووقفت على ما كتبتم فيه من حقيقة الأمر، ولاح
لي المنهاج الذي أشرتم إليه بكلمة (وما كل أمر يمكن إعلانه) وهكذا كان يخطر
ببالي أحيانًا، فالحمد لله على ما صدق ظنوني، وما أوردتم فيه من كلمة السيد
المرحوم الأفغاني تغمده الله بغفرانه، التي قالها في المغفور له السلطان عبد الحميد
خان، فإني على خبرة منها، ومن سعيه وبذل جهده في سبيل جمع كلمة الأمة
المرحومة تحت اسم الخلافة الإسلامية على ذلك السلطان، حتى كان أقنع كثيرًا من
مجتهدي الشيعة بالمساعدة على ذلك، وأيضًا إني على خبرة مما كان لسعيه وعمله
هذا ضياعًا وخسرانًا بما كان أصيب به السلطان المرحوم في أواخر عمره من
(ماليخوليا ووسواس) ولو سلّمت - كما حررتم - أن الاتحاديين الذين جاؤوا بعده
كانوا شرًّا منه، فالسلطان إن كان سلاًّ في رئة الدولة، فالاتحاديون كانوا أشد منه
وطأة عليها، حتى ذهبوا بقوتها وأسباب بقائها، لو لم يجعل الله تعالى رجلاً من
الدولة حفاظًا لها، ولكن مع هذا كله ليس لنا أن نقطع الأمل ونترك العمل، فإن
عدم نجاح العمل لا يثبت لنا إلا تقصيرًا في جهدنا، ولا يظهر لنا إلا نقصانًا في
سعينا، فعلينا أن نجهد بكل الجهد، ونبذل كل الوسع مرة بعد أخرى، حتى
نفوز بالأمل وننجح في العمل، وكيف يمكن القنوط والزمان قد تقلب بما هو خير لنا
وأحسن، فإن القرن الماضي قد مضى، وكانت الأمة المسلمة في يوم غفلتها،
ونجم هذا القرن وهي في يقظة لا سِنَة معها، وحركة لا فتور فيها.
نعم كان بدأ السيد المرحوم بعمله دعوة المسلمين إلى الوحدة تحت لواء
الخلافة الإسلامية في زمان كانت الأمة فيه نائمة غافلة، فمضى أكثر أيام حياته في
اتخاذ الوسائل إلى تنبيهها، وتهيئة الأسباب لإيقاظها، حتى توفاه الله تعالى قبل أن
يتم العمل، ومع ذلك لا يجوز أن يقال: إن السيد المرحوم قد خاب في أمله، وخسر
في عمله، فإن هذه كلمة كذب لا تحملها الأرض والسموات، وإني على يقين - ولا
أزال عليه - أن صلصلة الوحدة الإسلامية التي تُسمع في عصرنا هذا هي من
الجرس الذي دقه السيد المرحوم، وما وصفتم لي من ضعف الأمة وجهل الحكومات
الإسلامية الذي يحول دون السعي ونجاح العمل، فهذا الحائل والعائق أيضًا قد ذهب
به الزمان، فانظروا إلى الأمة ليس فيها شيء من ضعف النباهة والإحساس،
والحكومات الإسلامية ما بقي فيها الجهل (؟) عن الأهوال والأحوال، الأمة قد
شعرت بحاسة الأخوة الدينية، فترى القيام بها من الواجب، وهي تسعى لها.
والحكومات الإسلامية قد علمت بمضارِّ التشتت والافتراق، فترى ارتباط بعضها
مع بعض من اللازم، فكل واحدة منها تسير سير التعاون والوفاق، حتى صار أمر
خدمة الأمة على من يريد أن يخدمها في هذه الأزمان هونًا والطريق إليها سهلاً.
وما كتبتم في أمر الاتحاديين والكماليين، فإن يكن الأمر كذلك، ولكن ليس لنا
الآن أن نقول في هذا الشأن قولاً مفصلاً، وأقول بالإجمال: من أعرض من
الاتحاديين أو الكماليين ونأى بجانبه عن مصلحة الأمة المسلمة ونصوص الدين،
فله ما له وعليه ما عليه - الأمة المسلمة لا تشترك بعمله، ولا تكون عونًا له إلا فيما
يهمها من أمر دينها، نعم إني أعلم بعض زعماء الاتحاد والترقي: كالغازي أنور
باشا حفظه الله تعالى وأدام له السلامة قد غلب عليه الاتحاد التوراني، وهو يجهد
في سبيله ويبذل له ما في وسعه. فإن كان ذلك تابعًا للاتحاد الإسلامي وموافقًا
له، فتكون الأمة المسلمة بأجمعها ساعدًا له وعضدًا. وهكذا الكماليون إن كانت
تشتمل مساعيهم على مشروع الاتحاد الإسلامي ومصلحة الدين، فالأمة بأموالها
وأنفسها تتعاون بهم، وتكون أنصارًا لهم، وإن نبذوه وراءهم وهجروه، فالأمة
تنبذهم وتهجرهم.
وما كتبتم في الكماليين من إلغائهم منصب الخلافة الإسلامية، وجعلها عبارة
عن رياسة روحية بابوية، فنحن مسلمو الهند لسنا على علم بصدقه كما هو يروى
ويقال (!) ومسلمو الهند - بل ومسلمو العالم - لا يرضون أبدًا بجعل منصب
الخلافة منصبًا روحيًّا محضًا كمنصب البابا.
ومن ذا الذي يعلم الكتاب ويعرف أصول الشريعة يرضى به ويستحسنه؟
ولا نخال كيف يمكن لمصطفى كمال باشا وحزبه أن يرتكبوا هذا الخطأ الكبير دينًا
وسياسة، وهو يضرهم كما لا يضر غيرهم أحدًا، فإن هذا الإلغاء يذهب بشرف
الدولة التركية بين الدول الإسلامية، وبمكانتها العليا في نفوس المسلمين قاطبة،
هل أرادت الأمة التركية أن تضع حمل الخلافة عن كواهلها فإنه ثقيل عليها؟ هذا
أمر لم أظنه بالأتراك، ولم أجد مؤمنًا به في الهند أحدًا (!) وأما ما ذكرتم من
إطماع المسلمين مصطفى كمال باشا صانه الله تعالى وحزبه، بأنهم يوافقونهم على
كل ما يفعلون، وإن كان مخالفًا للمصلحة ونصوص الدين، فليس بشيء، فإن
المسلمين لا يتعاونون بهم على ما يخالف الشرع ونصوص الدين أبدًا؛ لأن روحهم
الدينية تنفر عن مثل هذا التعاون، قال الله عز وجل {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
وكنت كتبت وفقًا لما وعدتكم قبل ذلك مقالة في مسألة الجامعة للمسلمين
وطريق الوصول إليها، والأخذ بها، وكنت هممت بإرسالها إليكم إذ ألقي إليَّ كتابكم
قبل الأمس، ووجدت فيه ذكر الجزء التاسع للمنار في البريد الآتي فيه إشارات إلى
شيء من المشروع الذي أوردتم ذكره في الكتاب، فأحببت أن أرسل مقالتي
المذكورة بعد مطالعة (المنار) والوقوف على رأيكم في هذا الشأن.
وأما ما سألتموني عن رأيي في الطريق الذي يمكن أن تتعاون به مع جمهور
مسلمي الهند على تنفيذ المشروع الجليل، وكيف السبيل إلى إطلاعهم على تفصيله
المبهم. فإني أنا بنفسي أُظهر لكم ما أرى بعد مطالعة المشروع. وأما طرحه على
جمهور المسلمين، واستحصال تعاونهم عليه وسبيل إطلاعهم على تفصيله، فإن كان
المشروع محتويًا على الظواهر ليس لها خفايا، فالسبيل إليه بنشره في الجرائد الهندية
بعد ترجمته بالأردوية؛ حتى يراه ويطالعه زعماء المسلمين وخواصهم، ثم بعد
ذلك يسأل عنه، وماذا يرون فيه؟ فإن وقع عندهم موقعًا حسنًا فيسهل إلى أن يتم
العمل، ففي هذا السبيل إن شئتم وآذنتموني فأترجم مشروعكم الجليل بالأردوية
فأرسله إلى الجرائد، ونسأل عنه رأي من هو أهل الرأي من المسلمين في الهند،
وأيضًا إني لقادر على أن أترجمه بالفارسية، وأرسله إلى جرائد أفغانستان، وإن كان
المشروع لم يفده مثل هذه الأعمال، فبينوا لي ما هو يفيده وأي سبيل عندكم إلى
تنفيذه؟ وما ترون طريق عمله وكيف تقصدونه.
وأما استئذانكم بنشر ما كتبت وأكتب في هذا الشأن فما كان لازمًا، الأمر
إليكم والخيار لكم، فانشروا منه ما شئتم، وبأني رجل من الهند لست بعربي ولا
صحبت عربيًّا، فأرجو أن تسودوا وتصلحوا ما وقع في العبارات من زيغ وفساد
فتقبلوا مني أحسن التحية.
أنا العاجز أبو الحسنات الندوي أحد رفقاء دار المصنفين.
... ... ... ... ... ... شبلي نزل ... أعظمكده (الهند)
(المنار)
رحمه الله وأثابه فقد كان من خيار المصلحين، وقد توفاه الله تعالى قبل أن
نتمكن من إجابته إلى كل ما سأل.
__________(26/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وهب بن منبه وكعب الأحبار
بيَّنا في الجزء الأول ما رأيناه كافيًا في إثبات جرح كعب الأحبار والرد على
المنتقد الذي ذهب إلى أن جرحه يشين السنة المحمدية (برأها الله وأغناها عن كعب
الأحبار وعن وهب بن منبه أيضًا) .
وأما وهب بن منبه فقد كان تابعيًّا عابدًا، ولم يُتَّهم في شيء من دينه إلا
بالقول بالقدر، وذكروا عنه أنه رجع عنه، وقد ضعفه عمر بن الفلاس، واغترًّ
به الجمهور؛ لأن جل روايته للإسرائيليات، ولم يكونوا يدققون النظر في نقدها
تدقيقهم في نقد روايات أصول الدين وفروعه، وقلما كان أحد من رجال الجرح
والتعديل يعرف شيئًا من كتب أهل الكتاب ليصح حكمه على الرواة عنها، على أن
البخاري رحمه الله تعالى لم يَروِ عنه حديثًا في صحيحه مرفوعًا ولا قصة إسرائيلية،
ولا مسألة علمية، وإنما روى عنه أثرًا واحدًا، وهو ما حدَّث به عن أخيه همام
عن أبي هريرة من قوله: ليس أحدٌ أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن
العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب. ولم ينفرد به وهب بل تابعه عليه معمر عن
همام، فلا يصح أن يعد وهب من رواة صحيح البخاري الذين ائتمنهم على سنة
الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا، وإن ما نقلوه عنه من الرجوع عن عقيدة القدر لرمي له بعقيدة الجبر
المحض وهي شر منها، فكانوا بذلك كمن يغسل الدم بالبول، وهو مع ذلك يدل
على كذبه فيما يرويه عن كتب الأنبياء عليهم السلام، فقد ذكروا عنه أنه قال:
كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابًا من كتب الأنبياء في كلها (من
جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر) فتركت قولي. اهـ. من تهذيب
التهذيب ومقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر.
أقول (أولاًً) : إن كتب الأنبياء التي بأيدي أهل الكتاب لا تبلغ هذا العدد.
(ثانيًا) إننا تصفحنا أشهرها فلم نجد هذا القول فيها، ولا رأينا أهل الكتاب
ينقلونه في مجادلاتهم في هذه المسألة.
(ثالثًا) إن هذا القول باطل قطعًا بدليل الآيات الكثيرة في القرآن، المثبتة
لمشيئة الإنسان، كقوله تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:
29) {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 28) {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت: 40) {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} (النور: 62) {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 67) وفي معنى الآيات أحاديث كثيرة أيضًا، ولا ينافي
هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) ،
بل يقررها ويؤكدها إذ هو صريح في أن الله تعالى شاء أن يكون للبشر مشيئة
خلقها لهم فيما خلقه من صفاتهم وغرائزهم وقواهم.
(رابعًا) إن وهبًا قد انتقل من بدعة القدرية إلى بدعة الجبرية التي هي شر
منها وأضر، وأدهى وأمر، فهي التي أماتت قلوب المسلمين وهممهم التي فتحوا
بها البلاد، ودكوا بها الأطواد، وأرضتهم بالذل والهوان، وتعبدتهم للظلمة منهم،
ثم للمستعبدين لهم من غيرهم.
إن المشيئة هي أعظم الصفات التي يتفاضل بها بعض البشر على بعض،
وإن عقائد الإسلام وعباداته كلها مبنية على صحة المشيئة، ومربية لقوة الإرادة
التي أعمل الجبرية فيها معاول التأويل لهدم الإسلام بهدمها، وقد فعلت في إضعاف
المسلمين ما لم يفعله جميع أعدائهم منذ وجدوا إلى هذا اليوم، وإنما راجت دسائسها بما
كانت تنفثه مواعظ العُبَّاد الجاهلين أو الخادعين الدساسين من سمومها القاتلة، أي أن
الإنسان لا مشيئة له ولا إرادة، وإنما هو كالريشة الملقاة تقلبها الرياح باختلاف
مهابها، وأن هذا هو المراد بالقدر الوارد في الكتاب والسنة، وقد بيَّنا بطلان ذلك
مرارًا، وأن التقدير هو النظام والسنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية في الخلق.
هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي نقطع
ببطلانها وهو آفتها كروايات كعب فيها، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا فيها من
الخرافات، وبما أدخلا فيها من العقائد الباطلة، ومن تأييد عقائد أهل الكتاب
والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة.
ونكتفي في هذه وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله
تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ
الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78) قال: قال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل
كما أنزلهما الله تعالى لم يُغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل،
وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ
اللَّهِ} (آل عمران: 78) فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول، رواه ابن أبي
حاتم.
(قال ابن كثير) : فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها
التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ
كبير وزيادات كثيرة، ونقصان ووهم فاحش، وهو من باب تفسير المعرب
المعبَّر [1] وفهْمُ كثير منهم - بل أكثرهم بل جمعيهم - فاسد. وأما إن عنى كتب
الله التي هي كتبه من عنده، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء) اهـ.
أقول: إن ابن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة
الجرح والتعديل ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه
الكتب كما رآها، ولم يطَّلعوا على ما بيّنه المطَّلعون عليها قبله من تحريفها
وأغلاطها ومخالفتها لما نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ، كابن حزم
وابن تيمية أستاذه، ولو علم أولئك ما علمه هؤلاء من ذلك لجزموا بأن وهبًا كان
كذابًا غاشًّا للمسلمين بصلاحه، ولم يقبلوا له رواية قط، كما كانوا يجزمون بجرح
من يقول في الدين بدون ما زعمه من كون التوراة والإنجيل اللذين في أيدي أهل
الكتاب كما أنزلهما الله تعالى لم يتغير منهما حرف واحد. وإن تحريفهم لهما إنما
كان في تأويلهما، وفي نسبة بعض المسائل التي ليست فيهما إليهما، أي كما يفعل
المبتدعون في الإسلام والمتعصبون للمذاهب في تأويل القرآن والحديث لإثبات
بدعهم ومذاهبهم، وكما أراد ابن كثير عفا الله عنه أن يلتمس لوهب تأويلات
كتأويلات متعصبي المذاهب لمشايخهم، ولو نقل هذا القول عن جهمي أو معتزلي
أو شيعي لقطع هو وأمثاله بخروجه به من الملة، فهذا التأويل بديهي البطلان؛ لأن
كل أحد يجزم بأن وهبًا يتكلم عن التوراة والإنجيل الموجودين في الأرض لا عن
اللوح المحفوظ، ولا عن علم الله عز وجل، وعن كلامه الذي هو صفة من صفاته.
ولو أردنا أن نجمع من تفسير ابن كثير وحده ما فيه من الإسرائيليات وغيرها عن
وهب نفسه وعن صنوه في روايتها كعب الأحبار، وننتقدها لألَّفنا في ذلك كتابًا
خاصًّا، مع العلم بأن ابن كثير رحمه الله تعالى يحترس مما لم يحترس غيره منها،
وأما إذا رجعنا إلى كتب القصاصين والمفسرين الذين جمعوا كل ما سمعوا فإننا نجد
هنالك العجب العجاب والذي يقال فيه: إنه لا تلبس عليه ثياب، ويا حسرتا على
من يظنون أن سنة النبي المختار، تزول الثقة بها بجرح وهب وكعب الأحبار
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) وفي نسخة مكتبة الأزهر: المعبر المعرض، ولعل مراده بالمعبر العبري أي العبراني.(26/716)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فؤاد بك سليم
خسرت سورية في ثورتها الحاضرة قائدًا من أكبر قوادها تدبيرًا وبلاء فيها،
وفي الحركة العربية الأخيرة من أولها إلى آخرها، بل خسرت الأمة العربية رجلاً
كان يرجى أن يكون من أكبر رجالها في هذا الطور الانقلابي تأثيرًا بعلمه وعمله،
وعقله وأدبه، ولسانه وقلمه، رب السيف والقلم، شهيد الوطنية الصادقة، صديقنا
فؤاد بك سليم، أصابت رأسه المفكر شظايا قذيفة من مدافع الفرنسيس في المعركة،
فقضت عليه قبل أن يتم ما كان يلقيه على جيش الثورة وقواده من الأوامر والنواهي
الحربية فيها، فلما ذاع نعيه اضطربت له مصر كما اضطربت له سورية، وأبَّنتْه
جرائد القطرين ورثاه شعراؤهما، ولم تتناوب أقلام الكتاب المختلفي المذاهب
والمشارب الرثاء والتأبين بمثل ما كتبته فيه إلا في أفراد معدودين من كبار الزعماء،
ولعل ذلك يجمع في سفر خاص يكون ذكرى وقدوة للنابتة العربية في نهضتها
القومية الحاضرة.
كان فؤاد سليم مغمولاً مجهولاً قدره بإقامته في شرق الأردن إلا عند أصدقائه،
فكان كنود الأمير عبد الله الحجازي له بإخراجه منها جزاء له على إنقاذه إياه من
الهلاك، وإلجائه إياه إلى الإيواء إلى مصر من حُسن حظ الفقيد وخط أُمّته؛ إذ عَرَفه
فيها - على عزلته - كبار العقلاء والكتاب، وأعجبوا بما نشره في أشهر جرائدها من
المقالات السياسية والاجتماعية الدالة على نضوج فكره وسعة علمه وسداد رأيه.
لم تكن دموعي عند فقد الكواكبي والزهراوي أشد حرارة من دموعي على
فؤاد، وكنت أرجو له مستقبلاً عظيمًا في نهضة الأمة العربية، وقد يتعجب قراء
المنار إذا قلت: إنني كنت أرجو أن يكون من أقوى أنصاري في الإصلاح الديني
والأخلاقي، وفي مقاومة تيار التفرنج المفسد للعقائد والأخلاق، وللأبدان والأرواح،
وفي السعي لإعادة طائفة الدروز العربية الباسلة إلى مذهب أهل السنة والجماعة،
مع المحافظة على روابطها وتكافلها ومزاياها الشريفة الموافقة لأصول الإسلام،
وإقناع نابتتها وزعمائها الأذكياء ما عدا ذلك من تعاليم الباطنية كان من دسائس
المجوس وكيدهم للعرب؛ لسلب ملكهم انتقامًا منهم على إسقاطهم لدولة المجوس
ودينهم، فالبلاد كانت أحوج إلى عقل فؤاد ورأيه منها إلى سيفه، فرحمه الله ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
__________(26/720)
شعبان - 1344هـ
مارس - 1926م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاستخفاف بآيات الله وما عظم الله أمره
ودعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة
(38 و 39) من صاحب الإمضاء في الجزائر.
ما قولكم في كاتب يكتب في الجرائد تحت عنوان (النفخ في الصور)
والإمضاء (إسرافيل) هل ينطبق عليه ما ذكر الشيخ (القاضي) عياض في كتاب
الشفاء في مفتتح فصل من فصول آخر الكتاب ولفظه:
(وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل
لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه، أو تمثل في بعض الأشياء
ببعض ما عظم الله من ملكوته ... إلى أن قال: وهذا كفر لا مرية فيه) اهـ.
قلت: أليس التمثيل بالنفخ في الصور وإمضاء إسرافيل - عليه السلام -
بعض ما عظم الله من ملكوته؟ أفيدوا الجواب، ولكم الأجر والثواب، من مُنزل
الكتاب، الذي جعله الله حكمًا بين العباد إلى يوم المآب.
ثم نذكر لكم سخافة وحديث خرافة ذكرها الشيخ عليش في فتاويه في باب
الأصول من كتابه ذلك فقال: إن الشعراني نقل عن علي الخوَّاص أن الأئمة
المجتهدين لا يثبتون حكمًا إلا إذا شاوروا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة،
وأنهم معصومون من الخطأ، إلى غير ذلك مما لا يقبله الشرع ولا العقل، وأن
السيوطي ذكر عن نفسه كما في ورقة بخطه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم
خمسًا وسبعين مرة يقظة، حسبما تقفون على ذلك في كتابه المومأ إليه في باب
الأصول.
ثم إنا لما أنكرنا ذلك وكتبنا فيه نقدًا في بعض الجرائد هنا قام بعض من يزعم
أنه على علم ما، فأنكر علينا إنكارنا على من يدعي رؤية النبي صلى الله عليه
وسلم يقظة بعد وفاته بثمانمائة سنة، إلى غير ذلك مما تقفون عليه من المدهشات
بل المخزيات.
والآن نطلب منكم عملاً بالأصول وقواعدها وانتصارًا لطريقتنا الإصلاحية
السلفية أن تشيروا إلى ذلك في عدد من أعداد المنار المقبلة، وذلك يكون خدمة للعلم
والفقه الصحيح إذ لا تتقرر الأحكام الشرعية بما ذكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الزواوي)
(جواب المنار)
إننا لم نطَّلع على شيء مما كتب في بعض جرائد الجزائر بالعنوان والإمضاء
المذكورين، فنعلم هل هو صريح فيما أراده القاضي عياض رحمه الله من
الاستخفاف أو الاستهزاء بالله أو بآياته، أو بما عظم أمره من ملكوته بما يدل على
ذلك دلالة واضحة، وهو قد ناط الحكم بالكفر بقصد الكفر والاستخفاف، أو
بالتكرار الدالِّ على ذلك، فإن نص عبارته فيما جزم بأنه كفر (فإن تكرر هذا منه
وعُرف به دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته
وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه، وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف
والنقص لربه) اهـ.
والمدار في الحكم بالكفر في أمثال هذه الأقوال على دلالتها القطعية على
الاستخفاف والاستهزاء الذي لا يصدر من مؤمن عادة أو قصده ذلك، فإذا كان
الناس يفهمون من عبارات ذلك الكاتب الاستهزاء بالقيامة وملك الصور استهزاء من
لا يؤمن بهما فلهم أن لا يعاملوه معاملة المؤمنين، ولكن بعد أن ينصحوا له برفق
بأن يرجع عن ذلك ويتوب إلى الله منه، وأن يقبلوا قوله إذا قال أنه لا يقصد به
ما فهموه من الدلالة على الاستخفاف أو الاستهزاء، ويحتجوا عليه بأن فهمهم ذلك
منه كافٍ في وجوب تركه، وإن كان الناس لا يفهمون هذا مما يكتبه بل يفهمون أنه
يقصد الوعظ، وبأسلوب مؤثر ينبه الأذهان فلا وجه للقول بكفره مطلقًا، وهنالك
صورة ثالثة وهي أن تختلف أفهام الناس فيما ذكر، وحينئذ يتجه أن يكون ما يكتبه
معصية لا كفرًا، والغالب على ظني أنه لا يقصد الكفر، ولا يعتقد أن ما يكتبه
محظور شرعًا، ولكن يجب عليه والحالة هذه أن يراعي ما يفهم الناس من كلامه،
ولا يقف موقف التهمة عند من يستنكر ذلك، وأرجو أن يترك ذلك إذا بلغه هذا
وصح حسن ظني فيه، فهذا ما اتجه عندي في مسألة الاستفتاء.
***
دعوى التلقي عن النبي صلى الله
عليه وسلم بعد وفاته
وأما ما نقله الشيخ عليش عن الشعراني عن علي الخوّاص من استشارة الأئمة
المجتهدين للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة في كل حكم أثبتوه، ومن القول
بعصمتهم، فهُما من الباطل الذي لا يقبله إلا الخرافي الجاهل، فالمسلمون قد
أجمعوا على عدم عصمة العلماء المجتهدين، وصرحوا بجواز الخطأ عليهم، إلا أن
بعض الشيعة قد قالوا بعصمة بعض الذين خلَوْا من أئمة أهل البيت كالأئمة الاثني
عشر عند الإمامية، وقد كان المجتهدون يقولون القول ثم يظهر لهم أنه خطأ
فيرجعون عنه، ولو لم يثبتوا حكمًا إلا بالتلقي الصحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم لما رجع أحد منهم عن قول قاله في إثبات حكم أو نفيه، ولَما أوصى مَنْ
أوصى منهم (كالشافعي) بأن من صح عنده حديث يخالف قوله فليتبع الحديث
ويضرب بقوله عرض الحائط، وكتب الشعراني مشحونة بالخرافات، وقد أطال
القول في هذه المسألة في كتاب (الميزان) وسيأتي ما فيه.
هذا، وإن أولئك المجتهدين لم يدَّعِ أحد منه هذه الدعوى، بل كانوا يستنبطون
الأحكام من أدلتها ويتناظرون فيها، ويرد بعضهم قول بعض بالدليل، ولم يدَّعِ أحد
منهم العصمة ولا ادعاها لهم أصحابهم ومؤيدو مذاهبهم، بل اعترفوا بأنهم يخطئون،
وأن كل أحد يؤخذ من كلامه ويُرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم كما كان
يقول مالك، ولو صحَّت الدعوى لكانت أقوالهم كلها على تعارضها وتناقضها
كنصوص الكتاب والسنة، والواقع أن أكثرها اجتهادًا يحتمل الخطأ والصواب وهذا
معنى وصفهم بالمجتهدين، والصحابة كانوا أعلم بدين الله من أئمة الفقه، ولم يقل
أحد بعصمتهم ولا بأنهم كانوا يرون النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ويستفتونه
فيما أشكل عليهم. والروايات في اختلافهم وتشاورهم فيما اختلفوا فيه في عهد
الراشدين كثيرة، ولو كان كبار الصحابة والتابعين الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة
يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ويتلقَّون عنه الأحكام لعَرِف هذا عنهم
الخوّاص والعوام، ولما وقع المسلمون فيما وقعوا فيه من الاختلاف العلمي والعملي.
ثم إن الذين ادعوا أنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ويسألونه
عن الأحاديث المروية عنه وعن الأحكام والحقائق والحلال والحرام والكفر
والإيمان، ويختلفون في كل ذلك اختلافًا يدور بين النفي والإثبات - فكيف يمكن أن
تصح دعواهم؟ روي عن السيوطي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه ليس
في جامعه الصغير حديث موضوع، أي مكذوب عليه صلى الله عليه وسلم، وروي
عن غيره أنه سأله صلى الله عليه وسلم عن عدة أحاديث من هذا الكتاب فأنكرها،
وصرح بأنه لم يقلها، وهي من غير الأحاديث التي قال رجال الحديث كالمناوي
وغيره بوضعها.
ومن مفاسد هذه الدعوى أنها فتحت للدجالين باب الإفساد في هذا الدين، وبث
العقائد الباطلة المخالفة لنصوص القرآن القطعية الدلالة والمجمع عليها في الملة،
دع مخالفتها للأحاديث الصحيحة عند جميع حفاظ السنة، وتجد الكثير منها في كتب
المتصوفة كالشيخ أحمد التيجاني الذي ضل بطريقته الألوف والملايين من أهل
إفريقية، ولا سيما الجزائر، ولولا أن في كتب بعض المشهورين بالولاية والعلم
كالشعراني إثباتًا لهذه الدعوى بدعوى أخرى هي ما يسمونه بالكشف لكُفِي المسلمون
هذا الشر المستطير.
لقد كان الضرر والفساد لهذه الدعوى كبيرين، ولم نر لها أدنى فائدة توازي
أدنى غائلة منها، وعلماء أصول الدين وعقائده وأحكامه متفقون على أن الكشف
والإلهام ليس من أدلة الشريعة، ولا يثبت به حكم، ولا تقوم به حجة، قال في
جمع الجوامع وشرحه: لعدم ثقة من ليس معصومًا من الأولياء بخواطره، لأنه لا
يأمن دسيسة الشيطان فيها، وأهل السنة لا يقولون بعصمة أحد في إلهامه وغيره إلا
الأنبياء عليهم السلام كما تقدم.
وأما مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أي رؤية روحه
الشريفة القدسية، متشكلة بصورته الكاملة الجسدية - فقد اختلف العلماء فيها، فنفاها
قوم، وأثبتها آخرون ممن يدّعونها أو يُصدقون من ادّعوها من الصوفية، ومن
الثقات من قال بإمكان حصولها في حالٍ بين النوم واليقظة، ونظم بعضهم هذا
الرأي بقوله:
ومن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقًّا فقد فاه مشتطا
ولكن بين النوم واليقظة الذي ... يحاول هذا الأمر مرتبة وسطى
ويجد القارئ هذا البحث في المواهب اللدنية وشرحها، وفي الإبريز، وفي
بحث الكرامات من طبقات الشافعية الكبرى للسبكي وغيرها، وقد كنت قرأت هذا
وغيره وكتبت في المسألة بحثًا طويلاً في كتاب (الحكمة الشرعية في المحاكمة
بين القادرية والرفاعية) الذي ألفته في أثناء طلبي للعلم بطرابلس الشام.
ويعلل النفاة لرؤية اليقظة ما روي عن بعض كبار الصوفية من ادعائها،
ومنهم الأتقياء العدول، والعلماء الفحول، الذين يجلّون عن تهمة الكذب والافتراء؛
يعللون ذلك بأنهم هؤلاء لم يفتروا تلك الدعوى افتراء، وإنما كان ما يرونه نوعًا
من المثال، يتجلى عند استغراق الفكر في الخيال، على حد قول الشاعر:
يمثلك الشوق الشديد لناظري ... فأطرق إجلالاً كأنك حاضر
ولكن كبار الصوفية على إثباتهم للرؤية الخيالية يقولون أن لهم رؤية أخرى
هي جمعية روحية تكون في حال التجرد من الجسم المادي الكثيف، والانسلاخ من
سلطان الحس، فهي مشاهدة الروح للروح في شكل الجسد، ولا تتوقف على فتح
العينين ولا على وجود النور، بل هي تكون مع عدمهما أكثر، ومن الفرق بينهما
وبين الرؤية الخيالية، أن الذي يتمثل في الخيال هو ما نقش في مركز التصور لما
كان شاهده هذا الرائي أو تخيله، فهو يختلف باختلاف الأشخاص كالأحلام،
والرؤية الروحية ليست كذلك، وآية صحتها أنها لا تتضمن أخذ شيء عنه ينافي
القرآن أو غيره من أصول الشريعة أو فروعها القطعية.
وقد ذكر صاحب الإبريز عن شيخه الدباغ من أمثلة الرؤية الخيالية جزارًا في
مدينة فاس مات ولده؛ فوجد عليه وجدًا عظيمًا، فتمثل له وهو يمشي مع الجزارين
في السحر يقصدون المذبح، وصار يتكلم معه، حتى نبهه أحد رفاقه سائلاً إياه عما
سمع منه؟ فأخبره أن ولده كان يمشي بجانبه ويكلمه.
وأعرف امرأة بلهاء في بلدنا كانت دائمًا تخاطب الموتى ممن لهم شأن كبير
عندها كأخ لها مات شابًّا ومن غيرهم، وهذا نوع مما ينقل في هذا العصر عن
الروحيين في بلاد الإفرنج كلها.
وربما أعود إلى التوسع في هذه المسألة وما يتعلق بها مما يسمى اليوم
باستحضار الأرواح.
وجملة القول أن رؤية الأرواح على القول بصحتها إنما تقع في حالة غيبة
عن الحس والإدراك العقلي، ومتى عاد صاحبها إلى الحالة الطبيعية يكون
كالمستيقظ من النوم، فلا يوثق بضبطه لكل ما رآه، وهي لا يثبت بها حكم شرعي،
ويجب القطع ببطلان كل ما ينقل في هذه الحالة عن روح النبي صلى الله عليه
وسلم أو غيره من الأنبياء والمتقين مخالفًا لما ثبت شرعًا أو وجودًا بدليل قطعي والسلام.
__________(26/733)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
مسألة صفات الله تعالى
وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات
جواب سؤالٍ رُفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
فصل
فإذا تبين ذلك فوجوب إثبات العلو لله تعالى ونحوه يتبين من وجوه:
(أحدها) أن يقال: إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة وكلام السابقين
والتابعين بل وسائر القرون الثلاثة مملوء بما فيه إثبات العلو لله على عرشه بأنواع
من الدلالات، ووجوه من الصفات، وأصناف من العبارات. تارةً يخبر أنه خلق
السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد ذكر الاستواء على
العرش في سبعة مواضع، وتارةً يخبر بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه
كقوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 158) {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ} (آل عمران: 55) {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (المعارج: 4)
وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) وتارةً
يخبر بنزولها منه أو من عنده كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (الأنعام: 114) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ
بِالْحَقِّ} (النحل: 102) {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت: 2)
{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} (غافر: 1) {تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ
العَزِيزِ الحَكِيمِ} (الزمر: 1) وتارةً يخبر بأنه الأعلى والعلي كقوله تعالى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) وقوله: {وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} (البقرة: 255) .
وتارةً يخبر بأنه في السماء كقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ
بِكُمُ الأَرْضَ} (الملك: 16) {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} (الملك: 17) فذكر السماء دون الأرض، ولم يعلق بذلك ألوهية أو غيرها
كما ذكر في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (الزخرف:
84) وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (الأنعام: 3)
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء؟)
وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) .
وتارةً يجعل بعض الخلق عنده دون بعض، ويخبر عمن عنده بالطاعة كقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206) فلو كان موجب العناية معنى عامًّا كدخوله تحت قدرته ومشيئته
وأمثال ذلك لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبرًا عن عبادته، بل مسبحًا له
ساجدًا، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) وهو سبحانه وصف الملائكة بذلك ردًّا على الكفار والمستكبرين عن
عبادته. وأمثال هذا في القرآن لا يحصى إلا بكلفة، وأما الأحاديث والآثار عن
الصحابة والتابعين فلا يحصيها إلا الله تعالى.
فلا يخلو إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو الله نفسه
وعلى خلقه هو الحق أو الحق نقيضه، إذ الحق لا يخرج عن النقيضين، وإما أن
يكون نفسه فوق الخلق أو لا يكون فوق الخلق كما تقول الجهمية، ثم تارةً يقولون:
لا فوقهم ولا فيهم، ولا داخل ولا خارج ولا مباين ولا محايث، وتارةً يقولون:
هو بذاته في كل مكان، وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه.
فإما أن يكون الحق إثبات ذلك أو نفيه، فإن كان نفي ذلك هو الحق، فمعلوم
أن القرآن لم يبين هذا قط لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولا الرسول ولا أحد من الصحابة
والتابعين وأئمة المسلمين، لا أئمة المذاهب الأربعة ولا غيرهم، ولا يمكن أحدًا أن
ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبر به، وأما ما نقل من الإثبات عن
هؤلاء فأكثر من أن يحصى أو يحصر، فإن كان الحق النفي دون الإثبات _
والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلاً - لزم أن
يكون الرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل نطقوا بما يدل إما
نصًّا وإما ظاهرًا على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب.
ومعلوم أن من اعتقد هذا في الرسول والمؤمنين فله أوفر حظ من قوله تعالى:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) .
فإن القائل إذا قال: هذه النصوص أريدَ بها خلاف ما يُفهم منها، أو خلاف
ما دلت عليه، أو أنه لم يُرد إثبات علو الله نفسه على خلقه، وإنما أريد بها علو
المكانة ونحو ذلك، كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، فيقال له:
فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق (به) باطنًا وظاهرًا، بل
ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه، فإن غاية ما
يقدَّر أنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة، والباطن المخالف للظاهر، ومعلوم باتفاق
العقلاء أن المخاطِب المبيِّن إذا تكلم بمجاز فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على
إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلِّغ المبيِّن الذي بيَّن للناس ما نزل إليهم
يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه، كان عليه أن يقرن بخطابه ما
يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد، لا سيما إذا كان باطلاً لا يجوز
اعتقاده في الله، فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده إذا
كان ذلك مخوفًا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه
هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة: هو اعتقاد باطل، فإذا لم يكن
في الكتاب ولا السنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلاً،
بل هم دائمًا لا يتكلمون إلا بالإثبات - امتنع حينئذ أن لا يكون مرادهم الإثبات،
وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه،
وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه، وهذا كلام مبين لا مخلص لأحد عنه، لكن
للجهمية المتكلمة هنا كلام وللجهمية المتفلسفة كلام.
***
مذاهب متفلسفة القرامطة في الصفات
أما المتفلسفة القرامطة فيقولون: إن الرسل كلموا الخلق بخلاف ما هو الحق،
وأظهروا لهم خلاف ما يبطنون، وربما يقولون: إنهم كذبوا لأجل مصلحة
العامة، فإن مصلحة العامة لا تقوم إلا بإظهار الإثبات، وإن كان في نفس الأمر
باطلاً. وهذا مع ما فيه من الزندقة البينة والكفر الواضح قول متناقض في نفسه،
فإنه يقال: لو كان الأمر كما تقولون والرسل من جنس رؤسائكم، لكان خواص
الرسل يطَّلعون على ذلك، ولكانوا يُطلِعون خواصهم على هذا الأمر، فكان يكون
النفي مذهب خاصة الأمة وأكملها عقلاً وعلمًا ومعرفة، والأمر بالعكس، فإن من
تأمل كلام السلف والأئمة وجد أعلم الأمة عند الأمة: كأبي بكر وعمر وعثمان
وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأُبي بن
كعب وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو،
وأمثالهم هم أعظم الخلق إثباتًا، وكذلك أفضل التابعين مثل سعيد بن المسيب وأمثاله،
والحسن البصري وأمثاله وعلي بن الحسين وأمثاله، وأصحاب ابن عباس وهم
من أجلّ التابعين، بل المنقول عن هؤلاء في الإثبات يجبن عن إظهاره كثير من
الناس، وعلى ذلك تأول يحيى بن عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل
الأنصاري، ما يروى أن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله، فإذا
ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله، تأولوا ذلك على ما جاء من الإثبات، لأن ذلك
ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين والتابعين لهم بإحسان، بخلاف
النفي فإنه لا يؤخذ عنهم، ولا يمكن حمله عليه.
وقد جمع علماء الحديث من النقول عن السلف في الإثبات ما لا يُحصِي عدده
إلا رب السموات، ولم يقدر أحد أن يأتي عنهم في النفي بحرف واحد إلا أن يكون
من الأحاديث المختلقة التي ينقلها من هو أبعد الناس عن معرفة كلامهم.
ومن هؤلاء من يتمسك بمجملات سمعها، بعضها كذب وبعضها صدق، مثل
ما ينقلونه عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان
وكنت كالزنجي بينهما، فهذا كذب باتفاق أهل العلم بالأثر، وبتقدير صدقه فهو
مجمل، فإذا قال أهل الإثبات: كان ما يتكلمان فيه من هذا الباب لموافقته ما نقل
عنهما كان أولى من قول النفاة: إنهما يتكلمان بالنفي، وكذلك حديث جراب أبي
هريرة لما قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين، أما أحدهما
فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم؛ فإن هذا حديث صحيح لكنه
مجمل، قد جاء مفسرًا أن الجراب الآخر كان فيه حديث الملاحم والفتن، ولو قدر
أن فيه ما يتعلق بالصفات فليس فيه ما يدل على النفي بل الثابت المحفوظ من
أحاديث أبي هريرة كحديث إتيانه يوم القيامة وحديث النزول والضحك وأمثال ذلك
كلها على الإثبات، ولم ينقل عن أبي هريرة حرف واحد في النفي من جنس قول
النفاة.
***
مذهب الجهمية في الصفات
وأما الجهمية المتكلمة فيقولون: إن القرينة الصارفة لهم عما دل عليه
الخطاب هو العقل، فاكتفى بالدلالة العقلية الموافقة لمذهب النفاة، فيقال لهم:
(أولاً) فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال، وإنما
يستفيدون الهدى من عقولهم، كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال، ولم
ينصب لهم أسباب الهدى، وأحالهم في الهدى على نفوسهم، فيلزم على قولهم أن
تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة التي لم تنفعهم بل ضرتهم.
ويقال لهم (ثانيًّا) : فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين الإثبات الذي هو
أظهر في العقل من قول النفاة، مثل ذكره لخلق الله وقدرته ومشيئته وعلمه ونحو
ذلك من الأمور التي تعلم بالعقل أعظم مما يعلم نفي الجهمية، وهو لم يتكلم بما
يناقض هذا الإثبات، فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفى وأدق،
وكلامه لم يدل عليه بل دل على نقيضه وضده، ومن نسب هذا إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم فالله حسيبه على ما يقول.
والمراتب ثلاث، إما أن يتكلم بالهدى أو بالضلال أو يسكت عنهما، معلوم
أن السكوت عنهما خير من التكلم بما يضل، وهنا يعرف بالعقل أن الإثبات لم
يسكت عنه بل بينه، وكان ما جاء به السمع موافقًا للعقل، فكان الواجب فيما ينفيه
العقل أن يتكلم فيه بالنفي كما فعل فيما يثبته العقل، وإذا لم يفعل ذلك كان
السكوت عنه أسلم للأمة.
أما إذا تكلم فيه بما يدل على الإثبات، وأراد منهم أن لا يعتقدوا إلا النفي،
لكون مجرد عقولهم تُعرِّفهم به فإضافة هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من
أعظم أبواب الزندقة والنفاق.
ويقال لهم (ثالثًا) : من الذي سلم لكم أن العقل يوافق مذهب النفاة؟ بل
العقل الصريح إنما يوافق ما أثبته الرسول، وليس بين المعقول الصريح والمنقول
الصحيح تناقض أصلاً، وقد بسطنا هذا في مواضع بينَّا فيها أن ما يذكرون من
المعقول المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو جهل وضلال،
تقلده متأخروهم عن متقدميهم وسموا ذلك عقليات، وإنما هي جهليات، ومن طلب
من تحقيق ما قاله أئمة الضلال بالمعقول لم يرجع إلا إلى مجرد تقليدهم، فهم
يكفرون بالشرع ويخالفون العقل تقليدًا لمن توهموا أنه عالم بالعقليات، وهم مع
أئمتهم الضُّلاَّل كقوم فرعون معه، حيث قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (الزخرف: 54) ، قال تعالى عنه: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ
الحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (القصص: 39 - 40) ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} (القصص: 41) ، {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً
وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ} (القصص: 42) ، وفرعون هو إمام النفاة؛ ولهذا
صرح محققو النفاة بأنهم على قوله، كما يصرح به الاتحادية من الجهمية من
النفاة، إذ هو الذي أنكر العلو وكذَّب موسى فيه، وأنكر تكليم الله. لموسى قال
تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ
فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36-37) والله تعالى قد أخبر
عن فرعون أنه أنكر الصانع وقال: {وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ} (الشعراء:23) وطلب
أن يصعد ليطع إلى إله موسى، فلو لم يكن موسى أخبره أن إلهه فوق لم يقصد ذلك،
فإنه هو لم يكن مقرًّا به، فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من
موسى عليه الصلاة والسلام، فلا يقصد الاطلاع ولا يحصل به ما قصده من التلبيس
على قومه، بأنه صعد إلى إله موسى، ولكان صعوده إليه كنزوله إلى الآبار الأنهار،
وكان ذلك أهون عليه، فلا يحتاج إلى تكلف الصرح.
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه لما عرج به ليلة الإسراء ووجد في السماء
الأولى آدم عليه السلام، وفي الثانية يحيى وعيسى، ثم في الثالثة يوسف، ثم في
الرابعة إدريس، ثم في الخامسة هارون، ثم وجد موسى [1] ، ثم عرج إلى ربه،
وفرض عليه خمسين صلاة، ثم رجع إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: (فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف
لأمتي) وذكر أنه رجع إلى موسى، ثم رجع إلى ربه مرارًا؛ فصدق موسى في
أن ربه فوق السموات وفرعون كذب موسى في ذلك.
والجهمية النفاة موافقون لآل فرعون أئمة الضلال، وأهل السنة والإثبات
موافقون لآل إبراهيم أئمة الهدى، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً
وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ
وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 72-73) وموسى
ومحمد من آل إبراهيم، بل هم سادات آل إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الظاهر أنه سقط من هذا الموضع أنه وجد موسى في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة.(26/738)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
الباب الثاني
الجسم الإنساني
الكون مركب من خمسة عناصر: التراب والماء والهواء والنار والأثير [1]
وكذلك الجسم الإنساني الذي هو مثال مصغر للكون؛ ولذلك يحتاج الجسم إلى قدر
متناسب من جميع هذه العناصر: التراب النقي، والماء النقي، والنار أو النور
النقي، والهواء النقي، والمكان الطلق، فإن حصل نقص أو زيادة في القدر
الضروري من هذه الأشياء فالمرض واقع لا محالة.
الجسم مُكَوَّنٌ من الجلد والعظام والدم واللحم، فالعظام هي التي تكوِّن الهيكل
الجسدي، إذ لولاها لما أمكننا أن ننتصب أو نتحرك أو نمشي، وهي التي تحمي
الأجزاء اللينة الرخوة من الجسم، فالجمجمة تحمي الدماغ، والأضلاع تحمي القلب
والرئتين، وقد أحصى الأطباء العظام في الجسم الإنساني فوجدوها تبلغ 238
عظمًا. إن ظاهر العظام كما لا يخفى صلب، وباطنها رخو مجوف، وهي متصلة
بعضها ببعض بطلية من النخاع التي يصح أن نعتبرها عظامًا رخوة.
والأسنان كذلك تعد من العظام، وتظهر اللبنية منها في الطفولية ثم تسقط
وتخلفها الأسنان الثابتة التي إذا سقطت لا تحل محلها أسنان جديدة. تنبت الأسنان
اللبنية في فم الطفل من ستة إلى ثمانية أشهر من عمره غالبًا، ولا تزال تنبت إلى
أن يبلغ من العمر سنتين أو سنتين ونصف سنة، وأما الأسنان الثابتة فتنبت من
السنة الخامسة حتى تُستكمَل بين سبع عشرة وخمس وعشرين سنة من العمر، وأما
الأضراس فتظهر بعد جميع الأسنان.
نجد اللحم في بعض الأماكن من الجسم صلبًا مطاطًا، هذه هي الأعصاب،
وهي التي تُسهِّل لنا بسط أيدينا وقبضها، وتحريك فكَّينا، وتغميض عيوننا، ثم
هي التي تؤدي لها أعضاؤنا الحساسة وظائفها.
إن البحث التام في الهيكل الجسدي ليس من أغراض هذا الكتاب، ثم إن
الكاتب نفسه ليس على علم تام به حتى يوفي البحث حقه، ولذلك نقتصر هنا على
البحث في الأعضاء الرئيسية من الجسم.
إن أهم أجزاء البدن المعدة، فإنها لو وقفت عن عملها ولو دقيقة من الزمن
فسرعان ما يتداعى الجسم كله، إن وظيفة المعدة إنضاج الطعام وهضمه وتهيئة
الغذاء للجسم، فالعلاقة بينها وبين الجسم كعلاقة القاطرة بالقطار، ولكن الحمل الذي
نحمله عليها عادة أثقل من أن يتحمله أقوى حيوان ضارٍ، إن العصارة المَعِدية التي
تتولد في المعدة تساعد على هضم الأجزاء المغذية من الطعام، وتفرز الحثالة من
طريق الأمعاء في شكل البول والبراز، ويوجد في الجنب الأيسر من الجوف
البطني الطحال، وفي الأيمن منه المعدة والكبد الذي وظيفته تنظيف الدم وإفراز
الصفراء التي هي نافعة جدًّا للهضم.
يوجد في الجوف الذي تحيط به الأضلاع القلب والرئتان، ومكان القلب بين
الرئتين، ولكنه مائل إلى اليسار أكثر منه إلى اليمين، وعظام الصدر كلها 24
عظمًا، وضربات القلب يمكن الحس بها بين الضلع الخامس والسادس، والرئتان
متصلتان بالقصبة الهوائية، فالهواء الذي نستنشقه يصل إلى الرئتين من طريق هذه
القصبة الهوائية، وهو الذي ينظف الدم، إن من الضروري جدًّا التنفس من
المناخر لا من الفم؛ لكي يصل الهواء من طريق المناخر إلى الرئتين ساخنًا، ولكن
كثيرًا من الناس يجهلون ذلك فيتنفسون بالفم فيتضررون به ضررًا بليغًا، إن الفم
للأكل والشرب لا للتنفس الذي هو وظيفة الأنف.
يتوقف جميع أعمال الجسم ونشاطه على دورة الدم؛ لأنه هو الذي يهيئ
الغذاء للجسم، وينتقي الأجزاء المغذية من الطعام، ويفرز الفضلات من طريق
الأمعاء، وهكذا يحافظ على جرارة الجسم، لا يزال الدم في دورة وجريان في سائر
الجسم من طريق العروق والشرايين، وضربات النبض إنما هي نتيجة لدورة الدم.
إن نبض الشاب اليافع الصحيح الاعتيادي يبلغ نحوًا من 75 مرة في الدقيقة،
ونبض الأطفال أسرع من هذا، كما أن ضربات نبض الشيوخ بطيئة.
إن الآلة الأساسية لتنقية الدم إنما هي الهواء، فإنه إذا عاد إلى الرئتين بعد
دورته الكاملة في الجسم، عاد غير طاهر، أي مشتملاً على عناصر سامة ولكن
(الأكسيجين) الذي نستنشقه من الهواء ينفذ فيه فيطهره وينقيه، كما أن
(النيوتروجين) يجذب السموم ويخرجها بالزفير، وهذا العمل لا يزال جاريًا ليلاً
ونهارًا بلا انقطاع، وبما أن الهواء يؤدي وظيفة مهمة جدًّا في الجسم، يحسن بنا
أن نفرد له بابًا مُنفصلاً.
***
الباب الثالث
الهواء
قوام حياة الإنسان ثلاثة أشياء: الهواء والماء والغذاء، أما الهواء فأهمها
جميعًا؛ ولذلك خلقه الله بمقدار عظيم جدًّا، وبثه في كل مكان ليحصل عليه جميع
الناس بلا ثمن، غير أن المدنية الحاضرة قد جعلت حتى الهواء النقي غاليًا لا يُنال
إلا بالثمن، وذلك لأننا نضطر للحصول عليه إلى أن نذهب خارج المدن، وهذا
يقتضي شيئًا من النفقة، فسكان بمباي مثلاً يجدون الهواء النقي في (ماتهيرن)
وأحسن منه في تلال (مالابار) ، ولكنهم لا يستطيعون أن يذهبوا إلى هذه الأماكن
بدون إنفاق المال، ولذا يصعب القول بأن الهواء النقي ينال مجانًا في العصر
الحاضر كما كان الحال في العصور القديمة.
وسواء وجدنا الهواء مجانًا أو بثمن فإنا لا غنى لنا عنه ألبتة، لقد رأينا آنفًا
أن الدم يدور في الجسم حتى يصل إلى الرئتين، وبعد أن يتطهر فيها بالهواء يعود
إلى دورته ثانية، فنحن نخرج الهواء الفاسد بالزفير، ونستنشق الأكسجين من
الخارج بالشهيق وهو الذي يطهر الدم، وهذا العمل للزفير والشهيق يسمى التنفس
ولا يزال مستمرًّا دائمًا، وعلى استمراره وحده تتوقف الحياة. إن الغريق يموت
لأنه لا يستطيع في داخل الماء أن يخرج الهواء الفاسد ويستنشق الهواء النقي،
وأما الغواص الذي يغوص في الماء ويبقى فيه زمنًا، فذلك لأنه يحمل معه ما يسمى
(بجهاز الغواص) فيتنفس بأنبوبة يتصل أحد طرفيها بالجهاز ويبقى الآخر فوق
الماء فهو يحصل بها على الهواء النقي، ويستطيع أن يبقى في الماء وقتًا طويلاً.
لقد أثبتت التجارب أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون الهواء أكثر من خمس
دقائق، وكم نسمع بالأطفال الذين يموتون في أحضان أمهاتهم، فإن الأم الجاهلة
تضم الطفل إلى صدرها ضمًّا شديدًا حتى ينقطع عنه الهواء فيختنق في مكانه!
وبهذا تعلم شدة حاجة الإنسان إلى الهواء، وإنا على كل حال نجده بدون أن
نبحث عنه هنا وهناك خلافًا للماء والغذاء، فإننا لا نجدهما إلا بالبحث والسعي.
إن التنفس في الهواء الفاسد مكروه ومستقبح مثل شرب الماء الكدر، وأكل
الطعام الوسخ، ولكنا تعودنا أن نتنفس في الهواء الفاسد، الذي هو أكثر فسادًا من
الشراب والطعام. نحن كلنا بالحقيقة عبيد الظواهر، فكل ما نراه ونحس به نهتم به
أكثر بكثير مما لا نراه ولا نحس به، وبما أن الهواء مما لا يُرى بالعين فلذلك لا
نبالي بمعرفة الفساد الذي يجلبه علينا الهواء الفاسد، نحن نشمئز من تناول الطعام
الذي أكل منه إنسان غيرنا، وشُرب الماء الذي أفسده غيرنا بإدخال شفتيه فيه،
حتى إن أولئك الذين ليس لهم حس من التقزز أو الكراهة لهذا يستنكفون أن يأكلوا
ويشربوا القيء مهما جاعوا وعطشوا، بل يفضلون الموت على أن يفعلوا ذلك،
ولكن ما أقل أولئك الذين يفهمون حق الفهم أن الهواء الذي يستنشقونه قد يكون أكثر
الأحيان فاسدًا مسمومًا بما مجَّه الآخرون فيه بتنفسهم، وليس بأحسن حالاً من القيء،
ومما يُتَعَجب منه أن الناس يتجالسون وينامون مجتمعين ساعات طويلة في حُجَر
ضيقة، ويتنفسون في هوائها القتَّال الذي قد أفسدوه هم وأصحابهم! ما أسعد حظ
الإنسان في أن الهواء خفيف ومنبث إلى هذا الحد، وصالح للنفوذ من أضيق المنافذ!
حتى إذا غلقت الأبواب والنوافذ بقي ينفذ إلى الداخل من بعض المنافذ الضيقة،
التي تبقى على كل حال بين الجدران والسقوف، لكيلا يتنشق المجتمعون في
الحجرة المغلقة الهواء المسموم بالتنفس فيه فيموتوا خنقًا. إن الهواء الذي نخرجه
بالزفير يمتزج بالهواء الخارجي، ويتطهر ثانية بعمل الطبيعة المستمر في كل
وقت.
يتيسر لنا الآن أن نعرف السبب الذي أضعف صحة هذا العدد العظيم من
الرجال والنساء، وما هو إلا الهواء الفاسد الذي قد قضى على صحة 99 في المائة
من الناس، فالسُّل وحُمَّى الدق وسائر الأمراض العفنة يسببها الهواء الفاسد.
فأحسن طريقة لاتقاء الأمراض المكث والعمل في الهواء الطلق الذي لا يباريه في
المعالجة وشفاء الأمراض أي طبيب مهما يكن نطاسيًّا حاذقًا. إن السل يعرض من
مرض الرئتين الذي ينشأ من التنفس في الهواء الفاسد، ومثلها مثل القاطرة التي
يوضع فيها الفحم الردي فتخرج من وظيفتها وتغير سيرها؛ ولذلك قالت الأطباء:
إن أسهل العلاج وأنجحه للمسلول هو البقاء في الهواء النقي طول 24 ساعة.
لنعلم أننا لا نتنفس من طريق الرئتين فقط، بل كذلك يدخل بعض الهواء في
أبداننا من طريق المسامِّ التي لا تعد ولا تحصى في جسمنا.
إن من الضروري جدًّا معرفة الطريقة التي يمكن لنا المحافظة بها على نقاء
الهواء وصفائه، يجب أن يعلم كل صبي بمجرد بلوغه سن التمييز قيمة الهواء
النقي، وأنا أُسر غاية السرور إذا اهتم قرائي بمعرفة الحقائق البسيطة حول الهواء
وعملوا بها، وعلموا أولادهم ما علموه وما عملوا به.
ربما كانت المراحيض والمباول التي لم تُبْنَ على أسلوب صحي سببًا جوهريًّا
لفساد الهواء، وقليل من الناس من يعرف الأضرار الجسيمة التي تجلبها هذه
الأماكن، إن أحقر الحيوانات - كالكلاب والسنانير - تحفر بأظفارها حُفرًا تقضي
فيها حاجتها وتغطي البراز بالتراب، فالأماكن الخالية من المراحيض الصحية
الحديثة الطراز ينبغي أن نقلد فيها الكلاب والسنانير.
يجب أن توضع صفيحة أو يبنى حوض في شكل كنيف، ويملأ بالتراب
الجاف أو الرماد؛ لتغطية البراز بعد الفراغ من الحاجة، فإذا فعلنا ذلك فلا تبقى
هناك رائحة قبيحة، ولا يتسلط الذباب على القاذورات فينقل ذراتها إلى أجسامنا.
إن من لم يفقد حاسة الشم بتاتًا، ولم يتعود شم الرائحة الكريهة يعرف شدة العفونة
التي تتصاعد من البراز وما شاكله من الأوساخ التي تترك مكشوفة في الخلاء،
نحن قد نقيء إذا تصورنا وتخيلنا أن طعامنا يمزج بالقاذورات، ولكنا نلفظ الهواء
المملوء قذارة وعفونة بلا مبالاة ناسين هذه الحقيقة الثابتة وهي أن الأمرين كليهما
في درجة واحدة من القبح، ولا فرق بينهما إلا أن الأول محسوس مشاهَد والثاني
ليس كذلك.
يجب أن نهتم أشد الاهتمام بنظافة المراحيض ومجاري المياه نظافة تامة، نحن
نستحي من أن ننظف مراحيضنا بأنفسنا مع أن الأحرى بنا أن نستحي من استعمال
الكنُف الوسخة. هل يعيبنا أن ننقل بأيدينا المادة التي خرجت من بطوننا أنفسنا،
ولا يشيننا أن نستخدم غيرنا لنقلها؟ يا للعجب كيف لا نستحي من هذا العمل
المعيب؟! ليس هنالك أي مبرر لجهلنا عمل تنظيف الكنف وتعليمه لأبنائنا، يجب
نقل المواد القذرة وإلقاؤها في حفرة عميقة قدر ذراع ثم تغطيتها بتراب كثير، وإن
كنا متعودين على الذهاب للحاجة في الخلاء، فكذلك يجب أن نحفر حفرة بأيدينا أو
أرجلنا ونغطيها بعد قضاء الحاجة بالتراب.
كذلك نحن نُفسد الهواء بالبول في كل مكان بدون أي تمييز، ينبغي أن نقلع
عن هذه العادة الوسخة من أصلها، إذا لم يكن لدينا مكان مُعَدٌّ لهذا الغرض خاصة،
فلنذهب إلى أرض جافة بعيدة عن البيت فنبول فيها ونغطي البول بالتراب.
لا ينبغي إلقاء القاذورات في حفرة عميقة جدًّا؛ لأن هذا يمنع حرارة الشمس
من النفوذ إليها، وكذلك هي تتسرب إلى باطن الأرض فتفسد مياه الآبار والأنهار
والعيون المسلوكة في أعماقها.
وكذلك عادة البصق بلا مبالاة في الأقنية والممرات عادة قبيحة جدًّا، إن
البصاق سيما بصاق المسلول شديد الخطر؛ لأنه يحتوي على الجراثيم السامة التي
تطير في الهواء فيستنشقها الآخرون؛ فينشر المرض. يجب أن تكون المباصق في
داخل البيت، وإن اضطررنا إلى أن نبصق ونحن مارِّين في الطرق فلنختر له
المكان الذي يوجد فيه تراب جاف يتشرب البصاق ولا يحدث منه ضرر، لقد
أوجب الأطباء أن يبصق المسلول دائمًا في المبصقة المحتوية على أدوية مطهرة،
لأنه وإن بصق على الأرض الجافة، فإن جراثيم مرضه تصعد وتنتشر في الهواء
مع الغبار، وعلى كل حال فإن البصق في كل مكان بلا تمييز عادة قبيحة قذرة،
كما أنها خطرة.
يلقي بعض الناس الحبوب والأطعمة والخضراوات وغيرها من المواد التي
فسدت في كل مكان يتفق لهم، هذا أيضًا يُفسد الهواء ويجعله سببًا للأمراض، ولو
أنهم دفنوا هذه الوساخات في الأرض لسلم الهواء من الفساد، ولاستفادوا سمادًا جيدًا،
والحاصل أنه لا ينبغي إلقاء أي مادة فاسدة في العراء حرصًا على سلامة الهواء،
إن هذا الاحتياط لسهل جدًّا نستطيع العمل به إذا اهتممنا بأمر الصحة أدنى اهتمام.
لقد علمنا الآن أن عاداتنا القبيحة هي التي تفسد الهواء، ورأينا الطريقة التي
يمكن بها المحافظة على نظافته، وها نحن الآن نبحث في كيفية التنفس.
ذكرنا في الباب السابق أنه يجب التنفس بالأنف لا من طريق الفم، ولكن
الذين يعرفون هذه الطريقة الصحيحة للتنفس قليل من الناس، فقد تعودوا العادة التي
تحدث ضررًا بليغًا وهي التنفس بالفم؛ لأن الهواء إذا كان باردًا واستُنشق بالفم
أحدث الزكام وأبحَّ الصوت. ثم فوق هذا هو يوسع المجال لذرات الغبار المنتشرة
في الجو للدخول في الرئتين. وهذا كما لا يخفى يحدث ضررًا عظيمًا، ويمكنك أن
ترى ذلك في لندرة مثلاً في شهر نوفمبر، فالدخان الذي يتصاعد من مداخن
المصانع الكبيرة يمتزج بالضباب الكثيف فيكَوِّن خليطًا أصفر يحتوي على ذرات
صغيرة جدًّا من الهباء يمكن مشاهدتها في بصاق الذين يتنفسون في هذا الهواء
بالفم، وللتحرز من ذلك ترى هناك كثيرًا من النسوة اللاتي لم يتعودن التنفس بالأنف
وحده، يضعن على وجوههن شيئًا مثل النقاب يؤدي وظيفة الغربال لهذا الهواء
الفاسد، وإنك لو فحصت هذا النقاب فحصًا دقيقًا لوجدت فيه أيضًا ذرات هذا
الهباء، مع أنه لا حاجة إلى مثل هذا الغربال؛ لأن الله سبحانه قد وهبنا جميعًا من
لدنه غربالاً طبيعيًّا داخل أنفنا أحسن من هذا الغربال الصناعي، فالذي يتنفس
بالمناخر ينظف هذا الغربال نفسه ويغربله، وكذلك يسخنه أثناء سيره قبل الوصول
إلى الرئتين؛ ولذلك يجب على كل الناس أن يتعودوا التنفس بالأنف وحده، وهذا
ليس فيه أدنى صعوبة إذا أخذنا على أنفسنا أن نغلق الفم إغلاقًا محكمًا في جميع
الأحيان إلا عند التكلم.
والذين تعودوا ترك أفواههم مفتوحة دائمًا يمكنهم التخلص من هذه العادة القبيحة
بربط عصابة على الفم عند النوم؛ ليضطروا إلى التنفس بالأنف وحده، وأما في
اليقظة فيجب عليهم التنفس في الهواء الطلق كل صباح ومساء نحو عشرين مرة.
كل إنسان يستطيع أن يتمرن على هذه الرياضة الخفيفة السهلة بدون أي كلفة، ثم
يرى بنفسه كيف يتقوى صدره ويتسع بسرعة عجيبة! وإنك لو قست الصدر قبل
البدء في هذه الرياضة ثم قسته بعد عشرين منها تتعجب من اتساعه الكبير في هذه
المدة الوجيزة، مع أنه ليس فيه أدنى غرابة، فإن الإنسان يضطر أثناء الرياضة
إلى التنفس الشديد السريع، وهذا ما يؤدي إلى اتساع الصدر هو السر في رياضة
(ساندو دوميل) Dumbbel، Sandous.
فإذا علمنا كيفية التنفس يجب أن نحرص كذلك على استنشاق الهواء النقي
طول النهار والليل. لقد تعودنا عادة قتالة، وهي حبس أنفسنا طول النهار في
البيت أو الإدارة، ومبيتنا في حجر ضيقة مغلقة الأبواب والنوافذ. ينبغي أن نبقى
في الهواء الطلق أكثر ما نستطيع، وعلى الأقل أن ننام في الرواق أو في الساحة
تحت ضوء القمر، والذين لا يستطيعون ذلك عليهم أن يتركوا أبواب الحجرة
مفتوحة في سائر الأوقات، إن الهواء غذاؤنا مدة الأربع والعشرين ساعة من اليوم
والليلة، فلماذا نحن نخاف منه؟ إن من الخَرَق أن نتوهم أن استنشاق النسيم البارد
يحدث الزكام والبرد، لا ريب أن الذين أفسدوا رئاتهم بعادتهم القبيحة من النوم في
الحجر المغلقة أبوابها ربما يصابون بالبرد إن غيروا عادتهم فجأة، ولكن مع ذلك لا
ينبغي لهم أن يخافوا من البرد؛ لأنه إن أصابهم لا يلبث أن يزول قريبًا، لقد شيدت
البيوت للمسلولين في هذه الأيام بحيث يدخل فيها الهواء النقي كل وقت.
نحن كلنا نعرف تلك الداهية الدهماء من الأوبئة التي لا تزال تعاودنا معشر
الهنود في كل آونة وحين، وقليل منا من يعرف أن هذه الأوبئة ليست إلا نتيجة
لإفسادنا الهواء، ثم استنشاقنا إياه على فساده وسمومه. لنعلم أن الهواء النقي إن
استنشق بالطريقة العلمية يفيد حتى ضعاف البنية جدًّا. إننا إن نحافظ على نقاء
الهواء، ونتعود استنشاق الهواء النقي وحده، فإننا بلا ريب نحمي أنفسنا من كثير
من الأمراض الخبيثة المعدية.
إن كشف الوجه في أثناء النوم ضروري كضرورة النوم في الهواء الطلق
ولكن قد تعود كثير من الناس أن يغطوا وجوههم أثناء النوم فيستنشقون الهواء
المسموم الذي يخرجونه من أجوافهم، ولو لم يكن بعض الهواء يدخل إليهم من منافذ
الغطاء لماتوا اختناقًا في مكانهم، غير أن هذا الهواء القليل لا يكفي لبقاء الصحة.
إن كنا نغطي الوجه خوفًا من البرد فينبغي أن نكتفي بغطاء الراس بطرف من
الثوب أو أن نلبس طاقية (أو كوفية) النوم، ولكن يجب أن يبقى الأنف مكشوفًا
في جميع الأحوال والأوقات.
إن الهواء والنور مرتبطان ارتباطًا شديدًا، ولذلك يحسن بنا أن نقول هنا كلمة
في قيمة النور أيضًا: إن النور ضروري للحياة كضرورة الهواء لها، ولذلك
وُصفت جهنم بأنها مظلمة حالكة. إن المكان الذي لا ينفذ إليه النور لا يمكن أن
يكون نقي الهواء، فإننا إذا دخلنا حجرة مظلمة نشم حالاً رائحة الهواء الفاسد بشدة،
ولا نستطيع أن نرى شيئًا في الظلام، فهذه الحقيقة نفسها تثبت جليًّا أن الله تعالى
أراد منا أن نعيش ونعمل في النور، إن الطبيعة قد هيَّأتْ من الظلام في الليل القدر
الذي نحتاج إليه، ولكن تعوَّد مع ذلك كثير من الناس الجلوس والنوم في السراديب
تحت الأرض، حيث لا يصل النور والهواء حتى في أَحَرِّ الأيام وأنورها، إن
أولئك الذين يحرمون أنفسهم من الهواء والنور تجازيهم سنن الطبيعة جزاء وفاقًا،
فيصابون بنحافة الجسم، واصفرار الوجه، وقبح المنظر.
يصف كثير من أطباء الغرب الآن لمرضاهم الاستحمام الهوائي والاستحمام
الشمسي بدلاً من الأدوية، وقد شُفي ألوف من المرضى بتعرضهم للهواء والشمس
بدون أن يستعملوا أي دواء، فلذلك يجب علينا أن نترك جميع أبواب بيوتنا
ونوافذها مفتحة دائمًا؛ ليدخل فيها النور والهواء بكثرة.
رب سائل يسأل: إذا كان الهواء والنور ضروريَيْن إلى هذه الدرجة فلماذا لا
يبدو الضرر البين على أولئك الذين يعيشون ويشتغلون في الحجر المظلمة؟ إن
الذين تدبروا في المسألة مليًّا لا يسألون هذا السؤال.
يجب أن يكون مطمح أنظارنا المثل الأعلى من الصحة، والوصول إليه بجميع
الوسائل المشروعة، لا مجرد العيشة كيفما أمكن. ولقد ثبت بطريقة لا تحتمل الريب
أن قلة الهواء والنور تجلب الأمراض؛ ولذلك ترى سكان المدن أضعف من سكان
القرى، قضية مطردة، وما ذلك إلا لأن نصيب سكان المدن من الهواء والنور أقل
من نصيب سكان القرى، فالهواء والنور على هذا من أعظم لوازم الصحة، فيجب
على كل واحد أن لا يتهاون في أمرهما، بل يتذكر دائمًا كل ما قلناه في المسألة،
ويعمل بموجبه بأقصى ما يستطيع.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: جرى المؤلف هنا على رأي فلاسفة اليونان والهند والعرب في العناصر، وزاد (الأثير) وهو عند علماء هذا العصر بالكون أصل ومنشأ الوجود، ولكنه مفروض فرضًا غير ثابت علمًا، ويعللون به كل ما يدل على وجود الخالق سبحانه من نظام العالم وأطواره.(26/746)
الكاتب: محمد عبده
__________
التربيةالتي يكون بها الإنسان إنسانًا
والجماعة الكبيرة أمة
للأستاذ الإمام
ملخص خطاب ألقاه في احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية
سنة 1314 هـ
إن الجمعية لم تأخذ على عاتقها أن تساعد كل عائلة فقيرة في الأمة؛ لأن ذلك
فوق استطاعتها، بل وضعت لها قانونًا اتفق عليه جميع أعضائها، وهو قد اشتمل
على شروط معينة يجب أن تراعيها الجمعية عند إعانة من تريد إعانته من الفقراء.
ثم جعلتْ - كما قدمتُ - أهم مقصد لديها إصلاح حال الناشئين من أولئك
الضعفاء المساكين بالتربية والتهذيب، إذ الواجب علينا أن نعتني قبل كل شيء بما
تعتني به الأمم الأخرى الناجحة قبل غيره، وهي لم تعتن بشيء أكثر من التربية
وتحسين أخلاق العامة، وها نحن أولاء نرى فساد الأخلاق عامًّا ومصائبه مشاهَدة
للجميع.
إذا رأينا مجالاً للفخار افتخرنا بآبائنا وأجدادنا الأولين، وإذا حاسبنا أنفسنا
رجعنا بالملامة والذم على آبائنا الأقربين، وفي ذلك الفخار كبير العار، وفي هذا
اللوم عظيم اللوم؛ لأننا نحن قد أهملنا وقصرنا وأضعفنا أهم ركن وهو التربية.
أهملنا فتركنا ذلك الفخار التالد يذهب هباءً منثورًا، فلم نتدارك من آثاره شيئًا،
وزدنا الطينة من إهمال أسلافنا الأقربين بلة بإهمال آخر، فقوضنا ما كان باقيًا من
آثار ذلك الفخار، فكان لنا ذلك العار وهذا الشنار.
إن الإنسان لا يكون إنسانًا حقيقيًّا إلا بالتربية، وليست هي إلا عبارة عن
اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحِكَم والتعاليم، وهي
عبارة عن السعادة الحقيقية، تعلم الإنسان الصدق والأمانة ومحبة نفسه، فإذا تربى
أحب نفسه لأجل أن يحب غيره وأحب غيره لأجل أن يحب نفسه.
إذ تربى الإنسان أحس في نفسه أنه سعيد بوجود الآخر معه، ولكن نحن في
وسط لا يحس فيه أحدنا إلا بأنه شقي بوجود غيره، وقد ذهبت الثقة بيننا أدراج
الرياح، وخلفتها الشكوك والريب والظنون الأثيمة المولِّدة للوساوس والأوهام، ولا
شقاء للمرء أعظم من وجود ضميره في مثل هذا الشقاء والحسبان.
ولكن لو كنا مُتَربين لانبثَّ فينا إحساس واحد يؤلف بين شعورنا وحاجاتنا،
وحينئذ يحس كل فرد منا بأن عليه وظيفة يؤديها لنفسه ولغيره.
إن بلادنا ليست بلاد الجوع القتَّال، ولا بلاد البرد القارس المميت، ولا بلاد
الشقاء التي لا ينال الإنسان فيها قوت يومه إلا بالعذاب الأليم، بل نحن في بلاد
رزقها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يُسهِّلان على كل عائش فيها
قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها ويا للأسف مُنِيَتْ مع ذلك بأشد ضروب
الفقر: فقر العقول والتربية.
ليست القوانين التي تفرض العقوبات على الجرائم وتقدِّر المغارم على
المخالفات هي التي تربي الأمم وتصلح من شؤونها، فإن القوانين لم توضع في
جميع العالم إلا للشواذ والهفوات والسقطات، وأما القوانين العامة المصلحة فهي
نواميس التربية الملِّيَّة لكل أمة.
ونحن على نموذج هذه التربية قد جرينا في خطة التعليم بمدارس الجمعية
الخيرية [1] ، ونتمنى أن يصبح هذا النموذج يومًا ما عامًّا بين جميع أفراد الأمة
المصرية، وإذا لم توجد التربية على مثل هذا النمط فلا حياة للأمة ولا سعادة.
إن العلم الحقيقي هو الذي يعلم الإنسان العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من
أفراد جامعته، فهو إذًا يُعلم الإنسان من هو ومن معه، فيتكون من ذلك شعور واحد
وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد.
وسنة الله في خلقه أن توجد الروابط في العائلات و (تنتقل) منها إلى
الفروع ومنها إلى الأصول القومية ومنها إلى مجموع الأمة التي هو منها، إذا
فلابد من الوقوف على كُنه هذه الروابط ومعانيها، وإذا تمكن هذا العلم من نفس
الإنسان تعلم كل شيء، وبحث عن طرق النجاح في كل شيء. ولكن كيف يوجد
الاتحاد مع هذا الفساد الذي نشاهده عامًّا في أخلاق الأمة، وقد انعكست آية
الوجدان فإذا الإنسان أجفى ما لديه الأقرب فالقريب فالبعيد فالأبعد؟
ألا إن الاتحاد ثمرة لشجرة ذات فروع وأوراق وجذوع وجذور هي الأخلاق
الفاضلة بمراتبها، فعلى المسلمين إذا أردوا الاتحاد أن يربوا أنفسهم تربية إسلامية
حقيقية ليجنوا تلك الثمرة، وبغير ذلك كل أمل باطل، وكل الأماني أحلام أو أوهام
وكل احتجاج بغير سعي عجز.
الناس في كل الأمم أكفاء في التمثيل ولا نقص في الدنيا إلا من جهة العقول
والأخلاق وهي لا تكمل إلا بالتربية، وما وراء ذلك من العلوم لا يَبُثُّ فينا غير
اللقلقة والهذيان.
وإن الجمعية الخيرية الإسلامية قد شرعت في طريقة ابتدائية للتربية، ولديها
أمل أن تصل إلى الطريقة الانتهائية، طريقة العمل لا طريقة العلم المعيبة التي
نرى مثالها في الذين يأتون إلينا كأساتذة عندما نعلن عن حاجتنا لمعلمين وليس لديهم
ما يؤهلهم للتربية والتهذيب، ولست أقول ذلك قدحًا في طريقة التعليم الجارية بين
ظهرانينا، ولكنني أقول بالإجمال: إنها غير ملائمة لمنهاج جمعيتنا التي تحسب أن
تصلح شؤون الناشئين من الطبقات النازلة.
نحن نتمنى تربية بناتنا، فإن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (الأحزاب: 35) الآية، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تُشرك الرجل
والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية، فكان بذلك ترك البنات يفترسهن الجهل،
وتستهويهن الغباوة من الجُرم العظيم.
انظروا إلى المرأة حين تقول لابنها مثلاً إذا أرادت أن تمنحه شيئًا: خذ هذا
وأخفه عن الأعين حتى لا يراك أخوك، فكم من نقيصة علمته بمثل هذا القول؟
علمته ثلاث خصال هن الموبقات المهلكات: الأثرة والدناءة والسرقة، وربما
توصيه بإنكار ما أعطته إذا سأله أخوه، فتعلمه بذلك أقبح خصال السوء والفساد
وهو الكذب، وقد لا يتعلم الطفل عندما يراد تمرينه على النطق والكلام غير ألفاظ
السباب والشتائم القبيحة، فيشب الطفل متعودًا على أن تلفظ شفتاه كل كلام قبيح،
لا يعبأ بماذا ينطق ولا يبالي بما يقول.
وإنني أذكر حديثًا شريفًا أو أثرًا بمعناه هو: (إن الرجل لينطق بالكلمة لا يرى
لها بالاً فيهوي بها في النار أربعين خريفًا) [2] .
فتأملوا في فظاعة الأخلاق التي يشب عليها أبناء وبنات العامة من الأمة، ولا
خلاص لنا من هذه الورطة الشنيعة إلا بالتربية الكاملة الشاملة للأبناء والبنات، وأن
النساء الجاهلات والرجال الجاهلين لا يمكن أن تتكون من بينهم أمة ولا جمعية
وعلى الخصوص إذا أصبحت العلائق والروابط الطبيعية مُهدَّة بين الناس كما
نشاهده بيننا الآن.
ولقد استنتجت بالاستقراء منذ كنت قاضيًا في إحدى المحاكم الجزئية أن نحو
(75) في المائة من القضايا بين الأقارب بعضهم مع بعض بما لم يَحمِل عليه غير
التباغض وحب الوقيعة والنكاية، فهل من المعقول أن يكون الفساد في العلائق
الطبيعية إلى هذا الحد من التصرم، ونتساءل عن تصرم العلائق الوطنية؟ هل
يمكن بعد أن نفقد الروابط الضرورية بين العائلات أن نبحث عن الروابط للجامعة
الكبرى، أو ليس هذا كمن يطلب الثمر من أغصان الشجر بعد ما جذَّ أصولها
وجذورها، وقطع أوصال عروقها، وغادرها قطع أخشاب يابسة.
اللهم إن كنا نريد الحياة الطيبة والسعادة الدائمة فلنعمل لإصلاح شؤون
الناشئين بالتربية المثقِّفة المهذِّبة، ولنجهد أنفسنا في طريق استكمال الأخلاق
الفاضلة، وكلما زدنا في سبيل ذلك سعيًا توَفَرَ لدينا حب تعضيد هذه الجمعية ونَمَتْ
ثروتها، فأدت وظيفتها للأمة كما ينبغي، ونسأل الله أن يصلح ما بيننا من فساد،
وأن يوفقنا جميعًا إلى ما به نجاحنا وفلاحنا وسعادتنا. اهـ.
(المنار)
في هذا الخطاب حجة على المفسدين المقطِّعين لروابط الأمة بدعوتها إلى ترك
الزي الوطني وتقليد الإفرنج حتى في لبس البرنيطة وحرية الفسق والفجور.
__________
(1) كذا كان يريد رحمه الله، ولكن لم يتم له ما يريد، لقلة الرجال وقلة المال.
(2) روي هذا المعنى في عدة أحاديث أقربها إلى هذا اللفظ (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا بسند صحيح، ومنها ما رواه أحمد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا؛ ليضحك القوم، وإنه ليقع بها أبعد من السماء) .(26/756)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الثورة السورية والحكومة الفرنسية
والتنازع بين الشرق والغرب
(8)
موسيو (جوفنيل) وسياسته
من أساليب السياسة الأوربية التي صارت معروفة بين جميع الباحثين في
الشرق أن الجرائد والشركات البرقية تُخفي عن الشعوب ما يأتيه رجال الاستعمار
من المنكرات، وأن تبدل سيئاتهم حسنات؛ خوفًا من حملات الأحزاب المعارضة
للحكومة ومن انتقاد مستقلي الفكر أو أنصار الفضيلة، وقلما تصل إلى الرأي
الأوربي العام أو الخاص بدولة استعمارية حقيقة ما ترهق به البلاد من المظالم
والمآثم، إلا أن يكون المُبلِّغ لها لسان ثورة عامة أو قريبة من العامة في تعذر
إنكارها. لهذا أقول لكل من يسألني عن رأيي في ثورة سنة 1919 على الإنكليز
في مصر: إن أكبر فائدتها تكذيب رجال الإنكليز والجرائد المشايعة لهم في دعوى
اغتباط جميع المصريين - ولا سيما الفلاحين - بالسلطة البريطانية في بلادهم، وإنما
المتبرمون والطاعنون فئة قليلة من المتطرفين أصحاب الأهواء الشخصية أو
الحزبية.
كذلك كان من تأثير ثورة سورية الحاضرة وما كان من التخريب والتدمير في
دمشق أن علم الشعب الفرنسي بالإجمال شيئًا يشين سمعة فرنسة وصِيتَها، ويحمِّلها
خسائر تنوء بها خزينتها، ولم تعد دعاية شركات (هافاس) البرقية، وخلابة جرائد
الاستعمار الفرنسية تستطيع إخفاء هذه الفظائع أو تأويلها، فأرادت الحكومة
الجمهورية تدارك هذا الخطر الملصق بسلطة المندوب السامي العسكري (الجنرال
سراي) الذي أوبقه الكائدون له من قومه حتى حملوه على ما فعل في دمشق
وغيرها، فأخرجته من سورية واستبدلت به مندوبًا من أذكى رجال السياسة لديها،
وهو موسيو (جوفنيل) الكاتب الصحفي والعضو الفرنسي في جمعية الأمم، عسى
أن تفعل السياسة ما لم يفعل الحديد والنار، وتغني الكياسة ما لم يغن الدرهم
والدينار، وماذا فعل (جوفنيل) ؟
شغل نفسه زمنًا طويلاً في درس المسألة في باريس، ثم بمعالجتها في لندن،
ثم بدرسها في مصر، ثم بدرسها في سورية، وسمع فيهما أقوال الصادقين
والمنافقين، وغلاة التعصب الديني والطائفي من اللبنانيين. ثم بمعالجتها في
فلسطين، ثم بمعالجتها في أنقرة عاصمة الترك. وقد مرت بضعة أشهر على ندبه
لهذه المعالجة على إثر الفظائع التي اقتُرفت في دمشق، فاهتز لهولها الشرق
والغرب، ولم تزدد نيران الثورة إلا اشتغالاً، ولم تزدد البلاد إلا خرابًا، ولم يزدد
المشاقُّون فيها إلا شقاقًا، ولم تزدد فرنسة إلا خسارًا لمالها ولرجالها ولصيتها،
ولماذا؟
إنه أعد لمعالجة المسألة ما لا تحتاج إليه، ولا يتوقف علاجها عليه، والعلاج
الوحيد نصب عينيه ولكنه لم يره، وبين يديه ولكنه لم يمسه، وكان يجب أن يُعوِّل
عليه وحده، بيد أنه فكر في كل شيء دونه ولم يفكر فيه، فكر في أن إرضاء
الإنكليز ضروري، وفي أن إرضاء الكاثوليك ضروري، وفي أن إرضاء الترك
ضروري، وفي أن إرضاء ابن السعود ضروري، ولم يفكر في إرضاء السواد
الأعظم من أهل سورية المسلمين السنيين، والشيعة والدروز، والعلويين،
ومعتدلي المسيحيين، وإنما قدر ودبر وفكر في وسائل التفريق بينهم، وفكر في
التهديد، وفي الوعد والوعيد، نعم إنه وعد وأوعد، وقال: ما عندي إلا السلم لمن
يريد السلم، وإلا الحرب لمن يريد الحرب، وأنه يجب على الثوار أن يُلقوا
السلاح ويستسلموا بدون قيد ولا شرط، وإنني أمنح.. . وأمنع.. . وأعفو وأصفح،
وأضر وأنفع، وأمُنّ بالحياة، وأؤَمِّن على الأرواح. وفاته أنه لا يوجد سوري
ولا شرقي يصدق قول سياسي أوربي، وأن الذين يبذلون أنفسهم ونفائسهم في
سبيل الحرية والاستقلال، ولم يبالوا برؤية دورهم وقصورهم كدارس الأطلال، لا
يرغبون في حياة ذليلة يمُنُّ عليهم بها مستعمر أجنبي منًّا، ويمنحها إياها - إن
صدق - هبة وفضلاً. ولعنة الله على من يحب مثل هذه الحياة من الأنذال، ولن
يكونوا إلا من أخساء الأنذال.
كان مَثَل (موسيو جوفنيل) فيما ذكرنا من سعيه، كمثل صاحب الكنز مع
الخضر في المبالغة في طلبه، فقد حكي في أساطير الأولين أن الخضر (عليه
السلام) مر برجل فلاح فقير يجهد نفسه في أرض يصلحها للزراعة، فقال له:
علام هذا التعب الكبير الذي لا يأتي إلا بربح صغير، والثروة واسعة بين يديك
وأنت لا تدري؟
قال: ما هي؟ قال: إن في أرضك هذه كنزًا قريب المنال، يغنيك ويغني
ذريتك من بعدك، قال: أين هو؟ أين هو؟
قال الخضر: خذ هذه القوس المعلقة في جدارك وضع فيها سهمًا وألقه أمامك
ثم احفر حيث وقع يظهر لك الكنز.
فلما ولى قام الرجل وأخذ القوس، فرأى وترها ضعيفًا غير مشدود، فألقاه،
والتمس لها وترًا جديدًا شده أحكم الشد، وأخذ سهمًا ففوقه وألقاه وحفر حيث وقع،
فلم يجد شيئًا، فظن أن السبب تقصيره في الرمي، فأخذ سهمًا آخر، ونزع في
القوس أشد النزع، ورمى فبلغ سهمه مكانًا أبعد من الأول؛ فحفر فلم يجد شيئًا،
فقال: لعل الكنز في غير هذه الجهة التي ذكرها الخضر، فما زال يرمي ويحفر
حتى حفر جوانب الأرض البعيدة كلها، وترك المكان القريب الذي أمامه وهو الذي
أشار إليه الخضر.
فلما عاد الخضر من سياحته مرَّ به فإذا هو قد أعيا من التعب ويئس من الكنز
وعاد إلى عمله الأول، فقال له الرجل: قد غششتني وأتعبتني زمنًا طويلاً في
الرمي والحفر، وأنا لم آلُ جهدًا، فقد غيرت وتر القوس وأحكمت شده مرارًا
وفعلت وفعلت كما ترى.
فقال الخضر: إنك فعلت كل شيء إلا الذي قلته لك، أنا قلت لك: خذ هذه
القوس المعلقة وضع فيها سهمًا وألقه أمامك واحفر حيث تقع تجد الكنز، وأنت لم
تفعل هذا.
ثم أخذ الخضر القوس، وكانت قد عادت كما كانت من كثرة الاستعمال،
ورمى بها سهمًا من غير شد ولا جهد، ولا إغراق في النزع، وقال للرجل: احفر
ههنا، فحفر فلم يلبث أن ظهر له الكنز بأقل عناء.
إن (موسيو جوفنيل) لم يعدم ناصحًا صادقًا كالخضر، وإن للإنسان (خضرًا)
من وجدان الحق والعدل هو أخلص نصحًا من (خضر) الأولياء والقديسين الذي
يتناقل كثير من المسلمين والنصارى أخبار ظهوره لبعض الناس وإسعاده لهم،
(ومسيو جوفنيل) وهو لم يُزيِّل بين نصيحة الصادقين وخديعة المنافقين، وكان بما
اشتهر من ذكاء قريحته وسعة تجربته جديرًا بأن يفضل نصح هذا الخضر الذي يُهينم له المرة بعد المرة: دع الأهواء السياسية، وتقاليد الدولة الاستعمارية. وابحث
في هذا الوطن السوري ذي التاريخ المجيد تاريخ الأنبياء والمرسلين والشهداء
والصالحين، وحضارة العرب الأمويين، وملك نور الدين وصلاح الدين - عن ذلك
الكنز الذي به سعدوا وأسعدوا العباد، وبه عمروا البلاد، فهو يغنيك عن كل ما
بذلت من الجهد ولا يغني عنه شيء.
ذلك الكنز المدفون، والسر المصون، هو الحق والعدل وتبادل المنافع
بالتراضي، حق سورية في الحرية القومية والاستقلال الوطني الذي يجب أن
يتساوى فيه الفرنسي والسوري، وأن تكون الثورة في طلبه على حكومة أجنبية،
أشرف منها على حكومة وطنية، والعدل في الحقوق بين جميع الملل والنحل على
سواء بدون تفرقة بين الأولياء والأعداء، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8)
أي: ولا يحملنكم بغض قوم واحتقارهم على ترك العدل فيهم، بل اعدلوا فالعدل
أقرب للتقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي: عالم
ومُطَّلع على دقائقه وخفاياه.
لقد كان ينبغي "لمسيو جوفنيل" أن يعلم أن مسلمي سورية الشمالية غير راضين
عن أعمال الإنكليز في سورية الجنوبية (فلسطين وشرق الأردن) ولا غافلين عن
خطرهم على العراق، وأنهم فوق ذلك غير آمنين منهم على الحجاز وسائر جزيرة
العرب، وأن يعلم أن جمهورية أنقرة التركية، صارت أبعد من جمهورية فرنسة
عن الأمة العربية؛ لطمعها في أهم بقاع العراق وسورية، مع قطعها لرحم الأخوة
الإسلامية. فهذه فرصة سانحة لفرنسة إذا أرادت أن تتودد إلى العرب والمسلمين
بما يناسب الطور الجديد الذي دخل فيه الشرق توددًا صحيحًا لا كيد فيه ولا خداع،
لا كإظهار التودد أخيرًا لملك الحجاز وسلطان نجد، ولا كإظهار التودد قبله للخلافة
التركية، وأعني بهذا التودد أن تسبق إلى عقد اتفاق مع سورية جارة الحجاز ونجد،
وأول قطر فتحه الصحابة، ومهد الحضارة لأول سلطنة (إمبراطورية) عربية
إسلامية، على قاعدة الاستقلال المطلق والتعاون المتبادل.
ألا فليتذكر (موسيو جوفنيل) أن الشرق قد استيقظ، وأن صداقة ثلاثمائة مليون
ونيف فيه أنفع لفرنسة من صداقة ثلاثمائة ألف كاثوليكي في لبنان، وأن العدوان
على ثلاثة ملايين من المسلمين في سورية، وسلب استقلالهم، وتخريب ديارهم
يسوء ثلاثين مليونًا من المسلمين الخاضعين لفرنسة وهم يدينون دين الإسلام
ويتكلمون كالسوريين بلغة القرآن، كما يسوء ثلاثمائة مليون مسلم في سائر أقطار
الشرق. وإذا كان لم يعرف هذا فلا يصعب عليه أن يبحث عما كتبت الجرائد
الهندية في كارثة سورية.
إن سياسة إثارة العصبية والعداء بين المسلمين والنصارى في سورية كانت
معقولة ولم تعد اليوم معقولة، فإذا تركتها فرنسة رضي نصارى سورية ولبنان
بحقهم حينئذ أن يزيدوهم على حقهم والمسلمون لا يأبون عليهم، وأما العداوة فلا
خير فيها لهم ولا لفرنسة، وحسبها خسارة ستة مليارات أو أكثر في سورية وخسارة
صيت فرنسة الأدبي والمدني.
كتبت جل هذا المقال منذ عدة أشهر، وها أنا ذا أختمه، ولم يبدُ من الرجل ما
يدل على اهتدائه إلى حل عقدة سورية، فكيف يُرجى منه أن يبتكر لفرنسة سياسة
جديدة تُحيي بها مجدها، وتسابق الشعوب التي كانت وراءها فصارت أمامها؟
ولو فقه (مسيو جوفنيل) هذه الحالة، وانتهز هذه الفرصة، لأمكنه أن يقنع
وزارتي المستعمرات والخارجية في باريس أنه لا يزال في الإمكان السير في
سورية على سياسة جديدة تصلح بها ما أفسده مَنْ قبله من المفوضين والمندوبين
العسكريين، وتكون لفرنسة بها المنزلة العليا لدى الأمة العربية وجميع شعوب
المسلمين، فقد زالت زعامة المسلمين من الترك، وعادت إلى أهلها العرب،
وستدخل في طور نظامي جديد تكون به قوة كبيرة لمن يصادقها، وبلاء عظيمًا
على مَنْ يناوئها، وإذًًا لترك التهديد والوعيد، والاتكال على النار والحديد، وسلك
هذا المنهج الجديد قبل أن يسبق دولتَه إلى هذه السياسة تلك الدولةُ التي مازالت
تسبقها في كل ميدان، من قبل ظهور نابليون الكبير إلى الآن.
__________(26/760)
الكاتب: سعد زغلول
__________
نكبة سورية
وما قيل في إعانة منكوبيها
قد كتُب في المسألة السورية من المقالات ونظم فيها من الشعر وأُلِّفَ من
الرسائل ما يتألف منه عدة أسفار، وإن من أبلغ ما نُشر من النثر نداء رجل مصر
وزعيمها الأكبر سعد باشا زغلول ونداء جمعية الرابطة الشرقية، وقصيدتا أحمد
شوقي بك وخير الدين أفندي الزركلي، وقد نشرنا القصيدة الأولى في الجزء
الثامن، وإننا ننشر هذا النداء والقصيدة الثانية هنا تخليدًا لهما:
***
نداء دولة الرئيس سعد باشا لمصر لإعانة أختها سورية
(سوريا، التي تربطنا بها روابط وثيقة من تاريخ، ولغة، ودين، وعادة،
وجوار، نزلت بها هذه الأيام حوادث هائلة، تقشعر من هولها الأبدان، ونوازل
جائحة تنخلع من بشاعتها القلوب، وشرور من أفظع ما يرتكبه إنسان ضد إنسان!
منكرات ارتكبها عمال حكومة الانتداب ضد محكوميهم الآمنين فأزهقوا الكثير من
أرواحهم البريئة، وأراقوا الغزير من دمائهم الطاهرة، وحرقوا كثيرًا من قراهم
وبيوتهم، وعَفَوْا كثيرًا من آثار مدينتهم الفاخرة، ورَمَّلُوا الجم الغفير من نسائهم،
ويتموا العدد العديد من أطفالهم، وصيروا كثيرًا من السكان بلا سكن يؤويهم، ولا
غطاء يغطيهم، ولا خبز يتبلغون به! ! ! وبهذه الآثام أذلُّوا شعبًا كان عزيزًا،
وأسلموه للعدم والشقاء، وأفهموا الناس جميعًا أن حكومة الانتداب لم تقم على ما
زعموا لمصلحة المحكومين، بل لمصلحة الحاكمين [1] ، ووصموا اسم فرنسا
المجيد في الغرب وفي الشرق، وصمات لا يمحوها إلا إنزال أشد العقاب بهم،
وترك البلاد لأهلها، يحكمون أنفسهم كما يشاؤون.
وإنا - معاشر المصريين - لنشعر في قلوبنا بكل عطف على إخواننا
المصابين، ونرثي لمصابهم رثاء الإخوان للإخوان، ونحس بأن علينا واجب
مساعدتهم بكل ما في الإمكان، مما يخفف من بلواهم، ويلطف من آلامهم، ونرى
أن هذا أيسر ما يجب للجار على الجار، وأقل ما يساعد به الإنسان أخاه الإنسان) .
... ... ... سعد زغلول
بيت الأمة في 18 ربيع الآخر سنة 1344 (5 نوفمبر سنة 1925) .
__________
(1) المنار: إنما يصح هذا إذا أريد بالحاكمين الموظفون الفرنسويون من عسكريين وإداريين، وأما دولة فرنسة نفسها فقد كان كل ما عُمل في سورية خلاف مصلحتها.(26/765)
الكاتب: خير الدين الزركلي
__________
قصيدة شاعر الشام
الأهلُ أهلي والديارُ دياري ... وشعار وادي (النَّير بَين) شعاري
ما كان منْ ألم بجلّقَ نازل ... واري الزناد، فزندهُ بي واري
إِنَّ الدَّمَ المُهَراقَ في جنباتِها ... لَدَمِي وإِنَّ شِفارها لشفاري
دمعي لما مُنيتْ به جارٍ هنا ... ودمي هناك على ثراها جارِي
***
يا وامِضَ البرق اطمئنَّ وناجني ... إِنْ كنتَ مطَّلعًا على الأسرار
ماذا هناك فإن صَوْتًا راعني؟ ... والصوْتُ فيه جفوةُ الإذعار
النارُ محدقةٌ بجلقَ بَعْدَ ما ... تَرَكَت (حماة) على شفيرٍ هارٍ
تَنْسابُ في الأحياءِ مُسرعةَ الخُطَى ... تأتي على الأطمارِ والأعمارِ
والقومُ منغمسون في حَمآتها ... فتكًا بكل مُبرأ صَبَّارِ
الطفلُ في يدِ أُمهِ غَرَضُ الأذى ... يُرمى وليسَ بخائض لِغمار
والشيخ متكئًا على عكازه ... يُرمى، وما للشيخ من أوزارِ
صَبَرَتْ دِمَشق على النكال لياليا ... حَرُمَ الرُّقاد بها على الأشفار
لهفي على المتخلفين برُحبِهَا ... كيفَ القرارُ ولات حين قرارِ
يَترقبون الموتَ في غَدواتهم ... وإذا نجوْا فالمَوْتُ في الأَسحارِ
لا يعلمون أفي سَوَادِ دُجُنَّةِ ... هم سهَّدٌ أم في بياض نهار
الوابلُ المدْرارُ من حمم اللظى ... متواصِلٌ كالوابل المدْرارِ
والظلم منطلق اليدين محكم ... يا ليت كل الخطب خطب النار!
***
أمجالسَ السُّمَّار، ضاحكة بهم ... ضحك الهوى: ما حل بالسمار؟
أمعاهدَ الأدب الطريف ثكلتِه ... غَضَّ الصبا كتفتح الأزهار
أُمَّ القصور نواعمًا رَبَّاتها ... ما للقصور دواثر الآثار
أُمَّ الجنان الكاسيات رياضها ... حُلل السنا ما للرياض عواري
أُمَّ الحياة، وللحياة نعيمها، ... هل في ديارك بعد من ديار؟
زهو الحضارة أنتِ مطلع شمسه ... أفتغتدين وأنت دار بوار
ويح الحضارة كيف يَمتهن اسمَها ... مُتكالبون على الضِّعاف ضوار
هم أوردوكِ وأصدروكِ على صدى ... فشقيتِ في الإيراد والإصدار
هم أحرجوكِ فأخرجوكِ مَهيجة ... فصرختِ فيهم صرخة الجبار
طالت لياليك الثلاث وإنما ... في مثلهن يلوح نهج الساري
وإذا الظلام عتا تَبَلَّجَ فجره ... ظُلَمُ الحوادث مطلع الأنوار
ما انهار قصرٌ في حماك ممرد ... إلا ليرفع فيك قصر فخار
ما دمروك هم ولكن دمروا ... ما كان فيكِ لهم من (استعمار)
حملوا عليك مواثبين وما لهم ... ثأر، وثُرتِ وأنت ربة ثار
ما ينقمون عليك إلا أنهم ... شهدوكِ غير مَقودَة لصغار
فإذا المنازل وهي شامخة الذُّرى ... مُنهار أطلال على مُنهار
وإذا المدينة (تدمر) أو (نينوى) ... أنقاض عمران ورسم دمار
***
قم سائل الأجيال يا ابن نسيجها ... واستوحِ غامض سرها المتواري
فلعل عِبرة مجتلي صفحاتها ... في ما محاه الدهر من أسطار
إن الشعوب لتستفيق إذا انتشت ... والصحو غاية نشوة الأسكار
أرأيتَ كيف طغى الفرنج وأوغروا ... صدر الأسنَّة أيما إيغار
أرأيتَ كيف استهتروا بمطامع ... فيها المصارع أيَّما استهتار
الشرق بين قويهم وضعيفهم ... متداول الأنجاد والأغوار
وبنوه بين وعيدهم ووعودهم ... شتى المذاهب شرَّد الأفكار
لا تأمنن فأنت بين مكافح ... منهم وبين مخادع غرار
وانظر إلى الآلاف من بُسلائهم ... يغزوهم مئة من (الثوار)
من كل معوار صليب عوده ... يقتاد كلَّ مدجَّج مغوار
الواثبين إذا يقال: تأهبوا ... والقاحمين إذا يقال: بدار
إن أنصفت أيام (ذي قار) لنا ... سلفًا فنحن اليوم في (ذي قار)
طارت بألباب الفرنجة صيحة ... في الشام فاندفعوا إلى الأسوار
واستهدفوا الأطفال في حجراتها ... والطفلات وهُنَّ في الأخدار
عمُّوا بمضطرب القذائف كلَّ ذي ... ضعفٍ وخصُّوا كل ذات إزار
ستروا بضرب الآمنين فرارهم ... فأعجب لعارٍ ستروه بعار
***
غَضِبَتْ لسورية الشهيدة أمةٌ ... في مصر تطفئ غلة الأمصار
ورعت لها ذمم الوفاء فلم يضع ... عهدٌ تَسلسَلَ في دم الأعصار
لله والتاريخ والدم واللغى ... حق وللآمال والأوطار
تأبى الجماعة أن تهون لغاضب ... والفرد موقوف على الأقدار
وإذا العرى انفصمت تولى أهلَها ... ضيمُ المغير بخطبه الكبَّار
***
يا ابن (الكنانة) ما الجراح دواميًا ... في الشام إلا في طلى الأحرار
المشترين ديارهم بدمارهم ... وهم يرون به رباح الشاري
أنِفوا حياة الشاء كل عشية ... وضحى تعيث بها يد الجزار
هلا نظرتَ إلى الشآم فإنها ... ترنو إليك بشاخص الأبصار
ناءت بحمل نكوبها فتقلقلت ... موجًا بأطفال هناك صغار
ليس الجوار إذا عدلت بمقنعٍ ... يأبى الشقيق عليك حقَّ الجار
... ... ... ... ... ... ... ... ... خير الدين الزركلي
__________(26/766)
الكاتب: محمد محمود المصري
__________
الطريقة التجانية
للأزهري الفاضل الغيور صاحب الإمضاء
هي طريقة تُنسب لأحمد التجاني، وهو نسبة لـ (تجان) بلدة من بلاد
المغرب توفي سنة 1230 هـ، وهو مبتدع غرر بضعفاء العقول حتى اعتقدوا
أنه من الأولياء الكبار، وقد أتى بمخالفات للدين، وقضايا وأحكام غير شرعية،
وادعى أنه تلقاها من الرسول يقظة - كذبًا وزورًا - وقد تصفحنا أكثر الكتب التي
ألَّفها أصحابه وأيدها أتباعه، وادعوا جميعًا أنها عن لسان الشيخ، فوجدنا فيها ضلالاً
وإلحادًا وزيغًا وعنادًا، تحث على التفرقة بين المسلمين، وتحض على التمسك بأقوال
شيخهم مع العلم بمخالفتها لأقوال سيد المرسلين. وكم قرأنا فيها من نزغات
مبكيات، وأضاليل وترهات، تتلاشى أمام العقل وتصير هباء عند من يعرف
النقل، ويروج هذه الأضاليل ويعمل على نشر هذه الأباطيل قوم لا خلاق لهم، ولا
معرفة عندهم، يتعصبون للبدعة، ويهدمون السنة، وكم غرسوا من إحن، ودبروا
من فتن لهدم صرح الدين، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، فتفطن الناس لهم
وفحصوا مبادئهم، وحذروا الجمهور من ضلالهم.
وأشهرهم (أحمد بن بابا الشنقيطي) ومحمد بن عبد الواحد النظيفي
المراكشي في المغرب، وفي القطر المصري محمد الحافظ وبدر عبد الهادي سلامة،
وقد ألف الثاني [1] كتابًا سماه (الطيب الفائح، في صلاة الفاتح) هو غاية في
الضلال ونهاية في الوبال، وألف بدر عبد الهادي سلامة كتابًا سماه (النفحة
الفضلية) وهو شر من سابقه، وادعى أنه نقله من كتبهم الصحيحة، وعن آرائهم
الرجيحة، ويعلم الله أن أقوالهم زور وبهتان وداعية إلى الإثم والعدوان.
ومرادنا أن نبين شيئًا مما في هذه الكتب، وأن نسطر قليلاً من الكثير الذي
فيها من الكذب، ليحذر الناس منها، ويعمل العقلاء على مقاومتها والأمر بإحراقها
فضلاً عن هجرها.
فمما في كتاب النفحة الفضلية (ص186) تحت عنوان (تكفير الصلاة
الفائتة) ما نصه: في كتاب الجامع من صلى أربع ركعات قبل العصر يوم الجمعة
يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وآية الكرسي مرة، وسورة الكوثر خمس
عشرة مرة، فإذا سلم استغفر الله عشرًا، وصلى على النبي بصلاة الفاتح خمس
عشرة مرة - كانت كفارة للصلاة الفائتة. وعن علي (رضي الله عنه) ولو خمسمائة
سنة، ومن صلى بها ولا قضاء عليه، إن كان في صلاة أبيه وأمه كانت كفارة
لهم) اهـ.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان
متى سمعتم يا معشر المسلمين أن ركيعات مبتدعات تكفر ما على الإنسان
من الصلوات المكتوبات؟ أليس هذا هدمًا للركن الذي لم يبق سواه؟ وليت شعري
لماذا يجهد المصلي نفسه بأداء الصلوات الخمس في الحضر والسفر، والبرد والحر،
وهو يصدق بهذه (الفائدة المنكرة، والبدعة المحرمة، والضلالة المحررة) إن
هذا المُقرّ على هذه الفائدة والحاكي لها، والمعتقد بها، يريد أن يقول: دعوا
الصلوات واهجروها ولا تقربوها، فهذه الفائدة فيها الكفاية. أليست هذه غواية؟
وفي الضلال نهاية؟ إن الرجل لا يستطيع أن يصرح بذلك فأشار بفائدته إلى ما
يُكنُّه قلبه وما اخترعه خياله، ولكن لم تخْفَ مكيدته، وقد بانت خطيئته، ومن
جهله وعدم حسن تعقله، إسناده هذه الضلالة إلى علي رضي الله عنه بغير سند،
وإن أدنى طالب للعلم يجزم بأنها لا تصدر من مسلم فضلاً عن صحابي، فضلاً عن
أمير المؤمنين، وأقضى المسلمين، وربيب الرسول صلى الله عليه وسلم
وصهره.
ولقد كان يرى الرسولَ صلى الله عليه وسلم والصحابة (رضي الله عنهم)
يحافظون على الصلاة حتى عند اشتداد الملحمة، وفي وقت الحرب الضروس،
فخسف (بدر عبد الهادي) بكذباته التي في فائدته، وقد أسقطتها، ومنها عرفنا قبح
سريرته. وخبث طويته. ثم لم يكتفِ بجعله هذه الركيعات المحدَثات مكفرة لما
على الشخص من الفوائت، بل قال: (إن لم يكن عليه فوائت كانت كفارة
لوالديه) كأنها فوق الحج الذي ليس له هذه القوة، وفوق سائر العبادات التي ليس
لها هذه المزية، سبحانك اللهم {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: 4) مع العلم بأن الصلاة التي ذكرها لم تَرِدْ عن الرسول صلى الله عليه
وسلم، ولم يقُل بها أحد من رجال المذاهب المعتبرة، فهي على ذلك بدعة منكرة
وفرية بلا مرية، وقد قرر فقهاء الحنفية والشافعية ورجال الشريعة الإسلامية أن
تكرير سورة واحدة في ركعة مكروه وخلاف السنة، فكيف يدَّعي هؤلاء الضالون أن
لها هذه المزية، مع أنها بدعة دينية، ونكِلُ الكلام في مسألة تكفيرها لفوائت
الوالدين إلى الأستاذ الرشيد.
وفي الصفحة الثالثة من الكتاب المذكور ما نصه: عدم زيارة الأولياء الأحياء
والأموات. قال شيخنا: هذا شرط عندنا فمن أخذ وردنا لا يزور أحدًا من الأولياء
الأحياء ولا الأموات أصلاً، وقال أيضًا: قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم
مسألة أغفلها الشيوخ وهي أن كل من أخذ عن شيخ وزار غيره لا ينتفع به ولا بذلك
الغير أصلاً. اهـ.
يريد الرجل أن يجعل مَن عاهده سلعة يتّجر بها، ويتحكم في رقاب مَن اتبعه
بإثارة هذه الفتنة المخالفة للسنة: فقطيعة الأولياء عنده أمر مقرر، وواجب محرر!
حتى لقد قال في ص 120 (إياك أن تنظر إلى ما في (جواهر المعاني) إن المريد
له أن يزور الأولياء الأموات، فإن الشيخ قد رجع عن ذلك قال شيخنا: كل من
أخذ وردنا فلا يحل له أن يزور وليًّا لا حيًّا ولا ميتًا) وفي ص 6 (مَنْ زار وليًّا
وقصد تبركًا أو مددًا دنيويًّا فليس من أهل هذه الطريقة لقول النبي لشيخنا: إذا مر
أصحابك بأصحابي فليزوروهم فقط اهـ. وهذا القول مخالف لآيات القرآن
والسنة المتبعة في ولاية المؤمنين ولأحاديث الزيارة المشهورة.
ثم يأتي بعد هذا (أحمد التجاني وأتباعه) ويأمرون بمقاطعة أولياء الرحمن،
والبعد عن ساحة أهل العرفان كأنهم لم يقرؤوا القرآن، ولم يعرفوا هدي الرسول
عليه الصلاة والسلام {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16)
ومما يثبت حمق شيخهم دعواه أن النبي قال: (مسألة أغفلها الشيوخ إلخ) ، مع
أننا نعرف آدابه العالية صلى الله عليه وسلم ومزاياه الغالية، هذه سقطة للتجاني لا
ننساها له، وكيف يغفل السلف الصالح عن الحكم في هذه المسألة وقد شهد لهم
الرسول وزكاهم وتداولتها كتبهم وشرحها الرسول قبلهم، وعلمهم الحق، وترك لهم
كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه تبيان كل شيء.
وهل يعقل أن قول النبي بعد وفاته يخالف قوله في حياته صلى الله عليه
وسلم أيُتصور أن ما بلغه للناس كان غير حق، فلما انتقل تبين له الهدى ولم يخبر به
إلا التجاني وتابعيه؟ ويترك أصحابه صلى الله عليه وسلم ومؤيديه؟ إن هذا يؤدي
إلى الطعن في عصمته وأمانته، بل هو القدح في نبوته وفي كل ما جاء به، وليت
شعري إذا لم يصح بلاغه لنا صلى الله عليه وسلم في حياته وهو المعصوم أيصح نقل
التجاني وهو المنغمس في خطيئته، الغارق في ضلالته {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) .
إننا إن تركنا التعرض لدعوى الاجتماع بالنبي ومكالمته والتلقي عنه فربما
يتترس الملحد بقول بعض المتأخرين (بإمكان الاجتماع) ولكن ليعلم هذا
الكذاب (أن جميع العلماء اتفقوا على أن كل من حكى عن الرسول صلى الله عليه
وسلم شيئًا يخالف ما روي عنه فهو ضالّ، وفي كفره خلاف إن تعمد
الكذب) .
ولقد اجتمعت بمحمد الحافظ أحد ممثلي هذه الطريقة وكلمته في مسائل كثيرة
من أضاليلهم، وانتقلنا إلى التكلم في مسألة الزيارة، فقال: إننا نمنع زيارة
الاستمداد من الأولياء، ونأمر بزيارتهم كما كان الرسول يفعل، وهذا رأي الوهابية،
فقلت له: كتبكم تنطق عليكم بأنكم لا تريدون هذا؛ بدليل ما سبق من أقوالكم في
هذه المسألة، وتصريحكم مرة بمنع الزيارة للنفع الدنيوي ومرة للنفع الأخروي،
على أنكم قلتم في صفحة 71 من الكتاب المذكور: من الآداب أن ييأس المريد من
وصول مدد إليه من غير طريق روحانية شيخه، وأن يعتقد أنه أكمل الأولياء وأن
لا يشرك معه أحدًا في مرتبة محبته اهـ. هذا مع أن من البدع التي نص عليها
الشاطبي في الاعتصام المغالاة في الشيوخ واعتقاد بعض الناس أن شيخه أكمل
الأولياء، على أنكم صرحتم بأخطر وأشنع وأقبح وأفظع مما ذكر، فقلتم في ص
21 من الكتاب المذكور: إذا جمع الله الخلق ينادي مناديًا يا أهل الموقف أحمد
التجاني هو ممدكم في الدنيا. وقلتم غير مرة: إن شيخكم ممد للعالم من نشأته إلى
نهايته، وكيف يعقل هذا؟ ألم يكن شيخكم صغيرًا يبول على نفسه ويزيد في هوسه؟
أيمد غيره وهو أحوج الناس إلى من يزيل عنه أقذاره؟ ثم إن الله قال في شأن
الأولياء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 63) فلا تثبت لهم الولاية
إلا بعد خلقهم وتكليفهم. فبهت وتحير وزمجر وكشر عن أنياب قلت عند رؤيتها:
(أذكرني فوك حمار أهلي) وعلمت أن الرجل يريد أن يفهم العوام أنه وهابي؛
ليكرهوا الوهابيين، فكشفت لهم حالته وبينت حقيقته، فعلم الناس ما دبره
وفهموا خبره، وكادوا يودون به.
ولهم في ص 21 من الكتاب المذكور أيضًا (جميع الأولياء من عصر
الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا) هذا الضال أي أحمد
التجاني من أنذال القرن الثاني عشر، يريد أن يقول أنه أفضل من السلف الصالح
إلى غير ذلك من الأوهام التي لا تحد، والخزعبلات التي لا تعد، وقوم هذا شيخهم
وذلك كلامهم أبعد الخلق عن الدين.
ومن وقاحته، وقد كتبه أتباعه في بيان فضل طريقته أنه قال فيه أيضًا:
(ص 20) (قدماي على رقبته كل ولي من لدن آدم إلى النفخ في الصور) وليس
لهم أن يقولوا: قد قال الشاذلي والجيلي مثل ذلك، أما أولاً: فلان هذا ليس بدليل،
(ثانيًا) هما لم يقولا: (من لدن آدم إلى النفخ في الصور) وإنما أشارا إلى
تفوقهم على أولياء عصرهما، وهؤلاء التجانية يعتقدون أنهم خير خلق الله على
الإطلاق، وشيخهم كذلك، بل قالوا في ص 23 من الكتاب المذكور: (كل من
أحب الشيخ ومات عليها - ومن شرطها محبة أتباعه وعدم إيذائهم - ضمن له جده
صلى الله عليه وسلم أن يموت على الإيمان، ويخفف الله عنه سكرات الموت، ولا
يرى في قبره إلا ما يسره، ويؤمِّنه الله تعالى من جميع عذابه وتخويفه من الموت
إلى المستقر في الجنة، وتُغفر له كل ذنوبه، وتُؤدى تَبعاته ومظالمه، ويُظله الله
تعالى في عرشه، ويُدخله في أول الزمرة الأولى جنة عدن، ولا يموت حتى يكون
وليًّا قطعًا، هذا بإخبار النبي للشيخ مشافهة، وأما من أخذ ذكرًا ينال ما تقدم ويزيد
بأن أبويه وأزواجه يدخلون الجنة من غير حساب ولا عقاب ما لم يصدر منهم سب
للشيخ، قال لي سيد الوجود: أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين، ولا مطمع
لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)
ولم يستثن الصحابة إلا بالنسبة لأصحابه فقط، وأما هو فقد قال (قدماي) إلخ، وفي
ص26 (من أفراد هذه الطريقة مَن إذا رآه شخص يوم الإثنين أو يوم الجمعة
دخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، وأن الشيخ يُدخل أصحابه الجنة بلا حساب ولا
عقاب) وفي ص28 (صاحبي لا تأكله النار ولو قتل سبعين روحًا إذا تاب
بعدها) ، وفي صفحة 29 (كل من عمل عملاً لله يعطي الله الواحد من هذه
الطريقة أكثر من مائة ألف ضعف مما يعطى صاحب ذلك العمل) .
وأذكر عند قراءة هذه المبكيات قوله تعالى في شأن اليهود والنصارى: {بَلْ
أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 18) .
وقد افتتنت هذه الطائفة بصيغة صلوات مُحدَثة مُخترَعة، حتى قالوا في
كتابهم المذكور صفحة 32: (شرط قراءتها أن يعتقد أنها من كلام الله تعالى) ،
وفي كتابهم (الورد السانح) (صفحة 24) أنها بمنزلة القرآن؛ لأنها من كلام
الله تعالى وليست من تأليف مخلوق، وفي (جواهر المعاني) أن ثوابها أكثر من ستة
آلاف ختمة بإخبار الرسول لشيخهم يقظة، وقالوا أيضًا في فضلها في صفحة 30
من (كتاب النفحة الفضلية) : لو عاش العارف ألف ألف سنة كان ذاكرها عشر
مرات أكثر منه ثوابًا، وإذا صدر من العبد ما يحبط العمل فإنها هي لا تحبط، ومن
قرأها مرة غفرت له كل ذنوبه؛ لأنها لا تترك من الذنوب شاذة ولا فاذة، وهي
تعدل كل تسبيح وقع في الكون وكل ذكر، ومن القرآن ستة آلاف مرة وسائر الكتب
الإلهية اهـ. ثم سرد خرافات وضلالات وأرقامًا حسابية كأنه يُبين أكبر ميزانية
كانت في العالم، ثم قال هذا ثواب قارئها. ثم اعتدوا مرة أخرى كعادتهم فقالوا في
ص25 من الكتاب المذكور: (في الأذكار اللازمة للطريقة صيغة من صيغ الاسم
الأعظم، ومن أخذ هذه الصيغة بسند متصل كان له نصف الثواب الكبير الذي هو
خاص به صلى الله عليه وسلم) اهـ. ونترك المجال لمولانا الحكيم في إيراد ما
يلزم على هذه المسائل، فقد - والله - بلغ السيل الزبى، وكادت أعصابي تتوتر
أسفًا مما جرى، وكم في الزوايا من خزايا.. . قبح الله الضلال وخذله.
ومن مخازيهم أن نفث الشيطان في قلب شيخهم، فاشترط على أتباعه (أن
من شرائط صيغة الفاتح أن يعتقد القارئ أنها من كلام الله، وأن النبي عين ذات
الله) وقد سئل شيخهم عن معنى ذلك فقال في ص33 من النفحة: (إن النبي
كالمرآة تتراءى فيها الذات) اهـ. ولهم فيه أيضًا ص76: من آداب المريد أن
يحمل كلام شيخه على ظاهره ولا يتأوله. ولو عاملناهم بهذا القانون في مسائلهم
السالفة وخصوصًا في هذه المسألة لكانوا تارة ملحدين، وأخرى فاسقين، وآونة
ظالمين {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 59) وبئس ما يعملون {سَاءَ مَثَلاً
القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} (الأعراف: 177) ليت
شعري كيف يقولون: إن النبي كالمرآة تتراءى فيها الذات، وهو تأويل باطل
لا يؤيد باطلاً.
ويجول في ذهني أن القوم (قد ضلوا وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل)
فخرفوا وحرفوا، واجتمعوا مع شيخهم على الشيطان، وقالوا عليه: إنه نبي
الرحمن. فوقعوا في الدرك الأسفل، وهذا أقل ما يمكن أن يقال في شأنهم {وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ
وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
وفي صفحة 451 من كتابهم (الطيب الفائح) أن شيخهم (بلغ غاية نهاية
الأولياء من نشأة العالم إلى النفخ في الصور سواء أولياء الأمة المحمدية وغيرها)
وفيه أيضًا ص25 (إن الله صلى على النبي بصيغة صلاة الفاتح) ثم بعد ما
ضلوا في فضل (صلاة الفاتح) اتخذوا صيغة يتعبدون بها وسموها (جوهرة الكمال)
منها (اللهم صل على صراطك التام الأسقم) يقولون: إن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر شيخهم بأن يصلي عليه بها، وقد تكلمت معهم كثيرًا أن هذا كذب من الشيخ
بين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عربي وأفصح من نطق بالضاد (والأسقم
أخذه من استقام لا يصح) لأن (أفعل) شرطه أن يصاغ من فعل ثلاثي، فلا يصاغ
من رباعي إلا (أفعل) فقيل: يجوز مطلقًا، وقيل: يمنع مطلقًا، وقيل: يجوز إن
كانت الهمزة لغير النقل حتى قال الموضح: (وشذ على كل قول: ما أتقاه وما أملأه)
إلخ، وأما السداسي فلا يصاغ منه أفعل (كأسقم من استقام) باتفاق، فشيخكم
لجهله باللغة نسب إلى النبي ما بلغكم كعادته في أمور الدين، فبهت القوم وانصرفوا
على ذلك.
ولهم في ص91 من الجزء الأول من كتاب (جواهر المعاني) أن النبي قال
لشيخهم: (كل من أطعمك أو أحسن إليك دخل الجنة بلا حساب ولا عقاب)
ويظهر أن الشيخ كان نهمًا جشعًا لا يقبل أحد أن يطعمه، فهَّون على الناس ذلك بأن
خطر أكلته وإن كان كبيرًا إلا أن جزاءه النجاة من النار، نعوذ بالله من الجهل
والكذب، وفيه أيضًا بعد هذه الصحيفة (أن ثواب صلاة الفاتح كبير من قرأها كان
له ثواب سبعين نبيًّا كلهم حمل السلاح وجاهد) .
إلى سيدي صاحب المنار
بما عرفناه فيكم من الأخلاق المحمدية.. . والهمة الهاشمية، نرجو العمل
على إطفاء شعلة هذه الضلالة، والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... محمود محمود المصري
... ... ... ... ... ... سنة ثانية فصل تاني بالقسم العلمي
(المنار)
إن شعلة هذه الضلالة لا تُطفأ برسالة تنشر في المنار، ولا بمجرد بيان ما
فيها من الكذب على الله، ومن شرعٍ لم يأذن به الله، وهو إشراك بالربوبية،
وتكميل نقص يُدّعى للملة الحنيفية، وما هي شعلة بل شعبة من شعب نار جهنم،
يأوي إليها عشاق الخرافات، ومتبعو الشبهات، وعبيد الشهوات، يحسبونها ظلاًّ
ظليلاً، وأن لهم فيها مقيلاً، إلى أن يأخذهم الله أخذًا وبيلاً {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ
عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً
خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} (الفرقان: 27-29) هنالك يكونون ممن قال الله تعالى فيهم: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ
مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (يونس: 30) لعصيانهم قوله:
{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3) .
إن هؤلاء الضالين لم يضلهم أشياخهم كالتجاني الدجال، ومؤلفي ما ذُكر من
الكتب لترويج بدعته، ونسخ شرعة الله الحق بشرعته، ما أضلهم هؤلاء وحدهم،
وإنما اشترك في إضلالهم الجمهور الأكبر من أدعياء العلم الشرعي عامةً،
وأصحاب المناصب الرسمية خاصةً، الذين هجروا القرآن وأعرضوا عن هدي
السنة، وتركوا سيرة السلف الصالح، وأقَرُّوا كل من تنحل طريقة من طرائق
التصوف على ما يضع من عبادة، ويَدَّعي من كرامة، حتى دعوى رؤية الرسول
صلوات الله وسلامه عليه في اليقظة أو المنام، وتلقي الأذكار والأوراد والبشارات
عنه وكذا العقائد والأحكام، وإن كانت مخالفة لما جاء به من كتاب الله المتواتر
وما صح من سنته بالأسانيد الصحيحة، وما أجمعت عليه الأمة في الصدر الأول.
وليس الدجال التجاني أول من كذب على الرسول وراجت أكاذيبه بشبهة
ثبوت الكرامة لصالحي الملة، بل سبقه إلى ذلك رجال من مبتدعة التصوف كانوا
أوسع منه علمًا، وأفصح لسانًا وقلمًا، وقد رد عليهم من هم أعلم منهم بكتاب الله
وسنة رسوله، وأعبَد لله تعالى، وأنفع للناس، ولكنهم لما لم يَدَّعوا لأنفسهم تلك
الدعاوي العريضة، طعن المتأخرون في دينهم وتجنبوا كتبهم، كما كان شأن أكثر
حملة العمائم في مصر وغيرها في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية المصلح الكبير،
وقد كان هذا الافتنان بالدجل والخرافات، واشتراك شيوخ العلم في الموالد المشهورة
على ما فيها من الفواحش والمنكرات، والبدع والضلالات - سببًا لفشو الكفر
والإلحاد في نابتة المدارس العصرية، وطالما جاهد المنار الدجل والدجالين، وردَّ
عليهم بالحجج والبراهين، ولا يزال يهدم ما بنوا من قواعد وأساطين، ولكن
أكثرهم لا يقرؤون المنار، وقلما يوجد في قرائه أحد يخدع بالدجل، وأما الإصلاح
العام، فلا ينتشر إلا بتأسيس دولة تقيم عمود الإسلام، وترد المسلمين إلى التعبد بما
تعبد الله الناس به في كتابه وعلى لسان رسوله، وتمنعهم من قراءة كل ما استحدثت
المتصوفة من أوراد وأحزاب وصلوات، كما يفعل الوهابيون في منعها حتى أقلها
ابتداعًا للصيغ "كدلائل الخيرات " فحسبنا كتاب الله وأذكاره، وما أثبت حفاظ السنة
من أذكارها المجموعة في مثل كتاب الحصن الحصين والأذكار للنووي، نعم إنه
يوجد في بعض ما اخترعه الصوفية ما لا يخالف النصوص، ولكن المأثور خير
منه، وإقراره يقتضي قبول غيره مما هو مخالِف لها، ومنه ما ادَّعى مبتدعوه أنه
موحى به من الله تعالى ومتلقى عن رسوله صلى الله عليه وسلم في اليقظة، كما
رأيتَ في رسالة الفاضل الأزهري عن كتب التجانية، ومن ذا الذي يميز بين
الموافق للنصوص وقواعد الشريعة والمخالف لها؟ فالفتنة لا ترتفع إلا بمنعها كلها.
إن الدجال التجاني -بل الجاني على الإسلام والمسلمين - وأمثاله من المتصوفة
الخرافيين، قد رأوا دعوى الكرامات أنجح الوسائل لتأسيس المجد الدنيوي، أي
الجاه الذي هو ملك القلوب، والمال الذي هو ملك الأعيان، فتوسلوا بها فوصلوا
إلى ما وصلوا إليه من اتخاذهم آلهة يعبدون، وأربابًا يُشرِّعون فيُتَّبَعون، ولو لم
يسكت لهم علماء الشريعة على منكراتهم لما وصلوا في إفسادهم إلى هذا الحد: حد
طبع الكتب المفسدة للعقائد ونشرها بين المسلمين، وعدها من كتب الدين، بل
يوجد في كبارهم من هم أشد خضوعًا للخرافات من العوام، وقد أخبرني الثقة أن
أحد كبار علماء الأزهر نظم قصيدة يشكو فيها للسيد البدوي سعاية بعض أعدائه
لإغضاب أمير البلاد عليه، ويطلب منه إنقاذه من شر هذه السعاية، وإرضاء قلب
الأمير عليه!
كان يجب على علماء الأزهر أن يؤلفوا جمعية دائمة لنقد الكتب التي تنشر
بين الناس، ولا سيما الكتب التي تمس الدين وتخالف عقائده أو آدابه وأحكامه،
وتبين للناس ما فيها من ضلال وتحذرهم منه، ولكننا نجد الكثيرين من المنسوبين
إلى الأزهر يدافعون عن أمثال هذه الكتب وأهلها، ويردون على المصلحين الذين
ينكرون عليها، ولا يزال بعضهم يصد عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ويطعن
فيمن يسمونهم الوهابية، فإذا لم ينهض الأزهر لمكافحة الدجل والخرافات، وتحذير
المسلمين من بضائع معامل (فابريكات) الكرامات، فستكون عاقبته وعاقبة أهله
في مصر، كعاقبة معاهد الدين ورجال الشرع في الترك.
__________
(1) أي محمد النظيفي.(26/769)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء الحجاز
بيعة أهل الحجاز وسبب قبول السلطان لها
(جاء في العدد 56 من جريدة (أم القرى) الذي صدر بمكة المكرمة في 8
رجب الماضي ما يأتي)
جاءنا من ديوان جلالة الملك أنه بعد إعلان بيعة أهل الحجاز وردت عدة
برقيات من جهات متعددة تسأل عن صحة ما وقع، وعن أسبابه فأرسل الجواب
على تلك الأسئلة بما مآله:
(ج) إعلان أهل الحجاز ملكيتنا على الحجاز صحيح، أما العهود المتكررة
للعالم الإسلامي فلم نخلفها، وقد دعونا العالم الإسلامي دعوات عامة وخاصة
متكررة، فلم يصل جواب من أحدهم في تلبية دعوتنا، ومع ذلك فإننا على استعداد
لقبول آراء العالم الإسلامي في كل شأن له مساس براحة الحجاج والزوار ورفاهيتهم،
وإجراء أعمال الخير في الحجاز.
وأما السرعة في أمر النداء بملكيتنا على الحجاز فكنت أود من صميم قلبي أن
لو تأخر ذلك، ولكنا أُلجئنا إلى ذلك مضطرين، فإن أهل الحجاز قاموا قومة رجل
واحد يلزموننا بقبول البيعة، فطلبنا منهم التريث ريثما يجمع المسلمون أمرهم
فأجابوا بأنك أعطيتنا الحرية في اختيار حاكم لنا وهذا حق لنا لا يشاركنا فيه أحد،
ونحن لا نبغي بك بديلاً.
ومع ذلك توقفتُ في الجواب فبلغ أهل نجد توقفي؛ فقامت قيامتهم عليَّ
وأعلنوا لي أن حربهم في الحجاز لم يكن إلا لحفظ استقلال الحجاز، ومنع تدخل
أي أجنبي فيه، ولتكون كلمة الله هي العليا وليُعمل في هذه الديار بكتاب الله وسنة
رسوله، ولتأمين الطرق ومنع الإلحاد في الحجاز، وهذا ما وعدتنا به وإن توقفك
عن قبول البيعة يجعلنا نعتقد بأنك لم تقاتل إلا لأغراضك ولا تسعى لاستقلال
الحجاز، وإنك إذا لم تقبل البيعة فقد فعلت معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق.
فإزاء هذا الموقف الحرج الذي يتوقف عليه أمن الحجاز في الحالة الحاضرة واستقرار الأمر فيه لم أجد بدًّا من تلبية ما دُعيتُ إليه، وإلا كانت فتنة لا تُعرف
نتائجها، فقبلت متوكلاً على الله. وإنني لا أزال على عهدي رعاية ما للمسلمين
من الحقوق المشروعة في هذه الديار المقدسة، والله ولي التوفيق (أم القرى ع
56) .
***
اعتراف الدول الأوربية بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها
اعتراف السوفييت
ورد على جلالة الملك بتاريخ 3 شعبان من معتمد وقنصل جنرال حكومة
اتحاد الجمهوريات السوفييت بجدة الكتاب الآتي:
صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها الأفخم.
بعد التحية والتوقير
استنادًا على أمر حكومتي أتشرف أن أبلغ جلالتكم أن حكومة اتحاد
الجمهوريات السوفييت بموجب المبدأ الأساسي نحو استقلالية وحرية الأمم واحترامًا
لإرادة أهل الحجاز التي ظهرت في مبايعتهم لجلالتكم ملكًا للحجاز - تعترف
بجلالتكم ملكًا للحجاز وسلطانًا لنجد وملحقاتها؛ فعليه حكومة السوفيت تُعد نفسها في
الحالة المناسبة السياسية والملائمة مع حكومة جلالتكم، وختامًا تفضوا بقبول عظيم
توقيراتي واحتراماتي 3 شعبان سنة 1344 - 16 فبراير سنة 1926.
... ... ... ... ... ... ... معتمد وقنصل جنرال حكومة
... ... ... ... ... ... اتحاد الجمهوريات السوفيت بجدة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كريم حكيم
***
اعتراف بريطانيا
وقد أعقب اعترافَ حكومة السوفييت اعترافُ الدولة البريطانية، وقد أخبر
جلالة الملك بخبره سعادة معتمد الحكومة البريطانية بصورة شفاهية عند زيارة
جلالته للبارجة الحربية.
وفي صباح أول مارس ورد من نائب معتمد وقنصل بريطانيا بجدة وكيل
القنصل لجلالة الملك الكتاب الآتي:
146م - 30، 2
جدة في أول مارس سنة 1926
صاحب جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد
بعد إبداء عظيم الاحترام، أتشرف بأن أُخبر جلالتكم أني قد كُلفت من قبل
حكومة جلالة ملك بريطانيا أن أعرف جلالتكم بأن حكومة جلالة الملك تعترف الآن
بجلالتكم ملكًا على الحجاز، على أنه يقتضي لي أن أضيف على ذلك أنه بينما
تعترف حكومة الملك بسلطتكم على الحجاز تدوم على اعتبارها أن أسلوب الحكم في
الأماكن المقدسة الإسلامية، وجميع المسائل الدينية المتعلقة بذلك هي من المسائل
التي تختص بالمسلمين فقط، والتي لا يجب على حكومة جلالة الملك أن تبدي رأيًا
فيها، كما وأنها لا ترغب في ذلك، وتفضلوا بقبول فائق التحية وعظيم الاحترام.
... ... ... ... ... ... نائب معتمد وقنصل بريطانيا بجدة
... ... ... ... ... ... ... ... وكيل قنصل جوردان
***
اعتراف فرنسا
وقدم مساء الثلاثاء 17 شعبان سعادة قنصل فرنسا في جدة إلى القصر العالي
بجدة، وأخبر جلالة الملك بأنه تلقى برقية من حكومته تأمره أن يبلغ جلالة الملك
بأن حكومة الجمهورية الأفرنسية الفخيمة تعترف بجلالته ملكًا على الحجاز.
ولم يصلنا حتى صدور هذه الجريدة الكتاب الرسمي المتضمن اعتراف حكومة
فرنسا الخطي ومتى وصلنا نشرناه في حينه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (أم القرى ع 63)
***
مآدب ملك الحجاز وخطبه فيها
مأدبة جدة الرسمية
أدبّ جلالته مأدبة رسمية في جدة دعا إليها معتمدي الدول وقناصلها وقائد
البارجة (كارت فلاور) الإنكليزية الراسية في جدة زيارة، وكبار ضباطها، ورؤساء
المحلات الأجنبية، ووفد الخلافة الهندي، ومصالح الحكومة، ووجهاء الأهالي،
وبعد تناول الطعام وشرب القهوة العربية، ألقى نائب جلالته عبد الله بك الدملوجي
خطابًا وثنَّى عليه جلالته بخطاب ملكي، وقد أجاب معتمد دولة إيطالية عن
خطاب جلالته باسم معتمدي الدول؛ لأنه أقدمهم عهدًا في البلاد حسب الأصول،
وهذا نص الخطب الثلاث كما نشرت في العدد 57 من جريدة أم القرى المؤرخ
في 15 رجب سنة 1344 الموافق 29 يناير سنة 1926.
***
خطاب نائب جلالة الملك
يا صاحب الجلالة
أستمنحكم الأذن في أن أُقدّم لحضرات المدعوين خالص الشكر لتلبيتهم الدعوة
إلى هذا المنزل العامر، هذه الدعوة التي ستترك أثرًا جميلاً في النفوس يدعو لتوطيد
العلائق الودية الثابتة بين الجميع.
أيها الأفاضل الكرام: إن هذا الاجتماع الذي يعد الأول من نوعه بعد الانقلاب
الأخير سيكون له بحول الله أجمل وقع في مجرى الأحوال في الأيام المقبلة، وإني
أنتهز هذه الفرصة لأكرر على مسامع حضراتكم ما طالما صرح به مولاي جلالة
الملك - أيده الله - عن نواياه في هذه الديار المقدسة التي لا يمكن أن تتبدل ولا
تتغير في ساعة من الساعات مهما كلف أمر القيام بها من المشاقِّ والصعوبات.
أيها الأفاضل: إن الأمن في هذه الديار هو الأساس المتين الذي ستدعمه
الحكومة بيد من حديد، فلا تجعل بحال من الأحوال بحول الله وقوته - سبيلاً للإخلال
فيه، ولذلك يستطيع كل مسلم من أي بلد كان أن يصل إلى هذه الديار المقدسة،
ويجوب فيافيها وقفارها وهو آمن مطمئن، لا يجد من يروعه ما دام محافظًا على
النظامات وأوامر الحكومة المحلية.
ثم إن العدل المطلق ستطبقه الحكومة على جميع الناس كافة من أي نوع كانوا
بغير تحيز أو محاباة، وإن الشرع الإسلامي هو الأساس الذي تُستقى منه الأحكام
في هذه الديار لتكون نبراسًا عامًّا لكل ذي وجدان حر، وذي نظر ثاقب؛ ليُعلم من
ذلك أن الإسلام دين عدل يزن الحق بقسطاسه المستقيم، فالديار مفتوحة لكل إنسان
مستعد للرضوخ لأحكام هذه الشريعة المطهرة، وأسأل الله أن يجعل أعمالنا أصدق
من أقوالنا، وفي الختام أنتهز هذه الفرصة لتقديم الشكر لكل فرد من أفراد حضرات
الأفاضل الذين لبوا دعوتنا هذه والسلام.
***
خطاب جلالة الملك وبيانه الدولي
نعم إن ما تكلم به الدكتور عبد الله بك الدملوجي هو حقيقة غايتنا في هذه
الديار المقدسة، وتلك هي خطتنا التي وطَّنّا النفس على السير عليها، وإني أنتهز
هذه الفرصة الجميلة لأبدي لضيوفنا الكرام - وعلى الأخص معتمدي الدول وقناصلها
المحترمين - بعض ما يجول في خاطري من آمالي وتمنياتي.
إن هذا الوطن المقدس يوجب علينا الاجتهاد فيما يصلح أحواله، وإننا جادون
في هذا السبيل قدر الطاقة، حتى تتم مقاصدنا في هذه الديار ويكمل للمسلمين جميعًا
راحتهم وأمنهم، وتتم لجميع الوافدين لمنازل الوحي المساواة في الحقوق والعدل.
إن للدول الأجنبية المحترمة علينا حقوقًا، لهم علينا أن نفي لهم بجميع ما
يكون بيننا وبينهم من العهود {إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء: 34) وإن
المسلم العربي ليشين بدينه وشرفه إنْ يخفر عهدًا أو ينقض وعدًا، وإن الصدق أهم
ما نحافظ عليه. إن علينا أن نحافظ على مصالح الأجانب، ومصالح رعاياهم
المشروعة محافظتنا على أنفسنا ورعايانا، بشرط أن لا تكون تلك المصالح ماسة
باستقلال البلاد الديني أو الدنيوي، تلك الحقوق يجب علينا مراعاتها واحترامها،
وسنحافظ عليها ما حيينا إن شاء الله تعالى.
وأما حقوقنا على الدول ففيما يتعلق بهذه الديار نطلب منهم أن يسهلوا السبل
إلى هذه الديار المقدسة للحجاج والزوار والتجار والوافدين، ثم إن لنا عليهم حقًّا
فوق هذا كله، وهو أهم شيء يهمنا مراعاته، وذلك أن لنا في الديار النائية
والقصية إخوانا من المسلمين ومن العرب، نطلب مراعاتهم وحفظ حقوقهم [1] ،
فإن المسلم أخو المسلم، يحن عليه كما يحن على نفسه في أي مكان كان، وإني
أؤكد لكم بأن المسلمين عمومًا والعرب خصوصًا كالأرض الطيبة كلما نزل عليها
المطر أنبتت نباتًا حسنًا، وأن المطر الذي نطلبه هي الأفعال الجميلة المطلوبة من
الحكومات التي لها علاقة بالبلاد التي يسكنها إخواننا من العرب ومن المسلمين،
وإن الأرض الطيبة هم المسلمون عامة والعرب خاصة، ولي الأمل الوطيد بأن
الحكومات المحترمة ذات العلاقة بالبلاد الإسلامية والعربية لا تدخر وسعًا بأداء ما
للعرب والمسلمين من الحقوق المشروعة في بلادهم، وفي الختام أسأل الله أن يجعل
أفعالنا أصدق من أقوالنا، وأن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والصلاح.
***
خطاب قنصل إيطاليا الدولي
إني أشكر جلالة الملك بالنيابة عن القناصل، وبالنيابة عن الجالية الأوربية
لما تفضل به علينا من دعوتنا لمائدته الملكية، وللشرف الذي حصل لنا بهذه الليلة
السعيدة المسرة.
إني أشكر جلالتكم على ما أبديتموه من مقاصدكم الحسنة نحو هذا القطر
وبالأخص عما قصدتموه من راحة البلاد من كل الوجوه، وهذا مما يسر جميع
الدول التي نحن نمثلها، والتي يهمها أمور الأماكن المقدسة الإسلامية، ونحن نفتخر
بأن نهنئ جلالتكم، وندعو لكم بالتوفيق التام في الخطة التي رسمتوها لراحة هذه
البلاد، وبالاختصار فإن ما تفضل به جلالة الملك لا نقصر في إبلاغه لحكوماتنا الذين
يعرفون حقيقة نيات جلالتكم بخصوص هذه البلاد، وإنه معلوم لدى الجميع بأن
حكوماتنا تحترم وتكرم كافة الأديان كما أنها أيضًا تميل وتحب العرب، وبالأخص
الشعوب الإسلامية من العرب، ونحن واثقون بأن حكوماتنا يبذلون الجهد بقدر
الإمكان لمساعدة جلالتكم فيما يجلب الخير والراحة لهذه البلاد المقدسة، وإنني أكرر
آيات الشكر لجلالة الملك على تفضله علينا بهذه الدعوة وهذا اللطف الذي لقيناه من
جلالته في هذه الليلة السعيدة، اهـ.
***
المأدبة الملكية بمكة
وكلام الملك عبد العزيز في الجامعة الإسلامية
جاء في جريدة (أم القرى) أيضًا أن جلالة الملك أقام مأدبة فاخرة في المنزل
المعروف (بدار الحكم) دعى إليها من كان في مكة من وفود وعلماء مكة وأشرافها
وأعيانها وكبار مطوفيها ورؤساء التجار، فكان عددهم ثلاثمائة مدعو، وذكرت
الجريدة أن جلالة الملك أقبل عليهم يحدثهم كعادته بما يجيش في صدره من الأفكار
والحكم، ثم استطر إلى الكلام في موضوع الجامعة الإسلامية وأهميتها، فقال:
(إن الجامعة الإسلامية هي حياتنا، هي روحنا، هي فخارنا، ولكن كيف
تكون هذه الجامعة؟ وما هي تلك الجامعة؟ هي أن يُجمع المسلمون على أمر جامع
لهم، ولا شيء يجمعهم من غير اختلاف إلا التمسك بكلمة التوحيد تمسكًا صادقًا
على علم وبصيرة، فلا يجوز للمسلم أن يمضي عليه ربع دقيقة من حياته تمر بدون
أن يعرف ربه على بصيرة، فالجامعة الإسلامية هي اجتماع المسلمين على هذه
المعرفة الحقيقية لا اجتماعهم في الرتب والوظائف) .
(إن الجامعة الإسلامية بالمعنى الذي أفهمه وأقرره هو اجتماع المسلمين
عامةً على محبة الله تعالى وتوحيده وحده وصرف العبادة كلها إليه) .
(قالت) : واسترسل جلالته في هذا الموضوع وهو يغرف من بحر، ويتكلم
من قلب مملوء بالغيرة الدينية، ومفعم بالألم لتفرق المسلمين وتشتتهم.
ثم ذكر طرفًا من العادات المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان مما يأتيه
بعض الناس خروجًا عن الدين من جمع الأموال باسم المقابر وصرفها عليها، وأكلها
باسم تلك المقابر وما في ذلك من الخروج على كتاب الله وسنة رسوله ومخالفته
لإجماع المسلمين، وقال: إن أكثر الناس الذين يريدون بقاء هذه البدع المضلة
ويحافظون عليها لا يحملهم على ذلك إلا رغبتهم في اكتساب أموال الناس بالباطل،
ثم أورَدَ في النهي عن ذلك آيات من كتاب الله وأحاديث من كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم اهـ.
***
نظرة في بيعة الحجاز لسلطان نجد
إننا عندما أنبأتنا الشركات البرقية بمبايعة أهل الحجاز لسلطان نجد ونصبه
ملكًا عليهم، استغربنا ذلك وانتقدناه، وعددناه عجلة من هذا الرجل الذي كنا ربما
ننتقد منه طول أناته وسعة صبره، ورأينا أنه لو تربص بهذا الأمر حتى يجتمع
المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه لكان خيرًا له، لأنه أقرب الوسائل إلى إقناع العالم
الإسلامي بصدقه وإخلاصه في تصديه لتطهير الحجاز من ظلم حسين بن علي
وأولاده، وبكونه هو الزعيم الوحيد الذي يقدر على حفظ الأمن وإقامة العدل في هذه
البلاد وإصلاح شؤونها.
وقد كان الشيخ حافظ وهبة مندوب السلطان هنا، فكشف لنا عن وجه السبب
الخفي في قبول السلطان عبد العزيز لهذه البيعة بإطلاعنا على برقية جاءته من
السلطان في ذلك، مصرحة بأنه لما رغب إليه أهل مكة أولاً في البيعة أبى وامتنع
من القبول وطلب منهم إرجاء الأمر، حتى علم زعماء النجديين بذلك فأيدوا طلب
أهل مكة، فاعتذر لهم أيضًا فلم يقبلوا عذره، بل أنذروه ترك طاعته إذا هو امتنع؛
لأنه امتناع من واجب حتم، وذكروا له في إنذارهم حديث (لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق) رواه أحمد والحاكم بهذا اللفظ، والشيخان وغيرهما بألفاظ أخرى.
وأنه حينئذ لم ير بدًّا من القبول، ثم جاءت جريدة (أم القرى) المكية مصرحة
بذلك، وقد نشرنا عبارتها في هذا الجزء، فعلمنا من هذا وذاك أنه لو لم يقبل
لكانت فتنة لا يعلم كنه عاقبتها إلا الله تعالى؛ لأن زعماء نجد من العلماء والقواد -
وكذا عامتهم - لا يطيعون سلطانهم؛ لأن له قوة من دونهم يستطيع بها إكراههم
على الطاعة، ولا يطيعونه كما يطيع غيرهم من قبائل العرب أمرائهم وشيوخهم
بالعصبية والاشتراك في المنافع، وإنما ميزتهم التي لا مشارك لهم فيها من كل وجه،
أنهم يطيعون إمامهم تدينًا، لأن طاعته واجبة عليهم شرعًا، ولهذا ينفرون إلى
القتال إذا استنفرهم على نفقة أنفسهم، ويقرب منهم في ذلك أكثر زيدية اليمن لا
جميع أهل اليمن مع إمامها، فإن أكثرهم لا يطيعون إلا مكرهين، وقد أمكن للسيد
محمد علي الإدريسي أن يستميل بالمال كثيرًا من الزيدية لطاعته حتى في قتال
الإمام يحيى في صفوفه.
هذا وإن سبب استعجال أهل الحجاز ببيعة السلطان عبد العزيز آل سعود
أمران:
(أحدهما) علم أهل المعرفة والرأي منهم بأنه لا يوجد أحد من شرفائهم ولا
من سادتهم ولا من شيوخ قبائلهم القوية يمكنه أن يقوم بالأمر، ويقيم ميزان العدل،
ويحفظ الأمن في هذه البلاد؛ ليعود موسم الحج والزيارة كما كان، وخيرًا مما كان.
كما يقوم بذلك هذا الرجل بما وراءه من قوة النجديين التي يخشى بأسها عرب
الحجاز وغيرهم من أهل جزيرة العرب، فإن الشريف حسينًا كان أقوى زعماء
الحجاز بأسًا وأشدهم حزمًا وأكثرهم مالاً، وهو لم يستطع أن يؤمِّن الطريق بين
مكة المكرمة والمدينة المنورة، فغيره من أهل الحجاز أولى بهذا العجز. فإذا فرضنا
أن المؤتمر الإسلامي اجتمع وقرر جلاء السلطان بجنوده من الحجاز فلا يشكون في أن
تنفيذه لقرارهم يكون مدعاة للفوضى وفقد الأمن في الحجاز، وامتناع مسلمي
الأقطار عن الحج والزيارة، وحينئذ يهلك أكثرهم جوعًا إن لم يهلكوا بالثورات
والفتن.
(الأمر الثاني) أن أولاد الشريف حسين وغيرهم قد أيدوا في الحجاز
وسورية وفلسطين والعراق ما كان قد انتشر من دعوة العصبية العربية، والامتناع
من قبول تدخل أحد من الأعاجم في شأن الحكم والسلطان في شيء من البلاد
العربية، وكان غرضهم من هذه الدعاية معارضة ما دعا إليه سلطان نجد من
اشتراك زعماء جميع الشعوب الإسلامية في تقرير مستقبل الحجاز، وكان من
حججهم أن أكثر تلك الشعوب واقعة تحت سيطرة الدول الإفرنجية وغير مأمون
على رجالها من تأثيرهم، ثم بثت في الحجاز كله دعاية أخص من دعاية الجنسية
العربية، وهي دعاية الوطنية التي من مقتضاها أن تكون أمور الحجاز ومصالحه
بيد الحجازيين دون غيرهم من العرب، وقد راعوا هذه العصبية الوطنية في
مبايعتهم لسلطان نجد، وصرحوا بها في نص صيغة البيعة التي نشرناها في
الجزء السابق (9: 26) فبهذه النزعة الوطنية وتلك العصبية العربية نفروا من
تحكيم المؤتمر الإسلامي العام في أمر حكومتهم وحاكمهم، واقتصروا على
الانتفاع بقوة سلطان نجد في إقامة الحكم وحفظ الأمن في بلادهم تقديرًا للضرورة
بقدرها، وقد رضي بذلك زعماء نجد، فكان رضاؤهم دليلاً على إخلاصهم في حربهم
لحسين وعلي وعدم طمعهم في جعل الحجاز تابعًا لنجد أو مرتبطًا بها في إدارتها
وسياستها، ولو كانت هذه البيعة بمحض القوة- وهي موجودة بغير نكير- لما
رضي السلطان ولا رجاله بجعل إدارة الحجاز منفصلة عن إدارة نجد.
ومن الدلائل على إخلاص السلطان عبد العزيز عدم قبوله لما عرضه
عليه أهل الحجاز من المبايعة بالخلافة. وقد روى رجل من كبار الألمانيين كان في
جدة أن السلطان قال لهم إن أمر الخلافة لا يعنيكم وحدكم، بل يعني العالم الإسلامي
كله، فمتى وجد في الإسلام زعيم يقتنع العالم الإسلامي بزعامته وكفايته في القيام
بشؤون الإسلام - تعين أن يولوه هذا الأمر باقتناع زعماء شعوبهم أنه هو الذي
يجب اختياره لهذا المنصب.
إن العصبية الجنسية والعصبية الوطنية محرمتان في الإسلام، ولكن المسلمين
قد ابتلوا بهما في بلاد العرب والعجم جميعًا، وهما اللتان فرقتا وحدة الإسلام قديمًا
وحديثًا، وآخر رزايا العصبية الجنسية ما كان من ملاحدة الترك، وسيذوقون من
مرارة فعلتهم ما هو أدهى وأمر مما ذاق من قبلهم من الأمويين ومن بعدهم، ولا بد
لعلاج هذا الداء من حكمة وروية وصبر، وأن أولى المسلمين بالوحدة في هذا
العصر عرب الجزيرة ثم من يليهم، وأولى عرب الجزيرة بها الحجاز ونجد، لشدة
حاجة كل من القطرين إلى الآخر مع كون سكانهما من أهل السنة، ومع هذا رأينا
أن من الحكمة فصل إدارة كل منهما من الأخرى إلى أن يتم الاستعداد للوحدة.
وينبغي للمخلصين من زعماء المسلمين وأهل الغيرة والرأي منهم أن يقدروا
ما يعبر عنه أهل السياسة بالأمر الواقع قدره، ولا يجرمنهم ما ينكرون منه على
اتباع أهوائهم، والتعصب لآرائهم، فإن العاقل المخلص من يحاول الانتفاع في كل
حال بحسبها، وسنكتب مقالاً خاصًّا فيما ينبغي عمله في الحجاز إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (المنار) : لم نسمع في هذا العصر عن ملك مسلم ولا خلفاء الترك مطالبة الدول الأوربية بحفظ حقوق المسلمين في بلادهم، ولكن هذا الملك العربي المسلم يطالبهم بحقوق العرب عامة وحقوق المسلمين كافة.(26/779)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مؤتمر الخلافة
جدد مجلس إدارة هذا المؤتمر في مصر الدعوة إلى عقده، وحدد الوقت له
فجعله غرة القعدة الحرام من هذا العام؛ لقربه من موسم الحج العام، وأرسل الدعوة
الآتية بإمضاء رئيسه شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بالقطر المصري
إلى رؤساء الحكومات الإسلامية من ملك وسلطان وأمير - وإلى رؤساء الجماعات
والجمعيات المشهورة - وإلى من عرفت الكتابة العامة للمجلس من أهل الرأي من
علماء المسلمين وكتَّابهم ووجهائهم في الأقطار المختلفة، وقد ساوى في هذه الدعوة
بين أهل السنة السلفيين كأهالي نجد، وأهل الحديث في الهند، والخلفيين في سائر
الأقطار، وبين غيرهم من الفرق الإسلامية ذات الحكومات أو الجماعات الكبيرة
كالشيعة الزيدية، والاثنى عشرية، والإباضية من معتدلي الخوارج، مع العلم بأن
للزيدية إمامًا من أنفسهم، وبأن الاثنى عشرية يقولون بأن الإمامة لمحمد المهدي
ابن الإمام حسن العسكري الغائب عن العيان، المنتظر ظهوره في كل آن، والعلم
بأن بعض الشعوب الإسلامية قد خرج أمر الحكم فيها من يدها، وبأن الحكومات
الإسلامية المستقلة حريصة على عدم خضوعها لخليفة ينصب في غير بلادها.
أصاب المجلس في تعميم الدعوة وتوجيهها إلى جميع فرق أهل القبلة، بل
قيل: إنه وجهها إلى إمام الإسماعيلية، وما هم من أهل القبلة. فإن منصب الخلافة
الذي يراد البحث فيه إن كان خاصًّا بالسواد الأعظم من حيث الحكم والدولة، فإن
النظام الذي يجب وضعه له مما ينبغي أن يشترك فيه جميع أهل القبلة، ويراعوا
فيه حقوق الجامعة العاملة للملة، وإخاء الإسلام الروحي الذي لا يختلف بسبب
الكثرة والقلة، فإن التنازع على هذا المنصب في القرون الأولى قد كان بسياسة
دخيلة أراد بها مبتدعوها التفريق، وصدع الوحدة الإسلامية لمآرب لهم فيها، وقد
تم لهم ما أرادوا من التفريق، ولكن لم ينالوا به تلك المآرب التي أرادوها، وقد
زالت تلك الفتن وجهلت الجماهير ما كان من مقاصد أهلها، ولكن الاختلاف
والتفرق الذي أحدثته ما زال يفتك بالإسلام والمسلمين، وانحصرت فائدته في
خصومهم الساعين في القضاء على دينهم ودنياهم، فصار من الواجب أن يُراعى
في نظام الخلافة جمع كلمة المسلمين على وقاية الإسلام مما يساوره في هذا العصر
من دعاة الإلحاد والإباحية، ثم من دعاة الملل أو البدع المستحدثة، ووقاية المسلمين
من غوائل العصبيات الجنسية والوطنية، فإن في الإمكان قيام كل قوم في كل وطن
بما يرتقون به ويعمرون أوطانهم، مع المحافظة على عقائد الدين وآدابه الواقية من
شرور الإلحاد والإباحية، وعلى المودة بين إخوانهم في الدين من الأقوام المقيمين
في أوطان أخرى، وجعل ما ذكر من جمع الكلمة على الوقايتين والمحافظتين بنظام
يشترك في وضعه مندوبون يمثلون الجميع ليمكن تنفيذه، وبهذا يكون منصب
الخلافة معقد الارتباط بين جميع المسلمين الخاضعين لأحكام الخليفة الحكومية وغير
التابعين لها.
نُشرت الدعوة إلى عقد المؤتمر في الموعد الذي ضُرب له؛ فارتاح لها
جماهير المسلمين الذين كانوا متفقين على اقتراح هذا المؤتمر، وتصدى للصد عنها
والمناقدة فيها فريقان من محرري الجرائد والكاتبين فيها (أحدهما) فريق الملاحدة
واللادينيين الذين يبثون في مصر دعوة الكفر والحكومة اللادينية (وثانيهما)
فريق الذين يظنون أن دعاة المؤتمر من كبار العلماء وغيرهم يريدون جعل الخلافة
في مصر، وهم يرون أن جعلها في مصر- وأعلام الجيش البريطاني مرفوعة فيها
ونفوذ الدولة البريطانية مسيطر عليها - جناية على الإسلام والمسلمين، وقد اتفقت
جرائد الوفد المصري أو السعدي، وجريدة السياسة التي هي لسان الحزب الحر
الدستوري على استنكار عقد هذا المؤتمر بمصر، وإنكار أهلية كبار علماء الدين
للدعوة إليه، وعلى أن مثل هذا الأمر السياسي الخطير من حقوق مجلسي الشيوخ
والنواب المصريين، كما اتفقت على أن جعل الخلافة في مصر يضرها ولا
ينفعها.
نحن لا نريد مناقشة هؤلاء الكتاب، ولا مَن وراءهم من زعماء الأحزاب،
ولكننا على اعتقادنا أن مسألة نصب خليفة للمسلمين يرضاه السواد الأعظم منهم ما
أتى أوانها، ولا مُهدت سبلها. نرى الدعاة إلى عقد المؤتمر لهم حق الدعوة ولمن
دونهم أيضًا؛ لأنها دعوة إلى أمر مشروع ومصلحة عامة، ولكن ليس لهم وحدهم
حق الفصل فيها، وهم لم يدَّعوا هذا الحق، بل دعوتهم برهان على عدم دعواهم،
ونرى أنه ينبغي لكل من قدر على إجابة دعوتهم أن يجيبوها، وأن فوائد عقد
المؤتمر التي لا يمكن المراء فيها هي البحث في نظام الخلافة وفوائده وبيان أحوال
الشعوب الإسلامية ووسائل استفادتهم منه، وأهمه ما أشرنا إليه آنفًا من الوقايتين
والمحافظتين، والراجح عندنا أن مؤتمر هذا العام لا يتمكن من النظر في اختيار
الخليفة مطلقًا، بل نشك في قدرته على وضع نظام الخلافة وتقريره في عشرة
الأيام المحددة لاجتماع المؤتمر، وقد اقترحت جريدة الاتحاد التي هي لسان الوزارة
المصرية الحاضرة والبلاط الملكي تأجيل انتخاب الخليفة إلى مؤتمر آخر يعقد في
غير مصر.
وليتدبر العقلاء والزعماء عاقبة فشل هذا المؤتمر، وليعلموا أنه عار عظيم
عليهم ومبطل للثقة بالدعوة إلى مؤتمر آخر، وهو ما لا بد منه، فعليهم بالحزم
والإقدام، وطرح الوساوس والأوهام، فقد ثبت أن في مصر من الحرية لإقامة هذا
المؤتمر واستقلال جميع من يحضره بإبداء آرائهم فيه بدون محاباة ولا مراعاة لغير
المصلحة العامة.
***
نص الدعوة الرسمية لحضور مؤتمر الخلافة
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر الشريف ورئيس المؤتمر
الإسلامي العام للخلافة بمصر.
إلى حضرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد: فإني أحمد الله إليكم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الداعي إلى الله
بإذنه، وعلى آله وصحبه الذين جمعوا كلمة المسلمين، وأظهروا شأن الدين
خصوصًا الخلفاء الراشدين.
ثم أنهي إليكم أنه لا بد أن يكون قد وصل إلى علمكم ما قررته الهيئة العلمية
الدينية الإسلامية الكبرى بالديار المصرية يوم الثلاثاء 19 شعبان سنة 1342 هـ
(25 مارس سنة 1924م) في شأن الخلافة، بعد أن حدث من الأتراك ما حدث في
أمرها.
وإنا ملحقون بكتابنا هذا صورة ما قررته الهيئة العلمية المشار إليها، وقد
تضمنت المادة الرابعة عشرة منه أنه من الضروري أن يعقد مؤتمر ديني إسلامي
عام، يدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للنظر في أمر الخلافة من الوجهة
العلمية الدينية، وأن يكون عقد المؤتمر برياستنا في مدينة القاهرة في شهر شعبان
سنة 1343 هـ (مارس 1925م) .
وبعد ذك ألفنا مجلسًا إداريًّا للمؤتمر، فاهتم بإرسال ذلك القرار إلى الأمم
الإسلامية، وبدعوة ممثليها إلى حضور المؤتمر العام، واتخذ لذلك وسائل كإرسال
الكتب الخاصة والنشر في مجلة المؤتمر وفي الصحف السيارة، وسعى في هذا
الأمر جهده، ونشر قرار الهيئة العلمية بألسِنة مختلفة في الجهات الإسلامية.
وبعد ذلك جدَّت أمور لها اتصال بالحال الإسلامية العامة، وأهمها ما كان في
جزيرة العرب من الاضطراب والحرب، ووردت اقتراحات من أهل الرأي
والمكانة في العالم الإسلامي، فكان من اللازم النظر في ذلك بما يلائمه وفاءً بحق
الإسلام والمسلمين.
فاجتمع المجلس الإداري للمؤتمر برياستنا يوم السبت 22 جمادى الآخرة سنة
1343هـ (17 يناير سنة 1925م) ونظر في هذه الشؤون فرآها تتطلب تريثًا
وسعة في الوقت تتجاوز الموعد المحدد لعقد المؤتمر، فقرر تأجيله سنة مراعاة لتلك
الاعتبارات، ومحافظة على الصلة بين المسلمين، وعلى جمع كلمتهم في أمر
الخلافة، وانتظارًا لأن يحضر المؤتمر أكثر عدد ممكن من ممثلي الشعوب
الإسلامية. وقدَّر المجلس أن هذه الفرصة الزمنية تسع انجلاء الحوادث التي غشيت
جزيرة العرب، وانقضاء الحرب من بلاد الحجاز، وأنها من أهم البلاد الإسلامية
التي ينبغي أن تمثل في المؤتمر، وتسع معالجة الاقتراحات الواردة، ومعالجة غير
ذلك من الأمور.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها في بلاد الحجاز اجتمع المجلس الإداري
للمؤتمر برياستنا يوم الأربعاء 20 رجب سنة 1344 هـ (3 فبراير سنة 1926م)
واطلع على الإجابات الواردة من الأمم الإسلامية بالاشتراك في المؤتمر، وقرر
أن يعقد المؤتمر الإسلامي العام للخلافة في مدينة القاهرة ابتداء من يوم الخميس
أول شهر ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (13 مايو سنة 1926م) ثم قرر أن
تنتهي جلسات المؤتمر يوم السبت 10 شهر ذي القعدة (23 مايو) المذكورين.
وقرر أن تُوجَّه الدعوة العامة والخاصة إلى الأمم الإسلامية؛ ليحضر المؤتمر
ممثلوها ممن يقع الاختيار عليهم من أهل العلم والرأي والمكانة.
فالإسلام يدعوكم إلى حضور المؤتمر، وغيرتكم الدينية تحتم عليكم ذلك. إن
هذا المؤتمر أول مؤتمر إسلامي عام يجتمع فيه المسلمون؛ ليؤدوا فريضة النظر
في أهم شؤونهم الدينية، وإن في ذلك لتشييدًا لدعائم الإسلام، ورأبًا لصدع
المسلمين، فكل مسلم غيور على دينه يهمه أن يحضر المؤتمر الإسلامي العام،
ويتغلب على ما عسى أن يعترضه من المشقات في سبيل الله والدين.
إن في حضور المؤتمر الإسلامي العام لمظهرًا عظيمًا لاتحاد المسلمين وإن
تباعدت أقطارهم، وتحقيقًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:
10) ولقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ولقوله
تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ولقوله صلى الله عليه
وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) .
فنرجو أن يأتينا منكم خطاب أو برقية في وقت قريب بحضوركم أو حضور
من يقع الاختيار عليه من المندوبين للاحتفاظ بحقكم في التمثيل، كما نرجو تعيين
زمان الحضور إلى القاهرة.
إن النظر في أمر الخلافة أو الإمامة العظمى والأخذ بالشورى، مما يدعو إليه
الدين الإسلامي، وقد جاء في المادة الثانية عشرة من قرار الهيئة العلمية الدينية
الإسلامية الكبرى (إن منصب الخلافة له في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع
المسلمين من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر، لما يترتب عليه من إعلاء شأن الدين
وأهله، ومن توحيد جامعة المسلمين، وربطهم برباط قوي متين، فالواجب على
المسلمين أن يفكروا في نظام الخلافة، وفي وضع أسسه على قواعد تتفق هي
وأحكام الدين الإسلامي، ولا تتجافى عن النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون
نظمًا لحكمهم) .
فندعوكم بلسان الدين إلى حضور المؤتمر الإسلامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) .
نسأل الله أن يحقق رجاء المسلمين ويمدهم بمعونته، ويذلل لهم الصعاب،
وييسر لهم السبل حتى يحضر ممثلوهم المؤتمر الإسلامي العام، ويُشهدوا الله ورسوله والمؤمنين على أنهم قاموا بما أمر الله، ولم يخشوا في الله لومة لائم.
اللهم فاشهد أننا قمنا بما فيه الخير والصلاح، وبيدك التوفيق والنجاح
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رجب سنة 1344 ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
فبراير سنة 1926 ... ... ... ... ... ورئيس المؤتمر
... ... ... ... ... (الختم)
__________(26/789)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(المصحف الشريف، طبعة الحكومة الأخيرة له)
كانت المصاحف الشريفة تُكتب كالكَتْبة الأولى التي كتبها بعض كبار أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرها أهل الحل والعقد، وأمر الإمام الأعظم
عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في عهد خلافته بتوزيع نسخ منها على
الأقطار؛ ليعتمد عليها في الحفظ والنسخ. ويُسمى المصحف العثماني الرسمي
المذكور بالمصحف الإمام؛ لأن المسلمين كانوا يأخذون عنه ما ينسخون من
المصاحف في كل قطر، واشترط العلماء المقرؤون في القراءات المعتدّ بها أن
تكون موافقة لرسم هذا المصحف، فما لا يوافقه لا يعد من القرآن المتواتر الواجب
الاتباع، ولما ضعفت اللغة العربية بكثرة دخول الأعاجم في الإسلام اضطر
المسلمون إلى نقط المصاحف وشكلها؛ لأجل ضبط القراءة وعدم الغلط والتحريف
فيها ممن لم يتلق القرآن من المقرئين الحافظين.
ثم استحسن بعض الناس في القرون الوسطى أن يغيروا من رسم المصحف
الإمام ما يشتبه فيه القارئ غير المتلقي عن القراء، فيكتبوه بما استحدثوا من قواعد
الرسم ففعلوا، وأكثر ما غيروا يدخل في باب واحد وهو زيادة حرف المد في
الممدود كالعالمين ومالك، والكتاب، وأبصارهم، وغشاوة، ويخادعون، وطغيانهم،
والضلالة، وظلمات، والكافرين، وأبصارهم، والثمرات، وصادقين، والأنهار،
وأزواج، وأمثال ذلك مما يكثر حذف الألف فيه من رسم المصحف الإمام، وهذه
الأمثلة التي أوردناها هي من سورة الفاتحة، وربع الحزب الأول من سورة البقرة،
فصاروا يكتبون ذلك كله بالألف، وقد ترك أكثرهم ألفاظًا أخرى أبعد عن قواعد
الرسم مما ذكر لندرتها: كالربا فإن رسمها في المصحف بألف قبلها واو هكذا
(الربوا) وكذا كلمة العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وكالصلاة والزكاة فإنهما فيه بالواو هكذا (الصلوة الزكوة)
وجرت مطابع الآستانة وأكثر مطابع مصر وغيرها على هذا التغيير، وكان ينبغي
أن يذكر في آخرها تنبيه يبين فيه ذلك في المصاحف المطبوعة والمخطوطة، وقد
بقي في مصر وبعض بلاد الأعاجم من يستمسك باتفاق العلماء على وجوب اتباع
رسم المصحف المأثور عن الصحابة (رضي الله عنهم) ويحافظون على ذلك
خطًّا وطبعًا. ومنه المصحف المعروف بمصحف أبي زيد والمصحف المعروف
بمصحف المليجي من مطبوعات مصر، والأول أصح وأضبط، وأما مصاحف
الآستانة فلم نر منها شيئًا من ذلك.
ثم إن الحكومة المصرية عنيت بطبع مصحف لم يطبع مثله في بلاد الإسلام،
وقد ذكرنا في ترجمة المرحوم حفني بك ناصف خبر اللجنة التي أُلِّفت لتحرير
رسمه على أصح الروايات المدونة في الكتب التي أُلِّفت في هذا الموضوع،
ولضبطه وتصحيحه وشكله وعد آياته ووضع علامات الوقف له، وقد أتمت اللجنة
عملها وكتبت بيانها له وأمضته في 10 ربيع الآخر سنة 1337، وكانت حروفه
كلها قد جمعت في المطبعة الأميرية الشهيرة ببولاق، وقرئ كله مرارًا كثيرة في
عدة سنين حتى تمت الثقة بأنه خالٍ من الغلط خلوًّا تامًّا، ثم طبع في مصلحة
المساحة بالجيزة سنة 1342، وطبع بيان اللجنة في آخره، وهو جدير بأن يعوِّل
عليه العالم الإسلامي كله، وقد طبع منه نسخ كبيرة على ورق سميك، وطبعت
نسخ أصغر منها على ورق رقيق كأحسن ما طبع في الآستانة بل خير منها، ولكن
النسخ المطبوعة المُعدَّة للبيع في مخازن وزارة المعارف لا تزال قليلة، لا تفي
ببعض الحاجة، فعسى أن تزاد لتكفي حاجة مصر وسائر البلاد.
وقد بينت اللجنة في التعريف الذي وضعته لهذا المصحف الشريف المآخذ
التي اعتمدت عليها من الكتب المصنَّفة في الرسم وضبط الشكل، والعد والتجزئة
والتحزيب، وبيان المكي والمدني، ومواضع الوقوف وعلاماتها، وسجدات التلاوة،
حتى السكتات التي يوجبها حفص الذي يقرأ مسلمو الشرق كلهم على روايته.
وانفرد هذا المصحف بأشكال من الحركات والحروف للضبط والوقف والأداء
الموافق لقواعد فن التجويد فصَّلته اللجنة في بيانه، ومما لم أستحسنه من هذه
الاصطلاحات إغفال بعض الحروف من علامة السكون للدلالة على الإدغام - وكذا
الإخفاء - من تجويد الأداء وتشديد الحرف المدغم فيه، فإن أكثر القراء في هذه
المصاحف لا يقرؤون بيان اللجنة لهذه الاصطلاحات، وأكثر مَنْ يقرأُها مِنْ العوام
لا يفهمون المراد منها، فكان الأولى أن يكون الشكل كاملاً على المعهود في سائر
المصاحف، ويزاد عليها الشدة الدالة على الإدغام منفردة كما في بعض المصاحف
الهندية، وكذا علامة الإقلاب.
***
تقرير الدكتور فخري
(طبيب الجلد والأمراض التناسلية عن انتشار البغاء والأمراض التناسلية
بالقطر المصري، وبعض الطرق الممكن اتباعها لمحاربتها)
رفع الدكتور تقريره هذا سنة1924 لحضرة صاحب الجلالة الملك وحضرات
أصحاب السمو الأمراء، وحضرات أصحاب الفضيلة العلماء ورؤساء الدين،
وجميع الهيئات الرسمية وغير الرسمية بالقطر المصري.
تكلم فيه عن البغاء الرسمي وغير الرسمي بمصر القاهرة، وتعرض فيه
لبعض إحصائيات عن عدد العاهرات الأجنبيات والوطنيات بمصر، وقال أنه
يأسف جد الأسف لعدم عناية مصلحة الصحة برقابتهن بطريق جدي يخفف من
أضرارهن، ويوقف تيار العدوى بالأمراض الجلدية والتناسلية التي فشت في هذه
الأمة البائسة التي أهملت دينها، ونسيت كرامتها وشرفها، ولا سيما العاهرات
الأجنبيات ذوات الدرجة الأولى، فإنهن لا يخضعن لنظام الكشف الطبي على ما فيه
من نقص فاحش، فأصبحن شرًّا مستطيرًا وخطرًا كبيرًا.
والذي يقف على تقرير الدكتور يشعر بالألم الشديد مما وصلت إليه حالة البلد
الأدبية والصحية من الانحطاط والتدهور، وحسب القارئ أن يرى من إحصائيات
الدكتور أن عدد (مَنْ عَرَفَ مِنْ) المصابين بالأمراض الجلدية والتناسلية في عام
واحد سنة 1920 بسبب البغاء الرسمي وغير الرسمي (820200) ثمانمائة
وعشرون ألفًا ومائتان، وقد أنحى الدكتور - في أدب وصراحة - باللائمة على
النظام المتَّبع في رقابة العاهرات بمصر، وقارَنَ بينه وبين نظم الدول الأخرى،
وطلب من الحكومة بإلحاح العناية برقابة هذه الطائفة؛ كي يخف ضررها.
وللدكتور في وصف أضرار العاهرات كلمات مؤثرة تشف عن وجدان صادق
وإحساس شريف، إذ يقول وهو يصف العاهرات ذوات الدرجة الأولى: (فبعضهن
يحترفن حرفة التمثيل أو الرقص أو الخدمة في بعض محال التجارة أو القهاوي
والبارات وغيرها من الأعمال) .
(وفي ساعات فراغهن ينتشرن كجيوش الجراد في أنحاء العاصمة؛ ليلقين
شباكهن على شبيبة البلاد ورجالها وكهولها، ولهن من جمال شكلهن وسحر عيونهن
الجنسي الوراثي أسلحة قوية للفتك بعقول الطائشين! ولمهاجمة قلوب من يتعطشون
للجمال الأوربي الخلاب، ولهن من خروجهن على رقابة البوليس نوع من الكرامة
يسحر كثيرًا من الرجال الذين تعودت نفوسهم أن تمجَّ كل ما له علاقة بالعاهر
الرسمية. هذه هي الأفعى صاحبة صولجان الامتيازات، وتلك هي عقرب مصر
الذي يتغذى من دماء أبنائها، ويسمم حياة رجالها، ويقتل مستقبلها تحت ستار نوع
من الأنظمة لو وجهت له عناية قليلة لقل شره. وضعفت مصيبته) . اهـ (ص
12 و13) .
ثم تكلم الدكتور على الأسباب التي تحمل على انتشار البغاء، وأهمها وجود
المواخير المصرح بها في القطر، وإهمال الرجل زوجه، وصرفه الوقت الطويل
في المقاهي وأماكن الطرب واللهو، وترك دور التمثيل الساقط يدخلها الشبان
والنساء بدون رقابة، وكثرة الزواج الإجباري مع جهل الآباء بمصير بناتهم وبنيهم،
ومثله في ذلك الزواج النفعي، واختلال حال البلد اقتصاديًّا وهو نقص برامج التعليم.
ثم تكلم على طرق مقاومة البغاء وقال: لا بد فيها من وضع حد للرجل؛ لأنه
شريك للمرأة في ذلك الفساد، فإذا ضُيِّق على العاهر وتُرك الرجل وشأنه لا يعدم
بجبروته امرأة أخرى يفسدها حتى تصير عاهرًا، وهكذا. ولا بد من رفع المستوى
الأخلاقي، وتعاون رجال الدين والتربية مع رجال السلطة في تنمية روح الفضيلة
في نفس الناشئين، ومنع المواخير الرسمية. ويرى الدكتور كما يرى غيره ممن
بحثوا نظام العاهرات أن منع البغاء دفعة - وإن كان فيه شيء من الضرر - إلا أنه
أخف ضررًا من هذه الفوضى التي وصلت إليها حالة البلاد، ويطلب من جميع
الهيئات التعاون على منعه.
وإني أشكر للدكتور فخري غيرته الشديدة على حالة البلاد الصحية والخُلُقية
وإخلاصه لمهنته، وقيامه بما توجبه عليه، ولو أن كل طبقة تقدمت لحكومة البلاد
بما لديها من ضجيج وما يتفق مع عملها لتحسنت الحالة، ونهضنا بأمتنا نهضة
مباركة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد العدوي
(المنار)
إن في هذا التقرير من العبر أعظم مما اختار الأستاذ المقرظ منه بل كله فوائد
وعِبَر لمن يريد أن يعتبر، وأين المعتبرون؟ إن التقرير يثبت لنا أن جل رزايا
فاحشة البغاء، سببها التفرنج، حتى إن تقليد نسائنا للأوروبيات في طراز الأزياء
(الموضة) هي أكبر أسباب البغاء السري الوطني، ومع هذا نرى كتَّابنا ومنتحلي
الفلسفة والتجديد فينا دائبين على ترغيب النساء والرجال في السير في هذا التقليد
إلى آخر حدوده بلبس (البرنيطة) ليجهزوا على هذه الأمة في أجسادها وأرواحها
وأموالها.
__________(26/795)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد السادس والعشرين
بسم الله وبحمده نختم المجلد السادس والعشرين من المنار، وهو المحمود في
كل حال، وفي بدء كل أمر ذي بال وختام، ولا نزال نحن والمشتركون في المنار
على ما وصفنا في خواتيم السنين الماضية من تقصير، يقصرون عمدًا في الأداء
والوفاء، فنقصر اضطرارًا في المضاء، ونقصر عمدًا في الاقتضاء والتقاضي،
وفي أمثال العوام (المال السائب - أي المسيَّب - يعلم الناس الحرام) وقد كان
من عاقبة تقصيرنا في المطالبة، وترك الأمر إلى أريحية المشتركين وديانتهم،
وعدم محاكمة المماطلين منهم - أن رأينا غرائب من الدناءة والطمع من أغنيائهم
ووجهائهم، منها أن غنيًّا مترفًا من أصحاب القصور الفخمة، والمركبات الكهربائية،
والخدم والوصائف من الإفرنج والبرابرة، طلب بعد تكرار المطالبة وصلاً
باشتراك المجلة عن سنين لم يدفع فيها شيئًا فأعطيه، فأخذه وضرب موعدًا قريبًا
للدفع ولم يدفع فيه، ثم ضرب موعدًا آخر فموعدًا آخر فموعدًا آخر، وقد مرت
السنون على هذه المواعيد العرقوبية، وهو لا ينكر الوصل، ولعله لو قُوضي إلى
المحكمة لأنكره، أو دفع المال تفاديًا من المحاكمة.
وأعجب من أمر هذا الغني الضعيف في العلم والدين وشرف النفس والبيت
أمر غني آخر معدود من علماء الدين المؤلفين، ومن السادة العلويين، مطل ولوى
عدة سنين، ثم أعطى قليلاً ما عليه وأكدى، ثم قال لجابي المجلة بعد سنين
أخرى أنه يجب أن يعفى من الاشتراك الماضي والمستقبل؛ لعلمه وشرفه (! !) فإن
كانت هذه آيات العلم والشرف وثمراتهما، فلا بد أن تكون آيات ضدهما -
وهما الجهل والخسة وثمراتهما في النفس - الوفاء وأداء، الحق، ومساعدة نشر
الدين والعلم، والترفع عن مثل هذا السؤال، واستثقال حمل منن الرجال، وإذًا
يكون الجهل أفضل من العلم، وخسة الأنساب أفضل من شرفها (! !) كلا، بل
كان حرمان منتحلي العلم الديني وحاملي شهادات الأنساب من التربية الدينية
العالية - سببًا لضياع ما كان لسلفهما من الاحترام والمكانة، إذ كانوا أكرم الناس
وأعزهم أنفسًا.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
قد شرحنا في الجزء الرابع من هذا المجلد الذي صدر في آخر المحرم أنواع
الأعمال الكثيرة التي تزاحم اشتغالنا بتحرير المنار، وقد زادت بعد ذلك عما ذكر
فيه نوعًا أو نوعين، ثم سافر بعد صدوره بشهر أو شهرين وكيل الإدارة إلى
سورية، فمكث بضعة أشهر فزادت صنفًا أو صنفين، حتى اضطررنا إلى تأخير
بعض الأجزاء عن موعدها، ثم استعنَّا الله تعالى على تدارك هذا التقصير، حتى
جعلنا خاتمة هذه السنة سلخ رمضان كالتي قبلها.
وقبل تمام هذا الشهر نفسه يتم لنا ما كنا شرعنا فيه ووعدنا به في خاتمة
المجلد السابق من توسيع المطبعة وإدارتها بقوة الكهرباء؛ فتتوفر الأسباب لإنجاز
طبع المنار وسائر مطبوعاتنا بالسرعة والإتقان، وسيكون أكبر همنا في المجلد
السابع والعشرين موجَّهًا إلى مجاهدة الملاحدة والإباحيين الذين نشطوا في هذه الأيام
في تعميم دعوتهم إلى هدم العقائد، والتجرئة على الفواحش والرذائل، وتقطيع
الروابط الملية والقومية، وإعداد الأمة لقبول السيطرة الأجنبية، وجميع الفتن
المادية حتى البلشفية. وإلى مجاهدة البدع والخرافات القديمة التي يبثها أهل الطرق
التي تسمى صوفية، وما ولدته من البدع الحديثة كالمسيحية القاديانية، وكل هذا من
قبيل الهدم. ثم إلى تأييد دعوة الإصلاح، وتجديد أمر الإسلام، بالرجوع في عقائده
وعباداته إلى القرن الأول، والاعتماد في قوته وعزته على فنون العصر الحاضر،
هذا هو البناء المطلوب، ولعله لا يتم إلا في جزيرة العرب، كما أشارت إليه
الأحاديث النبوية.
وإننا نكل إلى دين قرائنا ومروءتهم وشرفهم أمر الوفاء لنا بتسديد قيمة
الاشتراك في وقتها، ومساعدتنا على جهادنا بكتابة المقالات، وانتقاد ما يرون من
الخطأ فيما ننشر {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2)
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وسلام على المرسلين، والحمد لله رب
العالمين.
__________(26/799)
المجلد رقم (27)(27/)
رمضان - 1344هـ
أبريل - 1926م(27/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد السابع والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي العربي خاتم رسل الله،
وآله وصحبه ومن والاه، ولعنة الله والملائكة والنبيين، وجميع عباد الله الصالحين،
على جميع فرق المبتدعين في هذا الدين، الذين فرقوا كلمة الموحدين، وأضعفوا
جماعة المسلمين، فكانوا شرًّا عليهم من جميع فرق المشركين، ونالوا من الإسلام
ما لم ينل أحد من أعدائه الكافرين.
أما بعد فإن المنار يبتدئ هديه في مجلده السابع والعشرين، وقد تجدد في
العالم الإسلامي أمر عظيم أيّ عظيم، وهو استيلاء الدولة الإسلامية السُّنية السلفية
الوحيدة على الحجاز، وتمكنها من مهد الإسلام، وظهور أمارات أعلام النبوة
المصرحة بأن الإسلام سيأرز بين المسجدين (الحرمين الشريفين) كما تأرز الحية
في جحرها. ويعتصم من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل فقد صار للإصلاح
الإسلامي دولة مسلحة تقاوم البدع التي فتكت بالمسلمين ففرقت كلمتهم، ومزقت
شملهم، وجعلتهم باتباع شياطين الأهواء أعداء بعد أن ألف الله قلوب سلفهم
بالقرآن فأصبحوا بنعمته إخوانًا.
وإننا نعرض على قراء المنار أهم شؤون الإسلام الحديثة في فاتحة هذا المجلد
كعادتنا كما في سوابقه فنقول:
حال الإسلام والمسلمين في هذا العهد:
بالأمس خسر الإسلام دولة كانت منذ الأجيال الوسطى من تاريخه أشد دولة
بأسًا - وهى آل عثمان - وخلفتها دويلة تركية هي أشد دول الأرض عداوة له،
واليوم تجدد له دولة جديدة هي أرجى دولة لتجديد هدايته وإعادة مجده إلى شبيبته،
إذا عرف سائر المسلمين كيف يؤيدونها وينصرونها، ويفيدونها ويفيدون بها،
وهي الدولة العربية السعودية التي قامت في مهد الإسلام، ويرجى أن تكون مظهر
أنباء الرسول عليه الصلاة والسلام.
فأين مسلمو هذا الزمان منها ومن الإسلام؟
إننا نقرأ ما كتب أئمة الدين في خير القرون من إنكار البدع والمحدثات التي
شوهت الإسلام، ثم نجد الشكوى من ذلك قد تضاعفت في القرون الوسطى، ثم
تفاقمت وطغى طوفانها في القرون الأخيرة. حتى صرنا نسمع خطباء المساجد في
هذا العصر -على جهل أكثرهم وابتداعهم- يقولون على منابرهم: لم يبق من
الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وإن المعروف قد صار منكرًا،
والمنكر قد صار معروفًا، ومن المصائب أن هذه الأقوال تصدُق عليهم وعلى
أمثالهم من المتصدرين للتعليم والوعظ والإرشاد، فالذي يحذرك من البدع
والمنكرات هو من أشد أنصارهما.
فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكد أمره، ولعن تاركي
التناهي عن المنكرات التي يفعلها بعضهم في كتبه، وعلى ألسنة رسله، لئلا يترك
المعروف، ويفشو المنكر فيصير كالمعروف، فيختل أمر الفضائل ويفسد نظام
الآداب، بل قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (من رأى منكم منكرًا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه
أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وإذا كان إنكار المنكر بالقلب وحده - وهو كراهته واستقباحه والنفور منه
ومن أهله - أضعف الإيمان، وكأن أقواه وأكمله لا يكون إلا بإزالته بالفعل، فما
القول إذًا في الذين لا ينكرونه بقلوبهم لألفتهم له وأنسهم به؟ وما القول فيمن هم شر
منهم وهم الذين مرنوا على المنكر واستحلُّوه واستعذبوه حتى استحلُوه، أو
اعتقدوا أنه معروف وليس بمنكر؟
ترك المسلمون تغيير المنكر بالفعل بضعف الخلافة وصيرورتها لقب تشريف،
ثم تركوا إنكاره بالقول لفشوّه في الحكام المستبدين والزعماء الظالمين وضعف
الدين في جماعات المسلمين، إلا قليلاً منهم كانوا يظهرون حينًا ويخفون أحيانًا،
ولا يجدون لهم شوكة ولا سلطانًا، حتى ظهر في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة
وأول ما بعده الإصلاح الوهابي في نجد.
قام عالم نجدي اسمه محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى التوحيد الخالص، وهو
عبادة الله تعالى وحده بما شرعه للناس في كتابه وعلى لسان رسوله، ويأمر
بالمعروف من السنن، وينهى عن المنكرات من المعاصي والبدع.
قاومه الناس وآذوه كما آذوا من قبله ومن بعده كل داع إلى الحق والخير،
وسخر الله من الزعماء الأقوياء من آزره حتى تأيد القول بالفعل، وكان أول منكر
من منكرات الشرك أزيل بالفعل قطع شجرة كانت تعبد في تلك البلاد كذات أنواط
في الجاهلية، وشجرة الحنفي وشجرة المنضورة في بلدنا هذا (مصر) فقامت
البلاد وقعدت، وعزم عباد الشجرة على الفتك به، فحماه زعيم هذا البيت السعودي
ومنعه من كل من يريد به سوءًا، وانتشرت دعوته الإصلاحية بقوه سيوف هذا
البيت الكريم في جزيرة العرب حتى استولوا على الحجاز، وكادوا يجددون للإسلام
مجده وحضارته بمثل نهضته الأولى، كما صرح بذلك كل من عرف كنه حالهم من
الشرقيين والغربيين، لولا أن تصدت لهم الدولة العثمانية، فحاربتهم من جهة
العراق والحجاز، ولما عجزت عنهم استعانت عليهم بدولة مصر الفتاة، فحاربهم
محمد علي حتى أخرجهم من الحجاز.
ولم تكتف الدولة التركية وأعوانها حتى من العرب بهذه الحرب، بل أثارت
عليهم حربًا شرًّا منها وأشأم، وهي حرب الدعاية بالطعن في عقائدهم وأعمالهم،
وتسمية سنتهم بدعة، وخيرهم شرًا، عرفهم نكرًا، بل إيمانهم كفرًا - أيضًا،
وكتب المتزلقون في ذلك الكتب والرسائل الكثيرة وأودعوها من فنون الكذب
والبهتان ما لايخطر إلا في بال الشيطان، حتى إن بعض زنادقة العراق،
وملاحدته المجاهرين بالتعطيل والإلحاد، ألف كتابًا في الافتراء عليهم تزلفًا إلى
الوالي التركي والدولة التي كانوا يدهنون لها بوصفها بحامية السنة، وإنما كانت
تريد حماية ملكها وسلطانها وقطع الطريق على الأمة العربية، حتى لا تتجدد لها
دولة قوية، وإلا فإن بلادها كانت مملوءة بالبدع والضلالات وهي لم تُزل منها شيئًا،
وكانت تعترف بإسلام بقايا طوائف الباطنية حتى الإسماعيلية الذين يعبدون آغا
خان المشهور.
وقد ألقى رجال السلطان عبد الحميد الأخير الشقاق والعداوة بين آل سعود وآل
رشيد في نجد، وما زالوا يمدون ابن الرشيد بالسلاح والمال إلى أن تمكن من
إخراج آل سعود من نجد، واستولى على الرياض عاصمة إمارتهم، حتى كان ما
كان من نهضة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل المؤيد بنصر الله وتوفيقه،
واستعادته لنجد، ثم استيلائه على إمارة ابن الرشيد وعلى بلاد الإحساء وكل ما كان
بيد الدولة العثمانية من تلك البلاد، ثم على بلاد عسير، ثم على المملكة الحجازية
برمتها.
هذا هو الطور الجديد المرجو للإسلام، وهذه هي الفرصة السانحة لتجديد
هدية وإعادة مجده، فهل يضيعها المسلمون كما أضاعوها أول مرة؟ وما موقف
حزب الإصلاح الإسلامي المنتشر في جميع الأقطار مع هذا الزعيم الشاكي السلاح،
وقد فشل أئمة الإصلاح الذين أجرَّتهم الرماح؟ ثم ما موقف الأمة العربية معه
وهي قد عرفت نفسها، وطفقت تنشد زعيمًا تجدد تحت لوائه حضارتها ومجدها؟ .
ثم ماذا يكون عمل المبتدعة، وسدنة القبور المعبودة، والخرافات المستغَلَّة -
وعمل المتفرنجيين واللادينيين من ناحية أخرى - في مقاومة الدولة الجديدة،
والنهضة العتيدة؟
إن بين مسلمي هذه الأيام ومسلمي أول القرن الثالث عشر (الذي طفت فيه
الدولة الوهابية الأولى ورسبت) وبين عرب القرنين أيضًا وبين الأحوال العامة
فيهما فروقًا كثيرة نعد منها أهم ما يتعلق به الرجاء من إيجابية وسلبية ونقفي عليه
بما يعارض هذا الرجاء من الخوف - فنقول:
آيات الرجاء في الدولة الجديدة:
(1) إن الدولة العثمانية التي كانت بالمرصاد للأمة العربية تمنعها من كل
نهوض قد زالت من الوجود، والدولة التركية المحضة التي خلقتها لا شأن للإسلام
ولا للعرب عندها، وليس لها أدنى مصلحة أو فائدة من عداوة الدولة السعودية، بل
موادتها خير لها من محادّتها.
(2) إن الدولة المصرية لا تزال تجاهد في سبيل استقلالها، فلا هي
دولة عسكرية مستقلة يغريها حب التوسع في السلطان بفتح الحجاز ونجد، ولا
هي حكومة شخصية استبدادية يتصرف فيها حاكم مطلق بهواه كما كانت في عهد
محمد علي، فيخشى أن يدُعَّها إلى فتح الحجاز وغيره تلذذًا به، أو اقتفاء لأثر جده،
ولم تبق آلة جامدة صامتة في أيدي الأجانب يدفعونها إلى ما شاءوا بغير معارض،
بل هي دولة أمة عربية مسلمة من مصلحتها التواد مع الدولة الجديدة والاكتفاء
منها بتأمين الحرمين الشريفين ليؤدي شعبها مناسكه وزيارته براحة واطمئنان،
بل مصلحتها في التواد والتعاون مع الحجاز ونجد فوق ذلك وليس من غرضنا بيانه
هنا.
(3) إن مسلمي هذا العصر أوسع علمًا بالإسلام ومصلحة المسلمين من أهل
ذلك العصر، فلا تروج فيهم الدعاية الظاهرة البطلان، التي راجت منذ قرن
ونصف بأكاذيب أحمد زيني دحلان وأمثاله ومقلديه العميان، أو الطامعين بنوال
السلطان، وقد كانت الدعاية التي أذاعها الشريف حسين وأولاده في الطعن في
الوهابية وسلطانهم أوسع من كل ما سبقها نشرًا، ولكن كان جل تأثيرها الخيبة
وخسران ألوف الدنانير أنفقت عبثًا، وقد كتبنا في إبطالها بضع مقالات نشرناها في
جريدة الأهرام ثم في المنار، كان لها من حسن التأثير وقوة البرهان، ما يصح أن
يسمى هدمًا لما كان بني في قرن ونصف قرن من الإفك والبهتان، لا لما بناه دعاة
هذا الزمن وحده.
(4) تغير ما يسمى (الرأي الإسلامي العام) في الحكم على الوهابية
وسلطانهم حتى إن استيلاءهم على الحرمين الشريفين تُلُقي بالقبول والارتياح في
جميع البلاد الإسلامية، ولم يظهر صوت عال في استنكاره وعده مصابًا على
الإسلام في قطر من الأقطار كما كان يرجو الشريف حسين وأولاده وأعوانهم،
وإنما سمع نئيم خافت وأنين ضعيف من بعض الروافض وعباد القبور وأنصار
الخرافات.
ومن الآيات على ذلك إقبال الألوف الكثيرة من المسلمين على طلب الرخصة
بالسفر إلى الحجاز إلا دولة العجم الشيعية، فقد منعت الحج لسبب خرافي سنعود
إلى الكلام عليه.
ومن الآيات الخاصة ببعض الأقطار الإسلامية بل بأهمها وأعظمها شأنًا
وقدرًا أن صاحب السيادة والمقام الجليل الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن قد
هنأ الملك عبد العزيز بن السعود على انتصاره، ووثق روابط المودة والولاء معه،
وسيكون له مندوب يمثله في المؤتمر الحجازي القريب.
ومن هذه الآيات أيضًا ما كان من روابط المودة بين ملك مصر وملك
الحجاز، وقد بدأ الأول بإرسال مندوب من قِبله في أثناء زمن الحرب، ثم تلاه
الآخر بإرسال مندوب يحمل هدايا المودة وعاد إلى مكة يحمل جزاءها. والذي يرجوه
جميع المسلمين - وإن كرهته جماعة الملاحدة واللادينيين - أن يكون التوادّ والولاء
بين مصر والحجاز مبنيًا على أقوى قواعد الصدق والإخلاص، وأن يكون التعاون
المادي والمعنوي بينهما بالكمال.
ومن هذه الآيات الخاصة بأرقى الطبقات الدينية في مصر، ذلك الاحتفال
الفخم الجميل الذي كرم به أساتذة مدرسة القضاء الشرعي الحاضرون والسابقون
وتلاميذها مندوب الملك عبد العزيز آل سعود في مصر، وهو الشيخ حافظ وهبة
المصري الذي كان من تلاميذ هذه المدرسة. فقد اشترك فيه وحضره أرقى شيوخ
التعليم وكهوله وشبابه في المدارس العليا وما دونها، وتبارى فيه مصاقع خطبائهم،
وفحول شعرائهم في مدح الملك عبد العزيز آل سعود بالدين والإصلاح ونوط رجاء
المسلمين به. وهذا محل دلالة الآية على أن أرقى رجال التعليم الديني وأساتذة
العربية من أهل السنة بمصر يعتقدون أن هذا الرجل مام مصلح في الإسلام ومجدد
لهداية الدين ومجده، لا أنه مسلم سني فحسب، بهذا كانوا يرفعون أصواتهم في
ذلك الاحتفال البهيج المهيب، وكان جمهور السامعين الكبير يصفق لهم تصفيق
الإعجاب والممالأة، وسنذكر لهم نموذجًا من ذلك في هذا الجزء.
(5) إجابة زعماء المسلمين من أقطار الشرق والغرب لدعوة ملك الحجاز
وسلطان نجد إلى عقد مؤتمر في مكة، حتى إن بعض الوفود التي كانت انتخبت
لحضور مؤتمر الخلافة بمصر تحولت إلى مؤتمر مكة حتى من كان يمكنهم الجمع
بين المؤتمرين.
(6) إن قبائل العرب في سورية وفلسطين والعراق صارت تستجيب
لدعوة التدين التي يقوم بها الوهابيون بالاختيار، وأما قبائل الحجاز فقد بايعت الملك
السلطان عبد العزيز آل سعود على السمع والطاعة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
والجهاد في سبيل الله، وقد انبث فيها المعلمون المرشدون كما انبثوا من قبل في
عشائر عسير وتهامة، وسيكون هؤلاء كلهم إخوانًا في الدين صادقين، ومظهرًا
لقوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) .
(7) إن أُولى الدعاية الجنسية العربية في سورية وفلسطين كانوا مختلفين
في الرأي والميل في مناط الزعامة والقيادة لهذه الأمة حتى بعد ظهور الفارس
المغوار عبد العزيز آل سعود في الميدان، فقد كان بعضهم يفضل زعامة شرفاء
مكة على ما كان يظهر على التوالي من ضعفهم وعجزهم وخذلانهم للوطنيين
وتفانيهم في الإخلاص للأجانب لأنه - كما كانوا يقولون - أولاً: ليس في الميدان
غيرهم، ولإحاطتهم بالبلاد السورية في الحجاز وشرق الأردن والعراق، لأن ابن
سعود بعيد عن البلاد، ولأن خطته دينية لا مدنية- ومن هؤلاء كثير من اللادينيين
والمفتونين بالتفرنج، والشرفاء كانوا يرضون كلاًّ منهم بما يهواه ولا سيما فيصل،
فهو لا ديني مع اللادينيين واليهود والإفرنج، سني مع السنيين، شيعي مع الشيعيين.
أما وقد استولى ابن سعود على الحجاز واعترفت له الدول العظمى
بالاستقلال المطلق، وظهر خذلان الشرفاء في كل شيء، وعلم أنه لا دين يهمهم
أمره ولا وطن فلم يبق لطلاب إحياء مدنية العرب زعيم يتوجهون إليه غير ابن
السعود، ولا يضر غير المتدين وغير المسلم منهم تدينه؛ لأنهم ليسوا في كره
الإسلام كأساتذتهم من ملاحدة الترك، فأولئك يمقتون الإسلام لأنه عربي، ولو كان
لسلفهم دين علم وحكمة وآداب وتشريع يداني الإسلام في فضائله ومزاياه لفخروا فيه
على جميع الأمم، وباعوا به جميع الملل، وكيف وقد ارتأى بعضهم أن تكون
صورة الذئب الأغبر شعارًا لهم لأن أجدادهم عبدوه وقدسوه في جاهليتهم الأولى،
ورأينا منهم من يفتخر بجنكيز خان وهلاكو خان، أعداء البشر ومخربي العمران؟
فلو اقتدى متفرنجة العرب في مصر وسورية والعراق بهم حق الاقتداء في العصبية
القومية لكانوا أجدر بالافتخار بالإسلام ورجاله: محمد خاتم النبيين، وخلفائه
الراشدين، وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، وأئمة العلوم
الشرعية، لدينه الحق وملته الحنيفية، بأشد من افتخارهم بغيرهم من رجال العرب
العظماء كالملوك والأمراء والقواد والحكماء والأدباء، ففضائل العرب وحضارتهم
العليا إسلامية.
وقد قال أحد أدباء السوريين الأحرار من المسيحيين لبعض أصحابه:
إني أعجب لكم كيف تفتخرون بالانتماء إلى أحد أنبياء اليهود [1] وأنتم لا تؤمنون به،
وتتركون في الانتماء إلى نبيكم العربي والفخر به، ولماذا تعظمون مثل المعري
والمتنبي من شعراء قومكم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم منهم فضلاً
على لغتكم وأمتكم؟
(8) إن زعماء المسلمين وعقلاءهم من العرب والعجم الراسخين في الدين
الإسلامي المبين، والواقفين على شؤون هذا العصر - ولا سيما الهنود منهم - هم
شديدو الغيرة على مهد الإسلام: الحجاز وسياجه من البلاد العربية، وضمان
استقلاله للمسلمين، وحفظه من عدوان الاستعمار الغربي عليه، ويعلمون أن هذا لا
يتم ويدوم إلا بوجود دولة إسلامية حربية عزيزة الجانب فيه، ولم تتحقق هذه
الأمنية إلا بعقل ابن السعود وسيفه، فهم بما يجب عليهم من صيانة دينهم مدفوعون
إلى مساعدة هذه الدولة الجديدة على تنظيم قوتها، وتفجير ينابيع الثروة لها،
ومساعدتها على نشر العلم وإقامة دعائم العمران في الحجاز وسائر جزيرة العرب،
وهؤلاء هم عمدة حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل الذي وضع أساسه السيد جمال
الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري.
فهذه الفروق بين العشر الخامس من القرن الرابع عشر للهجرة النبوية التي
قامت فيه الدولة السعودية الجديدة، وبين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن
الثالث عشر التي تأسست فيها الدولة السعودية القديمة - هي مناط الرجاء في نجاح
الدولة الجديدة وفوزها.
***
الغوائل المهددة للتجديد الإسلامي
ولكن تجاه هذه المبشرات الست ثلاث غوائل أو مفاسد مما يفتك بوحدة
الإسلام في داخلها، قد تؤيدها الدسائس الأجنبية التي تهاجمها مما يحيط بها:
الأولى: عصبية غلاة الشيعة.
الثانية: جهالة مبتدعة القبوريين وأمثالهم من أهل الدجل والخرافات والبدع.
الثالثة: دعاية اللادينية ومفاسد ملاحدة المتفرنجة.
الشيعة وأهل السنة:
فأما غلاة الشيعة فقد كانوا أشد النقم والدواهي التي أصيب بها الإسلام:
هم مبتدعو أكثر البدع المفسدة لتعاليمه ولأهله، هم الذين صدّعوا وحدته،
وأضعفوا شوكته، وشوهوا جماله، وانتقصوا كماله، وجعلوا توحيده وثنية،
وأُخوته عداوة وبغضاء، وبثوا فيه فتنة عبادة أناس لأجل أنسابهم، وتقديس أناس
بأحسابهم، وجعل سعادة الدنيا والآخرة بوساطتهم عند الله وتأثيرهم في علمه
وإرادته، على ضد عقيدة القرآن من كون الخالق تعالى لا يطرأ على صفاته تأثير
من المخلوق، وكون مناط سعادة البشر هو الإيمان الصحيح السالم من خرافات
الوثنية المفسدة للعقول، وتزكية النفس بالعلم وعبادة الله تعالى وحده بما شرعه،
وأنه ليس لمخلوق أن يشرع لمثله عبادة بدون وحيه تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا
لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .
وجميع الفرق التي ارتدت عن الإسلام في القرون السابقة كانت من غلاة
الشيعة فمنهم جميع (فرق الباطنية) الذين كانوا يلبسون لباس المسلمين ويظهرون
التلبس به لتقبل دعايتهم لهدمه بالتأويل، وكانت طائفة البكداشية المنتشرة في بلاد
الترك والارنؤط منهم، ولما دعا ملاحدة الكماليين إلى اللادينية ولبس البرنيطة
وإبطال جميع النظم الإسلامية وتفريق جماعاتها كانوا هم أول من أجاب الدعوة
بسرور وارتياح، وصرح بعض رؤسائهم بأنهم قد وصلوا إلى غايتهم من طريقتهم
وهي هدم تعاليم الإسلام والتفصي من أحكامه وسلطانه.
كذلك كان غلاة الشيعة مثارًا لأفظع الكوارث التي هدت قوى الإسلام،
وضعضعت الخلافة العباسية، ودمرت الحضارة العربية، التي كانت زينة الأرض
وفخار أهلها - وهي كارثة التتار - كما كانوا أولياء وأنصارًا لأعداء المسلمين أيهم
أشد عداوة لهم وفتكًا بهم لإسلامهم حتى الصليبيين.
زالت الأسباب التي دعت زنادقة الفرس إلى ما ذُكر، وغلب الإسلام على
بلادهم بالفعل فقل من عاد يعاديه لذاته، بل وجهت العداوة الشيعية إلى أهل السنة
خاصة، وزال ملك العرب من بلادهم وصار السلطان فيه للترك فانتقل ما كان من
عدواتهم للعرب إلى الترك على اختلاف طوائفهم، وكان قد انتشر مذهب السنة في
البلاد الإيرانية كلها وضعف التشيع فيها ثم زاد وقوي بتعصب الترك
العثمانيين، فهم الذين كانوا سبب تأسيس دولة شيعية تقاتلهم لحماية التشيع وتضطهد
السنة، حتى صارت السنة في بلاد إيران أضعف من المجوسية، ولم تبق لها دعوة
مطلقًا، بل بث شيعة إيران مذهبهم في عرب العراق حتى كاد يكون أكثر البدو منهم
يقيمون مآتم الإمام الحسين عليه السلام، ويلعنون أبا بكر وعمر عليهما من الله
أفضل الرضوان، ولم يجدوا في بث دعايتهم هذه مقاومة من الدولة العثمانية
الجاهلة الغبية، ولا معارضة لها بمثلها من علماء أهل السنة إلى أن ظهرت
جماعة الوهابية.
الحق أن أهل السنة قد أهملوا في القرون الأخيرة دعوة غير المسلمين إلى
الإسلام، ودعوة المبتدعين في الإسلام إلى السنة، إلى أن حرك دعاة النصرانية
بعض مسلمي الهند إلى ذلك فحملتهم الغيرة والمباراة على تجديد الدعوة إلى الإسلام،
وقلما يغارون من الشيعة فيدعونهم إلى السنة كما يدعون هم أهل السنة إلى التشيع،
فالشيعة كلهم دعاة إلى مذهبهم حتى النساء، ولكن أهل السنة في الهند يعادون
الشيعة بما لا يفيد السنة، بل بما ينافي الوحدة الإسلامية العامة، وهذا ما ننكره
على الفريقين ونسعى لتلافي شره، وأعني بقولي (نسعى) حزب الإصلاح ذي
الأنصار في جميع البلاد الإسلامية.
وأما الوهابية فقد شرعوا في إحياء دعوة الإسلام على مذهب أهل السنة
والجماعة الذي كان عليه السلف الصالح وأئمة الحديث في القرون الثلاثة التي شهد
لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، وإنكار البدع واجتناب التأويلات
المحدثة حتى ما فشا منها في أهل السنة، فعادتهم الشيعة وعادوها في بدء ظهورهم
أو في نهضتهم الأولى كما عاداهم جهلة المدعين للسنة تأييدًا لسياسة الدولة.
وأما معيد هذه النهضة ومجدد دولتها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن
الفيصل آل سعود فهو على شدة تمسكه بالسنة ونصرها واسع الصدر، عارف
بحاجة الأمة العربية والشعوب الإسلامية إلى التعاون والتكافل في هذا العصر، وقد
استولى على بلاد الإحساء التي كانت تحت تصرف الدولة العثمانية وفيها كثير من
الشيعة، ولم نسمع أن أحدًا منهم شكًّا منه أو من عماله اضطهادًا أو ظلمًا أو محاباة
لأهل السنة دونهم، وقد عنى أشد العناية بالتواد والموالاة بينه وبين الإمام يحيى
حميد الدين إمام الزيدية من الشيعة، فارتاح إلى ذلك عقلاء المسلمين وأهل الرأي
فيهم من أهل مصر والهند وسورية وسائر الأقطار.
وقد سعينا لعقد روابط المودة والاتفاق بينه وبين حكومة إيران وشاهها الجديد
الهمام، كما سعينا مثل هذا السعي من القبل بينه وبين الإمام يحيى، فصادف السعي
الثاني ما صادف الأول عنده من الارتياح؛ لأنه صادف رأيًا في العقل، وهوى في
الفؤاد، على كونه وقع بعد أن جمع فيصل ملك العراق مؤتمرًا من مجتهدي الشيعة
في النجف كفّروا فيه النجديين، ونبزوهم بلقب أعداء المسلمين (يعنون أنفسهم)
وعلى أثر قيام الشيعة في الهند وفي إيران بالتهييج العام عليه وعلى قومه وزعمهم
أنه هدم قبة الحجرة النبوية، وغير ذلك من الاختلاق الذي عرفوا من بعد أنه من
بهتان دعاية الشريف عليّ؛ إذ أرسلت حكومة طهران وزيرها المفوض
بمصر وقنصلها في سوريا إلى الحجاز ليكشفا لها كنه الحال في مكة المكرمة وفي
المدينة المنورة قبل خضوع الشريف علي واستسلام حاميتي المدينة وجدة - فقابلهما
ابن السعود بمكة بالود والاحترام، وأعطى الوزير المفوض نسخة من منشور الدعوة
إلى مؤتمر الحجاز لأجل تبليغها لحكومته ونسخة أخرى لإيصالها إلى
أمير أفغانستان، بل منحه من الثقة ما هو فوق ذلك، ولم تكن دولة آل عثمان
على إغماضها في أمر السنة ترى أن تعطي لدولة الشيعة من حق الاشتراك في أمر
الحرمين الشريفين شيئًا، وكنا نظن أن الدولة الإيرانية الجديدة تقدر هذه العواطف
قدرها، وتعلم أنها أحوج إلى مقابلتها بمثلها، فبلغنا مع الأسف أن استباب الأمر
لسلطان نجد في الحجاز ومبايعة أهله له بالملك عليهم قد وقع على دولة الشيعة
وزعمائها وقوع الصاعقة، وأنها منعت رعاياها من أداء فريضة الحج إعلانًا
لكراهة ملكها الجديد واحتجاجًا عليه بإقامته للسنة في منع عبادة القبور وهدم المعبود
منها، على حين قد صنع بعض شيعة إيران تمثالاً لعلي - كرم الله وجهه -
وهو منكس التماثيل وطامسها، وهادم الوثنية ومدمرها.
ندع عصبية غلاة الشيعة تغلي مراجلها في إيران والعراق والهند، فهي
عاجزة أن تنال من الدولة السنية الحية منالاً، ولن تغني عنهم جريدة المقطم
الممقوتة عند المسلمين شيئًا، وامتناعهم من أداء فريضة حجة عليهم، نرجو أن
تكون سببًا لرجحان رأي المعتدلين بعد سكون العاصفة، فنعود إلى السعي لجمع
الكلمة.
مقاومة الخرافيين لدولة السنة:
وأما جهالة دجاجلة الخرافات والقبوريين من أهل الطرق وأعوانهم من العوام
فهي بمعنى عصبية غلاة الشيعة، ولكنها أضعف منها كيدًا، وإن كانوا أهلها
أكثر عددًا، وذلك أن أكثر شيوخها جاهلون لا يستطيعون دفع حجة ولا تأييد
شبهة، وليس للعوام أدنى فائدة منهم، وهم ينتمون إلى مذاهب السنة التي تحتجّ
بكتب الحديث المشهورة من الصحيحين والسنن والمسانيد المشهورة، وكلها تؤيد
الإصلاح الذي يدعو إليه الوهابية، وكذلك أقوال الأئمة المجتهدين الذين لا خلاف
في جلالتهم عند أهل الطريق.
فإذا روى الوهابي لأي مسلم سني حديث أبي الهياج الأسدي عن علي - كرم
الله وجهه - في الأمر بهدم القبور وتسويتها بالتراب وعزاه إلى سنن الإمام الشافعي
وصحيح مسلم لا يسعه إلا قبوله، ولا سيما إذ قال له: إن الشافعي ذكر في كتابة الأم
أن الأئمة بمكة كانوا يهدمون ما يُبنى من القبور فيها عملاً بهذا الحديث. وأما
الشيعة فلا يقبلونه بشبهة أنه من رواية أئمة السنة، وهل للسنة رواة إلا
من أهلها؟ ولسنا نعد من وصفوا بالتشيع من أصحاب الحديث من غلاة الشيعة الذين
كلامنا فيهم، بل معنى تشيعهم زيادة حب علي وذريته والعناية بمناقبهم، وهذا من
روح السنة، ولكن لا يوجد حافظ من حفاظ السنة يطعن في أبي بكر وعمر
وجمهور الصحابة - رضي الله عنهم - أو يبغضهم، وما أبغضهم الروافض لا
لأنهم أزالوا دولة الفرس وملة المجوس من إيران.
دعاية اللادينيين والدولة الجديدة:
بقي من غوائل الإصلاح والعقبات الثلاث في سبيل الدولة الإسلامية الجديدة
دعاية اللادينيين وملاحدة المتفرنجين، وهؤلاء ضد علي جميع المتدينين من أهل
السنة حقيقة أو ادعاءً ومن الشيعة وغيرهم، وهم يحاربون الدين بالشبهات الفلسفية،
والآراء العلمية والنظريات القانونية والاجتماعية وبما يزعمون من معارضته
للإصلاحات العصرية، وبما يعزون إليه من الأمور الخرافية، ومنهم كثير من كبار
رجال الحكومة في مصر وإيران، وقد تعدت فتنتهم إلى أفغانستان، وهم يرجون
أن يعملوا في هذه الممالك ما عمل الترك، فهم الخطر الأكبر على الدين وأهله،
ولكنهم قليلون في الحجاز، ولا وجود لأحد منهم في نجد، فخطرهم على الدولة
الجديدة جله في خارجها، وأما خطرهم على مصر وإيران ففي صميمهما وأحشائها،
وليست أفغانستان بمأمن من شرهم.
كنا معشر طلاب الإصلاح وتجديد ما أخلق ورثَّ من أمر الإسلام، نعالج
جمود المتفقهة، ونكافح بدع أدعياء المتصوفة، ونناضل شبهات الملاحدة، على
ما لا بد لنا منه من مجاهدة دعاة النصرانية، وكانت الحكومات الإسلامية المتفرنجة
مذبذبة تداري الجامدين، وترضي المبتدعين، وتقرب الملحدين، وتعرض عن
المصلحين، على أنها كانت أحوج إلى هؤلاء لجمع الكلمة وتحقيق وحدة الأمة.
ولكن لم يكن أحد من كبار رجال حكومة الآستانة ولا مصر ولا طهران يعقل
ذلك، وهي الحكومات الكبرى التي ابتليت بالتفرنج، فلم تهتد السبيل إلى اتقاء فتنه،
ولا إلى الانتفاع بما تحتاج إليه من فنونه ونظمه.
وقد كانت سائر الشعوب الإسلامية وحكوماتها شرًّا من هذه الحكومات
وشعوبها في الجهل والخرافات والبدع، والحرمان من هداية الدين؛ فقضى عليها
الجهل كلها إلا ثلاثًا: ثنتان عربيتان وهما حكومتا اليمن ونجد، وواحدة عجمية
وهي حكومة الأفغان، كانت هذه الثلاث -وما زالت- أقرب إلى هداية الدين،
وأبعد عن فتن التفرنج وضلالات الملحدين، ولن يظللن على ما كنّ عليه كالسفن
الشراعية الرواكد على ظهر اليم عند سكون الريح، فرياح الحوادث في
محيط الكون الأعظم لن تدع في هذا العصر بحرًا ولا خليجًا ساكنًا، فيجب على
حزب الإصلاح المعتدل أن يؤيد هذه الدولة الجديدة ويشد أزرها ويساعدها بعلمه
ورأيه وسعيه على الجمع بين هداية الدين على طريقة السلف في الصدر الأول،
وعزة الملك وسؤدده بالعدل والعمران على أحدث الفنون والتجارب والصناعات
والنظم الحربية والاقتصادية، أن يقف موقفه في الوسط بين أنصار الدين وطلاب
السيادة والاستقلال والحضارة بفنونها ونظمها المجربة، فبهذا يجذب إليه الخيار من
جميع الطبقات في الأقطار الإسلامية فيقضي بهم على من لا خير فيهم من
المارقين والخرافيين باتباع خطة حزب الإصلاح الجمالي - فهي الخطة التي تجذب
كثيرًا منهم على حظيرة الإصلاح. وسنفصل القول في ذلك تفصيلاً، بما هو أشد
عليهم وطأ وأقوم قيلاً، وأقرب إلى الاتفاق والتعاون سبيلاً {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ
فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزمل: 19) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(1) يعني سيدنا عيسى المسيح عليه السلام.(27/1)
الكاتب: عبد المطلب
__________
نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية
في الوهابيين ومؤسس الدولة السعودية
من قصيدة للأستاذ الشيخ عبد المطلب شاعر البداوة في الحضارة، ألقاها في
حفلة القضاء الشرعي التي أشرنا إليها في مقالنا الافتتاحي.
عادت إلى الإسلام دولته ... وسما له ببلاده بند
وعلى تِهامة من بشاشته ... سبغ الندى والعيشة الرغد
نجد تمدُّ إلى الحجاز يدا ... ليست لغير الله تمتد
هذي كتائبها تجول به ... غضبى لدين الله تحتد
ومنها:
فأتته خيل الله معلمة ... نجبًا تزاءر فوقها الأسد
يحملن من نجد غطارفة ... للبأس في زفراتها وفد
في الفيلق الخضراء يقدمها ... ملك أشم وكوكب نجد
ينمي السعود إلى أرومته ... نسب أغر وطالع سعد
لا يرهب الموت الزؤام ولو ... أن السماء لوقعه رعد
فجلا عن الحرمين من خبث الأ طماع ما أشرى به الجهد
والسيف أعدل في حكومته ... للعدل فوق ذبابه حد
وحكومة الشورى أحق بهم ... من أن يحكم فيهم الفرد
عبد العزيز لك السلام من ... الإسلام والإطراء والحمد
أرضيت أحمد في شريعته ... شيدت منها ماله هدوا
رضيت قلوب المسلمين بما ... قمتم به ورضاؤها أيد
أنفذت حكم السيف حين قضى ... ورددته للسلم إذ ردوا
وعفوت إذ فاءوا فلا إحن فيهم تحكمها ولا حقد
وكذاك جند الله إن نُصروا ... نام الهوى واستيقظ الرشد
فأعد إلى الحرمين مجدهما ... فخمًا فما لسواهما مجد
وأعد لدين الله جدته ... إن الورى في كيده جدوا
من الناس من لا يربيه ويهذبه إلا الشدة والبؤس، كما أن منهم من يربيه
ويهذبه الرخاء والنعمة، وبكل يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35) وقال في بني إسرائيل: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس
والسوء إلا عتوًا وإصرارًا على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ومسخهم مسخ
خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في طيشها
وشرها، وإفسادها لما تصل إليه أيديها، والأول قول الجمهور والثاني قول
مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.
__________(27/19)
الكاتب: محمد عرفة
__________
حكم الشرع الشريف في لبس القبعة
بيان أصدره المعهد الديني في الإسكندرية، ورغب إلينا في نشره [1] .
دعا بعض الشبان المسلمين في مصر من تلاميذ المدارس إلى التشبه بالأمم
الأوروبية المسيحية فيما يلبسون على رؤوسهم، وأرادوا حمل أنفسهم وغيرهم على
خلع الطرابيش واستبدال القبعات بها، وأيدهم في ذلك بعض الكتاب في مصر.
ولما كان الظن بأولئك وهؤلاء أنهم لم يدعوا إلى ما دعوا إليه إلا لجهلهم حظر
دينهم له وسوء نسبة ما يريدون أن يتردوا ويردوا غيرهم فيه، وضرر ذلك بالوحدة
الوطنية التي تقطعت بها السبل، ولم يبق لنا طريق إلا هو في إقالة عثرتنا
وإنهاضنا من كبوتنا، وإصلاح ما أثأث يد الغفلات منا، أردنا أن نبين لهم منع
دينهم لما يدعون إليه، وأدلة ذلك وحكمة هذا المنع {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) .
ونحن بما قمنا به من ذلك العمل نؤدي نصحًا لأمة وجب علينا ألا نألوا جهدًا
في نصحها، وإنارة السبيل أمامها، ونخدم وطنًا له دين في أعناقنا، ونرجو أن
نخرج بذلك من رذيلة كتمان العلم التي توعد عليها الله أشد الوعيد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ
اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة: 159) .
إن المنع من التشبه بالكفار في لباسهم مبني على أصل عظيم في الشرع وهو
النهي عن التشبه بالكفار مطلقًا باطنًا وظاهرًا، والأمر بمخالفتهم فيهما، فلنتكلم عن
ذلك الأصل الآن، ثم نرده بما اندرج فيه من منع التشبه بهم في لباسهم.
***
النهي عن التشبه بالكفار
إن المتتبع لآي القرآن الكريم والسنة النبوية وما جاء عن الصحابة والتابعين
والأئمة المجتهدين يعتقد ذلك الأصل الذي قدمناه وهو النهي عن التشبه بمن خالفنا
في الدين. فأما القرآن الكريم فمنه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} (الجاثية: 18-19) . وقوله:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) وقوله {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) . وقوله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49) . وقوله {وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام:
153) . وقوله {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً
فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ
كَالَّذِي خَاضُوا} (التوبة: 69) .
فإن قيل إن آي القرآن هذه تنهى عن التشبه بهم فيما كان فعله مفسدة في نفسه
من الاعتقادات الباطلة والاستمتاع بالخلاق ... إلخ - وليست نصًّا في النهي عن
التشبه بهم فيما ليس فعله مفسدة في نفسه وليس يأتيه الفساد إلا من جهة التشبه بهم -
قلنا: إن السنة انتظمت الأمرين جميعًا والسنة مبينة للكتاب، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) .
***
(السُّنّة)
روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود ولا
بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف)
وروى أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (صوموا
يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا يومًا قبله ويومًا بعده) [2] وروى مسلم من
خطبة حجة الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت
قدمي موضوع) وروي في الصحيحين عن رافع بن خديج قال: (قلت يارسول الله
إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر
اسم الله عليه فكلْ، ليس السِّن والظُّفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر
فمدى الحبشة) وروى أبو داود في سننه وغيره من حديث الآذان: (اهتم النبي -
صلى الله عليه وسلم - للصلاة كيف يجمع لها الناس؟ فقيل له: انصب راية عند
حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القنع شبور
اليهود - أي البوق - فلم يعجبه ذلك وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له
الناقوس، فقال: هو من فعل النصارى) إلخ الحديث.
***
أقوال الصحابة
روى الإمام أحمد أن عمر لما دخل بيت المقدس، وأراد الصلاة سأل كعبًا أين
ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فقال عمر:
ضاهيت اليهود، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فتقدم إلى القبلة فصلى.
ودعي حذيفة بن اليمان إلى وليمة فرأى شيئًا من زي الأعاجم، فخرج
وقال: من تشبه بقوم فهو منهم [3] ، ودخل على أنس بن مالك غلام له قرنان أو
قصتان فمسح على رأسه وبرك عليه وقال: احلقوا هذين أو قصوهما
فإن هذا زي اليهود.
***
أقوال الأئمة المجتهدين
علل الأئمة النهي عن كثير من الأشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة الأعاجم وهو
أكثر من أن يمكن استقصاؤه، فمن ذلك أن الحنفية كرهوا تأخير المغرب، وقالوا لِما
فيه من التشبه باليهود، وقالوا: إن صام يوم الشك ينوي أنه من رمضان، كره
لأنه تشبه بأهل الكتاب؛ فإنهم زادوا في مدة صومهم، وقالوا: أيضًا لا يجوز
الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة للنصوص ولأنه تشبه بالكافرين، وقد تكلم
أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في ملابسهم وأعيادهم.
وقال مالك: لا يجوز أن يحرم بالأعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف، وقال:
يكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد، وقال بعض
أصحاب مالك: من ذبح بطيخة في أعيادهم فكأنما ذبح خنزيرًا.
وعلل الشافعية النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس، لأن المشركين
يسجدون للشمس حينئذٍ، وذكروا في تأخير السحور: إن ذلك فرق بين صيامنا
وصيام أهل الكتاب، وقال الإمام أحمد: (أكره النعل الصرار وهو من زي
العجم وكره حلق القفا وقال: هو من فعل المجوس) ، وقال: (من تشبه بقوم فهو
منهم) [4] وكره تسمية الشهور بالعجمية، والأشخاص بالأسماء الفارسية.
***
ما ورد من النهي عن التشبه بالكفار في اللباس
وقد وردت آثار كثيرة تَنهى عن التشبه بالكفار في لباسهم فمن ذلك ما يأتي:
روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التشبه
بالأعاجم وقال (من تشبه بقوم فهو منهم) وروى أبو داود [5] من حديث ركانة قال
سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم
على القلانس) وروي أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- أو قال: قال عمر: (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصلّ فيهما فإن لم يكن له إلا
ثوب فليأتزر ولا يشتمل اشتمال اليهود) وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه
من حديث عياش عن بن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (نهى عن
أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل
الأعاجم) وروى مسلم عن عبد الله بن عمر قال: (رأى النبي - صلى الله
عليه وسلم- علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار لا تلبسها) .
***
أقوال الصحابة في التشبه بهم في اللباس
كتب عمر بن الخطاب إلى عامله على أذربيجان عتبة بن فرقد: (ياعتبة
إياك وإيا التنعم وزي أهل الشرك) ومما أخذه عمر على أهل الذمة فيما شرطوه
على أنفسهم قولهم أن نلزم زيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين في شيء من
ملابسهم قلنسوة أو عمامة، ورأى علي قومًا قد سدلوا في الصلاة، فقال: ما لهم
كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم أي (مدراسهم) .
***
حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم في لباسهم
فإن قيل: قد علمنا حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار في عقائدهم،
وهي أنهم كانوا على عقائد باطلة وأخلاق فاسدة، فنهى الشارع عن أن نعتقد
اعتقادهم ونتخلق بأخلاقهم لما في نفس هذه الاعتقادات وتلك الأخلاق من قبح
وفساد، فما الحكمة في النهي عن التشبه بهم في لباسهم وزيهم وعاداتهم؛ مع أن
نفس اللباس والزي ليس فيه فساد؟ وهل فرق بين لباس ولباس؟ قلنا:
إن للشارع في ذلك حكمة وهي: أنه يريد أن يجعل من المسلمين أمة متجانسة؛
متحدة ذات أخلاق وعادات، ونزعات، وعقائد، ومشارب متحدة فلما وفق بينهم في
الهدى الباطن أراد أن يوفق بينهم في الهدي الظاهر ليكمل هذا التوافق والاتحاد،
وأن الاتحاد في الزي الظاهر أدعى على التحاب والتوادّ والمشاكلة والمجانسة، ولذلك
يقول علماء الاجتماع: (إن الاتحاد في العقيدة واللغة العادة واللباس من مقومات
الأمة؛ ومن دواعي وحدتها؛ فتكون بينهما وحدة معنوية تجعلها كشخص
واحد؛ إذا رمت عن قوس واحدة، وإذا لاقت الخطوب لاقتها جميعًا) .
وأخرى، وهي: أن الشارع أراد أن يجعل للمسلمين زيًّا مخصوصًا ليتمايزوا
فيتعارفوا لأول وهلة وبادئ الأمر، فيقدم أحدهم للآخر ما يقدر عليه من خير،
ويدفع عنه ما يقدر على دفعه من شر، ويختصه بمعاملته؛ فتكون معاملاتهم
ومتاجراتهم بعضهم مع بعض ما أمكن ذلك، وبذلك تكون خيراتهم لهم ومنافعهم
منهم وإليهم، وقد أدركت ذلك (الجمعيات السرية) كالماسونية فجعلوا علامة تميز
بينهم وبين غيرهم لهذا الغرض.
لست أدري كيف يجمع هؤلاء الدعاة إلى تغيير زيهم ولباسهم بعد أن أصبح زيًّا
قوميًّا بين الدعوة إلى ذلك وبين الدعوة إلى الوطنية التي يتفانون فيها؟ ليست
الوطنية ألفاظاًَ تُلاك، وجملاً يملأ الشخص بها ماضغيْه، إنما هي أن يعطف
الوطني على أخيه الوطني، ويختصه بمعونته ومنافعه، وأن يقوم أهل الوطن
بالتعاون على جلب الخيرات إليهم ودفع المضرات عنهم، وكيف يسلس لهم ذلك
إذا انبهموا فيما سواهم من الأمم المغيرة عليهم، وغمرتهم هذه السيول الجارفة من
الشعوب النازحة إليهم.
ألا إن مصر كانت تأكل فاتحِيها فتهضمهم وتحيلهم إلى عصارة تتحول إلى
لحم ودم وأعصاب يتقوم بها بدنها، والآن يسعى أبناؤها ليأكلها غيرها من الشعوب
الأخرى، وتنماع فيهم كما تنماع القطرة في المحيط.
قالوا: إن لبسنا القبعة طريق إلى ذلك الحلم اللذيذ، وهو الوحدة الإنسانية
العامة، والوحدة الإنسانية أغنية يتغنى بها الدكتور منصور فهمي ومحمد أفندي
دياب وغيرهما، ونحن نقول لهؤلاء: إن وقت هذه الدعوة لم يحِن، إن الأمم
تسعى في إنماء قوميتها وتقويتها، والوحدات القومية والجنسية والدينية هي أسلحة
الأمم في الحياة وحصونها المنيعة ومعاقلها الرفيعة، فإذا دعوتم إلى الاندماج في
الإنسانية العامة، والأمم على ما ذكرنا من تقوية قوميتها، فلستم تفعلون أكثر من
تجريد أمتنا من أسلحتهم وحصونهم، فتلتهمهم الأمم ذوات المعاقل والحصون -
اتركونا من نشيد الموت هذا، وأنشدونا نشيد الحياة، ووجهوا كل ما في الأمة من
جهود وتعليم وأخلاق وعادات إلى بناء القومية، والاحتفاظ بما فيها من مقومات -
نسائلكم بالله لا تفرقوا وحدتنا، ولا تحلوا عقدتنا، ولا تفكوا رابطتنا، ولا تقولوا:
إن الأتراك قد سبقونا إلى ذلك، فلسنا مثل الأتراك ولا الأتراك مثلنا، إن الجسم
القوي فيه مناعة وحصانة من الأمراض أما الجسم الضعيف فأدنى الأمراض يفتك
به، ويحل ارتباطه وتماسكه [6] .
وقالوا أيضًا: إن زيَّنا زيّ أهل الجمود والتأخر، وتلك القبعة زي أهل
المدنية والتقدم، وإننا نتشبه بهم في قبعاتهم لنتقدم ونتمدين كما تقدموا وتمدينوا. لو
كان التمدين بخلع لباس ولبس لباس غيره لكان أهل الأرض جميعًا متمدينين،
ولكنتم أعجز الأمم؛ إذا مكثتم هذا الزمن الطويل في هذه الضعة، والكمال في
متناول أيديكم لن يكلفكم أكثر من خلع لباس ولبس لباس غيره.
لا يا سادة، الشقة بعيدة والطريق وعثاء شديدة، والمعالي لا تُنال على الدعة
والراحة واللعب، إنما هي منيعة لا ينالها إلا أروع جليد يركب الأهوال أهول من
الأهوال، ويخبط الصخر أصلب من الصخر، ويلمس الليل أخشن من الليل
ويهجم على الأسد في عرينه الأسد ليثًا حديد الأنياب والبراثن يلاقي حديد الأنياب
والبراثن:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
ليس التمدين والتقدم بتغيير لباس الرأس، وإنما هو بتغيير ما في الرأس،
فبدل أن تعمدوا إلى رؤوسكم فتجردوها من لباسها، اعمدوا إلى ما بداخلها فجردوها
من أوهام وخرافات قد عششت وباضت وأفرخت وسدت مسالك الأمور عليكم،
وقعدت بكم عن كل خير، وورطتكم في كل تهلكة، وجمحت بكم فأوردتكم موارد
ماؤها آسن ومرعاها وخيم، وانزعوا منها خلق الضعف والانحلال الذي قعد بكم
عن مجاراة الأمم ومزاحمة الشعوب، وبطأ بكم عن قوم جدّوا فكانوا السابقين
الأولين، وكنتم القاعدين المتخلفين، وبدل أن تُحلوا رؤوسكم بقبعات الأمم الأخرى
حلوا ما بداخلها بالعلم والمعرفة، وزينوها بالفضيلة والخلق الصالح المتين. بهذا
وحده تتقدمون، وأقسم لكم أنكم ما دمتم مجدبي الرؤوس من الفضيلة والعلم، لن
ينفعكم لبس القبعات ولو وضعتم هرمًا من قبعات، قاعدته فوق رؤوسكم وقمته
تتصل بعنان السماء.
يخيل إلي أن أشباحًا غير منظورة تتآمر على تمزيق جامعتنا، وقطع
أواصرنا ووشائجنا، وأن هذه الأيدي الخفية تخرج لنا بين حين وآخر وشيجة من
وشائج الصلة بيننا؛ فتضعها بين شقي مقص حديد، وأننا إذا (لِنَّا) في أيديهم
سيقطعون وشائجنا وشيجة وشيجة، وسينقضون حبالنا حبلاً حبلاً، ويفكون عرانا
عروة عروة، حتى نصبح ولا جامعة تجمعنا، أرسالاً بددًا ككومة من أنقاض، لا
أتساق بينها ولا ارتباط.
الآن، قد بينا حكم الله في تغيير الزي والحكمة الاجتماعية فيه، وبينا فيه ضرر
ذلك لوحدتنا وقوميتنا، فإن كنتم أيها الدعاة مسلمين فأجيبوا داعي الله يغفر لكم من
ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم، وإن كنتم قد انسلختم عن دينكم فظننا بكم أنكم لم
تنسلخوا عن وطنيتكم، فإن لم تجيبوا تدينًا، فأجيبوا لداعي المصلحة القومية
والوطنية وإنكم إن شاء الله فاعلون - ألا قد بلغت، اللهم فاشهد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عرفة
... ... ... ... أستاذ بمعهد الإسكندرية
الإسكندرية في 10 رمضان سنة 1344هـ.
__________
(1) كذلك كتبت رياسة المعاهد الدينية العليا في الأزهر فتوى بهذا المعنى إلا أن هذه أفصح قيلاً، وأوضح دليلاً.
(2) هذه رواية ضعيفة وفي الصحيح ما يعني عنها وهو ما رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس
قال: (صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع) وفي رواية (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) ولكنه توفي ولم يبق فِداه أبي وأمي وولدي ونفسي.
(3) روي هذا اللفظ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير من حديث ابن عمر بسند ضعيف وابن حبان وصححه، وعن الصحابة ماكتبه عمر إلى عتبة بن فرقد قائد جيشه في بلاد العجم ومنه: (إياك وزي الأعاجم) وتقدم تفصيله في فتوى المنار في المسألة من المجلد الماضي 26.
(4) أي على سبيل الاستدلال وهو حديث مرفوع كما تقدم لنا وسيأتي للكاتب.
(5) وكذا الترمذي.
(6) المنار: كان للترك سلطنة واسعة لم تنل مثلها دولة من دول الأرض فخدعها الإفرنج برُقية العصبية القومية حتى أضاعوها وصاروا إمارة صغيرة يخشى أن يضيعوها أيضًا بهذا الهوس.(27/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مكان الإسلام من مسلمي الزمان
والحكم عليهم بنصوص القرآن
هو نص كتاب خاص أرسله الأستاذ -رحمه الله تعالى - إلى أحد خواص
العلماء من أعضاء الجمعية السياسية الإسلامية التي كانت تصدر جريدة العروة
الوثقى في باريس عقب احتلال الإنكليز لمصر. وهو من أجلّ كتبه الدينية
الإصلاحية، بل من أبلغ ما قال أو كتب أئمة الدين وعرفاء الصدِّيقين، من
المواعظ والنُّذر، والآيات والعبر التي تنير البصائر وتطهر السرائر وتُزيِّل
بين المؤمن والكافر، وتفرّق بين البر والفاجر، فهي ميزان الإيمان، ومسبار
العرفان، وهذا نصه منقولاً من الطبعة الثانية للجزء الثاني من تاريخه رحمه الله.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة
سرني ما نقل إلي كتابك أنك استجبت لربك فيما دعا إليه عموم خلقه بقوله:
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} (الأنعام: 11) وإنما يستجيب إليه أهل الرغبة فيه،
ولقد حمدت الله أنك لم تجعل سيرك سير الغافلين، ولم تمر على ما لاقاك مرور
الذاهلين، بل استعملت بصيرتك ونظرت فيما قام لك من أحوال الناس، لتعلم ماذا
أبقت الحوادث فيهم من الاستعداد لقبول الحق والميل للرجوع إليه، وما أظنه
ذهب عليك أيام كنت تقلب عين اعتبارك في أطوار أولئك المحجوبين، إن ما هم
فيه لا تختلف عن عواقب المكذبين، الذين يأمرنا الله بالنظر كيف كان عاقبة أمرهم،
وما أحل الله بدارهم من بوار، وما ألحق بعمرانهم من دمار، وما ألصق بذكرهم
من عار وشنار، وكيف يختلف الحال عن الحال، وإنما التكذيب أثر غين يُغشي
عين القلب، فيواري عنها وجه الحقيقة، فتعمه ظلمة أشبه بظلمة الخسوف تعلو
وجه القمر، فإذا أظلم القلب وهو مستودع السر الذي به كان الإنسان إنسانًا فقد أظلم
الإنسان كله، وذهبت قواه تخبط في أفاعيلها على غير هدي، وتعسر عليها أن
تلزم طريق الحق والصراط المستقيم.
وهذه الحال كما تراها فيمن ينكر الحق بلسانه، ويكذب الداعي إليه
بإنكار بيانه. تراها بعينها في هؤلاء المخدوعين الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله
وبرسوله وبكتابه، ثم هم في أعمالهم وآمالهم أبعد الناس عن سننه، وأشدهم التواء
على أمره ونهيه، وقد علمت أن الله لم ينظر إلى قوم يقولون بأفواههم ما ليس في
قلوبهم، وأن اليهود لم ينفعهم أن آمنوا بموسى وخلفائه من الأنبياء، وبما جاءوا به
من الوحي الإلهي إيماناً يحاكي ما يدعيه المسلمون في هذه الأوقات: كان اليهود
يعرفون موسى نبيًّا لهم، والتوراة وكتب الأنبياء هدايات من الله لعقولهم، كما يعرف
المسلمون ذلك في كتاب الله تعالى، ولكن الله نعى إلينا أحوالهم في مزاعمهم فقال:
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) . فقد جعل
تأويلهم التوراة وصرفهم لألفاظها إلى غير ما أراد الله بها وحَيَدَانهم عن العمل بما دعت
إليه تكذيباً بآيات الله، وجعل نقضهم لما حُمِّلوا من أحكامها مروقًا منها حيث
قال (لم يحلموها) وجعل تصديقهم بها على هذا الوجه بمنزلة احتمال حمار
لأسفار، فهو في عناء من ثقلها، على بعد من فائدة ما أودع فيها. أفليس هذا النبأ
بعينه يحدث عن أحوال المنتحلين اسم الإسلام في هذه الأيام، وأنهم حملوا القرآن
الكريم ثم لم يحملوه، إلى آخر الآية؟ ألم يكن في ظلم أهل هذا العنوان
وجمودهم عن حدود الله ما يستحقون به تسجيل الضلالة عليهم كما سجلت على
اليهود في قوله (والله لا يهدي القوم الظالمين) ؟ وأشد الظلم ظلم النفس
بعدولها عن سنن الحق.
ألا يصدق عليهم أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون؟ ألا
ينعي حالهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) ،
ألا يحكي جهلهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ} (البقرة: 78) أي أنهم لا يعلمون منه إلا أن يتلوه تلاوة بغير فهم، فإن
طلبوا شيئًا من المعنى لم يكونوا فيه على بصيرة أن يظنون إلا ظنًّا.
إني أستلفتك إلى أولئك الذين يتناولون مصاحف القرآن الكريم بأيديهم
خصوصاً في شهر رمضان، ثم يطفقون يلوكونه بألسنتهم ويزعمون أنهم يتقربون
إلى الله بترنمهم، ويصعدون إلى منازل القرب عنده بنغماتهم ورنين أصواتهم،
ويجعلون كل همهم في هز رؤوسهم، والتوفيق بين الهزات وتموج النغمات وما
شاكل ذلك من لواحق الصور والهيئات، مما قد يعجب له عرفاء الدين، ويستغرب
حدوثه في المسلمين أهل اليقين لبعد النسبة بينه وبين دينهم، والمنافرة الثابتة بينه
وبين مقتضى إيمانهم، حتى إذا انصرف أولئك القارئون والتمسوا من قلوبهم
عبرة مما قرأوا أو عظة مما سمعوا، لم يجدوا من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، بل
رجع كل منهم إلى هواه، وأوى إلى قعيدة نواه، وما كان قد انصرف عن وساوسه،
ولا انقطع عما استحكم سلطانه في نفسه من شياطين أهوائه، إلا في ظاهر ما
يرى للناظر، وإذا سئل أحدهم عن شيء من معنى ما قرأه التجأ إلى الجهل، أو
خبط في مضلة من الوهم، وإذا قيس عمله إلى أحكام ما يقرأه، وجدت تبايناً كما
بين الإسلام والكفر، فبالله إلا ما أجبتني: هل تجد فرقًا بينهم وبين اليهود فيما قص
الله عنهم في قوله (ومنم أميون) ؟ إلخ. ألا تجد الوصول إلى الفرق نزر
الوسائل، متعذر الذرائع، ولو سردت من أحوال اليهود والنصارى والمشركين
التي قص الله علينا تحذيراً لنا من التدنس بمثلها ووضعتها مع أحوال المسلمين في
كفتي ميزان ألا ترجح أحوال المسلمين سوءًا على أحوال أولئك الضالين؟
أصبح المسلم في هذه الأيام حجة للكافر على كفره، وفتنة له يضل بها عما
أقام الحق من أعلامه، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله الذي أخذ به
الأمم السابقة فضلوا فضربهم بأنواع من عذابه في الدنيا، واستبقى لهم ما لا نهاية له
من الشقاء في الآخرة، ظهر فيهم بصور مختلفة، ثم جاء في أكمل صورة ببعثة
خاتم الأنبياء، مستتمًّا لنوره مكملاً لأمره، لتقوم به الحجة، وتتضح به المحجة،
وأصحب هذا القول بألف دليل كلها أوضح من الشمس، وأنفى للشك من ضوء
البدر لظلام الليل - رأيت علة واحدة تهدم كل ما بني من الأدلة وهي: لو كان
الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به (في زعمهم) على ما نرى من
فساد الأخلاق وسقوط الهمم، وضلال العقول، هكذا أيها الحبيب أصبحنا فتنة للذين
كفروا، والله ينبهنا على ما صرنا إليه بتعليمه إيانا كيف ندعوه إذ يقول {رَبَّنَا لاَ
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) وما كان تعليمه الدعاء إلا لنتوسل
بالعمل إلى ما نطلب منه، ثم ندعوه المعونة على ما نقصد من موافقة رضاه، فلو
فقه المسلم لابتعد جهده عما يجعله فتنة للكافر، وجعل ورده ليله ونهاره {رَبَّنَا لاَ
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) ولكان همه في أن يكون بكماله قذى في
عين أعدائه، لا أن يكون حقيرًا في أعينهم، ضحكة لهم في محافلهم.
ولقد حدث في هذه الأيام الأخيرة أن قسيسًا إنكليزيًّا [1] هداه البحث إلى شيء
من محاسن دين الإسلام فأخذ يبث ما علم في الجرائد الإنجليزية وفي المحافل الدينية
في إنكلترا، إلا أنه يصعب عليه أن يعلن إسلامه، ويصرح بحقيقة إيمانه لأنه
يخاف أن تطول إليه أيدي الاعتداء من قومه وهو يدعو إلى الإسلام تحت حجاب
أنه لا يخالف المسيحية الحقيقية بل هو متمم لها، وله فيما يدعو إليه شيعة تنمو في
لندرا، وبيننا وبينه مخاطبات لتشجيعه وتقريبه من حقيقة الإيمان، ولا نعلم اليوم
ماذا يكون من نهاية أمره، وله معارضون كثيرون من الإنكليز وغيرهم، وإذا
تقصيت البحث في جميع حججهم لا تجد في مقدماتها إلا ما يكون راجعًا إلى ما عليه
المسلمون الآن من الأخلاق والعوائد والأفكار، وكلما جاء الرجل لهم بشيء من
أحكام كتاب الله أو بأثر من آثار المسلمين الأولين.
رأيت أولئك الجاحدين يقابلونه بأحكام يعدها المسلمون من حدود دينهم، يعولون
عليها في أعمالهم، وهي مقصية لهم عن الكمال، ساقطة بهم عن أدنى مراتب
الرجال، فكلما ردهم إلى الله ورسوله ردوه إلى أحوال المنتسبين إلى هذا الدين
القويم، وهم عاره، وبهم يهدم مناره، وتخفي آثاره، لو بقى في أيديهم أمره،
غير أني أرى الله سيحول أمر دينه عن هؤلاء الذين لبسوا على أنفسهم، وانقلبوا فتنة
لغيرهم، ثم ينتقم منهم بأيدي الظالمين والصالحين {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (الأنعام: 89) - {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) فهنيئاً لمن أعد نفسه، وسبق
تعسة، فشحذ همته، وطهر نيته وقوم إرادته واستجمع عزيمته، للقاء ركب الله
الذي سيفد عليه، فيكون إما راجلاً في مشاته، أو فارساً من كماته، أو خادمًا في
حاجاته، أو سيدًا في رياساته، ولا يكون شيئًا من ذلك حتى يكون الله ورسوله
أحب إليه من نفسه، وحتى يكون كتاب الله أصدق الشاهدين له لا عليه،
وحاشا كتاب الله أن يشهد إلا لمن لبّى دعوته، وقبل شهادته، ونصبه إماماً في
محراب الوجود يتبعه بصره، ويحذوه في سيره، يقوم إذا قام ويقعد إذا قعد يعظم
ما عظم ويحقر ما حقر ويطلق ما أطلق ويقيد ما قيد، ثم أقام له من زواجره خطيبًا
إلى قلبه، وواعظًا يصدع بأمر ربه على منبر لبه، يعلمه إذا جهل، ويوقظه إذا
غفل، ويذكره إذا ذهل، ويحثه إذا كسل، ويسرع به إذا أبطأ، وينهضه إذا تلكأ
ويستلفته إلى الصواب إذا أخطأ، يهديه إذا تحير، ولا يعدو به الخير إذا تخير،
يرد جماحه إذا جمح، ويكف من غربه إذا طمح، حتى يقيمه على الصراط السوي
ويصعد به إلى المقام العلي، وكيف يستعمر القرآن قلبًا تشغله الأهواء الباطلة
وتستوكره الرغائب الزائلة؟ إن القرآن طاهر لا يجاور إلا طاهرًا، وقويم يأبى أن
يساكن جائرًا، زكي لا يأنس للأرجاس عليّ يأنف من مقاربة الأدناس، فلا عجب
إذا استوبل المقام في هذه القلوب المحتشية بالعيوب وتركها وشياطين الوساوس
تخبط بها في مخاري الدنيا ومهالك الآخرة.
يا عجبًا لمن يدعي الإسلام، وهو يعرف من نفسه أن أمرًا لو جاءه من أصغر
الحكام عليه بلغة غير لغته لما قرت له راحة، ولا اطمأنت به نفس، حتى يقف
على ترجمته. ولا يكتفي بمترجم واحد حتى تكون ثقته به كثقته بنفسه وإلا راجع
ثانياً وثالثاً طلباً لدقائق المعاني لا يفوته شيء مما حواه أمر آمره فيقع في مخالفته
إلى غير هواه، وكلما عظم مكان الأمر أشتد الحرص على استجلاء مراده، خشية
الوقوع في حداده، أو ما يبعث الظن إلى التحرش بعناده، وقد يكون الأمر مما
يضره ولا ينفعه، ويخفضه ولا يرفعه، كل ذلك للبعد عن مساخطه والارتياح إلى
مراضيه - هذا وهو يزعم الاعتقاد بأن القابض على ناصية أمره هو الله سبحانه
وتعالى وهو المقلب لقلبه والآخذ بعنان إرداته. ثم هذا أمر سام ورد له من عليّ
متعال، رب الأرباب ومخضع الرقاب، قهار السماوات والأرض، الذي لا ترد
مشيئته، ولا تخالف إرادته.
الكتاب المجيد يتجلى به في منازل الرحمة، ويستفيض من ديم النعمة، ويقيم
به على السعادة أعلامًا، ويضع لاجتناء ثمر الكرامة أحكامًا، ويعد المستجيبين
لأمره هذا - وهو القادر على كل شيء - أن يمكن لهم في الأرض، ويخدمهم أهلها،
ويجعلهم الأعلين فيها، وأن تكون عزتهم مقرونة بعزة الله ورسوله، وأن لايبيد
سلطانهم، ما ثبت إيمانهم، ولم يَشُبْه كفرانهم، كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .
وليس في المواعيد السماوية أصرح مما وعد الله في كتابه المبين، ولا أقطع
للشبهة منه. ثم زادهم على ذلك نعيمًا أبديًّا، وأوعدهم في المخالفة خزيًا دنيويًّا،
وشقاء سرمديًّا، والذين يكفرون، وسجل عليهم أنهم الفاسقون، هم الذين تبطرهم
النعم فتستزلهم عن مقامات الشكر. ثم تنتابهم الغفلة فيعدلون عن سبيل الذكر الحكيم،
ومن فسق عن أمره أحل به غضبه وأنفذ فيه عامل انتقامه وسلبه ملابس
إنعامه، إما بشقي مثله أو ولي من أهله. ثم ضاعف له العذاب يوم القيامة،
وأخلده فيها مهانًا، إلا أن يتوب فيغفر له ما قد سلف. ويعلم المخدوع أن صاحب هذا
الأمر العلي مطلع على السرائر، بادية لعلمه صفحات الضمائر. ومع هذا وذاك لا
يتفهم أحكامه، ولا يتبع أعلامه، وينبذه وراء ظهره، كأن لا علم له بنهيه وأمره،
ويمني نفسه أن ينال ما ادخر الله لأوليائه إذ قصرت همته عن نيل سعادة الدنيا ليتنعم
به في الآخرة، شهوة تحول دونها أعماله، وأحلاماً تنافي صدقها أحواله. وما
أعجب حال من يزعم الإيمان بالله ولا تفنى أهواؤه في إرادته، ولا تضمحل
نشزات طبعه لمهابته، ولا تتضاءل عزائم نفسه لعظمته، ولا يجعل القسم الأعظم
من حياته للسعي في مرضاته، ولا يبذل من نفسه وماله ما لا يخسره في مآله.
حدثتني عن اليائسين من علية (ق) - وأشباههم فهؤلاء لم ييأسوا من الله،
حتى ساء به ظنهم، وما ساء ظنهم حتى انتقض إيمانهم، فحالهم حال القائلين {مَّا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} (الأحزاب: 12) ورويت لي عن أهل النفرة
سكنة (س) فهؤلاء بقيت فيهم بقية لابد أن يؤيدوها بالعمل، ولا مكمل لما بقي
فيهم إلا رجوعهم إلى الله ورسوله، ولن يرجعوا إليه حتى يكون مزاج وحدتهم،
وحبل اعتصامهم كتاب الله، يهزون به هممهم، ويلمون به شعثهم، ويشهدون الله
أنهم نصروه في الأحوال والأعمال، فينصرهم في مواطن الجلاد ومواقع الجدال.
إن كنت وثقت بشيخ الإسلام الذي ذكرته فخذ العهد عليه، وسق إليه ببعض
كتابي هذا أو بكله إن رأيت ذلك ملائمًا لحاله، وإلا فزدني فيه بصيرة فاكتب إليه
بما يلهمه الله.
وافِني بكتبك بما أمكن من السرعة، ولا تبطئ عليّ بعد الآن والسلام.
__________
(1) هو إسحاق طيار، وفي الكتاب بعض مكتوبات الأستاذ له.(27/33)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
مسألة صفات الله تعالى
وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات
جوابُ سؤالٍ رُفِعَ إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(الوجه الثاني) في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات، علو الله على السموات
أن يقال: من المعلوم أن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمه، وأن الله أنزل الكتاب
تبياناً لكل شيء وأن معرفة ما يستحقه الله وما تنزه عنه هو من أجلّ أمور الدين
وأعظم أصوله وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء، فكيف يجوز أن يكون هذا
الباب لم يبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يفصله ولم يعلم أمته ما يقولون
في هذا الباب؟ وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على البيضاء ولا يدرون بماذا
يعرفون ربهم، أبما تقوله النفاة، أو بأقوال أهل الإثبات؟
(الثالث) أن يقال: كل من فيه أدنى محبه للعلم، أو أدنى محبة للعبادة
لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب ويقصد فيه الحق ومعرفة الخطأ من الصواب، فلا
يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون
عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، ولا تطلب قلوبهم الحق منه، وهم ليلاً ونهارًا
يتوجهون بقلوبهم إليه ويدعونه تضرعاً وخيفة ورغبًا ورهبًا، والقلوب مجبولة
مفطورة على طلب العلم. فهذا ومعرفة الحق فيه وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى
كثير من الأمور ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على
سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضًا، وقد سألوه عما هو دون
هذا: سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم. وسأله أبو رزين: أيضحك
ربنا؟ فقال نعم فقال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا. ثم إنهم لما سألوه عن
الرؤية قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس القمر) فشبه الرؤية
بالرؤية. والنفاة لا يقولون يُرى كما تُرى الشمس والقمر بل قولهم الحقيقي أنه
لا يرى بحال ومن قال يرى موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم فسر الرؤية بمزيد
علم فلا تكون كرؤية الشمس والقمر.
والمقصود هنا أنهم لا بد أن يسألوا عن ربهم الذي يعبدونه - إن كان ما تقوله
الجهمية حقًّا - وإذا سألوه فلابد أن يجيبهم، ومن المعلوم بالاضطرار أن ما تقوله
الجهمية النفاة لم ينقله عنه أحد من أهل التبليغ عنه، وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول
أهل الإثبات.
(الوجه الرابع) أن يقال: إما أن يكون الله يحب منا أن نعتقد قول النفاة أو
نعتقد قول أهل الإثبات أو لا نعتقد واحداً منهما. فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول
النفاة وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب ولا على
العرش إله، وأن محمداً لم يُعرج به إلى الله وإنما عُرج به إلى السموات فقط لا إلى
الله، فإن الملائكة لا تعرج إلى الله بل إلى ملكوته، وأن الله لا ينزل منه شيء ولا
يصعد إليه شيئًا، وأمثال ذلك وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعه فيها
إجمال وإبهام كقولهم: ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان،
وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائض،
ومقصدهم أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله يعبد، ولا عرج
بالرسول إلى الله وإنما المقصود أنه إن كان الذي يحبه الله لنا أن نعتقد هذا النفي
فالصحابة والتابعون أفضل منا، فقد كانوا يعتقدون هذا النفي والرسول صلى الله
عليه وسلم كان يعتقده، وإذا كان الله ورسوله يرضاه لنا، وهو إما واجب علينا أو
مستحب لنا فلابد أن يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو واجب علينا،
ويدنينا إلى ما هو مستحب لنا، ولابد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات
لمحبوب الله ومرضاته، وما يقرب إليه لاسيما مع قوله عز وجل {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة: 3) لا سيما والجهمية تجعل هذا
أصل الدين، وهو عندهم التوحيد الذي لا يخالفه إلا شقي، فكيف لا يعلِّم الرسول
صلى الله عليه وسلم أمته التوحيد؟ وكيف لا يكون التوحيد معروفًا عند
الصحابة والتابعين؟ والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم يسمون مذهب النفاة التوحيد
وقد سمى صاحب المرشدة أصحابه الموحدين إذ عندهم مذهب النفاة هو التوحيد،
وإذا كان كذلك كان من المعلوم أنه لابد أن يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم،
وقد علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتكلموا بمذهب
النفاة، فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب، بل عُلم أنه ليس من التوحيد الذي
شرعه الله تعالى لعباده.
وإن كان يحب منا مذهب الإثبات، وهو الذي أمرنا به فلا بد أيضًا أن يبين
ذلك لنا، ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات العلو والصفات أعظم مما فيهما من
إثبات الوضوء والتيمم والصيام وتحريم ذوات المحارم وخبيث المطاعم ونحو ذلك
من الشرائع. فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملاً، والرسول صلى الله عليه
وسلم مبلغًا مبينًا والتوحيد عند السلف مشهورًا معروفًا. والكتاب والسنة يصدق
بعضه بعضاً والسلف خير هذه الأمة وطريقهم أفضل الطرق، والقرآن كله حق
ليس فيه إضلال، ولا دل على كفر ومحال، بل هو الشفاء والهدى والنور. وهذه
كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة. فقولهم مؤتلف غير مختلف ومقبول غير مردود.
وإن كان الذي يحبه الله ألا نثبت ولا ننفي بل نبقى في الجهل البسيط وفي
ظلمات بعضها فوق بعض لا نفرق الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال ولا
الصدق من الكذب بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكّين الحيارى {مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143) لا مصدقين ولا مكذبين -
لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه
وسلم، وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم
بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك.
ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال وإنما
يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم الحيرة بقوله تعالى {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا
لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي
الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى
وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنعام: 71-72) وقد أمرنا الله تعالى أن نقول {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .
وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم
الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختُلف فيه
من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فهو يسأل ربه أن يهديه لما
اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد
قال الله له: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) وما يذكره بعض الناس عنه
أنه قال: (زدني فيك تحيرًا) كذب باتفاق أهل العلم بحديثه، بل هذا سؤال من هو
حائر وقد سأل المزيد من الحيرة، ولا يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا
كان حائراً بل يسأل الهدى والعلم، فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلال وإنما
ينقل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدي بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه فهذا
يلزم عليه أمور.
(أحدها) أن من قال هذا فعليه أن ينكر على النفاة، فإنهم ابتدعوا ألفاظًا
ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة. وأما المثبتة إذا اقتصروا على
النصوص فليس له الإنكار عليهم - وهؤلاء الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو
يقرونهم، وإنما يعارضون المثبتة فعلم أنهم أقروا أهل البدعة، وعادوا أهل السنة.
(الثاني) أن يقال: عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحب الله
ورسوله فهذا القول باطل.
(الثالث) أن يقال الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين
غاية ما في الباب، إن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت.
فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على العالم الجازم المستبصر المتبع المرسول
للعالم بالمنقول والمنقول.
(الرابع) أن يقال السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة وقالوا بالإثبات
وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في
هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة
وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة وأئمة أصحاب مالك
وأبي حنيفة والشافعي وأحمد موجود كثير لايحصيه أحد.
وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات فإن السائل قال له: يا أبا عبد الله
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كيف استوى؟ فقال مالك:
الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وفي لفظ: استواؤه معلوم أو معقول، والكيف
غير معقول والإيمان به واجب، السؤال عنه بدعه. فقد أخبر رضي الله عنه بأن
نفس الاستواء معلوم وأن كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل
الإثبات.
وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله
أن الاستواء مجهول غير معلوم. وإن كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يقال: الكيف
مجهول لا سيما إذا كان الاستواء منفيًا فالمنفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال: هي
مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنه معلوم وأن له كيفية
لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن. ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه
الكيفية، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه،
وليس كل ما كان معلومًا وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا. يبين ذلك أن
المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: الله في السماء وعلمه في كل مكان
حتى ذكر ذلك مكي في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك ونقله أبو عمر
والطلمنكي وأبو عمر بن عبد البر وابن أبي زيد في المختصر وغير واحد ولو كان
مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات.
والقول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة بن عبد الرحمن شيخه كما رواه عنه
سفيان بن عيينة وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشوني كلاماً طويلاً
يقرر مذهب الإثبات ويرد على النفاة وقد ذكرناه في غير هذا الموضع.
وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم، وكلام أئمة المالكية
وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور، لأن علماءهم حكموا إجماع أهل السنة والجماعة
على أن الله بذاته فوق عرشه. وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السنة ولم
يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبي زيد في هذا وهو إنما ذكر هذا في مقدمة
الرسالة لتُلَقَّن لجميع المسلمين لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد.
ولم يرد على ابن أبي زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة لم يعتمد من
خالفه على أنه بدعة ولا أنه مخالف للكتاب والسنة، ولكن زعم من خالف ابن أبي زيد
وأمثاله إنما خالفه مخالف للعقل [1] وقالوا: إن ابن أبي زيد لم يكن يحسن الكلام
الذي يعرف فيه ما يجوز على الله وما لا يجوز. والذين أنكروا على ابن أبي زيد
وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية كأبي المعالي وأتباعه
وهؤلاء تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شركوا فيها المعتزلة ونحوهم
من الجهمية، فالجهمية من المعتزلة وغيرهم هم أصل هذا الإنكار.
وسلف الأمة وأئمتها متفقون على الإثبات، رادّون على الواقفة والنفاة، مثل
ما رواه البيهقي وغيره عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون - نقول إن
الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
وقال أبو مطيع البلخي في كتاب الفقه الأكبر: سألت أبا حنيفة عمن يقول لا
أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال: كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى
العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وعرشه فوق سبع سمواته، فقلت إنه يقول على
العرش ولكن لا أدرى العرش في السماء أو في الأرض، فقال إنه إذا أنكر أنه في
السماء كفر، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يُدعى من أعلى لا من أسفل.
قال عبد الله بن نافع كان مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه كل مكان.
وقال معدان: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) قال علمه. وقال حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه رواه
ابن أبي حاتم والبخاري وعبد الله بن أحمد وغيرهم. إنما يدور كلام الجهمية
على أن يقولوا ليس في السماء شيء. وقال علي بن الحسن بن شقيق قلت لعبد الله بن
المبارك بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه. قلت
بحد؟ قال: بحد لا يعلمه غيره، وهذا مشهور عن ابن المبارك ثابت عنه من غيره
وجه، وهو نظر صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغير
واحد من الأئمة. وقال رجل لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن قد خفت
الله من كثرة ما أدعو على الجهمية. قال لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في
السماء ليس بشيء. وقال جرير بن عبد الحميد: كلام الجمهية أوله شهد وآخره
سُمّ، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله.
رواه ابن أبي حاتم ورواه هو وغيره بأسانيد ثابته عن عبد الرحمن بن مهدي
قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى بن عمران، وأن يكون
على العرش، أرى أن يُستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال يزيد بن
هارون: من زعم أن الله على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو
جهمي. وقال سعيد بن عامر الضبعي - وذكر عنده الجهمية فقال - هم شر قول
من اليهود والنصارى، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش،
وقالوا هم: ليس عليه شيء. وقال عباد بن العوام الواسطي: كلمت بشرًا
المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء،
أرى أن لا يناكحوا ولا يوارثوا. وهذا كثير من كلامهم.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا في الأصل وفي هامشه الظاهر: إنما خالفه لمخالفته العقل.(27/39)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتماغاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
الباب الرابع
الماء
الماء يلي الهواء في المكانة والمنفعة. فالإنسان يستطيع أن يعيش بدونه
بضعة أيام. ولا بد له منه على كل حال. ويمكنه أن يعيش بدون غذاء مدة أكثر من
المدة التي يستطيع أن يعيشها بدون الماء. إن نسبة الماء إلى غيره في أغذيتنا أكثر
من 70 في المائة، وهو يوجد بمثل هذا المقدار في الجسم الإنساني، وإذا حرم منه
ينقص ثقله كثيرًا.
ولكنا مع شدة حاجتنا إلى الماء قلما نبالي بالمحافظة على نقائه ونظافته، إن
الطاعون والهيضة وغيرهما من الأوبئة الجارفة تنشأ من فساد الهواء والماء، وكذلك
يتولد مرض الحصاة (النواة) في المثانة من شرب الماء القذر.
يفسد الماء بسببين: فهو إما أن يكون في مكان مفسد له، وإما أن نفسده نحن
بأنفسنا. فأما الماء المجتمع في المكان القذر فيجب الحذر من شربه، ونحن نحترز
منه فعلاً، ولكننا لا نشمئز من شرب الماء الذي أفسدناه نحن بأيدينا.
فماء الأنهار الذي يعد أصلح المياه للشرب نفسده بإلقاء أنواع الأقذار فيه،
وكذلك نغتسل ونغسل الأثواب الوسخة فيه. يجب أن نحذر كل الحذر من شرب
الماء الذي يغتسل فيه الناس. ويجب أن نخصص الجهة العليا من النهر للشرب
وحده، ونترك الجهة السفلى للاغتسال وغسل الأشياء الوسخة. أما البلاد التي لا
يتبع فيها هذا النظام فقد تعود كثير من الناس هناك عادة حسنة وهي أنهم يحفرون
حفرة في الرمل على طرف النهر ويأخذون منها الماء لشربهم، وهذا الماء يكون
نظيفًا جدًّا، لأنه يصفو وينظف برشحه من غربال (مصفاة) الرمل.
إن شرب ماء الآبار يحدث ضررًا كبيرًا إذا لم تكن البئر مبنية بناءً محكمًا.
فتقاطر الماء الوسخ من فوقه، وسقوط الطيور والهوام وتعفنها فيه، واتخاذ الطيور
أوكارها في داخله، كل ذلك يفسد ماءه. وكذلك قد تتسرب إليه الوساخات
والرطوبات من باطن الأرض فتفسده وتجعله غير صالح للشرب، يجب علينا أن
نحترس كثيراً في شرب ماء الآبار.
وكذلك خزن الماء في الأحواض الوسخة المكشوفة تفسده، فللمحافظة على
نقائه يجب تنظيف الأحواض حيناً بعد حين وتغطيتها، ويجب أن نراعي ونلاحظ
الأحواض والآبار، هل هي في حالة حسنة أم لا؟ ومن المؤسفات أن قليلاً من الناس
يراعي طهارة الماء مراعاة تامة.
وأحسن طريقة لإزالة كل ما يطرأ على الماء من الفساد هي أن يُغلى جيدًا
ويصفى بعد برده في قماش سميك نظيف إلى إناء آخر بكل احتياط. لا تنتهي
وظيفتنا عند هذا الحد، بل علينا واجب آخر أكبر من هذا الواجب وهو أن نراعي
صحة أبناء جنسنا أيضًا، فتتجنب كل ما من شأنه إفساد الماء الذي يشربه الناس
بنحو الاغتسال أو غسل الملابس في موارد العامة للشرب خاصة، أو قضاء الحاجة
والبول على شواطئ الأنهار، وكذلك إحراق الموتى هنالك وإلقاء رمادها في
الماء [1] .
مهما يفعل من العناية والاحتياط فإن المحافظة التامة على طهارة الماء في
غاية العسر لأنه قد يذوب فيه الملح أو يسقط الحشيش وغيره من الأشياء التي إذا
بقيت في الماء تعفنت وأفسدته. إن ماء المطر أطهر المياه وأنظفها بلا ريب.
ولكنه أيضاً يفسد في أكثر الأحيان قبل وصوله إلينا لاختلاطه بالذرات الموجودة في
الفضاء. إن الماء النقي له تأثير حسن جدًا في الجسم، ولذلك يهيىء الأطباء الماء
المقطر لمرضاهم. فالذين يشكون الإمساك أكثرهم يشفون بشرب الماء المقطر. لقد
جاء في كتاب حديث في (الماء المقطر وطرق استعماله) أن جميع الأمراض يمكن
معالجتها بشرب الماء المقطر بطريقة مخصوصة. نعم، إن هذا القول لا يخلو من
المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أن الماء الطاهر من جميع المفسدات يؤثر تأثيراً
عظيماً جدًّا في الجسم.
لا يعرف كثير من الناس أن الماء على نوعين: خفيف وثقيل. فالماء الثقيل
هو الذي قد امتزجت فيه بعض الأملاح! ولذلك لا يرغو فيه الصابون كثيرًا، ولا
ينضج معه الطعام بسهولة، ويكون طعمه مالحًا، وطعم الماء الخفيف حلو عذب،
أو على الأقل بدون طعم. ويرى بعض الناس أن شرب الماء الثقيل أولى من شرب
الماء الخفيف. ولكن التجارب أثبتت أن الماء الثقيل يضعف قوة الهضم. ولذلك
يبدو لنا أن شرب الماء الخفيف بالجملة أحسن وأسلم. إن ماء المطر أصلح أنواع
المياه الخفيفة للشرب إذا سلم من الفساد. إن الماء الثقيل إذا أغلي جيداً وترك على
النار نحو نصف ساعة من الزمن يعود خفيفًا، ويصح شربه بعد تقطيره.
كثيرًا ما سئلت الأطباء هذا السؤال: متى ينبغي شرب الماء؟ وما مقدار ما
يشرب منه؟ والجواب الوحيد هو أنه لا ينبغي لإنسان أن يشرب الماء إلا إذا
عطش، ولا يشرب إلا المقدار الذي يزيل عطشه، ولا بأس من شربه أثناء الأكل
وبعده مباشرة. ولكن لا ينبغي إساغة اللقم به. إن بشاعة اللقمة واستعصاءها على
البلع، معناه أنها لم تمضغ جيدًا أو أن المعدة ليست في حاجة إليها.
لا ضرورة بل لا حاجة إلى شرب الماء في كل وقت، فإن في مواد غذائنا
مقدارًا كبيرًا من الماء كما تقدم، ونحن نزيده في أثناء الطبخ، فإذن لماذا نحن
نعطش؟ إن الذين لا يستعملون في أطعمتهم البهارات والتوابل والبصل وغيرها من
الأشياء التي توجب العطش الصناعي، قلَّما يحتاجون إلى شرب الماء، والذين
يعطشون كثيرًا لا بد أن يكونوا مصابين ببعض الأمراض.
قد نرغب في شرب الماء من أي نوع كان. وما ذلك إلا لأننا نرى بعض
الناس يفعلون ذلك بلا مبالاة فنقلدهم نحن أيضاً. لقد فصلنا جواب هذه المسألة في
باب الهواء.
إن في الدم نفسه قوة تقتل كثيرًا من الجراثيم السامة التي تدخل فيه، ولكن
يجب تنظيفه وإصلاحه مثل ما يصلح حد السيف بالشحذ كلما تثلم بالاستعمال، إذا
كنا نشرب الماء الفاسد فلا ينبغي أن نتعجب إن وجدنا دمنا قد تسمم على مر الأيام.
***
الباب الخامس
الغذاء
إن الماء والهواء والحبوب كل هذه الثلاثة داخله في غذائنا، ولكننا نعد
الحبوب وحدها هو الغذاء، مع أن الهواء هو أول غذاء لنا؛ لأننا لا يمكننا أن
نعيش بدونه، ثم يليه الماء الذي هو أهم من الحبوب. وقد أوجدته الطبيعة بكمية
كبيرة فنجده بسهولة خلافًا للحبوب التي هي في الدرجة الثالثة من غذائنا.
لا يمكن وضع القوانين المنضبطة بكل دقة في مسألة الغذاء. وأي نوع من
الغذاء ينبغي استعماله؟ كم يكون مقداره؟ وفي أي الأوقات؟ هذه المسألة قد اختلف
فيها الأطباء اختلافًا كبيرًا. إن عوائد الناس في البلاد المختلفة متباينة جدًّا، حتى
إن الغذاء الواحد قد يحدث تأثيرات مختلفة في فردين مختلفين. فعلى ذلك لا يمكن
تحديد الغذاء والبتّ في الأسئلة السابقة. فإنه يوجد على الكرة الأرضية قوم يأكلون
لحوم البشر، فلحم البشر غذاء لهم. وآخرون يقتاتون بالقاذورات فهي غذاء لهم.
ويعيش أقوام على اللبن فهو غذاء لهم، ويعيش غيرهم على الثمار فهي غذاء لهم.
ولكن مع تعذر تحديد الغذاء تحديدًا تامًّا يجب أن نتدبر في المسألة بكل اهتمام
لا حاجة إلى التذكير بأن الجسم لا بقاء له بدون الغذاء، ولذلك نركب الصعاب
ونتحمل المصائب في تحصيله. ثم إنه مما لا ريب فيه أن 99 في المائة من
الرجال والنساء يأكلون للذة البطن واللسان فقط، فهم لا يتوقفون أثناء الأكل للتأمل
في النتائج التي تتبعه بعد تناوله، ويشرب كثير من الناس المسهلات ويتعاطون
الحبوب الهاضمة ليتمكنوا من الإكثار من الأكل ثانية وكذلك يوجد أناس يشحنون
بطونهم فوق طاقتها ثم يستفرغون ما أكلوا ليتمكنوا من الأكل مثل المقدار الأول.
ومن الناس من يكثر من الأكل حتى لا يجوع أيامًا عديدة، وقد وجد أناس
ماتوا لأنهم أكلوا فوق طاقتهم، أقول: كل هذا على تجربتي الشخصية. وإني كلما
أتفكر في حياتي الماضية أضحك على كثير من أعمالي ولا أتمالك من الاستحياء من
بعضها. فقد كنت في تلك الأيام المظلمة أشرب الشاي صباحاً، ثم أتناول الفطور
بعده بساعتين أو ثلاث، ثم أتغذى الساعة الواحدة، ثم أشرب الشاي ثانية، ثم
أجلس للعشاء بين السادسة والسابعة، ولا تسأل عن تعاستي وسوء حالتي في تلك
الأيام فقد كانت تستدعي العطف والرحمة، فكان حشو جسمي الكثير من الشحم
وقوارير الأدوية لا تبرح يدي. وكنت أكثر من شرب المسهلات وأستعمل الأدوية
المقوية لأتمكن من الأكل الكثير، وأما قواي العقلية والجسدية فكانت في حالة يرثى
لها. فما كنت أملك ثلث نشاطي ومقدرتي على العمل التي أجدها الآن، مع أني
كنت إذ ذاك في عنفوان شبابي. لا ريب أن مثل هذه الحالة تعسة حقًّا، وإننا لو
نتدبر في الأمر بجد وتروِّ نجزم بأنها حالة رذلة آثمة مستحقة لكل مقت وتقبيح.
إن الإنسان لم يخلق للأكل ولا ينبغي له أن يعيش للأكل. إن وظيفته الحق
هي أن يعرف خالقه ويعبده حق عبادته وإنما الأكل لتقوية الجسم ليقوم بهذه العبادة
لا غير. حتى إن الملاحدة أيضاً يسلمون أننا لا نأكل إلا لحفظ الصحة وكل ما زاد
على ذلك فلا حاجة إليه مطلقًا.
انظر إلى الطيور والحيوانات تجد أنها لا تأكل لمجرد التمتع باللذة، فهي لا
تملأ بطونها ملأ ولا تقبل الأكل إلا إذا جاعت ولا تأكل إلا القدر الذي يزول به ألم
الجوع وتقتصر عليه، ثم هي لا تجاوز الغذاء الذي هيئته لها الطبيعة بأيديها فلا
تطبخ طعامها، ولا تغير طعمه بطرق صناعية. فهل يمكن يا ترى أن يكون
الإنسان وحده قد خلق ليعبد لذته؟ وهل يمكن أن يكون هو وحده قد قدر عليه الشقاء
بالأمراض دائمًا؟ إن الحيوانات التي تعيش وتحيا حياة حرة طبيعية لا يموت منها
أحد بسبب الجوع، ولا يوجد بينها التمييز بين الفقير والغني - بين الذين يأكلون
مرات عديدة في اليوم، والذين لا يجدون الطعام ولا مرة واحدة في يومهم - إن هذا
التفاوت والتمايز لا يوجد إلا في البشر وحدهم. ومع ذلك نحن نعد أنفسنا أفضل
وأعلى من الحيوانات! لا ريب أن الذين يقضون أعمارهم في عبادة بطونهم لأحطّ
من الطيور والبهائم!
إن التدبر العميق يثبت لنا أن جميع الذنوب مثل الكذب والغش والسرقة إنما
هي نتائج لازمة لعبوديتنا للذة، والذي يستطيع أن يملك زمام لذته يستطيع أن يملك
بسهولة مشاعره الأخرى. إن كنا نكذب أو نسرق أو نزني تسقط منزلتنا من أعين
المجتمع الإنساني. ولكن ما أعجب ما نرى من أن الناس لا يبدون أي اشمئزاز أو
تحقير لأولئك الذين يتدينون للذة بطونهم بلا خجل ولا استحياء كأن هذا الإثم لا
علاقة لها بالأخلاق مطلقًا! وما ذلك إلا لأن أحسن الناس وأكبرهم أيضًا يعبدون
لذاتهم.
إن جميع المتمدينين يجتنبون مصاحبة الكذابين واللصوص والزناة، ولكنهم
أنفسهم يأكلون فوق كل حد، ولا يعدون ذلك ذنباً أصلاً! إن الخضوع للذة لا يعد
فينا ذنباً لأننا جميعاً نرتكبه، كما أن اللصوصية لا تعد جناية في قرية اللصوص!
وأقبح من كل هذا أننا عوضًا من أن نستحي من هذه العادة نفتخر ونتباهى بها.
فترى عبادة اللذة في الأعراس والأفراح والأعياد كوظيفة مقدسة واجبة علينا،
حتى في المآتم لا نخجل من القيام بهذا العار الفظيع! وإذا جاءنا ضيف بادرنا إلى
شحن بطنه بالحلوى، وإذا لم نُقم لأصحابنا وأقاربنا المآدب أو لم نشترك في
ولائمهم ووضائمهم كل حين نبوء بسخطهم، ونكون عرضة لملامتهم، وإن دعونا
أصحابنا إلى مائدتنا، ثم قصرنا في شحن بطونهم بالأطعمة الثمينة فإننا بلا ريب
نعد من البخلاء! وأما أيام المواسم والأعياد فنرى إعداد الطعام اللذيذ الشهي فيها
واجبًا كبيرًا علينا. لا ريب أن القضية قد انعكست الآن فأصبح الإثم الكبير في
الحقيقة محمدة وحسنة في عرفنا. نحن قد زعمنا في مسألة الأكل مزاعم باطلة
وجعلناها حقائق، فهي التي لا تسمح لنا بأن نفهم عبوديتنا وبهيميتنا. كيف نخلص
أنفسنا من هذه الحالة المحزنة المقلقة؟ إني أخاف إن توغلت في الجواب أن
أخرج من موضوع الصحة، ولذلك أقف عند القول بأنه يجب على الأفراد وعلى
الجماعات سواء أن يقفوا جميعًا أمام هذه المسألة المهمة وقفة المتدبر، ويتأملوا فيها
من الوجهة الصحية فقط.
ولننظر في المسألة من وجهة أخرى: نحن نشاهد بأعيننا أمرًا واقعًا لا مُشَاحَّة
فيه، وهو أن الطبيعة قد هيئت بنفسها لجميع المخلوقات - سواء فيها الإنسان
والحيوان والطير والحشرات - غذاء وافرًا يكفي لحياتها وبقائها، هذه هي سنة
الطبيعة الأبدية، أن في مملكة الطبيعة لا يغفل أحد، ولا ينسى أحد وظيفته، ولا
يأخذه في أدائها كسل ولا ملل، إن الشغل كله يؤدي فيها بغاية الإتقان وفي الوقت
المحدد له بلا تأخير لمحة من البصر، إننا لو نسعى سعياً صحيحًا دائمًا في جعل
حياتنا مطابقة لسنن الطبيعة الأبدية الثابتة لرأينا بلا بشك أنه لا يوجد إنسان في هذه
المعمورة الواسعة يموت جوعًا، وذلك لأن الطبيعة تهيئ دائمًا غذاءً وافرًا يكفي
لتغذية جميع المخلوقات. ومن هنا نعلم أن الذي يأخذ من الغذاء أكثر من نصيبه
الاعتيادي، يحرم الآخر من سهمه الشرعي، أليس هذا الأمر واقعًا، أليست مطابخ
الملوك والأمراء والأغنياء عامة تعد من الأطعمة أضعاف حاجتهم وحاجة أتباعهم؟
هكذا هم يغتصبون غذاءً كثيرًا من نصيب الفقراء فهل يتعجب بعد هذا إن مات
بعض الفقراء جوعًا؟ إن كان هذا صحيحًا (وقد اعترف بهذا الأمر الواقع كثير من
المفكرين) فمعناه أن كل ما نأكله أكثر من حاجتنا الضرورية ليس إلا اختلاسًا من
بطون الفقراء، إن كل ما نأكله لمجرد الاستمتاع والالتذاذ لا بد من أن يهدد صحتنا
بالخطر.
بعد هذه التوطئة يمكننا أن نتدبر في الغذاء الأصلح للإنسان.
((يتبع بمقال تالٍ))
______________________
(1) هو ما يفعله قوم المؤلف في الهند تعبدًا.(27/48)
الكاتب: المغربي
__________
حديث عن الجامعة الأحمدية
المشهورة - في بلادنا - باسم القاديانية [*]
تمهيد:
اتفق لي في السنة الأولى من سني الحرب العامة وأنا في القدس أن تعرفت
بشاب هندي اسمه (زين العابدين) من خيرة من عرفت من الشبان علماً وفضلاً،
وأدبًا وأخلاقًا، وحمية لدينه، ودفاعًا عن يقينه، وقد استحكمت بيني وبينه وشائج
الثقة. وكذلك كان شأنه مع كل من عرفه، ووقف على جميل سجاياه. وكان يقول:
إنه إنما جاء سورية لأجل درس اللغة العربية وتحصيل ملكة الكتابة فيها. وأن
جمعيته في الهند البالغ عددها خمسمائة ألف نفس هي التي أوفدته على نفقتها لهذا
الغرض. وأن الحرب قد حالت بينه وبين الرجوع إلى بلاده. ثم انقضت الحرب
فأوطن دمشق فنذرت به السلطة الإنكليزية فساقته إلى مصر وحاكمته بحجة أنه كان
يشغتل في أثناء الحرب ضد المصلحة البريطانية. ثم تبرأ وعاد إلى بلاده (بنجاب)
وجعل يكاتبني حتى زار دمشق في صيف سنة 1924 الميرزا بشير الدين زعيم
الفرقة الأحمدية الملقب بخليفة المسيح الموعود ومعه كتاب من الصديق (زين
العبادين) يخبرني فيه بقدوم الميرزا ويوصيني بحسن استقباله. ففهمت إذ ذاك أن
زين العابدين هو من أتباع مسيح البنجاب بل هو (الماكينة) المحركة في ذلك
الدولاب. كما فهمت أنه يتولى كتابة السر في المسيحية الموعودة ويقوم بشؤون
التربية والتعليم في تلك الجامعة الجديدة.
ثم كان من أمر (الميرزا بشير الدين) مع أهل دمشق وهياجهم عليه ما كان
فغادر الرجل دمشق إلى لندره لشهود مؤتمر الأديان العام فيها. وفي صيف السنة
التالية أي سنة 1925 جاء زين العابدين نفسه إلى دمشق، فرحبت به، ولم آل
جهداً في معاتبته، ثم لم يكن يضمني وإياه مجلس إلا جاء فيه ذكر فرقتهم، وغريب
دعوتهم، فكنا تارة نجادله، وطوراً نهازله، وآونة نعجب منه، وأحياناً ننافح عنه،
وشد ما تمنيت عليه أو تفرغ نحلتهم في قالب إصلاحي جدي، غير القالب الذي
أفرغوها فيه، فيكون لها من حسن الأثر في التربية العامة ما كان للطرائق
الصوفية الحكيمة، فكان تارة يصغي إلى قولي ويرتاح إليه، وطورًا يخالفني إلى
فكر يريغ مني الموافقة عليه.
أما القصد من مجيئه مع رفيق له من علماء فرقتهم إلى دمشق - فهو أنه يريد
إزالة سوء التفاهم الذي كان وقع بين أفاضلها وبين زعيم الفرقة الميرزا (بشير
الدين) ويكشف الغموض والإبهام عن بعض تعابير وأقوال كانوا يسمعونها منه
فيسيئون بها وبه الظن، مع أنها تنطبق - في زعمه - على تعاليم الإسلام
وتلتحم بنصوصه. وقد باشر (زين العابدين) بالفعل وظيفته هذه ونشر بهذا
المعنى مقالات في بعض الصحف، وناظر نفرًا من العلماء والشبان، وكتب رسالة
وطبعها في دمشق تتضمن بعض تلك المناظرات، ثم رأى أن يضع كتابًا آخر يكون
أغزر مادة، وأجمع للفائدة فألفه وسماه (حياة المسيح ووفاته) بلغ نحو (215)
صفحة وقد طبعه في دمشق ووزعه على أصدقائه ومعارفه، وأهدى منه إلى
بعض المشهورين من العلماء والصحافيين، وقد زارني في داري وقدم إليَّ نسخة
منه، وكلفني بلهجة الصديق المحب أن أكتب كلمة تنشر وتؤثر عنه، فكتبت هذه
الكلمة، وقد رأيتها خير كلمة تعبر عن الحقيقة، ويعاتب بها الصديق صديقه،
واخترت (مجلة المنار) لتنشر فيها، ويكون الصديق الأبرّ السيد رشيد حكمًا ومهيمنًا
عليها، وهذه هي الكلمة:
***
كتاب حياة المسيح
ووفاته
طالعت كتابك يا صديقي (زين العابدين) في موضوع (حياة المسيح وموته)
بعد أن كلفتني مطالعته وإبداء رأيي فيه، فها أنا ذا أذكر ذلك ما كان يجول في
نفسي وأنا أتصفحه، وقد أعرضت في كلمتي هذه عن الاستشهاد بالنصوص الدينية
وسرد ما قالوه في تأويلها، كما أنني لم أنازعك فيما ذكرت أنت وأولت من هذا
القبيل؛ لأنني صرت أعتقد أن إصلاح أمرنا والتوفيق بين فرقنا - معشر المسلمين -
عن طريق تلك النصوص وتأويلها أصبح عقيمًا لا يفيد. فأنا أرجح الإصلاح
والتوفيق من طريق (المحاكمات) العقلية والاجتماعية والتاريخية، ثم الاعتبار
بحوادث الزمان، والرجوع إلى نواميس العمران، فأقول:
إن صاحب دعوتكم (غلام أحمد) يذهب إلى أن السيد عيسى عليه السلام
أنزل عن الصليب وفيه رمق ثم تداوى وشفي وساح في الأرض حتى بلغ كشمير
ودفن ثمة، فليس هو الآن حيًّا في السماء بجسده كما يعتقد المسلمون والنصارى.
وبالضرورة أنه سوف لا ينزل من السماء في آخر الزمان وإنما يقوم من بين
المسلمين رجل على سمته وهديه فَيَلِمّ شعث الأمة الإسلامية ويجمع فرقتها بعد
الشتات، وقد ذهب (غلام أحمد) إلى أن هذا هو معنى ما ورد من نزول السيد عيسى
عليه السلام، ثم أولَ جميع النصوص وأرجعها إلى هذا المعنى.
قد يوجد في أحرار المسلمين المتعلمين اليوم من يقول بما قال به (غلام أحمد)
بشان موت المسيح موتًا حقيقيًّا، ويؤوّل الآثار الدالة على نزوله ولكن ليس قولهم
هذا من قبيل المتابعة لغلام أحمد ومذهبه المُوحى إليه به، وإنما هذه الموافقة له
جاءت من كون حياة عيسى وصعوده إلى السماء ثم نزوله في آخر الزمان هي
كسائر العقائد من نوعها التي اعتمد جمهور علمائنا رضي الله عنهم ظاهرها إيمانًا
بشمول القدرة الإلهية. وقد غلب هذا الاعتقاد فيما كان من هذا النوع من مسائل
الكلام، وشاع حتى دُوِّن في كتب العقائد الإسلامية، وإن كان يوجد في علماء الإسلام
المتقدمين من يذهب إلى غير ما عليه الجمهور فيؤول ظاهر الآيات ويرجعها إلى
معان توائم العقل، وتكون أظهر التحامًا مع النواميس الطبيعية وأمثله ذلك كثيرة منها:
(1) الكوثر الذي أُعطي للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: المشهور
أنه نهر جارٍ، وهناك من يعتقد أنه الخير الكثير.
(2) مسخ الذين اعتدوا في السبت قردة: المشهور أنهم مسخوا حقيقة،
وهناك من يقول: إنه مسخ قلوب وأخلاق.
(3) كرسي الله وعرشه: المشهور أنه جسم مادي في أعلى السماوات،
وهناك من يعتقد له معنى مجازيًّا كالعظمة والسلطة.
(4) النفخ في الصور: المشهور أنه بوق حقيقي ينفخ فيه يوم القيامة،
وهناك من يعتقد أنه كناية عن إعلان الأمر وإشهاره.
(5) وزن الأعمال يوم القيامة: المشهور أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان
وكِفتين، وهناك من يعتقد أن المراد بالوزن القضاء العادل، وقال الطبري: إنه قول
مجاهد.
إلى غير ذلك من المسائل، ومن جملتها مسألة حياة عيسى بجسده العنصري
في السماء ونزوله منها، وما دام ابن عباس يقول (كما في تفسير الطبري) : إن
المراد بقوله تعالى {مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: 55) مميتك، لا جرم أن يوجد في
المسلمين من يقول بموته اتباعًا لابن عباس لا اتباعًا لوحي (غلام أحمد) إذ إن
المسألة مسألة فهم في الدين؛ فهي لا تحتاج إلى عناء دعوى الوحي أو نزول ملك من
أجلها.
غير أن الواحد من هؤلاء المخالفين للجمهور لا يصرح بما يذهب إليه في
أمثال ما ذكرنا أمام الناس خشية تشنيعهم عليه، فهو يدع الناس في غفلاتهم ويعتقد
هو أمرًا إن كان يخالفهم فيه فربما كان موافقاً لبعض علماء السلف أو لعلماء
المعتزلة الذين هم من أهل قبلتنا، وليسوا بخارجين عن ملتنا.
أما حضرة (غلام أحمد) فقد وجد من بيئة الهند وعقلة سكانها ومن ذلك
الوسط المشبع بالحرية الفكرية التي أيدتها السلطة الإنكليزية - ما ساعده على الجهر
برأيه في موت المسيح، لا سيما أن (غلام أحمد) في صدد ادعاء الوحي لنفسه
وأنه هو المسيح الموعود ليتوصل بذلك إلى إفحام أعدائه المبشرين.
فعيسى إذًا ميت على ما يُفهم من قول ابن عباس، وهو ما استند عليه غلام
أحمد في دعوته، وربما ذهب مذهبه طائفة من أحرار علماء المسلمين المتقدمين
والمتأخرين كما قلنا.
أما أن عيسى كان موته قبل أن يُصلب أو وهو على الصليب أو أنزل عن
الصليب حيًّا ثم مات في فلسطين أو في الهند؟ وفي أي مكان دفن؟ فكل هذا لم
ينص عليه القرآن بصراحة، فيبقى بحثًا تاريخيًّا، ولكل إنسان أن يذهب فيه مذهبًا
يراه صوابًا حسب الأدلة التي تتوفر لديه ويقتنع بها.
بقي أن يقال: إن هناك آثارًا وأحاديث تدل على أن عيسى سوف ينزل (أي
يظهر) في آخر الزمان. فبالطبع تكون هذه الأحاديث مؤولة بأحد طرق التأويل عند
الطائفة التي تقول بموته، ومن هذه التآويل التي تتبادر إلى ذهن كل من له وقوف
على العلوم الإسلامية - التأويل الذي ذهب إليه (غلام أحمد) من ظهور رجل من
المسلمين في آخر الزمان يكون على سمت المسيح وهديه , فينهض بالمسلمين بعد
خمولهم وذهاب ريحهم.
ولا ريب أن الأعلق بمصلحة المسلمين أن لا يقال: إن عيسى الذي سيظهر
في آخر الزمان هو شخص واحد يقوم في زمان واحد ومكان واحد , بل القول
الصواب في ذلك ما قاله (غلام أحمد) نفسه ونقله عنه صديقنا زين العابدين في
كتاب (حياة المسيح ووفاته) صفحة 211 وهذا هو نص قوله بحرفه:
(وأنا كذلك لا أقول: إن مقام العيسوية ختم بي وانطوى ولا يأتي مسيح بعدي،
كلا بل إني لأؤمن وأقول مرة بعد أخرى إنه بالإمكان أن يجيء أكثر من عشرة
آلاف مسيح) .
وعلى هذا فالمسحاء الذين يظهرون في آخر الزمان لهداية الناس كثيرون في
اعتقاد (غلام أحمد) واعتقاده هذا يتفق مع مذهب أهل السنة من أنه تعالى (يبعث
على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) بناءً على أثر وارد في هذا
المعنى.
لكن غلام أحمد يتسامح فيسمي كل من يقوم في آخر الزمان للهداية العامة
(مسيحًا ومهديًّا) كما يسميه (مجددًا) أما أهل السنة فيسمونه (مجددًا) فقط
ويحتفظون بلقب عيسى والمهدي للمجدد الأخير. ويوشك أن نتفق ونجعل الخلاف
بيننا وبين (غلام أحمد) لفظياً لو لم نره يعود فيخالفنا ويزداد في التسامح والتساهل
فيسمى المجدد (نبيًّا ورسولاً) كما يسميه (مسيحًا ومهديًّا) ، إذ تكون دائرة التجديد
في العيسوية أوسع مما كنا نظن. فالآن وبعد الآن يقوم وسيقوم وسوف يقوم في
المسلمين (مجددون ومسحاء ومهديون ورسل وأنبياء) ألفاظ مختلفة والمعنى
واحد رجال من المسلمين يظهرون في أوقات متعددة وأمكنة متباينة لهداية
المسلمين.
في هذه الدائرة الواسعة وجد (غلام أحمد) لنفسه متبوءًا حسنًا فتبوأه، أعطى
نفسه كل هذه الحُلى والألقاب، فهو يسمي نفسه في كتبه (نبيًا ورسولاً) من دون
جمجمة ولا تقية. بل الأغرب أن صاحبنا (زين العابدين) لا يذكر اسمه إلا
مشفوعًا بالصلاة والسلام عليه، كما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يقال: ماذا يضركم التسامح في إطلاق الألفاظ؟ فإذا كان (غلام
أحمد) يطلق على كل مجدد يظهر في الإسلام اسم (نبي ورسول) كما يطلق عليه
اسم (مهدي) و (عيسى) فنسلم له هذه التسمية تفاديًا من النزاع حول الألفاظ.
وكل ما في الأمر أننا نسمي المجدد مجددًا فقط. وهو يتسامح كل التسامح، فيسميه
(نبيًّا ورسولاً) ويبني تسامحه هذا على التوسع في أصل المعنى اللغوي للنبوة
والرسالة.
فنقول في الجواب: نعم، ولكن (غلام أحمد) لا يكتفي بما مر، بل يعود
فيفرط إفراطًا آخر، ويزعم أن ذلك المجدد المهدي المسيح النبي الرسول - يتلقى
وحيًا من الله - وهو بالطبع يريد كل مجدد لا المجدد الذي قام بقاديان وحده. إذ لا
يتصور أن يبشر بالمجددين ويسميهم أنبياء ومرسلين. ثم يقول: إنهم لا يُوحى
إليهم، وإنما يوحي إليه وهو وحده خاصة.
وبعد جدال وحوار طويلين مع (غلام أحمد) في مفهوم معنى كلمة (الوحي)
الذي يكون لهؤلاء المجددين لغة واصطلاحًا - نعود ونقول له: سلمنا بما قلت ولكن:
(1) هل هذا الوحي الذي تتلقاه أنت وزملاؤك يكون بتكليم ملك وبصوت
مسموع كما كان يوحى إلى الأنبياء المذكورين في القرآن، وخاصة محمدًا صلى الله
عليه وسلم؟ فإن قال (غلام أحمد) إن وحي هؤلاء المجددين المتأخرين ليس
بتكليم ملك، وإنما هو محض إلهام ومجرد شعور نفسي. نسلم له ونتفق معه أو
نكاد نتفق، وإن قال: إن وحينا نتلقاه بواسطة ملك وبصوت مسموع منه فنسأله؟ .
(2) هل إن هذا الوحي (مطلقًا سواء ادعيته إلهامًا أو كلامًا مسموعًا) هو
وحي معصوم لا يتطرق إليه خطأ ولا وهم، أو أنه قد يخطئ، وقد يصيب؟ فإن
قال: إنه غير معصوم، قد يخطئ وقد يصيب، سلمنا ورضينا وقلنا: ها نحن قد
اتفقنا- أو كدنا -. وإن قال: إن وحيه ووحي إخوانه وحي معصوم لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذا قال ذلك نُبلت وننقطع عن الكلام، ثم نعود
ونتشدد ونسأله:
(3) هل وَحْيكُم المعصوم هذا توجبون اتباعه على كل من يبلغه أمره، أو
أن المسلم في وسعه أن يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه؟ فإن قال: في وسعه أن
يتبعه، وفي وسعه أن يرفضه، عاد إلينا الأمل بحسن التفاهم، وإن قال: بل يجب
على كل مسلم بلغه وحينا أن يؤمن به وإلا استحق عقابًا أخرويًّا. إذا قال ذلك يعود
اليأس فيخامرنا ونرى هُوة واسعة بيننا وبين الرجل، وبعد سكوت طويل وهجر
جميل، نرجع إلى (غلام أحمد) ثانية فنسأله سؤالاً قد يكون جوابه قد فهم مما سبق،
غير أننا نعود إليه زيادة في الاستيثاق والتثبيت.
(4) هل تستبد أنت وتستعلي على سائر إخوانك المجددين، والأنبياء
المتأخرين، فتدعي أنك وحدك الذي يجب الإيمان به، واتباع وحيه، وأن الآخرين
لا يجب اتباعهم ولا الإيمان بهم؟ إن قال: نعم، أنا وحدي الذي يجب عليكم اتباعه،
ودعناه وانصرفنا بسلام. وإن قال: لا، بل عليكم أن تتبعوا جميع أولئك المسحاء
والمهديين المتأخرين.
إذا قال ذلك ختمنا الحديث معه، بقولنا: إن المجددين الذين اعترفت لهم
بمنصب التجديد (أو بمقام العيسوية كما هي عباراته) وقد ظهروا في عصور مختلفة
من تاريخ الإسلام لم نسمع أحدهم ادّعى بأنه يُوحى إليه وحيًا معصومًا، وأنه يجب
على الناس اتباعه، مع أنهم و (غلام أحمد) سواء في المرتبة والمقام، فلماذا هذا
(الامتياز) ؟ دعنا من المجددين المتقدمين، فإن (غلام أحمد) قد يقول: إن زمانهم
لم يكن آخر الزمان الذي يظهر فيه المسحاء المجددون حسبما يفهم
من الآثار الدينية، فلم يكن أولئك سوى مجددين وليسوا مسحاء موعودين.
أجل وماذا يقول في الزعماء الذين قاموا في هذه الأزمنة المتأخرة باسم الهداية
العامة، وقد استنار بهم واهتدى بهديهم خلق كثيرون كالشيخ محمد بن عبد
الوهاب المجدد في الجزيرة العربية، والسيد أحمد السنوسي وابنه المهدي [1]
المجددين في قارة أفريقيا والحرمين الشريفين، وكالسيد جمال الدين الأفغاني،
وتلميذه الأستاذ الإمام اللذين يعتقد مريدوهما أنهما مجددا هذا العصر وغير هؤلاء
ممن قام بإرشاد وهداية انتفع بها الكثيرون، ونرى أتباعهم يتفانون في حبهم،
والاعتراف ببلائهم، وحسن خدمتهم للإسلام، ويذهب كل منهم إلى أن
صاحبه هو المجدد الحقيقي المَعْنيّ فيما ورد من الآثار، نعم إن أحدًا من هؤلاء
المجددين المعاصرين لم يدع وحيًا ولا مهدوية ولا (مقام عيسوية) ولكن لو
فرضنا أن أحدهم ادعى هذه الدعوى، وأَيَّدَ دعواه بظهور أثر الإصلاح والخير
في أتباعه، وأن له كرامات يسردها له مريدوه (كما يفعل غلام أحمد وأتباعه) لو
ادعى ذلك فماذا نقول له؟ وهذا (غلام أحمد) نفسه قد بشر بهم إن لم يكن
بأعيانهم وأشخاصهم فبمنصبهم (ومقامهم العيسوي) ، ونحن الآن إنما نتكلم عن
طبيعة هذا (المقام العيسوي) الذي نحله (غلام أحمد) لنفسه ولغيره من المجددين
عفوًا.
لا جرم أن قيام غلام أحمد بهذه الدعوة، وما يتوقع من قيام غيره بمثل دعوته
يجعل الأمة الإسلامية ترتكس - وهي في القرن العشرين - في ظلمات أشبه
بظلمات القرون الوسطى. بينما نرى الأمم الأخرى تسبح من العلم في أنوار،
وتتحصن من العزة والقوة بأسوار.
تنهض الأمم الحية في هذا العصر بنبوغ الكثيرين من أبنائها نهضة عمادها
الأسباب المعهودة في النهضات التي يعبرون عنها بكلمة (رينسانس)
Renaissance وتاريخ هذه النهضات في كل أمة وتطوراتها، والعوامل المؤثرة
فيها، مما يدرس للطلاب في المدارس لتقتدي به الأمم المقصرة، والشعوب
المتأخرة، وقد استفاد من هذه القدوة عدد ليس بقليل من أمم الأرض في الشرق
والغرب، فهي تنهض نهضتها وتلم شعثها وتتبوأ مكانتها من طريق الإصلاح
السياسي والاجتماعي، ونحن وحدنا معشر المسلمين يحاول قوم منا النهوض إلى
مستوى تلك الأمم من طريق ملتوٍ وعر، من طريق روحاني سماوي، من طريق
تمشي فيه القهقرى، من طريق يؤدي بطبيعته إلى الخلاف والنزاع وتمزيق الشمل
والتفرقة بين لمسلمين.
هذه هي نتيجة دعوى المهدوية الروحانية في عصرنا الحاضر. ومن ينكرها
وهي بارزة للعيان، في كل زمان ومكان، ولا ينس القارئ، متمهدي السودان.
لماذا لا نصلح اجتماعنا من طريق العلم، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأفكار،
فتنهض الأمة نهضة مشتركة، كما نهضت حمامات كليلة ودمنة منذ تعاونت على
الشبكة؟ أليس هذا الطريق هو الأجدر بنا أن نسلكه بدل ذلك الطريق الملتوي الذي
يريد غلام (أحمد) سوق الناس فيه؟
إذا كانت هذه الدعوى (دعوى الإصلاح الروحاني) تليق بالقرون الماضية
بحسب السنن الإلهية في استصلاح أهل تلك القرون، أتراها تروج اليوم وقد
اختلفت العقول والأفكار، وتبدل كل شيء حتى كاد يتبدل الليل والنهار؟
الأمم تتقدم إلى الأمام في ثقافتها وعقليتها ونحن نرجع إلى الوراء مئات من
السنين، أليس السبيل المطروق الذي سارت فيه أمم العصر للوصول إلى غايتها من
العزة والمدنية - هو الإصلاح الداخلي وتقوية الوحدة الوطنية ونشر العلوم
الصحيحة المؤسسة على التجربة والامتحان، وتقويم التربيتين السياسية والعائلية؟
هذا هو الطريق الأقوم في إنهاض الأمم التي زالت عن أبصارها غشاوات
الوهم، أما تلك التي مازالت مرتكسة في مهامة الجهالة، فربما راجت لديها دعوى
الوحي والعصمة والاستمداد من عالم الغيب، بل يغلو دعاتها إلى أسمى مرتقى من
الدعاوي والمزاعم , كدعوى البهائيين في زعيمهم الذي اخترعوا له اسم (بهيّ
الأبهى) وهي مرتبة ربما كانت فوق النبوة والرسالة.
إن الخلافة العظمى على خطورة أمرها بين عقائد الإسلام أصبحت الأمم
الإسلامية الناهضة، مما تأبى انتحاله خشية أن يسيطر عليها الأجنبي بواسطته،
فما بالك بدعوى المهدوية أو العيسوية التي هي من تقاليد الإسلام لا من عقائده؟
فإن السيطرة الأجنبية إذا تمكنت من قياد مدعيها أمكنها بسهولة أن تبسط سلطانها
على الطائفة التي تخضع له، وتؤمن به.
طرق النهضات العصرية التي أشرنا إليها آنفًا توحد بين أبناء الأمة بخلاف
التجديد من طريق دعوى المهدوية والوحي السماوي، فإنه أصبح يفرق شمل الأمة
التي تظهر فيها هذه الدعوى بحيث يجعل كل فرقة في حيز خاص بها، وبذلك
تستفيد الدولة المستعمرة التي تطمع أن يطول أمد استيلائها على تلك الأمة.
وما يدرينا أن تكون دعوى (غلام أحمد) مما يروق لحكام الهند البريطانيين
ويرونه مساعدًا على تفريق كلمة المسلمين وفصم عروة وحدتهم، فيؤدي ذلك
بالطبع إلى رسوخ قدمهم في البلاد، ودوام سيطرتهم عليها.
ومن لطيف المصادفات أننا قرأنا في الصحف ونحن نكتب هذا المقال خبر
ذلك الهندي الوثني الشاب (كريشنا مورتي) الذي ادعى أنه (المسيح المنتظر)
وقد روج دعواه هذه جماعة من الأوربيين والأميركيين وأنشأوا له معبدًا في
مدراس، وعقدوا له فيه مؤتمرًا عامًّا في شهر كانون الأول من سنة 1925 شهده
نحو عشرين ألفًا من الأوربيين والأمريكيين، وسيطوفون بمسيحهم هذا أقطار
الأرض مبشرين ومنذرين، فلعل السياسة الإنكليزية هي التي مهدت الطريق لظهور
هذا المسيح الجديد بين وثنيي الهند فتستفيد من ورائه تفتيت الكتلة الوثنية التي تعب
(غاندي) في تكوينها، كما أنها استفادت من ظهور (غلام أحمد) تمزيق الوحدة
الإسلامية التي تسعى الجمعيات لا سيما جمعية الخلافة في تكوينها.
هذا ما أردت أن أحدثك به يا صديقي (زين العابدين) ولو كنت من أولئك
الجهلة الجامدين والأغبياء الجلجلوتيين، لأعرضت عن خطابك، ولما أطلت
النفس في لومك وعتابك، ولكنك ذلك العالم الفطن المُتنور الذي لا ينسى أنه
عاهدني وعاهدته على خدمة القرآن ونصرة تعاليمه، وما عاهدته يعلم الله على
ذلك إلا وأنا أريد أن أخدم القرآن من طريقه المعهود، لا من طريق المسيح الموعود،
فحقق ظني أيها الأخ بك، ودع كلمتي هذه تتغلغل إلى موضع الإنصاف من نفسك
والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المغربي
(المنار)
الحق أقول: إن الكاتب قد أطال النفس في لوم صديقة وعتابه كما قال، بل
كان شأنه معه في هذا المقال، كما كان شأنه معه في ذلك الحوار والجدال، الذي
وصفه بقوله: فكنا تارة نجادله، وطورًا نهازله، وآونة نعجب منه، وأحيانًا ننافح
عنه. وما حمله على ذلك فيما يظهر إلا ظنه أن صديقه زين العابدين مخلص في
دعواه أنه هو وأهل نحلته يريدون الإصلاح للمسلمين، وأنه يُرجى أن يرجع إلى
الحق إذا دُعِي إليه بالرفق واللين، وأقيم عليه ما لا يمارى فيه من الحجج
والبراهين، فإن صَدَقَ ظَنُّه اعترفنا بأننا كنا في سوء ظننا بجميع القاديانية من
المخطئين، وآمنا بأن أسلوب صديقنا (المغربي) أفضل أساليب المناظرين.
كان (غلام أحمد القادياني) يُهْدي إليَّ كتبه في حياته وكنت أردّ عليها،
وأظهر له وللناس بعض ما دونه من الجهل فيها، وقد ظننت أولاً أنه من أولئك
الممسوسين، الذين يتخيلون فيخالون، ويتمنون فيعتقدون، فيدعون المهدوية تارة
والنبوة أخرى ولا يخلو زمان منهم، وقد رأينا بعضهم وسمعنا أخبار بعض. وهم من
طبقات مختلفة في تربيتها ومعارفها وصفاتها. وربما كان (الباب) منهم لا البهاء
ولا ولده عباس ذو الكيد والدهاء، الذي لقب نفسه بعبد البهاء، ولولا أدب الشرع
لبالغت في التجوز فسميته خالق البهاء.
وقد ترجح عندي أن القادياني على هوسه وغروره دجال لم يكن يعتقد ما
ادعاه، وإنما قصارى هوسه أنه ظن أنه يمكنه أن يقنع كثيرًا من الناس بأن بعض
كلامه وحي من الله، وأنه بلغ حد الإعجاز. وقد كان يتعمد خدمه الإنكليز بما أشار
إليه الكاتب، وبزعمه أن فرضيه الجهاد قد نسخت على لسانه، بل كان يدعو إلى
الإخلاص في الخضوع للإنكليز والرضا بسلطانهم، فهو مفسد في الدين وفي
السياسة معًا. وله في إطراء الحكومة البريطانية والدعوة إلى إخلاص المسلمين لها
كلام كثير كله نفاق، ومنه زعمه أن ملكة الإنكليز تفضل الإسلام وترجحه وتساعد
على نشره، كما صرح به في كتابه (حمامة البشرى) وغيره.
ومن قرأ نظمه ونثره يعلم أنه كان قد عني أشد العناية بدراسة اللغة العربية
بنفسه ولم يتلقها عن جهابذة علماء فنونها وآدابها، وأنه سلك إليها المنهج اللاحب
ولكنه لم يصل إلى الغاية، وأنه حفظ المعلقات السبع وغيرها من أشعار العرب
الخُلَّص والمولدين، وحفظ مقامات الحريري كلها أو كثيرًا منها، وعُني بالنظم
والنثر، مع تكلف التزام السجع، ولما رأى أن النظم والنثر بالعربية دانا له وسهلا
عليه على قله من اشتهر بهما من علماء الهند وأدبائها الذين مارسوا علومها وفنونها
في المدارس سنين كثيرة - ظن لجهله بفساد ما ينظم وينثر أنه مؤيد بالإلهام، وبالغ
من الفصاحة والبلاغة حد الإعجاز، وإنه يمكنه أن يدعي الوحي ويتحدى علماء
الهند بما يكتبه، فادعى أنه هو المهدي المنتظر عند الشيعة والجماهير من سائر
المسلمين. وأنه هو المسيح الموعود الذي ينتظر المسلمون ظهوره أو نزوله قبيل
قيام الساعة، والذي ينتظره النصارى أيضًا وكذا اليهود، ومن أكبر معجزاته أن
القمر قد خسف تصديقًا له! !
ألف كتابًا سماه (إعجاز أحمدي) وله قصائد إعجازيه أيضًا وكلها من سخف
القول وسقطه، وقد رددنا عليها في عدة مجلدات من المنار في عهده ومن بعده،
وسنعود إلى نشر شيء منها ولا سيما نظمه الذي لا يستقيم له وزن ولا يلتزم فيه
إعراب وإننا نذكر الآن أننا لما رددنا عليه أول مرة كبر عليه الأمر فألف كتابًا في
الرد على (المنار) سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) هذى فيه هذيان
المصروعين، وتهافت تهافت المعتوهين، وتناقض تناقض المخبولين وتوعد توعد
القادرين، أو من له ميثاق بالنصر المبين، من رب العالمين.
قال في (ص 8، 9) بعد أن ذكر إرساله كتاب الإعجاز إليَّ:
(ثم لما بلغ كتابي صاحب المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار عما
اجتنى من ثمرة ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى الكلم
والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي
ويزوي غير وانٍ في الإزراء والالتطام، ولا لاوٍ إلى الكرم والإكرام، كما هو سيرة
الكرام، وعمد إلى أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار
المنيع وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى،
وقال ما قال وما أمعن كأولي النهي، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأهل التُّقى،
وخر بعد ماعلا، وإن الخرور شيء عظيم فما بال الذي من المنار هوى، وأشترى
الضلالة، وما اهتدى، أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نباء من الله
الذي يعلم السر وأخفى) .
فقوله: (وخر بعد ما علا - إلى قوله - سيهزم فلا يرى) وعيد لصاحب المنار
بانتقام من الله تعالى لا يبقي له في الوجود عينًا ولا أثرًا، وأن الله تعالى هو الذي
أنبأه بذلك فيما يوحيه إليه، فهو لا شك ولا مراء فيه! !
ولكن نعم الله الظاهرة والباطنة ما زالت تتوالى على صاحب المنار، وإن هذا
الدجال هو الذي انهزم وزال من الوجود، ولم تقر عينه ولا نعم سمعه بمكروه
أصاب صاحب المنار، ولما مات كتبت مذكرًا بهذا الوعيد، وقلت: لو أنني أصبت
في عهده بسوء ولو مما يصاب به كل الناس لعدة معجزة له أكبر من خسوف القمر،
وأشد بهاءًا من نوره إذا انجلى وأسفر، ولكن أتباعه يملأون مواضغهم وصحفهم
وكتبهم تنويهًا بهذه المعجزة!
فعلينا نحن أن نستدل بما ذكر من خذلان له، وتكذيب ما ادعى أنه نبأ منه،
على كذبه في دعواه الوحي والمسيحية، وهذه الدلالة أقوى من تلك لو وقعت الشبهة
لأن المصائب تقع على جميع الناس، وأقوال الدجالين لا تمنع وقوع ما سبقت به
الأقدار، ولكن تخلف الوحي الإلهي الذي يؤيد الله به أنبياءه ورسله محال، ولو
كان جائزًا لما قامت حجة الله على خلقه بإرسالهم {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) للأستاذ الكاتب الشهير صاحب الإمضاء.
(1) السنوسي الكبير والد المهدي اسمه محمد علي لا أحمد.(27/55)
الكاتب: عبد الرحيم مصطفى قليلات
__________
سوانح وبوارح [*]
حضارة الإسلام
لا تعد بي إلى ربوع الخيام ... بل أنِخْها عند القصور الفخام
عند صرح الحمرا وفسطاط مصر ... عند نادي الفيحا ودار السلام
وقفة يا مطي قرب ثراها ... لأحيي عظام أهل عظام
لأحيي الأرواح والعهد قد حـ ... ـلّ مداه عناصر الأجسام
نحن منهم وسوف تجمعنا في ... ساحة الموت جامعات الرّغام
ما شذذنا بالخلق عنهم ولكن ... بشذوذ الأخلاق والأفهام
هم أباحوا ولوج باب اجتهاد ... هو نبراس دين خير الأنام
كان نور الهدى لكل إمام ... سار بالقوم في طريق الأمام
فانبرينا نقضي على ذلك الفضـ ... ـل بأحمى سهم وأردى حسام
سهم حب الأفحام عن قول حق ... وحسام الإبهام والإيهام
وسددنا الأبواب في كل وجه ... غير وجه التقليد والإلهام
فالمنايا نصيب كل اجتهاد ... والأماني تئن تحت الرّجام
والبلايا لناهض والرزايا ... لفهيم والويل للمقدام
والعطايا لجامد والتحايا ... لخمول والخير للمتعامي
آه واحسرة السلام على ما ... مضى من حضارة الإسلام
ذهب الراشدون والشرع باك ... لذهاب الأئمة الأعلام
وتولى على الجديدين عهد ... حال دون الإحكام في الأحكام
فبدا الدين كالعروس بأهدا ... ـم ولا بزة ولا هندام
وتبدّت للشامتين ثغور ... باسمات باللوم والإيلام
أيها اللائمون مهلاً وعدلاً ... نحن لا الدين باب هذا الملام
نحن لا الدين ـ وهو بدر تمام ... سر هذا الإعتام والإظلام
قد تعاف الأنعام سوقًا وإنا ... بعمانا نساق كالأنعام
وتعاف الأرسان هذي ونرضى ... بخطام الشقا وذل اللجام
حسبنا عار ما جرى من خلاف ... حسبنا عيب ما مضى من خصام
لا صديق للخلق يا خلق إلا ... صادق القول صادق الأحلام
فأصيخوا وليت لي من أداة ... غير هذي الطروس والأقلام
أجمود وقد قضت شرعة الدهـ ... ـر على الجامدين بالإعدام
نقض هذي الأحكام حان فهيا ... نتهيَّا للنقض والإبرام
بالتآخي نحيا وبالودّ نهنا ... وننال المرام بعد المرام
إن في الدين فسحة هكذا ... قال نبي الأعراب والأعجام
يسروا لا تعسروا كلُّ يسر ... هو للصالحات أقوى قوام
بشروا لا تنفروا فلقول الـ ... ـعرف فعلٌ يُزري بفعل المدام
واعملوا مثلما الفرنج بجدٍ ... وثبات وهمة واهتمام
راقبوهم وراقبوا كيف سادوا ... باحتمال الصعاب والإقدام
وافهموا كيف أنهم آخذونا ... بسنام ومقود وزمام
أسمَعوا الكائناتِ شرقًا وغربًا ... واستمعنا للهو والأنغام
أظهروا المعجزات برًّا وبحرًا ... وظهرنا بالعجز والانقسام
سَبَحوا في الفضاء طولاً وعرضًا ... وسبحنا في عالم الأوهام
بضليع التحصيل سادوا وسدنا ... قبل فك الحروف والأرقام
هم لأوطانهم غيوث ولسنا ... في سماء الأوطان غير جهام
كرم الدين بالتساهل فيه ... والمداراة مصدر الإكرام
والتآخي مقام كل مقال ... والتراضي مقال كل مقام
فخذوا شارة السماح شعارًا ... إنما السمح زينة الأقوام
واكتساب القلوب باللين شرط ... في مجاراة حكمة الأيام
لا تحلوا الحرام، لا بارك الله ... بمن يستحل أي حرام
ما بأسيافنا القصار الدوامي ... قد غدا مجدنا طويل الدوام
بل بعدل وحكمة واتحاد ... واقتصاد وألفة ووئام
وصلاة طهورة الوِرد تنهى ... عن شرور الفحشاء والآثام
هي للعبد صحة ونشاط ... وهي لله طاعة باحترام
وصيام اللسان والقلب والجوف ... عفافًا وفهم سر الصيام
فلئن لم نصم عن الشر قطعًا ... غير مُجد صيامنا عن طعام
وزكاة تأتي على عوز المسكين ... فينا وشقوة الأيتام
لو درى الاشتراك ما في جداها ... من جزيل الإحسان والإنعام
وبنوالبلشفيك لو عرفوا ما ... للصعاليك من زكاة العام
لرموا بالنظام واتخذوها ... لحياة الرفاق خير نظام
أين أعياننا الكرام وأين ... البر منهم وأين جود الكرام
أين أهل السخا ومن هو فيهم ... دافع الفقر والطوى والأوام
أين أهل الحجى ومن هو منهم ... ناصر الحق رافع الآلام
قيدوا سعينا وناموا ولا من ... حسنات لهم سوى في المنام
وإذا حاول الفكاك حميم ... هدَّدوه وصحبه بالحمام
ورموه بالكفر آنًا وبالإلحاد ... حينًا، وتارة بالذام
ولو أن الطبيب أغضى لقالوا ... فيه مس الشيطان والسر سام
راقب الله يا موارب واعلم ... أن علم القلوب للعلام
أنا أشكو سقمي إلى الله لكن ... أنت والله أصل هذا السقام
ما هيامي إلا بربي وقومي ... ولساني أفخر به من هيام
أمتي، ملتي، بلادي وضادي ... هن قصدي وقصد كل همام
كنت عبد الرحيم قبل غرامي ... وأنا اليوم عبد هذا الغرام
أنا عند الأنساب ذاك العظاميّ ... وعند الألقاب ذاك العصامي
حسنيّ الصفات جَدًّا وجِدًّا ... عربي الأخوال والأعمام
ليس لي في البلاد خصم وأخصا ... ـم بلادي دون الورى أخصامي
ليس لي في القضاء حكم ولا لي ... أي رأي في قصة الإدغام
ولإدغام آل عيسى بآل الـ ... ... ـمصطفى كل خاطري وذمامي
إن في ذا السبل سهل مسيري ... إن في ذا الحديث حلو كلامي
إن في ذا التمام خير تمام ... إن في ذا الختام حسن الختام
فسلام على الشفيعين مني ... وسلام على محب السلام
__________
(*) من نظم الأديب البيروتي المشهور السيد عبد الرحيم مصطفى قليلات.(27/68)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء:89)
يود ملاحدة الكماليين من الترك لو يقتدي بهم مسلمو العرب في العراق
وسورية ومصر، ومسلمو العجم من سائر الترك والتتار والأفغان والفرس،
فيتركون الإسلام مثلهم، ويجعلونهم أئمة في اللادينية لهم، ويظن أولئك الملاحدة
أنهم ينالون بكفرهم من الزعامة في الشرق ما لم تنل مثله الدولة العثمانية بإسلامها
التي يحتقرونها لأجله، ويحاولون إخفاء ذكرها وذكره وتشويه تاريخها وتاريخه،
وهم يبثون الدعوة إلى الإلحاد، ويجرءون الزنادقة والمرتابين على ترك الإسلام
واحتقار تشريعه وآدابه، ولبس قلانس الإفرنج (البرانيط) لأنها الزي العام لهم،
والمميزة بين المسلمين وبينهم، ولأنها مانعة من سجود لابسها في الصلاة.
وقد علمنا والأسف والعجب يملأ القلب أن بعض السوريين والمصريين الذين
لا يزالون يحتقرون أنفسهم ويفضلون الترك على قومهم، يميلون إلى تقليدهم في
ذلك؛ لأنهم مثلهم في الكفر والتعطيل وعدم الشعور بالرابطة الدينية، ودونهم في
النعرة القومية والعصبية الجنسية، ولو كان لهم كرامة دينية أو قومية لشعروا
بكليهما أو بكل منهما أنهم أشرف من الترك وأولى بأن يكونوا قدوة لهم، فهم
أكرم عنصرًا وأجل أثرًا في الدين والحضارة سواء كانوا من العرب أو من قدماء
المصريين.
على أن هؤلاء الملاحدة قلما يثبت لهم نسب صحيح في الشعب التركي الذي
صار عريقًا في الإسلام، بل هم أو شاب منهم الروسي والرومي والبلقاني
واليهودي الأصل، وقد سلطوا على إفساد هذا الشعب بدعاية العصبية الجنسية،
ومحاولة جعله كأرقى الشعوب الأوربية علمًا وحضارة بقوتهم العسكرية،
وترجمتهم للقوانين الأوربية ولبسهم البرنيطة الإفرنجية، وهذا جهل فاضح وخبث
واضح. فإن أحوال الأمم وأطوارها لا تتبدل بتقليد غيرها في قوانينه
وأزيائه، مع مخالفته لها في تاريخه وتربيته وعقائده، كما هو معلوم عند علماء
الاجتماع.
وقد روى لنا الثقات الخبيرون منا ومن الأوربيين أن السواد من الترك
يمقتون هؤلاء الكماليين، أشد مما كانوا يمقتون إخوانهم الاتحاديين، وأنهم
يتربصون بهم الدوائر، بل أكد لنا بعض الذين عاشوا في الآستانة أو الأناضول
عدة سنين أن جمهور الشعب التركي كان يتمنى -منذ خرج الشريف حسين على
الدولة- لو تجددت للعرب دولة تنقذهم من الكفر وتستولي على بلادهم، بل
قالوا: إنهم صاروا يفضلون أية دولة أوربية على حكومتهم المعاصرة.
أفليس من العجب أن يكون هذا شعور الترك في وطنهم، ثم يوجد في سورية
من يمتهن نفسه بتقليد ملاحدة الكماليين، ويطب التجنس بجنسيتهم الجديدة المذبذبة
التي لا ثبات لها ولا استقرار، ويتخلى لأجلها عن دين القرآن وهداية الإسلام،
وأشرف لغات الأنام؟ ؟ {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:
61) {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) .
***
(آراء الإنجليز في العالم الإسلامي)
جاء في برقية من لندن إلى الأهرام في 10 أبريل ما ترجمته:
نشرت جريدة (الديلي نيوز) اليوم مقالاً لمكاتب تكلم فيه عن إمكان تأسيس
جمعية أمم إسلامية ثم قال:
(إذا تألفت هذه الجمعية فإن الأقطاب الذين يسيطرون عليها هم من أعظم
الرجال الذين عرفهم العالم في هذا العصر جرأة وإقدامًا وشهرة، ولابد أن تقلب
الحركات التي يديرونها الآن بين شعوبهم وجه العالم الإسلامي في خلال ربع القرن
المقبل، ولو لم تتمكن من تأليف جمعية أمم.
إن العالم الإسلامي في الوقت الحاضر هو في طور انقلاب عظيم يشبه الطور
الذي مرت فيه أوربا عندما تلاشت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وخلفت
بعدها شعوبًا رغب كل منها أولاً في الانفصال عن الآخر. فإذا استطاع أولئك
الرجال أن يؤلفوا جمعية أمم إسلامية، ويقيموا منها سدًّا في وجه السيطرة
الأوربية، فقد تتقوض أركان الحضارة الغربية) .
وهنا تكلم الكاتب عن زعماء العالم الإسلامي وقال: (إن عبد الكريم أحد
الأقطاب في أقوى حركة موجودة على وجه البسيطة الآن، وهي الحركة التي تقوم
بها الأمم المحكومة للمطالبة بحقها في تقرير مصيرها، على أن الإدارة الاستعمارية
البالغة منتهى القوة والمقدرة في الجزائر وتونس وطرابلس قد جعلت الحركة
القومية في هذه البلدان في منتهى الضعف.
وزغلول باشا أول حاكم حكم مصر بعد حصولها على نظام ذاتي بعدما تغلب
الفرس على الفراعنة منذ 2400 سنة، وهو أول رئيس وزارة منتخب في بلد
إسلامي ديمقراطي في التاريخ كله، وقد شهدت بنفسي جماهير غفيرة من الطلبة
المسلمين تتدفق كالسيل العرم في شوارع القاهرة، وتسير إلى منزل زغلول باشا
وأصواتها تشق كبد الفضاء بالهتاف له. إن هؤلاء الفتيان ليسوا سوى زبد يعوم
على بحار الحركات القومية الزاخرة في العالم الإسلامي. وليس زغلول باشا ومصر
سوى نور ضئيل بإزاء نيران مصطفى كمال باشا والحركة القومية التركية.
ويمثل مصطفى كمال باشا في تركية اللادينية دور موسوليني في إيطاليا،
ولكنه مكروه من ابن سعود العاهل العربي العظيم الذي يسير في طليعة الحركة
القومية العربية، وهو زعيمها الحربي. ولعله أقدر وأقوى شخصية ظهرت في
العرب منذ عهد النبي الهاشمي، وهو في الوقت ذاته صديق حميم لبريطانيا.
وأما إيران فإنها آخر معقل للفتور الذي أصاب العالم الإسلامي، ولكن الشاه
رضا خان يبث فيها الآن روحًا قومية جديدة.
وفي الهند ثمانية وستون مليوناً من المسلمين تقتسمهم حركتان لا يمكن التوفيق
بينهما، فهم يتمسكون بالمبدأ القومي، فلا بد لهم من أن يكونوا هنودًا وهم مسلمون،
ولذلك يعدون من ضمن العالم الإسلامي.
(وفي جزائر الهند الشرقية الهولندية 35 مليونًا من المسلمين، يرسلون كل
سنة عشرين ألفاً من الحجاج إلى مكة، ويعودون منها أعظم تمسكًا بالإسلام،
فالحركة الإسلامية في جاوى تعدّ والحالة هذه من أعظم الحركات حماسة في العالم
الإسلامي.
فإذا وضعنا هذه الحقائق أمامنا وتأملنا فيها استخرجنا منها ما يأتي:
1- إن الحركة القومية في العالم الإسلامي قد تفوقت لأول مرة في التاريخ
على رابطة الإخاء في بيت الإسلام، وانتثرت كنانة مشروع الجامعة الإسلامية
القديمة، وظهرت منها سهام الحركات القومية.
2 - لم يظهر حتى الآن أي دليل على التحالف بَين هذه الحركات، فلا
مصطفى كمال باشا ولا الملك ابن سعود يقبل أن يكون الملك فؤاد خليفة.
3 - إذا حاولت الدول الغربية أن تسيطر على هذه الأمم وتستغلها فإننا نسوقها
إلى تأليف عصبة ضد العالم المسيحي في الغرب.
فيجب على سياسة الغرب وتجارته أن يتخليا عن كل رغبة في السيطرة،
ويقبلا موقف التعاون بكل ارتياح وإخلاص، ونحن في حاجة ماسة إلى مساعدة هذه
الشعوب وإعداد زعمائها لحكمها حكمًا ذاتيًّا سلميًّا.
ولا شك أن الجامعات الأمريكانية في القاهرة والآستانة وأزمير وبيروت قد
خطَت الخطوات العظمى حتى الآن في هذا السبيل. وفي الكليات والمدارس
الإنكليزية في فلسطين ومصر والعراق وإيران نحو خمسة آلاف طالب قد يخرج
منهم زعماء في العالم الإسلامي، فهم يتعلمون الآن ويرقون مواهبهم الطبيعية،
وسيكونون جسرًا بين العالم الإسلامي الجديد والعالم المسيحي الجديد) اهـ.
فليتأمل.
***
(الاحتفال بعيد المقتطف الخمسيني)
جاءنا من سكرتيرة لجنة الاحتفال ما يأتي:
حضرة العلامة صاحب مجلة (المنار) المفضال:
أتشرف أن أقدم مع هذا بيان تأليف لجنة مركزية في آخر يونيو سنة 1925
للاحتفال بيوبيل المقتطف الذهبي، والنداء الذي وجهتْه اللجنة إلى الأدباء والشعراء
والعلماء ليشتركوا في هذا اليوبيل. وقد نشرنا هذه الدعوة في مختلف الأقطار
الشرقية كفلسطين وشرق الأردن وشبه جزيرة العرب وسورية ولبنان والعراق
والجزائر والمغرب الأقصى وتركيا وبلاد الفرس والهند وفي الأقطار الأوربية
والأمريكية، فلبى أهل العلم والفضل هذه الدعوة من كل جانب ووافونا بما جادت
به القرائح شعرًا ونثرًا، مع رسائل الثناء العظيم على هذا المشروع، والشكر
للقائمين به وشد أزره، وقد نوهت به بعض الصحف التركية والفارسية والهندية
والفرنسية والألمانية والإيطالية، علاوة على الصحف العربية العديدة. وكان
لدعوتنا، عدا تلك النفثات التي ستجمع في كتاب (الذكرى) لليوبيل النتائج التالية:
أولاً: اكتتاب عام اشتركت فيه الجالية السورية واللبنانية في أمريكا الجنوبية
لتقديم هدية تذكارية، وقد وصلت هذه الهدية، وهي تمثال فاخر من البرونز، مقام
على قاعدة من المرمر، وعليها لوحة من الذهب الإبريز، نقش عليها بيتان من
الشعر باسم الذين أهدوا الهدية.
ثانيًا: اكتتاب أهالي حاصبيا في البرازيل لتقديم دوانين وقلمين من الذهب
لصاحبَي المقتطف.
ثالثًا: اشتراك الجامعة الأمريكية ببيروت اشتراكًا رسميًّا في هذا اليوبيل
وقرارها أن تقيم احتفالاً حافلاً في منتداها في نفس اليوم الذي يقام فيه الاحتفال
بالقاهرة.
رابعًا: اشتراك جمعيات متخرجي الجامعة المذكورة في مختلف الأقطار
للاحتفاء باليوبيل كل منها بالطريقة المتيسرة لها.
خامسًا: اشتراك أهل طرابلس الشام يرأسه صاحب مجلة (المباحث) اشتراكًا
فعليًا، فيقيمون حفلة في مدينتهم في اليوم الذي يقام فيه الاحتفال في القاهرة.
أما الاحتفال في القاهرة فسيقام بعد رمضان الكريم وسيعلن عن الموعد فيما
بعد. هذا وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة المعظم الملك فؤاد الأول -أيده الله-
فشمل هذا اليوبيل برعايته السامية.
فالرجاء يا سيدي أن تفسحوا في صحيفتكم الغراء مكانًا لهذه التفاصيل بعد
نشر نداء اللجنة ليشترك معنا أهل العلم والفضل في مصر، خدمة للنهضة العلمية
الجديدة، وتقريرًا لجهود العاملين.
وتقبلوا خالص الشكر سلفًا مع عواطف الإكرام.
... ... ... ... ... ... ... ... سكرتيرة اللجنة
... ... ... ... ... ... ... ... ... (مي) ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... القاهرة 24 مارس سنة 1926
ترون مع النشرة التي مع هذا أنه قد تألفت في مصر جماعة للاحتفاء باليوبيل
الذهبي لمجلة المقتطف تقديرًا لآثارها العلمية مدة نصف قرن. واختارت من بين
أعضائها لجنة تنفيذية لبث الدعوة وتنظيم العمل. واللجنة تود أن يشترك في هذا
الاحتفاء أبناء القومية العربية في أقطار الأرض جميعًا، لاعتقادها أن ذلك من
رغبات أنفسهم.
وإذا كان الاشتراك بالحضور فعلاً غير متيسر للجميع، فاللجنة تدعو العلماء
والأدباء والشعراء والجمعيات والمعاهد، والأندية العلمية والأدبية والنقابات
الصحافية، وأصحاب المجلات والصحف عامة إلى الاشتراك في هذا الاحتفاء بما
يتيسر الاشتراك به من الحضور بالفعل، أو بإرسال ما تجود به القرائح من شعر
أو نثر يناسب المقام. وسيجمع المختار مما سيرسل ويلقى في الاحتفال في كتاب
يكون ذكرى هذا اليوبيل الذهبي.
وترجو اللجنة أن يتفضل كل بإرسال بحثه أو قصيدته باسم (الآنسة مي زيادة
سكرتيرة لجنة الاحتفال بيوبيل المقتطف، مكتبة المنار شارع زين العابدين رقم 63
بمصر) على أن يصل قبل 20 أبريل 1926، لكي يتسنى للجنة أن تودعه في
كتاب الذكرى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الرئيس
... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق رفعت
... ... ... ... ... مصر 26 يونيو (حزيران) سنة 1925
اللجنة التنفيذية
الرئيس: حضرة صاحب المعالي محمد توفيق رفعت باشا وزير المعارف
المصرية العمومية سابقًا (ووزير الأوقاف الآن)
الأعضاء
صاحب السعادة أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية.
صاحب السعادة أحمد شوقي بك.
صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار ورئيس المؤتمر السوري.
صاحب الفضيلة السيد مصطفى عبد الرازق المفتش بوزارة الحقانية.
الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة.
صاحب السعادة السر سعيد شقير باشا مدير عموم حسابات السودان.
السكرتيرة: الآنسة مي زيادة.
***
(المنار)
كانت الآنسة مي زيادة المشهورة في عالم الأدب العربي والغربي صاحبة السبق
إلى هذه العناية بتكريم العلم والعلماء، فدعت إلى دار والدها طائفة من أهل
العلم العصري، واقترحت عليهم السعي للاحتفال بمرور خمسين سنة على مجلة
المقتطف الشهيرة، فأجمعوا على القبول وانتخبوا لجنة منهم لتنفيذ ذلك. وسيكون
الاحتفال بمصر في مساء 30 أبريل الحالي، وسنعود إلى الكلام عليه إن شاء الله
تعالى.
__________(27/71)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(مرآة الحرمين الشريفين أو الرحلات الحجازية، والحج ومشاعره الدينية)
كتاب نفيس، متقن الصنع، تأليفًا وترصيفًا وترتيبًا وتنسيقًا، وطبعًا وورقًا
وحروفًا، وضعه اللواء إبراهيم رفعت باشا المصري الذي تولى قيادة حرس
المحمل مرة، وتولى إمارة الحج المصري ثلاث مرات في ثلاثة مواسم عني فيها
بكل ما يعنى به من يريد أن يؤلف كتابًا في شئون الحج والحجاز لم يُسبق إلى مثله،
فتم له هذا في سِفرين كبيرين. وقد وصفه الأستاذ الشيخ محمد عبد العزيز
الخولي المدرس في مدرسة القضاء الشرعي بتقريظ قال فيه ما نصه:
(فبينما تراه قد رسم (جدة) ومنازلها ومعاهدها ومساجدها ومرساها ورجالها
وذوي الشأن فيها؛ إذ تراه قدم لك من مناظر الطريق بين جدة ومكة صورًا مختلفة
ورسومًا متغايرة، فإذا ما وصل بك إلى مكة رأيت المسجد الحرام بأروقته وأساطينه،
تتوسطه الكعبة، تحيط بها المقامات، والناس حولها يصلون أفذاذًا وجماعات.
وترى أمثلة عديدة لفن العمارة العربية، أضف إلى ذلك جوامعها ومستشفياتها،
وثكناتها، ودور حكومتها، وأشكال أهلها.
فإذا ما خرج بك إلى عرفة تراه قد رسم الجبال والأودية والجمرات والمشاعر
والناس حولها خُشع يدعون، فإذا ما انتهى من الحج وواجباته ويمم المدينة المنورة
أخذ من مناظر طريقها كما فعل في سابقتها، وسلك مثل ذلك في الطرق المختلفة،
والمسجد النبوي، والجوامع الأثرية، والمشاهد المختلفة بالمدينة، ولا يمر بمكان
إلا وصفه وذكر نبذة من تاريخه، ولا بئر إلا سبر غورها، وعَرَّفك بمائها، حلوًا
ومُرًّا، قلا وكثرا، ولا بعقبة إلا دقق في وصفها، مبينًا لك أحسن السبل لاجتيازها،
شارحًا ذلك بالخرائط الجغرافية التي لم يسبق إلى وضعها، ولم يدع في الحج
صغيرة ولا كبيرة إلا تكلم فيها.
ففي الكتاب حجة الوداع التي حجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنة
عشر مفصلة أحسن التفصيل ومشفوعة بخريتة فيها بيان الطريق الذي سلكه
الرسول (صلى الله عليه وسلم) والأماكن التي مر بها، وفيه الكلام على أحكام
الحج في المذاهب الأربعة بالتفصيل الواسع والجداول المجملة والصور الشارحة
وفيه قسم في حكمة الحج قلما تظفر بها في كتب أخرى [1] .
ولما كانت مكة في جزيرة العرب وكان المسلمون يفدون إليها من كل الأقطار،
دعاه ذلك إلى كتابة فصل جغرافي موجز في بلاد العرب وأقسامها وشفعه بفصل
تاريخي مجمل بَيَّن فيه كيف بدأ الإسلام وكيف انتشر وتكلم على دوله والبلاد التي
سار فيها والتي لا تزال مقرًّا له بحيث أعطيناك تاريخًا موجزًا للدول الإسلامية
وحال المسلمين من يوم أن وجدوا إلى وقتنا هذا.
وتكلم في الكتاب على الحج وإمارته قديمًا وحديثًا، وعلى المحمل والكسوة
كلامًا مسهبًا تتخلله الصور الأنيقة والمناظر البهيجة. فتراه ذكر المحامل
وأنواعها وتاريخها وأشكالها ونفقاتها والدول التي تقوم بإرسالها، وكذلك تكلم في
الكسوتين كسوة الكعبة وكسوة الحجرة النبوية.
ومما يدل على عناية المؤلف الشديدة، أنه تمكن من إحضار صورة إشهاد
كُتِب في منتصف القرن العاشر الهجري يتضمن ذكر القرى المصرية التي وقفت
على كسوة الكعبة والحجرة النبوية، وتراه ذكر ما يجب على كل موظف في ركب
المحمل وذكر ميزانية المحمل مفصلة بابًا بابًا، ونوعًا نوعًا، وأجمل ميزانيته في
نحو أربعين سنة، وكلما دخل في موضع أشبع الكلام فيه. فتراه لما ذكر مكة تكلم
على مواقعها وجبالها وشوارعها وأقسامها ومبانيها ومستشفياتها وتكاياها ودار خديجة
بها ودار الأرقم التي كان يتجمع فيها المسلمون في مفتتح الدعوة الإسلامية. وتكلم
على السيول في مكة وآثارها وذكر سكانها وجنسهم وأخلاقهم ولغتهم ودينهم وعادتهم
ووصف جوها وتجارتها ونقودها ومياهها وعين زبيدة بها وأمراءها منذ الفتح
الإسلامي إلى يومنا هذا. وكذلك فعل في المدينة والبلاد الهامة؟ .
وحسبك من الكتاب أن فيه ما ينيف على أربعمائة صورة وعشرين
خريطة كل طوابعها (أكلشيهاتها) مصنوعة في ألمانيا وإنجلترا، وهو يحتوي على
1000 صفحة يزينها حسن الورق وجمال الطباعة، ولا غرو فإنه مطبوع بمطبعة
دار الكتب المصرية. اهـ
(المنار)
ومن مزايا الكتاب التنبيه والتذكير بما يجهله الجمهور من الأمور المبتدعة
والقبور والمشاهد المزورة كقبر أمنا حواء في (جدة) وقبر أم النبي (صلى الله عليه
وسلم) في مكة، وبدع تعظيم القبور وغير ذلك.
وثمن الكتاب بالتجليد الجميل جنيه مصري وأجرة البريد 5 قروش في القطر
المصري و 15 في الخارج وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(نهاية الأرب في فنون الأدب)
هذا الكتاب من أعظم كتب الأدب وأوسعها مادة، وأفصحها عبارة، وهو
تصنيف الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري المتوفي سنة 732،
وهذه الفنون التي اختارها خمسة، يحتوي كل فن منها على خمسة أقسام يدخل كل
قسم في عدة أبواب، فلم يدع شيئًا من هذا العالم إلا وأدخله فيها كالسموات والأرض
وما فيهما وما بينهما والإنسان من ذكر وأنثى، وأعضاء كل منهما وصفاتهما،
وأحوالهما، وشئونهما كالكلام بأنواعه، والحب والعشق، والأخلاق المحمودة
والمذمومة، والخمر والغناء والشعر، والملك والخلافة والقضاء وما قيل في ذلك كله
من نظم ونثر.
شرعت مطبعة دار الكتب المصرية في طبع هذا الكتاب الكبير منذ سنة
1342هـ، بحروفها الممتازة على جميع حروف المطابع العربية في العالم على
ورق جيد، صدر منه خمسة أجزاء كاملة القطع متوسطة الحجم، الجزء الأول منها
كله في الفن الأول وصفحاته أربعمائة ونيف، والأربعة التي بعدها لا يبلغ شيء
منها 400 صفحة ولم يستوف فيها الفن الثاني كله، وثمن الجزء من هذه الخمسة
15 قرشًا وأجرة البريد في القطر المصري 3 قروش و 6 خارجه وهو يطلب من
مكتبة المنار بمصر.
__________
(1) هو منقول من رحلة صاحب المنار المنشورة في المنار.(27/78)
شوال - 1344هـ
مايو - 1926م(27/)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
مسألة صفات الله تعالى
وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات
جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية [1]
رحمه الله تعالى
وهكذا ذكر أهل الكلام الذين ينقلون مقالات الناس مقالة أهل السنة وأهل
الحديث، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين،
ومقالات الإسلاميين، فذكر فيه أقوال الخوارج والرافضة والمعتزلة، والمرجئة
وغيرهم، ثم قال: ذِكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث وجملة قولهم: الإقرار
بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء من عند الله، وبما رواه الثقات عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئًا إلى أن قال: (وأن
الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن له
يدين بلا كيف كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: 75) وأقروا أن لله علمًا
كما قال {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: 47) وأثبتوا السمع
والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وقالوا: إنه لا يكون في
الأرض خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّه} (الإِنسان: 30) إلى أن قال: ويقولون: إن
القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - مثل (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له) كما جاء في الحديث.
ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) وذكر أشياء كثيرة، إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون
به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قوله نقول وإليه نذهب.
قال الأشعري أيضًا في مسألة الاستواء: قال أهل السنة وأصحاب الحديث:
ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى
العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا
كيف، وأن له يدَين بلا كيف كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: 75)
وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، قال: وقالت المعتزلة استوى
على عرشه بمعنى استولى، وقال الأشعري أيضًا في كتاب الإبانة في أصول الديانة
في باب الاستواء: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول له إن الله
مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقال:
{ِإلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) ، وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 158) وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً
لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36- 37) كذب فرعون موسى في قوله: إن الله فوق السموات، وقال الله
تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (الملك:
16) ، فالسموات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُم
مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو
أعلى السموات، ألا ترى أنه ذكر السموات فقال: {وجعل القمر فيهن
نورًا} (نوح: 16) ولم يرد أنه يملأ السموات جميعًا، ورأينا المسلمين جميعًا
يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله مستوٍ على العرش الذي هو فوق
السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، وقد قال
قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: (إن معنى استوى استولى وملك وقهر،
وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق،
وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش الأرض
السابعة؛ لأن الله قادر على كل شىء، والأرض فالله قادر عليها وعلى
الحشوش، والأخلية فلو كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال:
هو مستوٍ على الأشياء كلها وعلى الحشوش والأخلية فبطل أن يكون معنى الاستواء
على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، وقد نَقل هذا عن
الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه كابن فورك والحافظ ابن عساكر في كتابه الذي
جمعه في تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، وذكر
اعتقاده الذي ذكره في الإبانة، وقوله فيه: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة،
والقدرية، والجهمية، والحلولية، والرافضة، والمرجئة؛ فعرفونا قولكم الذي به
تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؛ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها
ندين: التمسك بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن
الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد
بن حنبل ـ نضَّر الله وجهه ـ قائلون، ولِما خالف فيه مُجانبون لأنه الإمام
الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج
وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكّين ورحمة الله عليه
من إمام مقدم، وكبير مُفهم وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: إنَّا نُقر بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله
وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما تقدم وغيره في
جمل كبيرة أوردت في غير هذا الموضع. وقال أبو بكر الآجرّي في كتاب الشريعة:
الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته وعلمه محيط بكل
شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى وجميع ما في سبع أرضين يرفع
إليه أفعال العباد، فإن قال قائل: أي شيء معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى
ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة: 7) الآية.
قيل له: علمه وهو على عرشه وعلمه محيط بهم كذا فسره أهل العلم والآية
يدل أولها وآخرها أنه العلم وهو على عرشه هذا قول المسلمين.
والقول الذي قاله الشيخ محمد بن أبي زيد وأنه فوق عرشه المجيد بذاته،
وهو في كل مكان بعلمه قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد، ومراده أن الله
هو المجيد بذاته، وهذا مع أنه جهل واضح فإنه بمنزلة أن يقال الرحمن بذاته
والرحيم بذاته والعزيز بذاته.
وقد صرح ابن أبي زيد في المختصر بأن الله في سمائه دون أرضه، هذا
لفظه والذي قاله ابن أبي زيد مازالت تقوله أئمة أهل السنة في جميع الطوائف.
وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه الوصول إلى معرفة
الأصول: (إن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه
وكذلك ذكره عثمان بن أبي شيبة حافظ الكوفة في طبقة البخاري، ونحوه ذكر ذلك
عن أهل السنة والجماعة، وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام في
رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده، وكذلك ذكره أبو نصر السجزي
الحافظ في كتاب الإبانة له، قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن
سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق متفقون
على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك ذكر شيخ الإسلام
الأنصاري وأبو العباس الطرقي والشيخ عبد القادر ومن لا يحصي عدده إلا الله من
أئمة الإسلام وشيوخه.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وغير ذلك من
المصنفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه: طريقنا طريق السلف المتبعين الكتاب
والسنة وإجماع الأمة، قال وما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة لا
يزول ولا يحول، لم يزل عالمًا بعلم، بصيرًا ببصر، سميعًا بسمع، متكلمًا بكلام
أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله، وسائر كتبه المنزلة كلامه
غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوًا ومحفوظًا ومسموعًا
وملفوظًا كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق،
وأن الواقفة من اللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد
خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر وذكر أشياء
إلى أن قال: والأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في
العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله
بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم وهو مستو على
عرشه في سمائه من دون أرضه، وذكر سائر اعتقادات السلف وإجماعهم على ذلك
وقال يحيى بن عثمان في رسالته: لا نقول كما قالت الجمهية أنه مداخل الأمكنة
وممازج كل شيء، ولا نعلم أين هو، بل نقول: هو بذاته على عرشه
وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد شيخ
الصوفية في هذا العصر: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان
عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر
أشياء من الوصية إلى أن قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا
تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول، وإنه مستو على عرشه بائن من خلقه
والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة، ولا ملاصقة، وإنه - عز وجل - بصير
سميع عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، يتجلى لعباده يوم
القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل، ومن
أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن
عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب (الرسالة في السنة)
ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق
به كتابه وعلماء الأمة، وأعيان سلف الأمة لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه فوق
سمواته. قال: وأما إمامنا أبوعبد الله الشافعي احتج في كتابه المبسوط في مسألة
إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر
معاوية بن الحكم وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة؛ وسأل النبي -
صلى الله عليه وسلم - عن إعتاقه إياها، فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا، فقال
لها (أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) فحكم بإيمانها لما
أقرت أن ربها في السماء وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي باب القول في الاستواء:
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ثم استوى
على العرش، {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام: 61) ، {يخافون ربهم
من فوقهم} (النحل: 50) ، {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) ، ? {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (الملك: 16) وأراد من فوق السماء
كما قال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71) وقال: {فَسِيحُوا فِي
الأَرْض} (التوبة: 2) أي على الأرض، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى
السموات، فمعنى الآية، ءأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات
قال: (وفيما ذكرنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله
بذاته في كل مكان، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم} (الحديد: 4) إنما أراد بعلمه
لا بذاته.
وقال أبو عمر بن عبد البر في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال:
وهذا حديث لم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل أن الله في السماء على
العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة،قال:
وهذا أشهر عند الخاصة والعامة وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛
لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم، وقال أبو عمر أيضًا:
أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم قالوا في تأويل قوله: {مَا يَكُونُ
مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) هو على العرش، وعلمه في كل
مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يُحتج بقوله.
وقال شيخ الإسلام المسؤول - أيده الله -: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف؛ إذ لم
ينقل عنهم غير ذلك؛ إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات الفرقانية
والأحاديث النبوية فنسأل الله العظيم أن يختم لنا بخير ولسائر المسلمين، وأن لا
يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين.
والحمد لله وحده
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع ما نشر في العدد الماضي ص 39.(27/106)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى لابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) وقال رحمه الله ورضي عنه في رجل تزوج بنتًا بكرًا بالغًا ودخل بها
فوجدها بكرًا ثم إنها ولدت ولدًا بعد مُضي ستة أشهر بعد دخوله بها؛ فهل يلحق
به الولد أم لا، وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه فهل يقع
الطلاق أم لا والولد ابنًا سويًّا كامل الخلقة، وعمَّر سنين، أفتونا مأجورين.
أجاب رضي الله عنه: الحمد لله؛ إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر من حين
دخل بها ولو بلحظة لَحِقه الولد باتفاق الأئمة؛ ومثل هذه القصة وقعت في زمن
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واستدل الصحابة على إمكان كون الولد يولد
لستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) مع
قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (البقرة: 233) فإذا كان مدة
الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر؛ فجمع في الآية أقل الحمل
وتمام الرضاع، ولو لم يستلحقه فكيف إذا استلحقته وأقرّ به، بل لو استلحق
مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين؛ إذا كان ذلك ممكنًا ولم
يذع به أنه ابنه كان بارًّا في يمينه ولا حنث عليه، والله أعلم.
***
بسم الله الرحمن الرحيم
(2) مسألة في الفقر والتصوف
صورتها: ما تقول الفقهاء ـ رضي الله عنهم ـ في رجل يقول: إن الفقر لم
يتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى وأنه سبيل غير موصل إلى
رضى الله - تعالى- وإلى رضى رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب
نهيه من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ وأن أصل كل شيء
العلم والتعبد والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، والفقر المسمى على لسان
الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي؛ فيكون
الزهد في الدنيا العمل بالعلم وهذا هو الفقر، فإذًا الفقر فرع من فروع العلم، والأمر
على هذا، وما ثم طريق أوصل من العلم، والعمل بالعلم على ما صح وثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل
الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاح المعتادة غير
مرضي لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك أفتونا مأجورين.
نسخة جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ الحمد لله. أصل
هذه المسألة أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه
مثل لفظ الإيمان والبر والتقوى والصدق والعدل والإحسان، والصبر والشكر
والتوكل والخوف والرجاء والحب لله والطاعة لله وللرسول وبر الوالدين والوفاء
بالعهد، ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن؛ فهذه
الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله مع ترك ما نهى الله
عنه ورسوله كالكفر والنفاق والكذب والإثم والعدوان والظلم والجزع والهلع والشرك
والبخل والجبن وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم، ونحو ذلك؛ فعلى
كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله
فيتركه.
هذا هو طريق الله وسبيله , ودينه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الصراط المستقيم يشتمل
على علم وعمل، علم شرعي وعمل شرعي؛ فمن علم ولم يعمل بعلمه كان
فاجرًا ومن عمل غير العلم كان ضالاًّ، وقد أمرنا سبحانه أن نقول: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ
الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود المغضوب عليهم , والنصارى
ضالون) وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به , والنصارى عبدوا الله بغير علم
ولهذا كان السلف يقولون: (احذر فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما
فتنة لكل مفتون) ، وكانوا يقولون: (من فسد من العلماء ففيه شبه باليهود، ومن
فسد من العباد ففيه شبه من النصارى) فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به
كان مضلاًّ، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع فيتبع أمورًا تخالف
الكتاب والسنة يظنها علومًا وهي جهالات، وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل
البدع فيعمل أعمالاً تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات فهذا
وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر، يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم
دون العمل، والعمل دون العلم؛ ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة،
وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل يكون كلاهما موافق الشريعة.
فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق
الشريعة، وإلا كان ضالاً عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والسالك
من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجراً،
ضالا عن الطريق، فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم.
وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية، ومن
أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، ولا ريب أن لفظ الفقر في الكتاب والسنة
وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما
أمر به، وترك ما نهى عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك، بل الفقر عندهم ضد
الغنى، والفقراء هم الذين ذكر الله في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} (التوبة: 60) وفي قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} (البقرة:
273) وفي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر: 8) والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي يجب عليه الزكاة،
أو ما يشبه هذا، لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعًا أو كرهًا؛ إذ من العصمة أن
لا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون
مع الغنى، وقد يكون مع الفقر، ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع
غناه كثير.
والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به
العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع، بل ترك الفضول التي تشغل
عن طاعة الله ورسوله هو المشروع، وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون
عن ذلك بلفظ الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفاء أو الصف الأول؛ أو صوفة بن
مر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن
من الناس من قد لمحو الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين
المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين
بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان
بحسب ما سوَّى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى
الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه.
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر وكان من القدرية،
كالمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة , فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك
يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا؛
فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه،
فهذا التقسيم من القول والاعتقاد وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها
حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه
من المقدور , فهو عند الأمر والدين والشريعة يستعين بالله على ذلك على ذلك كما
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وإذا أذنب استغفر وتاب
لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب
الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر، ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه: سيد
الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا
على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ
وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) فيقر بنعمة الله عليه في
الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب
منها، كما قال بعضهم: (أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك
فأسألك بوجوب حجتك عليّ وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي) .
وفي الحديث الصحيح الإلهي (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم
أوفيكم إياها , فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)
وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع، وآخرون قد يشهدون الأمر فقط
فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما
يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون
عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله
ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء
يستعينون الله ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن
يعبده ويستعينه.
(للكلام بقية)
__________(27/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعاية الإلحاد في مصر
ليس الإلحاد بجديد في مصر، وإنما الجديد هو الدعوة إليه وتأليف الجمعيات
لبثه وهدم الإسلام، وتأليف الكتب في الطعن على أعلام حكمائه المتقدمين الذين
يُعلي الإفرنج قدرهم كالغزالي وابن خلدون، والتنويه بمن اتُّهموا بالكفر والإلحاد
كالمعري والإشادة بأدب من اشتهر بالفسق والخلاعة كأبي نواس وقد كنا ذكرنا منذ
بضع عشرة سنة خبر تأليف أول جمعية إلحادية من أعضائها معمم متخرج في
الأزهر ثم إنهم خلعوا العِذَار وجهروا بدعايتهم في دروس مدرسة الجامعة المصرية
ومحاضراتها وفي جريدة السياسة ناشرة هذه الدعاية ومؤيدة جمعيتها وأفرادها حتى
أنها بعد مناصرتها الشيخ علي عبد الرازق المجاهر باللادينية اخترعت من عهد
قريب معنى جديدًا زعمت أنه هو الذي يحل محل الدين في التكوين المعنوي للأمم
والشعوب وضم الملايين منهم إلى جامعة واحدة - وهو ما يعبرون عنه بالثقافة
القومية.
وإذا كان لمصر مكانة ممتازة في العالم الإسلامي الذي يضم بين رجويه
(طرفيه) أكثر من ثلثمائة مليون مسلم، وإذ كان سبب هذه المكانة الراسخة من
زهاء ألف عام الجامع الأزهر الذي يتلقى العلوم الدينية والفنون العربية فيه ألوف
كثيرة من الأقطار الإسلامية العديدة، ثم ما عزز ذلك في هذا العصر عصر المطابع
من أصدار مصر للألوف من المطبوعات العربية من دينية إسلامية وأدبية وفنية
إلى مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها، عربيها وعجميها.
وإذ كان هؤلاء الملاحدة من المصريين يدعون إلى الوطنية بالمعنى
الاجتماعي العصري وهو تمايز الأقوام والشعوب وتكونها بأوطان محدودة تضمها
دون ما هو أوسع من ذلك من الجوامع والمقومات كالدين واللغة، حتى إنهم ليعدون
المسلم فيها وهي إسلامية ويعدون العربي فيها وهي عربية بل لها المكانة التي
أشرنا إليها في العالمين الإسلامي والعربي - يعدونهما من الأجانب الذين لا تجمعهم
بالمصري وشيجة، لا يمتنون إليه بوسيلة، فالشريف الحجازي أو السوري والوثني
الصيني أو المنشوري عندهم سواء، ولكن يمتاز عليهما لابس البرنيطة الإفرنجي.
وإذ فطنوا في هذه الأيام لما في وطنيتهم ولا دينيتهم من الخسارة الأدبية
والسياسية على مصر أنشأت جريدتهم (السياسة) تعدهم وتمنيهم بأن ثقافتها
الإلحادية الجديدة طفقت تتبوأ مباءة تلك الزعامة الدينية من أنفس الشعوب الشرقية
عامة والسورية خاصة إذ شعرت هذه الشعوب بأن الدين صار الأدنى والأضعف
من جوامع الأقوام، وروابط الأمم وأن مدرسة الجامعة المصرية (الإلحادية)
وهي المظهر الأعلى للثقافة الجديدة قد خلفت الأزهر المتوفى غير مأسوف عليه
وورثت مكانته المعنوية - كما أن جرائد مصر اللادينية ومطبوعاتها الحديثة قد
خلفت مطبوعات المطبعة الأميرية وسائر المطابع العربية التي تصدر الكتب الدينية
(ولم تعرض الجريدة لمسألة الكتب الحديثة والكتب القديمة) .
لقد صدقت جريدة السياسة - وقلما كانت صادقة - فيما صورته من التنازع
بين الجامعة الأزهرية الدينية والجامعة المصرية الإلحادية، فهذا أمر يعرفه
البصيرون وإن غفل عنه الأكثرون، وأول من صرح به في مجلسنا من غير
المسلمين شاب إسرائيلي ذكي سمعنا نتكلم في مسألة كتاب الشيخ علي عبد الرازق
عقب ظهوره وكونه ينصر فيه دعاية الإلحاد الجديدة. فقال ليست المسألة مسألة
كتاب ألفه شيخ مسلم في محاربة الإسلام فلو كان هذا كل ما تشكون منه لهان خطبه،
ولكنما المسألة كل المسألة هي التنازع بين الجامعة المصرية وجامعة الأزهر فإذا
غلبت الثانية بقيت هذه البلاد إسلامية، وإذا انتصرت الأولى لحقت
مصر بالبلاد التركية وانقضى عصر الإسلام فيها.
قلت: إن الإلحاد ليس بجديد في مصر وإنما الجديد هو الدعوة إليه.. . وأقول
أيضاً إن مدرسة الجامعة المصرية ليست هي المدرسة التي بذرت بذور الكفر
والإباحة في هذا القطر بل بُذرت هذه البذور في المدارس العصرية منذ وجدت في
مصر، وكذا الدولة العثمانية. وإنما الجامعة المصرية هي دوحتها، التي ظهرت
فيها ثمرتها، إذ برز دكاترتها عمي البصائر والأبصار -إحداهما أو كلتيهما-
يبارزون الدين والفضيلة الحرب جهرًا بدون تقية ولا احتراس.
من قرأ اللائحتين اللتين كتبهما الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إصلاح
التربية والتعليم في المدارس العثمانية والمصرية يجده قد أثبت فيهما أن طلابها
يخرجون منها وليس لهم دين يهتدون به، ولا ملة يعتصمون بعروتها وقد بين هذا
في غيرهما من مقالاته ورسائله الإصلاحية، وحكم حكمًا فاصلاً بأن هذا التعليم
الناقص الذي لا يقترن بتربية دينية صحيحة خطر على الأمة وعلى الدولة،
ومضيعة لما كانت تعتز به الدولة من منصب الخلافة , وكذلك كان.
هذا والأستاذ الإمام وأستاذه حكيم الإسلام هما أول من وضع في مصر أساس
النهضة الوطنية بالحزب الوطني الذي أسساه في عهد إسماعيل باشا ورفعا قواعده
بالعمل، ولكن وطنيتهما الحكيمة الصادقة غير وطنية دكاترة الجامعة المصرية
ومحرري جريدة السياسة، تلك وطنية تتفق هي وهداية الدين، وهذه وطنية لا
يبقى معها وطن، ولا دين، ولا فضيلة.
لما كان الأستاذ الإمام منفيًّا في بيروت رأى في بعض الجرائد المصرية طعنًا
في بطرس باشا غالي زعيم القبط الأكبر، وفي القبط أنفسهم، كان سببه استقالة
شفيق بك منصور النابغة المسلم المشهور خَدَمة القضاء المصري ذاهبة إلى
وكيل وزارة الحقانية هو الذي ألجأه إلى الاستقالة بتعصبه وتحامله عليه
فرد الأستاذ على هذه الجرائد ردًّا حكيمًا محكمًا دافع فيه عن بطرس باشا وأنكر
أشد الإنكار إدخال اختلاف الدين في هذه المسائل، وإدخال الشقاق بين أبناء
الوطن فيما لا علاقة للدين به. وقد ظفرنا بهذه المقالة في أثناء اشتغالنا بالطبعة
الثانية لجزء منشآت الأستاذ التي تمت في هذا الشهر فليراجعها من شاء أن يرى كيف
تكون الوطنية الصحيحة، وكيف يهدي إليها زعماؤها الصادقون.
أما بعد، فإن ما توقعناه في فاتحة الجزء الأول من هذا المجلد (السابع
والعشرين) للمنار من خطر الدعاية الإلحادية على نهضة الإصلاح الإسلامي،
ودولتها الجديدة مبني على الخوف من تمكن اللادينيين في مصر من جعل الأمة
المصرية والدولة المصرية عدوًّا للدولة الحجازية النجدية بدسائس الأجانب وأعوان
الأجانب من غير المسلمين، بل بغفلة رجال الدين وجهلهم بحال العصر وضعفهم
أمام رجال الدنيا - وبقابلية العوامّ لتأثير الملاحدة بإتيانهم من ناحية البدع
والخرافات التي تصدت جريدة المقطم لتأييدها والدفاع عنها، ووصفها بالتقديس (!!)
ولماذا لم ينصر أصحاب المقطم تقاليد نصرانيتهم المقدسة عند آبائهم وأجدادهم،
بل خذلوها باسم الإصلاح؟
أثارت جريدة السياسة سحابة خلاف بين حكومتي الحجاز ومصر في مسألة
المحمل وركب المحمل وحرسه وقالت ما معناه: إن ملك الحجاز ابن سعود يمنع
تقاليد المحمل الموروثة، فلا يسمح لعسكر مسلح مع موسيقى عسكرية تعزف له
بدخول مكة وسائر أماكن النسك ... إلخ، فكثر الخوض في ذلك، وتحدث الناس
بتوقع منع الحكومة المصرية للحج أو للمحمل ولمَّا يرسل مع ركبه عادة من
الأموال والأرزاق التي هي من حقوق أهل الحرمين في مصر، وتطوعت جريدة
المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة في مصر، وتطوعت جريدة
المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة على منع الحج اقتداء بحكومة
إيران التي كان قنصلها في سورية هو الذي وسوس في أذن الحكومة عقب عودته من
مكة في هذا الشهر بأن ملك الحجاز يريد كذا ويأبى كذا، وهو الذي لقن جريدة المقطم
ما أذاعته وكبرته، وظنت أنه بتكبيرها وإرجافها سيحمل الحكومة على اقتراف
جريمة الموسم الماضي كما بسطنا الكلام فيه في مقال نشر في جريدة كوكب
الشرق الوطنية.
فتنة دبَّر مكيدتها شيعي متفرنج يغلب على الظن أنه من اللادينيين، إن لم
يكن من البهائيين، وأذاعتها جريدة دعاية الإلحاد وأرجفت بها جريدة المقطم بما
يوهم قارئها أن الشعوب الإسلامية وحكوماتها قد أجمعت على المنع والامتناع من
أداء فريضة الحج، فلا ينقص إجماعها إلا ما يتوقع يومًابعد يوم من اتفاق مصر معها
فتنة هذا شأنها، وتلك صفة مثيريها كان المعقول أن تقيم قيامة علماء الأزهر وأذكياء
طلابه للدفاع عن ركن الإسلام ومجاهده قطاع طريقه، ولكنها - والشكوى إلى الله-
لم تحرك منهم ساكنًا، ولم تنطق ساكتًا، فإذا كانوا يصدقون على أنفسهم ما قلناه
من رأي الناس فيهم يوم دعوا إلى مؤتمر الخلافة من أنهم لا يتحركون إلا إذا
حركوا ولا ينطقون إلا إذا أنطقوا، فما بال خريجي مدرسة القضاء الشرعي، وهم
أفطن لهذه الدسائس وأجدر بنضال رماتها، وما بال قدماء أساتذة دار العلوم الذين
غلبتهم دعاية الجامعة المصرية على طلبتها فألقوا بعمائمهم وجببهم، احتقارًا لها
وبراءة من جامعة الأزهر التي هي منبت أسلتهم، والأساس لبناء مدرستهم؟
إنني كلمت بعض كبار علماء الأزهر الأذكياء في هذه المسألة كعادتي في
أمثالها، فجادلني في بعض جزئياتها جدالهم المعهود في جزئيات الكتب التي
يتدارسونها - واقفًا موقف المؤيد للحكومة المصرية فيما قيل من خلافها مع ملك
الحجاز، لم يستطع أن يدافع عن مسألة موسيقى حرس المحمل لما في كتب فقه
المذاهب المشهورة من تحريم جميع المعازف إلا ما استثني من دف العرس وطبل
الحرب ونفيره - والاستثناء معيار العموم - ولم يتناول هذه المعازف الجديدة التي
أخترعت بعد عصر الاجتهاد عندهم، وفيها أنواع من المزامير وهي محرمة بنص
المذهب أو المذاهب فهو لا يجادل فيها، ولو تكلم معي فيها بالدليل لألفاني معتقدًا أن
الموسيقى العسكرية كلها في معنى طبل الحرب الذي استثني لأجله من المعازف
المحرمة وهو أنها تثير الشجاعة والإقدام، دون طرب الشهوة الذي ربما يبعث على
ارتكاب الآثام.
اقتصر الأستاذ على الاحتجاج للحكومة فيما تصر عليه من دخول حرس
المحمل مكة وغيرها من أماكن النسك بأسلحتها، ولم يجد له علة تصح شرعًا إلا
حماية الحجاج المصريين من الاعتداء على دمائهم وأموالهم لأن ما تدعيه حكومة
الحجاز من تأمين البلاد لم يصح عند الحكومة المصرية، فلابد لها أن تأخذ
بالاحتياط ولو في هذه السنة.
قلت: لكن الحكومة المصرية لا تدعي هذه الدعوى وحرسها لا يمشي مع
الحجاج بين جدة ومكة، بل تألفت في هذا العام شركة مصرية لنقل الحجاج
بالسيارات (الأوتومبيلات) فهل يمكن أن يسير الجيش مع هذه السيارات لحراستها؟
بمثل هذا الجدل في الجزئيات يصرف الأزهريون عن النظر في الموضوع
الكلي والإحاطة بأطرافه للتمكن من صحة الحكم فيه، وهذه الخطة يتلاقى في
مدرسة القضاء ضررها بتكليف طلابها درس بعض المسائل (من الأصول
كالاجتهاد والتقليد، أو الفروع كالطلاق والوقف) والنظر في أدلتها ووجوه الترجيح
بينها، ولو عرضت مسألة الحج التي نحن بصدد الكلام الاستطرادي فيها على من
اعتاد هذه الخطة لكان أول ما توجه إليه نفسه وجوب السعي لإحباط كل عمل يقصد
به منع أداء فريضة الدين وإقامة ركن الإسلام.
غرضنا من هذا الاستطراد ضرب المثل لضعف الجامعة الأزهرية فيما يجب
عليها من صد هجمات ملاحدة الجامعة المصرية وكتاب جريدة السياسة على
عقائد الإسلام وآدابه وتشريعه، وشكل حكومته، فإنهم أضر من دعاة النصرانية
الذين يرد الأكثرون كلامهم بتهمة العداوة الدينية - ويأخذون كلام هؤلاء بالقبول
لانتفاء التهمة - فهم ضعفاء العزيمة ضعفاء الحجة، إنما مبلغ أكثرهم من العلم أن
ينقلوا من بعض كتب الفقه المتداولة نصوصًا ينشرونها، ويوجبون على الناس
اتباعها، عقلوها أم لم يعقلوها، بناءً على أنها هي المعتمدة في المذهب أو المذاهب
أو الإجماع: هذا حلال وهذا حرام، هذا كفر وهذا إيمان، فمن خالف فسق أو ارتد
عن الإسلام، وهم يرون الكثير من الناس يأبونها، ومنهم من يرد عليها ويهزأ
بها، ثم لا ينقص لأحد من هؤلاء في قومه قدر، ولا يعامل معاملة المرتدين في حياة
ولا موت وآخر ما رأيناه في ذلك فتوى المفتي الأكبر وشيخ الجامع
الأزهر في حكم لبس البرنيطة.
لهذا ترى هؤلاء الملاحدة موقنين بأنهم المنصورون، وأن رجال الجامعة
الأزهرية والمعاهد الدينية هم المهزومون المخذولون، وأنهم سيفعلون في هذا القطر
ما فعله الكماليون في بلاد الترك، فاتحاد الأسباب يؤذن باتحاد المسببات والنتائج لا
تتخلف عن المنتج من المقدمات.
هنا وجه الخطر على مصر من تعاليم الإلحاد التي يقصدها الأجانب الذين
غرسوا فسيلها، ومهدوا الأرض لنموها، وجنوا بواكير ثمراتها، بل أصبحوا
التصرف الأعلى فيها، وإنما يفيضون على تلاميذهم وربائبهم أجور خدمتهم منها،
ومن ورائهم جمعيات سرية، ودسائس خفية، ومرغبات إباحية، ومطامع بلشفية،
فماذا بقي للإسلام تجاه ذلك كله؟
غير أنه لا تزال طائفة من شبان الأزهر العلماء موضع الرجاء لما لهم من
الدراية بعلوم العصر والقدرة على التحرير، والولوع بالإصلاح ما يستطيعون به أن
يعيدوا مجده ويحفظوه مكانته.
يقال بقي أن سواد الشعب الأعظم في هذا القطر على الإسلام - وهو أعظم
قوة - ونقول إن الشعب التركي كذلك، ويقال إن الدستور المصري مصرح بأن
دين الدولة الإسلام، ونقول إن دستور الجمهورية التركية التي تهدم الإسلام فيه مثل
هذا النص، فلابد للانتفاع من قوة أكثر الشعب، ومن قوة الدستور من نظام يديره
زعماء يرجعون بالإسلام إلى أصله الذي كان عليه في الصدر الأول قبل حدوث
الفتن وابتداع البدع، وبيان ما هو دين ثابت بالنص القطعي رواية ودلالة أو
بإجماع السلف، وما دون ذلك من الأحكام الظنية التي هي محل الاجتهاد - ومن
الرجوع في تعليمه وتعلمه إلى الاستقلال، والاجتهاد في الاستدلال، وتأييده والدفاع
عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر وما عليه أهله من علم وعرفان، وبيان ما هو
الحق من موافقته لمصالح البشر في كل زمان ومكان، ولا يتم هذا إلا بثورة دينية
على هذا الأزهر وسائر المعاهد الدينية لا تبقي ولا تذر من نظمه وعاداته ومناهجه
وكتبه شيئًا إلا بدلت به ما هو خير منه إلا كتب الحديث فهذه الكتب يزاد فيها ولا
ينقص منها.
كلمت في هذا كبراء الشيوخ في هذا العام مرارًا وأنذرتهم ما حل بإخوانهم
الترك إنذارًا، فلم يتماروا بالنذر، ولكن تعلل بعضهم بالقدر، وإنما القدر حجة عليهم
لا لهم، والحق أنهم لا يقدرون على العمل ولا يمكن لغيرهم أن يعمل معهم، وقد
شاهدنا بأعيننا ما كان من مجاهدة الأستاذ الإمام فيهم، وأنَّى لمصر مثل الأستاذ
الإمام أو من يقرب منه في علمه وحكمته، وعقله وبصيرته، وهمته وعزيمته بل
سبق لي مثل هذا الحكم عليهم بالعجز منذ تسع وعشرين سنة لا عليهم خاصة، بل
على علماء هذا العصر الدينيين كافة، أي على جمهورهم وجماعاتهم، لا على كل
فرد منهم كيف وقد كان فيهم الأستاذ الإمام بمصر وأفراد على مذهبه ومشربه في
كل قطر؟
ذلك بأنني كتبت في السنة الأولى من المنار الذي صدر العدد الأول منه في
22 شوال سنة 1315هـ مقالات في بيان ضعف المسلمين وأسبابه، وفي
الإصلاح الذي يجدد مجده ويعيد هدايته، أنحيت فيها باللائمة على الزعماء
المسئولين من الخلفاء والسلاطين والعلماء ومشايخ طرق الصوفية، ومن أشد تلك
المقالات لهجة وأنهضها حجة ما كان عنوانها {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: 67) فكتب إليَّ أحد المجاورين في رواق الشوام
كتاباً غفلاً من الإمضاء يستنكر فيه وضع شيء من تبعة ضعف المسلمين وسوء
حالهم على العلماء، ويعتذر عنهم بما وسعه الاعتذار، فأجبته بما ظهر لي بعد ذلك
أنه لم يقنعه، إذ زارني جماعة من مجاوري هذا الزمان في العيد وجرى ذكر
المسألة فناضل أحدهم عن العلماء وأطال في إنتحال الأعذار، وانتهى الحوار بقيام
الحجة عليه وإقراره بها وبأنه صاحب ذلك الكتاب الإنكاري وذكر ما لا أنكر من
حسن نيته وإخلاصه فيه.
بعد هذا قلت له: إن للعلماء لديَّ عذرًا لو أوردته علي لما استطعت له ردًّا،
ولا حاولت له نقضًا، قال أبعد هذا كله تقول: إن لهم عذراً صحيحاً؟ بالله ما هذا
العذر؟ قلت هو الجهل! قال الجهل؟ قلت: الجهل وإنما عنيت الجهل بتاريخ
الإسلام، كيف انتشرت دعوته، وقبلت هدايته، وسادت حكومته، ودونت علومه،
وزهت حضارته، ثم كيف طرأت عليه البدع، وكيف كاد له العجم، وكيف رجع
القهقري، فتفرق أهله شيعًا، وصارت دولته دولاً، ثم كيف كان جهاد الإفرنج له
بالسيف والنار، ثم بالسياسة ثم بالعلم، وهو أشد جهادهم خطرًا، فإنه هو الذي
جعل المسلمين يخربون بيوتهم بأيديهم - لو عرف علماء الإسلام هذا التاريخ وهو
يتوقف على معرفة تاريخ خصومهم، لعرفوا كيف يكون المخرج من هذه المآزق.
(والثاني) التقليد الذي أجمع السلف على تسميته جهلاً، دع تحريم الله إياه
في كتابه ونذره لأهله، وقف عند عجز علماء التقليد في هذا العصر عن إقامة
الحجة على كون الإسلام هو دين الله الحق، وعن الدفاع عنه، ورد الشبهات
الحديثة التي يوردها عليه الطاعنون، وعجزهم عن جعل شريعته كافية لما
أستحدث البشر من فنون الحرب ومناهج السياسة والنظم المالية والشؤون المعاشية،
هذا العجز الذي كان سبب ترك حكومة هذه البلاد الإسلامية لتشريعه واتباع التشريع
الإفرنجي المدني والجزائي (العقوبات) وسبب ذبذبة الترك في ذلك إلى أن نبذت
حكومتهم شريعته برمتها، وصارت أكبر أعدائها وأشدهم وطأة عليها، أرفع صوتي
بأنه لا ينقذ الإسلام في مصر من مثل هذه العاقبة إلا قلب نظام التربية والتعليم في
الأزهر وملحقاته بعد أن خصص لها من أموال أوقاف المسلمين المبالغ الكافية
لإدارة جامعة من أعظم الجامعات تحيي علوم الدين وعلوم الدنيا وفنونها مع التربية
الدينية، وتمكنها من تأسيس مدارس تغني البلاد عن مدارس دعاة النصرانية الذين
يفسدون على أولاد المسلمين دينهم وقوميتهم، وإلا وجب نزع هذه الأموال منهم،
والمطالب بذلك من بيده بذل هذا المال.
إنني لم أكتب هذا إلا وأنا معتقد وجوب بيانه بعد أن نصحت بالقول فلم يفد
ولم يسمع، وأنني أعتقد أنني أشد غَيرة على هؤلاء الناس من أنفسهم، وأضن
بكرامتهم وشرفهم من أبنائهم، وإنني لأتميز غيظًا كلما قرأت طعنًا فيهم من هؤلاء
الملاحدة الإباحيين عبيد الشهوات، وأشهد أن رؤساءهم الحاضرين لم يكونوا من
خصوم الأستاذ الإمام، بل فضيلة المفتي والأستاذ المدير من تلاميذه والأستاذ الأكبر
كان مُوادًا له.
ولو كانوا قائمين بما يجب من خدمة الدين لكان عدد الملاحدة والإباحيين قليلاً
ولكان ضرر هذا القليل في الأمة أقلّ، فإني أعلم أن منهم الحسن النية، والمخلص
في طلب العزة والرفعة للأمة، والذين لو وجدوا من جماعة الدين إصلاحًا لرضوا
أن يكونوا أعوانًا لهم وأنصارًا، وسأبين هذا في مقال آخر من هذا الحديث أثبت
فيه أن سوء حال رجال الدين فتنة للكافرين، وحجة للملحدين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة: 5) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/119)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإلحاد في الجامعة المصرية
الدكتور طه حسين المتخرج من الجامعة المصرية والمدرس بها ألقى
محاضرات فيها وجمعها في كتاب سماه (الشعر الجاهلي) وقد طعن فيه على الإسلام
والقرآن، فأهاج الرأي العام، وتناول كتابه الأدباء والكتاب بالرد والتفنيد، وقد كلف
فضيلة شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية لجنة من علماء الأزهر بالنظر في
الكتاب ووضع تقرير عنه فقامت بذلك ورفعت لفضيلته التقرير الآتي.
وهذا نصه كما جاء في مقطم يوم الأحد 26 شوال سنة 1344هـ.
كتاب الشعر الجاهلي
رأي لجنة العلماء فيه
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
السلام عليكم ورحمة الله:
وبعد فقد اجتمعت اللجنة المؤلفة بأمر فضيلتكم من الموَقِّعين عليه لفحص
كتاب طه حسين المسمى (في الشعر الجاهلي) بمناسبة ما قيل عنه من تكذيب
القرآن الكريم واطلعت على الكتاب، وهذا ما ترفعه إلى فضيلتكم عنه بعد فحصه
واستقراء ما فيه.
يقع الكتاب في 183 صفحة وموضوعه إنكار الشعر الجاهلي وأنه منتحَل بعد
الإسلام لأسباب زعمها. وقال: إنه بنى بحثه على التجرد من كل شيء حتى من
دينه وقوميته عملاً بمذهب ديكارت الفرنسي، والكتاب كله مملوء بروح الإلحاد
والزندقة، وفيه مغامز عديدة ضد الدين مبثوثة فيه، لا يجوز بحال أن تُلقى إلى
تلامذة لم يكن عندهم من المعلومات الدينية ما يتقون به هذا التضليل المفسد لعقائدهم،
والموجب للخُلْف والشقاق في الأمة، وإثارة فتنة عنيفة دينية ضد دين الدولة
ودين الأمة.
وترى اللجنة أنه إذا لم تكافح هذه الروح الإلحادية في التعليم، ويُقتلع هذا
الشر من أصله، وتطهر دور التعليم من (اللادينية) التي يعمل بعض الأفراد على
نشرها بتدبير وإحكام تحت ستار حرية الرأي اختل النظام وفشت الفوضى
واضطرب حبل الأمن؛ لأن الدين هو أساس الطمأنينة والنظام.
الكتاب وضع في ظاهره لإنكاره الشعر الجاهلي، ولكن المتأمل قليلاً يجده
دعامة من دعائم الكفر، ومعولاً لهدم الأديان، وكأنه ما وضع إلا ليأتي عليها من
أصولها وبخاصة الدين الإسلامي، فإنه تذرع بهذا البحث إلى إنكار أصل كبير من
أصول اللغة العربية من الشعر والنثر قبل الإسلام مما يرجع إليه في فهم القرآن
والحديث. هذا ما يرمي إليه الكتاب في جملته، ولنذكر نبذًا منه بعضها كفر صريح
وبعضها يرمي إلى الإلحاد والزندقة فنقول:
قال في صفحة 26 ما نصه (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل،
وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا
يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة
إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة) .
أنكر المؤلف بهذا هجرة [1] سيدنا إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام وقال:
إن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي
وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى في سورة إبراهيم حكاية عنه عليه الصلاة
والسلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ *
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا
لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 35-37) وقال في الصفحة نفسها (ونحن مضطرون إلى
أن نرى في هذه القصة - يريد قصة الهجرة - نوعًا من الحيلة لإثبات الصلة بين
اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى) .
وهو في هذا النص يصرح بأن القرآن اختلق هذه الصلة بين إسماعيل
والعرب ليحتال على جلب اليهود وتأليفهم، ولينسب العرب إلى أصل ماجد زورًا
وبهتانًا لأسباب سياسية أو دينية، وهذا من منتهى الفجور والفحش، والطعن على
القرآن الكريم في إثباته أبوة إبراهيم للعرب في قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج: 78) الآية.
وقال في صفحة 27 (وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه
الأسطورة - الهجرة المذكورة - في القرن السابع للمسيح. إلى أن قال في صفحة
28: إذاً فليس ما يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من
تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك، ولأسباب مشابهة أسطورة
أخرى صنعتها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب
طرواده، أمر هذه القصة إذًا واضح فهي حديثة العهد قبل الإسلام، واستغلها
الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني، وسياسي أيضًا. وإذًا فيستطيع
التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية
الفصحى) .
وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ} (البقرة: 127) الآية. ولقوله {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ
تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 26-27)
وقوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125) إلى غير ذلك
من الآيات التي في هذا الموضوع، وهو فوق تكذيبه للقرآن يقول: إن فيه تدليسًا
واحتيالاً لأسباب سياسية ودينية من أجلها اختلق هذه الأخبار - بهذا وأمثاله يقرر
المؤلف أن القرآن لا يوثق بأخباره ولا بما فيه من التاريخ.
وكم يترك هذا الكفر الفاحش في عقول الطلبة من أثر سيئ، وهدم لعقائدهم
ودينهم! وماذا بقي في القرآن من ثقة وحرمة في نفوسهم بعد هذا التكذيب؟
وقال في صفحة 33 (وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من
الوقت ما يمكننا من استقصائه أو تفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الكريم الذي
تُلي بلغة واحدة ولهجة واحدة، هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من
القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تباينًا كثيرًا
إلى أن قال: إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل،
وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير
حناجرها وألسنتها، وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي (صلى الله عليه
وسلم) وعشيرته من قريش فقرأته كما كانت تتكلم) إلى آخر ما قال.
وهذا تصريح منه بأن القراءات لم تكن منقولة كلها عن النبي صلى الله عليه
وسلم، بل هي من اختلاف لهجات القبائل، فالسبع المتواترة ليست عنده واردة عن
النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم في أصول الدين أن السبع متواترة، وأن
طريقها الوحي فمنكرها كافر.
وعدا ما سردناه توجد صحائف عديدة فيها مغامز مؤلمة، منها ما قاله في صفحة
81 (وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين
إبراهيم) وفي الصفحة التي قبلها (أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا للإسلام أولية
في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته
هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله على الأنبياء من قبل) وهو في هذا يكذب
قوله تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (النحل: 123) وقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: 68) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا
الموضوع، ومنها غير ذلك كثير مما هو مبثوث في الكتاب.
ولا ريب في أن هذا هو عين ما كان يطعن به المشركون على القرآن في مبدأ
أمره قال تعالى في سورة الفرقان {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ
عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 4-5) .
فاللجنة ترفع إلى فضيلتكم ما وصلت إليه على سرعة من الوقت مما سطره
المؤلف من الكفر الصريح، وتترك ما ينطوي في ثناياه من الإلحاد والزندقة مما لا
يخفى على الناظر.
نرفعه مطالبين فضيلتكم والحكومة بوضع حد لهذه الفوضى الإلحادية
خصوصًا التي تنبث في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم، فما نفرغ من
حادثة إلا ونستقبل حوادث لا تدع المؤمن مطمئنًا على دينه.
نطالب فضيلتكم والحكومة بذلك حرصًا على أبناء الدولة أن يتفشى هذا الداء
فيهم وهم رجال المستقبل، وسيكون بيدهم الحل والعقد في مهام الأمور.
ونحن لا نفهم كيف تصرف أموال المسلمين وأوقافهم على تعليم نتيجته هذا
الإلحاد الذي يبثه هذا الداعي ويتقاضى عليه مرتبًا ضخمًا من هذه الأموال.
وهل بهذه الطريقة وعلى هذا النحو تخدم وزارة المعارف أبناء الأمة ورجال
الغد وتبني صرح التعليم والتربية؟
... ... ... ... نسأل الله أن يوفقكم لما فيه المصلحة والسلام
... ... ... ... ... ... ... 26 شوال سنة 1344هـ
... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاءات
محمد الديناري - عبد المعطي الشرشمي - محمد عبد السلام القباني - عبد
ربه مفتاح - عبد الحكم عطا - محمد هلالي الإبياري - عبد الرحمن المحلاوي -
محمد علي سلامة
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) عبارة المخذول نص في إنكار إبراهيم وإسماعيل أنفسهما فضلاً عن هجرتهما، فلماذا يذكر التقرير إنكاره لهجرتهما فقط ويسكت عن إنكاره لوجودهما، هذا وإنكار إبراهيم وإسماعيل مصادمة صريحة للكتب السماوية والشرائع الإلهية وللتواتر والتاريخ.(27/128)
الكاتب: عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود
__________
بلاغ عام
قد نشر منذ عام
وأشارت إليه جريدة أم القرى ولم تنشره
وهو وثيقة رسمية وحجة قطعية
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى كافة من يراه من إخواننا
المسلمين من أهل مكة وأهل نجد كبيرهم وصغيرهم سلمهم الله تعالى وهداهم،
ووفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياهم من صالحي عبيده وأوليائه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فلا يخفاكم ما منَّ الله به علينا
وعليكم من نعمة الإسلام. قال تعالى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وقال تعالى آمرًا عباده بما فيه صلاحهم
في دينهم ودنياهم {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) وقال صلى الله
عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه
ولتأطرنه على الحق أطرًا أو ليوشكن أن يعمكم الله بعقابه) والآيات والأحاديث في
هذا الباب كثيرة لا تحصى. فإذا كان الناس هم المحتاجين إلى ربهم وهو صاحب
المنة والفضل بما أنعم به علينا من نعمة الإسلام وجعلنا من أهله فالواجب علينا
الاجتهاد فيما يرضي الله والقيام بأمره والاتباع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد
أوجب علينا فرائض الإسلام الخمس وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحقيقة ذلك النفي
والإثبات فـ (لا إله) نافية جميع ما يعبد من دون الله سواء كان المعبود نبيًّا
مرسلاً أو ملكًا مقربًا ودالة على التبرؤ من الشرك وأهله بالأفعال والأقوال و (إلا
الله) تثبت العبادة لله ومعنى ذلك أن تكون عبدًا مطيعًا لله تطيعه فيما أمرك به،
وتجتنب ما نهاك عنه. وشهادة أن محمدًا رسول الله حقيقتها ومعناها أن تقتدي به
وتتبع سنته بفعل ما أمرك به، واجتناب ما نهاك عنه، وأن يكون الله ورسوله
أحب إليك من نفسك وأهلك ومالك.
(الركن الثاني) إقامة الصلاة لأنها أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين، فمن
حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. والثالث والرابع
والخامس إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام.
فأرجو أن يوفقنا الله وإخواننا المسلمين لإقامة أركان الإسلام جميعها مع
الإخلاص بالعمل والنية الصالحة. ومن المعلوم أنه لا دين ولا إسلام إلا بالعمل
بأركان الإسلام وأدائها على الوجه المشروع. وإن من جماع الأمر النصح لله
ولرسوله ولدينه ولأئمة المسلمين وعامتهم بكل مكان وكل زمان وعلى الأخص في
هذا الحرم الشريف. والذي أوصيكم به ونفسي تقوى الله والمسارعة إلى ذلك
والاجتهاد فيما يحبه ويرضاه، وأن تفكروا فيما خلقتم له وفي مآلكم بعد انقضاء
آجالكم، فإنه لا شيء بعد ذلك إلا جنة أو نار. والعاقل منا ومنكم مَن فكَّر وسعى فيما
يرضي ربه وينجيه من عذابه.
إن أول وصيتي لكم - إخواننا أهل مكة - أن على علمائكم الالتفات إلى أمر
الله ومعرفة حقيقة التوحيد والاجتهاد بما يزيل البدع والضلالات، وتبيين الحق لعباد
الله الفقراء إليه، فإن تعليم الناس وتبيين الحق من الباطل من أهم الأشياء التي يجب
على العلماء القيام بها فإذا فعلوا ما يجب عليهم فقد برئوا من عهدتهم. وإن من أهم
ما يجب عليهم بيانه للناس حقيقة التوحيد والعمل به وترك ما ينافيه من الشرك
والضلال والبدع. ثم حض الناس على إقامة شرائع الإسلام مثل الصلاة والمحافظة
عليها، ومعرفة أركانها وواجباتها ومفسداتها وكذلك غيرها من أركان الإسلام وأن
ينهوا الناس ويزجروهم عن الأعمال الخبيثة من قول وفعل واعتقاد وعن جميع
المنكرات التي تحرمها الشريعة وإني أطلب إلى العلماء أن لا يكتموا شيئًا مما في
نفوسهم فيما يتعلق بأمر العقيدة التي تفاوضنا وإياهم فيها وأقروها فما كان موافقًا
لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجب علينا جميعًا العمل به؛ لأن
دين الله واحد ونحن جميعًا عبيد لله، وأكرم الخلق على الله من اتقاه قال تعالى
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وما كان مخالفًا للكتاب
والسنة فالساكت عنه على خطر.
إنه لا عذر بعد اليوم لأحد بالسكوت، وأكرر عليكم مرة ثانية إنه من رأى
منكم منكرًا يخالف الكتاب والسنة من قول أو عمل فليراجع فيه العلماء الموجودين
في مكة وهم الشيخ عبد الرحمن بن داود والشيخ محمد الشاوي ومن لم يستطع
مراجعتهما فليبين لي الأمر ولكم عليّ أمان الله وعهده أن أنفذ ما يقتضيه الحق وما
أثبتته الشريعة من نفي وإثبات على نفسي وأسرتي وعلى العلماء والعوام.
وأما أنتم - يا أهل نجد علماءكم وعامتكم والمسؤول في هذا هم الذين ذكروا
أعلاه الشيخ عبد الرحمن والشيخ محمد.
فالواجب عليكم أن تتناصحوا فيما بينكم وتناصحوا إخوانكم جيران البيت
الحرام وتشفقوا عليهم كشفقتكم على أنفسكم وأولادكم، وأن تسألوا الله لمهتديهم الثبات
ولجاهلهم الهداية. وأن يكون نصحكم لهم كنصحكم لأنفسكم وأحبابكم بالرفق واللين
والشفقة وأن تستروا عليهم كما تسترون على أنفسكم وأحبابكم، وأن لا تجسسوا عليهم
وأن لا تظنوا بهم ظن سوء فمن خدعكم بالله فانخدعوا له، فإن كان صادقاً فالحمد
لله، وإن كان غير ذلك فليس لنا إلا الظاهر وحسابه على الله.
فعليكم أيها العلماء القيام بالوظيفة التي ألزمنا الله وإياكم بها، وأنتم أيها العامة
عليكم أن ترتدعوا عما نهاكم الله عنه، ثم عمَّا نهيناكم عنه.
أيها العلماء: إن الأمر قد جعلناه في ذمتكم فعليكم أن تقوموا بالواجب على
الوجه المشروع، وأن تواسوا إخوانكم أهل بيت الله الحرام وجيرانه بأنفسكم من
النصيحة بالقول والفعل وأن تأخذوا على يد السفيه من كافة أهل نجد وتمنعوهم من
الاعتداء بالقول والفعل إذ ليس لأحد منهم رخصة في ذلك، وإنما على الموظفين أن
يقوموا بوظائفهم حسبما يطلب منهم كما سنبينه.
إن الذي آمركم به أيها العلماء هو أن تجتمعوا مع إخوانكم من أهل البلد
الحرام وترتبوا أناسًا ترتضونهم في أمر دينهم ودنياهم توزعونهم في الأحياء
والأسواق حتى إذا رأوا من أحد كلامًا أو عملاً يخالف المشروع من شرك أو بدعة
أو فسوق أقبلوا عليه ونصحوه بلين ورأفة، فإن قبل منهم المخطئ واستغفر وتاب،
فالحمد لله وهو المطلوب وإن تردد في ذلك وتعنت يأخذونه باللين والهون إليكم
حيث تقيمون عليه بعد ذلك ما يجب سواء بنصيحة أو بأدب وهذا هو الأمر الأول
الذي يجب على الموظفين القيام به.
ثانيًا: عليهم أن يحضوا الناس على صلاة الجماعة وأن لا يتأخر أحد عن
أدائها في المساجد، فمن تأخر لأول مرة نصحوه فإن تكرر منه ذلك رفعوا الأمر إليكم
حيث تنفذون فيه الأمر المشروع.
ثالثًا: أن يراقبوا كافة أهل نجد ويمنعوهم من الاعتداء بالألفاظ كقول جاهل:
يا مشرك أو يا كافر أو يا فاسق، وكذلك يمنعونهم من الاعتداء باليد وغيرها فمن
اعتدى يؤدبونه فإن عاند حملوه إليكم لتنفذوا فيه من العقوبة ما يستحقه عمله أما
عامة أهل مكة:
(أولاً) ترك ما يخالف الشرع من كلام شرك ودعوة غير الله واستغاثة بغير
الله وتوسلات مبتدعة وزيارات القبور أو غيرها بقصد التبرك بها أو طلب شيء
منها؛ لأنه لا يجوز الطلب من غير الله أما الزيارة المشروعة فلا بأس بها ولكن
المحال التي كانت عليها القباب من قبل فدفعًا لشبهة وردًا لحجة جاهل لا نرى
زيارتها، ولو أننا نبرأ إلى الله من تحريم زيارة القبور على الوجه المشروع ولكن
مراعاة قاعدة من قواعد الشرع المشهورة وهي (أن درء المفاسد مقدم على جلب
المصالح) .
(ثانيًا) عليكم بالمحافظة على الصلاة والمبادرة لأدائها مع الجماعة وترك
الأعمال إلى انقضاء الصلاة.
(ثالثًا) عليكم ترك التكلم بالكلام الخبيث الذي ينهى عنه الإسلام.
(رابعًا) عليكم بالامتناع عن جميع الشبهات التي تحرمها الشريعة الإسلامية
من قول وعمل مثل المسكرات أو جنسها والابتعاد عن مواقف الفساد والبعد عن
البغي والمحرمات وترك الربا في جميع مظاهره. وعلى الإجمال أن تجتنبوا جميع ما
حرمته الشريعة الإسلامية فمن اجتنب ذلك فهو أخونا ونحن إخوانه، ومن ترك شيئًا
مِن المأمور به أو فعل شيئًا من المنهي عنه فلا يأمنن العتب ولا يلومن إلا نفسه
ونبرأ إلى الله أن نفعل به فعلاً من تلقاء أنفسنا بل نرد أمره إلى الشريعة المطهرة وننفذ
ما أمرت به فيه.
أما أنتم يا عامة أهل نجد فليشتغل كل بعمله ولا يتعرض لما لا يعنيه وأنهاكم
ثم أنهاكم عن الكلام الفاحش كأن يلعن أحدكم أحدًا أو يتكلم بقول: يا مشرك يا كافر
يا فاسق يا خبيث أو يرفع يده على أحد بضرب أو غيره، فالفاعل لذلك هو مني في
حرج أولاً، ثانياً (إذا) ثبت عندي أنه تكلم بهذا الكلام أو ضرب بيده ولو كان
منكرًا لمنكر فإني مجبر على تأديبه وإصابته بما يضره فإن ادعى المنكر أنه أنكر
عملاً بحديث (من رأى منكم منكراً فليغيره) فهذا صحيح ونقره على ذلك ولكن
يشترط أن يكون الإنكار على وجه المشروع إذ يشترط فيه أولاً أن يكون المنكر متحققًا
من أن الشيء الذي ينكره منكر بالنص، ثانيًا أن يكون عليمًا بما يأمر به عليمًا بما
ينهى عنه، حليمًا فيما ينهي عنه رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهي عنه، فإذا كملت
هذه الخصال الأربع فلينه برفق، ونصيحة، وستر فإن أطاعه المأمور
فالحمد لله وإن أبى أو عاند فلا يتكلم معه بكلام فحش ولا يتجاوز عليه برفع يده أو
غيرها بل يخبر بذلك الموظفين بالأسواق وهم ينظرون في شأن المخالف يرجعونه
إلى العلماء. فمن تجاوز فقد عصى الأمر وجنى على نفسه واستحق التأديب.
وعلى ذلك فقد برئت الذمة بما كلفنا به العلماء وأمرنا به الرعية، فمن رأى ذلك
صوابًا موافقًا للكتاب والسنة فليجتهد في ذلك ونسأل الله لنا وله الهداية والثبات على
ذلك، ومن أنكر شيئًا في هذا أو رأى فيه شيئًا يخالف الكتاب والسنة وما
كان عليه السلف الصالح فليراجعنا فيه، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد أمرت الأمير خالدًا أن ينفذ ما يقرره العلماء وأن يكون خادمًا للشريعة
ويقيم الأمر على المخالف سواء كان من أهل مكة أو أهل نجد. وبهذا برئت ذمتي
وتعلق الأمر في رقاب العلماء أي علماء مكة وعلماء نجد وأكون معذورًا أمام من
جنى على نفسه وخالف الأمر من أهل مكة المكرمة أو من أهل نجد، والرجاء بالله
أن يجعلنا وإخواننا المسلمين من القائمين على النهج القويم والسائرين على الصراط
المستقيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وصلى الله وسلم على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
... ... ... ... ... ... ... 10 شوال سنة 1343هـ
... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود
__________(27/133)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذكرة
مقدمة إلى مؤتمر الخلافة العام
في مصر القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[*]
أيها الإخوة الكرام، الذين اجتمعوا لخدمة الإسلام، بالنظر في مسألة الخلافة
التي هي أهم المسائل الدينية والدنيوية، إن أخاكم هذا قد درس هذه المسألة من جميع
جوانبها الشرعية والتاريخية والسياسية، وألّف فيها كتابًا حافلاً يشتمل على جُلّ ما
يلزم لمن يريد درس المسألة والإحاطة بوجوهها، ثم كتب بعد ذلك مقالات أخرى
فيها عقب إلغاء الحكومة الجمهورية التركية للخلافة العثمانية.
ثم انتظم في عقد مجلس إدارة مؤتمركم هذا الذي قرر دعوتكم إلى هذا
الاجتماع ووضع النظام له، وكان عضوًا في لجانه الفرعية، وهو يعرض عليكم
رأيه فيما يراه أهم مسائل البرنامج الذي وضعه مجلس الإدارة معبرًا عن هذا الأهم
بما يجب على المسلمين عمله والسعي له إذا رأى المؤتمر أن نصب إمام عدل
مستجمع للشروط الشرعية على الوجه الشرعي الذي هو مبايعة أهل الحل والعقد
من المسلمين الموصوفين بالصفات المقررة في موضعها من كتب الشرع لا يتيسر
الآن.
أيها الإخوة الكرام:
إنني قبل بيان رأيي فيما أذكر أقول كلمة وجيزة في رأي سمعته من كثير من
الباحثين والمفكرين وهو: أنه إذا تعذر نصب الخليفة الشرعي الذي هو الإمام الحق
الذي تجب طاعته بمجرد مبايعته الشرعية على جميع المسلمين ملوكهم وأمرائهم
ودهمائهم، ويعد الخارج عن أمره في غير معصية الله تعالى عاصيًا يجب على
المسلمين قتاله إذا كان ذا شوكة - فالواجب في هذه الحالة نصب خليفة مستجمع
للممكن من الصفات والشروط المطلوبة شرعًا كخلفاء دولة آل عثمان التي كان أكثر
المسلمين يعترفون بها، عملاً بقاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور، وقياسًا على ما
أجازه بعض الفقهاء من توليه القاضي المقلد (الذي يعبرون عنه بالجاهل) عند فقد
العالم المجتهد، ويحتجون لذلك بما ورد في الصحيح أن (من مات وليس في عنقه
بيعه مات ميتة جاهلية) ووجوب اعتزال المسلم لجميع فرق المسلمين إذا لم يكن لهم
إمام وجماعة ولو بعضِّه بأصل شجرة حتى يموت على ذلك.
وإنني أشير إلى أهم ما كنت أقوله لهؤلاء (وتجدون له تفصيلاً في كتابي
الخلافة أو الإمامة العظمى) وهو:
1 - إن لبعض الشعوب الإسلامية مبايعًا جماعته يدعون أن بيعته شرعية لا
ينقصها شيء من الشروط الشرعية، ولبعض آخر إمامًا يدعون أنه هو الذي يقيم
الحق والعدل والسنة دون غيره، وإن لم يكن مستجمعًا لجميع ما ذكر العلماء من
الشروط، ولكن سائر الشعوب الإسلامية لا تقر لهؤلاء ولا لأولئك بإمامتهم، فما
الفائدة من مبايعة إمام آخر لا يمكن ادعاء استجماعه للشروط، ولا أن بيعته هي
الصحيحة دون غيرها، وهل تكون البيعة إلا مزيدًا في التفرق والشقاق؟
2 - كما توجد شعوب تدعي وجود الخلافة فيها ويوجد أفراد يدعون الخلافة
ببيعة توجب على جميع المسلمين اتباعهم، وإن كان المعتدون قد فصلوهم بالقوة من
شعوبهم، وهم محمد وحيد أفندي التركي السلطان الأخير من آل عثمان [1] وعبد
المجيد أفندي التركي الذي سُمي خليفة بدون خلافة ولا سلطنة ثم طُرد من قصره
ومن بلاد شعبه، والشريف حسين بن علي الذي كان أميرًا لمكة ثم صار ملكًا
للحجاز، ثم بايعه بالخلافة فريق كبير من أهل فلسطين وسورية بالاختيار، ثم
أهل الحجاز بالاضطرار، فماذا استفاد المسلمون من هذه البيعات؟ وهل من
الحكمة أن يعود فريق آخر إلى مثلها؟
(3) إن خلافة سلاطين بني عثمان لم تكن خلافة شرعية صحيحة بحيث
يعد الواحد منهم إمام المسلمين الحق كما اعترفوا بذلك، وإنما كانت خلافة تغلُّب
يطاع أمر خلفائها شرعًا فيما لا يخالف الشرع لحفظ النظام وإقامة الأحكام واتقاء
الفتنة وسفك الدماء، وقد نقل الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن المتغلبين على
الحكم بالقوة حكمهم حكم البغاة الخارجين على الإمام، فإذا وجد الإمام الحق وجب
عليه قتالهم وإكراههم على طاعته إذا قدر، وإنما كان أكثر المسلمين في غير بلادهم
يعترف بخلافتهم لاعتزاز المسلمين بدولتهم التي صارت الدولة الإسلامية الوحيدة
التي تعترف جميع دول الأرض بها وتحسب حسابًا لجيشها. فكان اعترافًا سياسيًّا
وجدانيًا، أشد المسلمين تعصبًا له وعطفًا عليه، هم المستذلون باستيلاء الأجانب
عليهم. وكانوا يتناقلون أنهم ورثوا الخلافة إرثًا شرعيًّا بنزول آخر الخلفاء
العباسيين لهم عنها، ومن أدلة عامتهم عليها وجود الآثار النبوية عندهم وحفظهم
للحرمين الشريفين. فمجموعة مزاياهم لا توجد في حكومة إسلامية ولا شعب
إسلامي. والمهم منها هو القوة العسكرية المنظمة مع الاستقلال المعترف به من
جميع دول الأرض. على أن هذا كله لم يُخرج خلافتهم من حكم التغلب إلى حكم
الإمامة الحق، ولم ينالوا بها ما كانوا يرجون في الحرب العامة عندما أعلنوا الجهاد
الشرعي.
فتبين بهذه الأمور أن نصب خليفة غير مستجمع للشروط الشرعية ببيعة
صحيحة شرعية لا يكون إقامة للشرع، ولا وسيلة لجمع كلمة المسلمين على إمام
واحد، ولا لاعتراف أكثر شعوبهم به، وانتفاعهم بما عسى أن يوضع من نظام
لخلافته. وبعد هذا التمهيد أعود إلى أصل الموضوع فأقول:
من المعلوم بالقطع أن ذهاب الأصل يتبعه الفرع، وأن لا بقاء للثمرة إلا ببقاء
الشجرة، فإضاعة المسلمين لنظام الإمامة العظمى، وتفريطهم في منصب خلافة
النبوة، أضاع عليهم ما أوجبه الشرع بهذا النظام وجعله ثمرة له، من حراسة الدين،
وعزة الملة والدعوة، ووحدة الأمة، وحفظ مصالحها الدينية والدنيوية. وكل ما
يشكوه عقلاؤهم ودهماؤهم منه في أمورهم العامة من مصالح ضائعة، ومفاسد ذائعة،
وفرائض متروكة، ومحرّمات مستباحة، فهو من فروع ذلك الأصل، ولا سبيل
إلى إقامة تلك المصالح، ودرء هاتيك المفاسد، إلا بإعادة منصب الخلافة النبوية
على وجهه الشرعي الصحيح الذي أجمع عليه سلف الأمة، فإذا تعذر ذلك الآن فما
الذي يجب على زعماء المسلمين الذين يعنون بمصلحتهم العامة من اتخاذ الوسائل
له والتمهيدات لإقامته؟ والذي يطالب هذا المؤتمر بتقريره والسعي لتنفيذه، الذي
أراه أنه يحب السعي إلى إيجاد الوسائل الثلاث الآتية:
***
(1) أهل الحَلّ والعقد:
قد ناط الشرع الإسلامي أمر الحكم والسلطان بالأمة، وجعل إجماعها حجة،
وضمن لها أن لا تجتمع على ضلالة، وإنما يمثل إرادة الأمة ويعرب عن إجماعها
الكلي أو الأغلبي زعماؤها الذين هم محل ثقتها، وأهل الحل والعقد في شؤونها،
الذين تُتّبع جماعتهم في جملة المصالح العامة، وتُتبع الأفراد أو الهيئات الخاصة
منهم من كل نوع منها، كعلماء الدين في الأحكام الدينية، وقواد الجيوش في الأمور
العسكرية، والأطباء في الاحتياجات الصحية، وأولي الرأي والتجارب والمعرفة
في المصالح السياسية والإدارية، والفنيين البارعين في الأعمال الفنية ... إلخ.
ويعتبر في كل فريق من هؤلاء وغيرهم الغيرة على الأمة، والصدق والإخلاص
في خدمتها بحيث يكون موثوقًا عند الجمهور منها.
وقد صرح أعلام الملة من علماء الأصول والفروع بأن مدار انعقاد الخلافة
على بيعه أهل الحل والعقد في الأمة، فهم الذين ينصبون الإمام، وهم الذين لهم الحق
في خلعه عند وجود المقتضي وانتفاء المانع الراجح، فأول ما يجب على أهل العلم
بمصلحة الأمة ذوي الغيرة والرأي من أعضاء مؤتمر الخلافة وغيرهم هو البحث
عن أهل الحق والعقد في كل شعب من شعوب المسلمين حيث وجدوا، والسعي
لإيجادهم حيث فقدوا، ووضع نظام للتعارف والتعاون بينهم، وإعلام الجاهلين منهم
بما أوجبه الله عليهم، فإن أكثر زعماء القبائل البدوية وكثير من البلاد القريبة من
البداوة قد استحوذ عليهم الجهل المطبق، فهم لا يعرفون مصلحة قبائلهم وبلادهم في
دينهم ودنياهم فضلاً عن مصالح الملة العامة، بل أقول إن أكثر زعماء البلاد
الحضرية لا يعرفون أحكام الخلافة الإسلامية ومزاياها التي تفضل بها سائر أنظمة
الحكم في شعوب الحضارة.
(2) النظام الذي يوضع لمعرفة من يوجد من أهل الحل والعقد وأين
يوجدون ومن هم؟ ولإيجاد جماعة منهم بالوسائل العصرية المعروفة في تأليف
الأحزاب والجمعيات والنقابات.
فإنه لا يمكن إيجاد خلافة عامة تعترف بها جميع الشعوب الإسلامية أو أكثرها
إلا بوجود جماعة أهل الحل والعقد في جميعها أو أكثرها، وتعارف هذه الجماعات
أو أكثرها وتواطئهم (أولاً) على نظام للخلافة يناسب حال هذا الزمان (وثانيًا)
على المكان الذي يُختار لنصب الخليفة فيه (وثالثًا وأخيرًا) على الشخص الذي
يُختار للخلافة ثم تبايعه تلك الجماعات.
إذا ابتدأ المسلمون بالسعي لهذا عقب انفضاض المؤتمر، فمن الجائز أن يتم
النجاح في آحاد من السنين، وليس من الكثير أن يحتاج إلى عشرات السنين، ولا
يجوز لهم اليأس إذا لم يتم لهم في العشرات، فإن ما هدم في عدة قرون لا يسهل
إعادة بنائه في أقل منها إلا بتوفيق من الله تعالى.
***
3 - نظام الخلافة المناسب لهذا العصر:
يجب أن يراعى في هذا النظام:
(أولاً) ألا يستطيع الخليفة أن يستبد بالأمر إذا زينت له نفسه ذلك.
(ثانيًا) أن يكون مستجمعًا للشروط الشرعية حتى لا يكون لأحد زعماء
المسلمين عذر في رفض بيعته، أو استحلال عصيانه، وذلك بإنشاء مدرسة يتخرج
فيها الخلفاء والمجتهدون المستجمعون لصفات أهل الحل والعقد شرعًا ولشروط
القضاء الشرعي.
(ثالثًا) أن تبنى الأحكام ونظم الدولة في مملكة الخلافة على التشريع
الإسلامي بنصوص الكتاب والسنة القطعية الجامعة بين العدل والرحمة والمساواة
الصحيحة، وبالاجتهاد في غير القطعي الذي مداره على درء المفاسد، ومراعاة
المصالح، واليسر ورفع الحرج، وإباحة الضرورات للمحظورات، مع تقديرها
بقدرها، وغير ذلك من القواعد العامة الصالحة لكل زمان ومكان.
(رابعًا) أن يكتفي من الشعوب الإسلامية غير الحرة المستقلة في أمرها،
ولا القادرة على اتباع سلطان الخلافة في أحكامها، بأن تكون مرتبطة بمقام الخلافة
في شؤونها الدينية كدعاية الإسلام الدينية المحضة، والدفاع عنه، وصيانته من
الإلحاد والتعطيل، ومن البدع والخرافات، وفي منهاج التعليم الديني، وخطب
الجمعة والأعياد، وغير ذلك من التعاون على البر والتقوى وأعمال الخير البريئة
من السياسة وشبهاتها.
(خامسًا) اتقاء كل ما يُعد عدوانًا على حكومات هذه الشعوب أو حجة
صحيحة لها تحملها على اضطهاد رعيتها، وقطع الصلة الروحية المعنوية بينها
وبين إمام دينها الأعظم.
وإنني مستعد لتأليف رسالة أو كتاب في تفصيل هذه المسائل إذا قررها
المؤتمر لأجل عرضها على المؤتمر الثاني الذي ينعقد بعده، وأختم كلامي باقتراح
عقد مؤتمر آخر لذلك يعين مكانه بأصوات الشعوب والأقطار التي يتألف المؤتمر
من رجالها، بحيث يكون لأهل كل قطر صوت واحد في ذلك، وأحمد الله على
توفيق الأمة لعقد هذا المؤتمر، وأسأله تعالى أن يوفقها في مستقبلها إلى خير مَنّه،
وصلى الله وسلم على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين،
وخلفائه الراشدين، وصحابته المرشدين وسائر الخلفاء وأئمة العلم العاملين،
والسلام على جماعة المؤتمرين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... من أخيهم
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار الإسلامي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بعد تقديم هذه المذكرة للطبع نشرت الجرائد المصرية خبر وفاته رحمه الله تعالى.
(*) (الطلاق: 6) .(27/138)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
بحث في الأغذية والأشربة
ينبغي لنا قبل الخوض في هذه المسألة أن نعرف الأغذية التي تضر بصحتنا
فيجب علينا اجتنابها، نحن نطلق كلمة (الغذاء) على كل ما يدخل الجسم من
طريق الفم، حتى الخمر والحشيش والأفيون والتبغ والشاي والقهوة والكاكاو
والبهارات واللعوقات. إني موقن بأن جميع هذه الأشياء مضرة بالصحة ويجب
تركها بتاتًا وقد علمت ذلك بتجربتي الشخصية وبتجارب الآخرين.
إن الخمر والحشيش والأفيون قد قبحتها جميع الأديان بلسان واحد، ولكن مع
ذلك نرى عدد المجتنبين لها قليلاً بالنسبة إلى المتهافتين عليها، إن الخمر قد أهلكت
بيوتًا وأسرًا بأهلها، والسكير ينال جزاءه في صحته، وهو يعرف بنفسه أنه ينسى
في سكره الفرق حتى بين أمه وزوجته وابنته! إن حياته تصبح ثقلاً محضًا عليه،
والسكارى كثيرًا ما يوجدون ملقين في المراحيض ومجاري المياه الوسخة، وإن
الناس الصحاح الحواس أيضًا يصبحون آلات صماء عاجزة عند ما يتعودون
الشرب، بل إن قواهم العقلية تضعف فلا تؤدي وظيفتها حتى في حالة الصحو.
يقول بعض الناس: إن الخمر غير مضرة إذا استعملت كالدواء، ولكن
حتى الأطباء الأوربيين قد أخذوا الآن يتحولون عن هذا الرأي في أكثر الأحوال،
يقول بعض حماة الخمر بأنه إذا كان يجوز استعمالها كالدواء بلا مضرة، فكذلك
يجوز استعمالها كالسكر أيضًا، ولكنهم ينسون أن كثيرًا من السموم كذلك تستعمل
كالدواء، فهل نتصور أن نستعملها كالغذاء؟ قد تنفع الخمر بعض النفع في بعض
الأمراض، ولكن مع ذلك لا ينبغي لإنسان مفكر عاقل أن يرضى باستعمالها حتى
كالدواء في حال من الأحوال، وإن كان لا بد له من ذلك فالأجدر به أن يفدي بجسمه
الفاني على أن يرضى باستعمال شيء قد جلب الخراب والهلاك على الملايين من
البشر، إن من حسن الحظ أنه لا يزال يوجد في الهند إلى هذا الزمن ألوف مؤلفة من
الرجال والنساء لم يتناولوا ولا قطرة واحدة من الخمر قط، إن هؤلاء الناس
يفضلون الموت على أن يأكلوا أو يشربوا ما يحترزون منه، مهما أمرتهم الأطباء
بذلك.
أما الأفيون فليس أقل ضررًا من الخمر ويجب اجتنابه كما يجب اجتناب
الخمر، ألا نعتبر بأمة عظيمة قوية كأمة الصين قد أصبحت عاجزة عن حفظ
استقلالها بسبب افتتانها بفتنة الأفيون المميتة؟ أولا نرى الأغنياء وأصحاب الأملاك
في بلادنا نفسها قد ضيعوا أملاكهم مفتونين بهذه الفتنة العمياء؟
إن فتنة الدخان كذلك قد نسجت ثوبها السميك على عقول البشر نسجًا محكمًا،
حتى إنه يحتاج لخرقة إلى سعي جيل أو أكثر. فالشباب والشيوخ قد وقعوا في هذه
الفتنة العمياء على سواء، حتى إن أفاضل الناس لا يترددون في استعمال التبغ،
والتدخين يكاد أن يصير طبعًا ثانيًا لنا، ويزداد كل يوم انتشارًا ورواجًا. قليل من
الناس يعلمون الدسائس المتنوعة التي يستعملها صناع السجاير لإيقاعنا في شراك
الدخان أكثر فأكثر، فهم يرشون التبغ بحامض الأفيون وغيره من الحوامض
المعطرة لكي نعاني أشد المصاعب في تحرير نفوسنا من قبضته إذا أردنا ذلك،
وهم كذلك ينفقون الألوف من الجنيهات في الإعلانات، وقد أسس كثير من
الشركات الأوربية للسجائر المطابع، وأعدت لها الصور المتحركة واليانصيب،
وأخذت في تفريق الجوائز، كل ذلك للترغيب فيه. والحاصل أنها تصب المال صبًا
كالماء لنشر دعوتها ونيل بغيتها، بل النساء أيضًا قد أخذن الآن في التدخين، وقد
نظمت القصائد في مدح التبغ، ومجدته الشعراء، ورفعت شأنه، ووصفته
(بالصديق الحميم للفقراء!) .
إن مضار التدخين كثيرة جدًّا لا يتيسر عدها للبيان، والمدخن يصبح عبدًا
خاضعًا للتبغ إلى درجة يفقد فيها كل شعور للحياء والخجل، فهو لا يزال ينفخ
الدخان العفن حتى في بيوت الأجانب! لقد أثبتت التجارب العامة بأن المدخنين
كثيرًا ما يقدمون على ارتكاب الجنايات على اختلاف أنواعها للحصول على الدخان.
فالصبيان يسرقون الدراهم من أكياس والديهم، والمسجونون في السجون يدبرون
الحيل لاستراق السجائر، ويبدون مهارة في إخفائها. إن المدخن يستطيع البقاء
بدون أكل حينًا من الزمن، ولكنه يرى نفسه عاجزًا عن الصبر بدون دخانه! لقد
وجدت الجنود في ميادين الحروب تفقد كل مقدرة على الحرب في أحرج الأوقات
إذا حرمت من السجائر التي قد اعتادتها! .
إن المرحوم الكونت (ليون تولوستوي) الروسي قصّ علينا الحكاية الآتية:
رجل أراد لسبب ما قتل زوجته فاستل مديته وهمَّ بالجناية، ولكن أحس حالاً
بالندامة والأسف فأعرض عنها وجلس للتدخين، فلم يلبث أن غشي مشاعره تأثير
التبغ فقام من فوره مرة أخرى ومضى في جريمته! فاستدل الحكيم بهذه الحكاية
على أن الدخان أشد تأثيرًا على المخ من الخمر، وأكبر خطرًا منها.
ثم إن المَبالغ التي تنفق على السجائر والسيجار كبيرة جدًّا وقد أعرف بنفسي
أناسًا ينفقون على السيجار 75 روبية في كل شهر!
إن التدخين يوجب انحطاطًا كبيرًا في قوة الهضم، فالمدخن لا يشعر بالميل
إلى الغذاء، ولأجل أن يجعله مرغوبًا فيه نوعًا ما يستعمل فيه البهارات ويستعمل معه
المربيات واللعوقات بكثرة، ثم إن نفسه يتعفن ويظهر في بعض الحالات على
وجهة البثور والنفطات، وتسود الأسنان واللثة، بل يقع كثير منهم بسبب هذه العادة
الخبيثة في أمراض خطرة. إن دخان التبغ يعفن الهواء ويفسده فتتضرر بسببه
الصحة العامة ضررًا كبيرًا، وإني لا أستطيع أن أفهم كيف يتجرأ أولئك الذين
يقبحون الخمر على حماية الدخان، وإني لا أتردد في القول بأن الذي لا يجتنب
التبغ في جميع أشكاله لا يمكن أن يكون صحيحًا كامل الصحة.
إن استعمال المسكرات مثل الخمر وغيرها لا يؤدي إلى انحطاط القوى
الجسمية والعقلية وخسارة المال فحسب، بل كذلك يضعف الأخلاق ويقضي على
كل قوة ضابطة للنفس.
نحن نقدم الشاي أو القهوة حتى لأولئك الذين يزورونا بغتة، وإن الدعوات
للشاي أصبحت الآن يومية. قد زاد رواج الشاي في الهند من عهد اللورد كرزون
ازديادًا عظيمًا، وكذلك زاد بترغيبه نتاجه بسرعة حتى أصبح استعماله الآن عامًّا
في كل بيت تقريبًا. لقد عمت هذه الأشياء إلى درجة كبيرة، حتى أصبح المرضى
كذلك يشربون الشاي والكاكاو ويعدونهما من الغذاء المقوي.
إني أؤكد بكل قوة أن الشاي والكاكاو والقهوة كل هذه المنبهات مضرة مفسدة
للصحة على سواء؛ لأنها تحتوي على نوع من السم، مع علمي بأنه لا يوافقني في
ذلك إلا القليل من الناس، أما الشاي والقهوة فإن لم يُخلط معهما اللبن والسكر فليس
فيهما أية مادة مغذية. ولقد ثبت بالتجارب المتوالية الكثيرة أنه لا يوجد في شئ من
هذه الأشياء ما من شأنه إصلاح الدم ألبتة، وقد كنا إلى قبل سنوات نشرب الشاي
والقهوة في مواضع خاصة ولكن قد أصبحت الآن هذه العادة عامة لازمة.
إن من حسن الحظ أن الكاكاو، وإن كان يستعمل في بيوت الأغنياء بكل حرية
إلا أن غلاءه قد حال دون انتشاره يبن العامة كانتشار الشاي والقهوة.
إن الشاي والكاكاو القهوة كلها رديئة لكونها تحتوي على مواد مضعفة لقوى
الهضم، وإن أردت أن تختبر ذلك بنفسك فيمكنك أن تعلمه من هذا الأمر الواقع،
وهو أن الذين تعودوها مرة [1] يصعب عليهم أن يعيشوا بعد ذلك بدونها. لقد
جربت ذلك بنفسي في أيامي الماضية، أيام كنت أستعمل الشاي، فكنت إن لم
أشربه في ساعته المعينة أحس بالكسل والارتخاء في الأعضاء.
قد اجتمعت مرة 400 امرأة وصبي في حفلة، وكان قد قرر القائمون بها أن
لا يقدموا الشاي للمدعوين، فماذا كانت حالة هذه النسوة اللائي كن متعودات على
الشاي في الساعة الرابعة مساءً؟ إنهن بادرن حالاً إلى إعلام أصحاب الحفلة بأننا
إن لم نتناول شاينا المعتاد نمرض ونعجز عن الحركة! فاضطروا هم إلى نسخ
عزمهم، وأمروا بتحضير الشاي، وكان التأخير القليل الذي حصل أثناء التحضير
قد أحدث صخبًا كبيرًا وفتورًا عامًّا في النسوة، ولم يعدن إلى رشدهن إلا بعد
أن شربن الشاي! .
ليست هذه الحكاية وضعية فكاهية، بل واقعة قد وقعت وأنا أشهد بصحتها،
وكذلك رأيت حادثة أخرى مثلها وهي: أن إحدى النساء فقدت جميع قواها
الهاضمة بسبب الشاي وأصبحت فريسة لصداع شديد مزمن، ولكنها منذ الساعة
التي تابت فيها عن استعمال الشاي، أخذت صحتها تتحسن شيئًا فشيئًا. إن طبيبًا
من أطباء بلدية Battersea في إنجلترا قد صرح بعد تحقيق دقيق
بأن فساد القوى العقلية لألوف من نساء تلك الجهة إنما هو نتيجة لانتشار الشاي فيها
انتشارًا عظيمًا. وقد شاهدت أناسًا كثيرين قد فقدوا صحتهم بسبب الشاي.
وقد قال شاعر هندي في وصف القهوة (إنها تزيل البلغم والنفاخ، ولكنها مع
ذلك تضعف الرجولية، وترقق المني، وترقق الدم، ففيها (نفعان وثلاث مضرات) .
ليظهر أن الشاعر قد صدق، فإن للقهوة بعض التأثير في البلغم والنفاخ،
ولكنها في الوقت نفسه تضعف الجسم بالقضاء على المادة المنوية الضرورية،
وترقق الدم فتجعله كالمصل. ونحن نقترح على الذين يدافعون عن القهوة
بنفعها في البلغم استعمال سائل الزنجبيل الذي هو أنفع لهم منها لهذا الغرض،
ومن جهة أخرى لا ينبغي أن ننسى أن إثم القهوة أكبر من نفعها، فإذا كان شيء
يفسد المادة المنوية ويسمم الدم أفلا يجب اجتنابه البتة؟
أما الكاكاو فهو كذلك مضر كالقهوة بل كالشاي، لأنه يحتوي على سم
يضعف إحساس الجلد.
إن الذين يسلمون بقوة الملاحظات الأخلاقية في هذه الأشياء يجب أن يتذكروا
دائمًا أن الشاي والقهوة والكاكاو كلها إنما ينتجها في الأكثر تعب العمال تحت شروط
(التعهد) الذي ليس هو إلا اسم حسن للعبودية، إننا لو نري بأعيننا تلك المعاملة
القاسية التي يعامل بها العمال في بساتين الكاكاو لا نعود إلى استعماله أبدًا، وكذلك
لو كنا نحقق الطرق التي تعالج بها جميع أطعمتنا بالتدقيق لكنا نترك 90 في المائة
منها لا ريب.
إنه يمكن تحضير بدل غير مضر بل صحي للقهوة (والشاي والكاكاو) أيضًا
بكل سهولة، ولا يستطيع حتى الذين ألفوا شرب القهوة كثيرًا أن يجدوا فيه ما
يفرقون به بين طعم القهوة وبينه، يوضع قمح جيد منتقى في مرجل فوق النار
فيقلى حتى يحمر احمرارًا ويضرب إلى السواد، فينزل عند ذلك ويسحق كالبن ثم
إذا أردت أن تشربه فخذ من المسحوق ملعقة وضعها في الفنجان وصب من فوقه
ماءً فاترًا وإن وضعته على النار مدة دقيقة أحسن، وتزيد فيه اللبن والسكر إن
شئت، فإذا شربته تجد شرابًا لذيذًا أرخص وأصح من القهوة.
وأما الذين لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم في إعداد هذا المسحوق فلهم أن
يطلبوه [2] من: Ahmedab Ashram Satiagraha
***
الغذاء
يمكن تقسيم النوع البشري من جهة الغذاء ثلاثة أقسام كبيرة:
(فالقسم الأول) وهو أعظمها الذين يقتاتون بالنباتات وحدها، لرغبتهم فيها
وتفضيلها أو لعجزهم عن الحصول على غيرها. ويدخل في هذا القسم معظم الهند
وكثير من أهل أوربة والصين واليابان، ويجتنب اللحم عدد قليل من هذا القسم
لأسباب دينية، والباقي يرحب به إن وجده، ويدخل في هذا القسم المضطر الطليان
والأيرلنديون وأكثر الاسكوش، وفلاحو الروس المساكين، وجميع أهالي الصين
واليابان تقريبًا، فقوام غذاء الطليان المكرونا، وأهل إيرلندا البطاطس، وأهل
أسكاتليند دقيق الذرة، وأهل الصين واليابان الرز.
(والقسم الثاني) الذين يعيشون بالأغذية المخلوطة، ويدخل فيه أكثر أهالي
إنكلترا والطبقة الغنية من الصين واليابان ومسلمو الهند، وكذلك الأغنياء من
الهندوس الذين لا يرون بأسًا دينيًّا بأكل اللحم. وهذا القسم كذلك كبير وإن كان أقل
من القسم الأول.
(القسم الثالث) سكان المناطق الباردة غير المتمدينين الذين يعيشون على
اللحم وحده. وعددهم ليس بكثير، بل هم أيضًا يضيفون إلى غذائهم النباتات كلما
ازدادوا اتصالاً بالأمم الأوربية المتمدينة، فعلم من ذلك أن الإنسان يعيش على ثلاثة
أقسام من الغذاء. ومن الواجب علينا أن نبحث في الغذاء الأصلح لنا.
إن التحقيق الدقيق في الجسم الإنساني ينتهي بنا إلى الجزم بأن الفطرة
البشرية تقتضي أن يعيش الإنسان على غذاء الثمار وحده. لأن هنالك علاقة قريبة
جدًّا بين أعضاء الجسم الإنساني وأعضاء الحيوانات التي تعيش على الثمار [3] .
فالقرد مثلاً وهو أشبه بالإنسان في شكله وتركيب بنيته، ولا سيما أسنانه
ومعدته يقتات بالثمار وحدها. على حين نرى الحيوانات التي تأكل اللحم كالأسد
والنمر مثلاً تختلف هيئة أعضائها عن الإنسان كل الاختلاف. كذلك يوجد بعض
الاشتراك بين أعضاء الإنسان وبين الحيوانات التي تأكل النباتات كالبقرة ولكن
أمعاءها أكبر من أمعائه، ومخالفته لها في التركيب.
فمن هذا استنتج كثير من العلماء أن الإنسان لم يخلق ليعيش على اللحم ولا
على النباتات، بل على الجذور والثمار.
وقد وجد العلماء بالتجارب أن الثمار تحتوي على جميع تلك المواد التي يحتاج
إليها الإنسان في غذائه، فالموز والبرتقال والتمر والعنب والتفاح واللوز والجوز
والفول السوداني، والجوز الهندي كل هذه الفواكه تحتوي على مقدار كبير من
المواد الغذائية. وقد قال كثير من العلماء بأن الإنسان لا يحتاج بطبعه إلى معالجة
الطعام بالطبخ. وحجتهم في ذلك أنه مثل سائر الحيوانات يستطيع أن يعيش بكل
سهولة على الغذاء الذي تنضجه حرارة الشمس. ثم هم يقولون: إن أكثر المواد
الغذائية تهلك أثناء الطبخ، وأن الأشياء التي لا تؤكل نيئة لا يمكن أن تكون قد
خلقت لغذائنا.
فإن كان هذا الرأي حقًّا فإنا عبثًا نضيع كثيرًا من وقتنا الثمين في طبخ طعامنا
إن كنا نستطيع أن نقتصر على الغذاء المطبوخ فنقتصد وقتًا كثيرًا وقوة كثيرة،
ومالاً كثيرًا، وننفقها جميعًا في الأمور النافعة.
لا ريب أن أكثر الناس يضحكون من ذلك ويسخرون من كل من يظن أن
الإنسان سوف يتعود الطعام غير المطبوخ؛ لأنهم لا يتصورونه يقبل هذا أبدًا. ولكننا
لا نبحث الآن فيما يقبله الإنسان وما لا يقبلونه، نبحث فيما يجب أن يفعلوه. فإننا إذا
علمنا أحسن أنواع الطعام استطعنا بعد ذلك أن نقرب عملنا للمثل الأعلى شيئًا فشيئًا.
نقول: إن الثمار والفواكه أحسن الأغذية ولا نؤمل أن جميع الناس يأخذون
قولنا قضية مسلمة ويقبلون على أكلها وحدها. بل إنما نقصد بذلك أنهم (إن) تعودوا
هذا الغذاء فإنه يكون أحسن لهم وأنفع.
يوجد في إنكلترا كثير من الناس قد اقتصروا على الثمار وحدها ودونوا نتائج
تجاربهم. إن هؤلاء الناس ما اتخذوا هذا الغذاء لأسباب دينية بل من الوجهة الصحية
فقط.
وقد ألف دكتور ألماني كتابًا ضخمًا في الموضوع، أثبت فيه قيمة غذاء الثمار
بكثير من الدلائل والشهادات. وكذلك قد عالج كثيرًا من الأمراض، بوصف هذا
الغذاء مصحوبًا بالمعيشة في الهواء الطلق، وقد توسع في كلامه حتى قال: إن أهالي
كل قطر يمكنهم أن يجدوا جميع المواد المغذية لهم في ثمار قطرهم نفسه.
أستسمح القراء في أن أثبت هنا تجربتي الشخصية في المسألة: إني أعيش
منذ ستة أشهر على الثمار وحدها تاركًا حتى الحليب واللبن الحامض. إن طعامي
الآن يحتوي على الموز والفول السوداني والتمر وزيت الزيتون مصحوبًا ببعض
الفواكه الحامضة كالليمون. وليس في وسعي أن أقول تجربتي قد نجحت تمامًا.
لأن مدة ستة أشهر أقل بكثير من أن تصلح للحكم النهائي في مثل هذه المسألة
المهمة، مسألة تغير الغذاء الإنساني. وكل ما يمكنني أن أقول هو أني قدرت أن
أبقى صحيحًا بينما أصيب الآخرون بأمراض، وأن قواي الجسمية العقلية لأقوى
الآن من ذي قبل، فأستطيع الاشتغال بالشغل العقلي أكثر من قبل مع ثبات وعزم
أكثر. وقد جربت غذاء الثمار في كثير من المرضى مع نجاح كبير مطرد متشابه.
وسأذكر بعض هذه التجارب في فصل الأمراض.
وهنا أقتصر في الكلام على القول بأن تجربتي الشخصية وكذلك مطالعتي في
الموضوع قد زادتني رسوخًا في اعتقادي بأن غذاء الثمار أحسن غذاء للإنسان.
وإني كما اعترفت آنفًا لا أتصور لحظة بأن الناس بمجرد قراءتهم هذا الكتيب
يكبون على هذا الغذاء بل لا أستبعد أن كل ما أكتبه لا يؤثر أدنى تأثير حتى على
واحد من القراء. ولكني أعتقد بأنه مفروض عليَّ أن أقدم إلى الناس كل ما أعتقده
حقًّا حسب علمي ومعرفتي.
وعلى كل حال فمن أراد أن يجرب هذا الغذاء يجب عليه أن يتدرج فيه بكل
انتباه وتحذر لينال أحسن النتائج. يجب عليه أن يطالع قبل البدء في العمل جميع
فصول هذا الكتاب بإمعان ويذعن لقواعد الأصول الأساسية التي بينت فيه.
ورجائي من القراء أن لا يستعجلوا في حكمهم النهائي حتى يفرغوا من سماع كل ما
أريد أن أقوله لهم.
إن الغذاء النباتي أحسن غذاء بعد غذاء الثمار، نحن نطلق كلمة النبات على
جميع أنواع الخضراوات والحبوب وكذلك على اللبن. إن النباتات ليست مغذية
كالثمار؛ لأنها تفقد جزءًا من قوتها أثناء الطبخ ولا بد من طبخها؛ لأنه يتعذر أكلها
نية. لنرى الآن أحسن النباتات وأجودها وأصلحها للغذاء.
إن القمح أحسن أنواع الحبوب. فالإنسان يقدر أن يعيش عليه وحده دون
غيره؛ لأنه يحتوي على القدر المناسب من جميع المواد المغذية. وكذلك يمكن
تحضير كثير من المأكولات منه وكلها يمكن هضمها بسهولة. إن الأغذية المحضرة
التي تباع عند الكيماويين للأطفال يصنع معظمها من القمح. ومثله الدخن والذرة
ويمكن صنع الكعك والخبز منهما أيضًا ولكنهما أقل درجة من القمح في قيمتهما
الغذائية. لنرى الآن أحسن شكل لاستعمال القمح. إن الدقيق الأبيض المطحون في
الطاحونات الذي يباع في أسواقنا غير نافع لخلوه من كل مادة مغذية. وقد قال
دكتور إنكليزي إن كلبًا كان يطعم من هذا الدقيق وحده فمات بعد زمن بينما الكلاب
الأخرى التي كانت تأكل من دقيق أحسن منه قد عاشت صحيحة صحة تامة. إن
إقبال الناس عامة بهذه الرغبة الشديدة على خبز هذا الدقيق ليس إلا لأنهم يأكلون
للاستمتاع ولا يبالون بالصحة مطلقًا. إن هذا النوع من الخبز لا يكون فيه أي طعام
ولا تبقى فيه أي مادة من المواد الغذائية. ثم فوق هذا لا تكون خبزته لينة بل كثيرًا
ما تتطلب التنظيف في الرحى ذات الأسنان في البيت. فيستعمل بدون التصفية
المزيدة. ويكون خبزه حلوًا جدًّا ولينًا للغاية. وهو يبقى أكثر مما يبقى دقيق
الطاحونة؛ لأنه يحتوي على المواد الغذائية أكثر منه ويمكن استعماله في كمية أقل
منه.
إن الأرغفة التي تباع في الأسواق لا فائدة منها أصلاً فهي قد تكون بيضاء
جميلة. لكنها دائماً مغشوش ما فيها. وأقبح ما فيها أنها تصنع من العجين المخمر
الذي قال عنه كثير من الناس بعد التجربة أنه مضر بالصحة. ثم إنها فوق هذا
تصنع في الأفران المطلية بالشحم، وهذا هو مما لا يوافق عواطف الهندوس
والمسلمين على السواء. إن شحن البطن بهذه الأرغفة من السوق عوضًا من خبز
الخبز الجيد في البيت لدليل كبير على الكسل.
ولاستعمال القمح طريقة سهلة غير هذه الطريقة، وهي أن يجرش القمح ثم
يطبخ ويخلط عليه اللبن والسكر. إن هذا يهيئ طعامًا لذيذًا صحيحًا.
إن الرز غذاء غير نافع بالمرة. ومما يرتاب فيه هو هل يمكن للإنسان أن
يعيش بالرز وحده بدون أن يزيد معه الأشياء المغذية كالعدس واللبن، خلافًا للقمح
الذي يمكن الاقتصار عليه وحده حين يغليه في الماء.
نحن نأكل البقول لطعمها فقط، وبما أنها تحتوي على المواد الملينة المسهلة
فهي تساعد في تنظيف الدم إلى حد ما. ولكنها مع ذلك ليست إلا الحشيش في شكل
آخر وعسرة جدًّا في الهضم. أما الذين يكثرون استعمالها فتضعف أبدانهم ويشكون
في أكثر الأحيان سوء الهضم. ويبحثون دائمًا عن العقاقير والمسحوقات الهاضمة.
فعلى هذا إن كان لا بد من استعمالها فيجب الاعتدال فيه.
إن أنواع العدس كلها عسرة الهضم وكل ما فيها من الجودة هو أن الذين
يأكلونها لا يجوعون وقتًا طويلاً ولكنهم في الأكثر يصابون بسوء الهضم. نعم ربما
يستطيع هضمها الذين يشتغلون بالأشغال المتعبة، بل ربما يستفيدون منها بعض
الفائدة، ولكن نحن الذين نعيش عيشة الجلوس والكسل يجب أن نحترس كثيرًا في
أكله.
إن الكاتب الإنكليزي الشهير الدكتور هيج hig يقول لنا على أساس التجارب
المتوالية بأن أنواع العدس كلها مضرة بالصحة؛ لأنها تولد في الجسم الأيسيد aced
الذي يسبب أمراضًا مختلفة ويجلب الشيخوخة قبل أوانها. ولا حاجة إلى سوق
دلائله هنا، فإني متأكد بصحة تجربتي الشخصية، وعلى كل حال فالذين لا
يستطيعون، أو لا يريدون الاجتناب التام عن العدس يجب عليهم أن يأكلوه
باحتراس كبير.
إن البهارات والتوابل شائعة في الهند شيوعًا عظيمًا، خلافًا لسائر العالم،
حتى إن السود من أفريقيا ينفرون من توابلنا، ويرفضون أن يأكلوا طعامنا المخلوط
بالبهارات والبيض لأنهم إذا أكلوا التوابل تفسد معدهم، وتظهر البثور على وجوههم،
كما أني وجدت ذلك بتجربتي الشخصية. والحقيقة أن التوابل ليست لذيذة في
ذاتها في حال من الأحوال، ولكنا قد ألفناها من زمن طويل فيروق لنا طعمها
ورائحتها. وهي مهما تكن لذيذة فإن من الخطأ الفاحش كما قد قررنا آنفًا، أن
نرغب بكل شيء لمجرد طعمه ولذته.
لماذا انتشرت هذه البهارات والتوابل بيننا هذا الانتشار الكبير؟ لا شك أن
السبب الوحيد هو الاستعانة بها على هضم الطعام لنستطيع الإكثار من الأكل، إن
في الفلفل والكزبرة والكمون وغيرها من التوابل قوة كاذبة للإعانة على الهضم
وإيجاد نوع من الجوع الكاذب. ولكن من الخطأ أن يظن المرء من هذا بأن الطعام
كله قد انهضم وتحلل في الجسم. إن الذين يكثرون أكل التوابل يصابون أحيانًا بفقر
الدم وكذلك بالإسهال. إني أعرف رجلاً قد مات في عنفوان شبابه لإكثاره من أكل
الفلفل الأحمر كثرة زائدة. ولذلك يتحتم اجتناب جميع أنواع التوابل بلا استثناء.
كل ما قيل في البهارات يقال في الملح! قد يغضب كثير من الناس لهذا القول.
ولكنه حقيقة قد ثبتت بالتجربة. إن هناك في إنكلترا مذهبًا يجزم بأن الملح أضر
بالصحة من أكثر البهارات. ثم إننا في الحقيقة لا نحتاج إلى الملح الخارجي؛ لأنه
يوجد منه قدر كاف في تركيب النباتات التي نأكلها. إن أمّنا الطبيعة قد أودعت فيها
من الملح القدر الكافي الضروري لبقاء صحتنا. أما الملح الزائد الذي نستعمله فوق
ذلك فلا فائدة فيه أصلاً. بل يخرج كله من الجسم في صورة العرق أو بأشكال
أخرى. وليس جزء من أجزائه يعمل عملاً نافعًا في الجسم على ما يظهره، حتى إنه
قال أحد الكتاب بأن الملح يسمم الدم، وإن الذي لا يأكل الملح مطلقًا يظل دمه
نظيفًا إلى حد أنه لا يؤثر عليه سم الثعبان إذا لدغه. لا نعرف هل هذا حقيقة أم لا؟
ولكننا تيقنا بالتجربة بأن المصابين بالبواسير وضيق النفس إذا تركوا الملح بتاتًا
يستفيدون فائدة ظاهرة. ثم إني ما رأيت ولا واحدًا من الناس تضرر بسبب تركه
الملح، وقد تركته بنفسي من سنين فلم أتضرر بذلك، بل قد استفدت من بعض
الجهات فأنا لا أشرب الآن الماء بكثرة مثل ما كنت أفعل أولاً، وأراني أنشط
وأقوى من ذي قبل. إن سبب هجراني الملح كان عجيبًا جدًّا، وكان ذلك لمرض
شخص [4] قد أمره الطبيب بترك الملح فتركه مكرهًا فخف مرضه، ولكنه لم يزل
تمامًا لأنه عاد إلى الملح مع أنه لو هجره بتاتًا لشفي على ما أعتقد.
إن الذين يتركون الملح، يتركون معه النباتات والعدس أيضًا، نعم هذا أمر
صعب جدًّا كما قد علمت بالتجارب الكثيرة، وإني متأكد بأن الخضراوات والعدس
لا يمكن هضمها تمامًا بدون الملح، وليس معناه أن الملح يصلح قوة الهضم في نفس
الأمر، بل إنما يبدأ بفعل ذلك كما يبدأ الفلفل، وهو مع ذلك يجر إلى النتائج السيئة
في الآخر، لا شك أن الذي يترك الملح بتاتاً يشعر بفتور واسترخاء بضعة أيام،
ولكنه إن ظل ثابتًا في إرادته يستفيد فائدة كبيرة جدًا.
وها أنا ذا أتجرأ الآن على عدّ اللبن أيضا من الأشياء التي يجب تركها! أقول
ذلك عن تجربتي الشخصية التي لا احتياج إلى سردها هنا بتفاصيلها. إن الفكرة
العامة بين الهندوس عن قيمة اللبن فكرة دينية [5] باطلة، ولكنها قد رسخت
أصولها في النفوس حتى إنه ربما كان عبثًا أن نتفكر في قلعها، ولكني كما قد
صرحت أكثر من مرة بأني لا أنتظر من قرائي أنهم يقبلون جميع أفكاري بل لا
أعتقد أن جميع الذين يوافقونني فيها عقليًّا يعملون بها عمليًّا. ولكن مع ذلك أرى أنه
واجب عليّ أن أقول ما أعتقده حقًّا تاركًا لقرائي الحكم. قال كثير من الأطباء أن
اللبن يسبب نوعًا من الحمى، وقد ألفت كتب كثيرة في تأييد هذا الرأي. إن جراثيم
الأمراض التي تعيش في الهواء تمتزج بسرعة وسهولة في اللبن فتدخله وتسممه.
وكذلك تصعب جدًّا المحافظة على اللبن طاهرًا نظيفًا.
وقد وضعت في أفريقيا الجنوبية قوانين متقنة في شأن الملابن مبينة طرق غلي
اللبن والمحافظة عليه، وكيفية تنظيف الأواني وغير ذلك. فما دام اللبن يتطلب هذا
التعب الكبير والاحتياط الشديد، فلا ريب أنه يجب التفكر مليًّا في مسألة استعماله
كمادة من المواد الغذائية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) إن المرة الواحدة لتؤثر هذا التأثير إلا في بعض الأشخاص، فكان يكفي أن يقول: تعودوها فنصدق على مثله من باب قول بعض الفقهاء: العادة تثبت بالمرة، وأنا أقول: إن المرة الواحدة التي جربت بها دخان التبغ في الصغر هي التي صدتني عن الثانية ' وأما الشاي والقهوة فإن شربهما مرارًا كثيرة في كل سنة لم يجعله عادة يصعب عليّ أن أعيش بدونهما فقد تمر أشهر كثيرة لا أشربهما فيها وسبب ذلك أني أشربهما تداويًا أو تغذيًّا في الأكثر لا لأجل تأثيرهما في العصب من غير توقيت إلا ما يكون من شرب الشاي مع طعام الصباح في غير أيام الصيف، وقلما أشربه في
الصيف.
(2) المنار: يوجد بعض الأزهار الخالية من مثل المواد السامة التي توجد في الشاي والقهوة ولا تخلو من تفريح كالزيزفون وهي هاضمة وبعضها أنفع من القهوة للصدر وهي كثيرة ومنها البابونخ المشهور.
(3) المنار: يريد بالثمار ما يشمل الحبوب والفاكهة وكذا البقول أي الأغذية النباتية والثمر في أصل اللغة الحمل الذي يخرجه الشجر وجمعه ثمار.
(4) قد سألنا مهاتما غاندي عن هذا الشخص فأخبرنا أنه زوجته وحكى لنا حكاية مرضها، وقد سردناها في مقدمتنا على هذا الكتاب (المترجم) .
(5) الهندوس يقدسون البقر ويقدسون لبنها (المترجم) .(27/144)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رجال الدين في أمريكا
يعارضون عقد معاهدة مع أمة غير مسيحية
لتعتبر جريدة السياسة، وجمعية الملاحدة بمصر
صرح السناتور بوراه رئيس لجنة العلائق الأجنبية في مجلس الأمة الأمريكي
بعدم موافقته على طلب المائة والعشرة من أساقفة الكنيسة الإبسكوبالية الذين
اقترحوا على المجلس رفض معاهدة لوزان قائلين: إن الرأي الأمريكي العام
معارض لاستئناف علائق ولائية مع أمة غير مسيحية، وقد كتب السناتور بوراه
إلى الأسقف (مانين) كبير أساقفة الكنيسة المشار إليها كتابًا تولت جريدة (البيان)
الأمريكية الغراء تعريبه فيما يلي:
(أعترف مع الشكر بوصول الاحتجاج المذيل بتوقيعك وتواقيع 109 أساقفة
آخرين ضد الموافقة على معاهدة لوزان التي حسبما أعتقد سوف تطرح للبحث
والنظر قريبًا وأنا أشعر بوجوب بذل الجهد لجعل إجازتها أمرًا مقررًا ومعلوم أن
هنالك أسبابًا عديدة مهمة توجب إجازة تلك المعاهدة حسبما يبدو لي. ولكني لو كنت
طالبًا آراء الآخرين في شأنها لكان من الواجب عليّ إبداء مزيد الاحترام لآراء
الأمريكيين المقيمين في تركيا ولهم فيها مصالح مختلفة قبل غيرهم. فهم بجملتهم
حسبما علمت يشيرون بوجوب إجازة تلك المعاهدة.
إن مصالحنا الدينية والتهذيبية والتجارية كلها متحدة ومجمعة على إجازة
معاهدة مع تركيا علمًا منهم بأنها ضرورية لحمايتهم، وما أورده من هذا القبيل هو
من البراهين التي لا ترد ولا تدفع. ولست أرى من الحكمة أو العدل على جانب
الحكومة أن تهمل هؤلاء الناس وما لهم من المصالح المختلفة بدون معاهدة تحميهم،
أو بدون علائق ودية ومعاملات ولائية تتولد كما لا يخفي عن مثل تلك المعاهدة
وتتأيد بها.
ومما هو جدير بالذكر بهذه المناسبة أن كل الدول العظمى في العالم قد
عقدت معاهدات مع تركيا، والمعاهدة الأمريكية التي هي الآن رهن النظر سوف
تعمل على حماية مصالحنا الدينية والتهذيبية والتجارية أسوة ببقية الدول الأخرى،
فلا يكون مجال للقول بأن مصالح الولايات المتحدة غير محمية، أو غير حاصلة
على العناية التي نالتها مصالح الأمم الأخرى. ويكون من الحماقة أن نقف وحدنا
ونأبى عقد معاهدة لأننا لم نحصل على شروط أفضل من التي حصلت عليها بقية
الأمم فإذا فعلنا ذلك نعرض مصالحنا في كل تركيا للأخطار.
وإذا قيل إن من الواجب الحصول على معاهدة أفضل من هذه أقول: إن
هذه المعاهدة هي أفضل ما نستطيع الحصول عليه في هذا الحين. فإذا نفذناها الآن
تكون حسبما أعتقد وسيلة للحصول على أحسن منها في المستقبل. وأما قطع
العلائق بالكلية فلا يكون منه نفع. ذلك فضلاً عن أن كل ما احتوته هذه المعاهدة
موافق لنا مؤيد لمصالحنا. وفي رأيي أننا في قبولنا هذه المعاهدة لا نوافق على
الماضي. ولا نجازف بالمستقبل.
وفي احتجاجكم تقولون بعدم استئناف علاقتنا الولائية مع دول غير مسيحية
وغير تائبة؟ فإنا يا حضرة الأسقف مانين أستحسن أن تعمد حكومتنا إلى إيجاد هذه
العلائق الولائية مع كل الدول وكل الشعوب، لأنه برفضنا العلائق الولائية مع
جميع الشعوب التي ترفض المسيحية. لا تكون حكومتنا تجري على خطة غير
معقولة فقط. بل حسبما أعتقد أنها تكون تهمل الغرض العظيم من مفاد المسيحية في
الشؤون الدولية، ألا وهو إيجاد علائق ولائية ليس فقط مع الدول المسيحية الأخرى
بل بالأحرى مع غير المسيحية منها ذلك لكي ندنيها إلينا بحيث تتماسّ مع التعاليم
المسيحية.
ثم هل يمكننا القيام بخدمة فعلية لأتباعنا في تركيا؟ أو هل نتوقع التمكن من
التأثير على تكييف السياسة على أنموذج إنساني أو سياق ديني في ذلك الإقليم
الخصوصي من العالم إذا نحن قطعنا العلائق مع ذلك الشعب وابتعدنا عن كل ما
يسهّل لنا سبل التأثير النافع على شؤونه؟ وأنت تلفت نظري أيضًا إلى المذابح
التركية. فكلنا نعرف هذه الأمور جيدًا ونأسف لوقوعها، ونرغب في إزالتها أو
تلطيفها في المستقبل على قدر الإمكان، ولكن كيف يتسنى ذلك لنا. بل كيف نتمكن
من إيجاد تأثير إنساني فعال لبلوغ ذلك القصد؟
أنا لا أعرف سوى طريقتين وهما: إما قوة السلاح - وهو أمر أرفضه بتاتًا
أو التوصل إلى ذلك عن طريق الصداقة والموالاة والنفوذ الأدبي. ثم هل أفهم من
كتابكم مع المائة والتسعة أساقفة أنكم ترغبون في إنشاء وطن قومي للأرمن في تركيا
وحماية ذلك الوطن بقوة السلاح؟ وهل تريدون من الحكومة الأمريكية استخدام
الجيش والأسطول لإيجاد ما ترومونه من الصلاح والعدالة؟ أريد أن أعتقد بأنكم لستم
راغبين في شيء من ذلك. فالطريقة الوحيدة إذن هي يجاد علائق ودية بالمعاهدة
تخولنا حق البحث واستخدام وسائل الإقناع والزعامة الأدبية في ذلك السبيل.
أما قطع المعاهدات والعلائق السياسية الولائية فإنه يعرض أتباعنا هناك
للخطر الكبير ويضر بمصالحهم، فلا نعود قادرين على مساعدتهم بغير القليل الذي
نتمكن من القيام به حينًا بعد آخر وعند سنوح الفرصة. ولست أعتقد بأن التركي قد
تغير عما كان عليه بالكلية أو انقلب بطنًا لظهر بين ليلة وضحاها، ذلك لأن الشعوب
لا تتغير كذلك، ولكننا نخطئ كثيرًا إذا أنكرنا التقدم والرقي وغير ذلك
من التطورات التي طرأت على تركيا والبادية في سائر أنحائها اليوم.
إن الشعوب والدول تنزع عنها خصالها وتقاليدها ببطء كما يدل على ذلك
المظهر المخيف البادي في أعمال الدول المسيحية التي من يوم تعلمت تلك الأمثولة
القاسية في الحرب العامة لا تزال مصممة على استخدام القوة بل لا تزال تخصص
الملايين بعد الملايين لكي تبتدع وسائل قتالة وأدوات مدمرة تبغي بها إهلاك
الشعوب المسيحية الأخرى وتدمير عمرانها، وغير خاف أن الحرب العامة لم تكن
بوجه من الوجوه أفضل ما يمكن إيجاده من الأمثولات النافعة لغير المسيحيين من
شعوب العالم (بل بالحري كانت أمثولة رديئة) .
وأعيد ما قد سبقت فقلته وهو أني أظن أن من باب الحكمة والدراية على
جانبنا أن نسعى في إيجاد علائق ولائية وتجارية مع كل الحكومات والشعوب.
وبعملنا هذا لست أقول إننا نكون موافقين على شكل تلك الحكومات أو على
نظرياتهم من حيث طريقة تمدينهم أو ما يفهمونه من حيث واجباتهم الاجتماعية
وعلائقهم أو استحسان تاريخهم الماضي. بل أظن أننا في الجري على هذه الخطة
نكون نسعى في إيجاد الأساس الحقيقي الوحيد للسلام، ووضع الدعائم التي على
مثلها يجب أن يشيد بناء السلم المشمخر الذرى.
وأزيد على ذلك ما أعرفه من أنه لا توجد طريقة أخرى - ما عدا طريقة القوة
القاهرة - بها نتمكن من الاحتفاظ بمهابتنا ومقامنا الدولي والاحتفاظ بقوتنا بين الأمم
حسبما ينبغي، فخلنا إذن نستخدم الطرق الفعالة الوحيدة العاملة للسلام المؤيدة
للأشياء التي بها نتمكن في المستقبل من تغيير ما نريد تغييره.
__________(27/157)
ذو القعدة - 1344هـ
يونيه - 1926م(27/)
الكاتب: عبد الرحمن قراعة
__________
علماء مصر يؤيدون مذهب السلف الصالح
فتوى صاحبَي الفضيلة
الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية
في زيارة القبور والموسيقى وشرب الدخان
أرسل صاحب الجلالة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز وسلطان نجد
وملحقاتها برقية إلى الحكومة المصرية يبسط فيها القول في حكم الشرع في المسائل
الثلاث المتقدمة وغيرها بسبب ما أذاعه دعاة السوء والتفرقة بين شعوب المسلمين
من أن حكومة جلالته في الحجاز ستمنع كذا وكذا، فسألت الحكومة المصرية حكومة
جلالته عما يريد أن يتخذه من الإجراءات مما يتعلق بالحجاج والمحمل على الأخص
فورد عليها جواب جلالته بالبرق وهذا ملخصه كما نشرته جرائد القاهرة قالت:
أما البرقية فطويلة وقد استهل الملك ابن السعود برقيته بشكر الحكومة
المصرية وجلالة ملك مصر وامتداحهما على ما بذلوه من المساعدة للحجاز وأهله ثم
قال: إنهم (أي حكومة مصر وملكها) ذخر الإسلام ولذلك فإنه يرجو أن يكونوا عونًا
له في إقامة ما أمر به كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتكلم عن حالة الأمن واستتبابه في البلاد الحجازية وعدم وجود ما يخشى منه
على سلامة الحجاج وذكر أنه يقابل المحمل وركب المحمل على الرحب والسعة
ويرحب بهم الترحيب اللائق بمقامهم وبمصر وبأهل مصر وبملك مصر ويسمح
بدخول البعثات الطبية كلها.
وذكر أنهم لا يتعرضون لعقائد الناس ولا يتدخلون في معتقداتهم ولكنهم
يمنعون ما لا يقره الدين. وقال: إنهم لا يمنعون أحدًا من زيارة القبور ولكنهم لا
يسمحون بالغلو في ذلك مثل التمسح وتقبيل العتبة والحوائط، فإن الطواف لا يكون
إلا ببيت الله الحرام فقط (أي الكعبة) وقد نهى الأئمة والسلف الصالح عن الطواف
بالقبور.
وتكلم عن الموسيقى والدخان، وذكر أنه يلفت نظر الحكومة المصرية إلى ما
سيذكره في شأنهما ويرجو الموافقة عليه حفاظًا لأواصر الصداقة والود.
وقال عن الموسيقى: إنها ولو كانت مسلية للجند ومنظمة لسيرهم فإنها تلهي
عن ذكر الله في البلاد التي أوجدها الله لذكره. وقال: إنه يقبل مجيئها لغاية جدة فقط
لأن فريقًا كبيرًا من أهل نجد وغيرهم يعدها من الملاهي التي لا يصح استعمالها لا
سيما في أوقات العبادة.
وقال عن الدخان: إنه شجرة خبيثة: يجب أن تطهر منها البلاد المقدسة التي لا
يحرق فيها إلا العود والند والمسك. وذكر أنه منع شرب الدخان جهرًا.
ولما وصل الكتاب إلى وزارة الداخلية المصرية أحالته على صاحبي الفضيلة
شيخ الجامع الأزهر والمفتي؛ لأن ذلك من شأنهما فكان جوابهما ما نصه:
علم ما جاء بخطاب سعادتكم رقم 10 مايو سنة 1926 نمرة 91 إدارة
المرافق له صورة من التلغراف المرسل من حضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز
وسلطان نجد لحضرة صاحب الدولة وزير الداخلية بمصر المطلوب به الإفادة عما
تقضي به الشريعة الغراء فيما اشتملت عليه صورة التلغراف من الموضوعات
والإفادة أيضًا عما يتبع في إقامة الحج أو لا في هذا العام مع ما ذكره حضرة صاحب
الجلالة الملك ابن السعود.
وبالنظر فيه وجدنا أن ما يصلح موضعًا للاستفتاء هو ما جاء بالوجهين
السادس والسابع مما يتعلق بزيارة القبور، والموسيقى، والدخان على الوجه
المذكور بتلك الصورة.
فأما ما يتعلق بزيارة القبور فنقول: إنها مندوب إليها شرعًا بقوله صلى الله
عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) وكان صلى الله عليه وسلم
يزور قبور المسلمين ببقيع الغرقد ويقول (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن
شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية) وكان يزور شهداء أحد على رأس
كل حول ويقول (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) ونقل محشي إمداد
الفتاح عن القهستاني ما نصه: قال في الإحياء: والمستحب في زيارة القبور أن
يقف مستدبر القبلة مستقبلاً وجه الميت وأن يسلم (ولا يمسح القبر ولا يقبله ولا
يمسه) وبين الفقهاء جملة ما يكره عند زيارة القبور ثم أجملوا ذلك بقولهم (وكذا
كل ما لم يعهد من غير فعل السنة) وهي قاعدة كلية ينبغي تطبيقها على أي فعل لم
يعهد في السنة، وقد مثلوا له بالمس والتقبيل، ومعلوم أنه لم يعهد من فعل السنة
الطواف بغير الكعبة.
وأما ما يتعلق بشرب الدخان فنقول: إنه لم يكن موجودًا في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا
في زمن الأئمة المجتهدين، وإنما حدث في القرون الأخيرة واختلف العلماء فيه
اختلافًا كثيرًا، فمنهم من قال بحرمته عملاً بحديث أحمد المروي عن أم سلمة
رضي الله عنها (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) ، وقال
(إنه إن لم يكن مسكرًا كان مفترًا) وجنحوا مع هذا إلى نهي ولي الأمر عنه،
والقواعد الفقهية تقتضي أن ولي الأمر لو نهى عن مباح لمصلحة دينية حرم -
ومنهم من ذهب إلى أنه مكروه نظرًا لما فيه من الضرر الظاهر للأبدان وإضاعة
الأموال. ومنهم من لا يرى أنه مفتر، فقال بإباحته أخذًا بالقاعدة العامة، وهي أن
الأصل في الأشياء الإباحة أو التوقف. ورد على من قال بالحرمة أو الكراهة بأنهما
حكمان شرعيان لا يثبتان إلا بدليل ولم يوجد. والذي يظهر أن أعدل الأقوال هو
القول بالكراهه فينبغي تركه وعدم الإصرار على تعاطيه، فإن الإصرار على
الصغائر يقلبها كبائر.
وأما الموسيقى فحكمها من جهة الإيقاع والاستماع حكم اللهو واللعب والعبث
وهو الكراهة التحريمية، فإن فقهاءنا نصوا على كراهة كل لهو كالرقص والسخرية
والتصفيق، وضرب الأوتار من الطنبور والبربط والرباب والقانون والمزمار
والصنج والبوق فإنها كلها مكروهة تحريمًا، ولم يستثن من ذلك إلا ضرب الدف
في الأعراس والأعياد الدينية، وإلا ملاعبة الرجل زوجه وتأديبه لفرسه ومناضلته
بقوسه.
هذا ونرى أن تأخذ حكومتنا السنية حرسها الله تعالى بتسهيل أمر الحج على
المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله.
مفتي الديار المصرية ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
إمضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ختم
عبد الرحمن قراعة ... ... ... ... ... ... محمد أبو الفضل
__________(27/162)
الكاتب: المغربي
__________
علاقة الأحياء بالأموات [*]
نحن معشر المسلمين اليوم نزور أمواتنا زيارة غير شرعية، ونطلب منهم
ما لا يجوز طلبه إلا من الله، نعم إن هذا لا يفعله خاصتنا وعلماؤنا وأهل الفضل
فينا، ولكن يفعله عامة المسلمين الذين هم إخواننا من رجال ونساء، وهؤلاء العامة
هم ثلث الأمة الإسلامية على أقل تقدير، فهل يجوز لولاة أمورها وخاصة علماءها أن
يروا مائة مليون مسلم ومسلمة على غير الحق والهدى في هذه الزيارة ثم يهملوهم
من الوعظ والإرشاد؟
ألسنا نراهم يطلبون من الأموات أن ينفعوهم ويضروا غيرهم؟ ألا يطلبون
منهم العافية والرزق وأن يُشفى مريضهم ويقهر عدوهم ويرد ضائعهم مما لا يصح
طلبه إلا من الله تعالى؟ تقول: وهل يفعل المسلمون ذلك؟ أقول: نعم، زر السيد
البدوي في طنطا وأبا العباس المرسي في الإسكندرية، والجيلاني في بغداد،
وعبد السلام بن مشيش في مراكش تعلم صحة قولي.
مع أن السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يزورون الأموات ويدعون لهم
ولا يكلفونهم قط ما ليس من وظائفهم. وهذا نبينا وقرة أعيننا وبرد أكبادنا محمد
صلى الله عليه وسلم لم يطلب من جده إسماعيل ولا من جده الأكبر إبراهيم الخليل
مطلبًا ما. وإنما كان يطلب من الخالق الحي سبحانه وتعالى مباشرة من دون واسطة.
أفبعدما أدَّبنا ربنا بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) مقال لقائل؟
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم
فيقول (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ
) ثم يدعو الله وينصرف، وهكذا كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
إن مطالب الإنسان قسمان: قسم من أمور الدنيا جعل الله البشر أنفسهم سببًا
في الحصول عليه فيطلب من البشر: كأن تحتاج إلى قرض فتطلبه من صديقك
الغني أو وظيفة فتطلبها من الوالي، وناظر الداخلية، أو زوجة فتطلبها من وليها
الشرعي في نظير مهر، فإذا لم تطلب هذه المطالب من أربابها، ولم تتوسل إليها
بأسبابها، وإنما تركت الأسباب جانبًا وطلبتها من الله فضلاً عن الأموات لم يقبل الله
ذلك منك؛ لأنك خالفت أمره ودابرت سننه التي بنى حركة الكائنات عليها.
وقسم من المطالب الدنيوية لم يجعل الله له أسبابًا تدخل تحت مقدور البشر، فهذه
المطالب إنما تطلب من الله مباشرة خالق الكل ومفيض الخير على الكل.
وهذه المطالب كتيسير أسباب الرزق والعافية والتوفيق للخير، وكممارسة
الفضائل، والصرف عن الشر ومقارفة الرذائل، وجعل عمرنا طويلاً، وحياتنا
طيبة، وتخفيف سكرات الموت، ودخول الجنة، وتبوأ أعلى درجاتها، وأن
يرزقني أولادًا ويجعلهم سعداء في الدارين، وأن يكف عنا شر الأشرار ... إلخ
فكل هذا مما لا يصلح طلبه إلا من الخالق الحي، فما المعنى لطلبه إذن من
المخلوق الميت المحتاج إلى رحمة من الله وإلى (دعوة) منك.
أصبح الناشئون اليوم بعد أن درسوا العلوم العصرية الفلسفية يشكون والعياذ
بالله تعالى في الخالق الذي:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فكيف يمكننا أن نقنعهم بعبادة ما لا يُعد ولا يحصى من الأولياء الأموات؟ لو
كان الأولياء محصورين في عدد مثلاً لهان الأمر وقلنا للمسلمين الزموا هؤلاء،
ولكن في كل قطر بل في كل بلد بل في كل قرية عدد كبير من هؤلاء الآلهة
الصغار؟ وعلى كل مسلم أن يعتقد فيهم كما يعتقد في خالقه تقريبًا.
والمسلمون اليوم محاطون بالأوربيين الأحرار في أفكارهم وآرائهم، بل إن
كثيرين من الأحرار غير الأوربيين يعيشون بيننا وبعضهم من إخواننا وأبنائنا
وأفلاذ أكبادنا فتكليفهم عبادة أولياء مخلوقين لا يدخلون تحت حصر وقولنا لهم: إن
هذا دين يرضاه الله، لنا تكليف لا يقبلونه وربما أدى الأمر أخيرًا إلى شكهم في الله
نفسه تعالى الله وتقدست صفاته وأسماؤه.
فلا جرم أنَّا إذا اجتهدنا في إثبات الألوهية على أسلوب مقنع نكون خدمنا ديننا
الإسلامي خدمة عظيمة، ولندع الآن تكليفهم عبادة الأولياء فقد كثروا وتراكموا،
والأثقال إذا تراكمت على ظهر الدابة بحيث لم تعد تقدر على حملها تساقطت بنفسها.
وأرى أن مزاعمنا في هؤلاء الأولياء الكثيرين زادت على طاقتنا فلم تعد تطيق
حملها ظهورنا.
لما كنت نزيل القطر المصري ذهبت من القاهرة إلى مدينة طنطا لزيارة
(السيد البدوي) رضي الله عنه، وقد رأيت من جماهير الزائرين ما أنكرته
واستبشعته، فرجعت إلى القاهرة، وكتبت في المؤيد مقالاً بهذا الموضوع منكرًا
محذرًا. وبعد أيام ذهبت إلى دار المرحوم (أحمد بك الحسيني) وكان عنده جماعة
من علماء الأزهر، فجرى ذكر زيارتي للبدوي وما كتبته في المُؤيد بشأنها فأيدني
قوم وخذلني آخرون، وكان أشدهم حملة عليّ وتقبيحًا لقولي أستاذ يقال له (الشيخ
مدوخ) وهو شيخ مبارك طيب القلب سليم النية، أحسن الله جزاءه، فقلت له:
ياحضرة (الشيخ مدوخ) إنما أريد فيما كتبته في المؤيد تصحيح عقائد إخواننا العامة
فلا يشركوا مع الله أحدًا ولا يصبح ديننا بسببهم مضغة في أفواه الإفرنج، فيقولوا عنا
إننا وثنيون ونعبد آلهة كثيرة فلا يعود يسهل علينا بعد ذلك نشر ديننا في العالم، بل
إن طعنهم فينا على هذه الصورة يغري بنا دولهم فيستولوا علينا ويمحونا من العالم
بداعي أننا فاسدون مفسدون. أنت وإخوانك العلماء تعرفون كيف تزورون الزيارة
الشرعية، ولكن لا تكونون ناجين من التبعة فتهملوا تعليم إخوانكم العامة المساكين
وأرشادهم، ألستم أنتم ورثة الأنبياء قد ورثتم محمدًا (صلى الله عليه وسلم) في
تعليم أمته الدين؟ وأن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لبث في مكة قبل الهجرة
نحو عشر سنوات يعلم الناس فقط أن لا يدعوا مع الله أحداً. فليقض كل واحد
منكم سنة واحدة على الأقل في تعليم المسلمين الزيارة الشرعية فلا يدعوا مع
الله أحدًا.
علموهم أن زيارة الأموات والأولياء لأجل الاتعاظ والاعتبار فيرجعوا عن
الشرور، ولأجل تذكر مناقب الولي العظيم فيقتدوا بها، هذا هو المقصود من زيارة
الميت في الشرع، فكيف ساغ لزائري قبر السيد البدوي أن يطلبوا منه ما لا يطلب
إلا من الله، ولعمري إن صنيعهم هذا لا يرضي الله ولا السيد البدوي نفسه.
فاغتاظ مولانا (الشيخ مدوخ) وقال بحدة: إني أخاف عليك يا هذا أن يبطش
بك السيد البدوي. فعجبت لقوله، وعجبت للحاضرين قائلاً: أصحيح أن السيد
يبطش بشخص لم يعمل إلا ما كان هو نفسه في حياته يعمله من وعظ العامة
وإرشادهم وحملهم على التمسك بآداب الدين وفضائل الإسلام؟ فتأثر الحاضرون من
قولي. ثم انفض المجلس وذهبت إلى بيتي، وأويت إلى فراشي ونفسي تهجس بما
كان من الحديث بيني وبين (الشيخ مدوخ) وقوله لي: إن السيد سوف يبطش بي.
ثم نمت فرأيت فيما يرى النائم كأني في دار السيد أحمد بك الحسيني وعنده خلق
كثيرون، وفي صدر المجلس شيخ جليل كأنما القمر يتلألأ في وجهه. قيل لي: إنه
السيد أحمد البدوي. فخطر ببالي للحال (الشيخ مدوخ) وأنه لا بد أن يكون حكي له
خبري معه، وكان الأمر كما قدرت، فإن السيد ما وقع نظره علي حتى تبسم وهز
رأسه كالمعاتب اللائم. فأسرعت إليه وانكببت على يديه أشمهما وأقبلهما. وجعلت
أحلف بالله وبجده صلى الله عليه وسلم [1] أني لم أتفوه بكلمة تمس مقامه الكريم
(وأن الشيخ مدوخ) بلغه خلاف الحقيقة، وأن حضرات علماء الأزهر الذين كانوا
حاضرين في المجلس مثل الشيخ بخيت والشيخ البيجرمي والشيخ سليمان العبد
يشهدون بصحه قولي، ثم قلت له بإخلاص واحترام: لا أظنك أيها السيد ترضي أن
ينزلك عامة المسلمين منزلة الرب إلهك، إنني يا سيدي أحبك ولكن أحب الحق
أكثر منك. وأحترمك ولكن أحترم ديني أشد من احترامي لك. أزور قبرك وأذكر
مناقبك وأتعظ بموتك، وأقرأ الفاتحة وأبعث بثوابها هدية إلى روحك الطاهرة [2]
ولكن لا أطلب منك نفعًا في مقابل هذه الهدية التي أرسلتها إليك؛ لأن إعطاء الهدية
بمقابل مخالف للآداب الإسلامية، والسجايا العربية.
أنك يا سيدي لو سمعت من زائريك استغاثاتهم، وابتهالاتهم، وتكاليفهم لك
بتفريج كرباتهم وقضاء حاجاتهم، مقتّهم وعذرتني، إنهم يا سيدي يعتقدون في
أحجار قبرك وفي الأستار الملقاة على ضريحك تأثير الحب والبغض، والشفاء
والمرض، والغنى والفقر، والنفع والضر.
فتغير وجه السيد وجعل يلحظ (الشيخ مدوخ) شزرًا، فانبسطت أنا حينئذ
بعد الانقباض وتفتحت في الكلام فقلت: إن عبد الله بن سبأ اعتقد في جدك أمير
المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب أن فيه شائبة ألوهية فنفاه إلى مصر ثم إلى
المدائن، فما كنت أنت صانعًا في هؤلاء الذين يعتقدون فيك ما يعتقدون في الرب
معبودك؟ فقطّب السيد وزوى حاجبيه وقال: لو أطلقت يدي فيهم لنفذت عليهم
حكم الشرع، ثم التفت السيد رضي الله عنه إلى السادة العلماء وقال لهم عجبًا:
كيف تسربت هذه الضلالات إلى العامة وأنتم فيهم؟ ثم كيف تغافلتم عنهم حتى
خرجوا في الاعتقاد فينا وفي زيارتنا عن حدود السنة وآداب الشريعة؟ وكيف
تلاهيتم عنهم فجعلوا ينسبون إليّ من الأعمال ما لا يصح ويعملون في مولدي من
الآثام ما لا يجوز؟ لماذا لم تفهموهم أن طريقتنا نحن معاشر الأولياء هي الكتاب
والسنة، وأن الذي يرضينا منهم إنما هو العمل بأحكام الشريعة كما كنا نعمل في
حياتنا.
ثم التفت السيد البدوي إلى شاب حسن الطلعة قاعد في طرف المجلس وقال له
قم يا بني فاقرأ على الحاضرين ما ألقيته عليك وعلى رفاقك المريدين في هذا
الصباح، فقلت لمن بجانبي ومن هذا الشاب؟ قال هو عبد العال أكبر تلامذة السيد
البدوي، فأخرج الشاب من جيبه كراسة فقلب فيها ثم قرأ بصوت جهوري ما يلي:
(يا عبد العال أشفق على اليتيم، واكس العريان، وأطعم الجيعان، وأكرم
الغريب والضيفان عسى أن تكون عند الله من المقبولين) .
(يا عبد العال: أحسنكم خلقًا أكثركم إيمانًا بالله تعالى، وإن الخلق السيئ يفسد
العمل الصالح كما يفسد الخل العسل) .
(يا عبد العال: هذه طريقتا مبنية على الكتاب والسنة، والصدق والصفا،
وحسن الوفا، وحمل الأذى، حفظ العهود) .
(يا عبد العال: لا تشمت بمصيبة أحد من خلق الله، ولا تنطق بغيبة ولا
نميمة ولا تؤذ من يؤذيك، واعف عمن ظلمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وأعط
من حرمك) .
(يا عبد العال: أتدري من هو الفقير الصادق؟ هو الذي لا يسأل أحدًا،
ويعمل بالكتاب والسنة) .
(يا عبد العال: إن شروط طريقتنا أن لا يكذب المتبع لها، ولا يأتي بفاحشة
وأن يكون غاضّ البصر عن محارم الله، طاهر الذيل عفيف النفس، خائفًا من الله
عاملاً بكتاب الله، ملازمًا للذكر، دائم الفكر) .
(يا عبد العال: من لم يكن عنده علم لم تكن له قيمة في الدنيا، ولا في
الآخرة)
ثم سكت عبد العال وجلس، فالتفت السيد إلى الحاضرين، وقال هذه هي
طريقتنا يا قوم وهذه هي آدابنا وهذا ما نريد من أحبابنا ومريدينا أن يقولوه ويفعلوه،
فمن أين جاءوا في حقنا بهذه الغرائب والعجائب؟ وكيف أنزلونا منزلة الرب خالقنا؟
تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
عندها نهض (الشيخ مدوخ) وقال بتأثر وانفعال: يا أيها السيد إن المسلمين
الذين يزورونكم إنما يستشفعون بكم إلى ربكم ويتبركون تبركًا بلثم أحجار ضريحكم
ويدعون الله تعالى ثم ينصرفون وليس في فعلهم ما يخالف الشرع ولا آداب السنة
ولا هو مما يسمى عبادة.
فالتفت السيد إلي كأنه يستفهم مني عما قاله (الشيخ مدوخ) فقلت له يا سيدي
يمكنني أن أرد على الشيخ مدوخ بأن العامة الذين يزورون قبور الأنبياء والأولياء
نسمعهم بآذاننا يدعونهم بأسمائهم قائلين افعلوا كذا واصنعوا كذا.
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث البراء بن عازب رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الدعاء عبادة) وفي رواية (الدعاء
مخ العبادة) والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة يمكن أن نحتج بها على الشيخ مدوخ
ولكن هو أيضاً يمكنه أن يرد علينا مؤولا تلك الأحاديث، ومفرغًا لها في القالب
الذي يريده، فتحتدم بيننا نار الجدال على غير طائل وربما أدى الأمر أخيرًا إلى
المراء والمماحكة والمهاترة، وهذا لا يليق بمجلسك الكريم. فإن استحسنت ذهبنا
جميعًا إلى طنطا فنزور المقام الأحمدي ترى بعيني رأسك ما يفعله المسلمون حول
قبرك. فقال لقد أحسنت بالرأي أحسن الله إليك بالجنة، وصلنا إلى طنطا ودخلنا
المقام الأحمدي ومعنا (الشيخ مدوخ) فإذا رجل فلاح هرم متمسك بأستار القبر وهو
يبكي ويستغيث ويقول: يا سيدي ويناجي أحجار القبر بكلام غير مفهوم. فأشار إلي
السيد أن أسأله عن قصته فسألته فدفعني في صدري وقال اذهب عني يا شيخ.
فعدت إليه وتلطفت له في السؤال ففهمت منه أن جاره حرق بيدره وذبح بقرته فهو
يطلب من السيد إما الانتقام من الظالم أو التعويض عليه ببيدر آخر وبقرة أخرى.
فاربد وجه السيد عند سماع كلام الفلاح وسكت على مضض. ورأينا رجلاً آخر من
الزائرين يحك ظهره بقفص قبر السيد فقال: إنه وقع على ظهره وهو يسقي زرعه
بالشادوف فجاء يستشفي بقفص السيد.
وهناك امرأة تولول وتذرف الدموع الغزار وتهتف بالسيد. وتطلب منه أن
يهلك ضرتها ويجعل زوجها يطلقها ويحبها هي ويرزقها غلامًا ذكرًا من أهل الحياة
ورأينا رجلاً كهلاً ببنطلون أسود وجاكيت سوداء وطربوش يدعو بالقرب من السيد
ويلحّ إلحاحًا منكرًا. فإذا هو من موظفي الحكومة وقد أحالوه على المعاش فهو يطلب
أن ينظر السيد في حالة ومستقبل عياله. عندها ضاق صدر السيد البدوي، ولم يعد
يطيق الصبر على ما سمع من هذا اللغط والهذيان والتفت إلى (الشيخ مدوخ) قائلاً:
ما هذه المطالب؟ وما هذه التكاليف؟ وما هذه الزيارة التي تقول إنها شرعية؟
وهل نحن الأولياء المستغرقين في جلال ربنا فارغو القلب لقضاء كل هذه اللبانات
والحاجات؟ أليس الله الحي الذي بيده مفاتيح الخير والشر والنفع والضر بأقرب إلى
هؤلاء الشاكين من حبل الوريد؟ فسكت (الشيخ مدوخ) وعليه علائم الحيرة
والارتباك والخجل.
وبينما نحن نسمع كلام الشاكين ودعاء الملحين إذا برجل معمم آخذ بتلابيب
رجل آخر يظهر من قيافته أنه غريب وهما يتنازعان ويتدافعان فسأل السيد: ما
خبرهما؟ فقيل له: إن الأول المعمم مزور يعلم الناس الزيارة ويأخذ منهم أجرة،
وهذا الغريب يقول له: إنه يعرف آداب الزيارة فهو يريد أن يزور بنفسه من دون
معلم وأنه لا يستحل أن يؤدي دراهم تلقى في (صندوق الزيارة) الموضوع في
جانب المقام فقامت قيامة السيد (رضي الله عنه) وغضب غضبًا شديدًا وقال: يا
سبحان الله. كل هذا يجري على مراقدنا. وفوق رؤوسنا؟ إلى هذا الحد بلغ
الأمر بالمسلمين أن يتخذوا قبورنا حوانيت للتجارة وأجسامنا بضاعة للاستغلال؟
فوق اتخاذهم لها أوثانًا؟ نحن كنا في الحياة الدنيا نعادي المال ولا نجعل أجسامنا تتمتع
به أكلاً ولبسًا وادخارًا أفيجوز أن تُجعل أجسامنا عدوة المال شباكاً للمال،
ووسيلة من وسائل جمع الحطام؟
ثم تراءت لنا من بعيد صحيفة ملقاة في داخل القفص المعدني الذي فيه قبر
السيد فاقتربنا منه وتناولنا الصحيفة وإذا فيها قصيدة [3] غراء بإمضاء مفتي مصر
الشيخ (بكري الصدفي) يشكو إلى السيد البدوي من شيخ الأزهر الشيخ عبد
الرحمن الشربيني ويستعديه عليه ويطلب منه أن يعجل في عزله من وظيفة مشيخة
الأزهر وهي مذيلة بإمضاء رافعها حضرة مفتي مصر المومأ إليه، وهذه هي القصيدة
مع مقدمتها:
(التجاء واستنجاد برجل الفتوة طويل النجاد، وإمام الأولياء، وسراج
الأصفياء، الغوث الأوحد سيدي وولي نعمتي البدوي أحمد دامت إمداداته، وعمت
في الدارين بركاته:
آمين آمين لا أرضي بواحدة ... ... حتى أضم إليها ألف آمينا
***
أيرضيك يا غوث الورى وإمامهم ... غبينة أهل الحق والحق ظاهر
تعدى لئيم القوم وأشتد بغيه ... وجاء بكل الحقد وهو يجاهر
أتى بالمعاصي معلنًا، وهو يدعي ... مكانة دين قيم، وهو فاجر
وساعده حزب على شكله سعوا ... بكل فساد أوضحته الكبائر
فضلوا جميعًا عن طريق رشادنا ... وأزهرنا منهم غدا وهو صاغر
فجئنا حماكم نرفع الأمر سيدي ... ونطلب دين الله، والله ناصر
وأنتم إمام الأولياء ولا مرا ... وأنت غياث الملتجى وهو حائر
إذا كان يا مولاي أزهر ديننا ... تدور عليه في الضلال الدوائر
فأين يكون الدين يا سيد الورى ... وأين يكون العدل والعدل عاطر؟
فها قد بسطنا بعض شأن نريده ... وثم أمور قد حوتها الضمائر
فمنها دخول في البقا وهداية ... لأقوم طرق الله وهي المفاخر
وصحة جسم للذين أحبهم ... كذلك لي في العز والعمر وافر
ونصر على الأعداء وجاه مؤبد ... وفوز مبين دائما يتقاطر
وتيسير ما أرجوه في كل مطلب ... وسكنى جنان الخلد حيث الأكابر
ورؤية خير الخلق جهرًا بسرعة ... فها قد مضى عمري وقل الناصر
فقل يا طويل الباع: ها قد أجبتكم ... بكل الذي ترجون والله جابر
وصل على المختار ربي مسلمًا ... كذا آله ما قام بالذكر ذاكر
... ... ... كتبه عبد الإحسان الواقف بالباب الراجي سرعة الجواب
... ... ... ... ... ... بكري محمد عاشور الصدفي
فجعل السيد البدوي يقرأها وجميع بدنه يرتجف من التأثر والانفعال والتفت
إلى (الشيخ مدوخ) فلم يره لأنه كان قد تسلل لواذًا حين رأى الورقة ملقاة في داخل
القفص، وكأنه كان يعلم أن سماحة المفتي هو الذي أرسل من ألقاها ثمة، عندها ضاق
صدر السيد من هذه المناظر المحزنة، والأعمال الممقوتة فتنفس الصعداء وقال:
وأين ولاة أمور المسلمين وعلماء الإسلام العقلاء وذوو الغيرة على الدين؟ لماذا لا
يصلحون هذه الشؤون، ويجتهدون في تقويم اعوجاج العامة ويربون أولادهم تربية
إسلامية قبل أن يتلقحوا من آبائهم بلقاح هذه المنكرات والآثام؟ فما هذه الغفلة؟ وما
هذا الإهمال؟ فقلت يا سيدي: إن كثيرين من المسلمين لا سيما محبيك ومحبي
إخوانك، أهل الله المقربين ينتظرون منكم أنتم إصلاح أحوال الأمة الإسلامية
وجمع ما انتشر من أمرها.
قال: منا نحن؟ قلت نعم!
قال: منا نحن؟ قلت نعم!
قال: وكيف ذلك؟ قلت: إنهم يعتقدون أن الأبدال والأنجاب والأقطاب وسائر
أهل الله لهم مجالس باطنية، واجتماعات برزخية ينظرون فيها في أمور المسلمين
وما يطرأ عليهم من الحوادث فيذللون صعابها ويحلون مشكلاتها ثم أن أهل الظاهر
بعد ذلك - وهم الحكام والأمراء والسلاطين - ينفذون ما أبرمتم وقررتم في عالم
الغيب.
فبهت السيد لما سمع مني هذا الكلام وكاد يغشى عليه من شدة الغيظ والحنق،
ثم قال: ويحكم ومن أخبركم أننا ندبر أموركم ونعمل في مصالحكم ونحن في
مراقدنا؟ وأية سنة أو قرآن أو شريعة أتت بذلك؟ أما قال جدي المصطفى
صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،
وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له بخير) هذا هو عملنا الذي يصلح أن ينسب
إلينا بعد الموت بشهادة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم فكيف تنتظرون منا أن
نعمل في تدبير ممالككم، ونشتغل في قيادة جيوشكم؟
ثم نظر إلىَّ نظر المرتاب في قولي فقلت كلا أيها السيد لا تظنني مغاليًا. فإن
أهل مراكش كانوا يعتمدون في دفع الفرنسيس على روحانية سيدي
(عبد السلام بن مشيش) وأهل بخارى كانوا يثقون كل الوثوق بوليهم المعروف
بـ (منلا غوث الله) ومنه كانوا يستمدون المعونة في دفع غائلة الروس.
قال: ثم بعد ذلك صار ماذا؟ قلت: إن الروس تغلبوا على بخارى ودمجوها
في مستعمراتهم، أما مراكش فلا نعلم ماذا يكون من حالتها إلا بعد انقضاض
مؤتمر الجزيرة المنعقد في هذه الأيام من أجل النظر في مشكلتها وتحديد مناطق
نفوذ الدول الأفرنجية فيها. عندها سمعت السيد يتلو قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ
وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118) ثم تنهد تنهدًا عميقًا وقال:
يا سبحان الله، إن أعظم حادثة طرأت على المسلمين في صدر الإسلام هي
حادثة الردة، وما سمعنا أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم
أجمعين انتظروا حل مشكلتها من حضرة نبينا المصطفى (صلى الله عليه وسلم)
وهو في قبره الشريف، ولم يطلبوا المدد والمعونة من شهداء بدر، ولا شهداء أحد
وهم أفضل الخلق أجمعين، بعد الأنبياء والعشرة المبشرين، وإنما رجع سيدنا أبو
بكر والصحابة في حل مشكلة الردة إلى الله الحي الباقي وإلى العمل بالقرآن
والشريعة فاتحدوا وأجمعوا أمرهم، ثم أقاموا حكم الله في المرتدين فانطفأت فتنتهم،
وانحلت مشكلتهم، وكذلك السيدة عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) لم ترجع
في وقعة الجمل وحل مشكلة الخلافة إلى زوجها (صلى الله عليه وسلم) ولا إلى
أبيها أبي بكر بعد موتهمها وهما أفضل الخلق أجمعين. وإنما رجعت إلى اجتهادها
وعزيمتها وشدة عصبية الجيش الذي معها، وكذلك سيدنا علي بن أبي طالب لم
يرجع فيما عرض له من الأمر إلا إلى القرآن والشريعة ومنعة المسلمين وحميتهم.
هذا ما كان يفعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يطرأ عليهم
من الخطب الجسيم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم لم أنشب أن استيقظت من نومي وعدت إلى أشغال يومي.
... ... ... ... ... ... ... ... دمشق الشام ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المغربي
__________
(*) تلا هذه المحاضرة منشئها الأستاذ المغربي في قاعة المحاضرات في كلية الصلاحية الإسلامية بالقدس على هيئة إدارتها وطائفة من أساتذتها والجم الغفير من طلبتها وذلك في سنة 1334هـ.
(1) الحلف بغير الله منهي عنه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله) رواه النسائي عن ابن عمر.
(2) هذا ليس من السنة فإنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعله أو يأمر به، بل هو من البدع المحدثة التي كان يجدر بالكاتب إنكارها كغيرها اهـ مصححه.
(3) هي القصيدة التي أشار إليها الأستاذ صاحب المنار في تعليقه على فعال (الطريقة التيجانية) في الجزء العاشر سنة 1344هـ منه فقد قال: أخبرني الثقة أن أحد كبار علماء الأزهر نظم قصيدة يشكو فيها للسيد البدوي سعاية بعض أعداءه لإغضاب أمير البلاد عليه ويطلب منه إنقاذه من شر هذه السعاية وإرضاء قلب الأمير عليه.(27/165)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة مجموعة مقالات
الوهابيون والحجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،
والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، الذي أكمل الله تعالى
ببعثه الدين، وما أرسله إلا رحمة للعالمين، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على
الكافرين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، ومن
تبعهم في هُدى الله وهدي رسوله إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد علم من سنة الله تعالى في خلقه، مصداقًا لما بينه الله تعالى في
كتابه أن هداية الرسل للأمم تكون على أكملها فيمن اتبعهم في عصرهم والأعصر
التالية له، وكلما تراخى الزمان ظهر الفسق والعصيان، ونجمت قرون البدع،
وفشا التحريف والتأويل، وكثر ما يكرهه الله سبحانه من القال والقيل.
وقد قصّ الله علينا في كتابه من أخبار الأمم مع رسلهم عامة وأخبار أقربهم
منا في الزمن وهم اليهود والنصارى خاصة ما فيه العبرة والذكرى لنتقي التهوك [1]
فيما تهوكوا فيه قبل أن يقع، ولنكون على بصيرة من ديننا فيه إذا وقع، وقد
علم سبحانه وأعلم رسوله أنه واقع لا محالة؛ لأن سنن الله تعالى مطردة لا تبديل لها
ولا تحويل، وهو صلوات الله وسلامة عليه قد أعلمنا بذلك لنكون على بصيرة من
أمرنا فيه، ولا يلتبس علينا الحق بالباطل كما التبس عليهم، فقال: (لتتبعن سنن من
قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول
الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ متقاربة.
وقع ذلك كله حتى عم البلاد الإسلامية، والأكثرون من المسلمين يجهلون ذلك
فهم لا يشعرون أنهم غيروا وبدلوا، وحرفوا وأولوا، وأحدثوا وابتدعوا، وفسقوا
عن أمر ربهم، وأن ما نزل بهم من الذل وضياع الملك، واستيلاء الأجانب على
أكثر بلادهم، عقوبة من الله تعالى على ابتداعهم وفسقهم، كسنته فيمن قبلهم، قال
الله تعالى في أوائل سورة الإسراء {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ
فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا
أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ
وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ
أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 4-8) .
وإن كثيراً منهم ليعلمون هذا بالإجمال حتى إن خطباء مساجدهم ليقولون من
أعلى منابرهم: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
وأمثال هذا القول - ثم لا يحمل هذا العلم ولا هذا التصريح به على عمل،
ولا على ترك زلل، بل هم يعادون كل من دعا إلى السنة، ويصرون على ما ألفوا
من البدع الدينية؛ لأنها دخلت عليهم من باب الدين، وفتنوا بمن عمل بها ممن
يلبسون لباس الصالحين، حتى إنهم إذا اعترفوا بأنها بدع قالوا: إنها بدعة حسنة،
خلافًا لقول رسولهم الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثة بدعة، وكل
بدعة ضلالة) .
وخلافًا لقول الله عز وجل: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وجهلاً
بكون البدعة التي تنقسم إلى حسنة وسيئة لا تكون في التشريع الديني
والزيادة في العبادات أو التصرف فيها بجعل ما ليس بشعار شعارًا، وإنما تكون
فيما وراء ذلك من الأمور الموكولة إلى اجتهاد الناس من الأعمال والمصالح الدينية
والدنيوية كابتداع آلات للقتال تزيد في قوة الأمة على حفظ دينها ودنياها، الذي يدخل
في عموم قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:60) وكتعبيد
الطرق وتسهيل سبل المواصلات للمنافع الدينية والدنيوية المشروعة ولا سيما
طريق الحج بإنشاء السكك الحديدية وأمثالها، وكتأليف الكتب المفيدة في ضبط
لغة الدين (العربية) وغيرها من العلوم الشرعية أو الفنون العلمية النافعة.
ومما خص الله تعالى به هذه الأمة المحمدية أن الكتاب المنزل لهدايتهم من
عند الله تعالى قد نقل بالتواتر القطعي حفظًا في الصدور وكتابة في المصاحف، فلم
يضع ولن يضيع منه كلمة ولا حرف واحد، ولم يتغير ولن يتغير منه لفظ واحد،
وأن السنة المحمدية وسيرة سلف الأمة الصالح قد رويتا بالأسانيد ودونا في الكتب
بعناية يسهل معها التمييز بين الصحيح وغيره متنًا وسندًا، ولولا هذا وذاك لضاع
ديننا كما ضاعت أديان من قبلنا، حتى أقرب الناس منا تاريخًا، فقد طرأ على
كتبهم التحريف بالزيادة والنقصان والتغيير، وفقدت أصولها التي كتبت في عهد من
أوحيت إليهم وليس لشيء منها أسانيد متصلة بهم.
ومما خص الله به هذه الأمة أيضًا أنها لا تجتمع على ضلالة وأنه لا يزال
طائفة منها ظاهرين على الحق، وأن الله تعالى يبعث منها مجددين لأمر الدين، كما
ورد في الأخبار المرفوعة من صحيحة وحسنة ثبتت صحة معانيها بالفعل. وقد
كان انتفاع جماهير المسلمين بهؤلاء المجددين المصلحين يختلف باختلاف أحوالهم
وأحوال أهل عصورهم في العلم والعمل والقوة والضعف في رسوخ التقاليد
والبدع.
وكان من أجِلّتهم في القرون الوسطى قدرًا، وأنبههم ذكرًا، شيخ الإسلام أحمد
تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى فقد آتاه الله من المواهب ما يندر أن يجتمع
لأحد من البشر: سرعة الحفظ وعدم النسيان وقوة الاستحضار، وقوة الاستنباط
وقوة الاستدلال، حفظ القرآن وما روي من تفسيره من الأحاديث المرفوعة وأقوال
الصحابة والتابعين، حفظ كتب السنة وأقوال رجال الجرح والتعديل في أسانيدها،
حفظ ما يروى عن الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار من الآثار في العقائد
والآداب الدينية والأحكام الشرعية، نظر في كتب المذاهب المدونة وأدلتها، فكان
يستحضر ذلك كله عند التأليف أو الإفتاء، قرأ كتب الملل والنحل، ومقالات فرق
الإسلام وكتب المنطق والفلسفة والكلام والتصوف، ثم تصدى بذلك كله للرد على
النصارى وأهل البدع، وألف في ذلك المصنفات الدالة على سعة اطلاعه وقوة
حجته، ووجه جل عنايته لنصر السنة وترجيح مذهب السلف على كل ما خالفه من
أقوال المتكلمين والمتصوفة حتى المنسوبين إلى السنة منهم فلم يدع بدعة ولا قوة
تخالف الكتاب والسنة، ولا سيرة سلف الصالح إلا وبين بطلانها وضلال أهلها،
مميزًا بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهداية والضلالة، والطاعة
والمعصية، ولم يقتصر في ذلك على تصنيف الرسائل والكتب الممتعة، والفتاوى
المفصلة، بل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويناظر المخالفين،
ويستتيب المبتدعة والفاسقين، لا يحابي حيًّا ولا ميتًا لكبر شهرته، ولا لكثرة
أتباعه، ولا لضخامة ألقابه، وكان مع هذا كله من أعبد العباد، وأفراد الزهاد،
وقد حل من المشكلات، وكشف من المشبهات وفند من التأويلات، ما عجز عن
مثله فحول العلماء، وضل به كثير من المتكلمين والصوفية والفقهاء.
وقد تلقى عنه وتخرج به كثير من العلماء المحققين في علوم الشرع كلها
أشهرهم وأقربهم منه العلامة ابن القيم صاحب التصانيف التي نالت من القبول فوق
ما ناله كتاب عند الجمهور لأسباب أهمها لين عبارته، وخفة وطأته على المخالفين
ولا سيما بعض أكابر المتكلمين والصوفية.
هذا وقد شهد لشيخ الإسلام أكابر العلماء المنصفين ولا سيما حفاظ الحديث بما
لم يشهدوا به لغيره من أهل عصره حتى اعترفوا له بالاجتهاد المطلق، وتصدى
لعداوته وإيذائه وصده عن نصر السنة وإحياء مذهب السلف الصالح بعض كبار
العلماء الرسميين، المقربين من الملوك والسلاطين، المفتونين بتأويلات المتكلمين
والجامدين على أقوال أمثالهم من مفقهة المقلدين، حتى كان أقوى ما آخذوه به
تفسير الآيات والأحاديث الصحيحة الواردة في صفات الله تعالى وعلوه على خلقه
بما فسرها به علماء السلف حتى أئمة المذاهب المتبعة، وطلبوا من السلطان
استتابته من قراءة هذه الآيات والأحاديث على الناس! ! فأوذي وحبس في هذه
السبيل بما هو معروف في كتب التاريخ، وظل أخلاف أولئك المقلدين الجامدين
يصدون الناس عن كتبه إلى أن أحياها الله تعالى في بلاد نجد بظهور المجدد الداعي
إلى الله تعالى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأحفاده وأنصارهم من آل سعود
أمراء نجد في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، ثم في نهضة
الإصلاح الجديدة بمصر والهند وغيرهما من البلاد الإسلامية في عهدنا هذا من
القرن الرابع عشر، فإن كتبه صارت تطبع وتلاقي من الرواج والانتشار عند أولي
الاستقلال في الفهم، والاهتداء بالعلم ما لا يلاقي غيرها في موضوعها إلا كتب
تلميذه ووارث هديه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
وكان الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله مجددًا للإسلام في بلاد نجد بإرجاع
أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة على طريقة شيخ
الإسلام ابن تيمية، وإنما كان نجاحه سريعًا بتأييد آل سعود له ومنعهم إياه ممن
يريده بسوء، وما كان آل سعود أقوى شيوخ عشائر نجد وأمرائها، ولكن الله
نصرهم بنصر دينه، فكان من أمرهم ما كان من فوز وفلاح، ثم من بلاء وامتحان
ثم ما كان من رد الله الكرة لهم في هذه الأيام، ذلك بأن أمراء مكة المفسدين في
الأرض، الملحدين في الحرم، قد تصدوا لمقاومة دعوة الإصلاح والتجديد الوهابية
من بدء ظهورها، فأذاعوا في العالم الإسلامي كله أنها دعوة كفر وابتداع وعداوة
للمسلمين والإسلام، كان مقامهم بمكة المكرمة مسهلاً لهم ذلك وصدقهم أكثر الناس
الذين هم أتباع كل ناعق، وسعوا لحمل الدولة العثمانية على قتال آل سعود وهي
استعانت على ذلك بالدولة المصرية العلوية الجديدة، ولسنا بصدد بيان الماضي هنا
وإنما نحن بصدد بيان عاقبة أمرهم وأمر أمراء مكة المعروفين بالشرفاء.
أما الدولة العثمانية فقد استمرت على معاداة آل سعود زهاء قرن كامل
لاعتقادها أنهم يريدون تأسيس دولة عربية قوية تزيل ما لهم من السلطان في جزيرة
العرب ويتبع ذلك هدم الخلافة التركية، ثم ظهر لها أن مصلحتها تقضي بالاتفاق مع
آل السعود والاعتراف لهم بسيادتهم على نجد وملحقاتها حتى ما كان بيد الدولة منها
ففعلت ذلك، وعلم بذلك أنها لم تكن تعاديهم لسبب ديني كما كان يظن الجاهلون.
وأما أمراء مكة المعروفون بالشرفاء فظلوا على ضلالهم في الطعن على دين
الوهابية وافتراء الأكاذيب عليهم، وكان أشدهم إسرافًا في الطعن وفي عداوة آل
سعود الأمير حسين بن علي، ولما خلص أمر الحكم في الحجاز له وحده بتقلص
ظل الدولة العثمانية عنه واعتراف الإنكليز وأحلافهم بالملك له عليه ظن أن الفرصة
قد سمحت له ومكنته من الاستيلاء على نجد وجعلها تابعة لملكه الوهمي، فما زال
يكيد ويدس الدسائس لآل سعود حتى آل تحرشه بهم وإلحاده في الحرم إلى زحف
السلطان عبد العزيز آل سعود على الحجاز وإنقاذه من هذا الطاغوت الذي لقب
نفسه بالمنقذ ومن أولاده المفسدين.
كان هذا الزحف مغريًا لدعاة الملك حسين في مصر بتجديد الطعن في الوهابية
ومنبهًا لأذهان الناس، ومرغبًا لها في البحث عنهم، ومعرفة كنه حالهم وحال
حسين معهم، فرأينا أن من الواجب علينا أن نبين لهم ما عندنا من العلم بذلك في
جريدة يومية واسعة الانتشار، فأنشأنا بضع مقالات نشرناها في جريدة الأهرام
اليومية وفي مجلة المنار، كان لها من حسن الوقع والتأثير، ووقوف الجماهير على
حقيقة أمر الوهابية فوق ما كان ينتظر، فعلموا أن هؤلاء النجديين المنبوذين بلقب
الوهابية سُنِّيُّون مستمسكون بمذهب السلف في العقائد، وبمذهب الإمام أحمد بن
حنبل في الفروع، وأنهم أشد شعوب المسلمين في هذا العصر اتباعًا، وأبعدهم عن
الابتداع وارتكاب المعاصي، ولهذا كان نصر الله تعالى لسلطانهم على الشرفاء
عظيمًا، ولولا معرفة حالهم لكان استيلاؤهم على الحرمين الشريفين خطبًا أليمًا.
ولقد كان هذا النصر المبين مصداقًا لقول الله تعالى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) ولقوله {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)
كما كان سرور المسلمين المستنيرين به دليلاً على أن الاستعداد للإصلاح الإسلامي
الحق بالتوحيد الخالص وترك البدع والخرافات والتقاليد الوراثية الباطلة قد صار
الآن أقوى مما كان في عهد النهضة الأولى للوهابية.
على أنه لا يزال للوهابية خصوم من أهل البدع والخرافات، ومن المنهمكين
في المعاصي والشهوات في مدن الحجاز، لأن حكومتهم منعت النوعين كليهما.
ولم يكن لهؤلاء حجج فيما مضى إلا الافتراء عليهم، وكان كثير من الناس
يصدقونهم فيهم لأنهم لم يعرفوا حقيقة حالهم، لأنهم يعيشون بمعزل، وقل أن يسافر
أحد إلى بلادهم، أما وقد أصبحوا في الحجاز فسيراهم الألوف من جميع الشعوب
الإسلامية في كل عام، ويستغنون عن التعريف بهم، وعن الشهادة لهم.
وقد رأيت أن أطبع طائفة من مقالات (الوهابيون والحجاز) في رسالة
مستقلة لأنها تعد فصلاً من فصول هذا الانقلاب التاريخي في الحجاز بل في الإسلام
ليطلع عليها بعض من لم يقرأها في الأهرام ولا في المنار، ففعلت وعلى الله
توكلت، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً} (الطلاق: 3) .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
__________
(1) التحير والتهور والوقوع في الشيء بغير مبالاة، اهـ قاموس.(27/176)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
مسألة صفات الله تعالى
وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات
جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام
تقي الدين أحمد بن تيمية [1]
رحمه الله تعالى
(والقسم الرابع) شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع
الشريعة الأمرية ولا مع القدر الكوني، وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون
قبل القدر من توكل واستعانة ونحو ذلك، وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك
فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني
أربعة أقسام.
(أحدها) أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم - أهل السعادة
في الدنيا والآخرة -.
(والثاني) الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم
من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض
ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه.
(والثالث) قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون
على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على آلامهم في
مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون
على ذلك في طلب ما يجعل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب
الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر
عليها كثير من الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم
يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والألم. وهؤلاء هم
الذين يريدون علوًّّا في الأرض وفسادًا من طلاب الرياسة والعلو على الخلق،
ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة
وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من
المأمور وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من
المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.
وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام: لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا
بل هم كما قال الله تعالى {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا
مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 19-21) فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم
إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك
وحبوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل
وتعظيم المسئول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا وأقلهم رحمة
وإحسانًا وعفوًا، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقايق الإيمان أبعد
مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان
متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار
بالحقائق، فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا
الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما
يظهرونه منه؛ بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو
أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار، في
الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقول في خطبته (خير الكلام
كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل
بدعة ضلالة) وإذ كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله
عليه وسلم - فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو
به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق،
والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر
الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه
كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك، وقد
ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر
به العبد على عدوه من الكفار والمحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من
المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى {بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم
مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران:
125) . وقال الله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) . وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ
مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 118-120) وقال إخوة يوسف له {أَئِنَّكَ لأَنْتَ
يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموما
ًوخصوصاً فقال تعالى {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ
الحَاكِمِينَ} (يونس: 109) وفي اتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقاً لخبر الله
وطاعة لأمره، وقال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ
الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
المُحْسِنِينَ} (هود: 114-115) وقال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (غافر: 55) . وقال تعالى
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ
اللَّيْلِ} (طه: 130) . وقال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ
عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) . وقال تعالى {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) . فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر
وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها. فإن
القسمة أيضاً رباعية؛ إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم
من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن،
ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر
ويرحم كما قال الفقهاء في صفة المتولي: ينبغي أن يكون قويًا من غير عنف، لينًا
من غير ضعف، فبصبره يقوى وبلينه يرحم، وبالصبر يُنصر العبد، فإن النصر مع
الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما
يرحم الله من عباده الرحماء) وقال: (من لم يرحم لا يُرحم) ، وقال: (لا تنزع
الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم
من في السماء) والله أعلم. انتهى.
***
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لمَّا
قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار، وعليها العمل عند أئمة
المسلمين لقوله - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من
بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة
بدعة وكل بدعة ضلالة) وقوله صلى الله عليه وسلم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي
بكر وعمر) لأن هذا صار إجماعًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه، من كتاب الله وسنة رسوله،
وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة.
منها ما رواه سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة قال: كتب
عمر حين صالح نصارى الشام كتابًا وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدنهم ولا ما
حولها ديرًا ولا صومعة ولا كنيسة ولا قلاية لراهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا
يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعموهم، ولا يؤوا جاسوسًا
ولا يكتموا غش المسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركًا ولا يمنعوا
ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من
مجالسهم إن أرادوا الجلوس ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم من قلنسوة
ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجًا ولا يتقلدوا
سيفًا ولا يتخذوا شيئًا من سلاح ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور،
وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على
أوساطهم، ولا يظهروا صليبًا ولا شيئًا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين ولا
يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربًا خفيًا ولا يرفعوا
أصواتهم بقراءتهم في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين،
ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما
جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا شيئًا مما اشترط عليهم فلا ذمة لهم، وقد
حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وأما يرويه بعض العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آذى
ذميًّا فقد آذاني) فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من
أهل العلم، وكيف ذلك؟ وأذاهم قد يكون بحق وقد يكون بغير حق بل قد قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} (الأحزاب: 58)
فكيف يحرم أذى الكفار مطلقاً وأي ذنب أعظم من الكفر؟ ولكن في سنن أبي داود
عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يأذن لكم
أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب أبشارهم، ولا أكل ثمارهم
إذا أعطوكم الذي عليهم) وكان عمر بن الخطاب يقول: أذلوهم ولا تظلموهم.
وعن صفوان بن سليم عن عدة أبناء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا من ظلم معاهدًا أو
انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم
القيامة) وفي سنن أبي داود عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على مسلم جزية، ولا تصلح قبلتان بأرض) وهذه من الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتنوعة
وغيرها في كتبهم واعتمدوها فقد ذكروا أن على الإمام أن يلزم أهل الذمة
بالتمييز عن المسلمين في لباسهم وشعورهم وكتبهم وركوبهم، بأن يلبسوا ثوبًا
يخالف ثياب المسلمين كالعسلي والأزرق والأصفر، والأدكن ويشدوا الخرق في
قلانسهم وعمائمهم والزنانير فوق ثيابهم، وقد أطلق طائفة من العلماء أنهم
يؤخذون باللبس وشد الزنانير جميعًا، ومنهم من قال: هذا يجب إذا شرط عليهم، وقد
تقدم اشتراط عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك عليهم جميعًا حيث قال: ولا
يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوه ولا غيرها من عمامة ولا نعلين
إلى أن قال: ويلزمهم بذلك حيثما كانوا ويشدوا الزنانير على أوساطهم.
وهذه الشروط يجددها عليهم من يوفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين كما
جدد عمر بن عبد العزيز في خلافته وبالغ في اتباع سنة عمر بن الخطاب حيث
كان من العلم والعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله بها عن غيره من الأئمة
وجددها هارون الرشيد وجعفر المتوكل وغيرهما وأمروا بهدم الكنائس التي ينبغي
هدمها كالكنائس التي بالديار المصرية كلها ففي وجوب هدمها قولان ولا نزاع في
جواز هدم ما كان بأرض العنوة إذا فتحت ولو أقرت بأيديهم لكونهم أهل الوطن كما
أقرهم المسلمون على كنائس بالشام ومصر ثم ظهرت شعائر المسلمين فيما بعد في
تلك البقعة بحيث بنيت فيها المساجد فلا يجتمع شعائر الكفر مع شعائر الإسلام
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع قبلتان بأرض) ولهذا شرط عليهم
عمر والمسلمون أن لا يظهروا شعائر دينهم.
وأيضًا فلا نزاع بين المسلمين أن أرض المسلمين لا يجوز أن تحبس على
الديارات والصوامع، ولا يصح الوقف عليها بل لو وقفها ذمي وتحاكم إلينا لم يحكم
بصحة الوقف فكيف نحبس أموال المسلمين على معابد الكفار التي يشرك فيها
بالرحمن ويسب الله ورسوله فيها أقبح سب؟ وكان من سبب إحداث هذه الكنائس
وهذه الأحباس عليها شيئان أحدهما أن بني عبيد الله القداح الذين كان ظاهرهم
الرفض وباطنهم النفاق يستوزرون تارة يهوديًّا وتارة نصرانيّا واجتلب ذلك
النصراني خلقاً كثيرًا وبنى كنائس كثيرة.
والثاني استيلاء الكتَّاب من النصارى على أموال المسلمين فيدلسون فيها على
المسلمين ما يشاءون والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية.
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة فيمن يفعل من المسلمين مثل طعام النصارى في النيروز ويفعل سائر
المواسم مثل الغطاس، والميلاد، وخميس العدس، وسبت النور، ومن يبيعهم شيئًا
يستعينون به على أعيادهم، أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئًا من ذلك أم لا؟
الجواب:
الحمد لله، لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا
من طعام، ولا من لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة
أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحلّ فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على
ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار
زينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم
عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصه،
وأما إذا أصابه المسلمون قصدًا فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف، وأما
تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى
كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر. وقال طائفة منهم من
ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرًا وقال عبد الله بن عمرو بن العاص من
تأسى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو
كذلك، حُشر معهم يوم القيامة.
وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: (نذر رجل على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إني نذرت أن أنحر إيلاً ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان
فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: فهل كان فيها
عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك، فإنه
لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) . فلم يأذن النبي صلى الله عليه
وسلم أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبًا حتى أخبره أنه لم يكن
بها عيد من أعياد الكفار وقال: (لا وفاء لنذر في معصية الله) فإذا كان الذبح
بمكان كان فيه عيدهم معصية فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟ بل قد شرط عليهم
أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا
أعيادهم في دار المسلمين وإنما يعملونه سرًّا في مساكنهم، فكيف إذا أظهرها
المسلمون؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تتعلموا رطانة الأعاجم
ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم، إذا كان
الداخل لفرجة أو غيرها نُهي عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم فكيف بمن يفعل ما
يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في
قوله تعالى {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (الفرقان: 72) قالوا: أعياد الكفار فإذا
كان هذا في شهودها من غير فعل فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها؟
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: (من
تشبه بقوم فهو منهم) وفي لفظ (ليس منا من تشبه بغيرنا) وهو حديث جيد فإذا
كان هذا في التشبه بهم وإن كان في العادات، فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك.
وقد كره جمهور الأئمة إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه أكل ما ذبحوه لأعيادهم
وقرابينهم إدخالاً له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب، كذلك نهوا عن
معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا
للنصارى شيئًا من مصلحة عيدهم لا لحمًا، ولا دمًا ولا ثوبًا، ولا يعارون دابة ولا
يعاونون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم،
وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك؛ لأن الله تعالى يقول {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ثم إن المسلم لا يحل
له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك فكيف على ما هو من شعائر
الكفر، وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو، فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك.
والله أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قاله
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن تيمية
تمت
_______________________
(1) تابع لما نشر في العدد الماضي ص 106.(27/182)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر: مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ: عبد الرزاق المليح آبادي
ثم فوق هذا يتوقف نقاء اللبن وعدمه على علف البقرة وحالتها الصحية. وقد
حقق الأطباء بأن الذين يشربون لبن البقرة المسلولة يقعون بأنفسهم فريسة لهذا الداء
الوبيل: ومن الصعب جدًا العثور على بقرة صحيحة. وعلى هذا فاللبن النظيف تام
النظافة ربما لا نعثر عليه إلا بعد عناء شديد، لأنه كثيرًا ما يفسد في نفس منبعه.
كل واحد يعلم أن الطفل الذي يرضع لبن أمه المريضة قد يصاب بمرضها. وكثيرًا
ما نرى الأطباء يعطون الدواء للأمهات إذا أصيب أطفالهن بمرض. وذلك لأن
تأثيره يصل إلى الطفل من طريق ثدي أمه، وهكذا تمامًا تتوقف صحة الرجل الذي
يشرب لبن البقرة على صحتها. فإذا كان شرب اللبن محاطًا بمثل هذا الخطر الكبير
أفليس من الحكمة تركه بتاتًا؟ سيما إن كنا نجد أشياء كثيرة تقوم مقامة، فهذا زيت
الزيتون مثلاً يؤدي هذه الوظيفة إلى حد، واللوز الحلو بدل قوي جدًا للبن إذا وضع
في الماء الساخن وأزيل قشره، ثم سحق جيدًا ومرس ومزج مزجًا، فهو يهيئ
شرابًا محتويًا على جميع مزايا اللبن وسالمًا في الوقت نفسه من جميع مضاره.
لنتدبر في المسألة من جهة سنن الطبيعة: إن العجل لا يرضع لبن أمه حتى
تظهر أسنانه، فإذا ظهرت حجر اللبن واكتفى بالعلف، هذا يدل دلالة واضحة بأن
الطبيعة تطلب من الإنسان أيضًا أن يكون كذلك. فهي ما أرادت منا أن نشرب
اللبن حتى بعد أن نجتاز سن الطفولية. يجب علينا أن نتعود المعيشة على الثمار
مثل التفاح واللوز، أو على خبز القمح إذا ظهرت أسنانًا. وينبغي أن لا تبرح من
فكر القارئ الفوائد الاقتصادية التي نجنيها بتركنا اللبن. وكذلك لا احتياج إلى أي
أكل من المأكولات التي تصنع من اللبن. فعرق الليمون الحامض بدل جيد للبن
الحامض. أما السمن فألوف مؤلفة من اليهود حتى الآن يستعملون مكانه الزيت.
أما اللحم فقد أثبت الفحص الدقيق في الهيكل الإنساني أنه ليس بغذاء طبيعي
للإنسان. والدكتور هيج والدكتور كنجز فورد قد أظهرا بكل وضاحة مضارّه في
جسمنا. فأثبتا أن الآسيد الذي يولده العدس في الجسم يولده اللحم أيضًا. وكذلك
يسبب الأمراض في الأسنان والروماتيزم في الجسم ويحرك الأميال الرديئة -
كالغضب - التي قد قررنا أنها ليست إلا صورًا للأمراض. وقد أخذ بعض آكلي
اللحوم يهجرونها ويعودون إلى الغذاء النباتي البحت ويحثون عليه، الأمر الذي له
معنى كيبر يستحق التأمل فيه.
أما الذين يقتصرون على اللحم وحده فحالتهم من الرداءة بحيث لا تحوجنا إلى
البحث فيهم حتى إنا لو نراها مرة بأعيننا لن نأكل اللحم أبدًا. إن الذين يقتصرون
على اللحم لا يمكن أن يقال عنهم: إنهم أصحاء البنية. ولذلك تراهم بمجرد تقدمهم
وتعلمهم القليل يقللون من أكله ويرغبون في النباتات.
فنتج من كل ذلك أن عدد الذين يعيشون على الثمار وحدها قليل جدًّا، ومن
السهل جدًا المعيشة على الغذاء المركب من الثمار والقمح وزيت الزيتون، الغذاء
الذي يساعد مساعدة كبيرة في تقوية الصحة.
إن الموز له المقام الأول في الفواكة ولكن التمر والعنب والبرقوق والبرتقال
وأمثالها من الثمار كلها مغذية تمامًا ويمكن تناولها مع الخبز. إن الخبز لا يفسد
طعمه إذا بُل بزيت الزيتون، ثم إن هذا الغذاء لا يحتاج فيه إلى الملح
والفلفل واللبن والسكر، وتحضيره سهل جدًّا ورخيص. إن أكل السكر وحده حماقة
والإكثار من الحلويات يضعف الأسنان ويضر بالصحة. إن المأكولات الجيدة التي
يمكن صنعها من البر والثمار جامعة بين الصحة واللذة.
أما المسألة الأخرى، وهي البحث في كمية الغذاء وأوقاته يوميًا فلأنها مهمة جداًّ
نخصص لها بابًا مستقلاًّ.
***
الباب السادس
ما هو المقدار الذي يتناول من الغذاء؟
وكم مرة يجب أن نأكل؟
بين الأطباء اختلاف كبير في مقدار الغذاء الذي يجب أن يتناوله الإنسان فقال
دكتور يجب أن يأكل أكثر ما يستطيع أكله. ثم ذكر مقادير الأطعمة المختلفة التي
يمكن أن تؤكل. وقال دكتور آخر: إن غذاء العمال يجب أن يختلف في مقداره
ونوعه عن غذاء المشتغلين بالأعمال العقلية ويعارضهما دكتور ثالث بقوله: إن
الأمير والفلاح وكل الناس يجب أن يأكلوا مقدارًا واحدًا من الطعام، إن ما لا يصح
النزاع فيه هو أن الضعيف لا يمكنه أن يتناول المقدار الذي يتناوله القوي. وكذلك
غذاء النساء يكون أقل من الرجال ومثلهن الصبيان والشيوخ يأكلون أقل من الشباب
وقد توسع كاتب حتى قال لو مضغ الطعام جيدًا بحيث تمتزج كل ذرة منه باللعاب
فعند ذلك لا تحتاج إلى أكثر من أوقيتين أو أربع أوقيات من الغذاء. قال الدكتور
هذا القول بعد أن جرب تجارب لا تحصى، وقد بيعت نسخ كتابه ألوفًا مؤلفة. فظهر
من كل ذلك أن البت في تعيين مقدار الغذاء ليس من الحكمة في شيء.
إن أكثر الأطباء يسلمون بأن تسعين في المائة من الناس يأكلون أكثر من
حاجتهم. لا ريب أن هذه حقيقة واقعة يمكن مشاهدتها كل يوم وإن لم يعلن عنها
الأطباء.
إن الصحة لا تتقهقر من (قلة الأكل) بل من الضروري جدًّا للمحافظة عليها
تقليل مقدار الأكل الذي نأكله.
وإن من المهم جدًّا، كما قلنا آنفًا، مضغ الطعام جيدًا لتستفيد المواد الغذائية
الكثيرة من طعام قليل. إن المجربين من الناس قد بينوا بأن براز الذي يأكل طعامًا
نافعًا غير كثير ويكون قليل المقدار متماسكًا بعضه ببعض ولينًا ذا لون قاتم وخاليًا من
كل رائحة خبيثة، فالذي ليس برازه هكذا ليعلم أنه يكثر من طعام غير نافع ولا
يمضغ كما ينبغي. وكذلك الذي يشكو الأرق أو ينام نومًا متقطعًا مقلقًا بالأحلام أو
يجد صباحًا على لسانه اللعاب متجمدًا، فهو كذلك يرتكب جناية الإكثار من الأكل.
وإن كان يقوم في الليل مرات عديدة للتبول فمعناه أنه أكثر في الليل من أكل الأشياء
السائلة الرقيقة. فبهذه وغيرها من التجارب يستطيع الإنسان أن يعرف بالضبط
المقدار الذي يحتاج إليه من الغذاء. يصاب كثير من الناس بعفونة في نفسهم،
فهذه العفونة دليل على أن طعامهم لم ينهضم تمامًا. ثم إن كثرة الأكل تسبب أكثر
الأحيان ظهور البثور على الوجه وفي داخل الأنف وتولد الريح في بطون كثير من
الناس. إن أصل هذه المصائب كلها، بكلام صريح، هو أننا قد جعلنا بطوننا
مزبلة، فنحن نحمل هذه المزبلة معنا في كل مكان.
كلما نتفكر في الأمر بجد لا نتمالك من استقباح عملنا هذا استقباحًا شديدًا ولا
سبيل إلى التخلص من جناية كثرة الأكل إلا بأن نعاهد أنفسنا عهدًا أكيدًا بأن لا
نشترك في العزائم والولائم على اختلاف أنواعها. نعم يجب الاعتناء بالضيوف
ولكن ذلك لا يخرج بنا من حدود قوانين الصحة. هل خطر في بالنا مرة أن ندعو
أصحابنا لينظفوا أسنانهم معنا أو ليشربوا كوبة من الماء عندنا؟ أليس الأكل شديد
العلاقة بالصحة مثل هذه الأشياء؟ فلماذا نحن نحدث لأجله كل هذه الضجة الكبيرة؟
لقد أصبحنا نهمين بالعادة حتى أن لساننا لا يزال يتوق إلى ألوان كثيرة جدًّا من
الطعوم في كل حين. فلذلك نرى من واجباتنا المقدسة أن نملأ بطون ضيوفنا
بأطعمة لذيذة ونمني أنفسنا بأنهم أيضاً سيفعلون ذلك معنا في نوبتهم! إننا لو طلبنا
من صديق لنا أن يشم فمَنا بعد ساعة من الأكل، ثم هو يخبرنا بشعوره الحقيقي بلا
محاباة، فلا شك أننا نستر وجهنا من شدة الحياء والخجل! ولكن قد تجرد بعض
الناس من الحياء بتاتًا فلا يستحون من أن يشربوا بعد الأكل مباشرة مسهلاً
ليستطيعوا الإكثار من الأكل أو أنهم يستفرغون كل ما أكلوه ليعودوا حالاً إلى المائدة
ثانية! .
وبما أننا جميعًا حتى أفاضلنا يرتكبون جناية كثرة الأكل على سواء لذلك قد
قرر أجدادنا العقلاء الصوم علينا أحيانًا كثيرة كفريضة دينية. لا شك أن الصوم
مرة في كل أسبوعين نافع جدًّا للصحة. إن كثيرًا من المتمسكين بالدين من
الهندوس يقتصرون على أكلة واحدة في اليوم طول فصل المطر. هذا حسن جدًّا
ومبني على أحسن الأصول الصحية. وذلك لأن القوى الهاضمة تضعف عندما
يكون الهواء رطبًا والسماء مغيمة ولذلك يجب تقليل مقدار الغذاء.
والآن نبحث في عدد المرات التي ينبغي أن نأكل فيها. إن الملايين من
الهنود قد تعودوا على الأكل مرتين كل يوم. والذين يشتغلون بالأعمال الشاقة
يأكلون ثلاث مرات، أما عادة الأكل أربع مرات فقد دخلت بلادنا بعد قدوم الأدوية
الإفرنجية إليها. لقد تأسست أخيرًا في إنجلترا وأمريكا جمعيات مختلفة تنصح
الناس بأن يقتصروا على الأكل مرتين وتمنعهم من الفطور صباحًا مبكرًا. وذلك لأن
نومنا في الليل يؤدي بنفسه وظيفة الفطور. فيجب بمجرد الانتباه صباحًا أن يستعد
الإنسان للشغل عوضًا من الأكل، ثم يتغذى بعد ثلاث ساعات فقط، إن الذين
يتمسكون بهذا الرأي لا يأكلون في اليوم إلا مرتين ولا يشربون خلالها حتى الشاي.
إن دكتورًا محنكًا اسمه ديوي Dewai ألف كتابًا جليلاً في الصوم وأثبت فيه فوائد
ترك الفطور، وأنا كذلك أستطيع أن أؤكد بناءً على تجربتي الشخصية ثماني
سنوات بأنه لا حاجة إلى الأكل أكثر من مرتين للذي جاوز الشباب واستكمل جسمه
كل نموه.
***
الباب السابع
الرياضة
إن الرياضة ضرورية جدًّا للإنسان كضرورة الهواء والماء والغذاء، فالذي لا
يواظب عليها لا يمكن أن يكون صحيحًا. نحن لا نقصد (بالرياضة) مجرد التمشي
أو الألعاب كالصولجان وكرة القدم، بل تدخل في الكلمة جميع الأشغال الجسمية
والعقلية. الرياضة ضرورية كضرورة الغذاء للجسم. فالمخ يضعف لعدم الرياضة
مثل ما يضعف الجسم سواء بسواء، وضعف العقل نوع من المرض بلا ريب.
فالمصارع الماهر في المصارعة لا يعتبر (صحيحًا) بالحقيقة إلا إذا كان
عقله كذلك قويًّا كجسمه. وكما قد بين أن المخ القوي في الجسم الصحيح، هذه
القاعدة وحدها تؤسس صحة حقيقية.
ما هي إذن الرياضات التي يحافظ بها على قوة الجسم والعقل معًا؟ إن
الطبيعة قد قدرت ذلك بطريقة تمكننا من أن نتريض الرياضة الجسمية والرياضة
العقلية في وقت واحد. إن الأكثرية الكبيرة من البشر تعيش بالعمل في المزارع.
فالفلاح مضطر أن يقوم بالرياضة البدنية المتعبة على كل حال؛ لأنه لا بد له من أن
يشتغل من 8 إلى 10 ساعات بل أكثر من ذلك أيضًا ليحصل على قُوته ولباسه.
ثم العمل الجسمي الشاق المتعب يستحيل القيام به إلا إذا كان المخ في حالة حسنة.
والفلاح يكون مخه كذلك، فهو لا بد له من معرفة التفاصيل الكثيرة للزراعة،
وكذلك لا بد من أن يكون له علم وافر بالأرض وأنواعها والفصول وتقلباتها، بل
ربما بحركات الشمس والقمر والنجوم وسيرها، حتى إنه قد يغلب أعلم الناس في هذه
الأمور. ثم هو يعرف حالة الوسط المحيط به كما ينبغي فيستطيع أن يعرف
الجهات بمجرد النظر إلى الكواكب في الليل، ويتنبأ بأمور كثيرة جدًّا بمطار
الطيور ومسير البهائم، فيعرف مثلاً أن المطر على وشك السقوط إذا رأى نوعًا
خاصًّا من الطيور قد اجتمع وأخذ يضج ويصيح. والحاصل أنه يعرف من الأرض
والسماء القدر الضروري لعمله، وكذلك يعلم شيئًا من علم الدين ليتمكن من القيام
بعباداته وتربية أولاده. وهذا العلم هو يحصله بطريقة طبيعية لأنه يعيش تحت
السماء الواسعة والفضاء الفسيح فيعرف بسهولة عظمة الله تعالى.
أجل، الناس كلهم لا يمكن أن يصيروا فلاحين، ولا كتب هذا الفضل
لدعوتهم إليه، بل إنما نذكر لهم معيشة الفلاح؛ لأننا نعتقد أن حياته هي الحياة
الطبيعية للإنسان. فكلما نزداد بعدًا عن هذه الحياة الطبيعية نُصاب في صحتنا
بالمصائب، وقد علمنا من حياة الفلاح أنه يجب علينا العمل على الأقل ثماني
ساعات كل يوم، ويدخل فيه العمل العقلي كذلك.
أما التجار وغيرهم من الذين يعيشون عيشه القعود فلا شك أنهم يعملون العمل
العقلي إلى حد ما، ولكن شغلهم ضيق النطاق وأقل بكثير من أن يسمى (رياضة) .
ولأجل هؤلاء الناس قد اخترع عقلاء الغرب الألعاب كالصولجان وكرة القدم
وغيرها من الألعاب الخفيفة التي تلعب في الحفلات واجتماعات الأعياد.
أما الشغل العقلي فقالوا بقراءة الكتب التي لا تحتاج إلى إجهاد الفكر. لا ريب
أن هذه الألعاب تريض الجسم، ولكن هل هي نافعة للمخ أيضًا؟ كم من المهرة
المبرزين في كرة القدم والصولجان يملكون قوى عقلية عالية؟ كم ترى آثار
الاستعداد العقلي لأولئك الأمراء من الهنود الذين امتازوا كاللاعبين؟ ثم من جهة
أخرى كم نرى من العلماء الكبار من يهتمون بهذه الألعاب؟ يمكننا أن نتأكد بتجربتنا
بأنه قلما يوجد بين اللاعبين من يملك القوى العقلية. الإنكليز مُغرمون ومشهورون
بالألعاب، ولكن شاعرهم kipling يذم الحالة الذهنية للاعبين ذمًّا شديدًا.
أما نحن الهنود فقد سلكنا طريقًا مناقضًا لهذا الطريق تمامًا، فرجالنا يشتغلون
بالأشغال الشاقة العقلية ولكن قلما يتريضون، بل لا يتريضون مطلقًا. فيضعفون
بسبب هذه الأشغال فيقعون فريسة لأمراض مختلفة، ويدعون الدنيا إلى الأبد عندما
تأمل منهم أن تنتفع بعملهم. لا ينبغي أن يكون عملنا جسميًّا محضًا ولا عقليًا محضًا
ولا لمجرد تمضية الوقت والتسلية. إن المثل الأعلى في الرياضة هو تلك الرياضة
التي تقوي الجسم والعقل على سواء، وهي وحدها تهب الإنسان صحة حقيقية،
ومثل الإنسان الصحي هو (الفلاح) .
ولكن الذي ليس بفلاح ماذا ينبغي له أن يفعل؟ الرياضة بالألعاب كالصولجان
غير كافية ولذلك ينبغي إيجاد رياضة أخرى. إن أحسن الرياضات لرجل اعتيادي
هو أن تكون له حديقة صغيرة قرب بيته فيشتغل فيها بضع ساعات كل يوم.
قد يقول بعض الناس (ولكن ماذا نفعل نحن الذين لا نملك حتى البيت الذي
نسكنه؟) إن هذا السؤال حماقة. لأن صاحب البيت مهما كان أجنبيًا عنا لا يمنعنا
من أن نصلح أرضه بالحفر والزراعة فنصلحها ونفرح إذا تصورنا أننا قد ساعدناه
في تنظيف أرضه وإصلاحها. أما الذين لا يجدون الوقت لمثل هذه الرياضة أو لا
يحبونها فيمكنهم أن يواظبوا على المشي الذي هو أحسن الرياضات بعد تلك
الرياضة. وقد صدق من قال إنها (ملكة الرياضات) إن السبب الحقيقي في كون
صحة الرهبان الهنود حسنة جدًا هو أنهم يمشون في طول البلاد وعرضها على
أقدامهم، إن الكاتب الأمريكي الكبير تورو قال أشياء كثيرة مهمة في رياضة المشي
فقال: (إن كتابة أولئك الذين يعيشون دائماً في البيوت ولا يخرجون منها أبدًا في
الهواء الطلق، تكون ضعيفة كأجسامهم) .
وقد ذكر تجربته الشخصية قائلاً: (إن أحسن مؤلفاتي كلها هي التي ألفتها في
الزمن الذي كنت أمشي فيه كثيرًا) ، ولقد كان مشاءً كثيرًا حتى إنه مشي أربع أو
خمس ساعات كل يوم كان شيئاً اعتيادياً عنده! لنكن مغرمين بالرياضة حتى لا
نستطيع البقاء بدونها في حال من الأحوال. يصعب علينا أن نفهم شدة ضعف شغلنا
الدماغي وخفته إذا لم تصحبه الرياضة البدنية المتعبة. إن المشي يحرك جميع
أجزاء الجسم ويقوي دورة الدم، وذلك لأن الهواء النقي يدخل بقوة في الرئة عندما
تمشي بسرعة، ثم هنالك مسرات عظيمة جدًا تقدمها إلينا الطبيعة ومناظرها إذا
خرجنا إلى الميادين والحقول، تلك المسرة التي تأتينا من التدبر في جمال الطبيعة.
أما المشي في الأزقة والشوارع أو في طريق واحد كل يوم فلا فائدة منه أصلاً
يجب أن نخرج إلى الميادين والغابات وهنالك نجد لذة الطبيعة. إن المشي ميلاً أو
ميلين ليس بمشي لأن مشي عشرة أو اثني عشر ميلاً ضروري للرياضة. والذين
لا يستطيعون ذلك كل يوم فليفعلوه أيام الآحاد أيام العطلة. ذهب رجل كان يشكو
سوء الهضم إلى طبيب فنصحه الطبيب بمشي قليل كل يوم، ولكنه اعتذر قائلاً
هيهات أن أمشي فإني ضعيف جدًا. فأخذه الطبيب في عربته وخرج به للنزهة.
فلما أبعد عن العمران قليلاً أسقط سوطه فاضطر المريض أن ينزل تأدبًا ليأتي به.
ولكن الطبيب ساق عربته بدون أن ينتظر. فأخذ المسكين يصيح ويجري وراء
العربة! ولما اطمأن الطبيب بأن المريض قد مشى مشيًا كافيًا حمله في العربة قائلاً
(إن هذه حيلة دبرتها لتضطر إلى المشي) وبما أن المريض أخذ يشعر بالجوع من
ذلك الوقت عرف نصيحة الطبيب ونسي حكاية السوط. ثم رجع إلى بيته وأكل
الطعام برغبة وشهية. فليجرب الذين يشكون سوء الهضم وما شاكله من الأمراض
المشي بأنفسهم، فإنهم يعرفون قيمة الرياضة حالاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/193)
الكاتب: محمد حامد الفقي
__________
أفحكم الجاهلية يبغون
] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [[*]
اللهم لطفًا ورحمة بنا وبدينك الذي عاد غريبًا كما بدأ.
ماذا دهى الإسلام والمسلمين من عظائم النكبات وصواعق المهلكات حتى
انقلب الحق باطلاً، والباطل حقًّا، وأصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا وغدا
الهدى ضلالاً، والضلال هدى؟
وأي نكبة أعظم، وصاعقة أفتك من أن تجتمع بالكاظمية من بلاد العراق
جماعة من علماء الشيعة ثم يقررون وينشرون على العالم أن إزالة المنكر مصيبة
على الإسلام، ونكبة على المسلمين، وأن تقويض دعائم الباطل، وهدم أبنية
الضلال وتطهير البلاد الحجازية المقدسة من آثار الجاهلية الأولى عدوان ولطمة
للإسلام كان يخشاها.
ما هذا؟ أتبدلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس، والعقول غير
العقول، صار الأمر بالناس واتباعهم للهوى، وفتنتهم بالبدع وتماديهم في العدوان
على الدين وتشويهه والإصاخة إلى صوت الباطل إلى هذا الحد الذي لا يتصور
بعده غاية، والذي أفسد على المسلمين حياتهم الدنيوية والدينية؟ حسبي الله ونعم
الوكيل.
ماذا يقول أولئك المعولون الصارخون؟ أيقولون إن أمكنة أسست على غير
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم أمكنة خير
وبركة؟ وفوق ذلك يسمونها مقدسة؟ وأدهى من ذلك يسمون من لا يقول بها ولا
يسمع قول الشيطان فيها ضالاًّ مارقًا؟
يا لله من هول ذلك! أفيقوا يا قوم من هذه الغفلة التي هي أعظم ما يبغي
الشيطان منا، وزنوا قولكم قبل أن تقولوه واعرفوا موضعه من الدين قبل أن
تذيعوه، فإنكم والله لو وزنتم قولكم وعرفتم موضعه لوجدتموه منكرًا من القول وزورًا
وأي زور ومنكر أعظم من قول يصادم بل يناقض بل يهدم قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذي أجمع المسلمون خلفًا عن سلف على صحته، من قوله صلى
الله عليه وسلم (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت
عائشة - رضي الله عنها - يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرزت قبره) أخرجه
البخاري ومسلم.
وقال العلماء في شرحهم لهذا الحديث: في هذا نهي شديد صريح عن بناء
القباب على القبور واتخاذ المساجد عليها وعندها. حتى عد ابن حجر الهيتمي بناء
هذه القباب من الكبائر العظيمة التي يجب على علماء المسلمين وأمرائهم هدمها
وإزالتها - قال: حتى قبة إمامنا الشافعي رضي الله عنه لذلك الحديث اهـ.
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها
المساجد والسرج) رواه أحمد وأصحاب السنن، أي الذين يوقدون عليها الشموع
ونحوها. ومن قوله صلى الله عليه وسلم (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد) رواه البخاري. وإلا فليخبرنا أولئك الباكون الصارخون عن حيلة
نخرج بها من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة ونستمع لقولهم ونعمل به دونها.
ثم ماذا يقولون في إجماع كل فقهاء المذاهب المعتبرة على حرمة البناء على
القبور وتجصيصها. قال الإمام الشوكاني في رسالته (شرح الصدور بتحريم رفع
القبور) :
اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة
رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي
ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها ولم يخالف
أحد في ذلك من المسلمين أجمعين.
ثم ساق أحاديث دالة على هذا ثم قال: وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور
ووضع القباب والمساجد مثلها: قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليها،
تارة كما تقدم، وتارة دعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه
المعصية، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل
اليهود والنصارى، وتارة قال: (لا تتخذوا قبري وثنًا) وتارة قال: (لا تتخذوا
قبري عيدًا) أي موسمًا يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد القبور يجعلون
لمن يعتقدونه من الأموات أوقاتًا معلومه (الموالد) يجتمعون عند قبورهم ويعكفون
عليها كما يعرف ذلك كل أحد من الناس. اهـ كلام الشوكاني.
ثم هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه روى عنه مسلم في صحيحه أنه
قال لأبي الهياج الأسدي (أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ألا تجد قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته) وفي هذا أعظم دلالة
على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع عن الأرض عن القدر المشروع واجبة
متحتمة فهل فعل علي رضي الله عنه يعد نكبة على الإسلام والمسلمين؟ ويستحق
قيامة أولئك الذين يدّعون أنهم شيعة علي كرم الله وجهه والتفاني في
حبه بهذا الصريخ والعويل؟
ثم ما الذي تفهمونه من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام عن
زيارة القبور ولم يبح لهم زيارتها إلا بعد ما تمكن الإيمان في قلوبهم وتبينوا حقيقة
التوحيد وأنها لا تتفق وتعظيم هذه القبور والعكوف عندها؟ ولفظ ذلك (كنت نهيتكم
عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الدار الآخرة) وفي قوله: تذكركم الدار
الآخرة أتم دلالة على أن زيارة القبور لا تجوز إلا إذا كانت للتذكر فقط، أما إذا كانت
للتبرك والطواف والتقبيل فهي على أصلها من التحريم: الأول: أليس في هذا
النهي ثم الإباحة بهذا القيد ما يدل أوضح دلالة عند عدم الهوى والعصبية على أن
فتنة الشرك ما دخلت على العرب وغيرهم إلا من باب تعظيم قبور صالحيهم؟ كما
جاء ذلك في صريح القرآن وفي أقوال الصحابة والتابعين في تفسيره مما يطول به
المقال، وهو أوضح من أن نحتاج إلى تسطيره هنا.
ثم تعالوا حدثونا إن كنتم تريدون النصفة والدين الحق، هل فعل ذلك أبو بكر
أو عمر أو علي أو عثمان أو أحد غير أولئك من الصحابة رضوان الله عليهم؟
اللهم لا. هل بنى الحسن أو الحسين رضي الله عنهما لأبيهما قبة من هذه القباب؟
اللهم لا. هل بنى أحد من أولاد الحسن أو الحسين كعلي زين العابدين أو جعفر
الصادق أو محمد الباقر رضي الله عنهم شيئاً من هذه القباب؟ اللهم لا. ثم هؤلاء
الأئمة الأربعة ومن إليهم من فحول علماء السلف رضي الله عنهم هل يقدر واحد
منكم أن يأتي لنا ونكون له من أعظم الشاكرين - بكلمة واحدة عنهم تشير إلى ذلك
وإباحته فضلاً عن التصريح؟ إنكم لا تجدون في التاريخ ولا الدين. إلا أن أول
من أظهر ذلك وابتدعه دولة بني بويه في أول القرن الرابع. وليس أحد يعتقد أن
فعل ملوك هذه الدولة حجة في الدين.
فلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة
تقتدون، ولا يسلم من اقتدى بهم من طعنكم وتشنيعكم فماذا بعد ذلك؟ نقول لكم إلا أن
هذه مُشاقة لله ولرسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين والله تعالى يقول {وَمَن يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) .
يا قوم هذا دين الله الذي نعلمه ويعلمه المسلمون من كتاب الله وسنة رسوله
ومذاهب العلماء، نعلنه وندعو الناس جميعًا إلى التمسك به. وإن كان عندكم غير هذا
فهاتوه مؤيَّدًا بالحجة من قول الله وقول رسوله يشكر الله لكم عملكم وتكونوا قد
أسديتم إلى الناس معروفًا ببيان دين قد خفي عليهم. وأما إن كنتم تبغون غير هذا
من غير أن تأتوا بدليل أو حجة صادقة ولا تؤيدونه إلا بالهوى والعادة وقول الآباء
والأجداد وغير ذلك مما هو الحجة الوحيدة للمبتدعين، فهذا أمر آخر لا نرضاه لكم
ولا لأحد من هذه الأمة التي نسأل الله لها الهداية والتوفيق في القول والعمل.
ثم اعلموا يا قوم أن المؤمنين الذين ملأ الله قلوبهم بنور الإيمان وحب الله
ورسوله وتعظيمهما وتوقيرهما لا يقدمون قول أحد ولا فعله على قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا فعله، ولا يتخذون من قول أحد ولا فعله حجة على دين الله
بل لله الحجة البالغة وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور
محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
ما هلك السالفون من الأمم إلا بتقديم أقوال الناس على قول الله ورسوله،
وكانوا {َإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (المائدة: 104) .
فاحذروا ذلك كل الحذر واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه
أولياء قليلاً ما تذكرون. وفقنا الله لما فيه صلاح ديننا ودنيانا.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد حامد الفقي
... ... ... ... ... ... من علماء الأزهر وإمام مسجد شركس
__________
(*) (المائدة: 50) .(27/201)
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
__________
رأي في الجديد ومدعي التجديد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(كما نشر في عكاظ بتصرف قليل)
لسنا نتحرج أن ننبّه هنا إلى أصل هذا الجديد الذي يزعمونه ويتشدقون به.
فكل فاسق وكل ملحد وكل مقلد أحد هذين وكل متهوس بإحدى هذه العلل الثلاث، هو
مجدد إذا جرى في انتحال الأدب العربي وتعاطيه مجرى التكذيب والرد والنقيصة
والزراية عليه وعلى أهله والخبط ما بين أصوله وفروعه على أن لا يستخرج من
بحثه إلا ما يخالف إجماعًا، أو يعيب فضيلة، أو يغض من دين، أو ينقض أصلاً
عربيًّا جزلاً بسخافة إفرنجية ركيكة، أو يحقر معنى من هذه المعاني التي ينظمها
الجامدون أنصار القديم من القرآن فنازلاً. وبالجملة فالتجديد أن تكون لصًّا من
لصوص الكتب الأوروبية ثم لا تكون ذا دين أو لا يكون فيك من الدين إلا اسمك
الذي ضرب عليك فلا حيلة لك فيه، ولا تستطيع أن تستدرك منه إلا في أولادك
المساكين، ثم لا حاجة للجديد بإلحادك أو زيغك إلا إذا طبعت بأحدهما أو كليهما
مسائل التاريخ الإسلامي والأدب العربي، وأفسدت الخالص بالممزوج، وحقرت
الناس والمعاني وكنت حرًّا طليقًا من قيود السماء والأرض إذا صدرت أو وردت
فتقول على قدر عقلك، ثم تفعل على قدر زيغك، ثم تزيغ على قدر ما أنت قادر.
أما إن بحثت وقايست وتعقلت وكنت أذكى الناس وأبلغ الناس ثم كنت لا
تستخرج من التاريخ والأدب إلا ما يزينهما ويكشف عن أسرارهما وحقائقهما
الصحيحة ولم تكن لص كتب أوربية ومذاهب أوربية، فالويل لك. فما أنت إلا
قديم وما أنت إلا نفس حجرية ولو قدسك المسلمون تقديس الكعبة وحجرها، وإن
العصر لفي غنى عنك وعن كتبك وآرائك؛ لأن خمسة أو ستة أو خمسين أو ستين هم
العصر وهم الأمة وهم من التاريخ المترامي إلى المستقبل كالقطار فيه ما فيه من
عربات تحمل من العروض على أجناسها وأنواعها، ومن الناس على درجاتهم
وطبقاتهم، ولكن الخمسة أو الستة وحدهم عربة الآلات والبخار وفحم نيوكاستل.
بلى أيها المجددون، غير أنه ليس على الأرض معصوم من الخطأ وغير أننا
نعرف أن غلطة العالم تدل على علمه كما يدل صوابه، وإن شبهة الجاهل تدل على
جهله كما يدل خطأه إذ كان الأول متحرزًا يتوقى جهده وكان الثاني متحمقًا يسترسل
جهده، فعلى قدر قوة الشبهة وضعفها، ويحسب نوع الغلطة وشكلها، يعرف نوع
الفكر وتتبين حالة العقل. وبهذين تعرف صفة النفس، وبالنفس لا بغيرها يقوم
التاريخ الإنساني.
ولو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان معه خمسمائة ألف من أمثال (أدعياء
التجديد) أفيردون عليه ما ردَّ عربي واحد قلبه روح سيفه؟ أرأيتم الآن أيها
الفضلاء جدًّا ... أن الأمم في غنى عنكم وأن حاجتنا كل الحاجة إنما هي إلى
إيمانها وقديمها، وأنكم لا تنزلون منها ومن تاريخها وأسباب تاريخها إلا منزلة
الثرثرة في المعنى الصريح من المعنى الصريح. وأن مثلكم كمثل حادثة تاريخية
عظيمة أخذت ما أخذت من الناس وتركت ما تركت فيهم حتى إذا مضت لسبيلها
وصارت حديثًا في الأحاديث جاء رجل متسكع متلكع فاحتسى ألف كأس من الخمر
وأحرق ألف دخينة من التبغ، وأضرم النار وروح النار على دماغه ليخرج من
دماغه رواية تمثيلية في تلك الحادثة يزخرفها بالكذب ويزينها بالفلسفة ويزيدها
بالتحليل والمنطق، ويجملها بالخيال والشعر، ثم لا تكون مع هذا كله في جنب
الأصل إلا ملهاة وهزؤًا وسخرية، ليس فيها إلا حسام لا يقطع، وبطل لا يمنع،
ونار لا تحرق، وبحر لا يغرق؟ أتظنون أن التجديد لا يقوم إلا بالهدم، وهل يبلغ
ما أنتم فيه من الحماقة وضعف البصر بعواقب الأمور وأسرار الأشياء أن: إن
البناء الجديد لا يقوم إلا بعد هدم القديم وإزاحة أنقاضه، وإقرار الجديد في موضعه
أهو بناء من الطوب والحجارة والأخشاب، ترفعون هذا وتضعون هذا أم هو بناء
بالكلام على أرض من الورق، فكل من جاء ليبني بنى، وكل من جاء ليهدم هدم؟ ألا
تعلمون أن القديم لا يهدم البتة لأنه هو الذي يبدع الجديد وينشئه، فإن هدم في
أمة من الأمم زال الجديد بزواله، ولم يبق من الأمة إلا بقايا لا تستمسك على حادثة،
ولا تقر على صدمة، وإن سنة الكون في الجديد أنه ترميم في بعض نواحي القديم،
وتهذيب في بعضها، وزخرف في بعضها الآخر، وإلا لوجب أن يتجدد التركيب
الإنساني، والتركيب العقلي، وهو ما لم يقع ولن يقع منه شيء.
فالشأن في الجديد أن تتصل المادة الجديدة بالقديم فإذا هو هو، ولكن ببعض
الزيادة، أو بعض الزينة، أو بعض القوة، وكل ذلك لإحداث بعض المنفعة.
فالرجل المجدد لا يوجد نفسه أيها الفضلاء جدًّا، وما هو من الهوان على
الكون ونواميسه وعلله بحيث يقول: سأكون فيكون. ولو أن كل أسود في مطعم
أو حانة كأسود بني عبس لفسدت الأرض، ولم يبق للشجاعة تاريخ يحفظ، ولو أن
كل لون أحمر يقول: أنا الورد لما بقى للورد معنى إلا أن يكون خجلاً في وجه الدنيا.
المجدد أيها الفضلاء جدًّا لا تخرجه للأمة إلا أقوى عناصر القديم متى
اجتمعت فيه صحيحة متظاهرة يمد بعضها بعضًا. فإن من انتهى إلى غاية من
الغايات كان هو الحري أن يستشرف لما بعدها، وأن يأتي بما لا يستطيع من دونه،
ولكن الشرط أن يكون قد بلغ هذه الغاية وما يبلغها إلا إذا كان تهيأ بوسائلها، ولن
تأتي لي هذه الوسائل على أتمها وأكملها إلا إذا شاءت الحكمة الإلهية أن تنقح شيئاً
في أساليب الحياة ونظام القديم.
فالذي يحصل من كل ما تقدم أن لا جديد إلا حيث تبدع الحكمة شيئًا، ثم
تتصل نواميس الحياة النفسية بهذا الشيء، فإذا هي تفعل به ما اقتضته الحكمة مما
نسميه هدمًا أو بناءً. فأنت إذا كنت مجدداً في اللغة مثلاً، وكانت فيك العناصر
الكافية لاجتماع قوة من قوى الناموس العام، فلابد أن تبدع شيئًا غير موجود لا
يستطيعه غيرك كما تستطيعه أنت، فإذا أبدعت وأحدثت رأيت القديم نفسه هو
الدليل على أنك جددت، فكنت بشهادته مجددًا وهي شهادة كما ترى لا تنالها بأنك
محرر صحيفة، أو مترجم مجلة، أو ملخص من بعض آراء الفلاسفة، بل من
حياة عصرك وطبيعته، وقوانين وجوده؛ إذ تكون زيادة في العنصر وآية في الطبيعة،
وكلمة جديدة في قوانين الأمة. اهـ.
__________(27/205)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*]
محضر الجلسة الأولى
يوم الخميس أول ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ
13 مايو سنة 1926م
اجتمع المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر في دار المعاهد الدينية التابعة
للجامع الأزهر الشريف في الحلمية بمدينة القاهرة، الساعة الحادية عشرة صباحًا
يوم الخميس أول ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (13 مايو سنة 1926م)
برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد أبي الفضل شيخ
الجامع الأزهر الشريف ورئيس المؤتمر، وحضور حضرات أصحاب الفضيلة
والسيادة والسعادة والعزة:
الشيخ محمد مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا من مصر.
الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية من مصر.
الشيخ حسين والي السكرتير العام لمجلس الأزهر والمعاهد الدينية. من مصر
الشيخ أحمد هارون وكيل الجامع الأزهر والمدير العام للمعاهد الدينية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... من مصر.
الشيخ محمد فراج المنياوي السكرتير الخاص لشيخ الجامع الأزهر ورئيس
مجلسه الأعلى) من مصر
السيد الإدريسي السنوسي أمير برقة وطرابلس من طرابلس الغرب.
أحمد شتيوي السويحلي بك حاكم مصراطة سابقًا من طرابلس الغرب.
التهامي قليصة بك رئيس مالية مصراطة سابقًا من طرابلس الغرب.
الشيخ عمر الميساوي مفتي الخمس سابقاً من طرابلس الغرب.
محمد الصالحي التونسي العضو في مجلس الأمة الكبير في تونس.
السيد محمد الصديق من أكابر العلماء والأشراف من مراكش.
أحمد بهار الدين أفندي مندوب جمعية الخلافة بجنوب إفريقيا.
أبو بكر جمال الدين أفندي مندوب الجمعية الإسلامية بجنوب إفريقيا.
الدكتور الحاج عبد الله أحمد مندوب جزر الهند الشرقية.
الدكتور الحاج عبد الكريم أمر الله مندوب جزر الهند الشرقية.
السيد حسن العطاس مندوب سلطنة جوهور.
عناية الله خان المشرقي رئيس دار العلوم بالهند.
السيد الميرغني الإدريسي من أمراء تهامة اليمن.
الشيخ عبد الرحمن بن علي من قضاة اليمن سابقاً وأعيانها.
الشريف يحيى عدنان باشا من أكابر أشراف الحجاز.
الشيخ خليل الخالدي رئيس محكمة الاستئناف الشرعية من فلسطين.
أسعد الشقيري مجلس التدقيقات الشرعية بالآستانة سابقًا.
إسماعيل الخطيب المحامي الشرعي بفلسطين.
عارف باشا الدجاني من كبار أعيان فلسطين.
الشيخ حسن أبو السعود من فضلاء فلسطين.
محمد مراد أفندي مفتي حيفا من فلسطين.
جمال الحسيني بك سكرتير اللجنة التنفيذية للمؤتمر السادس الفلسطيني.
الشيخ عيسى منون مندوب المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين.
عطا الله الخطيب أفندي مدير أوقاف بغداد من العراق.
الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي الأستاذ في كلية آل البيت ببغداد.
يعقوب شنكوفيتش أفندي المفتى الأكبر لجمهورية بولونيا من أعضاء المؤتمر
بأوربا.
وتولى أعمال السكرتارية محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام، حضرة
صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي وساعده في ذلك: علي أحمد عزت أفندي،
أحمد عبد القادر أفندي، محمد شكري رجب أفندي، محمد عبد الرزاق أفندي،
أحمد وهبي الحريري أفندي، محمد المهدي أفندي، وكلهم من موظفي المعاهد
الدينية.
وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر رئيس المؤتمر افتتاح المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم تلا القارئ الشهير الشيخ سليمان محرز سورة الفتح.
وبعد ذلك ناول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس خطبة الافتتاح
لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي سكرتيره الخاص فتلاها نيابة عنه
ونصها:
(بسم الله الرحمن الرحيم أفتتح المؤتمر)
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمده أن جمع
بيننا وبينكم في سبيل الله على بعد الأقطار وطول الأسفار، ونشكره أن جعلنا
مستمسكين بحبله الذي لا ينفصم، رغبًا في الوحدة والائتلاف، ورهبًا من الفرقة
والاختلاف، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين وعلى
آله وصحبه الذين اتبعوا النور الذي أنزل معه، وجمعوا الكلمة، ووحدوا الوجهة.
أيها السادة:
نشكركم شكرًا يكافئ ما أقدمتم عليه من عمل للإسلام وما تحملتم من مشاق
كثيرة في إجابة الدعوة، لقد فارقتم في سبيل الله دياركم آمِّين مصر مجيبين داعي
الله.
نشكركم شكرًا يكافئ عظمة الإيمان الذي في قلوبكم وقد أقمتم الحجج العملية
على محبتكم لله ورسوله والمؤمنين، وسيكتب التاريخ لكم ولشعوبكم عمل عظماء
الرجال.
لقد قام بكم هذا المؤتمر العظيم، وهو أول مؤتمر إسلامي عام، فليقم بكم إن
شاء الله تعالى بناء الوحدة، ولتوثق بكم عروة الألفة عن فكر رشيد، ورأي سديد.
أيها السادة:
كان لزوال الخلافة ما تعلمون من الوقع الشديد في أنفس الشعوب الإسلامية،
ولقد تجاوبت أصواتهم من الأرجاء البعيدة والنواحي المختلفة يتلمسون سبيلاً إلى
الرشاد، ويتطلبون عقد مؤتمر إسلامي عام ينظر في الأمر من ناحية الدين، فنظر
العلماء في ذلك نظرة خالصة لله تعالى، واجتمعوا اجتماعاً تاريخيًّا، وقرروا عقد
المؤتمر على ما علمتم قيامًا بواجبهم الديني.
وقد أشير في أسباب هذا القرار إلى أن مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي
ونظر جميع المسلمين له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر. لما يترتب عليه من
إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد كلمة المسلمين وربطهم برباط قوي متين.
فوجب على المسلمين أن يفكروا في نظام الخلافة على قواعد توافق أحكام الدين
الإسلامي، ولا تجافي النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم.
غير أن الضجة التي ترتبت على زوال الخلافة جعلت العالم الإسلامي في
اضطراب لا يتمكن المسلمون معه من البت في هذه النظم وتكوين رأي ناضج فيها
إلا بعد الهدوء، وبعد الإمعان والروية، وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف
الجهات. فاعملوا للإسلام ما يحفظه، وما يخلد لكم الذكر الجميل، مستعينين بالله
مخلصين له الدين. {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:
13) ونرى من الواجب علينا أن نشكر للأمم الأخرى احترامهم لشؤوننا الخاصة.
ونسأل الله جل شأنه أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وأصحابه وسلم) .
ثم أستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري وأرتقي منبر الخطابة
وألقي كلمة في تأثير الدعوة إلى المؤتمر، وقال: إنها دعوة مباركة، وقد لقيت آذاناً
سامعة، وقلوبًا واعية، ونفى غير ذلك مما كان يقوله بعض الظانين.
ثم قال: إن المادة (الحادية عشرة) من النظام الداخلي للمؤتمر وضعت
الخطب التي تلقى في المؤتمر تحت نظر لجنة، وكثير منا قد يخطب ارتجالاً،
فأقترح تعديل المادة واستثناء الخطب.
فاستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي في الكلام وقال:
إن الغرض من هذه المادة أن الخطب التي تكون مكتوبة تعرض على اللجنة
للنظر فيها وتوزيعها على الجلسات كما يناسب موضوعاتها حتى تكون مهمة
المؤتمر سهلة.
وأما الخطب الارتجالية والمناقشات اللفظية التي تدور عادة بين المتفاهمين
فحضرات الأعضاء أحرار فيها بعد إذن الرئيس كما في النظام الداخلي للمؤتمر،
فاكتفى الأستاذ الشقيري واقتنع بهذا.
ثم ألقى صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي كلمة حيا فيها الحاضرين
بما يناسب المقام وشكر لهم إجابتهم الدعوة. ودعا الله سبحانه وتعالى أن يوفق
المؤتمرين لما فيه خير المسلمين.
ثم قال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي:
أهذا النظام الذي وضع ليجري عليه المؤتمر في أعماله غير قابل للتعديل أم
قابل له؟ فربما يكون فيه ما هو محتاج للتعديل.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس:
لقد وضع هذا النظام بعد استقصاء وبحث كثيرين.
واستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي في الكلام وقال:
إن هذا النظام وضعه المجلس الإداري للمؤتمر وهو مؤلف من جمع كثير فيه
الخبيرون بنظم المجالس النيابية الحديثة، وإذا رأيتم أن فيه ما قد يحتاج إلى تعديل
فلا مانع من تقديم اقتراح بالطريقة النظامية.
فاقتنع حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي بذلك.
ثم استأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشقيري وقال:
إن كثيرًا كتبوا يقولون: قد يتوهم بعض الناس أن العواصم التي فيها تأثير
أجنبي لا يمكن الكلام فيها بالحرية التامة، ولكن المسلمين أحرار فيما يقولون:
فالبلاد الإسلامية التي فيها حاكم مسلم فيها الجمعة والجماعة والأحكام الدينية
فالمحافظة على الدين موجودة بحمد الله في كل قطر إسلامي.
وقد كتبت بعض الجرائد أن هذا المؤتمر ربما أخلّ بالمناسبات بين أمراء
المسلمين، وهذا مردود.
فطلب صاحب الفضيلة الأستاذ عطاء الله الخطيب أفندي من حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس تطبيق المادة الحادية عشرة من النظام الداخلي
للمؤتمر القاضية بأن هذه الجلسة إنما هي لخطبة الافتتاح والتعارف، وتأليف لجنة
للنظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث.
فتقبل ذلك الأستاذ الشقيري، وقال: لم أتكلم إلا بإذن.
ثم استأذن فضيلة الأستاذ الشيخ فراج المنياوي وارتقى منبر الخطابة وألقى
كلمة بيَّن فيها أنه ليس لعلماء مصر غاية إلا أداء واجبهم الديني، وأن للمؤتمر
الحرية التامة فيما يبحث وفيما يقرر. وشكر لحضرات أعضاء المؤتمر تفضلهم
بإجابة الدعوة. وذكر لهم أن أمر المسلمين بين أيديهم دون سواهم، حاثًّا على
الوحدة الإسلامية.
ثم طلب حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس الشروع في تأليف
لجنة من حضرات أعضاء المؤتمر للنظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث قبل
عرضها على المؤتمر.
فاقترح حضرة جمال الحسيني بك الاستراحة ربع ساعة. فوافق على ذلك ثم
عاد المؤتمر إلى الاجتماع، وأخذت الآراء على أعضاء اللجنة وهل يكون انتخابهم
سريًّا، فكانت أغلبية الآراء أن عدد أعضائها بعدد الشعوب الإسلامية الممثلة في
المؤتمر وبالانتخاب السري وأنه إذا جاء مندوبون من شعوب أخرى غير الموجودين
الآن، فلمندوبي كل شعب الحق في انتخاب عضو لهذه اللجنة.
وعلى ذلك تم انتخاب أعضاء هذه اللجنة.
وأعلنت نتيجة الانتخاب فكانت كما يأتي:
حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة:
الشيخ حسين والي من مصر
الشيخ محمد الصالحي التونسي من تونس
السيد محمد الصديق من مراكش
الشيخ أحمد بهار الدين أفندي من جنوب أفريقيا
يعقوب شنكوفتش أفندي من بولونيا
عناية الله خان المشرقي من الهند
السيد حسن العطاس من سلطنة جوهور
الشيخ خليل الخالدي من فلسطين
عبد العزيز الثعالبي أفندي من العراق
الشريف يحيى عدنان باشا من الحجاز
الشيخ عبد الرحمن بن علي من اليمن
الشيخ الميرغني الإدريسي من تهامة
الشيخ عمر الميساوي من طرابلس الغرب
ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس انتهاء الجلسة؛ إذ كانت
الساعة الواحدة بعد الظهر على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة بعد ظهر يوم
السبت المقبل 3 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (15 مايو سنة 1926م) .
نائب السكرتير العام ... ... ... ... ... رئيس المؤتمر
إمضاء/ محمد قدري ... ... ... ... ... ختم/ محمد أبو الفضل
***
محضر الجلسة الثانية
يوم السبت 3 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ
15 مايو سنة 1926م
(اجتمع المؤتمر في الساعة الرابعة والنصف مساءً برئاسة الأستاذ الأكبر
شيخ الجامع الأزهر، وحضور من حضروا الجلسة الأولى وزاد عليهم:
السيد محمدعلي الببلاوي نقيب السادة الأشراف بالديار المصرية.
السيد عبد الحميد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية بالديار المصرية.
الشيخ محمد عبد اللطيف الطعام شيخ معهد الإسكندرية بمصر.
الشيخ عبد الغني محمود شيخ معهد طنطا بمصر.
الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ معهد أسيوط بمصر.
الشيخ إبراهيم الجبالي شيخ معهد الزقازيق بمصر.
الشيخ عبد المجيد اللبان المفتش بالمعاهد الدينية بمصر.
ولم يحضره السيد الميرغني الإدريسي لعذر، والشيخ إسماعيل الخطيب
المحامي الشرعي.
وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الأولى.
وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة، وأذن
بتلاوة محضر الجلسة الماضية. فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين
المساعدين.
ولم يحصل من حضرات الأعضاء اعتراض على صيغته فاعتبر موافقاً عليه
ثم تليت برقية من أحد أعضاء لجنة الخلافة بجنوب أفريقيا فيها رجاء النجاح
للمؤتمر. ثم حصلت مناقشة حول تلاوة برقية وردت من مكتب الاستعلامات
السوري فيها إنكار لتصرف الفرنسيين في دمشق، اشترك فيها حضرات أصحاب
الفضيلة والسيادة والعزة الأساتذة: جمال الدين الحسيني، والشيخ حسين والي،
والشيخ محمد فراج المنياوي، والشيخ أسعد الشقيري، والشيخ محمد الصالحي
التونسي، ومحمد مراد أفندي، والسيد محمد الببلاوي، وحسن أبو السعود أفندي،
وعبد العزيز الثعالبي أفندي.
ثم وافق المؤتمر بالأغلبية على تلاوتها فتليت.
ثم اقترح حضرة الأستاذ جمال الحسيني بك من مندوبي فلسطين أن يصدر
المؤتمر احتجاجًا على ذلك وأن يحيل هذا الاقتراح إلى لجنة الاقتراحات. فحصلت
مناقشة في ذلك اشترك فيها حضرات أصحاب الفضيلة والعزة الأساتذة: عبد العزيز
الثعالبي أفندي، والشيخ محمد فراج المنياوي، ومحمد مراد أفندي، والشيخ
إبراهيم الجبالي، والشيخ حسين والي وجمال الحسيني بك، والشيخ عبد الرحمن
قراعة.
ثم وافق المؤتمر على إحالة الاقتراح إلى هذه اللجنة.
ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن أبي السعود أفندي وقال:
إن هناك مادتين من مواد النظام الداخلي للمؤتمر. إحداهما المادة الثانية التي
تذكر أن يكون للرئيس وكيل يعينه المجلس الإداري للمؤتمر ويقوم بأعمال الرئيس
حال غيابه. ورأيي أن يفصل في مسألة الوكيل الآن قبل الخوض في أعمال
المؤتمر. والأخرى المادة الثانية والعشرون التي تقول (عند أخذ الآراء في المسائل
المبينة في البرنامج وفي الاقتراحات العلمية تعتبر أغلبية آراء الحاضرين. وإذا
تساوت يرجح الجانب الذي فيه الرئيس) وطلب الأستاذ أخذ الرأي في المسألة
الأولى، هل يبقى انتخاب وكيل الرئيس للمجلس الإداري للمؤتمر أو يجعل هذا
الحق للمؤتمرين جميعًا.
فاستأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي
الديار المصرية وقال: إن صاحب الحق في انتخاب الوكيل هو المجلس الإداري
للمؤتمر.
ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي وقال: إذا كان
لابد من الكلام في هذا فليقدم اقتراح به، وليحوّل إلى لجنة الاقتراحات.
فاكتفى حضرة الأستاذ حسن أبي السعود أفندي بهذا ثم قرأ المادة الثانية
والعشرين السابقة الذكر واقترح أن تكون الآراء بعدد الشعوب الممثلة في المؤتمر
فيكون لكل شعب صوت واحد.
ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ عطاء الله الخطيب أفندي واقترح
تلاوة مواد النظام الداخلي للمؤتمر مادة مادة وأخذ الرأي فيها.
فحصلت مناقشة في الاقتراحين اشترك فيها حضرة صاحبي الفضيلة
الأستاذين الشيخ حسين والي، وعطاء الله الخطيب أفندي، وحضرة صاحب
السعادة عارف الدجاني باشا.
ثم وافق المؤتمر على أن يحول الاقتراحان إلى لجنة الاقتراحات.
ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس: لنظر الآن في أعمال
المؤتمر المبينة في برنامجه وتعيين عدد جلساته وتوزيع الأعمال في الجلسات وفقًا
للمادة الثانية عشرة من النظام الداخلي للمؤتمر.
فحصلت مناقشة حول ذلك أشترك فيها حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة
عبد العزيز الثعالبي أفندي، والشيخ حسين والي، والشيخ الأحمدي الظواهري
وعطاء الله الخطيب أفندي، والشيخ أسعد الشقيري.
ثم اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي تأليف لجنتين
واحدة علمية لبحث المسائل الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر والثانية لبحث
المسائل الثلاث الأخرى منه.
فواق المؤتمر على هاتين اللجنتين.
ثم اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري أن تكون
اللجنة الأولى مؤلفة من عشرة أعضاء.
واقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري أن
يضم إلى أعضائها شيخ الحنابلة بالديار المصرية.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: لا مانع من ضم
فضيلته إلى اللجنة وأن لم يكن من أعضاء المؤتمر.
واقترح أن تكون اللجنة مؤلفة من تسعة أعضاء: ثلاثة من كل مذهب والعاشر
شيخ السادة الحنابلة.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: أرى أن يكون شيخ السادة
الحنابلة مستشارًا.
فوافق المؤتمر على ذلك.
ثم رفعت الجلسة للاستراحة وصلاة المغرب إذ كانت الساعة السادسة والثلث
مساءً. وهنا استأذن صاحب السمو الأمير السيد إدريس السنوسي حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس في الانصراف فأذن لسموه.
ثم عادت الجلسة إلى الانعقاد الساعة السابعة مساءً. فأمر حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء فيما ذكر.
فأخذت الآراء بطريق الانتخاب السري لتأليف اللجنة التي تبحث المسائل
الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر وهي:
1 - بيان حقيقة الخلافة وشروط الخليفة في الإسلام
2 - الخلافة واجبة في الإسلام
3 - بم تنعقد الخلافة؟
ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس النتيجة فكان الذين
نالوا أغلبية الأصوات حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة:
حنفية:
الشيخ عبد الرحمن قراعة من مصر
الشيخ خليل الخالدي من فلسطين ...
الشيخ أحمد هارون من مصر ... ... ...
*** ... ...
مالكية: ...
الشيخ عبد العزيز محمود من مصر
السيد محمد الببلاوي من مصر ... ...
الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي من العراق
***
شافعية:
الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مصر
الشيخ حسين والي من مصر
الشيخ حسن أبي السعود من فلسطين
ووافق المؤتمر على أن يضم إلى هذه اللجنة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد سبيع الذهبي شيخ السادة الحنابلة بالديار المصرية بصفة مستشار.
ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: إن صحتي
وأعمالي لا تساعدني على العمل مع اللجنة.
فلم يقبل المؤتمر من فضيلته ذلك، ورجاه العدول عن اعتذاره فقبل أن يكون
معها في بعض الأحيان.
ثم أخذت الآراء بطريق الانتخاب السري أيضًا لتأليف اللجنة التي تبحث
المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر وهي:
1ـ هل يمكن الآن إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية؟
2ـ إذا لم يكن من الميسور إيجاد هذه الخلافة فما الذي يجب أن
يعمل؟
3ـ إذا قرر المؤتمر وجوب نصب خليفة فما الذي يتخذ لتنفيذ ذلك على أن
يراعى في انتخاب هذه اللجنة أن يكون لكل شعب عضو واحد فيها لم يسبق
انتخابه في لجنة بحث الخطب والاقتراحات إذا لم يوجد غيره من شعبه في
المؤتمر.
وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس النتيجة، فكانت أن
اللجنة تؤلف من حضرات أصحاب الفضيلة والسيادة والسعادة الأساتذة:
1- الشيخ محمد مصطفى المراغي من مصر
2- الشيخ عطا الله الخطيب أفندي من العراق
3- أبو بكر جمال الدين أفندي من جنوب أفريقيا
4- الشيخ محمد الصالحي التونسي من تونس
5- السيد محد الصديق من مراكش
6- يعقوب شنكوفتش أفندي من بولونيا
7- عناية الله خان المشرقي من الهند
8- الشريف يحيى عدنان باشا من الحجاز
9- السيد الميرغني الإدريسي من اليمن
10- محمد مراد أفندي من فلسطين
11- الدكتور الحاج عبد الله أحمد من جزر الهند الشرقية
12- سمو السيد الأدريسي السنوسي أمير برقة وطرابلس
ثم اعتذر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي من
العمل في اللجنة بعذر قَبِله المؤتمر، فكان من يلي فضيلته في أغلبية الأصوات
حضرة صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري فانتخب بدله.
ويقصر على هذه اللجنة ويكتفي بحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن
بن علي في لجنة الخطب والاقتراحات.
ثم اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي أن يكون اجتماع
اللجان الثلاث من الغد في الساعة التاسعة صباحًا؛ لتبحث كل لجنة فيما حول إليها ثم
ترفع رأيها إلى رياسة المؤتمر لتعرض ما تراه على المؤتمر في جلسة تعقد الساعة
الرابعة والنصف بعد ظهر يوم الثلاثاء المقبل
فوافق المؤتمر على ذلك.
ثم استأذن حضرة صاحب السمو والفضيلة الأستاذ الشيخ حسن أبي السعود في
تلاوة برقية من نائب رئيس اللجنة التنفيذي بفلسطين تشير إلى اتحاد فلسطين وعقد
مؤتمر لذلك في وقت قريب. فأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس
في تلاوتها فتلاها.
ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس انتهاء الجلسة إذ كانت
الساعة الثامنة والنصف على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر
يوم الثلاثاء المقبل.
نائب السكرتير العام ... ... ... ... ... رئيس المؤتمر
إمضاء/ محمد قدري ... ... ... ... ... ختم/ محمد أبو الفضل
***
محضر الجلسة الثالثة
يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ
(18 مايو سنة 1926م)
(اجتمع المؤتمر في الساعة الخامسة برئاسة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع
الأزهر ورئيس المؤتمر وحضور من حضروا الجلسة الثانية، وزاد عليهم الشيخ
محمد بخيت مفتي الديار المصرية سابقًا وأحمد تيمور باشا عضو مجلس الشيوخ
ووحيد الأيوبي بك من الأعيان والشيخ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل والشيخ
عبد الله سراج قاضي قضاة الحجاز سابقًا) .
ولم يحضر حضرة السيد الميرغني الإدريسي لعذر.
وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الثانية.
وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة، ثم أذن
بتلاوة محضر الجلسة الماضية المنعقدة يوم السبت 3 ذي القعدة الحرام سنة
1344هـ (14 مايو سنة 1926م) فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين
المساعدين ولم يعترض عليه فاعتبر موافقًا عليه.
ثم قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: أذكر أن حضرة السكرتير
قال: يكون اليوم الأول بعد انتهاء عمل اللجان وهو يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة (أي
هذا اليوم) لنظر تقرير لجنة الاقتراحات واليوم الثاني لنظر تقرير اللجنة العلمية
واليوم الثالث لنظر تقرير اللجنة الثالثة، ولكننا رأينا أن عمل لجنة الاقتراحات لم
يذكر في جدول أعمال اليوم.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: إني لما اقترحت
على المؤتمر تأليف لجنتين: الأولى للمسائل العلمية والثانية للمسائل الثلاث الأخيرة
من برنامج المؤتمر قلت (ولعل حضرات الأعضاء يذكرون) إن عمل هاتين
اللجنتين مع عمل لجنة الاقتراحات يقدم إلى الرياسة يوم الثلاثاء والرياسة بعد ذلك
تقدم للمؤتمر تقرير لجنة الاقتراحات أو تؤخره وتقدم عليه غيره.
فمسألة التقديم أو التأخير يرجع تقديرها إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر رئيس المؤتمر.
وقد رأت رياسة المؤتمر في جلسة اليوم تقديم المسألة العلمية لأنها أمر
جوهري مقصود بالذات من عمل المؤتمر ولجنة الاقتراحات لم تحدث شيئًا جديدًا
يخالف النظام الداخلي للمؤتمر، وللمؤتمر الحرية في إبداء رأيه فيما يعرض عليه
وأرجو أن يكون بيننا حسن التفاهم حتى يمكن النظر في الغرض.
فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: أنا متفق مع الأستاذ ولكني
أقول: كيف يمكننا أن ننظر في أعمال اللجنتين اللجنة العلمية واللجنة الثالثة وتؤخذ
الآراء فيهما إذا كان تقرير لجنة الاقتراحات لم يعرض بعد وهو مشتمل على
الاقتراح المقدم في شأن أخذ الآراء؟
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: اسمح لي أن أقول:
إن لجنة الاقتراحات لم تحدث شيئًا جديدًا يخالف النظام الذي وضع للمؤتمر كما
أشرت إلى ذلك من قبل، وإن النظام الداخلي للمؤتمر لموضوعٌ بإحكام ودقة.
والأمر بيننا سهل جدًّا، وإن الذي تنظرون فيه الآن هو عمل علمي محض
وليس له دخل في أمور سياسية، ولقد نزل المؤتمر على هذا النظام وقد أرسلناه إلى
حضرات أعضاء المؤتمر قبل البدء في العمل، وقد جرينا عليه إلى الآن فرجائي
من إخواني أن يقبلوه ولو مؤقتًا حتى يأتي وقت يدعو إلى تعديل فيه.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي:
المسائل المعروضة على المؤتمر مسائل علمية والعلم مشاع بين الجميع، وليس من
حق أمة دون أخرى، فليس جزء من العلم لفلسطين وجزء منه للعراق وجزء منه
لجنوب أفريقيا، بل هو عام بين الجميع، فإذا وصلنا إلى مسألة من المسائل يكون
التصويت فيها من حق كل أمة فلا بأس من أن نراعي ذلك، أما المعروض الآن
فليس فيه ما يتعلق بحقوق الأمم، وعلى هذا فلا معنى لأن تثار مسألة التصويت.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي: إن توزيع عمل
اللجان على الأيام لم يجر فيه كلام والذي يتكلم فيه (جمال بك) من المكملات ولا
ننظر فيها حتى ننظر في المقصد الأصلي، فالمعقول أن نبدأ بالمقصود الأصلي،
وأما مسألة التصويت: هل تكون بحسب أصوات الحاضرين أو حسب الجهات
الإسلامية فأقول: إننا لا نزال أمام مسائل علمية لا فرق فيها بين أن تكون في
جانبي أو جانبك ولا دخل لتمثيل الأمم فيها.
وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: إن هناك عملاً للجنة
الاقتراحات ونريد أن نسمع قرارها، وأنا أقول بوجوب بيان كيفية أخذ الأصوات.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي: ننظر إلى
أصوات الحاضرين، فقد أكون أنا وأنت ممثلين لبلد واحد ولكل منا رأي.
وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: هذا الكلام قلناه في جلسة
سابقة وحول إلى اللجنة ونريد أن نسمع كلام اللجنة فيه.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ عطاء الله الخطيب أفندي: أرى أن
النزاع قد طال، وكثر القيل والقال، وقد طلبت قبل هذا واقترحت أن ينظر
المؤتمر في النظام الداخلي مادة مادة، ومن جملة الأسباب عدم ذكر مادة واضحة في
النظام تحسم مسألة التصويت.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي: موجود
في النظام مادة في هذا الموضوع وهي المادة (22) من النظام الداخلي للمؤتمر ثم
قرأ المادة وهي (عند أخذ الآراء في المسائل المبينة في البرامج، وفي الاقتراحات
العلمية تعتبر أغلبية آراء الحاضرين، وإذا تساوت يرجح الجانب الذي فيه الرئيس) .
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطاء الله الخطيب أفندي: الآن
يفهم أن التصويت يجري بشكلين ففي المسائل العلمية يكون بشكل وفي غيرها يكون
بشكل آخر، وهذا يقتضي وضع مادة جديدة فيها أن المسائل العلمية يجري فيها
التصويت بحسب الأشخاص كما تقولون، وغير العلمية يكون التصويت فيها
بحسب الأمم، وأنا ما رأيت أن عملاً يجري فيه التصويت على شكلين.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: نحن جرينا في هذا
المؤتمر على أغلبية آراء الحاضرين ولم نخالف ذلك إلى الآن.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي: رأى المؤتمر
في تشكيل اللجان أن تمثل جميع الشعوب ورأى في اجتماعه من أول الأمر أن
تؤخذ الأصوات باعتبار عدد الحاضرين.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي: الأمر
واضح فإذا قلنا: إننا نريد أن نعين خليفة من فلسطين أو العراق فليكن بعدد أصوات
الأمم، وإذا قلنا: إنه يشترط في الخليفة أن يكون عادلاً حرًّا إلى آخر شرائطه فلم أر
معنى لأخذ الأصوات بحسب الأمم.
فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: الكلام الآن يشعر بأن النظام
سيجري بأشكال.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: لا أرى داعيًا لهذا التشاد
نحن الآن معروض علينا مسألة علمية فلنبت فيها ثم بعد ذلك إذا عرضت علينا
مسائل أخرى فعندئذ نعطي فيها رأينا، فلماذا نستعجل الشيء قبل أوانه؟
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: يجب أن
أعلم هل وافقت هيئة المؤتمر الموقر على هذا النظام الداخلي حتى يتخذه بعضنا
حجة على الآخر، أنا لم أتشرف بالحضور إلا في هذه الجلسة، فإن كانت هيئة
المؤتمر وافقت على هذا النظام فتعتبر مواده حجة وإلا فلا.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسن أبي السعود: أنا طلبت
تعديل هذه المواد، وكذلك عطاء الله الخطيب أفندي وقلنا: إنها لا تعتبر ما لم يوافق
عليها المؤتمر.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: المسألة المعروضة مسألة
فرعية علمية وبعد الفراغ منها ننظر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: لقد أردتم
في الجلسة الماضية بعض الإصلاح في النظام الداخلي. فقال فضيلة الأستاذ الشيخ
حسين والي: إن كان هناك ملاحظات على النظام فلتعرض على لجنة الاقتراحات
وانتهى الأمر بأن أحيلت المسألة إلى اللجنة، فعلينا أن نترك لها الأمر حتى يعرض
قرارها على المؤتمر بعد المسائل الجوهرية. وهذه هي الجلسة الثالثة ولم نعمل في
النقط الجوهرية إلى هذه اللحظة شيئًا، وأنتم أغير على المصلحة.
وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: متى يعرض يا سيدي قرار
اللجنة؟ فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: المسائل
الهامة التي يهم حضراتكم النظر فيها هي المسائل المبينة في برنامج المؤتمر وهي
المعروضة الآن.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: أيكون
عملنا فوضى. لقد سمي بالنظام الداخلي لأجل أن يجري الكلام في هذا المؤتمر
على مقتضاه؛ فلأجل ذلك يجب أولاً أن يوافق عليه المؤتمر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: قيل في
الجلسة الماضية: إن هذا النظام قد وضعه المجلس الإداري للمؤتمر، وجرينا عليه
إلى الآن.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: ما
حضرت في الجلسة الماضية ولا التي قبلها، وأنا أسأل هل وافق المؤتمر على هذا
النظام أم لا؟
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: من المعلوم
أن الوزارات في غيبة المجالس النيابية تضع قوانين مخصوصة لأوقات مخصوصة
فإذا اجتمع المجلس النيابي تعرض عليه هذه القوانين، فإما أن يوافق عليها أو لا
يوافق، والمجلس الإداري للمؤتمر وضع هذا النظام، فيعمل به إلى حين أخذ رأي
المؤتمر فيه، وهو إلى الآن معمول به حتى يوافق عليه المؤتمر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: إذا كان
المؤتمر لم يوافق عليه إلى الآن فلا أعترف به، إذاً هو قانون مؤقت، فمتى ينتهي
أمره؟
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: ينتهي أمره
بموافقة أعضاء المؤتمر عليه.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: إن
الاقتراحات حولت إلى لجنة وسيرفع إليكم تقريرها ولا بد أن تنظروا فيه ونحن الآن
نقدم الأهم على المهم، فأمامنا أمر جوهري وهو ما اجتمع المؤتمر لأجله، فإذا فرعنا
منه نطلب بإلحاح من سكرتارية المؤتمر أن تقدم لنا تقرير لجنة الاقتراحات.
وهنا أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس انتهاء
المناقشة وأمر بتلاوة تقرير اللجنة العلمية.
فتلا حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري مقرر
اللجنة العلمية المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر تقرير هذه
اللجنة وهذا نصه:
تقرير
(اللجنة التي ألفها المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر في جلسته المنعقدة
يوم السبت 3 ذي القعدة الحرام سنة1344هـ (15 مايو سنة 1926م) لبحث
المسائل الثلاث الأولى من برنامج المؤتمر من حضرات أصحاب الفضيلة والسيادة
الأساتذة:
حنفية:
الشيخ عبد الرحمن قراعة
الشيخ خليل الخالدي
الشيخ أحمد هارون
مالكية:
الشيخ عبد الغني محمود
السيد محمد علي الببلاوي
عبد العزيز الثعالبي أفندي
شافعية:
الشيخ محمد الأحمدي الظواهري
الشيخ حسين والي
الشيخ حسن أبي السعود
وحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد سبيع الذهبي الحنبلي عضوًا
استشاريًّا.
انعقدت اللجنة في يوم الأحد والاثنين والثلاثاء 4، 5، 6 ذي القعدة الحرام
سنة 1344هـ (16، 17، 18 مايو سنة 1926م) وبحثت المسائل الثلاث
مسألة مسألة وهي:
1 - بيان حقيقة الخلافة وشروط الخليفة في الإسلام.
2 - الخلافة واجبة في الإسلام.
3 - بم تنعقد الخلافة.
وبعد المباحثة ومراجعة الكتب المعول عليها قررت ما يأتي بيانه.
وقد رأت عدم الإطالة بذكر الأدلة والمآخذ رعاية للزمن، ولأن غالب ذلك
معروف مبسوط في الكتب المشهورة:
***
المسألة الأولى
بيان حقيقة الخلافة وشروط الخليفة في الإسلام
1 - حقيقة الخلافة: هي رياسة عامة للدين والدنيا وحفظ حوزة الملة نيابة
عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم. فلابد في تحقيقها من الجمع بين
الرياستين: الرياسة الدينية والرياسة الدنيوية، وفصل إحداهما عن الأخرى أو تقييد
الخلافة بإحداهما دون الأخرى مخرج للخلافة عن معناها الحقيقي ونقض لأصل عقد
الخلافة بين الأمة والخليفة، ولا يتصور وجودها بدون إحداهما.
ولا يصح القول أيضًا بأن مبايعة الأمة للخليفة من باب الوكالة وللموكل أن
يقيد الوكيل، لأن هذا قياس مع الفارق. فليس من حقيقة الوكالة شرعًا أن تكون
عامة، بل يصح أن تكون عامة ويصح أن تكون خاصة بخلاف الخلافة، فإن
حقيقتها أن تكون عامة لا غير. وكما أن حقيقة الخلافة تمنع من قصر الخلافة
على إحدى الرياستين كذلك تمنع من إمكان القول بجواز تعدد الخلفاء؛ لأن عموم
الرياسة المأخوذ في مفهومها لا يتفق مع التعدد؛ ولأن من أوائل مقاصد الدين توحيد
الأمة الإسلامية ورعاية مصالحها المشتركة واعتبار المسلمين في سائر أقطار
الأرض كالجسم الواحد الذي لا يكون له إلا قلب واحد ينبعث منه دم الحياة إلى سائر الأعضاء.
ب - شروط الخليفة في الإسلام: اتفقت المذاهب الأربعة على اشتراط
الإسلام، والبلوغ والعقل، والحرية والذكورة، والقدرة على إقامة الحدود وتنفيذ
الأحكام، وحماية بيضة المسلمين، وسلامة السمع والبصر والنطق، وأن يكون
ذا رأي وبصارة بتدبير المصالح العامة للمسلمين.
وأما الاجتهاد فالجمهور على اشتراطه، ويرى بعضهم صحة الاستغناء عنه
باستفتاء العلماء. وكذا القرشية فقد نقل ابن خلدون أن الجمهور على اشتراطها
أيضًا. وأن كثيرًا من المحققين ومنهم أبو بكر الباقلاني على خلاف ذلك كما أن
الجمهور على اشتراط العدالة أيضًا.
وقد اتفق العلماء على أن محل رعاية ما وقع الاختلاف فيه من هذه الشروط
إنما هو حالة الاقتدار والاختيار لا حالة العجز والاضطرار.
***
المسألة الثانية
الخلافة واجبة في الإسلام
الإمامة (الخلافة) واجبة في الإسلام، وقد استدل لهذا في شرح العقائد بقوله
صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ، ولأحمد
والطبراني (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أخرجاه من حديث
معاوية. ولمسلم في صحيحة عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس
في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ولأن الأمة قد جعلت أهم المهمات بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم نصب الإمام على ما في الصحيحين من حديث سقيفة بني
ساعدة، وكذا بعد موت كل إمام، ولأن كثيرًا من الواجبات الشرعية يتوقف عليه
كتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش،
وقسمة الغنائم، وقهر المتغلبة والمتلصصة، وقطاع الطرق، وقطع المنازعات
الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، ونحو ذلك من الأمور
التي لا يتولاها آحاد الأمة.
***
المسألة الثالثة
بم تنعقد الخلافة؟
اتفق العلماء على أن لانعقاد الخلافة ثلاث طرائق:
الطريقة الأولى: النص من الإمام السابق.
الطريقة الثانية: بيعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وأهل الحل والعقد هم
الذين يطاعون في الناس من العلماء والأمراء والوجوه وأهل الرأي والتدبير. ولابد
عند جمهور العلماء من أن يكونوا عدولاً. ولابد عند الحنفية في طريقتي النص
والمبايعة من نفاذ حكم من نص عليه أو بويع، فإن لم ينفذ حكمه في الناس لعجزه لم
يصر إمامًا.
الطريقة الثالثة: (التغلب والقهر من شخص مسلم وإن لم تتحقق فيه الشروط
الأخرى) .
وبعد الفراغ من تلاوة هذا التقرير.
اقترح حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطا الله الخطيب أفندي إمهال
المؤتمر يومًا ليتمكن حضرات الأعضاء من نظر التقرير في سعة وإبداء آرائهم فيه.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد هارون. هذه مسائل علمية
نقلية محضة وهي معروفة عند العلماء، ولا تقبل شيئاً من المناقشة ولا أرى وجهاً
لإعطاء مهلة لدرسها.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: لا يشك شاك في أن مسألة
الخلافة من أهم المسائل، والبت فيها من الصعوبة بمكان عظيم. فأقترح تأجيل
المؤتمر سنة حتى نقتل هذه المسألة بحثًا. وأن البحث الفقهي في هذه المسألة غير
كاف. فللظروف أحكام وللأمكنة أحكام. وتأثر النظم الإسلامية ببعض السياسات
الأجنبية له حكم آخر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: نحن
لم نرد فيما اجتمعنا لنظره من المسائل العلمية أن نكون مجتهدين لنحدث آراء جديدة
ومذاهب جديدة في الإسلام. أن بحثنا ينحصر فيما نقول المذاهب المعتبرة في
الإسلام. أما التطبيق فلكم أن تقولوا: إن هذا ليس من اختصاصنا.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: لا أريد مذهبًا جديدًا أو
القول بالاجتهاد، إنما أقول ذلك مستفتيًا. فإن كنتم تنقلون مسائل غير قابلة للتطبيق
في هذا العصر فماذا يكون الحكم؟
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: إن فتح
باب تطبيق الأحكام الشرعية في عصر دون عصر خطر على الإسلام. نحن
نعرف أن تطبيق أحكام الدين العامة شيء واحد، أما مراعاة أحكام الأزمنة في
إحداث شروط جديدة فلا نقول بها.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري: كنت في الجلسة
الماضية قد أشرت إلى أمر هام وهو أن هذه المسألة يجب أن ندعها إلى المجتهدين
الذين لهم الترجيح ويقدرون على الاستنباط، ولكن المؤتمر أخذ هذه المسألة على
عهدته ثقة بنفسه. والاعتماد على النفس في عصرنا هذا مزية مقبولة ممدوحة.
وقد جاءتنا اليوم اللجنة العلمية بهذا التقرير لنبدي رأينا فيه، وإننا في جميع بلادنا لنا
عقيدة ثابتة هي أن سادتنا وأئمتنا الأطهار علماء الديار المصرية فيهم من هو
المجتهد في المذهب وفيهم المستنبط. وإذا كانت اللجنة استندت إلى كلام ابن خلدون
في مسألة النسب، فهل الديار المصرية ليس فيها من هو أعلى درجة في الترجيح
والاستنباط؟
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: هل
ضاقت بنا كتب الدين حتى نرجع إلى كتب التاريخ ونأخذ عن ابن خلدون؟
فطلب حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري ألا يقاطعه أحد
وقال: كانت ديارنا كلها تنتقدنا في مسألة التصوير الشمسي، فلما ظهرت رسالة
فضيلة مفتي مصر السابق وهو الجالس هنا، وذكر فيها أن الصورة الشمسية ليست
صورة مخترعة بل هي صورة حفظت بوساطة الآلات امتنع اعتراض الناس
علينا.
فعلمنا أن الأستاذ مؤلف الرسالة هو من أهل الاجتهاد في المذهب ومن أهل
الاستنباط. إن مؤتمركم هذا أيها السادة المصريون إذا قرر شيئًا فإنه سيصل إلى
العلماء والفلاسفة والملوك والنظار والعوام في أقطار المسلمين، فالمسلمون اليوم
يريدون منكم إيضاحًا وتفصيلاً. إن شروط الخليفة استنبطتها الطبقات التي قبلكم
استنباطًا، وإن في شروط الخليفة أحاديث منها ما صححه العلماء، ومنها ما جعلوه
موضوعًا وذلك في كتب متفرقة منثورة، وأنتم تقولون إن هذا في المدونات العلمية
ونحن نسلم لكم ولكن لا يمكن أن نحكم على جميع طبقات المسلمين أنهم يعلمونه كما
تعلمونه، فيجب أن نكتب هذه المواد مادة مادة بشكل خاص فربما عرض على
ملوك المسلمين وأمرائهم وأهل الحل والعقد وربما باحثكم فيه علماء تونس أو علماء
سوريا أو علماء العراق أو علماء فارس. فنحن لا نطالبكم بإحداث شرائط جديدة،
وإنما نطالبكم ببيان هذه المسائل التي اجتهدت فيها الطبقات القديمة قبلكم، فهل هي
مسائل عقائد أو هي مسائل ظنية استنبطها من كانوا قبلكم وجعلوها شروطًا؟ وهل
إذا أنكر الشروط أو بعضها رجل يخرج بذلك عن الدين؟ نريد منكم خبراء مقتدرين
يضعون نظامًا محكمًا ذا مواد مفصلة حتى إذا نشر في البلاد الإسلامية كان لنا أن
نرفع رؤوسنا بكم ولا يفهم من كلامي هذا أني أحتقر اللجنة أو المؤتمر، وكلكم من
أكابر القوم، إن أكابر السياسيين الذين يجتمعون في المؤتمرات ينتخبون الخبراء
الماليين والعسكريين ولا يطعن ذلك في كفاءتهم. ثم هنا مسألة أدعوكم إلى التفكير
فيها وهي أن تجمعوا هذه المسائل مع المسائل السياسية الأخرى بدقة تامة فإن
وراءكم أمراء وزعماء وملوكًا، فاحذروا من أن يكون عملكم محل انتقاد فإن هذا لا
ينتهي في نصف ساعة أو بجواب مقرر.
فاستأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي وقال: يا فضيلة
الرئيس، إن اللجنة العلمية التي نظرت في هذه المسائل الثلاث ليست مؤلفة من
علماء مصر وحدهم وإنما هي لجنة انتخبها المؤتمر نفسه من بين حضرات أعضائه
وفيها علماء من الجهات الممثلة في المؤتمر فلماذا يخاطب فضيلة الأستاذ الشيخ
الشقيري علماء مصر فقط؟ على أن عمل اللجنة واضح في الشريعة.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ الشقيري: إنما أخاطب
المتخصصين. وهنا استأذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي
في الكلام أيضاً وأراد أن يتكلم.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: إنما الكلام
الآن لمقرر اللجنة.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: إنما أتكلم كعضو في
المؤتمر واللجنة. ولكل عضو حق الكلام بالإذن وفضيلة المقرر له الكلام من قبل
ومن بعد، وقد استأذنت فضيلة الرئيس فأذن، والمسألة سهلة فليتكلم فضيلة المقرر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: إن
الأستاذ الشيخ الشقيري يثني على علماء مصر فجزاه الله ألف خير عنهم، وإن
علماء مصر ما زالوا ولن يزالوا شافعية وحنفية ومالكية وحنابلة على هذه المذاهب
وما ينبغي لنا غير هذا فمهمتنا أن نبين هذه الشروط فإذا كان فيها لبس أو خفاء
فليذكر موضعه لإيضاحه. إن وظيفتنا علمية وما على اللجنة إلا أن تعدّ للمؤتمر.
فإن اكتفى بما أعدته فيها وإن رأى غموضاً أو إبهاماً فللمؤتمر أن يستوضح ما يريده.
وما وظيفة المقرر إلا رفع اللبس وإلا فما كان هنالك من حاجة لتوزيع التقرير
على المؤتمر كفتوى شرعية لا تحتمل المناقشة. يقول فضيلة الأستاذ الشقيري
يجب أن نجتهد وأن نطبق فأي مسألة يريد أن نجتهد فيها ونطبقها؟ ليست مهمتنا
أن نقول هذا الشرط متحقق عند فلان دون فلان. وإنما هذه مهمة اللجنة الأخرى
التي تقول: هذا ممكن أو غير ممكن. أما نحن فوظيفتنا أن نبين ما هي الشروط
الشرعية على حسب المذاهب. فإن كان لدى الأستاذ اعتراض على أي شرط من
هذه الشروط فليتفضل بذكره.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري: اليوم إذا سألك
سائل وقال إن من ضمن هذه الشروط النسب فما الأسباب التي جعلت من قبلنا
يعرضون عنه.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: قلنا
إن الجمهور على أن يكون الخليفة قرشيًا. وقلنا: إن بعضهم قال إن هذا ليس بشرط
ومنهم أبو بكر الباقلاني الذي نقل عنه ابن خلدون. ونحن بسطنا المسألة، وقلنا: إنها
لا تحتاج إلى ابتداع منا، وأنا لا أقول خذوا بمذهب الشافعية أو بمذهب غيرهم وإلا
أثرت خلافًا بين المذاهب الأخرى، وكل له وجهة نظر صحيحة فإذا رأيتم أن نأخذ
بقول لأن المصلحة فيه فلا مانع، ونحن نتجافى كل التجافي عن الخلافات المذهبية
التي فرقت المسلمين.
فقال حضرة صاحب الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذه مسألة عملية ولا
يحمل عليها المسلمون.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.(27/208)
الكاتب: محمود أبو العيون
__________
محاربة البغاء
تقرير
رفعه فضيلة الأستاذ أبي العيون إلى أصحاب الدولة رئيس الوزراء ورئيس
مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس النواب، خاص بإلغاء البغاء الرسمي.
حضرة صاحب الدولة الرئيس
السلام عليكم ورحمة الله
وبعد. فإني أبرقت إلى دولتكم اقتراحًا بتاريخ يوم الاثنين 3 ذي الحجة سنة
1344هـ الموافق 14 يونيو سنة 1926م. بشأن إلغاء البغاء الرسمي، سألتكم فيه
بحرمة الدين والوطن أن تعملوا على إلغائه أسوة بالممالك المتمدينة، كأمريكا
وإنجلترا، وألمانيا.
واليوم يا دولة الرئيس نرفع إليكم تقريرًا كمذكرة إيضاحية للبرقية السالفة
الذكر مثبتين في ذلك التقرير بعض البيانات التي جعلتنا ننتهز الفرصة الحالية
لرجائكم في العمل على إلغاء البغاء الرسمي، وإليكم نصها:
أ - إن دستور الدولة المصرية اعتبر الإسلام دين الدولة الرسمي، ولم يكُ
وضع ذلك في الدستور عبثًا، بل له شأنه وقيمته واعتباره في حياة الدولة وتقاليدها
ومظاهرها العامة التي لها بالدين صلة وارتباط، وإن مشروعية الدعارة وتنظيمها
لا يتفق ودين الدولة الرسمي. ذلك لأن الإسلام يحرم الزنا، وتشريعه وتنظيمه ويأمر
بجلد الزاني والزانية ورجمهما. ولقد كان ذلك من الإسلام رأفة ورحمة بالمجتمع
الإنساني. وحرصًا منه على حفظ النفس والعقل والمال وهي أهم أغراض التشريع
الإسلامي والزنا يهدم هذه الأغراض من أساسها.
ب - إن قسم اللوائح والرخص بحث رسمية البغاء من جميع نواحيها،
وأثبت بعد استقرار المباحث الخاصة والعامة في الدولة المصرية وغيرها أنه من
المتعذر تنفيذ قوانين وأنظمة البغاء، بل إن نظامه أصبح مؤذيًا أدبيًّا وصحيًّا،
وساق على ذلك أدلة تكفي لإقناع من يطلع عليها، وأخيرًا نصح وزارة الداخلية
بإلغاء الدعارة الرسمية وإنقاذ البلاد من خطرها الداهم.
ج - إن مصلحة الصحة وافقت بمكاتبة رسمية قسم اللوائح والرخص على
إلغائه وأشارت إلى النظام الذي يتبع عقب الإلغاء.
د- إن كثيرًا من الممالك المتمدينة كإنكلترا وألمانيا والنرويج تجاهلته، أو
حرمته وراقبت آثاره. ولا سيما أمريكا فإنها حرمته بتاتاً وعقدت كل ولاياتها
مؤتمرًا للأمراض التناسلية ووضعت قرارًا حاسمًا في ذلك. ويتلخص في جملة
واحدة وهي: (إن المؤتمر يعتقد بعد دراسة واسعة إن العلاقات التناسلية الغير
الشرعية قلت كميتها بعد إيجاد نظام منع البغاء الرسمي) .
هـ - إن الدول التي تجاهلت البغاء أو حرمته لم يكن الباعث لها على ذلك
احترام الدين أو الآداب أو الرأي العام فقط. بل ظهر أن الاعتراف به رسميًّا
(1) مفسد للأخلاق (2) مسبب للأمراض (3) مسهل لجريمة الاسترقاق (4)
مروج لتجارة الرقيق الأبيض (5) معطل للزيجة.
و إن التقارير الطبية أجمعت على أن تشريع البغاء وتنظيمه من أشد
الأخطار وأفدحها في ذيوع البغاء، وانتشار الأمراض، وفوضى العلاقات التناسلية.
(1) كتب الدكتور تسكالاس مندوب الجمعية الدولية لإلغاء الاعتراف رسميًّا
بالبغاء للمسيو جراهام مدير الصحة العمومية المصرية يحثه فيها على السعي لإلغاء
لائحة العاهرات حين أريد تعديلها سنة 1905 قائلاً (إنها خطأ فاحش من الوجهة
الصحية، وظلم من الوجهة الاجتماعية، وفظاعة من الوجهة الأدبية وجريمة من
الوجهة القضائية) .
(2) وقال الدكتور شان فلوري سان استلستين الذي كان متوليًا عملية
الكشف بمدينة لاهاي (إن الكشف على العاهرات لا يمكن أن يؤدي إلا إلى نفع
قليل بعزل بعض المريضات عن الاختلاط بالرجال؛ إذ كم من مريضة تفلت من يد
الطبيب لكمون دائها، أو لأنها تخفي علامات مرضها) . وقال (ومن هذا يتضح
مقدار المضار التي تسببها الحكومات باعترافها بالبغاء رسميًّا، إذ إن اعتراف
الحكومات بالبغاء رسميًّا يكون كعقد منها تجاه الجماهير تتعهد لهم به أنها كفيلة بمنع
الأمراض بمراقبة العاهرات والكشف عليهن طبيًّا، وتكون كذلك حرضت عددًا من
الرجال على الزنا، ولولا هذا الوهم الذي توهموه، ولولا ما دخل في نفوسهم من
الاطمئنان على صحتهم ما كانوا أقدموا على الزنا، وبهذا تكون الحكومة قد جعلت
من الناس زناة، ومن الأصحاء ضعفاء تسممت أجسامهم بالأمراض) .
(3) وكتب الدكتور فخري تقريرًا مسهبًا بحث فيه مسألة البغاء والأمراض
التناسلية بحثًا دقيقًا. ثم رفعه إلى جميع الهيئات والمقامات والصحف. ونظرة
واحدة في التقرير تبعث القارئ على الأسف الشديد والحزن العميق لِما وصلت
إليه حالة البلاد من جراء البغاء السري والجهري وما كان لهما من أثر سيئ في
حالتنا الخلقية والصحية والاقتصادية.
ز - إن مَواطن البغاء جعلت مأوى لتهريب المواد المحظورة بقانون سنة
1925م وأصبحت تلك المواطن فوق كونها مواخير للدعارة فهي (غرز) للحشيش
والأفيون والكوكايين والهروين وغيرها من المواد السامة والعقاقير الضارة.
وبعد، فإننا أوردنا في هذا التقرير برؤوس مسائل لم نرد أن نتوسع فيها خشية
الإملال والسآمة. وبعد ذلك لا نرى مبررًا لبقاء العهر في البلاد. وإننا نرجو ونلح
في الرجاء على دولتكم أن يقدر مجلسكم الموقر فظاعة رسمية الدعارة وأن يعمل
على إلغائها بكل سرعة ممكنة رحمة بأبناء هذه الأمة المسكينة وإنقاذها من القلق.
والله سبحانه وتعالى يتولانا جميعًا، ويوفقنا للعمل الصالح وصالح العمل.
وتفضلوا يا صاحب الدولة بقبول إجلالي لشخصكم الكريم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... محمود أبو العيون
... ... ... ... ... ... مفتش الجامع الأزهر والمعاهد الدينية
__________(27/233)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جواب الأستاذ الإمام
عن كتاب لبعض علماء الشام
كتب إليّ بعض علماء الشام [1] جوابًا عن كتاب هنأه فيه بمنصب الإفتاء، وهو
ألطف كتبه وفيه من الشكوى من سوء حال قومه ولا سيما الجامدين الرسميين
ومن التحدث بالنعمة ما ليس في غيره.
أنصفني قومك إذ سروا بتناولي منصب الإفتاء، ولعل ذلك لشعورهم بأنني
أغير الناس على دين الله، وأحراهم بالدفاع عن حِماه، وأدراهم بوجوه الفرص
عند سنوحها، وأحذقهم في انتهازها لإبلاغ الحق أمله، أو يبلغ الكتاب أجله،
على أنهم مني بحيث لا يفسد نفوسهم الحسد، ولا يتقاذف بأهوائهم اللدد، وكل ذي
دين يشتهي أن يرى لدينه مثل ما أحث إليه عزيمتي، وأخلص في العمل لتحقيقه
نيتي، خصوصًا إن كفي فيه القتال، ولم يكلف بشد رحال، ولا بذل أموال.
أما قومي فأبعدهم عني، أشدهم قرباً مني، وما أبعد الإنصاف منهم، يظنون
بي الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرعًا منهم في الأحكام، وذهابًا مع
الأوهام، وولعًا بكثرة الكلام، وتلذذًا بلوك الملام، أقول فلا يسمعون، وأدعو فلا
يستجيبون، وأعمل فلا يهتدون، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون، وأضع أيديهم
عليها فلا يحسون، بل يفرون إلى حيث يهلكون، شأنهم الصياح والعويل،
والصخب والتهويل، حتى إذا جاء حين العمل، صدق فيهم قول القائل في مثلهم:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
وأقول: ولا من الخير.
وإنما مثلي فيهم مثل أخ جهله إخوته، أو أب عقّته ذريته، أو ابن لم يَحْنُ
عليه أبواه وعمومته مع حاجة الجميع إليه، وقيام عمدهم عليه، يهدمون منافعهم
بإيذائه ولو شاءوا لاستبقوها باستبقائه، وهو يسعى ويدأب، ليطعم من يلهو ويلعب،
على أني أحمد الله على الصبر وسعة الصدر إذا ضاق الأمر، وقوة العزم
وثبات الحلم، وإن كنت في خوف من حلول الأجل قبل بلوغ الأمل، خصوصًا
عندما أرى أن العمل في أرض ميتة لو ذابت عليها السماء مطرًا لما أنبتت زرعًا،
ولا أطلعت شجرًا، أفزع لذكرى ذلك وأجزع، ويكاد قلبي يتقطع، ثم أرجع إلى
الله فأعلم أنه مع الصابرين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فيثلج صدري، وأمضي
في جهادي الدائم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.
ممن أشتكي؟ لو أن ما ألقى كان من لغط العامة ولقلقة الجاهلين لهان الأمر
وتيسر المخرج. ولكن البلاء كل البلاء أن أشد الناس عداوة لأنفسهم هم أولئك
المعلمون الذين يبعدون عن الدين، مدعين أنهم دعاته، ويمزقون أحشاءه زاعمين
أنهم حماته، وما منهم إلا أحد شخصين: شخص ركب هواه فأعماه، فهو يرى
الحق باطلاً، والصواب خطأ، وآخر غرَّته دنياه، وأضله جشعه، فران على قلبه
ما يكسب، وامتنع عليه معرفة الصدق من كثرة ما يكذب، ولم يعد للحق إلى قلبه
سبيل.
ليتني كنت أشكو إلى الله جهل العالمين وحمق المعلمين، في مثل الجاهلية
التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لمحو أحكامها، وإزالة أيامها، تلك جاهلية
كان الضلال فيها بعيدًا، ولكن كان فهم القوم حديدًا، لذلك عندما لاح لهم ضوء
الهدى أبصروه، وعندما قرع أسماعهم صوت الداعي أجابوه، كان القرآن يصدع
أفئدتهم، فيليِّن من شدتهم، ويفل من شرتهم، ويفجر من صخر القسوة ينابيع
الحنان والرحمة، وما كان أهل العناد فيهم إلا قليلاً، عرفوا الحق فأنكروه، وطائفة
كانوا يفرون منه خوف أن يعرفوه، ولو سمعوا، لفهموا، ثم لم يجدوا بدًا من أن
ينصروه، وإن الجحود مع ألفهم، كاليقين في العلم، كلاهما قليل في بني آدم.
أما اليوم فإنما أشكو من قلة الفهم وضعف العقل واختلال نظام الإدراك وفساد
الشعور عند الخاصة، فلا تجذبهم فصاحة، ولا تبلغ منهم بلاغة، وغاية ما
يطلبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، وأن يوصفوا بالعلم وإن لم يعقلوا، وأن تُقضى
حاجاتهم إذا سألوا، وأن ترفع مكاناتهم وإن تنزّلوا، وأن استعداد السامع للفهم
يستدر المقال، ويسدد الفكر للنضال في الجدال، أما عيشك فيمن لا يفهم، فإنه
ينضب منك ينبوع الكلام، ويطمس عين الفكر، ويزهق روح العقل.
جعلني الشيخ عبد الرزاق البيطار ثالث الرجلين [2] وما أنا في شيء من
أمرهما، إلا نزر من الهمة، وكثير من معرفة قدرهما.
الحمد لله لا أحصي ثناء عليه، وأشكره وأشكر نعمة مرجعها إليه، وأذكر من
نعمه أكبر نعمة أمدني بها، وأكرمني بأسبابها إحسانه إليَّ، بعطف قلب الأستاذ
علي وتقريبي من فؤاده وإحلالي مكانًا من وداده، كرمت نفس الأستاذ فكرم فيه
مثالي، وكملت سجاياه فتخيل منها كمالي. نسب إليّ الشيخ الجليل شؤونًا كلها من
سرائره، وألبسني من الأوصاف ثوبًا نسجته يد مظاهره. جعل لي السيد من حسن
ظنه معينًا، وأفادني بثقته ركنًا ركينًا، وسندًا أمينًا، فأسأل الله تحقيق ظنونه، وأن
يمدني دائماً بدقائق فنونه، وأن ينصرني بولائه، وأن يسلكني في عقد أوليائه،
والسلام.
__________
(1) هو أرجح أنه الشيخ جمال الدين القاسمي، رحمهما الله تعالى.
(2) يريد شيخي الإسلام ابن القيم وابن تيمية.(27/236)
الكاتب: أبو الوفاء ثناء الله
__________
أمر القادياني قد فصّل
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي المدير لمجلة المنار، سلمه الله الغفار، السلام عليكم، رأيت العدد
الأول من المجلد السابع والعشرين من مجلة المنار، وأنا بمكة المكرمة في شهر ذي
القعدة، فنظرت فيها تحت عنوان: الجامعة القاديانية. ما ذكر غلام أحمد القادياني
المدعي للمسيحية الموعودة، والمهدوية المعهودة، نشأ في البنجاب قريبًا من وطني
أمرتسر فأنا جاره (وصاحب البيت أدرى بما فيه) صرفت حصة من عمري في
تحقيق أمر القادياني، باحثته وجادلته حتى صار أمرنا إلى أن دعا الله أنه من كان
منا كاذبًا عندك فأمته قبل الصادق وأشاع إعلاناً هنديًّا (هذا تعريبه) .
الفيصلة الأخيرة بيني وبين المولوي ثناء الله
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (يونس: 53) بحضرة
المولوي ثناء الله) .
(السلام على من اتبع الهدى، إن سلسلة تكذيبي جارية في جريدتكم (أهل
الحديث) (الحديث) مذ مدة طويلة أنتم تشهرون فيها أني كاذب دجال مفسد مفتر،
ودعواي للمسيحية الموعودة كذب وافتراء على الله، أني أوذيت منكم إيذاءً،
وصبرت عليه صبرًا جميلاً، لكن لما كنت مأمور بتبليغ الحق من الله
وأنتم تصدون الناس عني فأنا أدعو الله قائل: يا مالكي البصير القدير العليم الخبير تعلم، ما في نفسي إن كان دعواي للمسيحية الموعودة افتراء مني وأنا في نظرك
مفسد كذّاب، والافتراء في الليل والنهار شغلي فيا مالكي أنا أدعوك بالتضرع والإلحاح
أن تميتني قبل المولوي ثناء الله، واجعله وجماعته مسرورين بموتي،
يا مرسلي أنا أدعوك آخذًا بحظيرة القدس لك أن تفصل بيني وبين المولوي ثناء
الله، أنه من كان مفسدًا في نظرك كاذبًا عندك فتوفّه قبل الصادق منا {رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} (الأعراف: 89) الراقم عبد الله
الصمد مرزا غلام أحمد المسيح الموعود، عافاه الله وأيد عزه، ربيع الأول سنة
1325هـ.
أيها الناظرون: إن المدعي قد مات منذ سنين ودُفن في قاديان وأنا بحمد الله
حي إلى الآن، فهل بقي شيء يريب أحدًا في أمر القادياني؟ لا والله قد فصل
فحصحص الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
... ... ... ... ... ها أنا ذا الخادم لدين الله
... ... أبو الوفاء ثناء الله المدعو بفاتح قاديان الهندي الأمرتسري
__________(27/238)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله
(5)
ذكرنا في المقالة الثانية من هذا البحث جملة مطالب الأزهريين وما قبلته
الحكومة منها، وذكرنا في الثالثة والرابعة تفسير الأزهريين لمطالبهم تلك ووعدنا
بالتعليق عليها. ثم أمسكنا عن إتمام هذا البحث بضعة أشهر لما طرأ على مسألة
الأزهر من التقلب والخلاف بين الحكومة ومشيخته، وما طرأ في العالم الإسلامي
من الأطوار العامة من نبذ الحكومة التركية للشرع الإسلامي وتأثيره في قوة سير
الإلحاد واللادينية في مصر من جهة، ومن الرجاء في قوة الدين من جهة أخرى
بانتصار النجديين في الحجاز على حكومته السابقة الجائرة المفسدة، ونعود الآن إلى
إتمام البحث في حال الأزهر وحاضره، ثم نبني عليه في مجلد المنار السابع
والعشرين الكلام في مستقبله إن شاء الله تعالى فنقول:
إن جُل مطالب الأزهريين من الحكومة منافع ماديَّة وإدارية يتوقف عليها جعل
هذا المعهد العلمي الإسلامي كالعضو الرئيسي العامل في بنية الأمة والدولة، ولكن لن
يكون بها كذلك إلا بالإصلاح العلمي والتهذيبي الذي يشعر الأمة والحكومة معًا
بالحاجة إليه وتوقف ارتقاء البلاد على عمل المتخرجين فيه، وليس في مطالب
أهله ولا في شرحها ولا فيما كتبوا في الصحف من المقالات انتصارًا لها أدنى بيان
لأركان هذا الإصلاح، ولكن في بعضها إشارة إلى بعض المسائل الإصلاحية
بالإجمال كطلب إرسال بعثات من الأزهريين إلى المدارس الأوربية الجامعة وهو
المطلب السابع مما تقدم في المقالة الرابعة، وكذلك انتقاء الكتب وتعديل البرامج بما
يناسب حاجة العصر الحاضر والتقدم العلمي الحالي، وهو المطلب الثاني عشر
منها، وهو الأخير كما تقدم. قد يكون تنفيذ هذين المطلبين ركنًا من أركان
الإصلاح العلمي، وقد يكون من أكبر المفاسد القاضية على هذا المعهد، فقد تعلم
بعض متخرجي الأزهر وحملة شهادة العالمية ومن دونهم في مدارس أوربية فعادوا
إلى مصر يفسدون ولا يصلحون، وهم من دعاة الحكومة اللادينية والإلحاد في
البلاد، وإنما تكون العلوم العصرية إصلاحًا عظيمًا بما سنبينه بعد في الكلام
على مستقبل الأزهر.
__________(27/240)
ذو الحجة - 1344هـ
يوليو - 1926م(27/)
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
__________
الإرشاد
ماضي المسلمين وحاضرهم، الإرشاد وما له من التأثير والمكانة في الحياة
الإسلامية - الصفات التي يجب أن تتوفر في المرشد - أدلة وجوب الإرشاد من
الكتاب والسنة - مَنْ يَصلح للإرشاد - أشهر طرق الإرشاد الخطابة - الدرس -
التمثيل - الأسوة الصالحة - الكتابة - كيف يتكون المرشدون؟
كلما فكرت في أمر المسلمين، وما كان لهم من عز وما أصبحوا فيه من ذل
وما عرف لهم من الملك الواسع، وعنهم من العدل الشامل، وما صاروا إليه من
كلمة متفرقة وممالك ملتهمة وبلاد مستعمرة - كلما جد بي التفكير في ذلك حضرتني
كلمة (الإرشاد) وملكت علي نفسي واستولت على فكري، وكيف لا تكون كذلك
وبها قامت هذه الملة، وانتشرت هذه الشرعة، وتكون بها الملك الإسلامي في
مشارق الأرض ومغاربها وشماليها وجنوبيها، فمحمد عبد الله ورسوله (صلى الله
عليه وسلم) لم تكن له الجيوش المؤلفة، ولا الأساطيل القوية، ولا الغواصات
الماخرة، ولا الطيارات السابحة، ولكن بين جنبيه نفس طاهرة وروح مكملة
حركت لسانه بالدعوة إلى الحق وإرشاد الخلق والأخذ بهم عن اللمم، إلى السبيل
الأمم ففعلت نفسه بنفوسهم وروحه بأرواحهم ما لا تفعله القوى الطاهرة، فإنها إن
حركت الأجساد إلى حيث يريد المستعبدون الظالمون، فإنها لا تحرك القلوب نحو
الغاصبين المستبدين، بل ربما أيقظت نائمهم وأجدت خاملهم، وبعثت ساكنهم إلى
حيث يناوئ الغاصب ويقهر الغالب ويرد الكائد، ثم يختط لنفسه من طرق السعادة
وسبل العزة ما يمكن له في الأرض، ويستعيد به الملك الغابر والمجد السالف
وسيطرة الأولين وعزة المؤمنين.
قام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا حول له ولا قوة إلا الدعوة إلى الخير
ينطق بها قلبه قبل أن ينطق لسانه ويظهر أثرها في عمله وخلقه قبل
أن تنظم في كلمة فكان الناس يسمعون مع صوته وحي قلبه، ويرون في خلقه وفعله
أسوة حسنة وقدوة صالحة فكل عضو من أعضائه داعية وكل حاسة من حواس
سامعيه مشغولة بدعوته منصرفة عن غيره، فكيف لا يسيرها حيث يحب ويسخرها
حيث يود ولا يحب إلا الخير ولا يود للناس إلا ما انطوت عليه نفسه وجبلت عليه
روحه من معالي الأمور ومكارم الأخلاق وكبار الآمال. وكذلك صَحْب رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) والتابعون لهم بإحسان كانوا داعين بعملهم وقيلهم إلى هذا
الدين فاستطاعوا أن ينشروه في قلوب الملايين من البشر قبل أن ينشروا سلطانه في
معظم المعمور من الأرض إذ ذاك.
وكما كان بهذه الكلمة قيام الأمم، وبناء الدول كان بتركها وإهمالها دكَّ هذا
البناء الشامخ الذي بناه على أساس الحق والعدل آباؤنا السابقون وسلفنا الصالحون،
وبعثرة هذا المُلك العريض الذي توطن (سرة) الكرة الأرضية، وخير ما فيها من
بلاد، فهي كلمة من فهمها حق فهمها وقام بحقوقها وحفظ عليها حرمتها كانت له
أكبر عون على آمال يريد تحقيقها وأماني يود حصولها. ومن ضيعها وحقر شأنها
ونكث عهدها لم تؤاته على آماله، بل سلبت منه ما كان جمعه وهدمت ما كان أقامه.
وإذ كانت هذه مكانة الإرشاد كان من الواجب علينا أن نعالج موضوعه ونُلم
بأبحاثه حتى نحرك آلاف العلماء ليقوموا بواجب النصح ويؤدوا العمل الذي كتب
الله عليهم أن يؤدوه، وأخذ عليهم الميثاق أن يبينوه ولا يكتموه. وحتى يعرف الذين
قصدوا للإرشاد - ولم يحسنوا - الطريق السوي الذي يصلون منه إلى النفوس
فيحركونها نحو ما يحبون، أو يكونوها كما يبغون - وقد رأيت أن أقسم الموضوع
إلى أربعة أقسام:
الأول - في وجوب الإرشاد.
الثاني: في بيان من يصلح للإرشاد.
الثالث: في طرق الإرشاد.
الرابع: كيف يتكون المرشدون.
***
1- في وجوب الإرشاد:
قال الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال تعالى {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) .
وقال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:
187) وقال {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) . وقال {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن
قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 63) .
وقال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71) . وقال {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً
مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) . وقال
تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . وقال:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ
المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ
عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) وقال تعالى:
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .
وروى الشيخان عن تميم الداري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(الدين النصيحة) قاله ثلاثًا، قال: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله
ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون
وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون
ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم
بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة
خردل) .
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ذكرنا كثيرًا منها وإن كان المتروك
أكثر لنبين لحضرات العلماء الذين يعيشون لأنفسهم دون أمتهم ودينهم أن واجب
الإرشاد ليس دون الصلوات والزكوات والفرائض المحتمة في الدين المعروفة بين
جمهور المسلمين. فهل رأيت من الحث في القرآن على الصيام الذي هو ركن من
أركان الإسلام مثل ما رأيت من الحث على الإرشاد ووجوب التذكير والعظة
والإنذار بسوء العاقبة لمن قعد عن القيام بهذا الواجب الذي من أجله بعث الله الرسل
مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؟ والذي من أجله أنزل
كتبه بين خلقه يستضيئون بنورها إذا أظلمت عليهم المقاصد والْتَوَت طرق الحق
وضل الناس المحجة. وهل مدح الله العلماء بما مدحهم به في القرآن إلا لأنهم ورثة
الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس ويرشدونهم إلى طرق الفلاح والنجاح، يرشدونهم
إلى أسباب السعادة والعزة في هذه الدار {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وفي الدار الآخرة {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ
الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) .
***
1ـ من يصلح للإرشاد:
ما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، وما خرج من القلب وصل إلى
القلوب فحرك دم الإصلاح فيها فحرك الأعضاء إلى الخير والعمل الصالح حركها
إلى حيث السعادة للنفس والعشيرة والخلق، فالنفس الطيبة لا تصدر إلا طيباً، النفس
المكملة تستطيع أن تكمل غيرها والنفس الناقصة أولى بها أن تتدارك عيوبها ثم
تتطلع بعد ذلك لإصلاح غيرها، ولا يمكن أن يعطي الشيء فاقده بل ينفق كل امرئ
من وجده. إذا أردنا أن نعرف المثل الأعلى للمرشدين فعلينا بالأنبياء والمرسلين،
فمن صفاتهم نتعرف صفات المرشدين، ومن طرقهم نتبين طرق المصلحين
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
المرشد شخص كملت نفسه وتهذب خلقه، ورشد عقله عامل بما علم واقف
عند ما رسمه له الشارع لا يلتوي عنه يمنة أو يسرة ملئ قلبه بخشية الله، فلا يفعل
ما يفعل ولا يترك ما يذر خشية من الناس أو من قانون وضعي تنطبق عليه
نصوصه بل يفعل الخير ويترك الشر؛ لأنه يرى سلطان الله محيطًا به من كل جانب
ويرى عين الله تبصره كل حين. تبصره وهو على ملأ من الناس قد غمره نور
الشمس، وتبصره وهو في زوايا بيته في الظلام الدامس والليل الحالك يحب ما
يقربه إلى ربه ويبغض كل ما يبعده عن سبيله يرى أن كتاب الله إمامه فلا يحكم
بغير ما يحكم، ولا يقول غير ما يقول يجعله سلوته في غذواته وروحاته، وفي
أوقات فراغه يعكف عليه يتعلم منه الحكمة ويتبصر منه طرق الهداية وموارد
الرشاد. يتأسى بالرسول (صلى الله عليه وسلم) في أعماله وأخلاقه وعقائده
وآدابه.
المرشد شخص بصير بأحوال الناس خبير بأمورهم ليس خبًّا ولا مغفلاً
يضحك عليه ويسخر منه، عليم بالطريق الذي يسوسهم منه ويأخذ بهم إلى حيث
عزهم ومجدهم وعلوهم وسعدهم المرشد شخص جعل الصبر عدته، وتحمل الأذى
في سبيل الحق خلته، فما يصيبه من الآلام وما ينتابه من النائبات يتقبله بقلب ثابت
وجأش رابط بل يستعذب المر في سبيل الدعوة ويستسهل الصعب في سبيل إعلاء
كلمة الله، كلما طعن بطعنة أو قذف بسبه تأسى بالأنبياء قبله وقال: هذا سيد الرسل
رمي بالسحر والجنون والافتراء على الله ومس الشيطان وأُوذي في سبيل الله أشد
الإيذاء فما كان يقول إلا (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ثم يقول لنفسه إن
مرتبة الإرشاد من المراتب العالية التي لا تنال إلا بالجد والصبر على المشاق،
ويتمثل قول الله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) .
المرشد لا يعرف اليأس إليه سبيلاً، وكيف يتسرب اليأس إلى نفسه وما عليه
إلا البلاغ المبين، فإن عمل الناس بما دعا فتلك البُغية، وإن أعرضوا عنه فإنما
عليه البلاغ وعلى الله الحساب، إذا خاطبه ضعيف الإيمان وقال له مثبطًا من عزمه:
وماذا تبلغ كلمتك من نفوس الناس، وماذا عسى أن يكون أثرها فيهم؟ حكى له
قول الله في قوم من بني إسرائيل قالوا مثل مقالته {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ
قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 164) .
المرشد شخص يعرف القرآن جد المعرفة، ويعرف أعمال الرسول (صلى
الله عليه وسلم) وهديه في صلاته وزكاته وصيامه وحجه ومعاشرته لأهله وقومه
وجهاده في سبيل نشر الدين.
المرشد سياسي حكيم يأتي الناس من جهة ما يعرفون ليصل بهم إلى ما
ينكرون من حيث لا يشعرون فيسقيهم الدواء في كوب الشراب العذب مضيفًا إليه
من المواد ما يغطي مرارته، يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة،
ويجادلهم بالتي هي أحسن، فلا يشتد في موضع اللين، ولا يلين في موضع الشدة
ولا يمنع الشر بالقوة إذا كانت الكلمة البالغة كافية.
يعظهم بالقول الرقيق، والأسلوب العذب الذي لا يعلو على إفهامهم، ويجري
في مجارى حديثهم.
المرشد النابه يستطيع أن يعظ كل صنف من الناس وإن كانوا حكامًا ظالمين
وعتاة جبارين وإن كانوا ممن ينفرون منه إذا رأوه، ويهرولون عنه إذا لاقوه، فهو
بحيلته ودهائه يستطيع أن يرد شاردهم، ويكبح جامحهم إلى حيث يسمعون عظته
البليغة، وقولته الساحرة الفاعلة في النفوس، ما لا تفعله السيوف.
ولو أردنا أن نسوق لذلك الأمثال لكان من ذلك مؤلف ضخم وحسبنا في ذلك
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها زاد المرشدين وعدة الداعين.
***
3 - طرق الإرشاد:
طرق الإرشاد كثيرة ولكن نجتزئ بمشهورها عن استقصائها فنقول: أشهر
طرق الخطابة والدرس والتمثيل والأسوة الصالحة والكتابة.
أما الخطابة فهي أشد هذه الطرق أثرًا في النفوس إذا كانت صادرة من قلوب
مخلصة طاهرة طيبة، وكان لصاحبها من طلاقة اللسان ما يحسن التعبير به عما
يكنه الفؤاد، وكان الخطيب مراعيًا مقتضيات الأحوال فيخطب في الحوادث النازلة
الوقائع الجديدة، ولا يسلك ما يسلكه خطباؤنا في هذا العصر، ينهون عن جرائم
كانت في سالف الأيام ولم يكن لها وجود بين الناس بل لا يعرفون اسمها إلا من
طريق الخطباء، ويأمرون الناس بما هم به قائمون بدل أن يأمروهم بما هم فيه
مقصرون، وينهوهم عما هم له مجترحون، نرى خطباءنا يخطبون بما يعلو على
الأذهان، ولا يفهمه إلا العلماء، ويكثرون من المجازات والاستعارات والمحسنات،
وإن كان في ذلك إضاعة المعنى والتعمية في المغزى، وكان جديرًا بهم أن
يخاطبوا الناس بما يعقلون، ويتخيروا من الألفاظ ما يعرفون، فليس الغرض من
الخطابة امتحان الخطيب ومعرفة بلاغته، وإنما الغرض إيصال المعاني إلى القلوب
فكل طريق يصل بالخطيب إلى هذه الغاية عليه أن يسلكه، ولو كانت عبارته أقرب
إلى العامية منها إلى العربية الفصحى، وليت هذه الخطب من صنع الخطباء،
ولكن أكثرها من صنع القدماء، على أني لا أحبذ في الخطيب أن يخطب من حفظه
أو من ورق في يده، ولكن أحب له أن يرتجل، وأن يأخذ من حال الحاضرين ما
يجعله موضوع خطابته، فإن رأى منكرًا أو بدعة ولو في أثناء الخطابة تحول
بكلامه نحوها كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا أقصد بالخطابة خطابة الجمع فحسب بل ما يشمل ذلك ويشمل إلقاء
المحاضرات في الجامعات والمنتديات بل الخطابة على الجماهير في الميادين العامة
والمتنزهات الجامعة، فإن قصر الخطابة على ما يكون يوم الجمع في المساجد
ضئيل الأثر، قليل النفع فإن من يحضرون المساجد قليل بالنسبة لمن يغيبون؟ ثم
أكثر الحاضرين نفوسهم عارفة للدين ولكن أولئك الذين لا يعرفون بيوت الله أولى
بالعظة والتذكرة وربما كان فيهم نفوس متقبلة، وأرواح مستعدة.
وحبذا لو عينت وزارة الأوقاف مرشدين في الميادين والمتنزهات والمنتديات
والمجتمعات وأمرت وزارة الداخلية الجنود بأن يحافظوا على النظام ويسهلوا
للواعظين القيام بهذه المهمة، ولقد فكرت وزارة الأوقاف في إصلاح الخطابة فطلبت
إلى المربين والمرشدين والواعظين والكاتبين أن يوافوها بخطب تناسب العصر
وتقتلع من النفوس جراثيم الأمراض الخلقية، فتقدم إليها أولئك بما جادت به القرائح
ولا ندرى ما صنعت بهذه الخطب التي وعدت المتفوقين فيها بمكافأة، على أن هذه
الطريقة في الإصلاح قليلة الفائدة فإن الخطيب إذا كانت نفسه مصدر خطابته وكانت
زكيه طيبة اجتمع كلامه وحاله وقلبه في التأثير على السامعين فكان لثلاثهتا من
التأثير ما ليس لكلمات يلوكها بلسانه، لا صلة بينها وبين قلبه، بل ربما كان جاهلاً
معناها، غير واقف على مغزاها، فلا جرم كان ما صاغه أفيد في العظة مما صاغه
غيره لعالم غير عالمه.
وأما الوعظ من طريق الدرس فله في نفوس الطلبة آثار حسنة، خصوصًا إن
كانوا صغارًا لم تتلوث نفوسهم بعد، بل كانت على الفطرة التي فطروا عليها، فإن
المدرس الماهر يستطيع أن يصوغ هذه النفوس في القالب الذي يحب، وإذا عرفنا
طول عشرة التلميذ لمعلمه أدركنا أن كلمات المعلم ربما سكنت القلوب ساعة تخرج
لسابق المعرفة وطول التجربة، وإذا كان المدرسون أكثر الفئات الصالحة للوعظ
علمنا أن واجبهم في الدعوة عظيم، ولا سيما أنهم يصاحبون الطالب بضع سنين،
فلو أن مدرسي المدارس الأولية والابتدائية والثانوية والعالية والمعاهد الدينية عنوا
ببث الأخلاق الفاضلة والعقائد الحقة في نفوس المتعلمين لغيروا هذه النفوس في
الزمن اليسير إلى ما هو خير وأصلح، وكل مدرس يستطيع أن يقوم ببث ذلك،
ولو لم يكن العلم الذي يدرسه من علوم الدين أو الأخلاق فإن للطلبة أوقاتًا يسأمون
فيها العلم المحتم، وتتعطش نفوسهم للمسائل الخارجية، فلو أن نفس المعلم عنيت
بالإرشاد ما صدها عن غرضها صاد، وليس في هذا تقصير في القيام بالواجب،
فإن تكوين الأخلاق والآداب أولى من حشو الأدمغة بالمسائل العلمية، وماذا تنتفع
من علم شخص فسدت أخلاقه وآدابه وعاث في الأرض فسادًا، فليتق الله حضرات
المعلمين، وليعلموا أن الله أودعهم ودائع وأوجب عليهم رعايتها والقيام بحقها فهم
رعاتها وكل راع مسئول عن رعيته.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أذكر حضرات المدرسين الذين عينتهم وزارة
الأوقاف للوعظ والتذكير بأن يتخيروا المواضيع التي تناسب العامة وتليق بالجمهور
كشرح آية أو حديث بعبارة سهلة يكثر فيها ضرب الأمثال بالمعهود لهم ولا يعمدوا
إلى المسائل الفقهية العويصة فيشرحوها للعامة فإن ذلك لا مضلة ولا هداية.
ولقد سمعت مرة مدرسًا يفسر للعامة (آلم) ويذكر ما فيها من وجوه الإعراب
ومختلف الأقوال، والحمد لله أن لم يكن أمامه إلا شخصان، وأظن أنهما لم يجلسا إليه
لسماع عظته وإنما جلسا خشية أن لا يجد المدرس من يسمع لقوله. ورأيت من يعلم
الناس الصلاة فيقول فرائضها كذا وواجباتها ثمان وسبعون وسننها ثلاثون فهلا ترى-
أرشدك الله - أن هذا منفر لا داعية، ومعسر على الناس لا ميسر والله يقول:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسّروا ولا
تعسروا) وكان خيرًا لهذا المدرس أن يشرح الصلاة ببيان صفتها بقوله وعمله فإن
تلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك الخطة المناسبة لإفهام الجمهور.
ولقد وزعت وزارة الأوقاف على مدرسيها وخطبائها كتاب (مفتاح الخطابة
والوعظ) والذي هو آيات بينات وأحاديث صحيحة فلأن يدرسوا للناس هذا الكتاب
أولى من درسهم كتب الفقه والكلام، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي
هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما التمثيل فلا بأس به لو خلا من الغرام والعشق والغيد الحسان، ولكن
يظهر أن ذلك من لوازمه في عصرنا وأنه لا تنفق سوقه إلا بهذه المحسنات، لهذا
كان من رأينا أن إثمه أكثر من نفعه وشره فوق خيره سيما إذا علمنا أن أكثر
الطبقات التي تقوم به من الطبقات المنحطة الذين تلوثت نفوسهم بالفسق والفجور،
وعقولهم بالمخدرات والخمور، فإقفال هذه الدور خير من فتحها وحبذا لو فعلت
الحكومة ذلك، وحملها في النهي عن المنكر أكبر الأحمال، فإن عليها منه بقدر ما
لها من السلطان، وسلطانها أكبر سلطان، وإن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع
بالقرآن.
وأما الأسوة الصالحة فهي الداعي الصامت الذي يؤثر بصمته كما يؤثر المتكلم
بكلمه، بل ربما كان الصمت أشد بلاغة من المنطق، يدعوك بعض الناس إلى الخير
بكلامه وربما كان عمله على خلاف ما دعا إليه، فمثل هذا لا يرجى من وراء وعظه
خير، وإنما الخير في كلام تعززه أعمال، وفي مثل هذا يقول الله تعالى
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً
عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 2-3) .
يقول علماء الأخلاق: إن البيئة والوسط الذي يعيش فيه الإنسان له تأثير كبير
في تكوين أخلاقه، فإن كان صالحاً كان كل ما حواه صالحاً، وإن كان فاسداً انتشر
الفساد منه إلى كل ما جاوره، وما يقولونه حق، وذلك لأن أعمال المجتمع الطيب
تسري في نفوس الأفراد من غير أن يشعروا، وكذلك الفرد الصالح يؤثر فيمن حوله
بالصلاح، ولذلك آمن كثير من الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن
عرفوا حاله وخلقه، فكان منهما أكبر شاهد على صدقه، ويقول الله في حقه {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) ويقول في إبراهيم {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة: 4) فإذا كان بعض الناس يعييه الكلام والموعظة
باللسان فليحسن خلقه وعمله، فإن ذلك إرشاد ودعوة وقيام بواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
أما الكتابة فإنها، وإن كانت أندى صوتاً وأبعد مدى لأنها تسمع القريبين
والبعيدين والأجيال الحاضرة والقابلة أثرها دون أثر الخطابة فإن الحال فيها يساعد
اللسان وربما فهم السامعون من الحال فوق ما يفهمون من المقال.
والكتابة التي تعتبر من طرق الإرشاد هي الكتابة الخطابية التي يقصد فيها
تحريك أوتار القلوب والتأثير في الأعصاب الحساسة ومثالها الأعلى القرآن فإن
طريقته خطابية ولكن مبناها الحق والواقع دون التصور والخيال. أما الكتابة
العلمية فصلتها بالأخلاق ضعيفة وإن كانت علاقتها بالعقول وثيقة وتكوين الأخلاق
يجب أن تنمى فيه نحو المشاعر والعواطف، دون الأفكار والعقول.
وقد أصبحت إذاعة الكتابة ميسرة فالمطابع انتشرت في كل مكان والجرائد
والمجلات ذاعت في أقطار المعمورة، فما على الكاتب إلا أن يكتب على نحو ما
رسمنا فإذا بكتابته قد عبرت الفيافي والبحار ودوى صوتها في الأفاق وتلقفها ملايين
البشر متلمسين خير ما فيها، والواعظ الحر يستطيع أن يبلغ الناس من طرق كثيرة
ربما عرف منها ما جهلناه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(لها بقية)
... ... ... ... ... ... ... محمد عبد العزيز الخولي
... ... ... ... مدرس بقسم التخصص بمدرسة القضاء الشرع
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/251)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
الباب الثامن
اللباس
للباس أيضًا علاقة بالصحة إلى حد خاص. إن الأوربيات لها أفكار غريبة
في الحسن وهي التي تسوقهن إلى جعل ملابسهن في شكل يضغط على الصدر
والأرجل، وذلك يحدث أمراضًا مختلفة. إن أقدام الصينيات يضغط عليها إلى أن
تكون أصغر من أقدام أطفالنا الصغار، وهذا ما جعل صحتهن غير جيدة. فهذان
المثالان يثبتان تأثير هيئة اللباس في الصحة، ولكن اختيار اللباس ليس دائمًا في
أيدينا لأننا مكرهون على تقليد أسلافنا، قد نسي الناس الغرض الأساسي من اللباس
فجعلوه كعنوان لدين صاحبه ووطنه وجنسه وصنعته. إذن يصعب البحث في مسألة
اللباس من الوجهة الصحية فقط مع أن هذا البحث كما لا يخفي ينفعنا قطعًا. نطلق
كلمة (اللباس) على الأحذية والحلي وما شاكلها أيضًا.
ما الغرض الأساسي من اللباس؟ إن الإنسان في حالته الأولى ما كان يلبس
لباسًا ما، كان يمشى عاريًا ويترك كل جسده مكشوفًا تقريبًا فكان جلده متينًا قويًّا
يقدر على تحمل حمارة [1] الصيف وصبارة الشتاء ووابل الأمطار، وكما قد
أسلفنا أننا لا نتنفس الهواء من المناخر فقط بل من مسام الجلد التي لا تعد ولا
تحصى أيضًا. فإذا غطينا الجلد بالأقمشة منعناه من أداء وظيفته الطبيعية، ولكن
شاعت عادة اللبس لما أخذ أهالي البلاد الباردة يكسلون يومًا فيومًا فأخذوا يحسون
بالضرورة لتغطية أجسادهم؛ لأنهم ما عادوا بعد ذلك يتحملون البرد (ثم أصبحت هذه
العادة للزينة لا بمجرد الضرورة) ثم أصبح اللباس عنوانًا على الوطن والجنس
وغيرهما.
إن الطبيعة نفسها قد أعدت كسوة جليلة لنا في جلدنا. وما يتخيل من أن
الجسم العاري يظهر غير جميل فوهم باطل. إن كنا نغطي حتى الأعضاء العامة
من جسدنا فمعناه أننا نشعر بالخجل أن يراها الناس في حالتها الطبيعية. أي أننا
نجد الخطأ في ترتيب الطبيعة فنصلحه. إننا كلما ازددنا غنى وثروة بالغنا في زيادة
الأغطية والملابس طلبًا للزينة حتى خرجنا في ذلك عن الحد وصرنا نطري جمالنا
وحسن منظرنا! مع أنها لو لم تعمنا حماقة التمسك بالعوائد الذميمة لرأينا بلا شك
أن الجسم العاري أجمل على الإطلاق من الجسم المكسو بالألبسة، وذلك لأنه يجد
صحته التامة في عراه. واللباس ينقص جماله الطبيعي. ثم إن الإنسان لم يكتف
باللباس بل أخذ يستعمل الحُليّ كذلك. إن هذا جنون محض. يصعب جدًا أن نفهم
كيف يزيد الحلي ذرة من الجمال الطبيعي للجسم. ولكن النساء قد تجاوزن جميع
حدود الإدراك والحياء والأدب في هذا الشأن. فلا يستحين من أن يتحلين بالخلاخل
الثقيلة التي تقيد أرجلهن وتمنعها من الحركة بسهولة. وأن يثقبن أنوفهن وآذانهن
بطريقة بشعة ليلبسن الخزم فيها والأقراط ويشوهن سواعدهن وأصابعهن بالأسورة
والخواتم من أنواع مختلفة. إن هذه الزينات لا خير فيها إلا أنها تزيد تراكم الدنس
على الجسم، ولا سيما في الأنف والأذن فلا تسأل عن وساختهما. نحن مخطئون
جدًّا في زعمنا أن هذه الأوساخ تجلب الجمال فنضيع المال في سبيلها بل لا نتردد
في جعل نفوسنا عرضة لتعديات اللصوص.
ليس هناك حد للآلام التي تقاسيها في تسلية نفوسنا بالأفكار الجنونية من
الغرور والكبر الذي زرعناه في قلوبنا! إن النساء قد بلغ جنونهن وضلالهن إلى حد
أنهن لا يرضين بإخراج القرط من الأذن حتى وإن مرضت الأذن وكذلك لا ترضى
بخلع الأساور وإن انتفخت اليد وأصيبت بألم شديد. بل إنهن لا يرضين بنقل خاتم
واحد من الإصبع المتقيحة لأنهن يزعمن بأن الحسن يصاب بنقص وسوء إن فعلن
ذلك! [2] الإصلاح التام في اللباس ليس بسهل. ولكن يمكن بكل سهولة أن نترك
استعمال الحلي والملابس الزائدة عن الحاجة بتاتًا. يصح أن نبقي بضعة أشياء
للمحافظة على التقاليد ونخلع الباقي خلعًا. إن أولئك الذين لم يبتلوا بالوهم الباطل
وهو جعل اللباس زينة، يمكنهم أن يدخلوا التغييرات الكثيرة في ملابسهم وينالوا
بذلك صحة جيدة.
لقد راجت في الأيام الأخيرة فكرة توهم الناس أن اللباس الإفرنجي ضروري
للمحافظة على الحشمة والهيبة. ليس هذا مكان البحث في تفاصيل هذا الأمر بل
تكفي الإشارة إلى أن اللباس الإفرنجي قد يكون صالحًا جدًّا للبلاد الباردة الأوربية
ولكنه غير موافق للهند. إن اللباس الهندي وحده يمكن أن يكون صالحًا للهنود سواء
الهندوس والمسلمين. إن لباسنا لكونه واسعًا ومفتوحًا، لا يحول دون وصول الهواء
إلى أبداننا ثم إنه لبياضه لا يجذب أشعة الشمس خلافًا للباس الأسود الذي يكون أدفأ
وأحر منه لأن أشعة الشمس تجتمع فيه، وتنتقل منه إلى الجسم.
قد راجت العمامة فينا كثيرًا، ولكن مع ذلك ينبغي أن نجتهد في أن تبقى
الرأس مكشوفًا أكثر ما يمكن من الزمن. وأما تربية الشعر وتمشيطه وتسريحه
وتفريقه من وسطه وغير ذلك مما يفعله الناس فهمجية بعينها [3] إن التراب والغبار
وكذلك الصئبان تكثر في الشعر وإن ظهرت البثور في الرأس فلا يمكن معالجته كما
ينبغي إذا كان الشعر كثيرًا، فتربية الذين يستعملون العمائم للشعر ليست إلا حماقة
صريحة.
إن الأرجل سماسرة الأمراض، فأقدام الذين يلبسون الأحذية الإفرنجية تتوسخ
وتعرق عرقاً متعفنًا، وقد تكون العفونة شديدة على أصحاب حاسة الشم الصحيحة
حتى إنهم ليصعب عليهم أن يقفوا بجنب رجل من هؤلاء عند خلع نعله أو جواربه!
إن الأسماء العامة للحذاء في لساننا مثل (محافظ القدم) و (عدو الشوك) تدل
على أن النعل ينبغي في استعماله عند المشي على أرض ذات أشواك أو على أرض
باردة أو حارة جدًّا. وإن التغطية يجب أن تكون لبواطن الأقدام دون ظهورها،
وهذا الغرض يتحقق تماماً بالقبقاب [4] إن بعض الذين تعودوا لبس الأحذية الإفرنجية
يشكون أحيانًا الصداع أو الوجع في الرجل أو الضعف في الجسم، ليجربوا المشي
حفاة فإنهم يدركون حالاً فائدة ترك الأقدام حرة وبعيدة عن العرق بتعرضها للهواء.
***
الباب التاسع
الزواج [*]
إني أرجو القراء ولا سيما الذين قرءوا هذا الكتاب بتأمل أن يخصوا هذا
الفصل بتأمل أكثر، ويتفكروا في الأصول التي احتوى عليها بتروٍ وإمعان.
بقيت عدة أبواب من الكتاب ستأتي، وهي وإنْ كانت كذلك نافعة إلا أنه ليس
منها باب يبلغ أهمية هذا الباب، وإني كما أسلفت لم أدع شيئاً من محتويات هذا
الكتاب لم أجربه بنفسي ولم أره حقًّا وحقيقة ولا سيما هذا الباب.
إن للصحة مفاتيح كثيرة وكل منها ضروري جدًّا في مكانه. ولكن هنالك
مفتاحًا هو أعظم المفاتيح وسيدها على الإطلاق وهو (التجرد) . لا ريب أن الهواء
النقي والماء النقي والطعام الجيد - كل ذلك - يساعد في الصحة، ولكن كيف يمكن
أن نكون أصحاء إن كنا نضيع كل الصحة التي حصلناها؟ كيف نحفظ أنفسنا من
الإفلاس إنْ كنا نضيع جميع المال الذي ادخرناه؟ إن مما لا ريب فيه هو أن
الرجال والنساء لا يمكن أن يكونوا أصحاء أقوياء إلا إذا راعوا (التجرد) الحقيقي.
ماذا نقصد (بالتجرد) ؟ نقصد به أنه يجب أن يجتنب الرجال والنساء التمتع
أي لا يتلامسوا لفكرة حيوانية، بل لا يتخيلوا ذلك حتى في أحلامهم. يجب أن
تكون نظراتهم بينهم خالية من جميع الأميال الشهوانية الحيوانية، يجب أن نحافظ
على القوة التي وهبنا الله إياها بضبط قوى النفس جيدًا وأن نحولها إلى الجد والعمل
والقوة، لا إلى الجسم فقط، بل إلى المخ والروح كذلك.
ولكن ما الحالة التي نشاهدها واقعة حولنا؟ نرى الرجال والنساء، الشيوخ
والشباب بدون استثناء، قد وقعوا في شبكة الشهوة فعموا بها وصموا وفقدوا كل
تمييز بين الخير والشر! لقد رأيت بنفسي حتى الصبيان والبنات يتعاملون بينهم
كالرجال المجانين بجنون الشهوة المهلكة.
ولست أزكي نفسي فقد فعلت ذلك مسوقًا بهذا المؤثر نفسه الذي لا يمكن أن
يؤدي إلى غير هذه النتيجة السيئة. نحن نضيّع في دقيقة واحدة طلبًا للذة وقتية
جميع ما خزَّنَّاه من القوة الحيوية. فإذا أفقنا من الجنون والحمق وجدنا أنفسنا في
شقاء وتعاسة! وأحسسنا بكل أسف وخزي في الصباح التالي بالتعب والضعف
ووجدنا المخ يرفض أداء وظيفته! فعند ذلك نجري وراء معالجة الشر الذي جلبناه
على أنفسنا بأيدينا بتعاطي جميع أنواع (الأدوية المقوية للأعصاب) ونسلم أنفسنا
إلى رحمة الأطباء ليرتُقوا ما فُتق من صحتنا، ويعيدوا لنا القدرة على التمتع ثانية!
هكذا تمضي الأيام والشهور والسنون حتى تقبل علينا الشيخوخة بآلامها وأوصابها،
فنجد أنفسنا قد ضيعنا رأس مالنا كله، ضيعنا الرجولية والعقل على سواء وأصبحنا
صفر الكف بائسين تعسين! .
على أن قانون الطبيعة يقضي عكس ذلك تمامًا. فكلما ازداد عمرنا ينبغي أن
نزداد في قوتنا الذهنية. نزداد قدرة على نقل ثمار علمنا وتجاربنا المجتمعة إلى بني
جلدتنا من البشر. هكذا تكون بالحقيقة حالة الذين يتمسكون بالتجرد الحقيقي، فهم
لا يبالون الموت ولا ينسون الله تعالى حتى في موتهم ولا يدخلون في شكاوى باطلة،
هم يموتون والتبسم فوق شفاههم! ويقابلون يوم الجزاء بكل جرأة! هم الرجال
والنساء حقًّا! وفيهم وحدهم يصح أن يقال: إنهم قد حافظوا على صحتهم.
يصعب علينا أن نفهم أن ترك التجرد هو الأساس الحقيقي لجميع المعايب
كالكبر والغضب، والخوف والحسد إن كان مُخنا ليس في قبضتنا وإن كنا ننتهك
قوانين الصحة مرة أو مرتين كل يوم، فنحن أكثر حمقًا حتى من الأطفال الصغار،
فأي إثم عسانا لا نرتكبه قصدًا منا أو بغير قصد؟ وكيف يمكن لنا أن نقف وقفة
لنتأمل في نتائج أعمالنا مهما كانت دنيئة آثمة؟
لك أن تسأل: من الذي وجد متجردًا تجردًا حقيقيًّا؟ إن كان يجب أن يصير
جميع الناس متجردين فهلا تهلك الإنسانية وتفنى الدنيا كلها؟ نحن لا نتعرض
للوجهة الدينية في المسألة، بل نقتصر في البحث على وجهتها الدنيوية فقط. إن
هذه الأسئلة في رأيي ليست إلا دلائل على ضعفنا وخورنا لأننا لا نملك القوة
الإرادية لمراعاة التجرد، ولذلك نتعلل بأعذار باطلة للتملص من وظيفتنا، إن نوع
المتجردين الحقيقيين لا ينعدم بحال من الأحوال، بل هم موجودون في كل زمان
وإن كنا لا نعرف أشخاصهم، يشتغل ألوف من العمال أشغالاً شاقة ويحفرون أعمال
الأرض باحثين عن معدن الماس، وفي الآخر ربما يجدون قبضة كف منه تحت
الصخور المتراكمة بعضها فوق بعض. فإذا كان البحث عن حجر من الأحجار
الكريمة يتطلب هذا التعب الكبير فكم تكون المشقة عظيمة في اكتشاف ماس
(التجرد) الذي هو أثمن بكثير من كل ماس؟ وإن كان يلزم من مراقبة التجرد هلاك
الدنيا، فلماذا نحزن نحن؟ هل نحن الذين خلقنا الخلق فنهتم بمستقبل الدنيا هذا
الاهتمام الكبير؟ إن الذي خلقها لهو الذي يدبر دوامها وبقاءها، وليس مما يعنينا أن
نبحث عن الناس الآخرين، هل هم متمسكون بالتجرد أم لا؟ أفنحن إذا اتخذنا مهنة
التجارة أو المحاماة أو الطب نفكر يوماً في مستقبل الدنيا إن أصبح جميع الناس
مثلنا تجارًا أو محامين أو أطباء؟ إن المتجرد الحقيقي يجد بنفسه جوابًا لهذه الأسئلة
إذا طال عهده بالتجرد.
ولكن كيف يفعل الذين أحاطت بهم الأمور الدنيوية من كل جهة؟ وماذا يفعل
الذين لهم أولاد؟ قد بيّنا أحسن حل لجميع هذه المشاكل آنفًا. يجب أن نضع نصب
أعيننا هذا المثل الأعلى (التجرد) ونجتهد في التقرب منه أكثر ما نستطيع. لما
نمرن الأطفال على الخط نقدم إليهم أحسن نماذج الخط ليجتهدوا في تقليدها بأكثر مما
يستطيعون. هكذا تمامًا يجب أن نجتهد لهذا المثل الأعلى حتى نفوز في آخر الأمر
بفهمه والوصول إليه، إذاً ماذا نفعل إن كنا متزوجين؟ إن قانون الطبيعة يقضي
بأن لا يخرج الزوجان من حدود التجرد إلا إذا شعرا شعورًا قويًّا بالحاجة إلى الولد.
إن الذين يراعون هذا القانون فيخرجون من التجرد مرة كل أربع أو خمس
سنوات لا يعدون من عباد الشهوة، ولا هم يضيعون كل ما خزنوه من القوة الحيوية
ولكن واأسفاه! ما أقل الرجال والنساء الذين يخضعون للشهوة الزوجية طلبًا للنسل
فقط؟
إن الأكثرية الساحقة من البشر لا تباشر الشهوة الحيوانية إلا لإرضاء أميالهم
الشهوانية، أما الأولاد فيولدون كنتيجة غير مقصودة لهم، نحن إذا جُننا بالشهوة فلا
نتفكر مطلقًا في نتائج عملنا. والرجال يلامون أكثر من النساء في هذا الأمر؛ لأنهم
هم الذين يعمون بالشهوة إلى درجة لا يبالون بحالة أزواجهم فيكرهونهن على امتثال
أمرهم، وإن كن ضعيفات البنية أو غير قادرات على الحمل.
إن الغربيين قد تعدوا حتى على حقوق الأدب أيضًا. فهم يتمتعون بشهواتهم
ويخترعون طرقًا للتخلص من مسئولية الأبوة والأمومة. قد ألف كثير من الكتب في
هذا الموضوع ونفقت سوق التجارة القانونية لإيجاد الطرق المانعة للحمل، وأما
نحن معشر الهنود فإن كنا بعيدين إلى الآن من هذا الإثم غير أننا لا نتردد في أن
نحمل نسائنا حمل الأمومة الثقيل ولا نبالي بأن يولد أولادنا نحاف البنية فاقدي
الرجولية ضعاف العقل. بل كلما يولد لنا ولد نكاد أن نطير فرحًا ونشكر الخالق
على ذلك. وهكذا نسعى في أن نغش أنفسنا ونخفي حمق أعمالنا عن أعيننا، ألا
يجب علينا عوضًا من أن نعد ذلك دليلاً على رضاء الله ولطفه بنا دليلاً على غضبه
وسخطه علينا بجعله إيانا نلد أولادًا فجارًا، عجزة، سفلة، نحاف البنية، ضعاف
العقل، هل من الكياسة أن نفرح بولادة الأولاد للبنات والصبيان [5] أليس
ذلك لعنة من الله عوضًا من أن يكون رحمة؟
نحن كلنا نعلم بأن ظهور الثمر قبل أوانه يضعف الشجرة ولذلك نسعى بجميع
الوسائل في تأخير موعده، ولكنا ننشد أناشيد الحمد (لإله الزواج) ونحمد الخالق
سبحانه إذا ولد الولد من صبي وبنت صغيرين؟ هل يوجد شيء أبشع من هذا
الأمر؟ هل نظن أن الدنيا تبتهج بازدحام هذا الجم الغفير من هؤلاء الأطفال
الضعاف البنية والقوى، الذين يكثرون كثرة زائدة في الهند وغيرها من البلدان؟ لا
ريب أننا في هذا الأمر لأحط حتى من البهائم فالثور والبقرة لا يقتربان إلا لتوليد
العجل فقط. يجب على الزوجين أن يبقيا متباعدين من وقت الحمل إلى أن يترك
الطفل ثدي أمه ويريا ذلك واجبًا عليهما. ولكننا لا نراعى هذا الواجب المقدس بل
نبقى متمتعين مسرورين ناسين حتى محبة ولدنا وزوجنا. إن هذا الداء العضال
يضعف عقولنا ويقودنا إلى القبر قبل أوانه بعد أن يجعل وجودنا في الدنيا تعاسة
وشقاء. يجب على المتزوجين أن يعلموا الوظيفة الصحية للزواج فلا يخرقوا
التجرد إلا بقصد أن يلدوا ولدًا لدوام النوع.
ولكن مراعاة هذا القانون صعبة جدًّا في حالتنا الحاضرة. فغذاؤنا وطرق
معيشتنا وحديثنا العام ومحيطنا، كل هذه الأمور تنبه وتساعد على إثارة الشهوة فينا،
فالشهوة تجري في عروقنا وأعضائنا الرئيسية كالسم فتنخرها. قد يشك بعض
الناس في إمكان تحرير نفوسنا من هذا الحمل الثقيل. إن هذا الكتاب لم يؤلف
لأمثال هؤلاء المرتابين ضعيفي الإرادة، بل إنما ألف لأولئك الذين يريدون أن
يتأملوا في الأمر بجد، ويملكون جراءة الإقدام على إصلاح أنفسهم. قد يتأذى الذين
هم مطمئنون بحالتهم الحاضرة المهينة من قراءة هذا الكتاب، ولكني أرجو أن يؤدي
بعض الخدمة لأولئك الذين يتذمرون من حالتهم التعسة. فينتج من كل هذا أن الذين
لم يتزوجوا بعد، يجب أن يجتهدوا في البقاء غير متزوجين وإن كانوا لا
يستطيعون البقاء فليؤخروا الزواج ما استطاعوا.
ليعاهد الشباب أنفسهم بأن لا يتزوجوا إلا في سن 25 أو 30 من العمر. ليس
من موضوعنا الآن أن نبين جميع الفوائد المتنوعة الكثيرة التي تنال من التجرد فوق
الفوائد الصحية، بيد أن الذين يريدون أن ينتفعوا بها ينالونها حتمًا من هذا الطريق.
إن رجائي من الآباء والأمهات الذين يقرأون هذه الصفحات أن لا يعلقوا في
أعناق أولادهم حجرًا ثقيلاً بتزويجهم في عهد صباهم. بل عليهم أن يراعوا مصلحة
أبنائهم أيضًا لا مصلحتهم فقط. ليرموا جانبًا جميع أفكار الحمق التي جلبها لهم حب
الفخار الكاذب، فيتركوا التشبث بجميع هذه الأعمال الباطلة المضرة. وإن كانوا
مخلصين حقًا لأطفالهم فليسعوا جهدهم في تحسين صحتهم البدنية والعقلية والأخلاقية.
وأي عداء منهم أكبر وأفظع من أن يكرهوهم على الولوج في الحياة الزوجية مع
جميع مسئولياتها المريعة، والهموم الكثيرة في سن هم لا يزالون فيه صبيانًا بكل
معنى الكلمة؟
ثم إن القانون الصحي الصحيح يطالب كل رجل يفقد زوجته وكل امرأة تفقد
زوجها أن يبقيا عزابًا طوال العمر. إن هناك اختلافًا بين الأطباء في: هل يحتاج
الشباب من الرجال والنساء أن يفسحوا المجال لخروج مادتهم المنوية، فبعضهم
يوجب ذلك وبعضهم يمنع منه. ولكن هذا لا يجوز لنا الاستمتاع بشهوتنا. إني
أستطيع أن أؤكد بدون أدنى تردد بحسب تجربتي الشخصية وتجارب الآخرين بأن
الاستمتاع بالشهوة غير ضروري للمحافظة على الصحة فحسب بل إنه مُضر بنا
جدًا، إن القوة البدنية والعقلية التي خزنت في مدة طويلة تذهب كلها بمجرد خروج
المادة المنوية ويحتاج لاسترجاع هذه القوة الضائعة إلى مدة طويلة ثم ليس هناك أي
ضمان يضمن لنا رجوعها كاملة، إن المرآة المكسّرة مهما رممتها وجعلتها تؤدي
وظيفتها فهي لا تزال مرآة مكسرة.
وكما قد بيَّنا قبل أن حياتنا لا بقاء لها بدون الهواء النقي والماء النقي والطعام
النقي الجيد والأفكار النظيفة، كذلك العلاقة بين أسلوب معيشتنا وصحتنا قوية جدًّا.
فلا نكون أصحاء تمامًا إلا إذا جعلنا معيشتنا طاهرة بريئة، فالرجل المجد الذي
يتوب من ذنوبه الماضية ويعيش عيشة رضية يقتطف فيها ثمار سيرته الحسنة. إن
الذين يقومون (بالتجرد) ولو لزمن محدد يرون بأعينهم كيف يترقى جسمهم وعقلهم
في النشاط والقوة بسرعة. ثم هم لا يرضون بعد ذلك أن يتنازلوا عن هذه الخزينة
الثمينة مهما دفع فيها من الثمن الغالي. لقد كنت أرتكب بنفسي هذه الجناية حتى بعد
علمي التام بقيمة التجرد. ولا شك أني قد دفعت لإفراطي وتفريطي ثمنًا غاليًا، أنا
أخجل وآسف جدًّا كلما قارنت بين حالتي أثناء ارتكابي تلك الجناية وحالتي بعدها.
غير أني بحمد الله قد تعلمت بعد جنايات الماضي المحافظة على هذه الخزينة
الكبيرة.
وأنا ممتلئ رجاء وثقة بالتوفيق الإلهي بأني لا أزال أحافظ عليها في المستقبل
أيضًا، ولن أتنازل عنها في حال من الأحوال حتى يأتيني اليقين! وذلك بأني قد
جربت بنفسي فوائد التجرد التي تفوق الحصر. لقد زُوجت في أيام الصبا،
وأصبحت والدًا لأولاد بينما أنا لم أتجاوز المرحلة الأولى من الشباب. ولما تنبهت
لحقيقة حالي وجدت نفسي قد سقطت في هوة عميقة من الانحطاط. وإني لأعدني
قد جوزيت جزاءً كبيرًا على كتابة هذه الصفحات أن وجد ولو واحد من القراء
يعتبر بخطيئاتي وتجاربي ويستفيد منها. يقول كثير من الناس وأنا أعتقد بأني
ممتلئ الآن قوة وهمة ونشاطًا، وأن دماغي ليس بضعيف في حال من الأحوال، نعم
لا أنكر أن جسمي وكذلك دماغي لا يزال مصابًا ببعض الأمراض ولكني مع ذلك إن
قورنت بأصحابي فأنا أُعِد نفسي صحيحًا تمامًا وقويًا، وما دمت قد وصلت إلى هذه
الدرجة حتى بعد التمتع بالشهوة عشرين سنة كاملة، فكيف تكون صحتي ولو لم
أخرق قوانين الصحة وأبقيت نفسي طاهرة نظيفة في تلك السنين الماضية الطويلة
السوداء؟ أنا أعتقد كل الاعتقاد بأني لو عشت عيشة (التجرد) من أول
عمري لكنت أقوى وأنشط بألف مرة مما أنا الآن ولأمكنني أن أنفق كل قوتي
ونشاطي في خدمة وطني ونفسي أكثر من الآن فإذا كان الرجل الاعتيادي مثلي
يتأكد ذلك فما أعظم وأعجب تلك القوة - الجسمانية والعقلية والأخلاقية - التي يجود
بها علينا (التجرد) الحقيقي.
ما دام قانون التجرد دقيقًا إلى هذه الدرجة، فماذا ينبغي أن نقول في أولئك الذين
يرتكبون إثم التمتع بالشهوة على طرق غير مشروعة؟ إن الشر الذي يتبع العهارة
والبغاء لعظيم جدًّا ومسألة حيوية في الدين والأخلاق. ولا يمكن إلغاؤها حقًّا من
البحث في رسالة صغيرة مثل هذه. ولذلك نقتصر هنا على الإشارة إلى أن تلك
الألوف المؤلفة الذين يرتكبون هذه الآثام يصابون بالزهري وغيره من الأمراض
التي لا يليق ذكرها. إن القانون الإلهي الصارم يعاقب بكل عدل وسرور هؤلاء
الإباحيين التعساء بحياة مملوءة بأنواع من العذاب والأتعاب التي ليس لها حد.
فأمدهم القصير من الحياة يضيع في عبودية لشهوة مخزية وبحث خاسر عن دواء
ينجيهم من عذابهم الأليم! لو بطلت الدعارة لبطل على الأقل نصف شغل الأطباء.
إن الأمراض التناسلية تكاد أن تُقوض أركان الإنسانية وتوقع النوع الإنساني في
شدة وارتباك عظيم، حتى اضطر أحسن الأطباء إلى الاعتراف بأنه ما دام الفسق
والتهتك موجودًا فلا يرجى أي أمل للنوع الإنساني في السعادة والهناء. إن أدوية
هذه الأمراض سامة جدًّا حتى إنها وإن نفعت بادي الرأي نفعًا وقتيًّا فإنها تسبب
أمراضًا أخرى كثيرة أشد إيذاءً وعذابًا وتتسلسل بالوراثة في الأحفاد والأعقاب.
نحن نشير الآن بالاختصار إلى الطريقة التي ينبغي اتباعها للمتزوجين
لمراعاة التجرد. لا تكفي مراعاة قوانين الصحة المتعلقة بالهواء النقي والماء
والغذاء، بل يجب كذلك على الرجل أن يجتنب النوم مع زوجته في فراش واحد.
إن قليلاً من التدبر يدلنا على أن فكرة التخلي بين الرجل والمرأة إنما هي فكرة
للتمتع الشهواني. فيجب عليهما أن يناما متباعدين في الليل، وينهمكا في الأعمال
الحسنة طول النهار، ويزاولا قراءة الكتب التي تملأ دماغيهما بأفكار عالية،
ويتفكرا في حياة الناس الكبار، ويعيشا متيقنين بأن التمتع الشهواني أساس لجميع
الأمراض. وإن تولدت فيهما رغبة التمتع فليغتسلا بالماء البارد الذي يبرد حرارة
الشهوة ويزيلها، فتنتقل الشهوة إلى نشاط قوي حقيقي. أجل، إن هذا صعب عمله
ولكننا ما خلقنا في هذه الدنيا إلا لنصارع المصارع والمشكلات والشهوات ونغلبها.
والذي لا يريد أن يفعل ذلك فإنه لن يفوز بالبركات العالية في الصحة الحقيقية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) حماراة بفتح الحاء وتشديد الراء شدة الحر، وصبارة بفتح الصاد وتشديد الراء شدة البرد.
(2) المنار: إن غلوّ نساء الهند في كثرة الحلي قبيح جدًا، وضار وبعيد عن أذواق الشعوب الراقية كلها وأما أصل اللباس والزينة فهو فطري في غريزة البشر ومما يمتازون به سائر الحيوانات وقد غلا الكاتب غلوًّا فاحشًا في إنكارهما وذمهما أراد مجاراة الطبيعة فوقف عند الحيواني المحض ونسي الإنساني.
(3) بل هو مدنية وحضارة عالية بشرط مراعاة النظافة وكثرة الغسل.
(4) لكن القبقاب لا يصلح في كل مكان وعند مزاولة كل عمل والنعال الحجازية خير منه في البلاد الحارة.
(*) المنار: ليعلم قارئ هذا الفصل أن المؤلف قد بالغ في التضييق في الحياة الزوجية ولكن مبالغته لا تبلغ معشار مبالغة جميع الأمم وإسرافها الشديد في هذه الشهوة لذاتها، وأعدل الأقوال فيها قول فقهائنا: إن الإنسان إذا وجد الداعية إليها من نفسه بغير تفكر ولا تكلف فإن مواتاتها تكون نافعة غير ضارة.
(5) يريد بالبنات والصبيان الذين لم تكمل قوتهم كالذين يتزوجون عقب البلوغ أي في الخامسة عشرة أو ما يقرب منها.(27/261)
الكاتب: أمين الرافعي
__________
ساعة مع جلالة الملك عبد العزيز بن السعود
بقلم الأستاذ أمين بك الرافعي
(ونشرت بالسياسة)
قال الأستاذ بعد وصف القصر وتقديم القهوة والشاي:
أخذ جلالته يتحدث إلينا في مختلف الشؤون وهو جهوري الصوت يهش في
وجوه المتحدثين معه وينتقل بسرعة من موضوع إلى آخر، يستدل في أقواله
بالآيات الكريمة والأعمال النبوية والأبيات الشعرية وإذا ذكر اسم النبي صلى الله
عليه وسلم قرنه بالصلاة والتسليم ولو تكرر ذلك عدة مرات.
بدأ جلالة الملك حديثه بإظهار ارتياحه لاتجاه أفكار المسلمين إلى إيجاد رابطة
تربطهم، وأنه قد سر كل السرور من اجتماع الوفود في مكة المكرمة، ومن
التعرف بهم، ثم انتقل إلى الكلام في شئون الدين فقال: إن أساس سعادة المسلمين
قائمة على التمسك بدينهم؛ لأن هذا الدين ضمن لهم سعادة الدارين والقرآن الكريم فيه
كل ما يريده من يقصد الوصول إلى السعادة، فهو قد حثنا على التعليم وحثنا على
الجهاد وحثنا على تدبير شؤوننا الدنيوية المختلفة ونحن نحمد الله على ما تفضل به
علينا من نعمة التمسك بالدين فنحن كلنا نحرص على الدين كل الحرص ونضحي
في سبيل ذلك كل ما نملك ونفديه بأرواحنا وأنفسنا ودمائنا.
إن خصومنا يشنعون علينا ويشيعون عنا أمورًا غير حقيقية ويسموننا بأسماء
لا حقيقة لها. إنهم يسموننا بالوهابيين ويزعمون أن لنا مذهبًا هو الوهابية في حين
أن هذا غير صحيح؛ إذ إننا مسلمون لا نعرف في أصول الدين غير الكتاب والسنة
ونقلد سيدي أحمد بن حنبل في الفروع وكل ما يقال غير ذلك لا يقصد به سوى
التشهير بنا.
ثم استمر جلالته يتكلم عن فضائل الإسلام وضرورة تمسك المسلمين بهذه
الفضائل والعمل على توحيد كلمتهم.
وبعد أن أتم الكلام في هذا الموضوع قلنا لجلالته: إن المسلمين كانوا يبحثون
منذ زمن بعيد عن وسيلة لتوثيق رابطتهم فلمّا ظهرت فكرة المؤتمر الإسلامي ارتاح
لها زعماء المسلمين وهرعوا لتنفيذها، ولما كان جلالته هو صاحب تلك الفكرة
والداعي إلى تحقيقها فهو جدير بشكر العالم الإسلامي. والذي نرجوه الآن هو أن
يكون المؤتمر هو الطريق العملي الموصل لما ينشده كل مسلم في جميع أنحاء العالم
في رفعة شأن المسلمين وإصلاح أمورهم وتوطيد كلمتهم وتسهيل طرق الحج
وتنظيم شؤونه والنهوض بالحجاز والأراضي المقدسة.
فأجابنا جلالته بأن هذه هي أمنيته. ثم أردف ذلك بقوله: إننا ما حضرنا إلى
هذه البلاد تحت تأثير مطامع ذاتية أو تعلقًا بالملك والملكية وإنما جئنا لننقذ حرم الله
المقدس من الأذى الذي لحقه ولحق أهله. إن في الحجاز ثلاثة أقسام من الناس،
فقسم ينتسب إليه دون أن يكون من أهله، وقسم من أبنائه ولكنهم يفسدون أمره وهم
الأمراء والبادية، وقسم آخر يريدون الخير له ولكنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً.
ولقد جئنا لنعمل لخير الحجاز والحجازيين، ونحن قد جعلنا نفسنا فداء للإسلام
والمسلمين ننزل عن كل شيء مما نملكه ولكننا لا نسلم في شيئين مطلقًا (الأول)
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن نعض عليهما بالنواجذ. (الثاني)
شرف عربيتنا فنحن نتمسك به ونذود عنه لأنه أساس نجدنا وسر حياتنا.
ثم انتقل الحديث إلى حالة المسلمين اليوم فقلنا لجلالته أن النكبات التي انتابت
العالم الإسلامي في الأزمنة الغابرة والتي لا تزال تنتابه في العصور الحاضرة يجب
أن تكون درسًا نتعلم منه كيف نزيل كل خلاف فيما بيننا.
فأجابنا جلالته قائلاً: إن هذا حق فإن عدونا الحقيقي فينا وليس أجنبيًّا عنا
ونحن لا نخاف من الأوروبيين وإنما نخاف من أنفسنا فإذا خلصت نيتنا نحو أنفسنا
وطهرنا قلوبنا من أدران العداء أصبحنا أقوياء وأمنا على أنفسنا ولكن إذا دامت
الشحناء فيما بيننا فإن هؤلاء الذين يتسببون في الشحناء يجعلون سبيلاً لتدخل أصبع
الأجنبي، فالأجنبي لا يقوى على التدخل بنفسه وإنما هو يستعين بمن يساعدونه منا.
ثم تحدثنا مع جلالته في الأمن العام فقال جلالته: إن من فضل الله ما نشاهده
من توطيد الأمن في كل الجهات وها أنا قد غادرت نجدًا وليس فيها الآن أحد من
أبنائي فهم قد حضروا لأداء فريضة الحج وكذلك سيدي الوالد ولم أترك هناك سوى
شخص من أتباعي خولته أن يفصل فيما عساه يعرض عليه من الشؤون إذا احتاج
الأمر لذلك فالحالة تدعو للاطمئنان التام.
وفي خلال الحديث الذي دار بيننا ويبن جلالته عرض عليه كاتبه الخاص
ثلاث أوراق قرأ ورقتين منهما وأعطى تعليمات شفوية بشأنهما. أما الورقة الثالثة
فإنه ختمها بخاتم يحمله في خنصر يده اليسرى بعد أن غمسه في ختّامة صغيرة.
ولما مضى على حديث جلالته أكثر من ساعة من الزمن استأذن في
الانصراف شاكرين لجلالته ما لقيناه من حسن ترحيبه وما سمعنا من جميل حديثه.
... ... ... ... ... ... ... أمين الرافعي
... ... ... ... مكة المكرمة في 2 ذي الحجة (13 يونيه)
__________(27/272)
الكاتب: أمين الرافعي
__________
الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين
حديث مع رئيس القضاة في مكة
مذهب أهل نجد - التوحيد العلمي والعملي - التوسل والوسيلة - زيارة
القبور بناء القبور والبناء عليها - شارع المسعى والحرم - المرأة والحجاب -
حاشية.
يتطلع الكثيرون إلى معرفة العقيدة الدينية للنجديين وحقيقة مذهبهم؛ لأن
الآراء تضاربت في هذا الموضوع تضاربًا كثيرًا، فرأيت أن أستقي الحقيقة من
موردها الأصلي، فلم أجد سوى التحدث إلى رجل كبير من رجالهم، وعالم فاضل
من علمائهم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد شيخ الإسلام ورئيس القضاة
في مكة.
عرفت فضيلته في المؤتمر الإسلامي فوجدت فيه عالمًا مُتقد الذكاء، واسع
الاطلاع، صافي الذهن، يعرف كيف يحل المعضلات، ويوفق بين الآراء
المختلفة ويقر الصلح محل الخصام. وقد بعثت لكم في رسالة سابقة موقفه من
مشكلة زيارة القبور، ومن أجل هذا اعتقدت أنه ضالتي المنشودة، فطلبت إليه أن
يجيبني إلى ما سألقيه عليه من الأسئلة في موضوع العقيدة الدينية للنجديين. فأظهر
ارتياحًا كبيرًا لهذا الأمر وحدد لي ميعادًا في الساعة الثانية عشرة (على الحساب
العربي) صباحًا من يوم الجمعة أول ذي الحجة فقصدت إلى داره، وهناك قابلني
بما هو معهود فيه من كرم الأخلاق والبشاشة والظرف، وما لبثنا أن بدأنا الحديث كما
يلي:
***
العقيدة الإسلامية للنجديين
سألته: إن الأقوال والآراء متضاربة فيما يتعلق بمذهب الوهابية والوهابيين
ففريق يقول: إن هذا المذهب ليس سوى مذهب سيدي أحمد بن حنبل، وفريق لا
يقول ذلك ويزعم أنه مذهب خامس، وفريق يدعي أنه خليط من مذهب ابن حنبل
ومن أحكام دينية أخرى، فما هي الحقيقة في كل ذلك؟
الجواب: أهل نجد هم جميعهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فهم سلفية
العقيدة (نسبة إلى السلف) حنابلة المذهب. أما تسميتهم بالوهابيين وتسميه مذهبهم
بالوهابية فليست من عملهم وإنما هي من عمل خصومهم الذين أرادوا تنفير الناس
منهم بإيهامهم الناس أن هذا مذهب جديد يخالف المذاهب الأربعة.
أما محمد بن عبد الوهاب الذي كان اسمه من أسباب تسمية النجديين بالوهابيين
فهو عالم من علماء نجد اتصل بدولة آل سعود فصار له قبول عندهم.
وقواعد التوحيد لدينا مبسوطة في كتب المذهب، ففيما يتعلق بالتوحيد العلمي
نقبل آيات الصفات وأحاديث الصفات على صورتها الحقيقية بغير أن نتعرض لها
بتأويل.
فاستواء الله على العرش {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) مثلاً
لا نؤوله بأنه الاستيلاء أو القهر كما يرى البعض وإنما نسلم به كما هو عاملين
بمذهب الأئمة الذي لخصه الإمام مالك في قوله: (الاستواء معقول والكيف مجهول،
والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) .
فالكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات فهو ممنوع.
وكما أنه سبحانه وتعالى لا تشبه ذاته بذوات المخلوقين فكذلك صفاته لا تشبه
بصفات المخلوقين.
أما فيما يتعلق بالتوحيد العملي فمذهبنا أن العبادة حق لله تعالى دون سواه فلا
يجوز صرف شيء منها لغيره كائنًا من كان، لا لملِك ولا لنبي ولا لولي ولا
لغيرهم. فمن سوى بين الله تعالى وبين أحد من المخلوقين في أي نوع من أنواع
العبادات كان عمله شركًا.
***
سألناه: وماذا ترون في التوسل بالأولياء والأنبياء؟
فأجاب: إن التوسل مبتدع وليس شركًا، وأهل نجد يمنعون ذلك ويعتبرونه
منكرًا.
وأما الوسيلة بالعبادات وهل تصل إلى الميت أو لا تصل ففيه كلام؛ لأن
العبادات ثلاثة أنواع: بدنية ومالية ومركبة منهما. فالعبادة البدنية كالصلاة والتلاوة
والذكر والدعاء فيها خلاف بالنسبة للصلاة؛ إذ يقول البعض إن صلاة الغير لا تصل
إلى الميت.
ونقول نحن: إنها تصل عملاً بعبارة بعض فقهاء الحنابلة: (كل قربة فعلها
العبد وأهدى ثوابها للميت توصل إليه) أما التلاوة والذكر والدعاء فإنها تصل، وأما
العبادة المالية كالصدقة فإنها تصل، والعبادة المركبة منهما كالحج فإنها تصل.
***
زيارة القبور
سألناه عن زيارة القبور فأجاب:
هذه الزيارة ثلاثة أقسام:
أولاً: زيارة شرعية وهي التي يقصد منها تذكر الآخرة والإحسان إلى الميت
والدعاء له وإحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة ومثل هذه الزيارة سنة.
ثانيًا: الزيارة البدعية، والقصد منها عبادة الله عند القبور بالصلاة ونحوها
بحيث يعتقد أن للعبادة عندها مزية على العبادة في المساجد التي هي أحب البقاع
إلى الله.
ثالثًا: الزيارة الشركية، والقصد منها دعاء الموتى لقضاء الحاجات وتفريج
الكربات.
***
بناء القبور
والبناء على القبور
سألناه عن القبور وبنائها وما يبنى عليها؟
فأجاب: بناء القبور نفسها لا يجوز رفعها أكثر من شبر، واختلف العلماء أن
يكون مسطحًا أو مسنمًا، ولا يجوز تجصيصها ولا الكتابة عليها، وإنما يجوز وضع
حجر عليها لتمييزها، أما البناء على القبور فإنه ممنوع منعًا باتًا لأن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عنه. وإذا أقيم فوق القبر مسجد فلا تجوز الصلاة فيه.
ومن أجل ذلك كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس داخلاً في الحرم
النبوي. وإنما هو موجود في بيت عائشة. ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه
وسلم عند اعتكافه لم يكن يدخل بيت عائشة، بل كان يعتكف في المسجد نفسه.
سألناه: وهل ترضون عن الحالة الحاضرة في شارع المسعى من حيث كونه
قذرًا ومملوءًا بدكاكين الباعة وبالكلاب الضالة؟ ؟
فأجابنا: إن شارع المسعى كان عرضه واسعًا في الأصل، فما زال الناس
يغتصبون أراضيه شيئًا فشيئًا حتى ضاق وصار عرضه إلى هذا المقدار الموجود
الآن، فيجب إزالة هذا الاغتصاب وإزالة دكاكين الباعة منه ومنع دخول الكلاب
فيه حتى يصبح خاصًّا بالسعي وسنعرض هذا الأمر على المؤتمر الإسلامي.
سألناه وهل ترضون عن حالة الحرم المقدس من حيث نوم الحجاج فيه
بملابسهم القذرة ومأكولاتهم المتعفنة الفاسدة.
فأجاب: إن الواجب منع اتخاذ الحرم محلاًّ لتناول الطعام، أما النوم فإننا لا
نمنعه إلا إذا ترتب عليه مفسدة.
وكان الأستاذ الشيخ حافظ وهبه قد جاء في هذه اللحظة وحضر الحديث في
هذه المسألة فقال لفضيلة قاضي القضاة (ولكن نوم الحجاج في موسم الحج بالحرم
قد ترتب عليه ضرر) .
فأجاب فضيلة القاضي: (إذن يمكن منع النوم في أثناء موسم الحج دفعًا للضرر
المترتب عليه) .
***
المرأة والحجاب
وهنا كان الحديث قد انتهى فاستطرد فضيلة محدثنا من ذلك إلى إطلاعنا على
أسئلة وردت عليه من بيروت ليجيب عنها، وكان منها سؤال خاص بالمرأة وحجابها
فطلبنا إليه أن ننقل السؤال والجواب عليه؛ لأنه يتعلق بمسألة هي مثار الجدل في
مصر، وهذا ملخص السؤال.
ما رأيكم في رفع الحجاب وكشف المرأة وجهها وكفيها في الطرقات
والمجتمعات العامة؟ وهذا نص ما أجاب به:
إن ذلك ممنوع خشية الفتنة لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) .
ولحديث عائشة، قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها. وإذا
كان هذا في حالة الإحرام ففي غيرها أولى.
وإلى هنا انتهى الحديث، فشكرنا فضيلة القاضي وطلبنا إليه أن يسمح لنا بنشر
أقواله فأذن لنا بعد اطلاعه عليها.
***
حاشية
قد يصادف الإنسان في مكة بعض النجديين المتعصبين فيرى منهم عجبًا، فمن
ذلك أنني تقابلت مع أحدهم قبل مقابلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد فأردت أن
أتحدث معه في موضوع العقيدة الدينية للنجديين، ووجهت إليه سؤالاً في هذا الصدد
فأجاب بنفور:
(لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا. فقلت إن السؤال يستوجب بيانًا،
فأجابني بهذا الجواب الغريب: إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا) .
ثم أراد أن يهاجمني بعد ذلك فقال لي (هل أنت أجنبي عن مكة؟ أجبت نعم،
فقال: لماذا تحلق ذقنك ولا ترسلها؟ أجبته هذه مسألة تعنيني وليس هذا موضوع
الحديث) .
ثم استأنفت سؤاله وقلت له: (وماذا ترون في التوسل بالنبي عليه الصلاة
والسلام) .
فأجابني قائلاً: (لا يُدعى إلا الله ولا يسأل إلا الله) فأردت أن أدون هذا الرد
في ورقة لدي وبعد أن دونته قال لي: ماذا صنعت؟ أجبته (كتبت رأيك) فقال:
أطلعني على هذه الورقة، فأطلعته عليها، فقال: أعطني قلمك فناولته إياه فوضعه
في فمه ثم أخذ يمحو به تلك العبارة المكتوبة، ثم رد الورقة والقلم فقلت له: لا داعي
للكتابة ولنقتصر على الكلام، ووجهت إليه سؤالاً عن زيارة القبور فأجاب بكل أدب
أليس لك عقل؟ ألم أقل لك إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا!
فقلت له: لقد حصل لنا الشرف، ثم أردت أن لا تنتهي هذه الفكاهة دون أن
أعرف صاحبها فسألت محدثي عن اسمه الكريم فأجاب: (إني أخ من الإخوة
المسلمين) فقلت له: هذه صفة يشترك فيها كل المسلمين وإني أريد معرفة اسمك،
فأجاب: (لا أقول شيئًا أكثر مما قلت) وأخذ يغط في نومه.. . وانتهى الحديث
بسلام واكتفى صاحبنا بالخشونة والسب بينما بعض أمثاله يضربون، فقد سمعت
من غير واحد من المصريين أنهم نالوا نصيباً قليلاً من الضرب؛ لأن نجديًا متعصبًا
سمعهم يقولون (أنا في جاه رسول الله) .
ولله في خلقه شئون
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين الرافعي
__________(27/275)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*]
باقي محضر الجلسة الثالثة
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: نحن
في بيان الشروط ولسنا في استفتاء، والشروط هي ما ذكرها الفقهاء في كتبهم، نحن
ذكرنا رواية ابن خلدون وهو فقيه من الفقهاء ولم نأخذ برأيه.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: الموضوع
المعروض الآن جزء من البرنامج وهناك تقرير آخر لباقي المسائل والبحث إنما
يكون بعد تلاوة التقرير الآخر فليتل التقرير الآخر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: تعلمون أن مسألة
الخلافة بحسب أصلها مسألة فقهية من فروع الفقه، ولكن لما اختلفت فيها قوم
خارجون عن السنة والجماعة وكثر فيها القال والقيل، أخذ المتكلمون على عهدتهم
الكلام فيها بحثًا طويلاً وألفوا فيها كتبًا خاصة كإمام الحرمين وغيره، فالمسألة ليست
مسألة مذهبية يختلف فيها الحنفي والشافعي وإنما هي مسألة كلامية.
فعندما يتكلم الباقلاني يتكلم باعتبار أنه من علماء الكلام بحسب ما يرى،
وإنما الفقهاء تكلموا فيها قليلاً اعتمادًا على ما تكلم به المتكلمون، فهل يقول أحد
منكم بعد ذلك أن الخليفة يكون غير مسلم أو يكون رقيقًا ليس بحرّ، أو يكون صبيًّا،
أو يكون أعمى، أو يكون عاجزًا عن إدارة الأحكام وحفظ بيضة الإسلام بجيشه
ومع هذا ألا يكون جبانًا.
إن الله تعالى قال في كتابه العزيز لنبيه صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 62) والنبي ما حارب إلا بعد أن صار له عدد
عديد من الجيش وقبل ذلك ما كان يفرض عليه الجهاد، وما شرع له الجهاد إلا
بالتدريج.
وشرع في أول الأمر أن يقاتل من قاتله وبعد ذلك شرع أن يقاتل من قاتله
ويبدأ بالقتال، وذلك كله بالتبع للقوة فليس في استطاعة الخليفة أن يجاهد إلا بأمته
فهذه الشروط إذًا لا ينازع فيها أحد فهي مما أجمع عليه. بقيت الشروط التي اختلفوا
فيها، ومنها الاجتهاد فوجب في الإمام وكذلك القاضي أن يكون مجتهدًا وعلى ذلك كان
السلف الصالح وقد استمر القضاء في مصر يتولاه المجتهدون إلى أن تضعضع الأمر
فعهد في ذلك إلى غير المجتهدين، وجوّزوا أن يعمل برأي المفتي في القضاء وألا
يكون الإمام مجتهدًا وأن يكتفي برأي العلماء.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: من الذي ألغى الاجتهاد؟ فقال
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: حصل خلاف: هل يتجزأ
الاجتهاد أو لا يتجزأ؟ والذي يتجزأ يختص ببعض المسائل والفروع، وقد كان بعض
الصحابة يرجع إلى بعض فيما لم يبلغ فيه مرتبة الاجتهاد المطلق.
وأما مجتهد المذهب فهو القادر على استخراج المسائل الفرعية من قواعدها
التي وضعها العلماء، وكذلك مجتهد الفتوى. هذا هو الأصل وقد تعذر الآن، ومعنى
ذلك أنه لا يمكن مجتهد اليوم أن يستنبط غير ما استُنبط أو يَخرج عما قالوه ودونوه
في كتبهم.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ما قول الأستاذ في: (يحدث
للناس أقضية بقدر ما أحدثوا [1] ) .
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: لقد حدث حادث
السكورتاه والحوالات المالية وتكلم في ذلك المتأخرون بالقياس على ما قاله
المتقدمون ولا يخرج عن المذاهب التي كانت في الزمن الماضي.
ومن شروط الإمام أن يكون عدلاً فإذا وجدنا عدلاً شجاعًا لا يعدل عنه وإذا لم
نجد من يجمع بين الشرطين فالشجاعة هي المطلوبة للدفاع عن الأمة. ومن
الشروط أيضًا القرشية وقد اختلفوا فيها وتكلموا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(الأئمة من قريش) فقالوا هل حصر الأئمة في قريش لأنهم كانوا أصحاب عصبية
في ذلك الوقت فالمناط العصبية؟ [2] وإذا كان الباقلاني قد تكلم في ذلك فبصفته
متكلمًا لا فقيهًا.
وهنا رفعت الجلسة لصلاة المغرب؛ إذ كانت الساعة السابعة مساءً.
ثم أعيد انعقاد الجلسة الساعة السابعة والنصف.
فأخذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت يكمل كلامه وقال:
إن هذا التقرير بالاختصار اشتمل على مسائل ثلاث. وإن حقيقة الخلافة على
الوجه المذكور في التقرير لا خلاف فيها وهي مسألة مفروغ منها. وهل يستطيع
أحد أن يقول إن الخلافة ليست هي الرياسة العامة كما في التقرير؟ طبعًا لا ينازع
في ذلك أحد. فلا معنى لأن يكون ذلك موضع بحث ويجب أن يقبله الجميع.
ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال الملحدون فإنهم يؤمنون
ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. فالشروط المجمع عليها هي أن يكون الخليفة
مسلمًا حرًّا ذكرًا شجاعًا بصيرًا، وليس لأحد أن يناقش في ذلك الإجماع.
وإن من الشروط المختلف فيها الاجتهاد والنسب والعدالة، وأن الذين خالفوا
في القرشية اعتمدوا على أن حديث (الأئمة من قريش) قابل للتأويل. وقد قال
بعض العلماء: إن العدالة لا تتحقق في الواقع ونفس الأمر. والضرورات تبيح
المحظورات.
وتعلمون أن شرعنا جاء بمراعاة مصالح العباد. ومن هنا أمكن القياس في
المسائل لأن النصوص قواعد معللة وهذا يمكن من مراعاة المصلحة. ولكم أن
تنظروا ذلك في جلسة أخرى يكون موضوع البحث فيها المسائل التي وقع فيها
الخلاف؛ وأعود فأقول: إذا بحثنا في القرشية فما الذي يتبع في إثبات النسب
أبالطريقة التي كان يتبعها السلف أم بغير ذلك؟ وإذا كان هناك قرشي فهل توجد فيه
الشجاعة والعلم أي الفهم.
على أن الإسلام والشجاعة والعلم إنما ينظر إليها عند التنفيذ والتطبيق وليس
كلامنا الآن في ذلك وإنما هو في بيان الشروط، وأما البيعة فمبينة في كتاب الأحكام
السلطانية وكذلك أهل الحل والعقد.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد هارون: لا نفصل في
التقرير الأول الآن ونريد أن يتلى التقرير الثاني ثم يؤخذ الرأي.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: هذا تقرير وذاك
تقرير آخر وقد حصلت مناقشات كثيرة، فإذا استحسنتم فليرجأ النظر إلى الغد.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: أطلب أن يضم التقرير الأول
إلى التقرير الثاني وبعد تلاوتهما يُؤخذ الرأي.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الصالحي التونسي: إن
المؤتمر الشريف الذي حضرنا إليه أعطى لنا برنامجًا وألف لما في البرنامج لجنتين:
لجنة علمية تنظر في المسائل الثلاث الأولى من البرنامج ولجنة تنظر في المسائل
الثلاث الأخيرة منه. وفي اللجنة العلمية المنتخبة علماء أجلاء ثلاثة من كل مذهب
من المذاهب الثلاثة ومستشار حنبلي وقد وثق المؤتمر بهم في هذا وقدموا تقريرًا
شافيًا كافيًا استندوا فيه إلى ما دون في المذاهب الأربعة وشرحوا المسائل أتم شرح
ولخصوا المسائل المختلف فيها فلم يبق محل للمناقشة، ويلزم الاقتراع الآن على هذا
التقرير فإن كانت هناك ملاحظات فلتبين.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد مراد أفندي. إننا آثرنا بحث
الاجتهاد وأمضينا فيه وقتًا طويلاً نحن في حاجة إلى أن نمضيه فيما بين أيدينا وما
زال هذا البحث مثارًا لنزاع العلماء. وأمامنا الآن تقريران نريد قراءتهما، وبعد ذلك
نبحث فيهما مادة مادة أو يعطى حضرات الأعضاء مهلة لدرسهما ثم تعقد جلسة في
الغد.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: ألف
المؤتمر لجنتين لعملين، وخص كل لجنة منهما بعمل، فيحسن أن نأخذ الرأي في
التقرير الأول.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: ليس من
الحكمة الخوض في موضوع قبل أن يكون أمام الخائض فيه نبراس، والسرعة
والإتقان لا يجتمعان، أما أعضاء اللجنة العلمية فقد درسوا ما كتبوه، وأما الذين لم
يكونوا في هذه اللجنة فإنهم يحتاجون إلى النظر والتدقيق. وكذلك درس أعضاء
اللجنة الثالثة ما كتبوه في تقريرهم، فهم مستغنون عن النظر ثانيًا، ولا كذلك الذين لم
يكونوا معهم في اللجنة وقراءة التقريرين في هذه السويعة بعد هذه المتاعب في
المناقشات مما يسمى سرعة لا يحتمل معها الإتقان ولا سيما هذا الموضوع الخطير.
وهنا طلب كثيرون من حضرات الأعضاء أن يتكلموا، فأقفل حضرة صاحب
الفضيلة الرئيس باب المناقشة وأعلن انتهاء الجلسة إذ كانت الساعة الثامنة مساءً
على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر الغد.
نائب السكرتير العام ... ... ... ... ... رئيس المؤتمر
إمضاء (محمد قدري) ... ... ... ختم (محمد أبو الفضل)
***
محضر الجلسة الرابعة
يوم الأربعاء 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ
19 مايو سنة 1926م
اجتمع المؤتمر في الساعة الخامسة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر ورئيس المؤتمر. وحضور من
حضروا الجلسة الثالثة وزاد عليهم الشيخ إسماعيل الخطيب المحامي الشرعي
بفلسطين. والشيخ عيسى منون مندوب بالمجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين.
والشيخ عبد القادر الخطيب مفتش الأوقاف بسوريا ولبنان.
ولم يحضر السيد الميرغني الإدريسي لعذر، والسيد عبد الحميد البكري.
وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الثالثة.
وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة وأذن
بتلاوة محضر الجلسة الماضية المنعقدة يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة الحرام سنة 1344
هـ (18 مايو سنة 1926م) فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين
المساعدين.
ولما وصل فيه إلى عبارة (ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال
الملحدون) الواردة في كلام حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت
اعترض على كلمة (الملحدين) حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي وقال:
هل قال فضيلة الأستاذ الشيخ بخيت هذه الكلمة.
فقال الأستاذ: نعم قلتها.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ليس بيننا ملاحدة وطلب
حذف هذه الكلمة من المحضر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الملاحدة
موجودون قديمًا وحديثًا.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه الكلمة ليس فيها أي طعن
شخصي، بل فيها رد على الذين يحاربون ديننا.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: الذين يحاربون الدين
الإسلامي موجودون في كل مكان.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الذين قالوا: إن
الخلافة روحية فقط ملحدون.
فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هل تخصيص أحكام الخلافة
أو شروطها يعتبر إلحادًا.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: نعم؛ لأن شَطْر
الخلافة شطرين وإلغاء أحد الشطرين إلحاد.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه فتوى من مولانا الأستاذ
الشيخ محمد بخيت المفتي يجب أن نُجلها ونحترمها كل الاحترام.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: أرجو من حضرة
صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ بخيت أن يتسامح في هذه الكلمة فإنه صاحب الحق
في ذلك وفي كلامه الباقي ما يشير إلى المخالف وقد يكون ذلك كافيًا.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس العام. لا داعي لتضييع
الوقت في هذا فليؤخذ الرأي.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: لا رأي بعد
الفتوى.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري:
ليست المسألة فيما أرى الآن مسألة بحث وسيخرج بنا هذا عن الموضوع، والمفهوم
أن لكل واحد ملء الحرية في كل ما يقول، ولا يعتبر هذا القول إلا لصاحبه فقط.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر الخطيب: يسأل أولاً
فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: هل هو مصمم على بقاء هذه الكلمة.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: أنا مصمم على
بقائها.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: أريد
أن أقول: إن المسألة في المحضر حكاية محضة لما دار ومهمة السكرتارية أن تدون
كل ما يقال صوابًا كان أو خطأ فلا معنى لأخذ الرأي على إبقائها أو حذفها.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نحن موافقون ونؤيد الفتوى. ثم
تابع السكرتير المساعد تلاوة بقية المحضر حتى فرغ منه.
فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: سبق لنا أن طلبنا دعوة
أرباب الصحف لحضور جلسات المؤتمر فرأيي الاكتفاء بما يرسل إليهم من
السكرتارية، ولكنني أرى مكاتب المقطم موجودًا خارج هذا المؤتمر فأرى أن يؤذن
لغيره من مكاتبي الصحف بالحضور.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسن أبو السعود: إن المؤتمر حر في
مسألة الصحافة فلماذا يؤذن لإحدى الصحف دون الأخرى؟
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: إننا لم نأذن لأحد
من مكاتبي الصحف أن يحضر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: جرى
بالأمس كلام من فضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل بشأن
النظام الداخلي هل للمؤتمر أن يعدله أو ينظر فيه؟ ودار كلام مني حول ذلك، ولم
يثبت ذلك في المحضر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد علي الببلاوي: السكرتارية مؤتمنة
على كل ما يدور من الكلام.
وقال محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام: حضرة صاحب الفضيلة الشيخ
حسين والي، إن ذلك وارد في المحضر وقد تلي على حضراتكم بالنص الآتي:
(ثم قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: قدمت اقتراحات في
الجلسة الماضية في موضوع كيفية أخذ الآراء وعلنية الجلسات، ونريد أن نعلم
رأي اللجنة فيها وما يقرره المؤتمر بشأنها قبل النظر في الأعمال الأخرى، فلِمَ لَمْ
يكتب ذلك في جدول الأعمال. فحصلت مناقشة طويلة حول ذلك اشترك فيها
حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ حسين والي، والشيخ محمد مصطفى
المراغي، والشيخ إبراهيم الجبالي، وعطاء الله الخطيب أفندي. وعبد العزيز
الثعالبي أفندي. والشيخ محمد العبيدي. والشيخ محمد فراج المنياوي. والشيخ
إسماعيل الخطيب. والشيخ عبد الرحمن قراعة. انتهت بتقديم النظر في تقرير
اللجنة العلمية كما في جدول الأعمال) .
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: قد أجمل ذلك في
المحضر إجمالاً وكنا نريد التفصيل.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: أذكر أن هذه
المسألة تكلم فيها قبل هذا جمال الحسيني بك، وحصلت فيها المناقشة، وذكر ذلك
على وجه التفصيل وسبق أن قلنا له: إن لجنة الاقتراحات نظرت في ذلك ولم تحدث
شيئًا جديدًا معدلاً لنظام المؤتمر وسيعرض تقريرها عليه.
أما وقد أعيد فيها الكلام فقد أثبت ذلك عند الإعادة بصفة إجمالية.
فقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: لماذا ذكر في المحضر بحث
علمي برمته وحصل الإطناب فيه والتزم الاختصار في غيره؟ إن في المحضر
نقصًا.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: ليس في هذا
المحضر إشارة إلى مسألة النظام الداخلي فكيف تجمع الآراء في مسألة الملاحدة
وغيرها.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: قلنا: إنه سبق الكلام في هذا
تفصيليًا وقلنا: إن الاقتراحات قدمت إلى لجنتها، وقلنا: إن اللجنة لم تعدل في النظام
الداخلي، ولم تقرر مسألة حضور مكاتبي الصحف. ولما اعترض جمال الحسيني
بك بأن تقرير لجنة الاقتراحات لم يعرض على المؤتمر حصلت مناقشة اشترك فيها
جمع من حضرات الأعضاء كما أشير إلى ذلك في المحضر إجمالاً. فإذا كان هذا
لم يكف على أنه معقول، فما على السكرتارية إلا أن تثبت ما أردتم إثباته.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: قلت بالأمس إن
كان النظام الداخلي قد وافق عليه المؤتمر فأنا قابل له ولم يذكر ذلك في المحضر.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: قلنا غير مرة يكفي الإجمال
في هذا كما ذكر في صدر المحضر لسبق التفصيل. وإن رأيتم التفصيل فلا مانع
من أن يستدرك في المحضر بدل الإجمال.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: ما المانع من أن يذكر في
المحضر كل شيء يقال بالتفصيل؟
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: اكتبوا أن في
المحضر نقصًا فيما دار من المناقشة بيني وبين حضرة صاحب الفضيلة الشيخ
محمد حبيب العبيدي.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: أرى أن يقال: يتدارك
ما حصل ولا يقال: إن في المحضر نقصًا، وإن المحاضر في المجالس النيابية قد
يحصل فيها استدراك.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: السكرتارية مكلفة أن تكتب
محضرًا لا مضبطة بمقتضى النظام الداخلي للمؤتمر. والمضبطة يكتب فيها كل ما
يقال. والمحضر يكتب فيه مجمل ما في المضبطة. فإذا كانت الكتابة على صورة
ملخصة فهي المحضر بعينه وهو المطلوب وفق النظام الداخلي للمؤتمر. وإذا كان
هناك تفصيل في بعض المواضع دون بعض فذلك زيادة على المطلوب والمحل
الأصلي لذلك إنما هو المضبطة. هذا هو العرف الجاري في مثل ذلك على أن
الموضوع الذي أثير الكلام فيه الآن ذكر تفصيليًا فيما سبق. , فليس في المحضر
نقص، ولا سهو، ولا غلط. وأكرر قولي إن هذه المسائل التي تكلم فيها جمال
الحسيني بك وغيره من حضرات الأعضاء حصل الكلام فيها قبل هذا وأخذت حقها
من المناقشة، وانتهى الأمر بأن أحيلت إلى لجنة الاقتراحات. وقد نظرتها اللجنة
وأصدرت فيها قراراتها بما لا يخالف النظام الداخلي للمؤتمر وسيعرض ذلك عليه.
وسبق أن قلنا: إننا كتبنا في جدول الأعمال ما هو المقصود وقدمنا الأهم على المهم.
فقدمنا النظر في التقرير العلمي ثم النظر في تقرير اللجنة الثالثة. وقد زدت على
ذلك أن قلت: إن لجنة الاقتراحات لم تحدث شيئًا جديدًا في مواد النظام الداخلي. فلو
أنصف حضرات إخواني الأعضاء لوجدوا أن الإشارة الإجمالية كافية بعد ذلك
التفصيل السابق.
على أن المضبطة التي يكتب فيها كل ما يقال بالحرف الواحد موجودة في
السكرتارية. ولو أردتم أن ينقل ما فيها إلى المحضر فلا عمل إلا ضم بعض
الكلمات إلى بعض وإثبات ذلك في المحضر. إنكم إذا أردتم تفصيلاً أكثر مما في
المحضر فنحن لا نأبى ذلك وإنْ كان زائدًا على ما في النظام الداخلي للمؤتمر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد فراج المنياوي: عقد المؤتمر
ثلاث جلسات وهذه هي الرابعة ولم نعمل شيئًا ونحن ما اجتمعنا لأجل أن نتحدث
في الأمور الثانوية، ولكن لنقدم للمسلمين عملاً نافعًا. فأرجو أن يسود بيننا حسن
التفاهم. إما أن يقف بعضنا لبعض بحسن نية أو بغير ذلك، فهذا مما يجب أن نترفع
عنه. يجب أن نتعاون يا إخواني على البر والتقوى. وأن نقدم للمسلمين عملاً
جديدًا، ويجب الآن أن يوافق على تقرير اللجنة العلمية (ضجة ومقاطعة) اسمحوا
لي أن أتكلم: إن الذي أريده من حضراتكم أن توافقوا على تقرير اللجنة العلمية لأن
الأحكام الفقهية وإن كانت ظنية فإن المجتهد فيها لم يخرج عن كونه نظر في الدليل
الشرعي وانتهى به اجتهاده إلى حكم من الأحكام. ذلك الحكم وإن كان ظنيًّا فهو
حكم الله بالنسبة للمجتهد.
فليس من حقنا أن نقول: نقبل هذا الحكم أو نرده. وإنما يتعين علينا أن نقبله.
إن هذه الهيأة فيها من عنده قوة الترجيح ولكن ليس فينا من عنده قوة الاجتهاد فيقول
هذا مقبول وهذا مردود. فأقترح الموافقة على تقرير اللجنة العلمية ثم ينظر في
التقرير الآخر ولحضراتكم الرأي الأكبر.
ثم قرر المؤتمر أن يكتب التفصيل مكان الإجمال في محضر الجلسة الماضية.
وبعد ذلك قال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: هناك مسائل أولية أردت أن أبحث فيها من الجلسة الأولى. نحن نقول: يجب أن ندعو ممثلاً لنقابة
الصحافة ولم توافقوا. فلماذا نرى مندوباً عن جريدة المقطم يحضر خارج المؤتمر؟
نريد أن نبحث فكيف جاز لشخص لا علاقة له في المؤتمر أن يحضر بدون إذن مع
احترامي لشخصه واحترامي لجريدته.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: لم يحصل منا إذن لمكاتب
صحيفة مطلقًا.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: الآن
وقد علمنا أن أخبار المؤتمر تنشر محرفة وبشيء ربما أثار ثائرة في وجه المؤتمر
وحرف وجهة النظر أرى خيرًا من هذا أن يدعى أهل الصحافة جميعًا لحضور
المؤتمر من الجلسة الآتية:
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نحن نؤيد هذا الرأي ونطلب
مندوبًا واحدًا عن نقابة الصحافة.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: لأن تنشر قرارات
المؤتمر بوساطة مندوبي الصحف خير من أن تنشر الجرائد أخبارنا محرفة.
وقال حضرة صاحب السماحة السيد محمد الببلاوي: أنا أوافق الأستاذ وأظن
أن مسألة انتخاب نائب عن الصحافة انتهت، وسيحضر من الغد وأطلب أخذ الرأي
على ذلك. ... ... ... ... ... ...
فأخذت الآراء فكانت النتيجة موافقة المؤتمر بالأغلبية على انتداب مندوب عن
نقابة الصحافة.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالحي التونسي: أطلب أن
تكون مناقشاتنا بشكل نظامي بحيث لا نخرج من موضوع إلى موضوع فجأة. إن
موضوعنا التكلم في التقرير العلمي، فهل لأحد الأعضاء ملاحظة عليه؟ إننا بين أحد
أمرين إما الموافقة على التقرير العلمي وإما تأخير الموافقة إلى أن يعرض تقرير
اللجنة المؤلفة لبحث النصف الثاني من البرنامج، فليس من المناسب ترك هذا
الموضوع والدخول في موضوع اقتراح قدم في أول جلسة للمؤتمر وأحيل إلى لجنة
الاقتراحات وقررت فيه قرارها وسيعرض تقريرها وللمعارض وقتئذ أن يعارض.
احتجاج المؤتمر على الفظائع في سورية:
وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: نريد أن نعرف الفرق بين
البحث السياسي وغير السياسي نحن لا نريد أن نبحث شيئًا سياسيًّا هنا، لقد وردت
علينا برقية عن حوادث دمشق الشام، وهي رابعة البلاد المقدسة، جاء فيها أن
مساجدها تهدم على رؤوس المصلين والمدرسين فيها. وهذا مؤتمر إسلامي عام
أتعدون ذلك من المسائل السياسية أو الدينية؟
وقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: أنا موافق على أن يحتج
المؤتمر على ما هو واقع في دمشق وإذا لم نحتج على هذا العمل يكون ذلك عارًا
علينا. إن هؤلاء أرسلوا إلى المؤتمر يستنجدونه ويستصرخونه فيجب أن نلبي
استصراخهم ونحتج بشدة على ما هو واقع، ليس على إخواننا المسلمين فقط بل على
المسلمين وغيرهم.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد فراج المنياوي: إن المؤتمر ألف
لجنة لنظر الاقتراحات.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: اللجنة ما هي إلا جزء من
المؤتمرين ولا وجود للجنة عند وجود المؤتمر. لقد كتبت الصحف عن هذا
الاعتداء. وأرى واجباً على مؤتمر الخلافة أن يكون هذا الاحتجاج من أول أعماله.
ومن العار سكوتنا وأن هذا لا دخل له في السياسة على الإطلاق بل هذا يتألم من
فظائع وقعت ويجب أن نظهر التألم لكل الناس.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: هذا حسن ولكن لنا
مقصد أصلي لم نمض فيه خطوة. أبعد هذا نصرف كثيرًا من الوقت في مثل ذلك.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك أخجل كثيرًا إذا لم نحتج على
هذا.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذا الاحتجاج كان واجبًا
عمله من أول الأمر، ولقد تأخر الاحتجاج عن وقته فنحن باحتجاجنا الآن نكون قد
تداركنا ما أهملناه.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذا من أول واجبات مؤتمر
الخلافة ونحن نعمل لبناء الخلافة.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد هارون: لقد جاءنا تلغراف بهذا
المعنى. وهل تحققنا هذا الأمر؟ يجب أن نتحقق أولاً.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: ليس لنا أن نكذب الخبر وكل
هذه الفظائع قد نشرتها الصحف واطلع عليها الجمهور.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: أرى أن إبداء الأسف
حق من حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، لا فرق بين فرد وفرد وبين جماعة
وجماعة. ونحن قوم مسلمون نحمل بين جوانحنا إيمانًا صادقًا وعطفًا على إخواننا
في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا الأمر الذي حصل وجاءتكم به البرقية أمر
وحشي لا يليق بإنسان أن ينزله بحيوان أعجم فضلاً عن إنسان مثله. ولهذا أقترح
أن تقرروا أسفكم وأن تعلنوه على صفحات الجرائد مقرونًا باحتجاجكم الشديد على
الذين ارتكبوا هذه الفظائع. وأن تقرروا ذلك باسم الدين خارجًا عن كل صيغة
سياسية.
وقال حضرة صاحب العزة جمال الحسيني بك: المسألة دينية محضة، فقال
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الصالحي التونسي: أقول: إن ما وصلنا إليه
أخيراً وطلب بشأنه الموافقة هو اقتراح خارج عن الموضوع الذي نحن بصدد النظر
فيه. وأطلب أن يكون كل عمل في وقته، فنحن بصدد الكلام في التقرير العلمي وما
راعني إلا خروجنا عن هذه الوجهة.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هذا قد وقع ولا محل
للاستغراب.
فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: الاحتجاج تأخر، وكان يجب
عمله على إثر قراءة التلغراف فيجب أن نتدارك ما أهملناه.
صفة أخذ الآراء في المؤتمر:
ثم أمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء فكانت
النتيجة موافقة المؤتمر بالأغلبية على الاحتجاج على ذلك.
ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: فلتؤخذ الآراء
على التقرير الأول.
وقال صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: لم أعرف للآن كيفية أخذ
الآراء.
وقال حضرة صاحب الفضيلة عطاء الله الخطيب أفندي: لم يستقر الرأي
على كيفية التصويت وهي لا تزال على حالها من الإبهام.
وقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: نترك هذا البحث الآن.
وقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: يؤخذ الرأي على التصويت
هل يكون باعتبار عدد الأصوات أو بحسب البلدان.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي: كيف ذلك؟ وأمامنا التقرير
العلمي والعلم شائع لا يختص به شعب دون شعب، والنظام الداخلي للمؤتمر يقول:
العبرة بآراء الحاضرين. ولم تغير لجنة الاقتراحات منه شيئًا كما قلنا ذلك مرارًا.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة: أمامنا النظر
لمصلحة الإسلام ما دامت وجهتنا واحدة؛ فإذا قلنا: ننظر لمصلحة مصر أو لمصلحة
العراق مثلاً فهنالك يكون الكلام في مسألة البلدان، أما وقد قلنا: النظر لمصلحة
الإسلام، فلا معنى لأن ننظر لمصلحة البلدان.
وقال حضرة عبد العزيز الثعالبي أفندي: علينا واجب هو أن نتفق مع
المسلمين على أساس معين ولا يكون عملنا مبنيًّا على مصلحة الأفراد وأنا ملتزم
قبول الفتاوى الشرعية. فإذا صوت لكم فأنا ألزم به من أرسلني إليكم.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: إذا جاء
وقت ننظر فيه للتطبيق فيكون الرأي بمراعاة الأقطار لا أقول الأقطار
الحاضرة فقط بل جميع الأقطار. أما إذا لم نصل إلى التطبيق وكنا نتكلم علميًّا،
فالعلم حق مشاع للجميع وهذا ما نسير فيه للنهاية؛ فإما أن يوافق المؤتمر أو تؤخذ
الأصوات.
فأمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء.
فكانت النتيجة موافقة المؤتمر بالإجماع - ما عدا حضرة صاحب الفضيلة
الشيخ محمد حبيب العبيدي - على أن تؤخذ الآراء بعدد الحاضرين في المسائل
العلمية وعند التطبيق تؤخذ الآراء بعدد الشعوب.
ثم أمر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس بأخذ الآراء في تقرير
اللجنة العلمية المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأولى عن برنامج المؤتمر الذي تلي
في الجلسة الماضية فكانت النتيجة موافقة المؤتمر عليه.
ثم استأذن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله الخطيب مقرر اللجنة
المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر، وتلا تقرير هذه اللجنة.
وبمناسبة ما جاء فيه من غياب حضرة الدكتور الحاج عبد الله أحمد أحد
أعضاء اللجنة قال فضيلة المقرر: إنه أثناء المذاكرة حضر ووقع القرار.
وهذا نص تقرير اللجنة:
(سيأتي)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.
(1) المنار: هذه الكلمة مروية عن الإمام عمر بن عبد العزيز.
(2) المنار: هذا الرأي افتخره ابن خلدون بعد إجماع خير القرون على اشتراط القرشية فلا يقيد بخلافه ولا بخلاف الباقلاني قبله.(27/280)
الكاتب: محمد بهجت البيطار
__________
كتاب الموجز في الاجتماع
بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار
عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة
ما أشد حاجة الأمم التي تتخبط في ديجور الجهل، أو ترسف في قيود الذل،
إلى علم الاجتماع الذي يهديها إلى سنن الله تعالى في الوجود، ودرس أسرار تقدم
الممالك والشعوب، واتقاء أسباب الفشل والحبوط.
استنبط العرب (رحمهم الله تعالى) أيام حضارتهم من الكتاب الكريم علومًا
وفنونًا كثيرة، وجعلوها ذات أصول راسخة، وقواعد محكمة، فلو رزق علم
الاجتماع عندهم من العناية والتدقيق حظ هاتيك العلوم، وجرى ملوكهم وأولو الأمر
فيهم في تسيير دفة الملك والسياسة على مقتضى تلك الأسس الثابتة، والسنن
الكونية التي لا تقبل التبديل ولا التحويل، لما علقت بأصول مدنيتهم تلك الشوائب
والأوضار، وأفضت بملكهم وعظمتهم إلى الزوال.
تلوت كتاب (الموجز) في علم الاجتماع لمؤلفه العالم الضليع، والكاتب
البليغ، عارف بك النكدي، أستاذ علم الاجتماع في معهد الحقوق وأحد أعضاء
المجمع العلمي العربي في دمشق - فألفيته من أجود كتبنا العربية الحديثة، وكم يود
الغيور على ملته أن يكون هذا العلم في جملة العلوم المتداولة يبن طلاب العلوم الدينية فإن مباحثه ليست بأدق من مباحث أصول الفقه التي يتلقونها ولا بأقل فائدة وعائدة
منها، وإذا كان علم الأصول يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية
على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، فإن علم الاجتماع
يبحث عن سنن الله تعالى في حياة الأمم وموتها، والمحافظة على مقومات الأمة
ومشخصاتها التي تكون لها بها شخصية خاصة ووجود مستقل بين الأمم، وأَنَّى
يتيسر لأمة مغلوبة على أمرها، مستعبدة لغيرها، أن تحافظ على دينها وتحتفظ
بمصالحها، وتدرأ المفاسد عنها؟
***
ابن خلدون وعلم الاجتماع
ذكر المؤلف الكريم أن للعلامة الشهير ابن خلدون سابقة فضل في استنباط هذا
العلم، وأورد عنه أنه قد شرح أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع
الإنساني من العوارض الذاتية، وذكر أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول،
وأسباب التعرف والحول، وما يعرض في العمران من دولة وملة، وعزة وذلة،
وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة. وتعرض
للعصبية وسلطانها، والإقليم ونفوذه، والوراثة وتأثيرها، وتبدل الأخلاق والعادات،
وما لذلك من العلل والأسباب، (ثم قال) وإذا كان ابن خلدون لم يجعل علم
الاجتماع الذي يسميه (العمران البشري) وأحيانًا (الاجتماع الإنساني) علمًا ذا
قواعد ثابتة، فلا يقدح ذلك فيه ما دام الناس لا يزالون إلى يومنا هذا وهم في شك من
هذا العلم، وأصحابه في تردد من أمرهم، وحسب الرجل أنه أدرك العوامل
الاجتماعية من اقتصادية وطبيعية ونفسية، قبل أن يدركها غيره من الغربيين
بمئات السنين، فإذا لم يكن ابن خلدون مؤسس هذا العلم فهو لا ريب مهيئ
أسبابه اهـ.
أقول: لا شك أن الإمام ابن خلدون قد استقى ما أورده في مقدمته من ذلك
المعين الذي لا ينضب وهو الكتاب الكريم الذي أشار (قبل ثلاثة عشر قرنًا ونصف
قرن تقريبًا) في كثير من آيه إلى السنن الإلهية الثابتة في الأفراد والأمم، ومنه ما
يسمى عندهم سنة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، وإليه الإشارة بمثل قوله عز
اسمه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) .
وقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) وقوله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) .
ولولا أن الكلام في علم الاجتماع من حيث هو علم لا من حيث هو دين
لأفضنا في ذكر الآيات التي يمكن أن يكون ما أورده الفاضل الكندي عن ابن خلدون
عناوين لها، وفصوله الممتعة مفسرة لها، مفصلة لمجملها.
***
الغرض من كتابة هذه الكلمة:
غرضي من هذه الكلمة التي أكتبها عن كتاب (الموجز) النفيس استنهاض
الهمم إلى الاستفادة من هذا العلم، وإيقاظ شعور من هم في غفلة عنه من رجال
الدين إلى سبر غوره، والتقاط درره، فإنه على الأكثر حجة لهم، ينفي عن دينهم
كثيرًا من المطاعن والشبه، ويكفيهم مؤونة الرد والدفاع من عند أنفسهم، وإني
مورد بعض الجمل الجميلة من هذا (الموجز) الجليل، ليكون قولي مؤيدًا بالدليل.
بطلان مذهب داروين:
قال في بطلان مذهب داروين - القائل بتولد نوع من نوع آخر أخس منه عن
طريق التحول (أي كتولد الإنسان من القرد!!) - معربًا عن كاترفاج نبذة مما جاء
في كتابه (الجنس الإنساني) ص 71: (ومن أراد أن يستشهد بما هو كائن، وأن
لا يبني حكمًا على شيء غير ما هو معلوم، استحال عليه أن يقول بتولد نوع من
نوع آخر عن طريق التحول، ومن قال بهذا فقد قال بشيء مجهول وجاء بالممكن
يحله محل الثابت بالتجربة. وبعد أن أفاض كاترفاج في هذا البحث وضرب له
الأمثال قال: وجملة القول أن (داروين) ومريديه من أجل أن يقروا التحول من
العنصر إلى النوع خلافًا لكل معارفنا المثبتة، ينبذون ما أثبتته التجربة والملاحظة،
ليحلوا محلها حادثًا ممكنًا ومجهولاً. قال مؤلف الموجز: لقد أتينا بهذه الكلمة بيانًا
لمذهب داروين الذي كثر أشياعه والمعجبون به، وهو مذهب لا يصح الركون إليه،
لأنه - كما قال كاترفاج - لا يستند على أساس ثابت، وإنما هو قائم على
الاحتمال والإمكان. ومهما يكن من الأمر فإن أصل الإنسان مسألة دقيقة غامضة،
إذا لم يؤخذ فيها بما ذهب إليه داروين، فليس هناك رأي آخر يعتمد كل الاعتماد
عليه، لتقادم العهد، وفقدان الأدلة الصحيحة) .
وأقول {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: 57) وأقدم ,
والبحث عن مادتهما الأصلية لتعرفها أشد وأبعد، وإلى هذا كله الإشارة بقوله عز
شأنه {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ
المُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: 51) .
***
وحدة أصل الإنسان، أو الإنسان الأول:
قال في ص 71: وإذا نحن وازنا بين هذين الرأيين (كون الناس يرجعون
إلى أصل واحد أو أصول مختلفة) وما جاء في حق كل منهما من البراهين التي
أدلى بها إلى يومنا هذا، كُنا أميل إلى القائلين بوحدة أصل الإنسان، لأن الفرق ما
بين أشد الأجناس الإنسانية بعدًا بعضها عن بعض، ليس بالشيء الذي يذكر في
جنب الفوارق بين أصناف النوع الواحد من الحيوان والنبات.
أقول: ما ذكره هو الظاهر المتبادر من قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) .
***
وظيفة المرأة في الحياة:
شغلت المرأة عالَمي الكتابة والخطابة في كثير من الأقطار وقتًا طويلاً، ولولا
حب الخروج بها عن أصل فطرتها ودائرة عملها، لما أشكل على الكثيرين أمرها
ولما أكثروا من الكتابة والخطابة في شأنها، فإن وظائفها الطبيعية الأربع التي تنتقل
فيها ولا تخرج عنها - وهي الحمل، والولادة، والرضاع، وتربية الأطفال
- دع تدبير المنزل - هذه الوظائف الطبيعية لا تدع لها مجالاً لمشاركة الرجل في
عمله الخارجي، وأنها تهدم من كيان الأسرة، وتفسد من شؤون المستقبل، بمقدار
ما تهمل من وظيفتها المنزلية، وإليك شذرات من (الموجز) في الموضوع:
(لقد قلنا: إن للنساء على الرجال سلطانًا لا يغالب، فإذا هن أجلسن على
مقاعد النيابة والأحكام، وشاركن في السياسة، ففوضت إليهن السلطة، فقد زاد
سلطانهن المعنوي سلطانًا سياسيًّا، فأصبح لهن الأمر كله، ووقعت السلطة العملية
في يد أضعف الجنسين عملاً، وتراكمت المصالح العامة في عهدة أعجزهما قدرة
على حفظها، فأين الفائدة بعد ذلك، بل أين المساواة؟
(وقال) : وقد شاءت هذه الطبيعة أن لا يجتمع الرجل والمرأة مجتمعًا لا
مبالاة معه، وكيف يريان سبيلاً إلى المباحثة في شؤون الدولة الخطيرة، وللعيون
مع كل نظرة بارقة من الأمل تذهب بالقضية بين سمع الأرض وبصرها [1] .
(وقال) : إن المبالغة في المساواة بين الرجل والمرأة كان من شأنه أن أفسد
كثيرًا من نظام الأسرة، فقد أدى ذلك إلى تعدد الطلاق في أمريكا تعددًا هائلاً، حتى
جاء في بعض الإحصاءات أن الطلاق بين المتزوجين واحد في الثمانية، وسبب
ذلك الغلو في المساواة، وكون المرأة أصبحت في غنى عن زوجها، لا تبالي أي
حياة تحيا، وهل مصير هذا إلى غير تفسخ الروابط الاجتماعية، ثم الفوضى
المطلقة، والرجوع بالإنسانية أجيالاً بعيدة إلى الوراء؟
وقد أفاض حضرته في هذا الموضوع، وأتى بالكثير الطيب، وذكر أن علم
منافع الأعضاء يثبت بين الجنسين الفوارق الطبيعية التي تستلزم الفوارق النفسية
والفكرية أيضاً (قال) وما دامت الطبيعة أسقطت عن المرأة مشاق الأعمال
وصعابها، فلم لا تستفيد المرأة من ذلك؟ وعلام تريد أن تحشر نفسها في مأزق
حرج، فتدخل في خطة صعبة يتمنى الرجل لو كان له مخرج منها؟
أقول: وإلى هذه الفوارق بين الرجل والمرأة، التي خصصت كلاًّ منهما بعمل،
يشير قوله جل اسمه] وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [ (النساء: 32) .
ومما أثبته الفاضل (العارف) مستندًا فيه إلى علم الاجتماع ورجال الاشتراع
يظهر جلياً أن الرجل بما وهبه الحكيم العليم من المواهب الطبيعية هو المكلف
بالتوفر على عمله الخارجي، والقيام على عيله (عائلته من زوج وولد) بالنفقة
وحسن التربية والمعاملة، وهو المستفاد من قوله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) .
وقد اقتصر الأستاذ النكدي في بحثه هذا على ضرر اشتغال النساء في القضايا
العامة كالمجالس النيابية لأنه - كما أفادنا حضرته مشافهة - يتكلم من الوجهة
الاجتماعية والسياسية ويقاس عليها اشتغالهن في القضايا الشخصية كالمحاماة
والهندسة والدخول في المعامل، فإن في هذا من فساد نظام الأسرة ما في ذاك.
ولم يذكر أضرار التفنن في التبرج والتفرنج وقتل الوقت في المسارح
والمراقص، لأن هذا محله بحث (تفسخ الهيئة الاجتماعية) من الجزء الثاني الذي
وعده بنشره، وسنراه قريبًا إن شاء الله تعالى.
***
حكمة تعدد الزوجات:
(قال) أما الحقيقة في تعدد الزوجات فهو يرجع في الأقاليم الحارة إلى
مؤثرات طبيعية غير فوارق اللذات، وإلى عوامل القتال والحروب، وما تجره من
فقدان الرجال في القبائل، التي لا تطفأ نار الشر بينها، وللرغبة في تكثير النسل،
والتقوي بأحلاف من العمومة والخؤولة، ولرُخَص دينية بنيت على هذه الأسباب
الاجتماعية كلها أو بعضها. اهـ.
أقول: لا يخفي أن الحروب في الأمم والشعوب، أشد منها في القبائل إهلاكًا
وتدميرًا، وأكثر أخذًا وتقتيلاً، فهذه الحرب العامة قد أزهقت قواها البرية والبحرية
والجوية ملايين البشر، وتركت ملايين النساء والأطفال بلا رجال؛ إذاً فحكمة تعدد
الزوجات في أمم الحضارة أظهر منها في أمم البداوة، وقد أدركت ألمانيا أثناء
الحرب العظمى هذا النقص الفادح فاضطرت إلى التصريح بضرورة التعدد.
أرأيت كيف جاء علم الاجتماع وأحداث الزمان مؤيدًا للقرآن، أعلمت كيف
انطبقت أصوله على تعاليم الإسلام؟
***
ما خالف الشرع من علم الاجتماع:
رب معترض يقول: إنك ذكرت من القضايا الاجتماعية ما هو حجة لذويك
وتركت ما هو حجة عليهم، وعلم الاجتماع لا يعرف المحاباة، وقد قال في (الموجز)
ص 109:
(1) (فكل حق للرجال في حرمة أو مال يجب أن يكون للمرأة مثله، ولا
عليها ولا عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه) وظاهر هذا معارض لنص
(للذكر مثل حظ الأنثيين) وفي بحث أدوار العقوبة وأنواعها (الدور الأول انتقام،
والثاني قصاص، والثالث تأديب وإصلاح) .
(2) رأوا أن القود على إطلاقه، وجرح الجارح، وقطع السارق كان
لها أيام وانقضت. فتحولت العقوبة إلى واسطة يراد بها التأديب والإصلاح. وهذا
ينافي قوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (المائدة:
45) الآية.
وفي بحث أطوار العقوبة الثلاثة:
(3) خروج العقاب عندئذ - أي عندئذ ترقّت الأوضاع الاجتماعية،
وتألفت السلطة المنظمة. إلخ - عن أن يكون حقًّا شخصيًّا أو إلهيًّا إلى حق عام.
وفي بحث النوع الثاني من أشكال الحكم (الشكل الثيوقراطي) وهو الحكم
الذي يستمد نفوذه وقوته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون، وباسمه
يتكلمون.
(4) حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزلة الوزراء. (قال) ومن
الحكومات الثيوقراطية: حكومة القضاة في اليهود، والخلافة في الإسلام، والممالك
والإمبراطوريات الغربية التي كان يعتقد أصحابها أنهم يستمدون قوتهم من الله. ثم عد
الحكم الديمقراطي خير الأحكام وأصحها وعلل ذلك بقوله: لأنه يستمد قوته وسلطانه
من الأمة، وهي وحدها صاحبة الحق في الحكم. اهـ.
(5) وقال (ص 186) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة.
فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: هذا هو الشرع الذي يصلح
لكل جيل في كل زمن.
(6) وفي (ص 72) : وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا في ما يذهبون إليه
بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم وبما توصلهم إليه
مساعيهم.
***
تمهيد للجواب
أقول: لسنا نحاول في كلامنا هذا هدم القواعد الثابتة القطعية من علم الاجتماع
بالنصوص الدينية فإن في ذلك ما يحمل الاجتماعيين على التمسك بقواعدهم
والبراءة مما خالفها وفيما أورده (الموجز) عن حجة الإسلام الغزالي عبرة وعظة،
ولا نلغي إيضاحكم النصوص بهذه القرارات الاجتماعية التي تخالفها في الظاهر
(لا في الواقع على ما سيأتي) لأن هذا يشعر بأن النصوص لا تمشى مع العلم، ولا
تبقى مع الزمن، وينتج عن ذلك نفور المتدينين من اقتباس العلوم والفنون، وإيثار
الجهل عليها، لا بل تدعوهم حميتهم لمحاربتها باسم الدين دفاعًا عنه، وتأييدًا له!!
والحق أن القواعد السماوية الصحيحة، كالقضايا العقلية والطبيعية الصريحة، لم
تبن إلا على أمتن الأسس، وأرسخ القواعد، ولم تجئ إلا لتقرير الحقائق وتثبيتها،
وكيف يمكن أن يكون بينها تناقض، والذي أنزل الوحي، وخلق العقل، وأوجد
الطبيعة هو واحد جلت حكمته؟ إذاً فما على رجال الدين والدنيا الغيورين إلا أن
يعنوا بالتوفيق بينهما، عليهم ألا يطرحوا أحدهما في سبيل الآخر، فإن هذا أبقى
لدينهم ودنياهم، وأحفظ لمصالح البشر من الضياع والحرمان، وأدعى أن يستفيد
ألوف المتدينين من كتب العلوم والفنون النافعة.
وها أنا ذا أسعى في الجمع والتوفيق بين ما اختلف ظاهره من نصوص الكتاب
ومسائل الاجتماع؛ خدمة للأمرين معًا، وترغيبًا للمسلمين في الإقبال على هذا العلم
النافع (أي الاجتماع) الذي يوقظ شعورهم ويستفز هممهم، للمحافظة على الإرث
الموجود، واسترداد المفقود بالطرق القانونية والسنن الكونية، التي سطت بها
الأمم القوية على الأمم المستضعفة، وجردتها مما يبعث فيها روح الحياة الحرة.
إن مَن يعتمد النظرة الأولى في حكمه يحسب أن ما أوردناه عن الموجز
كنموذج لمخالفة الاجتماع لظاهر الشرع، مخالفًا له في الواقع ونفس الأمر، ولكن
الذي يمعن النظر يرى لذلك أسبابًا إذا روعيت بإنصاف، حل الوفاق محل الخلاف.
(الأول) أن الحق المعطى للمرأة في الإسلام مبني على الطريقة الاجتماعية
المُثلى، والسنة الطبيعية العادلة كما سيأتي.
(الثاني) عدم المنافاة بين حكمين وإثبات أن لهما جهة واحدة، وإن ظن
بادي الرأي اختلافهما كما سترى.
(الثالث) بيان المراد يدفع الإيراد، ويثبت الحكم على الوجه الصحيح.
***
أجوبة الأسئلة المتقدمة
الأول بحث المرأة:
إن الإسلام قد راعى طبيعة المرأة ووظيفتها في الحياة، ولم يدعها إلى عمل
الرجل الذي جعل كافلاً لها. وقد أوردنا عن الموجز في ذلك ما فيه مقنع. أما قوله
فكل حق للرجال في حرمة أو مال، ينبغي أن يكون للمرأة مثله، ولا عليها ولا
عليه أن يزيد حقها في هذه الأمور على حقه، فيجاب عنه من وجهين:
(1) أن هذا مبني على الغلو في المساواة بين الرجل والمرأة في عامة
الشؤون والحقوق [2] وقد نقلنا عن (الموجز) نفسه رد هذا القول، لما ينبني عليه
من فساد نظام الأسر، وأن مصالح الحياة الخارجية يجب أن تكون بيد الرجل وحده،
إذاً فتسويتها به في المال - مع أنه هو المكلف أن يكون قوامًا عليها وعلى ولده
بمقتضى عمله الطبيعي - يعد ظلمًا بينًا، ينشأ عنه خلل اجتماعي، وهو وقوع
الثروة في يد أقل النوعين حاجة إليها.
(2) أن الإسلام وإن جعل للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، فإن المرأة
في هذه القسمة هي الراجحة الرابحة، لأن الرجل هو المكلف بالإنفاق طبعًا وشرعًا
كما قدمنا، فلو أخذ ميراثه ألفين مثلاً، وأخذت هي ألفًا، عاد لها من نصيبه ألف
بطريق النفقة العادلة، واحتفظت هي بنصيبها لنفسها، فكان لها بالنتيجة ألفان وكان
له ألف واحد، فأصبح للمرأة مثل حظ الذكرين، فأي حيف بعد هذا وقع على المرأة،
وأي ربح أصابه الرجل في هذا الاقتسام، وهل هُضمت المرأة حقها في شرعة
الإسلام؟
نعم، هناك أمور استثنائية تضطرها إلى العمل الخارجي أو الاكتساب كأن
تكون أيّمًا ولها صغار لا مال لهم ولا كافل ممن تلزمهم نفقتهم من آل الرجل، فالإسلام
قد أباح لها ما للرجل من موارد الكسب، وجعل نصيبها منها مساويًا لنصيبه -
وجملة القول أن المرأة في الإسلام لا تشكو ظلمًا ولا هضمًا، وهي جارية فيه
على مقتضى النواميس الكونية كما قدمنا.
***
الثاني والثالث الحقوق والعقوبات:
إن تقسيم العقوبة إلى أدوار انتقام وقصاص وإصلاح، والحق إلى شخصي،
وإلهي، وعام، هو تقسيم تاريخي، وأمور اعتبارية، لا حقائق ثابتة متغايرة، فإنه
لا منافاة بين كون العقوبة حقًّا شخصيًّا وإلهيًّا وعامًّا، وإنما يختلف التعبير باختلاف
الاعتبار، فالحق شخصي من جهة قرابة صاحب الحق وذويه، وإلهي من حيث إن
الله تعالى هو الذي قسَّم الحقوق على قاعدة العدل والإحسان، وشرع القصاص رحمة
بالعباد وذريعة لحسم مادة الفساد، وحق عام من حيث وحدة الأمة وتضامنها وأن ما
شرع في مصلحتها، فهي المكلفة بتنفيذ الحكم بواسطة حكومتها.
والانتقام قد يُراد به التأديب، والقصاص تكون غايته الحياة الطيبة والإصلاح،
فلو أن أمة (كالأمة العثمانية مثلاً) كان لها حريتها واستقلالها وسعة ملكها،
وعظمة سلطانها ثم خالفت في سيرها سنن الاجتماع، وأدارت رحى ملكها على
غير قطب الشورى والاشتراع، وراحت تسوس الرعية بما يملي عليها الهوى
والظلم، ثم طال عليها الأمد، فهبت فيها أعاصير الفتن، وذاق بعضها بأس بعض
فسطت عليها أمم قوية فسلبتها حريتها واستقلالها، وجعلت ممالكها بينها نهبًا مقسمًا،
قلنا: لو أن أمة أصيبت بمثل ذلك فاتعظت بما أصابها، وهبت تجاهد في سبيل حقها
المغصوب، وإعزاز شأن وطنها المحبوب، إذاً لصح أن يقال: إن ما أصابها كان
انتقامًا من ذنوبها، وقصاصًا أو جزاءً على عملها، وتعذيبها كان موقظًا لشعور
أفرادها، وسببًا لصلاحها ورشادها، وداعيًا إلى تضامنها واتحادها، والانتقام من
الأمم التي تطغى بإذاقتها العذاب بآية كونية أو بأيدي أمة أو أمم عاتية قوية هو
سنة من سنن الله تعالى في الوجود، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، والشواهد على ذلك
من تاريخ الأمم القديمة والحديثة كثيرة.
وما يقال في الأمم يقال في الأفراد، فإن القتل والقطع والجلد يراد منها صلاح
الفرد والمحافظة على المجموع، وكم من نقمة أورثت نعمة، وإن تعجب فعجب أن
يُرى في حد القاتل والزاني والسارق سُبَّة وعار على المجتمع، وأن لا يرى
الخطب أوجع، والخزي على المجتمع أشد، بما تصنعه هذه الأمم المادية - دعية
قوانين العدل والإصلاح!! - من قتل الشعوب الآمنة في عقر دارها وسلبها كل ما
تملك، وإفسادها نظام الأسر والبيوت، بل المجتمع كله.
والعجب كل العجب ممن يكبر أمر المسبب، ويغفل عن السبب، أو ينكر
القصاص العادل ولا يعظم الذنب.
الفظاعة ليست في قصاص البريء الذي يتعلق به الحق الشخصي والحق
الإلهي والحق العام، ولكنه في الجريمة التي أفضت إلى القصاص الذي أخذ المجرم
بذنبه، وكان فيه حياة الباقي، وإذعان القرابتين للحكم، وإزالة الوغر والضغن
وكف الأذى والعدوان.
وهل كانت دولة (الخلافة العثمانية) مصيبة في إبطالها أحكام الشريعة،
والاستعاضة عنها بتلك القوانين التأديبية، التي لم تكن إلا باعثًا على زيادة الإجرام
وارتكاب الآثام والفساد العام، الذي عمَّ المحكومين ومنفذي الأحكام؟ ألم تكن تلك
الكلمة الخاطئة: (اضرب واجرح لا تخف، هي حبسة وزوج أكتاف) هي المثل
السائر على ألسنة مجرمي العوام؟ المشجع على ارتكاب الجرائم في تلك الأيام؟
وهب أن في سجون الغرب من ضروب التربية والإصلاح ما يجعل الشقي سعيدًا،
فهل كانت سجون الشرق يوم اختيرت لها قوانين الغرب مستوفية وسائل التهذيب؟
وكيف عنينا بالغايات قبل التماس الوسائل؟ ثم ألا تختلف الأحكام باختلاف الأقوام؟
وهل اتحدت عقلية الشرق والغرب ونفسيتهما فتكون ذرائع الإصلاح فيهما واحدة؟
فقول (الموجز) : رأوا أن القود على إطلاقه وجرح الجارح وقطع السارق
كان لها أيام وانفضت. أقول (فيه) إنها ما انقضت ولن تنقضي، ولا تزال الأمة
التي تعمل بها كنجد واليمن أسعد حظًّا وأهنأ عيشًا وأقل جرائم من غيرها، وسعادتهم
في بلادهم تنبني على أصلين (الأول) التربية الدينية التي هي أقرب
مهذب للنفس وزاجر عن الشر (والثاني) اعتقاد أن كلاً مأخوذ بذنبه، وأن كل من
يقوم على ما تحدثه به نفسه من قتل أو جرح ينفذ فيه مثله في الحال.
ونحن نسأل الله تعالى أن يحمي الجزيرة العربية من آفات المدنية الحديثة،
ونفثات سمومها القاتلة، وأعظمها فتكًا في الأفراد والأمم، وتقويضًا لدعائم الاجتماع
والعمران، وهو ما أباحته قوانينها المهذبة (!) العادلة (!!) من الميسر والربا
والزنا والخمور، وإن شئت قلت: سلب الأموال، وإهلاك المساكين والعمال،
وتضييع الأنساب، وإفساد العقول.
وإليك ما قاله الأستاذ النكدي في محاضرته (القضاء في الإسلام) التي طبعها
من بعد رسالة مستقلة قال (ص 99 ج1 محاضرات المجمع) :
(جاء هذا القضاء بكثير من الأصول والأحكام التي يزعم أكثرنا أنها كانت
مجهولة لولا القوانين الحديثة) وكتبت تحت عنوان (الادّعاء العام) ما نصه:
(فوض القانون إلى المدّعى العام أن يتتبع الجرائم فيقيم الدعوى على فاعلها
وأن يدافع عن الحق العام، ويخاصم كل من يعبث به (إلى أن قال: وهذه الخطة
لم يغفل الشرع أمرها. وقد سماها الأصوليون (حقوق الله) وعرفوها بأنها ما تعلق
نفعه بالعامة، ويجب على ولي الأمر إقامتها مثل جزاء السارق، وقاطع الطريق
واللص وغيرهم من أهل الفسق والفجور) ثم نقل عن كتاب السياسة الإلهية لشيخ
الإسلام ابن تيمية ما يؤيد ذلك.
وقال ص 103 منه: (إدغام العقاب) :
لما ارتقت الهيئة الاجتماعية ورقت [3] قوانينها فكان [4] من وراء ذلك أن
جعلت العقاب إصلاحًا وتأديبًا، لا انتقامًا وتعذيبًا، وجاءت المادة (299) من
أصول المحاكمة الجزائية تقول في شقها الثاني: إذا ارتكب المتهم عدة جنايات
وجنحات معًا فتحكم [5] بالجزاء المعين للأشد عقوبة، ومثل ذلك ما قاله أبو يوسف
في كتاب الخراج به) .
وإن لم يكن القاذف ضرب للأول حتى قذف آخر فإنه يضرب لهما جميعًا
حدًّا.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) نقلنا هذا البحث عما كتبه (موريس بلوك) في معجم (السياسة والاجتماع) وهو قد اعتمد أيضًا في قسم مما كتبه على بول بواتوا) .
(2) المنار: بل فيه خروج من المساواة إلى تفضيل المرأة كما صرح به في قوله: ولا عليها ولا عليه إلخ.
(3) المنار: الصواب رقيت لأن رقي من باب علم، وورد رقا الطائر يرقو.
(4) الصواب كان.
(5) الصواب يحكم - بالبناء للمفعول.(27/295)
الكاتب: محمد العدوي
__________
الألفة والاتحاد أساس مجد الإسلام
] وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [[*]
أصيب المسلمون بالخلاف زمنًا طويلاً، فذاقوا الأمرّين من جراء تفرقهم،
وحرموا ما كان لهم من حول وما حصلوا عليه من عز ومنعة مُنوا بالتفرق أحقابًا
من الدهر فضاع مجدهم، واضمحلت قواهم وتمكن الأجنبي من الفتك بهم
والاستيلاء على بلادهم، فاسترق أموالهم، وضرب الرق عليهم، شأن القوي إذا
استولى على ضعيف والمغلوب إذا ظفر به الغالب. ولو أن ذلك الأجنبي وقف عند
ذلك الحد لهان الخطب وسهل المصاب، ولكنه صار حربًا عوانًا على دينهم،
وعقبة كؤدًا في سبيل رقيهم في معارفهم، فعطل شعائرهم، وحال بينهم وبين إقامة
حدودهم.
نعم، أباح لهم ما لا ينفعهم إذا هم أقاموه، ولا يضره إذا حافظوا عليه، ليرى
بسطاء العقول أنه لا يتعرض لأحد في أمور دينه، بل يترك الأمم حرة في تقاليدها
الدينية وعاداتها الشرعية، أباح لهم من المواسم ما أحدثه الفاطميون باسم الدين
في أيام سلطانهم ليقيموا من الحفلات في ليال من السنة ما شاء الله أن يقيموا،
ويحيوا من الموالد للمشهورين بالصلاح ما طوعت لهم أنفسهم، ليقنع صغار العقول
من إقامة الدين بهذه المظاهر وهي ليست من الدين في نقير ولا قطمير، بل هي
المعاول التي تقوض بها أركانه، ويهدم بها بنيانه، فتذهب بالفضيلة بعد ذهابها
بالثروة، وتقضي على التوحيد الخالص بعد قضائها على العفة والكرامة.
ترى في هذه الحفلات أحاديث ينسبها القصاصون لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وهي عليه مكذوبة، وتشريع لا يتفق ومكانة هذا الدين، ولا يتناسب مع
عظمة هذه الملة المحمدية، مما بَغَّضَ الراغبين في الدين من الدخول فيه، وبغَّضَ
المنتسبين إليه من المقام عليه.
تجد في الموالد قرابين لغير الله تذبح، واستغاثات لغير الله من الصالحين
ترفع، وفوق ذلك تجد بكاء عند القبور وعويلاً وشكايات لا تكون إلا لله وحده،
وتضرعات لا تنبغي إلا لمن بيده ملكوت كل شيء، وبعد هذا وذاك تجد ملحمة
يشترك فيها الشبان والنساء في أماكن اللهو وبيوت الدعارة والفسوق مما يجرئ
الشبان على محاربة الله تعالى ويحول بينهم وبين الفضيلة، ويذهب بالبقية الباقية
من طهارة الخلق وشرف النفس.
ولو أنك حاولت أن تقيم حدًّا من حدود الله لتطهير البلاد من رجس الفسق
وعبث الفساد، لرُميت بالوحشية والهمجية، وأنك غير صالح؛ لأن تعيش في هذا
العصر الذي تمدنت فيه الأمم، ورقيت فيه الشعوب، وأقمتَ عليك حربًا عوانًا،
وأول من يشعل عليك نار هذه الحرب من تسمم من شبان المسلمين بمدنية الغرب
الكاذبة وتشبع بروحهم الخبيثة.
ذلك ما يتمشدق به الأجنبي والمعني به المستعمر من إطلاق سراح المسلمين
في أمور دينهم، وشعائر ملتهم. وذلك ما جره على المسلمين تفرقهم وغفلتهم
وأوقعهم فيه نزاعهم وتدابرهم، وقد فطن المسلمون لآثار ذلك التفرق وأحسوا عاقبة
النزاع وشؤم الانحلال ففطنوا لذلك بعد أن تفاقم الأمر، وتوالت المصائب فأخذوا
يتعرفون حكمة الله في شريعته وما تنطوي عليه تعاليمه، عرفوا أن الله تعالى ما
شرع لهم الجُمع والجماعات إلا لتكون مدعاة للوحدة وذريعة لاجتماع الكلمة،
ليأخذ قويهم بيد ضعيفهم، ويتصل أميرهم بمأمورهم. ولم يرد أن يقف تعارف
المسلمين عند ذلك الحد، بل أراد أن يتعرف شماليهم بجنوبيهم وغربيهم بشرقيهم
وعربيهم بعجميهم فشرع لهم الحج الأكبر ليجتمع فيه المسلمون على اختلاف لغاتهم
وتباين نزعاتهم ومشاربهم فيفكروا في الطرق التي تعيد إليهم مجدهم وتحيي لهم
شريعتهم وتعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم.
ولقد كان أول مظهر من مظاهر هذا الإحساس ذلك المؤتمر الإسلامي الذي
دعا إلى عقده بمكة المكرمة المصلح الكبير ملك الحجاز عبد العزيز آل سعود
لينظر فيما يتطلبه الحجاز من إصلاح وما يحتاج إليه من مساعدة.
وقد وفق الله شعوب المسلمين لإجابة دعوته فأرسلوا من الوفود من يمثلهم،
ونظر المؤتمر في أمور (مهمة) وله قرارات ذات شأن خطير، ونرجو أن يكون
فاتحة خير للحجاج خاصة ولشعوب المسلمين عامة، كما نرجو أن يوفق المفكرون
منهم لإزالة ذلك الخلاف الطفيف الذي رأيناه في عامنا هذا حتى يتحدوا في عقائدهم
ونزعاتهم، وبذلك تتفق كلمتهم وتتألف قلوبهم ويكونون أعوانًا على الخير، أنصارًا
للإصلاح.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد العدوي
__________
(*) (الأنفال: 46) .(27/307)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجماعة الإسلامية في برلين
ونداؤها العام وبلاغاتها
كنا سمعنا أن بعض المسلمين المقيمين في برلين قد أسسوا جمعية بهذا الاسم
رئيسها والداعي إليها الأستاذ محمد عبد الجبار الهندي، وسمعنا أن غرض هذه
الجمعية الدفاع عن الإسلام ونشر تعاليمه وآدابه في العالم الأوروبي، وقد كتب إلينا
بعض المسلمين المقيمين في برلين كتابًا يطعن فيه بهذه الجمعية طعنًا شديدًا ويحذرنا
من وفد لها أرسلته إلى الحجاز وغيره من البلاد الإسلامية لبثّ دعوتها ثم قيل لنا: إن
هذا الكاتب كان من أعضاء الجمعية وخرج أو أُخرج منها لخلاف شجر بينه وبين
بعض مؤسسيها.
ثم لم نلبث أن تلقينا في البريد صحائف منها مبدوءة بنداء عام منها موجه إلى
جميع المسلمين شرحت فيه مبدأها وغايتها ووجه الحاجة إليها. يليه (حفلة مأتم)
في إنكار العدوان على المسلمين في الشام وريف مراكش، وقد عقدت الجماعة لذلك
احتفالاً حضره زهاء أربعمائة نسمة وألقيت فيه الخطب وختم بالدعوة إلى الجهاد في
سبيل الله للنجاة من حكم الشيطان! ! - يليه خطاب عنوانه (صيحة الجهاد - الله
أكبر) وموضوعه يعلم من عنوانه. يليه بلاغان نذكرهما بنصهما، ثم تعلق على
الموضوع كله بما نراه من النصيحة لهذه الجماعة وللأمة الإسلامية كافة.
***
البلاغ الأول
حزب الله
عقد الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المؤمنين من جماعة المسلمين التي تزيد على ثلاثمائة مليون مسلم
يتعاقدون على ما يأتي ويقسمون أن لا يسكنوا قبل أن تتحقق نقاط هذا العقد، فهم
يطلبون واثقين من حقهم الثابت:
أولاً: استقلال جماعة المسلمين التام بتحرير جميع البلاد التي كلها أو
أكثريتها مسلمون من النفوذ الأجنبي.
ثانيًا: تشكيل حكومات إسلامية في عموم البلاد الإسلامية.
ثالثًا: جمع كافة تلك الحكومات الإسلامية ضمن وحدة إسلامية بإمامة الخليفة
المنتخب شرعًا.
ويجب الوصول إلى الغاية المعينة في عقد الإسلام المتقدم، ولكيلا تسقط
الخلافة في الهوة التي سقطت فيها من قبل عصورًا عديدة فسببت سقوط المسلمين
وتشتيت جماعتهم:
أولاً: أن تتحد كافة جمعيات الاستقلال لإسلامية ضمن حزب الله (العامة
الإسلامية الخضراء) الذي يوحد مساعي تلك الجمعيات المنفردة إلى حركة عامة
مشتركة.
ثانيًا: ريثما تتمكن جماعة المسلمين المحررة المتحدة من انتخاب خليفة
لرسول الله انتخابًا شرعيًّا يتولى إمارة حزب الله باسم ممهد الخلافة رجل ينتخب في
مؤتمر إسلامي عام ويدعو المسلمين إلى إقامة الخلافة الحقة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حزب الله
(طبع هذا النداء بالألمانية ووزع في حفلة المأتم الكبرى التي أقامتها الجماعة
الإسلامية في برلين في 14 - 9 - 1296- 1925 لشهداء بلاد الشام والمغرب
الأقصى) .
***
البلاغ الثاني
حزب الله
بلاغ اليوم
المولد
بمناسبة المولد النبوي والحفلة التي أقامتها الجماعة الإسلامية في برلين
في 12 ربيع الأول سنة 1344 - 1296
إن حزب الله يناديكم أيها المسلمون بذكرى يوم 12 ربيع الأول سنة 1344هـ
(أشهر القبلة سنة 1296 من فتح مكة) ذلك اليوم المقدس الذي عمت الرحمة
فيه العالم بمولد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعوكم أن تبذلوا جهدكم
لتعميم هذه الرحمة مرة ثانية في العالم أجمع؛ لأن الله تعالى يقول:] وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [1 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ} (الحج: 78) .
ويجب على كل مسلم لتنفيذ أمر الله هذا أن ينضم إلى جماعة المسلمين المحلية،
ويدفع زكاته إلى بيت المال فيها بانتظام لتتمكن من القيام بأمور المسلمين كما يجب.
ويجب على جماعات المسلمين المحلية أن تتحد إلى أقضية وولايات وأقطار
ويجب على جماعات الأقطار أخيرًا الانضمام إلى جماعة المسلمين المركزية
العالمية ليتم بناء الخلافة الحقة وتعم رحمة الله العالم وتعيش الأمة وترقى بسلام.
إن من لا يتبع هذا البلاغ لا يخلص لله ولرسوله
أيها الإخوان اعقلوا وأدوا ما عليكم كما أمر الله
اللهم إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم
***
نصيحة المنار
إنه ليحزننا أن يخيب في هذه الجماعة أملنا الذي أملناه عندما سمعنا خبر
تأسيسها بما ثبت لنا من هذا النداء والبلاغات من غرورها وتغريرها بالمسلمين
لأجل جمع المال الكثير لتنفيذ هذه الدعوى الخادعة دعوى إعلان الجهاد المقدس
على الدول المستعمرة لبلاد المسلمين في الشرق والغرب، وتحرير هذه البلاد،
وإقامة خلافة النبوة على وجهها الشرعي وحكم الإسلام كما أنزله الله تعالى.
أهذا العمل العظيم، تقوم به جمعية في برلين، تؤلف من شذاذ المسلمين؟ ما
هذا الغرور والتغرير؟
أمثل هذا العمل العظيم - ولا مثل له في عظمته - يكون جهريًّا ويعلن في
أوربا ثم في بلاد المشرق قبل أن تعد له عدته من تسليح الشعوب الإسلامية التي
يدعوها محمد عبد الجبار الهندي لقتال بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا وهولندا
في وقت واحد (؟ ؟)
قد سبق لي الاجتماع بالأخوين الهنديين محمد عبد الجبار مؤسس هذه الجمعية
في برلين وأخيه عبد الستار في بيروت سنة 1326هـ الموافق لسنة 1908م
وجرى بيني وبين الأول مذاكرات في الإسلام والمسلمين كانت باعثًا لإعجابي
باستقلال فكره وكبر همته وبعد آماله، ولاستغراب شذوذه في بعض المسائل
الدينية وفهم بعض آيات القرآن، وللتفكر في عاقبة هذا الشذوذ، وما يلازمه من
طموح وغرور، وهو ما نرى عاقبته في هذه الجمعية.
عبد الجبار الهندي الخطيب الجدل الطماح الجريء، يؤلف جمعية في برلين
من وسط أوربا لإقامة دين الإسلام، كما أنزله الله أو كما يفهمه هو بتحرير جميع
بلاد المسلمين المستعمرة! ! وبتأليف حكومات إسلامية مستقلة في جميع البلاد
الإسلامية ثم جمع هذه الحكومات وتوحيدها بإعادة منصب الخلافة العظمى سيرتها
الأولى، ويطالب مسلمي الأرض بأن يرسلوا إليه زكاة أموالهم المفروضة عليهم
لتمكن جمعيته بها من القيام بما انتدبت له من العمل العظيم.
ولكن إرسال المسلمين زكاة أموالهم إلى بلاد بعيدة غير إسلامية وإعطاءها
لجمعية سياسية فيها مخالف لنص القرآن، وما أجمع عليه المسلمون من أحكام
الزكاة، فكيف تتوسل جمعية الأستاذ عبد الجبار الهندي إلى إقامة الإسلام بهدم
أركان الإسلام؟
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (التوبة: 60) الآية، فمصارف الصدقات الشرعية هي
الثمانية المنصوصة في الآية الكريمة، والأصل فيما كان منها للفقراء والمساكين أن
تؤخذ من أغنياء كل بلد فتصرف إلى فقرائه كما نص في حديث معاذ في
الصحيحين وغيره، وقد خرج بعض الأئمة بعدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر،
وقيده بعضهم بمسافة القصر.
وما كان في سبيل الله وسائر المصارف العامة، فالأمر فيه إلى الإمام الأعظم
خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم - فبأي حق شرعي تطالب جمعية برلين
المسلمين بأن يرسلوا إليها زكاة أموالهم؟
وكيف فات الأستاذ وأركان جمعيته أن طلب الأموال الكثيرة لعمل مجهول
متعذر على مدعيه مظِنة للظِّنة، ومجلبة للتهمة؟ ولو كان من التبرع الذي يجوز
لصاحبه أن يضعه حيث شاء ما لم يكن في معصية فكيف يطلب الملايين بوجه
مخالف للشرع؟
إنه ليحزننا أن نرى هؤلاء الذين يدعون الدعاوى الكبيرة في سبيل الإصلاح
الإسلامي لا يتقيدون بشرع ولا عقل كأنهم يعتمدون في نجاح أعمالهم على العوام
الذين تستهوي أفئدتهم الدعاوى العريضة والمبالغات بل الإغراق والغلو الذي يسخر
منه العقلاء، كدعوى غلام أحمد القادياني الهندي أنه هو المسيح الذي ينتظره
السواد الأعظم من اليهود والنصارى والمسلمين وأنه يوحى إليه، وادعاء خلفائه أن
الوحي متسلسل فيهم، والنبوة موروثة عندهم، كادعاء بهاء الله البابي الفارسي
للألوهية، وادعاء عبد الجبار الهندي الآن أنه سيقيم الخلافة الإسلامية وأنه سيقاتل
الدول الاستعمارية الكبرى، ويخرجهم من أرض سوريا والعراق ومصر وتونس
والجزائر ومراكش وجاوه والهند والصين، ولا يتصور ذو عقل ورشد دخول
هذه الدعوى في قدرة هذه الجمعية البرلينية، أو أية جمعية سياسية، وإنما الذي
يتبادر إلى الذهن أن غرض الجمعية جمع المال وابتغاء الثروة الواسعة.
فإن كنا مخطئين في رأينا هذا وكان لزعماء هذه الجمعية برنامج معقول،
وخطة ممكنة الحصول، فليبينوها لنا، وإننا قبل ذلك ننصح لهم بالكف عن مطالبة
المسلمين بإرسال زكاة أموالهم إليهم وننصح للمسلمين بأن لا يرسلوا إليهم شيئًا من
الزكاة المفروضة ونعلمهم بأن الفريضة لا تسقط بإرسالها إلى هذه الجمعية.
__________
(1) في البلاغ اصطفاكم وهو غلط.(27/309)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استدراك
على شروط عمر - رضي الله عنه - على أهل الذمة
نشرت إدارة المنار في الجزء الثالث الذي قبل هذا الجزء ما كتبه شيخ
الإسلام ابن تيمية في مسألة شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
على أهل الذمة في الشام، وكنت في إبان طبع هذا الجزء في مكة، ولم تكن هذه
الشروط مما أريد نشره في المنار من آثار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وإنما
أتحرى نشر رسائله وفتاواه التي يحتاج إليها المسلمون في هذا العصر للاهتداء بها،
والعمل بما يحققه من أحكام الشرع في النوازل والأحوال الواقعة التي جاء فيها بما
لم يأت به غيره من الشرح والدلائل، وليست مسألة معاملة أهل الذمة في أثناء
الفتح والسياسة الحربية منها في شيء لأننا لسنا فاتحين، وإنما يفتح خصومنا بلادنا،
ويعاملوننا بالظلم والقسوة اللذين لم يكن عمر رضي الله عنه ليرضى بمثلهما،
وناهيك بما هو واقع في سوريا الآن من التخريب والتدمير، وتقتيل غير المقاتلين
من النساء والأطفال والشيوخ.
وقد استغربت من هذه الآثار عن شيخ الإسلام قوله: وأما ما يرويه بعض
العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آذى ذميًّا فقد آذاني) فهذا كذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم.
استغربت هذا لأن الحديث مروي بلفظ قريب من هذا اللفظ وهو ما أخرجه
الخطيب البغدادي من حديث ابن مسعود مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
(من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) وقد أورده
السيوطي في الجامع الصغير وأشار إلى حسنه، ولولا ميل شيخ الإسلام إلى التشديد
على المخالفين في أصل الدين أو في المذاهب المخالفة لما كان عليه السلف الصالح
لما اقتصر على إنكار الحديث باللفظ الذي ذكر، وسكت عن اللفظ الآخر المروي
بمعناه، على أنه يجوز أن يكون قد نسيه عندما كتب هذه المسألة وهو أقرب من
عدم اطلاعه عليه.
وأما إنكاره إطلاق تحريم الإيذاء، بأن منه ما يكون بحق كالقصاص فهو يرد
على مثله في حديث (من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله) رواه
الطبراني في الأوسط من حديث أنس. والجواب عنهما وعن أمثالهما تقييد الإيذاء
بما علم من ضرورات الشرع وهو كونه بغير حق.
هذا وإن بعض العلماء لا يعدون عمل عمر في مثل هذا رضي الله عنه حجة
شرعية كما هو الأصل في عمل الصحابي، ولا يوجبون اتباعه، وبعض ما روي
عنه من تلك الأعمال مروي بأسانيد ضعيفة. قال الشوكاني في بحث ما ضربه من
العشور على أهل الكتاب وغيرهم:
وفعل عمر وإن لم يكن حجة لكنه قد عمل الناس به قاطبة فهو إجماع
سكوتي، ويمكن أن يقال: لا يسلم الإجماع على ذلك والأصل تحريم أموال أهل الذمة
حتى يقوم دليل والحديث محتمل. والمراد حديث العشور على أهل الكتاب.
ومما ضعفوه من تلك الروايات ما أخرجه البيهقي من طريق حزام بن معاوية
قال كتب إلينا عمر: أدبوا الخيل ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم
الخنازير، ومثله ما رواه البيهقي عن ابن عباس: كل مصرٍ مَصَّرَه المسلمون لا
تُبنى فيه بيعة، ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير.
وفي إسناده حنش وهو ضعيف.
وجملة القول: إن سياسة عمر العسكرية والمالية والإدارية كانت سياسة فتح
عسكري وعدل ديني، واجتهاد مبني على أساس المصلحة العامة، وهي تختلف
باختلاف الأزمنة والأحوال، وليست من أمور العبادات التي يوقف فيها عند
نصوص الشارع بقدر الاستطاعة، ولا يجب على ولاة الأمور التقيد بها في كل
زمان، بل يتبع في كل عصر وفي كل حال ما فيه المصلحة مع مراعاة النصوص
القطعية العامة من وجوب الوفاء بعهود المعاهدين، ما وفوا بعهودهم معنا، وتحريم
الظلم، والخيانة والغدر، ونحو ذلك من فضائل السياسة الإسلامية التي تجردت
منها السياسة الأوروبية المبنية على الغدر، والإفك، والخيانة، واستحلال جميع
الرذائل في سبيل المنافع السياسية والاستعمارية.
__________(27/314)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استدراك آخر
على إهداء العبادات أو ثوابها إلى الموتى
تقدم في حديث أمين بك الرافعي مع الشيخ عبد الله بن بليهد رئيس القضاة
بمكة المكرمة قول هذا: أن النجديين يعتقدون أن جميع العبادات التي تُهدى إلى
الموتى تصل إليهم يعني ثوابها. وهذه المسألة خلافيَّة بين علماء الحنابلة وغيرهم
من فقهاء المذاهب وأهل الحديث المستقلين، ووصول الثواب أو العمل أو انتفاع
الإنسان بعمل غيره خلاف نص قوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وخلاف القياس المعقول، وقد يخصص بما ورد في السنة من استثناء
دعاء الولد لوالديه أو حجه وصومه عنه، بل يصح أن يقال: إن هذا الأخير ليس
استثناء لما ورد من أن الولد من كسب أبيه أي وأمه، وقد فصلنا هذه المسألة
تفصيلاً واسعًا في تفسير قوله تعالى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) من آخر سورة الأنعام، وقد نعود إلى نقل أقوال
الفقهاء فيها عند الحاجة.
__________(27/316)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(سبل السلام)
من الكتب القيمة التي أخرجتها المطابع في هذا العام كتاب (سبل السلام،
شرح بلوغ المرام، من جمع أدلة الأحكام) فقد قام بطبعه جماعة من العلماء الذين
يهمهم نشر السنة وأعنُوا بتصحيحه جد العناية، وأحسن ما نصف به الكتاب ذلك
التعريف الذي وضعه له في صدر الجزء الأول مصححه صديقنا الشيخ محمد عبد
العزيز الخولي المدرس بقسم التخصص في مدرسة القضاء الشرعي فنثبت هنا
مجمل ما قال في ذلك التعريف وهو:
(بلوغ المرام)
كتاب جمع فيه الحافظ ابن حجر كل الأحاديث التي استنبط الفقهاء منها
الأحكام الفقهية مبينًّا عقب كل منها من خرجه من أئمة الحديث كالبخاري ومسلم
موضحًا درجة الحديث مرتبًا له على أبواب الفقه، وضم إلى ذلك في آخر الكتاب
قسمًا مهمًا في الآداب والأخلاق والذكر والدعاء:
فجاء محمد بن إسمعيل الأمير اليمني الصنعاني وشرح ذلك الكتاب وذكر ما
يدل عليه الحديث من الأحكام الفقهية، ومن قال بها من كبار المجتهدين صحابة
وتابعين وأئمة المذاهب (رضوان الله عليهم أجمعين) ومن خالفها مبينًا نوع
المخالفة ودليلها ثم يقضي بينهم بالحق الذي يؤيده الكتاب والسنة غير متحيز إلى
مذهب من المذاهب عملاً بقوله تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:
65) وقوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ
الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب:
36) فمقتضى الإيمان أن نحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خلاف
بين المسلمين وخاصة الفقهاء المشرعين الذين يرسون لنا أحكام العبادات
والمعاملات، ولا يكفي مجرد التحكيم بل لابد معه من الإذعان النفسي وتنفيذ الحكم
كما أمر العليم الحكيم الذي صرح في الآية الثانية بأن من قدم حكم غيره على حكمه
وحكم رسوله فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالاً مبينًا، وكان واجبًا على علماء
المسلمين وأولي المكانة فيهم في العالم الإسلامي كله وخصوصًا مصر التي هي
قطب رحى البلاد الإسلامية والتي فيها الأزهر كعبة الرواد للعلوم الإسلامية - كان
الواجب عليهم أن يعرضوا آراء الفقهاء على كتاب الله وسنة رسوله، فما كان قريباً
منهما أو يوافق صريحهما أخذ، وما كان بخلاف ذلك ترك، وليس في ذلك غمط
للمذاهب - جزى الله أهلها خير الجزاء- ولكن في ذلك إحقاق الحق وترك التقدم
بين يدي الله ورسوله امتثالاً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1) إنهم إن فعلوا ذلك
وحدوا بين المسلمين في العبادات فكان مظهرهم فيها واحداً، ووحدوا بينهم في
المعاملات فاستطاع المشرعون أن يضعوا القوانين المدنية والجنائية من هذه
الشريعة الحكيمة الصادرة عن علم الله المحيط بأمراض النفوس والمحاكمات وما
تُداوى به.
الدين الآن ليس له وجود إلا بين المشتغلين به فلا هو في النفوس ولا هو في
المحاكم، اللهم إلا بقايا يلتهمها الزمان شيئًا فشيئًا - فجدير بالعلماء أن يفكروا طويل
التفكير في السبيل الذي يصلون منه إلى إحلال الدين في القلوب والعمل به في
محاكم المسلمين. وإن هذا الكتاب - سبل السلام - الذي محص صحيح الآراء من
سقيمها ووزنها بميزان الكتاب والسنة خطوة في هذا السبيل نتقدم به إلى كل مسلم غيور على دينه محب أن تكون له الكلمة.
والكتاب لم يخل من عثرات لكنها قليلة ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة،
والعصمة لله وحدة، ومع ذلك لم تفتنا هذه العثرات بل نبهنا عليها وبينا صريح
الحق فيها فجاء الكتاب بحمد الله فيما نعتقد من خيرة كتب الأحكام التي ينبغي
العكوف على تعلمها وتعرف ما فيها.
الكتب المؤلفة في أحاديث الأحكام وشرحها كثيرة وكتابنا هذا وسط فيها خيار
منها، فإنه يقصد المحز ويطبق المفصل فيأتي بالسمين دون الغث، ويعرض عن
ذكر الخلافات التي لا ترتكز على دليل، ويقتصد في بيان الطعون التي في الأسانيد
فجاء من أجل هذا كتابًا وسطًا في أربع مجلدات.
ولقد عانينا في تصحيحه مشقات كبيرة، فإن النسخة التي طبعنا منها فيها خطأ
كثير اضطرنا إلى الرجوع إلى الأصول التي منها استمد الكتاب وأصله. وكنا
نراجع الأصل أيضًا على كتاب (فتح العلام) الذي طبع في المطبعة الأميرية
والذي هو نسخة ثانية من سبل السلام سميت باسم جديد - ولم تخل من التحريف
والخطأ كأصلها سبل السلام - وأن من حسنات مدرسة القضاء الشرعي أن قررت
دراسة هذا الكتاب في أحاديث الأحكام لطلبة التخصيص فيها فكانت تلك حسنة في
الدين إلى حسناتها في خدمة القضاء.
وفي الختام ندعو المفكرين من المسلمين إلى أن يقوموا بواجبهم نحو الدين {قَدْ
جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ
وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:
15-16) .
والكتاب أربعة أجزاء صفحات الأول 290 والثاني 304 والثالث 368
والرابع 312 عدا فهارسه الواسعة التي حوت كل مسألة في الكتاب وترجمة مؤلف
المتن ومؤلف الشرح - والكتاب مطبوع على ورق أبيض ناعم ولكنه أصناف ثلاثة
عادي وجيد وممتاز وثمن الصنف الأول 50 قرشاً والثاني 60 والثالث 100 عدا
أجرة البريد - ويباع في مكتبة المنار ويطلب من مصححه الشيخ محمد عبد العزيز
الخولي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي.
***
(تجريد التوحيد المفيد)
رسالة مفيدة من تصنيفات الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى
سنة 854هـ بَيَّن فيها حقيقة التوحيد ولبابه والتفريق بينه وبين قشرة - وهو
نوعان: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وشرك الأمم بنوعيه، ومسألة
القبور والنهي عن اتخاذها مساجد، وزيارتها الشركية والشرعية وعدم جواز
الخضوع والتأله لغير الله، والاستعانة، وقد طبعها الشيخ محمد منير الدمشقي في
مطبعة الشرق على ورق جيد سنة 1343هـ، وذيلها بكلام للمحقق ابن القيم في
حلق الشعر وكونه يكون عبادة ويكون شركًا ويكون عادة، وصفحاتها كلها 48
صفحة.
فنحن نحث المسلمين على قراءتها ونشرها، فإن الألوف الكثيرة منهم لا
يعرفون حقيقة التوحيد ولا يفرقون بينه وبين الشرك بل يطعنون في الموحدين
ويسمونهم وهابية! !
***
(مجموعة النشاشيبي)
أهدي إلينا الكتاب من هذه المجموعة النفيسة عقب طبعه سنة 1341هـ،
فرأيناه ثم ضل عنا حتى اهتدينا إليه بعد البحث عنه، ولم نر ما بعده.
النشاشيبي صاحب المجموعة، هو أديب فلسطيني بل أديب العصر (إسعاف
النشاشيبي) وهذا الكتاب مما اختاره من الكلام العربي البليغ ليستظهر النشء في
المدارس (وغيرها) فيكون خير مادة له في إحكام ملكة الفصاحة والبلاغة العربية،
وفيه 21 آية من كلام الله عز وجل في كتابه القرآن المعجز للبشر هي من قواعد
الاجتماع، وسنن الله في سيرة نوع الإنسان، و 30 حديثًا نبويًّا في الأخلاق
والآداب، و 96 مثلاً من أمثال العرب، و 124 حكمة من حكمهم و 122
مقطوعة من مختار الشعر.
وقد أحسنت إدارة المعارف الفلسطينية بنشرها هذه المجموعة في مدارسها
لتستظهر منها الصفوف العالية والثانوية ما يليق بكل منها. وقد طبع الكتاب الأول
الذي وصفناه في المطبعة السلفية طبعًا جيدًا مضبوطًا أكثر الكلام فيه بالشكل فنحث
جميع طلاب الآداب العربية الكلامية والنفسية على استظهار جميع هذا الكتاب أو
أكثره، ونقيم بمثله الحجة على ملاحدة المتفرنجين بمصر الذين يهدمون بدعاية
التجديد آداب أمتهم ولغتها، كما يهدمون تشريعها ودينها ليكونوا كإباحيي الفرنج
وإنْ فقدوا بذلك كل ما يفخر به الإفرنج من آداب لغاتهم وتشريعهم ودينهم! !
***
(الأدب العصري في العراق)
كتاب تاريخي أدبي انتقادي، يحتوي تراجم أدباء العراق ورسومهم ونخبة من
آثارهم بين منثور ومنظوم.
مؤلف الكتاب (رفائيل بطي) وناشره (نعمان الأعظمي) صاحب المكتبة
العربية ببغداد، وكلاهما من أدبائها، وقد طبع الجزء الأول منه في المطبعة
السلفية بمصر سنة 1341 هـ ثم لم نر ما بعده، وفي قسم المنظوم، وهذا الكلام
على شعر سبعة من أشهر شعرائهم المعاصرين مع تراجم ستة منهم وهم جميل
صدقي الزهاوي، وخيري الهنداوي، ورضا الشبيبي، وعبد المحسن الكاظمي،
وكاظم الدجيلي، ومعروف الرصافي، وأجلت ترجمة سابعهم (حبيب العبيدي)
إلى قسم المنثور، وقد بلغت صفحات هذا الجزء 222 فنحث طلاب الأدب العصري
على اقتنائه.
__________(27/316)
المحرم - 1345هـ
أغسطس - 1926م(27/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم صلاة مكشوف الرأس
س1 - من صاحب الإمضاء في بيروت (تأخر سهوًا)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة مفتي الأنام السيد
محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
هل تجوز صلاة الرجل المسلم وهو حاسر الرأس، أي مكشوفة بلا حرمة ولا
كراهة ولو لغير ضرورة ولا عذر مطلقًا أم لا؟ تفضلوا بالجواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
ج - نعم تجوز صلاة حاسر الرأس إذا كان رجلاً؛ لأنه لا يشترط في صحة
الصلاة من اللباس إلا ما يستر العورة، والرأس عورة من المرأة دون الرجل. ولكن
يستحب أن يكون المصلي في أكمل اللباس اللائق به، ومنه غطاء الرأس بعمامة، أو
قلنسوة، أو كمة (طاقية أو عرقية) ونحو ذلك مما اعتاد لبسه كالطربوش،
فكشف الرأس لغير عذر مكروه، ولا سيما في صلاة الفريضة، ولا سيما مع
الجماعة، فإذا نوى به التشبه بغير المسلمين كان حرامًا؛ لأنه تشبه في متعلقات أمر
ديني. وأما التشبه بهم في الأمور الدينية المحضة الخاصة بهم كأن يفعل فعلاً يعدّه
به من يراه منهم، فقد صرّح الفقهاء بأنه ارتداد عن الإسلام.
***
ملك سليمان ودعاؤه بطلبه وتسخير الريح له
س2: من صاحب الإمضاء في بورتسعيد؟
بسم الله الرحمن الرحيم
بورتسعيد في 30 رجب سنة 1344هـ و 13 فبراير 1926
حضرة صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ المحقق الشيخ محمد رشيد رضا
حفظه الله آمين.
سلامي عليكم وتحية مباركة زكية وبعد، سيدي: لقد بدا لي توجيه سؤالي
الآتي إلى جنابكم بعد أن عجز الكثيرون عن الإجابة عنه، وإني أرجو وأؤمل أن
يكون الجواب تفصيليًّا.
إن سليمان نبي الله عليه السلام قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ
يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (ص: 35) .. . إلخ. ما جاء بالآيات
الكريمات فما هو المراد بالملك في الآية؟ وما هو المراد بقوله: لأحد؟ هل المراد
بأحد أحد الأنبياء أم الكلام عام؟ وإذا كانت الدعوة قد أجيبت فما هو الملك الذي كان
له؟ وهل المراد به فتح البلاد من مطلع الشمس إلى مغربها؟ وإذا كان كذلك فما
هي الأدلة التاريخية التي تؤيده؟ وما الذي حمله على أن يطلب هذا الطلب مع أن
المتبادر إلى الذهن أن الأنبياء يحبون الزهد في الدنيا؟ وإن كان الجمع بين الملك
والنبوة جائزًا. وهل سخّرت له الرياح معجزة أو كان يسبح في الهواء كما يسبح
الناس اليوم؟ وإنما لكل زمن استعداده فيكون هو أول من امتطى ظهر الرياح، وما
هي القوى التي أعطيت له حتى استطاع تسخير الشياطين والجن بلا رؤيتها؟ وما
هو المراد بقوله تعالى {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) ؟ وما هو
الفرق بين سليمان بن داود نبي الله وبين ذي القرنين المذكور في القرآن الكريم؟
أرجو الإفادة عن ذلك فقد تعبنا شديداً فلم نجد من يدلنا على الحقيقة سواكم، وأنا
منتظر الرد بفارغ الصبر، ولكم مني يا مولاي مزيد الشكر، ومن الله تعالى جزيل
الأجر، وتفضلوا يا سيدي بقبول وافر التحيات والتسليمات.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... خادمكم
... ... ... ... ... ... ... ... محمود محمد النهري
ج - لا نستطيع الآن أن نجيب جوابًا تفصيليًّا عن هذه الأسئلة؛ لأن هذا
يقتضي تأليف رسالة أو كتاب نحن إلى غيره أحوج. وأقول بالإجمال: إن الذي ورد
في تفسير فتون سليمان عليه السلام في الكتب الصحيحة أنه حلف ليطوفن ليلة على
أربعين امرأة من نسائه، وفي رواية سبعين امرأة تأتي كل واحدة بغلام يقاتل في سبيل
الله ولم يقل إن شاء الله، وقد ذكره (ملك) بأن يقول فلم يقل، فحملت امرأة
واحدة من أولئك النساء ووضعت غلامًا مشوهًا هو نصف غلام فألقى على كرسيه
ليعتبر بعجزه، فاعتبر وتاب وأناب إلى ربه، وطلب منه أن يغفر له، ويهب له ملكًا
لا ينبغي لأحد من بعده. وكلمة أحد هنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم. وطلب
عظمة الملك ليس منكرًا؛ لأن سليمان عليه السلام لا يريد به إلا ما يقوم به
الحق وحكم الشرع الإلهي والإصلاح بين الناس، فاستجاب الله تعالى
له بما بينه بقوله {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} (ص: 36) إلى آخر الآيات. ولم
يرد في الأحاديث الصحيحة بيان لتسخير الريح وجريانها بأمره حيث أصاب، وإنما
ورد في التاريخ أنه كان له أسطول في البحر الأبيض المتوسط وأسطول في بحر الهند
يستعملهما في تجارته الواسعة وجلب الذهب والفضة وغيرهما مما استعمله في بناء
هيكل العبادة لله تعالى، فيحتمل أن يكون معنى تسخيرها له أنها كانت تكون عاصفة
في غير الوقت الذي يسير فيه أسطوله، ثم تكون رخاء في الوقت الذي
يسير فيه، وذلك من آيات له الخاصة به عليه السلام.
ويحتمل أن الله سخرها له في أمور خاصة به لم يطلع عليها الناس مما هو
من آيات الأنبياء عليهم السلام غير المقرونة بالتحدي؛ ولذلك لم تذكر في قصة من
سفر الملوك ولا في غيره من تواريخهم في الروايات الإسرائيلية المنقولة عن مثل
كعب الأحبار ووهب بن منبه غرائب وعجائب فيما أوتيه سليمان ألصقت بالقرآن
وصدقها الكثيرون، وتناقلوها من غير عزوها كلها إليهما وإلى أمثالهما. وأما تسخير
الشياطين، فقد ورد في حديث أبي هريرة المرفوع عند الشيخين وغيرهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم تراءى له شيطان يريد الوسوسة له فأمكنه الله تعالى منه، وأنه
لولا دعوة سليمان لأمسكه وربطه بسارية المسجد - أي في حال تشكله الجسدي -
ليلعب به صبيان المدينة فهذا الحديث يردّ تأويل من تأوَّل تسخير الشياطين له
بشياطين الأنس وهم عتاتهم الذين كان يستخدمهم في قطع الحجارة الكبيرة ونحت
التماثيل وغير ذلك للمباني العظيمة التي بناها، وأعظمها الهيكل المشهور، على أن
في القرآن تصريحًا بذكر الجن في موضوع الشياطين. والإسرائيليات في هذا
كثيرة أيضًا. ولم يفتح سليمان الشرق والغرب، بل كان ملكه ممتدًا من حدود نهر
الفرات إلى تخوم مصر.
وأما ذو القرنين فهو رجل ضربه الله تعالى مثلاً لما هو مُبَيَن في قصته من
سورة الكهف فسخر له أسباب السياحة في مشرق شمس الأرض ومغربها من
العمران الذي كان في عصره. ومن الأعمال العظيمة الفنية كالسد، فتسخير تلك
الأسباب المجهولة عندنا لذي القرنين يشبه تسخير الريح والشياطين لسليمان،
وتسخير الجبال والطير لوالده ترجع صوته حين كان يسبح الله تعالى بتلاوة الزبور
بصوته الشجي الندي، وإلانة الحديد له ينسج منه الدروع، ولكن أعمال ذي
القرنين كلها كانت بالأسباب المعروفة وإن أُوتى منها ما لم يؤت غيره، وما أُوتي
داود وسليمان كان كله أو بعضه من الآيات الإلهية التي لا تنال بالكسب.
ومن الناس من يظن أن كل تسخير من هذا القبيل يجب أن يكون من الخوارق
التي يغير الله تعالى بها سننه في الخلق وليس كذلك. فهو سبحانه وتعالى يَمنُّ على
عباده بتسخير منافع الكون الطبيعية والصناعية لهم كقوله في سورة إبراهيم عليه
السلام {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (إبراهيم: 32-33) ولهذا أمثال.
هذا وإننا ننصح لأخينا السائل ولكل من يطلع على جوابنا هذا بأن يقفوا في
مثل هذه الآيات المنزلة فيما أعطاه الله من المواهب لسليمان عليه السلام عند نصها
ولا يتقيدوا بشيء مما في كتب التفسير عن الصحابة والتابعين فمن دونهم في
تفسيرها وإن صح سندها، ما لم تكن مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن
جل الروايات في بني إسرائيل وأنبيائهم وفي خلق السموات والأرض مأخوذة عن
رواة الإسرائيليات وكان من أمثلهم عندهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، ونحن نوقن
بكذب أكثر ما روي عنهما من ذلك وإذا قلنا فيه كله لا نكون مغالين. وقد قال الإمام
أحمد ولا يغرن أحدًا قول المخرجين للتفسير المأثور: عن ابن عباس - رضي الله
عنه - وعن مجاهد وقتادة وفلان وفلان. وعدم ذكر مثل كعب ووهب وغيرهما
في السند، فإن هؤلاء كثيرًا ما كانوا يقولون ما يسمعونه منهما من غير ذكر السماع
منهما إذا لم يكونوا يذكرونه على سبيل الرواية، بل على أنه معنى للآية.
روى عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أربع آيات
من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنهن كعب الأحبار، وذكر منها قوم تبع
وجواب كعب المخترع له ولا محل لذكره هنا - قال: وسألته عن قوله {وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان الذي فيه
ملكه فقذف به في البحر فوقع في بطن سمكة، فانطلق سليمان إذ تصدق عليه بتلك
السمكة فاشتواها فأكلها، فإذا فيها خاتمة فرجع إليه ملكه. وهذا الجواب من أكاذيب
كعب التي كان يغش بها الصحابة والتابعين لاغترارهم بعبادته وكلامه المنمق الذي
يرويه عن التوراة وغيرها من كتب بني إسرائيل، ويفسر بها آيات القرآن في
أخبارهم وفي أصل الخليقة. فهو كأمثاله التي لا تحصى لا أصل له في شيء من
تلك الكتب، وهو مخالف لنص حديث الصحيحين الذي أشرنا إليه في تفسير {وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34) ولكن ابن عباس أخذه بالتسليم إذ لم يكن قد بلغه
الحديث المرفوع فيما يظهر، وأنا لا آمن أن يكون بعض أحاديث أبي هريرة
المرفوعة الغريبة المتون التي لم يصرح فيها بالسماع مما رواه عن كعب الأحبار
فقد صرحوا أنه روى عنه.
وقد قال الزركشي في التفسير المرفوع: إنه الطراز المعلم (ولكن يجب الحذر
من الضعيف) والموضوع فإنه كثير.
ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة كتب لا أصل لها: المغازي والملاحم والتفسير.
قال المحققون من أصحابه: مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحيحة متصلة..
الخ، أقوال وقد غلط من جعل أقوال الصحابة في هذا الباب من قبيل المرفوع بعلة
أنه لا يُعرف بالرأي، وفاتهم أنه من رواية الإسرائيليات، فلا يعد كأحكام الدين
والحلال والحرام.
ثم أقول إن الروايات المتعددة عن سليمان أن ملكه كان بسر في خاتمه وأن
الشيطان أخذ خاتمه فصار يتصرف في الإنس والجن والطير كما كان
يتصرف سليمان، حتى كان يأتي نساءه (!) إلخ، خرافة فيها مفاسد كثيرة، وأنها
وأمثالها معارضة بل منقوضة ومردودة ومضروب بها وجوه مختلقيها وأقفيتهم بقوله
تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} (ص: 36) إلخ، فالله تعالى يخبرنا أنه استجاب
دعاء فسخر له الريح والشياطين، ولو كان ملكه الذي لا ينبغي لأحد من بعده منوطًا
بسر في خاتمه يمكن أن تسخر للشياطين إذا هم حملوا ذلك الخاتم لم يكن خصوصية
لسليمان نفسه جزاء إنابته واستجابة لدعائه كما صرح به القرآن، وهل هذا إلا مما
كانت تتلوه الشياطين على ملك سليمان وتعزوه إليه من مخلتقات السحر، ولو أنه من
الخرافات والكفر، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 102)
وروجوا كفرهم وفتنوا به بعض المؤمنين بِعَزْوِه إلى سليمان وخاتمه السري، ذي
الطلاسم السحري، ولا يزال شياطين الإنس وسحرتهم على هذا إلى اليوم! !
هذا ما نراه في الجواب الإجمالي، وإذا أحيانا الله تعالى ومنَّ علينا بالوصول
إلى تفسير قصة سليمان عليه السلام من سورة النمل، فإننا نحرر هذا المقام بالتفصيل
وليس لدينا من الوقت الآن ما يسمح لنا بالمراجعة ولا بالتفكر فيه، حتى إننا ذكرنا
الحديثين المرفوعين بمعناهما ولم نراجع نص لفظهما.
***
شركة التأمين وصندوق التوفير في البريد
س3 - من صاحب الإمضاء في أسوان
أسوان في 5 - 8 - 1926
أستاذي الأكبر الشيخ محمد رشيد رضا ... ... دام
بعد ما يلزم لسموّ مقامكم من جليل التحية الدينية نلتمس أن تتكرموا بتحقيق
مطلبنا الآتي:
قد علمنا أن حضرة الأستاذ الحكيم، والفاضل الأكبر الإمام الشيخ محمد
عبده تغمده الله برحمته وواسع رضوانه، أفتى بحل وجواز العقد الذي يحصل مع
بنك السيكورتا من جانب المسلمين، وأنه لو هلك مال المسلم في دار الإسلام بأي
سبب من أسباب الهلاك، يحل له ليأخذ من البنك ما تعهد به من المال في مقابل ما
يدفعه المسلم في كل سنة مما يتم الاتفاق عليه. كما يحل له أيضًا وضع أمواله
بصندوق توفير البوستة وتشغيله. وقد اشتهر أن فضيلة الأستاذ الإمام رحمه الله قد
أفتى بجواز ذلك كله، وبما أن فضيلتكم موضع أسرار وحكم حضرة الأستاذ الإمام،
فلنا وطيد الأمل أن تتفضلوا بإجابة طلبنا هذا بأسرع ما يمكن، خصوصًا وأن الأستاذ
الشيخ محمد بخيت قد أجاب من أفتاه من المقيمين بولاية الأناضول بحرمة ذلك
وأفاض في هذا الحكم. وبما أن الأستاذ الإمام لا يقول حكمًا متعلقًا بأصول الشريعة
أو بمبادئ النظر الصحيح إلا إذا كان مبنيًا على قواطع الأدلة ومتانة البرهان
الصحيح الذي تطمئن إليه النفس، ويرضى به العقل فلا جرم أنه يجب على كل من
له ذرة من العقل الصحيح ألا يتمسك إلا بقوله، وتفضلوا ختامًا بقبول فائق
احترامي.
... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... تلميذكم/ عبد الله حسن محمد الحاج حسن
... ... ... من طلبة العلم بأسوان: وعضو المجلس الحسبي بالمركز
ج - أما عقد الضمان الذي أشرتم إليه إشارة غير صريحة فليس فيه ذكر لبنك
السيكورتاه، وإننا نعيد نص السؤال الذي رفع إلى الأستاذ الإمام ونص جوابه عنه
نقلاً عن ص 928 و 929 من مجلد المنار السادس - وقد كانت شركة التأمين على
الحياة طبعتهما لتحتج بالفتوى على كون عملها مشروعًا فلينظر، وهذا نصهما:
حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية:
ما قولكم، دام فضلكم في شخص يريد أن يتعاقد مع جماعة [1] على أن يدفع لهم
مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة؛ ليعملوا فيه بالتجارة واشترط معهم أنه إذا قام
بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك
المال وكان حيًا فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصم من الأرباح، وإذا مات في
أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق
مورثهم مع الأرباح فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدًا لأربابه بما ينتجه لهم من
الربح جائز شرعًا؟ نرجوكم التكرم بالإفادة، أفندم:
الجواب:
الحمد لله وحده.
لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة
المذكورة كان ذلك جائزًا شرعًا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في
المال وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيًّا ما يكون له من المال مع ما خصه من
الربح وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله
بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح والله أعلم.. اهـ.
وقد كان بعض المتفقهة في تونس استشكَلَ الفتوى من حيث محاولة تلك
الشركة احتجاجها بها، فرد عليه أحد علماء جامع الزيتونة الأعلام بمقال نفيس نشرناه
في المجلد السابع (ص 384 - 388 منه) ومهما يكن الحكم في أصل العقد الذي
يتعاقده المسلم مع الأجانب فلورثته أن يأخذوا ما تعطيهم إياه الشركة من المال الذي
أخذته من مورثهم ومن ربحه أيضًا؛ لأن أخذ أموال الأجانب التابعين لغير دار
الإسلام وغير الملتزمين لأحكامه جائز إذا كان برضاهم لا بخيانة ولا بسرقة، وأما
شركة التأمين على البضائع التجارية فقد أفتينا بجواز عملها نحن وغيرنا كما يرى
في المنار (ص 588 م 8) .
وأما صندوق التوفير في إدارة البريد المصري فقد أقر نظامه لجنة من علماء
المذاهب في الأزهر وكتبوا بذلك كتابة؛ عرضتها الحكومة في ذلك الوقت على
مفتي الديار المصرية الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فأفتى به وجرى العمل به، وقد
بينَّا ذلك بالتفصيل في ص 28 من مجلد المنار السابع.
__________
(1) نشرت شركة الجريشام في مصر هذه الفتوى في كراس طبعته في بيان موضوعها وأعمالها وزادت في السؤال هنا، أي: عند ذكر لفظ جماعة (شركة الجريشام مثلاً) ووضعت الزيادة هكذا بين قوسين للإشارة أنها لم تكن في الصورة التي قدمت للمفتي وأجاب عنها.(27/339)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه:
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(أما بعد) فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة مثل قصر
الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك، وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي
وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين؛ نوعًا يختص بالسفر الطويل وهو القصْر والفطر،
ونوعًا يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة هو من
هذا القسم، وأما المسح على الخفين، والجمع بين الصلاتين فمن الأول، وفي ذلك
نزاع.
والكلام في مقامين (أحدهما) الفرق بين السفر الطويل والقصير فقال:
***
المقام الأول
(الفرق بين السفر الطويل والقصير)
هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقًا كقوله تعالى في آية الطهارة:
{وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} (النساء: 43) .
وقوله تعالى في آية الصيام {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} (البقرة: 184) . وقوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر
الصلاة) [1]
وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة
الحضر. وقول عمر: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر
ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله صلى الله
عليه وسلم: (يمسح المقيم يومًا وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقول صفوان بن
عسال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرًا أو مسافرين أن لا ننزع
خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم [2] . وقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان
يعمل وهو صحيح مقيم) [3] وقوله صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب
يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع
إلى أهله) [4]
فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر
طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقًا لا
أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكر من
تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من
غير دلالة شرعية له نظائر:
(منها) أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (النساء: 43) . ولم يفرق بين ماء وماء، ولم يجعل الماء
نوعين طاهرًا وطهورًا.
(ومنها) أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف
فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد، ولم يشترط أيضًا أن
يثبت بنفسه (ومن ذلك) أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول، ولم يقسم
طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعي.
(ومن ذلك) أنه أثبت الطلقة الثالثة بعد طلقتين و (افتداء) .
والافتداء: الفرقةُ بعوض، وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من
الثلاث.
وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق بين لفظ ولفظ (ومن ذلك) أنه علق
الكفارة بمسمى أيمان المسلمين في قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: 89) وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) ولم يفرق
بين يمين ويمين من أيمان المسلمين، فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى
مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك (ومن ذلك) أنه علق التحريم بمسمى الخمر وبَيَّن
أن الخمر هي المسكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر
حرام) ولم يفرق بين مسكر ومسكر.
(ومن ذلك) أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر، ولم يفرق
بين مقيم ومقيم، فجعل المقيم نوعين نوعًا تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به،
ونوعًا تنعقد به لا أصل له.
بل الواجب أن هذه الأحكام لمّا علقها الشارع بمسمى السفر فهي تتعلق بكل
سفر سواء كان ذلك السفر طويلاً أو قصيرًا، لكن ثَمَّ أمور ليست من خصائص
السفر بل تشرع في السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه
بسفر؛ لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر
الطويل والقصير فلا يجعل هذا مغلقًا بالسفر.
وأما الجمع بين الصلاتين فهل يجوز في السفر القصير؟ فيه وجهان في
مذهب أحمد أحدهما لا يجوز كمذهب الشافعي قياسًا على القصر، والثاني يجوز كقول
مالك؛ لأن ذلك شرع في الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة إنما علته
الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب، فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقًا بالسفر
وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر.
وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته في السفر أيَّ وجه توجهت به، ويوتر
عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
وهل يسوغ ذلك في الحضر؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره فإذا جوز في
الحضر ففي القصر أولى، وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر
والفطر يحتاج إلى دليل.
***
المقام الثاني
(حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر)
وهذا مما اضطرب الناس فيه، قيل: ثلاثة أيام وقيل: يومين قاصدين؟
وقيل: أقل من ذلك؛ حتى قيل: ميل والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال:
ثمانية وأربعون ميلاً، وقيل: ستة وأربعون، وقيل خمسة وأربعون، وقيل
أربعون، وهذه أقوال عن مالك، وقد قال أبو محمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه
الأئمة وجهًا.
وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس
وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًّا للسفر الطويل
ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد، وما دون ذلك لا يسميه سفرًا فالذين
قالوا: ثلاثة أيام احتجوا بقوله (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقد ثبت عنه
في الصحيحين أنه قال (لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم) وقد
ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (مسيرة يومين) وثبت في الصحيح (مسيرة يوم)
وفي السنن (بريدًا) فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما
هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن
يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة، والذين قالوا: يومين اعتمدوا
على قول ابن عمر وابن عباس، والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى ابن
عمر وابن عباس وما روي (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من
مكة إلى عسفان) إنما هو من قول ابن عباس ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث، وكيف يخاطب
النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالتحديد، وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا وهو
بالمدينة لا يحد لأهلها حدًّا، كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة
دون غيرهم من المسلمين؟
وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض
وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا
وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً
فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر به له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع
الناس فلا بد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًّا، وذرع الأرض مما لا يمكن
بل هو إما متعذر وإما متعسر؛ لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما
يمسحونه على خط مستوٍ أو خطوط منحنية انحناء مضبوطًا، ومعلوم أن المسافرين
قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يسلكون غيرها، وقد يكون في المسافة صعود وقد
يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب
الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض.
والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تقدير الأرض
بالأزمنة كقوله في الحوض (طوله شهر وعرضه شهر) وقوله: (بين السماء
والأرض خمسمائة سنة) [5] وفي حديث آخر: (إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون
سنة) فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام والثاني سير البريد فإنه في
العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات، وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا
قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام لكن
هذا لا دليل عليه.
وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه
إلى العرف، فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم
وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة؛ فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز
القصر والجمع بالسنة، والبريد هو نصف يوم سير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة
يومين وليلتين وهو الذي قد يسمى مسافة [6] ، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن
يرجع من يومه، وأما ما دون هذه المسافة إن مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل
يقصر في ميل. وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت قال
ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في
هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا فقلنا بذلك اتباعًا للسنة مطلقة، ولم نجد
أحدًا يقصر بما دون الميل ولكن هو على أصله وليس هذا إجماعًا، فإذا كان ظاهر
النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحداً ذهب إليه كعادته في
أمثاله، وأيضًا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك، وأيضًا فقد ثبت
عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو
تحمل على اختلاف الأحوال، والكلام في مقامين.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة بسند صحيح.
(2) رواه الشافعي وأحمد والنسائي والترمذي وابن خزيمة وصححاه وغيرهم وحكى الترمذي عن البخاري أنه حديث حسن وأورده المجد ابن تيمية جد المؤلف في المنتقى بلفظ أمرنا - يعني النبي (صلى الله عليه وسلم) - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على ظهر ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة، رواه أحمد وابن خزيمة وقال الخطابي: صحيح الإسناد وحديث عائشة وعمر الموقوفان لهما حكم المرفوع وهما في الصحيح.
(3) رواه أحمد والبخاري.
(4) رواه أحمد والشيخان وابن ماجه.
(5) هذا الحديث لا يصح قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة، وقال غريب (قال) ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة ورواه أبو الشيخ في العظمة من رواية أبي نصر عن أبي ذر ورجاله ثقات إلا أنه لا يعرف لأبي نصر سماع من أبي ذر انتهى، وأقول: الحسن هو البصري الزاهد الفقيه التابعي المشهور قالوا كان يرسل كثيراً ويدلس فيروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدثنا وخطبنا يعني قومه، وهذا الحديث من مراسليه التي قالوا: إنها كالريح وأبو نصر راوي الحديث الثاني، قال البزار: مخرجه أحسبه حميد بن هلال ولم يسمع من أبي ذر كما، قال البزار: مخرج الحديث عنه وينبغي أن يعتد بمراسليه من يحتج بالمراسيل كالحسن؛ لأن ابن سيرين قال: كان أربعة يصدقون كل من حدثهم ولا يبالون ممن يسمعون الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال وداود بن أبي هند ذكر هذا الدارقطني في سننه وسقط من بعض نسخها اسم الأخير كما في تهذيب التهذيب.
(6) بهامش الأصل: لعله مسافة الغدو ورواحه.(27/347)
الكاتب: محمد بهجت البيطار
__________
كتاب الموجز في الاجتماع
بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار
عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة
(2)
(تابع لما نشر في ج4 ص 295)
الرابع
مبحث الخلافة الإسلامية
الحكم في الإسلام أهو ثيوقراطي أو ديمقراطي؟
عد حضرة المؤلف الخلافة في الإسلام من النوع الثيوقراطي، قال: وهو
الحكم الذي يستمد نفوذه وقوّته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون
وباسمه يتكلمون، حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزله الوزراء. أهـ
أقول: يبدو للإنسان إزاء هذه الكلمة آراء ووجوه:
(1) أن الحكم في الخلافة الإسلامية لله وحده على قاعدة العدل والمساواة
بين الناس في الحقوق، لا فرق في ذلك بين الصعاليك والملوك، قال تعالى: {إِنَّا
أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) وقال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي: لا يحملنكم بغض
قوم لكم أو بغضكم لهم على ألا تقيموا سنة العدل فيهم، ثم أمرهم بالعدل الكامل
الشامل للمسلمين وغيرهم على اختلاف طبقاتهم بقوله (اعدلوا) وحذف المعمول
يؤذن بالعموم.
ومن هذا النوع قصة المخزومية التي أوردها المؤلف في كتابه عن
الصحيحين وأنها لما سرقت أهم قريشًا أمرها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم
معاتبًا أسامة الذي استشفع لها (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت
محمد سرقت لقطعت يدها) فهذه الخلافة هي المثل الأعلى في حكومات الأرض،
وهي التي جرى عليها الخلفاء الراشدون من بعد، وسأنقل عن الأستاذ المؤلف
تفضيلها على كل حكومة أخرى.
(2) لا نعرف أحدًا من خلفاء المسلمين الراسخين يدعي لنفسه هذه الرتبة،
(ينزل نفسه منزلة الوزير من الله) ، أو يزعم أنه مؤيد بالعصمة، كما هو شأن
رجال هذا النوع من الحكم، ولا نعرف في الإسلام أقل حق يمتاز به أكبر خليفة
عن أصغر واحد من الرعية، وليس الإمام إلا حافظًا ومنفذًا للأحكام العادلة المأخوذة
أو المستنبطة من النصوص الشرعية العامة تحت مراقبة أولي الأمر، وهم أهل
الحل والعقد والشورى في الإسلام، ويبقى له هذا الأمر، وتجب طاعته فيه،
وإعانته عليه مدة استقامته كما أمر، فإذا أعوج وجب تقويمه بالكلام أو بحد الحسام
يؤيد ذلك قول عمر رضى الله عنه: إن رأيتم فيَّ اعوجاجا فقومومني بألسنتكم، قالوا:
بل نقومك بسيوفنا، فإذا لم يرجع إلى الحق وجب خلعه، ما لم تترتب على ذلك
مفسدة أكبر من مفسدة بقائه.
(3) الظاهر أن المؤلف يعرض بالحكومة الإسلامية في دور التقهقر
والخذلان أيام تغلغل نفوذ الأعاجم - الذين لم يرسخوا في الإسلام رسوخ أهل
العرب فيه في البلدان الإسلامية باستعمال الملوك إياهم، وفشت أخلاقهم في
المسلمين، فتعطلت أحكام الخلافة، وعادت اسمًا بلا مسمى، ولفظًا بلا معنى،
وطفق المتملقون والمستجدون من الشعراء، يكيلون المدح لمن سموهم خلفاء
المسلمين جُزافًا، وانتهى الأمر باجتياح التتار بلاد المسلمين، والقضاء على
الخلافة الإسلامية العربية.
(4) فتن كثير من الناس بما صنع الترك الكماليون من القضاء على الدولة
التي كانت تنتحل اسم الخلافة واستبدال حكومة جمهورية لا دينية بها، وظنوا كما
ظن زعماء الترك أن هذه الفعلة الشنعاء هي التي أورثتهم استقلالهم، وأن الإسلام
هو الذي كان عثرة في سبيلهم، وموغرًا لصدور الأوروبيين عليهم، فلما وضعوا
القبعة على رؤوسهم وعملوا بقوانين أهلها زال تعصب الغربيين عنهم، وصاروا
يعاملونهم معاملة أنفسهم؛ لأنهم صاروا أمة متمدنة في نظرهم! !
والجواب من وجوه:
(الأول) : أن رئيس الجمهورية قد صرح بأنهم لم ينالوا استقلالهم إلا بالقوة
الحربية التي استخدموها في الدفاع عن حوزتهم، واسترداد ملكهم.
(الثاني) أن المعروف أنهم انتصروا باسم الدين لا الإلحاد، وهم أثناء
الحرب قد أزالوا المنكرات من بلادهم بأيديهم كالمواخير العامة والحانات وغيرهما.
(الثالث) أن الإفرنج لا يبغضون من الإسلام حروفه، وإنما يبغضون منه
ما يوجبه على أهله من الأخذ بأسباب النصر، والتماس وسائل القوة والعزة والثروة
والسيادة في الأرض {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ،
{وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) . فهذه الوسائل
والمقاصد يحاربها الغرب الطامع المستعبد حيثما وجدت، وتحت أي عنوان استترت
أو ظهرت، سواء أكان إسلامًا أم إلحادًا، صلاحًا أم فسادًا، وهم الآن إذا جاملوا
الكماليين فلقوتهم وبأسهم، لا لكفرهم أو فسقهم.
(الرابع) أن عمل الجمهورية على كونه فعلة شنيعة في الإسلام - مناقض
للقواعد الاجتماعية، مخالف للسنن الكونية، بل هو ضربة قاضية على الحكومة
الديمقراطية، ذلك بأنه ليس مستمدًّا من روح الأمة، بل هو مخالف لعقيدتها وتربية
دهمائها، وقد أوقد عملها في شعبها الآمن المتدين نار الثورة، وأثار عليها حفائظ
الانتقام، وفتح بابًا الدسائس الأجنبية في بلادها، فهي تضعف باقتتالها من حيث
تطلب القوة، وتنقسم على نفسها من حيث تريد الوحدة.
(الخامس) أنها لو أرادت أن تتمتع وتعيش - كشعب أوروبي - بالقوة
والثروة والوحدة والنظام لما رأت في الإسلام ما يعارض ذلك، بل الإسلام قد سبقها
وسبق أوربا بمئات السنين إليه، وجرى ملوكه العدول أيام حضارتهم عليه، ولكنها
أرادت أن تعيش كأشد شعب أوربي إيغالاً في المفاسد، وتفننًا في الرذائل،
كاستباحة الإبضاع والأموال وغيرهما. وهذه من آفات المدنية المادية، ومقطعات
روابط الهيأة الاجتماعية، وهي ما تنزهت عنه مدنية الإسلام، وامتازت به
حضارته الأخلاقية - التي أساسها العدل والفضيلة - على سائر المدنيات التي تبيح
الظلم والرذائل.
(السادس) أن الله تعالى قيض للإسلام حماة ودعاة في الشرق والغرب،
وتجددت دعوته بقوة في جزيرة العرب، وبدأ ينقشع عن محياه ما تكثف عليه من
غيوم البدع والأوهم، وما علق به من شبه الماديين وأعداء الإسلام، فمن مرقوا
منه بفتنة تفرنج أو شبهة إلحاد، عوضنا المولى عنهم بمن هم خير منهم.
***
الحكومة الإسلامية ديموقراطية
وبعد هذا كله أقول: إن الخلافة في الإسلام هي روح الديموقراطية الحرة؛
لأنها تستمد قوانينها من كتاب الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي تبين
للناس ما نزل إليهم من ربهم.
ومن مميزات هذه الحكومة الإسلامية على سائر الحكومات النيابية المدنية أن
قوانينها مبنية على النصفة والعدل، (لا ضرر ولا ضرار) بخلاف هذه القوانين
التي تبيح كثيرًا من الضرر بالنفس والعقل والعِرْض والمال.
ومن مميزاتها الرجوع عند تنازع أولي الحل والعقد إلى كتاب الله تعالى وسنة
النبي صلى الله عليه وسلم، وهما الأصلان اللذان تسلم الأمة لحكمها تسليمًا،
والقول في كل قضية لمن كان أصح دليلاً، وأهدى سبيلاً، وأدنى في حكمة إلى
المصلحة العامة، بخلاف المجالس القانونية التي كثيرًا ما تحكم الأكثرية فيها بما
تملي عليها المصلحة الخاصة أو الهوى، وتخالف الحق الصريح مخالفة ظاهرة،
فلا هي معتقدة بصحة حكمها، ولا الأقلية المنصفة مقتنعة بفساد رأيها، ولكنها
تكون مغلوبة للأكثرية.
قال الأستاذ الإمام في كتاب الإسلام والنصرانية: (ولا يجوز لصحيح النظر
أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (كراتيك) أي سلطان إلهي، فإن
ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله
في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة،
بل بمقتضى الإيمان، إلى أن قال:
يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو
المفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد
وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع
الإسلامي) .
وقال عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر في كتابه
(الخلافة أو الإمامة العظمى) ص 91: (إن صحفنا العربية تصرح في هذا العهد آنًا
بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون
هذا، وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا
تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمدة من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه
قليلة محدودة، ومن السنة - والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة، ومناسبة
لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا، وأن
الإجماع والاجتهاد - على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابهما
باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية، وأن هذا هو السبب في
تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية واضطرار الحكومتين المدنيتين
الوحيدتين التركية والمصرية إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة
الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا! !)
ثم بين منشأ هذا الغلط العظيم، وساق أدلة الاشتراع في الإسلام بنحو ثلث
صحائف (ثم قال) :
(فنبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل
كثيرة، منها قواعد الضرورات ونفي الحرج، ومنع الضرر والضرار، فلو لم
ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة
أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه
الأمور إليهم ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي - صلى الله
عليه وسلم - معاذًا على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا والأحكام
التي لا نص عليها في كتاب الله ولم تمض فيها سنة من رسوله - لو لم يرد هذا كله
وما في معناه - لكفت الضرورة أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا
العصر بالتشريع. وراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام، وخير القرون،
وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة
عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا لتلازمهما) اهـ.
ومن أراد تحقيق كون حكومة الخلافة في الإسلام أعدل حكومات الأرض
وأفضلها فعليه بمراجعة كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى الذي أثرنا عنه هذه الكلمة،
وكتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ، لمؤلفه العلامة الجليل السيد محمد
الخضر التونسي، فإنهما من خير ما أخرج للناس في هذا العصر.
***
الخامس
مبحث الدين والعلم
قال صاحب (الموجز) ص 72: وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا فيما يذهبون
إليه بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم، وبما توصلهم
إليه مساعيهم. أهـ
أقول: لا يخفى أن دين الحق لا يصادم العلم الصحيح، ولا يمنع أهله من
الاستفادة من نتائج قرائحهم، وثمرات معارفهم، بل يدعو إلى الاستزادة من العلم
والتحقيق فيه، ولكنه والعقل الصحيح يأبيان أن تتخذ المذاهب العلمية المتضاربة،
والآراء الكثيرة المتباينة أصولاً صحيحة ثابتة يرجع إليها، ويعتمد عليها،
ويجعل كل ذي مذهب، أو رأي مذهبه، أو رأيه قاعدة يحاول رد ما هو أقوى حجة
منها إليها، ومعلوم أن عوامل السياسة التي تعتمد الكذب لا تستوي مثلاً مع تعاليم
الدين التي توجب الصدق في كل شيء إيجابًا لا هوادة فيه.
وأذكر أني قرأت عن اللورد هدلي الإنكليزي تصريحه بأن سبب إسلامه هو
أنه ظهر له أن الآيات الكونية في القرآن الكريم لا تنبني إلا على أساس صحيح.
قال: وإذا اختلف القرآن مع العلم في شيء فيجب علينا أن نعترف للقرآن
بالصحة وأن معلوماتنا قاصرة بعد، وننتظر الزمن الذي تجيء فيه القضية العلمية
موافقة للتعاليم الإسلامية، وضرب لذلك مثلاً فقال: قضى الناس أجيالاً وهم
يحكمون بدوران الشمس حول الأرض التي زعموا أنها ثابتة، ثم عكسوا القضية
وحكموا بدوران الأرض حول الشمس، وأن هذه هي الثابتة، ثم صح عند العلماء
المتأخرين أن للشمس أيضًا حركة محورية.
قال: والقرآن الكريم الذي كانوا يخطئونه بأحكامهم الباطلة قد صرح بحركة
الأرض، وحركة الشمس المحورية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. قال تعالى:
{وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) . وقال سبحانه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ
العَلِيمِ} (يس: 38) . اهـ
على أن علماءنا قد صرحوا بأن النص الديني إذا خالف قاعدة قطعية وتعذر
الجمع بينهما أول النص بما ينطبق على العلم، ويتفق مع العقل [1] .
***
السادس
معنى كون الشرع صالحًا لكل جيل في كل زمن
قال صاحب (الموجز) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة،
فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: (هذا هو الشرع الذي يصلح
لكل جيل في كل زمن) .
أقول: المراد يدفع الإيراد، وهنا يحسن بي جدًّا أن أوثر كلمة عن كتاب
(الخلافة) لحجة الإسلام في هذا العصر، منشئ المنار الأغر، وأخرى عن رسالة
(القضاء في الإسلام) لصديقنا الأستاذ الكريم مؤلف (الموجز) وكلتاهما في بيان
المراد من كون الإسلام صالحًا لكل جيل في كل زمن، وهو قول الأمة بالإجماع،
قال في كتاب الخلافة باختصار: (الإسلام هداية روحية، وسياسة اجتماعية مدنية،
فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً، وأما
السياسة الاجتماعية المدنية، فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة
الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي بارتقاء
العمران، وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى
بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في
أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة، وأنها
حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية، وممهدة
لتعميم الأخوة الإنسانية بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما طرأ
الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد وضعف الأصول، ولو أقاموها
لوضعوا في كل عصر ما يليق به من النظم والفروع.
وقال الأستاذ عارف بك في آخر رسالة القضاء والإسلام ما يأتي:
(إن أهل العصر الحاضر يزعمون هذا الشرع غريبًا عن قضايا العقوبات
جملة - دع الأصول الحديثة - بعيدًا عن روح العدل في هذا الباب، على حين رأيتم
ما بينهما من الصلة والعلاقة. ولو أنه أتيح لهذه الشريعة خلف سار على سنة ذلك
السلف، لانفردت عن الأشباه، وتنزهت عن النظائر، وهو إن كان شرعًا إسلاميًّا
فقد كفل العدل والنصفة لكل من نزل على حكمة مسلمًا كان أو غير مسلم.
لهذا وأمثاله لقبت هذه الشريعة بالسمحة، وهذه هي المفاخر الصحيحة التي
يعرفها التاريخ الحق، لا تلك البدع العريقة بالوهم، فإذا استفاق الخلف، واقتفى
سنة السلف، ونبذ القشور، وعاد إلى اللباب، فقد عاد إلى هذا الوطن عصره
الأول، الأغر المحجل.
وأقول: إن أئمة الإصلاح الإسلامي في هذا العصر عاملون على تحقيق هذا
المطلب الخطير، ومريدوهم في كل قطر جارون على طريقتهم فيه، وقد بدت
ثمرة الإصلاح، وظهرت بوارق النجاح، وأقرب طريق وأفضله فيما نرى
للوصول إلى هذه الغاية النبيلة - أي عود العصر الذهبي - عصر السلف الصالح
هو إحياء طريقتهم المثلى التي نالوا بها ما نالوا، وهي أن يكون مؤلفو العلوم
والفنون ومدرسوها منا متشبعين بالروح الإسلامية، متضلعين بالعلوم الشرعية؛
لكيلا يقع في درسهم وبحثهم ما يوقع الانشقاق بين العلم والدين، وتسوء به حالة
المتعلمين وأن يكون لرجال الدين مشاركة في العلوم الكونية لئلا يحسبوا النافع منها
ضارًّا والمؤيد للدين مخالفًا له، فيحاربون العلم باسم الدين، فيسيئون إلى أمتهم
ودينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
كتبت هذه الكلمة ومكتبتي - مخطوطها ومطبوعها - بعيدة عن عيني، وزند
الأسى والأسف ينقدح في صدري بما أصاب الشام من الكوارث العظمى، لا سيما
كارثة الميدان، التي تشيب لهولها الولدان، ولكن لم يسعني إلا امتثال أمر الأستاذ
العارف، الذي تفضل علي بإهداء مؤلفه الجليل، وأمرني بكتابة كلمة فيه، فجعلت
كلمتي خدمة للعلم والدين، وتوحيدًا لأفكار الناشئين المتعلمين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
وأرجو العفو عن التقصير فإن الفكر سابح في وادي حالة البلاد، والقلب
معذب بما أصاب العباد، ونسأله سبحانه كشف البلاء، وتحقيق الرجاء بمنّه وكرمه.
وقد فرغت من كتابتها يوم الجمعة 25 شوال سنة 1344هـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
__________
(1) المنار: قد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بطلان هذه القاعدة ' وأثبت أن القطعي هو الذي يرجح على غير القطعي سواء كان دينيًّا أو عقليًّا وأن القطعيان لا يتعارضان.(27/354)