الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوى فيهم
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره
تتمة لما في الجزء 7م 24 (ص508)
(فصل) وليس في أولياء الله المتقين , بل ولا أنبياء الله ولا المرسلين من
كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس , بل هذا من جنس قول القائل: بأن عليًّا
في السحاب، وأن محمد بن الحنفية في جبال رضوى، وأن محمد بن الحسن في
سرداب سامرا، وأن الحاكم في جبل مصر , وأن الأبدال رجال الغيب في جبل
لبنان. فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان. نعم قد تخرق العادة في حق
الشخص فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه وإما لغير ذلك , وأما
أنه يكون هكذا طول عمره فباطل. نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من
أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيبًا عن الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا
عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع. وأسرار الحق بينه وبين أوليائه وأكثر الناس لا
يعلمون.
(فصل) وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا , واندرج في ذلك غوث العرب
والعجم ومكة والغوث السابع، وكذلك لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له،
وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه
خاتم الأولياء كابن حمويه وابن العربي وغيرهما , وكل منهم يدعي أنه أفضل من
النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان , وكل
طمعًا في رياسة خاتم الأنبياء.
وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس
كذلك للأولياء , فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار , وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وخير قرونها القرن الذي
بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم. وخاتم
الأولياء في الحقيقة هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس ذلك بخير الأولياء
ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما
غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما.
(فصل) وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى؛ فمن أهل الضلالة والجهالة
وأكثرهم كافرون بالله ورسوله , لا يرون وجوب الصلاة والصيام، ولا يحرمون
ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود
والنصارى , وهم ليسوا من أهل الملة ولا من أهل السنة، وقد يكون فيهم من هو
مسلم لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر. ومن قال: إن قلندر كان موجودًا في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم , فقد كذب. وافترى: بل قد قيل أصل هذا الصنف أنهم
كانوا قومًا من نساك الفرس , يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض
واجتناب المحرمات. هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهرودي في عوارفه. ثم
إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات بمنزلة الملامية الذين كانوا يخفون
حسناتهم ويظهرون ما لا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء ولبس العمامة،
فهذا قريب وصاحبه مأجور على نيته.
ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة , ثم زاد الأمر ففعل قوم
المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك
دخول منهم في الملاميات. ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والندم والعقاب من الله في
الدنيا والآخرة , وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون , كما يجب
ذلك في كل معين ببدعة أو فجور , وليس ذلك مختصًّا بهم , بل كل من كان من
المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة , والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة , والمتفلسفة ومن
وافقهم من الملوك والأغنياء , والكتاب والحساب والأطباء وأهل الديوان والعامة
خارجًا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله باطنًا وظاهرًا , مثل من
يعتقد أن شيخه يرزقه وينصره أو يهديه أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد
له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقًا أو مقيدًا في شيء
من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة
الرسول، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، ومنافقون إن أبطنوا. وهؤلاء الأجناس
وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار
الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث
النبوة ما يعرفون به الهدى , وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة
الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل , ويقضي الله فيه لمن لم يقم
الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف:
(يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صيامًا ولا حجًّا ولا عمرة إلا الشيخ
الكبير والعجوز الكبيرة , ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله)
فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: (تنجيهم من النار ,
تنجيهم من النار , تنجيهم من النار) .
وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب أو السنة أو الإجماع , يقال: هي
كفر. قولاً يطلق كما دل على ذلك الدليل الشرعي , فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة
عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن
يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنفى
موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال. لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه
في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا [1] أنكره , ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من
أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى
يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها , وكما كان الصحابة يشكون في
أشياء: مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم , ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله.
ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى:
{َ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) وقد عفا الله
لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان , وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب
في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا.
(فصل) وأما النذر للقبور أو لسكان القبور أو العاكفين على القبور؛ سواء
كانت قبور الأنبياء أو الصالحين , فهو نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان، سواء
كان نذر زيت أو شمع أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله
زوَّارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) [2] وقال: (لعن الله اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا [3] وقال: (إن من كان
قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد , ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن
ذلك [4] ) وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد من بعدي) [5] .
وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا أن تعلق
عليها الستور، ولا أن ينذر لها النذور ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل
حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين , إذا لم يكن لها مستحق معين.
ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائنًا من كان الميت , فإن ذلك من أكبر أسباب
عبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداً وَلاَ سُوَاعا وَلاَ
يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا} (نوح: 23-24) وقال طائفة من
السلف: هذه أسماء قوم صالحين لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم عبدوهم , ومن
نذر لها نذرًا لم يجز له الوفاء , لما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وعليه
كفارة يمين [6] ) , ولما روي عنه أنه قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة
يمين) [7] .
ومن العلماء من لا يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة. ومن الحسن أن
يصرف ما نذره في نظيره من المشروع , مثل: أن يصرف الدهن إلى تنوير
المساجد، والنفقة إلى صالحة فقراء المؤمنين , وإن كانوا من أقارب الشيخ، ونحو
ذلك. وهذا الحكم عام في قبر نفيسة ومن هو أكبر من نفيسة من الصحابة مثل قبر
طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وقبر سلمان الفارسي وغيره بالعراق، والمشاهد
المنسوبة إلى علي رضي الله عنه والحسين وموسى وجعفر وقبر مثل معروف
الكرخي وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم.
ومن اعتقد أن بالنذور لها نفعًا أو أجرًا ما، فهو ضال جاهل. فقد ثبت في
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير
وإنما يستخرج به من البخيل) [8] وفي رواية: (إنما يلقي ابن آدم إلى القدر) فإذا
كان هذا في نذر الطاعة؛ فكيف في نذر المعصية؟ فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى
الله , وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ مصر فهذا كافر مشرك يجب قتله ,
وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائنًا من كان. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ
يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 56-57) ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ *
وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 22-23) , {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِّن
دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: 4) ، وقال الله: {وَقَالَ
اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم
بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 51-
55) .
والقرآن من أوله إلى آخره وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله
وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلهًا آخر. والإله من يألهه القلب عبادة
واستعانة وإجلالاً وإكرامًا وخوفًا ورجاءً , كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن
اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع , كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم:
لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وقال النبي صلى الله
عليه وسلم لحصين الخزاعي: (يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة
في الأرض وواحد في السماء. قال: فمن ذا الذي تعبده لرغبتك ورهبتك؟ قال:
الذي في السماء. قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن. فلما أسلم
قال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي) .
(فصل) وأما من زعم أن الملائكة والأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية [9]
محبة له ورغبة فيه فهو كاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين وهي تنزل
عليهم وتنفخ فيهم كما روى الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم (إن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا. قال: بيتك الحمام. قال:
اجعل لي قرآنًا. قال: قرآنك الشعر. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: مؤذنك
المزمار) , وقد قال تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} (الإسراء: 64) وقد فسَّر ذلك طائفة من السلف بصوت الغناء،
وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله، وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين:
صوت لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود وشق جيوب ودعاء
بدعوى الجاهلية ذات المكاء والتصدية) وكيف يذر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا
الوجد الشيطاني , حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين؟! ورأى
بعض المشايخ المكاشفين أن شيطانه قد حمله حتى رقص به , فلما صرخ قال:
هرب شيطانه. وسقط ذلك الرجل!
وهذه الأمور لها أسرار وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية والمشاهد
الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن السبل المبتدعة، فقد
حصل له الهدى وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور , بمنزلة من
سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي , فإنه يصل إلى مقصوده ويجد الزاد والماء
في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه، ومن سلك خلف غير الدليل
الهادي كان ضالاًّ عن الطريق، فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى
الطريق. والدليل الهادي هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا نذيرًا، وداعيًا
إلى الله بإذنه وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ملك السموات
والأرض. وآثار الشيطان تظهر على أهل السماع الجاهلي مثل الإزباد والإرعاد
والصرخات المنكرة ونحو ذلك ما يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان
بحسب الصوت.
إما وجد في الهوى مذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما
لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار
الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها , فإن السكر
بالأصوات المطربة قد تصير من جنس الإسكار بالأشربة المطربة فتصدهم عن
ذكر الله وعن الصلاة، وتمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه واتباعه،
فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، ويوقع
بينهم العداوة والبغضاء حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية، كما يقتل
العائن من أصابه بعينه، ولهذا قال من قال من العلماء: إن هؤلاء يجب عليهم القَوَد
أو الدية إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة؛ لأنهم ظالمون وهم
إنما يغتبطون بما ينفذونه من موادهم المحرمة كما يغتبط الظلمة المسلطون.
ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين والمبتدعين والظالمين , فإنهم قد يكون
لهم زهد وعبادة وهمة , كما يكون للمشركين وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج
المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع
صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز
حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم،
فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة) وقد يكون لهم مع ذلك أحوال
باطنة كما يكون لهم ملكة ظاهرة , فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر. ولا
يكون من أولياء الله إلا من كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون , وما فعلوه من الإعانة
على الظلم , فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب، وباب القدرة والتمكن باطنًا
وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى , بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان ,
وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون عدو الله مستضعفًا، وقد يكون
سلطانًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر،
هؤلاء في العباد، بمنزلة هؤلاء في الأجناد.
وأما الغلبة فإن الله قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة , كما يديل
المؤمنين على الكافرين، كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع
عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) وإذا كان في المسلمين
ضعف وكان العدو مستظهرًا عليهم , كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم: إما
لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا. وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا
وظاهرًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (آل عمران: 155) وقال تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم
مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165)
وقد قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .
(فصل) وأما هذه المشاهد المشهورة فمنها ما هو كذب قطعًا مثل المشهد
الذي بظاهر دمشق المضاف إلى أبي بن كعب، والمشهد الذي في ظاهرها المضاف
إلى أويس القرني، والمشهد الذي في سفح لبنان المضاف إلى نوح عليه السلام،
والمشهد الذي بمصر المضاف إلى الحسين - إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول
شرحها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار , حتى قال طائفة من العلماء منهم
عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح فيها إلا قبر النبي
صلى الله عليه وسلم. وقد أثبت غيره قبر الخليل عليه السلام أيضًا، وأما مشهد
علي فعامة العلماء على أنه ليس قبره , بل قد قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة وذلك
أنه إنما ظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت علي في إمارة بني بويه. وذكروا أن
أصل ذلك حكاية بلغتهم عن الرشيد أنه أتى إلى ذلك المكان , وجعل يعتذر إلى من
فيه مما جرى بينه وبين ذرية علي. وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء فالرشيد أيضًا
لا علم له بذلك , ولعل هذه الحكاية إن صحت عنه فقد قيل له ذلك كما قيل لغيره.
وجمهور أهل المعرفة يقولون: إن عليًّا إنما دفن في قصر الإمارة أو قريبَا
منه وهذا هو السنة، فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة أمر
غير مشروع , فلا يظن بآل علي - رضي الله عنهم - أنهم فعلوا به ذلك , ولا
يظن أيضًا أن ذلك خفي على أهل بيته والمسلمين ثلاثمائة سنة حتى أظهره قوم
من الأعاجم الجهال ذوي الأهواء، وكذلك قبر معاوية الذي بظاهر دمشق , قد قيل:
إنه ليس قبر معاوية، وإن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال: إنه قبر هود.
وأصل ذلك أن عامة هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلف , لا يكاد يوقف
منه على علم إلا في قليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد
عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه حيث
قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) بل قد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذي رواه مسلم في
صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن
يموت بخمس وهو يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني
أنهاكم عن ذلك) وقال: (لعن اللهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .
وقد اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على القبور،
ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل
التعبد عندها بصلاة واعتكاف أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك، وكرهوا الصلاة
عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة؛ لأجل النهي عنها.
وإنما السنة إذا زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما أن يسلم
عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته , كما جمع الله بين هذين حيث يقول في
المنافقين: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة:
84) فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم، وفي السنن
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت من أصحابه يقوم على قبره ثم
يقول: (سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) .
وفي الصحيح أنه كان يعلّم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور: (السلام
عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين
منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا
تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) .
وإنما دين الله تعالى تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له , وهي المساجد التي
تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة , والاعتكاف وسائر العبادات البدنية
والقلبية من القراءة، والذكر، والدعاء لله، قال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: 29) وقال تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) وقال تعالى:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ
إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التوبة: 18) وقال تعالى: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْما
تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ
يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36-38) فهذا دين المسلمين الذين
يعبدون الله مخلصين له الدين.
وأما اتخاذ القبور أوثانًا فهو من دين المشركين، الذي نهى عنه سيد المرسلين.
والله تعالى يصلح حال جميع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما هو أهله.
(تمت الرسالة)
(طبعت عن نسخة كتبت في بغداد بقلم محمد صالح المصطفى الوتار)
فيها شيء من الغلط والتحريف
عفا الله عنا وعنه.
__________
(1) لعله سقط من هنا وصف لهذا بأنه من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث ابن عباس بلفظ زائرات وسنده صحيح، و (لعن الله زوارات القبور) حديث آخر صحيح أيضًا.
(3) رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة , وفي بعض الروايات تعليل آخر لهذا اللعن غير تحذير المسلمين عن اتخاذ القبور مساجد وهو قولها: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا.
(4) هذه جملة من حديث آخر لها في هذا الموضوع عند مسلم , وهنالك ألفاظ أخرى بمعنى واحد , وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرضه الأخير قبل وفاته بخمسة أيام.
(5) رواه مالك في الموطأ.
(6) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة.
(7) رواه أحمد وأصحاب السنن عنها أيضًا وهو صحيح.
(8) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر إلا الترمذي ومن حديث أبي هريرة إلا أبا داود - وفي رواية (أنه لا يرد شيئًا) بدل لا يأتي بخير.
(9) المُكاء بالضم: هو صفير الطائر , والتصدية: الصوت الذي يجرى مجرى الصدى وهو ما يرجع عن غيره بالانعكاس وفسر بالتصفيق، قال تعالى في الجاهلية: [وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً] (الأنفال: 35) .(25/357)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلافة والمؤتمر الإسلامي
قرار كبار العلماء الرسميين في القاهرة
بلاغ رسمي للصحف
في يوم الثلاثاء 19 شعبان 1342 - 25 مارس سنة 1924 اجتمعت بالإدارة
العامة للمعاهد الدينية هيئة علمية دينية كبرى تحت رياسة حضرة صاحب الفضيلة
الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية العلمية الإسلامية ,
وبعضوية أصحاب الفضيلة: رئيس المحكمة العليا الشرعية، ومفتي الديار
المصرية، ووكيل الجامع الأزهر ومدير المعاهد الدينية , والسكرتير العام لمجلس
الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية، وشيخ المعاهد الدينية الكبرى , ومشايخ الأقسام
بالجامع الأزهر، والكثير من هيئة كبار العلماء , وغيرهم من العلماء والمفتشين
بالمعاهد الدينية؛ للمداولة في شؤون الخلافة الإسلامية , وقر قرارهم بعد بحث طويل
على ما يأتي:
1- كثر تحدث الناس في أمر الخلافة بعد خروج الأمير عبد المجيد من
الآستانة , واهتم المسلمون بالبحث والتفكير فيما يجب عليهم عمله قيامًا بما يفوضه
عليهم دينهم الحنيف؛ لذلك رأينا أن نعلن رأينا في خلافة الأمير عبد المجيد , وفيما
يجب على المسلمين اتباعه الآن وفيما بعد.
2- الخلافة - وتسمى الإمامة - رياسة عامة في الدين والدنيا , قوامها النظر
في مصالح الملة وتدبير الأمة. والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه
وسلم في حماية الدين وتنفيذ أحكامه , وفي تدبير شؤون الخلق الدنيوية على مقتضى
النظر الشرعي.
3- الإمام يصير إمامًا بالبيعة من أهل الحل والعقد، أو استخلاف إمام قبله.
ولا بد مع هذا من نفاذ حكمه في رعيته خوفًا من قهره وسلطانه , فإن بايع الناس
الإمام , ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم , أو استخلفه إمام قبله ولم ينفذ
حكمه في الرعية لعجزه؛ لا يصير إمامًا بالبيعة أو الاستخلاف.
وتستفاد الإمامة أيضًا بطريق التغلب وحده , فإذا تغلب شخص على الخليفة
واغتصب مكانه انعزل الأول. وقد يوجد التغلب مع البيعة أو الاستخلاف كما
حصل لأكثر الخلفاء في العصور الماضية. وهذا كله مستفاد صراحة من نصوص
السادة الحنفية.
4- ولما كان الإمام صاحب التصرف التام في شؤون الرعية , وجب أن
تكون جميع الولايات مستمدة منه وصادرة عنه: كولاية الوزراء، وكولاية أمراء
الأقاليم , وولاية القضاء، وولاية نقباء الجيوش وحماة الثغور.
5- وينحل عقد الإمامة بما يزول به المقصود منها: كأسره بحيث لا يرجى
خلاصه، وعجزه عن تدبير مصالح الملة والإمامة , ومتى وجد منه ما يوجب اختلال
أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين , جاز للأمة خلعه ما لم يؤد ذلك إلى فتنة،
فإن أدى إليها احتمل أخف الضررين.
6- رضي المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافة الأمير وحيد الدين عن خلعه؛
للأسباب التي علموها عنه , واعتقدوا أنها مبررة للخلع , ثم قدم الأتراك للخلافة
الأمير عبد المجيد معلنين فصل السلطة جميعها عن الخليفة , ووكلوا أمرها إلى
مجلسهم الوطني , وجعلوا الأمير عبد المجيد خليفة روحيًّا فقط.
7- وقد أحدث الأتراك بعملهم هذا بدعة ما كان يعرفها المسلمون من قبل , ثم
أضافوا إليها بدعة أخرى وهي إلغاء مقام الخلافة.
8- لم تكن خلافة الأمير عبد المجيد - والحالة هذه - خلافة شرعية , فإن
الدين الإسلامي لا يعرف الخليفة بهذا المعنى الذي حدد له ورضيه , ولم تكن
بيعة المسلمين له بيعة صحيحة شرعًا.
9- وإذا غضضنا النظر عن هذا وقلنا: إن البيعة صحت له. فإنه لم يتم له
نفوذ الحكم الذي هو شرط شرعي لتحقيق معنى الخلافة.
10- وإذا فرض أنه تم له وصف الخلافة بمعناها الشرعي , فقد انحل عنه
ذلك الوصف بعجزه حقيقة عن القيام بتدبير أمور الدين والدنيا , وعجزه عن الإقامة
في بلده ومملكته , وعن حماية نفسه وأسرته بعد أن تم للأتراك تغلبهم عليه.
11- والنتيجة لهذا كله أنه ليس للأمير عبد المجيد بيعة في أعناق المسلمين
لزوال المقصود من الإمامة شرعًا، وأنه ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف
الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده،
ولا يملكون هم تمكينه منها.
12- ولما كان مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين
له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر لما يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله،
ومن توحيد جامعة المسلمين , وربطهم برباط قوي متين - وجب على المسلمين أن
يفكروا في نظام الخلافة وفي وضع أسسه على قواعد تتفق مع أحكام الدين
الإسلامي , ولا تتجافى مع النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم.
13- غير أن الضجة التي أحدثها الأتراك بإلغاء مقام الخلافة والتغلب على
الأمير عبد المجيد , جعلت العالم الإسلامي في اضطراب لا يتمكن المسلمون معه
من البت في هذه النظم , وتكوين رأي ناضج فيها , وفيمن يصح أن يختار خليفة
لهم إلا بعد الهدوء والإمعان والروية , وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف
الجهات.
14- لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي , يدعى إليه
ممثلو جميع الأمم الإسلامية؛ للبحث فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية.
ويكون بمدينة القاهرة تحت رياسة شيخ الإسلام بالديار المصرية وذلك نظرًا لمكانة
مصر الممتازة بين الأمم الإسلامية , وأن يكون عقد المؤتمر في شهر شعبان سنة
1343 هـ (مارس سنة 1925م) .
15- ولا بد لنا من إعلان الشكر لكل من أبدى غيرة دينية إسلامية في أمر
الخلافة , وأظهر اهتمامًا بهذا الواجب.
16- ونعلن أيضًا شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي
ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون
الخلافة الإسلامية، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية
محضة , لا يجوز أن تتعدى دائرتها، ولا أن يهتم بها أحد من غير أهلها , والعالم
الإسلامي جميعه يريد أن يعيش بسلام مع الأمم الأخرى , وأن يحافظ على قواعد
دينه الحقة، ونظمه البريئة بطبعها من العدوان.
17- هذا ما رأينا من الواجب الديني علينا إذاعته إلى العالم الإسلامي في
مختلف البقاع , وإلى الأمم الأخرى؛ ليكون الجميع على بينة من الأمر.
القاهرة في 19 شعبان سنة 1342 و (25 مارس سنة 1924) .
(ويلي ذلك الإمضاءات)
***
موافقة علماء الإسكندرية على قرار علماء الأزهر
(اجتمع جمهور علماء الإسكندرية , ووضعوا البيان التالي بعد أن كثر
القول في مخالفتهم لعلماء الأزهر) .
نحن علماء معهد إسكندرية نظرنا في القرار الذي وضعه أصحاب الفضيلة
العلماء , الذين اجتمعوا في الإدارة العامة للمعاهد برئاسة صاحب الفضيلة مولانا
شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية , فوجدناه مشتملاً على موضعين:
(أحدهما) الحكم الشرعي في خلافة الأمير عبد المجيد.
(وثانيهما) لزوم عقد مؤتمر إسلامي عام للنظر فيمن تسند إليه الخلافة بعدما
تنحى الأتراك عنها.
(أما الأول فقد راجعنا بشأنه قرارات الجمعية الوطنية بأنقره، واطلعنا على
قرارها الصادر بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922 المندرج بجريدة المقطم الصادر
بتاريخ 16 نوفمبر سنة 1922 القاضي بسحب السلطة بنوعيها التشريعية والتنفيذية
من الخليفة , وجعلها حقًّا خاصًّا بالجمعية المذكورة , وجعل الخلافة في آل عثمان ,
وجعل حماية الخلافة راجعة للجمعية، والذي يقضي بتجريد الخليفة من كل اشتراك
أو تدخل في تدبير شؤون الرعية وحراسة المسلمين بما يقتضيه النظر الشرعي في
مصالحهم. واطلعنا أيضًا على قرار الجمعية المذكورة الصادر في 18 نوفمبر سنة
1922 المندرج بجريدة الأهرام عدد 13917 الصادر في 8 ديسمبر سنة 1922
القاضي بخلع الأمير وحيد الدين وتولية الأمير عبد المجيد خليفة مع مراعاة
الأصول المرعية في قرار أول نوفمبر السالف الذكر. واطلعنا على صورة
التلغراف الصادر من الأمير عبد المجيد إلى رياسة مجلس الأمة الكبير المنشور
بجريدة المقطم عدد 10262 الصادر بتاريخ 9 ديسمبر سنة 1922 ردًّا على
التلغراف الصادر من مجلس الأمة الكبير بتاريخ 18 نوفمبر سنة 1922 الذي جاء
فيه: إن الأمة قد احتفظت لنفسها بالسيادة في تركيا بلا قيد ولا شرط طبقًا لأحكام
دستورها الذي يوحد بين القوتين التشريعية والتنفيذية، ويجمعهما في مجلس الأمة
الكبير شاكرًا المجلس على انتخابه لمقام الخلافة , مع تجريده عن السلطتين
التشريعية والتنفيذية. وحيث إن انتخابه لمقام الخلافة كان على شرط أنه ليس له من
الأمر شيء، وقد أقرهم على ذلك وشكرهم عليه فقد تبين أنه وقع انتخابه لوظيفة
لم يبق فيها لأعمال الخلافة الشرعية شيء , فلا تعد البيعة التي حصلت من
المسلمين له بيعة بالخلافة.
نعم إن المسلمين ما كانوا في غفلة عن هذا حينما بايعوه , ولكن دعاهم إلى
البيعة بل إلى الإسراع بها ذلك الظرف العصيب , والمحنة التي تجهمت للمسلمين
إذ ذاك بفرار وحيد الدين على ظهر مركب أجنبي مناديًا بأنه لا يزال خليفة
المسلمين , فلم يشك أحد في أنه بعد أيام سيكون في الهند مثلاً بهذا اللقب. وهذا مما
يفت في عضد الإسلام وأهله , ويحدث صدعًا خطرًا في بناء الهيئة الإسلامية، ثم
في الوقت نفسه انهالت الطلبات على كبار حكام الترك لتعيين امتيازات الخليفة
الجديد؛ لتحقيق مبدأ الخلافة في حدود الشورى، فكانت أجوبتهم متحدة بأن الخليفة
الآن محصور بجيوش الحلفاء بالآستانة , فلا نأمن أن يتخذوا مقام الخلافة سلاحًا
للنكاية بالترك , وبعد جلاء الجيوش تعين له الامتيازات. فهذا طمأن المسلمين على
أنها ستكون خلافة شرعية , وأن تجريدها مؤقت وذاك ما أوجب سرعتهم في البيعة
حتى يقطعوا السبل في وجه الغادر بالمسلمين وحيد الدين.
وحيث إن الأمير عبد المجيد بويع في هذه الظروف , وليس له من رئاسة
المسلمين شيء , ولم يحقق الأتراك وعدهم بشأنه للمسلمين بل شردوه من بلاده-
فإنا نوافق على القرار القاضي بأنه لا بيعة له في رقاب المسلمين، وأن مقام
الخلافة الآن خال لا يشغله إمام.
وأما (الثاني) وهو لزوم الدعوة للمؤتمر الإسلامي العام فإنا نحبذه كل
التحبيذ؛ لأن الحالة التي أصبح فيها المسلمون توجب عليهم شرعًا التذرع بجميع
الوسائل النافعة لخلاصهم من هذه الورطة الشديدة التي وقعوا فيها , وليس أمامهم منها
إلا عقد مؤتمر إسلامي عام يعالج حل هذه المعضلة وكشف هذه البلية.
والله سبحانه يتولى المسلمين بعنايته , ويوفقهم لجمع الكلمة على ما به
سعادتهم في الدنيا والآخرة اهـ.
وضع هذا البيان أصحاب الفضيلة علماء الإسكندرية في 27 رمضان الماضي
(2 أبريل) , وقدموه ممضيًّا منهم إلى مشيخة الإسكندرية، وأرسله مراسل جريدة
الأهرام في الإسكندرية إليها في 19 أبريل فنشرته على الناس.
(تأثير قرار كبار العلماء، وفوضى العلم والدين في هذه الديار)
لما أذاعت الجرائد تسمية منح حكومة أنقرة لعبد المجيد أفندي نجل السلطان
عبد المجيد لقب خليفة لموافقته إياها على الفصل بين الدين والدولة وبين الخلافة
والحكومة؛ بادر كثير من علماء الأزهر وعلماء سائر المعاهد الدينية التابعة له إلى
مبايعة عبد المجيد بالخلافة الإسلامية النبوية , ونشروا نصوص مبايعتهم في
الصحف اليومية كغيرهم من الطبقات التي لا تعرف أحكام الإمامة الإسلامية
وشروطها , بل اغتر بهم أكثر الذين بايعوا واتبعوهم.
وإننا على علمنا بأن مبايعتهم هذه لغو لا يترتب عليها حكم , ولا تجعل الرجل
خليفة مطلقًا ولا إمامًا متبعًا في الدولة التركية ولا في غيرها بالأولى؛ لأنهم ليسوا
أهل الحل والعقد هنالك ولا هنا - إننا على علمنا بهذا تألمنا لوقوع هذه المبايعة
ضنًّا بكرامة علماء مصر أن يصدر عن الجماعات الكثيرة العدد منهم مبايعة باطلة
شرعًا، ولما يترتب على ذلك من تأييد جماعة أنقرة العابثين بهذا المقام الأعلى في
الأمة الإسلامية. وقد عجبنا أشد العجب من إقدامهم على هذا العمل , ولم نجد له إلا
أحد تعليلين لا مانع من اجتماعهما للبعض: الغفلة المطلقة عن أحكام الخلافة،
ونسيانها لعدم وضعها موضع البحث والعمل , أو الجريان في تيار السياسة
ومجاراة العوام فيها. وإنا لنكره لهم كلاًّ منهما، ونود تكريمهما وتنزيههما عنه، وإنما
أخطر ببالنا التعليل الأول ما كان وقع لنا مع عالمين من أذكى علماء الأزهر:
أحدهما من قضاة الشرع , والآخر من المدرسين , كانا قد زارانا قبل حادثة الخلافة
بسنين , فكان من شجون الحديث بيننا أن ذكرت مسألة الخلافة وشرط النسب
القرشي فيها , فقال الشيخان: إن مذهبنا الحنفي لا يشترط هذا الشرط. قلت: لا
خلاف في هذه المسألة بين مذاهب أهل السنة الأربعة ولا غيرهم بل هي إجماعية
عندهم. فأنكرا ذلك فجئتهم بالنص عليه من شرح البخاري والمواقف والمقاصد
وغيرها، وقد بينا مسائل الخلافة مفصلة تفصيلاً , ونشرناها في المنار وكلمنا
بعض الأزهريين في خطئهم , وأقمنا لهم الحجج على بطلان ما فعلوه فأصروا عليه.
ثم بطشت أنقرة بطشتها الكبرى , فألغت خلافتها أصلاً وفرعًا، وطردت
صاحب لقب الخلافة من بلادها وسائر الأسرة السلطانية فرادى وجمعًا، ولكن
علماءنا المبايعين ثبتوا على بيعتهم , وزعموا أن عبد المجيد أفندي المنفي في
سويسرة من بلاد أوربة لا يزال كما لقبوه هم وأمثالهم من غير قومه: إمام
المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، وأن بيعته لا تزال في الأعناق، وطاعته
واجبة على الشعوب والأفراد، ونصرته على حكومة بلاده محتمة ولو بالقتال،
فعدنا إلى الكتابة في المسألة , ونشرنا بعض المقالات في جريدة الأهرام، ورغبنا
إلى شيخ الأزهر في تلافي هذه الفوضى وحفظ كرامة العلماء.
ثم اجتمع كبار العلماء تحت رياسته , عند وجود الباعث ووضعوا قرارهم
ونشروه في الصحف اليومية كلها , وأيدهم فيه كبار علماء الإسكندرية، واعتذر
هؤلاء عن مبايعة جمهور العلماء بما هو صريح تعليلنا الثاني , وهو اعتذار يصدق
في بعض أولئك المبايعين دون بعض، ويؤيد هذا ما حدث بعد، وهو إنكار
الكثيرين منهم لقرار كبار العلماء، ثم إن هؤلاء ألفوا لجنة المؤتمر ودعوا إليها
بعض أولئك المصرين فرجعوا عن رأيهم وقولهم , وأصر آخرون وأنشؤوا ينشرون
المقالات في الجرائد في الرد على القرار، وشايعهم على ذلك آخرون من سائر
الطبقات، ولا سيما الذين سبقوا إلى تأليف لجنة أو لجان لأجل المؤتمر المقترح.
ساءتنا هذه الفوضى , وساءنا تصدي بعض الأزهريين أنفسهم للرد على
شيوخهم وكبار مُعِدِّهم حتى بالباطل، وبالخروج عن الأدب اللائق، حتى إننا كنا
في أواخر رمضان شرعنا في كتابة مقالة في تأييد كبار العلماء , والدفاع عنهم من
غير أدنى طعن في غيرهم , فأمسكنا عن إتمامها قرفًا من هذه الفوضى التي أحدثتها
حرية النشر في البلاد. ومن يضلل الله فما له من هاد.
__________(25/367)
الكاتب: محمد بهجت الأثري
__________
عالم العراق ورحلة أهل الآفاق
السيد محمود شكري الألوسي
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم
انتزاعًا ينتزعه من العباد , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم؛
اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلّوا وأضلوا) متفق عليه من
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقد قبض الله تعالى إليه في الرابع من شهر شوال الماضي عالم العراق
ورحلة أهل الآفاق، ناصر السنة، قامع البدعة، محيي هدي السلف، حافظ فنون
الخلف، علامة المنقول، دراكة المعقول، دائرة المعارف الإسلامية، نبراس الأمة
العربية، حجة العترة النبوية، عميد الأسرة الألوسية، صديقنا وأخانا في الله عز
وجل السيد محمود شكري الألوسي قدس الله روحه.
كان - رحمه الله تعالى - إمامًا يقتدى به في علمه وعمله وهديه وآدابه
وفضائله. وقف جميع حياته على علوم الإسلام وفنون اللغة العربية في هذا العصر
الذي قل فيه الاشتغال بالعلم والأدب في تلك البلاد بين أهل السنة، وكاد ينحصر
في الشيعة، فبعد أن كانت بغداد في عهد العباسيين عاصمة العلوم والفنون في
الأرض، وكانت المدرسة النظامية فيها أول مدرسة جامعة في العالم، ثم بعد أن
كان يوجد فيها في كل عصر أفراد نابغون كجد الفقيد صاحب روح المعاني (رحمه
الله تعالى) استقبلنا هذا القرن الرابع عشر للهجرة من أوله في الاشتغال بالعلم ,
وصار لنا بنشر المنار وبالسياحة علم واختبار بأحوال الأقطار الإسلامية , فلم نسمع
للعلوم العربية والدينية على مذهب السنة صوتًا إلا من هذا الرجل، لهذا لقبناه في
مكتوباتنا له بعالم العراق، كما لقبنا المرحوم جمال الدين القاسمي بعالم الشام.
إنما العالم من كان مستقلاًّ في فهمه للعلم واستدلاله على مسائله , وقد مات
العلم الحي المنتج في بلاد الإسلام بالتقليد رويدًا رويدًا , حتى صار وجود العالم
(المستقل) نادرًا، وصار إذا وجد متهمًا في دينه من أهل الحشو والجمود من
أصحاب العمائم المكورة، والأردان المكبرة، والأذيال المجررة.
إن التعليم في المدارس الدينية الإسلامية كله تقليدي , فإذا رأيت عالمًا مستقلاًّ؛
فاعلم أنه لا فضل لمدرسته ولا لشيوخها في ذلك , بل سببه استعداد خاص فيه، قارنه
إرشاد مرشد من غير العلماء الرسميين في الغالب - أو اطلاع على بعض
المصنفات التي ترشد إلى العلم الصحيح , فلقحه فأثمر وأنتج، وحسب فقيدنا الكريم
أنه كان في أثناء طلب العلم يراجع تفسير جده , أو يطالع كتاب أستاذه وعمه
(جلاء العينين) فهما يرشدانه إلى ترك التزام ما قرره أفراد من العلماء لتسميتهم
علماء مذهبه , ونبذ كل ما أثر عن غيرهم من علماء الملة؛ وإن وضح دليلهم لأنهم
أئمة مذاهب أخرى أو منسوبون إليها. وما يدرينا لعل عمه السيد خير الدين كان
يرشده إلى الاستدلال والاستقلال ولو في الأصول، وإن كان كوالده صاحب
التفسير يلتزمان التقليد في الفروع، فمهما تكن حالهما في التدريس والفتوى , فقد
كانا غريبين في عصرهما؛ لما أوتيا من سعة الاطلاع وعدم الجمود على المألوف
عند الأشياخ، دع التعصب الذميم للمذهب.
والذي يظهر لنا أن الأستاذ - رحمه الله - لم يعن بالدعوة إلى الاستقلال
وترك التقليد وتربية نشء جديد يقوم بذلك، على ما كان عليه من الشجاعة وعدم
المبالاة بالدنيا وأهلها، ولو عني بهذا لكان له به شغل عن شرح فاتحة كتاب
المطول للسعد وأمثالها، ولعل عذره أنه لم يجد في بغداد طلابًا مستعدين , ولذلك لم
نر له غير تلميذ واحد يرجى أن يكون خلفًا صالحًا له في التدريس والتصنيف
وإحياء موات الكتب النافعة بالتنقيب عنها، واستنساخها، والسعي لطبعها، وفي غير
ذلك من فضائله، ألا وهو الأستاذ الشيخ محمد بهجت الأثري - فقد عهد الفقيد إليه
بمكاتبتنا بالنيابة عنه لما تناوبته الأمراض في السنين الأخيرة فرأينا من مكتوباته
خير مثال لمكتوبات أستاذه في اللفظ والمعنى، وفي الخط أيضًا فخطه كخطه كأنه
هو، ولولا آمالنا بهذا لكان حزننا على فقيدنا العزيز مضاعفًا أضعافًا كثيرة، وهو
الذي تفضل علينا بترجمته المفصلة الآتية، فنبدأ بنشرها، ثم نقفي عليها ببعض
الفوائد في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
***
ترجمة الفقيد
هو العالم الكبير، التقي الورع الزاهد، تذكرة السلف، وحجة الله على
الخلف، الإمام السيد محمود شكري ابن العالم الصوفي السيد عبد الله بهاء الدين ابن
إمام القرن الثالث عشر أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين صاحب تفسير (روح
المعاني) ابن السيد عبد الله رئيس المدرسين في بغداد ومدرس المدرسة العظمى في
جامع الإمام أبي حنيفة , ابن السيد محمود الخطيب الألوسي البغدادي، وينتهي
نسبه إلى الإمام الحسين رضي الله عنه.
ولد ببغداد في (19 رمضان سنة 1273 هـ) . في بيت عريق في الحسب
والنسب، ضليع في العلم والأدب، ينسب إلى ألوس (بالقصر على الأصح) وهي
قرية على الفرات قرب (عانات) نبغ فيها قديمًا كثير من الفضلاء: كمحمد بن
حصن بن خالد، والمؤيد الشاعر المتوفى سنة 557 هـ الذي اتهمه المقتفي لأمر
الله بممالاة السلطان ومكاتبته , فأمر بحبسه في خبر ليس هذا محله.
وقد فر إليها أحد أجداده من وجه هولاكو عندما دهم بغداد وفتك بأهلها، ومنذ
نحو ثلاثمائة سنة رجع أبناؤه إلى بغداد ولبثوا فيها , وبنوا لهم بجدهم واجتهادهم
مجدًا رفيعًا.
يبلى الزمان وحسنه يتجدد
نشأ - رحمه الله - في حجر والده كما ينشأ ربيب العز والمجد، وتلقى عنه
القراءة ومبادئ النحو والصرف والحساب , وأتقن عليه الخط فاشتهر وهو صغير
بإجادته , وكان يعتني بتربيته وتهذيبه لما يتوسم فيه من أمارات النباهة والذكاء،
ثم بعد وفاة أبيه لازم عمه العلامة السيد نعمان الألوسي وأكب على المطالعة وعكف
على اكتساب العلم , وأكمل دروسه على سائر علماء بغداد فأتقن علوم الأدب والفقه
والحديث والتفسير , والهيئة والحكمة الطبيعية والإلهية ومنطق اليونان والجبر
وغير ذلك، وتعلم من اللغات الفارسية والتركية، وألف وهو ابن عشرين عامًا ,
وكان كتاب (شرح الثناء) باكورة مؤلفاته , ودرس في بادئ أمره في بيته , ثم
انتقل إلى مدرسة (جامع العدلية) , ثم أسند إليه تدريس مدرسة والسيد سلطان علي
وتدريس المدرسة الداودية (الحيدر خانة) , وأخيرًا أحيل إليه تدريس (مدرسة
مرجان) , فترك تدريس (السيد سلطان علي) لأحد أبناء أسرته اكتفاء بمدرسة
مرجان والحيدرية، وقد تخرج به كثيرون اشتهروا بالعلم أو الأدب كابن عمه شيخنا
العالم الأديب الكبير المغفور له السيد علي علاء الدين الآلوسي، ومعروف الرصافي
الشاعر المشهور , وأخذ اسمه ينتشر، وشهرته تتعاظم يومًا بعد يوم بدروسه التي
يلقيها على تلامذته الكثيرين ومؤلفاته التي تنمقها أنامله وتدبجه يراعته العسالة،
ولا سيما كتابه (بلوغ الأرب في لسان العرب) الذي ألفه تلبية لنداء لجنة الألسنة
الشرقية المنعقدة في (استوقهلم) بدعوة (أسكار الثاني) ملك أسوج ونروج. فقد
اقترحت هذه اللجنة منذ نحو أربعين عامًا على علماء الشرق والغرب تأليف كتاب
يعرب عن أحوال العرب قبل الإسلام ويستوعب بيان ما كانوا عليه في جاهليتهم
من العوائد والأحكام وغير ذلك , فأجاب هذا الاقتراح كثير من علماء الشرق
والغرب ومن بينهم المترجم , وعرض كل منهم مؤلفه على تلكم اللجنة , ولدى
السبر أدركت أن أجمعها مادة، وأوسعها جادة، وأغزرها فائدة، وأجزلها عائدة،
وأزيدها إيضاحًا، وأقربها مراعاة للشروط التي ألزمتها اللجنة من يريد الخوض في
عباب هذا البحث - هو كتاب (بلوغ الأرب) فاستحق الكتاب التقريظ والإطراء , كما
فاز مؤلفه دون سواه بالوسام الذهبي والجائزة.
وقد بعث إليه (الكونت كرلودي لندبرج قنصل أسوج ونروج العام في مصر
ووكيلها السياسي) برسالتين - فيما أعلم - أثنى بهما عليه وشكر له عنايته ,
ووعده بطبع كتابه تخليدًا لمآثره في خزائن الآداب، وقد نشرت إحداهما في أواخر
الكتاب، والثانية في جريدة (الزوراء) التي كانت تصدر في بغداد.
هنالك - بعد ما طبع الكتاب ونشر اسم الفائز في ذلك المضمار البعيد المدى -
كتبت الصحف والمجلات السيارة في الشرق والغرب الفصول الضافية الذيول في
تقريظ الكتاب وإطراء مؤلفه النابغة الذي نشأ في بيئة منحطة علمًا وأدبًا , فسبق
بجده واجتهاده كل من حبر وكتب من أبناء البلاد المتقدمة في مضمار العلم
والأدب، فطار صيته في الآفاق، وعرف فضله الخاص والعام حتى يكاد لم يبق
أحد لم يسمع باسمه. وتعرف به كثير من أفاضل المستشرقين , واستفادوا من
فضله وسعة اطلاعه , نخص منهم بالذكر العلامة مرغليوث الإنجليزي صاحب
المؤلفات الكثيرة , وصديقنا الجهبذ البارع لويز ماسنيون الفرنسي.
وقد عرف الأمراء والولاة فضله فقربوه منهم , وعرضوا عليه مناصب في
الحكومة سامية , فزهد فيها ورغب عنها؛ لانصرافه بكليته إلى العلم، ومقته
الاشتغال في المناصب , والتزلف من الحكام وكل ما يصده عن خدمة العلم والأدب،
حتى إنه رغب عن لذات الدنيا ولم يتزوج قط. ولما جاء الوزير سري باشا التركي
واليًا على بغداد، أدناه منه كثيرًا دون غيره من علماء بغداد واستفاد من محاضراته
الأدبية ومحاوراته العلمية، ثم اقترح عليه بإلحاح بأن يتولى إدارة جريدة (الزوراء)
وهي أول جريدة أنشئت في بغداد أنشأها الوزير مدحت باشا الشهير , وأن ينشئ
فيها القسم العربي , فلما لم يجد منه بدًّا لباه، وأجاب نداه، فتولى شؤونها وكتب
فيها بعض المقالات الأدبية , ونشر قسمًا من (بلوغ الأرب) وأعمل حركة أدبية في
ذلك الجو الساكن القاتم ذلك اليوم , بما كان يعرضه فيها من الأسئلة في شتى
العلوم على علماء البلد.
وقد كان عصر الفقيد الذي تلقى فيه العلم عصر تقليد وجمود على الرث البالي،
يتلقى الطالب ما يقرؤه في كتب الأعاجم المؤلفة في عصور التأخر والتقهقر بالتسليم،
ويأخذ ما يتلقفه من مشايخه بالقبول من غير نقد أو تمحيص، ويحرص عليه
حرصًا يجره إلى تكفير كل من يخالفه غالبًا، فاستمر الفقيد على هذه الطريقة
العوجاء متأثرًا بها، حتى برقت له بارقة اليقين، وقد تجاوزت سنه الثلاثين، فهدته
بنورها الخلاب إلى المحجة البيضاء التي لا يضل سالكها، وكسر أغلال التعصب،
وفك ربقة الجمود من عنقه، وأطلق طائر فكره من قفص التقليد الأعمى إلى فضاء
التساهل والتيسير، والتبشير دون التنفير، وطفق يأخذ بالكتاب والسنة، وبما
يوافقهما من كلام سلف الأمة من غير تحزب لشيعة أو مذهب، فصدع - بعد أن
رسخت قدماه بالأخذ بالدليل - بالحق , وشن غارات شعواء على الخرافات المتغلغلة
في النفوس والتقاليد الذميمة بمؤلفاته العديدة، تلك المؤلفات التي زعزعت أسس
الباطل، وأحدثت بين حين وآخر انقلابًا عظيمًا في الأفكار: ككتاب المنحة الإلهية،
وغاية الأماني , والسيوف المشرقة , وصب العذاب , وفتح المنان وغيرها.
ودعا المقلدين الجامدين إلى الهدى، وترك ما وجدوا عليه آباءهم، فشالت
نعامتهم وصبوا عليه جام التشنيع في المجالس، ونبذوه بالوهابية وهي كلمة يعظم
وقعها على الهمج والرعاع، وناصبوه العداء، غير أنهم لم يجدوا لأنفسهم عليه
سبيلاً. إلى أن كانت سنة 1320 فسعوا به إلى والي بغداد وهو يومئذ عبد الوهاب
باشا , وكان من الحشوية الضالين يناصب كل من يدعو إلى الإصلاح، المتوقف
عليه الفلاح والنجاح، فاتخذ بعض التدابير السيئة , وكتب لعبد الحميد ولأبي
الهدى يخبرهما (بأن الفقيد له تأثير كبير على نفوس العراقيين لمنزلته العلمية
الكبرى , وأنه أخذ ينشر مبادئ الوهابيين , ويؤسس مذهبًا جديدًا مخالفًا لمذهب أهل
السنة! ! وأن دعوته أخذت بالانتشار في سائر أنحاء العراق، فمن الخطر العظيم
إذا ظل الرجل ينشر دعوته ومبادئه) ! فجاء الأمر من عبد الحميد بنفيه ونفي كل
من ينتمي إليه , فنفي هو وابن عمه السيد ثابت الألوسي والحاج حمد العسافي من
التجار الصالحين إلى الأناضول , وما كادوا يصلون الموصل حتى قام رؤساؤها
لهذا الظلم وقعدوا، فكتبوا لعبد الحميد يكذبون ما نسب للفقيد , ويطلبون إليه إرجاعه
ومن معه إلى وطنهم , فقبل شهادتهم فيه وأمر بإرجاعهم بعد أن قضوا في
الموصل الحدباء شهرين لاقوا فيهما من حفاوة أهلها الكرام ما يعجز عن بيانه اللسان،
ويكل دون سطره البنان , فعادوا سالمين غانمين، وعاد الشامتون نادمين على ما
فرطوا في جنب الشيخ قارعين سن الندم على ما عملوا.
أكب - رحمه الله - بعد عودته على التدريس والتأليف والنشر وخدمة العلم
الصحيح بكل ما يصل إليه جهده , إلى أن كانت سنة 1330 هـ فأدناه الوالي
(وهو يومئذ جمال باشا) منه، فكان يشاوره في الأمر، ويأخذ منه الرأي السديد
في الحادثات، ثم اتفق أن ناصب الوالي بعض أعداء الفقيد من وجهاء بغداد ,
ففصله عن منصبه (وهو عضوية مجلس الإدارة) فعرضه على الفقيد , فزهد فيه
فألح عليه إلا القبول , فلما لم يجد منه بدًّا قبله , وبقي فيه مدة من الزمن كان فيها
نصير الحق وحليف الإنصاف، وسار كما هي شيمته سيرة مرضية وأخذ بضبع
المظلومين ولم يمكن منهم الظالمين. إلى أن كانت السنة الأولى من سنين الحرب
العامة , فندبته الحكومة للذهاب إلى صاحب نجد في أمر سياسي خطير - ليس هذا
محل ذكره - فرحل إليه عن طريق سورية فالحجاز فنجد , واجتمع به فأكرم نزله
واحتفى به حفاوة عظيمة لعظم منزلته العلمية وكبير تأثيره , ففاوضه الفقيد في
الأمر الذي جاءه به من قبل الحكومة العثمانية، ثم رجع أدراجه.
وتفقد معاهد العلم وخزائن الكتب الحافلة بالآثار الجليلة النادرة في سورية
والحجاز ونجد , واجتمع به أكابر علماء هاتيك الأقطار , فاستفادوا منه علمًا جمًّا
وأدبًا غضًّا. وهنالك عندما وصل إلى الشام عائدًا بخفي حنين ظن الناقمون عليه
أنهم وجدوا لهم سبيلاً لإيذائه , فأغروا به جمال باشا السفاح الذي استدنى الفقيد منه
يوم كان واليًا على بغداد، زاعمين - وبئس الزعم ما زعموا - أنه هو الذي متن
صاحب نجد على الحكومة, فلم يصغ إليهم لما يعهد فيه من الصدق مع الحكومة،
والحرص على جمع كلمة المسلمين.
ثم عاد - رحمه الله - بعد أن نجا من كيد الجاهلين إلى بغداد , وعاد إلى
سيرته الأولى ودرس وألف وأفتى حتى سقوط بغداد بيد الإنجليز , فعرضوا عليه
القضاء وغيره , فزهد فيه وامتنع عن التدخل معهم، ثم عرض عليه زمن تشكيل
الحكومة العربية المؤقتة الإفتاء فرياسة مجلس التمييز الشرعي فالقضاء فالمشيخة
الإسلامية وغيرها , فرفض كل وظيفة غير خدمة العلم الصحيح ونشره بإخلاص
وصدق بين أفراد الأمة تدريسًا وتصنيفًا , وانتخب أخيرًا عضوًا لمجلس المعارف
كما انتخبه المجمع العلمي العربي الزاهر في دمشق عضو شرف، ولم يزل يخدم
العلم والأدب بإخلاص , وشأنه يزداد يومًا فيومًا علوًّا ورفعة حتى توفاه الله (يوم
الخميس 4 شوال سنة 1342 هـ) .
وقد كان رحمه الله إمامًا في معرفة مذهب السلف، يأخذ بالدليل دون التقليد،
شديد الإنكار على الحشويين لا يعرف المحاباة ولا المداجاة , يقول للمصيب:
أصبت. وللمخطئ: أخطأت. وللصادق: صدقت. وللكاذب: كذبت.
وكان مستجمعًا للفضائل , عظيم التواضع , كثير الحياء , غض الأدب , أبي
النفس , عزيز الجانب , أريحيًّا لطيف المعشر ساعة الرضى , يقتبس منه الجليس
النادرة إثر الشاردة ولا يمله , بل يود لو أنه يصاحبه الدهر، يورد النكتة في حديثه
فيطرب لها السامع ولا يكاد ينساها.
وكان قوي الشكيمة , شديد الغضب , سريع الرضى , طاهر القلب , لا يفتر
لحظة عن التفكر في مستقبل الإسلام وأهله , وقد بالغ في ذلك حتى أدى به إلى
تعب الخاطر , ونحول الجسم. وكان مهيبًا وقورًا , ولا أتذكر أنني ملأت عيني
منه يومًا.
وكان بعيدًا عن التأنق في المأكل والملبس والاغترار بالمظهر الكاذب، وإن
رائيه - لولا ما عليه من نور النبوة - ليحسبه من سائر الناس لعدم اعتنائه بنفسه
ولكن لسان حاله يقول نحو ما قاله الإمام الشافعي نفسه:
علي ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تباع بمثلها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبرا
وقد خدم - رحمه الله - العلم والأدب خدمة قل من تسنى له مثلها، ومؤلفاته
الكثيرة في شتى الأبواب شاهد عدل على ما أقول. وإليك أسماءها:
***
مصنفات الفقيد
مرتبة على الحروف
(1) إتحاف الأمجاد في ما يصح به الاستشهاد. رسالة صغيرة فرغ من
تأليفها في 21 صفر سنة 1301 هـ) .
(2) الأجوبة المرضية عن الأسئلة المنطقية: في (42 صفحة) فرغ منه
في 13 صفر سنة 1340 هـ.
(3) أخبار بغداد. في ثلاثة أجزاء:
(الأولى) في (بيان حال بغداد) ومحالها وقصورها وقراها المجاورة لها
ووصف مبانيها وما آل إليه أمرها على سبيل الإجمال , ولم يستوعب الكلام على
ما جرى عليها في عنفوان شبابها وأيام هرمها وهو في نحو 15 كراسة.
(الثاني) في تراجم العلماء والأدباء الذين اشتهروا في القرن الثالث عشر
في بغداد. وقد سماه (المسك الأذفر) وهو في 450 صفحة بقطع الربع.
(الثالث) في وصف مساجد بغداد وتاريخ بنائها إلخ في نحو 140 صفحة.
(4) أخبار الوالد. جزء لطيف في ترجمة أبيه.
(5) إزالة الظماء بما ورد في الماء. في نحو كراسة.
(6) الأسرار الإلهية شرح القصيدة الرفاعية. طبع بمصر سنة 1305 هـ
وهو من مؤلفاته في نشأته الأولى!
(7) أمثال العوام في مدينة دار السلام. مجموع ما يدور على ألسنة العوام
من الأمثال المشهورة - نقل اللفظ العامي من غير تغيير وربما غيره إلى ما يقاربه
التعبير تحاشيًا عن بعض الألفاظ العجمية … رتبه على حروف الهجاء، وهو في
نحو 80 صفحة.
(8) الآية الكبرى، على ضلال النبهاني رائيته الصغرى. كتاب جدلى في
نحو (50 صفحة) فرغ من تأليفه سنة 1330 هـ.
(9) بدائع الإنشاء. في جزئين:
(1) مجموع رسائل والده في (..) صفحة.
(2) مجموع مكاتباته أدباء العصر في (340) صفحة.
(10) بلوغ الأرب في أحوال العرب. طبع في بغداد سنة 1318 هـ في
ثلاثة مجلدات , ويطبع اليوم في مصر مصححًا ومشروحًا بقلم كاتب السطور،
وكان قد نقل بعضه الشاعر البليغ عبد الحميد الشاوي الحميري إلى التركية وأسماه
(منتهى الطلب في ترجمة بلوغ الأرب) ونشر طرفًا منه في جريدة (الزوراء) .
(11) بنان البيان. متن صغير في علم البيان.
(12) تاريخ نجد. طبعت مقدمته في إحدى المجلات البغدادية وفقد باقيه.
(13) تجريد السنان في الذب عن أبي حنيفة النعمان. رد على بعض غلاة
الشافعية في نحو مائتي صفحة بالقطع الكبير , وهو كتاب جليل يشتمل على مطالب
في الفقه مهمة , فرغ منه في أواخر شعبان سنة 1306هـ.
(14) ترجمة رسالة للقوشجي. في 7 كراسات ولم أره، ولعله فقد.
(15) الجواب عما استبهم من الأسئلة المتعلقة بحروف المعجم. جواب
عن أسئلة السيوطي السبعة التي لم يجب عنها أحد في زمانه فرغ منه في 15
رمضان سنة 1319 هـ وهو في 40 صفحة.
(16) الجوهر الثمين، في بيان حقيقة التضمين. في 50 صفحة.
(17) الدر اليتيم، في شمائل ذي الخلق العظيم. لم يتمه.
(18) الدلائل العقلية على ختم الرسالة المحمدية. في نحو 40 صفحة فرغ
منه في 17 ذي القعدة سنة 1317هـ.
(19) رسالة في كيفية استخراج القياس. أظنها فقدت.
(20) رياض الناظرين، في مراسلات المعاصرين. في نحو 560 صفحة
(21) الروضة الغناء، شرح دعاء الثناء: هو باكورة مؤلفاته ألفه سنة
1294هـ.
(22) سعادة الدارين، في شرح حديث الثقلين. هو رسالة في الرد على
الرافضة باللغة الفارسية للشيخ عبد العزيز الملقب بغلام حليم ابن الشاه ولي الله
أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الفاروقي مصنف - حجة الله البالغة -، وقد
عربها المترجم , وضم إليها بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث , ورتبها على
مقدمة ومقصد وخاتمة , فرغ منه في شهر رمضان سنة 1336هـ وهو في 40 صفحة.
(23) السيوف المشرقة، مختصر الصواعق المحرقة، للشيخ محمد
الشهير بخواجه نصر الله الهندي. رد على الرافضة في 300 صفحة بالقطع الكبير
فرغ منه سنة 1303هـ.
(24) شرح أرجوزة تأكيد الألوان. نشر في مجلة المجمع العلمي العربي
في دمشق (م1 ص76) .
(25) شرح خطبة المطول. لم أره.
(26) شرح منظومة عمود النسب. في نحو 1000 صفحة , وقد وصفناه
في مجلة المجمع العربي (م3 ص 105) .
(27) شرح القصيدة الشاوية. في نحو 80 صفحة , والقصيدة للأديب
الكبير أحمد بك الشاوي الحميري - رحمه الله - في مدح الشارح.
(28) شرح منظومة الشيخ حسن بن العطار في الوضع أحد الفنون العربية.
(29) صب العذاب، على من سب الأصحاب. رد على أرجوزة لبعض
الرافضة من سكان كربلاء، في مائة صفحة وصفحتين. فرغ منه في 11 جمادى
الأول سنة 1304هـ.
(30) الضرائر، فيما يسوغ للشاعر دون الناثر. كتاب جليل كنت قد
شرحته في أوائل ملازمتي له وعنيت بنشره , وطبع في المطبعة السلفية بمصر
سنة 1340هـ.
(31) عقد الدرر شرح مختصر نخبة الفكر. في مصطلح الحديث والمتن
للشيخ عبد الوهاب بركات الشافعي الأحمدي.
(32) عقوبات العرب في جاهليتها , وحدود المعاصي التي يرتكبها بعضهم.
رسالة لطيفة نشرتها في ممتاز جريدة العراق لعامها الخامس.
(33) غاية الأماني، في الرد على النبهاني. كتاب إصلاحي جدلي في
سفرين كبيرين , رد بهما على ما جاء به الشيخ يوسف النبهاني من الآراء السخيفة
والنقول الواهية في جواز الاستغاثة والاستعانة بغير الله تعالى، وما تجاوز به دائرة
الأدب في سب كبار أئمة الدين كالإمام ابن تيمية والإمام ابن قيم الجوزية من
المتقدمين , والإمام السيد صديق حسن خان والمصلح السيد نعمان الألوسي وأبيه
أبي الثناء من المتأخرين إلخ , وقد طبع في مصر بمطبعة كردستان العلمية.
(34) فتح المنان، تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان. كتاب
إصلاحي جدلي رد به على بعض متصوفة بغداد. طبع في الهند سنة 1309 على
نفقة الأمير الشيخ قاسم بن محمد بن ثاني.
(35) فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد
الوهاب.
(36) القول الأنفع، في الردع عن زيارة المدفع [1] . في كراسة ولم أره.
(37) كتاب ما اشتمل عليه حروف المعجم، من الدقائق والحقائق والحكم.
في 115 صفحة.
(38) كتاب ما دل عليه القرآن، مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان.
في 100 صفحة , وقد فرغ من إملائه علي في 6 شوال سنة 1339هـ.
(39) كشف الحجاب. عن الشهاب في الحكم والآداب للقضاعي لم أره
ولعله فقد.
(40) كنز السعادة، في شرح كلمتي الشهادة. في 54 صفحة , وقد فرغ
منه في 6 ج 2 سنة 1198هـ.
(41) لعب العرب. رسالة لطيفة (اقتطفها من لسان العرب) أثناء
مطالعته له عام 1326هـ.
(42) اللؤلؤ المنثور، وحلي الصدور. مجموع مكاتيب والده وجده في
نحو 170 صفحة.
(43) مختصر الضرائر، فيما يسوغ للشاعر دون الناثر [2] .
(44) مختصر مسند الشهاب للقضاعي.
(45) المسفر عن الميسر.
(46) المفروض، في علم العروض. اقتطفه من لسان العرب أثناء
مطالعته له.
(47) المنحة الإلهية تلخيص ترجمة التحفة الاثني عشرية. رد على
الرافضة , طبع في الهند في 200 صفحة بقطع كبير.
(48) منتهى العرفان والنقل والمحض، في ربط بعض الآي ببعض.
شرع فيه في أوائل الماضي فوافته المنية قبل إتمامه.
(49) كتاب النحت. في 13 صفحة.
وله مجموعات ومؤلفات أخرى فقدت أثناء نفيه منها:
(50) كتاب جليل في بيان سرقات اليازجي في مقاماته (مجمع البحرين) .
وقد وجدت منه بعض الأوراق، ولعلي أعثر عليه بجملته.
هذا ما أردت كتابته بإيجاز , وتفصيل ترجمته وأحواله وأطواره وآرائه وغير
ذلك في كتابنا (ذكرى الإمام الألوسي) الذي شرعنا في تأليفه.
بغداد ... ... ... ... ... محمد بهجت الأثري
(المنار)
نشكر للأستاذ الأثري عنايته بتتبع آثار الفقيد , وبيان فضله، وسنقفي على
ترجمته ببعض الفوائد في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
__________
(1) مدفع: من مدافع الإيرانيين , يعرف (بطوب أبي خرامة) , تزوره النساء , وتوقد له الشموع , وتعلق عليه التمائم والأحجار.
(2) المنار: من الغريب أن يختصر المؤلف كتابه الضرائر ويشرحه تلميذه , وقد كان الأصل مغنيًا عن الشرح , ولكنها شنشنة مصنفينا في القرون الوسطى.(25/374)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة
إننا لم نر في كل ما علمناه من عبر التاريخ أدل على الحكمة النبوية في منع
طلاب الولاية منها , وعدم توليتهم شيئًا من أمور الناس - كالعبرة التي رأيناها في
السيد حسين المكي وأولاده.
رأينا أناسًا تعدى الأجانب على بلادهم , وغلبوهم على السلطان فيها
فساعدوهم على إدارتها؛ ليشاركوهم في التمتع بنصيب من أموالها ولذة الحكم
الصوري فيها، ولكننا لا نعرف في التاريخ القديم ولا الحديث رجلاً وضع بسوء
اجتهاده ومحض اختياره خطة لجعل أمته وملته وبلاده تحت سيادة دولة أجنبية
مخالفة له في الدين والجنس واللغة والاشتراع والآداب لأجل أن يكون تحت ظل
حمايتها متمتعًا هو وأولاده بألقاب الإمارة والملك , كما فعل حسين المكي بمقررات
نهضته المخزية الخاسرة.
وأغرب من ذلك وأخزى أنه قد أسرف هو وأولاده في التبجح بنسبهم وادّعاء
انحصار حق الملك والإمارة والإمامة فيهم دون من هم أصح وأصرح منهم نسبًا
وأكرم حسبًا , بما لهم مع شرف النسب من شرف الوراثة النبوية بالعلم والعمل , ثم
إنه على هذا الإسراف يسعى لنيل خلافة النبوة بنفوذ أعدى أعداء النبي صلى الله
عليه وسلم في أمته وملته وقومه وشرعه ولغته.
أما (مقررات النهضة) فقد وضعها بنفسه واختياره بدون مشاورة أحد من
العرب أو غيرهم من المسلمين , حتى إن ولده فيصلاً قد صرح وأذن بنشر
تصريحه بأنه لم يطلع على هذه المقررات إلا بعد ذهابه إلى لندن عقب هدنة
الحرب , وهو الذي نشرها في جريدة المفيد بدمشق.
وقد جاء في أول المادة الأولى منها: (تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة
عربية مستقلة) … وفي أول الثانية: (تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه
الحكومات وصيانتها من أي مداخلة كانت في داخليتها , وسلامة حدودها البرية
والبحرية من أي تعد بأي شكل يكون , حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس
الأعداء , أو من حسد بعض الأمراء فيه؛ تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنًى على
دفع ذلك القيام لحين اندفاعه , وهذه المساعدات في القيامات أو الثورات الداخلية
تكون مدتها محدودة؛ أي: لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية اهـ
بنصه. ومعناه الصريح أن الإنكليز يظلون محتلين للبلاد العربية التي عهد إليهم
إيجاد حكومتها , وحامين لها إلى أن يصير عند حسين أو خلوفه أسطول كأسطولهم ,
وجيوش يقهر بها أعداء أمراء العرب! !
وقد كان وضعه لهذه المقررات إثر مراسلات بينه وبين المعتمد البريطاني
بمصر , أقرته فيها الحكومة البريطانية على انتحال الخلافة كما صرح به السير
(هنري مكماهون) في الكتاب الذي أرسله إليه في 19 شوال سنة 1333- 30
أغسطس سنة 1915 وهذا نص عبارته العربية بالحرف (من ص 616ج 8م 23
المنار) :
(فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد (كتشنر) التي وصلت إلى سيادتكم عن يد
(علي أفندي) وهي التي كان موضحًا بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها ,
مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها، وإننا نصرح هنا مرة أخرى أن
جلالة ملك بريطانيا العظمى رحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع
تلك الدوحة النبوية المباركة) ! ! !
اعتقد هذا الرجل منذ وصل إليه هذا الكتاب أنه لم يبق بينه وبين منصب
الخلافة إلا أن يخرج الترك من الحجاز أو من مكة وما حولها , فإن ترحيب ملك
الإنكليز باستردادها كافٍ بعد ذلك لنيلها , وكان قد تقرر أن يبايع بها في موسم الحج
الذي أخرج الترك في أيامه من مكة وجدة والطائف , ولكن الله سلم , وكان من
فضله تعالى على كاتب هذا أنه كان سببًا لصرفه عن تلك المبايعة كما بيناه في
المنار مرارًا، وهو لم يقبل نصحنا له بترك مسألة الخلافة إلى ما بعد الحرب؛ إلا
لأننا أقنعناه بأن العالم الإسلامي كله ساخط عليه , وكاره لثورته , ويرجو انتصار
الدولة العثمانية مع حلفائها والعاقبة مجهولة , وبأن فشل انتحاله للخلافة معلوم
بالقطع.
على أنه كان مطمئنًّا بما يتمناه من انكسار الدولة؛ لأنه يعتقد أن الدولة
البريطانية لا تغلب، فانتظر وأعلن في بعض منشوراته الرسمية ترك مسألة
الخلافة إلى العالم الإسلامي , ثم صرح مرارًا بأنه لا يقبل منصب الخلافة إلا إذا
أجمع المسلمون على تقليده إياه، ونقل عنه هذا كثير من الجرائد، كما أنه صرح
مرارًا تصريحًا نقلته عنه جريدته (القبلة) بأن الخلافة قد ماتت وصارت إلى
رحمة الله تعالى، وذلك شأنه ودأبه في الإتيان بالنقائض والكلام المتعارض، وقد
يتعمد بعض هذا؛ لأجل أن يحتج لدى كل قوم من المختلفين في الرأي بما يراه
مقبولاً عندهم، أو لدفع بعض التهم، كما يكتب ويقول كثيرًا: إنه لا يطمع في ملك
ولا جاه ولا مال , وإنما يريد الخدمة العامة، وإنه مستعد لمبايعة كل من يرضاه
المسلمون للخلافة. ولكن أعماله وكذا أقواله تنقض هذا كله , وآخره انتحاله للخلافة
الآن.
على أنه كان منذ ذلك العهد يسعى للخلافة سعيها، ويبث الدعاة لها، وأول
من عرفناه منهم (رضا أفندي الصبان الدمشقي) الذي كان يتردد في أثناء الحرب
بين سورية ومكة، وقد أطلعنا مرة على (ورقة مبايعة) فيها أسماء كثير من
أهل الشام , ودعانا إلى إمضائها مع بعض وجهاء السوريين الذين كانوا هنا، فأبينا
(شرعًا وطبعًا) , وقال لنا بعض فضلاء أهل دمشق الذين اطلعوا على تلك
الورقة: إن بعض الأسماء التي فيها قد مات أصحابها , وبعضها لا مسميات لها،
وأكثرها أسماء بعض العوام الذين لا يفهمون معنى المبايعة , ولا يمتنعون من كتابة
أسمائهم، أو أذن الأمي منهم بكتابة اسمه بأدنى استمالة.
ولما دخل (الأمير فيصل) سورية مع الفاتحين من الخلفاء اعتقد أهلها أن البلاد
السورية بل العربية كلها قد استقلت , وخلصت السيادة عليها لأبيه إنجازًا لما وعدت
به على ألسنة دعاة الحجاز والإنكليز , ونصوص جرائدهم (كالقبلة) في مكة ,
و (الكوكب) في مصر، ونصوص المنشورات الهاشمية , والمنشورات المبهمة التي
كان الإنكليز يمطرونها على جميع البلاد العربية في زمن الحرب. وكانت الثقة بصدق
الإنكليز يومئذ لا تقل عن الثقة بكذبهم الآن! لهذا دعا فيصل ورجاله المسلمين إلى
مبايعة والده بالخلافة , فلبوا الدعوة مسرعين يقلد بعضهم بعضًا.
وقلما كان يوجد أحد منهم يشك في كون الملك حسين حل محل السلطان
العثماني في البلاد العربية , فصار يسمى ملكًا وخليفة , وكان خطباء المساجد
يذكرون اسمه في دعاء الخطبة ويلقبونه بأمير المؤمنين , ويذكرون بعده اسم الأمير
فيصل، وكان السيد حسين نفسه يعتقد ذلك أيضًا , حتى إنه أصدر أمره مرة بهبة
بعض المباني الأميرية في الشام؛ لأجل أن يتخذ مدرسة - ولكن لم ينفذ - وكان
يصدر إرادته بتوجيه الرتب العسكرية وترقية الضباط. حدثني ياسين باشا الهاشمي
أن الأمير فيصلاً بلغه مرة نص إرادة هاشمية بنقل بعض الضباط إلى رتب فوق
رتبهم , فرد عليه فيما معناه: إن هذا إفساد للنظام العسكري لا يمكن تنفيذه. (قال) :
ولكم أنتم أن تعطوهم من الألقاب والرواتب المالية ما شئتم , على شرط أن لا
يعدو أحد طوره ولا لقبه، ولا راتبه عندي في الجيش إلا بمقتضى القانون
العسكري.
ذلك - وإنني لما أمكنني زيارة سورية بعد الهدنة وكانت فرنسة قد استولت
على سواحلها من حدود فلسطين إلى حدود الأناضول كان مسلمو سواحل ولاية
بيروت يعتقدون أنها ستكون مع البلاد الداخلية إمارة واحدة , يتولاها فيصل من قبل
والده (ملك العرب وخليفة المسلمين) بمساعدة الدولة البريطانية! ! غرورًا بشهادة
فيصل الذي كان يقول لهم: يجب أن تربوا أولادكم على حب الإنكليز! ! وكان
من النادر أن ترى فيها من يفهم كنه اتفاق هذه الدولة مع فرنسة على اقتسام البلاد
العراقية والسورية , وعزم إنكلترة وحدها على سلب استقلال جزيرة العرب نفسها
واستعباد أهلها.
وكان أذكياء الناس يستغربون ما نبينه لهم من الحقائق عن الحجازيين
والبريطانيين- وهو ما لو سمعوه من غيرنا لكذبوه وعادوه- وكان بعضهم يناشدنا
أن لا نذيع عن الشريف ما يبطل الثقة به؛ لئلا يشمت النصارى بالمسلمين! !
ولكن لم تمض بضعة أشهر حتى عرف المتمرسون بالسياسة كثيرًا من الحقائق
ظهر أثرها في قرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن به استقلال البلاد ووحدتها ,
فإنه لم يجعل لحكومة الحجاز ولا لملك الحجاز أدنى شأن في سورية لا باسم
الخلافة ولا باسم السيادة ولا باسم الاتحاد، فكان وقع ذلك الاستقلال كالصاعقة على
الملك حسين , وغضب على الملك فيصل غضبة مضرية عرفها جميع الناس.
على أن فيصلاً لم يكن يقدر على أن يجعل لأبيه من الأمر شيئًا لو أراد ذلك , وهو
لم يكن يريد؛ لأنه أعلم الناس بأن سلطة والده لا تطيقها الحجارة الصم. على أنه
لم يستطع إقناع إخواننا بقبول ما سموه (العلم العربي) إلا بعد عناء عظيم , فقبلوه
على شرط زيادة نجم فيه تفرقة بينه وبين علم الحجاز.
ولما تمكن الأمير عبد الله من أرض شرق الأردن؛ ليصد للإنكليز تعدي
العرب على فلسطين , ويؤمن لهم اختراق قلب صحراء العرب إلى العراق؛ طفق
يبث الدعاية فيها وفي فلسطين وسائر سورية لخلافة والده , وصرح بذلك لمراسل
جريدة اللواء المصري وغيره في الإسكندرية؛ إذ مر بها مسافرًا إلى إنكلترة
وفرنسة … , وقد بلغت دعايته ما كان مجالاً للسخرية والانتقاد الأدبي؛ إذ
وضع فوق باب مسجد قرية عمان عاصمة شرق الأردن عند ترميمه حجرًا نقش فيه
أبياتًا نظمها له قاضي قضاته الشيخ سعيد الكرمي قال فيها:
حسين بن عون من بنى مجد عدنان ... فأضحى أمير المؤمنين بلا ثاني
أعاد له عرش الخلافة بعد ما ... ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان
فعجب الأدباء كيف خفيت على القاضي والأمير وشاعره الشريقي وغيرهم
النكتة التي في البيت الأول (أمير بلا ثان) ولها حكاية مشهورة مع بعض الشعراء.
ثم كثر الدعاة لذلك توطئة لقدوم الملك حسين إلى أطراف البلاد السورية
ولا سيما في موسم الحج الماضي (أي: سنة 1342) , كما أشرنا إليه في المقال
الذي عقدناه لزيارته هذه وأسبابها ونتيجتها , ونشرناه في الجزء الثالث من هذا
المجلد وقلنا فيه: إن التخيلات ازدوجت بالواهمات، ولقحت بالأماني المستعذبات،
حتى جاءها المخاض بسقوط الخلافة التركية، أجهضت فولدت الخلافة العربية،
فالتقطها (ملك العرب الخيالي) سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل، معتقدًا أن
الدعاية تتم خلقها، وتنفخ الروح فيها، كما فعلت بمنصب (ملك البلاد العربية
قبلها) !! إلخ.
كيف كانت مبايعة السيد حسين المكي في شونة شرق الأردن؟
بعد أن مهد الدعاة السبل أولاً في القدس الشريف مع رجال الوفد الفلسطيني
المرتبطين بالملك بالمساعدات المالية والسياسية وهم الذين تولوا جمع الوفود من
فلسطين ثم في سائر سورية، وبعد إعداد حكومة شرق الأردن وسائل الاحتفال لأجل
البيعة، بدأ البيعة أهل شرق الأردن ووفد المؤتمر الفلسطيني، وخالفه كثير من أهل
البلاد وجمعياتها وأحزابها , وتلا ذلك إرسال برقيات الدعاة إلى مدن سورية
المشهورة وغيرها بأن أهل الحل والعقد في فلسطين وسائر البلاد العربية وغيرها
قد بايعوا فلانًا، فكانت كل برقية تصل إلى بلد توهم أهلها أن هذه البيعة عامة ,
اشترك فيها ممثلو جميع شعوب العالم الإسلامي , وقد ساعدتهم وكالة البرقيات
الفلسطينية على هذه الدعاية , حتى كان في تلك البرقيات أن الخليفة التركي عبد
المجيد ومسلمي مصر والهند قد بايعوا وهم أبعد الخلق عن هذه المبايعة.
نموذج من برقيات الدعاية:
جاء في جريدة (الجزيرة) الفلسطينية ما نصه:
تلقينا يوم 10 الجاري آذار (مارس) من القدس التلغراف الآتي:
بايعت وفود فلسطين جلالة الحسين بالخلافة (يونس الخطيب) وتلقينا يوم
11 الجاري من شونة عمان التلغراف الآتي:
اليوم بايع مندوبو فلسطين وقضاتها وأهل الحل والعقد جلالة الملك حسين
بالخلافة في مقره بالشونة بحفلة بالغة منتهى الجلال: البطاركة ورؤساء الأديان
(! !) ومراسلو الصحف ومشايخ العشائر كانوا حاضرين، أمير إحدى مقاطعات
الهند , شجاع الملك وحاشيته بايعته وشهدت الحفلة، الحماس شديد، والسرور عام
والمظاهرات على ساق وقدم- سورية بايعت وخطب باسم جلالته في الجامع
الأموي [1] . ... ... ... ... ... ... ... (المظفر) ... ... ... ... ...
***
الخليفة السابق يبايع الخليفة العربي
روت وكالة البرقيات الفلسطينية أنه شاع أن الخليفة السابق عبد المجيد أرسل
برقية إلى الملك حسين يبايعه فيها بالخلافة باسم آل عثمان.
***
مبايعة الهند
وروت أن الهنود أرسلوا برقية إلى الملك حسين , يبايعونه فيها بالخلافة.
ومن البرقيات التي نشرتها الجرائد السورية والفلسطينية ما ننقله عن
مراسل جريدة المقتبس الدمشقية في عمان , وهي التي أرسلها إليها في 13 شعبان -
20 آذار (مارس) مع (منشور العودة) وهذا نصه:
(بيعة الهند) وردت على جلالة الملك برقية من الهند تفيد بمبايعة الهند
لجلالته , وهم يذكرون جلالته بلزوم تأسيس مجلس شورى عام من جميع الأقطار
الإسلامية مركزه للنظر في شؤون الإسلام بصورة عامة. كما أن برقية وردت
على جلالته من الوفد الفلسطيني الموجود في الهند تفيد مبايعة الأهالي لجلالة أمير
المؤمنين، وعند انعقاد المؤتمر الأول في الهند يدعون بالخلافة لصاحب الجلالة
بدون ريب) اهـ.
وهاتان البرقيتان من أغرب الأكاذيب الصريحة التي أحاطت بهذا الرجل
ولا سيما في مبايعته , فأهل الهند أشد المسلمين كرهًا له وطعنًا فيه وإنكارًا على
خلافته , ولكن صح أنه هنأه وبايعه رجلان من زهاء تسعين مليون مسلم في الهند
أحدهما يسمى الشيخ عبد الحي اللكنوي من شيوخ الجمود والحشو , والثاني أحد
أنصار الإنكليز في بمبي , وهو وأعوانه لا يمتنعون عن التعبير عن ذلك بأهل الهند ,
ورأينا لذلك نظائر في التعبير عن أهل مصر وغيرها؛ إذ هنأه وبايعه رجل
واحد من المعروفين فيها , وقد أذاعت جريدة (القبلة) تلك البرقيات الكاذبة , وأغرب
ما جاء فيها ما يأتي:
***
نموذج من برقيات جريدة القبلة غير السرية
ورد في آخر الصفحة الرابعة من عدد جريدة القبلة , الذي صدر بمكة في 30
رجب متضمنًا مبايعة الحجاز ثلاث برقيات من (شونة عمان) نص الأول:
(أصبح في حكم المقرر إلغاء الخلافة , وإخراج الخليفة وكافة الأسرة العثمانية من
تركيا , وربما أعلن هذا بعد غد , فالرأي تعجيل العرب بمبايعة ملكهم الحسين بن
علي بها بمجرد إعلان مصطفى كمال لذلك) ومضمون الثانية: أن مجلس أنقرة قد
قرر ما أشير إليه في الأولى وهذا نص الثالثة:
**
ترشيح المقطم أمير الحجاز بالمبايعة وشهادته
بأهلية حسين للخلافة
(أمر مدير البوليس بإخراج الخليفة والأسرة. الصحف اليوم طافحة بالسخط
والآراء في الموضوع. صرحت المقطم بأن (الملك حسين) خير كفء للخلافة
مستجمع لشروطها) .
***
مقدمة مبايعة
وفد مؤتمر فلسطين ونص المبايعة
اجتماع الوفود في القدس للنظر في أمر الخلافة [2]
(اجتمع في القدس وفود المدن الفلسطينية، خلا طبرية وبئر السبع
للمذاكرة في أمر الخلافة، وقد امتنع وفد نابلس عن الاشتراك في المذاكرة؛ لأن
النابلسيين يرون: إما عقد مؤتمر فلسطيني إسلامي للنظر في هذا الأمر , أو انتظار
ما تفعله بقية الأقطار الإسلامية، ولكن بوجود أهل الحل من كل مدينة (؟) تم
انعقاد المؤتمر الذي يقولون عنه فلم يبق من داعٍ للتأخير، بيد أنهم أصروا على
رأيهم، على أن معظم أهل نابلس يريدون مبايعة الملك حسين , وإنما هم
يستحسنون التربص في الأمر. أما رأي سائر الوفود فهو مبايعة الملك حسين
بالخلافة بعد مفاوضته في بعض الشؤون التي تهم فلسطين والأمة العربية والعالم
الإسلامي.
وقد عقد الوفود الجلسة الأولى في الساعة العاشرة من صباح يوم الإثنين
برئاسة الحاج أمين أفندي الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وانتخب السيد
شكري أفندي التاجي كاتبًا لضبط مقررات الجلسة، فشرح سماحة الرئيس الغاية من
الاجتماع وما آلت إليه الخلافة , وأنه لا يجوز بقاؤها عاطلة , وطلب إلى الوفود
المجتمعة أن تنظر في الأمر، فقال بعضهم: إننا جميعًا نؤيد فكرة مبايعة جلالة
الحسين، ولكن يجب أن نتفق وإياه على شروط البيعة. وسأل آخر عما إذا كان
يحق لنا انتخاب الخليفة باجتماعنا هذا , مع أننا جزء صغير من العالم الإسلامي؟
فأجيب بأن أمامنا ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب باختياره ستة من خيرة
الصحابة لانتخاب خليفة بعد وفاته وذلك خير منهج تنهج عليه الأمة [3] وقد أقر
المجتمعون هذا الرأي، ثم دار البحث حول اشتراك وفد نابلس في الجلسة ,
ووجوب جمع الرأي الفلسطيني في الأمر وعدم تفرقه، وأخيرًا تقرر تأجيل الجلسة
إلى الساعة الثانية بعد الظهر.
***
الجلسة الثانية
افتتحت الجلسة الثانية الساعة الثالثة بعد الظهر في دار المجلس الإسلامي
الأعلى , فأعرب سماحة رئيس المجلس عن أسفه؛ لأن أهل نابلس ومفوضيهم
مصرون بكل أسف على عدم الاشتراك؛ ما لم يعقد مؤتمر إسلامي غير هذا، فطلبت
الهيئة البت في أمر البيعة , فوافق الجميع عليها. واقترح شكري أفندي التاجي
مندوب الرملة أن يكلف جلالة الملك تأليف مجلس من ثلاثين مندوبًا من الأقطار
الإسلامية يستشيره في أمور المسلمين , فأيد رأيه سليم أفندي عبد الرحمن ورفيق
بك التميمي، وهنا بين الشيخ محيي الدين أفندي الملاح عدم جواز البيعة بشروط ,
فأجابه فضيلة مفتي عكا الشيخ عبد الله أفندي الجزار: إن الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ
يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة:
12) هي من قبيل نص الشروط في البيعة , فإذا أمر الله النبي بذلك في المبايعة
فلماذا نحيد نحن عنها؟ !
وهنا طلب البعض عدم وضع قيد أو شرط في المبايعة , ثم اتفق الرأي على
أن توضع شروط في مصلحة الأمة. ووضعت صيغة المبايعة وهذا نصها:
***
نص صيغة المبايعة التي قررت في القدس
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(نحن مفتي وقضاة وعلماء وأشراف ووفود البلاد الفلسطينية أهل الحل
والعقد [4] بايعنا صاحب الجلالة الهاشمية ملك العرب الحسين بن علي بن عون
الهاشمي بالخلافة الإسلامية , على أن يكون الأمر شورى كما أمر الله تعالى، وعلى
أن لا يجري ما يخالف المصلحة العامة للمسلمين، وأن لا يكون البت في أمر البلاد
الفلسطينية , وفي شكل حكومتها ورأسها إلا برأي أهلها.
{فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا} (الفتح: 10) ثم يلي ذلك أسماء الموقعين، ولكثرة المواد لم نستطع
سردها.
***
البيعة في دمشق [5]
أرسل بعض أفاضل دمشق وأدبائها وتجارها البرقية الآتية:
عمان: أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الحسين بن علي , نصره الله وأبقاه.
نحيي جلالتكم بتحية الخلافة , ونبايعكم البيعة الشرعية على السمع
والطاعة عاقدين على ناصيتكم الغراء الآمال بمعزة الإسلام ومجد العرب.
عثمان الشراباتي , الحاج ياسين دياب , سعيد الباني , محمد علي دياب ,
شكري الشربجي , عبد الغني العسلي , موفق الحسيبي , محمد صائب العظم ,
درويش البكري , شفيق دياب , عبد القادر راضي , زكي الركابي , فهمي قزما ,
أحمد المنجد , محمد سعيد عبيد , أكرم الركابي , حمدي الشبندر , توفيق القباني ,
محمد الإمام , وجيه المالكي , نسيب شهاب , منير العيطه , أديب الصفدي , ثابت
القباني , عبد الوهاب أبو السعود , عبد الوهاب مغربية , حسام الدين الكزبري ,
إحسان العابد , ياسين الخانجي , رشدي الدقر , جميل الموره لي , فوزي الدقر.
واتصل بالصحف أن وفدًا كبيرًا يتألف من علماء دمشق ومفكريها يبرحها
قريبًا إلى عمان , يحمل مضبطة موقعة من العلماء والأعيان وهيئات الطبقات
الاجتماعية؛ لمبايعة جلالته , وتقديم التهاني باسم السوريين؛ لعودة الإمامة الكبرى
إلى أصحابها [6] . اهـ
***
صورة بيعة مسلمي بيروت وملحقاتها
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ
عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 10)
هذه بيعة رضوان تشهدها الجماعة، ويشهد عليها الرحمن، ويلزم طائرها
العنق، بيعة شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة.
ولما أصبح مقام الخلافة شاغرًا بسبب طرد الخليفة , وعجزه عن القيام بالأمر،
ولما كان نصب الإمام واجبًا على الأمة , وحيث لم يكن في البيت القرشي ولا في
الأقطار الإسلامية من تسلم إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم مقاليد أمورها ألا
وهو (كذا) , من انحصر فيه استحقاق ميراث أجداده الأطهار , المجتمع فيه
شروط الإمامة والقائم بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم , وخليفته سيدنا ومولانا
عبد الله ووليه (الحسين بن علي) أمير المؤمنين أيد الله تعالى ببقائه الدين، وكتب
له النصر إلى يوم الدين، وأعاد بعدله أيام الخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين.
وحيث قد صحت إمامته , وانعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد والعلماء
وذوي الرأي والعقل في كثير من الأقطار الإسلامية.
وحيث أصبحت طاعته واجبة للحديث الشريف (من خرج عن الطاعة وفارق
الجماعة مات ميتة جاهلية) فإننا نحن مسلمي بيروت نبايع جلالته على أن يهتم
بمصالح الإسلام , ويقدم الفتوى أمامه، ويقرن عليها أحكامه (كذا) , ويتبع
الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، وأن جلالته يشهد وخليفته (كذا)
على أنه لا يريد سوى وجه الله (كذا) , ولا يحابي أحدًا في دين، ولا يحامي عن
أحد في حق (كذا) , وأن يسير بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
بيعة صحيحة شرعية , انعقد عليها الإجماع , ووصل بها الحق إلى مستحقه إن
شاء الله تعالى) .
بيروت في غرة شعبان المعظم سنة 1342
(المنار)
هذه الصيغة منقولة عن جريدة الحقيقة البيروتية التي كانت أشد الصحف
إسرافًا في الدعاية لهؤلاء الحجازيين , وعلمنا أن المفتي وكبار العلماء وأكثر
الفضلاء لم يوقعوها بغير توقيع , وهي أشد الصيغ خطأً وكذبًا , ولا سيما الحيثيات
فكلها كذب كما سنبينه، وسنذكر في الجزء التالي بقية مبايعة سورية وصفه المبايعة
في الحجاز , ثم نعلق على المسألة ما نبين به الحق إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: ظاهر هذا أن سورية بايعت قبل فلسطين غيابًا، و11مارس يوافق 5شعبان , وسترى ما كتب في مبايعة بيروت في غرة شعبان.
(2) ننقل ما يأتي عن جريدة الجزيرة , ونشر في سائر جرائد سورية وفلسطين.
(3) المنار: قد جهل الذي أجاب هذا الجواب أن أولئك الستة كانوا أعظم زعماء قريش المرشحين للخلافة , بحيث لا تخالفهم غيرهم إذا اتفقوا , وتتفرق الكلمة إذا اختلفوا , وقد وصفهم عمر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو راضٍ عنهم، ومن المعلوم أنه بشرهم بالجنة، فصار مقطوعًا لهم بها، فهل لأولئك النفر من فلسطين هذه المنزلة في العالم الإسلامي؟ وكيف يدعون الحل والعقد في الأمة الإسلامية أو في بلادهم وهم مستعبدون فيها للأجنبي؟ ولم يتبعهم جميع أهل بلادهم في مبايعتهم كما تبع الستة جميع المسلمين.
(4) أهل الحل والعقد: هم الذين إذ بايعوا أحدًا نفذت أحكامه , فهل تنفذ أحكام حسين في فلسطين بمبايعة من ادعوا هذه الدعوى؟ دع العالم الإسلامي كله.
(5) منقولة عن جريدة المقتبس الدمشقية.
(6) هذا الخبر لم يتحقق.(25/390)
صفر - 1343هـ
سبتمبر - 1924م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوصية المزورة باسم المدينة المنورة
(س 21) من صاحب الإمضاء في (ميت غمر)
سيدي الأستاذ الجليل، محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، حرسه الله،
تحية الله وسلامه إليك وبعد:
الدين الإسلامي الذي جاء فاصلاً بين الحق والباطل، وعلم الناس أن هناك
إلهًا لا يطلع أحدًا على غيبه، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، الدين الإسلامي الذي أنقذ
الناس من جاهليتها الأولى، وأبطل الخرافات والاعتقادات الباطلة، دين هدى لمن
يريد أن يهتدي، دين توحيد لمن يريد أن يوحد ربًّا واحدًا، دين وجهة واحدة لمن
يريد أن يولي وجهه شطره، إلا أن الناس الذين يدينون به وينتسبون إليه لم
يحافظوا عليه ولم يحترموا تعاليمه.
وبذلك حقت علينا كلمة العذاب؛ لأن أكثر المسلمين لا يعقلون.
سيدي: أكتب إليك هذا وأنا في ذهول مستمر وحزن دائم لما وصلت إليه
حالة المسلمين، حتى أصبحت حياتنا الدينية والدنيوية تشبه الكفار من كل الوجوه.
وإن المنشور المرسل طي هذا الكتاب لأكبر دليل على صدق هذا القول، حتى لا
يقال بأننا نكتب على غير حق، فهل يصح يا فضيلة الأستاذ لأمة دينها الإسلام،
وكتابها القرآن، أن يوزع بينها هذا المنشور ويلصق على أبواب بيوت العبادة؟
فباسم الإسلام الذي وقفت حياتك على خدمته، والمحافظة عليه، وباسم العلم الذي
أخذت منه قسطًا وافرًا، وبحق ما لك علينا من فضل بمباحثك الدينية القيمة، التي
كثيرًا ما هدت ضالاًّ وعلمت جاهلاً، أن تبين لنا صحة هذا المنشور , وأصل
مصدره والغاية التي يرمي إليها ناشره، وذلك يكون بنشر الرد بجريدة الأهرام حتى
يطلع الناس عليها، ويقفوا على حقيقتها، ولك من الله حسن الجزاء، ومن الناس
أجمل الثناء، وإنا لذلك لمنتظرون، والله المسؤول الذي بيده المصير أن يتولاك
برعايته. واقبل احترام وإخلاص مسلم معجب بعلمك ودينك.
ميت غمر في 27 مارس سنة 1924 ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... زكي محمد عبد الله ... ... ... ...
... ... ... معاون سلخانة ميت غمر وأمين مخزن البلدية
وهذا نص الوصية المزورة المرسلة مع هذا السؤال.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين على القوم الكافرين , وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء
والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه وصية من المدينة المنورة
عن الشيخ أحمد خادم حرم النبي الشريف قال: كنت ساهرًا ليلة الجمعة أتلو
القرآن وبعد تلاوته قرأت أسماء الله الحسنى , فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم
فأخذتني سنة من النوم , فرأيت الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذي
أظهر الآيات القرآنية والأحكام الشرعية؛ رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى
الله عليه وسلم فقال لي: يا شيخ أحمد. قلت: لبيك يا رسول الله , ويا أكرم خلق الله.
فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة , ولن أقدر أن أقابل ربي ولا
الملائكة، ووَقْف على قدم؛ لأنه مات من الجمعة إلى الجمعة مائة وستون ألفًا على
غير الإسلام وواحد مات على الإسلام , فنعوذ بالله من شر ذلك، وصار غنيهم لا
يرحم فقيرهم , وأصبح كل شخص لا يسأل إلا عن نفسه , وقد ارتكبوا المعاصي
والكبائر والزنا، وأنقصوا المكيال والميزان , وكثرت المعاصي وأكلوا الربا وشربوا
الخمر , وتركوا الصلاة ومنعوا الزكاة. فهذه الوصية لأجل أن يتعظوا؛ لأني في
شدة التعب من أجلهم، فأخبرهم يا شيخ أحمد قبل أن ينزل بهم العذاب من ربهم
العزيز الجبار وتغلق أبواب الرحمة، فنعوذ بالله من شر هذا القرن وأهله؛ لأنهم
عن طريق الحق ضالون، وبالله تعالى يشركون، وبالدين الحنيف ينكرون،
وبأديانهم الباطلة يمجدون. وإن الساعة قد قربت، وفي سنة 1340 هجرية تخرج
النساء من غير إذن أزواجهن , وفي سنة 1350 هجرية تظهر علامة في السماء
مثل بيض الدجاج وهي علامة القيامة، وفي سنة 1370 هجرية تغيب الشمس ثلاثة
أيام بلياليها , وبعد ذلك تشرق من المغرب , وتغلق أبواب التوبة، وفي سنة 1380
هجرية يرفع القرآن العظيم من صدور الرجال، ويظهر المسيخ الدجال، وتتفاتن
النساء والرجال، ويعود الإسلام كما كان خرابًا. فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه
الوصية , وعرفهم بأنها منقولة (بقلم القدرة من اللوح المحفوظ) .
ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل، كتب الله له قصرًا
في الجنة , ومن لا يكتبها ولا يرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن لا
يعرف أن يكتبها يأمر كاتبًا بكتابتها بثلاثة دراهم، ومن كتبها وكان فقيرًا - أغناه الله،
أو كان مديونًا قضى الله دينه عنه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه
الوصية، ومن يكتمها عن عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة.
وقال الشيخ أحمد: والله العظيم ثلاثًا، إن هذه حقيقة، وإن كنت كاذبًا أخرج من
الدنيا على غير الإسلام , ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار , ومن كذب بها كفر،
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (مؤمن مصدق)
(جواب المنار) : جاءنا هذا السؤال فقدمنا عليه في النشر والجواب أسئلة
أخرى جاءت قبله، ثم أطلعنا قلم التحرير في جريدة الأهرام على كتاب يقترح فيه
مرسله نشر هذه الوصية في الأهرام , ومطالبة العلماء ببيان ما يجب في شأنها
فتذكرنا أننا قد سئلنا عنها هذه الوصية.
هذه الوصية فرية ملفقة سبقها أمثال لها كثيرة , وكلها معزوة إلى اسم الشيخ
أحمد خادم الحرم النبوي الشريف أو خادم الحجرة النبوية الطاهرة، وأذكر أني
رأيت أول وصية منها بين أوراق لوالدي من زهاء أربعين سنة أو أكثر، فصدقتها
واهتممت بأمرها , وكان ذلك قبل طلبي للعلم بل في أول العهد بالقراءة.
ومنذ عشرين سنة أرسل إلى أمين أفندي السرجاني، الصائغ المشهور بمصر
وصية أخرى منها , وسألني عن رأيي فيها فنشرتها في باب الفتوى من المجلد
السابع (غرة شعبان 1322) وأجبت عنها بما سأعيده هنا، ثم أرسلت إلي نسخة
أخرى من السويس بعد سنة ونصف من نشر تلك الفتوى , فاعتذرت عن نشرها في
فتاوى (ج 3 م 9 الذي نشر في ربيع الأول سنة 1324) .
والظاهر أن الذين يلفقون هذه الوصايا من الجهال يظنون أنه ربما يكون
لنشرها تأثير عظيم في المسلمين، وأنهم يقصدون النفع، ويستحلون في التوسل إليه
تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم , كما كان يفعل بعض الوضَّاعين
لأحاديث الترغيب والترهيب، مع علم أولئك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من
كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار) فإنه روي متواترًا في الكتب الستة
وغيرها من المسانيد والمعاجم عن عشرات من الصحابة. ثم ينسخها بعض العوام
حيث لا مطابع , ويطبعونها في مثل هذه البلاد؛ لتصديقهم بما في آخرها من الوعد
والوعيد، ومن العجب أن الذين يجددون تلفيق الوصية لا يتركون اسم الشيخ أحمد
كأنه خالد في الحرم النبوي الشريف , وكأنه أعطي خدمة الحجرة الطاهرة خالدة
تالدة , لا تؤثر فيها أحداث الزمان ولا مرور السنين ولا تغير الحكومات. ويلوح
في ذاكرتي أن بعض زوار المدينة سأل عن الشيخ أحمد هذا منذ سنين كثيرة , فلم
يجد في الحرم النبوي من يعرفه!
ومن دلائل كذب هذه الوصايا أسلوبها العامي , على أن الوصية الجديدة دون
ما سبقها في اللحن والاصطلاحات العامية (ومنها) وهو أقواها: زعم مختلقها أن
النبي صلى الله عليه وسلم صار محجوبًا عن ربه وعن الملائكة بسبب ذنوب
الناس , وهذه أعظم العقوبات التي توعد الله تعالى بها الفجار الكفار بقوله: {كَلاَّ
إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 15) فجميع ما نعاه على المسلمين
من المعاصي هو دون الكذب على الرسول بأصل الوصية والكذب على الله ,
بزعمه أنه عاقب أفضل رسله بذنب غيره , كما يعاقب الكفار في الآخرة، وهو
مغفور له بنص القرآن، على أنه لا يعاقب أحد من الخلق بذنب غيره بالنص أيضًا ,
ومن جهله تعبيره عن التجلي الرباني بالمقابلة، كما يعبر أهل هذا العصر عن لقاء
بعض الناس لبعض.
وقوله: وفي سنة 1340 تخرج النساء من غير أذن أزواجهن، يدل على
أن الوصية لفقت قبل هذا التاريخ , ولما وصلنا إليه لم نر شيئًا لم يكن قبله , فقد كان
كثير من النساء يخرجن قبله بدون إذن أزواجهن , ولم يخرج فيه جميعهن ولا فيما
بعده , فنقول: إنه مصداق للجملة. وما ذكر قبله من المعاصي فهو قديم أيضًا ,
ولكنه يزداد بلا شك، كما أنه قد تجدد من علم السنة ومحاربة البدع والدعوة إلى
الإصلاح الديني , والتوفيق بينه وبين الحضارة والقوة ما لم يكن.
وقاعدة هؤلاء المصلحين أن الله تعالى قد أكمل دينه فلا نزيد في الأمور الدينية
المحضة شيئًا لم يرد في الكتاب أو السنة الثابتة أو إجماع الصدر الأول، وأن أسعد
السعداء من يعبد الله تعالى كما عبدوه فعلاً وتركًا حسب الأمر والنهي , وأن
في الكتاب والسنة وهدي السلف الأول غنًى عن كل ما عداها في النصح
والإرشاد، والزجر عن الفساد، فمن كان مخلصًا في نصح المسلمين، فليعضد
هؤلاء المصلحين، فهو خير له من اختراع الرؤى الباطلة، والوصايا السخيفة
المزورة , التي صار يقل في العوام من يصدقها، وجميع الخواص يلعنون مزورها.
وإننا نذكر هنا ما أجبنا به السائل عن هذه سنة 1322 إتمامًا للفائدة - وكانت تلك
في منتهى السخف لفظًا ومعنًى وهذا نصه:
إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن
مرارًا كثيرة , وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية ,
والوصية مكذوبة قطعًا , لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما
يصدقها البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم
يتعلموا اللغة العربية , ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة، لا حاجة إلى بيان
أغلاطها بالتفصيل , فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح
الفصحاء وأبلغ البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم , ويزعم أنه وجده بجانب الحجرة
النبوية مكتوبًا بخط أخضر , يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه , ثم يتجرأ بعد هذا
على تكفير من أنكره , فهذه المعصية أعظم من جميع المعاصي - التي يقول: إنها
فشت في الأمة، وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام , وتكفير علماء أمته
والعارفين بدينه , فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها , وقد قال
المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي معتمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) ، قد نقل بالتواتر , ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمدٌ لكذبها، ولا ندري
أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟ !
وأما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن , وانهماكهم في
المعاصي، فهو مشاهد، وآثار ذلك فيهم مشاهدة , فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد أن
كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت:
16) إلا أن يتوبوا. ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول ,
ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له
ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع , فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدينا، وهما مملوآن
بالعظات والعبر , والآيات والنذر. اهـ.
__________(25/401)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز
(4)
مفاسد الطاغوت بعد ادعائه للخلافة:
ذكرنا في الفصول السابقة بعض الحقائق عن سلب الملك حسين أموال أهل
الحجاز والحجاج والظلم في الحرم , وفقد الأمن بين الحرمين التي جاءتنا من أخبار
موسم الحج (سنة 1341) , وقلنا: إنه قد صرح في أثناء السنة الماضية قبل
موسمها بانتحاله لمنصب الخلافة، فصار خطره أشد، والسعي لتلافيه أوجب، وذلك
أن الرجل كلما كبرت مطامعه وتنفخ وانتفخ في مظاهره، يزداد احتياجه إلى النقود،
ولا مستغل له إلا الحجاج وأهل الحرمين؛ لأن الإنكليز منعوه ما كانوا يعطون،
ولا بد من مورد غزير يقوم بنفقات الجمع بين عظمة الملك وفخفخته، وإخضاع
أمراء العرب المنكرين لإمبراطوريته وخلافته، ونشر دعاية الخلافة ومقاومة
خصومها في الشرق والغرب إلى أن تستقر وتكون مستغلاًّ جديدًا؛ وما هي مستقرة
أو يهلك العرب والمسلمون، فخصومه في الملك والسلطان أمراء جزيرة العرب
المستقلون، وكل واحد منهم يفوقه قوة وإدارة وعدلاً، وخصومه في الخلافة
الشعوب الإسلامية ماعدا بعض أهل فلسطين وسورية والعراق من المنتفعين بماله،
والراجين لنواله، أو المخدوعين بدعايته ودعاية رجاله، أو المتلذذين بنكاية
فرنسة، والخائفين من شماتة جيرانهم من النصارى الذين عادوا ولده فيصلاً في تلك
الأيام، التي كان المسلمون فيها سكارى بخمرة الأوهام، أو عائشين في غمرة من
أضغاث الأحلام، على أن هؤلاء الأنصار يقلون عامًا بعد عام؛ لأن جناياته
ظهرت للخواص والعوام، وطفقت تتبرأ منه الجماعات والأحزاب كالأفراد.
كان هذا الرجل المفتون بالألقاب الضخمة والمظاهر الفخمة أميرًا للحجاز،
وكان بدو البلاد كحضرها يخضعون له، ويخشون بأسه، ويقبلون حكمه لعلمهم بأن
وراءه دولة يرجى برها، ويخشى ضرها، وقد صلي نار الحرب العامة باسم
العرب، وهو لم يعمل ولا يعمل ولن يعمل إلا لنفسه وولده، ولم يكن إلا متجرًا
بالعرب وبلاد العرب، وبدين الإسلام أيضًا كما ظهر واتضح لغير العميان
المنكوسين من البشر، استبد بالأمر وحده على جهله وعجزه، فأضاع الفرصة التي
سنحت لاستقلال العرب واتساع ملكه، ولم ينل شيئًا من مطامعه الواسعة لنفسه،
بل لم يبق له من إمارة الحجاز إلا هذه المدن والقرى المعدودة على الأصابع , وأما
القبائل القوية فليس له عليها من سلطان.
ولكن افتتانه بعظمة الملك وفخامة الألقاب، وغروره بالوعود الشيطانية
والأماني فيما يسميه (الحسيات النجيبة للعظمة البريطانية) جرآه على تسمية نفسه:
ملك العرب وصاحب البلاد العربية، وصار يمتع نفسه بما تصبو إليه من عظمة
الملك الصورية، فأحدث أوسمة ورتبًا متعددة. تصدر جريدته (القبلة) آونة بعد
آونة , وفي صدرها إما عنوان (توجيهات) الذي كان يعهد في الجرائد العثمانية
الحميدية، وتحته: وجه وسام النهضة أو وسام الاستقلال العلي الشأن إلى فلان،
ووجه 000 إلى 000 وإما نبأ من أنباء القصر العالي , ومن تشرف بتقبيل أعتابه،
حتى إن أولاده يقبلون فيما يكتبون إليه الأعتاب، ويعبر أحدهم عن نفسه بخادم
تراب الأقدام (؟ ؟) ولم يدع سيئة من سيئات عبد الحميد إلا وتقلدها، حتى إذكاء
الجواسيس على رجال حكومته وأولاده، دع غيرهم من الناس الذين قد يعذر بعدهم
أعداء له؛ لأنه لهم عدو مبين , وقد حمله ادعاؤه هذا الملك، وافتتانه به إلى ما تقدم
بيانه من مصارحة جميع أمراء جزيرة العرب بالعداوة، وإنذارهم إسقاط إمارتهم
وضمها إلى ملك البلاد العربية كلها.
كان هذا بعض شأنه، على ضعفه وعجزه، وخيبة آماله في (العظمة
البريطانية وحسياتها النجيبة) - إلا أن يقال - ولا يعوز الدليل من قال: إنه لا
يقنط من رحمتها، ولا ييأس من روحها. فإنه تبرأ من رحمة الله، إن كان يقبل
بقرار الدول كلها أضعاف ما تعطيه هي إن لم يكن بواسطتها؛ فماذا ينتظر من
غروره وطمعه وعنجهيته وكبريائه , وقد ادعى الخلافة العربية، وطفق ينشر في
جريدته الكاذبة الخاطئة دعاوى مبايعة جميع الشعوب الإسلامية، (لصاحب الجلالة
الهاشمية، أمير المؤمنين، وخليفة رسول العالمين، المنقذ الأعظم) كقولها:
(مبايعة أهل مصر، مبايعة بلاد جاوه، مبايعة بلاد السودان) إلخ.
إلا أنه لا ينتظر من بعد هذا إلا الإسراف في الظلم، والإلحاد في الحرمين
الشريفين، وتثقيل الغرامات على الحجاج، وبث الفساد السياسي في سائر بلاد
العرب، وتمكين النفوذ الأجنبي فيها، ومقاومة الإصلاح , ونشر الخرافات في
العالم الإسلامي كله.
وقد أخرنا إتمام هذا الخطاب في العام الماضي؛ لنقف على ما يكون له من
التأثير في عمله بعد لقاء أنصار وأصحاب الآمال فيه بزيارته لشرق الأردن , ثم
بعد تنحله لمنصب الخلافة، حتى تكون النتيجة من خطابنا هذا بعد استيفاء
المقدمات، فجاءتنا أخبار موسم الحج الأخير (سنة 1342) بشر مما نشرنا
خلاصته في أوائل هذا الخطاب من الإصرار على ما تقدم أو الزيادة عليه، وشرها
قطعه لماء عين زبيدة في يوم عرفة؛ لأجل أن يبيع أعوانه الماء المدخر بأغلى
الأثمان , واتفق أن كان حر الصيف شديدًا حتى في البلاد المعتدلة، فكان موقف
عرفة كموقف الحساب يوم القيامة، شغلت شدة الحر وشدة الظمأ أكثر الناس عن
أداء العبادة براحة وحضور قلب، ومات ألوف من الناس في عرفات وفي الطريق
بينها وبين مزدلفة فمنى فمكة. أخبرنا الكثيرون من الحجاج بذلك، ونشره بعضهم
في الجرائد، وقالوا: إن قربة الماء قد صارت تباع بعشرين قرشًا أو ثلاثين قرشًا في
الغالب , واشتراها بعض الأغنياء بأكثر من ذلك.
ومن الشواهد على الإفساد السياسي ما نقله الجرائد من إرسال دعاته إلى عدن
وبلاد الشافعية من تهامة اليمن؛ ليأخذوا له البيعة، ويخدعوا الناس بأن خليفة
المسلمين وملك العرب سيجعل أمرهم بأيديهم، وحكامهم من أهل مذهبهم، وإدارتهم
كما يرغبون ويقترحون، وهذا موافق لتفسيره الرسمي للوحدة العربية , الذي بيناه في
الوثيقة الخامسة المتعلقة بالجناية الثانية من هذا الخطاب.
وقد تثبتنا في نشر هذه المفسدة، فكتبنا إلى اليمن بالسؤال عن ذلك , فجاءنا نبأ
رسمي لا شك فيه بتأييد الخبر.
ومن الشواهد على مقاومة الإصلاح ونشر الخرافات , وتحكم الجهل في العلم
والدين ما قرأناه في أنباء الحجاز من جريدة المقتبس الدمشقية من تصدي الخليفة
(خليفة الشيطان) لاستخدام مجلس شورى الخلافة الذي استحدثه؛ لمنع انتشار
الكتب والرسائل التي اشتهرت في بلاد جاوه من قبل الشيخ محمد عبده والشيخ
رشيد رضا، كما منع من قبل ذلك كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم
وغيرها من الكتب القديمة التي لا توافق هواه، ولا نقول: رأيه أو فهمه؛ إذ هو عامي لا رأي له ولا فهم في علم ولا دين.
ثم أخبرنا أحد علماء الأزهر الذين حجوا في الموسم الأخير، أنه علم من الثقات
في الحجاز أن حسينًا كلف بعض علماء حكومته ومجلس شورى خلافته - كتابة
فتوى , يطعنون فيها بالشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا صاحب المنار؛ تبعًا لتهم
دونها في الأسئلة الذي كلفهم الجواب عنها، فكتبوا له ما لا يرضيه تمام الرضا؛
لأن ما يرضيه يغضب الله تعالى واتقوا شره بأن كتبوا أنهم لم يطلعوا على شيء من
كتب الشيخين المذكورين مشتملة على ما ذكر في الاستفتاء هذا ملخص الخبر
بالمعنى.
***
علاوة
من روايات الحجاج في ظلم حسين في الحرمين الشريفين:
عهدنا إلى أحد علماء الأزهر الذين ذهبوا إلى الحجاز في الموسم الأخير أن
يستقصي لنا أعمال هذا الطاغوت , وذكرنا له بعض الثقات الذين يعرفون هذه
الحقائق , ولا يبخلون بها على من يثقون بأمانته، ويأمنون شر سعايته، فجاءنا
بمسائل كثيرة. ثم جاءنا بيان آخر من بعض سكان المدينة المنورة الذين حضروا
موسم الحج الأخير أيضًا , فنلخص البيانين؛ لإطلاع العالم الإسلامي عليهما،
ودعوته إلى القيام بما يجب عليه من العمل لمهد الإسلام، وحرم الله تعالى وحرم
رسوله عليه الصلاة والسلام، وخدمة للتاريخ الخاص والعام.
ملخص ما جاء به العالم الأزهري من مكة:
(1) صدرت أوامر الملك حسين بمنع مشتري الأعشاب قبل أخذ ما يلزم
لحيواناته , فتجاسر أحد التكارنة , واشترى، فقبض عليه، وسجنه عامًا واحدًا ,
وقال: إنه سجنه بمقتضى الوجه الشرعي من الكتاب والسنة. فاستفتى أبو المسجون
المفتين الأربعة بمكة، فأفتوه أنه لا يستحق الحبس شرعًا , فأطلع الملك عليها فغضب
وقال أنه يخالف الشرع ولا يطلقه من الحبس , وصار يكرر قوله: أشهد أني أخالف
الشرع في أحكامي.
(2) في شعبان سنة 1342 اشتكت فتاة امرأة من موالي الشناقطة أحد
موالي العربان بأنه اغتصبها بعد أن تهددها بالقتل في طريق الرصفة , وهو حمى
الملك الذي لا يدخله سوى جماله، وأي حيوان يدخله يصادر- وقد وصفت الفتاة
المتهم , فقبض الملك على غيره من المغضوب عليهم، فقطع يده ورجله من خلاف
من غير أن تراه الفتاة , وتشهد أنه هو الجاني، وهذا حكم الشرع.
(3) جعل رسمًا على كل جمل وحمار وبغل يجيء من جدة إلى مكة - نصف
جنيه إنكليزي وريالين مجيدين , ومن مكة إلى عرفات نصف جنيه إنكليزي , ومن
مكة إلى المدينة ثلاثة جنيهات: جنيهًا برسم الحكومة والخزينة الخاصة.
(4) لأجل جمع الإعانات من الحجاج؛ وضع في مجاري عين زبيدة أكياسًا
من الرمل فوق عرفة بقليل , وذلك قبل يوم عرفة فلم يأت وقت الظهر حتى نضب
الماء من حياض عرفة , ونشأ عن ذلك عطش شديد جدًّا , مات بسببه خلق كثير
من الفقراء , ولما ظهر سره امتنع عن جمع الإعانة , وعلى ذلك أدلة:
(منها) أن الماء كان فوق عرفة طافيًا في الآبار على وجه الأرض , حتى
كان من أخبر بذلك من العرب يملأ بيديه من غير دلو ولا رشاء.
(ومنها) أننا عند نزولنا إلى منى وجدنا الماء فيها كثيرًا , وما كان غلاء
ماء منى إلا من توهم الناس أن الماء مقطوع مما جرى لهم بعرفة. ولكن الذي كان
يشاهد الآبار بنفسه وهي تجيش بالماء الغزير يعلم الحقيقة.
(ومنها) أنه قبل خروج الناس إلى عرفة بأيام , طلب من مطوفي الجاوه
والهنود جمع حجاجهم له في الحرم؛ ليكلمهم في أمر مهم. ثم قال للمطوفين:
تدرون هذا الأمر؟ فقالوا: لا. فقال: لأجل جمع إعانة لتصليح عين زبيدة.
(5) طريقته في جمع الإعانة للعين: أن ما زاد على عشرين جنيهًا يوضع
في صندوقه الخاص , وما نقص عنها ففي صندوق العين , وإذا احتاجت العين
للتعمير لا يعطيها شيئًا , وإذا طلب من صندوقه للحاجة يغضب. وحصل ذلك مرة،
فغضب وحاسب أمين الصندوق , وعطل أعمال لجنة العين أحد عشر شهرًا.
وبعض الحجاج لجهل أو غفلة أو حب رياء وظهور , يدفعون له مباشرة ما
يتبرعون به , فيكون خالصًا له، والمعروف منه لا يقل عن 500 جنيه.
(6) عند مبايعته بالخلافة في عمان وصلت منه برقية لقاضي القضاة بمكة
بأنه إذا امتنع أحد عن البيعة يقتل رميًا بالرصاص.
(7) لما وصلت الكسوة من مصر أغرى بعضهم أن يحضروا له بعض
المصريين؛ ليقولوا له: إنه بلغهم أنه يريد رد الكسوة , وأنه سيكسو الكعبة من
عنده كما كساها في العام الماضي , وأن يسترحموا جلالته ويرجوه عدم ردها
ويلحوا عليه في ذلك، فيقبل رجاءهم. وأظهر للناس أنه في غنى عن كسوة مصر
ولولا إلحاح المصريين لم يقبلها , والكسوة التي جاء بها في العام الماضي ثمنها
300 جنيه وهي من الصوف القيلان , وكانت عند ما دخلنا مكة باهتة وشكلها في
غاية الكآبة.
(8) كان حول المسجد الحرام ميضأة من أوقاف سلاطين مصر والأتراك
فهدمها , وجعل محلها دكاكين ملكًا له , وصار الناس يبولون في الشوارع،
ويتوضؤون على أبواب المسجد الحرام , ورأيت بعيني ناسًا كثيرًا يفعلون ذلك.
(9) أمر أن لا يتجاوز الحمل 20 أقة , والجمل يستطيع حمل 70 فأكثر،
فصار أكثر الحجاج يضطر لترك كثير من حاجاته في جدة. وهو يدعي أنه فعل
ذلك شفقة على الجمال، والحق أنه أراد كثرتها لأجل المال , ومن جراء ذلك تعطل
في العام الماضي عدد غير قليل عن الحج , وفاتهم يوم عرفة وهم بجدة ينتظرون
عودة الجمال , التي رحلت بهذه الأحمال الخفيفة.
(10) أنه يأخذ من أصحاب الخيام المعدة للأجرة ما يحتاج إليه لإكرام
ضيوف منصبي الملك والخلافة بغير أجرة (وذكر الكاتب حكاية طويلة سمعها من
رجل كردي فقير , كلفه الملك الخليفة الإتيان بخمس خيام , فاعتذر بفقره وغربته،
فوضعه في سجنه الذي سماه هذا المسكين جهنم , ووصف ما فيه من السلاسل
والأغلال 000 ثم افتداه بعض الموسرين باستئجار الخيام المطلوبة له، ولكن لما آن
وقت إرجاعها بعد عرفة أرجعوا ثلاثًا واغتصبوا اثنين.
(11) إذا حكمت المحكمة الشرعية حكمًا , وصدق عليه قاضي القضاة
والتدقيقات الشرعية، ووسط المحكوم عليه واسطة أو رشوة أو نفاقًا أو تجسسًا أو
إطراءً - انعكست القضية وأصبح المحكوم عليه محكومًا له , وهذا الباب مفتوح
للجميع , وبعد قليل يصل الآخر إلى ما وصل إليه المحكوم عليه , فتنعكس القضية
مرة ثانية , وبعد مدة تنقلب أخرى، وهلم جرًّا.
(12) القاضي لا يحكم إلا بأمر الملك، وحجته أنه هو الذي ولاه فكيف
يحكم بغير أمره واستحسانه , وإذا شهد شاهد فتزكيته أن يكون مخلصًا لسيدهم
وبذلك يكون أعدل الناس , ويقوم مقام اثنين وأكثر.
(13) كان على سواري المسجد الحرام كتابات من قبل سلاطين مصر
وتركية وغيرهما بإبطال المكوس بمكة والمدينة , فطمس الكتابة بالجير , ولكنها لا
تزال ظاهرة الأثر.
(14) إذا أراد اغتصاب قطعة أرض من صاحبها؛ تذرع بالطرق العامة
وأنه يريد أن يفتح طريقًا أو يوسعه، فيكره صاحب العقار على تركها له في مقابل
شيء لا يذكر , ثم يأخذ الملك منها قطعة صغيرة للطريق , والباقي يبنيه لنفسه بيوتًا
ودكاكين، وبهذه الطريقة صار له عقار كثير جدًّا. وإنما يأخذ ذلك باسمه بناءً على
فتوى من القضاة بأن التمليك للحكومة لا يصح؛ لأنها هيئة , وإنما يصح لشخص
بعينه.
(15) إذا اضطر أحد الأعيان - من شدة تضييقه عليهم - إلى عرض
بعض الحلي والجواهر للبيع , فللشريف دلال مخصوص , لا يمكن أن يباع شيء من
ذلك حتى يعرض عليه , وهو يأخذها بأبخس الأثمان لحساب سيده بعد أن يحذر
الدلالين من المساومة فيها والمزايدة.
(16) إذا ورد رقيق يأخذ لنفسه الوصائف والغلمان الحسان بأبخس ثمن،
فإذا تظلم النخاس يقال له: هذه عشور الحكومة التي تحافظ عليك من قناصل الدول.
ومرارًا طلب قنصل الإنكليز تسليم النخاسين من رعاياهم ورعايا الحكومة
الإيطالية , فلم تسلمهم الحكومة.
(17) كان له دار في المسعى , جعلها مدرسة بعد أن جمع لها إعانات
كثيرة , وسلب الأوقاف من أهلها وحبسها على المدرسة , وشرط لها شروطًا تجعل
المدرسة في أي وقت عرضة للإغلاق وطرد المدرسين والطلبة، ويرجع بناءها
لملكه الخاص يؤجره , وزاد أن ضم الأوقاف الكثيرة إلى ملكه أو أوقافه أيضًا.
(18) أسس شركة تجارية سماها (الشركة الوطنية) رئيسها أحد صنائعه
يدعى عبد الوهاب قزاز , ولا مال لهذه الشركة , وإنما رأس مالها ما تأخذه من
التجار من البضائع بالطريقة الآتية: إذا وصلت البضائع إلى الجمرك , فللملك
عمال هناك يعرفون البضائع الرابحة , فيحجزونها على اسم الشركة، وترسل إلى
مكة في أول قافلة , وتمنع البضائع الأخرى من الخروج حتى تباع هذه كلها , وبعد
ذلك يسمح للبضائع الأخرى بالخروج إلى مكة، والبضائع التي أخذتها الشركة هي
من أموال التجار , ولكن لا يدفع ثمنها إليهم إلا بعد بيعها بأشهر، ونادر جدًّا أن يدفع
الثمن كله. وهذه الشركة تخلط الزيت مع السمن , والماء مع الغاز , وتتطفف
الكيل والميزان وقد صار الآن رأس مالها عظيمًا , وهي ملك خالص للشريف لا
شريك له فيها.
(19) يقول دائمًا: (جوِّعْ كلبك يَتبعك) فلذلك تراه دائمًا ضد التجار
ويسعى في معاكستهم , وفي كل شهرين أو ثلاثة يزيد رسم الجمرك، والغرامات
عظيمة , والبضائع متراكمة بدون بيع؛ لأنه لا يسمح لهم إلا بالكاسد بعد أن يبيع
هو ما انتقاه من بضائعهم، وإن دام هذا الحال على التجار فعاقبتهم الإفلاس حتمًا.
وكذلك يضيق على العربان أولاً: في بيع ما يجلبونه إلى مكة من غنم وغيرها،
فلا يأذن لهم أن يبيعوها إلا بالسعر الذي يسمح لهم به، ولا يسمح لهم بشراء الطعام
إلا بمقادير قليلة جدَََّا، فمن طلب أرزًّا أو دقيقًا لا يعطى إلا الربع , ومن طلب ثوب
قماش لا يسمح له إلا بالربع , حتى أصبح العربان في ضيق شديد وضنك من
العيش , حتى قال بعضهم: إنه يمنعنا طعامنا الذي نأخذه بدراهمنا , حتى صرنا
نهرب من الضيوف؛ لأننا لا نجد ما نطمعهم بعد أن كنا في كل ليلة نذبح الخرفان
ونطبخها بالأرز , وثانيًا: في أجور جمالهم للحجاج والقوافل لأجل سمسرته كما تقدم.
وقصده من كل ذلك جعل جميع الناس فقراء؛ حتى يتبعوه، ويجند منهم من يشاء
بمرتب عشرة ريالات مجيدية؛ ليقاتل بهم ابن السعود والإمام يحيى والإدريسي.
(20) سبب منع العربان للحجاج من زيارة المدينة المنورة إلا بجعل
يأخذونه منهم - أنه كان لقبائل حرب منذ القدم مرتبات من الدول الإسلامية وآخرها
الدولة العثمانية (40) ألف جنيهٍ سنويًّا في مقابل أمن الطرق وحفر الآبار
وإحضار الحطب والماء للحجاج في الطريق ومحطاتها , ولما ثار الشريف على
الدولة العثمانية كان يعطيهم إياها للاستعانة بهم على فتح المدينة بعد حصارها , فلما
فتحت المدينة بالهدنة قطع تلك المرتبات , وصار العربان من حرب وغيرهم
يتعرضون للحجاج في طريق المدينة , ويأخذون من كل شخص جنيهين فأكثر، وفي
كل سنة يكون عدد الزائرين (30) ألف جمل أو يزيدون , ثم ما اكتفى بقطع
المرتبات , بل صار يجعل أجرة الجمل من مكة أو جدة إلى المدينة (16) جنيهًا
يأخذ منها (6) لنفسه وللحكومة واحد , وللمقدم والمطوف والرهينة (واحد)
ولقائم مقائم القصر الشريف محسن (واحد) وللوسائط (واحد) فيبقى
للجمال خمسة , فتضرر العربان من هذه الحالة وطلبوا منه الإنصاف، فامتنع
وامتنعوا هم أيضًا من حمل الحجاج، وذهبوا بجمالهم إلى ديارهم , فأرسل لهم
الوسائط تسترضيهم، فرجعوا وشرطوا شروطًا منها: منع السخرة على جمالهم،
وعدم تكليفهم بالذهاب بها إلى مواقع الحرب جهة أبها عسير والطائف وعدم شراء
جمالهم من المزاد، وإعطاؤهم المعاشات من رجب سنة 1342 إلى آخر سنة
1342 مبلغ (18) جنيه مقدمًا , وجعل كراء الجمل الصافي بيدهم (8) ولغيرهم
(8) , وإذا وقع على القافلة تعد فهم يقاتلون المتعدي إلى آخر قطرة من دمائهم
خلافًا لما كان سابقًا من عدم القتال، فحلف لهم بالوفاء ولكنه لم يف، وأعطاهم من
الثمانية عشر ألف جنيه ألفي جنيه , فامتنعوا عن قبولها وخرجوا من مكة غضابًا ,
ولما وصلت القافلة إلى رابغ أرجعوها إلى مكة بدون زيارة , وقد مكثت القوافل في
رابغ عشرة أيام؛ لأن بعض الجمالة هربوا بجمالهم إلى منازلهم التي حول المدينة ,
وأما من كانت منازله حول جدة ومكة فقد عادوا بالحجاج , وقد أرسلت الحكومة
بواخرها إلى ينبع ونقلت الحجاج على حسابها بزعمها , مع أنها كانت أخذت رسم
الجمل (8) جنيهاتٍ , وزادت رسم الجمال إلى مكة مجيديًّا , ولما رجعت
القوافل بهم خرج وقابلهم من الزاهر والشهدا راكبًا حصانه , وقد سبقه بساعتين
محسن راكبًا السيارة , فلما سمع الجمالة صوت السيارة أيقنوا أنه يريد أذاهم؛
فقطعوا أربطة الأحمال , وقلبوا الشقادف بمن فيها , فمنهم من جرح ومنهم من كسرت
يده أو رجله , والقليل منهم سلموا ودخلوا مكة على حالة مبكية.
هذا قليل من كثير من المظالم الواقعة على الحجاج والأهالي.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(25/421)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
سُئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية -رضي الله تعالى عنه-
عن كراس وجد بخط بعض الثقات , قد ذكر فيها كلام جماعة من الناس فمما فيه:
(قال) بعض السلف: إن الله تعالى لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها
خلقًا. قال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة واحتجب
بها مجازًا، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان
من أهل المجاز والفرق شهدها ستورًا وحُجُبًا.
(قال) وقال في قصيدة له:
لقد حق لي رفض الوجود وأهله ... وقد علقت كفاي جمعًا بموجدي
ثم بعد مدة غير البيت بقوله: لقد حق لي عشق الوجود وأهله.
فسألته عن ذلك فقال: مقام البداية أن يرى الأكوان حجبًا فيرفضها، ثم يراها
مظاهر ومجالي فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم:
أُقَبِّلُ أرضًا سار فيها جِمالها ... فكيف بدار دار فيها جَمالها
(قال) : وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبي نواس
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
لبس صورة العالم فظاهره خلقه، وباطنه حقه. وقال بعض السلف: عين
ما ترى، ذات لا ترى، وذات لا ترى، عين ما ترى، الله فقط والكثرة وهم. قال
الشيخ قطب الدين بن سبعين: رَبٌّ مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط
والكثرة وَهْمٌ.
للشيخ محيي الدين بن عربي
يا صورة أنس سرها معنائي ... ما خلقت للأمر ترى لولائي
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا ... تشهدنا في أكمل الأشياء
وطلب بعض أولاد المشايخ للحر ما يرى من والده الحج [1] فقال له الشيخ:
طف يا بني ببيت ما فارقه الله طرفة عين
(وقال) قيل عن رابعة: إنها حجت فقالت: هذا الصنم المعبود في الأرض
وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه. وفيه للحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سناء لاهوته الثاقب
ثم بدا مستترًا ظاهرًا ... في صورة الآكل والشارب
قال: وله:
عقد الخلائق في الإله عقائدًا ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
وله أيضًا:
بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني ... فارفع بحقك إني من البين
(قال) : وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول: بهذه البقية [2]
التي طلب الحلاج رفعها تصرف الأغيار في دمه. وكذلك قال السلف: الحلاج
نصف رجل , وذلك أنه لم ترفع له الآنية بالمعنى , فرفعت له صورة. قالوا لمحيي
الدين بن العربي:
والله ما هي إلا حيرة ظهرت ... وبي حلفت وإن المقسم الله
وقال فيه: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى
اشتاق أن يرى ذاته المقدسة , فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة
ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة. قال ابن الفارض في
قصيدته (نظم السلوك) :
وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى ... بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة
(قال) وقال ابن إسرائيل: الأمر أمران. أمر بواسطة وأمر بغير واسطة،
فالأمر الذي بالوسائط قبله من شاء الله ورده من شاء الله تعالى، والأمر بغير واسطة
لا يمكن خلافه، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 82) فقال له فقير: إن الله تعالى قال لآدم بلا واسطة: لا تقرب
الشجرة فقرب وأكل. فقال: صدقت , وذلك أن آدم إنسان كامل. وكذلك قال شيخنا
علي الحريري: آدم صفي الله تعالى، كان توحيده ظاهرًا وباطنًا , فقال: فكان قوله
تعالى: (لا تأكل) ظاهرًا، وكان أمره: (كل) باطنًا، فأكل، فكذلك قوله
تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرًا، فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا , فلم يسجد فغير
الله عليه وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية.
(قال) وقال شخص لسيدي حسن: يا سيدي إذا كان الله يقول لنبيه:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أيش نكون نحن؟ فقال سيدي:
ليس الأمر كما تظن، قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)
أيش غير الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: 10) .
وفيه لأوحد الدين الكرماني:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين
غيره:
لا تحسب بالصلاة والصوم تنال ... قربًا ودنوًّا من جمال وجلال
فارق ظلم الطبع تكن متحدًا ... بالله وإلا كل دعواك محال
غيره للحلاج:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
يشاهد حقًّا حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر
للشيخ نجم الدين بن إسرائيل:
الكون يناديك أما تسمعني ... من ألف أشتاتي ومن فرقني
انظر لتراني منظرًا معتبرًا ... ما فيَّ سوى وجود من أوجدني
وله:
ذرات وجود هي للحق شهود أن ليس لموجود سوى الخلق وجود
والكون وإن تكثرت عدته ... منه إلى علاه يبدو ويعود
وله:
برئت إليك من قولي وفعلي ... ومن ذاتي براءة مستقيل
وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل المستحيل
للعفيف التلمساني:
أحن إليه وهو قلبي وهل يُرَى ... سواي أخو وجد يحنّ لقلبه
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ... وما بعده إلا لإفراط قربه
قال بعض السلف: التوحيد لا لسان له، والألسنة كلها لسانه.
(وفيه) لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك
أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له.
(وفيه) سمعت من الشيخ محمد بن بشر النواوي أنه ورد سيدنا الشيخ علي
الحريري إلى جامع نوى، قال الشيخ محمد: فجئت فقبلت الأرض بين يديه
وجلست , فقال: يا بني وقفت مدة مع المحبة فوجدتها غير المقصود؛ لأن المحبة لا
تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ثم وقفت مدة مع التوحيد فوجدته كذلك؛ لأن
التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا.
(وفيه) سمعت من الشيخ نجم الدين بن إسرائيل مما أسرَّ إليَّ أنه سمع من
شيخنا الشيخ علي الحريري في العام الذي توفي فيه , قال: يا نجم رأيت لهاتي
الفوقانية فوق السموات , وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سمعت
مني؛ ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة. فلما كان بعد ذلك بمدة , قال شخص في
حضرة سيدي الشيخ حسن بن الحريري: يا سيدي حسن! ما خلق الله أقل عقلاً
ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمرود وأمثالها. فقلت أنا: هذه المقالة ما يقولها إلا
أجهل خلق الله , أو أعرف خلق الله. فقال: صدقت وذلك أنه سمعت من جدك
يقول: رأيت كذا وكذا , فذكر ما روى نجم الدين عن الشيخ.
(وفيه) قال بعض السلف: من كان عين الحجاب على نفسه، فلا حاجب ولا
محجوب.
(والمطلوب من السادة العلماء) أن يبينوا لنا هذه الأقوال , وهل هي حق
أو باطل؟ وما يعرف به معناها، وما يبين أنها حق أو باطل , وهل الواجب
إنكارها؟ أو إقرارها؟ أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما حكم من
اعتقد معناها؟ إما مع المعرفة بحقيقتها، وإما مع التأويل المجمل لمن قالها ,
والمتكلمون أرادوا لها معنًى صحيحًا يوافق العقل والنقل , ويمكن تأويل ما يشكل
منها وحملها على ذلك المعنى؟ وهل الواجب بيان معناها وكشف مغزاها، إذا كان
هناك ناس يؤمنون بها ولا يعرفون حقيقتها، أم ينبغي السكوت عن ذلك , وترك
الناس يعظمونها ويؤمنون بها مع عدم العلم بمعناها؟
(فأجاب شيخ الإسلام) أبو العباس تقي الدين أحمد ابن تيمية، قدس الله
روحه ونور ضريحه:
الحمد لله رب العالمين. هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين
مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى مخالفتها للمعقول والمنقول:
(أحدهما) الحلول والاتحاد وما يقارب ذلك؛ كالقول بوحدة الوجود، كالذين
يقولون: إن الوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك
أهل الوحدة كابن عربي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض صاحب
القصيدة التائية (نظم السلوك) وعامر البوصيري السيواسي الذي له قصيدة تناظر
قصيدة ابن الفارض، والتلمساني الذي شرح مواقف النغري [3] وله شرح الأسماء
الحسنى على طريقة هؤلاء , وسعيد الفرغاني الذي شرح قصيدة ابن الفارض
والششتري صاحب الأرحال الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلباني، وابن أبي
منصور المصري صاحب (فك الأزرار، عن أعناق الأسرار) وأمثالهم.
ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي , ويزعم أن
الأعيان ثابتة في العدم غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق
مفتقر إلى الأعيان في ظهور وجودها , وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها الذي هو
نفس وجوده، وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء , وقول من يقول:
وجود المخلوق هو وجود الخالق. ويقول: فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق،
والوجود الخالق. هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
وفيهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين كما يقوله القونوي ونحوه , فيقولون:
إن الواجب هو الموجود المطلق لا بشرط. وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان، فما
هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينًا، وإن قيل: إن المطلق جزء من
المعنى. لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوقات، والجزء لا يبدع
الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا.
ومن قال: إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. كما يقوله ابن سينا
وأتباعه , فقوله أشد فسادًا؛ فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا
الأعيان، فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل - شر من قول الذين
يشبهون أهل الحلول.
وآخرون يجعلون الوجود الواجب والوجود الممكن بمنزلة المادة والصورة
يقولها [4] المتفلسفة أو قريب من ذلك كما يقوله ابن سبعين وأمثاله.
وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود أو
الحلول أو الاتحاد , وهم يقولون بالحلول المطلق والوحدة المطلقة والاتحاد المطلق،
بخلاف من يقول بالمعنى: كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون: بإلهية
علي أو الحاكم أو الحلاج أو يونس القبني أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية؛
فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم،
ولهذا يقولون: النصارى إنما كان خطؤهم للتخصيص، وكذلك يقولون عن
المشركين عباد الأصنام: إنما كان خطؤهم؛ لأنهم اقتصروا على عبادة بعض
المظاهر دون بعض. وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقًا على وجه
الإطلاق والعموم.
ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال ما هو أعظم من اليهود
والنصارى، وهذا المذهب كثير في كثير من المتأخرين , وكان طوائف من الجهمية
يقولونه. وكلام ابن عربي في (فصوص الحكم) وغيره [5] ، وكلام ابن سبعين
وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض (نظم السلوك) ، وقصيدة عامر
البصري، وكلام العفيف التلمساني وعبد الله البلبالي والصدر القونوي، وكثير من
شعر ابن إسرائيل وما ينقل عن شيخه الحريري، وكذلك يوجد نحو منه في كلام
كثير من الناس غير هؤلاء؛ هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد
ووحدة الوجود، وكثير من أهل السلوك الذين لا يعتقدون هذا المذهب يسمعون شعر
ابن الفارض وغيره , فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه
من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال.
وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يعرفوا مباينة الله سبحانه للمخلوقات وعلوه عليها،
وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع
الشمس نفسها.
ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه , افترق الناس في هذا
الباب على أربعة أقوال: فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته على عرشه
بائن من خلقه [6] كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وكما علم
العلو والمباينة بالمعقول الصريح الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على
ذلك خلقه في إقرارهم به وقصدهم إياه سبحانه وتعالى.
والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونقلتهم وهم الذين يقولون: لا داخل العالم
ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له. فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا
يخلو موجود عن أحدهما , كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم
والقول الثالث: قول حلولية الجهمية الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان
كما تقول ذلك النجارية. أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية , وهؤلاء القائلون
بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء , فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم
وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكلمة الجهمية
لا يعبدون شيئًا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك لأن العبادة تتضمن
القصد والطلب والإرادة والمحبة , وهذا لا يتعلق بمعدوم. فإن القلب يتطلب
موجودًا , فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه.
وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم , فإذا كان أهل الكلام
والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي التي لا يوصف بها إلا المعدوم , لم
يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعلوم المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة
فإنه ينافي عدم المعبود , ولهذا تجد الواحد من هؤلاء عند نظره وبحثه , يميل إلى
النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول. وإذا قيل: هذا ينافي ذلك. قال:
ذاك مقتضى عقلي ونظري، وهذا مقتضى ذوقي ومعرفتي. ومعلوم أن الذوق والوجد
إن لم يكن موافقًا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما.
والقول الرابع: قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل
مكان , وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف؛ كأبي معاذ وأمثاله , وقد ذكر
الأشعري في (المقالات) هذا عن طوائف , ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب
المكي وأتباعه مثل أبي الحكم بن برجان وأمثاله، ما يشير إلى نحو من هذا , كما
يوجد في كلامهم ما يناقص هذا. وفي الجملة: فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه
كثير من مستأخري الصوفية. ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه، كما في قول الجنيد
لما سئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد المحدث عن القدم. فبين أن التوحيد أن تميز
بين القديم والمحدث. وقال: أنكر عليه ذلك ابن عربي صاحب الفصوص وادعى أن
الجنيد أمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين العبد والرب بناء على
دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم
والمحدث إلا من يكون ليس بقديم ولا محدث. وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس
ذاك، والتمييز بين هذا وذاك، لا يقتضي أن يكون العارف المميز بين شيئين ليس هو
أحد الشيئين , بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذاك الإنسان الآخر , مع أنه أحدهما
فكيف لا يعلم أنه غير ربه وإن كان هو أحدهما؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا والعبارة غير ظاهرة فلعلها محرّفة.
(2) لعلها الآنية.
(3) هو الشيخ محمد بن عبد الجبار بن الحسن النغري الصوفي المتوفى سنة 354 , والتلمساني شارحه: عفيف الدين سليمان بن علي الصوفي الشاعر صاحب الديوان المشهور توفي سنة 690.
(4) لعل أصله: التي يقولها إلخ.
(5) قوله: وكلام ابن عربي مبتدأ خبره مع ما عطف عليه قوله بعد: وهو مبني على هذا المذهب.
(6) هذه الكلمة المأثورة بالروايات الصحيحة المسندة إلى أئمة السلف قد جمعت في صفات الله تعالى بين قبول نصوص الكتاب والسنة وبين التنزيه المطلق الذي أراده الجهمية والمعتزلة وبعض نظار الأشعرية بتأويل النصوص بالتحكم والتكلف المؤدي إلى تعطيلها وجعلها كاللغو حتى لا يذكرونها في عقائدهم ويسمون من يذكرها على إطلاقها مشبهًا، فمباينة الله تعالى لخلقه أبلغ ما يقال في تنزيهه عن مشابهتهم في شأن ما من شؤون الربوبية والألوهية، أو مشابهته لهم في شأن ما من شؤون المخلوقين، فعلوّه تعالى على خلقه واستواؤه على عرشه فوق جميع سماواته لا يقتضي مع ذكر من المباينة أن يكون محصورًا أو محدودًا أو متحيزًا، إنما علوّه سبحانه علوّ مباينة لها لا كعلوّ بعضها على بعض، فإن هذا أمر إضافي لا حقيقة له في نفسه، يعترف بهذا جميع الفلاسفة وعلماء المعقول في كل زمان.(25/433)
الكاتب: حسني عبد الهادي
__________
من الخرافات إلى الحقيقة [*]
(10)
إن الأئمة في نظر طائفة (الإمامية) يأتون على هذا الترتيب:
(1) سيدنا علي.
(2) الحسن.
(3) الحسين.
(4) علي بن العابدين.
(5) محمد الباقر بن زين العابدين.
(6) جعفر الصادق بن محمد الباقر.
(7) موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
(8) علي الرضا بن موسى.
(9) محمد بن علي النقي.
(10) علي بن النقي.
(11) حسن بن علي الزكي.
(12) محمد بن حسن العسكري.
يعتقد الإماميون أن الإمام الثاني عشر وهو محمد بن حسن العسكري حي إلى
اليوم , (وهو الإمام المهدي المنتظر عندهم) .
ومن مطالعة مؤلفاتهم يرى الإنسان عقائد غربية مثل قولهم: غيبة صغرى،
وغيبة كبرى.
الغيبة الصغرى: يزعمون أنه كان في عام 266 هجرية في زمان المعتمد
العباسي مناسبات وعلائق بين الإمام وصلحاء الأمة. وكان بينهما سفراء ووكلاء
ودام هذا 73 سنة.
الغيبة الكبرى: ابتدأت في خلافة الراضي بن المقتدر، وانقطعت بعد ذلك
المناسبات بين الأئمة والأمة , وكان أول وكيل للإمام عند الخلفاء (عثمان بن سعيد
العمري الأسدي) , ثم انتقلت هذه السفارة بأمر الإمام إلى ابنه أبي جعفر، وظل هذا
وكيلاً عن الإمام خمسين سنة، ثم انتقلت إلى أبي القاسم حسين بن روح أبي بحر
النوبختي , وبوفاته انتقلت وكالة الإمام إلى أبي الحسن علي بن محمد السميري ,
وعندما مرض هذا مرض الموت سألته الشيعة: لمن يجب توجيه الوكالة؟ فأعطاهم
مكتوبًا زعم أنه أخذه من الإمام المخفي هذه صورته: (بسم الله الرحمن الرحيم.
يا علي بن محمد السميري، عظم الله أجر إخوانك فيك، فأنت ميت، ما بيني وبينك
ستة أيام , فاجمع أمرك ولا تعرض إلى أحد فيقوم مقامك , وبعد وفاتك قد وقعت
الغيبة التامة، فلا ظهور بعد إلا بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة
القلوب، وامتلاء الأرض جورًا، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة. ومن يدعي
المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذاب مفتر فلا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم) .
وبهذا المكتوب يدعي الإماميون أن الغيبة الصغرى قد انتهت، وأن الإمام
اختفى، وأن الغيبة الكبرى قد ابتدأت.
إن هذه العقائد ليست من الإسلامية في شيء، وهي إيرانية بحتة.
إن الإمام الثاني عشر توفي عام 260 في زمان الخليفة العباسي المعتمد , وما
رآه هؤلاء الأكارم من الأذى حقيقة يحرق الفؤاد، إن والد حسن جلب بأمر الخليفة
المتوكل من المدينة إلى سر من رأى , وحبس هناك وظل في السجن حتى مات،
وهكذا عومل حسن، وحينما حبس الإمام حسن خرج ابنه البالغ من العمر خمس
سنين؛ ليفتش على أبيه , ثم دخل في مغارة أو - سرداب - ولم يخرج منها.
وظل الإمامية يذهبون مدة طويلة يوميًّا لباب المغارة ينتظرون خروج الإمام
منها، كما ذكر ابن خلدون
إن الإمامية لم يكتفوا بتصديق الأوهام وإدخالها بين قواعد الدين، بل اخترعوا
أحاديث ما لها أصل , وقدموها للعوام كصحيحة تأمينًا لمنافعهم وتهويشًا لبساطة الدين،
الأحاديث التي تبحث عن فضائل الطعام , والتي قيل فيها: إن كذا وكذا من طعام
أهل الجنة، وأمثال ذلك من الخرافات جميعها من تلفيقات الإماميين. [1]
إن هذه الأحاديث الموضوعة تجاوزت الحد , وأضرت بالمسلمين أضرارًا
اقتصادية أيضًا. مثلاً: ماذا تظن بأصل الاستمداد من الأموات؟ وبجمع الإعانات
لهم؟ رجل كسلان لا يقدر أن يحسن عملاً , يرى في المنام قبرًا لا يعلم أحد ما في
داخله [2] فيتخذه ذريعة للمعيشة بدون تعب، يعلق هناك قنديلاً، ويرفع على أطرافه
حائطًا [3] ثم يكتب لوحًا بأن زيارته تشفي الأمراض وتقضي الديون , ثم يضع
جملة توافق هواه ويسميها حديثًا. ويكتبها بخط جلي، ويعلقها في محل مرتفع؛
عندئذ يصدقه البله , ويهرعون للزيارة وللإعانة ولتقديم النذور!!
فهذا الحال أضر بالمسلمين أضرارًا عظيمة أولها: مخالفة حكام الدين ,
وثانيها: إغراء الناس بالمطل والاحتيال.
وثالثها: تعطيل قسم عظيم من الثروة العمومية.
ورابعها: أنه يسوق الناس للأوهام ويبعدهم عن الجزم بأن {لَيْسَ لِلإنْسَانِ
إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) .
فالعمدة في الرزق الكسب من طريق الأسباب، لا ما أعطاه الأموات. أما آن
الأوان أيها المسلمون لنبذ هذه الخرافات؟ أليس قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) أبلغ من
جميع هذه الترهات؟
***
فرقة الكاملية
من الشيعة من غالى وزعم أن كل من لم يبايع عليًّا - رضي الله عنه -
عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر , حتى إن عليًّا نفسه لم يسلم من
اتهامهم، منهم الكاملية رجل اسمه أبو كامل كان يقول بالتناسخ، وهذه خلاصة
تعاليمه: (الإمامة نور تنتقل من شخص إلى آخر , ويتجلى هذا النور في شخص
بشكل النبوة، وفي آخر بشكل الإمامة , وفي بعض الأحايين ينقلب نور الإمامة إلى
نور النبوة) هذه أصول خرافاته , يراها الأوربي ويظن بنا الظنون [4] .
***
فرقة البيانية
هؤلاء يقولون: بتجسد الله (سبحانه وتعالى)
رئيسهم رجل اسمه (بيان بن سمعان التميمي) , وهذه خلاصة مذهبه: إن الله
بصورة الإنسان , ولا أحد يبقى غيره [5] ، وإن روحه تجلت أول الأمر في علي بن
أبي طالب , ثم انتقلت إلي ابنه محمد ابن الحنفية , ثم إلي أبي هاشم، وأخيرًا إلي
بيان بن سمعان؛ أي: إليه نفسه. (بيان) هذا كان يزعم اتحاد الإله بشخص
علي. عجبًا من أين أتيت هذه الخرافات إلى ديننا الحنيف؟ أتت من إيران واليونان
ومن النصارى؛ لأن زعم بيان بنصف ألوهية علي هو عين اعتقاد الإيرانيين
في (ميترا) والنصارى في عيسى.
***
فرقة العليائية [6]
أسسها علياء بن ذراع الأسدي , وكان هذا يزعم بأن علياء هو الله , وكان
يزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث من قبل علي.
***
فرقة المغيرية
رئيسها المغيرة بن سعيد العجلي , كان يبالغ أكثر من بيان بما يبين شكله
تعالى وحدوده , وهذه نظريته: إن الله إنسان من نور وعلى رأسه تاج نوراني ,
وعندما أراد أن يخلق البشر تكلم باسمه الأعظم. وعندما بلغه عمل الناس السيئ
غضب وعرق , وحصل من عرقه بحران: أحدهما مالح، والآخر حلو , وكان البحر
الأول مظلمًا، والثاني نورانيًّا , ثم نظر للبحر النوراني فرأي ظله، فأخذ منه شيئًا
وخلق الشمس والقمر [7] , ثم قال: لا يجوز أن يشاركني في الألوهية أحد. وأعدم باقي
الظل , ثم خلق المؤمنين من البحر الحلو، والكافرين من البحر المالح. اهـ
لا أشك في أن دماغ الإنسان يجمد عندما يتصور أن أوربيًّا يقرأ هذه الترهات
باسم طائفة إسلامية , وأظن أن القرد يفكر أحسن من ذلك.
وهذه النظرية أيضًا إيرانية؛ لأن الإيرانيين كانوا يعتقدون مثل ذلك. وهو
وصف الله بما كان يصف الفرس (هرمز) معبودهم، ولقد وصف البحار. إنما كان
الفرس يسمونه (آهريمان) .
كان الإيرانيون يعتقدون بأن خالق كل شيء هو (هرمز) ، ثم قال هرمز
لزرادشت: بلغ الناس أن كل شيء يلمع على وجه الأرض هو مقتبس من نوري.
ولا في الكون أبهى من ذلك النور , خلقت الجنة والملائكة وكل شيء حسن من هذا
النور , وخلقت جهنم وجميع الشرور من بحر الظلمة. فيظهر أن المغيرة أراد أن
يقلد (هرمز) ولكنه لم يحسن التقليد أيضًا.
***
فرقة المنصورية
مؤسسها أبو منصور العجلي , ظهر في زمان عبد الملك الأموي , وادعى
الإمامة , فاجتمع حوله خلق كثير , وشغل الأمة وقتًا بما لا يفيد , وهذه نحلته قال:
صعدت إلى السماء ورأيت الله , ووضع يده على رأسي , وقال لي: انزل إلى
الأرض , وبلغ الناس أوامري.
وهذه خرافة مأخوذة من الكلدانية والمصرية , ولكنها صبغت بصبغة إسلامية،
يا للأسف.
***
فرقة الجناحية
رئيسها عبد الله بن معاوية , زعم أن روح الله انتقلت إلى الأنبياء , ثم إلى
الأئمة، ثم حلل جميع المحرمات. وقسم نظريته الأول مأخوذ من عقيدة قدماء
المصريين بالتناسخ , وقسم نظريته الثاني أخذه من نظرية (مزدك) الإيراني.
***
فرقة الخطابية
أسسها أبو الخطاب محمد ابن زينب الأسدي , هذا كان يقول بنبوة الأئمة
وبألوهيتهم. وكان يدعي بأنه أفضل من علي نفسه.
***
فرقة الهشامية
مؤسسها هشام بن سالم الجواليقي , ونظرية هذه الفرقة: لله جسد طوله
وعرضه وعمقه متساوية، وهو سبعة أشبار. يشبه الأجسام وجامع للأوصاف
الحسية، وهو جالس على العرش بالتماس , لا يعرف الأشياء إلا بعد ظهورها، وقبل
ظهورها لا يعرف عنها شيئًا , هذه نظرية هشام بن الحكم. وأما نظرية هشام بن
سالم فهي:
(زعمه) أن الله بصورة الإنسان، وله يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم،
ونصفه الأعلى مجوف , ولكنه ليس لحمًا ودمًا. إن هذه النظريات التي تضحك القرود
كانت قصدية لإشغال المسلمين عن الأشياء النافعة , ولقد نالوا ما يبغون وا أسفاه! ! !
***
فرقة اليونسية
مؤسسها يونس بن عبد الرحمن القمي , زعم أن الله جالس على العرش
والملائكة تجره من مكان إلى آخر , ثم يقول: مع أن الملائكة تجر عرش الله فهو
أقوى منهم كلهم.
***
فرقة المفوضة
يزعم هؤلاء أن الله بعد أن خلق محمدًا صلى الله عليه وسلم. فوض إليه خلق
كل شيء، فالخلاق هو محمد. وبعضهم ينسب خلقه العالم إلى علي.
إن هذا ليس من الإسلام بشيء، بل هو نصرانية بثوب إسلامي.
***
فرقة المشبهة
أشهر أركان هذه الفرقة أحمد الهيجمي , زعم هذا بأن الله جسم يلامس
ويصافح , وحتى يعانق من يريد من أهل الدنيا.
ومنهم عبد الله بن محمد بن كرام أسس شعبة لهذه الفرقة وسماها (المشبهة
الكرامية) , وقال: إن العرش هو قطر الألوهية.
أرأيت أيها القارئ المحترم ماذا كان يشتغل أجدادنا؟ أتظن أن هناك سببًا
أقوى مما ذكر أدى لتأخرنا وضعفنا؟ أتظن أن هناك سببًا لتشوش أفكارنا , وتردد
أعمالنا غير هذه النظريات المخلة المختلة.
لا تفل أيها القارئ اللبيب: هذا شيء مضى , وهو من بقايا القرون القديمة.
إن آثاره لحد اليوم حاكمة علينا. لماذا يقتل الأتراك والزيديين في اليمن؟ لماذا
اتفق الإدريسي مع النصارى؟ لماذا يقتل الأتراك بالدروز؟ لماذا يشتغل المسلمون
حتى اليوم في ترهات كهذه، والأوربي يشتغل بالبخار والحديد؟ كل هذا لأن
الإسلامية أضاعت شيئًا مهمًّا من نبالتها الأصلية , وأصبحت أعجوبة ممزوجة
بالخرافات. والأمر من كل هذا أن العوام أصبحوا خاضعين للخرافات أكثر من
الحقائق , وكل من حاول إرجاع المسلمين إلى دينهم الصافي يحكم عليه بضعف
الاعتقاد! ! وهؤلاء المساكين لا يدرون أنهم يدينون بخرافات اليونان وإيران.
ثم إن لمبشري النصارى تأثيرًا عظيمًا في إكمال ما غاب عن ذهن مؤسس
الفرق المبحوث عنها , أولئك كانوا يبتدعون بدعات جديدة , وهؤلاء يأتون من
طريق منحنٍ أهم ما يرمون إليه التشكيك بأمر الدين , وأغرب أمرهم أنهم فيما
يريدون إقناع الذي يجدونه ساذجًا بأمر ما , يتكلمون على الأديان كلها , ويجرحون
قواعد الإسلامية والنصرانية معًا؛ ليحسن السامع الظن بهم وينالون مأربهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لم سبق من الكتاب المترجم عن التركية (راجع ص 388 م 24) .
(1) هذا من تحامل المؤلف , فوضاع الأحاديث من غيرهم كثيرون.
(2) قد يكون ما فيه حمار أو كلب , وقد يكون خاليًا , ولذلك وقائع معروفة في بلاد مصر وغيرها.
(3) نسي المؤلف بناء القبة فوقه.
(4) هذه الفرقة وأمثالها من الغلاة ليسوا من فرق المسلمين , وقد انقرض أكثرهم.
(5) وقع غلط في اسم صاحب هذه النحلة ونسبته فهو بيان النميمي بباء فياء لا (بنان) بالنون , ومن كما كان في الأصل وهو القائلين بالتناسخ , وأن الرب رجل من نور يفنى فلا يبقى إلا وجهه.
(6) لا ذكر شيئًا عن هذه الفرقة.
(7) وفي كتاب الفرق بين الفرق أن ظله طار , فانتزع منه عينيه وخلق منهما الشمس والقمر , وأفنى باقيه.(25/444)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة العربية في طور جديد
دخلت المسألة العربية في طور جديد , بخروج حكومة نجد من عزلتها،
وتعرفها إلى العالم الإسلامي والشعوب العربية، ومد يدها القوية إلى مساعدة البلاد
العربية على الاستقلال المطلق , الذي عبثت به خيانة أمراء الحجاز، والإلقاء
بدلوها بين دلاء الشعوب الإسلامية في مسألة الخلافة، وقد صدر بذلك أول بلاغ
عامّ من عاصمة نجد بإمضاء نجل سلطانها، أرسل إلى أشهر الصحف في العالم
الإسلامي في 20 رجب سنة 1342 وهذا نصه:
للحقيقة وللتاريخ
بعد العنوان:
نرجو من جنابكم أن تفتحوا صدر جريدتكم للكلمة التالية؛ خدمة للتاريخ.
نشرت جريدة المقطم بتاريخ 21جمادى الثانية 1342 - 27 يناير 1924
مقالاً بعنوان: حديث (ملك الحجاز) , وقد اطّلعنا في بعض الجرائد السورية
والعراقية على أحاديث وتصريحات تكاد تتفق مع هذا الحديث. إن هذه الأحاديث
قد تضمنت أشياء عن سلطان نجد , وموقفه في القضية العربية والاتحاد العربي
تخالف الحقيقة والتاريخ , وإننا لنأسف أن يتجرأ المسؤلون على الاختلاق على
الأحياء.
لقد سعى سلطان نجد في الحرب العالمية وبعد الحرب العالمية لبناء الوحدة
العربية , فأرسل الكتب العديدة والرسل لابن الرشيد وملك الحجاز وأمير عسير
والكويت , ولكن ملك الحجاز - من بين أمراء العرب - قابل الدعوة بالاستهزاء ,
بل سعى لنقض بنيانها بما كان يسعره من نيران الفتن والدسائس في عسير وغيرها ,
وكتبه المرسلة منه إلى آل عائض والرشيد محفوظة لدينا. وماذا يقولون في الكتب
التي أرسلها سلطان نجد مع مساعد بن سويلم إلى ملك الحجاز وأولاده؟ تلك
الكتب نشرت في الصحف في حينها , والتي نشرت جريدة المقطم لا تبطن تلك
الكتب بما تنطوي عليه جوانح سلطان نجد وميله الشريف إلى التصافح مع جيرانه
والاتحاد معهم , هل علموا أن ملك الحجاز لم يسمح لأولاده بإجابة سلطان نجد
وهو (أي: ملك الحجاز) قد تخطى حدود اللياقة , بأن جعل جوابه لآل السعود
كافة، لا للجالس على عرش نجد؟ هل هذه الأعمال مما تقرب زمن الاتحاد العربي؟
وهل بمثل هذه السياسة تجتذب قلوب أمراء العرب؟
يصرح ملك الحجاز أنه خاطب سلطان نجد بأنه مستعد للتنازل عن عرشه،
وتسليم زمام الأمر لمن يستطع أن يقود العرب إلى طريق النجاة والسلامة، وهذا
أمر لا أساس له بالمرة , بل الواقع يخالفه تمام المخالفة. نعم إن ملك الحجاز قد
صرح أمام بعض الجماهير بمثل هذه التصريحات للتمويه على البسطاء. إن ملك
الحجاز يحاول أن يتولى الزعامة غير المقيدة في جزيرة العرب كلها؛ ليستذل
أمراء العرب ويقتطع بلادهم , ويتدخل في شؤونهم الداخلية، وهذا ما لا يمكن أن
يوافقه عليه أحد، وإن مكاتبات ملك الحجاز إلى أهل القصيم، وحثهم على نقض
ولائهم لسلطانهم لدليل بين على ما يخفيه وينويه لسلطان نجد وبلاده.
إن تحت يدنا من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة وخرمة وعسير ما
يفيد أن ملك الحجاز وولده عبد الله لا يسعون إلا لشهواتهم ومصالحهم , ولو أدى
ذلك إلى هدم بناء العرب، ولكننا نمسك عن نشرها الآن، فإن سمح لنا ملك الحجاز
بنشرها نشرناها. وهنالك يعلم العالم الإسلامي والعربي تلك الجنايات والدسائس
التي يقوم بها أولئك القوم الذين اتخذوا الصياح , وقلب الحقائق ديدنًا لهم ,
وسيعلمون أي الفريقين يجني على أمته العربية ووحدتها، وأيهم سبب هذا الانقسام،
وألقى النفرة بين الأمراء , وأشعل نيران الفتن والحروب بينهم. نعم سيعلمون أن
سلطان نجد لم يكن في جميع مواقفه إلا مدافعًا عن نفسه وبلاده وشرفه، وأنه كان
ولا يزال راغبًا من صميم فؤاده في إنشاء الوحدة العربية على أساس يجعل للعرب
قوة ومكانة تليق بتاريخهم المجيد.
20 رجب 1342 ... ... (فيصل بن عبد العزيز بن سعود)
(المنار)
نشر هذا البلاغ في جرائد مصر وسورية وسائر الأقطار العربية والأعجمية ,
ولم ننشره في الوقت الذي نشرته فيه اكتفاءً بها , وكان له تأثير حسن وعلقت
عليه الجرائد الحرة تعليقًا مقرونًا بالتفاؤل والرجاء في دخول قوة نجد في السياسة
العربية العامة. وإننا ننشر هنا تعليق جريدة (اتحاد الإسلام) التي تصدر في
طهران عاصمة الدولة الإيرانية لقلة اطلاع الناس عليها , فإنها صحيفة جديدة
تنطق بلسان محبي الجامعة الإسلامية، وهذا نص تعليقها على البلاغ عقب نشرها
له:
رأي لمسلمي إيران في ثالوث الحجاز وصاحب نجد:
هذا المكتوب يعرب عن دسائس ملك الحجاز لأمراء العرب , وسعيه بتفريق
الكلمة العربية، وما هي بأول قارورة كسرت في الإسلام، ولا تلك بأول جناية هذا
الإنسان الشرير على أمته، فإن كل ما يعرفه المسلمون عن ملك الحجاز دسائس
وحيل وجنايات يقفو بعضها بعضًا.
بنى عرشًا موهومًا لملكيته , وإنما أقام بنيانه على أساس الخداع والنفاق وشق
عصا الطاعة , حتى أسال إلى جوانبه أنهارًا من دماء المسلمين الذين كانوا
مرابطين في الثغور لحفظ الحرمين من عادية أعداء الإسلام. ولم يزل يدس هو
وأولاده الدسائس للمسلمين، لا يرعون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة. كل ذلك في منفعة
الإنكليز , وغاية ما يقنعهم من دنياهم وآخرتهم أن يقال لأحدهم: ملك الحجاز،
وآخر: ملك العراق. والثالث: ملك الأردن، وإن لم يكن لهذه الألفاظ معنى ولا
مصداق، إذ لا حكم ولا أمر ولا نهي ولا حول لهم ولا قوة , وليس لأحدهم من
السلطان مقدار ما لأحد صغار مأموري الإنكليز الذين يسعى ملك الحجاز وأولاده في
تثبيت سلطانهم على المسلمين، وإحكام طوق العبودية لهم في رقاب المؤمنين.
كل ذلك ليقال لأحدهم ملك , وهذه اللفظة أصبحت في البلاد التي يوجد فيها
هؤلاء الأشرار مرادفة للفظ خادم الإنكليز.
ويكفي من دسائس الإنكليز ما عمله فيصل ابن ملك الحجاز (! !) في
العراق، فإنه بايع رئيس العراقيين آية الله الخالصي على أن يسعى فى سبيل استقلال
العراق وقطع نفوذ الإنكليز , فإذا لم يستطع مضى من حيث أتي، وبايعه العراقيون
على ذلك , وما تمت له البيعة حتى نكثها , وأخذ يسعى لهدم استقلال العراق
وتثبيت نفوذ الإنكليز فيه بنفي العراقيين وحبسهم , وقتلهم بأيدي الإنكليز، حتى إنه
مد يد العدوان إلى آية الله الخالصي نفسه , ونفاه من العراق إلى الحجاز , ولولا
جميل مساعي الدولة الإيرانية لبقي فيه منفيًّا إلى الآن، ولكنها اتخذت جميع
الوسائل لمجيئه إلى إيران , وهو فيها الآن لا يسمح له بالرجوع إلى العراق لماذا؟
لأنه يطالب باستقلال العراق، وفيصل يسعى ضده، وكفى من دسائسه أن الإنكليز
يسعون لقتل المسلمين , ونهب أموالهم وهتك أعراضهم بيد الآشوريين , وفيصل
ساعدهم القوي في ذلك تثبيتًا للمعاهدة العراقية الإنكليزية. وهذه حادثة كركوك
الأخيرة , تذيب قلب كل مسلم يسمع أن الآشوريين الذين أمدهم الإنكليز بالسلاح
خربوا المدينة بقتل رجالها , ونهب أموالها حتى إنهم كانوا يهجمون على الحمامات
فيبقرون بطون نساء المسلمات فيها , وما كان من فيصل إلا أنه عاون الآشوريين
لما هاجت القبائل لرد عاديتهم؛ إرضاءً لساداته الإنكليز.
يشكو آل السعود من دسائس ملك الحجاز في العسير، ونحن نعلم من جناياتهم
أكثر من ذلك، والمسلمون قاطبة يعلمون أن ألد أعدائهم أبو جهل القرن الرابع عشر
وأولاده، ولكن هذه حقيقة يجب أن يعلمها آل السعود وكل مسلم، وهي أن ملك
الحجاز وأولاده آلة صماء بيد الإنكليز، وكل ما رآه العالم العربي والإسلامي من
دسائسهم ما كان إلا أمرًا وتدبيرًا من الإنكليز أجروه على أيدي هؤلاء الأجلاف ,
فإذا أراد آل السعود التخلص من تلك الدسائس فعليهم أن ينضموا إلى غير الإنكليز؛
ليستطيعوا تشكيل وحدة عربية وإنهاض المسلمين في جزيرة العرب.
وربما يجيب آل السعود بأنهم يتقاضون من الإنكليز في كل سنة ستين ألف
ليرة , ولا يمكنهم صرف النظر عنها. فحينئذ نقول لهم: إن هذا المبلغ يعطى لإبادة
العرب، وهو ثمن بخس إزاء تلك البضاعة الثمينة، ولا يخدعن آل السعود بذلك فإن
الإنكليز يجرون على أساس التفريق في سياستهم , فإذا أعطوا شيئًا من المال إلى
آل السعود فما ذلك إلا تغرير وخداع يتظاهرون بسببه بصداقتهم لهم , ومن جهة
أخرى يغرون بهم مسيلمة الحجاز وأولاده، وهكذا يصنعون في جميع العالم: يمدون
كل متخاصمين؛ ليطول الخصام ويدوم الدمار حتى يفنى الفريقان. هذه مدنية
الإنكليز فلماذا ينخدع لها ملوك الشرق؟ [1]
إن ملك الحجاز وأولاده قد تمحضوا لعبودية الإنكليز , فلا يتوقعن ملوك نجد
إصلاحهم؛ إذ قد استحوذ عليهم الشيطان (الإنكليز) فأنساهم ذكر الله , وإن
المسلمين في شرق الأرض وغربها قد علموا خيانتهم , فلا تؤثر تصريحاتهم على
المسلمين إلا زيادة نفرة وسوء ظن , فلا يهتم بتصريحات أولئك الدجالين ملوك نجد.
ولكن إذا أراد آل السعود قيادة العرب فعليهم أن يقاطعوا الإنكليز، ويتخذوا
سياسة العطف والحنان تجاه العرب كافة , ويحذروا كل الحذر من التعصب الديني
تجاه طوائف المسلمين , فإن ذلك أقوى باعث على ابتعاد المسلمين عن ملوك نجد.
وجه ملك نجد حملة إلى العراق سنة 1440 هجرية بقيادة فيصل الدويش [2]
ولو أنه كان استعمل العطف والحنان , وترك لجميع طوائف المسلمين حريتهم
الدينية لما عاقه عائق عن الاستيلاء على العراق , ولأعانه على ذلك شدة نفرة
العراقيين من الإنكليز وخادمهم فيصل ابن ملك الحجاز، ولكن فيصل الدويش
استعمل من القوة والشدة إزاء قبيلة البدور على ضفاف الفرات ما أجبرالعراقيين
كافة على المقاومة التي تمت بنفع الإنكليز وفيصل، وضرر عامة المسلمين , فعلى
آل السعود أن يبدلوا تلك السياسة بسياسية البنى (كذا ولعلها اللين) والعطف التي
كانت شعار أئمة المسلمين، ونحن نؤكد لهم أنهم يستطيعون أن يقودوا العرب كافة ,
فإنهم نافرون من سياسة ملك الحجاز وخداعه.
بقيت لنا كلمة نوجهها إلى بعض البلاد العربية التي نسمع عن بعض أهلها
أنهم بايعوا مسيلمة الحجاز بالخلافة، ونحن نعلم أن بعض السوريين لشدة حنقهم
على الفرنساويين يريدون الانتقام منهم لبيعة خادم الإنكليز , ولكن ذلك لا يبرر هذه
البيعة التعسة , فإن عداوة الفرنساويين لا توجب أن يقدم المسلمون على إهانة
مقدساتهم ومحو ديانتهم ببيعة ضليل خان المسلمين , وجنى على العرب جنايات
سياسية , ولم يكفه ذلك حتى أقدم على جنايات دينية باسم الخلافة، فكأنه آلى على
نفسه أن لا يبقي للمسلمين دينًا ولا وطنًا إلا امتلك الإنكليز زمامه , أيرى السوريون
أن عملهم هذا كان انتقامًا من الفرنساويين؟ كلا! فإنه انتقام من المسلمين قبل
الفرنساويين.
صح الله عقول الشبيبة السورية وبصَّرها بواجبها الديني والوطني.
(انتهى من عدد اتحاد الإسلام الرابع الذي صدر في طهران في ذي القعدة
سنة 1343) .
***
بلاغ آخر
من عاصمة نجد إلى العالم الإسلامي والشعب العربي
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (الأعراف:89) .
منذ بضع سنين قام نفر من إخواننا يطالبون باستقلال العرب , وينادون
بوجوب اتحاد أمراء العرب، فشكرنا سعيهم، وحمدنا عملهم، وسألنا الله أن يحسن
قصدهم ويرشدهم إلى خير العرب. عرضنا عليهم مساعدتنا على أن نضع حدًّا
لمطامع الأجانب ومقدار مداخلتهم في بلاد العرب , فأبوا إلا أن ينفردوا بهذا العمل
الخطير، ويأخذوا على عاتقهم مسؤوليته , ويحوزوا هم وحدهم فخر تحرير بلاد
العرب، فقلنا: أنجح الله استقلال العرب أيًّا كان المحرر والمنقذ، ولكن ما كاد
السيف يوضع في غمده حتى رأينا الاستقلال والتحرير وصاية وانتدابًا , وحتى
رأينا شباب العرب وأحرارهم يقادون إلى السجون , ويجلون عن بلادهم ويمنعون
من الإقامة في ديارهم، فهل الاستقلال أن يصبح العرب غرباء في بلادهم ومرافق
الحياة في يد غيرهم؟ ولولا أن الحجاز يمس شعور المسلمين احتلاله - لرأينا
الانتداب قد ضرب عليه.
ظننا أن القوم بعد هذه الكوارث يفيقون من نومهم، ويثوبون إلى رشدهم،
فيعتصمون بحبل الله المتين , ويستعينون بإخوانهم لإنقاذ البلاد العربية وتحريرها
من كل مغتصب، ولكن القوم ما زالوا في طغياتهم يعمهون، ما حرك شعورهم
احتلال بلاد العرب، وما آلم نفوسهم ما يعانيه إخوانهم العرب، ولكن استولى
عليهم الهلع، وفقدوا الراحة حينما رأوا جارتهم نجد قوية مستقلة لم تنفذ إليها مطامع
المستعمرين , فقاموا يناوئونها، ويكدرون صفو راحتها، فهل هذا هو التحرير؟
وهل تعد هذه الأعمال من وسائل الاستقلال؟
أيها الشعب العربي الكريم:
إن نجدًا قد حافظت على استقلالها في جاهليتها وإسلامها، ولم يدنس أرضها
قدم أجنبي مغتصب، وستبقى محافظة على حقها إن شاء الله ما بقي في شعبها عرق
ينبض.
إن نجدًا تمد يدها لكل من يريد خير العرب , ويسعى لاستقلال العرب. وتساعد
كل من ينهض لتحرير العرب واتحاد العرب.
إن نجدًا ترحب بكل عربي أبي، وتعد أرضها وطنًا لكل عربي: سوري أو
عراقي أو حجازي أو مصري إن نجدًا لا تطمع في امتلاك أرض خارجة عن
حدودها الطبيعية، ولكنها لا تقبل إلا أن تستقل عن بلاد العرب كلها استقلالاً
صحيحًا لا يكون لغير أبنائها سلطان عليها.
الخلافة:
ليست الخلافة من الوظائف الروحية التي يقصد بها مجرد التبرك , ولكنها
وظيفة سامية لجميع المسلمين حق النظر فيها , فليس لجماعة أو شعب حق البت
فيها بدون أخذ رأي باقي الشعوب الأخرى، ولذلك أنكرنا على الحسين بن علي
عجلته والحط من شأنها بقبوله هذا المنصب الذي لا يليق له، والذي حق البت فيه
راجع إلى جميع الشعوب الإسلامية.
إن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب عرض هذه
المسألة على مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلاً صحيحًا، وهنالك يسند هذا
المنصب إلى الكفء الذي يستطيع أن يصون حقوق المسلمين , ويبعث فيهم روح
الحياة والنشاط، ويربطهم برباط الأخوة الذي كاد ينحل. وهنا لا يسعني إلا أن
أشكر إخواننا مسلمي الهند الحاملين علم الجهاد لاستقلال جزيرة العرب وحفظ
الخلافة من عبث العابثين {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) .
... فيصل بن عبد العزيز السعود
... ... ... ... ... ... الرياض 28 شوال سنة 1342
***
مؤتمر الشورى
بشأن الحجاز في عاصمة نجد
(ورد في كتاب الرياض إلى البحرين، وأرسل منها إلى جريدة الأخبار بمصر)
في أول شهر القعدة سنة 1342 اجتمع في قصر الإمام عبد الرحمن والد
سلطان نجد جمع من العلماء والأعيان ورؤساء الأجناد، فمن العلماء: الشيخ سعد
الدين عتيق، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ
عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، ومن رؤساء الأجناد والأمراء: سلطان بن مجاد بن حميد زعيم برقا من
عتيبة، وأمير هجرة غطفط [3] ، وعبد الرحمن بن ربيعان أمير هجرة الداهنة [4]
ورئيس الروقة من عتيبة , وفيصل الدويش أمير الأرطاوية ورئيس مطير، وحزام ابن هزاع بن عمر، وفيصل بن حشر، ومعيطي بن عبود، وهذال بن سعيدان
رؤساء قبائل قحطان، وحجاب بن نهيث، وهندي الذويبي، وعبد المحسن العزم،
وعبد العزيز بن مضيان رؤساء حرب , وقد حضر الاجتماع غيرهم ممن لم نقف
على أسمائهم.
افتتح الاجتماع الإمام عبد الرحمن موجهًا كلامه إلى العلماء والإخوان فقال:
لقد جاءتني كتب عديدة من الإخوان يطلبون الغزو والحج , وهذه الكتب قد أرسلتها
في حينها إلى ولدنا عبد العزيز حفظه الله، وها هو اليوم أمامكم، فاسألوه عن كل ما
يبدو لكم.
السلطان عبد العزيز: إن جميع ما كتبتموه قد وصل إلي، وإن شكاياتكم كلها
من تعدي بعض المتعدين قد أحطت بها علمًا، وإني لم أحل دون غرضكم من الغزو
إلا حقنًا لدمائكم ودماء الأمة العربية العزيزة، على أن كل شيء له نهاية، والصبر له
حد لا يتجاوزه، والأمور مرهونة بأوقاتها، والفرص لا تهيأ في كل وقت.
سلطان بن مجاد: أيها الإمام، إننا نريد الحج لا محالة، ولا نستطيع أن نصبر
على ترك ركن من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه. إن مكة ليست ملكًا لأحد ولا
يحق لأحد أن يمنع مسلمًا أو يصد مؤمنًا عن أداء فريضة الحج. إننا نريد أن نحج،
فإن منعنا شريف مكة؛ دخلنا مكة بالقوة , وإن لم يصدنا عن سبيل الله , أو يلحق
بنا أذًى فنحن نحج ولا شأن لنا به، وإذا كنتم ترون من المصلحة تأخير فريضة
الحج فلابد من غزو الحجاز , وتخليص البيت من سيطرة طاغية مكة الذي أرهق
العباد , وضرب من المكوس والرسوم على قاصدي بيته ما تبرأ منه الشريعة
الطاهرة.
السلطان عبد العزيز: إن مسألة الحج هي من أهم المسائل التي يرجع الفضل
فيها إلى علمائنا - حفظهم الله - وهاهم حاضرون فليتكلموا , ونحن نتبع خطاهم.
الشيخ سعد بن عتيق: إن الحج من أركان الإسلام، ومسلمو نجد والحمد الله
يستطيعون أن يؤدوا هذا الركن على الوجه الأتم بالرضا أو القوة , ولكن من
الأصول الشرعية النظر إلى المصالح أو المفاسد , فالأمرالذي قد يؤدى إلى ضرر
أو مفسدة، يدفع فهل هنالك من مفسدة أو مضرة قد تنتج من الترخيص لمسلمي نجد
بالذهاب إلى بيت الله؟ ذلك ما نريد أن نقف عليه من الواقفين على السياسة.
السلطان عبد العزيز: أيها العلماء والإخوان لقد سعيت من مدة طويلة في
بسط السلام والأمان داخل الجزيرة , فنحن لا نود أن نحارب من يسالمنا، ولا نمتنع
عن مصافاة من يصافينا , لقد أحببت أن نعيش مع أشراف الحجاز كما يعيش
الجيران على المودة والمحبة , ولكن شريف مكة كما تعلمون يسعى دائمًا لبث
الدسائس وإلقاء بذور الخلاف بين عشائرنا، ولكنه كان دائمًا يبوء بالخسران، والله
لا يترك الحق يصرعه الباطل. إن شريف مكة قد ورث من أسلافه بغضكم فهو لا
يفتأ يطعن في طريقكم السوي وسيرتكم المحمدية، ولا يألو جهدًا في الافتراء علينا
والطعن على علمائنا , ولكن أهل الحق لا يضرهم من ناوأهم، ولينصرنهم الله ما
نصروا دينه، وظاهروا شريعته.
إن شريف مكة لم يكفه ادعاؤه الزعامة على العرب مع أنه أضعفهم، بل قام
يلقب نفسه بإمارة المؤمنين , مع أنه يعلم أن الأقطار الإسلامية كلها تبغضه، وأن
علماءكم قد أرسلوا التلغرافات إلى مصر والهند , ينكرون عليه هذه الدعوى التي لا
نراه كُفُؤًا لها، ولابد من وضع حد لأكاذيبه وإفساداته.
أما الحج هذه السنة فلا أراه من مصلحتكم. أنا لا أقبل أن تحجوا وبكم شيء
من الضعف أو يلحق بكم نوع من الأذى والضرر , وإني على يقين أن أخذ مكة
والمدينة لا يحتاج إلى أكبر مجهود , ولكن مكة ليست لنا وحدنا بل هي للمسلمين
كافة، وما دمنا لم نضع خطة بالاشتراك مع المسلمين , فأنا لا أجيز لكم الاستيلاء
على إحدى المدن المقدسة.
إن شريف مكة قد لا يمنعكم من الدخول إلى مكة , ولكن الرجل لا يعدم
وسائل الشر، فقد يدس من يتحرش بكم؛ لتحدث فتنة في مكة في موسم الحج وفيه
المسلمون من كل جنس , وإني أكاد أجزم أن هذه خير فرصة له؛ ليهيج علينا العالم
الإسلامي الذي أخذ يفهمنا ويقترب منا ونقترب منه، واعلموا أن الأمر لا يطول،
فاصبروا إن الله مع الصابرين.
عندئذ قال العلماء بصوت واحد: إنه لا حرج عليكم من تأخير الفريضة هذا
العام، مادام أن أداءها قد يؤدي إلى فتنة في بلد الله الحرام.
فيصل الدويش: لقد وردت إلي كتب كثيرة من عشائر مطير الفارة في
العراق، تطلب العفو والأمان؛ لترجع إلى أماكنها.
أحد العلماء: إن هؤلاء الأشقياء قد خرجوا على ولي أمرهم، وعاثوا في
الأرض فسادًا، ولكن بما أنهم قد ندموا على فعلتهم، وثابوا إلى رشدهم، فالعفو
خير، وما قتل الأحرار كالعفو عنهم , ولكن أرى أن الواجب يقضي بأنهم يردون ما
نهبوا وما سلبوا إلى أهله.
رؤساء عتيبة: إذا كان الحجاز معاديًا لنا , ولا يبتغي إلا إلحاق الأذى بنا، فلم
لا تبيحوا لنا غزو عشائره التي لا تزال خاضعة.
سلطان نجد والعلماء: إن هذه أشهر حرم , اتركوا الغزو فيها حتى تمضي.
فإذا مضت فلابد من النظر إلى ما فيه المصلحة.
ثم انفض الاجتماع وسافر كل زعيم إلى هجرته؛ ليخبر قومه بما وقع من
البحث , وما حدث من النتائج في المفاوضة اهـ.
تأثير صوت نجد في العالم الإسلامي ولا سيما الهند:
لقد كان الخطابان اللذان وجههما نجل سلطان نجد إلى العرب والعالم الإسلامي
كالرياح التي تهب قبل المطر بشرى بين يدي رحمة الرب الرحيم، ثم كان قرار
مؤتمر الشورى - هذا - كالسحاب الثقال ذات الرعد والبرق، فما عتم الغيث أن
انبعق، والغوث أن اتسق.
سُرَّ أهل الرأي والبصيرة من الشعب العربي وسائر الشعوب الإسلامية بهذا
الطور الجديد لإنقاذ جزيرة العرب ومشاعر الإسلام من طاغوت الحجاز وأوليائه
الأجانب، وقد رجعنا صدى جريدة اتحاد الإسلام الإيرانية لصوت نجد الأول، فألق
السمع لصدى صوت جمعية الخلافة في الهند للأول والآخر:
كتاب جمعية الخلافة إلى سلطان نجد
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين:
وبعد، إن مسلمي الهند، وأمراءهم وعلماءهم وتجارهم وجميع طبقاتهم قد راقبوا
عن كثب مجرى أموركم وأقوالكم الصادرة من فؤادكم , فتحقق لديهم أن في قلب شبه
جزيرة العرب ملة إسلامية، وشهامة قحطانية، ونهضة عربية، ولا سيما عندما
انضممتم إلى الوحدة العربية، وجاهرتم بحمايتها، وأنكم ساعون لنصرتها.
وكذلك أبت غيرتكم الإسلامية، وصفاتكم العبقرية، أن تروا الجامعة
الإسلامية لا قيادة لها وتجنحوا للسكون! ! فتقدمتم إلى العالم الإسلامي معلنين
ومصرحين أنكم مع العلماء لتأييد الشرع منضمون، وفي المؤتمر الإسلامي العتيد
داخلون , ولحماية الخلافة مع ملوك الإسلام وأمرائهم وقوادهم مدفعون.
فلا يسع علماء الهند إلا أن يرفعوا أيديهم إلى قبلة الدعاء في السماء داعين
المولى عز وجل أن يكلل أعمالكم بالنجاح، ويلهم بكم الإسلام والعرب سبل الفلاح،
إنه مجيب الدعاء.
كيف لا وقد زاد فرح وحبور مسلمي الهند عندما تحققوا إخلاصكم وبطولتكم
لإحياء الجامعتين العربية والإسلامية. وها إن مسلمي الهند يعلقون الآمال الطوال
على غيرتكم وفطنتكم في تشييد بناء للاتحاد العربي؛ لتستطيعوا أن تقفوا بوجه كل
أجنبي يقصد شبه جزيرتكم.
أمدكم الله بنصره، وحرسكم بعنايته، وجعلكم الله مصباحًا لإنقاذ إخوانكم
العرب من الذل والعار، اللذين دهماهم وخيما على بلادهم بجهل الحسين بن علي
وأولاه ضروب السياسة {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ} (الأعراف: 182-183)
قرأنا خطابكم في صحيفة الأخبار الغراء الصادرة في 6 محرم سنة 1343 الذي
ألقيتموه في ذي القعدة في مؤتمر رياض عاصمتكم فألفينا خطابكم مملوءًا حكمة
وأخلاقًا وسياسة، قل أن توجد هذه المقدرة بأمثالكم.
ولقد طلب القواد منكم أن تغزوا مكة وتستخلصوها من الحسين , فأبيتم أن
تحتلوا بلدًا مقدسًا قبل الاتفاق على احتلاله مع جميع المسلمين، واعتبرتم أن البلاد
المقدسة للمسلمين عامة , ولا تجرون عملاً قبل مشاورتهم في الأمر، فهذا برهان
صادق على اتباعكم سبيل الشريعة السمحة، بنفس مرضية، ودمقراطية إسلامية.
والهند ترى التريث ضروريًّا ريثما يرد الحسين على الجواب الذي أرسلته
إليه قبل تاريخه بعشرة أيام، فإذا انقاد للانضمام إلى الحلف العربي , ووقع معكم
ومع جيرانه محالفات دفاعية هجومية ضد كل عدو أجنبي، فلا حاجة لسفك الدماء
ولا ضرورة تسيغ احتلال بلاده، كما قال الله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ} (الأحزاب: 25) .
وعسى الله أن يهديه إلى الطريق القويم بعد أن خانه حلفاؤه، وتسلط على
الممالك العربية أهل وداده. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإذا رفض الحسين اقتراحاتنا جميعها، فنرى مهاجمته واحتلال بلاده
لازمين، كي يستطاع أن توحد كلمة العرب في شبه جزيرتهم , ويكون الحلف العربي
متينًا وشوكة الجامعة الإسلامية قوية. هذا (أي: الهجوم عليه) لا نجيزه حتى
يصلنا الجواب منه. أو يذهب خمسة عشر يومًا عن ميعاد ورود الجواب؛ لأن الحق
قال في كتابه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) .
ومسلمو الهند يسرهم أن تنظم حكومة نجد إدارتها وداخليتها، وترسل سفراءها
إلى جميع الدول , وتعرض عليهم استقلالها، فيعترفون لها به وتنتظم مع التوازن
الدولي الجديد , وتوقع المحالفات الحبية الدفاعية معهم.
ولقد استبشر مسلمو الهند بالنجاح عندما فتح سلطان نجد أبواب بلاده إلى
أحرار سورية والعراق وفلسطين، ولا جرم أن هؤلاء واقفون على سبيل الحضارة
والتمدن الحديث وأفكارهم ثاقبة , فسوف تستفيد الأمة النجدية الفتاة منهم فوائد كبيرة ,
تكون إن شاء الله سببًا لرفاهية مجدها ورفع شأنها إلى صفوف الدول الحية.
وإن مسلمي الهند يقترحون على دولتكم أن تجلبوا للرياض معامل للأسلحة من
بلاد العرب، وأن ترسلوا بعثات علمية من الطلبة النجديين إلى بلاد الغرب
يتعلمون كيف تصنع المخترعات الحديثة والآلات الحربية , والمواد الكيماوية،
ويأمل مسلمو الهند أن يوقع سلطان نجد محالفات حربية دفاعية هجومية مع الإمام
يحيى والإدريسي وباقي أمراء الجزيرة، وأن يعرض علينا شروط الاتفاقيات؛
لتطمئن قلوبنا، ويهدأ روعنا على آخر قوات عربية إسلامية مستقلة مسلحة بقيت
لحماية العرب، والانضمام مع الأتراك والأفغان وإيران وباقي ملوك وأمراء
الإسلام المسلحين لحماية الإسلام، وفق الله العاملين , وإن الله لا يضيع أجر من
أحسن عملاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: إن سلطان نجد قد رفض الإعانة التي كان يقدمها الإنكليز له ثمنًا لترك العراق وشأنه , وذلك من خريف السنة الماضية 1923، فليقر إخواننا الغيورون في إيران وغيرها عينًا , ولولا ذلك لما تصدوا الآن لتدمير عرش حسين الصوري.
(2) كان سبب تلك الحملة دسائس الحجازيين وعدوانهم، كما علم بعد، ونشر في الجرائد.
(3) المنار: إن الذين يتدينون من الأعراب بدعوة النجديين يلقنون شرائع الإسلام أولاً , ثم يحملون على تعلم القراءة والكتابة، وعلى ترك البداوة بالهجرة من البادية إلى المدن والقرى؛ عملاً بسنة صدر الإسلام , ويسمون كل قبيلة أو جماعة وحيث يقيم: هجرة وقد يكون كله أم بعضه من بنائها.
(4) لعلها محرفة عن الدهناء.(25/450)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة
كان هذا الفصل وما بعده من أخبار خلافة حسين المكي التي حققنا أنها
(وضعت سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل) قد جمعت منذ ثلاثة أشهر وضاق
عنها الجزء الماضي , وجمع معها مواد أخرى في موضوعها , ولكن تأخر هذا
الجزء وسبقته الحوادث , فأخرنا تاريخه حتى ظهرت طلائع إنقاذ الحجاز والعرب
من هذا الطاغوت الذي سمى نفسه (المنقذ) بسيف الحق الذي سلّه الله في نجد،
فوجب أن نختصر ما كنا جمعناه، ونكتفي منه بالوثائق التاريخية للاعتبار بها دون
استقصاء فنقول:
صدر العدد 769 من جريدة القبلة المؤرخ في 30 رجب سنة 1342 (6
مارس سنة 1924) مزينًا بذرور الذهب؛ لأنه خص بخبر المبايعة بالخلافة وما
يتعلق بها، وافتتح بمقالة في (الخلافة والعرب) - وما العرب عندها إلا حسين
فبعد التنويه بثورته الشؤمى، وأعماله القبحى، قال الكاتب المستأجر فيها ما نصه:
(وعند قيام جلالته بالنهضة بايعه أهل الحل والعقد في الحجاز , كما بايعه
بذلك أهل سورية (بما فيها فلسطين) قبل النهضة وبعدها، وكذلك أهل العراق
ووفود اليمن وغيرها من الأقطار العربية بيعة مستكملة لشرائطها الشرعية , ولا
تزال وثائقها بين أيدينا) .
ثم قال: إنه هو لم يقبل تلك البيعة في حينها (تحاشيا عن التشويش
والاضطراب في هذه المسألة الإسلامية الكبرى تاركًا أمر البت فيها إلى الرأي
العام الإسلامي)
(ولكن مع الأسف) إن العالم الإسلامي ترك هذه المهمة الخطيرة هدفًا
للتلاعب , حتى وصل بها الأمر إلى الحد الفظيع الذي أنبأتنا به البرقيات المنشورة
في غير هذا المكان في هذا العدد (يعني ما فعله الترك) وقد ذكرنا برقياتها هذه وهي
من عمان في الجزء الماضي , ومنها أن جريدة المقطم سبقت إلى ترشيح حسين
للخلافة , ومن البرقيات التي لم تنشر برقية حسين لرئيس حكومة مكة بأن من
امتنع من البيعة يقتل رميًا بالرصاص. فمبايعة الحجاز وقعت بالإكراه خلافًا لما
ذكرته قبلة الدعاية الحسينية المزورة إلا في تعليلها المبايعة بعمل حكومة أنقرة؛ إذ
قالت:
إن هذا سبب هبوب الشعب السوري للمبايعة , وإن هذه الأنباء لما وصلت
إلى العاصمة (مكة) هب أهلها للمبايعة وإقامة الزينات والاحتفالات. ثم قالت:
ومما تقدم يتضح أن مبايعة الأمة العربية لصاحب الجلالة الهاشمية بالخلافة
ليست بالأمر الجديد , وإنما كانت تأكيدًا للبيعة السابقة.
ثم زعم الكاتب وهو محرر الجريدة المستأجر، الموظف لخليفته المزور، أنه
صار مكلفًا شرعًا بقبول هذه البيعة، فهو يرى أن تسمية خليفة تركي كان مانعًا
شرعًا من هذا القبول. وكأنه نسي ما كتبه مولاه في قبلته نفسها من إثبات كفر
الدولة العثمانية , وبطلان خلافتها القديمة في الأزمنة التي بايع خلفاءها هو وأسلافه
من قبله فيها، ثم صرح مرارًا بموت الخلافة، وجهل أن حكمه بوجوب قبول
البيعة الثانية دون الأولى - يتضمن جهل الأمة العربية التي زعم أنها بايعته بأن تلك
البيعة كانت باطلة لا يجوز قبولها , أو فسقه هو بترك القبول الذي يترتب عليه
تعطيل أحكام الشرع , ولا غرو فكل من المبايعين والمبايع صدق عليهم الحديث
النبوي الحكيم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه من حديث
أسماء بنت الصديق. وعند مسلم عن عائشة أيضًا - رضي الله عن أبيهما وعنهما -
وذلك أن كلاًّ منهما مفتات على الشعوب الإسلامية كلها بما ليس له فيه حق بنفسه،
ولا بالشرع، كما بيناه في الفتوى التي أقمنا فيها الدلائل على بطلان هذه البيعة،
وعلى كونها لم يقصد بها معنى الخلافة الشرعية لتعذره.
ثم إن جريدة القبلة ذكرت بعد تلك المقولة ما كان من الاحتفال في مكة
بالمبايعة العامة والخاصة - تعني مبايعة أسرة حسين وعشيرته الشرفاء ورجال
حكومته، ومبايعة العامة - وإننا ننقل عنها نص الخطاب الذي نمقوه، وتلاه على
الناس قاضي القضاة ورئيس حكومة مكة، حفظًا لهذه الوثائق التاريخية، وتذكيرًا
بما فيها من العبرة، وهو:
***
الخطاب الذي أعلنت به المبايعة بمكة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي
وفق أهل الحَلّ والعقد والتدبير، لتنصيب إمام يقوم بمصالح أفراد المسلمين الكبير
منهم والصغير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل رحمة وبشيرًا ونذيرًا
والقائل إرشادًا لأمته: (أمِّروا عليكم أميرًا) وعلى آله وأصحابنا وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فبناءً على انحلال الإمامة الكبرى منذ زمن بعيد , وقد نص الشارع صلى الله
عليه وسلم على تنصيب المسلمين إمامًا لهم بقوله: (أمِّروا عليكم أميرًا) ذاك أمير
أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم
يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ونص العلماء على أنه لا بد شرعًا للمسلمين
من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم , وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم ,
وحماية بيضتهم وقطع مادة شرور المتغلبة والمتلصصة , وقطاع الطريق وإقامة
الجمع والأعياد , وأخذ العشور والزكاة وقطع المنازعات , وقبول الشهادات وتزويج
الصغار الذين لا أولياء لهم , وقسمة الغنائم لوجهين:
(الوجه الأول) :
أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام، حتى قال أبو بكر الصديق في خطبته
حين وفاته عليه الصلاة والسلام: (ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين من يقوم
به) فبادر الكل إلى قوله وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلى الله عليه
وسلم , ولم يقل أحد من الصحابة: لا حاجة إلى ذلك؛ بل اتفقوا عليه واستمر الناس
بعدهم على ذلك.
(الوجه الثاني) :
أن في تنصيب الإمام دفع ضرر مظنون , ودفع الضرر المظنون واجب على
العباد إذا قدروا عليه إجماعًا، لما نعلمه علمًا ضروريًّا أن مقصود الشارع فيما شرع
من المعاملات والمناكحات , والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في
الأعياد والجمعيات - إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشًا ومعادًا , وذلك المقصود
لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشرع , يرجعون إليه فيما يعن لهم فتنصيب الإمام من
أتم مصالح المسلمين , وأعظم مقاصد الدين فحكمه الإيجاب السمعي , وقد يتمسك
على وجوبه بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء:
59)
وحيث إن شروط الإمامة الكبرى قد توفرت في جلالة مليكنا ومنقذنا ملك
العرب المعظم صاحب الجلالة الهاشمية الشريف حسين بن علي - تعينت مبايعته،
فبايعناه بالخلافة سنة خمس وثلاثين بعد الثلاثمائة والألف , على أن يعمل فينا
بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وفي يومنا هذا التاسع والعشرين من
شهر رجب الحرام من عامنا الحالي اقتضى الحال تأييد تلك البيعة وإعلانها للعموم؛
فأكدناها اليوم.
وحيث إنه غائب في هذا الوقت , ومولانا حجة الإسلام قاضي القضاة ومفتي
السادة الحنفية ونائب رئيس وكلاء الحكومة العربية الهاشمية مفوض عام من قبل
جلالته مدة غيابه في الأمور الشرعية والإدارية , بايعه الرؤساء من الأشراف
والسادة والعلماء والأعيان من أهل الرأي والتدبير من عموم أهالي الحجاز،
والمجاورين والوافدين على اختلاف طبقاتهم بالخلافة العظمى قائلين: نبايعك نيابة
عن أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين سيدنا الشريف حسين بن علي بن
محمد بن عبد المعين بن عون , على أن يعمل فينا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم , ونقسم لك بالله العظيم على طاعته ورضاه والانقياد له في
السر والعلانية , وله علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقام الدين , واجتهد فيما فيه
صلاح حال المسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُث ُعَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) فقبل مولانا الموصى إليه هذه البيعة لجلالته
وللإعلام بذلك صار تحريره اهـ؛ بنصه ويليه دعاء له بالظفر والفتح والنصر
ومحق سيفه رقاب الطائفة الباغية الكافرة اهـ؛ فيا للفضيحة والخجل!
(المنار)
كنا عازمين على إحصاء كل ما في هذا الكتاب من مواضع النقد، وإذ كان
حسين قد عجز عن إحياء سقط خلافته بالدعاية كما توهم , وعن تحنيطه إبقاءً
لصورته، وإذ تفسخ وقرب دفنه - نكتفي بالإشارة إلى بعض المسائل المهمة:
فأما دعوى مبايعته بالخلافة سنة 1335 فإن نص تلك المبايعة الذي نشر في جريدة
القبلة كان بالملك على العرب لا بالخلافة. وأما دعوى أهليتهم للمبايعة فباطلة، فإنهم
عاجزون مستعبدون له ولعبيده، لا حل ولا عقد لهم في بلدهم، فضلاً عن بلاد العرب
كلهم الذين سخروا بمبايعتهم - فضلاً عن العالم الإسلامي كله الذي حقره لقبوله هذه
المبايعة - وقد بينا في فتوى الجزء الرابع بطلان هذه الدعوى , ودعوى استجماعه
لشروط الخلافة , ومن المضحكات أن ذكروا فيها حماية الممالك الإسلامية وهو
عاجز إلا عن ظلمهم. وقد قرب عهد إسقاط البيعتين وطرده من الحرمين الشريفين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(25/463)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منشور الخلافة
كتب الملك حسين منشورًا أذاعه على أثر المبايعة الخادعة الباطلة التي مثلت
في شونة شرق الأردن ونشر في بعض الجرائد وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسين بن علي
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 2-7) والصلاة والسلام على سيدنا
محمد عبده ورسوله أفضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وصحبه وكافة أنبيائه ورسله
صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما بعد فإني أسأله الرأفة والرحمة بعباده , والهداية والتوفيق لهم، وأن يجعلنا
هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين , فإنه هو البر الرحيم والمنان الكريم , ثم
إنه لما كانت الإمامة الكبرى والخلافة العظمى نظام عقد الأمة وسند قوام الملة، وكان
أمر صيرورتها وكيفيتها , وما جرى فيها مدونًا ومنقولاً عمن تلقينا عنهم ديننا القويم ,
وكان كل ما جرى من بعد عهدهم السعيد في كيفية حقوقها وصلاحيتها وسائر
معاملاتها إلى يومنا هذا موضحًا في تواريخ العالم الإسلامي وسيره المعتبر؛ فإقدام
حكومة أنقرة بما أقدمت عليه على ذلك المقام المكرم كيفما كان شكله , جعل أولي
الرأي والحل والعقد من علماء الدين المبين في الحرمين الشريفين والمسجد
الأقصى، وما جاورها من البلدان والأمصار يفاجئوننا ويلزموننا ببيعتهم بالإمامة
الكبرى والخلافة العظمى حرصًا على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع؛ لعدم
جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام , كما يفهم صراحة من توصية
الفاروق الأكرم رضي الله عنه لأهل شورى البيعة بعده كيفما كانت صيغة تلك
الإمامة وأشكالها إلى الآن وعليه.
ولما كانت المملكة الهاشمية والقطعة المباركة الحجازية مهد الإسلام ومحل
ظهوره ومطلع نوره , وكانت مصونة بعنايته تعالى من كل شائبة في حالتيها السابقة
والحاضرة , ولا سيما العمل فيها بأحكام كتاب الله وسنة رسوله بجميع خصوصياته
وعمومياته , وانطباق حكم البيعة المشروعة من المبايع والبايع له انطباقًا لا يتصور
حصوله في أي مملكة أخرى في الوقت الحاضر - كان حقًّا علينا إجابة ذلك
الطلب الديني المشروع بعد الاتكال على الله سبحانه واستمداد روحانية نبيه صلى الله
عليه وسلم؛ لذلك قبلنا البيعة متوكلين عليه عز وجل , مستمدين منه الغوث والعون
والتوفيق لما يحبه ويرضاه , وإننا نرجوه سبحانه وتعالى أن يكون هذا الأمر الذي
قضى به في حكمته الأزلية وقدرته الصمدانية , وأظهر حكمة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) مضاعفًا لنا باتباع
مسالك السلف الصالح.
نعم إنا لم نتعرض البحث في شؤون ذلك المقام الجليل إبان نهضتنا , لا بل
إلى قبيل جرأة أنقرة على كرامته، كيفما كانت وضعيته، وذلك حذرًا من توسع شُقّة
الاختلاف؛ لئلا يتخذه أعداء الإسلام وسيلة للتعريض بمكانته ولا نكلف سوانا بما لا
يراه، عملاً بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى
سَبِيلاً} (الإسراء: 84) [1] ومع هذا فهو المسؤول أن يجعل هذه البيعة ألفة
للمسلمين تضم قاصيهم ودانيهم , وتسوقهم إلى حسن التآلف مع مجاوريهم من أبناء
دينهم وسكان بلدانهم من أهل الكتب السماوية , وسائر مواطنيهم بما ألقته إليهم
الشريعة الإسلامية , وتطبيق ما فرض في أمر: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، وكل
ما أوجبه عليهم الشرع الشريف من الرفق بالبشرية، وخدمة الإنسانية، وتجنب
الشرور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مؤملين منهم حسن القيام بكل ما هو
في معنى هذا، مما أوجبه الله عليهم فردًا فردًا وجماعة جماعة،وبالأخص العلماء
الأعلام في أقطار الإسلام كافة. حرره في 5 شعبان سنة 1342 هجرية.
(المنار)
هذا كل ما في المنشور من موضوع الخلافة , وعبارته مفهومة في الجملة،
قليلة اللحن والغلط بالنسبة لكل ما اطلعنا عليه من كلام هذا الرجل , ولعله أملاه
على أحد فحسن عبارته في الجملة , وإلا فهي سخيفة ضعيفة في نفسها، وإنما هي
كثيرة عليه هو , وغرضنا من نقل هذا المنشور في المنار التعليق عليه بما هو
حجة على المبايع والمبايعين له , نوجز فيه؛ لأن أصل سقوط هذه الدعوى بالفعل
صار قريبًا:
(1) اعتراف حسين بأن سبب بيعته (إقدام حكومة أنقرة بما أقدمت عليه
على ذلك المقام الكريم) أي: الخلافة - دع سخافة عبارته (بما وعليه وعلى) -
وراجع عبارة جريدة (القبلة) تجده مكذبًا لهذه الدعوى ومصدقًا لقولنا السابق المكرر:
إن هذه المبايعة ليست شيئًا جديدًا. فما بايعه أخيرًا في الشونة إلا بعض من بايعه
أولاً، فإن كانت البيعة الأولى صحيحة، قامت بها عليه الحجة - قبلها أو لم يقبلها
بأنه غير أهل لها وعاجز عن القيام بأقل شؤونها , إذ لم يعمل شيئًا مما توجبه
عليه. وإعادتها حجة إلزامية على المبايعين بما أسندوه إليه من الأهلية مع ظهور
بطلانها بالفعل كما هو ظاهر , وبأدلة الشرع التي بيناها في فتوى الجزء الرابع وإن
كانت غير صحيحة، فماذا صححها الآن؟
(2) قوله في توجيه صحة البيعة الجديدة: إنها الحرص على إقامة شعائر
الدين وصيانة الشرع؛ لعدم جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام.
ننتقد هذا التوجيه:
(أولاً) بأن فيه اعترافًا بصحة خلافة عبد المجيد أفندي العثماني، وأنه كان
يقيم الشعائر ويصون الشرع، وهو كذب في نفسه , فإن عبد المجيد أفندي لم يكن له
من الأمر شيء , وكانت حكومة أنقرة تعبث بالشرع قبل تسميته خليفة بلا سلطة
ولا عمل، وفي أثنائها وبعدها.
(وثانيًا) بأن حسينًا كان يقول: إن هذه الخلافة باطلة. وأشار إلى ذلك هنا
بقوله: (كيفما كان شكله) واحترس واضعو خطاب المبايعة بمكة بمثله أيضًا.
(وثالثًا) بأن مبايعي علماء المسجد الأقصى ومن تبعهم من أهل سورية هم
الذين كانوا يرون صحة تلك الخلافة , وبنوا المبايعة عليها. فهذا الاختلاف بينهم
وبين خليفتهم وأهل الحرم المكي معه , يقتضي جهل أحد الفريقين بالخلافة
الصحيحة وغير الصحيحة وعدم أهليته للمبايعة وبطلانها من قبله , ولما كان قبول
حسين لمبايعة الفريق الأول مبنيًّا على ركن الإيجاب الفاسد؛ تعين أن يكون عقد
البيعة فاسدًا بفساد ركن الإيجاب بالذات , وركن القبول بالتبع , وهذا دليل إلزامي،
وإلا فقد بيّنا بالأدلة التحقيقية بطلان الركنين معًا.
(3) زعمه أنه أحق الناس بأن يبايع , وأن الذين بايعوه أحق المسلمين بأن
يبايعوا , وأنهم أهل الحل والعقد في الإسلام , وهو ما كررنا فساده وبطلانه بالأدلة
الحقيقية والإلزامية , ومنها عجزه عن القيام بأحكام الخلافة فيهم وفي غيرهم ,
وعجزهم عن تأييده ونصره , وقد وقع ما يظهر صدقنا فيهما؛ بزحف النجديين لإنقاذ
الحجاز من هذه الخلافة الكاذبة الخاطئة , دع ما ظهر أولاً من مخالفة العالم
الإسلامي كله لهم.
(4) قوله: إننا لم نتعرض البحث (كذا) في شؤون ذلك المقام الجليل.
إلى آخره.. ونكتفي فيه بتعليقنا هنا على عدد (2) وعلى ما سبق في خطاب بيعة
مكة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) في الأصل (فربك) وهو غلط لا يجوز لنا إبقاؤه على أصله.(25/467)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منشور العودة
الذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن
إن هذا الرجل لم يحذق شيئًا من أمور سياسة العالم إلا الدعاية لنفسه بالخداع
وقول الزور والوعود التي تكذّبها الأعمال والأيام , وقد نشر منشورًا سمّاه منشور
العودة، وعد فيه بتأليف (مجلس شورى للخلافة) , ولن يكون إلا آلة لدعايته
وأهوائه كمجلس وكلائه , وقد استشهد فيه بحديثين يدلان على جهله بأشهر ما يدور
على ألسنة العوام من الأحاديث النبوية , فكيف يكون نائبًا عن الرسول صلى الله
عليه وسلم، وهو أجهل من أكثر العوام بسنته؟!
(الحديث الأول) :
ما أورده بهذا للفظ: (لا يتم إيمان أحدكم حتى يتمنى لأخيه ما يتمنى لنفسه) ,
ولفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أنس مرفوعًا: (لا يؤمن أحدكم حتى
يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ,والحب فوق التمني، فقد يتمنى الإنسان الخير لمن لا
يحبه ولا يبغضه.
(الثاني) :
(لا يزال العبد مع مولاه ما زال في خدمة أخيه المسلم) وهذا مما يدور على
ألسنة العوام بلفظ (كان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) , ولم أسمعه
من أحد بلفظ منتحل الخلافة , وهو لا يوجد في الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ,
بل ورد ما في معناه في بعض الكتب التي تعنى بجمع الروايات الشاذة والواهية ,
وكذا الموضوع في الترغيب والترهيب، فقد روى ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج،
والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أنس: (من أعان مسلمًا كان الله في عون أخيه ,
ومن فك عن أخيه حلقة، فك الله عنه حلقة يوم القيامة) , والمراد بالحلقة: الرق.
وحسين بن علي يسترق الأحرار والحرائر , ويأذن ببيعهم وبيعهن في حرم الله
تعالى , وقد غضب على بعض التكرور؛ لرغبتهم في التطوع للحرب مع الدولة حين
أمرته هو بالدعوة إلى ذلك عند إعلان الحرب الأخيرة. فجازاهم على ذلك من
حيث يظنون أنهم أطاعوه؛ بأن أمر بخطف أولادهم وبيعهم , فنفذ أمره أحد الشرفاء
الأشقياء مثله , ولو شئنا لذكرنا اسمه وكنيته.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(25/470)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التبرع بنُسخٍ من المنار
ومن شهد له من الكبار
سنَّ بعض الأدباء سُنَّة حسنة في نشر العلم والأدب والسياسة , هي إهداء ما
يعتقد نفعه من المجلات والجرائد لبعض أصدقائه , أو بعض طلاب العلم من
أولادهم أو لمن يحب لهم ذلك ولو من غيرهم , وطالما رأينا في الجرائد العربية
السورية التي تصدر في أقطار أمريكا أسماء كثيرة من هؤلاء المتبرعين.
وإننا نعلم أن كثيرًا من الناس يعتقدون أن المنار أنفع الصحف وأهداها، وكان
شيخنا الأستاذ الإمام في مقدمة هؤلاء , ويرى القرَّاء كلمة له فيه ننشرها في ديباجة
الغلاف من كل جزء , وكان يرى هذا من كبار الرجال الذين توفاهم تعالى إلى
رحمته كثيرون نذكر بعض المصريين منهم:
فمن الوزراء: شيخهم الأكبر مصطفى رياض باشا , وهو أول من تبرع
بالاشتراك بخمس عشرة نسخة , كنا نوزعها على بعض طلبة الأزهر، فرحمه الله
وأجزل ثوابه.
ومنهم الوزير الكبير إبراهيم فؤاد باشا المناسترلي الذي كان وزير الحقانية ,
صرح لي ولغيري أن المنار ضروري للنهضة الإسلامية التي تجمع بين هداية
الدين والرقي المدني، وتؤلف بينهما , وقد فكر كثيرًا في تعميم نشره، واستشار يومئذ
في ذلك أحمد فتحي زغلول باشا - وكان يومئذ رئيس محكمة مصرالأهلية
ولقبه بك - قالا: إن الإعانة الشخصية لا تستمر، وصاحب المنار الأبي لا يقبلها ,
كانا يعلمان مني ذلك , وكان رياض باشا أول من عرضها علي واعتذرت عن قبولها ,
ثم قال الوزير لفتحي: فكر لي في طريقة لإعانة ثابتة يقبلها صاحب
المنار، بشرط أن يجعل بدل اشتراكه قليلاً , بحيث يسهل على طلاب الأزهر
وتلاميذ المدارس وغيرهم من الفقراء الاشتراك فيه , فإن هذا أنفع من الاشتراك في
مئات أو ألوف من النسخ ربما تعطى لمن لعله لا يقرؤها. أخبرني فتحي -
رحمه الله - بهذا , ومما أعترف به من ضرر الزهد الذي طبعت نفسي عليه قراءة
إحياء العلوم وغيره من كتب التصوف , أن كان من تأثيره أنني لم أراجع أحدًا من
الرجلين في هذه المسألة على ما فيها من نشر تعاليم الإصلاح الذي أريده؛ ومات
إبراهيم فؤاد باشا قبل أن يضع له الخطة أحمد فتحي باشا - رحمهما الله تعالى - ولم
أندم على هذا التفريط إلا بعد موت الوزير بسنين، أثابه الله على حسن نيته.
ومنهم محمود سامي باشا البارودي الأديب الشاعر الأكبر والذي كان رئيس
الوزارة في عهد الثورة العرابية؛ وقد بلغ من ولوعه به أن كان يرسل إلى المطبعة
من يطلب له ما طبع منه , فيقرأ كراسة بعد أخرى، وكان يترجم بعض الموضوعات
لصديق له من الإنكليز , وقد نقل لي عن هذا الإنكليزي أنه قال: إن المسلمين غير
مستعدين لهذه التعاليم والمبادئ الآن , ولكنهم سيعيدون طبع المنار بعد خمسين سنة ,
ويعملون به. وقد قال مثل هذه الكلمة من الأحياء: سليمان أفندي البستاني العالم
السوري والوزير العثماني المشهور , فكان من توارد الخواطر.
ومن حملة الأقلام ورجال الصحافة الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد
قال لي: إن المنار شيء غير اعتيادي، ولا نعرف أحدًا غيرك يقدر على القيام به ,
وأن المسلمين في أشد الحاجة إليه، ومن الضروري أن يوجد في كل بيت من
بيوتهم , ولكن كثرة تنويهه بالشيخ محمد عبده بالإطراء والتفضيل يوجد له أعداء
كثيرين أصحاب نفوذ وتأثير يصدون الناس عنه , والشيخ جدير بما يقول المنار
ولكنه في غنًى عنه إلخ , وقد أجبته بأن تنويه المنار بالشيخ يراد به ترشيحه لزعامة
الإصلاح في العالم الإسلامي، ولا نعرف أحدًا جديرًا بهذه الزعامة سواه , وهي
عندي أهم من كثرة المشتركين في المنار فقال: لا أنكر أن هذا غرض صحيح , ولا
أن الشيخ أهل له. فعلمت بإقراره هذا أنه لم يكن في قوله يقصد التفريق بيني
وبين الأستاذ الإمام؛ لأجل الخديوي الذي تقرب إليه كثيرون بالسعي لهذا التفريق.
ومنهم بطرس باشا غالي الوزير المشهور.
وممن وافق الشيخ عليًّا من حملة الأقلام من الأحياء في قوله: يجب أن يكون
المنار في بيت كل مسلم - داود بك بركات رئيس تحرير الأهرام فقد قال لي مرة: لو
كان المسلمون يعرفون مصلحتهم - أو ما هذا معناه - لدخل المنار كل بيت من
بيوتهم. وكان هذا من توارد الخواطر ولا أذكر أي الرجلين سبق إلى هذه الكلمة ,
وأنا لم أذكر له كلمة الشيخ على يوسف , ولم أكتبها إلا في ترجمته بعد وفاته.
ومن كبار العلماء إمام اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي كما
يعلم من تقريظه له الذي نشر في المجلد الثاني منه (ص 349 م 2) ولقب صاحبه
بمفتي الآفاق , على رغم أنف كل ذي حسد ونفاق , كتب ذلك بخطه على نسخة
رحلته (الحماسة السنية ... ) حين أهداها إليّ.
ومن رجال القانون وعلماء الاجتماع عمر بك لطفي الواضع الأول لمشروع
النقابات في مصر , كلمني في هذا الموضوع مرارًا , ومما انفرد به لومه إياي على
العزلة أو قلة المخالطة التي تقرب منها , وقال: إن المنار لا يكفي لتعميم هذه
الأفكار , فيجب أن تتعرف إلى جميع الطبقات المتعلمة , ولذلك وسيلتان: الخطابة
والمحافل الماسونية. ولكنني لم أعمل بنصيحته إلا في إلقاء بعض الخطب في
بعض الجمعيات الأدبية الدينية. وأما الأحياء فحسبي أن يكون رجل العصر بمصر
صاحب الرياستين: ريايسة الأمة ورياسة الحكومة سعد باشا زغلول وفقه الله تعالى
وأيده موافقًا لخطة المنار في الإصلاح الديني , وقد سمعت منه مرارًا أن ارتقاء
المسلمين المدني متوقف على هذا الإصلاح , كما أن أوربة لم يمكنها النهوض من
الانحطاط الذي كانت مرتكسة فيه إلا بعد إصلاح ديني , وهذا الرأي كان أول من
بثه في مصر وغيرها السيد جمال الدين الأفغاني، وقد عرضت على سمعه في الربيع
الماضي خبر تأليف جمعية للإصلاح الديني والمدني في الحجاز , وجعله قطر
سلم وحياد , فكان مما قاله: ولم لا تجعلون هذا الإصلاح في مصر؟ أليست هي
محتاجة للإصلاح الديني أيضًا؟
وقد كان هو أول من أمر باشتراك وزارة المعارف بنسخ من المنار لمدارسها
في عهد توليه لوزارتها , وكانت الوزارة قبله تشترك في جميع المجلات المشهورة
بمصر من دونها؛ لكراهة الإنكليز كل إصلاح للمسلمين , ولذلك منعوا المنار من
السودان من قبل الحرب بسنين بدسائس المبشرين.
وإنا لنرجو من دولته نظرة أخرى إلى المنار عند سنوح الفرصة , ولم
نعرض عليه طلبنا مكتوبًا ولا شفويًّا به , كما أننا لم نعرض مثل ذلك في عهد
وزارته للمعارف.
ذكرنا بتاريخ المنار وآراء الكبار في تعميم نشره ما كتبه إلينا وكيله في
بيروت من تبرع تاجر من خيار وأكارم وجهائها أنيس أفندي الشيخ بخمس نسخ
توزع من قبله على بعض الخطباء والواعظين فيها، فجزاه الله تعالى خيرًا , وجعله
قدوة صالحة وذكرى نافعة لمحبي العلم والإصلاح.
__________(25/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ سالم أبو حاجب
سبحان الحي الذي لا يموت، إننا قبل أن نفرغ من ترجمة عالم العراق وإمام
الشرق في تلك الآفاق السيد محمود شكري الألوسي، إلا ونعى بريد المغرب الإسلامي
علامة الديار التونسية , وإمام البلاد المغربية شيخ الشيوخ مفتي المالكية , العلامة
المستقل الأديب العاقل الشيخ سالم أبو حاجب - تغمده الله برحمته - وقد كان بين
عالم الشرق والغرب تشابهًا عظيمًا , وكان من حسن حظنا أن وجدنا صديقًا لنا من
تلاميذ كلاًّ منهما , يكتب لنا ترجمتهما , وقد شاء الله تعالى أن يتأخر صدور هذا
الجزء من المنار حتى ننشر فيه ترجمة علامة جامع الزيتونة الأكبر بقلم الأستاذ
الفاضل الشيخ محمد الخضر نزيل القاهرة، وقد ألقاها في حفلة جامعة في الجامع
الأزهر وهذا نصها:
***
تأبين رئيس العلماء في الديار التونسية
أقام طلاب العلم من جاليات شمال أفريقيا حفلة بالجامع الأزهر مساء يوم
الإثنين الحادي عشر من الشهر الجاري حفلة؛ لتأبين المأسوف عليه الأستاذ الكبير
الشيخ سالم أبي حاجب مفتي الديار التونسية.
افتتحت الحفلة بقراءة آيات من الذكر الحكيم , ثم قام محرر هذا المقال وألقى
خطبة في نشأة الفقيد ومواهبه السامية , وعلمه الغزير وهذه خلاصتها:
نعت إلينا (هافس) والصحف التونسية فضيلة أستاذنا الشيخ سالم أبى حاجب
واسطة عقد العلماء ورئيس المحكمة الشرعية المالكية بالديار التونسية , فكان نعيه
لدى العارفين بمقامه الأسنى كقبس من نار تذوب له القلوب لوعة , وتتساقط له
العبرات أسفًا.
كان الفقيد - رحمه الله - آية من آيات العبقرية , وأحد العلماء الذين لا تجود
بهم يد الأيام إلا في أوقات معدودة , فلا جرم أن أنثر على بساط هذا الاحتفال
الجامع شذرًا من آثار حياته الزاهرة؛ خدمة للعلم والأدب والتاريخ , وإن في سيرة
العظماء من الرجال لعبرة لأولي الألباب.
ولد الفقيد حوالي سنة 1244 بقرية من قرى الساحل تسمى (بنبله) , ثم
ارتحل منها عندما بلغ سن التعليم إلى حاضرة تونس؛ لتلقي العلم بجامع الزيتونة
الأعظم , ولم يلبث أن سطع بين جدران ذلك المعهد شعاع ألمعيته ونبوغه،
وصلاحيته في أندية العلم والأدب , ولا سيما إذ كانت له في صناعة القريض براعة
فائقة , وفي نقده الشعر ذوق لا يقل عن ذوق العربي الصميم.
ترقى الفقيد في مدارج العلم حتى تقلد وظيفة التدريس بالمعهد الزيتوني ,
درس من علوم الشريعة والعربية كتبًا عالية مثل: شرح العضد على مختصر ابن
الحاجب، وشرح القسطلاني على صحيح الإمام البخاري، والشرح المطول للسعد
التفتازاني , وكان يجلس لدرس هذه الكتب وغيرها على منصة التحقيق، ويخوض
عبابها بنظر مستقل , وينطق فيها بلهجة مجتهد نحرير , فلا ينتهي من تقرير
موضوع إلا بعد أن يعقد لما يجري فيه من الخلاف محاكمة يدخل إلى القول الفصل
فيها من باب الحرية والإنصاف.
ولما وضع في فطرته من حب البحث والغوص في أغوار المسائل , كان
يتلقى أسئلة التلاميذ في الدرس بصدر رحب , وكثيرًا ما يغمر الباحث النجيب
بعبارات الثناء؛ تشجيعًا له على البحث , وأخذًا بيده إلى أن يسير مع أصحاب
الآراء المؤلفين على مقتضى حكمة من يقول: (هم رجال ونحن رجال) .
ولعلمه الراسخ وعبقريته البارزة كان بعض أقرانه مثل الأستاذ الشيخ مصطفى
رضوان يقرر في درسه عازيًا شيئًا من الأفهام التي انفرد بتحقيقها , وكثيرًا ما يورد
الفقيد في مجالسه أو دروسه في صدد الاستشهاد على بعض المعاني اللغوية عبارة
القاموس بنصها , حتى ظن كثير من أهل العلم أنه يحفظه على ظهر قلب , وأغلب
مسائل الشرح المطول، والمغني لابن هشام، وشرح السيد علي مفتاح، وشرح
الدماميني على التسهيل تجري على طرف لسانه مهما تدعو الحاجة إلى الاستشهاد
بشيء منها.
ولم يكن الأستاذ ممن يسارع إلى الاعتقاد بصدق من يخرج في زي المجذوبين ,
أو يدعي أنه من أرباب الولاية والكرامة , وظهر منه هذا الخلق في مجلس بعض
رجال الدولة، فقال له: اعتقد ولا تنتقد. فقال الأستاذ: ليس الاعتقاد مما تعتنقه
النفس بمجرد الاختيار , وإنما هو من قبيل العلم الذي لا يرتسم فيها إلا بمؤثر من
حجة وبرهان , وكان يحارب الخرافات والآراء السخيفة والأقوال المسندة إلى
الشريعة بمجرد الدعوى أو بأحاديث غير ثابتة , وكان يبدي رأيه بكل صراحة، وإن
صادم المعروف بين شيوخ عصره؛ كإنكاره لوجود جبل قاف، ومشاهدة
الجن بعين الباصرة , ويرى أن ما يزعم من ذلك إنما هو من قبيل تأثير
الخيال.
أحرز الفقيد بين رجال الدولة مكانة إكبار وإجلال , وانتظم له هذا الإقبال؛ إذ
كان من أولي النظر الواسع في شؤون الاجتماع , وما تقتضيه المدنية الراقية وكذلك
كانت دروسه في علوم الشريعة مملوءة بالبحث عن أسرارها من حيث المطابقة لما
تستدعيه مصالح الشعوب , ومن هذا الوجه كان للأستاذ حياتان: علمية، وسياسية،
فاتخذه الوزير خير الدين باشا من مساعديه في تنظيم التعليم وإصلاح الإدارة قبل
الاحتلال , وتقلد وظيفة العمل بإدارة المال مضافة إلى وظيفة التدريس بجامع
الزيتونة.
سافر الأستاذ إلى إيطاليا مبعوثًا من طرف الحكومة التونسية قبل الاحتلال؛
لينوب عنها في قضية أقامتها على ورثة أحد قابضي أموالها المدعو (نسيم) , وأقام
هنالك زمنًا واسعًا التقى في خلاله بكثير من علمائها , ودارت بينه وبينهم محاورات
علمية , وكانوا يلقون عليه أسئلة فيما يشكل عليهم من بعض الأحكام الإسلامية ,
فيذهب في الجواب عنها إلى طريق النظر الفسلفي حتى تقع أجوبته لديهم موقع
القبول والتسليم , وكان الأستاذ يقول: إن هذه الرحلة مجموعة عنده في كتاب ,
وقص علينا أنه دخل إلى بعض المكاتب الحاوية لكتب عربية , فتناول كتابًا منها ,
فكان أول جملة وقع عليها بصره: (كان العرب إذا خطبهم لاعب الشطرنج منعوه ,
وقالوا: إنه ضرة ثانية) وفي هذه الرحلة بعث الأستاذ بصورة فتوغرافية إلى
الوزير محمد البكوش وكتب عليها من نظمه.
لما شكت شحط النوى روحي التي ... أبقيتها عند الأحبة بالوطن
أرسلت تمثالي لها بوًّا عسى ... تسلو فلا تبغي التحاقًا بالبدن
وسافر الفقيد رفيقًا للوزير خير الدين باشا إلى الآستانة وامتدح السلطان
العثماني بقصيدة , فأمر بمكافأته عليها بوسام فأبى وقال للمرسل من جانب
السلطان: إن حمل الوسام مما لا يرغب فيه أهل العلم ببلدنا , بل يرونه بحكم العادة
مزريًا بمقامهم. وكان يلقي في شهر رمضان من كل سنة درسًا من صحيح البخاري
(بجامع سبحان الله) ودرسًا من كتاب الموطأ في المدرسة المنتصرية , ويشهدهما
صاحب المملكة التونسية سمو الباي وكبير الوزراء في مجمع حافل من أعيان
العلماء , وتجري فيهما مباحثات من أقران الأستاذ أو نجباء تلاميذه , وقد يورد
بعض الأبحاث الأمير نفسه متى كان من رجال العلم , مثل المغفور له الناصر باي ,
وهذه الدروس التي كان يلقيها الفقيد بعناية لا تزال محفوظة؛ إذ كان يحررها
كتابة قبل يومها المشهود.
واشتهر بالفلسفة في العلوم الإسلامية , فكان مورد المستشرقين ومن تشتد
عنايتهم للاطلاع على حقائق الإسلام من فرنسيين وغيرهم , فيجاذبهم أطراف
المحاورة بنفس مطمئنة وأدب جميل.
وكان يقوم بالخطابة والإمامة بالجامع المعروف بجامع سبحان الله , ويلقي
خطبًا يراعي في إنشائها ما تستدعيه حال الزمان والمكان , ومما ابتكره في الخطابة
أنه كان يعتمد إلى ما يرد في الخطبة من حديث أو آية يسبق إلى ظنه أنه بعيد
المأخذ من أفهام السامعين , فيشرحه بعبارات يصوغها على طريقة بيانه في
التدريس , وقد ظهر قسم من هذه الخطب مطبوعًا في تونس منذ ثلاث عشرة سنة.
وكان يشد أزر القائمين على بعض الأعمال الإصلاحية , وكان النشء
الناهض يلتف حوله؛ ولهذا انتخبوه للخطابة في حفلة افتتاح المدرسة الخلدونية التي
تعد شعبة من جامع الزيتونة لدراسة العلوم الرياضية والطبيعية والتاريخ , وأذكر
أني كنت أنشأت مجلة علمية أدبية تسمى (السعادة) فتحركت بعض النفوس الخاملة
لكتم أنفاسها , فقال لي الأستاذ حال انصرافنا من درس صحيح البخاري: لا تعبأ
بما يلقيه هؤلاء في سبيل عملك وتأس بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال له ورقة
بن نوفل: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.
وكان للفقيد عاطفة أدبية تسمو به إلى الاحتفاء بالعلماء الوافدين على الحضارة
وبذل المستطاع في مجاملتهم. زار فيلسوف الإسلام الأستاذ الشيخ محمد عبده البلاد
التونسية سنة 1321 , ونزل ضيفًًًا مكرمًا في بيت حضرة السيد خليل أبي حاجب
نجل الفقيد، وهو اليوم وكيل وزير الداخلية بتونس , فعرف الفقيد فضل الأستاذ
الشيخ محمد عبده , وكان يقضي جل أوقاته في مؤانسته ومذاكرته العلمية أو الأدبية
أو الإصلاحية.
وورد عالم الجريد الشيخ إبراهيم أبو علاق الحاضرة وأتى درس الفقيد بجامع
الزيتونة , ولم تنعقد صلة التعارف بينهم بعد , فأخذ يناقش الأستاذ في المبحث الذي
كان بصدد تقريره , ولما طال أمد المناقشة ووقع في ظن الفقيد أن ليس الغرض
منها طلب الحقيقة , بدرت منه كلمة كبرت على مسمع الشيخ أبي علاق فانصرف
عن الدرس وقال:
تقاصرت مذ أبدى التطاول سالم ... وسالمت والقاصي المكان يسالم
ولما وصل نبأ هذا البيت إلى مجلس الفقيد نهض في الحال للقاء الشيخ أبي
علاق فاسترضاه , وخطب مودته ودامت بينهما الصداقة المحكمة.
وتحلّى الفقيد بآداب راقية مثل: التواضع والحلم والصراحة فازداد شرفًا على
شرف العبقرية , وانجذبت له القلوب بعاطفة المحبة بعد امتلائها بمهابته وإجلاله
حتى إذا حضر مجتمعًا خاصًّا أو عامًّا أمسك بعنان المجلس , وأخذ ينشر على أسماع
الحاضرين من غرائب المسائل ولطائف الأدب ما يخيل إليهم أنهم في جنة عالية لا
تسمع فيها لاغية , وكنا نرى أهل العلم والأدب يقصدون في الاحتفالات الجامعة إلى
أن تكون مجالسهم بمقربة من مجلس الفقيد , حرصًا على اقتباس أدب مؤنس، أو
اقتناص علم غريب.
وانفرد بين علماء جامع الزيتونة بأنه كان يتزيى في لباسه بزي علماء الشرق؛
أي: يلبس القفطان والجبة المفتوحة من أمام , ويضع عليهم البرنس , ولم يكن يلتزم
تقاليد أهل العلم وذوي المناصب الشرعية في بلاده , حتى إنه كان يلبس الجزمة
أيام لبس أهل العلم لها شيئًا نكرًا , ويتجول في بعض المتنزهات العامة راجلاً،
وغيره من ذوي المناصب العالية لا يغشونها إلا مرورًا في عرباتهم.
وكانت له عند افتتاح الكلام عقدة خفيفة لذيذة على السمع , حتى إذا انطلق
لسانه في التقرير، سمعت العربية الفصحى ولهجة تتسوغها الأسماع بارتياح
وإعجاب.
ومن المعروف عن الأستاذ أنه كان يطمح إلى طول الحياة , ويمثل حركة
الساعة الميقاتية بحسيس الأرضة في أكلها من عمر الإنسان , وينقل عنه في تعليل
عدم حمله للساعة , أنه يكره أن يسمع أو يرى آلة تذكره كيف تنقضي حياته
العزيزة شيئًا فشيئًا.
هذا ما أجده في الذاكرة من مآثر حياة الأستاذ الذي فارقته - وبودي لا أفارقه -
برحلتي إلى بلاد الشرق سنة 1331 - وقد ناهز التسعين من عمره اهـ.
***
علاوة
حكى الأستاذ أن أحد الباشاوات من قواد الجند بالآستانة دعاه إلى منزله في
طائفة من أهل العلم , ومما دار بينهم في المذاكرة أن صاحب المنزل سأله عن حكم
تعلم الجغرافية فقال له: إن تعلمها من فروض الكفاية. قال الأستاذ: فالتفت ذلك
الباشا إلى أحد الفقهاء بالمجلس وقال له: لماذا كنت تقول لي أن تعلمها حرام؟
فأقبل ذلك الفقيه على الأستاذ وقال له: ما دليلك على ما تقول من أن تعلم الجغرافية
من الواجبات؟ قال: فلم أرد أن أطيل الحديث في الاستدلال بمثل قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) واخترت أن أورد كلمة أقرب
إلى فهم السائل فقلت موجهًا الخطاب لصاحب المنزل: إذا صدرت إرادة السلطان
يأمرك أن تسير بقسم من الجيش إلى بعض بلاد العدو , وكنت تجهل المسألة التي بينك وبين ذلك البلد، ثم لم تكن على خبرة مما يوجد في تلك النواحي
من ضروريات حياة الجند وما لا يوجد , فإنك بلا ريب تذهب على غير هدى ولا
تأمن أن يقع الجيش في تهلكة , فوقع الجواب من نفس الباشا موقع الارتياح
والقبول.
وفيما حكى الأستاذ من هذه المحاورات أن أحد المستشرقين سأله عن الوجه
في إباحة الإسلام تزوج المسلم بالكتابية من مسيحية أو إسرائيلية , ومنعه المسلمة
من أن تتزوج مسيحيًّا أو إسرائيليًّا , وقال السائل: ما هذا الحكم إلا ضرب من
التعصب في الدين , فأجابه الأستاذ: بأنه حكم قائم على حكمة عمرانية بالغة , وهي
أن النكاح يقصد به التعاون على مرافق الحياة , وهذا الغرض لا يتحقق إلا مع
التآلف وانتظام حلة للمعاشرة , ومن المعروف أن المسلم يؤمن بالرسول الذي تؤمن
به الكتابية , ويعتقد بصحة دينها في الجملة , فلا يتوقع أن يصدر منه ما يجرح
إحساسها , ويكدر صفو المعاشرة بينهما ووأما الكتابي غير المسلم فإنه لعدم إيمانه
بصحة الإسلام وصدق الرسول الذي جاء بشريعته قد يؤذي المسلمة بما يقذفه من
كلمات , يطعن بها في أصل دينها أو ينال بها من كرامة الرسول الذي تعتنق
شريعته.
وحكى لنا الفقيد أن الأستاذ الشيخ محمد عبده تكلم عن ضرورة الاجتهاد فقلت
حكام الشرعية حتى قال: ينبغي إهمال كتب الفقهاء وإتلافها بالإحراق , قال في
الآلة: لا بأس بإبقائها والاستعانة بها؛ لأنها لا تخلو من فوائد، فقال لي: فلتبق.
__________(25/474)
ربيع الأول - 1343هـ
أكتوبر - 1924م(25/)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
الأصل الثاني
الاحتجاج بالقدر على المعاصي على المأمور [1] وفعل المحظور، فإن القدر
يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه ووعده ووعيده.
والناس الذين ضلوا في القدر ثلاثة أصناف: (قوم) آمنوا بالأمر والنهي
والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة
ونحوهم.
(وقوم) آمنوا بالقضاء والقدر , ووافقوا أهل السنة والجماعة على أنه ما
شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لكن
عارضوا بهذا الأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضًا للشريعة،
وفيهم من يقول: إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وأن العارف يستوي عنده
هذا وهذا. وهم في ذلك متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق والوجد , فإنهم
لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل
والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون
بينهما [2] ، ويفرقون أيضًا بموجب أهوائهم وأغراضهم لا بموجب الأمر والنهي، فلا
يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر , بل كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة
قدري، وعند المعصية جبري. أي مذهب وافق مذهبك [3] تمذهبت به فلا يوجد
أحد بالفلك (؟) في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض لا يجعله حجة في
مخالفة هواه , بل يعادي من آذاه وإن كان محقًّا , ويحب من وافقه على غرضه وإن
كان عدوًّا لله، فيكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق
نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه ومحبته وبغضه وولايته وعداوته؛ إذ لا
يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن ذلك مستلزم للفساد الذي لا صلاح معه ,
وللشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتدٍ، ولا
اقتص من باغٍ , ولا أخذ لمظلوم من ظالم، ولفعل كل أحد ما يشتهيه من غير
معارض يعارضه فيه.
وهذا فيه من الفساد، ما لا يعلمه إلا رب العباد , فمن المعلوم بالضرورة أن
الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد وما يضرهم , والله قد بعث رسوله صلى الله عليه
وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف وينهاهم عن المنكر , ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه؛ اتبع ضده من البدع والأهواء، وكان
احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد
عليه [4] ، لزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير.
(وإن قال) : أنا أعذر بالقدر من شهده , وعلم أن الله خالق فعله ومحركه لا
من غاب عن المشهود , أو كان من أهل الجحود. (قيل) : فيقال لك: وشهود هذا
وجحود هذا من القدر , فالقدر متناول لشهود هذا وجحود هذا , فإن كان موجبًا
للفرق مع شمول القدر لهما، وهذا رجوع إلى الفرق، واعتصام بالأمر والنهي،
وحينئذ فقد نقضت أصلك وتناقضت فيه , وهذا لازم لكل من معك فيه , ثم مع فساد
هذا الأصل وتناقضه؛ فهو قول باطل وبدعة مضلة.
فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات وفعل المحظورات [5]
بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات،
فلو أشرك مشرك بالله , وكذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ناظرًا إلى أن
ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعًا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر
أن يشرك به سواء كان المشرك مقرًّا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلاً عنه،
بل قد قال إبليس: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39) فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببًا لمزيد عذابه ,
وأما آدم - عليه السلام - فإنه قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37) , فمن استغفر وتاب
كان آدميًّا سعيدًا , ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسًا شقيًّا , وقد قال تعالى لإبليس:
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 85) .
وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعًا
من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر،
فيضاهون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينًا لم يشرعه الله , ويحتجون بالقدر على
مخالفة أمر الله.
(والصنف الثالث) : من الضالين في القدر، من خاصم الرب في جمعه بين
القضاء والقدر والأمر والنهي، كما يذكر ذلك على لسان إبليس، وهؤلاء خصماء
الله وأعداؤه , وأما أهل الإيمان فيؤمنون بالقضاء والقدر والأمر والنهي، ويفعلون
المأمور , ويتركون المحظور , ويصبرون على المقدور , كما قال تعالى: {مَن
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) فالتقوى تتناول
فعل المأمور , وترك المحظور , والصبر يتضمن الصبر على المقدور , وهؤلاء إذا
أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم , علموا أن ذلك في كتاب , وأن ما
أصابهم لم يكن ليخطئهم , وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم , فسلموا الأمر لله، وصبروا
على ما ابتلاهم به , وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون
إلى الطاعات، ويدعون ربهم رغبًا ورهبًا، ويجتنبون محارمه، ويحفظون حدوده،
ويستغفرون الله، ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علمًا منهم
بأن التوبة فرض على العبد دائمًا , واقتداءً بنبيهم حيث يقول في الحديث الصحيح:
(أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر
من سبعين مرة) وآخر سورة نزلت عليه {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّاباً} (النصر: 1 - 3) .
وإذا عرف هذان الأصلان فعليهما يبنى جواب ما في هذا السؤال من الكلمات،
ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات.
بدء الجواب عن كلمات أهل الوحدة:
فقول القائل: (إن الله لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها خلقًا) هو من
أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد؛ وهو باطل، فإن اللطيف إن كان هو الكثيف
فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف , وإن كان اللطيف غير الكثيف، فقد ثبت
الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق , وحينئذ فالحق لا يكون خلقًا، فلا يتصور
أن ذات الحق يكون خلقًا بوجه من الوجود , كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات
الخالق بوجه من الوجوه.
وكذلك قول الآخر: ظهر فيها حقيقة , واحتجب عنها مجازًا , فإنه إن كان
الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير
الآخر، فلا يتصور ظهور واحتجاب.
ثم قوله: (فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل
الفرق شهدها ستورًا وحجبًا) كلام ينقض بعضه بعضًا , فإنه إن كان الوجود واحدًا لم
يكن أحد الشاهدين عين الآخر , ولم يكن الشاهد عين المشهود , ولهذا قال بعض
شيوخ هؤلاء: من قال: إن في الكون سوى الله. فقد كذب. فقال له آخر: فمن الذي
يكذب؟ فأفحمه؛ وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه كان (هو)
الذي يكذب ويظلم ويأكل ويشرب , وهكذا يصرح به أئمة هؤلاء كما يقول صاحب
الفصوص وغيره: إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض
ويضرب , وتصيبه الآفات ويوصف بالمصائب والنقائص، كما إنه هو الذي
يوصف بنعوت المدح والذم. قال: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات
الثبوتية والسلبية , سواء كانت محمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا أو مذمومة عقلاً وعرفًا
وشرعًا , وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات
المحدثات , وقد أخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى
المخلوق يظهر بصفات الخالق، فكلها حق له كما أن صفات المخلوق حق للخالق.
وقول القائل:
لقد حق لي عشق الوجود وأهله ...
يقتضي أن يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب
والخنازير والبول والعذرة وكل خبيث، مع أنه باطل شرعًا وعقلاً , فهو كاذب في
ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذٍ وآلمه ألمًا شديدًا لا يغضب - محرم شرعًا.
وما ذكر عن بعضهم من قوله: (عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى
عين ما ترى) هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك
والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف
المتفلسفة.
وقول ابن عربي: ظاهره خلقه، وباطنه حقه. هو قول أهل الحلول، وهو
متناقض في ذلك , فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان أحدهما باطن والآخر
ظاهر , والتفريق بين الوجود والعين - تفريق لا حقيقة له , بل هو من أقوال أهل
الكذب والمين.
وقول ابن سبعين: (ربٌّ هالك، وعبد مالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة
وهم) موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال: وأنتم
ذلك، وكذلك قال: الله فقط والكثرة وهم. فإنه على قوله لا موجود إلا الله؛ ولهذا
كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم: ليس إلا الله. بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله،
وكان يسميهم الشيخ قطب الدين بن القسطلاني الليسية، ويقول: احذروا هؤلاء
الليسية. ولهذا قال: الكثرة وهم. وهذا تناقض، فإن قوله: وهم. يقتضي متوهمًا ,
فإن كان المتوهم هو الوهم , فيكون الله هو الوهم , وإن كان المتوهم هو غير الوهم
فقد تعدد الوجود , وكذلك: إن كان المتوهم هو الله , فقد وصف الله بالوهم الباطل،
وهذا مع أنه كفر فإنه يناقض قوله: الوجود واحد. وإن كان المتوهم غيره فقد أثبت
غير الله وهذا يناقض أصله , ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة
وهمًا بل تكون حقًّا.
والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل فإن
قوله:
يا صورة إنس سرها معنائي ...
خطاب على لسان الحق يقول لصورة الإنسان: (يا صورة إنس سرها
معنائي) ؛ أي هي الصورة وأنا معناها. وهذا يقتضي أن المعنى غير
الصورة , وهو يقتضي التعدد والتفريق بين المعنى والصورة , فإن كان وجود
المعنى هو وجود الصورة - كما يصرح به - فلا تعدد , وإن كان وجود هذا غير
وجود هذا تناقض. وقوله:
ما خلقك للأمر ترى لولائي ...
كلام مجمل يمكن أن يراد به معنى صحيح؛ أي: لولا الخالق لما وجد
المكلفون، ولا خلق لأمر الله , لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا. فإن مراده الوحدة
والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال:
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا ... كي تشهدنا في أكمل الأشياء
فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية , وهذا يشير
إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق , لكنه متناقض في كلامه , فإنه لا
يرضى بالحلول ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال
هو عين وجود المحل , لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود , فوجود الحق
حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده. وهذا الكلام لا حقيقة له في
نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا , لكنه هو مذهب المتناقض في نفسه.
وأما الرجل الذي طلب من والده الحج , فأمره أن يطوف بنفس الأب , فقال:
طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط. فهذا كفر بإجماع المسلمين , فإن الطواف
بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله , وأما الطواف بالأنبياء والصالحين، فحرام
بإجماع المسلمين. ومن اعتقد ذلك دينًا فهو كافر سواء طاف ببدنه أو بقبره،
وقوله: ما فارقه الله طرفة عين قط. إن أراد به الحلول المطلق العام , فهو مع
بطلانه متناقض , فإنه حينئذ لا فرق بين الطائف والمطوف به , فلم يكن طواف هذا
بهذا أولى من العكس , بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب والخنازير والكفار
والنجاسات والأقذار وكل خبيث وكل ملعون؛ لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا
كله , وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا
أيضًا من ذات الله. فقال: وثم خارج عنه؟ ومر التلمساني ومعه شخص فاجتاز
بكلب فركضه الآخر برجله , فقال: لا تركضه فإنه منه.
وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين فإنه متناقض ,
فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى
بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد. وإذا قيل: مظاهر
ومجالي. قيل: إن كان لها وجود غير وجود الظاهر المتجلي، فقد ثبت التعدد
وبطلت الوحدة , وإن كان وجود هذا هو وجود هذا , لم يبق بين الظاهر والمظهر
والمتجلي فيه [6] فرق، وإن أراد بقوله: ما فارقه الله طرفة عين الحلول الخاص
كما تقول النصارى في المسيح - لزمه أن يكون هذا الحلول ثابتًا له من حين خلق
كما تقوله النصارى في المسيح , فلا يكون ذلك حاصلاً له بمعرفته وعبادته وتحقيقه
وعرفانه , وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين , فلماذا يكون الحلول
ثابتًا له دون غيره؟ وهذا شر من قول النصارى , فإن النصارى ادعوا ذلك في
المسيح لكونه خلق من غير أب، والشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق , وإنما
فضلوا بالعبادة والمعرفة والتحقيق والتوحيد , وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن ,
فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثًا لا مقارنًا لخلقهم ,
وحينئذ فقولهم: إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط. كلام باطل كيفما
قدر.
وأما ما ذكر عن رابعة من قولها عن البيت: (إنه الصنم المعبود في الأرض) ,
فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله - لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب، وإلا
قتل. وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف
به والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: (والله ما ولجه الله ولا خلا منه)
كلام باطل عليها. وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا
المعنى؛ فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت؟
(وقول القائل) : (ما ولج الله فيه) , كلام صحيح، وأما قوله: (ما خلا
منه) ، فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى - فهو باطل وهو مناقض
لقوله: ما ولج فيه. وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له , لم يتجدد له ولوج،
ولم يزل غير حال فيه , فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب أن لا يكون للبيت مزية
على غيره من البيوت؛ إذ الموجودات كلها عندهم كذلك.
وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا في خلقه ظاهرًا ... في صورة الآكل الشارب
فهذه قد تعين بها الحلول الخاص كما تقوله النصارى في المسيح , وكان أبو
عبد الله بن خفيف الشيرازي قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج يذب عنه , فلما
أنشد هذين البيتين , قال: لعن الله من قال هذا. وقوله:
عقد الخلائق في الإله عقائدًا ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
فهذا البيت يعرف لابن عربي , فإن كان قد سبقه إليه الحلاج , وقد تمثل هو به
فأضافته إلى الحلاج صحيحة , وهو كلام متناقض فإن الجمع بين النقيضين في
الاعتقاد في غاية الفساد , والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم
من صدق إحداهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما , وهؤلاء يزعمون أنه يثبت
عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل , وأنهم يقولون: بالجمع بين النقيضين
وبين الضدين , وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول.
ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة، ومعلوم أن الأنبياء
عليهم السلام أعظم من الأولياء , والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته ,
ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه , فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات
العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين
النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح , ولا
ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام , يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها
فيظنونها ثابتة في الخارج , وإنما هي من خيالاتهم والخيال الباطل يتصور فيه ما
لا حقيقة له، ولهذا يقولون: أرض الحقيقة هي أرض الخيال. كما يقول ذلك ابن
عربي وغيره , ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن
الفارض وكان من شيوخهم. وأما قوله:
بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني ... فارفع بحقك إني من البين
فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة: يقوله الزنديق، ويقوله الصديق، فالأول
مراده به: رفع ثبوت إنيته , حتى يقال: إن وجوده هو وجود الحق , وإنيته هي
إنية الحق، فلا يقال: إنه غير الله ولا سوى. ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة: إن
الحلاج نصف رجل؛ وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة، فقيل:
وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد فهو متناقض ينقض بعضه بعضًا , فإن
قوله: (بيني وبينك إني تزاحمني) خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه ,
وهذه إثبات أمور ثلاثة , وكذلك يقول: (فارفع بحقك إني من البين) طلب من
غيره أن يرفع إنيته , وهذا إثبات لأمور ثلاثة.
وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد , وهو الفناء عن وجود السوى , فإن هذا
فيه طلب رفع الإنية وهو طلب الفناء، والفناء ثلاثة أقسام: فناء عن وجود السوى،
وفناء عن شهود السوى , وفناء عن عبادة السوى , فالأول هو فناء أهل الوحدة
الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج , وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا، وأما
الثاني - وهو الفناء عن شهود السوى - فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين
كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله، وهو مقام الاصطلام , وهو أن يغيب بموجوده عن
وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيظن
من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن رجلاً كان يحب آخر , فألقى
المحبوب نفسه في الماء , فألقى المحب نفسه خلفه , فقال: أنا وقعت فلم وقعت
أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني. فهذا حال من عجز عن شيء من
المخلوقات , إذا شهد قلبه وجود الخالق , وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين ,
ومن الناس من يجعل هذا من السلوك , ومنهم من يجعله غاية السلوك حتى يجعلوا
الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور والمحبوب
والمكروه، وهذا غلط عظيم غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود
الشرع والأمر والنهي وعبادة الله وحده وطاعة رسوله , فمن طلب رفع إنيته بهذا
الاعتبار , لم يكن محمودًا على هذا، ولكن قد يكون معذورًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لعله: أي ترك المأمور.
(2) لعل الأصل: بل يفرقون بينهما بالطبع والعقل أو ما هو بمعنى هذا بدليل ما بعده.
(3) لعله هواك أو غرضك.
(4) الظاهر أن يقال: ولزمه، كقوله: وكان احتجاجه عطفًا على قوله: اتبع ضده، الذي هو جواب فمن لم يتبع شرع الله ودينه، ولو قال: واتبع ضده، عطفًا على قوله: لم يتبع، لكان قوله: لزمه إلخ هو جواب الشرط، ولم يصح عطفه.
(5) سقط من هنا جواب: فمن جعل، والمعنى من جعل الإيمان بالقدر عذرًا لمن عصى الله وأشرك به لزمه كون هذا الإيمان منكرًا من المنكرات وضلالة من الضلالات، وليس الأمر كذلك بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات إلخ.
(6) لعل أصله: والمجلي والمتجلي فيه.(25/513)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مؤتمر الخلافة [*]
] وأتمروا بينكم بمعروف [[**]
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ * وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: 55) .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم , وعلى آله
وأصحابه والتابعين له بإحسان.
كان للمسلمين ملك عظيم امتد يمينًا وشمالاً , فبسط جناحيه على المشرق
والمغرب , فأظلتا أعظم ممالك العمران ما بين الطرف الغربي من أوربة وحدود
الصين في الشرق الأقصى , وما بين المحيط الجنوبي إلى أحشاء أوربة في الشمال ,
وكان لهم في هذا الملك العظيم من الدول العزيزة والسلطان الكبير , ما فصلت
أخباره في الأسفار الكثيرة من خزائن التاريخ.
كانوا كلما سقطت دولة من دولهم بخروج أمرائهم وسلاطينهم عن هداية
الشرع بالعدل , وسنن الله المطردة في العمران , خلفتها دولة أخرى أعز منها شأنًا
وأقوى سلطانًا.
كانوا أمة واحدة تدبر أمورها دولة واحدة , ثم تعددت فيها الدول وهي أمة
واحدة؛ لأنها كانت لا تزال تحيا بروح الإسلام الذي ساوى بين الشعوب والأقوام ,
وجعل التفاضل بين الناس بالعلم والعمل دون القومية والنسب , حتى كان مثل
البخاري وأبى حنيفة من سلائل الفرس معدودين من أكبر أئمة السنة والفقه , ومثل
نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي من سلائل الترك والكرد مفضلين على
كثير من خلفاء قريش في الحكم.
ومن طرائف شهادة التاريخ على هذا ما ذكره ابن جبير الأندلسي في رحلته
واصفًا خطبة الجمعة في الحرم المكي الشريف سنة 579 قال: ثم دعا - الخطيب-
للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة
ابن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبى هاشم الحسني , ثم لصلاح الدين أبى المظفر
يوسف بن أيوب، ولولي عهده أخيه أبى بكر بن أيوب , وعند ذكر صلاح الدين
بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان.
وإذا أحب الله يومًا عبده ... ألقى عليه محبة للناس
وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم , وحسن النظر لهم , ولما
رفعه من وظائف المكوس عنهم , وفي هذا التاريخ علمنا بأن كتابه وصل إلى
الأمير مكثر , وأهم فصوله التوصية بالحاج، والتأكيد في مبرتهم , وتأنيسهم، ورفع
أيدي الاعتداء عنهم , والإيعاز في ذلك إلى الخدام والأتباع والأوزاع , وقال:
إنما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج , فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد
الكريم إلى آخر ما قال.
والعبرة فيه ظهور تفضيل حجاج الشعوب الإسلامية كلها مع أهل الحرم
للسلطان الكردي , على الخليفة القرشي والأمير العلوي , وذكر في غير هذا
الموضع من الرحلة أن أمير مكة كان من أشد هؤلاء الأمراء في الإلحاد بالظلم في
حرم الله تعالى , وأنه انتزع مفتاح بيت الله من وارثه زعيم الشيبيين محمد بن
إسماعيل , وأمر بالقبض عليه وانتهاب منزله , وصرفه عن حجابة البيت الحرام،
طهره الله تعالى , قال: والحال يشبه بعضها بعضًا (وإن الظالمين بعضهم أولياء
بعض) , وإلى الله المشتكى من فساد ظهر حتى في أشرف بقاع الأرض , وهو
حسبنا ونعم الوكيل. اهـ.
وأعظم مما ذكره ابن جبير - رحمه الله - في الاعتبار أن الظلم والفساد في
الحرم تسلسل في هؤلاء الأمراء المكيين , الذين يفضلون أنفسهم بنسبهم على جميع
الصالحين والمصلحين , إلى أن بلغ أشده في هذه السنين من المتغلب الذي ادعى
حق الملك على جميع العرب , والخلافة على جميع المسلمين وصرحت جريدته بأنه
نال هذا بالرغم من أهل السموات والأرض أجمعين , فأخرجه الله تعالى منها
مذؤومًا مدحورًا , مأفونًا مثبورًا , منبوذًا مهجورًا {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا
خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 66)
ما فعل الله تعالى بذلك الملك العظيم؟ وماذا بقي منه لأكثر من ثلاثمائة مليون
من المسلمين؟ وكيف وجد من ضعف , ثم كان من بعد ضعف قوة , ثم ذهبت تلك
الدول والشعوب شذر مذر , وصارت عبرة لمن اعتبر؟ وهل يرجى أن يعود
الإسلام كما بدا؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ وكيف فرقوا في الدين فكانوا شيعًا والملة
واحدة , وتفرقوا في الأجناس والأقوام، والأوطان والأمة واحدة؟
لقد نزل ما نزل بالمسلمين وهم غافلون , وأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون ,
وضحًى وهم يلعبون , فضرب الله على آذانهم في كهف الجهل بضعة قرون , ثم
تأذن الله تعالى ببعثهم من رقادهم , وهداهم إلى التفكر في حالهم وحال آبائهم
الأولين , وخلفائهم الراشدين , وملوكهم الفاتحين , فاختلفوا في أسباب ما كان من
قوة وضعف وعز وذل , بما رسخ في شعوبهم من الجهل , وما طرأ عليها من البدع،
وما سرى إليها من نعرة الجنسية , وعصبية الجاهلية , وما تغلغل فيها من الدسائس
الأجنبية , والتعاليم المادية الإلحادية , فذهب أهل البصيرة منهم إلى أن ترك هداية
الدين الأولى , والابتداع والتفرق فيه هو الذي أضاع ملكهم , وذهب بمدنيتهم؛ لأن
هذه الهداية كانت هي السبب لهما , وما حصل بسبب زال بزواله.
وزعم آخرون أن الأخذ بالدين هو سبب هذا الضعف , والجهل بشبهة
اشتراك جميع شعوب المسلمين فيه , وليس بينهم جامعة مشتركة يعلل بها إلا
الدين , وفاتهم أن الجهل بحقيقته والابتداع فيه , والإعراض عن هدايته الأولى
علة فاشية في جميع تلك الشعوب أيضًا , فهؤلاء يقولون: لا يمكن أن نسترجع
مجدنا , ونجدد ملكنا إلا بنبذ الدين ظهريًّا كما فعل الفرنسيس ومن تبعهم من الإفرنج ,
واستبدال الرابطة القومية والعصبية الوطنية بالجامعة الإسلامية.
وأولئك يقولون: إننا لا ننال ذلك إلا بما ناله سلفنا , وإن الإفرنج لم ينجحوا
في دنياهم إلا بعد الإصلاح الديني , لا بعد نبذ هداية الدين ظهريًّا , وأنهم لا يزالون
يبذلون الملايين من الجنيهات في تعليمه ونشره.
ومن فروع هذا الخلاف قول متفرنجة الترك: إن منصب الخلافة وشكل
الحكومة الإسلامية علة العلل؛ لضعفهم وزوال سلطنتهم العظيمة. ورد بعض
العارفين عليهم: إن الإسلام هو الذي كان علة تأسيس تلك السلطنة العظيمة , وإن
الخروج عن هدايته هو الذي كان علة ضعفها وزوالها , وإن منصب الخلافة لم يكن
عندهم إلا لقبًا من ألقاب الفخر والشرف , على أنه كان قوة معنوية لهم , وإن لم
يترتب عليه عمل.
وبين هذين الفريقين السواد الأعظم من الجامدين على ما ألفوا من حق وباطل
وما تقلدوا من سنة وبدعة , ينظرون إلى كل منهما بمنظار واحد , فمنهم من يرمي
الفريقين بالكفر والإلحاد , وأقلهم جمودًا من ينبذ طلاب الإصلاح بلقب الابتداع ,
ولم يبق للمسلمين رياسة عامة محترمة , يرد إليها هذا النزاع؛ لتفصل فيه فصلاً
معقولاً , يرجى أن يكون مقبولاً , مهتدية بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً
بَعِيدًا} (النساء: 59-60) , فلا يتكلم باسم الإسلام من ليس منه , ولا يعطى فيه
حق الحل والعقد.
قد ظهر في المسلمين مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من
قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع , حتى لو دخلوا في جحر ضب لتبعتموهم. قالوا
يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان في الصحيحين
وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: اتبعوا سننهم في البدع،
حتى انتهت ببعضهم إلى المروق من الإسلام نفاقًا ثم جهارًا , ثم إلى محاربته
بدعوى إصلاح حكومته أو إصلاح أهله , وقد شرع الترك في تأسيس حكومة غير
دينية في بلادهم.
إن هذه الفوضى الدينية في العالم الإسلامي قد حيرت الباحثين في طرق
الإصلاح الديني والمدني , حتى كتب بعض الباحثين من كتاب المصريين بأنه قد
ثبت عنده بعد التروي في السنين الطوال , أن المسلمين لن يرجعوا إلى دينهم ثانية
إلا بعد أن يتركوه تركًا تامًّا , ثم هم يعيدون النظر فيه , سالكين منهاجًا غير المناهج
المسلوكة منذ قرون في تلقينه ودرسه , وإنه لرأي بمعزل من الصواب , رجحه في
نظره فشل دعاة التجديد والإصلاح , وفشو الفسوق والإلحاد , وسبق الملاحدة إلى
المناصب الدولية , وفوزهم في أعمال العمران , ونجاحهم في جذب النابتة. وشر
من ذلك كله سكوت زعماء الجمود عنهم , ونضالهم لدعاة الإصلاح من دونهم ,
ونحن على علمنا بهذا نفند رأي هذا الباحث نقضًا ومناقضة ومعارضة، وإننا نبحث
في هذه المسألة من زهاء ثلث قرن كتابة وخطابة ومناظرة ومراسلة بيننا وبين
المفكرين في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها , مع السياحة في أهم أقطارها ,
فكانت ثمرة البحث أن الطريقة المثلى للإصلاح دونها موانع فلم تسلك , والرجاء أن
يكون قد زال الآن ما دونها من العواثير والعقاب , وفتح ما كان مغلقًا أمامها من
الأبواب.
ما هذه الطريقة المثلى؟ قيل لموقظ الشرق وحكيم الإسلام: إن علل ضعف
المسلمين كثيرة , فهل لهذه العلل من علة ترجع كلها إليها , فتوجه جهود الإصلاح
لإزالتها , فيصلح كل شيء بالتبع لها؛ إذ يكون مكانها كمكان القلب من الجسد , إذا
صلح صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد كله , كما ورد في التمثيل النبوي؟ قال:
نعم , إن الأمر الذي يجب على المسلمين أن يوجهوا جهودهم إلى إيجاده , هو
(السلك) , انقطع السلك الذي كان نظام وحدتهم الدينية والدنيوية , فانتثر الحب
ولن ينتظم إلا بالسلك.
ونقول نحن في بيان مراد ذلك الحكيم: إنما كان السلك الأول نظام الخلافة
المؤيدة في الباطن بوازع الدين , وفي الخارج بتأييد أهل الحل والعقد من المسلمين.
قام الخلفاء الراشدون بها حق القيام , ثم صدعت بعصبية القومية الجاهلية , فعصبية
التشيع المذهبية , فضعف الوازع الديني المؤيد لها في الباطن رويدًا رويدًا,
وانحصر الحل والعقد في عصبية المتغلب شيئًا فشيئًا , فتمزق بذلك شمل المسلمين
وصار أمرهم كالكرة بين صوالجة المتغلبين , وصارت الأمة أممًا متعادية , والدولة
دولاً متقاتلة , وسبب هذه المصائب كلها عدم وضع نظام للحكم , يكون السلطان فيه
لمن تختارهم الأمة للحل والعقد من غير قيد ولا حصر إلا في حدود الشرع.
شرع الإسلام مبني على جعل أمر المسلمين شورى بينهم , وكل ما ليس فيه
نص قطعي مفوضًا إلى اجتهاد أولي الأمرمنهم , وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله
عليه وسلم باستشارتهم في الأمر , وقيد الطاعة في مبايعته بقوله: {وَلاَ يَعْصِينَكَ
فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12) حتى لا يتجرأ أحد من أمراء المسلمين على
دعوى الاستغناء عن المشاورة , ولا على دعوى وجوب الطاعة المطلقة , وقد
جرى خلفاؤه الراشدون على هديه في ذلك , فقال الخليفة الأول في خطبته الأولى
على منبره عقب المبايعة مخاطبًا لجماعة المسلمين: فإذا استقمت فأعينوني , وإذا
زغت فقوموني , وتبعه الخليفة الثاني بقوله: من رأى منكم في عوجًا فليقومه.
وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضًا: أمري لأمركم تبع. وقد جروا كلهم على ذلك
بالعمل , ينفذون نصوص الكتاب وما ثبت في السنة , ويشاورون أهل العلم والرأي
في جميع الأمور الاجتهادية.
وهذا معنى ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة , وكون من شذ
عنها في النار , وهو ما عبر عنه بعض كبار العلماء بحق الأمة؛ أي: سلطة الأمة
وعللوه بأنها هي التي ورد الحديث بأنها لا تجتمع على ضلالة , وإنما يمثل الأمة
في المسائل العلمية أئمتها المجتهدون , وفي سياستها وإدارتها أهل الحل والعقد منهم،
ومن سائر رجالها الموثوق بكفايتهم في المصالح الدنيوية , ولا سيما الحربية التي
صارت في هذا الزمان تتوقف على فنون كثيرة , قال الحافظ ابن حجر في الكلام
على مبايعة عثمان من شرحه للبخاري: والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه
الذين كان يؤمرهم في البلاد , أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط , بل يضم
إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع , فلأجل ذلك استخلف
(أي: أمر) معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل
منهم في أمر الدين والعلم: كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة. اهـ.
ومن أقوال كبار العلماء في سلطة الأمة , وكون الرأي لها في نصب الإمام
وعزله , قول الإمام الرازي في تعريف الخلافة: هي رياسة عامة في الدين والدنيا
لشخص واحد من الأشخاص. وقال في القيد الذي زاده في التعريف على غيره:
هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه. قال السعد التفتازاني في شرح
المقاصد بعد ذكر هذا القيد وتعليله: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد ,
واعتبر رياستهم على من عداهم , أو على كل من آحاد الأمة. اهـ.
وأراد السعد بهذا التوجيه إزالة إشكال من عساه يقول: إذا كانت الرياسة
للأمة فمن المرؤوس؟
وجملة القول أن الإسلام قد بين أصول حكومة الشورى , وإنما قصر
المسلمون في عدم وضع نظام يكفل تنفيذ أحكامها بالعمل , ويكفل سلطة أهل الحل
والعقد الممثلين للأمة في كل زمان بحسبه , وحكمة عدم وضع الشرع لهذا النظام
أنه يختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الاجتماع , ولذلك فوضه إلى الأمة ,
وقد كان استبداد الذين جعلوا الخلافة ملكًا يورث مانعًا من ذلك إلى آخر عهد آل
عثمان , حتى لم يكن أحد يتجرأ على الدعوة إلى تقييد سلطتهم , ولو في غير
بلادهم التي تنفذ فيها أحكامهم , ولم ننس ما كان مسلمو مصر والهند يرمون به كل
من كان يشكو من ظلم عبد الحميد المستبد , ثم من استبداد الاتحاديين , ثم ما كان
من شأنهم في الغلو في إطراء الكماليين , ثم في الإنحاء عليهم والتشهير بهم.
لهذا رجونا أن تكون الموانع دون سلوك الطريقة المثلى للإصلاح الإسلامي قد
زالت , فأصبح ميسرًا ما كان متعذرًا , وفتح من الأبواب له ما كان مغلقًا , وما ذلك
إلا بإلغاء الترك للخلافة التركية الصورية التي لم تكن تعمل للإسلام , ولا تدع أحدًا
يعمل له.
فالمطلوب الآن إيجاد السلك ووضع النظام , وأن يكون بالتشاور بين العلماء
المسلمين الدينيين والسياسيين , والإداريين والعسكريين , والماليين والحاذقين لسائر
الفنون , التي عليها مدار العمران وعزة الأمم وكرامتها , ولا يكون هذا إلا بعقد
مؤتمر إسلامي عام , وهو ما كنا ندندن حوله منذ أنشأنا المنار , واقترحنا في ذلك
الوقت مرارًا أن يكون في ظل بيت الله الحرام توجيهًا للقلوب وتحريكًا للعقول ,
على أن الموانع كانت على أشدها , وآمال المسلمين محصورة في الآستانة وحدها ,
ولذلك اقترح بعض الكتاب يومئذ أن يكون المؤتمر فيها , كما اقترح ذلك بعضهم
بعد زوال الدولة العثمانية وما حل بخلافتها؛ لأن ما رسخ في العقول والقلوب
بتوالي القرون لا يزول في أشهر قليلة , ولا في سنين معدودة.
قد كان ما كتبناه نحن وغيرنا في هذا الموضوع تمهيدًا وإعدادًا للأمة , ولا
تقوم الأمم بعمل مفيد إلا بعد تمام الاستعداد للنهوض به , ورجحان المقتضي له على
المانع منه , وهذا ما نرجو أن نكون قد وصلنا إليه أو أوشكنا , أما المانع فقد زال ,
وأما المتقتضي فلا مراء فيه , وبقي استعداد الأمة , هل تم أم لا؟ وهو ما يظهره
عقد المؤتمر.
كانت الخلافة العثمانية هي المانع الأكبر , ولا سيما بعد أن عجز السلطان
عبد الحميد عما حاوله من تجديد نفوذ الخلافة ونشره , واستحوذت عليه الوسوسة
واتهام كل طالب للإصلاح , حتى السيد جمال الدين الأفغاني , الذي كان المبتكر
لهذه الفكرة والمقنع لكثير من مجتهدي الشيعة بتأييدها , فلما أنزل الكماليون بها
القارعة الأولى , كان من حرص أكثر المسلمين عليها أن رضوا ببقاء اسمها الخلافة
مجردة من كل معاني الرياسة والحكم , فلما قرعت أسماعهم الصاخة الكبرى بإلغاء
الاسم وطرد المسمى من الآستانة , ورأوا طاغوت الحجاز قد تنحلها لنفسه - فزعوا
وأعولوا , ثم تفكروا وتدبروا , فهتف بهم الهاتف الإلهامي الإلهي أن توبوا إلى ربكم
وتوبوا إلى رشدكم , واجعلوا الأمر شورى بينكم , كما أرشدكم كتاب الله المنزل ,
ومضت به سنة نبيه المرسل , وسعد به السلف الأول , فتجاوبت الأصوات من كل
مكان: لا بد من عقد مؤتمر إسلامي عام. اتفقت الشعوب الإسلامية على وجوب
عقد المؤتمر , وكثرة الدعاة إليه , واختلفوا في الزمان والمكان اللذين يعقد فيهما ,
حتى إذا ارتفع صوت كبار علماء مصر بالتصدي للدعوة إليه , وضربوا الموعد
المعروف له , ثم صاروا يدعون أهل الرأي والأخصاء في الفنون المختلفة إلى
الانضواء إليهم , والاشتراك في إدارة العمل معهم , خفتت دون صوتهم الأصوات،
وكان أقواها صوت دعي الخلافة في الحجاز , سل الله تعالى عليه سيف سلطان نجد ,
فأخرجه مهزومًا مذمومًا من تلك الأرض , وذلك يضمن لنا اشتراك الحرمين
الشريفين في مؤتمر مصر بالتبع؛ لاشتراك نجد فيه كما تقرر من قبل.
فهذا أول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من أكبر الشعوب
الإسلامية , وأوسعها علمًا وثروة , وأشدها بأسًا وقوة , والمطلوب الأول منه وضع
نظام للإمامة العظمى , يدخل في بابين:
(أحدهما) قواعد حكومة إسلامية مدنية , يظهر بها علو التشريع الإسلام على
جميع ما اشترعه البشر في العدل والمساواة , والجمع بين السياسة والفضيلة التي خلا
منها اشتراع القوانين المادية.
(وثانيهما) قواعد للتربية والتعليم الجامعين بين هداية الدين ومصالح الدنيا ,
وتوثيق راوبط الأخوة الدينية والتكافل الروحي , والتعاون الاقتصادي بين المسلمين
على اختلاف شعوبهم ومذاهبهم , وتعدد حكوماتهم , ويدخل في هذا إحياء دعوة الدين
والدفاع عنه مع اتقاء السياسة من كل وجه , والحث على الاشتراك مع جميع
الشعوب في خدمة الإنسانية العامة , وترقية الآداب والحضارة في جميع الأمم.
وأما المطلوب الثاني: فهو اختيار خليفة وإمام للمسلمين , ينقذ القسم الأول من
هذا النظام في البلاد الخاضعة لحكمه , خاصة مع مراعاة حقوق جميع أصناف
سكانها (وصدر الشرع الواسع لا يضيق بشيء من ذلك) , ويشرف على تنفيذ
القسم الثاني مستعينًا بديوان يشترك فيه أعضاء من جميع الشعوب الإسلامية.
ونحن نجتهد في أن لا نجعل لأحد حجة علينا بتدخل سياسي سري , ولا
جهري في مسلمي البلاد الأخرى , ولا حجة علينا في ارتباطنا الديني والأدبي مع
أولئك المسلمين , بأن يكون هذا الارتباط نحوًا مما تأتيه جمعياتهم الدينية في بلادنا
وبلاد غيرنا من الأجانب عنهم، كجمعيات الدعاة المبشرين , وجمعية الشبان
المسيحيين وغيرهما , وهذا النظام أكبر قوة ذاتية لنا , نتقي بها استمرار هذا الخلل
والضعف فينا.
إن فائدة النظام الذي نقترحه على المؤتمر في المقصد الديني الأدبي , أكبر
منه في المطلب السياسي , فإن سلطان الخليفة السياسي خاص ببعض المسلمين ,
وسلطانه الديني الأدبي عام لهم , وأكبر فوائد تلافي الفوضى في التعليم الديني ,
ورد عادية البدع , وكبح جماح الأفكار المادية المولدة للزندقة والإلحاد ولنزغات
البلشفية , وغيرها من الفتن التي أثارتها طبيعة الاجتماع , وهذه خدمة للبشر من
جميع الملل والنحل.
فلهذه الغاية الفضلى ندعو أهل الرأي والغيرة والبصيرة , من زعماء جميع
الشعوب الإسلامية إلى اغتنام فرصة إمكان عقد مؤتمر إسلامي عام في أرقى بلاد
الإسلام , فهي فرصة لم يسمح قبل بمثلها الزمان , ونسأله تعالى التوفيق في البدء
والختام.
__________
(*) رغب إلينا السكرتير العام للجنة مؤتمر الخلافة أن نكتب مقالة في موضوعه , ووجه الحاجة إليه؛ لتنشر في صدر الجزء الأول من مجلة المؤتمر التي تصدر في هذا الشهر , فكتبنا هذه المقالة, ثم رأينا أن ننقلها في مجلتنا؛ ليطلع قراؤنا عليها وهي هذه.
(**) (الطلاق: 6) .(25/525)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
المقالات الجمالية
ننشر تحت هذا العنوان ما جمعناه من مقالات موقظ الشرق وحكيم الإسلام
السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني حفظًا لها من الضياع.
الشرق والشرقيون
نشرها السيد في جريدة (أبو نظارة زرقاء) التي كانت تصدر بباريس أيام
وجوده فيها سنة 1300 (1883) , وهي مصدرة بمقدمة حكيمة في العقل والنفس
والأخلاق , التي هي يتفاضل بها البشر أفرادًا وجماعات , ويعلو بعض الأمم بعضًا
في ارتقاء الحضارة , ويتسابقون في جلبة السعادة السيادة , ويلبها المقصد في
شعبتين: إحدهما: بيان ما كان للشرقيين من حظ ارتقاء العقل في العلم والبصيرة ,
وارتقاء النفس في الأخلاق العالية , ثم ما انتهى إليه حالهم من إهمال النعمتين
والتدهور عن القمتين , والشعبة الثانية في الشواهد التاريخية على ذلك بما كان من
إضاعتهم لممالكهم , وتخريب بيوتهم بأيديهم , قال رحمه الله:
(المقدمة)
الإنسان إنسان بعقله وبنفسه , ولولا العقل والنفس لكان الإنسان أخس جميع
الحيوانات وأشقاها؛ لأنه في حياته أضيق مسلكًا , وأصعب مجازًا , وأوعر طريقًا
منها، قد حفت به المكاره , وأحاطت به المشاق , واكتنفت به الآلام , لا يمكنه أن
يقوم بمعاشه وهو منعزل عن أبناء نوعه , لا يطيق الحر ولا يتحمل ألم البرد , ولا
يقدر على الذود عن نفسه , وليس له من الآلات الطبيعية ما يثقف به معيشته , وهو
محتاج في ضروريات حياته , ومفتقر في الكمال فيها إلى الصناعة , ولا يمكن
الحصول عليها إلا بإجالة الفكرة , والتعاون بمن يشاركه في العقل من النوع
البشري.
والعقل أن تستنبط المسببات من أسبابها , ويستدل بالعلل على معلولاتها ,
وينتقل من الملزومات إلى لوازمها , وتستكشف الآثار حين ملاحظة مؤثراتها ,
وتعرف العواقب ضارها ونافعها , وتقدر الأفعال بمقاديرها على حسب ما يمكن أن
يطرأ عليها من الفوائد والخسائر في عاجلها وآجلها , ويتميز الحق من الباطل في
الأعمال الإنسانية نظرًا إلى عواقبها.
العقل (أي: بهذا المعنى) هو الهادي إلى مهيع السعادة , ومنهج الأمن
والراحة , لا يضل من استرشده , ولا يغوي من استهداه , ولا يحوم الشقاء حول
من ركن إليه , ولا يعثر في المداحض من اعتمد عليه , ولا يلتبس الحق بالباطل
على من استنار بنوره , وإن الخير به، وليس الشر إلا بالحيدان عن صراطه القويم،
من فقده فاتته السعادة لا محالة , ولو أخرجت له الأرض أفلاذها , وأسبغت عليه
الدنيا نعيمها , وإن الأمم ما سادت إلا بهدايته , وما ذلت بعد رفيع مقامها وعظم
منزلتها إلا بعد أن عرضت عن خالص نصحه , وتوغلت في بيداء غوايتها ,
واستعملته في مسالك ضلالتها , واستخدمته لقضاء أوطار طبائعها الخسيسة , التي
تجلب عليها الشنار , وتوجب المعرة والصغار.
والنفس هي منشأ أخلاق كريمة , وأوصاف عقلية , هي قوام الاجتماعات
المدنية والمنزلية , وأساس التعادل , وميزان التكافؤ في الموازنات , ومقياس
التوافق في المعاونات , ولا يمكن التآلف بين القوى المتفرقة لاقتناء ما تقوم به
حياة الإنسان إلا بها , ولا تلتئم أهوية النفوس المختلفة؛ لاكتساب ضروريات
معاشها إلا بسببها , وهي التي تجعل الأفراد الإنسانية مع تضاد طبائعها بمنزلة
شخص واحد , يسعى بأعضائه المتخالفة في أشكالها , وجوارحه المتباينة في هيئاتها
إلى مقصد واحد , لا يمكن الوصول إليه إلا باستعمالها بحركات , قد اختلفت مع
وحدة جهتها أوضاعها , وسيادة الأمم الغابرة والحاضرة , هي من أخص نتائجها،
لأنها لا يمكن حصولها إلا باتفاق كلمة آحادها , واجتماع آراء أفرادها , ولا تتفق
الكلمة ولا تجتمع الآراء إلا بالتكافؤ في المساعي , والتوازن في تحمل المشاق،
والاشتراك في المنافع , والمساواة في الحقوق , والتعادل في التمتع بثمرات الأعمال
بلا تفاضل ولا استئثار.
وكل هذه في وجودها وبقائها تحتاج إلى الأخلاق الكريمة والأوصاف
العقلية التي يعرف الإنسان حقه , ويقف عنده , ولا تشتت أمة , ولا اضمحلت
سلطة , ولا تفرقت جمعية إلا بفساد أخلاقها , وتطرق الخلل في سجاياها؛ لأنها
بفسادها وتطرق الخلل فيها , توجب تخالف الأيدي , وتباعد الأهواء وتضارب
الآراء , وتباين الأفكار , فيستحيل حينئذ الاجتماع ويمتنع الاتفاق.
وإذا أمعن البصير في حقيقة الأخلاق الرذيلة يعلم أنها بذاتها تبعث على التفرق
والاختلاف , وتمنع من الاجتماع والائتلاف , وما ينشأ عن ذات الشيء لا يمكن
زواله ما دامت ذاته باقية , فإذا تمكنت الأخلاق الرذيلة من أمة , فلا يرجى لها
نجاح , ولا يحصل لها فلاح , ما لم تسع في تعديلها , وتدأب في تقويمها.
ويمكن أن يقال: إن بين كمال العقل وطهارة النفس وتخلقها بالأخلاق الفاضلة
تلازمًا؛ لأن العقل إذا بلغ كماله يقهر الطبيعة , فحينئذ تسلم النفس من سوراتها ,
وتخلص عن عكر قذفاتها , فتنقاد للعقل مستسلمة له خاضعة لحكمه , ويستعملها
العقل على نهج الحق والعدل , وليست الأخلاق الفاضلة إلا أن تزن النفس أعمالها
بميزان العدل , ولا تحيد في هواها عن صراط الحق.
الشعبة الأولى من المقصد في أسباب انحطاط الشرق:
وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نقول: إن الشرق بعد ما كان له من الجاه
الرفيع , والمقام المنيع , والسلطنة العظيمة , وبسطة الملك , وعظم الشوكة ,
وكثرة الصنائع والبدائع , ووفور الأمتعة والبضائع , ورواج سوق التجارة , وذيوع
العلوم والمعارف , وشيوع الآداب والفنون؛ ما هبط عن جليل مرتبته , وما سقط
عن رفيع منزلته , ولا استولى الفقر والفاقة على ساكنيه , ولا غلب الذل والاستكانة
على عامريه , ولا تسلطت عليه الأجانب , ولا استعبدت أهله الأباعد إلا لإعراض
الشرقيين عن الاستنارة بنور عقولهم , وتطرق الفساد في أخلاقهم.
فإنك تراهم في سيرهم كالبهائم , لا يتدبرون أمرًا , ولا يتقون في أفعالهم
شرًّا , ولا يكدون لجلب النافع , ولا يجتنبون عن الضار [1] , طرأ على عقولهم
السبات , ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم , وعميت بصائرهم عن
إدراك النوازل التي أحاطت بهم , يقتحمون المهالك , ويمشون المداحض [2] ,
ويسرعون في ظلمات أهوية نفوسهم التي نشأت عن أوهامهم المضلة , ويتبعون
في مسالكهم ظنونًا قادهم إليها فساد طبائعهم , لا يحسون المصائب قبل أن تمس
أجسادهم , وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها , واندمال جراحها.
ولا يشعرون؛ لاستيلاء الغباوة على عقولهم , واكفهرار ظلمات غشاوة
الجهل على بصائرهم , باللذائذ التي خص الإنسان بها من حب الفخار في طلب
المجد والعز , وابتغاء حسن الصيت , وبقاء الذكر، بل لاستيلاء الغفلة على
عقولهم يحسبون أن يومهم دهرهم , والتقمقم كالسارحة [3] شأنهم , لا يدرون
عواقبهم , ولا يدركون مآل أمرهم , ولا يتداركون ما فاتهم , ولا يحذرون ما
يتربصهم [4] من أمامهم ومن خلفهم , ولا يفقهون ما أمكن لهم الدهر من الشدائد
والمصاعب , ولذا تراهم قد رئموا الذل , وألفوا الصغار وأنسوا الهوان , وانقادوا
للعبودية , ونسوا ما كان لهم من المجد المؤثل , والمقام الأمثل.
وبعد انحدارهم عن ذروة العقل الذي لا كرامة للإنسان إلا به , غلبت عليهم
الخسة والنذالة , ورانت على قلبهم القسوة والجفاء , وتمكن من نفوسهم الظلم
والجور , واستولى عليهم العجب , لا عن جاه يدعو إليه , ولا عن فضيلة تبعث
عليه , وتظاهروا مع الذل المتمكن من قلوبهم بالكبر والعظمة , وفشا بينهم
الشقاق والنفاق , وتلبسوا بالغدر والخيانة , واستشعروا الحسد والنميمة , وتسربلوا
بالحرص والشره , وتجاهروا بالوقاحة والشراسة , واتسموا بالخشية والجبانة ,
وانهمكوا في الشهوات الدنية , وخاضوا في اللذات البدنية , وتخلقوا بالأخلاق
البهيمية , متوسدين الكسالة والفشل , واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية ,
يفترس قويهم ضعيفهم , ويستعبد عزيزهم ذليلهم , يخونون أوطانهم , ويظلمون
جارهم , ويستلبون أموال ضعفائهم , ويخوسون بعهدهم [5] , ويسعون في خراب
بلادهم , ويمكنون الأجانب ديارهم , لا يحمون ذمارًا , ولا يخشون عارًا , عالمهم
جاهل , وأميرهم ظالم , وقاضيهم خائن , ليس لهم هادٍ فيرشدهم إلى سبيل نجاتهم،
ولا زاجر فيكفون عن التمادي في غيهم , ولا وازع يقدع الجائرين عن نهش عظام
فقرائهم , وصاروا جميعًا بسخافة عقولهم , وفساد أخلاقهم , عرضة للهلاك.
(لها بقية وهي الشواهد التاريخية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) اجتنب يتعدى بنفسه قال تعالى: [وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ] (الشورى: 37) الآية.
(2) أي: فيها وهي جمع مدحض , حيث تدحض الرِّجْل: أي تزل.
(3) السارحة: البهيمة التي تسرح للمرعي , والتقمقم: أخذ الشاة ما على وجه الأرض بمقتمها وأكله , وكذلك تتبع الإنسان ما على المائدة وأكله كله.
(4) تربصه الأمر انتظره وتربصه به: توقع نزوله به , ومنه: [نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ]
(الطور: 30) .
(5) خاس يخيس خيسًا: كذب , وخاس بالعهد خيسًا , وخيسانًا: غدر ونكث.(25/535)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الطور الجديد للمسألة العربية
ذكرنا في الجزء السادس الذي قبل هذا أن المسألة العربية دخلت في طور جديد
بخروج سلطان نجد من عزلته السياسية , وتصديه لإنقاذ الحجاز من حسين بن علي
مفرق الجماعات , ومثار الفتن , وموبق الأمة العربية؛ بإدخاله النفوذ بل السلطان
الأجنبي في جزيرة العرب , فقد زحفت الجيوش النجدية بالفعل على الحجاز ,
وسبقتهم العشائر الحجازية التي تدينت بدعوة نجد إلى الطائف , وبعد مقاومة شديدة
من حاميتها الحجازية وهي أكبر قوة للملك حسين , احتلوا الطائف عنوة , وانهزم
القائد العام للجيش الحجازي وهو الأمير علي ولي العهد لوالده فتحصن في موقع
منيع يقال له: الهَدَى بفتح الهاء , فزحف عليه الإخوان , فأخذوه عنوة، وولى الأمير
مدبرًا إلى موقع آخر على طريق عرفات يقال له: (كرى) , فزحفوا عليه
فانهزم إلى مكة، فوقف الإخوان؛ لأن السلطان عبد العزيز آل سعود لم يأذن لهم
بدخول مكة فاتحين. وفي أثناء ذلك طفق الملك حسين يمطر عالم الشرق وعالم
الغرب برقيات من الطعن في الوهابيين؛ ليهيج عليهم مسلمي الأرض ودول
أوربة فرأينا من الواجب علينا , أن نبادر إلى كتابة مقالات في الحقائق المتعلقة
بهذه المسألة , ونشرها في جريدة الأهرام اليومية الواسعة الانتشار , ثم اقترح
علينا أن ننشر هذه المقالات في المنار تباعًا وها هي ذي:
***
الوهابيون والحجاز
(1)
لو حدثت إغارة الوهابيين على الحجاز في عهد الدولة العثمانية؛ لقامت قيامة
العالم الإسلامي , ولرأيت الجرائد العربية في الشرق والغرب , والجرائد التركية
والهندية والفارسية والتتارية والملاوية تشن عليهم غارة التضليل والتكفير , وتجمع
الإعانات المالية؛ لقتالهم بالقناطير , ذلك لما كان لجماهير الشعوب الإسلامية من
حسن الظن وقوة الرجاء بالدولة , ومن سوء الظن بالوهابيين , أما وقد حدثت في
هذا العهد، فإننا نرى ضلع الرأي الإسلامي العام مع الوهابيين؛ لأن ما كان خفيًّا من
قوة دينهم , واعتصامهم بالسنة , ورفضهم للبدع , وكراهتهم للسلطة أو النفوذ
الأجنبي قد ظهر لخواص المسلمين , وبدأ يظهر لعوامهم , ولأن جميع الشعوب
الإسلامية تمقت هذا الرجل الذي تولى أعداء الإسلام في الحرب والسلم , فنصرهم
على المسلمين , واعتمد عليهم في طمعه في خلافة الإسلام , وملك العرب تحت
ظلهم وحمايتهم , فبمساعدته ومساعدة أولاده استولوا على البلاد العربية , التي هي
مهد حضارة الإسلام من حدود مصر إلى خليج فارس , ويحاولون جعل ما بقي
للعرب من عقر دارهم في جزيرتهم المقدسة تحت ظل تلك الدولة , التي جعلته ملكًا
مستبدًّا في الحجاز؛ ليهون على أهله وضعه تحت سيادتهم مباشرة في يوم من الأيام ,
وسمت أحد أولاده ملك العراق , وآخر منهم أمير الشرق العربي أو أمير شرق
الأردن , ويطمع أن تسميه ملك فلسطين ليخضع لها مسلميها، كما أمنها تعدي
الأعراب المجاورين لها.
فقد ظهر لجميع شعوب العالم الإسلامي أن هذا الرجل وأولاده هم شر نكبة
نكب بها الإسلام في هذا العصر , فصارت تتمنى زوال سلطته عن مهد الإسلام ,
وترى أنه لا يرجى لذلك غير هؤلاء النجديين البواسل , الذين صارحهم هو بالعداوة
والأذى بما جدد من دعاية سلفه الطالح من الطعن في دينهم ورميهم بالكفر , وادعائه
أن الإسلام يوجب عليه قتالهم , والمصلحة العربية توجب عليه إخضاعهم لسطانه ,
وجعلهم تابعين لملكه , ومنعهم من أداء فريضة الحج - على ما عرف عنهم من إباء
الضيم , وعدم الصبر على انتهاك حرمات الله - إلى تحكمه ما شاء في إقامة ركن
الدين الاجتماعي العام في بيت الله , وظلم من شاء فيه بالضرائب المختلفة , وظلم
أهله في كل شيء , فهذه أسباب الرجاء في النجديين بالإجمال [1] , لا حب التوسع
في السلطان , والتبسط في الملك الذي يرميهم به هو ودعاته وجرائده من باب
(رمتني بدائها وانسلت) , ونحمد الله تعالى أن هؤلاء الدعاة قلوا , وقلت الجرائد
التي تنشر لهم إفكهم وبهتانهم.
ولكن بقي من الناس من يسيئون الظن بالوهابية , ويظنون أنهم أصحاب
مذهب مبتدع في الإسلام , وذلك بتأثير الدعاية المنتشرة منذ قرن وربع قرن في
الطعن فيهم؛ وبتأثير انتشار البدع واشتهارها حتى صار بها المعروف منكرًا
والمنكر معروفًا , فالآخذون بهذه البدع يعدون كل منكر لها وهابيًّا , ويضيفون إلى
ذلك ما حفظوه من البهتان الذي جدده الملك حسين في جريدته القبلة من رميهم
بتكفير من عداهم من المسلمين , وإنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم , وتحريم
الصلاة عليه , وزيارة قبره كسائر القبور , بل تجرأ المكي وأمثاله على رميهم
بالطعن في شخصه الأكمل , وتفضيل العصا عليه برأه الله تعالى , ولعن كل
مجترئ على مقامه الشريف.
هذه البهائت كان يبهتهم بها أمير مكة وأعوانه في أوائل القرن الثالث عشر
للهجرة عند ظهور أمرهم؛ لتنفير المسلمين منهم , ولما استولوا على مكة المكرمة
سنة 1218 بقيادة الأمير سعود , جمعوا علماءها وفي مقدمتهم: مفتي الحنفية ,
ومفتي المالكية , وبينوا لهم مذهبهم , وخطتهم في تجديد دعوة الإسلام , فوافقوهم
عليها , وذكروا لهم ما كان أذيع من الطعن الذي أشرنا إليه آنفًا فتعجبوا وتبرؤوا منه.
إننا لم نر أحدًا من البهاتين الذين يطعنون فيهم ينقل شيئًا من كتبهم , ونحن
في بياننا للحقيقة ننقل من كتبهم ومن كتب غيرهم , ولا نقول شيئًا من عندنا بغير
دليل.
بيان الوهابية لمذهبهم:
جاء في رسالة للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد صاحب
الدعوة , وصف فيها دخول جماعتهم مكة مع الأمير سعود سنة 1218 , ومناظرتهم
للعلماء فيها , وإعطاءهم رسائل والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب , وكان مع
علماء مكة الذين حضروا مجالسه حسين الأبريقي الحضرمي ثم الحياني , وكان
يسأل عن أصل هذه الدعوة. قال الشيخ عبد الله ما نصه:
(فأجبناه بأن مذهبنا في الأصول مذهب أهل السنة والجماعة , وطريقنا
طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم , خلافاً لمن قال: طريقة
الخلف أعلم. وهي أننا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها , ونكل علمها
إلى الله مع اعتقاد حقائقها , فإن مالكًا وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن
الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال:
الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة.
ثم قال: (ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل , ولا
ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم) إلخ (ص 44 من كتاب الهدية
السنية والتحفة النجدية) .
ثم قال: (وأما ما يكذب علينا سترًا للحق , وتلبيسًا على الخلق بأنا نفسر
القرآن برأينا , ونأخذ من الأحاديث ما وافق أهواءنا , من دون مراجعة شرح , ولا
تعويل على شيخ , وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا:
النبي رمة في قبره , وعصا أحدنا أنفع لنا منه , وليس له شفاعة , وأن زيارته غير
مندوبة , وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) مع كون الآية مدنية وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف
مؤلفات أهل المذاهب , لكون فيها الحق والباطل، وأنا نكفر الناس على الإطلاق ,
أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه أنه كان مشركًا , وأن أبويه ماتا على الشرك
بالله , وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , ونحرم زيارة القبور
المشروعة مطلقًا؛ وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى
الديون؛ وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم) إلخ.
ثم قال: (فجميع هذه الخرافات (أي: التقولات) وأشباهها لما استفهمنا عنها
من ذكر أولاً؛ كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: (سبحانك هذا بهتان عظيم) فمن
روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا , فقد كذب علينا وافترى , ومن شاهد حالنا ,
وحضر مجالسنا , وتحقق ما عندنا , علم قطعيًّا أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه
أعداء الدين , وإخوان الشياطين , تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله
تعالى بالعبادة , وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه , بأن الله لا يغفره ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء) إلخ (ص 46 من الهدية) .
ثم قال: (والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب
المخلوقين على الإطلاق , وأنه حي في قبره حياة برزخية , أبلغ من حياة الشهداء
المنصوص عليه في التنزيل؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب , وأنه يسمع سلام المسلم
عليه , وتسن زيارته , إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه. وإذا
قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس , ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه
عليه الصلاة والسلام الواردة عنه - فقد فاز بسعادة الدارين , وكفي همه وغمه كما
جاء في الحديث عنه , ولا ننكر كرامات الأولياء , ونعترف لهم بالحق , وأنهم على
هدى من ربهم متى ساروا على الطريقة الشرعية , والقوانين المرعية , إلا أنهم لا
يستحقون شيئًا من أنواع العبادات لا في الحياة ولا في الممات) إلخ ما فصل به
ذلك الإجمال من إنكار ما بهتوا به , فمن شاء التفصيل فليطالع (الهدية السنية
والتحفة الوهابية النجدية) , وهي توزع في مكتبة المنار بغير ثمن.
وقد كنت لدى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في أوائل الشهر الماضي ,
فذكرت الوهابية , وسبب الطعن فيهم , وكان من حاضري المجلس الأستاذ الشيخ
عبد المجيد اللبان، والأستاذ الشيخ محمد شاكر، والأستاذ الشيخ أحمد هارون،
والأستاذ الشيخ الظواهري وغيرهم , فبينت لهم تاريخ المسألة , ومن كتب فيها
على بينة من المؤرخين عند استيلاء الأمير سعود على الحجاز , ثم ذهب أحد سعاة
سكرتارية الأزهر إلى مكتبة المنار , فجاء بعشرات النسخ من الهدية السنية ,
ووزعت عليهم , وقرأ الأستاذ الأكبر ما نقلناه هنا , وما فصل فيها مما لم ننقله ,
واعترف بأنه مذهب أهل السنة والجماعة , إلا أنه قال: إن حديث: (لا تُشَدّ
الرِحال إلا إلى ثلاثةِ مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) قد أوّله
العلماء. قلت: وهم قد أخذوا بظاهره تبعًا لبعض المحققين من علمائهم - أعني
الحنابلة - وأزيد أن بعض الشافعية والمالكية حرم شد الرحال؛ لزيارة قبور
الصالحين؛ كالإمام الجويني والد إمام الحرمين , واختاره القاضي عياض في
شرحه لصحيح مسلم , كما نقله عنه النووي، فأخذ الوهابية بذلك لهم سلف فيه ,
وليسوا أول من قال به.
شهادة التاريخ للوهابية:
نكتفي هنا بشهادتين عادلتين لمؤرخين كبيرين نقلا عن العدول المعاصرين
لظهور الوهابية , واستيلاء أمير نجد بقوتهم على الحجاز.
الشهادة الأولى: قال المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري في أول
حوادث سنة 1227 من تاريخه نقلاً عن بعض أكابر رجال جيش محمد علي باشا
الذين قاتلوا الوهابية في الحجاز ما نصه:
(ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا
بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة , وفيهم من لا يتدين بدين , ولا ينتحل
مذهبًا , وصحبتنا صناديق المسكرات , ولا يسمع في عرضينا أذان , ولا تقام فيه
فريضة , ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين , والقوم - يعني: الوهابية - إذا دخل الوقت، أذن المؤذنون وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع
وخضوع , وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائم أذن المؤذنون وصلوا صلاة
الخوف , فتتقدم طائفة الحرب , وتتأخر الأخرى للصلاة , وعسكرنا يتعجبون من
ذلك؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته , وينادون في معسكرهم: هلموا إلى
حرب المشركين المحلقين الذقون , والمستبيحين الزنا واللواط , الشاربين الخمور ,
التاركين للصلاة , الآكلين الربا , والقاتلين الأنفس , المستحلين المحرمات , وكشفوا
عن كثير من قتلى العسكر , فوجدوهم غير مختونين) اهـ (ص 140 ج 4
من الطبعة الأميرية) وفيه من فظائع العسكر وفواحشه , ما لا حاجة إلى ذكره.
ومن المعلوم أن جيش محمد علي كان أخلاطًا من شعوب وملل شتى , ولم
يكن مؤلفًا باعتبار أنه جيش إسلامي يقيم شعائر الإسلام , ويحافظ على فرائضه ,
ويراعي أحكامه في القتال وغيره , بل لم يكن جيش الدولة العثمانية المنظم كذلك ,
وهي التي كانت توصف بأنها دولة الخلافة , وأما ظن ناقل الخبر للجبرتي أنهم لا
ينصرون , وحالتهم ما ذكر؛ فسببه أنه يعتقد أن الفسق بمنع النصر , وليس كذلك ,
فإن من استوفى أسباب النصر من كثرة العسكر , ونظامه وعدته , ينتصر على من
ليس كذلك.
(الشهادة الثانية) ما جاء في كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب
الأقصى) .
للعلامة الشيخ أحمد الناصري السلاوي. فإنه ذكر في الجزء الرابع منه خبر
وصول كتاب صاحب الحجاز عبد الله بن سعود الوهابي إلى فاس , وخلاصة
وجيزة عن أصل الوهابية , لا تخلو من غلط , ثم ذكر أن سلطان فارس أرسل
جواب ذلك الكتاب مع ولده , الذي سافر مع بعض العلماء إلى الحجاز , وهذا نص
خبره (ص 145 من الجزء الرابع المطبوع بمصر) قال:
حج المولى أبي إسحق إبراهيم ابن السلطان المولى سليمان رحمه الله.
وفي هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائتين وألف - وجه السلطان
المولى سليمان - رحمه الله - ولده الأستاذ الأفضل المولى أبا إسحق إبراهيم بن
سليمان إلى الحجاز؛ لأداء فريضة الحج مع الركب النبوي الذى جرت العادة
بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال، وإبراز الأخبية لظاهر البلد , وقرع
الطبول , وإظهار الزينة , وكانت الملوك تعتني بذلك , وتختار له أصناف الناس
من العلماء والأعيان والتجار , والقاضي وشيخ الركب وغير ذلك مما يضاهي ركب
مصر والشام وغيرهما , فوجه السلطان ولده المذكور في جماعة من علماء العرب
وأعيانه , مثل الفقيه العلامة القاضي أبي الفضل العباس بن كيران، والفقيه الشريف
البركة المولى الأمين ابن جعفر الحسني الرتبي , والفقيه العلامة الشهير أبي
عبد الله محمد العربي الساحلي وغيرهم من علماء المغرب وشيوخه , فوصلوا إلى
الحجاز , وقضوا المناسك , وزاروا الروضة المشرفة , على حين تعذر ذلك، وعدم
استيفائه على ما ينبغي؛ لاشتداد شوكة الوهابيين يومئذ , ومضايقتهم لحجاج الآفاق
في أمور حجهم وزيارتهم إلا على مقتضى مذهبهم.
حكى صاحب الجيش أن المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه
جواب السلطان , فكان سببًا لتسهيل الأمر عليهم , وعلى كل من تعلق بهم من
الحجاج شرقًا وغربًا حتى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الأمن والأمان والبر
والإحسان , قال: حدثنا جماعة وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة
أنهم ما رأوا من ذلك السلطان - يعني ابن سعود - ما يخالف ما عرفوه من ظاهر
الشريعة , وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه ما به الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من
صلاة وطهارة وصيام , ونهي عن المنكر الحرام، وتنقية الحرمين الشريفين من
القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارًا من غير نكير , وذكروا أن حاله
كحال آحاد الناس لا يتميز عن غيره بزي ولا مركوب ولا لباس , وأنه لما
اجتمع بالشريف المولى إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم ,
وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته. وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه
القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي , فكان من جملة ما قاله ابن سعود لهم:
إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية , فأي شيء رأيتمونا خالفنا
من السنة؟ وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا؟ فقال له القاضي: بلغنا أنكم
تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوي. فقال لهم: معاذ الله! إنما
نقول كما قال مالك: الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والسؤال عنه بدعة , فهل
في هذا من مخالفة؟ قالوا: لا، وبمثل هذا نقول نحن أيضًا. ثم قال له القاضي:
وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم , وحياة إخوانه من
الأنبياء علهم الصلاة والسلام في قبورهم. فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
ارتعد , ورفع صوته بالصلاة عليه , وقال: معاذ الله! إنما نقول: إنه صلى الله عليه
وسلم حي في قبره , وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشهداء , ثم قال له
القاضي: وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة سائر الأموات
مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها , فقال: معاذ الله أن ننكر ما ثبت في
شرعنا , وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها؟ وإنما نمنع منها
العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية , ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم
أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية.
وإنما سبيل الزيارة الاعتبار بحال الموتى , وتذكر مصير الزائر إلى ما صار
إليه المزور , ثم يدعو له بالمغفرة , ويستشفع به إلى الله تعالى , ويسأل الله المنفرد
بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت , إن كان ممن يليق أن يستشفع به. هذا قول إمامنا
أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا
المعنى منعناهم؛ سدًّا للذريعة , فأي مخالفة في هذا القدر اهـ. ثم قال صاحب
الجيش: هذا ما حدث به أولئك المذكورون سمعنا ذلك من بعضهم جماعة , ثم سألنا
الباقي أفرادًا فاتفق خبرهم على ذلك اهـ.
وذكر المؤلف بعد هذا الخبر بحثًا في زيارة القبور , رجح فيه القول بمنع
زيارة الأولياء؛ سدًّا للذريعة مع بيان العلة وإشهارها بين الناس , وذكر أن سلطان
المغرب المولى سليمان - رحمه الله - كان يرى هذا , وألف فيه رسالته المشهورة ,
وأن الشيخ الفقيه الصوفي أبا العباس التيجاني كان يرى هذا , ونهى أصحابه عن
زيارة الأولياء اهـ ملخصًا.
والشيخ أحمد التيجاني المذكور , قد انتشرت طريقته في جميع بلاد المغرب
الأقصى والأدنى , حتى إن أتباعه يعدون بالملايين إلى هذا العهد.
وما نقله من كلام الأمير الوهابي في مسألة الاستشفاع معزوًّا إلى الإمام أحمد ,
يظهر أنه لم ينقل بحروفه , فإن الإمام أحمد - رضي الله عنه - لا يعرف عنه
ولا عن علماء الوهابية. مثل هذا القول فيما نعلم والله أعلم.
وسنبين في مقال آخر أن المتغلب على الحجاز اليوم هو الذي يكفر المسلمين
الذين يعاديهم ويعادونه , فقد كفر الترك والمصريين كما كفر الوهابية , ونبين أن ما
فعله النجديون من الزحف؛ لإنقاذ الحجاز من بغيه هو من فروض الكفاية على الأمة
الإسلامية , قد قاموا به , فإذا ظفروا ارتفع الإثم عن جميع المسلمين , وإلا وجب
ذلك على غيرهم.
***
المقالة الثانية
في الأسباب العامة لزحف الوهابيين على الحجاز
تمهيد: طريقتنا في الكتابة:
إننا نكتب ما نكتب في هذا الموضوع لبيان الحق وأداء النصح الواجب للأمة
الإسلامية وللشعب العربي , وقد عاهدنا الله تعالى على أن لا نؤثر على الحق
والنصح شيئًا , وأنه إذا ظهر لنا أننا أخطأنا في شيء , فإننا نرجع عنه , ونعلن
ذلك إعلانًا.
فما كان في كلامنا من خبر , فإننا مستعدون لإثباته بالنقل عن المصادر التي
لا نزاع فيها , وأكثرها رسمية حقيقة أو حكمًا , (وهذا ما يسميه كتاب هذا العصر
شبيهًا الرسمي) كأقوال جريدة القبلة التي لا تعزوها إلى الملك حسين ولا إلى
حكومته (التي هي هو) .
وما كان من حكم شرعي، فإننا تذكر بالدليل , ونعرضه على علماء الإسلام في
العالم كله , فإن كتب إلينا أو كلمنا أحد منهم بما يقنعنا بأننا أخطأنا في شيء منه ,
فإننا نرجع إلى الحق , ونعلن ذلك لمن اطلع على كلامنا حيث اطلع عليه , وإلا بينا
له خطأه بالدليل , مع التزام الأدب الذي نطالبه به , ونعرض كلامنا وكلامه على
الجمهور.
وما كان من رأي؛ فإننا لا نأبى مناقشة أهل الرأي فيه على شرطنا فيما قبله ,
ومنه: أن يرسل الرد إلينا , أو إلى الصحيفة التي تنشر فيها كلامنا , ولسنا نكلف أن
نطلع على جميع الجرائد , وما عساه يوجد في بعضها من نقد أو طعن فنرد عليه ,
ولا أن نرد على من يخرج عن شروط المناظرة وآدابها , وإنما نرد على من ينكر
بالدليل صدق خبر من أخبارنا , أو صحة دليل من أدلتنا , أو بطلان رأي من آرائنا؛
لأننا نتحرى الحق والصواب في هذه الثلاثة , وندور معه إن شاء الله تعالى
حيث دار.
إننا أفتينا ببطلان بيعة حسين بن علي بالخلافة , وسردنا الدلائل الشرعية
على ذلك , ونشرت الفتوى في مجلتنا المنار , وفي جريدتي الأهرام والمحروسة ,
وبينا في هذه الفتوى , وفي مقالات أخرى في المنار أن هذه البيعة على بطلانها
تضر الأمة العربية , وتزيد الشقاق بين شعوبها وحكوماتها , فصدقت الحوادث رأينا،
ولم يرد عليه أحد فيما نعلم , وإننا بينا حقيقة حال خصومه النجديين في مذهبهم
بالنقل من كتبهم ومن كتب التاريخ المشهورة , ولم نذكر من عندنا كلمة واحدة ,
ولن يستطيع أحد أن ينكر كلمة من نقلنا.
وقد بينا مواضعه حتى ذكرنا أعداد الصفحات والأجزاء التي نقلنا
عنها؛ لذلك وقع أحسن موقع من أنفس الناس الذين قرؤوا مقالنا الأخير الذي نشرناه
في جريدة الأهرام , واستزادونا من الكتابة في هذا الموضوع , وكثر طلاب (التحفة
السنية والهدية الوهابية) من القاهرة ومن جميع أرجاء القطر المصري ,
ومما جاوره، حتى صار جل عمل مكتبة المنار منذ نشرت المقالة توزيع هذه
الرسالة , فكان هذا سببًا لمعرفة الألوف الكثيرة من الناس, ما كانوا يجهلون من
حقيقة أهل هذا القطر الإسلامي , الذين هم أشد مسلمي هذا العصر حرصًا على السنة السنية , وعناية بالاعتصام بعروتها الوثقى , وكان أمرهم مجهولاً عند
الأكثرين.
بل كانوا يوصفون بضد ما هم عليه بما يذيعه حسين بن علي وأعوانه من
الطعن في دينهم تبعًا لما أذاعه سلفه في إمارة الحجاز , ومقلدوهم من مدة قرن وربع
قرن حين فتحوا الحجاز للمرة الأولى , حتى كتب أخيرًا بعض من لا قيمة للحق
والصدق عندهم مقالات في بعض الجرائد كلها زور وبهتان , هبط الافتراء ببعضهم
فيها إلى رميهم بأنهم يسعون لإبطال دين الإسلام , تميهدًا لنشر دعوة المبشرين
(دعاة النصرانية) , فكانت هذه فرية عجز عن مثلها الشيطان الرجيم , ولم تخطر
(ببال منقذ العرب والمسلمين) .
وإننا في هذا المقال وما بعده نبين للناس كافة , ولأهل الغيرة الإسلامية
والجامعة العربية خاصة , أسباب زحف النجديين لإنقاذ الحجاز من هذا المتغلب
عليه المستبد فيه , الظالم لأهله , ولمن يحجونه من سائر المسلمين. وسيعلمون مما
نورده من الحقائق الجلية , والشواهد الرسمية وشبه الرسمية أن سلطان نجد لم يفعل
هذا طمعًا في توسيع ملكه , ولا لمجرد المحافظة على حقه , بل خدمة للملة
الإسلامية والأمة العربية , وإن كان الأمر الثاني وحده يوجب عليه ذلك شرعًا
وعرفًا. ونبدأ بذكر الأسباب العامة فنذكرها بالإيجاز؛ لأنها صارت مشهورة، إلا أنه
يقل من يحفظها كلها , ويستحضر ذكرها , ثم من يخلص في بيان ذلك للناس , ولهذا
نرى ما يتعجب منه من الخبط والخلط والباطل في مقالات بعض الكتاب , حتى من
تصدى لتمحيص أمثال هذه المسائل خاصة.
***
الأسباب العامة
لزحف النجديين على الحجاز
(السبب الأول) :
ما هو معلوم بالتواتر القطعي وبالوثائق الرسمية , من موالاة شريف مكة
حسين بن علي وأولاده للدولة البريطانية وحلفائها في الحرب الأخيرة , ونصرهم
إياهن على الدولة العثمانية في فتح البلاد العربية , وأنه كان يهنئ الدولة
البريطانية كلما فتحت مدينة من أمصار الإسلام وعواصم الحضارة العربية؛
كالقدس الشريف , وبغداد , ودمشق , ثم اقتسموا هذه البلاد فأعطوه ولاية الحجاز ,
وأخذوا هم ولايات العراق وسورية والقدس الشريف , حتى إنهم اقتسموا سكة
الحديد الحجازية أيضًا التي هي وقف إسلامي أنشئ لتسهيل إقامة ركن إسلامي.
فأما تولي المسلم لغير المسلمين في القتال , وفتح بلاد المسلمين فحكمه الديني
معلوم بنص القرآن المجيد وكتب الشريعة , وحسبنا منه قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم
مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51) , وأما عاقبته في
الأمة العربية؛ فهي استيلاء الأجانب على مهد حضارتها وعمرانها , وأخصب
أقطارها , وأعظم موارد ثروتها , وجعل ما بقي لها من جزيرتها المقدسة محاطًا به
من البر كالبحر , ومهددًا بفقدان استقلاله في كل وقت، والتهديد شامل للحرمين
الشريفين بالتبع لثالثهما , وهو المسجد الأقصى، حتى لا يبقى لهما استقلال في دين
ولا دولة.
(فإن قيل) : إن هذا الرجل وأولاده يدعون بأنهم ما فعلوا هذا إلا لإنقاذ
البلاد العربية واستقلال العرب (قلنا) : إننا نحن نبين الحق الواقع، لا إفك
السياسة ومعالطاتها , وكذبها ومكابرتها , وإلا فإن الإنكليز قالوا ولا يزالون
يقولون مثل هذا القول من احتلالهم لمصر , وفي إكراه وزير من وزرائها على
تسميته إياهم شركاء لمصر في بلاد السودان , وفي زعمهم الآن أن السودان يجب أن
يكون في أيديهم وحدهم؛ لأن لهم مصالح فيه , ولإتمام سعادة السودانيين.
(فإن قيل) : إن ثورة الشريف التي يسميها النهضة إنما بنيت على القصد
الصحيح المذكور , ثم ظهر له أن حلفاء خدعوه , وأخلفوا وعده , ونكثوا عهده ,
ولا عجب فقد خدعوا رئيس أعظم دولة في العالم كما خدعوه , وهو رئيس دولة
الولايات المتحدة في أميركا (قلنا) : إن هذا باطل كالذي قبله، كما يعلم من
الأسباب الآتية , وربما كان من أسباب إرجاء ابن سعود الزحف على الحجاز إلى
الآن؛ لأجل استعراف نتيجة هذه الأقوال.
(السبب الثاني) :
إن الشريف حسينًا وأولاده لا يزالون مصرين على موالاة حلفائهم الأجانب ,
ومودتهم ومساعدتهم على تثبيت أقدامهم في البلاد العربية , مع ادعائه هو دون
أولاده بأنهم خدعوه وغشوه؛ لأنه أشدهم رياءً وخداعًا وإفكًا , ولذلك يناقض نفسه ,
ويبطل بعض كلامه بعضًا , وها نحن أولاء قد قرأنا في عدد جريدة القبلة 810
الذي صدر في عشرة المحرم فاتحة هذا العام 1343 تصريحًا رسميًّا له بالثبات
على مودتهم في منشور باسمه سماه (منشور عيد البيعة الأولى) وما أكثر أعياده
بمصائب العرب والإسلام! !
فقد قال فيه ما نصه:
(وإنا لا نزال ساعين لتأييد المودة وتأكيد الروابط بيننا وبين حلفائنا العظام)
فما هذا التأييد والتأكيد إن كان صادقًا في قوله: إنه مخدوع , منكوث العهد ,
مكذوب الوعد؟
ولماذا يصر على السعي لعقد المعاهدات معهم , والنبي الذي يدعي هو وحكومته
اتباعه له دون المسلمين كافة والوهابيين خاصة يقول: (لا يلدغ المؤمن من جحر
مرتين) رواه البخاري ومسلم , وغيرهما. دع ما ورد في أمثال هذه الموادة
والمعاهدات في سورتي الممتحنة والتوبة , مما ينافي الإسلام نفسه.
(السبب الثالث) :
إن ما يسميه النهضة قد بني على أساس الحماية البريطانية للمملكة العربية ,
التي طلب من الإنكليز أن يؤسسوها له , كما فضحها ولده الشريف فيصل في
دمشق الشام , بنشره نص مقرراتها الرسمي في جريدة المفيد , ثم نقلتها الصحف
الكثيرة في المشرق والغرب , وهذا نص المادة الثانية منها بحروفه , كما كتبها
حسين بن علي بيده الأثيمة الخاطئة.
(2) تتعهد بريطانية العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي
مداخلة كانت، بأي صورة كانت في داخليتها , وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون , حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء إلخ.
ولكن الإنكليز لما لم يسمحوا له بغير الحجاز من البلاد العربية التي طلب أن
يكون ملكها تحت حمايتهم , لم يكن من مصلحتهم أن يقبلوا رسميًّا جعل الحجاز
تحت حمايتهم , وهو لا يزال مصرًّا على هذه المقررات , ويعد من أعظم النعم
عليه أن يكون موظفًا بريطانيًّا في الحجاز كبعض النواب والرجوات في بعض
الولايات الهندية , التي تسمى مستقلة في بطن الحِضْجَر الواسع [2] .
ومن الدلالة على ذلك أنه طلب مرارًا من الدولة البريطانية إقالته من ملك
الحجاز , وتنصيب غيره بدلاً منه , وأرسل مرة إلى مدير جريدة التيمس برقية إليه
رغب إليه فيها أن يتوسل لدى حكومته؛ لقبول استقالته , وهذا نص البرقية منقولاً
عن العدد 553 من (جريدة القبلة) :
المدير العمومي لصحفية التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب , والتزامكم أحد
أمرائهم , ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك , وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني , أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير
المذكور أو من تراه ليستلم البلاد) إلخ. والمراد بالأمير المشار إليه: سلطان نجد؛
إذ كانت جريدة التيمس مدحته بمقال لها.
وكان قد أرسل إلى نائب ملك الإنجليز بمصر كتابًا في 20ذي القعدة سنة
1336 , نشره في جريدته القبلة مرارًا؛ لاعتقاده أنه من معجزات السياسة أو
الكياسة والبلاغة , استغاث فيه الدولة البريطانية أن لا تعدل مقررات نهضته المبنية
على الحماية , ولا تعرض الانفاق معه على مؤتمر الصلح , قال فيه ما نصه السقيم:
(فإن كان ولا بد من التعديل فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب , ولا أشتبه
في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا , إلا أنه أمر يتعلق بالحياة لا لقصد عرضي ,
ولا لفكر غرضي , وأنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا تغيرهم
الطوارئ والأيام , ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها بالسفر إليها في أول
فرصة) .
ثم أجاب عن تعليق أمر مطالبه بالمؤتمر وختم كلامه بقوله:
(ولو قرر المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا , وكان ذلك من غير وساطتكم
وقبلناها , فنكن (؟) مطرودين من رحمة الباري - جل شأنه - الرقيب على قولي
هذا) اهـ بحروفه من العدد 391 من جريدته القبلة , الذي صدر في 23
رمضان سنة 1338 , ومنه يعلم أن الدولة البريطانية عنده كالمعبود , فلا يعاملها
معاملة مبنية على المصلحة فقط.
(السبب الرابع) :
رضاه باستخدام الدولة البريطانية لأولاده في العراق وشرق الأردن؛ لتخدير
أعصاب بدو البلاد وحضرها , وحملهم على الرضاء بما يؤسس فيها من حظائر
الطيارات الحربية , وتعبيد الطرق في قلب الجزيرة للسيارات والدبابات , ومد
سكك الحديد العسكرية والتجارية؛ لتمكين سلطانها فيها , فإن العرب إذ قاوموها
قبل ذلك فالراجح أنها تضطر إلى ترك بلادهم لهم؛ لئلا تضطرها المقاومة العملية
إلى بذل ألوف الملايين من المال ومئات الألوف من الرجال , وذلك ما لا يأذن لها
به برلمانها , ولا تسكت عليه أمتها في هذا الوقت التي أرهقتها فيه الضرائب وإذا
هي تم لها بنفوذ هؤلاء الحجازيين ما شرعت فيه من ذلك , فرسخت أقدامها ,
واستقرت قوتها , فلن تخرج من البلاد ولن ترضى إلا الاستيلاء على سائر جزيرة
العرب؛ للمحافظة على ما تسميه مصالحها وطرق تجارتها , وعلى ما تدعيه من
إسعاد البلاد وأهلها , كما تقول في مسألة السودان. وهي عبرة للمخدوعين بهؤلاء
الحجازيين , إن كانوا غير خائنين لأمتهم وبلادهم ولا جاهلين لمصلحتها ككثير من
البدو.
(السبب الخامس) :
جعل حرم الله تعالى الأمين مركز ملك حربي , يحالف ملكه بعض الملوك
الأجانب غير المسلمين , ويجعل لهم حقوقًا في الحرمين الشريفين غير مسألة
الحماية التي تقدم ذكرها , ويعادي آخرين، ولا يجوز أن يجعل الحجاز مركزًا حربيًّا؛
أي عرضة للحرب؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى منع الحج الذي هو ركن الإسلام
الاجتماعي العام الجامع للشعوب الإسلامية كلها , وإنما مصلحة المسلمين عامة ,
وأهل الحجاز وجيرانهم خاصة - جعل الحجاز قطر حياد وسلام، والسعي لاعتراف
جميع الدول بذلك , ولو فعل السيد حسين المكي ذلك، لاستغنى به عن معاداة جيرانه
من العرب , والاستعداد لقتالهم، ولاستغنى عما هو شر من ذلك , وهو إهانة نفسه
وبيته وأمته وملته , وحرم الله وحرم رسوله بالالتجاء إلى حماية دولة غير مسلمة له
ولهما.
(السبب السادس) :
أنه سمى نفسه ملك العرب وملك البلاد العربية , وحمله غروره بنفسه على
السعي لإقناع أمراء جزيرة العرب المستقلين بالاعتراف له بذلك، فسخروا من سعيه؛
لسوء سياسته , وبناء ملكه على الحماية الأجنبية , وضعفه , وفساد إدارته ,
واعتقاد كل منهم واعتقاد رعيته وسائر العارفين بحالهم أنهم أحق بالملك منه , ولكنه
لم يرجع عن دعواه , بل أصر على ذلك , وحاول التوصل إليه بقوة الأجانب الذين
جعلوا أحد أولاده ملكًا والآخر أميرًا مرشحًا للملك في دائرة إمبراطوريتهم المرنة ,
فهو قد اتخذ جميع أمراء الجزيرة المحيطين بالحجاز أعداءً له , وحسبنا شاهدين
على هذا: ما صرح به لرئيس مؤتمر الجزيرة الذي أسسه؛ لبث دعايته وتمهيد
السبيل له؛ وما جرى في مؤتمر الكويت من الامتناع من الاتفاق الودي مع حكومة
نجد , وإننا ننقل بعض كلامه في الشاهد الأول , ونرجئ الثاني إلى بيان الأسباب
الخاصة لزحف النجديين على الحجاز:
نشرت جريدة القبلة في العدد 737 الذي صدر بمكة في 6 ربيع الآخر سنة
1342 بيانًا عامًّا من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة بإمضاء رئيسها محمد بن
علوي , ذكر فيه ما صرح له به الملك حسين من تفسير الوحدة العربية التي يطلبها ,
وهو أنه رسمها على الأساس الآتي:
(وهو وحدة البلاد العربية واستقلالها , بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها
وسياستها العامة واحدة , أما داخليتها فالإمارات العربية المعروفة بجزيرة العرب
تكون على ما كانت عليه قبل الحرب , وأن كل أمير في أي إمارة من هذه الإمارات
الموروثة لهم من آبائهم وأجدادهم يستقل بداخليته صمن الحدود التي كانت عليها
إمارته قبل الحرب , بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم ,
أو شذ بالخروج عن الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى:
{فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه} (الحجرات: 9)
(وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات سواء كانت تلك الإمارات
قائمة بذاتها ضمن حدودها , أو طرأ عليها الاغتصاب؛ كعسير قبل الحرب وابن
رشيد بعد الهدنة , فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عله؛ كعودة الإمام يحيى إلى
صنعاء) .
ثم قال: (ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا , وعليها نموت , وعليها
نبعث إن شاء الله من الآمنين؛ لذا فلا بد من إعادة آل رشيد وآل عايض إلى
إماراتهم وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها وإعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى
ما كان عليه قبل الحرب) إلى أن قال: (هذا الذي أدين الله عليه , ولو لم تبق
إلا ذاتي وحياتي لأنفقتها في هذا السبيل) .
فهذا نص صريح من الملك حسين الذي سمى نفسه (ملك العرب وجميع
البلاد العربية) بمعاداة جميع أمراء جزيرة العرب , وجعلهم معه في حالة حرب؛
لأنه يدين الله تعالى بسلب كل واحد منهم بعض البلاد التي في يده , ويجعلهم تابعين
في السياسة الخارجية والحربية والإدارة العامة لملك العرب؛ أي: له.
أذاع عنه هذا في جريدة القبلة رئيس مؤتمر الجزيرة المستخدم عنده لهذا ,
وهو الذي يرسل البرقيات إلى العالم الآن في الافتراء على النجديين؛ لينفر العالم
منهم.
(السبب السابع) :
إلحاده بظلم أهل الحرم , وإرهاقهم العسر من أمرهم بضرب المكوس الباهظة
على كل ما يرد إلى البلاد من الأقوات وغيرها , وباحتكاره القوت الضروري وهو
الخبز بإبطاله جميع الأفران العامة الخاصة , وإنشائه أفرانًا يكره الناس على الشراء
منها بالثمن الذي لا يمكن أن يزاحمه فيه أحد مع عدم المبالاة بقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) رواه البخاري في تاريخه ,
وأبو داود في سننه , وأكثر رواة التفسير المأثور من حديث يعلى بن أمية (رضي
الله عنه) , وفي معناه روايات أخرى عن عمر وابن عمر (رضي الله عنهما)
مرفوعة وموقوفة , وبغير ذلك من اغتصاب أوقاف الأشراف والأوقاف الأهلية في
المدينة المنورة وبالحبس والتنكيل والتعذيب وقطع الأطراف والقتل بغير حق يجيزه
الشرع , ولا نطيل هنا في هذا , وقد بيناه بالتفصيل في مجلة المنار , ولدينا مزيد
وهو معروف عند أهل نجد.
(السبب الثامن) :
تحكمه بهواه في أمر فريضة الحج , فهو يمنع منها من اتخذهم أعداءً له؛
كأهل نجد , ويضرب على سائر الحجاج المكوس غير المشروعة باسم جوازات
السفر، ورسوم الصحة , وغير ذلك مما أذاعه حجاج الآفاق في جميع الأقطار ,
وشرحناه بالتفصيل في مجلة المنار.
(السبب التاسع) :
نشره في جريدة القبلة أنه لا يوجد في العالم حكومة إسلامية تقيم الحدود
وتلتزم أحكام الشرع غير حكومته , وتكفيره للترك والمصريين والنجديين , وسنذكر
بعض الشواهد على هذا في المقال التالي.
(العاشر) :
ادعاؤه مع كل ذلك الخلافة الإسلامية الذي يقتضي أن كل من يخالفه , ولا
يخضع لحكومته من الشعوب والحكومات الإسلامية من الخوارج البغاة الذين يجب
عليه وعلى سائر المسلمين قتالهم , وقد ذكرنا آنفًا رأيه في إمارات جزيرة العرب
المجاورة للحجاز , وتصريحه قبل إظهار دعوى الخلافة , والدعوة العامة إلى
مبايعته بها بأنه يدين الله تعالى بجعلها تابعة لملك واحد , وبعزمه الثابت على تنفيذ
ذلك بالقوة. فكيف يكون شأنه بعد هذه الدعوى؟ ومقتضاها عنده أنه يجب على أهل
هذه البلاد كسائر المسلمين أن يكونوا تابعين له خاضعين لحكمه.
فهذه الأسباب العامة توجب على من قدر من أمراء المسلمين أن ينقذوا الحجاز
من سلطة هذا المدعي المغرور كما فصلناه من قبل في المنار , وسنجمل القول فيه
في المقال التالي الذي نبين فيه الأسباب الخاصة التي حملت أهل نجد على القيام
بهذا الفرض الكفائي , وسبب تأنيهم في ذلك وهو الاحترام للحرم الشريف.
__________
(1) وسيأتي بيانها بالتفصيل في المقالتين الثانية والثالثة.
(2) الحضجر - بكسر فسكون ففتح -: العظيم البطن الواسعة , وسميت به الضبع.(25/539)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية
يعلم قراء المنار مما كتبت فيه بشأن انتصار إخواننا الترك على اليونان في
الحرب، وعلى الإنكليز في السياسة بعض ما كنت عليه من الغبطة والسرور ,
وإنما هو بعض ما كان في قلبي , ويعلمون أنني نوهت بقواد الترك وزعمائهم ,
وفضلتهم على جميع من تصدى لزعامة العرب في هذا العصر , ولا سيما الشيخ
حسين بن علي المكي وأولاده ولا سيما فيصل وعبد الله الذين جاهرت بجهادهم في
المنار وغيره من الصحف منذ ألغيت المراقبة على الصحف في مصر.
ولكنني على ما كان من إعجابي ببسالة مصطفى كمال باشا زعيم هذه النجدة ,
وقائد هذه الغزوة , لم أره مستحقًّا للقب بطل الإسلام الذي منحه إياه بعض الصحف
الإسلامية بمصر وغيرها , ثم ندموا ووصفوه بعداوة الإسلام , بل كان هذا مما
أنكرته على أشهر المنوهين به من كبار كتاب الصحف , لكن قولاً لا كتابة؛ لأنني
كنت أعلم علمًا إجماليًّا أنه قائم بالعصبية التركية , ولها يعمل لا للإسلام , ثم صار
هذا الإجمال علمًا تفصيليًّا عندي قبل جماهير المسلمين وغيرهم.
وأما محمد عبد الكريم القائد العربي لجيش الريف المغربي ممزق الزحوف
الأسبانية , وهازمها , وقاتل قوادها , ومذل دولتها. فإنني أحليه بلقب بطل العرب
والإسلام بحق , بل نقول: إن ما اطلعنا عليه من بلائه وهو أقله يثبت أنه قد فضل
جميع قواد الدول وزعماء الأمم في نهضاتها الحربية والإدارية لا مصطفى كمال
باشا وحده , وحسبنا في امتيازه على هذا مقال الكاتب السياسي الشهير صديقنا
الأمير شكيب أرسلان , الذي نشرناه في الجزء التاسع (م 24) , وهو أول من
أطلق عليه لقب بطل الإسلام من كبار كتاب السياسة المسلمين.
فأما كونه بطلاً في نفسه فقد ثبت بعمله الذي أعجب به العالم كله , ونوهت به
صحف الشرق والغرب لجميع الأمم والملل , ولما يوفه أحد ما استحقه من الثناء
فيما نعلم , وأما كونه بطلاً للإسلام؛ فلأنه قائد مسلم نهض بطائفة من المسلمين
لإنقاذ بلاد إسلامية من استعباد شعب متعصب , استأصل بتعصبه الديني مسلمي
الأندلس بالسيف والنار , حتى لم يبق منهم فى تلك البلاد التي جعلوها أرقى بلاد
العالم كله عمرانًا , وحضارة - ديارًا , ولا نافخ نار , بل كل من لم يتنصر منهم ,
ولم يغادر البلاد ناجيًا بنفسه - قتل شر قتلة.
وأما كونه بطلاً للعرب؛ فلأنه هو وقومه المجاهدون في سبيل الله لحفظ
حريتهم ودينهم ووطنهم من العرب لغة ودينًا وأدبًا , وإن كان بعضهم ليس منهم
نسبًا , ولأن سلفهم من مسلمي الأندلس الذين ثاروا لهم كانوا من صمم العرب،
على أنهم لم يقصدوا الثأر , وإنما جهادهم دفاع عن النفس , وقد أيدهم الله تعالى
بالنصر بمثل ما أيد سلفهم بقيادة كبار أبطالهم من قبل.
فإن كان تأثير عمل محمد عبد الكريم في العالم الإسلامي أقل من تأثير عمل
مصطفى كمال باشا ورجاله , فليس لأنه دونه؛ بل لأن الدولة العثمانية التي كانت
مشرفة على الزوال أعظم شأنًا في قلوب جميع الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية
من أهل ريف مراكش , وبقاء الترك دولة حربية مستقلة في عقر ديارهم يعد بمنزلة
الحصن العائق دون سهولة استيلاء الأجانب على الممالك المجاورة لها , حتى بعد
انسلاخ حكومتها الحاضرة من الجامعة الإسلامية , الذي لم يكن يخطر لأحد من تلك
الشعوب ببال إلا بعض الضباط والمتمرسين بالسياسة من العرب الذين كانوا
عثمانيين.
ولكننا نعجب أشد العجب أن نرى البلاد العربية , ولا سيما دعاة النهضة
الجنسية فيها لم يقدروا عمل هذا الزعيم قدره , ولم يشدوا أزره وهم يرون كبرى
دول الاستعمار الثلاث المتعدية على جميع بلادهم مجمعة على التشاؤم من انتصار
حكومة الريف بتدبيره , وخائفة أن يكون سببًا لتحرير سائر الأقطار الإسلامية
الأفريقية من رقهن , وأن يمتد شعور المسلمين برجاء الحرية والاستقلال من
المغرب الإسلامي إلى المشرق؛ فيعرف أهله طريق الاستقلال المعبد فيسلكوه ,
وأن يعود للإسلام سلطانه الأول بحياة هذا الرجاء في جميع شعوبه المستعبدة ,
فطفق رجال السياسة فيهم يتناجون؛ لإجماع أمرهم على إحباط عمل الزعيم العظيم،
وإيقاف سريان هذا النصر عند الحد الذي تتفق مصالحهن عليه؛ فأين هذا من
مساعدة كل من فرنسة وإيطالية لمصطفى كمال باشا وقومه , واضطرار الشعب
البريطاني حكومته إلى الإمساك عن مساعدة اليونان على قتاله؟
إننا لا ننكر أن الشعوب الإسلامية مرتاحة لعمل قائد الريف العظيم
ومسرورة , بقدر ألمها من سلب الأجانب لاستقلال أمتها ونسخ شريعتها , ولكن
ساسة دول الاستعمار يعلمون من تأثير حياة الأمم , ومن سريانها ودبيبها من شعب
إلى آخر , ولا سيما إذا كان لها وحدة جامعة , وتاريخ مشترك , تفتخر بسلفه كالأمة
الإسلامية التي أدمجت فيها أقوى مقومات الأمم ومشخصاتها , فهم لعلمهم هذا
يحسبون لحياة الشعوب ما ليس في حسبانها , ثم يبالغون فيها على سبيل الاحتياط،
فيرجحون الشائل من ميزاتها ولو وصلت الحياة الملية في تونس والجزائر أو في
طرابلس الغرب أو فيما يعد فوقها على تفاوتها كمصر والهند إلى المستوى الذي
تخافه فرنسة وإيطالية وإنكلترة - لرأينا الإعانات المالية , والبعثات الطبية , مرسلة
تترى من هذه البلاد كلها إلى ريف مراكش , بل لرأينا المتطوعين يهاجرون إليه
أرسالاً نافرين خفافًا وثقالاً , ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً , لكننا لم نر شيئًا من هذا ولا
ذاك ولم نسمع في الدعوة إلى أهون المساعدة صوتًا عاليًا يُسْمَعُ فيلبى , وإنما سمعنا
نأمة خافتة بمصر , ونبأة فوقها من الهند , ولم نر عملاً يذكر ولا سعيًا يشكر.
أين كبار العلماء؟ أين سراة الأمراء؟ أين الأسخياء؟ أين الكتاب والشعراء؟
أين الجمعيات الخيرية؟ أين الأحزاب السياسية؟ بل أين جمعية الهلال الأحمر
المصرية؟ ولا أنادي أختها التركية، فإن الترك في الشعوب الإسلامية كعلماء الدين
في كل شعب , قد اعتادوا أن يأخذوا، وما اعتادوا أن يعطوا، وهذا قبل وقوعهم
تحت أحكام دولة قررت بترهم من جسم الجامعة الإسلامية , فكيف يكون حالهم بعد
ذلك؟
كلمت بعض أعضاء جمعية الهلال الأحمر المصرية منذ سنتين في مسألة
الريف هذه , وما يجب على جمعيتهم من مساعدة هؤلاء الريفيين المنقطعين عن
جميع الأمم والشعوب , وليس عندهم من الأطباء والأدوية والآلات الجراحية ولا من
الممرضين والمضمدين من يأسو جروحهم , ويطهر قروحهم , ويداوي مرضاهم ,
فإن جمعيات الصليب الأحمر لا تعطف على قوم من المسلمين , يدافعون عن أنفسهم
بقتال دولة من دول النصرانية , تريد استعبادهم واستعمار بلادهم، وقد سعى مسلم
أفريقي لدى عبد المجيد أفندي الذي سمي خليفة المسلمين , بأن تؤلف في الآستانة
لجنة تحت رعايته لجمع التبرعات لذلك، فارتاح لهذا الاقتراح , ولكن حكومته
زعمت أن جمعية الهلال الأحمر التركية أولى بهذا العمل , وستقوم بهذا الواجب ,
ولم يقم به أحد , ولن يقوم هنالك أحد؛ لأن الحكومة لا تريد ذلك. بماذا أجاب عضو
جمعية مصر؟ قال: إن القانون الجديد لجمعيتنا قد حظر عليها إنفاق شيء مما في
صندوقها , فلا سبيل إلى بذل شيء إلا مما يدخل في الصندوق بعد تقرير هذا
القانون , ولما يدخله شيء. قلت: وما المانع من أن تتولى الجمعية دعوة أهل البر
والإحسان إلى التبرع لها بما تؤدي به هذا الواجب؟ وهل لك أن تقترح عليها ذلك؟
قال: نعم ولكن بعد عودة صاحب الدولة الأمير يوسف كمال رئيسها من سفره.
لا شك عندي في صدق العضو الكريم في استحسانه للاقتراح , وقبوله بالغبطة
والارتياح , لكن الأمير عاد من سفره , ثم سافر , ثم عاد , ولم يظهر للجمعية عمل
فعسى أن تتولى (جمعية الرابطة الشرقية) السعي إلى هذه المبرة الإنسانية لدى
جمعية الهلال الأحمر المصرية ولدى الشعب المصري وسائر الشعوب الشرقية ,
وسأقترح ذلك عليها إن شاء الله تعالى في أول اجتماع تعقده , وأعد هذه الكلمة
تمهيدًا له.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(25/557)
ربيع الآخر - 1343هـ
نوفمبر - 1924م(25/)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وأما النوع الثالث وهو الفناء عن عبادة السوى فهذا حال النبيين وأتباعهم ,
وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته
عن خشية ما سواه , وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه , فهذا تحقيق توحيد
الله وحده لا شريك له وهو الحنيفية ملة إبراهيم , ويدخل في هذا أن يفنى عن اتباع
هواه بطاعة الله فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع
إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
ومن قال: (فارفع بحقك إنيي من البين) بمعنى أن يرفع هوى نفسه , فلا
يتبع هواه , ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته , بل يكون عمله لله لا لهواه ,
وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته , كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فهذا حق محمود. وهذا كما يُحكى عن أبي يزيد أنه قال: رأيت
رب العزة في المنام فقلت: خدايي [1] كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك
وتعال: أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك , فيكون عملك لله , واستعانتك
بالله , كما قال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) .
والقول المحكي عن ابن عربي: (وبي حلفت وأن المقسم الله) هو أيضًا من
إلحادهم وإفكهم: جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله فهو الحالف
والمحلوف به كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه فهو المرسل
والمرسل إليه والرسول , وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك:
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصلٍّ واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان بي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زالت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي حنَّت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفْعَتِي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت
وأما المنقول عن عيسى بن مريم - صلوات الله عليه - فهو كذب عليه ,
وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني،
فإنه لا يوافق قول النصارى قوله , إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة , فخلق من
نوره آدم , وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها , وإني أنا ذلك النور وآدم
المرآة , فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض , وذلك أن الله سبحانه
يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد
مخلوق لله قال لأصحابه: (إني أراكم من ورائي كما أراكم من بين يدي) فإذا كان
المخلوق قد يرى ما خلفه وهو أبلغ من رؤية نفسه , فالخالق تعالى كيف لا يرى
نفسه؟ وأيضًا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم يقتضي أنه لم يكن في
الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم، ثم ذلك الشوق كان قديمًا كان ينبغي أن يفعل ذلك
في الأزل , وإن كان محدثًا فلا بد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال:
الشوق أيضًا صفة نقص ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى , وقد روي (طال
شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق) وهو حديث ضعيف.
وقوله: خلق من نوره آدم , وجعله كالمرآة , وأنا ذلك النور , وآدم هو المرآة ,
يقتضي أن يكون آدم مخلوقًا من المسيح , والمسيح خلق من مريم , ومريم من
ذرية آدم , فكيف يكون آدم مخلوقًا من ذريته؟ وإن قيل: المسيح هو نور الله ,
فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى، فإن
النصارى يقولون: إن المسيح هو الناسوت واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر
الابن، وهم يقولون: الاتحاد اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن
المسيح، لا يقولون: إن آدم خلق من المسيح؛ إذ المسيح عندهم أسم اللاهوت
والناسوت جميعًا , وذلك يمتنع أن يخلق منه أدم، وأيضًا فهم لا يقولون: إن آدم
خلق من لاهوت المسيح.
وأيضًا فقول القائل: إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح , إن أراد به
نوره الذي هو صفة لله فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه؛ إذ يمتنع أن
يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه فمعلوم أن
المسيح لم يكن شيئًا موجودًا منفصلاً قبل خلق آدم , فامتنع على كل تقدير أن يكون
آدم مخلوقًا من نور الله الذي هو المسيح، وأيضًا فإذا كان آدم كالمرآة وهو ينظر
إلى ذاته المقدسة فيها , لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته لا أن آدم هو
ذاته ولا مثال ذاته ولا كذاته، وحينئذ فإن كان المراد بذلك: أن آدم يعرف الله
تعالى , فيرى مثال ذاته العلمي في آدم؛ فالرب تعالى يعرف نفسه , فكأن المثال
العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم
القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدام سأل الله فلا يكون آدم هو المرآة؛ بل يكون هو
كالمثال الذي في المرآة.
وأيضًا فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور, هو قول النصارى الذين
يخصونه بأنه الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد
حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح.
وأما قول ابن الفارض:
وشاهد إذا استجليت ذاتك من ترى ... بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة
فهذا تمثيل فاسد , وذلك أن الناظر في المرآة مثال نفسه فيرى نفسه , وكذا
المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة , فقولهم: بوجود باطل وبتقدير صحته ليس هذا
مطابقًا له , وأيضا فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شيء
فتخصيصهم بعد هذا آدم أو المسيح يناقض قولهم بالعموم , وإنما يخص المسيح
ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص؛ كالنصارى , والغالية من الشيعة , وجهال النّسّاك
ونحوهم، وأيضًا فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة فالمرآة خارجة عن نفسه
فرأى نفسه أو مثال نفسه في غيره , والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى , فليس
هناك مظهر مغاير للظاهر ولا مرآة مغايرة للرائي.
وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق (فإن قالوا) : المظاهر غير الظاهر
لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شيء
في شيء , ولا تجلى شيء في شيء , ولا ظهر شيء لشيء , وكان قوله:
وشاهد إذا استجليت نفسك أن ترى 000 كلامًا متناقضًا؛ لأن هنا مخاطِبًا ومخاطَبًا ,
ومرآة تستجلى فيها الذات فهذه ثلاثة أعيان , فإن كان الوجود واحدًا بالعين بطل
هذا الكلام , وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم.
***
فصل
وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة , وأمر بغير
واسطة إلى آخره؛ فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني
والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني , وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر
بغير واسطة كلام باطل , فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة , فإن الله
كلم موسى وأمره بلا واسطة , وكذلك كلم محمد صلى الله عليه وسلم وأمره ليلة
المعراج , وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة , وهي أوامر دينية شرعية , وأما الأمر
الكوني فقول القائل: إنه لا بواسطة خطأ؛ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها
ببعض , وأمر التكوين ليس هو خطابًا يسمعه المكون المخلوق , فإن هذا ممتنع ,
ولهذا قيل: إن كان هذا خطابًا له بعد وجوده لم يكن قد كون (به) بل كان قد
كون قبل الخطاب وإن كان خطابًا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع. وقد قيل
في جواب هذا: إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدومًا في العين.
وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب , وأما ما ذكره عن شيخه من أن
آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا , فكان قوله (لا تقرب) ظاهرًا , وكان أمره (بكل)
باطنًا, (فيقال) : إن أريد بكونه قال: كُلّ باطنًا أنه أمره بذلك في الباطن أمر
تشريع أو دين فهذا كذب وكفر , وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر
مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن
فيكون , فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر , وأكل آدم من الشجرة
وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم , فنفس أكل آدم هو الداخل
تحت هذا الأمر كما دخل آدم. وقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: كل مثل
قوله إنه قال للكافر اكفر وللفاسق افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد،
ولا يرضى لعباده الكفر , ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق
والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته وقدرته
وخلقه وأمره الكوني, فالأمر الكوني ليس هو أمرًا للعبد أن يفعل ذلك الأمر؛ بل هو
أمر تكوين لذلك الفعل في العبد , أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال , فهو
سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعًا {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ
مَنُوعاً} (المعارج: 20-21) وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: 128) فهو
سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى
أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك , كما لو قال للجماد: كن فيكون , فأمر
التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان , وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا
إرادته ولا قدرته , لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى
به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف
ما أمره به في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنًا وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنًا
وظاهرًا، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنًا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع
أعماله باطنًا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله: (كن باطنًا وظاهرًا) .
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر , بل القدر يُؤْمَن به ولا يُحتج به،
والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم
أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه , وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم
في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم , ولا يغضب عليه
ولا يذمه , وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحدًا أن يفعله , فهو ممتنع طبعًا
محرم شرعًا.
ولو كان القدر حجة وعذرًا لم يكن إبليس ملومًا معاقبًا , ولا فرعون وقوم نوح
وعاد وثمود وغيرهم من الكفار , ولا كان جهاد الكفار جائزًا , ولا إقامة الحدود
جائزًا لا قطع السارق , ولا جلد الزاني ولا رجمه , ولا قتل القاتل , ولا عقوبة
معتد بوجه من الوجوه. ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطر الخلق وعقولهم لم
تذهب إليه أمة من الأمم , ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم ,
فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته , ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا
ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزمًا مع الآخر نوعًا من الشرع، فالشرع نور الله
في أرضه وعدله بين عباده , لكن الشرائع تتنوع , فتارة تكون منزلة من عند الله
كما جاءت به الرسل , وتارة لا تكون كذلك , ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير
أهل الكتاب شرائعهم , وتارة لا تغير ولاتبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها ,
وتارة لا يدخل.
أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه , فإذا فعل فعلاً بمجرد هواه
وذوقه ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته , استند إلى القدر
كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ
هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ
فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 148-149) فبين أنهم
ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين , وإنما يتبعون الظن، والقوم لم يكونوا
ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر , فإنه لو خرب أحد الكعبة أو شتم إبراهيم
الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه , كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم
على ما جاء به من الدين , وما فعله هو أيضًا من المقدور؟ فلو كان الاحتجاج
بالقدر حجة لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه , فإن كان كل ما يحدث في
الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر؛ إن , كان
الاحتجاج به صحيحًا , ولكن كانوا يعتمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم , وهم
في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) خدا - بضم الخاء اسم الجلالة بالفارسية , وأضافه إلى ياء المتكلم أي إلهي.(25/585)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
المقالات الجمالية
(2)
الشرق والشرقيون
(الشعبة الثانية من المقصد)
في الشواهد التاريخية، على إضاعة الممالك الشرقية
تأمل فيما أقص عليك من أعمال الشرقيين من قبل , حتى تعلم أنهم هم الذين
بحيدانهم عن سنة العقل قد أوقعوا أنفسهم في الذل الدائم، وجلبوا بعدم تدبرهم في
عواقب أمورهم الخراب والدمار إلى بلادهم، وأضعفوا بسوء سياستهم سلطنتهم
القوية، ومكنوا أعداءهم من بلادهم جهلاً منهم بنتائج أعمالهم , وهاهو ذا:
إن العثمانيين قد اتفقوا مع الروس على مقاسمة البلاد الإيرانية حينما تغلّب
الأفغانيون على أصفهان أيام (شاه سلطان حسين) , ولو نظروا بمنظار التدبر إلى
الأمة الروسية وما لها من علاقات مع اليونانيين والرمانيين والسربيين والبلغاريين
وغيرهم من رعايا السلطنة العثمانية وما يمكنها أن تحوزه في مستقبل أمرها من
القوة والبسطة لَمَا اختلجت ببالهم محالفتها، ولا خطرت في أذهانهم مؤامرتها؛
بل كانوا يسعون في قلع أسها قبل استحكامه، وقطع شجرتها قبل أن تشج عروقها.
وإنهم جاهروا الإيرانيين بالحرب من طريق بايزيد إذ كان عباس مرزأ
بجيوشه يقاومون الروسية ويدافعونها عن بلادهم، فوهنت قوتهم، وضعفت
مريرتهم، واستملك الروس بسبب هذا الاقتحام أكثر بلاد أذربيجان، ولو استشار
العثمانيون عقولهم وقتئذٍ لأشارت عليهم بأن ضعف الإيرانيين وقوة الروس هما
معًا علة تزعزع أركان السلطنة التركية، ولكنهم اتبعوا خطرات أنفسهم، وزينت
لهم أوهامهم، وظنوا أنهم يحسنون صنعًا، فأسرعوا في هلاك أنفسهم وهم لا
يشعرون، وكان عليهم - اهتداء بنور العقل، وسلوكًا في مسلك السياسة الحقة [1]- أن
يلاحظوا الجامعة القوية التي بينهم وبين السلطنة الإيرانية، فيتفقوا معها على كَبْحِ
شَرَه الروسية وإضعاف قوتها، أمنًا من غوائلها، وحذرًا من آفات مطامعها.
وإنهم أي العثمانيين جبهوا سفير (تيبوسلطان) سلطان (ميسور) بالرد حين
عرض عليهم من طرف سيده استبدال البصرة ببعض البلاد الهندية [2] التي كانت
في حوزته، وامتعضوا من هذا الطلب , وردوا السفير خائبًا وكان غرض
(تيبوسلطان) من طلبه هذا أن يكسر سورة الإنجليز ببسط السلطة العثمانية في الهند
وتمكينها منها.
وذهل العثمانيون تهاونًا منهم عن العلاقات التامة التي بينهم وبين
الهنديين , وأن سلطنتهم لو امتدت إلى تلك الممالك لدخل جميع حكامها بلا
معارضة تحت لوائهم , وقدروا حينئذ على قدع الحكومة الإنجليزية عن تطاولاتها في
الهند، وسدوا عليها طرق فتوحاتها في المشرق، وما شعروا تساهلاً في السياسة ,
وتغافلاً عن منهج العقل أن بسطة الحكومة الإنجليزية في آسيا توجب تحكمها في
بلادهم , وطمعها في الاستيلاء عليها , كما وقع الآن حتى مكنوا عساكرها مدة
طويلة من شق الأراضي المصرية ذاهبة إلى أقاصي المشرق للتغلب عليها.
وإن شاه إيران (فتح علي شاه) إرضاء للإنجليز هدّد الأفغانيين بالحرب ,
وقتما أرادوا أن يزحفوا على الهند؛ لانتزاعها من أيدي الإنجليز , ولو استنار
الإيرانيون وقتئذ بنور عقولهم؛ لانكشف لهم أن قوة الإنجليز بالهند إذلال لهم وخطر
على بلادهم، ولعلموا أنهم والأفغانيين غُصْنا شجرة الإيران [3] وقد تشعبوا من
أصل واحد ونشئوا في أرض واحدة، تجمعهم وحدة الجنسية، وتؤلفهم الأخوة
الحقيقية، وأنهم متساهمون في العز والشرف، ومتشاركون في الذل والهون، وما
فرقت كلمتهم إلا أوهام واهية , نشأت عن الظنون الدينية , وليست منها في شيء ,
ولو راجع كُلٌّ عَقْلَه لرأى وجوب اتفاقهم تحت الوحدة استرجاعًا لمجدهم السابق،
وتداركًا لما فاتهم بسبب الشقاق من الشرف والفخار , وعلو الكلمة بين الأمم.
وإن الأمير (دوست محمد خان) أمير الأفغان قد جعل بلاده - تعاميًا منه -
عرضة لهجمات الإنجليز , فإنه بعد المحالفة مع (ربخت سنكت) [4] ومعاهدته
على مقاومة الإنجليز , قد تركه اغترارًا بالمواعيد الإنجليزية في ميدان الحرب
وحيدًا , وتقهقر بعساكره فانهزمت جيوش رنجت , وتغلب الإنجليز على جميع
أراضي البنجاب المتاخمة للأفغان، ولو استهدى الأمير (دوست محمد خان) إذ
ذاك عقله وسلك في سياسته سلوك بصيرٍ يتدبر نتائج أفعاله قبل أن يتسرع فيها؛
لتحقق لديه أن صيانة بلاده من هجمات الإنجليز إنما يكون ببقاء الحكومة البنجابية
حريزة , حتى تكون سدًّا مانعًا بين أفغانستان وبين الحكومة الإنجليزية , فكان يدافع
عنها كما كان يدافع عن حكومته.
وإن نواب البنجاله ونواب (الكرناتكر) قد مهدوا للإنجليز سبل دخولهم في
الأراضي الهندية , وإن نواب (لكنهو) أيد مقاصدهم في إذلال السلطنة التيمورية
وأن نواب (دكن) قد أعانهم على إبادة حكومة (تيبوسلطان) وإدلال راجة (بروده)
وقهر الذين قاموا سنة 1857؛ لإنقاذ بلادهم , ودفع شر المتغلبين عليها من
الإنجليز [5] , وكل هؤلاء جهلاً منهم بمنافعهم وعمى عن نتائج أفعالهم المضرة
مكنوا الحكومة الإنجليزية ثقة بمواعيدها مِن الأراضي الهندية، وجعلوا على أعناقهم
نير العبودية، وما عقلوا أن قوام كل بالآخر، وأن بقاءه قد نيط ببقائه، وأن كلا
للآخر بمنزلة العضو من الجسد , فإذا تمكن الداء من عضو سرى في الجميع ,
ولزم منه انحلال البدن كله، والآن نرى الحكومة الإنجليزية بعد استعبادهم , وسلب
أموالهم , ونزع أيديهم عن الملك تعارضهم في ديانتهم , وتزاحمهم في تجارتهم،
وتعاقبهم على نياتهم , وتعاقبهم على أعمال آبائهم [6] .
وإن أهل بخارى فرحوا بتسلط الروسية على قوقند - والتركمان تبجحوا بغلبتها
على بخارى - والأفغان والفرس قد سروا من استيلائها على التركمان , وكل هذا
غفلة منهم عن المضار التي تنشأ عن قوة الروسية وبسطة سلطتها في تلك الأراضي،
وقد ألقاهم جهلهم بمصالح أنفسهم وإغضاؤهم عن الاستنارة بنور عقولهم في
التهلكة، وأشرفوا كلهم بغرورهم على الزوال والاضمحلال.
وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا ببصيرتهم إلى أركان سلطنتهم المتداعية
إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت أن تنهد بما أَلَمَّ بها
من المصائب، وعلموا بتدبرهم أنّ البلايا تترصدهم من جوانبهم لما تقحموا غرورًا
وضلالة في خلع عبد العزيز , وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم، وتغتنم هفواتهم،
ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة الإنجليزية قد
جلبوا الهلاك والاضمحلال على أمتهم ويظنون أنهم هم المصلحون.
وإن إسماعيل باشا حبًّا بالاستقلال , وعمى عن نتائج أفعاله السيئة , التي
نشأت عن حرصه على اسم الملك قد ألقم الإفرنج جميع أموال مصر , وما استدانه
من صرافي الأوربا (؟) بالأرباح الباهظة، ثم سعى الإفرنج في خلعه عن الملك
ونفيه عن الديار المصرية؛ إرادة استملاكها ووضع اليد عليها , ولو تَرَوَّى في حالة
الشرقيين , وتأمل فيما أصابهم من الذل والصغار؛ لأجل تفرق كلمتهم لازداد
خضوعًا لسلطانه , وسعى صيانة لنفسه في تشييد مباني سلطنته ونزع من قلبه حب
الاستقلال، وعلم أن الذين لا يَفْتُرُون عن السعي في فتح الممالك لا يمكن أن
يساعدوه في مقاصده , وأن وزراء توفيق باشا جهلاً بمقدار أنفسهم، وعجبًا بآرائهم
الفاسدة , واتباعًا لأوهامهم الباطلة قد جلبوا الإنجليز بغاية جهدهم إلى القطر
المصريّ وملّكوهم إياه، وهم يظنون أنهم يستظهرون بهم على أعداء الخديوي، فلو
تدبروا في سياسة الحكومة الإنجليزية ورأوا أطماعها في أرض مصر , لَمَا جلبوا
هذه المصيبة على أنفسهم وعلى خديويهم وعلى سلطانهم , ولما ألقوا أنفسهم في فم
الأسد خوفًا من وعوعة الكلب.
***
فقد ظهر من كل ما ذكرته من سير الشرقيين قدحًا في معاملاتهم أنهم ما سلكوا
في سياستهم سبيل الرشد والهدى، وما استفادوا من عقولهم شيئًا، ولا تدبروا في
عواقب أفعالهم ونتائج أعمالهم، ولا نظروا بنور البصيرة في حالهم ومآلهم، بل
تاهوا جهلاً منهم بمنافعهم في بيداء الغواية، وحادوا عمى عن غاية مسيرهم في تيه
الضلالة , حتى خرّبوا بأيدهم ديارهم، وأبادوا بسوء تصرفهم بلادهم، ومكنوا
الأجانب بمساعيهم الفاسدة من رقابهم. وكان الواجب علي أحفادهم الذين احترقوا
بنارهم، وتدنسوا بعارهم أن يعتبروا بالمصائب التي جلبتها عليهم غفلات أسلافهم
وأن يتقو البليات التي قادتها الغباوة إلى آبائهم، وأن يسعوا في جمع الكلمة، وأن
يتحذروا عن الشتات والتفرقة وضواء، يجتنبوا اراض الشخصية، ويعرضوا عن
دواعي الخطوات الوهمية، ويتنحوا عن مضال الاستبداد والاستئثار.
ولكن تراهم لسبات عقولهم يقتفون آثارهم، ويتبعون أغلاطهم، معرضين عن
العقل وإرشاده، جاحدين للحق وآياته، ارتفعت عنهم الأمانة، وفشت بينهم الخيانة،
وانقطعت بينهم عرى الوداد، وانحلت عقدة الجنسية، كُلُّ ينظر إلى نفسه ويسعى
لمنفعة شخصه، جهلاً منه أن سعادته منبثة في جميع آحاد الأمة , ولا يمكنه أن
يفوز بها إلا بسعادة الكل، ولذلك قد صاروا فقراء لا يملكون شيئًا، حائرين في
معاشهم، ضالين عن رشدهم في مبدئهم ومعادهم، وكاد أن يُقضى عليهم بذل أبديّ
وموت دائميّ، بتلاشي جنسيتهم، وتناثر جمعيتهم.
ومع كل هذا ما فاتهم أوان التدارك، ولا ضاق عليهم زمان التلافي، ولا
أوصدت عليهم الأبواب، ولا انقطعت دونهم الأسباب، ولكن قد تمكن منهم القنوط
وغلب عليهم اليأس، وفترت هممهم، وضعفت عزائمهم، واستكت آذانهم عن
استماع النصائح، وعميت أبصارهم عن رؤية الحق، وقَسَتْ قلوبهم عن الإذعان
له، فتراهم امتدادًا في غيّهم , يريقون دماء هدايتهم ويتّبعون آراء غواتهم، فلا حول
ولا قوة إلا بالله اهـ.
***
(المنار)
إنّ أمةً وُجِدَ فيها مثل هذا الحكيم الاجتماعي السياسي، وانتشرت في بلادها
أمثال هذه الحقائق الرائعة، والنذر الصادعة، لَجديرة بأن تتبين الرشد من الغي،
وتميز بين الحق والباطل، وتزيل بين الضار والنافع، فتجمع كلمتها، وتستعيد
سيادتها، ولكن الفساد الذي أطال الحكيم في وصفه بهذه المقالة قد تجاوز الحدّ الذي
تعقل فيه النذر، وتؤثر النصائح، فقد ازدادت الشعوب الشرقية الإسلامية التي وجه
إليها الخطاب تعاديًا وتدابرًا، حتى سقطت الدولة الثمانية بجهالة رجالها وضلالهم
وفساد عقائدهم وأخلاقهم، ولكن لم يفعل أحد في القديم ولا في الحديث شرًّا مما فعله
أمير مكة الشريف حسين وأولاده , فقد تجاوز جهلهم وفساد عقولهم وأنفسهم كل حد؛
بأن أحدثوا ثورة عربية؛ لمساعدة الدولة البريطانية وأحلافها على إسقاط الدولة
العثمانية , واستبعاد الشعوب العربية بإغراء هذه الدولة التي بيّن لنا السيد الحكيم
بعض أفعالها في ثل عروش الدولة الشرقية، وأساليبها في الطرق الاستعمارية،
وخداعها للملوك والأمراء بالوعود الكاذبة , والعهود الغارّة، ما لا يدع مجالاً لثقة
أبلد البلداء بها، وقد استولى الإنكليز وأحلافهم من الفرنسيس على سائر البلاد
العربية العامرة، ذات الغلات الوافرة، من حدود مصر إلى خليج فارس، ولا
يزالون هؤلاء الخونة المتحلون بلقب الشرفاء , يوطدون سلطة الاحتلال في تراث
سلطنتي العرب الكبريين - سورية والعراق - ويمكنونها من الإحاطة بالحجاز
ونجد، حتى لا يبقى للأمة العربية ملجأ مستقل في هذه الأرض.
وأغرب من هذا وأعجب أنه لا يزال لهؤلاء الأفراد حسين بن علي وأولاده
أنصار وأولياء في فلسطين وسورية والعراق بعضهم من الخونة المأجورين،
وبعضهم من الأغرار المأفونين، وسيسجل عليهم التاريخ اللعنة إلى يوم الدين.
****
التشريع الإسلامي ومؤتمر الخلافة [*]
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة:
48) {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) .
الإسلام هداية روحية غايتها سعادة الدنيا والآخرة، وبدايتها ترقية العقل
بالعقائد الصحيحة السليمة من نزعات الشرك وأوهام الخرافات، وتزكية النفس
بالعبادات المشروعة , التي تعرج بها إلى مناجاة الرب تبارك وتعالى كفاحًا بدون
واسطةِ وزراءَ ولا حجاب , وبالآداب العالية ومكارم الأخلاق، التي تهنأ بها
المعيشة الشخصية والمنزلية , وترتقي شؤون الحضارة والاجتماع، حتى تعم
الأخوة جميع طبقات البشر من جميع الشعوب والأجناس، وهو مع ذلك نظام مدني
سياسي يساوي بالعدل بين جميع الأفراد وجميع الطبقات من جميع الملل والنَّحل،
ويقرن الإحسان بالعدل، حتى في ذبح الحيوان للأكل، وينهي عن الفحشاء والمنكر
والبغي، وقد أبطل السيطرة الشخصية التي كانت للملوك على الأجساد، والهيمنة
الروحانية التي كانت للكهان على العقول والأرواح، وجعل السلطان في الحقوق
بأنواعها للشريعة العادلة المستمدة من الوحي، أو المستنبطة باجتهاد جماعة أولي
الأمر، وتشاور أهل الحل والعقد، وقيد طاعة الأئمة والأمراء بالمعروف، وأرشد
بالورع الشخصي إلى استفتاء القلب، وتحكيم الضمير فيما يشتبه من الأمر.
فالإسلام هو دين الحرية الكاملة برفعه ما كان من استرقاق الملوك والرؤساء
للبشر في أمور دينهم ودنياهم، والسيطرة عليهم في تصرفاتهم البدنية، وأفكارهم
العقلية، وعباداتهم الاعتقادية، وإبطاله تمييز بعض الشعوب وبعض الطبقات من
الشعب الواحد على البعض الآخر، وبتسويته بين الملوك والأمراء، والأغنياء
والفقراء، والرؤساء الدينيين والدنيويين في جميع الحقوق الشرعية المتعلقة
بالدماء والأموال والأعراض، بحيث يقتص من القوي للضعيف، ومن الكبير
للصغير كما أمر الخليفة الثاني الفاتح الأعظم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه الرجل الفزاريّ من ضعفاء السوقة بأنْ يلطم جبلة بن الأيهم ملك غسّان بما
لطمه، إلا أن يرضيه فيعفو عنه، وكما عزّر عمرو بن العاص فاتح مصر بضرب
ولده لغلام قبطي. وأمر بأن يضربه القبطي كما ضربه، وقال في ذلك كلمته
الحكيمة التي يفاخر المسلمون بها جميع أهل الملل، ويفاخر العرب بها جميع
الشعوب والأمم، وهي: (يا عمرو منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)
هذا ما قاله أمير المؤمنين لقائده فاتح مصر وعامله عليها.
وليس ما ذكرته من المثل عن عمر إلا تنفيذًا لتشريع القرآن المجيد الذي جعل
العدل عامًّا، والقيام بالقسط أمرًا واجبًا، لا يحابى فيه قريب على بعيد، ولا وليٌّ
على بغيض، ولا غني على فقير، كما هو منصوص في الآية134 من سورة النساء ,
والآية التاسعة من سورة المائدة، بالصيغ العامة المطلقة التي يدخل فيها المؤمن
والكافر، والبر والفاجر , وثَمَّ آيات خاصة بغير المسلمين كقوله تعالى في قضية
لليهود: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة:
42) .
وأَبْلَغُ مِن هذا ما ورد في قضية بين مسلم ويهودي , كان المسلم فيها مذنبًا
واليهودي بريئًا , فنورد أخصر ما قيل فيها من تفسير (الجلالين) لسورة النساء
قال الجلال: وسرق طعمة من أبيرق درعًا , وخبأها عند يهودي , فرماه طعمة بها
وحلف أنه ما سرقها فسأل قومه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنه ويبرئه
فنزل {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن
لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطاً * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} (النساء: 105-109) هذا في تهديد قوم طعمة
السارق المُتَّهِم لليهودي , إذ كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى صدقهم وَهمَّ
بالجدال عن صاحبهم , لولا وحي الله تعالى له ببيان الحقيقة. ثم قال الله تعالي
لرسوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا
يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113)
بعد هذا التمهيد أقول: إن أصول التشريع الإسلامي هي أرقى تشريع لم
يسبق بمثله. أفليس من أكبر البلاء وأعظم الخطوب في الإسلام أن تجهل بعض
الحكومات الإسلامية هذه المزاية فيه , بل تعيبه بأنه عثرة في طريق الحضارة
والقوة، وتبيح لنفسها أن تنبذه ظِهْريًّا بتدريج بطيء أو سريع , وتستبدل به تشريعًا
دونه في نفسه، ودونه في موافقته لصالح الأمة التي كان له أعظم التأثير في
تكوينها، ودونه تأثيرًا فيها ترجو من تجديد حضارتها، ودونه فيما يجب أن تتوخاه
من حسن الاتصال بالأمم المرتقية في علومها ونظمها، بله الاتصال والمودة مع
الشعوب التي تدين لله تعالى بأصول هذه الشريعة وفروعها.
أليست الأمم وليدة التاريخ وربيبته؟ أليس التشريع من مقوماتها التي تفصل
بينها وبين غيرها؛ كالفصول الطبيعية التي تفصل في عرف علماء المنطق بين
أنواع الجنس الواحد؛ كالحيوان والنبات؟
كثر بحث دعاة التجديد في الشعوب الإسلامية في هذه المسألة , وكثر إلقاء
التبعة فيها على علماء الشرع ورميهم بالجمود.
وربما يدور البحث في مؤتمر الخلافة، هذا في مسألة المذاهب والآراء في
التشريع وهي ثلاثة: رأي الملاحدة الذين يرون أن التزام الشريعة الإسلامية تدينًا
مانع من تأليف دولة قوية في أمة ذات حضارة راقية , ورأي الذين يرون وجوب
التزام تقليد أحد المذاهب المتبعة كما هو مدوّن في الكتب المتداولة مهما يكن تأثيره
في الأمة والدولة، وأنه لا يجوز استحداث شيء من العلم والفنون والأعمال إلا إذا
دلّت على جوازه , ورأي الحزب الوسط الجامع بين معرفة أحكام الشرع وحكمه
وأسراره وبين شؤون العصر، وقد فاز حزب مصطفى كمال باشا من أهل الرأي
الأول في الحكومة التركية الجديدة بعد تمهيد طويل سبقه إليه الاتحاديون وغيرهم
من ملاحدة الترك، واشتدّ النزاع بين الحكومتين الإيرانية والأفغانية , وبين
أصحاب الرأي الثاني فيهما المعارضين لكل إصلاح مدني جديد لم يعهد من قبل،
حتى اضطرت الحكومة الأفغانية إلى قمع ثورات المعارضة منهم بالقتال، وذكرت
البرقيات والجرائد أن مثيري الناس على الأمير هم العلماء، ولا غَرْوَ فمن سنن الله
في الأمم أن المتشدّدين في المحافظة على القديم المألوف ينكرون كل محدث وإن
كان معروفًا، ويسكتون على القديم وإنْ كان منكرًا، وضدهم الغلاة في طلب
التجديد , فهم يحبذون كل جديد وإنْ كان قبيحًا، ويقبّحون كل قديم وان كان حسنًا.
والحق والصواب أن في كل من القديم والجديد من المنافع والمضار ما يحكم
فيه بحسب وصفه، لا بحسب جدته وقدمه، والجديرون بصحة الحكم في ذلك هم
الذين عالجوا الأمرين من أهل العلم والبصيرة والاعتدال في الرأي، ويقل أن يوجد
في علماء الأفغان الدينيين أمثال هؤلاء , الذين يعرفون اضطرار حكومتهم إلى الأخذ
بالنظم العصرية التي بها حفظ بلادهم , ويعلمون أنه لا بد لهم من توسيع ثروة
بلادهم بالطرق الزراعية الجديدة، ومِن الأخذ بأسباب الصناعات الحديثة , وإن كل
ذلك يتوقف على العلوم الكونية , التي يُعْرَف بها ما أودعه الله في الماء والهواء
والكهرباء وغيرها من الخواص والمنافع والفنون التي يتوقف عليها صنع الآلات
التي تستخرج بها تلك المنافع , ولو عرفوا هذا كله لعرفوا أن هذه العلوم والفنون
والصناعات التي أدخلتها حكومة أميرهم في بلادهم هي من فروض الكفاية شرعًا.
وأما فقهاء الترك ومصر وتونس وأمثالهم فيعلمون هذا علمًا قطعيًّا؛ لأن
المشاهدة أثبتت لهم من الضروريات , ولكن هنالك أمورًا أخرى شعرت حكوماتهم
بالحاجة إليها قبلهم، ولا تزال خفية على أكثرهم، وهي ما يتعلق بالتشريع، فقد
تجددت للناس أقضية كثيرة بما حدث من النظام المالي والمعاملات المدنية:
كالشركات , والمصارف المالية , والمعاملات الأجنبية , والمعاهدات الدولية من
سياسية وتجارية وغيرها. اشتدت حاجة هذه الحكومات إلى وضع أحكام لهذه
الأمور , حتى وصلت إلى حد الضرورة، فلّما لم تجدها عند فقهائها لم تجد بُدًّا من
اقتباسها من بعض الحكومات الأوربية , واستتبع الضروري منها ما ليس بضروري
حتى تحول التشريع عن القواعد والأصول الإسلامية.
وغرضنا من بيان هذا أنه قد يكون من مندوبي الشعوب الإسلامية في هذا
المؤتمر من يرى أن يكون الخليفة الذي يختارونه حاكمًا بالشرع المدون في كتب
الفقه: كمندوبي جزيرة العرب وأمثالهم، وقد يكون منهم مَن يرى أن يكون مدنيًّا
يجاري في حكومته أرقى حكومات العصر في العلوم والفنون والحضارة والقوة
كمندوبي الهند وشمال أفريقية، ولا سبيل للجمع بين الأمرين، وجعل نظام الخلافة
مُتَّفقًا عليه من الفريقين، إلا بإظهار الشرع الإسلامي بقسميه التنزيلي والاجتهادي
في أسلوب من البيان، يعلم به موافقته لحال هذا الزمان في كل مكان.
ولا يوجد قطر إسلامي أجدر بهذا العمل من القطر المصري، فإنه عمل لا يَتِمُّ
إلا بالتعاون بين الراسخين في العلوم الشرعية ومذهب المجتهدين فيها وبين
المطّلعين على قوانين أمم الحضارة ونظمها وعلومها وفنونها , فمصر أهل للقيام
بهذا الأمر العظيم وحدها، فكيف إذا وفد عليها من علماء سائر الأقطار وزعمائها
من يكونون أفضل الأعوان لها؟ ألم تر أن كبار علماء الشرع فيها هم الذين
اضطلعوا بالدعوة إلى مؤتمر الخلافة , وتولوا الدعوة إليه، ورأوا أن يشاركهم في
إدارة العمل بعض علماء القوانين العامة والطب والسياسة وغيرهم؟ وما كان أحد
ينتظر هذا من الصنف الذي كانت تلقى على عاتقه تبعة نبذ الشريعة، وقد كان
علماء الترك أجدر منهم بالسبق إلى هذا الأمر بما كان لهم من النفوذ الرسمي في
دائرة المشيخة الإسلامية مع النفوذ الروحي في الأمة، وهم سياج الدولة التي كانت
تمثل الخلافة.
فيالها من فرصة سنحت للأمة الإسلامية ما سمحت بمثلها العصور الخالية،
فحيا الله مصر وعلماء مصر وجميع رجال الإصلاح في مصر، فقد كانوا بهذا
العمل أمة وسطًا بين أهل التفريط والإفراط في أم المصالح الإسلامية , كما كان
بلدهم وسطًا بين الأقطار الإسلامية، وسيقرب هذا المؤتمر بين المخلصين من
الواقفين على الطرفين فيجذبهم إلى الوسط، ويزيل شبهات علماء الأفغان وأمثالهم
ما يظنون من التعارض بين الشرع والفنون , التي يتوقف عليها نظام القوة وثروة
الأمة وتعزيز الدولة، كما أنها ستدحض شبهات الذين يظنون أن الشرع الإسلامي
يحول دون ارتقاء الأمم إلى أرقى معارج القوة والعزة وأوج الحضارة، ففي أي
مكان يرجى مثل هذا كما يرجى في مصر؟ أفي الآستانة التي ألغت حكومتها
الخلافة , وتبرأت من اسمها ومسماها؟ أم في مكة المكرمة وهي في اضطراب
حزبي بين حكومتين , ولم يكن في أهلها منذ قرون من يَصْلُح لِمَا ذكرنا في هذا
المقال من أعمال المؤتمر , وهو بعض وظائفه التي ستبين في هذه المجلة.
****
الوهابيون والحجاز
(3)
بيّنا في المقالة الثانية جُلَّ الأسباب العامة لإنقاذ الحجاز من السيد حسين
المكي المستبد فيه التي يعدها السلطان عبد العزيز بن سعود موجبة شرعًا للقيام بهذا
العمل لمن قدر عليه مثله، وإذا كنا نكتب أمثال هذه المقالات في فترات قصيرة ,
نختلسها من شواغلنا الكثيرة اختلاسًا , نسينا أن نذكر في تلك الأسباب عجز
المتغلب على الحجاز عن حفظ الأمن بين الحرمين الشريفين , ونكثه للعهود التي
عاهد أعرابها عليها حين دعاها إلى الثورة والخروج على الدولة العثمانية , وهو أن
يعطيهم في كل سنة ضعفي ما كان مرتبًا لهم من الأموال التي كانت ترسلها الدولة
إلى الحجاز لإعانة أهله , فكان يعطيهم في سني الثورة , ثم منعهم بعدها كما منع
أكثر المستحقين للإعانات التي ترسل من مصر؛ فاضطروا إلى منع الناس من
زيارة حرم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من يؤدي لهم ما فرضوه بدلاً مما كانوا
يأخذونه , كما فصلناه في المنار.
***
الأسباب الخاصة بنجد لزحف أهلها على الحجاز
ونبين الآن ما نتذكره من الأسباب الخاصة بالنجديين , وهي ترجع إلى
غرض واحد هو إزالة استقلال سلطنة نجد , وجعلها تابعة لما يسميه الممالك العربية
الهاشمية، والأسباب التي نذكرها حجج ناهضة تدل على ذلك وهي:
(1) إننا عقب انكسار الدولة العثمانية في الحرب البلقانية , وضعنا مع
بعض أهل الغيرة العربية والإسلامية خطة لوقاية بلاد العرب من استيلاء الأجانب
عليها , ومنها جمع كلمة أمراء العرب , ووضع اتحاد حلفي بينهم؛ لإزالة العدوان،
والتعاون على حفظ البلاد العربية وصيانتها من تعدي الأجانب، والفصل في
المنازعات الداخلية بين أولئك الأمراء ومَن دونهم من القبائل بالتحكيم ...
وقد تولى كاتب هذه المقالات تبليغ أمراء اليمن ونجد وعسير ذلك , فجاء
منهم مكتوبات بالاستحسان وطلب التفصيل وطرق التنفيذ000 وعهد إلى شريف
عبد الله أن يبلغ ذلك والده حسينًا إذا كان يرجح قبوله له , ولما وقعت الحرب
الكبرى , ودخلت الدولة العثمانية في حلفي دول أوربا الكبرى , وشرعت الدولة
البريطانية تخادع جميع أمراء العرب وزعمائهم؛ لتستخدمهم وتستعين بهم على
الدولة , ثم على أنفسهم لتكافئهم على ذلك بسلب استقلالهم , اشتدت الحاجة إلى
تحالفهم واتفاقهم على صيانة البلاد العربية , والاحتياط لحفظ استقلالها إذا قهرت
الدولة العمانية وانكسرت مع أحلافها، ولما انخدع أمير مكة هذا للرقية البريطانية
بسوء سريرته وجهله بشؤون السياسة صارت الحاجة إلى ذلك أشد، وقد أخبرني
ولده السيد عبد الله أنه ذكر له اقتراحي , ولكن وقعت الحرب عقب ذلك , فشغلتهم
الثورة عن إعادة القول فيه، أخبرني بهذا في مكة المكرمة بعد إتمامنا مناسك الحج ,
ورغّب إليَّ أن أكلم والده فيه , فكلمته وذكرت له شيئًا من خداع السياسة , وكون
الاستفادة منها منوطة بالقوة 000 ولما صرحت له بالمسألة اعتذر عنها بأنه إذا
خاطب جيرانه بذلك يظنون أنه عاجز عن مقاومة الترك ويريد مساعدتهم , وأن
الرأي أن يرجئ ذلك إلى أن يستولي على المدينة , ويخرج الترك من الحجاز كله،
فقلت له: لا نكلفكم مخاطبة أحد منهم , بل نحن نتولّى ذلك , ونرجو النجاح فيه،
وإنما نرجو أن نكون على بيّنة من رأيه فيه , وثقة من رضاه وقبوله للاشتراك فيه
إذا أقنعنا سائر الأمراء ... فلم يقبل، حتى إنني قلت له: إنني أضمن لكم قبول
صاحب نجد وإذا احتيج إلى ذهابي إليه بنفسي فإنني أفعل، فلم يقبل، ثم قال أمام
بعض بطانته أو حاشيته: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق معهم؟ اليوم يوجد في الدنيا
رجل يقال له ابن سعود وغدًا لا يوجد في الدنيا ابن سعود ...
(2) إن أول عمل عمله بعد الاستيلاء علي المدينة المنورة عقب خروج
الترك منها بعد هدنة الحرب - وقد عجز عن أخذها منهم بالقوة - أنه جمع كل ما
كان يقاتل به الترك هنالك من الجند النظامي واليدوي مجهزًا بأحدث الأسلحة , ولا
سيما المدافع والرشاشات وقنابل اليد , ووجههم بقيادة ولده السيد عبد الله إلى الشرق؛
لاسترداد الخرمة وتربة فالزحف على نجد، وكانت تلك أعظم قوة حربية اجتمعت
لهم في الحجاز , يدير حركتها زهاء مائة ضابط عربي جلهم من ضباط العراق
البارعين، ولما وصلوا إلى الخرمة باغتوا أهلها وهم في صلاة الفجر , ففتكوا بهم
وهم يصلون شر فتكة ... فاستنجد الشريف خالد عامل الخرمة الإخوان
(الوهابيين) فزحفوا على ذلك الجيش المنظم، فكانوا قضاء الله المبرم، اصطلموا
الجيش وغنموا سلاحه وكراعه وذخيرته , وقتلوا أكثر من ثمانين ضابطًا هم خيار
ضباطه وفر الشريف عبد الله منهزمًا بزي الإخوان مقلدًا لهم في كلامه.
(3) إن السيد حسينًا لم يقترح على الإنكليز في (مقررات النهضة) أن
يؤسسوا المملكة العربية , ويتولوا حمايتها وصيانتها (من الداخل والخارج) إلا لِمَا
في قلبه من العداوة لابن سعود والخوف منه، وهو هو الذي يعنيه بقوله في مادة
الحماية الذي ذكرناه في المقالة الثانية (أو حسد بعض الأمراء) فابن سعود أولى
الناس بثل هذا العرش المبني على جعل الحرمين تحت حماية غير المسلمين خوفًا
منه، وها نحن أولاء نقرأ في جميع الصحف ما جاء في البرقيات من (لندن) من
استغاثة الشيخ حسين هذا بالدولة البريطانية ومطالبتها بإنقاذ الحجاز من الوهابية،
فالإنكليز يتنصلون من الاعتراف أمام العالم الإسلامي بحمايتهم للحجاز؛ لما يعلمون
من كراهة المسلمين لذلك , وعدّه اعتداءً عليهم في دينهم وهو لا يستحي من الجهر
بمطالبتهم بذلك ومكافأتهم عليه بتوقيع (المعاهدة البريطانية العربية) على علاتها،
وإنْ كرِهَ أصدقاؤه من أهل فلسطين تضمنها لاعترافه بالانتداب البريطاني ووطن
اليهود القومي في بلادهم، وكره جميع المسلمين ما جعل للإنكليز فيها من الحقوق
في الحجاز وفي معاملة الحجاج! ومتى كان يبالي بالمسلمين أو غير المسلمين إذا
رضي عنه الإنكليز؟ ولكن مِن مصلحتهم الآن أنْ لا يرضوا عنه ولا ينصروه ,
وهم أعرق الناس في بناء سياستهم على المصالح لا كما يصفهم بأنهم يعملون
بمقتضى (الحسيات) بالمعنى الذي يفهمه هو.
(4) إن هذا الرجل قد شرع منذ سمى (نفسه) ملك العرب وصاحب
الممالك العربية , وبايعه مستضعفو مكة وجدة في الجهر بالملك وفي السر بالخلافة
الإسلامية (كما قالوا أخيرًا عند تجديد البيعة) ؛ شرع يطعن في دين الوهابية
وعقائدهم , ويرميهم بالكفر وتكفير المسلمين تمهيدًا لقتالهم وأخذ بلادهم , ولم يكتف
في ذلك بما نشره في جريدته (القبلة) بلسانها؛ بل صرح بذلك مرارًا في مقالاته
ومنشوراته الرسمية؛ كالمنشور الرسمي الذي نشره في العدد 202 المؤرخ في 24
شوال سنة 1336 , والمنشور الرسمي الذي أصدره في غرة ربيع الأول سنة
1337 , والمنشور الرسمي الذي نشره في عدد 8 جمادى الأولى سنة 1337.
وقد صرح في المنشور الثاني بعزمه على محو بدعة الوهابية (خدمة للدين
وتنزيهًا له مما في هذا الزيغ والضلال , وسلامة البلاد من سيئاته) وذكر في الثالث
أنه معهم في موقف دفاع ثم قال: (فنحن نحرر منشورنا هذا علاوة على ما سبق؛
ليعلم القاصي والداني أنه متى تحقق لدينا عدم نجاح خطة الدفاع أمام مبادئهم فلا بد
للسلطان من قتالهم بكل موجوديته) .
وهذان النصان الرسميان إنذار بأنه يرى وجوب قتالهم؛ لأجل دينهم وإكراههم
على ترك عقائدهم وما يدينون الله به , وأنه هو سلطان المسلمين , ويفعل هذا
أصالة ونيابة عنهم، فإذا كان صرح بهذا والدولة العربية التي اقترح على العظمة
البريطانية تأسيسها له وهم من الأوهام , والخلافة التي رضيها له ملك الإنكليز حلم
من الأحلام , فماذا عسى أن يفعل بهؤلاء النجديين إذا استقر ملك أولاده في العراق
والشام، ورضي الإنكليز بأن يؤلف بهم الوحدة العربية وقد سبق فادعى لنفسه الخلافة
الإسلامية؟ اللهم الطف بعبادك وارحمهم برحمتك، وأنقذ من هذا الطاغوت أهل
حرمك، ولا تسلطه على أحد من خلقك (كتبت هذه المقالة قبل وصول خبر خلعه
ولكن تأخر نشرها) [**]
قلنا في مقال سابق: إن رميه الوهابيين بالمروق من الدين، واستحلال دماء
المسلمين، قد اتبع فيه سلفه الطالح عند ظهور أمرهم في فجر القرن الثالث عشر
للهجرة، ونذكر هنا ما فاتنا هنالك من شهادة التاريخ على ذلك؛ لاتحاد العلة
والمعلوم في فساد الأول والآخر، ولأنها من الشواهد على ما قيل: من (أن التاريخ
يعيد نفسه) :
قال المرحوم محمود فهمي باشا المهندس المصري في الجزء الأول من
تاريخه (البحر الزاخر) في سياق الكلام على الوهابية:
(ومن بعد مدة استمرت في محاربات شديدة، ووقائع عتيدة، دخل جميع
بلاد العرب في العقائد الوهابية، أي العقائد الإصلاحية للديانة الإسلامية، وصارت
نجد أيضًا في حالة سياسية مدنية جديدة، وبدل أن كانت جهاتها منقسمة إلى عدة
عشائر وشعوب صغيرة منفصلة عن بعضها [7] ومستمرة في حروب وكروب بين
بعضها [8] صارت مقر دولة قوية، وسلطنة سياسية، مثال سلطنة الخلفاء القدماء
ولرئيس هذه الدولة السلطة في الأعمال الدينية والدنيوية.
و (مع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد العرب لم
يَعْتَدُوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت
قوافل الحجاج تمر من وسط أراضيهم من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو
انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة. وفي سنة
1781 بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة،
فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الحسد في قلب الشريف غالب، وفي
ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة وتوظفه شريف مكة [9] بعد الشريف سرور ,
أعلن حربًا على الوهابية , وكانت طرائق هذا الحرب مثل طرائق حرب البدو
متقطعًا بهدنات صغيرة قصيرة المدة , ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع
الدولة التركية العثمانية لم يهمل أدنى طريقة يمكنه أجراؤها في تمكين الدولة
العثمانية من دخول عساكرها في بلاد العرب؛ لأجل الوقوع بالوهابيين [10] إلا
وأجراها وأثبت [11] أنهم من الملحدين الكافرين , وأن معاملتهم في قوافل الحجاج
التركية من أقبح الأعمال الفاسدة المضرة بالدين اهـ. المراد منه هنا بحروفه على
ما فيه من غلط لغوي (راجع ص 173 و174 منه)
ثم قد أعقب هذا الافتراء والإفساد أن أمرت الدولة العثمانية حكومة بغداد بقتال
الوهابيين ففعلت , فلما اشتغل الوهابيون بقتال الدولة ودخلوا العراق , زحف
الشريف غالب على نجد واستولى على قرية فيها , فكان هذا هو السبب لزحف
الوهابيين على الحجاز وفتحه. والآن يريد خلفه حسين أن يهيج عليهم العالم
الإسلامي كله والعالم الأوربي أيضًا , بما يرسله من البرقيات التي يلفقها بأسماء
مجهولة لحجاج رعايا الدول الأوربية، أو معروفة كلجنة مؤتمر الجزيرة التي ألفها
بمكة للفساد والإفساد في البلاد العربية، فهو الذي كتب تلك البرقيات , وهو الذي
أرسلها إلى البلاد والأقطار والصحف ووكلاء الدول وجمعية الأمم [***] , من غير
أن يُكَلَّفَ أحدٌ منها قرشًا من أجورها، ومن غرائب غفلات البشر أن وجد منهم من
يصدق ما قيل فيها من اتهام الوهابيين بارتكاب الفظائع التي لا يستبيحون شيئًا
منها، وحسبهم أنها شهادة ممن عرف بالكذب على عدوه , وأقرب ما اشتهر من
كذبه في جريدته (القبلة) , ومن كذبه في منشوراته الرسمية ادعاه مبايعة العالم
الإسلامي له بالخلافة حتى مدن مصر المشهورة.
(5) شن الغارات عليهم وبدأ بقتالهم عند كل فرصة سنحت له، وأكبر
هذه الغارات زحف ولده عبد الله بأكبر قوة اجتمعت له بعد إخلاء الترك للمدينة
المنورة , عقب هدنة الحرب العامة وهي التي ذكرناها في السبب الرابع آنفًا ,
وأوسطها زحفه على منطقة عسير في إثر وفاة السيد محمد علي الإدريسي الذي كان
قد تخلى عنها لسلطان نجد، وفي إثر تنكيل الوهابية بحملته , هنالك وقعت حادثة
حجاج اليمن الذين اعتقد الوهابيون أنهم نجدة منه , فأطلقوا عليهم الرصاص، وبعد
أن عرف الأمر اعتذرالسلطان عبد العزيز للإمام يحيى عن هذا الخطأ , واتفقا على
حفظ المودة بينهما بتعويض مقبول معقول، ولكن حسينًا كان أمطر العالم كله
برقيات في التشنيع على الوهابيين.
وآخر هذه الغارات حملة ولي عهد حسين الأمير علي على الوهابيين بالقرب
من خيبر , وقد مهد لذلك بخدعة هو بارع بأمثالها.
ذلك بأن أعلن عقب زيارته لشرق الأردن في أواخر العام الماضي بأنه قد عفا
عن المسجونين والمعتدين , وأباح المرور والدخول في المدينة المنورة وسائر
الممالك الهاشمية! ! وأنه لا حرج على النجديين في التجارة في بلاد الحجاز، ولما
تبعه نجله وولي عهده السيد علي أمير المدينة المنورة [12] إلى شرق الأردن أمره
بتأليف حملة؛ لغزو عرب ابن سعود المخيمين بالقرب من خيبر إذ يكونون وادعين
هنالك، مغترين بذلك التأمين العام والعفو الشامل، فألفها من ستمائة هجان
وأربعمائة فارس بقيادة الشريف جعفر بن سلطان ففتكت بالإخوان المتفرقين في
الأطراف , وسلبت أموالهم ومواشيهم , وهمت بالرجوع , ولكن نبأها كان وصل
إلى الإخوان الذين في جهة خيبر, فأتبعوها وفتكوا بها فتكة لم يسلم منها إلا أفراد من
فارة الهزيمة , واسترجعوا جميع ما أخذت ووصل قائد الحملة الشريف جعفر إلى
المدينة المنورة مضرجًا بدمه , فكان من سوء تأثير هذه الحملة أن زالت بقية الثقة
بأقوال (ملك جميع البلاد العربية) على ما أضيف إليه من لقب (الخلافة الإسلامية)
وانقطعت سبل التجارة بين نجد والمدينة المنورة , كما انقطعت مع مكة قبلها ,
وكان ذلك سببًا لشدة غلاء اللحم والسمن في الحجاز كله.
على أن الأمير عليًّا أذاع في جرائد سورية وفلسطين وغيرهما وجريدتهم قبلة
الكذب أن بعض الوهابيين حاولوا الاعتداء على سكة الحديد الحجازية , فأدبتهم
الجنود الهاشمية، أو ما هذا معناه. هذا ملخص ما كتبه إلينا بعض رجالهم بل
ضباطهم.
(6) بث حسين الدسائس وإغراؤه للعداوة والفتن بين نجد والبلاد المجاورة
لها , منذ اعتقد أن الحجاز صار ملكًا له , وأنه سيكون في خاتمة الحرب ملكًا على
جميع البلاد العربية , بما كان يكتبه إلى ابن الرشيد وآل عايض وغيرهم، وهذا
أمر قد أذاعته حكومة نجد في البلاغ الذي نشره الأمير فيصل نجل سلطان نجد في
جرائد مصر وغيرها المؤرخ في 20 رجب سنة 1342 وقد جاء فيه ما نصه:
(إن تحت يدنا من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة والخرمة وعسير ما
يفيد أن ملك الحجاز وولده عبد الله لا يسعون إلا لشهواتهم ومصالحهم , ولو أدى ذلك إلى هدم بناء العرب , ولكننا نمسك عن نشرها الآن , فإن سمح لنا ملك الحجاز
بنشرها نشرناها , وهنالك يعلم العالم الإسلامي والعربي تلك الجنايات والدسائس)
إلخ.
(7) ما ذكر في هذا البلاغ النجدي الرسمي من بث حسين الدسائس في
بريدة من بلاد نجد , وإغرائها بالخروج على حكومتها.
(8) إنه كان سببًا في فشل مؤتمر الكويت؛ إذ اشترط في الاتفاق مع ابن
سعود تركه لبعض بلاده كما هو مشهور [****] .
فعلم من هذه الأسباب أنها تفصيل لخطة حسين فيما سماه الوحدة العربية التي
ذكرنا نص عبارته الرسمية فيها في المقالة السابقة , وهي واضحة في أنه لا يقر له
قرار حتى يزيل سلطنة نجد من الوجود , ويجعل بلادها تابعة له , وهذا كافٍ في
عُرْفِ كل دولة وكل حكومة في العالم لمقابلته بالمثل، ولكن السلطان ابن سعود لم
يحفل يومًا ما بعداوة شريف مكة؛ لعلمه بضعفه وعجزه، أن ينال منه منالاً , وقد
صرح تصريحًا رسميًّا بأنه إنما ينقذ الحجاز من ظلمه وبغيه؛ لأجل المصلحتين
الإسلامية والعربية اللتين فصّلنا أسبابهما في المقالة السابقة , وسنيين في المقال
التالي وجه الوجوب الشرعي لهذا الإنقاذ ممن سمى نفسه (المنقذ) , ونبين أن هذا
خدمة جليلة للمصلحتين بالدليل والبرهان.
****
الوهابيون والحجاز
(4)
بينا في المقالة الثانية الأسباب العامة التي توجب إنقاذ الحجاز من طاغوت
مكة حسين بن علي على مَنْ قَدَرَ عليه من المسلمين كأهل نجد، وفي المقالة الثالثة
الأسباب الخاصة بأهل نجد أنفسهم، ونسينا أن نعد منها منعهم من التجارة في
الحجاز , بل جاء بالعرض وهو الذي كان من أسباب شدة غلاء السمن واللحم في
مكة كما بيناه في المنار من قبل، وقلنا: إن هذه الأسباب الخاصة كافية في البعث
على القتال عند كل أمة ودولة، ولكن سلطان نجد لا يبالي بعداوة حسين له لبلاده،
ولا بمظاهرة أصحاب الألقاب الفخمة له من أولاده، الذين لم يستح كل واحد منهم
بإظهار الاحتقار له بمثل قولهم ليس ابن سعود إلا شيخ عشيرة أو قبيلة؛ وإنما هو
يرجح الواجب الشرعي والمصلحة العامة الإسلامية والعربية على المصلحة النجدية
الخاصة، ونحن نؤيد قولنا بالوثائق الرسمية حقيقة أو حكمًا كما أيدنا كل موضوع
مما بيناه في المقالات الثلاث.
نشرنا في المنار ثلاث وثائق صدرت من الرياض عاصمة آل سعود فيما بين
الحجاز ونجد من الخلاف , سبقنا إلى نشرها كثير من جرائد مصر وغيرها من
البلاد الشرقية ولا سيما العربية:
(الأولى) : بلاغ بإمضاء الأمير فيصل نجل السلطان عبد العزيز آل سعود
عنوانه (للحقيقة والتاريخ) وجْهه إلى أشهر الصحف في العالم الإسلامي في 20
رجب سنة 1342 , يتضمن سعي سلطان نجد في أثناء الحرب وبعدها لبناء الوحدة
العربية , ومقابلة الملك حسين له بالاستهزاء , وسعيه لنقض بنيانها بما كان يسعره
من نار الفتن والدسائس) إلخ , وقد حدثنا من سمع من لسان السلطان عبد العزيز
آل سعود أن فيما كتبه إلى ملك الحجاز أن يكون هو (أي الملك حسين) رئيس
الوحدة العربية المقترحة 000 فهزئ به ولم يرد عليه، وفي هذا البلاغ إنذار للملك
حسين بنشر المكتوبات التي وجدت بإمضائه في تربة وعسير والقصيم في الحث
على الإفساد والفتن إذا هو مارى فيها
(الوثيقة الثانية) : بلاغ آخر منه (للعالم الإسلامي والشعب العربي) صدر
من الرياض في 28 شوال سنة 1342 افتتحه بأنه منذ بضع سنين قام نفر من
العرب يطالبون باستقلال شعبهم واتحاد أمرائه , فحمدت حكومة نجد سعيهم (قال) :
(وعرضنا عليهم مساعدتنا على أن نضع حدًّا لمطامع الأجانب ومقدار مداخلتهم
في بلاد العرب , فأبوا إلا أن ينفردوا بهذا العمل الخطير , ويأخذوا على عاتقهم
مسئوليته , ويحوزوا وحدهم فخر تحرير بلاد العرب؛ فقلنا: أنجح الله استقلال
العرب أيًّا كان المحرر والمنقذ , ولكن ما كاد السيف يوضع في غمده حتى رأينا الاستقلال والتحرير وصاية وانتدابًا , وحتى رأينا شباب العرب وأحرارهم
يقادون إلى السجون ويجلون عن بلادهم , ويمنعون من الإقامة في ديارهم , فهل
الاستقلال أن يصبح العرب غرباء في بلادهم ومرافق الحياة في يد غيرهم؟ ولولا
أن الحجاز يمس شعور المسلمين احتلاله لرأينا الانتداب قد ضرب عليه) .
ثم ذكر مناوأة هؤلاء الجناة على البلاد العربية لنجد جارتهم؛ لأنها (قوية
مستقلة , لم تنفذ إليها مطامع المستعمرين) ثم قال:
(إنَّ نجدًا تمدُّ يدها لكل من يريد خير العرب ويسعى لاستقلال العرب ,
وتساعد كل من ينهض لتحرير العرب واتحاد العرب.
إن نجدًا ترحب بكل عربي أبي وتعد أرضها وطنًا لكل عربي سوري أو عراقي
أو حجازي أو مصري , إن نجدًا لا تطمع في امتلاك أرض خارجة عن حدودها
الطبيعية , ولكنها لا تقبل أن تستقل بلاد العرب كلها استقلالاً صحيحًا , لا يكون
لغير أبنائها سلطان عليها) .
ثم ذكر مسألة الخلافة فنفى أن تكون وظيفته روحية للتبرك , وأثبت أنها حق
لجميع المسلمين ليس لجامعة أو شعب حق البت فيها , وأنهم لذلك أنكروا على
حسين بن علي (عجلته والحط من شأنها بقبوله هذا المنصب الذي لا يليق له) .
(وقال) : (إن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب
عرض هذه المسألة على مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلاً صحيحًا)
فهذه تصريحات قطعية في رأي حكومة نجد في استقلال البلاد العربية
استقلالاً صحيحًا مطلقًا من قيود الوصايا والانتداب , التي جناها عليها بيت حسين
الحجازي , ولا يزالون يخدمون حلفاءهم في تمكينها جهارًا , ونصوص لا تحتمل
التأويل بأن أئمة نجد وحكامها يعدون جميع الشعوب الإسلامية إخوانًا لهم , خلافا لما
يفتريه عليهم حسين بن علي وأجراؤه من عدم اعتراف النجدي لأحد بالإسلام غير
الوهابيين.
(الوثيقة الثالثة) ما صرح به السلطان عبد العزيز آل سعود نفسه في
مؤتمر الشورى , الذي عُقِدَ في الرياض عاصمة نجد في أول شهر ذي القعدة
الماضي سنة 1342 , فقد اجتمع هنالك كبار علماء البلاد وزعماؤها , ورؤساء
الأجناد وقوادها في قصر الإمام عبد الرحمن الفيصل والد السلطان الذي حضر
مجلسهم، وكانوا قد كتبوا إلى والده الجليل برغبتهم في أداء ركن الإسلام - الحج -
والاستعداد لغزو ملك الحجاز وصدّ عدوانه , فأخبرهم أنه أرسل مكتوباهم إلى ولده
السلطان في أوقاتها وقال لهم: اسألوه عنها.
فتكلم عنهم سلطان بن مجاد بن حميد زعيم برقا من عتيبة , وأمير هجرة
غطفط قال:
أيها الإمام إننا نريد الحج لا محالة , ولا نستطيع أن نصبر على ترك ركن
من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه , إن مكة ليست ملكًا لأحد , ولا يحق لأحد أن
يمنع مسلمًا أو يصد مؤمنًا عن أداء فريضة الحج , إننا نريد أن نحج فإن منعنا
شريف مكة دخلنا مكة بالقوة , وإن لم يصدنا عن سبيل الله أو يلحق بنا أذى فنحن
نحج ولا شأن لنا به , وإذا كنتم ترون من المصلحة تأخير فريضة الحج فلابد من
غزو الحجاز , وتخليص البيت من سيطرة طاغية مكة الذي أرهق العباد , وضرب
من المكوس والرسوم على قاصدي بيت الله الحرام ما تبرأ منه الشريعة الطاهرة) .
فأجاب السلطان بإحالة الحكم في مسألة الحج على العلماء , فقرروا وجوب
أدائه بالرضا أو القوة إلا أن يكون في ذلك مفسدة راجحة , وسألوه عن ذلك فشرح
لهم ما كان من سعيه للسلام والأمان في الجزيرة , والعيش مع شرفاء مكة بالمحبة
والمودة , وما كان من سعي الشريف حسين؛ لإلقاء الفتن بين النجديين إلى أن قال
ما نصه:
(السلطان عبد العزيز: أيها العلماء والإخوان لقد سعيت من مدة طويلة في
بسط السلام والأمان داخل الجزيرة , فنحن لا نود أن نحارب من يسالمنا , ولا
نمتنع عن من يصافينا , لقد أحببت أن نعيش مع أشراف الحجاز كما يعيش
الجيران على المودة والمحبة , ولكن شريف مكة كما تعلمون يسعى دائمًا
لبث الدسائس وإلقاء بذور الخلاف بين عشائرنا , ولكنه كان دائمًا يبوء بالخسران ,
والله لا يترك الحق يصرعه الباطل , إن شريف مكة قد ورث من أسلافه بغضكم ,
فهو لا يفتأ يطعن في طريقكم السوي وسيرتكم المحمدية , ولا يألوا جهدًا في
الافتراء علينا والطعن على علمائنا , ولكن أهل الحق لا يضرهم من ناوأهم ,
ولينصرنهم الله ما نصروا دينه وظاهروا شريعته) .
(إن شريف مكة لم يكفه ادعاؤه الزعامة على العرب مع أنه أضعفهم , بل
قام يلقب نفسه بإمارة المؤمنين , مع أنه يعلم أن الأقطار الإسلامية كلها تبغضه ,
وأن علماءكم قد أرسلوا التلغرافات إلى مصر والهند , ينكرون عليه هذه الدعوى التي
لا نراه كفوًا لها , ولابد من وضع حد لأكاذيبه وإفساداته) .
(وأما الحج هذه السنة فلا أراه من مصلحتكم , أنا لا أقبل أن تحجوا وبكم
شيء من الضعف , أو يلحق بكم نوع من الأذى والضرر , وإني على يقين أن أخذ
مكة والمدينة لا يحتاج إلى أكبر مجهود , ولكن مكة ليست لنا وحدنا بل هي
للمسلمين كافة , وما دمنا لم نضع خطة بالاشتراك مع المسلمين , فأنا لا أجيز لكم
الاستيلاء على إحدى المدن المقدسة) .
(إن شريف مكة قد لا يمنعكم من الدخول إلى مكة , ولكن الرجل لا يعدم
وسائل الشر , فقد يدس من يتحرش بكم؛ لتحدث فتنة في مكة في موسم الحج
وفيه المسلمون من كل جنس , وإني أكاد أجزم أن هذه خير فرصة له؛ ليهيج علينا
العالم الإسلامي الذي أخذ يفهمنا ويقترب منا ونقترب منه , واعلموا أن الأمر لا
يطول فاصبروا إن الله مع الصابرين) .
عندئذ قال العلماء بصوت واضح: إنه لا حرج عليكم من تأخير الفريضة هذا
العام , مادام أن أدائها قد يؤدي إلى فتنة في بلد الله الحرام. اهـ
فهذا نص قطعي رسمي من سلطان نجد في مجلس الشورى العام لبلاده في
الحامل له على إنقاذ الحجاز من هذه الحكومة الطاغوتية القيصرية؛ المسماة
بالعربية الهاشمية , لا تحتمل التأويل ولا الدعاية السياسية التي لا تعرف في تلك
البلاد , ولو في غير ذلك المجلس الرسمي , ولقد صبر سلطان نجد صبرًا لم يعهد
له نظير من قوي يُعْتَدَى عليه جميع أنواع الاعتداء الدينية والدنيوية , من ضعف
عاجز يصول ويبغي سرًّا وجهرًا , حتى يتجرأ على مطالبة هذا القوي في مؤتمر
الكويت بأن يترك لأمره جُلَّ مملكته - أعني إقليم الإحساء الذي استرده سلطان نجد
من الدولة العثمانية - وإمارة آل رشيد الذين ناصبوا بلاده العداء حتى انتزعوها من
والده بمساعدة الدولة , ثم أدال الله له منه - وإمارة عسير التي استولى عليها
بالاتفاق الذي عقد بينه وبين المرحوم السيد الإدريسي؛ وتربة والخرمة المختلف
عليهما بين حدود الحجاز ونجد , ورضي ابن مسعود باستفتاء أهلهما.
ملخص ما تقدم: إن سلطان نجد قد علم هو وأمته بعد التروي واستفتاء
العلماء أن إنقاذ الحرمين الشريفين من حسين بن علي واجب شرعًا , ولو لم يكن
لذلك من موجب إلا منع أهل نجد من الحج لكفى , فكيف إذا أضيف إلى ذلك سائر
ما أشرنا إليه فيما أجملناه في الأهرام , وفصلناه في المنار من إلحاده بالظلم لأهل
الحرمين والحجاز , وإدخاله للنفوذ الأجنبي للبلاد , وخطره على الأمة العربية وما
بقي لها من البقعة الصغيرة المستقلة في جزيرتها , وتكفيره للترك وللمصريين
كالنجديين , ثم تنحله منصب الخلافة.
وفي تصريح السلطان عبد العزيز نص قطعي باعترافه هو وعلماء بلاده
بإسلام جميع الشعوب الإسلامية , والرغبة في التعارف والتواد معها , وبأن هؤلاء
الأمراء الحجازيين ورثوا عن سلفهم تكفير النجديين والطعن فيهم والتنفير منهم.
وقد استفتينا واستفتي غيرنا في شأن هذا الباغي (الملك حسين) في سنة
1341 , فأتى بعض علماء الأزهر بأنه من البغاة المتغلبين الذين يجب قتالهم على
إمام المسلمين , وكتبنا نحن فتوى مطولة نشرناها في المنار الذي صدر في ذي
الحجة من تلك السنة (ج8 م 24 ص 593 - ص 616) , ونشرناها في جريدة
الأهرام أيضًا , أجملنا فيها صفاته وجناياته التي يقتضي بعضها الردة إلا أن يوجد
ما يدفعها من شبهة , وأقلها البغي والإلحاد والظلم في الحرم؛ إلى آخر ما لخصناه
في هذه المقالات , ولكننا استدركنا على من جعل حكمه حكم البغاة متسائلين: أين
إمام المسلمين الأعظم الذي يجب عليه قتاله؟
ثم بينا أن إنقاذ الحرمين من بغيه وظلمه يجب على كل من يقدر عليه من
جماعات المسلمين وأمراءهم , وأن أقدرهم على ذلك سلطان نجد , وإمام اليمن ,
وذكرنا ما يقال في المانع المشترك لهما من ذلك، وهو الخوف أن يفضي إلى تدخل
الإنكليز في الحجاز؛ لأنه جعله تحت حمايتهم؛ وقد ثبت هذا بدعوته هو وخلفه
المخذول لهم , واستنجادهما إياهم؛ لإرسال طيّاراتهم وغيرها , لقتال سلطان نجد
وإرجاعه عن الحجاز؛ وذكرنا أنه لا يرجى من إمام اليمن أن ينقذ الحجاز؛ وما
كان يقول أكثر الناس في مثل مصر وسورية من سبب امتناع ابن مسعود عن
الاستيلاء على الحجاز , وهو اصطناع الإنكليز له بالمال وتخويفهم إياه من تأليب
الحجاز والعراق وعرب فلسطين عليه إذا هو خالف رأيهم في ذلك , وقولهم: إنهم
هم الذين صرفوه عن أخذ مكة بعد سحقه لأعظم قوة ساقها عليه الحجاز بقيادة الأمير
عبد الله في تربة؛ ومن المعلوم أن سبب هذه الآراء دعاية الحجازيين وأقوال
جرائدهم المأجورة.
ثم ذكرنا أقوال النجديين في سبب ذلك وهي ترجع إلى سببين (أحدهما) :
كراهة السلطان عبد العزيز آل سعود لسفك الدماء وحبه للسلم , وأنه لذلك أخضع
آل الرشيد بالحصار الطويل في أشد أيام العسرة والغلاء. (وثانيهما) : تحرجه
وتأثمه من دخول مكة فاتحًا , وقد صح في الحديث أن القتال فيها لا يحل لأحد ,
حتى قال بعض العلماء: إن أفراد الجناة الذين يثبت شرعًا وجوب قصاصهم يجب
أن يقتلوا خارج الحرم.
ثم ذكرنا أقوال الأئمة وكبار العلماء في مسألة القتل والقتال في الحرم , وأن
الشريف حسينًا لم يبال بحرمة الحرم فقاتل الترك فيه , ولا يزال يقتل كل من يزين
له هواه قتله , ويسمي فعله حدًّا شرعيًّا , وأنّ المخرج من ذلك سهل , وهو كما قال
بعض العلماء: أنْ تحصر شقة الحرم وهي محدودة حتى يضطر المعتصم فيه إلى
التسليم؛ وقد فعل ذلك الوهابية عند الاستيلاء على الحجاز في فجر القرن
الثالث عشر للهجرة , فحصروا الشريف غالبًا وأعوانه , وقطعوا عنهم ماء عين
زبيدة , حتى اضطروا إلى التسليم , ودخل الوهابيون مكة محرمين.
وبذلك عللنا تأخرهم عن فتح مكة في هذه المرة على اختلاف أهواء الكتاب
وآرائهم في تعليله , وإرجاف أجراء الوكالة العربية الهاشمية الملكية الإمامية الخلفية
[13] بمصر في هذه الفرصة تارة بأنهم عادوا أدراجهم مخذولين , وتارة بانتظارهم
للإشارة المطاعة أن ترد عليهم من لندن كانتظار الملك الخليفة حسين أولاً , وانتظار
الملك علي النيابي الدستوري المدني ثانيًا.
وإنا لنعجب أن صدق هذه الفرية بعض المصريين العارفين بالشؤون العامة ,
وسيعلمون أن الإنكليز يعدون نجاح الوهابية أكبر الأخطار على مطامعهم في العرب
والإسلام.
كذلك سوغت لهم هذه الفرصة تكبير أمر هذا القتال , بإيهام الناس أنه من
أعظم الحروب تسيل فيه الدماء أنهارًا في المعارك التي تشيب لهولها الولدان وتمثيل
الوهابية للناس في صور السباع الضارية والوحوش المفترسة , تبقر البطون ,
وتدق الصدور , وتمزق الأشلاء , وتلغ في الدماء , وما حجتهم على ذلك إلا البرقية
التي طيرها مسليمة الزمان حسين إلى جميع بقاع الأرض بإمضاء؛ بل أسماء
مجهولة من سكان مكة وحجاجها , وأنفق الألوف عليها , والحق الواقع أنه لم يكن
ثَمَّ إلا مناوشات ضئيلة مرتين أو ثلاثًا , ولولا بعض اليمانيين وغيرهم في جيش
الحجاز لَمَا وقع شيء من ذلك يذكر؛ لأن أهل الحجاز مجمعون على مقت
الطاغوت المرهق الذي سمى نفسه المنقذ , وما زالوا يدعون الله بإنقاذهم منه حتى
استجاب لهم.
وقد بنى على هذه الأراجيف الخاطئة الكاذبة الدعوة إلى استصراخ أمم الشرق
والغرب من جميع الملل والنحل , إلى التعاون والسعي؛ لإنقاذ البشر من هذه
الكارثة التي تصغر دون وقائعها معركة (فردون) وغيرها من معارك حرب
المدنية العظمى , وإنما الغرض من ذلك إبقاء حكم الطاغوت الأكبر في حرم الله
تعالى , يرهق أهله ومن يرد إليه من الحجاج ظلمًا , ويميت الألوف منهم ظمأً إلخ.
وقد انخدع بهذه الأراجيف مجلس الأمور الشرعية المحلية بفلسطين المسمى
بالمجلس الإسلامي الأعلى , فطير البرقيات إلى ملوك المسلمين وجمعياتهم الدينية
وغيرها , يستصرخهم للتعاون على إيقاف هذه الحرب حقنًا للدماء … وكذلك جمعية
الرابطة الشرقية التي رددت صدى هذا المجلس في جلسة لم تبلغني دعوتها إلا بعد
اجتماعها , ولا شك في حسن نية المجلس والجمعية , ولو صدقت أراجيف الحجاز
لكنت على رأي إخواني فيهما , فأنا وكيل هذه الجمعية وأعضاء المجلس كلهم
محترمون عندي , ورئسهم من خواص أصدقائي ومن أقرب الناس إلى رأيي.
قد طالت هذه المقالة , وكنا نريد ختم هذه المقالات بها , ولكن علمنا بعد كتابتها
وقبل نشرها أن الله تعالى قد قضى على الطاغوت الأكبر مثار الشقاق والنفاق حسين
ابن علي , وأنقذ الحجاز منه , فخرج من جدة مذؤومًا مدحورًا ولو بقي فيه ولو بعد
عزله لما أمنت شره , وسينقذه قريبًا من ولده وولي عهده وخليفته الملك علي
المهزوم المدحور , الذي لم يكد يسمى ملكًا للحجاز بعد انهزامه من الطائف أولاً
ومن الهدى ثانيًّا ومن كرى ثالثًا , حتى أبرق إلى وكيل والده ناجي الأصيل بأن
يمضي المعاهدة البريطانية الحجازية المتضمنة لإقرار الإنكليز على السيادة على
البلاد المقدسة , وتمليك رقبتها لليهود الصهيونيين , وإعطاء البريطانيين من
الحقوق في الحجاز ما قامت قيامة العالم الإسلامي على والده من أجله.
وإن لنا كلمة ختامية فيما يجب على المسلمين للحجاز وأخرى في السياسة
البريطانية مع العرب في هذا الطور الجديد.
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
خاس يخيس خيسًا كذب - وخاس بالعهد خيسًا وخيسانًا غدر ونكث.
(1) الصواب أن يقال: الحق لأنه مصدر يوصف به المذكر والمؤنث , والمفرد والجمع على سواء.
(2) الصواب أن يقال: استبدال بعض البلاد الهندية بالبصرة: أي يأخذوها بدلاً من البصرة التي قاتلوا أهلها للاستيلاء عليها , وأعانهم بعض العرب على بعض، فإن الباء تقرن بالمبدل منه {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ} (البقرة: 108) الخ.
(3) كان السيد - رحمه الله - على سعة مادته في اللغة العربية يعرف بعض الأعلام بلا مسوغ , فيقول: الإيران الأوربة , ويظهر ذلك في قلمه أحيانًا ككثير من الأعاجم.
(4) ضبط تارة ربخت بفتح فكسر فسكون , وأخرى رنجت بالنون والجيم، وضبط سنك بكسر السين المهملة وسكون النون.
(5) يعنى: الذين قاموا بالثورة الهندية الكبرى المشهورة.
(6) وأعجب من ذلك أنهم بعد اتساع دائرة العلم والعرفان فيهم , وسعي عقلائهم إلى التعاون بين المختلفين في الملل والنحل منهم؛ لرفع نير العبودية عن أعناق الجميع , تمكن الإنكليز بعد نجاح أولئك العماء من التفريق بينهم وإضرام نيران التعصب والشقاق الديني فيهم! ! فإلى متى إلى متى؟.
(*) نشرناها في الجزء الثاني من مجلة مؤتمر الخلافة بمصر.
(**) المنار: نشرت هذه المقالة في الأهرام في 8 ربيع الأول , وكانت أخبار الحجاز قد جاءتنا بأنه استقال أو خلعه حزب تألف من كبراء أهل جدة ومن هاجر إليها من مكة , ونصب ولي عهده عليا ملكًا دستوريا للحجاز وحده , ثم تبين أن ذلك كان خداعا كما سنبينه بعد.
(7) الصواب: منفصل بعضها عن بعض.
(8) الصواب فيما بينها.
(9) أي توليته إمارة الحجاز.
(10) يقال: وقع بالعدو وأوقع به؛ أي: فتك به في القتال، وواقعه: قاتله.
(11) أي أكدوا جزم كاذبًا.
(***) لما فتح الوهابيون الطائف , أرسل الملك حسين برقية طويلة من مكة باسم بعض أهلها وألوف الحجاج من رعايا الأجانب فيها إلى قناصل الدول بجدة , وإلى جمعية الأمم بسويسرة , وعواصم أوربة وجرائدها , وأشهر مدن الشرق والغرب وجرائدها , يزعم فيها أن الوهابيين اقترفوا أعظم الفظائع والمنكرات , ثم ظهر كذب البرقية من وجوه متعددة , وأن الذين سبقوا إلى احتلال الطائف كانوا من عرب الحجاز التابعين لنجد لا من النجديين , وأن النجديين لما وصلوا إلى الطائف انتظمت الأمور فيها كأنها لم تُصْلَ بنار حربٍ.
(12) وهو الذي وردت البرقيات قبل نشر هذه المقالة بنصبه ملكًا على الحجاز , وهو أعجز من والده عن إرادته وحفظ الأمن فيه.
(****) تواطأ ملك الحجاز حسين هو وابناه فيصل ملك العراق وعبد الله أمير شرق الأردن على أن يشترطا في اتفاقهما مع سلطان نجد على الحدود وغيرها الاتفاق على حدود الحجاز ومطالبه، وصرحوا بأن منها ترك سلطان نجد لبلاد حايل وللجوف وسكاكه من بلاده المتصلة بسورية , وللخرمة وتربة من جهة الحجاز , ولعسير؛ ولذلك فشل مؤتمر الصلح.
(13) الخلفية بالتحريك: نسبة إلى كلمة الخليفة.(25/593)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار بين الروافض والنواصب
ذكرت رصيفتنا مجلة العرفان الشيعية الغرَّاء أن في جزائر جاوه نواصب
تنصرهم وتؤيدهم مجلة المنار- أو ما هذا معناه.
لا أجد سعة في الوقت أبحث فيها عن الجزء الذي ذُكِرَ فيه هذا المعنى ولا
حاجة إلى نقله بحروفه , وكنت نسيته فذكرني به ما كتب إليَّ أخيرًا من تلك البلاد
من الانتقاد والعتاب على ما نشرت في المنار من الثناء على إمام اليمن وتعظيم شأن
اليمانيين في مباحث الخلافة مما عُدَّ دعاية له , وتأييدًا لدعاة النزعة الشيعية في تلك
الجزائر وتقوية لضعفها؛ حتى قال بعضهم: إنا لا نلومكم على التعصب لنسبكم ,
ولا يعنينا من إمام اليمن كونه زيديًّا أو غير زيدي , وإنما نبغي مصلحة المسلمين
والعرب , وأهل اليمن ليسوا أهلاً للقيام بها.
أنا لا أذكر الآن هذا ولا ذاك للرد عليه , فإن الجدال والمراء في المذاهب
ونصر بعض الأحزاب والشيع الدينية - وكذا السياسية - على بعض لم يأت في يوم
من الأيام بإقناع , بل أتى بشرور كثيرة أفسدت على أهلها - ولاسيما المسلمين - منهم
دينهم ودنياهم؛ إذ خرجوا بها عن وحدة الدين العامة , وصدق على مثيري فتنة
التفريق وأتباعهم قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) الآية؛ فظلوا يتعادون
ويشاق بعضهم بعضًا؛ لأجل منافع بعض الزعماء الذين يطلبون الملك أو الجاه بهذه
الوسيلة؛ ولما ضعفت العصبية الدينية والمذهبية بالتبع لأهلهما في بعض البلاد ,
انتقلوا منها إلى العصبية الجنسية والوطنية , فحاربوا بها الدين نفسه , وقد كان هذا
غرضًا مقصودًا بالذات لبعض اليهود ومجوس الفرس الذين أحدثوا بدعة التشيع
والأحزاب العدائية في الإسلام , والذي يساوي بين الأجناس والأوطان والطبقات
والأفراد في جميع الأحكام , وجعل التفاضل بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة؛
لإصلاح الإنسانية العامة وإيجاد التآخي البشري , ورفع مرتبة البشر عن عبادة
بعضهم لبعض بنصوص القرآن المحكمة؛ فنحن نحارب هذا التفرق والعداء ,
وندعو إلى الوحدة والاتفاق , والشواهد على هذا في جميع مجلدات المنار كثيرة لا
يمكن لأحد أن يماري فيها مراءً ظاهرًا , وأما مسألة دعوة التشيع في جزائر جاوه
فهاك نبأها وخطتنا فيها:
كنا ذكرنا في أجزاء من مجلدات المنار السابقة أنه حدث في تلك الجزائر
الشرقية الجنوبية دعوة تشيع بين الحضارمة وغيرهم من العرب , أحدثت شقاقًا
جديدًا , ولم ندر غرض الدعاة منها , فقد كان جميع مسلمي تلك البلاد من عرب
وعجم يجلون السادة العلويين ويوقرونهم , - والفريقان ينسبان إلى مذهب الإمام
الشافعي - رضي الله عنه- فصار لهم بها خصوم ينكرون عليهم؛ لا نواصب
يبغضون عليًّا - كرم الله وجه - وقد جاءتني رسائل كثيرة من الفريقين بعضها
مخطوط وبعضها مطبوع , يطلبون مني نشرها في المنار , وأسئلة يستفتونني بها
فيما شجر بينهم , فكنت أهمل بعضها وأقف موقف المصلح فيما أنشر منها , وما
أكاتب به أهلها , وأحببت أن أقف على قصد الذين أحدثوا هذه الدعوة ماذا يريدون
منها؟ أهو ما عهد منذ القرون الأولى من فتنة الإمامة الدنيوية الظاهرة أو الإمامة
الدينية الباطنة معصومتين أو غير معصومتين؟ أم ثَمَّ قصد جديد يناسب هذا
العصر , أم مجرد استعلاء السادة العلويين على غيرهم، وإن كانوا يفوقونهم في
علومهم وفضائلهم؟ بحثت وتساءلت فلم أقف على كنه الحقيقة كلها , وكنت
اقترحت أن نترك هذه الدعاية الجدلية التي أرجح أنها ستنتهي بشر مما ظهر من
إنتاجها ضد ما يريد دعاتها , وأن يستبدل بها دعوة إلى جمع رأس مال كبير؛
لإنشاء معاهد للتربية والتعليم خاصة بأولاد السادة العلويين في جميع الأقطار ,
يعلمون فيها التعليم العالي من ديني ودنيوي مع التربية الفضلى ليكونوا قدوة للناس
بحق , وينهضوا بهذه الأمة النهضة التي تقتضيها حال العصر , فيكون منهم
الأخصائيون في العلوم والفنون المختلفة , والدفاع عن الإسلام وجمع كلمة المسلمين ,
وليستعينوا بها على كسب رزقهم من أشرف الطرق؛ فلم تلق نصيحتي سميعًا
مجيبًا , وإن استحسنها بعضهم بالقول فقط , وقد كنت بهذه الدعوة أَبَرُّ بسلالة
أجدادنا مما دعوا الناس إلى عبادة بعضهم والغلو القريب من العبادة في بعض ,
وإلى جعلهم خلفاء في الأرض؛ إذ كان واضعو تلك الدعوة من زنادقة اليهود
والمجوس أصدق أصدقائهم في الظاهر , وأعدى أعدائهم وأعداء جدهم وقومه ودينه
في الباطن.
فأما اليهود من مبتدعي تلك الدعوة؛ كالسبائيين، فقد حملهم عليها حسدهم
للرسول صلى الله عليه وسلم ولقومه , أن يكون منهم خاتم النبيين الذي بَشَّر به
موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل؛ ثم حقدهم على الرسول لنصر الله إياه على
يهود مدينته وما يقرب منها , وعلى عمر بن الخطاب الخليفة الثاني؛ لإجلاء قومهم
عن جزيرة العرب كلها , على أنهم رأوا بعد ذلك من عدل العرب في سورية ثم في
الأندلس وغيرهما ما أنساهم ذلك الحقد , وجعلهم أنصارًا للمسلمين على النصارى
الظالمين لهم؛ إذ لم يروا بعد ذهاب ملكهم عدلاً وإحسانًا إلا من المسلمين , وما
سبب مكانتهم في بعض دول أوربة الكبرى في القرون الأخيرة إلا انتصارهم
بالدهاء والكيد على الحكومات الدينية فيها وثل عروشها , واستبدال حكومات مدنية
مادية بها , لا يقدر أن يفوق اليهود أحد فيها , وقد أعاد الإنكليز العداوة بينهم وبين
العرب في هذا العصر.
وأما المجوس من الفرس فأصروا على الكيد للعرب والإسلام , حتى غلبهم
الإسلام على أمرهم , ولم يبق للمجوسية شأن قوي في شيء من بلادهم , وظهر أن
تعصبهم الظاهر للعلويين كان نفاقًا ومكرًا منهم , فإنهم حوّلوا عصبيتهم عن
العلويين إلى العباسيين لمَّا وُجِدَ من طلاب الخلافة في هؤلاء مَن يعرف كيف
يسخر تلك العصبية , ثم وجد في إيران ملك مستقل , ولم يكن لأهل البيت فيه
شيء من السلطان والحكم على استقرار تعاليم الشيعة وصيرورتها مذهبًا دينيًّا , بعد
أن كانت لديهم حزبًا خداعًا سياسيًّا , بل فضلوا جعل الملك في سلالة من الأعاجم
الذين عادوا قومهم وقاتلوهم؛ لأجل التشيع على جعله في السلالة العلوية الفاطمية
المحمدية.
وكانت عاقبة ذلك الغلوّ في التعظيم لآل البيت صرفهم في الأكثر عن تحصيل
الفضائل الذاتية من التفوق في العلم والعرفان , والأعمال الناهضة بالإسلام ,
وصارت الألوف الكثيرة منهم كَلاًّ عن الناس في رزقهم , وأغرب من ذلك كله في
سيرتهم أن تناط إمارة الحجاز ببطن من بطونهم , فتمر القرون ولا يظهر أحد من
أفرادهم يصح أن يسمى مصلحًا في علم ولا عمل ولا حكم؛ بل غلب عليهم الجهل
والظلم في أفضل بقاع الأرض - دع الفسق وأخباره - حتى انتهى الأمر في هذا ,
وكان لهم أسوأ الأثر العصر إلى هذا الرجل الظلاّم (حسين بن علي) الذي اعتمد
على أعدى أعداء الإسلام والعرب في تسمية نفسه ملكًا للعرب وخليفة للمسلمين ,
وكان هو وأولاده مساعدين لهم على فتح بلاد العرب , وتمكين سلطانهم فيها ,
دع شدة ظلمه لأهل الحرمين وحجاج الآفاق كلها.
مع هذا كله يقوم فينا هؤلاء الدعاة؛ للاهتداء بحملة أوراق هذه الأنساب ,
وأنهم كسلفهم الأول قرناء الكتاب , ثم يفتحوا علينا باب الطعن في أهل الصدر
الأول حتى الخلفاء الراشدين منهم، كأبي بكر وعمر الذي يفتخر بعدلهما وفضائلهما
جميع المنصفين من البشر , فقد كان من الرسائل التي لم ننشرها رسالة طبعت في
ذي الحجة الحرام سنة 1339 , حاول كاتبها العلوي العامي إيجاب أخذ الدين عن
العلويين وحدهم , وأن من أخذه عن غيرهم فهو (ضال منافق كائنًا من كان) ,
فيا ضيعة دين يؤخذ عن مثل هذا العامي الجاهل الذي لا يحسن كتابة عبارة
عربية صحيحة؛ بل يا ضيعة دين وأمة يسمى فيها حسين بن علي المكي ملكًا
للعرب وخليفة للمسلمين , وما جعله هو وأولاده ملوكًا إلا الإنجليز!
ومنها رسالة أخرى يهذي مرسلها الجاهل في مسألة غضب السيدة فاطمة
عليها السلام , من أصدق البشر وأخلصهم في حبها وحب أبيها عليه أفضل الصلاة
والسلام صاحبه الأول الثابتة صحبته بنص القرآن , وصديقه الأكبر في إقامة
الإسلام والإيمان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
الجواب عن هذه المسألة ليس بالممتنع الذي تنبو عنه أسنة الألسنة وتكبو في
ميدان بيانه جياد الأقلام , لو كان السائل عنه مُشْتَبَهًا عليه , وكان ينشد الحق فيه
ليعتصم به , فإذا كنا نأخذ بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من مناقب السيدة
ومناقب الصديق معًا , فلا يعز علينا أن نرفع التعارض بين كلامه عليه الصلاة
والسلام فيهما بما يصدق به بعضه بعضًا , ونعذر كلاً منهما بما كان منه باعتقاده
واجتهاده , وأما إذا كنا نقبل بعضه ونرد بعضًا بأهوائنا , كما فعل أعداء الإسلام
المفرقون من قبلنا , فالنتيجة اليوم تكون غير النتيجة بالأمس , غلو يقابل بغلو ,
وردّ يقابل برد , وتجديد شقاق قاتل لجميع المسلمين في إبان هذا الضعف , وإحاطة
الأجانب بهم وبمهد دينهم من البر والبحر.
وقد استتبع الطعن في الصحابة الطعن في حَفَظَةِ السنة ورواتها , ونقادها
وحملتها , وهذا يستتبع الطعن في القرآن الذي تجرأ بعض غلاة الراوفض على
القول بتحريف كلمه عن مواضعه , وبكتمان الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة -
بَرَّأهم الله تعالى - لبعض كلمه وآياته وسوره , التي زعموا أنها نزلت في أهل
البيت - عليهم السلام - وفي ولاية علي - كرم الله وجهه - وإمامته , وقد ألفوا في
ذلك كتابًا طبعوه في طهران , وفيه من الأكاذيب على أئمة أهل البيت - برأهم الله
تعالى وطهرهم - ما يقتضي لو ثبت أنهم أشد الكفار طعنًا بدين جدهم وهدمًا له
(وحاش لله) , ولقد كان زنادقة المجوس واليهود الواضعون لهذه الزندقة يقصدون
بما افتروه عليهم , أن ينسب هدم الإسلام إليهم؛ بل إلى جعل خنقه بأيديهم ,
بإضلالهم لمن أضلوا منهم , ولا سيما إن صح نسب العبيديين وغيرهم من أئمة
الإسماعيلية , ولايزال بعض المخلصين من الشيعة غافلين عن ذلك , ولا غَرْوَ فقد
اغتر مثل الشريف الرضي - رحمه الله تعالى - بالعبيديين ومدح خليفتهم.
نحن واقفون على هذا كله , ولم نفتح بابًا للخوض فيه؛ لأننا نود رتق الفتوق
التي أحدثها في الإسلام أعداؤه من زنادقة الفرس الباطنية وغيرهم لا توسيعها , فقد
آن لنا أن نطهر أمتنا من جراثيم الوباء الذي أفسد به مزاجها من قبلنا , أو لم يكفنا
شبهات ملاحدة هذا العصر , التي كان من تأثيرها دعوة بعض كبراء الترك إلى
ترك الإسلام , ولو إلى عبادة الذئب الأبيض , ودعوة بعض نابتة الفرس إلى
المجوسية الأولى؟ أوليس أولو العلم والبصيرة في الدين مَن بقية أهل البيت
النبوي الكريم أولى من غيرهم بالتجافي عن الغرور بأنفسهم , والتلافي لما أفسد
المحب الغالي والمبغض القالي من أمرهم , وبإصلاح ما أفسد التشيع الديني , ثم
التعصب الجنسي من أمة جدهم؟ مهما تكن المذاهب والتشيع التي نشؤوا فيها؟ بلى
والله، هذا ما نعتقده ولا نقول ولا نكتب ولا نعمل إلا ما نعتقد أنه الحق وفيه الصلاح
والإصلاح , من غير تحامل إلى طائفة , ولا تحيز إلى فئة , ولا تحرف لمذهب.
ونحن نصرح بالاجتهاد والاستقلال المطلق فيما وقع فيه الخلاف بين
المسلمين باختلاف الفهم وتعارض الأدلة , وإن ما كان عليه جماعة المسلمين في
الصدر الأول من أمر الدين هو الحق , وإنَّ إجماعهم فيه حجة , وإن شذوذ بعض
الأفراد لا يُعْتَدّ به , وإن الخطأ في الاجتهاد جائز على كل مجتهد وواقع في كل
مذهب , فلا يعذر أحد بقطع أخوة الإسلام بنصر مذهب على آخر , وندعو الجميع
إلى التحاب والتآخي الديني , الذي تجمعهم فيه العقائد القطعية؛ كوحدانية الله تعالى
ورسالة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم , وكون جميع ما جاء به من القرآن،
وما تواتر عنه من الأحكام حق؛ كالأركان الخمسة , وتحريم الفواحش ما ظهر منها
وما بطن , وإلى أن يعذر بعضهم بعضًا فيما لا قَطْعَ فيه ولا إجماع عليه مما صح
من النقل عند بعضهم دون بعض , وما اختلف فيه الاجتهاد والرأي , فلا يجعلوه
سببًا للاختلاف والتفرق الذي يبغضه الله تعالى وتوعد عليه بأشد الوعيد , بل يتحتم
أن يجعلوه كسائر المسائل العلمية من كونية ولغوية , فذلك أحرى أن تجتمع عليه
كلمتهم , وتتحقق به وحدتهم , وذلك خير لهم في دنياهم وآخرتهم , وكذلك كان
الصالحون من سلفهم.
على هذه الطريقة استقمنا , ولذلك ندعو منذ أسسنا المنار , جرينا في التفسير
والفتاوى الشرعية على الاستقلال المحض , واجتناب التزام شيء من المذاهب
الكلامية والفقهية , وفي المقالات والآراء الاجتماعية والسياسية على النصح
الخالص لجميع الفرق الإسلامية , وهو ما حمده لنا المنصفون من أئمتها وزعمائها
في الأمور الدينية والدنيوية , حتى الذين بينهم أشد الخلاف، كالشيعة , والأباضية
أو أدناه وأهونه، كالسلفيين , والخلفيين من السنية , ولدينا مكتوبات من كبرائهم في
هذا لا يحسن نشرها الآن , وفي تفسير هذا الجزء وما قبله نموذج لمشربنا هذا في
مسألة من أهم المسائل الاعتقادية التي لا يزال الخلاف فيها شديدًا بين المذاهب
الباقية من الطوائف الإسلامية الكبرى إلى الآن وهي ثلاث:
(الأولى السنية) :
ولها في الأصول ثلاثة فروع؛ السلفيون وهم أهل الحديث وهم ثلة في الهند
وقليل في غيرها , والحنابلة ومنهم أهل نجد وأتباعهم في جزيرة العرب ,
والخلفيون وهم الأشاعرة ومنهم المالكية , والشافعية , والماتردية , وهم الحنفية
والخلاف بين هذه الفروع لولا جمود بعض أفرادهم , وتعصبهم لأقوال بعض
الشيوخ , لم يكن بالذي يبقى فأكثره لفظي محض , وباقيه ضرورة لا عقيدة؛
كالتأويل لدفع بعض الشبهات، وما زالت مساجدهم واحدة يقتدي فيها بعضهم ببعض ,
وما أحدث الحكام والأمراء المتأخرون من إقامة عدة جماعات في بعض المساجد ,
حتى المسجد الحرام في وقت واحد لمذاهب الفروع فهو جهل سببه المنافع الدنيوية ,
وهو بدعة مفرقة ظن الجاهلون أن منع الوهابية إياها من المسجد الحرام في هذه الأيام
من شذوذهم.
(الثانية الشيعة) :
وله فرعان كبيران معروفان وبما لهما من دولة وحكومة وهما: الزيدية
والإمامية , وفروع صغيرة ليس لها تأثير كبير في معارضة ما نهتم به وندعو
إليه من جمع الكلمة , وإزالة ما بقي من ضرر الخلاف والتفرقة.
(الثالثة الأباضية) :
وهم المعتدلون من فرق الخوارج , بل رأيت بعض علمائهم يبرئهم منهم ,
ولهم حكومتان سلطانيتان اعتدت الدولة البريطانية على استقلالهما , وانتحلت لنفسها
حمايتهما بالرغم منهما؛ أعني حكومة عمان في أقصى الشرق من جزيرة العرب ,
وحكومة زنجبار في الشرق من أفريقية , وفي شمالها عدد كبير منهم له شأن في
طرابلس والجزائر.
أما المسيحية القاديانية فهي فرقة إسلامية مارقة؛ إذ هي تدّعي وقوع الوحي
لمؤسسها المسيح الدجال ولغيره من خلفائه المضلين , وأما البهائية فقد خرجت عن
كونها من فرق المسلمين , وصارت تصرح بدينها في بلاد الحرية.
نحن نسعى للتأليف بين جميع الطوائف الإسلامية , ونتقي في سعينا كل ما
يخشى أن يحبطه من جدل أو مناقشة في مسائل الخلاف المذهبي بينها وبين
الأخرى , أو في شؤون حكومتها أو أحزابها السياسية , وإنما حملنا تلك الحملة
الشديدة على جمعية الاتحاد والترقي؛ لأنها تصدت لإضعاف الدين الإسلامي نفسه
أو هدمه , ولجعل السيادة في الدولة العثمانية للجنس التركي أو التوراني وحده ,
وكانت الدولة دولتنا , وسياسة هذه الجمعية فيها خطر على ديننا وعلى قومنا
(العرب) وعلى الدولة في جملتها , وقد صرحنا بأنها ستقضي على هذه الدولة
وصح قولنا.
وذلك الباعث الذي دعانا إلى تلك الحملة هو الذي دعانا في هذا العهد إلى
حملة على سياسة الملك حسين وأولاده , فهي أشد خطرًا على ديننا وقومنا العرب
كما بيّنا ذلك بالبراهين في مقالاتنا المثيرة في المنار وغيره , وهم أفراد لا
يتجاوزون عدد أنامل اليد , لا شعب ولا دولة ولا عشيرة ولا أئمة مذهب ولا
زعماء حزب , وقد انفض من حولهم الحزب السياسي الذي كان يؤيدهم , ولولا ما
بقي لهم من الجاه والسلطة الممنوحة لهم من وليتهم (العظمة البريطانية) , ومن
المال المأخوذ منها أو المسلوب من الحجاج , لما بقي أحد يذكرهم بكلمة ثناء ,
ونسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم قبل أن يتم ما نتوقع من خطرهم , وقد نصحنا لهم
وسعينا لإصلاح شأنهم حتى يئسنا منهم.
وكذلك نصحنا لإمام اليمن ولسلطان نجد , ولم نبال بعذل من عذلنا في الأول
لأنه زيدي , ولا في الثاني لأجل لقب وهابي , ونصحنا أيضًا لسلطان مسقط السابق
وهو إباضي , وننصح لخلفه السلطان تيمور إذا سنحت لنا الفرصة , وليقل من شاء
ما شاء ولينبزني المتعصبون بما شاءوا من هذه الألقاب , وسأكون بهذا الجمع ملقبًا
بها كلها ومجردًا منها كلها , (وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ,
وإنما يدهن العلماء والكتاب للجماعات التي ينسبون إليها أو لغيرها من الأحزاب
والشيع والمذاهب , إذا كانوا يعملون ابتغاء الجاه عندها أو المال منها , وأحمد الله
تعالى أنني أعمل ابتغاء مرضاته , وإن سخط من شاء من الجاهلين والجامدين
والمتعصبين قلّوا أو كثروا.
أعيد القول كما بدأته: بأنني مسلم سلفي لا أقلد عالمًا معينًا , ولا أتعصب
لمجتهد معين ولا أعيبه ولا أعيب أتباعه , ولا أدعي تأسيس مذهب جديد , وإنما
أتكلم في المسائل الخلافية بالدليل والأدب مع الجميع اتباعًا لعلماء السلف , كما يرى
القراء في مسألة رؤية الرب تعالى في التفسير , وأرى من أكبر المفاسد الطعن في
طائفة من الطوائف , أو مذهب من المذاهب , أو شعب من الشعوب، وانتقاده ولو
بما فيه من المساوي والعيوب؛ لأن ذلك يغريه بشدة الاستمساك بما عيب به ,
والتعصب لما انتقد عليه , وعداوة العائب , وكل من ينسب إليهم من قومه أو أهل
مذهبه , ففي كل قوم خير وشر , وحق وباطل , وخطأ وصواب , وإذا كنا لا نقول
بعصمة فرد من أهل هذا الزمان , فهل يمكن أن نقول بعصمة طائفة كبيرة؟ وإنما
المصلحة في النصح اتباع قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) .
__________(25/621)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز
(5)
علاوة
(في ظلم الملك حسين وولي عهده الأمير علي في المدينة المنورة)
كتب إلينا ناقد خبير من سكان المدينة المنورة مقالاً طويلاً ذا فصول في ذلك ,
فرأينا من إتمام الموضوع أن نلخصه بما يأتي:
(1) نهبهما للأوقاف الأهلية الخيرية:
لما استولى الشريف حسين على المدينة المنورة بعد هدنة الحرب , كان أول
شيء فعله أن وضع يده على أوقافها حتى الموقوفة على سكان البلاد كوقف المغاربة ,
وهو يحتوي على نخيل وأراضي وبيوت , وكذا وقف الهنود والبخاريين وغيرهم ,
فريع هذه الأوقاف يوضع الآن في الخزينة النبوية , ومنها يرسل إلى خزينة
الشريف في مكة إلى يومنا هذا , وسنذكر بعض الوقائع في مخاصمة بعض
مستحقي هذه الأوقاف للأمير علي والشكوى لوالده.
ولم يكفه هذا كله بل تسلط على الأوقاف الخيرية المحبوسة على الفقراء في
المدينة , وأمر بتحويلها إلى الخزينة النبوية؛ لتصرف في شؤون الحرم مدعيًا أن
المستحقين ليسوا موجودين , والله يعلم أن عدد الفقراء في المدينة المنورة أكثر من
سائر سكانها , ولكن ليس المقصد ذلك , بل هو استيلاء الخزينة على غلة هذه
الأوقاف , واطلاعها على تفرعاتها وريعها , وأن تجمعها وترسلها في صناديق مقفلة
إلى الملك بمكة , وهذه العادة مستمرة إلى يومنا هذا.
(2) نهبهما للحجرة النبوية:
ثم مد يده إلى الحجرة النبوية المعطرة فجردها من جميع ما بقي فيها , بعد أن
أخذ الترك ما أخذوا من جواهرها وذخائرها , وأخذ جميع الأمتعة التي تركها فخري
باشا على ضريح السيدة فاطمة البتول رضي الله عنها , ولولا أن فخري باشا تدارك
الأمر , وأرسل مجوهرات الحجرة الشريفة إلى الآستانة لتَصَرَّف فيها الشريف
حسين , ووضعها في خزائنها مثل بقية الأمتعة.
فمن جملة تصرفه في أموال الحجرة الشريفة أنه أخذ ما ينوف عن عشرة كيلو
(غرام) من الذهب , كان فخري باشا ذوبها وجعلها سبائك , وهو قطع بعض
الأمتعة المكسورة و250 كيلو من الفضة المسبوكة , وكان قد أراد فخري باشا
إرسالها إلى الآستانة مع بقية الأمتعة , فحال دونه قطع المواصلات.
والنقود التي طبعها الشريف حسين في المدة الأخيرة من هذه السبائك ,
ومن جملة الأحوال التي يتأثر بها الإنسان؛ أن الحجرة الشريفة بعد أن كانت
توقد قناديلها كلها من الزيت الرفيع , أصبح يوقد عدد قليل منه بالزيت المكروهة
رائحته , إلا أن أمر بإيقاد شمعتين في الحجرة فقط.
وقد نقل إلى مكة كل ما كان في الخزينة النبوية من جواهر وحلي وأمتعة
موقوفة من أهل البر والإحسان لكل عائلة تريد التحلي بها والتزين في الأعراس ,
مع ما تركه فخري باشا من النقود التي تزيد عن مليون ونصف مليون جنيه من
القراطيس المالية (بانقونوط) , وخمسين ألف جنيهًا عثماني أصلها من أموال
الخزينة وأوقافها , غير مبالٍ بحق الله أو بحق رسوله , أو بحق العباد وحرمان
الفقراء المستحقين من القوت.
(3) نهبه للحرم النبوي الشريف:
أمر الملك حسين ولده الأمير عليًّا والي المدينة المنورة بأن يرسل إليه جميع ما
في الحرم النبوي الشريف زائدًا على فرشه من السجاد والبسط فنقلها إلى مكة شيئًا
فشيئًا , ففرش الملك بها قصره وداره ودوائر أولاده , حتى بيوت عبيده وغلمانه ,
وكل ما يهدى إلى الحرم الشريف من زيت وشمع وعطر وغيرها , يأمر بإرسالها
إليه قبل أن تفتح , وأن يراها أحد , وهو يُخْبَر بكل شيء من هذه الهدايا عند
وصلها , وأكثرها تجيء من الهند.
ولا أعلم أنه أرسل يومًا من الأيام شيئًا إلى الحرم النبوي , بل كلما بلغه أن
هناك هدية قدمت للحرم فقبل أن يخبروه بها هو يرسل في طلبها حالاً , حتى
أصبحت الخزينة النبوية لا تستطيع شراء أقل شيء يحتاجه الحرم ولو (مكنسة) ,
وإذا اطلعت على قيود الخزينة النبوية , ترى أن لها مخصصات تبلغ خمسمائة جنيه
في كل شهر , ربما تتقاضى هذا المبلغ في مدة سنتين , بَيْدَ أن مداخل الخزينة تقدر
بالألوف من الليرات , فإيرادات الحرم النبوي في الحالة الحاضرة ليست بقليلة؛ بل
هي تقوم بجميع ما يحتاجه إليه مع رواتب مأموريه , ولكن الشريف لا يرضيه ذلك ,
ولا يهمه إلا تكديس الذهب الأحمر في خزائنه , وهو لا يصرف لخدمة الحرم من
أئمة وخطباء ومؤذنين وأغوات وغيرهم إلا نصف المرتب , ولكن في كل ثلاثة
أشهر مرة , ثم إنه يعطيه بدل الجنيه الإفرنجي ستة ريالات مجيدية , وإنما سعره
في الخارج يساوي 14 مجيديًّا , وهو لا يدفع لهم مرتباتهم إلا قطع فضة , وكذلك
بقية عمال حكومته؛ لأنه يحتكر الذهب لنفسه.
وقد بلغ الحرم في الحالة الحاضرة إلى حالة سيئة؛ لإهمال ترميمه في كل
سنة حسب العادة , يقال: إن ترميمه في الحالة الراهنة يحتاج إلى مصرف قدره
خمسة آلاف جنيه وزيادة ليعود كما كان.
ولولا مساعدة أرباب الغيرة من المسلمين , وبذلهم ما في إمكانهم؛ لشراء
(البوية الخضراء) وجلبها من مصر؛ لأجل طلاء القبة الشريفة لأصبحت القبة
غبراء , وكذلك بقية ملزمة الحرم التي ترسل تارة من إخواننا المصريين والهنود
وغيرهم.
(4) إن بعض أغنياء الهنود يبذلون كثيرًا من الهدايا والصدقات لأهل
المدينة في أثناء زيارتهم , وذلك يسوء الملك جدًّا , فيتوسل جواسيسه وأعوانه بما
يعلم أهل المدينة من مساءته إلى مشاركتهم في هذه الصدقات والهدايا وإلا أخبروه
بها , وفي رمضان الماضي زار المدينة المنورة ملك (جترال) واسمه شجاع الملك ,
وأقام فيها خمسين يومًا , فبذل كثيرًا من الصدقات على جميع الأهالي من طعام
ولباس وفلوس حتى رجال الحكومة عمومًا , فكان كل يوم يدعو جماعة من الدوائر
للإفطار في رمضان , ووسع على بعض علماء المدينة الذين عرفهم , وكانت نفقاته
اليومية تقدر على الأقل بخمسين جنيهًا , ماعدا العطايا التي كان يبذلها لخدمة
الحجرة المعطرة , والحرم الشريف , ومؤذنيه , وخطبائه , وأئمته , والسقاة
والبوابين إلخ , فلما بلغ الأمر إلى الشريف الحسين , وكان أمر بمراعاته وخدمته ,
أخذ يضيّق عليه بطرق أزعجته وأضرّت بكثير من الناس , فقد أمر بمنع الأهالي
من زيارته حتى العلماء والفقراء إلا بإذن من الحكومة , فكانوا يمنعونهم جهرًا
ويهينونهم [1] فأدرك الملك المشار إليه ذلك؛ فحزن ووعد بأن يساعدهم من بلاده ,
ويتحرى أن لا يصيبهم من مساعدته ضرر , وقد أرسل الشريف حسين إليه من
يبلّغه شكره , ويقول له: إن المطعم الهاشمي يكفي فقراء المدينة حاجتهم.
(5) وأما خبر المطعم الهاشمي فهو أنه لما امتنعت التكية المصرية في
المدينة المنورة من إعانة الفقراء من جراء الخلاف بين الحكومتين الهاشمية
والمصرية , أمر الشريف حسين بإنشاء مطعم يغنيهم عن إعانة التكية , وأمر تجار
المدينة بأن تقوم بجميع نفقاته , فقاموا بذلك ظانين أن الحكومة تعطيهم ما ينفقونه ,
فلما طال الزمان ولم يروا منها شيئًا ,علموا أن هذا من جملة الغرامات التي تلقيها
على رقابهم , فقصروا , واختل نظام المطعم , وأصبح يطعم يومًا ويمنع أيامًا ,
ويعطي أقل ما ينفقه للفقراء وأكثره لرجال الحكومة الهاشمية وجواسيسها وعبيدها؛
ليشهدوا لهم عند من لا يقبل شهادة غيرهم.
أي الرجلين أظلم حسين بن علي أم علي بن حسين؟
(6) لأهالي المدينة المنورة أوقاف كثيرة , بعضها موقوف على بعض
العائلات بموجب فرمانات وحجج شرعية , فلما نهق الشريف حسين نهقته
المشهورة بإبادة العالم الإسلامي , ودخل المدينة المنورة بعد الحرب , وضع يده
على المباني الأميرية , وعلى الأوقاف العائدة لأهاليها الحاضرين بالمدينة المنورة ,
فحول ريعها إلى خزينته , كما تقدم غير مبالٍ بالمستحقين فيها من أيتام وأرامل
وغيرهم , وهو يعلم أنه ليس لهم من دونها أقل دخل يعتمدون عليه في تدبير
معيشتهم , وقد ظن بعض الناس أن هذا خطأ , فقام بعضهم بواجب الدفاع عن
حقوق بعض العائلات التي أُدخلت أراضيهم ودكاكينهم في الأوقاف الأميرية ,
وعرضوا الفرمانات والحجج الشرعية التي تثبت أن الوقف أهلي له مستحقون ,
فتلقى الأمير علي أمير المدينة المنورة هذه الحجج والمستندات بغاية الغضب
والاشمئزاز , وأخذ يتدبر في حل المشكل , فأوعز إلى قاضي المدينة بتشكيل هيئة
تدقق الحجج وتنهي المسألة على حسب مرغوبه في الباطن , فقامت الهيئة بالعمل
فاتضح الحق: كالشمس في رابعة النهار , ولكن المخلصين من رجال الهيئة لم
يمكنهم المجاهرة بالحق , ففوضوا الرأي (لمولانا) القاضي لأن يحكم بما أنزل الله ,
فحكم بما أنزله الأمير علي بقوله: للحكومة حق فيها من حيث إن أصل الأراضي
أميرية , وقد تبرعت بها الحكومة التركية على بعض الأهالي , وبما أن القوانين
التركية لا يعمل بها في الحكومة الهاشمية فلا عبرة بحججها ولا بغيرها.
وأتى بنص أخرجه من كتب الزنادقة (كذا) أيد به رأيه , فعارضه بعض
الأعضاء ببطلان نصه وإثبات صحة الوقف شرعًا ونفاذه. ولكن الأمير عليًّا أخذ
بقول القاضي؛ وكتمت المسألة حتى جاء والده المدينة زائرًا قبل سفره إلى شرق
الأردن , فرفعوا الأمر إليه , فأمر بتأليف لجنة للنظر في القضية , فقال له الأمير
علي: إن اللجنة تشكلت وحكمت , والتفت إلى الشاكين وهددهم بقوله: سأناقشكم
الحساب , فقال الملك: أي حساب يا ولدي؟ شكل اللجنة ثانية؛ واعتذر هو
للشاكين بأنه زائر ما جاء ليحكم , وإن في ولده الغنى عن حكمه , وإنه لولا حبه
إياهم لما ترك عندهم أعز أولاده في وقت هو محتاج إليه فيه , (قال) : فأرجو
مساعدته وحفظه , وما هو إلا أمانة مودعة عندكم , فراعوا حقها وواجبها فإني
أوصيكم به خيرًا.
(7) كان صدر أمر الأمير علي بأخذ العشور عن كل ما يباع في أسواق
المدينة من صنف الخضر والفواكه التي تزرع في نفس البلاد , فكان هذا الأمر ساء
زراع أهل المدينة مع مخالفته لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله ما
تأويله: (لا يؤخذ عن سوقنا هذه شيء , ولما هو مكتوب على باب السلام من
ثلاثمائة سنة سوق المدينة المنورة معفي من أداء العشور) فعرضت على الملك
حسين وهو في المدينة , فسأل ولده الأمير عليًّا عن صحة ذلك فأجابه في حضرة
المدعين: بأنه لم يأخذ باسم العشور , وإنما أخذ باسم الزكاة وفقًا لأصول مكة ,
فسأل الملك الحاضرين ما قولكم؟ فأجابوه: إننا تؤخذ منا الزكاة وتؤخذ منا العشور
وما نحن بكاذبين أمام صاحب الجلالة , فسكت قليلاً وقال: أنا أمرت ألا تؤخذ
عشور من المدينة , فما سافر الملك حسين حتى ازدادت قيمة العشور فوق ما
كانت اهـ. [2]
خاتمة الخطاب والغرض منه:
إن مجموع ما أثبتناه في هذا الخطاب يوجب وجوبًا كفائيًّا على من علم به من
المسلمين أن يسعوا لإنقاذ الحرمين الشريفين وأهلهما من ظلم هذا الطاغوت وظلم
أولاده , وتأمين أهلهما ومن يقصدهما للنسك أو غيره على نفسه وشرفه وماله ,
ومنع الغرامات والضرائب والظمأ القاتل والغلاء الفاحش منهما , بتغيير شكل
حكومتهما , ومنع نفوذ حسين وأولاده أن يعود إليها , ثم السعي لإعلاء شأنهما بالعلم
والعمران.
فأما القادرون على إزالة هذه المنكرات بأيديهم: كأمراء جزيرة العرب وأئمتها
فهم المسؤولون قبل كل أحد عن القيام بهذه الفريضة بالتعاون أو الانفراد , فأيهم قام
بها يسقط بعمله الإثم عن الباقين وسائر المسلمين.
وقد كنا أفتينا بهذا من قبل , وطالبنا هؤلاء الأمراء بهذا الواجب في السر
والجهر , وبينا لهم أن ما كانوا يخشونه من تدخل الأجانب غير المسلمين في أمر
الحجاز بدعوة حسين , ولا سيما من ناط بهم أمر حمايته , مخالف لتقاليدهم
السياسية إلا أن يكون بالدسائس السرية , وهي لا خطر فيها , ولا تسقط الفريضة
بها.
وأما الأفراد الذين لا يملكون من القوة ما ينقذون به الحرمين وإصلاح شأنهما ,
فيمكنهم نصيحة القادرين , والتعاون على العمل بوضع نظام للعاملين , وقد تألفت
لذلك جمعية خاصة باسم (جمعية السلم العام , في بلد الله الحرام) .
ونحمد الله تعالى أننا قبل ختم هذا الخطاب الذي أبطأنا في نشره علمنا أنه تعالى
قد وفق عبد العزيز آل سعود إمام نجد وملحقاتها للقيام بما كان يجب على أولي
الاستطاعة كافة - وجوب كفاية - من إنقاذ الحجاز من هذا الظالم وأولاده , وقد
نصره الله نصرًا عزيزًا فاستولى على مكة المكرمة , وخر حسين بن علي عن
عرش ملك العرب والخلافة العظمى , اللذين تنحلهما بالباطل , وفر منهزمًا من
الحجاز مشيعًا من قومه بمقتهم له وسخطهم ودعائهم عليه , بأن لا يريه الله خيرًا ,
ولأنفسهم بأن لا يريهم له وجهًا , فظننا أن قد حصل الغرض من الخطاب قبل
تمام نشره , ولكن إبطاء جند السلطان ابن السعود المؤلف من عرب الحجاز وعرب
نجد في إنقاذ مكة , وقطع طريق جدة والاستيلاء عليها مكّنه من نقل ألوفِ ألوفٍ
من الدنانير الذهبية الإنكليزية والجنيهات المصرية الورقية (الأنواط) , وسبائك
الذهب والفضة التي نهبها من المدينة المنورة , وما لا يحصى من الذخائر
والجواهر.
سيرة حسين بعد فراره من الحجاز:
إنه قد شحن سفينتين من البواخر التي كان ابتاعها للتجارة , مما ذكر من
الأموال والأثاث والرياش الذي كان في داره وفي دار الإمارة؛ لأنه وإن قيل: كذبًا
وخداعًا إنه استقال بعد كل ما للحكومة من مال وعقار وأثاث مِلْكًا له , وكان
يتصرف في كل شيء إلى يوم إبحاره من جدة , وسافر بذلك من جدة إلى خليج
العقبة , فألقى مراسيه فيه , وهنالك بسط يديه الكزتين بالمال لولده علي الذي خلفه
في الحجاز , وبإذنه سماه الحزب الوطني المؤلف من بعض أهالي مكة وجدة ملكًا له
وحده , فهو فيه تحت سلطان والده ملك ملوك البلاد العربية وأمرائها كلهم وخليفة
المسلمين كافة؛ ولولده عبد الله الأمير البريطاني من قبل الدولة الإنكليزية على
شرقي الأردن بإذنه ورضاه أيضًا , وهما اللذان جعلا لها حق السيادة الانتدابية على
هذه البقعة من قلب جزيرة العرب , وهي مركز الخطر الأكبر عليها؛ إذ هي بين
الحجاز ونجد وفلسطين وسورية والعراق
وإنما بسط يديه الكزتين لولديه المذكورين؛ لأجل جمع المقاتلة بالأجرة ,
وجلب الأسلحة والذخائر الحربية؛ لقتال الوهابيين وإخراجهم من الحجاز , ثم
القضاء على قوتهم , وثل عرش ملكهم في عقر ديارهم إن أمكن , وأملهم في القتال
ضعيف , وإنما يظنون أن الاستعداد له يكون وسيلة لإقناع سلطان نجد بالصلح
ليعود حسين إلى مكة أشد ظلمًا وإلحادًا في الحرم مما كان؛ ولاستمالة أعراب
الحجاز الساخطين عليه الماقتين لحكمه , حتى قيل: إن ما خصصه لهؤلاء
خمسمائة ألف جنيه من الذهب الإنكليزي؛ وما قيل من استقالته أو خلعه فهو من
خداعهم وإفكهم؛ لأنهم يعلمون أن جميع بدو الحجاز وحضره يمقتونه , ويفضلون
سلطان نجد على حكمه , وأما علي ابنه فضعيف الإرادة , فلا يظلم إلا ضعفاء
الحضر , ولكنه مبايع لوالده بملك العرب وبالخلافة , وإنما يعمل لإعادته , ولولا
ذلك لما أمده بالمال , فإن عاد كان الخطر على جزيرة العرب أشد مما كان.
أما وله ببذل المال غرض آخر هو بث الدعاية العامة في العالم؛ لتحسين
سمعته وتشويه سمعة ابن سعود وأهل بلاده , بوصفهم بالتعصب الديني والتوحش
والضراوة بسفك الدماء , وهو يعلم ما لا يعلم أهل نجد من تأثير هذه الدعاية , وقلما
يسخو إلا في سبيلها من حيث لا يقيم لها سلطان نجد وزنًا , وقد بذل في هذه السبيل
كثيرًا مما جمع من السحت , ولكن كان كل ما ربحوه أن بعض الجرائد نشرت لهم
ما شاءوا , وقل من يصدقها لتعارضها وظهور كذب ما تنشره في الغالب, ولأن
سياستها أجنبية غير إسلامية , وما برح الرأي الإسلامي خصمًا لهم ومؤيدًا عليهم
فلم أر لمسلمٍ معروف بمصرَ كلمة خير فيهم , وقد أخبرنا الثقات أن أنصارهم في
سورية وفلسطين يقلون ولا يزيدون.
ويليها الدعاية في بلاد العرب لتأليب القبائل على حكومة نجد والوهابيين ,
وحملهم على قتالهم , واسترداد إمارة آل الرشيد لهم (في ظل ملك البلاد العربية
كلها وخليفة المسلمين) ولإغراء العداوة والبغضاء الدينية بينهم وبين قبائل الشيعة
في العراق , وهذه المهمة منوطة بالملك فيصل , ولولا أن الشيعة مقتوه مع مبالغته
في التملق لهم؛ لما علموا من إخلاصه للأجانب دون الأمة والملة , لنجح في هذا
الأمر نجاحًا عظيمًا , ولعلماء الشيعة وزعمائهم ورؤساء قبائلهم في العراق الفضل
الأكبر في مقاومة الإنكليز , واضطرارهم إلى تأليف حكومة عربية مستقلة في دائرة
الإمبراطورية البريطانية والسعي للاستقلال المطلق؛ ولولا الشيعة لكان العراق
ولاية هندية محضة , فإن أكثر المنتمين إلى السنة هنالك أضعف عزيمة وأوهن
عصبية من الشيعة , فالمصلحة العربية تقضي باتفاق الشيعة كأهل السنة مع أهل
نجد ومن تبعهم , وذلك ممكن إذا كف الله كيد هؤلاء الحجازين عن البلاد العربية.
وقد أبطأ النجديون في احتلال ثغور الحجاز , حتى تمكن حسين وأولاده من
تحصين جدة بعد أن استغاثوا وليتهم وسيدتهم الدولة البريطانية , وطلبوا منها أن
تحمي الحجاز , وتكف سلطان نجد عنه , فامتنعت من ذلك لِما رأت من مشايعة
العالم الإسلامي له ومقته لهم , ولا سيما الهند ومصر , وكان دعاتهم قد أذاعوا أنها
تحمي لهم جدة بأسطولها , ثم استنجدوا إيطالية , وأذاعوا أنها أنجدتهم , ثم كذبوا
ذلك كعادتهم ولكنهم لا يزالون يسعون لذلك سرًّا.
وكان أفضل ما عمله سلطان نجد التقي العادل أن أعلن أنه لا يريد بإنقاذ
الحجاز توسيعَ ملكه به ولا الاستبداد بالأمر فيه , بل أمنه وإعلاءَ شأنه , وطلب من
جميع الأقطار الإسلامية إرسال مندوبين إلى مكة؛ لعقد مؤتمر من أهل العلم والرأي ,
يضعون نظامًا لحكومة الحجاز يرضيهم , وهذا هو الباعث على تأليف
(جمعية السلم العام , في بلد الله الحرام) منذ ثلاث سنين ونيف , فنشكر لهذا
السلطان هذا العمل العظيم الذي لم يسبقه إلى مثله أحد من سلاطين المسلمين الذين
تولوا أمر الحجاز , وقد قاوم ذلك حسين وأولاده بدسيسة شيطانية , وهي أن هذا
تحكيم للأعاجم في بلاد العرب , وهذا من أقبح الكذب الذي يضر العرب ويفرق
بينهم وبين من ينفعهم من إخوانهم المسلمين ولا ينتفع منهم , فندعو جميع أصحاب
الشأن من مسلمي الأرض لإجابة هذه الدعوة , ومن قصّر فهو الذي أسقط حقه ,
وندعو أصحاب الصحف الإسلامية لترويج الدعوة إلى ذلك , والعقبة للمتقين ,
وسلام على المرسلين , والحمد لله رب العالمين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) سبب هذا أنه لا يريد أن يعلم أهل الحجاز أنه يوجد في المسلمين ملوك وأمراء يعطون لوجه الله , بل هو لحسده وأثرته , كان يمنع جريدة الفلاح بمكة من الثناء على محمد عبد الكريم أمير الريف في المغرب , أو ذكر أعماله؛ لئلا يفضله الناس عليه.
(2) المنار: نكتفي بهذا الملخص من رسالة المدينة المنورة؛ لأنه لم يبق إلى التطويل حاجة ويليها رسالة في احتلال الأمن هنالك , وعجز الحكومة الهاشمية عن منع الأعراب من القتل والنهب , ربما ننشرها في المنار وحده.(25/630)
رجب - 1343هـ
فبراير - 1925م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
غرائب الوسوسة في الطهارة
(س22) مِن صاحب الإمضاء في أسيوط
أستاذي الفاضل:
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , أرجو الفتوى على ما يأتي:
رجل تردد على غالب محلات الأكل في مدينة من المدن , وكان يتناول أكله
منها بدون أن يغسل يديه المتنجستين , وقد ترك هذه العادة الممقوتة الآن؛ فما
الحكم في مأكولات هذه المدينة؟ وما الذي يعمله ذلك الرجل إذا كانت حرفته
تستدعي وجوده في هذه المدينة , ولا يمكنه الانتقال عنها إلا في أزمنة مخصوصة
وكالإجازات الرسمية مثلاً؟ ومعلوم أيضًا أن سكان المدن لا غِنَى لهم عن تناول
طعامهم من تلك المحلات السالفة الذكر , وبعضهم يأكل منها ولا يغسل يديه عقب
الأكل , ولا يمكن للرجل المذكور أن يستغني عن قضاء حاجته منهم , ولما أعهده
في فضليتكم من شرح معضلات المسائل , والتفاني في خدمة العلم والمسلمين جميعًا
بعثت بهذه إليكم طالبًا من المولى سبحانه وتعالى أن يجزل ثوابكم , ويعظم أجركم
وتنازلوا بقبول عاطر تحياتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ابنكم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد البديع مصطفى
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بمعهد أسيوط الديني
(ج) إن الرجل المسئول عن حاله وما يترتب عليها شاذ في عقله وعمله ,
فهو موسوس , والسؤال عن حاله من شواذ مسائل الوسوسة , ويصعب على العاقل
أن يتصور وجود رجل عاقل تكرر منه الأكل في أكثر مطاعم مدينة وهو متنجس
اليدين , ولعل السائل لو ذكر لنا كيف كانت يداه متنجستين في هذه المرار كلها
لجزمنا بأنَّ تنجسها من الوسوسة لا حقيقي.
هذا وإن تنجس اليدين لا يقتضي تنجس الطعام الذي يؤكل بهما , إلا إذا كان
يغمسهما في الإدام المائع كالمرق , وأما تناوله بالملعقة فهو كآخذ الجامد باليد لا
يقتضي تنجس الإناء , وإذا فرضنا أن كان من شذوذ وسوسته غمس يده النجسة أو
يديه في المائعات , وأن أوانيها تنجست بها , فذلك لا يقتضي بقاء هذه الأواني
نجسة , فإن الأواني في المطاعم وغيرها تغسل عقب كل طعام , وطهارة أواني
المطاعم وغيرها , وطهارة الطعام أصل لا يعدل عنه إلا في إناء يعلم أنه تنجس ,
وأنه لم يطهر بعد ذلك بأن رأى النجاسة أصابته , ولم يغب عنه غيبة يحتمل
تطهيره فيها.
وجملة القول في الجواب: إن السؤال ليس من المشكلات , بل هو من أوضح
الواضحات , فأواني مطاعم البلد كلها تعد طاهرة شرعًا وعقلاً وعرفًا , فلا حرج
على الرجل في الأكل منها إذا ارتفع حرج الوسواس من قلبه , ولا خلاف في هذا
بين فقهاء المذاهب المعتبرة , ولكن لهم أبحاثًا دقيقة في بعض النجس بيقين , إذا
اختلط بالطاهرات وما في معناه.
***
أسباب ارتقاء العرب الماضي
وهبوط المسلمين وعلاجه
(س 23-25) مِن صاحب الإمضاء في حمص
حضرة العلامة الفاضل الشيخ رشيد رضا زاده الله رشدًا وأرضاه نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية , آملين أن تنوروا بصائرنا بما آتاكم الله من العلم , مد الله
مناركم نورًا , فليجب الله سؤالكم , وينجح مقاصدكم وأمانيكم:
(1) ما السر الذي جعل العرب الجاهلية - على ما كانوا عليه من التباين
والتنافر والجمود والهمجية - أن يخترقوا قوانين النشوء الطبيعي ونواميس الارتقاء
إلى أن وصلوا درجة الكمال بأقل من جيل؟
(2) ما هي الأسباب التي أدت إلى هبوط المسلمين من الكمال إلى
حضيض الزوال؛ مع ما كانوا عليه من متانة القواعد الدينية والمدنية الجامعة
لجميع ما يحتاجه البشر من العلوم النافعة والصالحة في كل زمان ومكان , واعتبارًا
من أي تاريخ يبدأ هذا الانحطاط وفي أي التواريخ يتوقف , ثم يعود إلى الهبوط ,
وأسبابه (مختصرًا) ؟
(3) بأي أصول يمكن معالجة حالة السلمين الحاضرة؟ وأي السبل أنفع
وأقرب للفلاح؟ وأي الأمم والأمراء الحاضرة من المسلمين أكمل استعدادًا لأداء
الخدمات للنجاح العام؟ وكيف يمكن ذلك؟
ولولا أن هذا الموضوع يهم كل مسلم يدق قلبه على تأخر أمته , بل كل
شرقي يتألم من تدنس الشرق , ثم لولا علمنا بأننا ما قصدنا إلا أوثق معهد , وأوسع
دائرة علمية إسلامية شرقية , لما تجاسرنا لتعجيزكم , فعذرًا يا سيدي جزاكم الله عنا
كل خير.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فوزي
(ج) إن ما قاله السائل الغيور في جاهلية العرب لا يصح ولعله يريد
السؤال عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعيهم من عرب الجاهلية ,
الذين ارتقوا بالإسلام عقولاً وأخلاقًا وحكمة , وعلمًا وعملاً , وعدلاً وسياسة وإدارة
كانوا بها فوق المعهود في تاريخ البشر من نوع ارتقائهم , وفيما ترتب عليه من
الفتح الشريف , وتأسيس ذلك الملك العظيم على أساس العدل إلخ. وقد بيّنا ذلك في
مواضع كثيرة من مجلدات المنار وتفسيره , كما بيّنا أسباب هبوط المسلمين بعد ذلك
وتاريخه وعلاج ما طرأ عليهم من الأمراض الاجتماعية , ولا يمكن تلخيص شيء
من المسائل الثلاث في جواب سؤال ينشر في باب الفتاوى.
وإنما أقول بالإجمال: إنه لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها , كما
قال الإمام مالك - رضي الله عنه -: (وذلك ما جاء به الإسلام من إصلاح العقول
بالعقائد الصحيحة الخالية من خرافات الوثنية , وإصلاح الأنفس بالعبادات السليمة
من البدع والآداب والفضائل , وإصلاح حال الاجتماع بوحدة الأمة , وجمع كلمتها ,
وتوحيد وجهتها وتوجيهها إلى طلب العزة والكمال الذي شُرع الإسلام لأجله) .
وأقوى الشعوب الإسلامية استعدادًا لذلك أهل الدين في جزيرة العرب وأهل
أفغانستان , ولكن هؤلاء عرضة للتفرنج الذي يفرق كلمة كل شعب شرقي يفتتن به
في نفسه , ويجعل بعض أهله أعداءً وخصومًا لبعض بأْسُهم بينهم شديد , تحسبهم
جميعًا وقلوبهم شَتَّى , فنسأل الله أن يقيهم شر هذه الفرقة التي قوضت أركان
السلطنة العثمانية , وقطعت أوصال الوحدة المصرية وضعضعت ألباب الطوائف
السورية , فيجب إرشاد عرب الجزيرة إلى جمع كلمتهم بالدين , ولن تجتمع بغيره ,
وإلى العناية مع ذلك بتنظيم القوة الحربية وتنظيم موارد الثروة الداخلية , ثم يجيء
كل ارتقاء تبعًا لذلك , ولا نظام أصلح وأرجى لذلك من نظام الوهابية , إذا أتيح له
ما يحتاج إليه من المساعدة , وكذلك الزيدية في اليمن , فهم فرقة متحدة تحتاج إلى
المساعدة على تنظيم القوة والثروة الداخلية , ويجب أن يتحالف الإمامان فيهما ,
ونحمد الله تعالى أنه ليس ثمة أجناس ولا مال يتخذها الأجانب ذرائع للفساد فيهما.
***
خطيب يأمر المسلمين بالشرك
(س 26) من صاحب الإمضاء في بمبي (الهند) .
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة العالم العلامة والحَبْر الفهّامة سيدي الأجل السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار المنير لا زال محفوظًا لخدمة الدين الحنيف آمين. أما بعد:
فأرجو إجابتي عما يأتي:
خطب أحد خطباء مساجد بمبي خطبة يوم الجمعة حبذ فيها الاستغاثة
والاستعانة بغير الله؛ كالأنبياء والأولياء والصالحين , وقد جاء بأحاديث عزز فيها
قوله لا أعلم مقدار حظها من الصحة , وكان بودّي أن آخذ نص الخطبة وأرسلها
مرفقة بسؤالي ولكنني لم أستطع , غير أني أظن أنني أحفظ حديثًا واحدًا مما أتى به
ذلك الخطيب بدون إسناد , إذا لم تخني ذاكرتي وهو (اذكر أحب الناس إليك , قال
يا محمداه يا محمداه) , وقد سب وشتم أيضًا عالمًا من كبار علماء المسلمين ألا وهو
المرحوم حسن صديق خان البهبالي؛ لزعمه أنه حرف في فتح الباري الذي طبعه
في مصر على نفقته حديث (أوتيت علوم الأولين والآخرين) وعند انتهاء الخطبة
عاد فكرر كرامات الصالحين ووجوب الاستعانة بهم , واستشهد على ما قال بقصة
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع سارية والقصة مشهورة عند العامة ,
ولكنني لم أعثر عليها في كتب مَن أثِقُ به من المؤرخين.
فما قول سيدي الأجل فيما تقدم؟ اهدنا إلى طريق الحق جعلك الله هاديًّا
ومرشدًا والله يحفظكم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص لكم ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي خان البنجابي
(ج) الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان:
(أحدهما) ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور
الكسبية: كاستغاثة مَن أَشْرَفَ على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً,
وكاستعانة مَن وَقَعَ حِمْلُ دابته بمن يساعده على رفعه؛ فهذا القسم مشروع في كل
عمل مشروع من الواجبات والمستحبات والمباحات.
(ثانيهما) ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف
سنن الله تعالى في خلقه؛ كالاستغاثة بالموتى , والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس
من مقدورهم وكسبهم: كإنزال المطر , وشفاء المرضى بغير تداوٍ , فهذا القسم
خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره , وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة:
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ومعناه نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك , كما
أن معنى قوله تعالى قبله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) نعبدك ولا نعبد غيرك؛
فاستعانة غير الله تعالى بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره , ومن أمر بذلك كان
آمرًا بالكفر بالله ومخالفة ما كُلَّف جميع عباده أن يخاطبوه به في كل ركعة من
صلواتهم , فهل صار المسلمون في درجة من الجهل بدينهم يؤمهم بها في صلاتهم ,
ويتولى وعظهم في مساجدهم مَن يأمرهم بهذا؟ وإذا لم تكن هذه الاستعانة هي
الخاصة بالله تعالى بنص هذه الآية في أشهر سورة من كتاب ربهم , يحفظها كل
مسلم ومسلمة فما هيه؟ على أن العباد يتحرون اجتناب الاستعانة بالمخلوقين
وسؤالهم حتى في الأمور الكسبية التي أقام الله تعالى بها نظام هذا العالم , وقد ورد
في مناقب الصديق الأكبر - رضي الله عنه - أنه لم يسأل النبي صلوات الله عليه
وعلى آله شيئًا لنفسه قيل: ولا الدعاء. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم
لابن عباس - رضي الله عنه - (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)
رواه الترمذي عنه , وقال حسن: صحيح , وقال الحافظ ابن رجب في شرحه: إن
هذه الوصية منتزعة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على ألا يسألوا أحدًا شيئًا
منهم الصديق وأبو ذر وثوبان - رضي الله عنه - فكان أحدهم يسقط سوطه أو
خطام ناقته من يده وهو راكب , فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه؛ (أقول) : وهذه
درجة كمال , لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال , وأما الأولى فيكلفها كل مؤمن؛ لأن
تركها ينافي الإيمان , وفي المسألة أحاديث أخرى في الصحاح وآثار عن كبار
الصحابة والتابعين ومَن دونهم من الصالحين.
والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة؛ بل أخص لأنها عبارة عن الضراعة
في الدعاء عند شدة الضيق , التي وصف الله تعالى مشركي العرب بأنهم لا يدعون
غيره عندها , وإنما يشركون به بعد أن ينجيهم منها والآيات في ذلك متعددة.
وقد استغاث المسلمون الله تعالى يوم بدر , ولم يستغيثوا النبي صلى الله عليه
وسلم , بل كان - بأبي هو وأمي - إمامهم وقدوتهم في الاستغاثة , كما أنزل الله
عليه {ِإذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) إلخ , وذلك أنهم كانوا قد
قاموا بكل ما قدروا عليه , ولم يبق إلا ما لا يناله كسبهم من أسباب النصر , فسألوا
الله تعالى مستغيثيه , فاستجاب لهم ونصرهم.
ولكنك تجد الألوف من المسلمين الأميين والمتعلمين يعارض هذه الأصول
القطعية من التوحيد بشبهات تلقّاها بعضهم من بعض بالتسليم والتقليد الجهلي ,
وهي إن ما ثبت في الكتاب من حياة الشهداء , وما عليه جمهور أهل السنة من إثبات
كرامات الأولياء يقتضيان جواز دعائهم ودعاء سائر الصالحين , واستعانتهم على
قضاء الحاجات وكشف السوء والنصر على الأعداء , وسائر ما نعجز عنه من
طريق الأسباب وسنن الله في الخلق؛ وهذه الشبهة باطلة من وجوه شرحناها في
التفسير وباب الفتوى وغيره من المنار مرارًا , ومن أخصها أن حياة الشهداء من
أمور عالم الغيب , وكرامات الأولياء من خوارق العادات عند مثبتيها , وقد أجمعوا
على أن كُلاًّ منها يُؤخذ ما صح منه بالتسليم , فليس للمجتهد أن يقيس عليه ولا أن
يستنبط منه حكمًا شرعيًّا , ولو لم يكن معارضًا لنصوص الكتاب والسنة؛ كاستعانة
غير الله تعالى , فكيف إذا كان كذلك؟ وكان المستنبط مع هذا غير مجتهد ولا عالم
كهؤلاء الجهال , وإن كان فيهم معمّمون كثيرون , وأما قصة عمر - رضي الله عنه -
في نداء سارية فقد رواها البيهقي بسند ضعيف , وذكرها السبكي في طبقات
الشافعية.
وأما سب هذا الخطيب للعالم الجليل السيد حسن صديق محيي السنة في بلاد
الهند وغيرها فهو من المعاصي المعلومة من الدين بالضرورة , وأما زعمه أنه
حرّف في فتح الباري فكذب , وهو لم يتول تصحيح فتح الباري , وإنما صححه له
عند طبعه بعض علماء مصر.
__________(25/641)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام
فيما قال لموسى: لِمَ تلومني على أمر قدّره الله عليَّ قبل أن أُخْلَقَ بأربعين عامًا؟
فحج آدم موسى؛ لم يكن آدم عليه السلام محتجًا على فعل ما نهي عنه بالقدر , ولا
كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله , بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا ,
فكيف آدم وموسى؟ وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى , وموسى أعلم بالله
من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه , فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم
يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى توبة ولم يجر ما جرى من خروجه من
الجنة وغير ذلك , ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره , وكذلك موسى يعلم أنه
لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها ,
كيف وقد قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص:
16) وقال: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ} (الأعراف: 155) ,
وهذا باب واسع , وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقت بآدم من
أكل الشجرة , ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة
التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر , فإن الأب
لو فعل فعلاً افتقر به حتى تضرر بنوه , فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم
يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب , والعبد مأمور أن يصبر على المقدور , ويطيع
المأمور , وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ} (غافر: 55) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) .
قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله
فيرضى ويسلم , فمن احتج بالقدر على ترك المأمور , وجزع من حصول ما كرهه
من المقدور , فقد عكس الإيمان والدين , وصار من حزب الملحدين المنافقين ,وهذا
حال المحتجين بالقدر , فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره , فلا
ينظر إلى القدر , ولا يسلم له , وإذا أذنب ذنبًا أخذ يحتج بالقدر , فلا يفعل المأمور
ويترك المحظور , ولا يصبر على المقدور , ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله
المتقين , وأئمة المحققين الموجدين , وإنما هو من أعداء الله الملحدين , وحزب
الشيطان اللعين , وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان ,
تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر , وأعظمهم ظلمًا وعدوانًا , وأذل الناس إذا قهر ,
وأعظم جزعًا ووهنًا , كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب
والمقابلة من أصناف الناس , والمؤمن إن قدر عدل وأحسن , وإن قهر وغلب صبر
واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم ,
التي أولها بانت سعاد إلخ في صفة المؤمنين:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... يومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا
وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:
رأيته يَغْلِب فلا يبطر , ويُغلب فلا يضجر , وقد قال تعالى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ
يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} (آل عمران: 120) وقال تعالى: {إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم
مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران:
125) , وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل
عمران: 186) فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة , فالصبر يدخل
فيه الصبر على المقدور , والتقوى يدخل فيها فعل المأمور , فمن رزق هذا وهذا
فقد جمع له الخير , بخلاف من عكس فلا يتقي الله؛ بل يترك طاعته متبعًا لهواه
ويحتج بالقدر , ولا يصبر إذا ابتلى , ولا ينظر حينئذ إلى القدر , فإن هذا حال
الأشقياء , كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري , وعند المعصية جبري ,
أي مذهب وافق هواك تمذهبت به , يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقًا
لطاعتك , فتنسى نعمة الله عليك كي [1] أنه جعلك مطيعًا له , وإذا عصيت لم
تعترف بأنك فعلت الذنب؛ بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو
المحرك الذي لا إرادة له , ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ.
وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل
العبد حسنة فقال: أي ربي أنا فعلت هذه الحسنة , قال له ربه: أنا يسرتك لها ,
وأنا أعنتك عليها , فإن قال: أي ربي أنت أعنتني عليها , ويسرتني لها , قال له
ربه: أنت عملتها وأجرها لك , وإذا فعل سيئة فقال: أي ربي قُدِّرَت عليَّ هذه
السيئة , قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها , قإن قال: أي ربي إني أذنبت
هذا الذنب وأنا أتوب منه , قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك , وهذا باب
مبسوط في غير هذا الموضع.
وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من
غير شهود الأمر والنهي , والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور , وهذا
أعظم الضلال , ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى
والمشركين , لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله.
وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكُلْ باطنًا فأكل ,
وإبليس كان توحيده ظاهرًا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا , فلم يسجد فغير الله عليه
وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية , فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد
كذب على آدم وإبليس , فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه ,
وتاب من ذلك ولم يقل: إن الله ظلمني , ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل ,
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37) وقال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) وإبليس أصر واحتج بالقدر , فقال:
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39)
وأما قوله: رآه غيرًا نحلم يسجد؛ فهذا شر من الاحتجاج بالقدر , فإن هذا قول أهل
الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس , فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه
غيرًا , بل قال: {َأنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف:
12) , ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيرًا , بل المغايرة بين الملائكة
وآدم ثابتة معروفة والله تعالى يقول: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا
عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} (البقرة: 31-32) , وكانت الملائكة وآدم
معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له , ولهذا قالوا: دعوه دعاء العبد، فآدم
يقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا) والملائكة تقول: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة:
32) وتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} (غافر: 7) الآية , وقد قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر: 64) , وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِياًّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَم} (الأنعام: 14) , وقال:
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) فلو
لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروا بعبادة غير الله , ولا اتخاذ غير الله وليًّا
ولا حكمًا , فلم يكونوا يستحقون الإنكار , فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت
غير يمكن عبادته واتخاذه وليًّا وحكمًا , وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال
تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (القصص: 88) , وقال: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ
إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} (الإسراء: 22) وأمثال ذلك.
وأما قول القائل: إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران:
128) عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد , وجعل معنى
قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أي فعلك هو فعل الله
لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه:
(أحدهما) : إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)
نزل في سياق قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ*
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:
127-128) , وقد ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو
على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت) فلما أنزل الله هذه الآية ترك , فعلم أن
معناها إفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر , بل إن شاء الله تعالى قطع
طرفًا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة , وإن شاء تاب عليهم , وإن شاء
عذبهم , وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا
شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف:
188) ونحو ذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران: 154) .
(الوجه الثاني) : إن قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من
الغالطين, فإن ذلك لو كان صحيحًا لكان ينبغي أن يقال: لكل أحد حتى يقال:
للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى , ويقال: للراكب ما ركبت إذ ركبت
ولكن الله ركب , ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم , ويقال مثل ذلك:
للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك , وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر:
ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر , ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب ,
ومن قال: مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين , ولكن معنى الآية أن
النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم , ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي
إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب , وقال: شاهت الوجوه, ولم يكن في قدرته أن
يوصل ذلك إليهم كلهم , فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته، يقول وما
أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل , فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي
نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ , وأثبت له الحذف والإلقاء , وكذلك إذا رمى سهمًا
فأوصلها بقدرته.
(الوجه الثالث) : نه لو فرض أن المراد بهذه الآية: أن الله خالق أفعال
العباد فهذا المعنى حق, وقد قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة:
128) فالله هو الذي يجعل المسلم مسلمًا.
وقال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ
الخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19-21) فالله هو الذي خلقه هلوعًا , لكن ليس في هذا
أن الله هو العبد , ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق , ولا أن الله حالٌّ في
العبد. فالقول: بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول: بأن الخالق حال في
المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل , وهؤلاء ينتلقون من القول بتوحيد
الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد , وهذا عين الضلال والإلحاد.
(الوجه الرابع) : إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: 10) لم يُرِد أنك أنت الله , وإنما أراد أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره
ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله , كما أن من أطاعك فقد أطاع الله , ولم يرد بذلك أن
الرسول هو الله , ولكن الرسول أَمر بما أمر الله به , فمن أطاعه فقد أطاع الله كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد
أطاعني , ومن عصاني فقد عصى الله , ومن عصى أميري فقد عصاني) ومعلوم
أن أميره ليس هو إياه , ومن ظن في قوله: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: 10) أن المراد به أن فعلك هو فعل الله , أو المراد أن الله حال فيك
ونحو ذلك , فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته
وجعله مثل غيره , وذلك أنه لو كان المراد به أنه خالق لفعلك لكان هنا قدر مشترك
بينه وبين سائر الخلق , وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله , ومن بايع مسيلمة فقد
بايع الله , ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله , وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله
أيضًا , فيكون الله قد بايع الله إذ الله خالق لهذا ولهذا , وكذلك إذا قيل: بمذهب أهل
الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا, فيكون الله قد بايع الله ,
وهذا يقوله: كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية , حتى إن أحدهم إذا أُمِرَ بقتال العدو
يقول أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم ,
وبيّنا فساده لهم وضلالهم غير مرة.
وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء؛ بل هو قول النصارى ومن
وافقهم من الغالية [2] وهو باطل أيضًا , فإن الله سبحانه قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ
الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) ، وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (الجن: 19) , وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (الإسراء: 1) ،
وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: 23) , وقال:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح: 18-19) .
فقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:
18) يبين قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) ولهذا
قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: 10) , ومعلوم أن يد النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة , فعلم أن
يد الله التي فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن الرسول عبد
الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله , فالذين بايعوه بايعوا الله
الذي أرسله وأمره ببيعتهم , ألا ترى أن كل من وكّل شخصًا بعقد مع الوكيل كان
ذلك عقدًا مع الموكل، ومن وكل نائبًا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه , كانوا
معاهدين لمستنيبه , ومن وكّل رجلاً في نكاح أو تزوج كان الموكل هو الزوج الذي
وقع له العقد , وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ
لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) الآية , ولهذا قال في تمام الآية: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 10) .
فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح , وأن الله إذا كان قد قال لنبيه
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء} (آل عمران: 128) فإيش نكون نحن وقد ثبت عنه
صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا تطروني كما أطرت
النصارى المسيح بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا في الأصل ولعل صوابه (في) وحذفه أولى.
(2) هم فرق الباطنية وآخرهم البهائية.(25/665)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
المقالة الخامسة [*]
ما ينبغي للمسلمين علمه وعمله
أيها المسلمون:
إن الحجاز مهبط دينكم , وفيه بيت ربكم , وهو قبلة صلاتكم , ومشاعر
نسككم , وشعائر الله لكم , فيه يقام الحج الأكبر , الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي
الأوحد , وفيه مقام إبراهيم , وقبر نبيكم الكريم عليهما من الله أفضل الصلاة
والتسليم , وقد جاء الإسلام بحرية الأديان إلا في حرم الله وحرم رسوله وسياجهما
من جزيرة العرب , فهما خاصان بدين الإسلام , وقد امتدت إليهما أيدي غير
المسلمين في هذه الأيام.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها , قالت:
آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: (لا يترك بجزيرة العرب
دينان) , وروى أحمد ومسدد والحميدي في مسانيدهم والبيهقي في سننه من
حديث أبي عبيدة (رضي الله عنه) قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله
عليه وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) , وفي
رواية نصارى نجران.
وروى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله
صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: (أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب , وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) قال سليمان
الأحول راوي الحديث عن سعيد بن جبير الذي سمعه من ابن عباس: ونسيت
الثالثة.
وحملها العلماء بالاحتمال على ما صح من وصاياه الأخرى في مرض موته -
صلى الله عليه وسلم - كقوله: (لا تتخذوا قبري وثنًا) ، وفي موطأ الإمام مالك ما
يشير إلى ذلك - أو وفد أسامة - أو الوصية بالنساء والرقيق.
وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وقريظة والنضير
المحاربين له من يهود المدينة , وأنذَر مَن بقي من اليهود الجلاء بعد عجزهم عن
قتاله؛ ليخرجوا بسلام ويحفظوا أموالهم , فقد روى البخاري في مواضع من صحيحه
وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: (بينما نحن في المسجد خرج النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود، فانطلقنا حتى جئنا بيت المِدْراس
(هو بوزن المفتاح العالم الذي يدرس كتابهم) فقال: أسلموا تسلموا , واعلموا أن
الأرض لله ورسوله , وأنني أريد أن أجليكم من هذه الأرض , فمن يجد منكم بماله
(أي بدل ماله) شيئًا فليبعه؛ فاعلموا أن الأرض لله ورسوله) , والمراد أرض
المدينة وسائر الحجاز.
وروى أحمد ومسلم والترمذي من حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من
جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا) , ولما كان أبو بكر (رضي الله عنه) لم
يتسع له الوقت لتنفيذ هذه الوصية , نفذها عمر (رضي الله عنه) , فقد روى
البخاري عن عبد الله أن عمر والده (رضي الله عنهما) أجلى اليهود والنصارى
من أرض الحجاز , وذكر يهود خيبر إلى أن قال أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.
سبب هذه الوصية النبوية معروف دلت الأحاديث الصحيحة , وهو أن الله
تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما سيكون من مطاردة الأمم لأمته ,
وسلبهم إياها ما يخولها الله تعالى من الملك , ومحاولتهم القضاء على دينها بعد
القضاء على ملكها , فأراد أن يكون مهد الإسلام معقلاً لها تعتصم فيه , ولا تجعل
للأمم التي ستبغي عليها سبيلاً للتدخل في شؤونه , كما تفعل الآن دول الاستعمار
الكبرى , وفي مقدمتها حليفة البيت الحسيني بالحجاز بريطانية العظمى؛ هذه الدولة
التي أرادت أن تجعل طائفة القبط وسيلة لحرمان مصر من الاستقلال , فلما خيبوا
أملها خلقت مسألة الأقليات بدون قيد , وكلفت نفسها بدون إذنهم أن تبقى محتلة
لمصر؛ لأجل حمايتهم؛ وهذه الدولة التي خلقت للعراق العربي شعبًا أشوريًّا ,
قضى عليه التاريخ منذ ألوف السنين , فقلدته السلاح وحملته على مطالبة جمعية
الأمم بتأسيس دولة جديدة له في العراق؛ لأجل العداء والشقاق , والتذرع به لإبقاء
العراق تحت سلطانها إلى يوم التلاق , هذه الدولة التي ما زالت تكيد للدولة العثمانية ,
وتتوسل إلى إسقاطها بالأرمن والروم وغيرهم , إلى أن سقطت وزالت من
الأرض , فحاولت القضاء على شعبيها الإسلاميين الكبيرين - العرب والترك -
فحالت أحداث الزمان دون الإجهاز على الشعب التركي , ووجدت من حسين
المكي وأولاده أقوى نصير للقضاء على الشعب العربي , فلما سلط الله تعالى عليه
شعبًا شديد الاعتصام بالإسلام طرده من الحجاز في هذه الأيام، قامت جرائدهم
تدعو بالويل والثبور، وتنذر قومها الخطر الإسلامي العربي على ما سلبوا من بلاد
العرب أن ينفلت من أيديهم.
أيها المسلمون تأملوا الشواهد على صحة قولي هذا لعلكم تتفكرون: يروي
مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ, ويأرز
بين المسجدين كما تأرز الحية من جحرها) وروى الترمذي من حديث عمرو بن
عوف مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز
كما تأرز الحية إلى جحرها , وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروبة من رأس
الجبل [1] إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما
أفسد الناس بعدي من سنتي) .
وملخص معنى هذه الأحاديث أن المسلمين سيطرأ عليهم الفساد بالبدع حتى
يكون الإسلام نفسه غريبًا فيهم ومحتاجًا إلى الإصلاح؛ وأنهم سيضطهدون بدينهم
ولأجل دينهم , حتى لا يجدون ملجا يعتصمون فيه لإقامته إلا معقله الذي ظهر فيها
غريبًا وهو الحجاز , فيكون فيه عزيزًا قويًّا؛ كعصم الوعول في شناخيب الجبال
ومن تمام التشبيه أن يستتبع ذلك ما استتبعه أولاً من الملك والعمران (إن شاء الله) .
أيها المسلمون: إلى متى أنتم غافلون , إن الدولة البريطانية ولية حسين بن
علي المكي وأولاده من دون الله والمسلمين , هي التي أخذت على نفسها القضاء
على دين الإسلام في الشرق بعد القضاء على حكمه , وقد سلكت أقرب الطرق إلى
ذلك وأقلها خسارة ونفقة , وهو جعل الشعوب الإسلامية أسلحة لها تضرب بعضها
ببعض , إلى أن يهلك الجميع وتكون السيادة لها وحدها على بلادهم وهي هي التي
قاتلت المصريين بإذن ولاة الأمر من السلطان والخديو؛ وهي هي التي قاتلت
السودانيين بالمصريين , وهي هي التي قاتلت قبل ذلك بعض ملوك الشرق وأمرائه
ببعض , ولا سيما في الهند , كما سترون في المنار من مقال للسيد جمال الدين
الأفغاني [2] الذي كان أول من نبّه الشرق عامة والمسلمين خاصة لعداوتها؛ وهي
هي التي قاتلت الترك بالعرب الذين خدعهم ملك الحجاز وأولاده , حتى سلبت منهم
أخصب بلادهم وقررت إعطاء البلاد المقدسة منها لليهود , وجعلهم شعبًا جديدًا قويًّا
بين مصر وسورية والحجاز , يستعينون به على أهلها من العرب في حرمانهم من
رقبة بلادهم وخيراتها؛ وهي هي التي ألقت العداوة والبغضاء بين إمام اليمن
والسيد الإدريسي؛ وهي هي التي أطمعت الطاغوت حسين بن علي بالخلافة
الإسلامية وملك العرب كلهم تحت حمايتها , وقد بينا بعض الوثائق الرسمية في
ذلك كله.
أيها المسلمون: إن العقل وحالة الاجتماع العامة وتقاليد السياسة الإنكليزية
الخارقة كلها تؤيد معنى ما ورد في الحديث , الذي صدقته وقائع التاريخ التي أشرنا
إليها آنفًا من أن الله لا يهلك المسلمين إلا بقتال بعضهم لبعض.
روى مسلم من حديث ثوبان (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها [3] , وإن
أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها , وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض , وإني
سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة , وأن لا يسلط عليها عدوًّا من سوى
أنفسهم يستبيح ببيضتهم [4] , وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء ,
فإنه لا يرد , وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة , وأن لا أسلط عليهم
عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم , ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال
من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا) .
وقد ظهر صدق هذا الحديث في الفتح الإسلامي للشرق والغرب , ثم في
ذهاب ملك المسلمين كما أشرنا إليه آنفًا في شأن بعض دول الشرق الإسلامي ,
ومثله دول الغرب القديمة والحديثة , فلولا تفرق أهل الأندلس وتعاديهم وتقاتلهم لما
زالت دولتهم وورثها الأسبانيون , ولولا مسلمو مراكش لما فتحت فرنسة الجزائر ,
ثم لولا مسلمو الجزائر لما استولت فرنسة على مملكة مراكش.
أيها المسلمون: لا يكن أمركم عليكم غمة في مسألة زحف النجديين؛ لإنقاذ
الحجاز من صنيعة الأجانب حسين المكي وأولاده , قد بينا لكم بالوثائق الرسمية
حقيقة السبب الحامل للسلطان ابن سعود على ذلك , وأنه إسلامي محض؛ لتأمين
فريضة الحج , ومنع الإلحاد والظلم في الحرم , وقطع عروق النفوذ الأجنبي في
مهد الإسلام , المانع من تنفيذ وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وكذا منع حسين وأولاده مما صرح به رسميًّا من عزمه على إخضاع جميع
حكومات جزيرة العرب لحكمه قبل ادعائه الخلافة , فكيف يكون خطره بعد ادعائه
حق الولاية العامة عليهم شرعًا؟
أرجف بعض الكتاب الذين يخدمون السياسة الإنكليزية من طريق الحجاز بأن
سلطان نجد يريد إكراه حسين بضغطه على توقيع المعاهدة العربية البريطانية ,
فمتى خضع عاد جيش نجد أدراجه , وردّدت جرائد أخرى هذا الإرجاف فظهر
كذبهم.
وأرجفوا بأن ابن سعود ينفذ للإنكليز في الحجاز ما لم ينفذه حسين , وأنهم هم
الذين أغروه بالاستيلاء على الحجاز , فظهر كذبهم أتم الظهور بما نشرته صحيفة
إرجافهم بمصر من برقيات لندن - أولاً - من خبر الاتفاق بين ابن سعود ونوري
باشا الشعلان رئيس قبائل الرولة على سماح الأول للثاني ببقعة الجوف بشرط منع
الإنكليز من مد سكة حديدية بين فلسطين والعراق - وثانيًا - ببرقية التيمس التي
أرسلها إليها مراسلها من الإسكندرية الناطقة بأن احتلال ابن السعود للحجاز
وموانئه الواقعة على البحر الأحمر مفعم بأخطار شديدة! ! وأنه يحمل معظم
القبائل على الانضواء إلى كنفه , والسير تحت لوائه؛ وأنه يرجح أن ينتقل من
إنقاذ الحجاز إلى إنقاذ شرق الأردن وفلسطين وكذا اليمن على احتمال.
ثم إن هذا الإنكليزي الغيور على الإسلام والعرب طعن في دين الوهابيين
ومذهبهم , ووصفهم بالتوحش وكراهة المدنية , وأظهر خوفه وحذره من إكراههم
لغيرهم على اتباع مذهبهم , وغيرته على المعاهد المقدسة! ! , واستدل بهذا كله
على أنه يجب على الدولة البريطانية وهي أكبر دولة إسلامية (! ! !) أن تبادر
إلى رد الوهابيين عن الحجاز , قال: (فتنقذ بذلك المعاهد المقدسة في الحجاز من
أن تمسها يد الوهابيين بالتدمير والتخريب - وليس ذلك فقط- بل تزيل أيضًا خطرًا
شديدًا يهدد البلاد العربية، وتقضي على عامل يقلق السلم في جزيرة العرب، فإذا
لم تزله زوالاً تامًا , فإنها تخفف من حدته كثيرًا) .
المعنى الصريح المراد من هذا الكلام أن إنكلترة ترى من أعظم الخطر على
سياستها في البلاد العربية أو الإسلامية أن يوجد في المسلمين أمير مسلم قوي , ولا
سيما إذا كان مسلمًا مؤمنًا , معتصمًا بدينه , مؤيدًا بشعب صادق الإيمان كابن سعود
وقومه، لا يباع ولا يشترى بالذهب الإنكليزي , ولا بالألقاب الفخمة الضخمة
كحسين وأولاده، لأن قوة مثل هذه تحول دون نجاح السياسة البريطانية في إزالة
الإسلام من الأرض , من حيث هو دين سيادة وسلطان، ثم في إزالته من الأرض
من حيث هو دين عقيدة وإيمان، ويستتبع ذلك احتمال إنقاذ ما استعبدته من الشعوب
الإسلامية والعربية.
ثم إن مراد كتاب الإنجليز وصنائعهم بمصر من نشر هذه الأراجيف
والتضليلات تمهيد السبيل لحمل المسلمين في مثل الهند ومصر وفلسطين وسورية
على استقباح استيلاء الوهابيين على الحجاز، وتمني إخراجهم منه؛ لتتوسل الدولة
البريطانية بذلك إلى بذل قوتها لإجلائهم عنه خدمة للإسلام والمسلمين (! !) ؛
لأنها شديدة الحب لهذا الدين والإيمان به , ومغرمة القلب بحب المسلمين كافة , كما
فعلت من قبل في احتلال أوطانهم حبًّا فيهم وتكريمًا لدينهم (! !) , وهل كان فتحها
الصليبي للقدس الشريف واحتفالهم بذلك في جميع كنائسهم إلا من آثار هذا العشق
والغرام؟ وهل تمليكها رقبة فلسطين لليهود الصهيونيين , وتجديد ملك لهم في قلب
بلاد العرب إلا من عشق الإسلام والمسلمين كافة، والعرب منهم خاصة (! !) .
يظهر أن مدير التيمس ومراسل التيمس بمصر وأمثالهما لا يزالون يظنون كما
يظن رجال الوزارة الخارجية البريطانية , أن المسلمين لا يزالون كالبله يصدقون
كما يقول الإنكليز بدليل أن بعض أهل فلسطين وسوريا والعراق لا يزالون يعظمون
حسينًا وفيصلاً وعبد الله مع ظهور خيانتهم للأمة العربية , وجنايتهم على الدين
الإسلامي.
والصواب الذي يجب أن يعرفه الإنكليز هو أن السواد الأعظم من المسلمين
صاروا على الرأي الذي سمعته من حسني أفندي أحد مشايخ الإسلام المتأخرين في
الآستانة وهو: أن كل ما تقول دول أوربة لنا إنه مفيد لكم فهو ضار بنا، وكل ما
تقول لنا: إنه ضار بكم فهو نافع لنا، فليرجع الساسة الإنكليز عن هذه الوسائل
السخيفة للتنكيل بالأمم الضعيفة، مع ادعاء المقاصد الشريفة، وليرجعوا عن
مطامعهم التي لا حد لها فإن ذلك خير لهم.
أيها المسلمون: حسبكم ما بينا لكم من الدلائل في هذه المقالات وغيرها على
مصاب الإسلام والعرب بهذا البيت الحجازي , ووجوب تطهير الحجاز من جناياته
على العرب والإسلام، وقد سخر الله لحرمه من أنقذه بأهون الوسائل , فماذا يجب
عليكم الآن؟ خذوا رأي أخيكم كاتب هذه المقالات الذي درس مسألة جزيرة العرب
وأمرائها , وسياسة الأجانب فيها بالعلم والعمل درسًا طويلاً عريضًا عميقًا في أكثر
من ربع قرن , وألخص ما يتعلق منه بموضوعنا في القضايا الآتية:
1- إن أعظم جناية يجنيها مسلم على الإسلام والمسلمين والعرب السعي
لإقرار سلطة علي بن حسين وإبقائه ملكًا على الحجاز , فقد سنحت الآن الفرصة
لأعظم إصلاح يمكن أن يقوم به المسلمون في مهد دينهم , فإذا أضاعوها يخشى أن
لا تعود.
قد تولى إمارة الحجاز كثيرون من هؤلاء الناس الذين يسمون شرفاء مكة في
بضعة قرون , فلم يخرج منهم مصلح في علم ولا عمل ولا ديانة ولا سياسة ولا
إدارة، بل كان أكثرهم مفسدين ظالمين، وأقلهم غير نافعين ولا ضارين، والدليل
على ذلك سوء حالة الحجاز في جميع هذه القرون، ورجوع بدوه إلى شر مما كانوا
عليه في الجاهلية، وكون حضره أسوأ حالاً من جميع سكان المدن في البلاد
الشرقية.
وقد كان شرهم وأطمعهم وأشدهم إلحادًا وإفسادًا للدين والدنيا حسين بن علي
الذي لم يبلغنا أن أحدًا من الأمراء أبغضه أهل ملته وذموه مثله، وهذا ولده قد سمي
ملكًا في أسوأ حال نصب فيها حاكم في أمة أو بلد ينهزم أمام الفاتحين من مكان إلى
مكان , ويستغيث بجميع أهل الملل والنحل من جميع الأمم؛ لينقذوه من هؤلاء
الفاتحين، ثم هو يقر حكومة والده الممقوتة برجالها كلهم , ويبدأ أعماله السياسية
بأمر وكيل والده في لندن , بعقد تلك المعاهدة التي بيّن فسادها كُتَّاب المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها.
2- إنه لم يكن يوجد في الدنيا شعب إسلامي غير النجديين يمكنه إنقاذ الحجاز
من الخطر الذي كان محيطًا به بعد احتلال الأجانب لفلسطين وسورية والعراق ,
واستيلائهم على سكة الحديد الحجازية من جانب العمران، وقد كان هذا البلاء
المبين بمساعدة هذا البيت الحجازي. وها نحن أولاء نسمع ونقرأ ما يهدد الإنكليز
به الحجاز من عدم السماح لقوة إسلامية تؤسس فيه؛ لئلا تكون خطرًا على ما
صاروا يعدونه ملكًَا لهم من بلاد العرب , التي يزعم حسين وأولاده أنهم أنقذوها
(فلسطين وشرق الأردن والعراق) .
ولا يخفى عليكم أن مقتضى القاعدة السياسية الإنكليزية وجوب الاستيلاء التام
على الحجاز واحتلاله بالقوة العسكرية , إن لم تكن تحت الإشراف البريطاني؛
لأجل الأمن على المواصلات البريطانية بين فلسطين والعراق.
3- اعلموا أنه لا توجد حكومة إسلامية غير حكومة نجد , تقدر الآن على
حفظ الأمن في الحجاز , ومنع التعدي على الحجاج، ثم على إصلاح حال قبائل
الأعراب فيه , ومنعهم من الغزو لمجرد التعدي أو الكسب والنهب، فيجب أن
يعضدها جميع العالم الإسلامي، وسيرون صحة قولي في هذا كما رأوه في غيره
ولا سيما الإرجاف الأخير بالخوف على الكعبة المشرفة أن يهدمها الوهابيون , أو
يمزقوا أستارها، وأمثال هذه الأكاذيب التي كان يذيعها الإنكليز ومروجو سياستهم
الحجازية في مصر وسورية , فقد دخلوا مكة كما دخلها أجدادهم في فجر القرن
العشرين معتمرين , فطافوا بالكعبة المعظمة , وقبّلوا الحجر وصلّوا سُنَّة الطواف ,
ثم الفريضة وآمنوا جميع الأهالي من كل اعتداء , فلم يعتدوا على أحد، وسيلغون
جميع الضرائب والمغارم التي أرهق حسين بها الناس، ولما علم ذلك عاد الذين
كانوا فارين من مكة إلى جدة من الطريق , ولا بد أن يكون جميع الذين فروا إلى
جدة قبل ذلك قد ندموا؛ لتصديقهم الملك السابق والملك اللاحق , بأن الوهابية
سيمزقون أشلاءهم، ويبقرون بطون نسائهم، ويقطعون أعضاء أطفالهم على مرأى
منهم، ثم ينهبون جميع ما يملكون …
4- إنه لا يليق بالإسلام، ولا ببيت الله الحرام، أن يكون في مكة وهي البلد
الأمين، والمعبد الأعظم للمسلمين، ملك قاهر مستعلٍ على الناس , يقتل ويسجن
ويعذب ويفرض الغرامات , ويعادي جيرانه ويقاتلهم، بل يجب أن يكون فيها
حكومة يديرها مجلس شرعي مُنْتَخَبٌ من خيار علمائها وعلماء الشعوب الإسلامية
الأخرى , ويكون لهم رئيس يختارونه من أنفسهم في كل سنة , ولا يكون لأي فرد
من الأفراد أن يستبد بأي أمر في حرم الله برأيه.
5- يجب أن يكون الحجاز قطرًا على الحياد لا يُقَاتِل ولا يُقاتَل ولا يكون
لأحد من الأجانب غير المسلمين نفوذ فيه , ولا حق سُكْنى ولا ملك ولا حماية أحد
من الحجاج ولا من غيرهم. ولا يوجد مسلم يعرف دينه يرضى أن يكون بلد الله
الأمين تحت حماية حاكم غير مسلم , أو يجعل نفسه ذريعة لتدخله في شؤونه،
وإهانته لحكومته الإسلامية , وإذا كان قد عهد من أجهل المسلمين التابعين لدول
غير إسلامية الصبر الجميل على ظلم أمراء مكة القبيح , ولم يستحلوا أن يشكوا
ذلك لحكوماتهم , فكيف يكون شأنهم إذا صارت حكومة الحجاز شرعية شورية لا
استبداد فيها ولا مجال للاستبداد.
6- يجب أن يكون الحجاز مهد العلم والصلاح والإصلاح , وقد أُلِّفَت في
القاهرة جمعية إسلامية عامة؛ للسعي لما يجب من تأمينه وحياده السلمي باعتراف
جميع الدول , ومن الإصلاح فيه اسمها (جمعية السلم العام , في بلد الله الحرام)
وستعلن الدعوة إليها.
7- إن ما أشرنا إليه , ونقلنا بعضه في المقالة الرابعة من أقوال سلطان نجد
وبلاغي نجله , وما لدينا من الاطلاع الخاص , يعطينا اعتقادًا جازمًا بأن السلطان
عبد العزيز بن سعود يقبل بكل ارتياح , أو يدعو إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة
المكرمة يؤلف من خواص مسلمي الشعوب الإسلامية؛ للبحث وتقرير النظام الذي
أشرنا إليه، كما أنه سيرسل وفدًا من علماء نجد لحضور مؤتمر الخلافة الذي سيعقد
في مصر، فهل كان أحد من المسلمين يطمع في شيء من هذا قبل إنقاذ هذا الرجل
العظيم للحجاز من قبضة الطاغوت؟
***
المقالة السادسة [**]
ماذا يفعل الوهابيون بالحجرة النبوية وقبة الحرم الشريف
أكثر المثنون علينا من قراء هذه المقالات من العلماء والفضلاء قولاً وكتابة
على ما بينا لهم من الحقائق، مؤيدة بالدلائل والوثائق، كما كثر طلاب (الهدية
السنية التحفة الوهابية النجدية) حتى صارت تطلب من الأقطار البعيدة، ووزعت
منها ألوف عديدة، وكثر السائلون لنا عما يشتبه عليهم من هذه الرسالة ومن أقوال
الجرائد، فأما من يلقوننا منهم فإننا نجيب كل سائل بقدر ما يتسع الوقت، وأما
الذين يكتبون إلينا منهم فنعتذر لهم، بأننا لا نجد وقت فراغ من أعمالنا
الضرورية نصرفه في الكتابة لهم , وإن كنا نعتقد أن الكتابة مفيدة لمن أراد أن
يستفيد.
ومن الأسئلة الكتابية سؤال أرسل إلينا من طريق جريدة الأهرام هو أجدرها
بأن لا يجاب عنه، وإن كان مرسله مستعجلاً لا صبر له، إذ هو يسأل عما يفعل
الوهابيون بالحجرة النبوية إذا هم فتحوا مكة والمدينة، ويقيم عليهم الحجة إذا هم
فعلوا ما زعم أنهم يدينون الله تعالى به وإذا هم لم يفعلوا على سواء. فأنا لا يعنيني
أن أبحث في أمر المستقبل , وما عسى أن يفعل الوهابية فيه، ولا يعنيني أن
يخطئ القوم في أمر فتقوم به عليهم الحجة , ومتى فعلوا شيئًا يعلم السائل وغيره
ذلك، وهم على تشددهم في الدين غير معصومين، فإن وقع منهم خطأ , فقد وقع
ممن هم خير منهم: كالصحابة الذين قتلوا جماعة أسلموا بأمرخالد بن الوليد رضي
الله عنه؛ لأنه لم يثق بإسلامهم , فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم قال:
(اللهم أبرأ إليك مما فعل خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) رواه البخاري
وغيره.
ولكنني وجدت باعثًا دينيًّا دعاني للإجابة عن هذا السؤال الذي هو غير جدير
بالإجابة عنه لذاته، وهو أن أبين للجماهير من الناس الذين لم يطّلعوا على كتب
السنة أصح ما ورد في هذا الباب، مع فوائد أخرى تتعلق بما في السؤال من
الاحتجاج، اقتداء بما ورد في آخر كتاب العلم من صحيح البخاري في (باب من
أجاب السائل بأكثر مما سأله) .
وهذا نص السؤال:
السلام عليكم، وبعد: أرأيتَك يا أستاذ , لو تم للإخوان الوهابيين فتح مكة
والمدينة؛ أيهدمون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أعني يحطمون ما حوله من
بناء وما فوقه من قباب، إذ أنهم يدينون بتحريم ذلك، ويعتقدون أنها بدع يجب
استئصالها …؟
وهل لا يغضب العالم الإسلامي لمثل ما يأتون إذا حصل …؟ وإذا راعى
الإخوان في ذلك شعور العالم الإسلامي , وتحاشوا تلك الأعمال عند هذا المقام، فما
معنى تلك الأسطر الكثيرة التي خطوها في هذا الباب؟ أو هل كان النص تنقطع
سلسلة اتباعه هنا، فهو مقصور على قبر غير النبي صلى الله عليه وسلم …؟
عجِّل يا سيدي بإجابتي , وتقبل جميل احتراماتي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إبراهيم خليل
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببولاق
جواب السؤال:
(1) الذي نظنه أن الوهابيين لا يهدمون الحجرة التي فيها القبر الشريف ,
وما قاله السائل من أنهم يدينون الله تعالى بتحريم ذلك البناء , ويعتقدون أنها بدع
يجب استئصالها؛ فيه نظر فإن البدع المخالفة لصريح السنة هي اتخاذ القبور
مساجد , بأن يدفن الميت في المسجد أو يبنى المسجد على القبر … كما يعلم مما
يأتي , وقبر النبي صلى الله عليه وسلم منفصل من المسجد في بناء وحده كان بيت
زوجه عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها , فالذي يصلي في المسجد لا يعد
مصليًّا إلى القبر، وإذا كان بعض الناس يدخل الحجرة الشريفة فيصلي إلى القبر
يسهل منعه.
وقد استولى القوم على الحرمين الشريفين في فجر القرن الثالث عشر الهجري
(الموافق لأول القرن التاسع عشر الميلادي) , ولم يهدموا الحجرة الشريفة، ولكن
روى بعض المؤرخين أنهم أزالوا من فوق قبة الحرم النبوي الشريف ما كان من
شكل الهلال والكرة المذهبين، وأنه كان من مرادهم هدم القبة , ولكن سقط اثنان
من الفعلة الذين صعدوها لإزالة الكرة والهلال الذهبيين فماتا فامتنعوا من هدم القبة
لذلك، والمعلوم قطعًا أنهم لم يهدموا قبة الحرم , ولم يحدثوا اعتداءً ولا تغييرًا في
القبر الشريف، وربما كان نزع الكرة والهلال لاعتقادهم أنهما من الذهب , فرأوا
أن الانتفاع بهما في خدمة الدين التي يعتقدون القيام بها أولى من وضعها فوق القبة ,
على أن هذا الزخرف في بناء المساجد ليس من الدين في شيء , بل هو من
البدع التي تفاخر بها الملوك , فأنكرها عليهم بعض العلماء وسكت عنها بعضهم
خوفًا منهم، أو لأنهم عدوا الكثير منها من البدع الدنيوية التي لا تمس العقائد ولا
العبادات , ثم ابتدع هؤلاء الملوك بناء المساجد على قبورهم , فكانوا يوصون بذلك
فينفذه أخلافهم , وهو محرم بالنصوص الصحيحة الصريحة , فأنكره قليل من
العلماء الربانيين، وسكت عنه الآخرون خوفًا من شرهم، أو طمعًا في برهم، كما
يعلم من الشواهد التي نزيدها على جواب السائل الفاضل.
(2) إن العالم الإسلامي يغضب أشد الغضب إن هدموا القبة الخضراء أو
شيئًا من جدران الحجرة الشريفة؛ لأن هذه المظاهر الفخمة والزخارف الجميلة تعد
في عرف جميع العوام وكثير ممن يسمون الخواص من قبيل شعائر الإسلام،
والمشعر الحرام، بل هي عندهم أفضل من الركن والمقام، وأهم من الصلاة
والصيام، ومنهم من يذهب إلى الحجاز؛ لأجل الزيارة , ولا يخشع إلا لرؤية هذه
المباني الفخمة , فإذا كان في إزالة شيء منها مصلحة من بعض الوجوه كالرجوع
في الأمور الدينية وما يتعلق بها إلى مثل ما كانت عليه في عصر السلف , والتمييز
بين ما هو مطلوب شرعًا وما هو محذور أو غير مطلوب؛ فإن فيه مفسدة أكبر
والحال في أكثر البلاد الإسلامية على ما ذكرنا , حتى صح فيها ما تنوه به خطباء
المنابر من تحول المعروف منكرًا والمنكر معروفًا , ودرء المفاسد مقام على جلب
المصالح بشرطه المعروف عند العلماء.
(3) إذا راعى الإخوان شعور العالم الإسلامي في ترك بعض المنكرات
المتفق على حظرها على حالها درءًا للمفسدة، واتقاء لتنفير الكثيرين عن الإصلاح
المقصود من إنقاذ البلاد المقدسة، يكون عملهم هذا موافقًا للشرع، وقد علمنا مما
دار في مؤتمر الشورى في عاصمة نجد , أن العلماء أفتوا السلطان بجواز تأخير
أداء فريضة الحج في الموسم الأخير إذا كان يترتب على أدائه مفسدة راجحة ,
ووجود الحجرة النبوية نفسها ليس من المنكرات , بل من المعروف المتواتر خبره
في كتب السنة كالمسجد النبوي , وإنما تغير شكل البناء، وأمره هين لا يذكر مع
تركهم للحج خوفًا من المفسدة.
ومن دلائل السنة على هذه المراعاة بهذا القصد ما ثبت في الصحيحين
وغيرهما من حديث عائشة - رضي الله عنها - (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان كارهًا لما عليه بناء قريش للكعبة مقتصرة من جهة الشمال عن قواعد جده
إبراهيم (عليهما وآلهما الصلاة والسلام) ومن جعل بابها مرتفعًا؛ ليدخلوا من
شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، وأنه كان صلى الله عليه وسلم يود لو نقضها فأعاد
بناءها على أساس إبراهيم , وجعل لها بابين لاصقين بالأرض؛ ليدخل كل من أراد
من باب ويخرج من الآخر , وما منعه من ذلك إلا حداثة عهدهم بالكفر والجاهلية
كما صرح به لعائشة) والحديث في ذلك مكرر في الصحيحين وغيرهما، فإذا كان
المعصوم صلى الله عليه وسلم خاف أن تنكر قلوب حديثي العهد بالشرك من
المؤمنين هدمه للكعبة وبناءها على أتم وأفضل مما بناها عليه المشركون , فمراعاة
الإخوان مثل ذلك يعد عملاً شرعيًّا.
الزيادة على الجواب:
إذا أراد السائل وأمثاله نصًّا عن الأئمة المجتهدين في هذه المباني الفخمة
والزينة في الحرم النبوي الشريف فليراجع ما قاله العلامة الشاطبي في كتابه
الاعتصام: في بحث الشروط التي تشترط لعد البدع من المعاصي الصغائر كبائر ,
حتى إذا ما بلغ الشرط الثالث وهو (أن لا تفعل البدعة في المواضع التي هي
مجتمعات الناس , والمواضع التي تقام فيها السنن , وتظهر فيها أعلام الشريعة)
يجد من الدلائل على هذا الشرط ما نصه:
(قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي
الصف , فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم , ورمقوا مالكًا (هو الإمام مالك ابن
أنس) , وكان قد صلى خلف الإمام , فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه
نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه , فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي
(أي قيل لمالك: إن هذا الذي حبس هو عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور , وهو
من أقران مالك في الحديث) فوجه إليه وقال له: ما خفت الله واتقيته أن وضعت
ثوبك بين يديك في الصف , وشغلت المصلين بالنظر إليه , وأحدثت في مسجدنا
شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا
حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) , فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه
أن لا يفعل ذلك في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره , وفي رواية أن
عبد الرحمن بن مهدي اعتذر بأنه ثقل عليه رداؤه من شدة الحر , فوضعه ولم يقصد
مخالفة من مضى. أي في عدم إحداث شيء جديد في مسجده صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان إمام دار الهجرة يرى أن من مخالفة الحديث الشريف الذي رواه هو
ومن بعده من أصحاب الصحاح والسنن أن يضع المصلي رداءه أمامه؛ لأن هذا لم
يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في عهده يصدق عليه أنه
إحداث وابتداع فيه يستحق صاحبه تلك اللعنة الشاملة المحيطة , فما القول عنده في
سائر الأحداث؟
والإمام مالك مُتَّفَقٌ على جلالته واجتهاده , ويلقبه بعض المحدثين حتى من
غير المالكية بالإمام الأعظم، ولكنه لو خرج اليوم من قبره، وأراد أن يجعل
المسجد النبوي كما كان في عصره لرجمه جماهير المسلمين بالحجارة وفي مقدمتهم
أتباع مذهبه من المغاربة والسودانيين والمصريين.
نكتفي بهذا القدر من الزيادة الآن , وسنذكر في المقال المتمم لهذه الفتوى
بعض الأحاديث المحتج بها في أحكام القبور والمساجد , وأقوال بعض كبار الفقهاء
من غير الحنابلة؛ لأن هذه فرصة تنبهت فيها الأذهان للتمييز بين السنن والبدع.
***
المقالة السابعة [***]
القبور ومساجدها وقبابها
قد عم الجهل بالإسلام , حتى صار ألوف الألوف من المسلمين جنسية لا
هداية , يعدون بعض الحق من عقائده وآدابه وأحكامه باطلاً، والباطل من البدع
المحدثة فيه حقًّا، وسبب هذا إهمال التعليم الديني والإرشاد الإسلامي، وترك
فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانقلب الأمر وانعكس الوضع، فصار
الكثيرون يعدون كثيرًا من المعروف منكرًا ومن المنكر معروفًا , حتى في الأمور
المتعلقة بصحة الإيمان.
ولما فشت البدع ورسخت , صارت مألوفة , وعز على المشتغلين بالعلم أن
يطبقوا على أصحابها أحكام الشرع في أحكام: الردة , والخروج من الإسلام ,
وأحكام رد الشهادة , ثم صار بعضهم يتأول لهم , ولو بالتمحل البعيد عن النقل
والعقل.
لهذا اضطرب الناس في الإصلاح والتجديد للدين الذي قام به الشيخ محمد عبد
الوهاب الحنبلي السلفي في نجد وأولاده وأحفاده وتلاميذهم بتأييد أمراء نجد؛ سعود
وآل سعود؛ لأنهم أقاموا أحكام الإسلام بالعلم والعمل , والتأييد بالحكم النافذ؛ فرأى
أمراء الحجاز المفسدون مجالاً واسعًا لاتهامهم بتكفير المسلمين واستباحة دمائهم؛
ووافقتهم الدولة العثمانية يومئذ على ذلك؛ لإماتة ذلك الإصلاح لئلا يفضي إلى
تأسيس دولة عربية قوية في بلاد العرب، مع أن الدولة كانت تعد فرق الباطنية؛
كالنصيرية والإسماعيلية , والدروز مسلمين , إذ كانت أبعد الحكومات الإسلامية عن
التكفير وعن مقاومة البدع، إلا أن يكون لأجل السياسة كقتالها للإيرانيين، وكل من
هذا وذاك دوران مع السياسة يدل عليه أن الشعب التركي يثني على الوهابيين اليوم
وتتمنى جرائده لهم الفوز بالاستيلاء على الحجاز؛ لأن الحجاز قد خرج من دائرة
دولتهم , وكان المتغلب عليه عدوًّا لهم.
أشهر ما اشتهر من إصلاح الوهابيين الذي سماه الجاهلون بدعة أو مذهبًا
جديدًا أو دينًا محدثًا منع البدع والمعاصي المتعلقة بقبور الأنبياء والأولياء وأهل
البيت , وإننا ننشر للجمهور الآن بعض ما ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ,
وأقوال بعض الفقهاء المشهورين من المجتهدين والمنتمين إلى المذاهب المشهورة؛
ليميزوا به الحق من الباطل والهدى من الضلال.
جاء في كتاب الزواجر للفقيه الشهير أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي المولود
بمصر سنة 909 والمتوفى بمكة سنة 973 - ما نصه:
الكبيرة 93-98
اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها , واتخاذها أوثانًا والطواف بها
واستسلامها , والصلاة إليها.
أخرج الطبراني بسند لا بأس به عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال:
عهدي بنبيكم قبل وفاته بخمس ليالٍ فسمعته يقول: (إنه لم يكن نبي إلا وله خليل
من أمته , وإن خليلي أبو بكر بن أبي قحافة، وأن الله اتخذ صاحبكم خليلاً، ألا
وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد , وإني أنهاكم عن ذلك، اللهم
إني بلغت) ثلاث مرات، ثم قال: (اللهم اشهد) ثلاث مرات، الحديث.
والطبراني (لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر) [5] وأحمد وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما (لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)
ومسلم (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن
ذلك) وأحمد (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون
القبور مساجد) , وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم (الأرض كلها
مسجد إلا المقبرة والحمَّام) والشيخان وأبو داود (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد) , وأحمد عن أسامة وأحمد والشيخان والنسائي عن عائشة وابن
عباس ومسلم عن أبي هريرة [6] بمعناه وأحمد والشيخان والنسائي (أولئك إذا كان
فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا , وصوروا فيه تلك الصور أولئك
شرار الخلق عند الله يوم القيامة) , وابن حبان عن أنس: (نهى صلى الله عليه
وسلم عن الصلاة إلى القبور) , وأحمد والطبراني: (إن من شرار الناس من
تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد) , وابن سعد (ألا إن من كان
قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد , فلا تتخذوا القبور مساجد فإني
أنهاكم عن ذلك) , وعبد الرازق (إن من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد) ،
وأيضًا (كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى) [7] , ثم
قال المصنف بعد سرد هذه الأحاديث:
(تنبيه) :
عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية , وكأنه أخذ ذلك مما
ذكرته من هذه الأحاديث , ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من
فعل ذلك بقبور أنبيائه , وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم
القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية: (يحذر ما صنعوا) أي يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ بقوله
لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا واتخاذ القبر مسجدًا معناه
الصلاة عليه أو إليه وحينئذ فقوله: (والصلاة إليها) مكرر، إلا أن يراد باتخاذها
مساجد الصلاة عليها فقط [8] .
(نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبرُ قَبْرَ مُعَظَّم من نبي أو ولي كما
أشارت إليه رواية (إن كان فيهم الرجل الصالح) ومن ثَمَّ قال أصحابنا: تحرم
الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا , فاشترطوا شيئين: أن يكون
قبر معظم , وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام , وكون
هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت، وكأنه قاس على ذلك كل
تعظيم للقبر؛ كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به - والطواف به كذلك - وهو
أخذ غير بعيد , سيّما وقد صرح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على
القبر سرجًا , فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا
وتبركًا بذي القبر) .
وأما اتخاذها أوثانًا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا
قبري وثنًا يعبد بعدي) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه [9] ,
فإن أراد ذلك الإمام بقوله: واتخاذها أوثانًا - هذا المعنى اتجه ما قاله من أن
ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة
ففيه بعد , نعم قال بعض الحنابلة: قصد الصلاة عند القبر متبركًا به غير المحادة
لله ورسوله , وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها , ثم إجماعًا فإن أعظم
المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها , واتخاذها مساجدًا أو بناؤها عليها ,
والقول بالكراهة محمول على غير ذلك , إذ لا يُظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن
النبي صلى الله عليه وسلم لَعْنُ فاعله.
وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد
الضرار؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم , لأنه نهى عن
ذلك , وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة , وتجب إزالة كل قنديل أو
سراج على قبر , ولا يصح وقفه ونذره، انتهى (راجع صفحة 161 - 163 من
الزواجر المطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1293) .
وقد أشار بقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهدم القبور المشرفة إلى
الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال: (قال لي
علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع
تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) , قال الإمام النووي في شرحه لهذا
الحديث: قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى , ويؤيد
الهدم قوله: (ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) اهـ.
فهل كان ابن حجر والنووي قبله والإمام الشافعي قبلهما من الوهابية؟ وهل
كان أئمة المسلمين بمكة في عصر الشافعي أعلم وأهدى , أم طاغوت الحجاز في
عصرنا حسين الذي أمطر الخافقين برقيات في الطعن على الوهابية بهدم قبر ابن
عباس (رضي الله عنهما) ؟
إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - كرم الله وجهه - حين أرسله إلى
اليمن بطمس التماثيل , وهدم القبور المشرفة , وتسويتها بالأرض؛ ثم أمر علي
عامله أبا الهياج الأسدي بذلك , وعمل أئمة المسلمين بذلك في خير القرون كان لسد
ذريعة تعظيم القبور تعظيمًا دينيًّا إذ هو من أعمال الشرك، فهل ننكر هدمها وهدم
القباب والمساجد التي عليها بعد ما وقع المحذور , وارتكب المحظور؟
حدثني الشريف محمد شرف عدنان باشا حفيد الشريف عبد المطلب الذي كان
أعقل رجل في شرفاء مكة أنه رأى رجلاً في مسجد ابن عباس بالطائف يصلي
مستقبلاً القبر مستدبرًا القبلة فظن أنه أعمى قد أخطأ القبلة , فأخبره بذلك وجاء
ليحوله إلى القبلة , فرآه بصير العينين , وأبى أن يتحول معه , فعلم أنه متعمد فقال
لبعض الخدم: أخرجوا هذا المشرك من المسجد.
فالأمر المشاهد الذي لا شك فيه أن هذه القبور المعظمة تعظيمًا دينيًّا لم يأذن
به الله قد كانت سببًا لمنكرات كثيرة أخرى منها هو شرك صريح لا يحتمل
التأويل , ومنها ما يحتمله احتمالاً قريبًا أو بعيدًا، ولكن لا يجوز أن يجعل الاحتمال
مسوغًا للسكوت عنه وإقرار أهله عليه , وإنما قد يجوز ذلك في درء الكفر عن
شخص معين؛ ومنها ما هو معصية كبيرة , ومنها ما هو صغيرة وكلاهما كثير جدًّا
لا خلاف بين المسلمين فيه , ولا في أن استحلال المُجْمَع عليه المعلومِ من الدين
بالضرورة كفر وخروج من الملة , وقد فصّل العلماء الناصحون ذلك في كتب كثيرة
أشهر المطبوع منها كتاب المدخل للعلامة ابن الحاج المالكي الفاسي المتوفي في
مصر سنة 737 , ومما ذكره أن العلماء أفتوا بهدم بنيان البيوت التي على القبور
(الأحواش) , كما في الصفحة 274 من الجزء الأول , وفصّل المفاسد الموجِبَة لذلك.
وقال الإمام الشوكاني المجتهد في شرح حديث أبي الهياج الأسدي من كتابه
(نيل الأوطار) ما نصه: (ومِن رَفْعِ القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا
القبب والمشاهد المعمورة على القبور , وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد , وقد
لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي , وكم قد سرى عن تشييد أبنية
القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) : اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد
الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ورفع الضرر،
فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأً لنجح المطالب، وسألوا منها ما يسأله
العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة فإنهم لم
يدعو شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله , ويغار حمية
للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا , وقد توارد إلينا من
الأخبار , ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه
يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرًا , فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك
ومعتقدك الولي الفلاني , تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق , وهذا من أبين الأدلة
الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين وثالث ثلاثة.
(فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟
وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله تعالى؟ وأي مصيبة يصاب بها
المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا البين
واجبًا؟ اهـ المراد منه (ص234 ج3 من نيل الأوطار المطبوع بالمطبعة
الأميرية بمصر) .
وللإمام الشوكاني هذا رسالة خاصة في هذا الموضوع , نشرت في المجلد
الثاني والعشرين من المنار، وللعلامة المحدث محمد بن إسماعيل الوزير رسالة في
معناها اسمها (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) نشرت في المجلد الثالث
والعشرين منه - وقد طبعتا على حدة - وقد ذكر الأخير شبهة بعض الناس في قبة
المسجد النبوي الشريف , بعد أن بين أن مبتدعي بناء القباب والمساجد على القبور
هم ملوك الأعاجم الجاهلون فقال:
(فإن قلت: هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عُمِّرت عليه قبة
عظيمة , أُنْفِقَتْ فيها الأموال (قلت) : هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه
القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتبع
التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر
المتأخرين , وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678 , ذكره
في (تحقيق النصرة، بتلخيص معالم دار الهجرة) فهذه أمور دولية لا دليلية , يتبع
فيها الآخر الأول) اهـ.
فقد علم القراء بهذا النقول أن الوهابية لم يبتدعوا في هذا الأمر , بل اتبعوا
الأدلة وأقوال الأئمة من المحدثين والفقهاء المنتمين إلى المذاهب المشهورة , لا
مذهبهم الحنبلي فقط بعد ترك الجماهير لها {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
وإننا ندعو بالخير لمن سأل فكان سبب هذا البيان، وقد بلغنا ما علمنا به أننا
أخطأنا في فهمنا أنه أراد به الاحتجاج، والنية حسنة ولله الحمد في كل حال.
__________
(*) نشرت في الأهرام بتاريخ 19 ربيع الأول 18 أكتوبر.
(1) أرز: كعلم وضرب ونصر: تجمع وانكمش وعاد وثبت، والأُروِيّة بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء أنثى الوعول؛ وهي تعتصم في أعلى الجبال.
(2) نشر هذا المقال في ج 7و8 وكان الوعد في الأهرام قبل صدورهما.
(3) زوى الشيء يزويه جمعه وقبضه والمراد: أنه تعالى أطلعه عليها.
(4) يكنى بالبيضة عن موضع سلطة القوم , وملكهم ومستقر قوتهم وما يحمون من حقيقتهم.
(**) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 26 ربيع الأول 25 أكتوبر.
(***) نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 29ربيع الأول 28أكتوبر.
(5) كل ما وضع بين هذه العلامة () فهو حديث نبوي شريف.
(6) وفيه زيادة (والنصارى) وكان ذكر له صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبسة فيها صور الخ.
(7) هذه الجملة من كلام عائشة قالتها بعد رواية لعنه صلى الله عليه وسلم لمن اتخذوا القبور مساجد تعليلاً للَّعن.
(8) المتبادر بقرينة ما فعل أهل الكتاب أن منه بناء المساجد عليها , وجعلها منسوبة إليها كما وضحه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح) إلخ.
(9) أي كالطواف به , كما صرح به المؤلف آنفًا , ومثله التمسح به أو بقفصه للتبرك أو الاستشفاء.(25/673)
الكاتب: حسني عبد الهادي
__________
من الخرافات إلى الحقيقة [*]
(11)
الجمعيات السرية
إن الفتوحات التي ابتدأت في زمان الخلفاء الراشدين وعَظُمَتْ في زمان
الأمويين، واستولى المسلمون على إيران ومصر والشام وإفريقية الشمالية ,
ولكن هذه الفتوحات كانت إقليمية لا قلبية، نعم تبدلت الحكومات وزالت الدول إلا
أن العقائد الراسخة منذ أجيال بقيت كما كانت؛ لأن تبديلها ليس هينًا [1] .
ثم كان بين الذين أسلموا أناس كان إسلامهم لمقاصد سياسية , فكانوا يريدون
إماتة الديانة الإسلامية , ويتوسلون إلى إحياء عقائدهم بإبرازها بثوب إسلامي جديد
وفي أواخر أيام العباسيين ظهر أناس بعضهم ملحد راسخ في الإلحاد وبعضهم
فارسي (زردشتي) , وبعضهم من أتباع (ماني) أي نصفه مجوسي ونصفه
مسيحي وحصروا الشؤون العامة في أنفسهم.
وكان أكثر الناس غافلين عن كل شيء، ومستعدين لتصديق كل شيء، إذا
صادفت الجماعة منهم رجلاً صالحًا قادها إلى طريق الهداية، وإذا صادفت آخر
صالحًا خرجت معه عن جوهر الدين بدون أن تشعر، وكان (تصديق) كل ما
يسمع من أمارات الامتياز في تلك الأوقات، فكل فكر أسند إلى آية ولو لم تكن
موجودة، أو أسند إلى حديث موضوع، أو أي كتاب مجموع، كان ذلك يقبل بغير
تفكر، ويتبع بدون تدبر.
وثَم أسباب أخرى لميل الناس لكل جديد , وهو ظلم الأمراء , فكان الناس
بميلهم إلى الجديد يرجون خلاصًا من الظلم الواقع.
ثم إن كثرة المذاهب الدينية التي يُكَفِّرُ أصحابُها بعضُهم بعضًا أزالت هيبة
الدين وقللت من احترامه في نظر الناس , هذه هي الحالة الذهنية التي تقدمت نشر
مذهب الباطنية.
الباطنيون:
كان ظاهر عملهم بذل الجهد؛ لإحياء مذهب الإسماعيلية الذي هو من مذاهب
الشيعة، والحقيقة أنهم كانوا يقصدون إحياء أساطير وخرافات قديمة يكتمونها عن
المبتدئين؛ فإن مؤسسي هذه الفرقة لم يكونوا مسلمين لا فعلاً ولا اسمًا , والصحيح
أنهم كانوا مجوسًا.
منهم (عبد الله بن ميمون بن القداح) عقد مرة مجلسًا وخطب فيه فقال:
(إن المسلمين فتحوا بلادنا، وأزالوا دولتنا، إن الانتصار عليهم في الحرب والقتال
أصبح مستحيلاً، وإنما النافع في جهادنا لهم أن نقطع أواصر الاتحاد التي بينهم،
ونشوش عليهم أمورهم، ونوقعهم في بحر الارتباك، فحينئذ ننال منهم ما نبغي:
نحرف الإسلام بتأويل نصوصه، ونمجس المسلمين من حيث لا يشعرون ليخربوا
بيوتهم بأيديهم , إذ بهذا وحده يمكن أن تدال الدولة للفرس ويعيدوا دينهم ودولتهم إلى
سابق مجدها.
وكان عاقبة التشاور في ذلك المجلس انتخاب عبد الله بن ميمون منفذًا لهذه
الخطة , وكان ابن ميمون يعلم كنه الأخطار التي تظهر أمام من يريد نشر مذهب
جديد , فاختار لذلك طريق الدسائس السرية، وكان عالمًا بمذهب (زردشت)
واقفًا على أصوله وفروعه، وكان له نصيب من العلوم الطبيعية، والأحوال
الروحية، لذلك بدأ يحرض الناس على الظلم والظلمة , وينفرهم من الاستبداد
والمستبدين , فجمع حوله جمًّا غفيرًا , وكان يجذب قليلي الدين بمقدمات فلسفية،
ويجذب الشيعة بالإمام الموهوم المستتر، وأهل السنة بالمهدي المنتظر، ويخلب
أفئدة اليهود بالمسيح الموعود، كل هذا لأجل إعادة سلطنة إيران الزائلة.
بذل ابن ميمون هذا مساعي جمة لنيل المرام , وكان موقنًا بالنجاح , ثم مات
وخَلْفُهُ ابنه (أحمد) فواظب على خطة أبيه وعندما ظهر (حمدان القرمطي) وجد
الجو مناسبًا جدًّا لامتلاء أفكار الناس بعقائدهم.
أهل العراق كانوا مظلومين من قبل الحكومة ظلمًا شديدًا ولذلك كانوا ميالين
لكل ما يظهر من جديد فكانت الضرائب كثيرة جدًا والعسرة المالية شديدة على
الجمهور، وعندما سمع العراقيون بمذهب حمدان القرمطي الذي يقتضي اشتراك
الناس بالأموال هرعوا إليه وقبلوا دعوته بدون مناقشة.
عندئذ شرع الباطنيون يحرفون القرآن الكريم بالتأويل ويقولون إن له معنى
ظاهرًا للعوام ومعنى باطنًا للخواص، وهو المقصود بالذات، لأن الظاهر هو
القشر، والباطن هو اللب، وظاهر القرآن الكريم يحمل الإنسان واجبات أخلاقية
واجتماعية ودينية كثيرة وفيه أوامر ونواهي كثيرة وهذا مَرْكَبٌ صعب لا يُذَلَّلُ،
وبما أن باطن القرآن يقتضي ترك ظاهره طفقوا يفسرونه تفسيرًا غريبًا.
كانوا يقولون ليس من شؤوننا البحث عن صفات الله وهل هو موجود أو
معدوم، وعالم أو جاهل، خلق الله العقل قبل كل شيء ثم بواسطة العقل خلق
النفس وبما أن النفس مشتاقة لكمال العقل احتاجت إلى الحركة، والحركة تحتاج
إلى آلات ولذلك خلق الأجرام الفلكية وبتدبير النفس تحركت الأجرام الفلكية حركة
دورية وبتأثير ذلك النباتات والمعادن وأنواع الحيوانات.
أفضل الحيوانات الإنسان لأن بينه وبين العالم العلوي رابطة من دونها وعندما
يرتقي الإنسان إلى مرتبة العقل ترتفع عنه التكاليف والسنن ويستغني عن الاشتغال
بالعبادات.
الرسل عند الباطنية سبعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد
ومحمد المهدي [2] وبين كل رسولين سبعة أئمة والواجب على الإمام إكمال نواقص
الرسول الذي تقدمه ولا يخلو عصر من إمام.
لهذا المذهب رتب مختلفة: (1) إمام (2) حجة (3) ذو مصة (4)
باب (5) داع (6) مأذون (7) مكلب (8) مؤمن.
الإمام عندهم: هو غاية الأدلة ومؤدي الله، والحجة هو مؤدي الإمام والحائز
لعلم الإمام ويحتج بذلك المعلم.
ذو المصة: هو الذي يأخذ العلم من الحجة أبواب: هو المأمور بتعلم الفكرة.
الداعي نوعان: داع أكبر وداع مأذون فالأول هو الذي يعين درجات المؤمنين
والثاني هو الذي يقبل أهل الظاهر، ويدخلهم في عداد أهل الباطن ويأخذ عهدهم
وميثاقهم.
المكلب: هو الذي يدخل بين أهل الظاهر ويعرف أحوالهم والذي يعرضها
على الداعي. المأذون المؤمن: هو الذي دخل في جمعية أهل الباطن وصار في
ذمة الإمام.
الداعي: هو ما يعبر عنه أهل زماننا باسم (جزويت) وهو يراقب الناس
فمن رأى فيه قابلية واستعدادا يختبر أحواله وأطواره وأفكاره ويجذبه إلى التعرف
إليه فإن رآه متدينا يظهر أي الداعي له بمظهر الدين. وإن وجده ملحدًا أو ضعيف
الإيمان يأتيه من حيث يحلو له وإن رآه متحليًّا بمكارم الأخلاق يتمثل له بمظهر ملك
كريم، وإن وجده من المنهمكين في الفسق يتظاهر بأنه مثله. وجملة القول أنه
يتحبب إلى الرجل ويختلبه حتى إذا رأى أنه استولى على روحه في تنفيذ وظيفته
وهز جذبه إلى حزبهم، يقنعه بأن كل ما يرغب فيه من السعادة لديهم. وكان الدعاة
يعملون عملهم بالترتيب ويتسلقون إلى الغاية - درجة بعد درجة - وهذه الدرجات
ثمانية.
وقبل أن نبحث في هذه الدرجات نبين بالإيجاز حقيقة طائفة الإسماعيلية التي
يستند عليها بالظاهر أرباب مذاهب الباطنية.
طائفة الإسماعيلية:
الإسماعيلية طائفة من طوائف الشيعة تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق
الكبير كانوا يقولون بإمامة جعفر الصادق وأنه فوضها إلى ابنه الكبير وبما أن
إسماعيل توفي قبل جعفر كان يقتضي أن ينقل حق الإمامة إلى محمد المكتوم وبعده
قام ابنه جعفر المصدق مقامه وخلفه محمد الجيب وكان ذكيًّا وفعالاً وهذا هو الذي
عم نشر مذهب الإسماعيلية وكان يسكن بلدة اسمها سلمية في جوار حمص وأرسل
الدعاة إلى جميع الجهات وأهم نقطة كان يعتني بها الإسماعيليون أن العالم لا يخلو
من إمام فإن كان مخفيًّا فلا بُدَّ له من لقياه وعند وفاة محمد الجيب أعلن ابنه عبد الله
أنه هو الإمام المنتظر أي المهدي.
(لها بقية)
... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي
__________
(*) تابع لما سبق من الكتاب المترجم عن التركية (راجع ص 444م25) .
(1) المنار: الحق أن الإسلام قضى على جميع العقائد القديمة في عقول أكثر الناس وقلوبهم؛ لظهور بطلانها في نوره المتألق , ولكن أكثر الأعاجم لم تفهم القرآن كما فهمه العرب , وإنما فهمه منهم حق الفهم من تلقوا اللغة عن أهلها في الصدر الأول , وكان الأكثرون قابلين لكل بدعة فيه.
(2) المنار: قد كان تأثير هذه المفسدة المراد بها إبطال الإسلام بنبي آخر بعد خاتم النبيين رواج دعوة البابية والبهائية، ثم الأحمدية القاديانية، فهؤلاء ابتدعوا نبوة جديدة، وأولئك ابتدعوا ألوهية
جديدة.(25/694)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله
(لقد ألقيت في الأزهر بزرة جديدة
إما أن تكون مبدأ حياة جديدة له وإما أن يموت)
(الأستاذ الإمام)
نعني بالأزهر ما شمل معاهد العلوم الدينية ووسائلها من الفنون العربية في
الإسكندرية وطنطا ودسوق ودمياط وأسيوط وكلها مرتبطة بالجامع الأزهر
وتابعة له في إدارته ونظام التعليم فيه.
كانت مصر بالأزهر بلاد علم وحضارة وثروة وحكومة عزيزة قوية , فكان
الأزهر ركن العلم من حضارتها، وكان بالأزهر قوام حكومتها ومن رجال الأزهر
جل حكامها , إلا السلاطين والموك ورؤساء الجند , فكانوا يُكَوِّنُونَ من غيرهم ومن
غير الشعب المصري أيضًا، ولكن علماء الأزهر وكبراء المصريين قلما كانوا
يشعرون بهذه الغيرية، والأحكام تصدر بشريعتهم، والدواوين والمحاكم بلغتهم،
وأولئك السلاطين والقواد من أهل دينهم، وإنما كان يهمهم من أمر الأمراء
والسلاطين عدلهم وفضلهم، لا أصلهم وفصلهم، ولو كان ثَم أسباب تشعرهم بهذه
الغيرية شعورًا مؤلمًا لطباعهم , لأمكنهم إزالة ملكهم، كما أمكن الشيخ عز الدين بن
عبد السلام بيع أمراء الدولة المصرية من المماليك الأتراك , فإنه ما زال يصرح
ببطلان تصرفاتهم من بيع وشراء ونكاح؛ لأنهم أرقاء مملوكون لبيت المال (حتى
تعطلت مصالحهم , فأرسلوا إليه يسألونه عن حل لهذا الإشكال , فقال: نعقد لكم
مجلسًا , وينادي عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي , وبعث
إليه السلطان بأن يرجع عن هذا القول فلم يرجع، فأنكر عليه السلطان دخوله في
هذا الأمر بأنه لا يعنيه , وذكر كلمة فيها غلظة حملت الشيخ على الشروع في
الهجرة من القاهرة إلى الشام فركب مع أهل بيته حميرًا , وخرجوا فتبعهم وجهاء
المسلمين من جميع الطبقات فبلغ الخبر السلطان , وقيل له: متى راح الشيخ ذهب
ملكك , فلحقه بنفسه على بعد فرسخ من القاهرة واسترضاه , فرجع على أن ينفذ ما
قرره، فأراد نائب السلطنة وكان من أولئك المماليك أن يحوله عن رأيه بالملاطفة ,
فلم يفد ثم بالتهديد فلم يفد، فاضطروا إلى الامتثال , فاجتمعوا ونادى عليهم واحدًا
واحدًا , وغالى في ثمنهم حتى باعهم وأعتقهم مبتاعوهم من الأغنياء، وصرف
الشيخ ثمنهم في وجوه البر العامة , كما بينه التاج السبكي في ترجمته من طبقات
الشافعية.
ولهذه المكانة التي كانت للشيخ عز الدين قدس الله روحه قال الملك الظاهر
لبعض خواصه لما رأى جنازته تحت القلعة وما يتبعها من كثرة الناس: اليوم استقر
أمري في الملك , لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه؛
لانتزع الملك مني.
كان الناس كلهم يتبعون العلماء، وكان في استطاعة العلماء أن يسيروا
الأمراء والسلاطين في طريق الشرع المستقيم، ويمنعوهم من الاستبداد والظلم،
ولكنهم لم يفكروا في هذا الأمر فيعدوا له عدته، ويمهدوا له طريقه، بل لم يكونوا
يشعرون باستطاعتهم، ولا يُقَدِّرون كُنْه سُلطتِهم، وما كان يظهر من آياتها يعدونه
من الأحداث الشاذة، التي لا ترجع إلى سنة عامة، ولعلهم كانوا يعدون ما فعله
الشيخ عز الدين بأمراء الترك من كراماته، والكرمات من خوارق العادات فلا
يقاس عليها، ولا يبحث عن سبب لها.
كذلك لم يكونوا يفكرون في سنة الله في قوة الاجتماع، ولا في أن منه حمل
علماء الأزهر الدولة العثمانية على تولية محمد علي الكبير على هذه البلاد، فلهذا لم
يضعوا نظامًا لجمع كلمتهم؛ وجمع كلمة الأمة على زعامتهم، ولما جاء السيد جمال
الدين هذه البلاد وشرع في إيقاظ الأمة , وتعريفها بما لها من الحق في إدارة أمرها
وسياسة حكومتها , كان كبار علماء الأزهر أبعد الناس عنه وأشدهم تحذيرًا منه ,
وإنما انتفع به بعض الشبان منهم.
الإسلام دين ودولة، وقد أسس المسلمون دولاً عزيزة في قارات العالم القديم
الثلاث - آسية وإفريقية وأوربة - كانت أرقى دول الأرض عدلاً وعلمًا وحضارة ,
ولم يكن لها قانون في سياستها وحروبها , ولا في إدارتها وقضائها إلا الشريعة
العادلة الغراء , ومن أحكامها أن يكون أمراؤها وقضائها علماء فقهاء عدولاً، وبذلك
كان لها من السؤدد والملك ما كان، ثم دبَّ إليها الفسادُ ساعتها بتوسيد الأمور فيها
إلى غير أهلها وفاقًا للحديث (إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة) رواه
البخاري من حديث أبي هريرة , فغلب الجهل فيها على العلم، وانقلب الوضع ,
وانعكست القضية , فصار من القواعد الأساسية أن علماء الشرع أبعد الناس عن
السياسة كما قال الحكيم العربي ابن خلدون في الزمن الذي لم يكن فيه للسياسة
مستمد علمي إلا الشرع، وما سبب ذلك إلا تقصير علماء الشرع , فيما يجب عليهم
مما بيناه من قبل ولا محل لإعادته هنا.
صار أمر المسلمين بتقصير العلماء إلى الجاهلين بالشرع قبل أن يوجد في
بلادهم علم غير الشرع , فكان الملك فيهم ينال بعصبية القوة لا باختيار أهل الحل
والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة، حتى إن الإمامة العظمى وهي النيابة عن الرسول
صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وسياسة الدنيا جعلوها لقوة العصبية التي تبرأ
صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا عجب إذا اجتهد ملوك القوة وأمراء
العصبية , باستمالة محبي الدنيا من العلماء؛ لتقوية نفوذهم عند العامة , وإضعاف
نفوذ كل عالم لا يميله المال ولا يطويه الجاه، وصار من علامة العالم العامل
المخلص البعد عن الحكام كما قيل:
قل للأمير مقالة ... لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه
كانت حكوماتنا الإسلامية هكذا تتدلى بل تتردى في مهاوي الجهل والفساد،
بعد أن أخذ الإفرنج عنها وعنا مبادئ العلم وأصول العدل والإصلاح، وحسبك ما
رأوه من السلطانين العادلين المجاهدين نور الدين وصلاح الدين في الحروب
الصليبية , ثم ما زالوا في تَرَقٍّ وما زلنا في تَدَلٍّ إلى من أُدِيلَ لهم منا , وفتحوا من
بلادنا بالعلم والعقل أضعاف ما عجزوا عن فتحه بالسيف , فإنهم فتحوا بالعلم أدمغة
الألوف الكثيرة منا وقلوبهم , وتصرفوا في مراكز الإدراك منها ومشاعر الأنفس
منهم , فأودعوا فيها من المعلومات والوجدانات ما يُعَظِّمُ شَأْنَها ويُعْلِي قدرهم في
تاريخهم وآدابهم وعاداتهم وتشريعهم , من حيث يحط من شأن أمتنا وملتنا في
تاريخها وآدابها وتشريعها , فوطن هؤلاء أنفسهم على تقليدهم وقبول سيادتهم
ورياستهم , وكانوا منافذ بل أبوابًا واسعة لدخول الأجانب بلادهم والسيطرة على
حكوماتهم؛ من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون , فأفسدوا عليهم أمرهم ,
ونزعوا منهم استقلالهم , وخربوا عليهم بيوتهم بأيديهم , وليس من موضوع هذا
المقال تفصيل ذلك , وبيان الشواهد عليه في مشرق العالم الإسلامي ومغربه ,
ويغنينا عنه ما نشرناه أخيرًا , وما سننشره من مقالات السيد جمال الدين فيه , وإنما
نضرب مثلاً لذلك كلمة واحدة في مسألة السودان المصري التي هي أهم ما تتنازع
فيه مصر مع الإنكليز اليوم وهي أن إسماعيل باشا هو الذي مكّن الإنكليز من
الاستيلاء على السودان لا بطرس باشا غالي الذي أمضى لهم عقد الشركة مع مصر
فيه , وأن الذي فتحه للإنكليز غوردون (باشا) لا اللورد كتشنر (باشا) , وأما
الذي مكن الإنكليز من احتلال مصر فمعروف لقرب عهده.
أدخلنا الإفرنج بلادنا؛ ليصلحوها لنا فأفسدوا علينا أمرها بما أصلحوا لأنفسهم
من وسائل استغلالها وسلب استقلالها، فكان مثلهم ومثلنا كما قال الشاعر في القيان
تبارين يصلحن أعوادهن ... فأصلحهن وأفسدنني
أضاعوا علينا تشريعنا، وشوهوا لنا تاريخنا، وأفسدوا منا آدابنا، وسلبوا منا
ثروتنا، حتى انتزعوا منا سلطتنا، وكان من أكبر همهم في ذلك إبعاد رجال
الشريعة الإسلامية عن مناصب الحكومة، وحرمانهم من تولي شؤون الأمة،
وإيئاسهم من منصات الزعامة , وربوا لنا من نابتتنا من جعلوهم آلات لجميع ما
يريدونه منا، ومن قواعدهم فيه أن الدين والسياسة ضدان لا يجتمعان، ومن فروع
هذا الأصل أنه يجوز لكل فريق من الأمة أن يعنى بسياسة بلاده ويسعى لاستقلالها
ويبحث في شؤون حكومتها؛ إلا رجال الدين، معلمين كانوا أو متعلمين، فلا يسمح
لهم بقول في ذلك ولا فعل، ولا بتأليف جمعية أو حزب، وجرى العمل على هذا
وانقاد له الأزهريون خانعين صاغرين , حتى إذا ما هب شبانهم من رقادهم وأبوا
ليشاركوا الأمة في نهضتها بعد الحرب تأسيًّا بطلاب المدارس المدنية , وعقدوا لذلك
المحافل في الأزهر كَبُرَ الخَطْبُ على الإنكليز وعلى رجال الحكومة المصرية معًا ,
فحجروا على الأزهر وأهله، واشترعوا لعقابهم أحكامًا خاصة بهم، وأقفلوا أبواب
الأزهر في وجوه مريدي الاجتماع فيه؛ للبحث في شؤون الأمة والخطابة في
مصالحها , ووضعوا عليه الشُّرَط , ووافقهم الشيوخ الرسميون على ذلك , سكت
عنه غير المقيدين بالرسميات منهم , وربما هونه على بعض زهادهم في الدنيا ولو
عن عجز وضعف بعض الآثار , مثل حديث ابن عمر عند البيهقي (المؤمنون
هيّنون ليّنون كالجمل الأنف إن قيد انقاد , وإن أنيخ على صخرة استناخ) فإن
لأمثال هذه الروايات الباطلة تأثيرًا كبيرًا في قتل هذه الأمة، وهذا الحديث على
ضعف إسناده من مراسيل مكحول الدمشقي , وهو على علمه وزهده مُدَلِّسٌ، وإذا
حُمِلَ على ما أشرنا إليه كان معارض المتن بالقطعيات كعزة المؤمنين.
جرى العمل على هذا المنكر حتى صار هو المعروف , حتى عند جمهور
الأمة , ولذلك رأينا كثيرين يستنكرون بحث المنار في شؤون السياسة , ويقولون:
إنها مجلة دينية فمالها وللسياسة؟ وقد كلم بعض وجهاء الإسكندرية الأستاذ الإمام في
هذا محتجين به على انتقادنا الحكومة الحميدية , وكلفوه - رحمه الله - أن ينهانا
عن ذلك , فقال لهم: ماذا أقول له والإسلام لم يفصل بين الدين والسياسة؟ وآل
أمر رجال الدين بمصر وغيرها من البلاد إلى ترك شؤون الأمة حتى الإرشاد
الديني، وصاروا عَالَمًا آخر أقرب إلى الخيال منه إلى عالم الوجود , كما قلنا في
بعض مقالات المنار التي كتبناها في أول العهد بمعرفة حال هذه البلاد.
حاول السيد جمال الدين الأفغاني - أكرم الله مثواه - إخراج الأزهريين من
عزلتهم , وحملهم على العمل؛ لإصلاح حال الأمة والحكومة فلم يلق من جمهورهم
إلا الإعراض والنفور كما قلنا آنفًا، ثم كان من أمر من تلقوا عنه من مجاوري
الأزهر أن ترك أكثرهم الزي الأزهري أو الديني , وبرعوا كلهم في الأمور العامة
من حكومية وغيرها، وثبت آخرون أعظمهم وأشهرهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده والأستاذ القاضي الشيخ عبد الكريم سلمان، وممن عرفنا من الخاملين منهم
الشيخ داغر من القضاة الشرعيين , وكان شيخنا يبره ويحبه رحمهم الله أجمعين.
ثم تصدى لإصلاح الأزهر وإخراجه من عزلته إلى خدمة الأمة شيخنا الأستاذ
الإمام , وكان أعلم الناس بحال أهله وبما يحتاجون إليه , وبما ينبغي لهم وبما يُؤَثِّرُ
فيهم، وأحرص الناس على إعلاء شأنهم وحفظ كرامتهم , وتوفير رزقهم واتقاء
عبث الأمراء والحكام بهم مع تسخير هؤلاء لإصلاح شأنهم , فأما محمد توفيق باشا
فكان بعد عودة الشيخ من منفاه والبلاد رازحة تحت نير الاحتلال لا يزال على ما
كان من الحذر منه , منذ تنكر له ولأستاذه السيد جمال بعد أن كان من حزبهما، فلم
يسمح بأن يتولى شيئًا من التعليم في مدرسة دار العلوم لئلا يحدث في البلاد انقلابًا
جديدًا كما قال- وما كان يكون ذلك الانقلاب إلا خيرًا له ولبلاده- فلما قضى نحبه
وتولى الأمر ولي عهده عباس باشا وجاء من أوروبة يتدفق حماسة ويلتهب غيرة،
حامت حوله الآمال، وطاف بكعبة إمارته الرجال، فأرشده الأستاذ الإمام إلى أرجى
الأعمال، التي لا ينازعه فيها الاحتلال. قال له: إن لدى أفندينا ثلاث مصالح لا
يمكن أن يمد إليها الإنكليز أيديهم الآن [1] وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشرعية ,
فإذا هو عني بإصلاحها فإنه يصلح بها البلاد كلها، فأمر الأمير يومئذ بتأليف
لجنة لوضع نظام أو نظم لما ينبغي لهذه المصالح , فكانت تجتمع وتعمل سرًّا،
وراب أمرها أصحاب المقطم فصاروا يعرضون بها جهرًا. ثم كان من أمر إصلاح
الأزهر ما شرحه الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان في كتاب خاص سماه (أعمال
مجلس إدارة الأزهر) , وطبعناه بعد أن قرأه الأستاذ الإمام في أثناء مرض موته
وأذن بطبعه، وهو كتاب يشبه الرسمي , ولو صدر بقرار من مجلس إدارة الأزهر
لكان رسميًّا بالمعنى الاصطلاحي) .
وإن من وراء الرسميات في كل عمل من المصالح العامة أمورًا أهم من
الرسميات، ولا يسعنا أن نذكر من ذلك هنا إلا أن أكثر كبار الشيوخ حتى أعضاء
مجلس إدارة الأزهر كانوا كارهين للإصلاح والنظام , فلم يكن منهم ظهير مخلص
لواضع أصوله والناهض بأعبائه إلا صديقه وتربه الشيخ عبد الكريم سلمان , وإنما
كانت قوته التي يجاهدهم بها الحق المؤيد بالبرهان وتعضيد الأمير , فلما تنكر
الأمير له قويت معارضة الشيوخ حتى إن شيخ الجامع الأزهر كان يهمل تنفيذ
قرارات مجلس الإدارة الرسمية، وكان ذلك على أشده في مشيخة الشيخ سليم
البشري.
وأما الشيخ حسونة النواوي فكان مواتيًا معتدلاً , ولكن غضب الأمير الشديد
كان بعد مشيخته، ثم كان السيد علي الببلاوي مواليًا له فبلغ سخط الأمير منتهى
حده في عهد مشيخته، وكان له حظ كبير منه. فقد ألجئ إلى الاستقالة هو
والأستاذ الإمام وغيرهما من أعضاء إدارة الأزهر في وقت واحد , عقب اتفاق
الأمير مع الحكومة , على أن كل ما يهمهم من أمر الأزهر شيئان أحدهما: أن
يكون أهله في أمان , والثاني: تخريج القضاة الشرعيين؛ وإذ كان غير مستعد
لتخريج القضاة عزمت الحكومة على إنشاء مدرسة خاصة للقضاء الشرعي، وقد
صرّح الأمير بذلك في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني الذي ولي المشيخة بعد
السيد الببلاوي، وأسند المقطم يومئذ هذا الرأي إلى (أولياء الأمور) , ومعنى ذلك
اتفاق الخديوي والحكومة والإنكليز على حرمان الأزهر من كل شيء ….
وقد ذكرت في المنار، أهم ما طرأ على الأزهر من هذه الأطوار، ومنها
أمثلة عديدة من معارضة أعضاء مجلس الإدارة ومجادلاتهم للأستاذ الإمام، ولو
واتوه وعرفوا قيمة الإصلاح الذي كان يريده منهم ولهم وبهم لكان للأزهر الآن شأن
عظيم في مصر بل في العالم كله.
على أن قصارى ما كان من تأثير المعارضة أنها استطاعت تأخير الإصلاح
ولم تستطع أن تقتله قتلاً، ولا أن تجتث نبتته فرعًا وأصلاً، إذ لم تستطع أن تمنع
أفكار الإمام المصلح التي كان يلقيها في دروسه , والتي يعلل بها أعماله أن تنفذ إلى
العقول، وأن تأخذ مكانها من القلوب، فها هي ذي قد فعلت فعلها، وكان من
تأثيرها أن النابتة الجديدة من المدرسين والطلاب هم الذين صاروا يطلبون إصلاح
التعليم , واختيار الكتب النافعة , ودرس ما يسمى العلوم الجديدة، وجعل التعليم
الأزهري وسيلة للعمل ومؤهلاً لخدمة الأمة في مدارس الحكومة ومصالحها كتعليم
سائر المدارس الرسمية، وقد كانوا محرومين من كل هذا , فلا يخطر في بال أحد
من شيوخهم ولا من شبابهم، وإنما هي أفكار الأستاذ الإمام التي جعلت لهم قيمة عند
أنفسهم، من حيث لا يدري أكثرهم، ودروسه في التفسير والتوحيد والبلاغة
والمنطق , وإحداثه لتعليم الإنشاء في الأزهر هي التي أوجدت فيهم هذه الألسنة
الخاطبة، والأقلام الكاتبة، والحجج التي يجادلون بها الرؤساء والوزراء، بعد أن
كان أحدهم يُشتم ويُلعن وربما يُضرب بأخس ما يَضْرِبُ به جبار خادمه , فلا يرتفع
له رأس، ولا يدفع عن نفسه بقول ولا فعل، ولولا الكتابة والخطابة، لما
استطاعوا أن يبينوا ما لهم من حق ولا ما يشعرون به من كرامة.
لعل أكثر من لم يدرك عهد الأستاذ الإمام منهم لم يعلموا أنه - أحسن الله ثوابه-
قد احتال لإدخال تعليم الإنشاء في الأزهر احتيالاً , ولقي فيه معارضة شديدة من
كبار الشيوخ الذين يقولون: إن الإنشاء ليس بعلم، وأنه لا يصح أن يجعل في مواد
الدرس والتعليم، فلم ير وسيلة إلى إرضاء مجلس إدارة الأزهر بتقريره إلا وضع
مبلغ من المال لأجله , فاقترح عند وضع ميزانية الأوقاف العامة أن يوضع فيها
مائة جنيه باسم ترقية اللغة العربية في الأزهر , وإنما اختار هذا الاسم استثقالاً
للاعتراف بأن الأزهر لا يتعلم فيه الإنشاء , ولأنه كان يريد نوط هذا الدرس بمعلم
من غير الأزهريين كما أخبرني بذلك في وقته، فماذا كان من رأي أعضاء مجلس
إدارة الأزهر في هذا المبلغ عند وضع ميزانية الأزهر؟
اقترح بعض كبار الأعضاء منهم أن يوزع المبلغ عليهم , لأنهم يرقون اللغة
العربية بقراءة بعضهم لكتب النحو الكبرى , وبعضهم لمختصر السعد في البلاغة،
فأخبرهم الأستاذ بأن الغرض من وضع هذا المبلغ إحداث درس للإنشاء، قال
بعضهم: ولكن العبارة أعم فهي تشمل من يقرأ كتاب ابن عقيل فضلاً عن الصبان
والسعد قال أستاذُنا: أنا الذي وضعت هذه العبارة , ومرادي بالعام فيها هذا
الخاص من أفراده وإلا لم يكن لوضعها فائدة! !
وأما معارضة كبار الشيوخ له فيما يسمونه العلوم الجديدة؛ كتقويم البلدان
والحساب والهندسة بالطريقة العملية فقد كانت من فضائح التاريخ، وكان لمنشئ
هذه المجلة جولات هذه المعمعة , فكتب في الجرائد اليومية مقالات في الرد على ما
كتبه بعضهم في الإنكار على درس هذه العلوم في الأزهر , ولكن بإمضاء مستعار
كأزهري؛ لئلا ينسب إلى الأستاذ الإمام نفسه , أو إلى إيعازه لأن صلتي به ومكاني
من بطانته قد عرف منذ السنة الأولى من هجرتي إلى مصر، وهذا الكفاح فاجأني
فيها. وقد كتب الإمام نفسه في أثناء اشتداد المعارضة مقالة , ردَّ فيها على كلام
نُشِرَ في المؤيد عزى فيه إنكار تدريس تلك العلوم إلى الشيخ محمد الشربيني لكن
بالوصف الذي يعينه لا باسمه العلم , ربما ننشرها في جزء آخر. ولولا الإنشاء لما
كان للأزهريين هذا الصوت الذي صخ مسامع الوزراء، وملا جواء البلاد، ولولا
هذه العلوم التي كانوا ينكرونها لما كان لهم أن يطلبوا أن يكونوا معلمين في مدارس
الحكومة وغيرها كمتخرجي دار العلوم , بل هم يطلبون أن تكون هذه المدرسة تابعة
للأزهر.
على أن الإمام المصلح - أحسن الله جزاءه - كان يريد لهم وبهم ما هو أعظم
وأعلى مما يطلبونه اليوم لأنفسهم، كان يريد أن يكونوا أرقى طبقة في الأمة
الإسلامية، وأهلاً لكل ما تتوقف عليه حياتها الدينية والمدنية، وقد كان من أغرب
مساوئ عصر الضعف الذي منيت به الشعوب الإسلامية أن ترك رجال الدين والعلم
الشرعي فيه حبلها على غاربها، ورضوا بالذل والهوان لأنفسهم ولها، فلم يعنوا
بإصلاح أمرها من جانب الحكومة ولا من جانب الأمة، اتبعوا سنن من قبلهم في
الشر ولم يتبعوه في الخير، ولأجل هذا كنا ننحي عليهم باللائمة منذ أنشأنا المنار،
حبًّا فيهم وغيرة عليهم وإرشادًا لهم إلى ما يجب عليهم لسعادتهم وسعادة أمتهم بهم
وقد يستفيد الظنة المتنصح.
ومما يدخل في موضوعنا من أمر اتباعهم سنن من قبلهم أن رجال الدين من
أولئك الأقوام كانوا في القرون الوسطى لأمتهم , وهي التي يسمونها العصور
المظلمة , يحرمون كل ما يجهلون من العلوم والأعمال , ويضطهدون أهلها بعصبية
الدين التي كان سببها خضوع العامة لهم، واضطرار الملوك والأمراء إلى مداراتهم
ومواتاتهم، لمكانتهم عند العامة، وقد اتبعهم رجال الدين عندنا في هذا , ولكنهم لم
يبلغوا شأوهم فيه؛ لأن الإسلام لم يعطهم من الرياسة والسلطة ما أعطت أولئك
ديانتهم.
ولما رأى أولئك أن رجال العلم والفكر قد انتصروا عليهم وغلبوهم على
الملوك والأمراء، وطفقوا ينتزعون من الحكومات ما كان لهم فيها من النفوذ
والسلطان، بل تصدوا لمحاربة الدين نفسه بدعوى مخالفته للعلم والعقل وللفطرة
البشرية وطبيعة الوجود وسننه - لما رأى رجال الدين هذا - قبلوا على درس هذه
العلوم والفنون كلها , فحذقوها في أديارهم ومدارسهم الخاصة بهم , ودعموا بقوتها
بناء الكنيسة، واتخذوا منها سلاحًا للدفاع عن الدين، ثم تولوا هم تعليمها لأحداث
الأمة مع تعليم الدين وتربية النشء على آدابه وفضائله وعصبيته، والتوفيق بينها
وبين تقاليده وعقائده، بل اتخذوها ذريعة لبث دعوة دينهم في الملل الأخرى بقبول
أحداثها في مدارسهم المشتملة على ما ذكر؛ وأما رجال الدين الإسلامي فلم يتبعوا
سننهم في هذا الأمر النافع كما اتبعوه في ذلك الأمر الضار.
دخلوا في جحر الضب المشار إليه في حديث (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا
بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) قالوا يا رسول الله:
اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري ,
وفي لفظ لو دخلوا في جحر ضب الخ , ولكنهم لما يخرجوا منه إلا قليلاً منهم , بَيْدَ
أن الحركة الجديدة للنابتة الجديدة في الأزهر تبشرنا بقرب الخروج العام، الذي كان
يرجوه الأستاذ الإمام، وسنبين ذلك في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
ونختم هذه المقالة بما قلناه في هذا الموضوع مما زدناه في (المقصورة
الرشيدية) بعد وفاة الأستاذ الإمام من الكلام في نهوضه بأمر الإصلاح مع السيد
جمال الدين وبعده وهو:
ما تم للإمام ما أراد من ... خُطتي الإصلاح هدمًا وبنا
ولم يفته كل ما شاء فقد ... خرج من يتمُّ كل ما بنا
إذا استجاب الله ما به دعا ... وزال ما حاذره بما رجا [2]
إذ علم الأزهر كيف يفقه الد ... ين ويطلب العلوم واللُّغى [3]
من غير بحث في مقال من خلوا ... يكثر فيه الاحتمال والمِرا
علّمنا التفسير كيما نهتدي ... به على علم صحيح يُقتفى
وعلّم (أسرار البلاغة) التي ... (دلائل الإعجاز) منها تُبتغى
علّمنا التوحيد كي نفهمه ... بعقلنا لا بعقول من مضى
علّمنا (بصائر) المنطق كي ... نقيم ميزان العلوم للحجا
وهل وراء الدين واللسان والعقل ... إذا أصلحتهن منتهى
فإن يك الأزهر لم يصلح بها ... فقد نأى عن سبل من كان مأى [4]
ونبتت من غرسه نابتة ... ستلائم الصدع وترأب الثأى [5]
وترفع الحجر عن المعهد أو ... يعود جحر الضب رحبًا كالفضا
إذًا ينال وهو قد أشفى الشفا ... من مرض بات به على شَفا
ثم يولي المصلحون شطره ... ينحونه من كل فَجِّ ورجا
ما وردوا حياضه وصدروا ... ألا يفيضون علومًا وهدى
فأحيوا الإسلام في أنفس من ... واصلهم بهجره صرف الردى
فعاد آهلاً إلى موطنه ... من غربة طلبها عهد النوى
واستتبعت غربته المجد كما ... كان فعاد الأمر مثل ما بدا [6]
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا لفظه الذي سمعناه منه قبل تدخل الإنكليز في شؤون المحاكم والأوقاف , بل قد صرح له بأنه يخشى من ذلك في المستقبل , ولا سيما إذا بقيت هذه المصالح محتلة.
(2) فيه إشارة إلى الأبيات التي نظمها قُبَيْلَ وفاته التي قال فيها:
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم.
(3) اللغى بالضم جمع لغة.
(4) مأى - في الأمر يمأى: (وزن نأى ينأى) بالغ فيه وتعمق متكلفًا توسيعه , وهو من مأى الجلد إذا مده وشده ليتسع، والمراد أن الأزهر إن لم يكن قد صلح بالفعل فقد بعد عن طريق أولئك الشيوخ المتنطعين المتعمقين في ألفاظ الكتب وأساليبها الشاغلة عن جوهر العلوم.
(5) يقال: لأَمَ الصَّدْعَ والجرح إذا شده وجمعه وجبر كسره , ولأَمَ فلانًا إذا أصلحه , ويقال: ورأب الثأى إذا أصلح الفساد، وهو من ثئي الخرق ثأيًا إذا انخرم , ويقال: عظم الثأى بينهم إذا وقعت بينهم جراحات وقتل.
(6) إشارة إلى حديث: (بدأ الإسلام غريبًا ويعود غريبًا كما بدأ) رواه مسلم والترمذي.
والمعنى أن دعوة الإسلام غريبًا كما بدأ لا يقتضي أن تدوم هذه الغربة , بل تشبيه الإعادة بالبدء يدل على أن الغربة الثانية تؤول إلى ظهور وقوة وتستتبع عزًّا ومجدًا إن شاء الله تعالى.(25/698)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإغراء بين النصارى والمسلمين
أُرسل إلينا من بيروت كتاب جديد ألفّه أحد نصارى اللبنانيين؛ لأجل تأريث
العداوة والبغضاء بين أهل وطنه , إذ جمع فيه من كتب التاريخ ما عثر عليه مما
ينقمه النصارى من حكومات المسلمين من قول وفعل، ومن المُسَلّمات التي لا
يختلف فيها اثنان أن في كل أمة وكل حكومة عادلين وظالمين، وإن الظالم قد يظلم
القريب والموافق، كما يظلم البعيد والمخالف، وأن من الناس من لا يرضى من
مخالفه في الدين والسياسة بالحق ولا بالعدل، وأن من أخبار التاريخ الصادق
والكاذب؛ فعلى هذا يسهل على كل مُطَّلع على التاريخ المشترك بين الأمم والملل
أن يجمع منه ما ينكره بعضهم على بعض، ولكن هذا لا يكون إلا بنية سيئة.
أرسل إلينا هذا الكتاب لنرد عليه , والرد عليه سهل , ولكن ما فائدته؟ إن
أريد بها بيان أن ما قد يصح من تلك المطاعن شخصي ليس الباعث عليه أحكام
الإسلام؛ فهذا أمر يعرفه من يقرأ المنار من النصارى القليلين كما يعرفه المسلمون
لما شرحناه مرارًا من عدل الإسلام العام، والجمهور منهم لا يقرؤونه. وإن أريد
تلقين المسلم الحجج للرد على من يكلمه في ذلك , ففي المنار حجج كثيرة على عدل
الإسلام وتفضيله على جميع الملل والقوانين من الكتاب والسنة والتاريخ وشهادة
المنصفين من مؤرخي الإفرنج أنفسهم كقول فيلسوف فرنسة الاجتماعي ومؤرخها
المنصف الدكتور غوستاف لوبون: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من
العرب؛ يعني الذين أقاموا الإسلام ونشروه في العالم , وإن شاءوا المقارنة بين ما
كتبه هذا اللبناني عن المسلمين وبين ظلم دول النصارى للمسلمين ولليهود أيضًا
فهذه نبذة منه:
اضطهاد أسبانية لمسلمي الأندلس ويهودها:
جاء في ملخص تاريخ الأندلس الذي جعله الأمير شكيب أرسلان ذيلاً لرواية
(آخر بني سراج) ما نصه مترجمًا عن التواريخ الإفرنجية:
كانت دولتا قشتالة وأراغون تتسابقان في تعذيب المدجنين الذين ذكرنا أنهم
المسلمون الخاضعون لحكومة الأسبانيول وملوك الدولتين يتبارون في الانتقام منهم
والنكال بهم استزادة للمثوبة واستعلاء في درجات الآخرة، حسبما كانت عليه حالة
ذلك العصر من التحمس الديني والتأخر المدني.
ففي قشتالة كان هنري أخو بطره قد جعل للمدجنين والإسرائيليين علامة فارقة
اسمها (المشيرة) , وأمر بمنع اختلاطهم وأخذهم وعطائهم مع الأسبانيول , وأن لا
يقبل أحد منهم في خدمة الدولة.
وفي أيام جان الأول ملك قشتالة صدرت الأوامر بأن كل مسيحي يربي في
بيته مدجنًا (مسلمًا) أو إسرائيليًّا فله الحق كل الحق أن يؤدبه بالسياط , وأنه لا
يجوز لمدجن ولا ليهودي أن يستخدم عنده مسيحيًّا، وأن من خالف ذلك يضرب ,
وتضبط أملاكه، كما أنه لا يجوز دخول مسلم ولا يهودي بيت أحد من الأسبانيول
إلا إذا كان طبيبًا , وثبت لزومه , ومن خالف ذلك يغرم بدفع ستة آلاف مراويد
(نوع من السكة) .
وسنة 811 هجرية جدد جان الثاني أمر سلفه في رفض المدجنين واليهود في
خدمة الدولة , وضم إليه أن جزاء المخالفة دفع ثلاثة آلاف مراويد، وأن كل من
يسافر من المسلمين أو اليهود مع أحد الاسبانيول أو يؤاكله أو يستخدمه في عمل له
يجلد مائة، وإذا تكرر الفعل يؤخذ منه ألف مراويد , ويكون ثلثاها للمخبر، وإذا
وُجِدَ أحد من هؤلاء في وليمة أسبانيولي يغرم بدفع ثلاثة آلاف وإن عاد صاحبًا له
من الإسبانيول أثناء مرض يدفع ثلثمائة , وإن عاملهم بأخذ أو عطاء يدفع الثلاثمائة
ويضرب ويعزر.
وكانت في بادئ الأمر محاكم مخصوصة بالمدجنين فألغيت في التالي وأحيلت
دعاويهم إلى محاكم الأسبانيول , وصدرت الأوامر أيضًا بأن كل من يخرج مدجنًا
من مزارعه , ويستخدم لحرثه مدجنًا بدلاً عنه يغرم بخمسة آلاف مراويد , وإن
تكرر فعله فبمائة ألف , وإن تكرر أيضًا تضع الدولة يدها على جميع عقاراته ,
وإذا فر مدجن إلى غرناطة , ووقع أثناء فراره في يد الاسبانيول عُدَّ أسيرَ حرب
وضبطت جميع أمواله , وصار ملكًا لمن يمسكه.
وسنة 826 أضيف إلى هذا الشرط أن من منع من المدجنين ابنه من التنصر
عذب شديدًا , ومن أسر من مسلمي غرناطة أحدًا كان له ملكًا خالصًا.
وسنة 830 صدرت الأوامر بعدم اعتبار إمضاء الأسبانيول فيما عليهم
للمدجنين واليهود , وباعتبار إمضاء هؤلاء فيما عليهم للأسبانيول.
وسنة 833 صدرت الأوامر أن المسلم أو الإسرائيلي المُدَّعى عليه بِدَيْنٍ لأحد
الأسبانيول إذا أنكره لا يقبل منه اليمين , ولكن حيث كان بعض المدجنين واليهود
يضمنون الأراضي الأميرية , ففي هذه الحالة يقبل منهم اليمين عند الإنكار لعدم
إلحاق الضرر بخزينة الدولة.
وسنة 880 صدّقت الملكة إيزابلا جميع عهود جان الصغير , وأضافت عليها
حظر لباس الحرير وحلية الذهب والفضة على المسلمين واليهود (عاملت المسلمين
في ذلك بحكم شريعتهم لكن في الرجال فقط) , ووضعت لهم علامات فارقة في
الملبس من جملتها رقعة زرقاء عرضها أربع أصابع؛ لتمييز المسلمات
والإسرائيليات.
وما كفى كل هذا حتى نشرت حكومة قشتالة أمرًا لجميع عمال النواحي بأنه
بلغ الملكة وقوع إهمال في إنفاذ بعض الشروط بتمامها في حق المدجنين واليهود
وأنه إن حصل فيما بعد أقل تقاعس من أحد في تنفيذها بحرفها يعزل من منصبه
ويحرم معاشه.
وأما في مملكة أراغون فكان بطره الثالث قد أعلن في نحو سنة 68 هجرية
أن كل شخص مسيحيًّا كان أو مسلمًا أو إسرائيليًّا يمكنه استيطان مملكته والإقامة بها
حيث شاء , لكن يُنفى المسلمون واليهود من الخدمة العسكرية والمالية في الحكومة ,
ويحظر عليهم أن يدينوا الأسبانيول مالاً بأكثر من فائدة عشرين في المائة , وأن
دعاويهم تنظر عند الحكام , ويقبل فيها اليمين , على أنه إن كان لمسلم أو يهودي
دَيْن عند أحد الأسبانيول بدون سند أو بينة خطية فيقبل قوله من تاريخ الدين إلى
خمسة عشر يومًا , ومن ثمة لا يعود مقبولاً , والسند الذي للمسلم والإسرائيلي على
الاسبانيولي إن لم يسجل عند حكام الأسبانيول فبعد مضي ست سنواتٍ يسقط
اعتباره ويلغى كل حكم له.
وسنة 770 أصدر الدون جان أمرًا بأنَّ من تنصّر من أبناء المدجنين , ومات
أبوه فله نصيبه من الإرث كما لو بقي مسلمًا.
وسنة 780 صدرت الأوامر بأن كل مدجن يفر إلى أرض غرناطة , ويقع في
اليد يعتبر أسير حرب , وتضبط أملاكه , وتقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول للملك
والثاني لمن يكون قد قبض عليه , والثالث مناصفة بين صاحب الأرض التي أبق
منها وصاحب الأرض التي تهيأ وقوعه فيها.
ثم منع المدجنون من الجهر بالشهادتين (تأملوا) واستعمال النفير لما فيه من
تحريك الجامعة وجُوزِيَ من يجاهر بشيء من ذلك بالقتل (تأملوا) .
وسنة 890 أصدر الملك فرديناند صاحب أراغون أمرًا بمنع المدجنين من
الخروج من مملكته , وإنه إذا استصحب أحد الأسبانيول أحدًا منهم في خدمته
لضرورة قضت فيؤذن بشرط أن لا يكون مع المدجن ولد دون الأربع عشرة من
عمره , ذلك خوفًا من الفرار إلى بلاد الإسلام؛ إلى غير ذلك من آيات العدل (!)
التي تواترت في كتب الإفرنج , فلخصنا منها ما قرأت لا عجب فلولا هذه الغرائب ,
ولولا الإمعان في الظلم إلى هذه الدرجة لما تأخرت أسبانية إلى الحد الذي وصلت
إليه , بعد أن كان لها من مركزها في أوروبا وافتتاح أميركا على يدها , وانبساط
أيديها في مستعمرات الخافقين ما يضمن لها المقام الأول بين الدول اهـ.
__________(25/709)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
من الأمير إلى الملك [*]
بعث الأمير شكيب أرسلان بكتاب سياسي خطير إلى الملك حسين رأينا أن
ننشره لما تضمنه من الحقائق التاريخية قال:
الأمير النبيل سليل العترة الفاطمية، وطراز العصابة الهاشمية، أطال الله
بقاءه، وسدد إلى الصواب آراءه، آمين.
لا يخفى أن من الأحاديث المأثورة المشهورة عن جدك سيد الثقلين صلى الله
عليه وسلم (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) [1] .
فإذا كان الأمر كذلك أيها الأمير، ويطابق على صحته العقل وتظاهر بداهته
الحديث، فما قولك بالمؤمن يُلْدغ ألف مرة؟ وما ظنك بالمؤمن ابن المؤمن والشريف
ابن الشريف ولي نعمة الإيمان، ومشرق نور الإسلام، وأمير بلد الله الحرام، أن
لدغ من جحر قد سبق أنه لدغ منه غيره من المؤمنين لا مرة ولا مرتين، بل مرارًا
يضيع عندها الحساب، ولا يستوفيها كتاب؟
أيها الأمير عندنا في بر الشام مثل سائر: إن أنت لم تمت ألم تر من مات ,
فعلى فرض أن الإنكليز لم يخونوك إلى الآن أيها الأمير، أفلا تنظر إلى من خانوا
قبلك؟ وعلى تقدير أنه لم يأت وقتك , أفلا اعتبرت بمن أمهلوا قبلك ثم أخذوه؟
وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز , فيمكنك
أن تربح فكرك منها منذ الآن [2] ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا
وضعوا ضباطهم على أبواب حجرة المصطفى علية الصلاة والسلام، تفاديًا من
العجلة التي قد تخالف الحكمة، وتجر الوحشة , على حين لم يسترح بالهم ولا
تحققت آمالهم , أفليس عندك أنت بمكانك من الذكاء , والفضل , ومطالعة التواريخ ,
وقياس الحاضر على الماضي , وقوة الاستنتاج ما يدلك على أنك بعد ركود
العواصف , ومضي الأزمنة , وانقضاء الغرض من مراعاتك , ومدارتلك صائر
إلى ما صار إليه غيرك , ولا حق بمن تقدمك من ملوك الإسلام الذين وقعوا في
حبائل الإنجليز طوعًا وكرهًا، فما زالوا حتى عفوا آثارهم: وأطفئوا منارهم،
وجعلوهم في الغابرين.
أتظن أيها الأمير أن الإنكليز يغدرون بكل هؤلاء الملوك والممالك ويستثنونك
أنت من الجميع , فيتعلمون فيك الوفاء , ويخرقون من أجلك خطة الغدر التي ساروا
عليها إلى يومنا هذا مع كل من ظللته الخضراء، وأقلته الغبراء، حال كون
غرضهم في محو إمارتك وأخذ بلدك أعظم من غرضهم في أخذ غيرك، وحال كون
مصلحتهم في طي سجلك أهم من مصلحتهم في حذف أي أمارة من أمارات الإسلام
لأنهم يرون أنهم إن استولوا على الحرمين الشريفين , فقد استولوا على الرأس ,
فصارت في أيديهم أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعاد المسلمون
لا يملكون معهم عينًا تطرف ولا نفسًا تصعد، وأمنوا جانب انتقاضهم عليهم في
مستقبل الأيام، وكل فتوحاتهم لا يحسبونها شيئًا بالقياس إلى نشر أجنحتهم على
الحجاز وعلى البلد الأمين - والعياذ بالله - وجعله من جملة مستعمرات بريطانيا.
أم غرك كون الإنكليز عقدوا معك عهدًا؟ قُلْ بحرمة جدك أيها الشريف ابن
الشريف: كم عقدًا عقد الإنكليز ولم ينقضوه؟ وكم عهدًا أبرموه ثم لم يجعلوه أنكاثًا؟
وما أخالك تجهل التاريخ , وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود
والمواثيق إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة , التي تتجلى في جميع معاملاتهم
سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم.
ناشدتك الله أيها الأمير هل أنت مصدق في ذات صدرك وذخيرة نفسك أن
للإنكليز عهدًا يرعونه معك أو مع غيرك، أو ذمامًا يحفظونه لك أو لسواك إذا
قضت سياستهم [3] , أفلم تكن تقرأ , ولم يخبرك أبوك الأمير الكبير أنه قرأ
إعلانات حكومتهم الصريحة الرسمية مرارًا بأنهم يخلون مصر عندما يستتب فيها
الأمن ويعيدونها إلى أهلها؟ فماذا كان بعد ذلك سوى أنهم لبثوا يلتهمونها تدريجًا
حتى انتهوا باستلحاقها بدون أدنى مبالاة بعهود خطية، ولا بمواعيد رسمية،
وضموها إلى سائر مستعمراتهم؟ وإن أحسوا بأدنى مقاومة لأفكارهم في أرض
مصر ينسخون هذه الحكومة القائمة فيها كالشبح الماثل، ويجعلونها ولاية كسائر
الولايات، ولا نطيل عليك بسرد ما صنعوه في الهند وزنجبار وجنوبي اليمن
ومسقط والبحرين والكويت والعجم وبلوخستان وغيرها، وكل مبادئهم مع هذه
البلاد لم تكن إلا كمبادئهم معك، فكان من البديهي أن ينتهي معك الأمر كما انتهى
مع غيرك.
وإلى كم أيها الأمير تمر بنا المثلات ولا نعتبر، وتعظنا الحوادث ولا ندّكر؟
ونكون أشبه بالغنم يأخذها الجزار للذبح واحدًا بعد واحد وهي لا تعقل ماذا يصنع
بها حتى يصير السكين في أعناقها؟
فإذا كان من المقرر عند أهل الشرق والغرب أن الإنكليز ينكثون عهودهم لما
هو أقل شأنًا من الحجاز وتلك البقاع المقدسة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين من كل
حدب , فهل هناك في يدك من قوة مادية تمنعهم من دخول قلب بلادك , ويكونون
مضطرين أن يحترموك من أجلها؟ أو تردعهم فيما لو قضت عليهم سياستهم عن
سلب إمارتك، لا بل والإيقاع بك واستئصال جرثومتك؟
لا جرم أنك تقدر أن تدعى بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة التي
تكفل دفع إنكلترا بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من الخلق يرتاح
إلى هذه الدعوة، فأنت إذًا باتفاق كلمة جميع العقلاء وأهلك وقومك باقون تحت
رحمة إنكلترا ورهن إرادتها، وقيد إشارتها، موكول أمركم إلى أمانتها وكرم
أخلاقها [4] .
لا قوة معنوية تتكلون عليها من حفظ العهود، وتأكيد الوعود، بعد ما رأينا
سياسة إنكلترة مع غيرك. ولا قوة مادية من جيوش منظمة , ومدافع وذخائر وأعتاد
وطيارات وبوارج وغواصات وما أشبه ذلك مما تلتزم إنكلترة معه جانب الأدب
والكياسة، فبماذا أنت آمن شر تلك الدولة على جزيرة العرب ولا سيما على الحجاز
منذ أحقاب [5] ؟ وأي ضمان عندك على كونها لا تقلب لك ظهر المجن، فتندم حين
لا ينفعك الندم؟ وبعد أن يكون تسلط غير المسلمين على أقدس تراب عند المسلمين
منذ 13 قرنًا.
ليس من باباوية في الإسلام أيها الأمير، ولا مزية للمسلم على المسلم إلا
بالتقوى , وأقرب الناس إلى الرسول أطوعهم لوصاياه، وأنت لا تجهل ما في كلام
الله وأحاديث جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم مما يثبت لك أن مزيتك هذه
المتعلقة بسلالة الرسالة وبنور النبوة إنما تبدأ عند حفظ حدود الله لا غير.
أم تظن (أن الغاية تبرر الواسطة) كما يقولون؟ وإنك إنما تريد لتضع
أساس دولة عربية تبدأ في أول أمرها بالنشوء تحت حماية إنكلترة , حتى إذا بلغت
أشدها استقلت تمامًا، وأن تلك هي سنة النشوء والارتقاء؟ فاعلم أيها الأمير أن
الذين يزينون لك هذه الأوهام هم قوم قد عرفناهم ونعرفهم لا خلاق لهم، ابتلى الله
بهم هذه الأمة كما ابتلى كل الأمم بأمثالهم، وما هم في واقع الحال سوى سماسرة
الإنكليز يسعون أن يتمموا لإنكلترة صفقة البلاد العربية , وأسماؤهم مقيدة في دفتر
المبالغ السرية التي تنقدها إنكلترة سماسرتها السياسيين كلاً على قدر خدمته يدخل
هؤلاء عليك وعلى غيرك بمثل هذه الأعاليل , التي هي أسخف من أن يتنزل عاقل
مثلك لاستماعها فضلاً عن أن يتلقاها بالقبول.
هل الإنكليز الذين حلموا في المنام بطائر حلق فوق الهند , فهبوا مذعورين
وأرسلوا ببزاة طياراتهم لاصطياده في لوح الجو , يرضون أن هذا العرق العربي
النجيب الذي سبق له ما سبق في التاريخ العام يتمكن من تأسيس دولة عربية مستقلة
على ضفاف البحر الأحمر دهليز الهند , تسد على الإنكليز طريق حياتهم ومجاري
أنفاسهم أي وقت شاءت؟ أيظن أولئك المخدوعون بالإنكليز أنهم صاروا أدهى من
رجال بريطانيا , وأعلى كعبًا في السياسة , وأبعد نظرًا في عواقب الأمور , حتى
انتبهوا إلى ما غفلت هي عنه , وفكروا في مستقبل الأمة البريطانية.
أم هذه الأمة البريطانية التي هي أربعون مليونًا خَامَرَ عقولها الجنونُ ,
فصارت تسعى بإرادتها في تأسيس استقلال للعرب على طريق الهند , أو في مقابلة
مصر والسودان وتبحث عن حتفها بظلفها؟
قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية , الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها
ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟ .
ليقولوا لنا ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم , ونقر بفضلهم؟ لأننا
عرب نحب كل من أحب العرب , ونبغض كل من أبغض العرب , ولا نبالي بالقال
والقيل أمام الحقائق.
أترانا اكتفينا بأن يتلقبوا بألقاب الحكام ذوي السلطان؟ فهل الملك بالألقاب
والألفاظ الضخمة؟
ليتلقب واحدهم بملك الملوك أو سلطان السلاطين وهو ذو قوة نعرفها كما هي
فما يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها [6] .
إن قلت: إنك مستقل في الحجاز وأنها أول بلاد عربية استقلت أجبناك: إن
الحجاز وحده لا يمكن أن يستقل عن بريطانيا طرفة عين مادام الحجاز عيالاً على
الخارج وعلى ما وراء البحر , وما دام ليس هناك استقلال اقتصادي ممكن , وإن
قلت: إنه يقدر أن يستغني عن البحر , وأن يعيش من الداخل , فأي داخل دخل
عليك لهذه المملكة الجديدة؟
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) ...
__________
(*) رأينا هذا الكتاب بهذا العنوان في جريدة (الوطن) السورية البرازيلية , ولم نره في جريدة أخرى , والظاهر أنه كتب في أوائل سني الحرب الكبرى، فلم ندر كيف وصل إلى هذه الجريدة المنشأة لنشر الإعلانات التجارية دون غيرها من الجرائد التي اعتدنا أن نرى فيها جولات يراع أمير البيان , فنشرناه بنصه لما فيه من الحجج الناهضة على جهل الشريف حسين وغروره وجنايته على الأمة العربية وبلادها , ومن النصائح الناصعة والحكم البالغة التي يجب أن يعرفها كل عربي.
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) وضع هذه الجملة التفريعية بين الجملة الشرطية , وما عطف عليها غير ظاهر.
(3) كذا في الأصل , والمعنى إذا قضت سياستهم غير ذلك أو أن يخفروه.
(4) المنار: كان الأولى بالكاتب أن يخاطب حسينًا هنا بلغته وعرفه في التعبير عن اتكاله على إنكلترة فيقول: موكول أمركم إلى (الحسيات النجيبة البريطانية) وهو حين كتب هذا لم يكن يعلم أنه هو وأولاده بَنَوْا أساس سياستِهم على أن يكون الحجاز وما دونه من بلاد العرب تحت حماية الإنكليز بشرط أن يجعلوهم ملوكًا وأمراء فيها.
(5) لعله قد سقط من هنا كلمة يتعلق بها ما بعدها , كان يقال: الطامعة هي فيه منذ أحقاب.
(6) قوله: وهو ذو قوة نعرفها كما هي: يعني أنها لا غناء فيها ولا اعتداء بها، وإلا فالمقام مقام النفي أي وهو ليس بذي قوة يصدق بها اللقب وقوله: فما يؤثر علي الأمة الإسلامية الخ لعل أصله الأمة العربية , فحرف في الطبع أو سبق القلم قبله , وتعدية التأثير بعلى من أغلاط الجرائد التي يجتنب مثلها الأمير شكيب , ولكنها مما كثر استعماله قولاً وكتابة , حتى صارت تجري بها الأقلام كالألسنة ولا يتذكر الكاتب العالم بها أنها من الغلط.(25/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الحديثة
أكثر ما يهدى إلى المنار من المطبوعات الحديثة خيارها بالفعل أو برأي مَن
يعرفنا من ناشري الكتب في مدح ما لا يستحق المدح أو السكوت عن ذم أصحابها
لعدم طمع من الضار: كأكثر الروايات والقصص وأمثالها , وقد كثر لدينا من
المطبوعات ما يستحق أن يقرأ وأن يقرظ وينتقد للترغيب في نفعه أو التحذير من
ضرر فيه، ولا نزال يضع بالقرب منا كثيرًا من هذه الكتب والرسائل؛ لنذكرها
عند سنوح فرصة , فنقرأ منها ما يبيح لنا أن نقول فيها قولاً مفصلاً ومجملاً، وقد
سبق أن ذكرنا مثل هذا , ولكننا نرى الموانع تزداد سنة بعد سنة , فعزمنا على
احتذاء مثال غيرنا من أصحاب المجلات بذكر هذه المطبوعات بكلمات وجيزة
قضاء لما للمُهْدِينَ من الحق الذي أعطاهم إياه الشرع والعرف , فمِنْ هَدْي السنة
النبوية مكافأة المُهْدي وجزاؤه، ويقابل ذلك حق قراء المجلات على قرائها في
النصح لهم , أو عدم غشهم على الأقل فنقول:
(الأخلاق عند الغزالي)
من هذه الكتب التي يوجب الشرع والعرف وحال العصر انتقاده بالتفصيل
كتاب (الأخلاق عند الغزالي) الذي ألفه (الدكتور زكي مبارك) , وتقدم به إلى
الجامعة المصرية عند امتحان شهادة (الدكتورية) في الآداب العربية , فكان لذلك
ضجة استياء وحملة شديدتين من علماء الأزهر وغيرهم من أهل الدين , سبق
مثلهما لغيره من خريجي هذه الجامعة , فكان ذلك من المسائل التي تستوقف الفكر،
وتدعوه إلى الجولان والبحث، وقد نظر في هذا الكتاب نظرة عجلى مرة واحدة،
وقرأنا عنه مسائل متفرقة، علمنا بها أن فيه من مواضع النقد ما لم نسمع , ولم
نقرأ كلامًا لأحد فيه، ولعله أهم من كل ما كتب الكاتبون الكثيرون في نقده؛ لهذا
نعد بأننا سنخصه بوقتٍ نقرأ فيه منه كل ما يتوقف عليه الحكم فيه , قبل كتابة ما
طلب منا مهديه وغيره من نقده إن شاء الله تعالى.
***
(غرائب الغرب)
(كتاب اجتماعي تاريخي اقتصادي أدبي فيه كلام عن مدينة فرنسة وإنكلترة
وألمانية وإيطالية وأسبانية وسويسرة والبلجيك وهولاندة والنمسة والمجر والبلقان
واليونان والآستانة ومصر والشام؛ ومقالات في علائق الغرب بالشرق منذ الزمن
الأطول، ولا سيما صلات الغرب مع العالم الإسلامي والعربي منه خاصة، في
جنوبي إيطالية وفرنسة) .
مؤلف هذا الكتاب صديقنا محمد أفندي كردعلي رئيس المجمع العلمي العربي
في دمشق ومنشئ مجلة المقتبس وجريدة المقتبس , فهو غني عن التعريف ,
مشهور عند أهل العلم والأدب، حسن الاختيار , حسن العبارة , معتدل الفكر ,
حريص على الإصلاح العلمي والمدني , فما كتبه في هذا الكتاب من أخبار رحلته
الأولى والثانية إلى أوروبة مفيد لقراء العربية إن شاء الله تعالى , كما رجا من كرم
الله تعالى.
طبع الجزء الأول منه صاحب المكتبة الأهلية بمصر سنة 1341 في المطبعة
الرحمانية , وهذه الطبعة الثانية له صفحاته 338 وثمنه 25 قرشًا , وهو يطلب من
طابعه ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(المختصر في تاريخ آداب اللغة الغربية)
لمنشئ مجلة الهلال جرجي زيدان بك كتاب في تاريخ آداب اللغة العربية ,
يدخل في أربعة أجزاء , مرتب على أعصر التاريخ , كان رسم خطته لاختصاره
في جزء واحد.
يرتب على حسب الموضوعات الأدبية , ولكنه توفي قبل إنجاز ذلك , فعهدت
إدارة الهلال إلى الأستاذ أنيس أفندي الخويري المقدسي أستاذ هذا الفن في الجامعة
الأمريكية ببيروت بمراجعة أصوله وترتيبها فأجاب وأجاد، وقد طبع الكتاب في
العام الماضي بمطبعة الهلال على ورق جيد فنحث القراء على مطالعته.
***
(الزهراء)
مجلة علمية أدبية اجتماعية تصدر في القاهرة في منتصف كل شهر عربي
لمنشئها محب الدين (أفندي) الخطيب، اشتراكها السنوي خمسون قرشًا مصريًّا
في المملكة المصرية , وستون قرشًا في الخارج، وسنتها عشرة أشهرٍ , ويتألف كل
جزء منها من ثمانية كراريس (ملازم) , وتهدي إلى المشتركين كتابًا في آخر
السنة بدلاً من الشهرين.
صاحب هذه المجلة كاتب مشهور اشتغل بالكتابة والتحرير في عدة صحف
أولها المؤيد وآخرها الأهرام , ولا يزال من المحررين فيها، وهو محب للإتقان
فمجلته جديرة بالثبات على خدمة الآداب العربية , مرجوة الارتقاء والنجاح، فعسى
أن تصادف من القراء تعضيدًا يعينها على هذه الخدمة النافعة.
***
(الشورى)
جريدة أسبوعية سياسية , تبحث في شؤون سورية: فلسطين سورية لبنان
شرق الأردن؛ يصدرها في مصر محمد علي أفندي الطاهر سكرتير الجمعية
الفلسطينية بمصر , وهو من الشبان الفلسطينيين الأذكياء تَمَرَّسَ بالسياسة من نشأته
الأولى في أثناء الحرب العامة , وتَمَرَّنَ على الكتابة في أشهر الجرائد المصرية
والسورية الفلسطينية، وهو في نشاطه وخبره جدير بالنجاح في عمله وخدمة وطنه
به، وله أصدقاء كثيرون من حملة الأقلام يؤازرونه ويمدون جريدته في
الموضوعات السياسية العامة والآداب , فنتمنى له التوفيق والفلاح , وقيمة
الاشتراك في الشورى 75 قرشًا صحيحًا في القطر المصري و75 قرشًا في فلسطين
وسائر الأقطار.
__________(25/718)
شعبان - 1343هـ
مارس - 1925م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم المكره على الحلف بالله أو بالطلاق
(س27) وُجِّهَ إلينا الاستفتاء الآتي في جريدة الأهرام من أصحاب
الإمضاءات التي في آخره , وهم من المندوبين لانتخاب أعضاء مجلس النواب
المصري , وقد أشيع أن من رجال الحكومة من يُكْرِهُ أمثالهم على الحلف بانتخاب
فلان دون فلان , وقد استفتى غيرهم بعض العلماء فجمجم بعض , وسكت بعض.
وهذا نص الاستفتاء:
إلى العالم العلامة المصلح الكبير حجة الإسلام ومشكاة الشرع السيد محمد
رشيد رضا منشئ المنار الإسلامي:
ما قولكم دام فضلكم فيمن أكره على الحلف بالطلاق أو بالله أو بالمصحف
ليفعل أمرًا لا يجب عليه شرعًا فعله مع قدرة المُكْرِهِ على تنفيذ ما هَدَّدَ به المُكْرَهَ
(بالفتح) لا زلتم للإسلام حصنًا منيعًا وللدين عمادًا رفيعًا.
... ... ... ... ... ... محمد خطاب مندوب ثلاثيني
... ... ... ... ... سيد أحمد علي مندوب ثلاثيني ... ...
... ... ... ... ... ... مصطفى مصطفى مندوب ثلاثيني
وهذا نص ما أجبنا به ونشر في الأهرام:
نحن إنما نجيب عن أمثال هذه المسائل ببيان دلائل الشرع وحكمة أحكامه لا
بالكتب المخصوصة في مذهب معين , وإن كان هو الذي قيدت به المحاكم الشرعية
والفتاوى الرسمية. فنقول هنا: إذا حلف أحد ليفعلن كذا مما لا يجب عليه شرعًا
ففيه تفصيل فإن غير الواجب يشمل المندوب والمستحب شرعًا , والمباح والمكروه
والحرام، فإن كان المحلوف على فعله مندوبًا أو مباحًا فلا وجه للتفصي من القسم
وعدم البر باليمين بعذر الإكراه , فإن ما سيأتي بيانه من الخلاف والراجح منه في
مسألة الإكراه لا يقتضي أن يحنث في يمينه , فإن الخروج من الخلاف أولى من
الدخول فيه كما قال العلماء , ومن البديهيات أن من لا خلاف في جواز عمله أو
صحته خير من المختلف فيه وإن كان المحلوف على فعله من المحظورات القطعية
أو الظنية فلا يفعله وإن حلف مختارًا , فإن اليمين على فعل المعصية أو ترك
الواجب باطلة لا يجب الوفاء بها , بل يحرم ومثلها النذر , واختلف في كفارتها كما
سيأتي , فكيف إذا أكره على الحلف إكراهًا؟ وكيف لا يحنث في اليمين على ترك
المعصية وقد صح الأمر بالحنث فيمن حلف على شيء فوجد غيره خيرًا منه، وفيه
أحاديث منها ما رواه الشيخان (البخاري ومسلم) وغيرهما من حديث عبد الرحمن
بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير)
وفي رواية لأبي داود والنسائي (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير) وفي
معناه أحاديث أخرى في الصحيحين والسنن , وهو دليل على أن من حلف أن
ينتخب فلانًا لمجلس النواب , ثم رأى أن غيره أنفع منه وأقدر على القيام بالمصلحة ,
فعليه أن ينتخب هذا دون من حلف لينتخبه , ويكفر عن يمينه إذا حلف باختياره
وإلا فلا كفارة عليه.
وفي معنى ذلك في النذر قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله
فليطعه , ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن
الأربعة من حديث عائشة رضي الله عنها , بل ورد فيمن نذر أو حلف على عمل
شاق إفتاء النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالكفارة دون تعذيب نفسه؛ روى الشيخان
وأصحاب السنن الثلاثة من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا
يهادى بين ابنيه فقال: ما هذا؟ قالوا نذر أن يمشي- زاد النسائي في رواية - إلى
بيت الله - قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني) وأمره أن يركب , وروى
أحمد والشيخان عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله
فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال: (لتمش
ولتركب) وفي رواية أصحاب السنن الأربعة أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير
مختمرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله لا يصنع بشقاء أختك
شيئًا مُرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام) وفي بعض الروايات أمرها أن
تهدي بُدنة.
واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا؟ فقال الجمهور: لا،
وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم؛ ونقل الترمذي
اختلاف الصحابة في ذلك واتفقوا على تحريم النذر في المعصية , واختلافهم إنما هو
في الكفارة قاله في نيل الأوطار.
وأما الحلف بالطلاق اختيارًا فللعلماء فيه ثلاثة أقوال مشهورة: أشدها أنه يقع
به الطلاق وأخفها أنه لا يقع به شيء ألبتة؛ لأنه عبارة عن تأكيد للكلام وصاحبه لم
يعزم الطلاق ولم يُردْهُ , وأوسطها أنه تجب به كفارة يمين , وليس هذا بموضع
بسط أدلة هؤلاء القائلين وترجيح الراجح منها , وإنما ذكرناه تمهيدًا للكلام في
الإكراه عليه هل يقع أم لا؟ .
اتفق جمهور أئمة المسلمين وعلماء الملة المستقلين من السلف والخلف إلى أن
من أُكْرِهَ على شيء من قول أو فعل فأتى به مُكْرهًا غير مريد له فإنه لا يؤاخذ به
في الجملة، واختلفوا في مسائل من ذلك تعارضت فيها النصوص عند بعضهم أو
رأوا أنه لا يتحقق فيها الإكراه , والأصل في هذه المسألة قوله تعالى في سورة
النحل: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل:
106) الآية؛ فجعل الكفر بالله بالإكراه من مطمئن القلب بالإيمان غير مؤاخذ به ,
والكفر أعظم الآثام وأشدها عقابًا فما دونه أولى بأن لا يؤاخذ المكره عليه، وكذا
قوله تعالى في إكراه الإماء على البغاء {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 33) أي لا يعاقبهن على الزنا بالإكراه.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه (أحكام القرآن) في تفسير الآية
الأولى: فذكر استثناء من تكلم بالكفر بلسانه عن إكراه , ولم يعقد على ذلك قلبه ,
فإنه خارج عن هذا الحكم معذور في الدنيا مغفور له في الأخرى.
ثم قال في سياق تفسير المكره: وقد اختلف الناس في التهديد , هل هو إكراه
أم لا؟ والصحيح أنه إكراه , فإن القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلا
قتلتك أو ضربتك أو أخذت مالك أو سجنتك , ولم يكن له من يحميه إلا الله , فله أن
يقدم على الفعل ويسقط عنه الإثم في الجملة إلا في القتل , فلا خلاف بين الأمة أنه
إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره , ثم ذكر الخلاف في
الزنا أيضًا , وقول من قال: إنه لا يتحقق فيه الإكراه؛ لأنه شهوة غريزية إلخ.
ثم قال: لما سمح الله تعالى في الكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه , ولم
يؤاخذ به ولا ترتب حكم عليه , وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء (رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه
صحيح باتفاق من العلماء [1] ، ولكنهم اختلفوا في تفاصيل (منها) قول ابن
الماجشون في حد الزنا وقد تقدم , (ومنها) قول أبي حنيفة: إن طلاق المكره يلزم
لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا , وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل , وهذا
قياس باطل فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راضٍ به , والمكره غير راضٍ ولا نية
له في الطلاق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ولكل
امرئ ما نوى) .
ثم قال: من غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث في
اليمين هل يقع به الإكراه أم لا , وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم لا كانت هذه
المسألة ولا كانوا هم، وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها
لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع؟ فاتقوا الله وارجعوا بصائركم، ولا تغتروا
بذكر هذه الرواية، فإنها وصمة في الرواية) اهـ.
أقول: أما حديث: (ثلاث جدُّهن جِدٌّ وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)
الذي استدل به الحنفية في هذه المسألة , فقد رواه أصحاب السنن إلا النسائي وقال
الترمذي: حسن غريب، وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك قال النسائي
فيه: منكر الحديث ووثقه غيره وله شواهد أضعف منه.
وقد رد الجمهور استدلال الحنفية بعمومه على وقوع طلاق المكره من وجوه
غير ضعفه أقواها أنه لو كان صحيحًا لما صلح معارضًا لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} (النحل: 106) ودلالتها على عدم الاعتداد بطلاق
المكره ويمينه ونذره بالأولى، (ومنها) الأحاديث الواردة في ذلك كحديث (لا
طلاق ولا إعتاق في إغلاق) والإغلاق الإكراه كما نقله الحافظ , وقال: إنه
المشهور رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة , وكذا أبو يعلى
والحاكم وصححه , وفي إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح ضعّفه أبو حاتم وذكره
ابن حبان في الثقات , ولكن رواه البيهقي من غير طريقه , وكحديث (رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم في
المستدرك من حديث ابن عباس وفي إسناده مقال , وقد حسنه النووي , وفي معناه
آثار تُقَوِّيهِ سنذكر بعضها وأقل ما يقال في هذه الروايات: إنها مخصصة للحديث
الذي ذكروه ومنها حديث النية. قال البخاري في كتاب الطلاق من صحيحه:
(باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط
والنسيان في الطلاق والشرك وغيره) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما
الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) .
ثم قال فيه: وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق , وقال: ابن
عباس طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. قال الحافظ ابن حجر في شرحه
لعنوان الباب: اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على
العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل
المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل , وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على
الشيء.
ثم قال الحافظ: وقد اختلف السلف في طلاق المكره فروى ابن أبي شيبة
وغيره عن إبراهيم النخعي أنه يقع قال: لأنه شيء افتدى به نفسه وبه قال أهل
الرأي (يعني الحنفية) , وعن إبراهيم تفصيل آخر إنْ وَرَّى المكره لم يقع وإلا
وقع , وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص وقع وإن أكرهه السلطان فلا؛ أخرجه
ابن أبي شيبة , ووجه بأن اللصوص من شأنهم أن يقتلوا من يخالفهم غالبًا بخلاف
السلطان.
(قال) : وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع فيه , واحتج عطاء بآية
النحل {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: 106) قال عطاء:
الشرك أعظم من الطلاق. أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وقرره الشافعي
بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه , وأسقط عنه أحكام الكفر ,
فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط سقط ما دونه بطريق
الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة
اهـ كلام الحافظ.
وقال الإمام الشوكاني في شرح حديث (لا طلاق في إغلاق) من كتابه (نيل
الأوطار) ما نصه: وقد استدل بهذا الحديث من قال: إنه لا يصح طلاق المكره ,
وبه قال جماعة من أهل العلم حكى ذلك في البحر عن علي وعمر وابن عباس
وابن عمر والزبير والحسن البصري وعطاء ومجاهد وطاوس وشريح
والأوزاعي والحسن ابن صالح والقاسمية والناصر والمؤيد بالله ومالك
والشافعي، وحكي أيضًا وقوع طلاق المكره عن النخعي وابن المسيب والثوري
وعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وأصحابه، والظاهر ما ذهب إليه الأولون إلخ
يعني أن الصواب قول الجمهور وشَرَعَ في الاستدلال عليه.
وحاصل ما تقدم أن من حلف بالله أو بالطلاق مكرهًا لا تنعقد يمينه , ولا
يجب عليه به شيء سواء كان اليمين بالله تعالى أو بالطلاق , وأن هذا ما كان عليه
جمهور المسلمين من الصحابة والتابعين والعترة النبوية وأئمة الأمصار، وأن أدلتهم
عليه الكتاب والسنة والقياس الصحيح , فالمطلوب من كل ذي دين أن لا يمنعه ذلك
عن النصح لأمته ووطنه , وعلى المستفتين لنا وأمثالهم أن ينصحوا لأمتهم بانتخاب
من يرونه أصلح للقيام بأعباء النيابة عن الأمة , وأقدر عليها وأخلص فيها {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
***
بدعة الحلف بالطلاق وحكمه
(س28) من سائل كَنَّى عن نفسه بكلمة مستفهم , فأجبت عنه بما يعلم منه
معنى السؤال , وهذا نص الجواب كما نشر في الأهرام إجابة لطلبه.
سألني سائل (مستفهم) عن بدعة الحلف بيمين الطلاق هل أحدثها الحجاج
بن يوسف الظالم المشهور أم لا؟ وما حكمها؟ وهل قال أحد من الفقهاء: إنه يجب
بها كفارة يمين؟ إلخ وُجِّهَ إليَّ هذا السؤال في جريدة الأهرام أولاً فرأيت أن ما
يتعلق منه بالحكم الشرعي قد سبق لي بيانه في الفتوى التي نشرت في الأهرام ,
جوابًا لمن سألوا عن حكم الإكراه على اليمين بالله وبالطلاق , وإنني لست مكلفًا أن
أضيع وقتي في كتابة المسائل التاريخية التي يسهل على كل قارئ أن يراجعها في
مواضعها , ثم كَتَبَ إليَّ هذا السائل كتابًا خاصًا وصل إليَّ اليوم (15 شعبان)
علمت منه أن ما ذكرته في الفتوى الأولى من خلاف العلماء في يمين الطلاق , لم
يفهمه كل أحد حق الفهم لذكره مختصرًا؛ فرأيت أن أجيب عن السؤال بقدر ما أرى
من الفائدة بالبينات التي تطمئن بها القلوب، والنقول التي تستنير بها البصائر، لا
بالدعاوي التقليدية التي اعتاد الكثيرون من الشيوخ أن يحملوا الناس عليها لأنهم
قالوها وعزوها إلى مذاهبهم فأقول:
إن لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - قواعد في العقود واختلاف
المذاهب فيها , ودلائلهم عليها , وبيان الراجح والمرجوح منها، هي غاية التحقيق في
بابها، وقد افتتح القاعدة الخامسة منها وموضوعها (الأيمان والنذور) بالآيات
القرآنية التي تنكر على الناس تحريم ما أحل الله لهم , وجعل الحلف باسمه تعالى
عرضة لمنع البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ والتي تدل على عدم المؤاخذة
باللغو في الأيمان وهو ما لم ينوه الحالف ولم يكسبه قلبه، ثم وضح المقصود من
الباب بمقدمات , وحررها في قواعد مفصلة، وحصر الأيمان في المقدمة الأولى
منها في ست: (1) اليمين بالله (2) اليمين بالنذر (3) اليمين بالطلاق (4)
اليمين بالعتاق (5) اليمين بالحرام كقوله: عليَّ الحرام لا أفعل كذا (6) الظهار
الذي هو نوع من تحريم الزوجة بتشبيه الزوج إياها بأمه مثلاً , ثم قال بعد هذا
التقسيم: (وأما أيمان البيعة فقالوا: أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي ,
وكانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ,
يعقدون البيعة إما كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوهما , وإما أن يذكروا
الشروط التي يبايعون عليها , ثم يقولوا: بايعناك على ذلك، كما بايعت الأنصار
النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة , فلما أحدث الحجاج حلف الناس على بيعتهم
لعبد الملك بن مروان [2] بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال؛ فهذه الأيمان
الأربعة كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة , ثم أحدث المستحقون (؟) عن الأمراء
من الخلفاء والملوك وغيرهم أيمانًا كثيرة أكثر من تلك , وقد تختلف فيها عادتهم ,
ومن أحدث ذلك فحسبه إنما ما ترتب على هذه الأيمان من الشر) اهـ.
أقول: ولما جرى العباسيون على بدعة الأمويين في أيمان البيعة , كان ممن
أنكر عليهم من العلماء الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - وقد احتمل الأذى
في سبيل الله تعالى حتى إنه ترك بعد ذلك صلاة الجمعة والجماعة كما ذكره الفقهاء
والمحدثون والمؤرخون.
روى الحافظ أبو نعيم في الحلية أن جعفر بن سليمان ضرب مالكًا في طلاق
المكره. قال ابن وهب وحمل على بعير فقال: (ألا من عرفني فقد عرفني , ومن
لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن عامر , وأنا أقول طلاق المكره ليس بشيء) ,
فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك , فقال: أدركوه وأنزلوه. وفي
تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي: قال: المفضل بن زياد سألت أحمد: من الذي
ضرب مالكًا؟ قال ضربه بعض الولاة في طلاق المكره , وكان لا يجيزه فضربه
لذلك. وروي عن مالك أنه قال: ضربت فيما ضرب فيه سعيد بن المسيب ومحمد
ابن المنكدر وربيعة , ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر وقال الواقدي: حسدوا
مالكًا وسعوا به إلى جعفر بن سليمان وهو على المدينة , وقالوا: إنه لا يرى بيعتكم
هذه شيئًا , ويأخذ بحديث في طلاق المكره أنه لا يجوز فغضب ودعا به , وجرد
ومدت يده حتى انخلع كتفه (قال) : فوالله مازال بعد ذلك الضرب في علو ورفعة ,
وكأنما كانت تلك السياط حليًّا تحلى به. وروى الحافظ أبو الوليد الباجي قال:
حج المنصور فأقاد مالكًا من جعفر بن سليمان فامتنع مالك , وقال: معاذ الله: أي
لم يرضَ بأن يقتص له المنصور من عامله جعفر , وقد نقل خبر عزلته وتركه
للمسجد والجمعة والجماعة غير واحد منهم الشاطبي وابن خلكان في تاريخه.
هذا , ولما بلغ شيخَ الإسلام مسألةُ الحلف بالطلاق ذكر أنها لم يرد فيها شيء
عن الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنها لم تكن حدثت في زمانهم , وإنما ابتدعها
الناس في زمن التابعين , فاختلفوا فيها هم ومن بعدهم , وقد أطال في بيان هذا
الخلاف ودلائل المختلفين فيه ومفاسد القول بوقوع الطلاق , وخروجه بالملة السمحة
عما وصفها الله تعالى به من اليسر ورفع الحرج، والحيل التي جعلوا بها آيات الله
هزؤًا، ولا يمكن نقل شيء من كلامه في أدلة المسألة لطوله وتعلق بعضه ببعض،
ولكنه ذكر الخلاف في فتوى مختصرة منشورة في أول المجلد الثالث من فتاواه قال
فيها ما نصه:
(وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال: (أحدها) إذا حنث لزمه ما حلف به
(والثاني) لا يلزمه شيء (والثالث) يلزمه كفارة يمين , والقول الثالث أظهر
الأقوال؛ لأن الله قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) وقال:
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: 89) , وثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي موسى
أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير وليكفر
عن يمينه) , وجاء هذا المعنى في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي موسى
وعبد الرحمن بن سمرة، وهذا يعم جميع أيمان المسلمين) .
وقد أطال في إثبات شمول التحلة بالتكفير عن اليمين للحلف بالطلاق في
رسالة قواعد العقود , التي أشرنا إليها بما ينبغي أن يراجعه من شاء ذلك , والعمدة
فيه ما ورد في سبب نزول آية التحريم , ونكتفي بأهم ما ورد فيه وأصحه من
صحيح البخاري وشرحه الفتح فقط: روى البخاري في صحيحه أن ابن عباس قال
في الحرام يكفر , وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) قال الحافظ ابن حجر في شرحه من كتاب التفسير: أي إذا قال
لامرأته: أنت عليّ حرام , لا تطلق وعليه كفارة يمين، وذكر من زيادة رواية
أخرى عنه: إذا حرم امرأته ليس بشيء (قال) : والغرض من حديث ابن عباس
قوله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) فإن فيه
إشارة إلى سبب نزول أول هذه السورة وإلى قوله فيها: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) وفي بعض حديث ابن عباس عن عمر في القصة الآتية:
فعاقبه الله في ذلك , وجعل له كفارة اليمين , ثم ذكر الحافظ القولين في تحريم
ما أحل الله له وهو شرب العسل عند زينب أم المؤمنين أو تحريم مارية القبطية
على نفسه (قال) : ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال:
(حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمَته وقال: وهي علي
حرام) , فنزلت الكفارة ليمينه , وأمره أن لا يحرم ما أحل الله له , وذكر غير هذه
الرواية في المسألة.
ثم عاد إلى ذلك في شرح حديث ابن عباس من كتاب الطلاق من البخاري،
ومما جاء فيه قوله: قال زيد بن أسلم فقول الرجل لامرأته: أنت علي حرام - لغو
وإنما تلزمه كفارة يمين , وحقق أن قوله: ليس بشيء - معناه ليس بطلاق. أقول:
وأيًّا ما كان سبب نزول الآية , فليس المراد بالأيمان فيها الحلف بالله بل تحريم
الحلال سماه يمينًا , وجرى على هذا عرف الناس قديمًا وحديثًا وإن اختلفوا في
وقوع اليمين بالطلاق وعدمه , وإذ كانت الآية عامة فهي حجة للقائلين بالكفارة
وعدم وقوع الطلاق , وهذا ما أطال شيخ الإسلام في بيانه , وله أدلة أخرى إذا
كانت اليمين على تأكيد فعل , أو ترك منها أمر النية فإن الحالف لا يريد به طلاق
زوجته وخراب بيته قطعًا , وإنما يريد التأكيد كما لو حلف بالله تعالى سواء , ولفظ
عليَّ الحرام أو امرأتي عليَّ حرام بدون قوله: إن فعلت كذا أقرب إلى عزم الطلاق ,
ومع ذلك وقع الخلاف فيه على أقوال كثيرة لخصها الحافظ ابن حجر في شرح
ترجمة الباب الذي ذكرنا حديث ابن عباس فيه بقوله:
قوله: (باب من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام وقال الحسن نيته) أي
يحمل على نيته، وهذا التعليق وصله البيهقي , ووقع لنا عاليًا في جزء محمد بن
عبد الله الأنصاري شيخ البخاري قال: حدثنا الأشعث عن الحسن في الحرام: إن
نوى يمينًا فيمين , وإن طلاقًا فطلاق، وأخرجه عبد الرازق من وجه آخر عن
الحسن، وبهذا قال النخعي والشافعي وإسحاق وروي نحوه عن ابن مسعود وابن
عمر وطاوس وبه قال النووي , ولكن قال: إن نوى واحدة فهي بائن , وقالت
الحنفية مثله , لكن قالوا: إن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة , وإن لم ينوِ طلاقًا فهي
يمين ويصير موليًّا. وهو عجيب والأول أعجب.
(وقال الأوزاعي وأبو ثور يمين الحرام يُكَفِّرُ: (أي بكفارة اليمين بالله) ,
وروي نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس،
واحتج أبو ثور بظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: 1)
وسيأتي بيانه في الباب الذي بعده.
(وقال أبو قلابة وسعيد بن جبير: من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، لزمته
كفارة الظهار، ومثله عن أحمد … وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يكون مظاهرًا
ولو أراده , وروي عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحكم وابن أبي ليلى:
في الحرام ثلاث تطليقات ولا يُسأل عن نيته. وبه قال مالك. وعن مسروق
والشعبي وربيعة لا شيء فيه، وبه قال أصبغ من المالكية.
(وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف , بلغه القرطبي المفسر إلى ثمانية
عشر قولاً وزاد غيره عليها , وفي مذهب مالك فيها تفاصيل يطول استيعابها) اهـ
تلخيص الحافظ , ثم ذكر مدارك ما تقدم من الأقوال، وحسبنا هذا في الجواب،
وسنفصله في المنار إن شاء الله تعالى وهو الموفق للصواب.
هذا ما أجبت به , ونشر في جريدة الأهرام , وأزيد هنا مما نقله الحافظ عن
القرطبي ما نصه: قال بعض علمائنا: سبب الاختلاف أنه لم يقع في القرآن
صريحًا ولا في السنة نص ظاهر صحيح يعتمد عليه في حكم هذه المسألة , فتجاذبها
العلماء فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال: لا يلزمه شيء , ومن قال: إنها يمين أخذ
بظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) بعد قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: 1) , ومن قال:
تجب الكفارة , وليست بيمين بناه على أن معنى اليمين التحريم , فوقعت الكفارة
على المعنى , ومن قال: تقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل وجوهه الظاهرة
وأقل ما تحرم به المرأة طلقة تحرم الوطء ما لم يرتجعها , ومن قال: بائنة
فلاستمرار التحريم بها ما لم يجدد العقد , ومن قال ثلاثًا حمل اللفظ على منتهى
وجوهه , ومن قال: ظهار نظر إلى معنى التحريم , وقطع النظر عن الطلاق
فانحصر الأمر عنده في الظهار والله أعلم اهـ.
أقول: وقد ظهر ببيان مدارك هذه المذاهب وأدلتها أن أقواها الثاني الذي هو
الأخذ بظاهر القرآن , وهو أن من حرّم امرأته بقوله: هي عليه حرام مطلقًا أو
مقيدًا بقوله: إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا - فالواجب عليه كفارة يمين وهو الذي
فرضه الله في تحلة جميع الأيمان - وهو لا يعارض هذا الظاهر من كتاب الله
بشيء من تلك التعليلات وأقواها البراءة الأصلية , وهي أنه لا يقع عليه شيء ولا
يجب عليه شيء، والتزام كفارة اليمين أقوى وأحوط , فعسى أن تقرر الحكومة
المصرية العمل بهذا , وكذا سائر الحكومات الإسلامية ذلك , والله الموفق.
__________
(1) سيأتي تحسين بعض أهل الجرح والتعديل له.
(2) كذا في النسخة المطبوعة من فتاوى ابن تيمية , وهي كثيرة الغلط والتحريف , وقد سقط (منها) هنا جواب لما أو مفعول أحدث , فيكون الأصل على هذا الأخير , فلما أحدث الحجاج أيمان البيعة حلف الناس … إلخ وهو الأظهر وعلى الأول يكون حلف بفتح فسكون مصدرًا وقع مفعولاً لأحدث , وجواب لما الساقط: صاروا يحلفون بالطلاق … إلخ.(25/732)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المُفطرون في رمضان
كتبنا في فريضة الصيام وحكمه وفوائده الروحية والبدنية والاجتماعية مرارًا
متعددة في المجلدات المتفرقة من المنار , وإذ قضى الله تعالى أن يقرأ هذا الجزء
منه في شهر رمضان المبارك , رأينا أن نعيد التذكير والوعظ في ذلك بكلمة وجيزة
عسى أن يتذكر ويستفيد المستعدون لذلك من الذين لا يؤدون هذه الفريضة.
إن الذين يفطرون في نهار رمضان أصناف:
(منهم) : المسلم بالوراثة الذي لا يعرف من الإسلام إلا تقاليد منها لفظي
كالشهادتين وكلمة (مسلم موحد بالله) ومنها عملية، كالصلاة والصيام واحتفالات
والموالد والمواسم والمحمل والمقابر وكون زيارة الأولياء وشد الرحال إليها تغفر
الذنوب وتقضي الحاجات , وكون كل ما يفعله الإنسان مقدر فلا يؤاخذ عليه، فكل
أمور الدين عند أكثر هؤلاء عادات من تعود شيئًا منها بتقاليد بيته فعله , وإلا تركه
بلا مبالاة بالوعيد ولا اكتراث للوعد، وأقلهم من تغلبه شهوته الحيوانية , فيعذر
نفسه باستغناء الله عن صيامه وتَمَنَّى العفو والمغفرة.
(ومنهم) : المارقون من الدين بشبهات تلقفوها من ملاحدة الإفرنج
والمتفرنجين, الذين لا نصيب لهم من الإسلام إلا الولادة في بعض بيوت المسلمين.
ومن المفطرين من يفطر سرًّا , ويحفظ حرمة الشهر بين الناس فلا يأكل ولا
يشرب ولا يدخن على مرأى أحد، ومنهم الذين يدخنون في الشوارع العامة
ويشربون قهوة البن أو الخمرة في المقاهي أو الحانات العامة، ويتغدون في المطاعم
العامة مع أمثالهم من غير المسلمين أو من المعدودين في دفاتر الإحصاء منهم , وإذا
كانوا أرباب بيوت لهم فيها الأمر والنهي , أو كان أهل بيوتهم من المارقين معهم
من الدين , فإن موائد الطعام تنصب لهم في رمضان أول النهار وبعد الظهر كما
تنصب في سائر الشهور.
من الأسباب النظرية الفكرية للإسرار بالفطر أن الإسلام رابطة اجتماعية
أدبية سياسية في الحياة الدنيوية , وعقيدة دينية مظهرها هذه العبادات المخصوصة ,
فمن فقد العقيدة الباعثة على العبادة , فالواجب في القانون الأدبي والاجتماعي أن
يحافظ على الرابطة الدنيوية العامة التي تربطه بالأمة الكبيرة، أو الصغيرة - التي
ينتهي إليها , وأن يحترم شعائرها , فلا يمتهنها جهرًا على مرأى من أهلها؛ لأن
ذلك إهانة لها ولنفسه من حيث هو فرد من أفرادها، وأصحاب هذا النظر هم أرقى
هؤلاء المارقين عقلاً وشعورًا. وقد قال لي أحد أدباء الترك: إنني إن أفطرت في
رمضان فإنني لا أمتهن نفسي وملتي بالجهر بذلك , ولا أطيق أن أرى أحدًا يفعل
ذلك , فإن وجدت مسلمًا يجهر به أمامي , فإنني أجد من نفسي شعورًا يبعثني على
قتله إن استطعت.
ومن الأسباب الاجتماعية والأدبية ما لا يرتقي بالمُسَرِّ بالفطر إلى هذه الأفكار
والشعور , بل يسره بسبب احترامه لأهل بيته وعشرائه إذا كانوا من أهل البيوت
العريقة في الإسلام المحافظة على شعائره، فإن بعض أولاد وجهاء العلماء وغيرهم
من بيوتات المسلمين الذين أفسد دينهم وأدبهم تعليم المدارس العصرية يفطرون في
رمضان ويسكرون.. ولكنْ سرًّا أو مع أمثالهم من الفساق المستهترين.
كذلك الذين يجاهرون بانتهاك حرمة شهر الصيام منهم أصحاب رأي ونظر
كالمتفرنجين الذين ليس لهم من الرأي والفكر ما يرتقي بهم إلى احترام الملة أو
الأمة التي ينتمون إليها، ولا لهم من البيوت التي يعيشون فيها من يوافقونه على
تقاليده الملية كعادته، ولا من الخلطاء الذين يعاشرونهم من يستحيون منه، فقد
انتفى المانع من الجهر , ووجد المقتضي له عندهم وهو ما يسمونه الحرية
الشخصية والشجاعة أو الجرأة المعنوية، وقد يحتقرون المستخفي بالفطر أو يفندون
رأيه برميه بالجبن والنفاق , وأنه هو المانع له من إظهار ما هو منطوٍ عليه من
عدم التدين، وهم يخدعون أنفسهم بألقاب الحرية والجرأة الفسقية التي يسمونها
شجاعة أدبية , فإن أحدهم لو مات والده المسلم مثلاً وكان غنيًّا , وادَّعى بعض
إخوته أو غيرهم أنه لا يرثه؛ لأنه ليس على دينه , وطلب من المحكمة الشرعية
الحكم بحرمانه من الإرث , وسأله القاضي الشرعي عن ذلك , فإنه يدَّعي الإسلام
ويُكذِّبُ من رماه بالارتداد عنه، وقل مثل هذا إذا أراد أن يتزوج فتاة مسلمة أو
ادعت عليه زوجته المسلمة أنه قد ارتد عن الإسلام , وطلبت من المحكمة الشرعية
التفريق بينها وبينه.
وجملة القول: إن هؤلاء أدنياء لا شعور لهم بالكرامة القومية ولا المِلِّيّة،
وأما سائر المجاهرين بالفطر في رمضان فهم التحوت المستولغون من الطبقة
السفلى؛ أي الذين لا يبالون أمًّا ولا عارًا وأمرهم معروف.
__________(25/743)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وأما قول القائل:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين
فهذا القول مبني على قول هؤلاء وهو باطل متناقض , فإن مقتضاه أنه يرى
الله بعينه , وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت) وقد اتفق أئمة المسلمين على أن
أحدًا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا , ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله
عليه وسلم , مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا , وعلى هذا دلت
الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وأئمة
المسلمين.
ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: رأى ربه
بعينه , بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد , وليس في شيء من
أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه , وقوله: (أتاني البارحة ربي في أحسن
صورة) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء
مفسرًا , وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان
بالمدينة كما جاء مفسرًا في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) , وقد
بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل
له: (لن تراني) وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء , فمن قال: إن
أحدًا من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران , ودعواه أعظم من
دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتابًا من السماء.
المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال:
فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يُرى في الآخرة بالأبصار
عيانًا , وأن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه لكن يُرَى في المنام , ويحصل للقلوب في
المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها , ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى
يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد
ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع.
(والقول الثاني) قول نفاة الجهمية أنه لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة.
(والثالث) قول من يزعم أنه يُرى في الدنيا والآخرة.
وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون: إنه لا يرى في الدنيا
ولا في الآخرة , وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب
الفصوص وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود
الحق عندهم.
ثم من أثبت الذات قال: يُرى متجليًا فيها , ومن فرق بين المطلق والمعين
قال: لا يرى إلا مقيدًا بصورة , وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله
وإثبات رؤية المخلوقات , ويجعلون المخلوق هو الخالق , أو يجعلون الخالق حالاً
في المخلوق , وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول
من يقول: بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل , وقد ضموا إليه أنهم
جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق , وأما التفريق بين المطلق والمعين مع
أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقًا يقتضي أن يكون الرب معدومًا , وهذا هو
جحود الرب وتعطيله، وإن جعلوه ثابتًا في الخارج جعلوه جزءًا من الموجودات
فيكون الخالق جزءًا من المخلوق أو عرضًا قائمًا بالمخلوق , وكل هذا مما يعلم
فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الوضع.
وأما تناقضه فقوله:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين
يقتضي المغايرة , وأن المخاطَب غير المخاطِب , وأن المخاطِب له عين قلب لا
يغيب عنها المخاطب , بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود.
وقوله: (ما بينكم وبيننا من بين) فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير
المخاطب وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا: مظاهر ومجالي قيل: فإن كانت المظاهر
والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد، وإن كان هو إياها
فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما متناقض. وقول القائل:
فارق ظلم الطبع وكن متحدًا ... بالله وإلا كل دعواك محال
إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع , وهو
المخاطب بقوله: (وكن متحدًا بالله) وهو المخاطب بقوله: (كل دعواك محال)
وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض مالا يخفى , وإن أراد الاتحاد المقيد
فهو ممتنع؛ لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل
الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد، وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء
واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد , لزم من
ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره , فإنه لا بُدَّ
أن يستحيل وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك؛ لأن الاستحالة تقتضي عدم ما
كان موجودًا , والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم
على شيء من ذلك، ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها
نقص تعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف
بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب , وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق ,
فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل , وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى
والعزة , وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه , يستحيل عليه نقيض ذلك , فاتحاد
أحدهما
بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفًا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل،
والعبد متصفًا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي , وكل ذلك ممتنع
وبسْط هذا يطول.
ولهذا سئل الجُنَيْدُ عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم , فبين
أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم.
ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته
شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته , بل الرب رب والعبد عبد {إِن كُلُّ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداً * وَكُلُّهُمْ
آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدا} (مريم: 93-95) , وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد
الاتحاد الوصفي , وهو أن يحب العبد ما يحبه الله , ويبغض ما يبغضه الله ,
ويرضى بما يرضى الله , ويغضب لما يغضب الله , ويأمر بما يأمر الله , وينهى
عما ينهى الله عنه. ويوالي من يواليه الله , ويعادي من يعاديه الله , ويحب لله ,
ويبغض لله , ويعطي لله , ويمنع لله , بحيث يكون موافقًا لربه تعالى فهذا المعنى
حق وهو حقيقة الإيمان وكماله , وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد
بارزني بالمحاربة , وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه , ولا يزال
عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ,
وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها , فبي يسمع ,
وبي يبصر , وبي يبطش , وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه , ولئن استعاذ بي
لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن , يكره
الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه) .
وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة: (منها)
أنه قال: (من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة) فأثبت نفسه ووليه ومعادي
وليه وهؤلاء ثلاثة، ثم قال: (وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ,
ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فأثبت عبدًا يتقرب إليه بالفرائض
ثم بالنوافل , وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه , فإذا أحبه كان العبد يسمع به ,
ويبصر به , ويبطش به , ويمشي به، وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل
وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات , فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك
بالأعضاء الأربعة المذكورة فالحديث مخصوص بحالٍ مقيد , وهم يقولون:
بالإطلاق والتعميم , فأين هذا من هذا؟ وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح
أن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم قي صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول
مرة , فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا , فإذا
جاء ربنا عرفناه , ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة , فيقول: أنا
ربكم فيقولون: أنت ربنا، فيجعلون هذا حجة لقولهم إنه يرى في الدنيا في كل
صورة , بل هو كل صورة , وهذا الحديث حجة عليهم-في هذا- أيضًا , فإنه لا
فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة المنكرون [1] الذين قالوا:
نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن العارف يعرفه في كل
صورة , فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم ,
وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تَجَلَّى لهم في الصورة
التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون , وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه
وتعالى عليه , فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه , فلهذا قال
في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: (وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون) .
ثم يقال لهؤلاء الملاحدة: إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو
المنكِر وهو المنكَر: كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى
الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟ وذكر ابن عربي أنه دخل على
مريد له في الخلوة , وقد جاءه الغائط , فقال: ما أبصر غيره أبول عليه؟ فقال له
شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرَّجْت عنِّي , ومرَّ شيخان منهم
التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت , فقال الشيرازي للتلمساني: هذا
أيضًا من ذاته , فقال التلمساني: هل ثَم شيء خارج عنها؟ وكان التلمساني قد
أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان
يقول: الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله , ويقول: نطق الكتاب
والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه , ويجعل هذا الكلام له تسبيحًا
يتلوه كما يتلو التسبيح.
وأما قول الشاعر:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
فشاهد حقًّا حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر
فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول , فإن الفناء والغيب
هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر , وبالمعروف عن المعرفة , وبالمعبود عن العبادة
حتى يفنى من لم يكن , ويبقى من لم يزل , وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من
السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة بخلاف الفناء الشرعي ,
فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه , وبحبه عن حب ما سواه , وبخشيته
عن خشية ما سواه , وبطاعته عن طاعة ما سواه , فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان
(وأما النوع الثالث) من الفناء وهو الفناء عن وجود السُّوى , بحيث نرى
أن وجود الخالق هو وجود المخلوق , فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة
والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام جاهل , فإن هذا لا يحمد أصلاً , بل
المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر , لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر
اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور , فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد
الوجود إلا واحدًا , ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود
الموحدين , ولعمري أن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه لا يرى صلاة العارفين
من الكفر , وأما قول القائل:
الكون يناديك أما تسمعني ... من ألف أشتاتي ومن فرقتي
انظر لتراني منظرًا معتبرًا ... ما فيَّ سوى وجود من أوجدني
فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة , وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين
فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده , كان ذلك الوجود هو الكون المنادي وهو
المخاطب المنادى , وهو الأشتات المؤلفة المفرقة , وهو المخاطب الذي قيل له:
انظر , وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي قد أوجد نفسه وفرقها وألفها ,
فهذا جمع بين النقيضين.
فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم , فممتنع أن يكون الشيء الواحد قابلاً
للعدم وغير قابل للعدم , والقديم هو الذي لا أول لوجوده , والمحدث هو الذي له أول
فيمتنع كون الشيء الواحد قديمًا محدثًا , ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول لأمكن
أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني , وتكون إضافة الوجود
إلى الله إضافة الملك , لكن قد علم أنه لم يرد هذا , ولأن هذه العبارة لا تستعمل في
هذا المعنى وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته , وهكذا قول القائل:
وله ذات وجود الـ ... ـكون الحق شهود
إن ليس لموجود ... سوى الحق وجود
مراده بأن وجود الكون هو نفس وجود الحق , وهذا هو قول أهل الوحدة وإلا
فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى , فليس لشيء
وجود من نفسه وإنما وجوده من ربه , والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى
العدم , وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها , فهي دائمة الافتقار إليه لا
تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لكان قد أراد معنى صحيحًا وهو
الذي عليه أهل العقل والدين من الأولين والآخرين , وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم
متناقض , ولهذا يقولون: الشيء ونقيضه وإلا فقوله: منه وإلى علاه يبدي ويعيد
يناقض الوحدة , فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحد؟ وقوله:
وما أنا في طراز الكون شيء ... لأني مثل ظل مستحيل
يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل , فإذا شبه المخلوق بالظل لزم
إثبات اثنين كما إذا شبهه بالشعاع , فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس ,
وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره , والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا.
(وقلت) لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق
بالشعاع الذي للشمس والنار والخالق بالنار والشمس , فلا فرق في هذا بين المسيح
وغيره , فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء , فما الفرق بين
المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا ,
وجعلت أردد عليه هذا الكلام , وكان في المسجد جماعة حتى فهمه فهمًا جيدًا ,
وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له , وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع
في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره , وعلى التقديرين فتخصيص
المسيح بذلك باطل , (وذكرت له) أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء
موسى بأعظم منها , فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى
فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة} (البقرة: 55) , ثم أحياهم الله بعد موتهم ,
وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء , والنصارى يصدقون بذلك , وأما
جعل العصا حية فهذا أعظم من إحياء الميت , فإن الميت كانت فيه حياة فردت
الحياة إلى محل كانت فيه الحياة , وأما جعل خشبة يابسة حيوانًا تبتلع العصي
والحبال فهذا أبلغ في القدر وأقدر [2] فإن الله يحي الموتى ولا يجعل الخشب حياة.
وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من
المن والسلوى , وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك , فإن الحلو أو
اللحم دائمًا هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون
والسمك وغيرهما , وذكرت له نحوًا من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد
ودعوى الإلهية ليس له وجه , وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركًا بينه
وبين غيره من المخلوقات , وإما أن يكون مشتركًا بينه وبين غيره من الأنبياء
والرسل , مع أن بعض الرسل، كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه ,
وأما خلقه من امرأة بلا رجل فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك , فإنه
خلق من بطن امرأة , وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل فإن هذا ليس بمعتاد ,
فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو
أعظم منه غيره من بني آدم.
فعلم قطعًا أن تخصيص المسيح باطل , وأن ما يدعى له إن كان ممكنًا فلا
اختصاص له به , وإن كان ممتنعًا فلا وجود له فيه ولا في غيره , ولهذا قال هؤلاء
الاتحادية أن النصارى إنما كفروا بالتخصيص وهذا أيضا باطل , فإن الاتحاد عموم
وخصوص , والمقصود هنا أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض
قولهم بالوحدة , وكذلك قول الآخر:
أحن إليه وهو قلبي وهل يرى ... سوايَ أخو وجد يحن لقلبه
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ... وما بعده إلا لإفراط قربه
هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض , فإن حنين الشيء إلى
ذاته متناقض , ولهذا قال وهل يرى أخو وجد يحن لقلبه؟ وقوله: وما بعده
إلا لإفراط قربه متناقض , فإنه لا قرب ولا بعد عند أهل الوحدة , فإنها تقتضي أين
يقرب أحدهما من الآخر , والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ههنا تحريف ظاهر فإن قوله: وهو عندهم في الآخرة المنكرون , لا معنى له فقد سقط من الناسخ كلام لا سبيل إلى معرفته , والمعروف عن ابن عربي في فتوحاته يدل عليه , ومنه أن الرب تعالى يتجلى لكل أحد بحسب معرفته , فالقاصر المفيد برأي أو مذهب معين لا يعرفه إلا إذا تجلى له في صورة اعتقاده , وأما العارف المطلق من حجر القيود , فإنه يعرفه في كل شيء , ويراه في التجلي بكل صورة؛ لأنه في اعتقاده كل شيء , قاله محمد رشيد.
(2) كذا في الأصل , وفيه تحريف ظاهر من جهل النساخ والمعنى ظاهر وهو أن آية العصا لموسى أعظم من إحياء الميت لعيسى - عليهما السلام - وأدل على قدرة الله تعالى بما ذكر من الفرق بين البشر والخشب.(25/745)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
المقالات الجمالية
(3)
السياسة الإنجليزية في الممالك الشرقية
(نشرت في العدد الثالث من السنة الخامسة من جريدة النحلة التي كانت
تصدر في لوندرة في أثناء زيارة السيد لها من أواخر سنة 1882 وأول سنة
1883) .
بلغنا أن الحكومة الإنجليزية قد عرضت لائحة في المسألة المصرية على
الدولة العثمانية تسكينًا لروعها وتطمينًا لبالها , تذكر فيها أنها ما قصدت الاستيلاء
على مصر , ولا تود وضع اليد عليها , ولكن سوف تبقى العساكر الإنجليزية في
البلاد النيلية إلى مدة زوال القلاقل وحصول الراحة , وتشكيل المجالس والمحاكم ,
ولا تود الدولة البريطانية أن تمس حقوق الحضرة السلطانية بمداخلتها في مصر.
نعم، هذه هي السياسة الإنجليزية في جميع البلاد الشرقية , عملت بها في
الممالك التي أرادت الاستيلاء عليها , وقد حذقت فيها وجربتها مرات عديدة , حتى
إذا خاض العاقل فيها رأى أن لا سياسة للإنجليز سواها , كأنها عرفت عقول
الشرقيين وعلمت ما فطروا عليه من السذاجة وشدة الاعتقاد بمواعيد عرقوب ,
فتأخذهم على غرة , وتستلب بلادهم وهم في أمن منها , يتقون بعهودها ولا يعرفون
أن هذه الحكومة إنما تقتنص بأوهاق الأيمان [1] ولا تسلك في فتوحاتها إلا مسلك
الوداد , حتى إنها قل ما تملكت بلدًا بالقوة القاهرة وإن الشر لا يأتي إلا من
معاهداتها.
أليست هي التي أزالت السلطنة التيمورية التي كانت منبثة في جميع أرجاء
الهند بمداخلتها الودادية ومواعيدها المؤكدة؟ أليست هي التي نقضت الحكومة
النظامية في بنغالة بعساكرها التي وضعتها للمحافظة على تلك البلاد؟ أليست هي
التي أزاحت السلطنة الكهنورية [2] بنفس جنودها الذين أقامتهم لتوطيد الراحة فيها؟
أين ذهبت حكومات أمراء الكرناتك ومدراس التي كانت مطمئنة بالعساكر
الإنجليزية ومعتمدة على معاهداتها؟ أين حكومة بنجاب وممالك أمراء السند؟ أين
حكومة المراتيين في بونه؟ ذهبت كلها لاعتماد أهلها على وعود الإنجليز وحماية
عساكر المملكة وما أبادهم لعمري سوى تلك العساكر نفسها التي وضعت لصيانتها من
الفساد الداخلي , فاحذروا يا أهل الديار النيلية من أن يحل ببلادكم ما حل بغيرها ,
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده.
وقد بلغنا منذ قَدِمْنَا لوندن أن معظم الأوامر التي يجريها الخديوي تكتب أولاً
في الوزارة الخارجية بلوندرة , ثم ترسل إلى المندوب الإنجليزي بمصر , والمذكور
يقدمها لحضرة الخديوي ليجريها كأنها صادرة عن أمره باختياره , ولا أمر له فيها
ولا اختيار , وربما هذا كان الباعث على استقالة رياض باشا من الوزارة.
هذه هي السياسة الإنكليزية التي كشفت عنها غطاءها التجارب , وبهذه
السياسة جالت في ميدان جميع فتوحاتها , فلا أظن أنها تتمكن بعد الآن من اختلاب
عقول الشرقيين بهذه المواعيد [3] وما أظن أن السلطان ورجال دولته بعد ما علموا
نبأ معاهدات الإنجليز في الهند أن يعتمدوا عليها ويثقوا بأصحابها , ولا ريب أنهم قد
اطلعوا على المعاهدات الإنجليزية التي طبعت في أربعة مجلدات بمطبعة (نول
كشور) في بلدة لكتاهور , ومنها علموا كيف يستولي الإنجليز على البلاد بحرفة العهود الفارغة والمواثيق الباطلة , وفيما قلناه عبرة لمن يعتبر , وسوف نعود إلى
الخوض في هذا الموضوع متصلاً اهـ.
قال ناسخ هذه المقالة بعد ما تقدَّم:
وقد رأينا في نفس العدد المذكور من تلك الجريدة نبذة عرفنا من مشربها
وأسلوبها أنها لأستاذنا - حفظه الله - خصوصًا وأن بين عبارتها وعبارة صاحب
الجريدة ما يدل على أنها مدخولة فيها , فنقلناها جازمين بأنها بِنْتُ فكره , فإنه
رضي الله عنه ما حل بلدًا إلا ترامى عليه أرباب جرائدها العربية , للتماس أن
يزين صحفهم ببدائع حكمه وأبكار أفكاره , فيجيب سؤالهم ناحيًا فيما يكتبه نحو ما
هو ولوع به من الحماية عن الشرق وبنيه , والذَّوْدِ عن الأمم الإسلامية والسعي في
توحيد كلمتهم , وتحذيرهم من دسائس الغربيين , كاشفًا لهم الحجاب عن وجه سياسة
الأمة التي يريد تحذيرهم منها بما لم يستطع ساستها إلى كشفه سبيلاً لو أرادوا له
كشفًا.
أما النبذة فها هو نصها:
أسباب الحرب بمصر
لقد ذهب الناس مذاهب شتى في أسباب الحرب التي قدحت الإنجليز زنادها
على المصريين , فمنهم من زعم أن الطمع في الاستيلاء على البلاد النيلية الخصيبة
كان الباعث على ذلك , ومنهم من اعتقد أن مصالح بريطانيا في خليج السويس
حملت الإنجليز على فعل ما فعلوا , وظن قوم أنهم اندفعوا إلى تجشم تلك الخسائر
الباهظة غيرة على حفظ نفوذهم السياسي والتجاري بالديار المصرية , والتأمين
على استيفاء ديونهم وهلم جرا , تلك لعمري تعليلات سارت بها الجرائد رجمًا
بالغيب , أو تمويهًا على عيون الناس.
أما أسباب الحرب الحقيقية فهي ما كان قد ثبت في عقول الإنجليز والفرنسيس
من أن جلالة السلطان عبد الحميد قد سعى منذ تولى الخلافة والملك في جمع كلمة
المسلمين المنتشرين في أقطار الهند وأفريقية وسورية والعراق واليمن والحجاز
ومصر وغيرها من البلاد؛ لكي يجعلهم عصبة مستمسكة بعروة الخلافة الوثقى ,
وأمة تتساند إلى بعضها [4] كالبنيان المرصوص , وأن يكون السواد الأعظم من
المسلمين في يد أمير المؤمنين , يستنجدهم في الملمات لمقاومة دول أوربا إذا
طمعوا في سلب بلاد المسلمين , فكان الفرنساويون يقاومون نفوذ السلطان وخلافته
في مسلمي الجزائر وتونس مخافة أن يكون ذلك وبالاً عليهم , وكانت الإنجليز
تحاذر من انقياد مسلمي الهند إلى دعوى الخلافة , ومن الانضمام إلى العصبية
الإسلامية , وكانت تلك الدولة القيصرية قد بلغها أن الحضرة السلطانية بعثت
برجال الدين إلى المسلمين؛ ليدعوا إخوانهم إلى طاعة أمير المؤمنين , وينشروا
بينهم رسائل تولد في عقولهم فروض الانقياد إلى الراية النبوية, إذا نشرها السلطان
ودعاهم إلى التشمير عن ساق الجد؛ لنصرته والجهاد في سبيل الملك والدين.
وما زاد في طنبور الإنجليز نغمة إلا النشرات التي كان السيد (نصرت علي)
ينشرها في دهلي بإيعاز السلطان , فلما أخذت مشروعات السلطان ومندوبيه
تضرم نار الغيرة الدينية , وتثير الحمية الإسلامية في نفوس بعض من الهنود ,
اضطرت الحكومة الإنجليزية بالهند إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع سريان تلك
العدوى , وعثرت في أثناء ذلك على رسائل منتشرة بين المسلمين كانت قد طبعت
في القسطنطينية بدار الطباعة الشاهابية , وأرسلت إلى الأقطار الهندية؛ لإنهاض
همة المسلمين , فألقت القبض على كثيرين من الذين وجدت عندهم من تلك الرسائل
وحاكمتهم , ومن ذلك الوقت شرعت إنجلترة تتوجس في تلك المقدمات نتائج وخيمة
في ممالكها الهندية , فكانت بالمرصاد تترقب الفرصة الملائمة لتمزيق شمل تلك
العصبية الإسلامية التي يصفها الإفرنجيون باسم (اسلاميزم) , وفيما كانت تَضرب
أخماسًا في أسداسٍ , وتقدِّم رِجْلاً وتؤخر أخرى , بلغها أن الحضرة السلطانية قد
باشرت تنفيذ مشروعاتها بالديار المصرية , وضم مسلمي تلك البلاد أيضًا إلى
العصبية الإسلامية بواسطة الشيخ محمد ظافر والسيد أحمد أسعد المدني وبسيم بك
وراتب بك وأحمد عرابي وأحزابه , فأصدرت الدولة البريطانية أمرها إلى
مندوبها بمصر بأن يستقصي حقيقة الخبر.
أما ذلك المندوب فكان بادئ بدء يعتقد أن الحرب الأهلية عبارة عن عصبية
عسكرية جل سعيها في إصلاح شؤونها , وطرد الضباط الشركس من مصاف
الجهادية المصرية , ولكن خيل إليه بعد ذلك أن الحضرة السلطانية قد اغتنمت
الفرصة من ثورة العساكر المصرية , واتخذت عرابي باشا آلة لقضاء أغراضها ,
وتوطيد نفوذها في القطر المصري , وضم المصريين إلى العصبية الإسلامية ,
فرفع المندوب الإنجليزي تلك الأخبار إلى لورد جرانفيل , وأثبت وجود عصبية
دينية قد تردت برداء عصبية سياسية وطنية , تدعي تحرير الفلاحين من ربقة
المرابين والأجانب , وفي الحقيقة ليس سوى عصبية إسلامية دينية تحت قيادة
السلطان أمير المؤمنين , غرضها الوحيد مقاومة دول أوربا , وإنهاض همة
المسلمين في الهند والجزائر وتونس وبلاد العرب فتداركت إنجلترا العواقب ,
وصممت على إذلال تلك العصبية الإسلامية قبل أن يستفحل أمرها؛ لأن الإنجليز
تعتقد أن مصر باب الهند وخليج السويس دهليزها , فإن استفحل أمر عرابي باشا
وحزبه لحق بهم المصريون على اختلاف أجناسهم , وتبعهم السوريون والعرب ,
وانشأوا أمة عظيمة الشأن , شديدة البأس , تضر الإنجليز ومستعمراتهم في الهند ,
فرسخ في عقول رجال السياسة البريطانية أن منع إنشاء الوباء خير من علاجه بعد
انتشاره , وصمموا على إخراج عرابي باشا وأحزابه من الديار المصرية إما
بالحسنى وإما بالإكراه , طمعًا في إطفاء نار الفتنة وتمزيق شمل العصبية الإسلامية
المتظاهرة بشعار الوطنية , فلما أيسوا من إخراجهم بالحسنى عوّلوا على إذلالهم
بالأساطيل المدرعة , والمدافع المثمنة , والجنود البحرية والبرية , وما انثنوا حتى
فتكوا بهم في ملحمة التل الكبير , وكانت القاضية على عرابي باشا وأحزابه , وقد
ثبت في عقول كثيرين أن إذلال عرابي وأنصاره قد أذل العصبية الإسلامية إذلالاً لا
عز بعده ما توالى الفرقدان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الوهق محرك , ويسكن الحبل يرمى في أنشوطة , فتؤخذ به الدابة والإنسان الجمع أوهاق.
(2) كذا في الأصل المخطوط , وهو مما تركه لنا الأستاذ الإمام ولكنه بغير خطه ولعلها اللكناهورية.
(3) إن أمير مكة حسين بن علي وأولاده قد خيبوا آمال السيد جمال الدين فانخدعوا بالوعود الإنكليزية على قول الذين يحسنون الظن فيهم بغباوتهم , والذين يدافعون عنهم , ويرى آخرون أنهم خائنون لأمتهم لا مخدوعون فإنهم يطلبون الملك ولم تَسْمُ همهم إلى طلبه إلا من طريق الإنكليز , فساعدوهم على أخذ البلاد العربية ليشتركوا معهم وتحت ظلهم في التمتع بحكمها.
(4) المنار: الوجه أن يقال: يتساند بعضها بعض.(25/756)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوهابيون والحجاز
عود على بدء
المقالة الأولى [*]
مقدمة
كنا كتبنا بضع مقالات في هذه المسألة في أول العهد بزحف الإخوان؛ لإنقاذ
الحجاز من إرهاق الطاغوت حسين بن علي , وما يرجى أن يتبع ذلك من إنقاذ
جزيرة العرب كلها من الاستعباد الأجنبي , فكان لها من التأثير فوق ما قدرناه لها ,
حتى إن حقها دحض أباطيل الدعاية الحجازية القديمة في الطعن بدين أهل نجد منذ
قرن وثلث قرن , باختلاق الشريف غالب أمير مكة في عهد ظهور الإصلاح الذي
قام به الشيخ محمد عبد الوهاب , وأخرس ألسنة الدعاية الجديدة التي اختلقها
الشريف حسين الذي ادعى أنه ملك العرب وخليفة المسلمين.
ثم عرضت لنا شواغل كثيرة عاقتنا عن مواصلة الكتابة , فيما فتح أمامنا من
أبواب المسائل الكثيرة في هذا الموضوع , فنشطت في هذه الفترة الدعاية , وبذل
في سبيلها المال بسخاء فوق المعتاد , وتجرأت حكومة الشريف علي بن حسين
المحصورة في ميناء جدة ودعائها على ضروب من الكذب والبهتان لم يتجرأ على
مثلها حسين بن علي ودعاته , حتى إنهم افتروا على كاتب هذا المقال وهو أول من
هتك أستارهم , وتتبع عوارهم , وقلم أظفارهم , فزعموا أن حكومة جدة عثرت
على كتاب منا أرسلناه إلى السلطان عبد العزيز بن السعود , آذناه فيه بانصراف
القلوب عنه , وتصويب سهام الإنكار إليه , وقد طال العهد على هذه الفرية , ولم
نجد فرصة نكذبها فيها ونفضحهم بمطالبتهم بنشر صورة هذا الكتاب مأخوذة عن
خطنا , وكثر إلحاح المطالبين لنا بالعودة إلى الكتابة لرد أمثال هذه المفتريات ,
وكشف ما يحوم حولها من الشبهات؛ لأن بعض المخلصين اغتروا بها , وصدقوا
أن علي بن حسين ألف ملكًا جديدًا في الحجاز مخالفًا لوالده في سياسته , وأن في
جدة حزبًا وطنيًّا مؤلفًا من زعماء الحجاز وأهل الرأي فيه , وأنه هو الذي خلع
حسينًا ونصب عليًّا , وأنه يتكلم باسم بدو الحجاز وحضره , وأن سلطان نجد
ضعيف لا جند عنده ولا سلاح , وأن ما أعده ملك جدة من آلات القتال الجنمية
العصرية كافٍ لتدويخه وسحق جيشها الضعيف , وطرده من الحجاز والاستيلاء على
نجد كلها , وأن إنقاذ الحجاز من هذه الأسرة الطاغية الباغية صار متعذرًا , فأهون
الشّرين إذا إصلاح ذات البين ببقاء علي بن حسين ملكًا للحجاز بشروط منها: أن
لا يعود والده حسين بن علي إلى الحجاز , إلى هذا الحد وصل تأثير أمثال هذه
الدعاوى الكاذبة التي سنبين الحق فيها.
كنا نقرأ تلك المفتريات في جريدة المقطم وبعض جرائد سورية فنضحك منها
ضحك السخرية متربصين بها تكذيب السيف لها , وهو أصدق من اللسان والقلم ولا
يتمارى في قوله ولا في حكمه أحد , على أننا جمعنا بعض الدلائل للرد عليها ,
ولكن قضى الله تعالى أن نضطر إلى استئناف الكتابة في وقت لا نملك فيه مراجعة
شيء مما جمعنا , وهو وقت نقل كتبنا وأوراقنا ومطبعتنا ومطبوعاتها الكثيرة وأثاثنا
من دار إلى دار , وقد بدأنا في الاستعداد لهذا في الشهر الماضي , وسيشغلنا شهرًا
أو شهرين آخرين؛ لأننا لا نجد من يقوم مقامنا في الإشراف على ذلك , ولكننا
سنجد ما نحتاج إليه من الأوراق المحفوظة في أقرب وقت.
بعد هذا التمهيد أقول: إن حسين بن علي وأولاده كانوا قد خدعوا السواد
الأعظم من عرب سورية والعراق وكثيرًا من غيرهم , بما بثوه من دعاية المملكة
العربية والوحدة العربية والخلافة العربية , حتى خيلوا إليهم أنهم سيعيدون إلى هذه
الأمة عصر هارون الرشيد , ثم ظهر أن غاية سعيهم تحقيق أمنية الإنكليز القديمة ,
وهي إدخال جزيرة العرب وما اتصل بها من بلادهم في دائرة الإمبراطورية
البريطانية المرنة , على أن تُسَوِّدَهُمْ فيها على قومهم وتسميهم ملوكًا وخلفاء , ومع
هذا الخزي يرون كثيرًا من وجهاء البلاد العربية يعظمهم ويقول بزعامتهم إما
لغباوتهم وجهلهم , وإما لأنهم يرضون مثلهم (أن تكون الأمة العربية كالقاصر في
حجر الدولة البريطانية) كما صرح به حسين بن علي رسميًّا في (مقررات نهضته)
التي هي أصول سياسته وسياسة أولاده , دع الذين يوالونهم للانتفاع منهم.
لهذا أصبح أهل هذا البيت الحجازي يعتقدون أن الدعاية تؤسس الممالك ,
وتوطد دعائم الملك , وتهزم الجيوش , وتفعل كل شيء , فكان اعتمادهم عليها
وعلى الدولة البريطانية في حماية الحجاز وعرش ملك العرب وخلافة الإسلام ,
فعادوا جميع أمراء جزيرة العرب والمستقلين المسلحين ولا سيما جارهم بالجنب
سلطان نجد , وهو أقواهم وأشدهم بأسًا , ولم يستعدوا لحماية عرشهم منه ولا من
غيره بالسلاح , فأهملوا ما تركه الترك أو العثمانيون من الأسلحة الكثيرة الجيدة من
كل نوع , واكتفى حسين بتأليف جند صغير يقصد به إظهار عظمة الملك في
الاحتفالات والمواسم , واتكل على الدولة البريطانية , والدعاية السياسية , فلما
ضاق العالم الإسلامي عامة وعرب نجد خاصة بفساده في الحجاز , وزحف جند
الإخوان الوهابيين لطرده وطرد أولاده منه , استغاث الدولة البريطانية , فلم تر من
مصلحتها إغضاب العالم الإسلامي الساخط عليه , والاصطلاء بنار حرب جديدة في
جزيرة العرب لأجله , فأعلنت الحياة , فلم يبق له إلا قوة الدعاية الخاطئة الكاذبة ,
فشرع فيها , فلم تغن عنه شيئًا , واضطر إلى الخروج من الحجاز مذؤمًا مدحورًا ,
وخلف فيها ولي عهده الذي يفخر به ويقول: (لا فتى إلا علي) , فكان أبرع منه
في هذه الدعاية , على أن والده هو الذي ربى له رجالها , واصطنع له صحفها ,
وهو الذي يفيض عليه المال للإنفاق في سبيلها , وسنذكر أنواع هذه الدعاية الجديدة
مع بيان بطلانها في مقال آخر , ونعجل بالنوع الوحيد الذي فيه شية من الحق ,
وشبهه من الصدق , ولكنه حق أريد به باطل , وصدق اتخذ ذريعة إلى الكذب
والتضليل , وهو:
الاتفاق النجدي البريطاني
سمعت خبر هذا الاتفاق أو المعاهدة من الملك فيصل في الشام أول مرة , وهو
الذي نشرها في بغداد في هذه المرة , وأُرْسِلَتْ إلينا وإلى الجرائد الشهيرة , وقد
صدقها الناس؛ لأن سلطان نجد لم يكذبها , والغرض من نشرها إيهام العالم
الإسلامي الذي يؤيد ابن سعود في طرد حسين وأهل بيته من الحجاز , أن مملكة
نجد نفسها غير مستقلة استقلالاً مطلقًا , بل قيدت الحكومة البريطانية سلطانها بما
هو حماية , وأن الحجاز هو المستقل وأنه إذا استولى عليه سلطان نجد يدخل تحت
حماية الإنجليز كنجد , وقد أطالت الدعاية الحجازية في المسألة , وأكثرت من
الإيهام , وتناقلت سائر الجرائد نص الإنفاق , كما أرسل من العراق , وتألم منه
المسلمون , فوجب أن نبين ما عندنا من رأي ورواية فيه على تقدير صحة نصه:
كان هَمُّ عبد العزيز ابن سعود بعد استرداد ما كان قد سلب من بلاد آبائه
وأجداده محصورًا في حفظ استقلالها بقوتها , وبث دعوة التدين فيما جاورها من
قبائل العرب , والقناعة بعيشة العزلة والتجافي عن السياسة الدولية وأهلها , ولم
يكن له خصم في تلك البلاد إلا آل رشيد في شمر , فهم الذين ألبوا على آل السعود
الدولة العثمانية حتى استولوا بمساعدتها على عاصمتهم (الرياض) , وقضوا على
إمارتهم , فلما انتزعها منهم السلطان عبد العزيز هذا بحزمه وعزمه , رأى أنه
سيكون معه في نزاع دائم وقتال مستمر , وأن قطرًا صغيرًا كنجد لا يصح أن يكون
فيه إمارتان تتوارثان الأحقاد والأضغان , وتنتهز كل منهما الفرصة للقضاء على
الأخرى , فدعا ابن الرشيد للاتفاق وتوحيد العلم (الراية) والحكم والتعاون على
حكم البلاد بصفة معقولة - كما نقل إلينا - فامتنع , فلم ير بدًّا من إزالة إمارته ,
ففعل , وقد اختار حصر منطقته على اقتحامها بالمناجزة وكان ذلك في أيام عسر
وغلاء فاحش , وكانت مؤنة الجيش كلها , بل مؤنة عامة بلاد نجد تأتيها من الهند ,
فكان هذا سببًا ملجئًا لابن سعود إلى الاتفاق مع الحكومة الإنكليزية , كما قال بعض
أهل العلم والخبرة بالبلاد العربية.
وهنالك سبب آخر لا يقل عنه ألجأه إلى ما دُعِيَ إليه من الاتفاق بما رآه
أهون الشرين , وهو أن الدولة العثمانية رأت بعد عقد الصلح مع الإمام يحيى أنها
كانت مخطئة في معادة حكومة نجد , كما كانت مخطئة في معاداة أئمة اليمن , وأن
الاتفاق ممكن وهو خير للدولة , فعقدت مع إمام نجد وهو عبد العزيز ابن السعود
اتفاقًا آخر , اعترفت له فيه بالاستقلال الوراثي في بلاد نجد كلها , حتى ما كان بيد
الدولة منها كالحسا وثغور البلاد بشروط ليس هذا محل بيانها , فلما وقعت الحرب
العامة , واصطلت الدولة العثمانية , خاف ابن السعود أن تحتل الدولة البريطانية
ثغور بلاد نجد وإقليم الأحساء , إذ كانت تعدها من أملاك الدولة العثمانية , فرضي
بأن يعقد معها اتفاق , تعترف له فيه بأن هذه البلاد بلاده , وأنه مستقل فيها , وأن
ترضى منه في مقابلة ذلك بأمور سلبية , كان يرى أنه لا يفقد بها شيئًا.
وجملة القول أن هذا الاتفاق قد عقد عقب إيذان دول الحلفاء الدولة العثمانية
بالحرب , وكانت الدولة البريطانية قد دعت ابن السعود أمير نجد إلى قتال الدولة ,
كما دعت أمير مكة حسين بن علي وإمام اليمن والسيد الإدريسي أمير تهامة
وعسير , وقد قلنا في المنار مرارًا إنه لم يوالها أحد منهم موالاة فعلية حربية إلا أمير
مكة , وإن إمام اليمن وَالَى الدولة عليها , وأعانها على قتالها , وأما الإدريسي وابن
السعود فقد اتفقا معها اتفاقًا سلبيًّا , ولم نكن قد اطلعنا على هذا الاتفاق ولكن أخبرنا
طالب بك النقيب أنه كان رسول الدولة البريطانية إلى أمير نجد , وأن هذا الأمير
أبى أن يحارب دولة إسلامية انتصارًا لدولة غير مسلمة , وأنه لم يكن يمكنه أن
يحارب الإنكليز انتصارًا للدولة العثمانية؛ لأنهم يمكنهم أن يقضوا على بلاده
بالحصر البحري , فإن عامة أقوات أهل نجد من الهند , فكانت المصلحة التي لا بد
منها أن يكون على الحياد.
نعم إننا نحن نظن الآن أنه كان في الإمكان أن ينال صاحب نجد ما لا غنى له
عنه من تموين بلاده والاعتراف باستقلاله فيها بدون أن يقيد نفسه بما ذكر في هذه
المعاهدة من القيود المنافية للاستقلال التام المطلق , وإن كانت قيودًا سلبية , وأنه لا
سبب لقبوله هذه القيود إلا عدم تمرسه بالسياسة الدولية , وعدم قوته على ما كان
لدى أعداء الإنكليز من القوات الحربية التي ترتعد منها فرائص دول أوربة كلها ,
ولكننا لا نجزم بأننا لو كنا في مكانه في ذلك الوقت لكنا نعتقد هذا الاعتقاد نفسه ,
ونتجرأ على رفض تلك المواد التي ننكرها , بعد ما علمنا من قوات الألمان
وأحلافهم ما لم يكن نعلمه في أول الحرب , ولا بأن الإنكليز كانوا يرضون منه دون
هذه الشروط ليكتفوا شر مساعدته للدولة العثمانية.
هذا ما عندنا من أسباب هذه المعاهدة , وأننا نتكلم في المقالة الآتية على كل
مادة من موادها التي نشرها الحجازيون , نتكلم عليها من الجهة العامة , ثم نبين أن
سلطان نجد نقضها منذ عزم على الخروج من عزلته السياسية والاجتماعية ,
وتصدى لزعامة النهضة العربية , وثبت عنده ما يجب عليه شرعًا من إنقاذ
الحرمين الشريفين من الظلم والإلحاد ومنع النفوذ الأجنبي أن يتغلغل فيهما وفي
سياجهما من جزيرة العرب , فمعاهدة سنة 1915 أمست قصاصة ورق لا قيمة لها
كما نبين ذلك فيما يأتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشرت في عدد الأهرام الذي صدر في 19 رجب 13 فبراير.(25/761)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوهابيون والحجاز
عود على بدء
المقالة الثانية [*]
بينا حقيقة الحال التي كان عليها صاحب نجد عند عقد المعاهدة , التي نشرها
في هذه الأيام الملك فيصل؛ ليثبت بها أنه قد سبقه وسبق أباه وأخاه عبد الله في
جعل بلاده تحت حماية الإنكليز , وقام أنصارهم يقولون في دعايتهم لهم: إنهم إذا
لم يكونوا خيرًا منه في هذا فهم مثله , فما وجه تفضيله عليهم؟ ولماذا ينتصر له
العالم الإسلامي , ويود جعل الحجاز تابعًا له من دونهم؟ فعلم بذلك بعض الفَرْق
الجلي بين عملهم في إضاعة أكثر البلاد العربية , وعمله في وقاية ملكه من السقوط
بغزو الإنكليز له من الخارج , وغزو ابن الرشيد له من الدخل , في مقابلة
الاعتراف لهم بأمور سلبية , يذهب بأثرها الزمان , وسنبين هذا الفرق من سائر
وجوهه بعد إنجاز ما وعدنا به من بيان مضمون مواد هذه المعاهدة , ومن الكلام
عليها من الجهة العامة , فيعلم من لم يدرس هذه المسائل أن هذا البيت الحجازي لم
يعتبر بشيء من التجارب والرزايا التي نزلت بالأمة التي تصدى لزعامتها , والتي
نزلت بجميع زعمائه هو أيضًا , وأنه لا يزال يطمع في إضلال الأمة العربية
وجميع الشعوب الإسلامية , وإيهامهما بالدعاية الكاذبة أن الذين سلّوا سيوفهم مع
الأجانب وقاتلوا معهم حتى مَلّوكهم بلاد العرب من حدود مصر إلى خليج فارس
خير للإسلام وللعرب , ممن أسس لهما ملكًا جديدًا ليس لأجنبي ما أدنى نفوذ فيه ,
ثم أنقذ الحجاز من السيطرة الأجنبية , والمظالم الطاغوتية؛ ليجعل الأمر فيه لأهله
وللمسلمين دون غيرهم , وهاك مضمون مواد المعاهدة كما نشرتها جميع الجرائد
المشهورة.
1- مضمون المادة الأولى اعتراف الحكومة البريطانية بأن نجدًا والحسا
والقطيف والجبيل وملحقاتها وثغورها (موانيها ومرافقها) على سواحل خليج العجم
كلها تابعة للأمير عبد العزيز بن السعود كما كانت لآبائه من قبل , وأنه هو حاكمها
المستقل والرئيس المطلق على جميع قبائلها , واعترافها أيضًا بأنها ستكون موروثة
لأولاده وأعقابه من بعده , ولكنها قيدت هذا الاعتراف بأن يكون الأمير اللاحق
مختارًا من الأمير السابق (فيخرج من كان متغلبًا عليه) وأن لا يكون خصمًا معاديًّا
للحكومة البريطانية بمخالفتها لشروط هذه المعاهدة فقط.
نقول: إن هذه المادة نص في مصلحة ابن السعود , فإن الدولة البريطانية
اعترفت له فيها بالاستقلال المطلق في هذه البلاد كلها , وكان قريب العهد
بالاستيلاء عليها , ولو قالت: إن ثغور نجد وبلاد الحسا كانت للدولة العثمانية ولي
الحق باحتلاله ماذا كان يفعل؟ وأما تقييد اعترافها باستقلال من بعده من أولاده
وأعقابه بقبولهم هذه المعاهدة فلا يضره , فإن معاهدته لما كانت لا تلزم من يخلفه
اشترط الإنكليز فيه هذا الشرط , ولا يجب على خلفه قبوله بنص هذه المعاهدة كما
يعلم من أصول القوانين الدولية , فإذا كان الخلف في غنى عن الاعتراف بهذه
المعاهدة لم يعترف بها , لا كما يزعم إجراء الدعاية الحجازية من أن هذا تقييد لمن
بعده بالإخلاص للإنكليز كما عبّر بعضهم (! !) .
2- مضمون المادة الثانية أن الدولة البريطانية تلتزم أن تساعد ابن السعود
وذريته على أي دولة أجنبية تعتدي على بلادهم , إذا كان هذا الاعتداء بدون علمها
ولا إعطائها الوقت الكافي لمراجعة سلطان البلاد ومذاكرته في إزالة الخلاف
المسبب للاعتداء , وقيدت هذه المساعدة برأي ابن السعود , وهذه المادة في
مصلحته , ولا تخل باستقلاله أيضًا.
3- مضمون المادة الثالثة أن ابن السعود يلتزم أن لا يعقد اتفاقًا ولا معاهدة مع
أي حكومة أو دولة أجنبية , ويعد بعدم معارضة أحد في ذلك , ويلتزم إعلام
الحكومة البريطانية بكل تجاوز أو تعدٍّ على شيء من بلاده التي ذكرت في هذه
المعاهدة.
هذه المادة منافية لمصلحة ابن السعود؛ لأنها قُيِّد للاستقلال , وإنما سهل
قبلوها عليها - إن صح نصها - ما كان عليه من حياة العزلة وعدم نية الارتباط ,
والاتفاق مع أحد من الحكومات والدول , ولما شعر بالحاجة إلى الاتفاق مع السيد
محمد علي الإدريسي نقض هذه المادة واتفق معه اتفاقًا كتابيًّا , ثم فاوض الإمام
يحيى , واتفق معه على أمور لم تنشر بعد , فثبت بهذا أنه غير مقيد بما يراه مخالفًا
لمصلحته منها.
4- مضمون المادة الرابعة أن ابن السعود يلتزم أن لا يبيع ولا يرهن ولا
يؤجر ولا يتخلى عن شيء من أراضي بلاده التي ذكرت في هذه المعاهدة , ولا
يمنح امتياز لدولة أجنبية , أو لأحد من رعايا دولة أجنبية بدون رضى الحكومة
البريطانية , وبأن يتبع في ذلك نصائحها التي لا تضر بمصالحه.
هذه المادة منافعة لمصلحة ابن السعود من حيث هي مقيدة لاستقلاله فقط ,
وإنما سهل عليه قبلوها اعتقاده أنها من تحصيل الحاصل؛ لأنه لا ينوي أن يجعل
لأية دولة أجنبية حقًّا من حقوق الملك , ولا الامتياز ولا غيره في بلاده , وهذا عين
المصلحة له ولبلاده , بشرط أن يشمل الدولة البريطانية ورعاياها كسائر دول
الإفرنج؛ لأنهم إذا دخلوا بلادًا , وصار لهم حقوق فيها , أذلوا أهلها , وافتاتوا
عليهم , وسلبوهم استقلالهم , وقد نصح شيخ حكماء العصر الفليسوف الإنكليزي
هربرت سبنسر لليابانيين بأن لا يُدخلوا الإنكليز في بلادهم لمساعدتهم على تنظيمها
وعمرانها , وعلل لهم ذلك بأنهم إذا دخلوا لا يخرجون , وأرشدهم إلى الطريق
المثلى , وهي أن يرسلوا من أبنائهم من يتعلمون ما يحتاجون إليه حيث يجدونه من
أوربة , ليعودوا , ويتولوا الإصلاح بأنفسهم , وقد قبلوا نصيحته فأرسلوا إلى
الغرب من تعلموا ما يحتاجون إليه من فنون الحرب والعمران والثروة والصناعات
التي تتوقف عليها القوة والسيادة , خلافًا لِمَا فعل مَن عَنُوا من الشرقيين باقتباس
عادات الإفرنج وأزيائهم وقوانينهم , فكان ذلك سببًا لإضاعة استقلالهم (إياك أعني
واسمعي يا جارة) .
وقد كان فيما وضعناه مع أصدقائنا مؤسسي قواعد (الجامعة العربية) قبل
الحرب العامة أنه لا يجوز لأحد من أمراء جزيرة العرب أن يمنح دولة أجنبية شيئًا
من رقبة البلاد ولا منافعها , ولا لأحد من رعاياها , ولكن الدولة البريطانية أرادت
حصر هذه المنافع في رعاياها أو حكومتها؛ لأنه توطئة لاستعمار البلاد والسيادة
فيها , بل هو الطريق المعبد له دون الحرب , فلا يجوز لحكومة شرقية أن تبيحه
في بلادها طمعًا في الربح منه , لا بعد أن تصير ذات قوة حربية تخولها أن تشترط
على الأجانب الذين يدخلون بلادها أن يكونوا فيها خاضعين لشرعها ونظمها , نافذة
فيهم أحكامها , وأن تشترط عليهم في عقد الامتياز أو الامتلاك من الشروط الواقية
للبلاد من تعدي دولهم ما هي قادرة على تنفيذه.
5- هذا ما يتعلق بالاستقلال إطلاقًا وتقييدًا من مواد هذه المعاهدة والمادة
الخامسة منها خاصة , بإبقاء الطرق الموصلة إلى البلاد المقدسة من نجد وملحقاتها
مفتوحة , والمحافظة على الحجاج الذين يسلكونها , وذكرها في هذه المعاهدة من
الرياء والفضول البريطانيين , والمادة السادسة في التزام ابن سعود عدم الاعتداء
على حكومات جيرانه من عرب البحرين والكويت وقطر وعمان، والمشايخ الذين
تحت الحماية البريطانية.
وخلاصة القول في هذه المعاهدة: إنها كانت على علاتها في مصلحة ابن
السعود , وأنه لا يوجد عاقل منصف يعرف ما كانت عليه حاله وحال بلاده عند
عقدها , يقول: إن عدمها كان خيرًا منها , وكل ما أمكننا انتقاده منها هو أن
الإنكليز ربما كانوا يرضون من ابن السعود بما دون هذه القيود كلها , مع إقناعهم
بحسن نيته , لو كان أشد في مساومته وألحن بحجته (إن نظن إلا ظنًا وما نحن
بمستيقنين) .
وأما الحال التي أشرنا إليها هنا فهي ما ذكرناه بالإيجاز من قبل , وهي أنه
كان لآل سعود إمارة في نجد , عظم شأنها الديني والدنيوي بالإصلاح الذي قام ودعا
إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب , فنهضوا به نهضة أشبهت نهضة العرب في
صدر الإسلام , حتى توقع المؤرخون وأهل الرأي في الشرق والغرب بأن يعود بها
عهد الخلفاء والأولين قوة ومجدًا وإصلاحًا وحضارة , فكان أول من ناصبها العداء
أمير مكة الشريف غالبًا , وهو الذي أغرى بها الدولة العثمانية , وافترى عليها
المطاعن الدينية , وما زالت تناوئها وتقاتلها وتساعد ابن الرشيد عليها حتى استولى
على عاصمتها ولجأ أميرها الإمام عبد الرحمن الفيصل بأولاده إلى الكويت , فأقاموا
ضيوفًا على شيخها ابن الصباح إلى أن نهض نجله عبد العزيز هذا نهضته التي تعد
من نوادر تاريخ الرجال , فاستعاد الإمارة التي كانت لوالده , ثم استرد ما كان بيد
الدولة العثمانية منها , وكان من أمر دخول الدولة في الحرب الكبرى ما ذكرنا في
المقام الأولى , فلو لم يعقد مع الإنكليز هذه المساعدة لزعموا أن هذه البلاد للدولة
العثمانية , واحتلوا سواحلها , وأعانوا ابن الرشيد وغيره على مناجزتها من الداخل
بل كان منهم من يغريه بابن السعود مع اتفاقه معهم كما ثبت هذا عنده! !
على أن هذه القيود المنتقدة من المعاهدة لا تجعل للإنكليز أدنى حق في التدخل
الفعلي في شؤون البلاد - ولا تعترف لهم بالسيادة ولا حماية عليها - كما اعترف لهم
الشريف حسين بحق الحماية والتدخل الفعلي- ومثل هذه المعاهدات تكون مؤقتة
بطبعها , وقلما تتجاوز العاشرة من عمرها , والعبرة بما يحصل بالفعل من ثمرة
عقدها في زمن اقتناع المتعاقدين بالحاجة إليها , ثم يتبع كل منهما بعد ذلك الزمن
مصلحته , والمدار في جميع الأمور السياسية على القوة وما يسمونه (الأمر الواقع)
فالذي استفاده الإنكليز من هذه المعاهدة بالفعل هو أن ابن السعود لم يقاتلهم مع
الدولة العثمانية , والذي استفاده هو منهم: (1) اعترافهم له ولذريته بأنهم
أصحاب هذه البلاد وحكامها. (2) عدم الاستيلاء على شيء منها كما استولوا
على فلسطين وسورية والعراق , فهو لولا اتقاء هياج العالم الإسلامي لاستولوا على
الحجاز. (3) تأمين معيشة بلاده في عسرة سني الحرب (4) تمكنه من
القضاء المبرم على إمارة ابن الرشيد التي كانت تتهدده في كل حين. (5)
قبض مئات الألوف من الجنيهات , نظم بها قوة بلاده حتى صارت أعظم قوة في
بلاد العرب , وقد نقض بعد ذلك ما رأى من مصلحته نقضه.
ولو أنه جعل للإنكليز أدنى تدخل فعلي في بلاده باتفاق كتابي أو شفوي لكان
أشد خطرًا عليها من ألف معاهدة تكتب , ولا يعمل بها كما يعلم هذا باليقين من
تاريخهم , ومسألة مصر والسودان أظهرها وأشهرها.
(فإن قيل) : إن هذه العاهدة قد تمكنهم من العبث باستقلاله والتدخل العملي
في شؤونه , بحجة نقضه لبعض شروطها , (قلنا) : إن هذه أمور تتبع المصلحة
وتراعى فيها القوة , ومتى عزم القوي على شيء لا تعوزه الوسيلة , وليس في هذه
المعاهدة نص على جواز العبث باحتلال البلاد النجدية أو التدخل في شؤونها
الداخلية , إذا ترك سلطانها الوفاء بشيء مما التزمه فيها , وإنما يمكن للإنكليز أن
يَحُولُوا دون تنفيذ أي نقض للمادة الرابعة , لا يمنع ابن سعود وحده من إعطاء
امتياز لدولة أجنبية أو لبعض رعاياها في تلك البلاد , بل يمنع أي دولة من الدول
نفسها أو رعاياها من الإقدام على التعاقد معه على ذلك , وقد بينا أنه ليس من
مصلحة ابن السعود نقض هذه المادة , ومن المعلوم من سياسة الإنكليز أنهم يقدمون
على حرب شعب حربي مسلح؛ لأجل فتح بلاده أو التمتع بالنفوذ فيها , ولا سيما
مثل بلاد نجد في فقرها , وعدم وجود مرافق الحياة وأسباب النقل فيها , فهي بلاد
لا يعتدى عليها بالقوة العسكرية؛ لأن الخسارة في ذلك أعظم من الربح قطعًا , وإنما
يخشى عليها من تمكن قوة الأجانب ونفوذهم فيما جاورها , وهو ما يخدمهم البيت
الحسيني فيه.
هذا وإن جميع مواد هذه المعاهدة خاصة بالبلاد التي ذكرت فيها بالنص , فلا
يدخل فيها ما استولى عليه ابن السعود بعدها، كبلاد عسير باتفاقه مع الإدريسي ,
فضلاً عن بلاد الحجاز , كما أرجف أهل بيت حسين الحجازي وأجراء دعايته
الكاذبة الخادعة , على أن ابن السعود قد قيد نفسه في مسألة الحجاز بمؤتمر إسلامي
يقرر شكل حكومة الحجاز , فلم يدع ما يدعيه حسين وأولاده من أن الحجاز ملك لهم
يجب أن يكون رهن تصرفهم فيه مطلقًا , لا رأي فيه لأحد من مسلمي العرب ولا
العجم [1] وسنبين في المقالة الثالثة وجوهًا أخرى من الفرق بين أهل هذا البيت
وبين ابن السعود دحضًا لدعاويهم , وإبطالاً لدعايتهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشرت في عدد الأهرام الذي صدر في رجب (18 فبراير) .
(1) قال الأمير عبد الله: إن لهم حقًّا أن يتعرفوا شؤون الحاج , ويمنعوا من شاءوا منهم دخول الحجاز: أي لأجل الحج , ونشر هذا بعض الجرائد عنه.(25/766)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوهابيون والحجاز
عود على بدء
المقالة الثالثة
ذكرنا في المقالة الأولى من هذه المقالات أننا استأنفنا الكتابة في هذا
الموضوع , في وقت لا نملك فيه مراجعة شيء مما عندنا من المحفوظات المتعلقة
به , وهو وقت نقل مكتبنا وما فيه إلى دار أخرى , فكان اعتمادنا على ما نَذْكُر مما
سمعنا وقرأنا , ومنه الكثير مما كتبه أجراء الدعاية الحجازية الحسينية العلوية في
المعاهدة البريطانية النجدية وغيرهم , وأننا على اعتقاد أن أكثر ما يكتبونه مفتريات
وأباطيل وخداع وتضليل , قد عَلِقَ في ذهننا بعضه , فتوهمنا أن في هذه المعاهدة
نصوصًا في تقييد استقلال سلطان نجد فوق ما بيناه في المقالة الثانية التي كتبناها ,
بعد أن أتيح لنا الاطلاع على نصها الذي نشر في العراق ثم في سائر الأقطار
العربية , إذ كان قد طال عهدنا بالاطلاع على ذلك الأصل , وكان من هذا الوهم أن
من القيود السلبية التي قيد بها سلطان نجد , أنه لا يستطيع أن يحارب بلاد موالية
للدولة البريطانية بدون إذنها , إذا أكثر أنصار حسين وعلي من اللغط بأنه تحت
الحماية البريطانية , وأنه لم يهاجم الحجاز إلا باتفاق مع الدولة الحامية له , ولكننا
رأينا رجاله يهاجمون العراق وشرق الأردن أيضًا , وتتصدى الطيارات البريطانية
للمهاجمين عليها من الوهابيين فتدفعهم عنهما؛ فلهذا ولما ذكرنا من اتفاق سلطان نجد
مع السيد محمد علي الإدريسي من قبل ومع الإمام يحيى من بعد , ولما عرفه
القاصي والداني من اتفاقه مع نوري باشا الشعلان أمير قبائل الرولة , على أن
يشغل هذا بقبائله (الجوف) بشرط أن يمنع الإنكليز من مد سكة حديدية بين
فلسطين والعراق تمر منه؛ لهذا كله قلنا: إن تلك المعاهدة أمست قصاصة ورق لا
قيمة لها.
وقد اتفق لنا عند الشروع في كتابة المقالة الثانية أن رأينا نص المعاهدة في
بعض الجرائد قبل أن يتيسر لنا مراجعة الأوراق , فلم نر فيها شيئًا يمنع سلطان
نجد أن يكون غازيًّا ولا فاتحًا , ولا أن يتصرف في بلاده بما يشاء كما يشاء , إذا
لم يدخل فيها نفوذ دولة أجنبية , وهذا قيد يمنعه مما يضره ولا ينفعه , وأما منعه
إياه من عقد الاتفاقات مع الحكومات والدول , فإذا كان يشمل الحكومات العربية
المجاورة له , فقد نقض المعاهدة بمخالفته , وإن كان لا يشملها فلا يضره هذا
الشرط الآن , إذ ليس من مصلحة نجد أن تكون ذات علاقة بالدول الأجنبية , ولا
هي مستعدة لذلك , وللمستقبل حكمه واستعداده.
وإننا قبل أن نبين ما وعدنا به من المقابلة بين سلطان نجد وبين الشريف
حسين وأولاده , نقول: إننا كنا ذكرنا في المقالة الأولى أننا سمعنا خبر المعاهدة
البريطانية النجدية أول مرة من الملك فيصل في الشام , (وكان اجتماعنا به هنالك
سنة 1920) , كما ذكرنا أننا سمعنا خبر اختيار ابن السعود عدم الدخول في الحرب
العامة في جانب الدولة العثمانية ولا في جانب الدولة البريطانية , وذكرنا تعليله نقلاً
عن صديقنا السيد طالب بك النقيب , ونتذكر أننا سمعنا منه أنه كان قد كلف
مخاطبته في هذه المسألة وأنه نصح له بما يليق به من حيث هو أمير مسلم وهو ما
فيه مصلحته , وقد فهم المشار إليه أننا نعني بما قلناه: إنه كان هو الذي وسط بين
الإنكليز والأمير وابن السعود في عقد هذه المعاهدة , فكتب في الجرائد تصحيحًا
للخبر هو أنه كان أخبرنا بأنه هو الذي توسط بين الأمير ابن السعود وبين الدولة
العثمانية في عقد الاتفاق الذي أشرنا إليه في المقالة الأولى , وكان ذلك قبل الحرب
وأما المعاهدة المذكورة فقد عقدت بعد نفيه من العراق في أوائل الحرب , وحدد لنا
الزمان والمكان اللذين أخبرنا فيهما بما ذكر , وهو إنه كان على مائدة الإفطار بدارنا
في شهر رمضان من سنة 1916 , وذكر بعض الذين كانوا معنا ليلتئذ , وقد تذكرنا
ولكن هذا غير ذاك فنحن لم نقل ولم نقصد بعبارتنا الوجيزة المبهمة أن صديقنا
توسط في معاهدة سنة 1915 , إذا صرحنا بأننا لم نسمع خبرها إلا من الملك
فيصل سنة 1920 , وإنما العالق بذهننا أن الإنكليز لما أعلنوا الحرب مع حلفائهم
على الدولة العثمانية , وشرعوا يغرون أمراء جزيرة العرب بأن يكونوا معهم عليها
كان نصيبهم من ابن السعود ما ذكرنا من الاتفاق السلبي , ولم نكن نعلم أنه كان
بمقتضى معاهدة مكتوبة وقد ذكرنا هذا مرارًا في المنار وغيره؛ أي الاتفاق السلبي
فإن كنا واهمين في سماع هذا الخبر من صديقنا (طالب بك) , وأنه كان كلف
مخاطبة ابن سعود فنصح له , فإننا نسغفر الله تعالى , ولا نرى عليه غضاضة فيه
فنستغفره هو , وإنما نعد ذلك من حسناته.
أما بعد فهذا أوجز ما يقال: في مسألة المعاهدة البريطانية النجدية على فرض
صحتها , وكون هذا الذي نشره الحجازيون هو نصها , ليس فيه تحريف ولا تزوير
مما اعتادوه حتى في الرسميات , كما حرفوا نص ما كتبته جمعية الخلافة في الهند
لملك جدة الشريف علي تحريفًا يغير المعنى , وإن زعم نصيرهم المقطم أنه لا فرق
بين الأصل الذي كتبه إليه رئيس وفد الخلافة وبين تحريف الكتاب الأحمر
الحجازي في المعنى , كأن المقطم يرى أن إذا الشرطية بمعنى ما المصدرية ,
وسيأتي بيان هذا في مقال آخر.
والأمر الواقع الذي لا يحتمل التحريف ولا التأويل أن السلطان ابن السعود
سلطان مستقل في بلاد نجد وملحقاتها , ليس في بلاده أجنبي مسيطر ولا غير
مسيطر عليه أو له نفوذ ما في بلاده - وأنه يغزو ويضم بلادًا إلى بلاده , ويعقد
المعاهدات بينه وبين من يتفق معه من الحكومات المجاورة له بدون أدنى تدخل من
الإنكليز وغيرهم - وأن رجاله قد غزوا بعض قبائل العراق وشرق الأردن , التي
هي بمقتضى سياسة أمراء أو ملوك البيت الحسيني تحت سلطان الإنكليز بالفعل ,
وقاومهم هؤلاء بطياراتهم , وأخيرًا هاجم الحجاز , وطرد منه رئيس هذا البيت
الذي سمي ملك العرب وخليفة المسلمين , واحتل عاصمته , وحصر ولي عهده
الذي ادعى الملك في أحَدِ ثغوره , وقد ظهر للقاصي والداني كراهة الإنكليز لهذا
الأمر وما قبله , وعلموا أنهم أرسلوا إليه من يفاوضه فيه بصفة غير رسمية , فأبى
أن يقابله وأن يكلمه في ذلك فعاد خائبًا.
هذا هو الحق الواقع الذي لا تستطيع حكومات البيت الحسيني البريطانية ولا
دعاتها ومقطمها أن يحرفوه , ولا أن ينقضوا منه شيئًا , ولا أن ينكروا أن نجدًا
كانت إمارة صغيرة , قد تقلص ظل أمرائها آل سعود عنها , فأعاده السلطان عبد
العزيز بن عبد الرحمن الفيصل هذا , ووسع الإمارة , فصارت سلطنة , شهد أهل
المعرفة من الشرقيين والأوربيين أنها أعظم قوة في بلاد العرب.
فماذا فعل البيت الحسيني الحجازي؟
سنحت للشريف حسين فرصة لتأليف قوة عربية بوحدة حلفية تحت رياسته ,
كانت تكون هي الوسيلة الوحيدة لتأليف مملكة قوية مستقلة , فلم يعقل ذلك ولا
رضي به , وفاوضه الإنكليز في موالاته لهم , وإثارة العرب على الدولة العثمانية ,
فلو اشترط في القبول اعترافهم واعتراف أحلافهم باستقلال البلاد العربية بنص
رسمي لأمكن قولهم , ولكنه استبد بالأمر , وعرض عليهم من تلقاء نفسه تلك المواد
التي سماها (مقررات النهضة) التي صرح فيها بأن الأمة العربية بمنزلة القاصر
في حجر الدولة البريطانية , وأن هذه الدولة هي التي تؤسس له مملكة عربية
وصفها بكلمة مستقلة , وبأن على الدولة البريطانية أن تكون حامية لها من الداخل
والخارج حتى من الفتن الداخلية والثورات المحلية , وأن تختار لها العمال
والموظفين , وأن الدولة البريطانية تحتل البصرة من ولايات العراق؛ لأجل تأمين
حماية البلاد العربية , إلى أن يصير للدولة العربية في ظلها من القوة ما يكفي
لحماية نفسها بقوتها , ثم اعترف لها بحقوق خاصة في جميع العراق , وبتأجيل
البت في مسألة سورية الشمالية لما تدعيه فرنسة من الحقوق فيها إلخ.
كانت هذه المقررات سرًّا مكتومًا فأفشاه الأمير فيصل , ونشره في جريدة
المفيد بدمشق الشام , ثم قرأنا في جريدة الملك حسين التي سماها القبلة أنه قد كتب
إلى الدولة الإنكليزية مرارًا بالاستقالة من ملك الحجاز , وأن يعينوا فيه ملكًا غيره! !
هذا شأن الحجاز الذي تفتخر الدعاية الحجازية بأن حسينًا جعله مستقلاً بالفعل
وما جعله مستقلاً إلا مكانته الدينية , التي منعت الإنكليز من تنفيذ ما اقترحه حسين
في قرارات نهضته من حمايتهم له من الداخل والخارج.
وأما فيصل فخدع أهل سورية خداعًا فوق خداع والده , الذي نومهم تنويمًا
كانوا يحلمون فيه بالمملكة العربية المستقلة , خدعهم بتلك الخطب التي كانت تهدر
بها شقاشقه بكفالة الاستقلال التام الناجز لسورية , وبأنه هو ابن محمد صلى الله
عليه وسلم , ويتبرأ منه إن كان يرضى لسورية بما عدا الاستقلال المطلق من قيود
الوصاية والحماية وغيرها - وقد رضي فبرئ - فلما جاءت لجنة الاستفتاء
الأميركانية إلى سورية للوقوف على رأي أهلها , أمره سادته الإنكليز بأن يحمل
الأهالي على طلب الوصاية البريطانية , ففعل , ولكنه لم يطع وصرح بأنه غير
سياسته فجأة؛ لأنه علم علمًا قطعيًّا بأن الوصاية لا بد منها , وأن طلب الاستقلال
التام المطلق يفضي إلى جعل الوصاية لفرنسة , فهو إذًا خيانة للوطن أو هو الخيانة
العظمى (!) .
ثم ذهب إلى إنكلترا فأمرته حكومتها بأن يتفق مع مسيو كلمنصو الرئيس
الفرنسي على قبول انتداب فرنسا لسورية , وإقناع السوريين بذلك , فأطاع , وعاد
إلى سورية؛ لإقناع زعمائها بذلك , فأعجزه الإقناع , وأعلنت البلاد استقلالها ,
وجعلته ملكًا عليها ليرجع عن هذا الرأي , ويكون لها على الأجنبي دون العكس ,
فرجع في الظاهر دون الباطن , ولما أرسل إليه الجنرال غورو إنذاره المعروف في
يونيو سنة 1920 , حاول أن يخدع المؤتمر السوري؛ ليفوض الأمر إليه , فعجز ,
فحل عقد المؤتمر , وقبل الإنذار الفاضح , وحل الجيش المدافع , وخرج من دمشق ,
فأقام في ضواحيها إلى أن احتلها الجيش الفرنسي , فلما تم الاحتلال عاد إليها
ليكون في ظل الانتداب الفرنسي ملكًا عليها.
وبعد طرده منها عاد إلى أولياء أمره الإنكليز الذين سل سيفه تحت قيادتهم ,
وساعدهم على فتح القدس الشريف والشام , وأخذ ثأر القرون الطويلة من العرب
والإسلام , شاكيًا لهم ما أصابه , معلنًا لهم ثباته على إخلاصه لهم , فأرسلوه إلى
العراق , وجعلوه ملكًا عليه , فجاهد ولا يزال يجاهد في سبيل توطيد نفوذهم فيه
بالاسم الذي يريدونه.
وأما عبد الله فقد جاء شرق الأردن بعد فرار أخيه من سورية , في أثر
مكاتبات بين بعض أحرار السوريين الذين لجؤا إليها وبين والده , وكانت هي
المنطقة الحرة التي لم تدخل في الانتداب لا لفلسطين ولا لسورية , وكان لأولئك
الوطنيين الأحرار من الآمال فيها وفي الملك حسين وفي الأمير عبد الله ما كنت في
حيرة منه , ولم أجد له تأويلاً - بعد أن علموا من كذب هذه الأسرة وخداعها ما لا
يمكن تأويله - إلا تعلق الغريق بحبال الهواء (كما يقال في تلك البلاد) فما زال
الأمير عبد الله يجاهد في هؤلاء الأحرار , ويسرف في أموال المنطقة , ويحكم فيها
عبيده , ويتزلف إلى الإنكليز والصهيونيين , حتى وضع المنطقة في دائرة الانتداب
الفلسطيني , وأوصل نفوذ الإنكليز واليهود إلى حدود الحجاز بإذن والده (المنقذ
الأعظم) ورضاه , وهو أَحَبُّ أولاده إليه.
وأما علي ولي عهد والده , وهو الذي كان يظن أنه خيرهم إن كان فيهم خير
فهو (يمثل الآن شر دور من أدوار القضية العربية) كما يقال في التعبير العصري ,
فإن الداء الذي جعل أباه وأخويه نكبة على العرب والإسلام متمكن منه كتمكنه
منهم أو أشد , وفيه جميع مساويهم إلا خزوانة الجبروت فلم يحك لنا عنه منها شيء؛
لأنه ضعيف الإرادة [1] .
أما الداء الذي نعنيه فهو الافتتان بلقب الملك ومظاهر عظمته , ولو في ظل
دولة أجنبية , بل هو متواطئ معهم على أن يكونوا كلهم ملوكًا في حماية الدولة
البريطانية , وقد أخبرني رئيس الوفد الهندي أنه ثبت عندهم في جدة أنه عرض
على المعتمد البريطاني فيها أن يكون الحجاز تحت الحماية البريطانية رسميًّا
ليصدوا سلطان نجد عنه , وكلفه أن يكتب إلى دولته بذلك , فأجابه: بأن دولته
قررت الحياد رسميًّا فلا تعدل عنه , فكان هذا مصداقًا للروايات الكثيرة المختلفة
المصادر في ذلك وأن كذبها دعاة سياستهم في مقطمهم وغيره , ونبين هذا في مقال
آخر.
وأما المساوي المرادة هنا فهي الجهل والاستبداد , والخداع والكذب , والأثرة
والغرور بالنسب باعتقاد أنهم أولى الناس بالسيادة على العرب , وأحقهم بالملك
والخلافة بنسبهم الذي يشاركهم فيه ألوف لا تحصى , كثير منهم يفضلونهم كل ما
يتوقف عليه الملك من علم وخلق وعمل.
فعلي هذا متواطئ مع أبيه على ادعاء خلعه , وإخراجه من الحجاز , وكون
أهل الحجاز بايعوه على أن يكون ملكًا دستوريًّا على الحجاز وحده - وكونه يعترف
لكل إمارة في جزيرة العرب باستقلالها إذا اعترفوا باستقلاله في الحجاز - وهذا كله
كذب وخداع , وكذا وجود حزب وطني حجازي ينطق بلسان أهل الحجاز , ويعبر
عن رغابتهم , وقد كنا نرتاب في كل خبر من هذه الأخبار عند نشرهم إياه , ثم
تأتينا الأنباء الصادقة باليقين الموافق لرأينا , ومن المؤسفات أننا كنا في شواغل
حالت دون بيان رأينا في الجرائد , على أننا كنا نذكره لكل من نتكلم معهم في هذه
الشؤون , وذكرنا بعضه في الخطاب العام الذي ننشره في هذه الأيام في المنار.
وقد كانت أخبار الوفد الهندي الصادقة آخر ما جاءنا من الحقائق الموافقة
لرأينا , ومنها أن عليًّا لا يزال يخاطب والده بألقاب الملك والخلافة وإمارة المؤمنين
وأن الحزب الوطني مؤلف هنالك من محمد الطويل وطاهر الدباغ من أركان
حكومة علي , ولم يبق ممن كانوا خدعوا به , ودخلوا فيه من الحجازيين أحد ,
والذي نعلمه نحن أن الأول تركي الأصل والثاني مغربي - ولهما مندوبان بمصر
هما: حسين الصبان الذي كان مدير جريدة القبلة وعبد الرؤف الصبان وهما اللذان
ينشران الدعاية باسمه- ومما قاله رئيس الوفد وأعضاؤه وهو معروف عندنا وعند
المختبرين أنه ليس في حكومة علي في جدة نفوذ لأحد من أهل الحجاز , فإن
الجند وضباطه سوريون , وكذا جُلُّ رجال الحكومة على قلتهم.
ومن غريب أحداث الزمان أن أهل هذا البيت الحسيني يبغضون السوريين
أشد البغض وأن السوريين كانوا أشد أنصارهم في الحجاز وسورية وشرق الأردن،
وهم الذين سموا كبيرهم خليفة المسلمين وأمير المؤمنين المرة بعد المرة، ولكن لما
كان كل ذلك في كل وقت مبنيًّا على أساس مُنافٍ للحق ولمصلحة العرب ولشريعة
الإسلام لم تكن عاقبته إلا الخيبة والخذلان.
وجملة القول أن علي بن حسين قد حصن ثغر جدة بمال أبيه ومساعدة أخيه
وبما استأجر له من الجند من شرق الأردن وسائر فلسطين وسورية , وبما ابتاع به
من السلاح والذخائر وعدد القتال من أوربة , وسمى نفسه ملك الحجاز , وقد
عرّض بلاد الحجاز بهذا للحرب والجوع , وهو مستعد لمنع الحج إذا عجز
الوهابيون عن الاستيلاء على جدة قبل الموسم , بل هو يستحل إهلاك الحجاز وأهله
والعرب والعجم لإستعادة ملك الحجاز له والخلافة لوالده , فالخلاف بين علي بن
حسين وحسين بن علي من جهة والسلطان ابن السعود من جهة أخرى قائم على هذه
المسألة , وهي أنه هو يريد إنقاذ الحجاز من أهل هذا البيت الظالم وأهله , وجعل
أمره لأهل العقل والبصيرة من أهله ومن سائر العالم الإسلامي , وهما يريدان أن
يكون ملكًا لهما يتصرفان فيه وفيمن يرد إليه من مسلمي العالم كله , كما يشاء
كبيرهم الذي ثبت بالتواتر العام ظلمه وإلحاده في الحرم , وسوء إدارته ثم من يرثه
منهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بلغنا بعد نشر هذه المقالة في الأهرام صحة ما كان أشيع من أن الشريف حسينًا وولديه عبد الله وعليًّا أمضوا للإنكليز ضم معان والعقبة إلى شرق الأردن , وهما من أرض الحجاز لئلا يأخذها سلطان نجد , فهل يوجد مسلم صحيح الإسلام , أو عربي غير خائن لأمته يشك بعد علمه بهذا في خيانتهم لدينهم وأمتهم؟ ؟ .(25/772)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله
(2)
كتبنا في المقالة الأولى من هذا الموضوع كلمة إجمالية في ماضي الأزهر
البعيد والقريب حتى عهْد الأستاذ الإمام , وغرضنا مما كتبنا ونكتب فيه العبرة
والتذكير , لا سرد وقائع التاريخ.
ونقول الآن: إن الحكومة المصرية لم تستطع تنفيذ ما قررته موافقًا لرأي
لورد كرومر من ترك الأزهر وشأنه , والاكتفاء بحفظ الأمن فيه كما تحفظه في كل
معهد ومكان في البلاد حتى الحانات ومواخير الفجور , بل ذكر في نصهم (أن
يكون في أمان وهدوء , وبعد عن الشغب والقلاقل , وأن يظل مدرسة دينية كما كان)
والمراد من هذه الكلمات أن لا يكون له شأن ما في أمور الحكومة , ولا الأمور
العامة السياسة ونحوها , ولا تدرس فيه العلوم الكونية , فإن كان الأمير استمال
اللورد بما لا محل لذكره هنا؛ ليمكنه من عزل الأستاذ الإمام من الإفتاء ومن إدارة
الأزهر, فقبل اللورد أن يستقيل من الثانية دون الأولى على شرط أن يتولى هو
تأسيس مدرسة القضاء الشرعي بوضع نظامها والإشراف عليها وأن لا يكون بعد
ذلك للأزهر صفة خاصة عند الحكومة , ولكن الأستاذ الإمام لم يلبث بعد ذلك أن
مرض فتوفي قبل إتمام وضع مدرسة القضاء الشرعي , فلم يصبر الأمير عن
الاشتغال بأمر الأزهر بصفة غير رسمية , ولم يرض حال الأزهر بعد ذلك أحدًا من
الأزهريين ولا من سائر المسلمين في مصر ولا غيرها , كما بيناه في الجزء التاسع
من مجلد المنار التاسع , وفيه مقالة حافلة لزعيم مسلمي الهند في ذلك العهد النواب
محسن الملك , ثم ذكرنا في الجزء العاشر منه أن الأمير قد بدا له في أمر إصلاح
الأزهر بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي , وجعلها تابعة لوزارة المعارف وكان
وزيرها ومؤسس المدرسة فيها ممقوتًا عند سعد باشا زغلول تلميذ الشيخ محمد عبده
وأنه شاع أن أساس هذا الإصلاح إنشاء (مجلس أعلى) من مجلس إدارة الأزهر
من أعضائه رئيس الديوان الخديوي ومدير الأوقاف العامة , وكان تابعًا لنفوذ
الخديوي وحده , وأن يكون لشيخ الأزهر وكيل من حقوقه أن ينوب عنه في غيبته
في كل شيء.
وما زال الأزهر بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي في أمر مريج , وعلم أهله
أن المتخرجين فيها سيستأثرون بجميع المناصب الشرعية , ويزاحمون مع ذلك
شيوخ الأزهر على التدريس فيه , فيزحمونهم , ويفوقونهم , وأفضى ذلك إلى
الهياج والاضطراب في سنتي 1327 و 1328 , ثم باعتصاب الطلبة: أي تركهم
لحلقات الدروس مطالبين بإصلاح التعليم في الأزهر وزيادة العلوم والفنون الطبيعية
والرياضية , التي تدرس في مدرسة القضاء الشرعي في برنامج دروس الأزهر ,
ووافقهم بعض المدرسين على ذلك , حتى إنهم طلبوا إلغاء مدرسة القضاء الشرعي.
حينئذ ظهر للأمير وللحكومة ولمن يعقل من الشيوخ الذين كانوا يعارضون
الإصلاح في عهد الأستاذ الإمام أن بقاء الأزهر على ما كان عليه محال كما قال ,
فعهدت الحكومة إلى المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية بأن
يضع نظامًا جديدًا للأزهر بمساعدة كل من إسماعيل صدقي باشا وكيل وزارة
الداخلية وعبد الخالق ثروت باشا النائب العمومي - وهؤلاء الثلاثة في الذروة
العليا من رجال الحكومة ذكاءً وعلمًا بالقوانين والنظم - وقد جمع فتحي باشا جميع
ما وضع للأزهر من القوانين والنظم , من مدة أربعين سنة وبعد وضع النظام
الجديد الحافل الجامع للكثير من الفوائد والمنافع , طبعت كلها مع النظام الجديد ,
ولكن هذا النظام على ما انتقدناه منه من جعله الأزهر تحت تصرف الحكومة , لم
توضع فيه المادة المهمة التي تجعله مضمون التنفيذ , وإنما نفذ منه بعض المواد
المتعلقة بالنظام الصوري، كالمجلس الأعلى واجتماعاته إلخ , وعلم من ذلك أن
الحكومة ثابتة على رأيها في وجوب عزلة الأزهر , وعدم تدخله في أمور الحكومة
أو الأمة العامة إلا الأمور الدينية المحضة، كالصلاة والدروس الدينية.
وفي هذه الأثناء عُنِيَ بعض أذكياء طلبة الأزهر بأمور السياسة والأحزاب ,
وكان الحزب الوطني أول من دعا بعضهم إلى ذلك , فلما ظهرت الثورة بعد
الحرب العظمى كان الألوف من الأزهريين في جيش المتظاهرين , وكان
الاجتماع في الأزهر لإلقاء الخطب السياسية وتنظيم الأعمال أعظم منه في
غيره , فشددت الحكومة عليهم ما تشدد على غيرهم , كما سبق الإلماع به في المقالة
الأولى , وظل الأزهريون محل مراقبة الحكومة وتشديدها إلى عهد الملك فؤاد
الأول - وفقه الله تعالى لخدمة العلم والدين - فقد عني أولاً بكبار العلماء , ثم بمن
يليهم , فأطمع ذلك صغار العلماء والطلاب بنيل ما يرونه , فكثرت المطالب
والاقتراحات , ولما نجحوا في بعضها توسعوا فيها , وتألفت لأجلها الجماعات ,
ورأت الحكومة أن العطف الملكي على العلماء والأزهر يكاد يفضي إلى ابتلاع
المعاهد الدينية , لمعظم ما زاد من دخل وزارة الأوقاف على نفقاتها من غير أدنى
فائدة للحكومة ولا للأمة من خريجها , يكثرون عامًا بعد عام , وكلهم طلاب
رزق واسع ورفاه سابغ , فأطالت التفكير في وضع نظام جديد لهذه المعاهد ,
يحصر فيه عدد علماء الدين الذين يرزقون من خزينة الأوقاف.
وقد كبرت آمال الأزهريين بعد رفع الحماية البريطانية عن مصر بتأثير
الثورة التي كان لهم فيها المظهر الذي لا ينكر , وحدث في هذه الأثناء كثرة سقوط
الذين يؤدون امتحان شهادة العالمية , فظنوا أن التشديد في الامتحان لم يحدث إلا
بإيعاز يراد به تقليل عددهم وتنقيص مددهم , وما زالوا يساورون الوزارات وهي
تدافعهم باللين , وتعدهم بدرس الموضوع , وتأليف اللجان له , إلى أن وضع قرار
لمطالبهم كُتِمَ أَمْرُه عنهم , وألحوا في وزارة سعد باشا على مكاشفتهم به قبل تنفيذه
وغاضبوا الوزارة والرئيس الذي كان من أعز أنصاره لعدم إجابته إياهم , إلى أن
انحصرت مطالبهم أخيرًا في المواد الآتية التي أجابتهم إليها الحكومة الحاضرة وهذا
نصها:
مطالب الأزهر وملحقاته من الحكومة
المطالب التي اتفق عليها طلبة الأزهر وطلبة معهد طنطا
(1) اعتبار الأزهر الشريف جامعة كبرى تتكون عناصرها من المعاهد
الدينية التالية , ومدارس القضاء الشرعي , ودار العلوم , والمعلمين الأولية بحيث
تكون هذه الجامعة مشرفة على جميع ما يختص بتعليم الدين , وتعليم اللغة العربية.
(2) المساواة الفعلية بين حاملي شهادات الأزهر ونظرائهم من حاملي
شهادات وزارة المعارف , فتساوي الأولية الابتدائية , والثانوية البكالوريا
والعالمية الليسانس , وذلك فيما يختص بميزاتها وبالمرتبات والترقيات , واحتساب
المعاش , مع حفظ امتيازات العلماء الخاصة بهم مثل كبونات السكك الحديدية.
(3) إقرار مشروع التعليم الديني في المدارس , وهو الذي قررته وزارة
المعارف السابقة , وإسناد القيام بتعليمه إلى خريجي الأزهر خاصة.
(4) إلغاء القوانين الاستثنائية والإجراءات والقرارات التي ترتبت عليها ,
وإباحة الانتساب والتحويل إلى الجهة التي يريدها الطالب.
(5) تعديل الكشف الطبي بحيث لا يمنع من تولي الوظائف إلا من به
مرضٍ مُعْدٍ.
(6) حفظ الحق للمكفوفين في مباشرة التدريس بالأزهر , وفي وظائف
الإمامة والخطابة بالمساجد.
(7) جعل الامتحان على دورين في السنة الواحدة حسب المتبع في
المدارس.
(8) إرسال بعثات إلى الجامعات الأوربية؛ لدراسة العلوم التي
تناسب التعليم في الأزهر.
***
المطالب التي انفرد بها طلبة معهد طنطا
(1) تعديل برامج التعليم تعديلاً يتناسب مع الحال الحديثة , ويحفظ للأزهر
صفته العلمية والدينية.
(2) تعديل مدة الدراسة بجعل مدتها العامة ثماني سنوات , والأربع الباقية
بعد ذلك في مختلف العلوم الدينية والعربية , على أن تكون مدرسة القضاء الشرعي
للتخصص في القضاء الشرعي , ومدرسة دار العلوم للتخصص في اللغة العربية ,
وباقي الأقسام في الأزهر للتخصص في العلوم الأخرى , وعلى أن تكون الشهادة
الثانوية من الأزهر هي شرط الدخول في هذه الأقسام.
(3) إيجاد قسم لتعليم اللغات الأجنبية المتداولة في العالم؛ ليمكن العالم
الأزهري أن يبين حضارة الدين الإسلامي في اللغة العربية للعالم الأوربي.
***
المطالب التي انفرد بها الأزهر
(1) معاملة العلماء معاملة خاصة في الكشف الطبي بوزارة المعارف.
(2) تعديل قانون التخصص الجديد بجعل مدة الدراسة فيه سنتين فقط ,
على أن تكون مدرستا القضاء الشرعي ودار العلوم فرعين من الأزهر - الأولى
للتخصص في القضاء , والثانية في اللغة العربية - وباقي أقسام التخصص في
الفنون الأخرى بالأزهر , وأن يكون الانتساب إلى هذه الأقسام كلها مقيدًا بالحصول
على شهادة العالمية من الأزهر.
(3) تنفيذ الحقوق التي كفلتها القوانين واللوائح لحملة شهادات الأزهر
المعطل العمل بها الآن.
(4) إيجاد أمكنة صحية صالحة للدراسة غير الأمكنة الحالية التي يدرس
فيها الطلبة.
(5) جعل الوظائف الكتابية بالمحاكم الشرعية حقًّا مشتركًا بين جميع
المذاهب لا فرق في ذلك بين خريجي القسم المؤقت والقسم النظامي , وإلغاء قرار
الحقانية الأخير.
(6) حل اللجنة المنتدبة من وزارة المعارف لتغيير نظام مدرسة القضاء
الشرعي الحالي وإهمال عملها.
(7) تأليف لجنة للنظر في هذه المطالب.
***
مطالب قسم التخصص
(1) ألا يقل المرتب عن ستة جنيهات، تصرف في زمن الدراسة،
وفي المسامحات والإجازات.
(2) إيجاد مكان صالح للدراسة يكون على نظام المدارس العالية.
(3) تخفيض مدة الدراسة إلى سنتين.
(4) أن يعتبر كشف القومسيون الطبي حين الدخول في التخصص كشفًا
نهائيًّا فلا يعاد الكشف عند الطلب للتوظف في أثناء التخصص، أو بعد الحصول
على شهادة التخصص.
(5) أن يكون لهم حق التدريس في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية.
(6) أن يعتبروا في جملة الموظفين، فيُحسب لهم زمن التخصص في
المعاش
(7) أن يُعتبر صرف المرتب الشهري بعد حصولهم على شهادة التخصص
إلى أن يلتحقوا بالوظائف.
(8) صرف جوازات السفر بالسكة الحديدية المصرية.
***
مطالب جمعية تضامن العلماء
(المطلب الأول) : تعديل المادة التاسعة من قانون مدرسة القضاء الشرعي
والمادتين الثامنة والتاسعة من قانون التخصص للجامع الأزهر، بما يحفظ امتيازات
العلماء الذين تخرجوا قبل صدور ذلك القانون.
(المطلب الثاني) : إلغاء قرار المجلس الأعلى القاضي بقصر الانتخاب في
التدريس على العشرة الأول، وتحكيم الكفاءة العلمية، مع رعاية الأقدمية في
الانتخاب، وتظهر الكفاءة بإلقاء دروس تحضيرية مؤقتة.
(المطلب الثالث) : أن يخصص من مالية الحكومة مبلغ يسد حاجيات
العلماء غير المدرسين من القسم المؤقت، الذين ليس بيدهم شيء في مقابلة إلقاء
حصة أو حصتين في الأزهر وملحقاته.
(المطلب الرابع) : المعافاة من الكشف الطبي، وإذا كان مشروعًا , فلا
يتناول إلا من كان مريضًا بالأمراض المعدية، مع إباحة التدريس والإمامة
والخطابة للمكفوفين من غير شرط ولا قيد.
(المطلب الخامس) : التعليم الديني في جميع مدارس الحكومة ومجالس
المديريات، على أن يكون مقصورًا على العلماء؛ لاختصاصهم بالعلوم الدينية
وآلاتها.
***
تقرير اللجنة الوزارية في شئون الأزهر
بعد أن قدمت هذه المطالب لوزارة أحمد زبور باشا أمرت بتأليف لجنة خاصة؛
للنظر فيها مؤلفة ممن تذكر أسماؤهم، فعقدت عدة جلسات قررت فيها عدة أمور،
وكان إتمام عملها في جلستها التي انعقدت يوم 2 فبراير سنة 1925 (8 رجب سنة
1343 هجرية) ، ووضعت القرار الآتي (المكمل لاقترحاتها السابقة) ، وقدمته
إلى مجلس الوزراء لاعتماده، موصية بضرورة تنفيذه بسرعة، وتقرير النفقات
اللازمة له، فأقره المجلس وهذا نصه:
(1) أن تعتبر المدارس الأولية للمعلمين، ومدرسة دار العلوم ومدرسة
القضاء الشرعي داخلة في ضمن الجامعة الأزهرية الكبرى، على شرط أن تبقى
وزارة المعارف العمومية متولية إدارة هذه المدارس، وأن تقوم وزارة المعارف
نفسها بعقد الامتحانات اللازمة لقبول طلبتها وتخريجهم، ومنحهم الشهادات طبقًا
للقوانين والمناهج التي تسير على حسبها الآن، والتي تسنها لها فيما بعد على
حسب مقتضيات الأحوال، وأن على مدرسة دار العلوم والمدارس الأولية للمعلمين
معًا مجلس إدارة رئيسه شيخ الجامع الأزهر، وأعضاؤه مفتي الديار المصرية
ومدير المعاهد الدينية ومراقب التعليم الأولي بوزارة المعارف، وناظر مدرسة دار
العلوم واثنان من أساتذة هذه المدرسة , وأن يطلق على هذا المجلس (إدارة دار
العلوم والمدارس الأولية للمعلمين) .
(2) ابتداء من أول السنة المكتبية المقبلة 1925-1926 يضاف إلى منهج
دراسة القسم الأولي للمعاهد الدينية , علاوة على مقرره الحالي في العلوم الدينية
والعلوم العربية، ما يتسع له من المواد الحديثة التي تدرس للمدارس الأولية
للمعلمين، وليست في منهج القسم الأولي للمعاهد الدينية ليتسنى لمن يتمم دراسة
القسم الأولي، ويريد الاشتغال بوظيفة التعليم في المدارس الأولية، أن يتفرغ سنة
واحدة؛ لاستيفاء ما ينقصه من العلوم، ثم يؤدي الامتحان اللازم للحصول على
الشهادة المعروفة بشهادة الكفاءة للتعليم الأولي، أمام اللجنة أو اللجان التي ستؤلف
في دائرة الأزهر والمعاهد الدينية برياسة منْ يُعيِّنُهُ مجلس الأزهر الأعلى،
ومساعدة من يندب من المعاهد الدينية ومن وزارة المعارف العمومية توحيدًا للنظام
العام، ويقصر تخريج هذا الصنف من المعلمين على المعاهد الدينية متى وجد، أن
حاجة التعليم لا تتطلب أكثر مما تُخَرِّجُهُ هذه المعاهد.
ونظرًا إلى أن الحاجة ماسة للإكثار من المدرسين للتعليم الأولي الذي يزداد
انتشارًا على مَرِّ السنين، ويقابل الرغبة الصادقة للحكومة المصرية العاملة على
تعميمه، وحبًّا في الاستفادة من حاملي شهادة القسم الأولي من المعاهد الدينية في
فترة السنوات الخمس، التي يستغرقها سَيْرُ الدراسة الجديد في التعليم الأولي
بالمعاهد الدينية، تنشأ فرقة من أول السنة المكتبية المقبلة 1925-1926 تسمى
(فرقة التخصص للتدريس بالمدارس الأولية) ، يتكمل فيها حاملو الشهادة الأولية
من المعاهد الدينية مدة سنة واحدة؛ لإعداد أنفسهم لتأدية امتحان شهادة الكفاءة للتعليم
الأولي، وهذه الفرقة تنشأ في المعاهد الدينية التي بالقاهرة وطنطا وأسيوط
والزقازيق والإسكندرية؛ أي في المعاهد الدينية التي توجد معها في بلدة
واحدة مدارس أولية للمعلمين، ويقوم بالتدريس في هذه الفرقة أستاذة المعهد الديني
أنفسهم، ومن يندب معهم من أستاذة المدرسة الأولية للمعلمين، وهؤلاء الأساتذة
المندوبون يكلفون التدريس بهذه الفرقة في أوقات الفراغ من أعمال مدرستهم،
ويؤجرون على ذلك بمكافأة تصرف لهم على حسب القواعد المتبعة بوزارة المعارف
العمومية، أما معهد دسوق ودمياط اللذان لا توجد إلى جانبهما مدارس أولية
للمعلمين، فإذا وجد فيهما من الطلبة من تطمح نفسه إلى التخصص للتدريس
بالمدراس الأولية، فإنهم ينقلون إلى معهد آخر، يتيسر لهم فيه الالتحاق بفرقة
التخصص المذكورة.
(3) ونظرًا إلى أن الرغبة قد توجهت إلى إدخال التعديل المرموق بعين
الإصلاح على مناهج المعاهد الدينية، وأن الأزهر الشريف سيضيف إلى مقررات
القسم الثانوي من العلوم العصرية ما يتمشى مع الحركة العلمية الحاضرة؛ ليكون
لطلاب العلم والدين مهبط لتلقي العلوم القديمة والحديثة، وأن الهمة الصادقة ستبذل
لتدرس فيه العلوم الحديثة المشتمل عليها منهج المدرسة التجهيزية، الملحقة
بمدرسة دار العلوم (الذي هو منهج القسم الأدبي للمدارس الثانوية الأميرية،
واستعيض فيه عن اللغات الأجنبية والترجمة ببعض العلوم الحديثة) ، إذن لم تبق
حاجة إلى بقاء هذه المدرسة التجيهزية إلى جنب القسم الثانوي بالمعاهد الدينية،
ولهذا تقرر اللجنة إلغاء المدرسة التجهيزية الملحقة بدار العلوم بالتدريج ابتداء من
أول السنة المكتبية المقبلة 1925-1926، بمعنى أنه في هذه السنة الأولى فقط من
المدرسة التجهيزية المذكورة، ويُكتفى بنظيرتها بالقسم الثانوي للمعاهد الدينية،
بحيث ينظم فيها التدريس وفقًا لما ذُكِرَ، وفي السنة التي تليها تلغى السنة الثانية
من المدرسة التجهيزية، ويكتفى بنظيرتها بالقسم الثانوي للمعاهد الدينية وهَلُمَّ جرًّا.
وبما أن الحاجة ماسة للإكثار من متخرجي دار العلوم الذين يقومون بمهمة
تدريس العلوم العربية والدين في المدارس، التي تزداد نموًّا وانتشارًا ورغبةً في
التعجيل بالاستفادة من حاملي الشهادة الثانوية للمعاهد الدينية في فترة السنوات
الأربع التي يستغرقها سير الدراسة الجديد في التعليم الثانوي بالمعاهد الدينية،
تقرر اللجنة أنه ابتداء من السنة المكتبية المقبلة 1925-1926 تنشأ فرقة بالسنة
الأولى لدار العلوم تكون الدراسة بها على حسب المنهج المؤقت لطلبة دار العلوم،
الذين أتموا دراسة القسم الأول لمدرسة القضاء الشرعي، يقبل فيها من حاملي
الشهادة الثانوية للمعاهد الدينية، وهذه الفرقة تسير إلى جنب فرقة السنة الأولى
السائرة على حسب النظام الجديد، كلٌّ يدرس مقرّره الخاص به في منهجه، وفي
السنوات التي تليها يسار على هذه النحو، حتى إذا وافت السنة المكتبية 1929-
1930 يلغى السير على حسب هذا المنهج المؤقت بالتدريج؛ لأن المدة المحددة له
تكون قد انتهت، ويحل محله النظام الجديد لدار العلوم.
أما قبول الطلبة للسنة الأولى بالقسم المؤقت لدار العلوم في غضون السنوات
الأربع المشار إليها، فيكون بامتحان مسابقة لحاملي شهادة الدراسة الثانوية للمعاهد
الدينية في المواد الآتية:
تحريريًّا في الإملاء والإنشاء والخط والرسم، وشفهيًّا في القرآن الكريم كله
حفظًا وتجويدًا وألفية ابن مالك حفظًا وفهمًا لمعناها، وتكون المطالعة في كتاب أدب
الدنيا والدين مع التطبيق وفهم المعنى وحسن التعبير، وحرصًا على المزايا التي
يتمتع بها حاملو شهادة الدراسة الثانوية بقسميها الأول والثاني، يبقى الامتحان
المعروف بامتحان شهادة الدراسة الثانوية لتجهيزية دار العلوم معمولاً به لطلبة
الأقسام الثانوية للمعاهد الدينية التي ستسير ابتداء من أول السنة المكتبية المقبلة
1925-1926 على حسب المنهج الجديد لمن يريد منهم الالتحاق بمدرسة دار
العلوم، وسيعقد لهؤلاء لجنة أو لجان في دائرة الأزهر والمعاهد الدينية برياسة من
يختاره مجلس الأزهر الأعلى، وبمساعدة المندوبين الذين يعينون من المعاهد الدينية
ومن وزارة المعارف العمومية وتوحيدًا للنظام العام، وسيكون القبول في مدرسة
دار العلوم ابتداء من سنة 1929 وفقًا لترتيب الناجحين في هذا الامتحان.
وقد لاحظت اللجنة في كل خطوة سلكتها أن المناهج الجديدة التي ستتبع في
الأزهر الشريف والمعاهد الدينية في أقسامها الأولية والثانوية ابتداء من السنة
المكتبية المقبلة 1925-1926 لا تمس العلوم الدينية والعلوم العربية، من حيث
مقرارتها الحاضرة التي تحفظ للأزهر صبغته الدينية العربية، ونظرًا إلى أن فرقة
السنة الثانية من النظام المؤقت لدار العلوم ستكون السنة المكتبية المقبلة
1925-1926 خالية من الطلبة بداعي التنظيم الذي بدئ به في العام الماضي، فقد
تقرر أن يؤخذ لها من يريد الالتحاق بها من حاملي شهادة العالمية من المعاهد
الدينية، بعد أن يؤدوا امتحان مسابقة فيما بينهم في مقرر السنة الأولى من مدرسة
دار العلوم على النظام المؤقت، مع إعفائهم من تأدية الامتحان في العلوم الشرعية،
ومع عمل استثناء خاص لهم من حيث السن.
(4) حاملو شهادة العالمية الذين يلحقون بوظائف التدريس في المعاهد
الدينية والإمامة والخطابة في وزارة الأوقاف، يشترط فيه أن يكونوا خالين من
الأمراض المعدية، وقادرين على أداء وظائفهم , ولكل مصلحة أن تحدد قوة
الإبصار الضرورية لتدريس المواد المختلفة في المعاهد التابعة لها.
(5) أن تكون مدة التخصص في جميع أقسامه بعد الحصول على شهادة
العالمية ثلاث سنوات، وتعدل مناهج الدراسة لهذه الأقسام بواسطة مجالس الإدارة
المختصة، وتوصي اللجنة بإعداد مكان واحد يضم أقسام التخصص معًا توحيدًا
لأنظمتها العامة، وتسوية لجميع طلبتها في الامتيازات، وقد يكون من الممكن بناء
الجناح الشرقي في مدرسة القضاء الشرعي؛ لتكون فيها حجرات دراسية تكفي
السنوات الثلاث لأقسام التخصص، وينبغي الشروع في ذلك في الحال، ويكون
القبول لقسم التخصص للقضاء الشرعي بامتحان مسابقة في مادتي الفقه والأصول،
فيما بين العلماء الذين يتقدمون له، وتوصي اللجنة كذلك بمعاملة حاملي شهادة
التخصص معاملة (الدكتوراه) متى وضعت القواعد اللازمة لحامليها في الديار
المصرية.
ورغبة في توحيد الدراسة الثانوية في أقسام التخصص وغيرها من المعاهد
الدينية ترى اللجنة أنه من حيث إن السنة الأولى للتخصص في الأزهر قد انتهت
فعلاً في شهر ديسمبر سنة 1924، وأن السنة الثانية له ستبدأ في منتصف شهر فبراير سنة 1925، فإذا أمكن هؤلاء الطلبة أن يدرسوا مقرر السنة الثانية بتمامه
في غضون المدة ما بين شهر فبراير ومايو من سنة 1925، بحيث يؤدون
الامتحان في ذلك المقرر كله حوالي شهر سبتمبر المستقبل، اعتبرت هذه المدة بمثابة
السنة الثانية كاملة للناجحين منهم، وحينئذ يستطيع هؤلاء الناجحون أن
يبدءوا سنتهم الثالثة مع بقية طلبة المعاهد الدينية في موعد واحد، وأما الذين لا
ينجحون منهم فإنهم يبقون للإعادة في السنة الثانية، وبهذه الكيفية تصبح السنة
الدراسية واحدة لأقسام التخصص، والمعاهد الدينية جميعًا تبتدئ حوالي شهر سبتمبر
من كل سنة وتنتهي حوالي شهر يونيه.
(6) وتقرر اللجنة للمكفوفين حق التمتع بما يتمتع به المبصرون، من
حيث الانتساب للأزهر والمعاهد الدينية، وتلقي العلوم التي تناسبهم فيها؛ للحصول
على شهادة العالمية الخاصة بهم، ودخول أقسام التخصص بالأزهر، وتدريس ما
يمكنهم تدريسه من العلوم في الأزهر والمعاهد الدينية، والامتحان بوظائف الإمامة
والخطابة بوزارة الأوقاف.
(7) وترى اللجنة أن ما قدمت من المقترحات لا تمس ما لطلبة الأقسام
الثانوية بالمعاهد الدينية من الامتيازات، بمقتضى المادة 59 من القانون رقم 10
لسنة 1911 المعدلة بالقانون رقم 32 لسنة 1933 على قاعدة تقديم الأكفاء من
طالبي التوظف.
(8) ونظرًا لضرورة البدء في الحال بتعديل مناهج الدراسة في الأزهر
والمعاهد الدينية تعديلاً يلائم روح العصر الحاضر، مع حفظ ما للأزهر من
الصبغة الدينية العربية، تؤلف لجنة من حضرات الأعضاء الآتي ذكر أسمائهم بعد
تنفيذًا لما يقره مجلس الوزراء.
1- فضيلة الشيخ حسين؛ والي سكرتير المعاهد الدينية.
2- فضيلة الشيخ محمد شاكر؛ وكيل الجامع الأزهر سابقًا
3- فضيلة الشيخ محمود الديناري؛ شيخ القسم الأوّلي للأزهر.
4- فضيلة الشيخ محمود أبو العيون؛ من علماء الأزهر.
5- حضرة صاحب العزة علي الكيلاني بك؛ ناظر مدرسة القضاء الشرعي.
6- حضرة صاحب العزة محمد بك السيد ناظر مدرسة دار العلوم.
7- حضرة صاحب العزة الشيخ محمد حسنين الغمرواي بك؛ المفتش الأول
للغة العربية بوزارة المعارف.
8- حضرة الشيخ محمد حسن الفقي؛ المفتش بالتعليم الأولي بوزارة الأوقاف.
عضو اللجنة ... ... عضو اللجنة ... ... ... عضو اللجنة
(محمد توفيق رفعت) ... (محمد صدقي) ... ... (إسماعيل صدقي) ...
نمرة 21-1-1 ... ... ...
... ... ...
إلى رياسة مجلس الأزهر الأعلى؛
وافق مجلس الوزراء على ذلك بجلسته المنعقدة في 4 فبراير سنة 1925،
وقد أبلغ هذا القرار إلى وزارتي المعارف العمومية والأوقاف.
... رئيس مجلس الوزراء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد زيور
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(25/779)
الكاتب: خير الدين الزركلي
__________
جبار زمزم والحطيم
قصيدة تاريخية اجتماعية، نظمها شاعر الشام المجيد خير الدين أفندي
الزركلي على إثر سقوط حسين بن علي المكي عن كرسي ملكه وخلافته، وفراره
من الحجاز.
صبر العظيم على العظيم ... جبار زمزم والحطيم
إن القضاء إذا تسلط ... ضاع فيه حجى الحكيم
والنفس جامحة فخذ ... ما اسطعت منها بالشكيم
انهض فقد طلع الصبا ... ح ولاح محمر الأديم
ألق السلاح على الطلو ... ل وحي شاخصة الرسوم
ودّع قصور (أبي نميّ) ... لست فيها بالمقيم
راعتك رائعة الملوك ... ويؤت بالخطب الجسيم
سهم رماك الأقربو ... ن به فغلغل في الصميم
لم يجدك الحذر الطويـ ... ـل من الموالي والخصيم
أيام كنت تسيء ظنك بالرضيع ... وبالفطيم
ما كنت تحفل بالنصيـ ... ـح وكنت أحفى بالنموم
للنعميات يد الوشا ... ة وللأباة لظى الجحيم
ريع الكرام بقصرك الـ ... ـعالي فذق روع الكريم
اسمع أنين (القبو) ويح ... (القبو) من حنق كظيم [1]
أعددت للأحرار فيـ ... ـه عقاب منتقم ظلوم
أكلت حياة (القبو) من ... أرواحهم ومن الجسوم
طال انقيادك للخصو ... م وأنت أدرى بالخصوم
الإنكليز وما أرا ... ك بأمرهم غير العليم
ما في جموعهم وإن ... حدبوا عليك سوى غريم
قد يستنيم أذاهم ... حينا وليس بمستنيم
ذؤبان واديك الفسيـ ... ـح وآفة الملك العقيم
كالنار تذكيها الريا ... ح فكيف تطفأ بالنسيم
عجبًا لمن طلب الخلا ... فة والخلافة في النجوم
أين الخلافة لا خلا ... فة في الحديث ولا القديم
تلك الذي ذهبت مع الأ ... يام قبل ذوي (سليم)
أو لست أعجب للزعيـ ... ـم يفوته سهر الزعيم
الجامع ... ... المتناقضات ... من ... الغرائز والفهوم
الغافل، اليقظ، الحريص ... الباذل، العاني، الرحيم
المدره العي العصي ... الطيع الشرس الحليم
الصادق الظن الصحيـ ... ـح الفاسد الرأي السقيم
الطيب النفس الأنيس ... السيئ الخلق السؤوم
يا ناظم العقد النثير ... وناثر العقد النظيم
لم ألف قبلك هادمًا ... ما كان يبنى من أطوم
كانت تخومك لا تنا ... ل فهل حميت حمى التخوم
هذا وليدك في (الرقيـ ... ـم) يعبث في أهل الرقيم [2]
بحبوا (يهوذا) ما حبو ... ت وليس غيرك من ملوم
خسروا رضى موسى الكليم ... فناب عن موسى الكليم
العرب قومك يا حسين ... وأنت منهم في الصميم
كم علموك وما علمـ ... ـت وحاولوا بك من مروم
هلا اقتديت وأنت تشـ ... ـهد بالفتى (عبد الكريم) [3]
المستعز ... ... ... بقومه ... والمستبد ... على الغشوم
والمسترد عُلا حما ... هـ بحد مرهفه الصروم
التارك (الأسبان) طا ... ئشة المدارك والحلوم
والمشهد الأقوام أن ... الحق محمي الحريم
والمبلغ الأسماع أن ... الضيم ينهض بالمضيم
رفع العقيرة في الجمو ... ع وأنت لاه بالنعيم
ونفى الهموم عن الربو ... ع وأنت تبعث بالهموم
وشفى الصدور من الكلو ... م وأنت كنت من الكلوم
ماذا ادخرت لمثل يو ... مك والنذير نذير شوم
أعددت خمسًا سابحا ... ت في الفضاء بلا رجوم [4]
وسفائنا مر النسيـ ... ـم يحيلهن إلى هشيم [5]
ومدارسًا ما كان ينقـ ... ـص حسنهن سوى العلوم
أعددت أجنادًا وما ... عودتها صد القروم
ما في الذين دعيت ... (منقذهم) سوى شاك هضيم
ياعبرة لأولي البصا ... ئر في الحميد وفي الذميم
قل للذين سيخلفو ... نك من عدو أو حميم
الواردين على التربع ... في الدسوت ورود هيم
شر الممالك ما يسا ... س سياسة البغي الوخيم
ما في العروش على الجها ... لة والغباء بمستقيم
ومن استدام الملك مَنْـ ... سيًّا فليس بمستديم
ما عرش (مكة) بالإما ... رة في (ثقيف) أو (تميم)
عصر (البداوة) قد توا ... رى عهده بين الغيوم
العرش منهار إذا ... لم يحمه علم العليم
لهفي على أهل (الجزيـ ... ـرة) في السهول وفي الحزوم
يتخبطون من العما ... ية في دجى حلك يهيم
أترى ينم (ابن السعود) ... إذا استوى عن طيب خيم
فيؤلف الوحدات طيـ ... ـبة المنابت والأروم
ويهيب بالآحاد ... يو قظها وبالحشد الحميم
أم يستبد كما استبد ... مجانب السنن القويم
فيبيت يجرع ما تجر ... عه سواه من السموم
ما كان والله (الحسين) ... الشيخ بالشيخ النؤوم
لكن من خاف الهز ... يم رمته صاعقة الهزيم
من حاد عن شرك الغمو ... م اصطاده شرك الغموم
طلب السلامة بالونى ... فإذا به غير السليم
__________
(1) القبو: سجن تحت الأرض لا يدخله الهواء، ولا شعاع الشمس، كان يسام فيه الذين يغضب عليهم حسين سوء العذاب.
(2) الرقيم: قرية أصحاب الكهف، وكانوا بعمان قاعدة شرق الأردن اليوم (على ما قيل) ، حيث يعبث أميرها عبد الله بن حسين.
(3) يعني: محمد عبد الكريم أمير الريف في مراكش.
(4) يعني: خمس طيارات، ليس لهن قذائف يرجم بها العدو.
(5) هي ثلاث بواخر صغيرة، اشتراهن؛ للاتجار ونقل الحجاج.(25/791)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة القرآن
وتحريف ترجمة له والتشكيك فيه
أهم ما طرأ من الحوادث التي تعني العالم الإسلامي ثلاث:
(أولاها) : مجاهرة الحكومة التركية الأنقورية بالمساعدة على ترجمة القرآن
الكريم، ونشرها باللغة التركية، وكانت توجهت فكرة ملاحدتهم إلى هذا العمل منذ
سنين كثيرة؛ لأجل صرف أهل الدين منهم بالترجمة التركية التي هي من كلامهم،
وتأليفهم ونظامهم عن كلام الله تعالى الذي أنزله على محمد النبي العربي {بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) ، وليسهل عليهم تحريف الترجمة والتصرف
فيها كيفما شاءوا، وقد كنا أنكرنا هذا العمل، وبينا ما فيه، فأنكر علينا ذلك مراسل
الأخبار في الآستانة (عمر أفندي رضا) وقال: إنه لم يفعل ذلك أحد من الترك،
وإنما فعله أحد نصارى السوريين: يعني زكي بك مغامز وقد كتبنا في ذلك ما عرفه
قراء المنار والأخبار، ثم وردت الأنباء بأن بعض الترك قد ترجموه، فتذكرنا بذلك
نبأ قديمًا في ذلك، سنذكره في مقال خاص بهذه الترجمة، ثم نشرت رصيفتُنا مجلة
(سبيل الرشاد التركية) شيئًا من ترجمة حديثة لغير السوري النصراني المذكور،
وبينت خطأ المترجم في أداء المعنى بها، ثم تلى ذلك طرح المسألة على مجلس
الدولة التركية في أنقرة وموافقته على تخصيص مبلغ من المال؛ للإعانة على نشر
ترجمة القرآن.
(ثانيتها) : أن فرقة مسيحية الإسلام القاديانية في الهند كانوا نشروا ترجمةً
إنكليزيةً للقرآن المجيد، حرفوا فيها بعض آياته تحريفًا معنويًّا لإثبات بدعتهم
القاديانية، وطبعوها مع القرآن الكريم العربي، وقد نشط دعاة هذه الملة الجديدة في
هذين العامين في نشرها في البلاد العربية، وزار بعضهم مصر , فلم يلتفت إليهم
أحد على ما سبق زيارتهم من الدعوة وتأسيس لجنة لها، دخل فيها بعض الملاحدة؛
ابتغاء الرزق، ثم زاروا سورية، فكان من سوء حظها عناية بعض وجهائها في
القدس والشام وبيروت بزياتهم والحفاوة بهم واشتغال الجرائد بنشر أقوالهم،
ومناظرات الناس لهم، على أن تلك المناظرات كانت ولله الحمد منفرة عن بدعتهم
المنافية لدين الإسلام.
وقد أرسلوا إلى مصر بعض نسخ القرآن المجيد المطبوع مع ترجمتهم
المحرفة، فأرسلتها مصلحة الجمرك إلى مشيخة الأزهر؛ لأخذ رأيها في جواز
إدخالها للبلاد حسب النظام المتبع في ذلك، فلم تأذن المشيخة بذلك، فقامت قيامة
الفرقة الضالة، وطفقت تنشر في الجرائد رسائل الطعن في مشيخة الأزهر،
زاعمة أن هذا حجر على نشر القرآن وسيطرة على حرية الفهم فيه.. وليس الأمر
كذلك فإن مشيخة الأزهر لم تتعرض قط لحرية الفهم والتفسير، ولا لنشر الكتب
المشتملة على الأفهام والأقوال المخالفة للمأثور عن السلف، ولا المؤيدة لبعض
الفرق المخالفة للسنة من قديم وحديث، ولكنها لا يبيح لها الشرع الإسلامي أن تأذن
إذنًا رسميًّا بنشر ترجمة للقرآن محرفة له، يَقصد بها ناشروها الدعوة إلى بدعة
جديدة مخالفة للإجماع في أصول العقائد الإسلامية؛ كبدعة الأحمدية القاديانية , التي
منها إدعاء استمرار الوحي، وأن المسيح الدجال غلام أحمد القادياني هو المسيح
المنتظر، وأنه نسخ بعض أحكام القرآن، وقد أرسلت نسخ من هذه الترجمة إلى
سورية منذ سنين، فأرسلتها مصلحة الجمرك في بيروت إلى مفتيها صديقي
الأستاذ الكبير الشيخ مصطفى نجا عملاً بالنظام المتبع منذ عهد الدولة العثمانية،
كما وقع هنا فذكر لي المفتي ذلك فأخبرته بحقيقة هذه الفرقة الضالة التي تنشره،
فعهد إلى بعض متقني اللغة الإنكليزية من مسلمي بيروت بمراجعة ترجمة بعض
الآيات المحرفة، وبينوها له فأفتى بمنع نشر الترجمة المطبوعة مع المصحف كما
فعلت مشيخة الأزهر في هذا العهد، فمنعتها السلطة المحتلة، فأي عاقل يطلب
من مشياخ الإسلام ومفتيه الإذن الرسمي بهذا الضلال؛ لأن أصحابه ينشرونه
بحماية المصحف الشريف لضد ما أنزله الله تعالى لأجله؟
(ثالثتها) : تشكيك دكتور إنجليزي في القرآن العزيز بشبهة واهية،
أذاعتها جريدة السياسة المصرية في برقية هذا نصها وعنوانها لها:
***
رأي باحث إنجليزي في نص القرآن
لندن في 21 فبراير - لمراسل السياسة الخاص - قال مكاتب المورننج
بوست في مانشستر أن الدكتور منجانا أستاذ اللغة العربية في جامعة مانشستر قد
أعلن أمورًا جديدة عن نص القرآن الذي اعتمده المسلمون إلى اليوم، فقد اكتشفت
أخيرًا مخطوطة مكتوبة باللغة السورية (الآرامية القديمة) ذات أهمية عظيمة جدًّا،
وهي مودعة الآن بمكتبة مانشستر للفحص، وتشتمل على آيات ليست موجودة في
النسخ المعتمدة من القرآن، والتي استعملها المسلمون منذ أجيال عديدة.
ويقول الأستاذ منجانا: إنه تابع البحث عن بعض هذه الآيات في المصنفات
الإسلامية، فثبت له من البحث والاستقراء أن بعض هذه الآيات قد فاه بها النبي
صلى الله عليه وسلم فعلاً، ولكنه لم يجد أثرًا للآيات الأخرى، حتى إن الكثيرين
من رواة الأحاديث لم يدونوها في مصنفاتهم , ويوجد بين المصحف الحالي
والترجمة السورية القديمة عدد كبير من الاختلافات، ومنها اختلاف في آيات ذات
أهمية عظيمة في مسألة القبلة.
وقال ذلك الأستاذ: (إن القرآن في نسخته المعتمدة الآن لم يجمعه سيدنا
عثمان الخليفة الثالث كما هو الاعتقاد العام، ولكن الذي جمعه هو الحجاج في زمن
الخليفة عبد الملك أي بعد سيدنا عثمان بأربعين سنة) اهـ.
(المنار)
وجاءت برقية أخرى في ذلك، فاهتم بعض المسلمين بهذا الخبر وظنوا أنه
شبهة تستحق البحث والدفع، وما هي بشيء فإن المصحف الموجود بين أيدي
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منقول نقلاً متواترًا عن جمهور علماء
الصحابة إلى هذا العصر بالحفظ في صدور الألوف ونسخ الألوف من المصاحف
منذ خلافة عثمان إلى هذا اليوم، والحجاج لم يجمع القرآن، وإنما أحدث فيه النَّقط
فلا يؤثر في تواتره روايات علماء الحديث والقراء لبعض القراءات الشاذة - ومنها
ما صح سنده- فكيف يؤثر فيها ترجمة رجل غير مسلم باللغة السورية القديمة أو
غيرها وهو مجهول ينقل عن مجهول، وغير ثقة في نقله ولا في ترجمته ولا في
أمانته، ومثله كمثل من يعزو إلى عدوله في الدين أو السياسة أقوالاً مخالفة
للنصوص الدينية أو السياسية الرسمية الثابتة في قوانين الدولة، فأي عاقل في الدنيا
يسمع قول خصم يدعي على خصمه أقوالاً تخالف ما ثبت عنه بما دون ثبوت
القرآن الذي لم يثبت نقل شيء في العالم مثل ثبوته؟ وأي فرق بين افتراء ذلك
المترجم القديم للقرآن وبين ما افتراه بعض دعاة النصرانية في هذا العصر على
النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن؟ وسيكون لنا قول آخر في هذه المسألة،
إذا نشر مذيعوها تفصيلاً لمباحث الدكتور منجانا فيها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(25/794)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الجديدة
(تاريخ الحركة الاستقلالية الإيطالية)
ألقى الأستاذ محمد صبري أفندي في مدرسته الجامعة المصرية (محاضرتين)
أو درسين ممتعين، موضوعهما تاريخ الحركة الاستقلالية للبلاد الإيطالية، ثم
جمعهما وطبعهما في كتاب، فطبعا طبعًا حسنًا على ورق جيد فبلغا ست كراسات
بقطع المنار.
محمد صبري أفندي كاتب مؤرخ من أفراد النابتة المصرية المنقطعين للعلم
والتصنيف، وقد اشتهر في حلبة العلم والأدب بلقب (خريج السوربون)
والسوربون أشهر معهد للعلم والأدب في باريس عاصمة فرنسة , ووجَّه جُلَّ
عنايته إلى التاريخ على الطريقة العصرية التي كان التاريخ الركن الركين الاجتماع
والسياسة، والمرشد البصير للأمم في تطورها وارتقائها، ولا سيما الأمم التي جَنَت
الدول المستعمرة عليها فسلبتها استقلالها، وإن الشعوب الشرقية منها
مصر وسورية والعراق لأحوج إلى الاطلاع والاعتبار بتاريخ الأمة الإيطالية في هذا
العهد منها إلى غيرها؛ لوجوه من الشبه بينهم وبينها، وقد أتى الأستاذ في
دراسيته بخلاصة مفيدة في ذلك لا يقدر على استخلاصها من ذلك التاريخ الكبير إلا
المؤرخ الخبير البصير، والكتاب يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة
منه 4 قروش.
***
(المشرع)
ألقى القس بولس مسعد بضع خطب ومحاضرات في مصر وسورية
وفلسطين لدعوة المسلمين إلى النصرانية كأمثاله من دعاة دينهم الكثيرين في
جميع البلاد، ثم طبعها وسماها بهذا الاسم، وأرسل إلينا نسخة منها؛ لأجل الانتقاد
لعلمه بأنه ذريعة لإشهارها ورغبة الكثيرين في الاطلاع عليها، وقد سلك هذا
الداعية (المبشر) الطريق الذي سلكه بعض سلفه من المغالطة في الاستدلال
على العقائد الوثنية التي مزج بها الرومانيون دين موسى وعيسى عليهما السلام
بآيات من القرآن، حرفوها عن مواضعها، وحملوا ألفاظها على المعاني
الاصطلاحية عندهم حتى التي أخذوها من وثنية المصريين والهنود القديمة، كما بينه
بالتفصيل مؤلف كتاب (العقائد الوثنية في الديانة المسيحية) ، فزعم أن القرآن
يثبت عقيدة التثليث (! ! !) وأنها عين التوحيد الذي يدعو إليه مع قوله: {لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة: 73) إلخ
(! ! !) ، ولا حاجة إلى بيان مآخذهم الوثنية بالشواهد، فإن قراء المنار في غنى
عن ذلك، بما بيناه من تفسير الآيات الكريمة التي حرفوها كما حرفوا التوراة قبلها؛
لأجل أن يدعموا بها هذه العقائد الغريبة التي مزجوا بها توحيد الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام فيراجع في السور الطُّوَال - البقرة وآل عمران والنساء والمائدة - ومن
المختصر المفيد في ذلك تفسيرنا لقوله تعالى: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْه} (النساء: 171) في أواخر
سورة النساء،فقد بينا فيه معنى الكلمة والروح الحقيقي، واستعمال النصارى لهما،
وقفينا على تفسيرها بفصل في عقيدة التثليث عند البراهمة والبوذيين , وقدماء
المصريين والفرس وقدماء اليونان والرومان، وكون تثليث النصارى مأخوذ عن
أولئك الوثنيين؛ فليراجع القس الأديب ومن شاء ممن سمعوا أو قرأوا كلامه ذلك
(في ص 81- 95 من جزء التفسير) وأمثاله في سائر الأجزاء، وكذا ردودنا
الأخرى على المبشرين التي كنا ننشرها في باب (شبهات النصارى وحجج
الإسلام) من المنار، وقد جمع بعضها في جزء مستقل وغيرها ويجب على من
ابْتُلِيِّ بقراءة كتبهم أو سماع جدلهم أن يطلع على أمثال هذه الردود عليهم، إذا لم
يكن لديه من العلم ما يدحض به شبهاتهم ويفند مزاعهم.
***
(التهذيب في أصول التعريب)
كتاب جديد مفيد للدكتور أحمد بك عيسى الطبيب العالم الشهير، أودعه
مباحث نفيسة في اللغة العربية من حيث أصلها، وتكونها، وأطوارها، وأحوال
أهلها، واختلاف شؤونهم فيها، ونسبتها إلى أخواتها السامية، وبلاغتها، ومكانة
القرآن المجيد فيها، وتدوينها وفنونها، واتساعها وكتابتها، وما دخل فيها من العلوم
والفنون والاصطلاحات، وما طرأ عليها من الضعف والدخيل والعامي المحرف،
والكلام في النقل والترجمة، والاشتقاق والمجاز والنحت والتعريب وغير ذلك ,
والكتاب يدخل في ثلاثين بابًا، عقد الثامن والعشرين منه للتعريب، والتاسع
والعشرين في الحروف الهجاء ومقارنتها بحروف اللغات الأخرى، والثلاثين لقواعد
التعريب، وصفحاته 145، وقع باب التعريب في أول الصفحة 120 منها،
وبحثه هو المقصود بالذات من وضع الكتاب وما قبله كالمقدمات له، وإن كان
يطلب لذاته، ومن أبوابه: (21: باب حاجة العرب إلى التعريب) ، وكان
المناسب أن يكون من فصوله، وإنما جعل بحث التعريب هو المقصود الأول من
الكتاب؛ لاشتداد الخلاف فيه بين علماء اللغة في هذه السنين الأخيرة في المجمع
اللغوي الذي كان قد ألف في سنة 1332 هـ 1914، ثم انفض في إبان الثورة
المصرية بعد الحرب الكبرى، وأعيد تأليفه سنة 1340 وكان مؤلف هذا الكتاب من
خيار أعضائه في الحالتين، وهذا الكتاب يدل على مكانته من العلم والأدب،
والتدقيق في البحث على المنهج العصري، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر
وثمنه 20 قرش.
__________(25/797)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد الخامس والعشرين
نختتم المجلد الخامس والعشرين بحمد الله والثناء الحسن على توفيقه إيانا
وإقداره لنا على إتمامه، على قصر الساعد، وعدم المساعد، ومطل أكثر
المشتركين، كما هو شأن أكثر المسلمين، في التقصير في الشؤون العامة ولا سيما
خدمة العلم والدين، وقد تأخر أول السنة ثلاثة أشهر أخرى بالأسباب التي تأخر بها
ما قبله، وزيادة هي نقل المطبعة والأسرة والإدارة من مكان كان توسيع العمل فيه
متعذرًا إلى دار فسيحة كثيرة المرافق، فشغلنا بذلك شهرين كاملين، سيتلوها شهر
آخر أو أكثر؛ لتوسيع المطبعة وإدارتها بالكهرباء، وتكثير عمالها، وإعدادها
لسرعة إنجاز أعمالها، وقد كنا عاجزين عن ذلك في الدار الأولى؛ لضيقها علينا
وبعدها عن بهرة البلد، ومراكز العمل، وسهولة الموصلات التي توفر الوقت
وتيسر السبيل للأعوان على العمل , فالمرجو من فضل الله تعالى أن يصدر المنار
في داره الجديدة في أوقاته، وأن يكون أحسن طبعًا وأكثر نفعًا.
ولدينا من المواد للمجلد السادس والعشرين رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في
الإنكار على مشايخ الطريقة البطائحية الرفاعية في دجلهم وخرافاتهم وأزيائهم
المخالفة للسنة، وادعائهم دخول النار، ومناظرتهم في ذلك، وتحديهم لدى حكومة
الشام وظفره بهم واستتابته إياهم، وهي قصة في واقعة حال جامعة بين الفائدة
والفكاهة , ولدينا مقال مطول لبعض كبار الكتاب في الرد على متفرنج من دعاة
الإلحاد المقلدين، وبيان جهلهم بحال أوربة الدينية، وسنفيض نحن في الرد على
هؤلاء الملاحدة، وعلى محاولي هدم الإسلام باسم الإسلام من البهائية , وأحمدية
المسيحية القاديانية، فقد قَوِيَتْ دعوة هؤلاء كلهم بمصر وغيرها، ويؤيدهم بعض
الكتاب في الجرائد والمجلات المشهورة.
ونسأله تعالى أن يوفقنا في مستقبل عملنا لخير ما وفقنا لمثله في ماضيه من
مقاومة الكفر والإلحاد، والفسق والفساد، المفسدة للأرواح والأجساد، وأن يهدينا
في كل شؤوننا سبيل الرشاد، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(انتهى)
__________(25/800)
المجلد رقم (26)(26/)
رمضان - 1343هـ
أبريل - 1925م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد السادس والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله تعالى أن جعلنا مسلمين، من أمة محمد خاتم النبيين، الذي أكمل به
الدين، وأتم نعمته على العالمين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
(أما بعد) فقد جرت عادتنا بافتتاح كل مجلد من مجلدات المنار بخطبة نلم
فيها ببعض المهمات في العالم الإسلامي من غيٍّ وفساد، وصلاح ورشاد، وأرى
أن أهم ما طرأ في هذا العام، إقدام الترك على نشر ترجمة للقرآن، وتصدي
حكومتهم الجمهورية لنشرها، لأجل أن تحل محل القرآن العربي الذي هو كلام الله
تعالى - فرأيت أن أفتتح المجلد السادس والعشرين بتحقيق الحق في هذه المسألة في
نفسها، وبيان الباعث عليها، ثم أُولي البحث في أجزائه بسائر ما يتعلق بها، كما
فعلت في تحقيق الحق في مسألة الخلافة من جميع وجوهها، (في المجلدين 23
و24) وأكتفي في هذه الفاتحة الوجيزة بأن أذكر قراء المنار بما أطالبهم به في كل
مجلد من إبلاغنا ما يرونه منتقدًا فيه، ونسأله تعالى أن يوفقنا للصواب ويؤتينا
الحكمة وفصل الخطاب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(26/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتنة الاستغناء عن كلام الله العربي
المنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ
لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) .
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف: 12) .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً
عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27-28) .
{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ} (فصلت: 1-3) .
{حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 1-4) .
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ
لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) .
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن
يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا
كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 192-199) .
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 102-103) .
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) .
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (الرعد: 37) .
(أما بعد) فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب، تجاوزن جمع
القلة إلى جمع الكثرة , وعَدَوْنَ إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الأطناب،
ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التبديل ولا التحويل، بأن
الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه، على خاتم
أنبيائه ورسله، قرآنًاعربيًّا، وأنه هو الذي جعله قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي
أوحاه قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنًا عربيًّا، وأن الروح الأمين نزل
به على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل،
والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل، حال كونه قرآنًًا عربيًّا غير
ذي عوج، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به (أم القرى) ومن حولها من جميع
الورى، وأنه على إنزاله إياه قرآنًا عربيًّا للإنذار والذكرى، والوعيد والبشرى،
لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا أن أنزله حكمًا عربيًّا، وأمر من
أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل، الذي جعله
فيه حقًّا مشاعًا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا قوة ولا فضل، فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) اقرأ الآيات من 104 إلى 105 من سورة النساء بطولها،
وراجع سبب نزولها، فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية، وأنه حكومة دينية مدنية عربية، عربية اللسان، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان.
وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على محمد النبي العربي الأمين، الذي
جعله سيد ولد آدم وفضّله على جميع النبيين والمرسلين، بإكمال دينه بلسانه وعلى
لسانه وإرساله لجميع العالمين، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين، بقوله:
عمت رحمته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقوله
تبارك اسمه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) - وقوله تعالى جده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وقوله جل جلاله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج
الأكبر {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى , ثم بما
حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد
به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة،
ليكونوا بنعمته إخوانًا لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات
الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة، فكتب صلى الله عليه وسلم كتبه إلى قيصر
الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب
وأمرائهم، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة، وبشرهم بأن نورها
سينتشر ما بين المشرق والمغرب، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم، وجميع دول
الإسلام من بعدهم، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته، في كلا قسمي شريعته،
عبادته وحكومته.
فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (آسية
وأفريقية وأوربة) بلغته العربية، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث
العقيدة، وضرورة إقامة الفريضة، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين،
وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين اللتين هما عنوان الدخول فيه، على أنهما
من أعمال الصلاة أيضًا، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام، عند جميع
تلك الشعوب والأقوام، بالإجماع العلمي العملي، التعبدي والسياسي إلا ما كان من
تقصير دولة الترك العثمانيين، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين، كسلفهم من
السلجوقيين والبويهيين، حتى بعد تنحُّلهم للخلافة الإسلامية، ورفع ألويتهم على
مهد الإسلام من البلاد الحجازية، فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية
التركية اللغوية ورابطة الإسلام، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب , فإلغاء
الخلافة العثمانية فإسقاط دولة آل عثمان، وتأليف جمهورية تركية العصبية والتربية
والتعليم، أوربية العادات والتقنين والتشريع، وإبطال ما كان في الدولة من
المصالح الإسلامية، كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية
وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية لا دينية، وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلاً
باتًّا كما فعلت الشعوب الإفرنجية، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل
التجرؤ على كل ما ذكر، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام
مراعاة للشعب التركي المسلم، كما وضعوا فيه مواد أخرى تنافي الإسلام , من
استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط، ومن إباحة الردة
واستحلال ما حرم الشرع، وظهر أثر ذلك بالقول والفعل، كالطعن الصريح في
الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة، وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين
والمسلمات، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات
عاريات، مائلات مميلات - إلى غير ذلك من منافيات الدين.
ولكن هذا كله لم يَرْوِ غليل العصبية اللغوية التورانية، ولم يذهب بحقدها
على الرابطة الإسلامية وآدابها الدينية العربية، بل كان مِن كيدها لها السعي لإزالة
كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه وعقله ووجدانه؛ ليسهل عليهم
سله من الإسلام بمعونة التربية الجديدة والتعليم العام، بل عمدوا إلى هذه الشجرة
الطيبة الثابت أصلها، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها، الممتد في
أعالي السماء فرعها، التي تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، عمدوا إليها لاجتثاث
أصلها، واقتلاع جذرها، بعد ما كان من التحاء عودها، وامتلاخ أملودها، وخضد
شوكتها، وعضد خصلتها، بعد أن نعموا بضعة قرون ثمرتها، وإنما تلك الشجرة
الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين، هي الزيتونة المباركة
الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار , فإذا
مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35) .
وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة
حرمانه منه، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك، فإن تفاسيره
بلغتهم كثيرة، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها، وحظر
مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها؛ لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية،
وبالأحاديث النبوية العربية، وبآثار السلف الصالح العربية، وبالحكم والأمثال
وشواهد اللغة العربية، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية، ومن
أنفس الأمة التركية، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لِما عبروا عنه (بتطهير اللغة
التركية) من اللغة العربية، واقترح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية، وإذا
طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم فإنهم سينفذون هذا الاقتراح
قطعًا كما نفذوا غيره , حتى استبدل قرآن تركي بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين،
على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع
المسلمين، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين، وكونه حجة الله تعالى عليهم
إلى يوم الدين.
أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم؟ أرأيت هذا البلاء المبين؟ أرأيت هذه
الجرأة على رب العالمين؟ أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم؟ أرأيت هذا الشنآن
والاحتقار لإجماع المسلمين؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنًا ونصف،
ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرق بلاد الإسلام في الفنون
العربية، والعلوم الإسلامية؟
لقد كان من تأثير ذلك ما هو أقوى البراهين على فوضى العلم والدين،
واختلال المنطق وفساد التعليم، والجهل الفاضح بضروريات الإسلام وشؤون
المسلمين، لقد كان أثر ذلك الجدال والمراء، وتعارض الآراء والأهواء وتسويد
الصحائف المنَشَّرة بمثل ما شوهوها به في مسألة الخلافة، وقد كان يجب أن
تكون مسألة القرآن أبعد عن أهواء الخلاف، للنصوص الكثيرة الصريحة فيها،
وإجماع السلف والخلف العلم والعمل عليها، وعدم شذوذ أصحاب المذاهب والفرق
حتى المبتدعة عنها، فقد كثر الخلاف والتفرق في الدين، وتعددت الأحزاب والشيع
في المسلمين، على ما ورد في النهي عن ذلك والوعيد عليه في الآيات الصريحة،
والأحاديث الصحيحة، وارتد بعض الفرق عن الدين، مع ادعائه بضروب من فاسد
التأويل، وسخافات من أباطيل التحريف، كما فعل زنادقة الباطنية وغيرهم، قبل
أن يَقْووا ويصرحوا بكفرهم، ولم تقُم فرقة تنتمي إلى الإسلام بترجمة القرآن، ولا
ضلت طائفة بترجمة أذكار الصلاة والأذان، لأجل الاستغناء بها في التعبد لله، عن
اللفظ المنزل من عند الله، وإنما قصارى ما وقع من الخلاف فيما حول ذلك من
فروع المسألة، ومن تصوير الفقهاء للوقائع النادرة، أنه إذا أسلم أعجمي مثلاً ,
وأردنا تعليمه الصلاة فلم يستطع لسانه أن ينطق بألفاظ الفاتحة , فهل يصلي
بمعانيها من لغته، أم يستبدل بها بعض الأذكار العربية المأثورة مؤقتًا , ريثما يتعلم
القرآن كما ورد في بعض الأحاديث، أم يصلي بترجمة الفاتحة بلغته؟ نقل الثاني
عن أبي حنيفة وحده مع مخالفة جميع أصحابه له , ونقل عنه أنه رجع عنه إلى
الإجماع، ولم ينقل عن أحد من المسلمين أنه عمل به (على أنه لا حجة في عمل
أحد ولا في قوله غير المعصوم) فكان هذا الإجماع العام المطلق مما يؤيد حفظ الله
تعالى للقرآن , أراد ملاحدة الترك أن يبطلوه في هذا الزمان {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (الصف: 8-9) .
نشرت الصحف مقالات كثيرة في مسألة ترجمة القرآن , رأيت أقلَّها وذُكر لي
ملخص بعض دون بعض , فعلمت مما قرأت وسمعت أن أكثر ما كتب - إن لم يكن
كله - كان أصحابه بمعزل عن شر البدع التي طرأت في هذه الأيام، ولم يتجرأ
عليها مبتدع آخر منذ ظهر الإسلام، وهو الإتيان بقرآن أعجمي مترجم يستغني به
أهل تلك اللغة عن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى , بحيث لا كسب
للرسول المنزل عليه فيه، ولم يُكلَّف إلا تبليغه كما أنزل إليه بحروفه لا مجرد
معانيه، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخاف أن يفوته شيء عند تلقيه من
الروح الأمين، فأمنه الله تعالى من ذلك بمثل قوله: من سورة الأعلى 87
{سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الأعلى: 6) , وقوله من سورة القيامة 16: 85-19
{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) .
نعم قد ترك هؤلاء الكاتبون كلهم مكافحة شر بدعة ابتدعت في الإسلام،
وأرهفوا أسنة أقلامهم للجدال في أصل مسألة الترجمة التي حدثت منذ أجيال.
فقد ترجم القرآن لغير المسلمين بعض الذين تعلموا اللغة العربية منهم
كالمستشرقين من الإفرنج لغرضين:
(أحدهما) : للعلماء وهو العلم بما فيه لذاته، كدأبهم في البحث عن كل علم
ودين في العالم.
(وثانيهما) : لدعاة الدين (المبشرين) وهو الاستعانة بها على الطعن فيه
وهم متفاوتون في تراجمهم , فمنهم من ضل عن كثير من المعاني حتى الواضحة
ضلالاً قريبًا في بعض وضلالاً بعيدًا في بعض آخر، كمن ترجم قوله تعالى:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: 1-2) بأن جميع البشر يكونون
بعد الزوال أو قبل غروب الشمس بزهاء ثلاث ساعات في حال رديئة وخسران! !
ومنهم من سدد وقارب في ترجمته إذ وضح بعض الآيات بتعليق يعترف به
باستحالة الترجمة الحرفية بلغته.
وأما المسلمون من العجم الذين خالفوا سنة أمثالهم من السلف فيما كانوا يتقنون
من دراسة اللغة العربية؛ لأجل فَهم الكتاب والسنة، وتعصبوا للغاتهم , واعتمدوا
في فهم النصوص على الترجمة، فكانوا يقرؤون التفاسير العربية حتى الدقيقة
للتعبير منها كتفسير البيضاوي , ويترجمونها بلغاتهم لطلبة العلوم، ومازالوا كذلك،
ومنهم من كتب تفسير الفاتحة وتفسير بعض سور الجزأين الأخيرين بالفارسية؛
لكثرة تلاوتها في الصلوات، فأحبوا أن يفهمها التالون لها، فعل ذلك الشيخ محمد
بن محمود الحافظي البخاري المتوفى سنة 732 ويسمى كتابه هذا (تفسير خواجه
محمد بارسا) , ومنهم من فسر القرآن كله تفسيرًا مختصرًا كالشيخ حسن بن علي
الكاشفي الواعظ المتوفى في حدود سنة 900 , كتبه بالفارسية وترجمه بالتركية أبو
الفضل محمد بن إدريس البدليسي المتوفى سنة 982 , وهنالك تفاسير أخرى
وحواش على بعض التفاسير المشهورة باللغتين وغيرهما.
وقد طبعت في هذا العصر مصاحف في الهند طبع بين سطورها العربية،
ترجمة حرفية للألفاظ باللغة الأوردية، للاستعانة بها على الفهم الإجمالي، ولم
يترجمه مسلمو الهند بلغتهم ترجمة مستقلة تطبع وتقرأ تعبدًا بدلاً من القرآن العربي
المنزل من عند الله كما فعل الترك في هذه الأيام.
نعم ترجمه بعض مسلمي الهند من مبتدعة القاديانية في هذه السنين الأخيرة
باللغة الإنكليزية ترجمة يقولون: إنها أصح من جميع التراجم الإنكليزية - وطبعوها
مع القرآن العربي المنزل - لكنهم أدخلوا بدعتهم فيها كما نقل إلينا المطلعون
عليها من المسلمين، ولذلك لم يأذن شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بنشرها
في القطر المصري كما بسطنا ذلك في مقال آخر من المنار، وكان هذا المنع
هو السبب في إثارة الجدال والقيل والقال عندنا، فإن القاديانية في الهند
والذين انتحلوا ضلالهم بمصر - وهم قليلون - أنكروا ذلك على شيخ الأزهر
فشايعهم بعض الكاتبين ورد عليهم آخرون، ورأينا أن أكثر الكاتبين لا يعلمون أن
الترجمة الإنكليزية الجديدة هي لمسيحية الهند القاديانية الذين يزعمون أن زعيمهم
(غلام أحمد القادياني) هو المسيح الذي ورد في الأحاديث نبأ نزوله قبيل قيام
الساعة , وأنه كان يُوحى إليه من سخافات النثر والشعر ما يعدونه معجزة له , وما
هو إلا سخرية لمن يعقل من أهل اللغة العربية، وأن سورة الفاتحة تدل على
مسيحيته وعلى عدم انقطاع الوحي ببعثه خاتم النبيين، وأنه نسخ فريضة الجهاد
وما يتعلق بها من الأحكام خدمة للإنكليز، بل يزعمون أن الوحي لا يزال ينزل
على خلفائه من بعده، إلخ.
كما رأينا هؤلاء الكاتبين لا يعلمون شيئًا يُعتَدُّ به من أمر ملاحدة الترك
وعداوتهم للغة العربية وأهلها بغضًا في الإسلام - وأنهم يريدون تحويل الشعب
التركي العريق فيه عنه - وأنهم ما ترجموا القرآن إلا ليتوسلوا به إلى ذلك.
فكل ما جاء به المجوزون للترجمة من غير الضالين ببدعة القاديانية المرتدين
قد أيدهم وأيد ملاحدة الترك من حيث لا يدرون، ولو دروا لكانوا من أشد الناس
إنكارًا عليهم، فوقوعهم في فتنة تأييد المرتدين عن الإسلام يؤيد قول من عد معرفة
الناس من الأمور التي تعتبر في المفتي قاله: الإمام أحمد وغيره , وقال المحقق ابن
القيم في بيانه: إن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم , فإن لم
يكن فقيهًا فيه كان فقيهًا في الأمر والنهي , ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح اهـ؛ وهؤلاء الذين تصدوا للإفتاء في هذه المسألة قد فقد
أكثرهم الفقهَيْن وأقلُّهم أحدَهما.
وأما النظريات التي استدلوا بها على جواز الترجمة بل على وجوبها كما
صرح به بعضهم , فأكثرها سخف وجهل فاضح، والذي يستحق أن يبحث فيه منها
هو مسألة الدعوة إلى الإسلام، وما يتعلق بها من أحكام، وسنذكر من ذلك ما لعله
لم يخطر لأحد من هؤلاء المفتين ببال.
وإنا لنعلم أن الترجمة الإنكليزية التي أشرنا إليها يُقصد بها ما يقصده ملاحدة
الترك من ترجمتهم التركية , فإن القاديانية على بدعتهم التي أخرجتهم من جماعة
المسلمين لا يبيحون التعبد بغير اللغة العربية , بل قصدوا بها الدعوة إلى الإسلام
كما يفهمونه، وقد نشر الخوجة كمال الدين الهندي مدير المجلة الإسلامية التي
تصدر باللغة الإنكليزية في لندن (إسلاميك ريونو) لأجل الدعوة إلى الإسلام خطابًا
يخبر فيه العالم الإسلامي بأنهم ترجموا القرآن بلسان الإنكليز , ويريدون طبعه
ونشره مع الأصل (أي القرآن العربي كلام الله) , ويطلب منهم المساعدة المالية
على ذلك , وعلى نشر المجلة، وقد نشرنا دعوته في الجزء العاشر من المجلد
السابع عشر (شوال سنة 1332) للمنار (ص793-795) , وعلقنا عليها تعليقة
وجيزة نصحنا له فيها بأن لا يطبع ترجمة القرآن التي نوه بها إلا بعد عرضها على
جماعة من كبراء العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها، وعللنا ذلك بقولنا: فإن
رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية , فيُخشى أن تكون ترجمته كثيرة
الغلط كغيرها، على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من التأثير والمعاني ما
تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال، وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن
يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو، وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد اهـ.
وكان من غرضنا عرض الترجمة على جماعة من كبار العلماء لفتح باب
تحرير هذه المسألة، ثم علمنا أن خوجه كمال الدين ليس هو المترجم، ثم بلغنا أنه
ترك المسيحية القاديانية إلى الإسلام الخالص، وقد صرح في مصر بالبراءة منهم
قولاً وكتابة , ولكنه لا يزال يعتمد على هذه الترجمة في الدعوة إلى الإسلام
كالقاديانية، وقد سبق لنا كتابة أخرى في تعذر ترجمة القرآن على جميع البشر
ومباحث أخرى فيها.
وقد كثرت مطالبة الناس لنا بالكتابة في الموضوع من العلماء والفضلاء الذين
اعتادوا من المنار القول الفصل، والحز في المفصل، على ما يعلم بعضهم من
سبقنا إلى ذلك في مواضع من مجلدات المنار السابقة، ومن اطلاع بعض من كتبوا
في هذه الأيام على ما كنا كتبناه من قبل، وسماع بعضهم منا في ليالي رمضان ما
نراه من خطأ وصواب في المسألة، وإنما يبغي هؤلاء تفصيلاً يدحض الشبهات،
ويجلي الحق بالحجج الناهضة من جميع الجهات، كما فعلنا في مسألة الخلافة
العظمى، وأن ننشر ذلك في بعض الصحف المنتشرة لتذيع في الناس فوعدْنا،
على أننا قد كنا ألممنا بذكر هذه المسألة في الجزء الأخير من المجلد الخامس
والعشرين، ووعدنا فيه بالعودة إلى الكتابة فيها بالتفصيل، وقد كتبنا هذه العجالة
قبل مراجعة ما كنا كتبنا ومراجعة ما حفظنا لدينا من قصاصات الصحف فيما كتبه
أشهر الذين كتبوا في المسألة (ولعلنا نجد فيها من الحق ما لم يوجد فيما وقفنا عليها
من غيرها) , فرأينا أن نجعلها مقدمة لِمَا سنكتبه بعد من التفصيل والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(26/2)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة في مسألة الخلافة وأحكامها والخلفاء
(س1-17) من صاحب الإمضاء في دهلي - الهند -بنصه وغلطه اللغوي
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) نحمده
ونصلي على رسوله الكريم) .
استفتاء
ما تقول أيها العلماء الكرام والحاملون لواء الإسلام في سؤال مسطورات
تحت:
(1) هل حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) صحيح
أم لا؟
(2) هل يعمل به في زماننا أم لا؟
(3) إن قلتم لا فما دليل المنع من الكتاب والسنة؟
(4) إن كان الحديث صحيح فهل يعمل به في هذا الزمان وهل يكون
نصب الإمام واجبًا في الملة المحمدية أم لا؟
(5) هل يشترط في الإمام القرشية مطلقًا أو ما أقاموا الدين؟
(6) إن لم توجد إقامة الدين في قريش (كما في بلادنا الهند) فهل يجوز
أن يكون الإمام من قوم آخرين أم لا؟
(7) إن تغافل أو تجاهل قريش أو عوام الناس , ولم يعملوا بهذه السنة فأية
طريقة تختار لإحياء هذه السنة وإلا فكيف؟
(8) جماعة بغير إمام أو خليفة هل لهم حكم الجماعة أم لا؟
(9) هل يكون الإمام صاحب السياسة والقدرة أو بدونهما؟
الاستفتاء الثانية
(10) هل كانت الزكاة تجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم؟ إن كانت تجمع ففيم كانت تصرف؟
(11) هل كانت تجمع على عهد الخلفاء الراشدين مثل ما كانت على عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - وكم يأخذ الخلفاء الراشدون لحوائج حياتهم من هذا
يعني (الزكاة) وكيف كان استحقاقهم شرعًا؟ وكيف كانوا ينفقون إسرافًا أم
اقتصادًا , وهل كان المسلمون يحاسبون الخلفاء في ذلك الزمن أو لا (أي في بيت
المال أم من الزكاة) .
(12) كيف يفعل صاحب الزكاة في زمننا , هل يؤديها إلى الإمام الشرعي
أو يقسمها بنفسه على الفقراء والمساكين كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ.
(13) في أي شيء يجب على الإمام أن يصرف الزكاة , وهل يصرف
مستقلاًّ بنفسه حيث يشاء أو بالشورى؟
(14) كم يأخذ الإمام الشرعي لنفقة نفسه وعياله , وهل يأخذ مستقلاًّ أو
بالشورى؟
(15) إذا اتهم الناس الإمام بالجور في صرف الصدقة , أو ثبت لهم أن
الإمام لا يصرف الزكاة حيث أمر الله بل يجمع , فهل لهم أن يجبروه على وضع
الحساب عندهم أو لا؟
(17) وإذا كان الإمام مخالفًا لسيرة الخلفاء الراشدين المهديين في تصرفه ,
وأيضًا في القول والفعل فهل يصح أن يبقى إمامًا أو لا؟
(الحقيقة) أن واحد العالم المولوي في بلادنا (الهند - الدهلي) ادعى أنه
إمام وخليفة الله , وخلافته كخلافة الخلفاء الراشدين , ومن لم يبايعه ومات بدون
بيعته مات ميتة جاهلية , ويحذر الناس ويخوف المسلمين بوعيد هذا الحديث (من
مات وليس في عنقه بيعة إلخ) ويقول: إنه من لم يؤد الزكاة إلي فلن يقبل الله
زكاته وإذا اعترض الناس عليه أنه ليس بقرشي , ولا صاحب السياسة والقدرة ,
وأنه لا يقدر أن يجري حدود الله لأنه محكوم ككافة المسلمين في الهند , وأن الإمام
لا يصير إلا بانتخاب المسلمين وكثرة رأيهم , أجاب أن السياسة والقرشية ليست
بضروري فصار تنازعًا وتخاصمًا واختلافًا كثيرًا بين المسلمين في هذه المسألة
الإمامة.
فعليكم أيها العلماء الإسلام أن تبينوا بالدلائل الواضحة والبراهين القاطعة
بالكتاب والسنة والكتب السير المعتبرة , بينوا بالدليل تؤجروا عند الجليل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحقق الهندي ...
(المنار)
نجيب عن هذه الأسئلة بالإجمال الموجز استغناء عن التفصيل في أكثرها
بكتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي نشرنا فصوله في المنار , ولأن سببها
إبطال ادعاء أحد صعاليك الدجالين للخلافة في الهند , وهو لا يحتاج إلى كل هذه
الأسئلة ولا إلى التفصيل في أحكامها , بل لولا عموم الجهل لم تحتجْ هذه الدعوى
السخيفة إلى سؤالٍ ما؛ إذ من المعروف أن الخلافة الصحيحة إنما تنعقد بمبايعة أهل
الحل والعقد من المسلمين لرجل مستجمع للشروط التي بينها العلماء في كتب العقائد
وكتب الفقه، وأن خلافة التغلب تحصل بمبايعة أهل القوة والعصبية لأي رجل
يؤيدونه وينفذون أحكامه - وكل من الأمرين محال وقوعه في الهند وهي مقهورة
تحت سلطان دولة أجنبية - وهذا المعتوه الذي ادعى الخلافة في الهند يظن بجهله
أو عَتَهه أن دعوى الخلافة من مجنون مثله كافية لوجوب اتباعه , ودفع أموال الزكاة
وغيرها له يتمتع بها.
ولعل الذي أغراه بهذه الدعوى ما رآه من ادعاء الدجال غلام أحمد القادياني
للنبوة والرسالة والوحي والمعجزات , وأنه مسيح الملة المحمدية , فوجد من
المارقين والجاهلين الذين وُصفوا بأنهم (أتباع كل ناعق) من صدقه وصار له ولهم
دين جديد كمسيحية النصارى بالنسبة إلى شريعة التوراة.
أما الجواب عن الأسئلة الأربعة الأولى فهي أن الحديث صحيح رواه مسلم
عن ابن عمر مرفوعًا , ويجب العمل به في كل زمان , فنصب الإمام واجب في
الملة في هذا الزمان كغيره , وجميع المسلمين آثمون بعدم نصب إمام تجتمع كلمتهم
عليه بقدر طاقتهم , ومعاقبون عليه في الدنيا بما يعلمه أهل البصيرة منهم
وسيعاقبون في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وحده.
وأما الجواب عن الثلاثة بعدها فهي أن النسب القرشي شرط في الإمام الحق
مطلقًا بإجماع أهل السنة والشيعة , بل سبق إجماع الصحابة على ذلك ولا يُعتد
بمن خالفهم من الخوارج وغيرهم , وإنما ورد في الصحيح أنه يجب أن يُسمع لهم
ويُطاعوا ما أقاموا الدِّين إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والواجب على أهل
الحل والعقد حمل من قصر منهم في إقامة الدين على ما يجب عليه من ذلك.
وأما الجواب عن السؤال الثامن فهو أن الجماعة التي أمرنا باتباعها لا تسمى
جماعة المسلمين إلا إذا كان لها إمام بايعته باختيارها , ومما يدل على ذلك حديث
حذيفة الذي رواه الجماعة كلهم وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال صلى
الله عليه وسلم (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك
الموت وأنت على ذلك) فلم يأمره بالتزام طاعة أي فرقة من فرق المسلمين الذين
ليس لهم جماعة ولا إمام يقيم الحق والقسط.
وأما الجواب عن التاسع فهو أن إمام المسلمين هو رئيس حكومتهم السياسية ,
ويجب عليهم أن يكونوا قوة وشوكة له بمقتضى مبايعتهم له , وليس معنى قوة الإمام
أن تكون له قوة وعصبية قبل مبايعته وأن يبايع لأجلها كما توهم الكثيرون , فإن
هذا أصل فاسد مفسد للدين والدنيا إذ مقتضاه أن الحق للقوة فكل قوي يتبع ويطاع
لقوته , وإن كان ظالمًا عاصيًا له تعالى , ويقر على سلبه الحق من أهله إلخ؛ وقد
وضحنا هذا في كتاب الخلافة.
وأما الأسئلة المتعلقة بالزكاة فجوابها أن الزكاة كان لها عمال في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يجمعونها من الناس , وكانت تصرف في
مصارفها الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ؛ وللإمام أن يصرف بنفسه وأن يعهد بالصرف إلى غيره كما هو
شأن كل رئيس حكومة أو مصلحة أو شركة , أما الشورى فإنما يحتاج إليها في
الوقائع والمسائل المشكلة التي ليس فيها نص صريح قطعي , أو يتوقف تنفيذ النص
فيها على الوجه المطلوب على بحث , ففي مثل ما ذكر كان الخلفاء الراشدون
يجمعون أهل العلم والرأي ويستشيرونهم، وعلى البلاد التي ليس فيها حكومة
إسلامية تنفذ أحكام الشرع في الزكاة أن يدفعوا الصدقات لمستحقيها بأيديهم , وفي
مثل نجد واليمن يؤدونها للإمام.
وأما معاملة الخلفاء في نفقاتهم ومعاملتهم فهي منوطة بأهل الحل والعقد من
جماعة المسلمين , وقد فرضوا للخليفة الأول ما يناسب حالة أمثاله في المعيشة من
حيث هو رجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ثروة كعثمان وعبد الرحمن بن
عوف ولا أدناهم كعمار بن ياسر، ويجد السائل ما يحتاج إليه من تفصيل لأحكام
الإمامة وأهل الحل والعقد في كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) .
***
الاحتيال على الربا بورق النقد
(س18) من صاحب الإمضاء
إلى حضرة الأستاذ الكبير صاحب الإمضاء المنير أدام الله فضله:
ورق النقدي يباع ويُشرى في الأسواق بقيمة غير محدودة , فهل يجوز للإنسان
أن يبيع قسمًا من الورق النقدي متفقًا مع المشتري في أسعار أكثر من أسعار السوق
الحاضرة لمدة معينة أم لا؟ نرجوكم أفتونا عنها ولكم من الله جزيل السلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ياسين السيد
(ج) سبق لنا تفصيل لأحكام الأوراق المالية (بنك نوت) , فنكتفي هنا
بأن نقول: إن هذه الصورة المذكورة في هذا السؤال ليست صورة بيع وشراء، بل
هي صورة دَين مؤجل بزيادة معينة في مقابل الأجل , وهو عقد ربوي ظاهر
صريح ليس من قبيل الحيل التي اختلف فيها الفقهاء، وأما اضطراب أسعار ما
يُسمى الورق السوري فسببه معروف , وهو يشبه فيه نقد الفضة التركي كالريال
المجيدي , فإذا اختلف سعر الريال إذا صُرف بغيره من نقد المعدن أو الورق فهل
يبيح ذلك إعطاء مائة ريال لرجل على أن يرد لمعطيها مائة وعشرة ريالات بعد
أشهر أو سنة مثلاً؟ وهل يسمى هذا بيعًا؟ لا , على أن بيع الربويات المختلفة
الجنس التي يجوز فيها التفاضل يشترط فيها التقابض في المجلس , وإلا كان من
ربا الفضل الذي حرم؛ لأنه ذريعة لربا النَّساء المجمع على تحريمه.
__________(26/28)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
إبطال وَحدة الوجود
والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه
وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضًا من
قول أهل الوَحدة , وهو مع كفره قول متناقض , فإنه قد يعلم بالاضطرار من دين
الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد , وأن أقوال المشركين الذين قالوا:
{لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:
23) والذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3)
والذين قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ
إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 53-54) , والذين قالوا: {حَرِّقُوهُ
وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 68) ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد.
وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجود إن كان أحدًا كان إثبات العدد
تناقضًا , فإذا قال القائل: الوجود واحد وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان
هذان قولين متناقضين , فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر , وإذا قال قائل: الألسنة
كلها لسانه , فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها , وذلك يقتضي أن لا يكون
هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة , وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم
فإنه ينقض قولهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد.
فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود
فهذا صحيح , لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا
عين وجود هذا , بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي
يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسم المنطقيون الكلي إلى جنس ونوع وفصل
وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون
أحد المشتركين ليس هو الآخر , وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات
أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود , فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا
لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مُبايَنة لوجود كل مخلوق من مباينة
وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر.
وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال: لا يعرف التوحيد إلا
الواحد وتصح العبارة عن التوحيد , وذلك لا يعبر عنه إلا بغير , ومن أثبت غيرًا
فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره تناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا
واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه , وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه
ومن لا يعرفه , وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من
يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا: من أثبت غيرًا فلا توحيد له، يناقض هذا ,
وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر
عن توحيده , ورسوله عبر عن توحيده , والقرآن مملوء من ذكر التوحيد , بل إنما
أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد , وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) , ولو لم يكن عنه عبارة لَمَا نطق به أحد , وأفضل ما
نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أفضل
الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال: (من كان آخر كلامه لا إله
إلا الله دخل الجنة) لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة
الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يُتَصور تحقُّقه في الخارج , فإن الوحدة العينية
الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين , ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى
أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد , كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما
يتناول كل جسم وكل إنسان , وهذا الجسم ليس هو ذاك , وهذا الإنسان ليس
هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك.
وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً- التعبير عن التوحيد
يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله , فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك
من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه
غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما
لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه , ففي أحد الاصطلاحين يقال: إنه غير , وفي
الاصطلاح الآخر لا يقال: إنه غير , فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد
لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق ,
فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل
مخلوقة في غيره , فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من
أعظم الإلحاد , وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا. وإن
كان الواحد المعين لا يُكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها [1] .
وأيضًا فيقال لهؤلاء الملاحدة: إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه
لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما
يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله , ومعلوم أن مَن جعل هذا صفة لله كان من
أعظم الناس كفرًا وضلالاً , فمن قال: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل , فإن
الصفات والأعراض لا تكون عين الوجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن
عربي يقول:
وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله , وأما هذا
اللحيد [2] فزاد على هؤلاء , فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده , لم يجعل ذلك
كلامًا له بل يقال: أن يكون [3] هنا كلام له لئلا يثبت غيرًا له.
وقد عُلم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله
تعالى , وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة
من صفات الله؛ ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح
الإنكار , قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر:
64) , وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ} (الأنعام: 14) وقال تعالى:
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (فاطر: 3) , وقال
تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) , وكذلك قول القائل: وَجَدتُ المحبة غير المقصود لأنها لا
تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما
يكون إلا من عبد لرب , لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا - هو كلام
فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يَخفى , فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين
أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ
لِّلَّهِ} (البقرة: 165) , وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) , وقوله:
{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 24) , وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَّقِينَ} (التوبة: 4) ، {يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) , وقال النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح: (ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله
أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن
يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وقد أجمع سلف
الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له , وهذا أصل
دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام , وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن
درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال: أيها الناس
ضحوا تقبل الله ضحاياكم , فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ
إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا
كبيرًا. ثم نزل فذبحه.
وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل
وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح , فإن الإنسان يحب نفسه وليس
غيرًا لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثَم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق
والمؤمنون غير الله , وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مُقدمتَي الحجة
باطلة قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم فإن الغير موجود ,
والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه؛ ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في
هذا ويقول كما قال ابن الفارض [4] .
وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب , ولو أنصف الناس ما رأوا
عابدًا ولا معبودًا - كلا المقدمتين باطل , فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد
نفسه بنفسه كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: 18)
والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه , فقد وجد نفسه بنفسه كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ} (البقرة: 163) , وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ} (النحل: 51) ، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) وأمثال ذلك.
وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض , فإنه إذا لم يكن عابدًا ولا معبودًا بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله , فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه:
الفقيرإذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله , وقد صرح ابن
عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وَيَنْكَحُ
وَيُنْكَحُ , وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك الكمال عندهم كما قال في
الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور
الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومًا عرفًا
وعقلاً وشرعًا , وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة (وقال) ألا ترى الحق يظهر
بصفات المحدثات , وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق
يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد , كما أن صفات
العبد من أولها إلى آخرها صفات لله تعالى.
هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك
الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا يعاملك بموجب مذهبك , فيُضرب ويُوجع ويُهان
ويُصفع ويُظلم , فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى قيل له: ما ثَم غير
ولا عابد ولا معبود , فلم يفعل بك هذا غيرك , بل الضارب هو المضروب والشاتم
هو المشتوم والعابد هو المعبود , فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه , قيل
له: فقل أيضًا عبد نفسه، فإذا أثبت ظالمًا ومظلومًا وهما واحد فأثبت عابدًا ومعبودًا
وهما واحد , ثم يقال له: هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح ,
وهذا الذي شبع ورَوِيَ هو نفس هذا الذي جاع وعطش , فإن اعترف بأنه غيره
أثبت المغايرة , وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا , فبين العابد والمعبود أولى
وأحرى , وإن قال: هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية , فإن هذا القول من
أقبح السفسطة , فيقال: فإذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه
وأهلك نفسه , والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) لكون نفسه أمرته بالسوء والنفس أمارة بالسوء , لكن جهة أمرها
ليست جهة فعلها , بل لا بد من نوع تعدد إما في الذات وإما في الصفات , وكل أحد
يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظَلم ذلك ليس هو إياه وليس هو
بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه , وإذا كان هذا في المخلوقين فالخالق أعظم مباينة
للمخلوقين من هذا لهذا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا وهم عند كثير من
الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق وأفضل أهل
الطريق، حتى يُفَضِّلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين، لم يكن
بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم بذلك أن
الضلال لا حد له، وأنه إذا كفرت العقول لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من
فرق في نوع الإنسان , فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو من
شرار الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب،
بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين الذين يفسدون الدنيا
والدين.
والمقصود هنا رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال، وأما توبة مَن
قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن
عباده ويعفو عن السيئات , ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات،
والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن
غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن
تاب , بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين , وأما قوله:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فإنها
مقيدة خاصة؛ لأنها في حق غير التائبين لا يغفر لهم الشرك وما دون الشرك معلق
بمشيئة الله تعالى.
والحكاية المذكورة عن الذي قال أنه التقم العالم كله , وأراد أن يقول: أنا
الحق، وأختها التي قيل فيها: إن الإلهية لا يَدَعُها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق
الله هو من هذا الباب , والفقير الذي قال: ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إله
مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب، وسدد الخطاب؛ ولكن
هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله , ويَدَّعون أنهم [5] من موسى وأمثاله ,
حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلَمَ وحسُن إسلامه ,
وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء , ودعاه إلى هذا القول وزينه له
فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم , وأن قولهم من جنس قول فرعون
فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال
نعم ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع
موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولمَ؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون ,
فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً
صادقًا , قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمن
سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة , أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول
فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود.
فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل , وقد نبهنا على بعض ما به يعرف
معناها وأنه باطل والواجب إنكارها , فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من
المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون , لا
سيما وأقول: هؤلاء أشرُّ من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها , واعتقدها
كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 73) , والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًّا من كفار أهل
الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قُدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى
صحيحًا , فإن ما يحمل عليها إذا لم يُعرف مقصود صاحبها [6] وهؤلاء قد عرف
مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة , ولهم في ذلك كتب مصنفة
وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضًا , وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع
في ذلك إلا جاهل لا يُلتفت إليه , ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن
الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل، فإن ضرر هذه على
المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من
ضرر السُّراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سُراق وخونة، فإن هؤلاء غاية
ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببًا لرحمته
في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله
وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله
ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين،
فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنًا وليًّا لله , فيصير منافقًا عدوًّا لله , ولقد
ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحاجِّ؛ ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى
قُبرُص فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون
بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى , وهؤلاء يجعلوننا شرًّا من النصارى ,
والأمر كما قاله هذا القائل.
وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله , وأن كلامهم كلام العارفين
المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم , فمنهم من دخل في اتحادهم
وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق
بالمجهولات، وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين، وهم بمنزلة من يعظم أعداء
الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالي المشركين وأهل الكتاب،
ظانًّا أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال
المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين.
وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب، والله أعلم.
(انتهت الرسالة)
(المنار)
أرسل إلينا هذه الرسالة مع رسائل وفتاوى أخرى لشيخ الإسلام وناصر
السنة الإمام أحمد تقي الدين بن تيمية - قدس الله روحه - أخونا في الله الأستاذ
الفاضل الشيخ محمد بهجة الأثري البغدادي بإرشاد أستاذه صفوة أصدقائنا علامة
العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألولسي رحمه الله تعالى، وهي
منقولة بقلم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الفضيلي الزبيدي البغدادي عن نسخة
كثيرة الغلط والتحريف والسقط , قال: إنه اجتهد في تصحيحها ما استطاع ,
ونقول: إننا اجتهدنا بعده , فصححنا مما بقي من ذلك ما تيسر لنا ونبهنا على بعض
ما يتيسر في الحواشي , ونحمد الله تعالى أن صار المراد منها كله مفهومًا،
فنسأله تعالى أن يثيب الجميع: المؤلف والناسخ والمرسل والمرشد والناشر
بفضله وكرمه.
__________
(1) يعني أن السلف كفروا الجهمية ببدعتهم في الإلحاد بصفات الله وإنكار كونها معاني وجودية قائمة بذاته , وزعمهم أن كلامه أصوات خلقها في سمع موسى وغيره.
(2) كذا في الأصل , فإن لم يكن محرفًا فهو تصغير لاحدٍ، وكيف يصغر الشيخ الأكبر؟ .
(3) كذا في الأصل , فيجر لفظًا ومعنى.
(4) لم يذكر عن ابن الفارض هنا شيئًا.
(5) سقط من هنا كلمة أعرف أو أعلم أو أفضل.
(6) المنار: في الكلام تحريف وسقط والمعنى المفهوم من القرينة أنها إنما يصح أن تحمل على معنى صحيح تحتمله اللغة إذا لم يعرف مقصود صاحبها.(26/33)
الكاتب: جمال الدين الأفغاني
__________
المقالات الجمالية
(4)
نبذة من مناظرة خيالية للسيد جمال الدين
قال جامع هذه الطائفة من المقالات الجمالية بعد المقالة الثالثة:
ثم انتقل (السيد) حفظه الله من لندن بعد نزوله بها بخمسة عشر يومًا إلى
باريس عاصمة الفرنسيس , وكان ذلك في شهر يناير سنة 1883 عربية فتلقاه أهلها
بالقبول والإقبال , ولم يَدَعوه يأخذ راحته حتى التمس أصحاب جرائدها العربية من
حضرته أن يطرز جرائدهم بشيء من غرره.
وقد وقفنا له على فصل من ذلك في جريدة (أبو نظارة زرقاء) , وكانت
تفرغ الجد في قالب الهزل , ولكنها لم تستوعب الفصل لضيق مجالها بل وَعَدَتْ
باستيفائه على التدريج في أعدادها التالية , إلا أننا لم نقف لها على غير ذلك العدد
لعسر الحصول عليها؛ بسبب منع دخولها في البلاد التي نحن فيها , وعلى ذلك
أثرنا عنها الشذرة التي تضمنها ذلك العدد من الفصل المذكور؛ حرصًا منا على
التقاط فوائد أستاذنا , قال متعنا الله بطول حياته:
فقال صاحب المقالة: إنكم قد ضللتم عن رشدكم، وتُهتم في بيداء غِوايتكم،
وما يقوم لكم دليل في تقاعسكم عن الذود عن أوطانكم، ولقد غلب عليكم الجبن،
واستولى عليكم الضعف، وأضعف جمانكم الخوف والخشية، ألا ترون أن كل أمر
صعب عند الشروع فيه؟ ، أفلا تشعرون أن صعوبة المسالك بمقدار عظم
المقاصد؟ وأن الراحة محفوفة بالمشاق، وأن أفضل الأعمال أحمزها [1]
أفترضَون بالعبودية للأجانب، والاستكانة للأباعد، وإن موت المرء خير من
بقائه في هذه الدنيا مع قلة مدتها وسرعة زوالها، رقًّا لا يملك من الأمر شيئًا.
أتظنون أن هذا التعلل يدفع عنكم غضب رب الجنود، لا وحقه إنكم إن لم
تدافعوا عن أوطانكم بنفوسكم وأموالكم لا تنالون منزلة لديه، ولا تجدون مخلصًا
من سخطه، وتبقون في ذل العبودية ما دامت الأرض باقية (وكل عذاب دونه
لحقير) فتشجعوا وثبتوا أقدامكم، وسكنوا روعكم، واعلموا أن الظفر مقرون
بالصبر، وأيقنوا أن الراحة والسعادة في أثر المشقة، وأن سنة الله قد جرت من
الأزل، أن لا ينال الإنسان مرغوبه إلا بعد التعب، فلا تقدموا هذه الحجج
الداحضة، ولا تظهروا الفشل في طلب حقوقكم، ولا تتسربلوا الجبن فإن كل جبان
محروم، فاسعوا في اتفاق كلمتكم، واجعلوا صدوركم مِجنًّا لسهام أعدائكم، مجدين
في خلاص بلادكم، واعلموا أن الأمم الغابرة والحاضرة ما نكست رقابها ولا
كسرت أطواق العبودية إلا بتحمل المشاقّ والخوض في غمرات الموت اهـ.
***
كتاب له في الدفاع عن الدولة العثمانية
(5)
وكتب حفظه الله إلى صاحب جريدة البصير التي تطبع بباريس عاصمة
الفرنسيس , وهو يومئذ لم يزل نزيلها , وذلك في فبراير عام 1883 غربيًّا وربيع
الأول سنة 300 هجرية قال جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا:
سيدي الخليل بما فُطر عليه من العقل الغريزي الذي دلت عليه عقائل فكاره،
وأنبأت دقائق أفكاره عن فسيح مجاله وسعة مضماره، كان الواجب عليه قبل
الخوض في أحوال الشرق والسلوك في بيداء سياسته، وهتك الستر عن قبائح
رعاته وشنائع ساسته، أن ينظر ببصيرته الوقادة إلى ما أَلَمَّ بالشرقيين من البلايا،
وما أحاط بهم من الرزايا، فإنهم لتفريطهم في إصلاح شؤونهم من قبل قد أشرفوا
على الهلاك، وصاروا بعجزهم عن صيانة حقوقهم غرضًا لكل نابل، وطُعمة لكل
آكل، تستملك الأباعد بلادهم، وتستعبد رجالهم، وتستلب أموالهم، ولا ريب أن
الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال , التي لا تُنال إلا بهمة
عالية تأبى العبودية، ولا نجاة لهم من هذه المصيبة التي تقهر النفوس، وتوجب
الذل والخمول، إلا بالتفافهم تحت راية واحدة على الذود عن حقوقهم، من دون
ملاحظة الاختلاف في الجنسية؛ لأنهم بتقارب أخلاقهم، وتلاؤم عاداتهم، وتوافق
أفكارهم، صاروا كأنهم جنس واحد، وإن اختلفت لغاتهم فخضوع بعضهم لبعض
مع تناسب طبائعهم لا يبعث على الذل والاستكانة، ولا يزيل النخوة التي هي
الداعية إلى كل فضيلة وكمال، وإذا تفرقت كلمتهم، وتشتَّتت قوتهم، لا يمكنهم
الخلاص من مخالب الذين ينتهزون الفرصة لاسترقاقهم، فيجب على كل شرقي
دفعًا لهذه النازلة، وصيانة لأمته من ذل العبودية، أن يسعى جمعًا للكلمة في تشييد
مباني الحكومات الباقية في الشرق، فإن الأجانب ما وضعوا أيديهم على بلد إلا
عاملوا أهله معاملة الآلة، ولهذا يمكنني أن أقول: إن سيدي الخليل في مقالاته التي
حررها إنهاضًا لهمم الأمة العربية , وإن كان ما أراد منها الأخير أبناء جنسه، قد
حاد عن صراط السياسية القويمة بتعرضه للدولة العثمانية، وكان عليه أن يفقه أن
هذه الدولة في هذه الأيام، بمنزلة نظام لأجناس مختلفة من الشرقيين يحفظها عن
التفرق والضياع، ويمكِّن كل جنس منها أن يسعى رويدًا رويدًا في إصلاح شؤونه،
ويرتقي إلى مدارج عزه، على حسب كده وجده , وإذا انقطع هذا النظام وتفرقت
الكلمة، وتشتت الجمع، واستقلت كل طائفة بأمرها فإنها لا تستطيع وقتئذ صون
نفسها عن تطاول الأجانب، ولا تطيق مقاومة الأباعد الذين لا يريدون إلا
استعبادهم، فيصبح كل هذه الأجناس عبيدًا أذلاء لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا،
فلا يُنتظر لهم إذًا كمال، ولا يرجى لهم فلاح أبدًا، وربما اضمحلت جنسيتهم التي
نيطت ببقاء لغتهم، وهذا الموت الذي لا بعث بعده ما دامت الأرض دائرة , ولا
أشك أن سيدي الخليل لو لمح ببصره لرآني محقًّا في مقالتي هذه، ورجائي منه بعد
الإغماض عما جرى به قلمي أن يتخذ لكبح شِرَّة الأجانب اتفاق كلمة العثمانيين
مسلكًا لجريدته الغراء , ويبني خدمته لعموم الشرق على أساس سياسته،لا زال
هاديًا للعباد إلى سبيل الرشاد اهـ.
قال جامع المقالات:
وقد كانت هذه الرسالة سببًا في عدول تلك الجريدة عن مشربها الأول , إذ
كانت شديدة الانحراف على الدولة العثمانية كما هو مذهب كثيرين من بعض
الطوائف المستظلين بظلها لا زال وارفًا, ثم استقامت واعتدلت بعد أن التمست
لنفسها العذر عما كان من رأيها فيما أجابت به أستاذنا، ثبتها الله على صراطها
الأخير وألحق أمثالها بها، وأكثر في المسلمين من مثل سيدنا وأستاذنا وأطال بقاءه
للدين والدنيا.
__________
(1) أحمز الأعمال أمتنها اهـ , من القاموس زاد في شرحه وقيل: أمضها وأشقها.(26/44)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدين والسياسة
وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم
قد سبق لنا بحث كثير في موضوع هذا العنوان نشر بعناوين متعددة , وفي
أثناء التفسير وغير التفسير من أبواب المنار، فقراء المنار يعلمون أن المدارس
الإفرنجية والمدارس المتفرنجة على اختلاف أنواعهما من تبشيرية أنشئت لدعوة
النصرانية، و (علمانية) أنشئت لمقاومة الأديان أو بمعزل عنها - ومن رسمية
للحكومات المتفرنجة كالتركية والمصرية - ومن أهلية أيضًا - كلها قد أخرجت
للشعوب الإسلامية نابتة مضطربة في أمر دينها ودنياها وسياستها وآدابها، يقل فيها
من يعرف دينه معرفة صحيحة، ومن يحافظ على آدابه وفرائضه تقليدًا أو على
بصيرة، ويقل في المتدينين منهم مَن يدري كيف يجعل ما استفاده من علوم
العصر وفنونه غذاء معنويًّا لأمته وقوة وعزة لملته؛ لأن أكثرهم لم يحصل من
العلوم والفنون ما يؤهله لعمل ينهض بالأمة نهوضًا ماديًّا أو معنويًّا , وإنما تلقوا
قليلاً من المبادئ هم فيها مقلدون كما أن أكثرهم مقلدون في الطعن بدين أمتهم
لبعض ملاحدة الإفرنج مع الفرق العظيم بيننا وبينهم في ذلك، ولا سيما فيما يسمونه
الفصل بين الدين والسياسة، وفي براءة أوربة من التعصب الديني وهي مثاره
وأتون ناره.
ولكن يكثر فيهم الهادمون لبناء أمتهم وملتهم باحتقار مقوماتها التي كانت بها
أمة ذات صلة ممتازة كالدين والتشريع والأخلاق واللغة، ومشخصاتها التي تعد
مزيد رسوخ في مقوماتها وتميزها كالتقاليد القومية والأزياء الوطنية والعادات النافعة
وهم في هدمهم لبنيان أمتهم يحسبون أنهم يبنون لها بنيانًا جديدًا خيرًا مما بناه لها
التاريخ , فكانت به أمة ممتازة في الوجود لها تاريخ عظيم فيه من دين بلغ الذروة
العليا في التهذيب، وشرع عادل رفعها فوق رؤوس الأمم قرونًا كثيرة، وفتوحات
شهد لها فلاسفة التاريخ من الإفرنج بأن تاريخ البشر لم يعرف لها مثلاً في جمعها
بين العدل والرحمة إلخ.
ولو كان لهؤلاء رسوخ قدم في العلم والحكمة وحظ عظيم من فنون العصر
لأحدثوا لأمتهم قوة وثروة يجددان مجدها، مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها التي
أشرنا إليها، بدلاً من محاولة قتلها وإعادة خلقها.
صدق على هؤلاء الهادمين وعلى المدارس التي تخرجوا فيها قول اللورد
سالسبوري الوزير البريطاني المشهور: إن هذه المدارس التبشيرية أول خطوة
لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها - فإنها تخَرَّج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في
عقائدها وأفكارها وتقاليدها فتحدث فيها صدعًا وشقاقًا تنقسم به على نفسها - على
تعبيرهم - فيقتلها هذا الانقسام بأيديها (أو ما هذا معناه) , ولم يذكر اللورد
بالصراحة أن ما تحدثه هذه المدارس من إفساد العقائد يتبعه فساد الأخلاق وغلبة
الأفكار المادية , وحب الشرف والزينة والشهوات على المتخرجين فيها , فيحول
ذلك دون اتفاقهم حتى فيما يفتتنون به من أمور التفرنج.
وإننا نرى من مصداق كلامنا وكلام اللورد من قبل أن متفرنجة الترك قد
هدموا تلك السلطنة (الإمبراطورية) الراسخة الأساس، الواسعة المقياس، وانتهى
أمرهم إلى إمارة صغيرة طردوا منها الشعوب المسيحية، وهم الآن يقاتلون فيها
الشعب الكردي الذي يلي الشعب التركي في العدد والبأس والقوة، ونرى الشقاق
بالغًا غايته بين هؤلاء المتفرنجين المرتدين وبين أهل الدين والمحافظة على التقاليد
الإسلامية من الشعب التركي نفسه , فحكومته تسفك ما بقي من دماء شبانها وتفني
بقايا ثروتها القليلة في مقاومة الفتن الداخلية والحروب الوطنية، ونرى من مصداق
ذلك أيضًا هذا الشقاق بين أحزاب الشعب المصري الذي بلغ غايته في هذا العام،
ولا يعلم غير الله ما سيكون من سوء مغبته إن دام.
من المعلوم عند كل من يعرف الإسلام أنه دين وتشريع سياسي قضائي ونظام
اجتماعي، وأنه حكم عربي كما نطق به كتابه المنزل، فإن كان من مثار العجب
أن يحاربه ملاحدة الترك إيثارًا للعصبية اللغوية على عصبيته , بعد أن كان لهم به
من العزة والسلطان ما كان، ولم يكن لهم بلغتهم أدنى قيمة في الوجود , فأعجب من
ذلك أن يقوم من متفرنجة العرب أنفسهم من يحارب الإسلام، بعد أن كان لأمتهم به
من المجد والملك والسلطان والحضارة والعلوم والآداب ما كان , وكانوا به أئمة
لمئات الملايين من غير أبناء جلدتهم , يقتبسون دينهم من القرآن العربي والسنة
العربية , ويتدارسون اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها، ويحجون إلى
بُهرَة البلاد العربية يتقربون بذلك إلى الله تعالى , وكل من لم يفسد التفرنج عليهم
أمر دينهم , يفضلون الشعب العربي على شعوبهم , حتى إن مسلمي الهند الصادقين
في الإسلام يفضلون استقلال العرب على استقلالهم وسعادة بلاد العرب وسلامتها
من عدوان الاستعمار على سلامة وطنهم.
مع هذا كله نجد بعض ملاحدة المتفرنجين من العرب يحاربون الدين
الإسلامي نفسه , ويطعنون به ويصدون عنه، ويرون من تقليد الترك وغيرهم في
العصبية الجنسية أن يعادوا جميع الشعوب الإسلامية حتى الشعب الهندي الذي يدافع
عنهم، وتبذل جمعياتهم السياسية من الجهاد بالمال والنفس في سبيله ما لم نبذل
عشره جمعية عربية، ويعدون إمامهم في عصبيتهم هذه الشريف حسين بن علي
المكي وأولاده الذين كانوا بحركتهم العربية أكبر مصيبة على العرب وخدمة
للأجانب , كما فصلناه في المنار وفي غيره من الجرائد بالبراهين التي لم يستطع
أحد من أنصارهم رد شيء منها.
ومن سوء الحظ أن الجرائد العامة تنشر لهؤلاء الملاحدة آراءهم حتى
للجاهلين منهم الذين لا يرجعون فيما يكتبون إلى شبهات علمية ولا سياسية تستحق
الذكر، أو تستأهل الرد، ومن ذلك ما رأيناه مرارًا في جريدة البيان العربية الغراء
التي تصدر في نيويورك عدة مقالات في ذلك كان آخر ما نُشر منها رد وطعن علينا
في خطتنا السياسية الإسلامية , وفي فهمنا للدين وتفسيرنا للقرآن، والكاتب لم يقرأ
من تفسيرنا شيئًا، ولم يطلع على المنار أيضًا، ولو اطلع عليهما لا يفهم منهما
شيئًا مما نقصده فهمًا صحيحًا؛ لضعفه في اللغة العربية وجهله التام بنحوها وبيانها
كما تدل عليه عبارته المملوءة بالغلط , وذكره لبعض آيات القرآن محرفة.. ثم
هو مع ذلك يسند إلينا من الأقوال الدينية والسياسية ما لم نقله بل ما قلنا ما يخالفه،
وينفي عنا من الأقوال والأفعال ما هو ثابت لنا ومعروف عنا ومنشور في مجلتنا،
وكذلك شأنه فيما ينقله عن غيرنا وما يسنده إلى التاريخ.
لهذا لم يخطر في بالنا أن نرد على شيء مما كتبه، وإن وقتنا لأضيق وأثمن
من أن يصرف في مثل ذلك، ولدينا من الأعمال ما هو خير منه وأنفع - ولكن
بعض كبار الكتاب السياسيين حملته الغيرة على الحق والخوف على أغرار قراء
تلك الجريدة الواسعة الانتشار , فيقرؤها العوام والخواص أن يغتروا ببعض ما يكتبه
هذا الرجل - على كتابة رد طويل على نوع من مزاعمه الباطلة الضارة، كما أن
بعض الكتاب المدققين المطلعين على بعض أجزاء المنار والعارفين بسيرتنا في
السياسة العربية والإسلامية كتب ردًّا آخر دافع به عنا، ونشر كل منهما في جريدة
البيان نفسها، فنشكر لكل منهما غيرته، وننشر الرد الأول العام، لأنه مفيد
للخواص وللعوام، وهذا نصه:
***
العالم الغربي والعرب والإسلام
لا حيلة لك مع المكابر بالمحسوسات
قد كان الناس يتمثلون بقول القائل:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
ولكن نسوا أن هناك من تقل معه الحيلة مثل الكذاب وأكثر وهو المجادل
المكابر في المحسوس , الذي لا يجبن عن أن يقول للشمس الطالعة في رأد الضحى:
إنها ظلام، والذي يخلق أيضًا التواريخ لتأييد حجته وينكر الوقائع الثابتة المشهودة
لتأييد حجته، ويتخيل ويخيل الأمور على ما يريده هو لا على ما هي عليه في
الواقع، يهجم على المسائل التي يكاد يعرف منها شيئًا كأنه قتلها علمًا، ولا يتوب
بعد أن يكون ظهر خطؤه في قضية أن يتوخى المكابرة في قضية أخرى ومن الأول
إلى الآخر قصارى كلامه (عنزة ولو طارت) .
فمن العبث أن تقول له: إن الناس لا تقدر أن تعيش بلا دين , وإنه لم يعهد
إلى اليوم أن شعبًا عاش بدون دين , وإن أوربا باقية على نصرانيتها، وإن التعليم
المسيحي لا يزال يعلم في أرقى المدارس والكليات في أرقى الممالك من شمالي أوربا
مثل إنكلترة والدانمارك وهولندة والسويد وألمانية، وإنهم يعلمون كون المسيح
هو ابن الله إلى هذه الساعة، وإنهم لا يريدون أن يعرفوا أنفسهم إلا مسيحيين.
ومن العبث أن تقول له: إنه حيث كان الدين لازمًا للشعوب فهو في نفسه قوة
عظيمة لا تقدر حكومات هذه الشعوب أن تتعرض لها بمهانة أو بجهالة حتى لا
يصيبها من أجل ذلك ضرر، وتحصل هزاهز وفتن، وإنه ليس من باب خلط
الدين بالسياسة أن يلجأ رجال السياسة إلى الدين، إما في تهذيب الأخلاق أو في
السعي لتوهين روح الإجرام والدعارة، أو في النضال عن استقلال الأمة، أو في
تقوية الروابط مع أمم أخرى , والاستفادة من تلك الروابط المؤثرة والعوامل الراهنة
التي ليس إنكارها إلا محض حماقة.
ومن العبث أن تقول له: إن أوربة الراقية لم تهمل أيضًا هذه الروابط ولا
استخفت بها ولا وجدتها بدعة في السياسة، وإن ملك إنكلترة الراقية العظيمة بل
العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية، وإن
إمبراطور ألمانية هو رئيس الكنيسة اللوثيرية، وإن إمبراطور النمسة كان على
رأس مملكة راقية جدًّا , وكان يُخاطَب بـ (ذي الجلالة الرسولية) إشعارًا بصفته
الدينية، وإن المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلترة وهامة حزب الأحرار كان
قسيسًا , ومن أشد الخلق تدينًا لا بل تعصبًا، وإن دولة فرنسة التي يقال: إنها لا
دينية تنعت نفسها (بحامية النصارى) في المشرق , وإن غمبتا ركن الجمهورية
والسياسة اللادينية كان قد قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً: (عداوة رجال الدين
ليست من بضائع التصدير) وإنه إن لم يكن الدين رابطة فأية رابطة بين فرنسة
والموارنة وهم ليسوا بلاتين ولا بأوربيين , بل هم آراميون ساميون أبناء عم
العرب وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم , عبثًا
تقول له ذلك؛ لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح , وأوربا تركت الدين.
وكذلك من العبث أن تقول له:إن الأوربيين الذين تقول: إنهم نبذوا الدعوة
الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية , ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ
ما يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند؟ أفلم
تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس ورومية؟ أفما قرأت ماذا كانوا
يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنكليز أثناء الحرب العامة من كون ذلك هو
الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية
التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة
الحرب الصليبية على يده؟ أفما عرفت أن الجنرال غورو نفسه كان لأول وصوله
إلى بيروت وعند الاحتفال بقراءة أمر تعيينه ألقى خطبة أشار فيها إلى الحرب
الصليبية , وقال: إن بداية علاقات فرنسة بسورية هي من أيام الحرب الصليبية؟
أفما عرفت أن الذي عين غورو على سورية هو نفس كليمنصو الذي هو عدو للدين
المسيحي ولكنه ليس بعدو للسياسة التي قد ينفعها الدين المسيحي؟ أفما علمت أن
سبب صرف (ويغان) وهو كاثوليكي أيضًا وإرسال سرايل [1] مكانه هو لكون
الوزارة الحاضرة علمت أن عدم نجاح فرنسة في سورية ناشئ عن أسباب عديدة
من أهمها: اعتقاد المسلمين أن فرنسة لا تزال تابعة هناك سياسة دينية لهم عليها
دلائل كثيرة من مثل بناء الكنائس بأمر السلطة المحتلة في بلدة درعا , والاحتفال
بتنصير من يتنصر من السنغاليين , وتقديم اسم النصارى على اسم المسلمين من في
الدفاتر الرسمية , وكذلك تقديم بطريرك الموارنة على مفتي الإسلام في المحافل ,
وتهديد المفتي بما يسوءه إن أبى الخضوع لهذه القاعدة , فأراد المسيو هريو أن
يسهل مأمورية فرنسة في سورية , بإقصاء المندوبين الذين ينفرون المسلمين
بسياستهم الكاثوليكية , وإرسال مندوب سام معروف بكره الأكليروس تزلفًا إلى
الإسلام، ومع هذا لم يخْلُ هذا الانتخاب من إثارة الاعتراضات من جهة الأحزاب
الوطنية بفرنسة , حتى إن المسيو ميلران رئيس الجمهورية السابق اعترض عليه
في خطابه.
ومن العبث أن تقول للمكابر في المشهودات: إن الشيء الذي أنت تبرئ
أوربة منه وتتحمل له صنوف التأويلات إذا وقع لا تتنصل أوربة منه ولا تجده
إرَّا، وإن بعض وزراء الإنكليز صرح أثناء حرب البلقان بكونه مغتبطًا
برجوع مدينة سلانيك إلى النصرانية؛ لكونها من مهاد النصرانية , وإن الدول
البلقانيات الأربع عندما أعلنَّ الحرب على تركيا كان بلاغهن متضمنًا أن حربهن
لتركيا هو حرب الصليب للهلال، ولو علمت تلك الدول أن بلاغًا مفرغًا في هذا
القالب يسوء وقعه في أوربة ما كانت حررته بهذه الصورة , بل لك أن تقول: إنها
ما حررته بهذا الشكل إلا استمالة للرأي العام الأوربي , ولا تنس خطاب ألفونسو
الثالث عشر ملك أسبانية الذي كان من جملة نقاط القدح الذي قدحه فيه
الكاتب الروائي الأسبانيولي بياسكو إيبا نيز هو قول الملك: (إن أسبانية اشتهرت
من القديم بقتال المسلمين , وهذه النوبة هي مصممة على أن لا تترك قتال
مسلمي الريف حتى تنصب الصليب هناك محل الهلال) وغير ذلك من الألفاظ
التي يقول الكاتب الأسبانيولي: إنها زادت هيجان المسلمين , وكانت السبب في
إتلاف الألوف من مهج الأسبانيول , وإن الملك مسئول عن ذلك بحماقته - أي
بإعلانه ما كان يجب أن يُعمل ولا يُعلن - ومع كون إيبانيز أصاب في انتقاده , فهو
اليوم تحت المحاكمة في فرنسة من أجل طعنه بالملك ألفونسو هذا.
ومن العبث أيضًا أن يستشهد الإنسان على عواطف أوربة الدينية , بل على
سياستها الدينية بما تبذله الحكومات من الأموال الجزيلة في المستعمرات مساعدة
للبعثات الدينية الساعية في تنصير أهالي آسية وأفريقية , ولو كان المراد
تنصيرهم هم الفتيثيين أو الوثنيين لكان هذا نعم العمل , لكن البعثات الدينية غير
مكتفية بتنصير الوثنيين بل تدأب أيضًا في تنصير المسلمين بجميع الوسائل ,
وتسابق المسلمين إلى استمالة الوثنيين منادية بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو
أسلم الوثنيون.
وإنك لتجد في أواسط أفريقية وغربيها وجنوبيها وماداغسكر وشرقي أفريقية
بعثات دينية بروتستانية وكاثوليكية , لا تعد ولا تحصى كلها تنفق القناطير المقنطرة
من الذهب , تحميها حكومات أوربة وأميركا بأجمعها , وتؤيدها بالأموال والنفوذ
وبكل وسيلة , وقد تتعرض للدعاية الإسلامية بقدر الإمكان وتضيق عليها , كما فعل
ضباط الإنكليز في الأوغاندة عندما رأوا انتشار الإسلام بين أهالي تلك البلاد ,
فوقفوا سدًّا حائلاً في وجهه , بل قاوموا البعثات الكاثوليكية , ليخلو الجو للدعاية
البروتستانية، وكذلك الحكومة الفرنسية في ماداغسكر تقاوم دخول من يدخل من
الماداغسكريين في الإسلام , ولا تريد أن تعترف رسميًّا بوجود مسلمين في تلك
الجزيرة حتى لا يتحول جانب كبير من أهلها إلى الإسلام , فأنت ترى من هذا
وغيره وألف مثال يضيق المكان عن استيفائها أن السياسة الأوربية ليست بمعزل
عن الدين ألبتة ولو كابر المكابر وناكر المناكر.
وقد يقول: إن هذه الحماية التي تبسطها حكومات أوربة للرسالات الدينية
المنتشرة في كل أفريقية وآسية وجزر الأوقيانوس إنما تقصد بها مآرب استعمارية
لا دينية محضة , وهذا لا يضر شيئًا في جوهر الموضوع , بل يزيد موضوعنا
تأييدًا وهو أن رجال السياسة ولو كانوا في أنفسهم غير متمسكين بالدين , يقدرون
قدر نفوذه على الخلق , ويجتهدون أن يستثمروه لفائدة حكوماتهم.
ومن الفضول أن نذكر للمكابر ما بذلته حكومة هولندة من المساعي في تغيير
عقائد مسلمي الجاوى وسومطرة بواسطة الرسالات التبشيرية , وكونها وقفت
لتنصير بضعة عشر ألف مسلم , ولكن لمّا رأى الهولنديون أن هذا العدد قليل
بالقياس إلى الخمسة والثلاثين أو الأربعين مليون مسلم القاطنين بتلك الجزائر خطر
ببال بعض نواب مجلس الأمة في هولندة أن يقترحوا على الحكومة عدم الاعتراف
بإسلام أكثر من خمسة ملايين منهم , وهؤلاء الذين أسلموا منذ أربعة قرون، وأما
الذين أسلموا منذ القرن الماضي أو الحالي فلا يعتبرون مسلمين , ولم يمنع الحكومة
الهولندية أن تأخذ بهذا الرأي سوى قيام بعض العقلاء المحنكين ممن خبروا أحوال
تلك البلاد , وتحذيرهم من العمل بهذا الرأي الذي إن كان له أقل حظ من الإجراء
ثارت هناك ثورة لا نهاية لها , وقالوا لأولئك المقترحين: إن الخمسة والثلاثين
مليون مسلم هناك القديم منهم في الإسلام , والحديث هم في درجة واحدة من
الاعتصام بدينهم , فلا نجني من هذا الرأي إلا الثورة , فيا ليت شعري إذا كانت
هولندة لا فرق عندها بين المسيحي والمسلم , ولا تنظر إلى الدين فلماذا يهمها إلى
هذه الدرجة أن يخرج رعاياها المسلمون من الإسلام فيما لو أمكن؟ ولماذا تخصص
فرنسة في جزائر الغرب جوائز لا تُعطى إلا للأوربي أو اليهودي أو المسلم الذي
يرضى أن يتنصَّر؟
وليقل لي المكابر أي علاقة من جهة القومية أو الوطنية بين الإنكليز وبين
النساطرة في العراق حتى نظمت منهم جيشًا , واتخذتهم لها بطانة منذ أول احتلالها؟
بل أية علاقة بين الإنكليز والأرمن إن لم تكن العلاقة الدينية؟ فإن قيل: إن
سبب انعطاف الإنكليز وسائر الأوربيين نحو الأرمن هو كونهم أصيبوا ونكبوا وتلك
المذابح التي جرت , أجبناك أفلا توجد أمم وأقوام إسلامية أصيبت ونكبت وذبحها
المتغلبون عليها بعشرات الألوف , فهل هز ذلك من أوربا أقل عاطفة؟ أفلم يُنكَب
الجركس وأهل الطاغستان سنة 1866 وأجلى منهم الروس بقية السيوف وهم
نصف مليون نسمة إلى الأناضول , فمات أكثرهم بالحمى والجوع، فمَن مِن أمم
أوربة اهتز لمصيبتهم؟ أفلم يذبح الأرمن هؤلاء عشرات ألوف من مسلمي شرقي
الأناضول؟ وروى القائد العام الروسي الذي كان يحارب الأتراك في جهة أرضروم
أنه لولاه لم يدع الأرمن مسلمًا واحدًا بعد انهزام الأتراك عن أرضروم وطرابزون
ووان , وورد في تقاريره وتقارير غيره من قواد الروس إلى حكومتهم - وهي
تقارير قد طبعت بعد الحرب - تفاصيل فظائع أوقعها الأرمن بالمسلمين , لا يكاد
الإنسان يصدقها لولا ورودها في تقريرات رسمية من قواد الجيش الروسي أعداء
الترك إلى مراجعهم , يخبرونهم بوقائع الحال , ومن جملتها أن الأرمن كانوا
يجمعون المئات والألوف من الأتراك والأكراد إلى الجوامع رجالاً ونساء وأطفالاً ,
ويشبون فيها النار فتحترق بكل من فيها , وأنهم كانوا يحفرون أخاديد وحفرًا يدفنون
فيها المسلمين أحياء بين رجال ونساء وأطفال (وفي مرة أخرى نذكر هذه الوقائع
تفصيلاً نقلاً عن تقريرات القواد الروس؛ لأنها ليست تحت يدي في هذه الساعة)
وفي أحد المواضع التي ذهب عن بالي اسمها الآن دفنوا ثمانمائة نسمة أحياء منهم
كثير من النساء والأطفال.
هذه شهادات الروس عدا شهادات غيرهم ممن شهد بعينه من الإفرنج , وروى
الحق فلندع جانبًا شهادات الأتراك , وهذا لا يمنع قولنا: إن الأرمن أيضًا ذاقوا من
النكبات ما هو عبرة في التاريخ , وخلت منهم جميعًا الأناضول، ولسنا نحاول
تخفيف أخبار مصائبهم , ولكننا نقول: إن أوربة تهتز كلها لمصيبتهم ولا تتحرك
لها عاطفة تذكر لمصيبة المسلمين فلماذا؟ أتراه لكون الأرمن أوربيين؟ كلا , إن
هو إلا لكونهم مسيحيين , وربما قيل: إن أوروبة ربما لم تكن تعلم بما وقع من
المصائب على المسلمين ولو علمت ذلك في حينه لم تتأخر عن إغاثتهم، وجواب
هذا بل أوربة كانت محيطة علمًا بكل شيء , وأتذكر أنني قرأت تلغرافًا في جريدة
الطان بتاريخ أحد أيام تموز سنة 1920 واردًا إليها من مراسلها في القوقاس يذكر
المذابح التي قد أوقعها الأرمن بالمسلمين في بلاد أريفان , وأنهم في يوم واحد ذبحوا
منهم عشرة آلاف، وأن مئات ألوف منهم جلوا إلى إيران وآذربيجان وكرجستان
إلخ , ومثل ذلك المذابح التي أوقعها الأروام بالترك في ولاية أزمير وبنفس أزمير
ولا سيما بايدين، وقد كانت بمرأى من كثير من الأوربيين، وأقام بعضهم أشد
النكير عليها، وبعد ذلك طلبت حكومة الآستانة من أوربة التحقيق بواسطة لجنة
دولية , فذهبت وفحصت وثبت وقوع المذابح , وعادت فألقت بتقريرها إلى مؤتمر
باريس وجرى توبيخ الحكومة اليونانية على ما جرى , وهذا كل ما وقع , إنما
جمعية الصليب الأحمر في سويسرة التي لا ينكر أحد ما لها من المساعدات في هذه
المواقف عندما أرسلت وفدًا لإغاثة منكوبي الأروام , لم يسعها إلا أن تشرك معهم
منكوبي الأتراك.
وبالاختصار لا يوجد عاقل يقدر أن يقول: إن المسلمين هم والمسيحيين شرع
في نظر أوربة , والشاهد (الأخير) أنه لو كان أهل الريف مسيحيين لكان الريف
قد امتلأ اليوم ببعثات الصليب الأحمر من أوربة وأميركا وبالأطباء والصيادلة
والمتطوعين والممرضين , أهل الريف مسلمون , فلذلك لا يساعدهم من أوربة أحد
حتى في الأمور العائدة للإنسانية , ومهما قتل الأسبانيول منهم فأوربة تجد ذلك أمرًا
طبيعيًّا , وإذا ماتوا من الجوع تأسَّف بعض الأوربيين عليهم من بعيد [2] .
إذًا فمن النفخ في غير ضرم أن نقنع المكابر بأنه ما دامت حالة أوربة
الروحية هي هذه فالعالم الإسلامي لا يمكنه ترك عواطفه الدينية , ولا نبذ تلك
الرابطة ظهريًّا [3] .
وكذب وبهتان واختلاق على الناس دعوى بعضهم أن الرابطة الإسلامية تدعو
العربي أن يكون عبدًا للتركي؛ لأن الإسلام سوَّى بين المسلمين ومَنْ مِنَ المسلمين
ظلم أخاه حق لهذا أن يدفع عنه ظلمه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن
سَبِيلٍ} (الشورى: 41) , وكل من يثير هذه الدعوى التي لم يقُل بها أحد ملقيًا
على دعايته الإفرنجية ستار الحمية العربية , فإنما هو داعية إلى السيطرة الأوربية
على المسلمين يحاول أن يهونها عليهم ويسيغها في حلوقهم، فتجده بكرة وأصيلاً
يكرر ألفاظ: تركيا وترك وأتراك ومستتركين , وهو ينسى أن هذه الجعجعة لا
تخفي شيئًا من الحقائق , وأنه لم يقل أحد: بجواز استعباد الأتراك للعرب ولا لغير
العرب حتى ولا للروم ولا للأرمن , ولكن كنا نحب أن نرى حمية هؤلاء الأدعياء
في العربية الذين يلقون دروس العروبة على مثل الإمام يحيى وابن سعود
ويتهمونهما بالشعوبية , كنا نحب أن نراها تظهر في مقاومة الإنكليز وغيرهم من
الأمم المستعمِرة الأوربية , والحال أن ضمائرهم التي تنطوي على السرور بخضوع
المسلمين (لأمة راقية مثل أميركا) قد ينم عليها مثل هذه الجملة وغيرها مهما
حاولوا الإنكار , فإذا كان يجوز خضوع المسلمين لأمة راقية كأميركا فلماذا لا
يجوز خضوعهم لأمة راقية كإنكلترة أو لأمة راقية كفرنسة مثلاً؟ فقد ظهر من هنا
المرمى والمغزى من هذه الدعاية ولو تظاهر المتظاهر بالعكس.
وأما الإسلام فلا يأمر بإطاعة الظالم سواء كان ذلك تركيًّا أو عربيًّا , ولكنه لا
يجيز إطاعة غير أهله , وهو في هذا مطابق للروح الأوربية التي معناها استقلال
كل أمة بنفسها وعدم قبول سلطة أجنبية عليها، ولو كانت تلك السلطة صادرة من
أمة أرقى من تلك الأمة , فإن درجات الرقي لا تصح في أوربة فَيصلاً لمسألة
الاستقلال , وكل أمة تعتقد أن حكم أمة أخرى عليها ولو كانت أرقى منها يفضي
إلى بوارها , فلذلك كان مبدأ الاستقلال مقدَّمًا في أوربة على مبدأ سلطة الأصلح ,
فمما لا شك فيه أن إدارة ألمانية هي أصلح من إدارة بولونية , وأن ألمانية أقدر على
إفادة سليزية من بولونية , ولكن تفوق الألمان على البولونيين في الإدارة والعلم لا
يسلب البولونيين حق الاستيلاء على ما أهله بولونيون من سليزية، كذلك الإنكليز
أقدر من الأيرلنديين على إدارة أيرلندة , ولكن أوربة ترى حقًّا أن يتولى الأيرلنديون
إدارة أنفسهم؛ لأنهم شعب مستقل بنفسه وهلم جرًّا.
والظاهر أن بعض الذين يدعون التمحض في العربية ولا نرى منهم هذا
التمخض إلا فيما يتعلق بعداوة الأتراك ضائقة صدورهم بنفرة العرب من الإنكليز
وعدم انقيادهم لهذه (الأمة الراقية) , وأكثر سخطهم هو على أهل اليمن؛ لأنهم
سمعوا أن اليمن بقي أثناء الحرب متمسكًا بالدولة العثمانية , لا بل حارب الإنكليز
ومحاربة اليمانيين للإنكليز زلة لا تغتفر , ورفض الإمام يحيى عقد أي معاهدة مع
الإنكليز شيء مؤسف عندهم , ودليل على قوة النعرة الدينية في اليمن وعلى كونهم
يميلون إلى الأتراك بسبب الجامعة الإسلامية، فهذا مما ينبغي أن لا يكون , وأرقى
رجال العرب عند هذه الفئة هو الحسين لكونه عاهد الإنكليز وحالفهم , ولو كانت
نتيجة هذه المحالفة ما كانت.. وكأن الحسين الآن يَهتِم أنامله عضًّا من الندم، ويليه
ابن سعود في الرقي لكونه عاهد الإنكليز ولم يحاربهم، فهذه شهادة لا بأس بها بحقه،
ولكنه لا يبلغ درجة الحسين الذي رضي أن يحالفهم ويحارب في صفوفهم , وأما
الإمام يحيى فهو أشد أمراء العرب تأخرًا، أفلم تعلم أنه حارب الإنكليز , وأنه
يعتصم بالجامعة الإسلامية؟
نعم إن أهل اليمن والإمام يحيى مسلمون ويريدون أن يبقوا مسلمين كأهل نجد
وأهل الحجاز وغيرهم , وكما يريد أن يبقى أهل أوربة مسيحيين وأهل أيرلندة
كاثوليكا وأهل الأولستر من أيرلندة بروتستانتا، وليس أهل اليمن ببدع في هذا
الأمر , بل حسبهم أن يقتدوا بالعالم المتمدن في المحافظة على دينهم , وأما نفور
أهل اليمن من الإنكليز فلكون الإمام يحيى وكبار اليمن يعلمون أنه لا يوجد في نظر
الإنكليز أمة ينبغي لها سلب الاستقلال بل الاضمحلال مثل العرب , فإنه ما دامت
الهند موجودة في الدنيا فأعدى أعداء الإنكليز هم العرب , وأكره شيء إلى إنكلترة
هو قيام دولة عربية مستقلة تحول بين إنكلترة وبين هندها , فالإمام يحيى لم يَخْفَ
عليه الذي خفي على غيره وعلم موطن الداء وتجنبه , وحافظ على ولاء الأتراك لا
حبًّا بالأتراك بل بوطنه وأمته، لأنه يعلم أن الإنكليز هم أعداء العرب , ولا يجهل
أطماعهم في اليمن , ويرى من الحكمة أن يمد يده إلى الأتراك ليكونوا وإياه على
الإنكليز وعدو العدو صديق كما لا يخفى.
وأما تعليم هؤلاء لمثل الإمام يحيى العربية والعروبية فهو والله من أبدع
النكبات التي سمعناها , إذ إن لم يكن الإمام يحيى عربيًّا وملجأ للعرب فمن هو
العربي يا ترى؟ يعيبون الإمام يحيى بموالاة الأتراك ومَنْ مِنَ العرب قاوم الأتراك
مقاومة الإمام يحيى؟ ومن ذا الذي جرد عليه الأتراك المرة والمرتين والثلاث المائة
تابورًا والمائة والخمسين تابورًا وعجزوا عن تدويخه؟ أفمثل هؤلاء يعير الإمام
تحيى بنقص الحمية العربية؟ وهل الملك حسين كان قادرًا على الوقوف في وجه
الأتراك لولا وجوده في صف الإنكليز؟ فلو كان الإمام يحيى انحاز إلى الإنكليز
أثناء الحرب لكان (راقيًا) ولو خدعه الإنكليز كما خدعوا الحسين لكان معذورًا كما
معذور الحسين.. إذ كان يكفيه من الشرف أنه يكون عاهد الإنكليز أعداء المسلمين
عمومًا والعرب خصوصًا , وحارب في صفوفهم , وأثبت عدم مبالاته بالرابطة
الإسلامية , وبرهن على رقي أفكاره.. . وبعد ذلك فليكن ما كان أوَلَيْسَ أنه يكون
قد حارب الأتراك وحالف الإنكليز؟
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ويغان هو القائد الفرنسي الذي خلف غورو في سورية , وسرايل هو القائد الذي خلف ويغان.
(2) المنار: بل سعينا نحن في مصر باسم جمعية الرابطة الشرقية , وسعى غيرنا فيها وفي الهند؛ لإرسال بعثة طبية لمداواة جرحى الريفيين , فتعذر ذلك وتوسلنا هنا إلى الوزير الفرنسي المفوض , فتوسط لنا لدى دولته بكل همة وسرعة وكانت النتيجة أن فرنسة لا تسمح لنا بإرسالها من حدود المغرب الذي يئط تحت حمايتها.
(3) بل لا نترك ولا ننبذ وإن تغيرت حالتها , ولكن نسالمها إذا سالمتنا.(26/47)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إيقاظ الغرب للإسلام
نقتبس ما يأتي من هذا الكتاب الذي ألفه (اللورد هدلي) الذي أسلم ولقب
(بسيف الرحمن رحمة الله فاروق) لِما فيه من الفوائد والعِبَر للمتفرنجين وغيرهم ,
قال في أوله ما ترجمته بقلم مترجم الكتاب مع تصحيح بعض الألفاظ:
***
تمهيد
قال المستر آرثر بلفور هذه الحكمة منذ عدة سنوات (هناك ناصح واحد فقط
أردأ من الخوف وذلك الناصح هو اليأس) .
تملكتْ فؤادي تلك الحكمة في ذلك الوقت , وإني للإشارة إلى الموضوع
المحتوية عليه الصحائف المقبلة والتعنيف المحقق الذي سألقاه لشرحي اعتقاداتي
بصراحة وجلاء تام عن الدين الإسلامي أقول: (إن هناك رفيقًا واحدًا أردأ من
الزندقة وذلك الرفيق هو الخوف) .
كم من الناس جعلهم (خوف) العواقب يتمسكون بالاعتراف الصريح بدين
واعتقادات لا يسلمون بها ولا يصدقونها في الواقع.
يريد كل منا أن يختار لنفسه الأحسن - أحسن الأطعمة , أحسن المساكن ,
أحسن المراكز , أحسن الإخوان - ولكن كم منا من فكر في أن يختار أحسن
الديانات؟
إن معظمنا راضٍ بالدين الذي وجد عليه آباءه، وإننا من حيث حب الذات
والأنانية مُحقُّون في ذلك طبعًا؛ لأنه يوفر علينا كثيرًا من التعب , فنسير متبعين
الطريق التي كان يسير فيها أسلافنا رافضين أن نبحث أو أن نلقي ولو نظرة واحدة
على أي دين آخر - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) - قرآن كريم.
إنه من المستحيل على أي إنسان أن يصل إلى أسمى غرض في الحياة -
الحياة بمعناها الحقيقي - إذا قيد نفسه بسيور العبادات التقليدية , وبنى كل خلاصه
على المعمودية ومختلف الأعمال الكهنوتية , ونظرًا لأني نشأت بروتستانيًّا وعشت
سنين عديدة في مملكة رومان كاثوليك , فقد سمحت لي الفرص بسعة فائقة أن
أدرس صنفين من أصناف المسيحية متَّبعيْن بفصيلتين من أهم الفصائل في الكنيسة
المسيحية، وقد عشت أيضًا في الشرق , وإنه لشد ما يسرني أن أعترف بأن ليس
هناك بغض بين المسلمين , بل هناك المحبة بأوسع معانيها , وهي منتشرة بينهم
أكثر مما هي منتشرة بين المسيحيين في الجزر البريطانية , فالمسلمون مثلاً
متسامحون جدًّا ومطبوعون على إيتاء الخير إزاء جميع المسيحيين بخلاف ما عليه
فروع الكنيسة بعضها بإزاء بعض.
إني لا أتجاسر على أن أقول: إنه إذا عينت لجنة من الإنكليز الأكْفاء حقيقة
ممن هم على شاكلة المأسوف عليه اللورد سالسبري والمأسوف عليه اللورد
بيكونسفيلد والمستر بلفور واللورد هالدين والسير روفس إسحاق إلخ لفحص الدين
الذي يجب أن يتدين به العالم كله لأجمعوا أمرهم على أن يختاروا الدين الإسلامي
الذي يشهد له العقل , والذي يجيب رغبة الفؤاد والروح الشديدة من الاتصال
بالخالق سبحانه وتعالى.
إنني لا أعتذر من أجل وضعي للفصول القليلة التي ستظهر بين غلاف هذا
الكتاب , وليس لدي أقل خوف من الاتهام بالإلحاد والجحود اللذين سأُرمَى بهما
لابتعادي عن المسيحية واهتدائي بهدي الإسلام.
إنني لا أعتقد وما سبق لي أن اعتقدت قط أنه من الضروري لخلاصي أن
أصدق ألوهية المسيح , أو أن أعتقد الثالوث أو العقائد الأخرى التي تدعي الكنيسة
أنها ضرورية للخلاص , إني أؤمن برسالات الله السماوية المرسلة لنا على لسان
رسله المصطفين.
***
مقدمة
لكي أقدم الصحائف المقبلة إلى القراء لا أجد خيرًا من إعادة نشري هنا لمقالة
صغيرة من قلمي ظهرت في إحدى جرائد لندرة الأسبوعية في نوفمبر سنة 1913.
(ظهرت في جرائد عديدة قطع تشرح معتقدي الديني , وإنه ليبهجني أن
أرى كل ما وُجِّه إلي من الانتقاد لغاية الآن لم يكن إلا بلطف مُتناهٍ , إنه لا ينتظر
أن تخرج خطوة معلومة عن خط سير مألوف دون أن تستوقف النظر) .
(ورد لي في أحد الأيام خطاب من أحد المسيحيين المتدينين يخبرني فيه بأن
الدين الإسلامي إنما هو دين لذة , وأن النبي كانت له زوجات عديدات وأن ذلك
قاعدة في الإسلام , فما أغرب هذه الفكرة عن الإسلام! إلا أنها فكرة راسخة في
عقول تسعة وتسعين في المائة من البريطانيين الذين لم يُعنوا ببحث الحقائق
الواضحة لديانة ما ينيف على مائة مليون من رعاياهم , ولو درسوا تلك الديانة
لتبين لهم أن نبي بلاد العرب صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا في كبح النفس عن
الهوى وردِّها عن الشهوات , وكان مخلصًا لزوجته الوحيدة السيدة خديجة التي هي
أكبر منه بخمس عشرة سنة , والتي كانت أول من آمن برسالته السماوية، وبعد
وفاتها تزوج بالسيدة عائشة , وقد تزوج أيضًا ببعض أيامى متبعيه الذين استشهدوا
في إعلاء كلمة الله وذلك لا بدافع الشهوة بل لكي يعولهن ويمنحهن مساكن ,
وينزلهن منزلة ما كنَّ ليحصلن عليها لولاه.
(نحن معشر البريطانيين نعجب بأننا نحب العدل والإنصاف، ولكن أيُّ
شيء أعظم جورًا وحيفًا من الحكم الذي يصدره كثير منا على الدين الإسلامي دون
أن يجتهد أو يحاول أن يعرف ولو مجملاً بسيطًا من عقائده , حتى إنهم لا يفقهون
معنى لكلمة (الإسلام) .
(إنه من المحتمل أن يظن بعض من أصدقائي أنني قد غُلبت على أمري أو
سيطر علي المسلمون إلا أن ذلك ليس بحقيقي؛ لأن اعتقاداتي الحالية ما هي إلا
نتيجة بحث سنوات عديدة , وإن كانت مناقشاتي الحقيقية مع متعلمي المسلمين في
موضوع الديانة لم تبتدئ إلا منذ زمن قريب , وإنني لمحتاج إلى القول: بأنه قد
غمرني الفرح عندما وجدت أن كل نظرياتي واستنتاجاتي كانت مُطابِقة مُطابَقةً تامة
للإسلام , إن أخي خواجا كمال الدين لم يحاول بتاتًا أن يتسلط على فؤادي ولو قليلاً ,
فإنه كان دائمًا مثال الأمانة والصدق إذ قد شرح لي في ترجمة القرآن الكريم الذي
استطعت أن أفهم معناه من الترجمة المشوهة المنتشرة بين المسيحيين , فأنار من
هذه الوجهة المحجة الواضحة التي تسير فيها جمعية التبشير الإسلامي , فإنها ما
احتالت ولا خدعت أحدًا قط , فالهداية كما جاء في القرآن الشريف يجب أن تكون
بمحض الرغبة والاختيار ومن تلقاء النفس؛ لذا لم يرتكب خواجا كمال الدين أي
صفة من صفات الاحتيال والخديعة , وقد أراد عيسى نفس تلك الصفة عندما قال
لحوارييه: (وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك , وانفضوا التراب
الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم) .
(وقد علمت أمثلة كثيرة جدًّا من البروتستانت المتعصبين الذين ظنوا أن من
واجباتهم أن يغشوا بيوت الرومان الكاثوليك , فيحتالوا على من يقطنها لنقله إلى
دينهم ومثل هذا العمل المثير الذي لا يليق بكرامة جار هو طبعًا عمل كريه جدًّا ,
أدى إلى إثارة العواطف وإيجاد النزاع الذي جر عليهم الازدراء والاحتقار , وإنني
لأتألم جد الألم عندما يعرض لفكري أن أولئك المبشرين المسيحيين حاولوا ذلك مع
المسلمين أيضًا , وإن كان لا يوجد هناك باعث يدعوهم إلى هداية هؤلاء الذين هم
(أصح منهم مسيحية) وأفضل منهم أنفسهم في مسيحيتهم , وقد عجزت تمامًا عن أن
أعرف لم فعلوا ذلك , إنني لم أقل: (أصح منهم مسيحية) جزافًا بل بعد إعمال
العقل والروية؛ لأن المحبة والألفة والتسامح في الدين الإسلامي أقرب جدًّا لما أتى
به المسيح مما عليه رجال المسيحية إلى الكنائس المتنوعة.
خذ مثلاً العقيدة الإنسيانية التي تختص بالثالوث بحالة مشوشة لا يقبلها العقل
ترى أنه من الواضح جليًّا أن هذه العقيدة المهمة عندهم للغاية والتي تعتبر إحدى
العقائد الرئيسية للكنيسة تمثل المذهب الكاثوليكي , وإننا إذا لم نعتقدها نهلك هلاكًا
أبديًّا، وهكذا نؤمن بوجوب اعتقاد الثالوث إن أردنا الخلاص أو بطريقة أخرى
نقول: إن الله رحيم وقادر على كل شيء , وفي الوقت نفسه نتهمه بالظلم والقساوة
اللذين لا نستطيع ولا نرضى أن ننسبهما إلى أفظع سفاكي الدماء من الظلمة البشرية
كأن الله الذي هو أمام الجميع وفوق الجميع يتغلب عليه اعتقاد مخلوق ضعيف فانٍ
في الثالوث.
(هذا مثل آخر يدل على عدم وجود الحسنى لديهم: وصلني خطاب لمناسبة
اتجاهي نحو الإسلام أخبرني فيه كاتبه بأنني إذا لم أعتقد ألوهية المسيح لا يمكنني
الخلاص، إن مسألة ألوهية المسيح ما ظهرت لي قط أنها مهمة، هل أرسل
المسيح رسلاً من البشر برسالات إلهية؟ لو كان عندي الآن أي شك في تلك النقطة
الأخيرة لآلمني ذلك جدًّا , إلا أنني أشكر الله سبحانه وتعالى لعدم وجود هذا الشك
أرجو أن يكون اعتقادي في المسيح وتعاليمه ثابتًا جدًّا كاعتقاد أي مسلم أو مسيحي
حقيقي آخر , لأنني سبق لي أن قلت مرارًا أن الديانة الإسلامية والديانة المسيحية
كما علمت بالمسيح نفسه هما أختان ولم يفصلهما عن بعضهما إلا المذاهب ,
والاصطلاحات المسيحية فقط التي يمكن الاستغناء عنها بكل سهولة وارتياح.
يطلب منهم أن يعتقدوا هذه المذاهب والعقائد التي لا تفهم , وهناك بلا شك
رغبة واشتهاء إلى ديانة تقبلها العقول والميول , فمن سمع بمسلم ارتد إلى الكفر
والإلحاد؟ ربما كانت هناك حالات من هذه إلا أنني أشك جدًّا فيها.
(إنني أعتقد أن هناك آلافًا من الرجال والنساء أيضًا مسلمين قلبًا ولكن
خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ على التغيير تآمرا على منعهم
من إظهار معتقداتهم , إنني خطوت هذه الخطوة وإنني أعلم علم اليقين أن كثيرًا من
إخواني وأقاربي ينظرون إليَّ الآن كروح ضالة ويصلون من أجلي , إلا أني لست -
في الحقيقية - في اعتقاداتي اليوم إلا كما كنت منذ عشرين سنة تمامًا ولكن
صراحتي في القول هي التي أفقدتني حسن ظنهم بي.
الآن وقد شرحت بعضًا من الأسباب التي جعلتني أتبع الدين الإسلامي ,
وقلت: إنني أعتبر نفسي الآن أني أصبحت بإسلامي مسيحيًّا أفضل مسيحية مما
كنت عليه من قبل؛ فآمل أن يتبع الآخرون مثالي ويعتقدون أحقية الإسلام الذي أقر
بكل شهامة وفخر أنه أصح الأديان، إنه ستصل السعادة لأي امرئ ينظر إلى
هذه الخطوة كخطوة متقدمة لا خطوة مضادة للمسيحية الحقة بأي وجه) اهـ.
(المنار)
سبق لنا نشر هذه المقالة في المنار عقب شيوع إسلام اللورد هدلي.
__________(26/60)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ماضي الأزهر
وحاضره ومستقبله
(3)
ذكرنا في المقالة الثانية جملة مطالب الأزهريين التي نظرت فيها لجنة
الحكومة , وما قبلته وأقرته وصدر أمر الوزارة بتنفيذه , وكان طلبة الأزهر قد
طبعوا مذكرة تفسيرية لمطالبهم الخاصة ورفعوها إلى البلاط الملكي والوزارة ,
ووزعوا منها نسخًا على من يرجون عطفهم ومساعدتهم من أصحاب الشأن , فرأينا
نشر تفسيرهم لمطالبهم استقصاء للمهم من تاريخ هذا الطور الجديد للأزهر ,
وتمهيدًا لما سنبينه من رأينا فيه , وهذا نصها بعد تمهيد وجيز جعلوه مقدمة لها:
(المطلب الأول) : (حسبان الأزهر جامعة كبرى تتكون عناصرها من
الأزهر والمعاهد الدينية الحالية ومدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والمعلمين
الأولية , بشرط أن تكون هذه المدارس كلها تابعة للأزهر تبعية فعلية حتى يتوصل
بذلك إلى توحيد جهات التعليم الخاص بالشريعة واللغة العربية) .
هذا هو المطلب الأساسي الذي لا يمكن أن ينال الأزهر غايته من الإصلاح
والكرامة بدونه، على أنه في الواقع من أساليب الإصلاح الأولية القاضية بعدم
التجزئة في المعاهد التي يتحد فيها نوع التعليم وجوهره , وهذه المدارس في الحقيقة
أجزاء للأزهر وأعضاء فُصِلت منه , ولا يمكننا أن نفهم انعزالها عنه مع ما بينها
وبينه من الصلة الظاهرة في اتحاد الغرض وتَسَاوي برامج التعليم أو تقاربها , بل
وفي زي الطلبة أيضًا , ولم يشاهد الناس فيما شهدوا أن تقطع الصلة في المعاهد
التي من هذا النوع، ويفرق بينها هذا التفريق الكبير، إلا في مصر.
إن الحقيقة المُرة نجهر بها الآن وهي أن الغرض الواضح من وجود المدارس
المشار إليها على نظامها المعروف هو أن يترك الأزهر وشأنه مهملاً منسيًّا , يشقى
طلابه وخريجوه ولا يؤدي وظيفته في المجتمع إلا بالمقدار اليسير الذي نراه في
الوقت الذي نخص فيه هذه المدارس بالعناية والرعاية , حتى يعد خريجوها لأقصى
درجات النفع والانتفاع.
وهذه هي الفكرة الخطرة على الأزهر , فقد كان لها أسوأ النتائج في عرقلة
سيره ووقوفه دون الغاية التي أداها للإنسانية في أزمنة متطاولة , وإذا كان مثار
التفكير في إيجاد هذه المدارس ما كان يشاع من تعسر الإصلاح في الأزهر، فلا
عذر اليوم وقد تطور الزمن وأصبح الأزهر نفسه ينادي بالإصلاح غير آنف من كل
عمل يكسبه صبغة عصرية صالحة ما دامت لا تتنافى مع صفته الدينية , فالواجب
إذن أن يُقابَل نداؤه بالترحاب , وأن يُعدل عن عزل هذه المدارس التي اقتضت
الضرورة عزلها كما يقولون , ويكون من الجميع جامعة شرقية سامية , تقدم للبلاد
الإسلامية عامة ومصر خاصة ما كان يؤديه الأزهر في زمنه الغابر من ثمرات
ناضجة في العلوم والآداب , أما بقاء الحال على ما هو عليه اليوم فلا معنى له غير
القضاء على الأزهر وتقويض ما بقي من أثره , في حين أن هذه المدارس تتسع
وتنمو بما يسدى إليها من ضروب الرعاية والعطف , وهذا ولا ريب منافٍ للعدالة ,
موجب للتنافر والشقاق بين أبناء الطائفة الواحدة، وهو فوق ذلك تدبير خطر
بالنسبة إلى المصلحة العلمية العامة، فإن الأزهر قوة كبيرة إذا عني بها جنت الأمة
منها أوفر الثمرات وأنضجها , ولا سيما في الظروف المقبلة التي يتحتم فيها تعميم
التعليم بين أفراد الشعب، ولقد بدت مخاطر العزلة التي يشقى بها الأزهر فعلاً في
أزمة المعلمين التي تعالجها البلاد في العهد الأخير , فليس من الحزم أن يستفحل
الداء والدواء قريب.
لسنا نريد أن نُلغي هذه المدارس كما يدعي بعض المغرضين [1] ولكن مطلبنا
واضح جلي , وهو كما قلناه: إدماجها في الأزهر مع إدخال الإصلاح على برامجه
متى كانت الحالة تقضي بذلك , وهذا مطلب لا غبار عليه ولا يمكن أن ينازع فيه
من يريد الإصلاح , وبودنا أن يفطن إلى ذلك كل مفكر؛ ليعتقد أن الأزهر يريد
الخير لمحض الخير، ولهذا فليعمل العاملون.
(المطلب الثاني) تعديل قانون التخصص بجعل مدة الدراسة فيه سنتين فقط ,
على أن تكون مدرستا القضاء الشرعي ودار العلوم فرعين من الأزهر، الأولى
للتخصص في القضاء الشرعي، والثانية للتخصص في اللغة العربية، وباقي أقسام
التخصص في الفنون الأخرى بالأزهر (مع إضافة قسم جديد للتخصص في العلوم
الرياضية) على أن يكون الانتساب مقيدًا بالحصول على شهادة العالمية من
الأزهر.
يتناول هذا المطلب أمرين: أولهما يتعلق بقسم التخصص , وثانيهما بالنظام
الذي يتبع بعد ضم مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي إلى الأزهر , أما فيما
يرجع إلى التخصص فنطلب أن تخفض المدة الدراسية فيه إلى سنتين فحسب , إذ
كان الغرض الذي أُنشئ من أجله هذا القسم هو التفوق في ناحية خاصة من العلوم
التي تلقاها الطلبة , وهذا المبدأ وجيه لا اعتراض عليه , ولكن المدة المقدرة له من
الطول بحيث لا تتفق مع المصلحة فهي إذا أضيفت إلى مدة الدراسة العامة (اثني
عشر عامًا) كان المجموع ستة عشر يضاف إليها ما يمكن أن يعرض للطالب من
الرسوب وهو أربعة أعوام , فيكون المجموع عشرين عامًا دراسية , وهي مدة لا
نظير لها في معهد من معاهد التعليم فالشأن في مدد الدراسة أن يراعى فيها القصر
الممكن؛ حتى توجد للمتعلمين فرصة من العمر صالحة للانتفاع بما حصلوا عليه
من العلم.
على أن مدة السنتين تعد كافية للاستزادة من علوم كررها الطالب مرارًا ونال
الشهادات الدالة على تضلعه منها , وإذا غضضنا الطرف عن ذلك , ونظرنا إلى
نظام الدراسة قام الدليل واضحًا على وجوب اختزال المدة , فإن طلبة التخصص
بالأزهر لا يتلقون غير حصة واحدة في اليوم فلا مانع مطلقًا من مضاعفة الدراسة؛
عوضًا عن طول المدة التي يجب أن تستنفد في الصالح العام , وأما في تخصص
القضاء الشرعي، فإن العلوم التي تدرس فيه من القلة والسهولة بحيث يستطاع
دراستها بإتقان في عامين , مع مراعاة أن التخصص في الأقسام كلها إنما هو في
العلم لا في الكتب كما هو في المتبع الآن.
أما الأمر الثاني المتعلق بمهمة مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي بعد
ضمهما إلى الأزهر، فينحصر طلبهما في أن تعاون هاتان المدرستان الأزهر على
خدماته الجليلة، وتكونا قسمين من أقسام التخصص الذي أنشئ له في الأزهر
سبعة أقسام في شتى العلوم , فتقصر دار العلوم على حاملي شهادة العالمية الأزهرية
للتخصص في العلوم العربية , وتلقي ما يجب تلقيه للقيام بمهمة التعليم , ولا ريب
أن قصرها على هذه المهمة بعد أن يكتمل نضوج الطلبة في الأزهر يعيد عصرًا
مزدهرًا بالأدباء واللغويين , ويبث في البلاد روحًا جديدة في هذه الناحية الفقيرة
ناحية الأدب واللغة , كما أنه ينشئ للبلاد نشأ يؤدي للتعليم أجلّ الخدمات.
أما مدرسة القضاء فتُخصَّص لتلقي العلوم المؤهلة لتولي مناصب القضاء
الشرعي التي لم تدرس بالأزهر , وهي وإن كانت الآن معدة لذلك فعلاً إلا أنها
ليست تابعة للأزهر تبعية فعلية , ومدة الدراسة فيها تزيد عن حاجة العلوم التي
تدرس بها الآن.
ومما يجب التنبيه عليه أنه يلزم أن ينشأ في قسم التخصص بالأزهر فرع
جديد للعلوم الرياضية بجانب ما فيه من العلوم الأخرى , فإن هذه العلوم لا مندوحة
عن التوسع فيها في هذا العصر، كما أنها ضرورية لإتمام المهمة العظمى التي
تطلب من جامعة الأزهر , ولإنشاء هذا الفرع ميزة أخرى هي استغناء الأزهر
بخريجيه في القيام بتدريس هذه المواد بالأزهر , وتولي الأعمال الإدارية والحسابية
على أتم وجه، وفيه أيضًا فتح مجال الأعمال أمام خريجه بالقدرة على تعاطي
الشئون الحيوية النافعة.
(المطلب الثالث) المساواة الفعلية بين حاملي شهادات الأزهر ونظرائهم من
حاملي شهادات وزارة المعارف , فتتساوى الشهادة الأولية بالابتدائية والثانوية
بالبكالوريا , والعالمية بالليسانس وشهادة التخصص بالدكتوراه وذلك فيما يختص
بمميزاتها من المرتبات والترقيات واحتساب المعاشات مع حفظ الامتيازات الخاصة
بهم مثل (كوبونات) السكك الحديدية.
من المؤلم أن تجتمع على الأزهر عزلته عن الاشتراك بقسط وافر في
الأعمال العامة، والغبن الفاحش في المرتبات والحقوق التي ينالها من أسعده الحظ
من خريجيه , فعلى الرغم من أن الشهادات التي يحصل عليها الأزهريون معتبرة
كنظيراتها من الشهادات التي تعطى لتلامذة المدارس، فإن البون شاسع جدًّا بين
مرتبات هؤلاء وأولئك , ومثل هذا يقال عن نظم الترقيات والمعاشات , فالشهادة
الابتدائية الأزهرية سُلب من حاملها حق التوظف مطلقًا , وعلى ذلك لا يمكن مقارنة
حقوقها بالابتدائية في المدارس، والثانوية الأزهرية إذا سمح لحاملها بالتوظف في
مثل الإمامة والخطابة مثلاً يفرض لها مرتب يتراوح بين جنيه وثلاثة جنيهات , ولا
ريب أنه لا نسبة بين هذا المرتب الحقير وبين مرتب حامل (البكالوريا) إذ
يتقاضى ثمانية جنيهات شهريًّا.
وأما الشهادة العالمية التي هي شهادة عليا فإن نصيب حاملها إذا كان محدودًا
والتحق بوظيفة تدريس في المعاهد الدينية أن يعطى له عشرة جنيهات , في حين
أن مثيلاتها من الشهادات العليا تنيل صاحبها الحق في تقاضي خمسة عشر جنيهًا
شهريًّا , وهذا الذي ذكرناه في مرتبات الأزهريين إنما هو بالنسبة إلى الوظائف
التي تعد رئيسية , ومن ذلك يمكن إدراك المرتبات الضئيلة التي تفرض للوظائف
الأخرى , ففي وزارة الأوقاف يعطى حامل العالمية في وظيفتي الإمامة والخطابة
مرتبًا يتراوح بين أربعة جنيهات واثني عشر جنيهًا مصريًّا حسب التعديل الأخير ,
في حين أن فقهاء المكاتب يتقاضون من ستة جنيهات إلى ثمانية عشر.
ومثل هذا الغبن في المرتبات واقع في الترقيات والمعاشات , فالترقيات في
الأزهر تسير ببطء يبيد العزم ولا يشجع على العمل، وهي في غيره تبعث الأمل
وتحيي الرجاء، أما المعاشات فلا نخطئ إذا قلنا: إنها في الأزهر تكاد ألا تكون
شيئًا.
ونحن لا ندري سبب هذه التفرقة البينة الغبن مع أن المجهودات التي يصرفها
طالب المدرسة تقل كثيرًا عن مجهودات الأزهري , مع أنه يمتاز أيضًا بشرف
الانتساب إلى الدين، فينبغي أن تحفظ كرامته وتصان حقوقه حتى للخدمة العامة
وهو مطمئن على مستقبله , ولا سيما إذا ذكرنا أنه فوق صفته الدينية قادر على سد
حاجات الأمة في كثير من الشئون العامة , التي تستلزم الدراية والكفايات المختلفة
بما يتجمل به من شتى الفنون التي تدرس بالأزهر.
أما (الكوبونات) التي تعطي العلماء حق السفر بأجور مخفضة فإن لها معنى
ساميًا , عُرف أن العلماء خليقون به من زمن بعيد , فينبغي أن يبقى ما دامت لهم
كرامة ومكانة خاصة.
(المطلب الرابع) تنفيذ الحقوق التي كفلتها القوانين واللوائح لحملة الشهادات
الأزهرية المعطل العمل بها الآن.
إنما تلتمس الشهادات لنتائجها المترتبة عليها لا لذواتها , ومن المسلم به أن
كل عمل لا فائدة له مبغض مكروه , وبودنا أن يكثر الإقبال على التعليم الديني حتى
تعم تعاليمه الأفراد والجماعات , ولا يمكن ذلك إلا إذا كان للشهادات التي تعطى
لطالبه قيمة مادية تغني عوزه وتسد حاجته , على أن الواقع يخالف ذلك في الأزهر
ويسوءنا أن نقول: إن الأزهر له هذه الخاصة وحده دون معاهد العلم كلها , فقد
سُطرت ميزات الشهادات في الأوراق ولا شيء غير ذلك! ففي القانون نمرة 10
نص على أن لحامل الشهادة العالمية الحق في وظائف القضاء الشرعي، والكتابة
بالمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية والتدريس بالأزهر والمعاهد الدينية
إلخ , ولحامل الشهادة الثانوية الحق في وظائف الخط والإملاء والوظائف الكتابية
بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى والمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية
والإمامة والوعظ ... إلخ , أما الابتدائية (فيظهر أنه لا يصح أن يكون لها ميزة
حتى ولو على الورق فألغيت ميزتها!) .
فإذا أراد الطالب أن يلتمس طريقًا مما ضمنه القانون لإحدى هذه الشهادات بعد
حصوله عليها رغبة في حفظ أوده وجد الأبواب موصدة دونه , ويسوءنا أن كثيرًا
من حملة العالمية لا يجدون مرتزقًا يقيهم ذل الحاجة، حتى وزارة الأوقاف التي هم
أشد الناس صلة بها لا تقبل أحدًا منهم في وظائفها الكتابية , وكانت نتيجة هذه
المعاملة الشديدة أن كثيرًا من العلماء قدموا أنفسهم إلى مجالس المديريات للتدريس
في مدارسها , فرفضت وسرت هذه الدعوى إلى المدارس الأهلية فاشتد الداء،
وثقلت وطأته على هؤلاء الذين قضوا حياتهم في خدمة العلم , وذلك ما يسيل
النفوس أسفًا على كرامة العلم والدين.
ليس في وسع العالم الديني أن يتناول عملاً دنيئًا حرصًا على شرفه , كما أنه
لم يَلق من عناية أولي الأمر به ما يجعله كغيره من الطوائف المتعلمة سعيدًا أو على
الأقل مطمئنًا على مستقبله، فبقي أن نسأل ولاة الأمور عن مصيره؟
الحق أنه شيء كبير أن يُترك هؤلاء العلماء لعويلهم من ثِقل البؤس في هذا
العصر مع أنهم في كل العصور كانوا موطن الاحترام والرعاية، ولسنا نطلب إلا
ما رضي به ولاة الأمر ووضعوه من تلقاء أنفسهم في (قانون) , يجب أن يكون
نافذًا وأن لا يكون حبرًا على ورق , وإذا طلبنا ذلك بالنسبة لحاملي العالمية فنطلبه
أيضًا بالنسبة إلى حملة الثانوية والابتدائية , فقد يحدث كثيرًا أن يتخلف الطالب من
الدراسة بعد نيله إحدى هاتين , فليس من العدل ان يحرم ثمرة عمله والقانون
صريح في حفظ حقه.
(وبعد) فالطريق الطبيعي في التعليم أن يوجد للطلبة ضوء من الأمل يكون
منيرًا لهممهم مشجعًا لهم , وإلا انصرفوا عنه وعافوه , وذلك ما لا يصح أن يكون
وخصوصًا في المعاهد الدينية.
(المطلب الخامس) إقرار مشروع التعليم الديني في المدارس , وهو الذي
وافقت عليه وزارة المعارف في إحدى الوزارات السابقة حيث إن تنفيذه ضروري
لصالح الأمة، وإسناد القيام به إلى خريجي الأزهر خاصة.
كان الدين ولا يزال مبعث سعادة الأمة ومصدر مجدها فهو حافظ شخصيتها،
ومظهر آدابها , وهو المحور الذي تجتمع عنده القلوب وتتحد النزعات والآمال ,
فأيما أمة أقامت للدين وزنه، وعرفت خطره، كان لها ما تشاء من عزة وسلطان،
وعلى العكس من ذلك أمة تنبذ أحكامه ظهريًّا.
وإنه لمن المحزن أن تخلو مدارسنا المصرية من تعليم الدين ونشر آدابه
السامية , ولا ندري ما الذي وصل بمدارسنا إلى هذا الحضيض مع أنه يدرس
(بين) جدرانها كثير من العلوم قد لا يكون بعضها ضروريًّا، فالحق أنه يجب وضع
حد لهذه الحالة المملة , إذ لو استمرت لأصبح الدين وقد تقلص ظله , وضعفت
شوكته. وإن الأزهر الذي في عنقه أمانة الإرشاد والمحافظة على الدين لا يمكن أن
يجمد بإزاء ذلك , بل يطلب ويلح في الطلب بأن يُعنى بالدين العناية الكافية فتذاع
آدابه وتعاليمه الجليلة في نفوس أبناء الأمة , حتى لا يطغى على أفكارهم اللدنة
سيل الأباطيل؛ فيخرجوا على دينهم كما هو شأن المتعلمين اليوم، فإن كثيرًا منهم
قد استهواه التقليد الأعمى فنبذ دينه، وذلك ضرر لا يصح السكوت عليه بل يجب
العمل على استئصال شأفته، ولن يكون ذلك بغير الدين , ولا يضر وزارة المعارف
أن يتلقى التلاميذ بجانب ما يتلقونه - مما ينفع ولا ينفع - هذا العنصر الضروري
لحياة الأفراد والأمم , وإذا قال الأزهر ذلك فهو يتكلم بلسان آباء التلاميذ وأولياء
أمورهم الذين يسرهم أن يكون أبناؤهم راشدين دَيّنين، لا ملاحدة مارقين , ومما
يمكن أن يعتبر دلالة على وجوب تنفيذ هذا المطلب أنه كاد (يبلغ) تمامه في عهد
إحدى الوزارات السابقة بعد أن نبهها إليه أحد [2] علماء الأزهر الأعلام، على أنه
لا يمكن أن يؤدى الأمر على وجهه الصالح إلا إذا جعل تعليم الدين أساسيًّا , وأسند
تعليمه من الآن إلى المتضلعين منه الواقفين على أسراره فهم وحدهم البصيرون
بطرق التفهم والإقناع , القادرون على رياضة النشء إلى أقوم الطرق بالقدوة
والموعظة الحسنة، وليس لطائفة أن تنازع الأزهريين هذه المقدرة أو تطمع في
هذه المنزلة دونهم , ولذلك نطلب إسناد التعليم إلى علماء الأزهر دون سواهم حتى
يتوصل إلى الغرض المروم.
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار يستعمل لفظ المغرض عند العوام وفي الجرائد بمعنى ذي الغرض والهوى النفسي وهو المراد هنا، وإنما بينا هذا لأن قراء المنار في الأقطار التي لا تستعمل فيها هذه الكلمة بهذا المعنى لا يفهمونها , وإذا راجعوها في معاجم اللغة المتداولة لا يجدونها.
(2) فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون.(26/65)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وهب بن منبه وكعب الأحبار
حضرة ملجأ الباحثين السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فقد جرحتم الحبر بن وهب بن
منبه وكعب الأحبار في تفسيركم بالمنار قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُّبِينٌ} (الشعراء: 32) بأنهما:
(1) رويا أخبار غرائب بني إسرائيل , ومنها موت خمسة وعشرين ألفًا
من قوم فرعون فزعًا من ثعبان العصى (كذا) .
(2) وكانا يدسان في الدين بكذب الرواية.
(3) ومن جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان
رضي الله عنهما.
ولكون الحبرين من رجال كتب الحديث الصحيحة التي صار التعويل عليها
في الدين الإسلامي بعد القرآن الكريم , وكان هذا التجريح غير منطبق على ما
عُرف عنهما عند علماء الحديث , وقد صرحتم بأنه بحسب الغالب على ظنكم ,
وكان يترتب عليه الحط من اعتبار الحديث الشريف عند المطلعين عليه من قراء
المجلة ممن لا يعرف عنهما سوى ما قلتم لوجود اسميهما في كتبه (كذا) , مع أن
الأمة محتاجة للتمسك بالسنة؛ لأن سعادتها وإنقاذها مما هي فيه متوقفان على العمل
بها والرجوع إليها كما كان سلفنا الصالح , فيعود إلينا ما كانوا فيه من عز ومجد.
فحُبًّا في دفع ما يشين السنة المحمدية أحببت نشر ما دونه المتقدمون في
توثيق الحبرين , مبتدِئًا بقاعدة من كتاب الجرح والتعديل للعلامة القاسمي حيث نقل
بالصحيفة الخامسة عن المحدث السيوطي عبارة الأصولي صاحب كتاب الاقتراح
أن من (الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي) تخريج أحد الشيخين له في الصحيح ,
وإن تُكُلم في بعض مَن خَرَّج له فلا يلتفت إليه , والحبران خرَّج لهما أحد
الشيخين البخاري في صحيحه (كذا) وكذا باقي أصحاب الكتب الصحيحة مسلم
وأبو داود والنسائي والترمذي كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي (كذا) .
وحينئذ لا يلتفت لتضعيف ابن الفلاس لسيدنا وهب خصوصًا وأنه لم يبين
وجه التضعيف , والمتقرر في فن المصطلح أن التجريح لا يُقبل إلا مع البيان ,
وأن جرْح الواحد غير متفق عليه (كذا) .
ومما يدل على ورع سيدنا وهب ما نقله البخاري في أول كتاب الجنائز ونصه:
(وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن ليس
مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) يريد أن
يلتزم السائل العمل بالأحكام الشرعية ولا يرتكن على مجرد النطق بالشهادتين ,
ومثله قوله: (مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر) كما نقله صاحب الفتح
في هذا المكان [1] .
وصُنع البخاري في باب مطل الغنى ظلم من كتاب الاستقراض يدل على
عظم سيدنا وهب أيضًا , حيث قال في سند الحديث هكذا: (عن همام بن منبه
أخي وهب) وما كان همام مجهولاً فنسبه إلى وهب لتعريفه بل هو معروف , وأخذ
عنه أصحاب الكتب الستة الصحيحة , وما كان البخاري لينسب رواية همام وهو
بمنزلة شاهده إلى فاسق أو متهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
وإنما هي نسبة تشريف أراد بها التأكيد في تزكية راويه.
ومن الحكم المأثورة عن سيدنا وهب قوله: العلم خليل المؤمن والحلم وزيره
والعقل دليله والصبر أمير جنوده والرفق أبوه واللين أخوه: فجعل للمؤمن دولة من
نفسه , نقل ذلك الحافظ الذهبي في ترجمته له في كتاب ميزان الاعتداد في نقد
الرجال.
وكعب الأحبار فضلاً عن أخذ المحدثين عنه لم يطعن عليه أحد منهم ,
والمذاكرة التي دارت بينه وبين أبي هريرة حال رحلته بالشام (في الساعة التي في
يوم الجمعة) من الحجج الدينية الإسلامية التي يشير إليها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن
لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 197) كما هو موضح بموطأ
الإمام مالك , ويكفيه توثيقًا أخذ أبي هريرة عنه وابن عباس ومعاوية وجماعة من
التابعين , نص على ذلك صاحب الخلاصة المذكورة عند ترجمته باسم (كعب بن
مانع الحميري أبو إسحاق الحبر وقال بالهامش: وهو المعروف بكعب الأحبار
إلخ) .
أما عن نفي أوجه الجرح الثلاثة السالفة:
(فالأول) غير جارح أصلاً؛ لأن أخبار بني إسرائيل ليست مما تعبدنا الله
بها , ولم نلزم بالتحري في نقلها إلزامنا بنقل الأحاديث الإسلامية لما رواه الإمام
الشافعي في رسالته الأصولية الشهيرة في أواخر (باب تثبيت خبر الحجة) بسنده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،
وحدثوا عني ولا تكذبوا علي) ورواه صاحب كتاب رموز الأحاديث في حرف
الحاء بلفظ (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنكم لا تحدثون عنهم شيئًا إلا وقد
كان فيهم أعجب منه) عن الشافعي وابن منيع وصححه السخاوي فأي وزر على
من بلغه هذا الحديث فحدث بأخبار بني إسرائيل على علاتها كما سمعها , ما دام أنه
لم يرد في ديننا ما يمنع من ذلك , ولم تصادم أصلاً من أصوله وإلا كانت منسوخة
هذا وبمراجعة تفسير ابن جرير عند هذه الآية وجد أن في سند الخبر بموت الخمسة
وعشرين ألفًا من هو مجهول , فيحتمل أن هذا المجهول هو الواضع لهذا الخبر
والأصوب حمله على الحديث السالف , إذ لا ضرر علينا من ذلك دينًا , ولم نُكلَّف
بتمحيص أخبار بني إسرائيل والبحث في أسانيدها وتبعتها عليهم.
(الثاني) لم نعلم أحدًا قبل الآن نسبهما للكذب والدس في الأحاديث الإسلامية
وكل ما نسب إليهما من بعض المتأخرين هو الإكثار من أخبار غرائب بني
إسرائيل , وقد علمت ما فيه ولم يصرح الإمام أحمد بأن سيدنا وهبًا كان يختلف إلى
قومه بعد إسلامهم؛ ليكذب أو يدس , والأقرب حمله على التودد والإرشاد , وقد
ترجم للحبرين ابن جرير الطبري في تاريخه بالجزء الثالث عشر في ضمن الناقلين
للأخبار من التابعين , وهو بصفته مؤرخ يحكي كل ما قيل فلم تصدر منه كلمة تشم
منها هذه الرائحة , بل بعكس ذلك أفاد ما يدل على جلالتهما , وحكى لسيدنا كعب
حادثة تدل على شدة ذكائه وتدينه فانظره.
(الثالث) أن نسبتهما إلى جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين غير معقول من
الوجهة التاريخية , فإن الخليفة الثاني قتل سنة 23 هـ , وسيدنا وهب قتل ظلمًا
أيضًا سنة 110هـ أو سنة 114هـ فيكون بينهما تسعون عامًا (كذا) تقريبًا , فلا
يبعد أن يكون لم يولد وقت قتله , وسيدنا كعب كان مقيمًا بالشام بعيدًا عن الفرس ,
وجمعية السبئيين لم تؤلف بعد؛ لأن عبد الله بن سبأ رئيسها لم يظهر إلا في خلافة
سيدنا عثمان , وأكثر المؤرخين على أن قتل الخليفة الثاني فردي (كذا) وأن
الذي قتله هو أبو لؤلؤة غلام سيدنا المغيرة بن شعبة الذي بعثه وهو عامل على
الكوفة ليقوم بالصنائع التي تنفع المسلمين , وكان ضاربًا عليه مائة درهم في الشهر
فتظلم منها إلى الخليفة , فلم يرها كثيرة فحنق عليه وقتله بعد أيام , وحينئذ لم يكن
مرسلاً من جمعية سرية.
والخليفة الثالث قتل سنة 35 هـ , فبينه وبين سيدنا وهب نحو الثمانين عامًا
فإن كان وُجد فالأقرب أنه كان حينئذ في سن الطفولة , وإقامته كانت بصنعاء بعيدًا
عن مراكز الجمعيات التي حكي عنها تدبير قتل الخليفة , أما سيدنا كعب فقد تُوفي
سنة 32هـ أي قبل قتل الخليفة بثلاثة أعوام كما ذكره صاحب الخلاصة المذكورة ,
على أن الحالة تشهد ببُعدهما عن مثل هذه الأحوال لأنه لو نسب إليهما ذلك لشاع
واشتهر , فلم يأخذ عنهما أحد من المحدثين وخصوصًا البخاري الذي كان يمتنع عن
الأخذ عن الراوي لأدنى شبهة قيلت فيه , وأيضًا لحكى عنهما ذلك أحد المترجمين
لهم المذكورين , ومع أن الحافظ الذهبي التزم في كتابه (تذكرة الحفاظ) أن يذكر
فيه المحدثين الموثقين فقط , وقد ذكرهما (كذا) بترجمتين مستفيضتين عن علمهما
وورعهما وكفى بذلك توثيقًا , هذا ما اطلعت عليه الآن مما دوَّنه المتقدمون عن
هذين الحَبرين الجليلين , أرجو نشره بالمجلة مشفوعًا برأيكم واقبلوا فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجوني
(جواب المنار)
يظهر أن المنتقد قرأ عبارتنا في التفسير فانتقد ما علق بذهنه منها من غير
مراجعة لعبارتها , ولو رجع إليها في أي وقت لرأى جلّ ما كتبه غير وارد عليها،
وما أطال به من الثناء على وهب في غير محله إذ ليس من موضوع الكلام، وكذا
ما ذكره من نفي اشتراكه في الجمعيات السرية الفارسية وفي قتل الخليفة الثاني،
وما ذكره من براءة كعب الأحبار من مثل ذلك فأنا لم أر مهمًّا بهذا، وإنما قلت فيهما:
إنهما كانا (كثيرا الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول ,
وأن قومهما كانوا يكيدون للأمة الإسلامية العربية , فقاتِلُ الخليفة الثاني فارسي
مُرسَل من جمعية سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله
بن سبأ اليهودي , وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن
السياسية وأكاذيب الرواية في الصدر الأول) اهـ بحروفه وسنوضحه بعد.
وذكرت قبله (أنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق
الجمهور له , بل أنا أسوأ ظنًّا فيه على ما روي من كثرة عبادته , ويغلب على
ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفرس) إلخ , ولم أقل: إنه اشترك في مقتل عمر
فيرد علي بتاريخه أو بغير ذلك، والذي يعنينا من هذا النقد ما هو المقصود منه
بالذات وهو رواية لرجلين وما زعمه المنتقد من توثيق الشيخين لهما ولا سيما
البخاري , وكون كل من رويا عنه أو روى عنه الأول ثقة لا يقبل فيه جرح , ولا
يصح أن تكون روايته محل بحث، وفي كلام المنتقد أغلاط لغوية وفنية وتاريخية
لا حاجة إلى إضاعة الوقت في بيانها , فأكتفي في الرد على ما ذكرت أنه المقصود
بالذات فأقول:
أما كعب الأحبار فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئًا ولكن ذكره فيه
بما يُعد جرحًا له لا تعديلاً، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب
وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية
يحدث رهطًا من قريش بالمدينة , وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق
هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب , وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (تأمل) .
قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في
البخاري , وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له رقم البخاري
فيوهم أنه أخرج له إلخ: يعني أن ذكر صاحب التهذيب رقم البخاري وهو حرف
(خ) عند اسم كعب غلط , وقد صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء
في صحيح البخاري وغيره، والمنتقد يبدئ ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه
له , وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من أصدق المحدثين عن أهل الكتاب ,
وأنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب- طعن صريح في عدالته وفي عدالة جمهور رواة
الإسرائيليات إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم , ومن كان متقنًا للكذب في ذلك
يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر , إذ لم تكن كتب أهل الكتاب
منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا , فإن توراة اليهود بين الأيدي , ونحن
نرى فيما رواه كعب ووهب عنها ما لا وجود له فيها البتة على كثرته، وهي هي
التوراة التي كانت عندهم في عصرهما، فإن ما وقع من التحريف والنقصان منها
قد كان قبل الإسلام، وأما بعده فجل ما وقع من التحريف هو المعنوي بحمل اللفظ
على غير ما وضع له واختلاف الترجمة، ولا يعقل أن تكون هذه القصص الطويلة
التي نراها في التفسير والتاريخ مروية عن التوراة قد حذفت منها بعد موت كعب
ووهب وغيرهما من رواتها، فهي من الأكاذيب التي لم يكن يتيسر للصحابة
والتابعين ولرجال الجرح والتعديل الأولين العثور عليها، وكذا علماء القرون
الوسطى من المحدثين وغيرهم إلا من عُني عناية خاصة بالاطلاع على كتب العهد
العتيق والعهد الجديد عند أهل الكتاب , وعلى التواريخ المفصلة لأخبارهم وقليل ما
هم , وقد كان مثل البخاري من جهاندة المنقول ومثل الفخر الرازي من جهاندة
المعقول يظنان أن جميع تحريف أهل الكتاب معنوي؛ لأن تغيير أهل الملة لكتابها
الديني غير معقول إذ لابد من أن يكون بالتواطؤ وإجماع الأمة، وسبب هذا أن
هؤلاء العلماء لم يكونوا يعلمون أن اليهود لم يكن عندهم من التوراة في الصدر
الأول من تاريخهم إلا النسخة التي وضعها موسى - عليه السلام - في صندوق
العهد (التابوت) وأنها فقدت بعد ذلك ولم يكونوا يحفظونها، وأن ما عندهم الآن
يرجع إلى ما كتبه لهم (عزرا) بعد السى ولذلك تكثر فيه الألفاظ البابلية، وهم
يزعمون أنه أُلهم الصواب فيما كتب إلهامًا.. . مع أن ما فيها من الأغلاط المخالفة
للواقع , ومن ذِكر الحوادث التي وقعت بعد موسى , ومن ذِكر موت موسى وعدم
ظهور أحد بعده مثله ومن.. . ومن.. . ما ينقض دعوى الإلهام المذكورة - إلى
آخر ما فصلناه من قبل في موضعه.
وأما مسلم فقد ذكره في بعض أسانيده , ولكن ليس له رواية صريحة عنه
لحديث انفرد به فيكون جرحه موجبًا لحرماننا من الأخذ به، وقال الحافظ ابن كثير:
إن حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) الذي خطّأه المحققون بروايته
له هو , مما أخذه أبو هريرة عن كعب على أنه صرح فيه بسماعه من النبي صلى
الله عليه وسلم وقال في تهذيب التهذيب: وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع من
مسلم في أواخر كتاب الإيمان: وفي حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة رفعه (إذا أدى العبد حق الله وحق مَواليه كان له أجران) قال:
فحدثت به كعبًا فقال كعب: ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد اهـ.
أقول: إنهم قبلوا هذه الزيادة في الحديث؛ لغرورهم بكعب حتى قال النووي:
وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه بتوقيف , ويحتمل أنه بالاجتهاد؛ لأن من
رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله
مسرورًا اهـ , فانظر إلى هذا التأويل المتناقض لهذه الزيادة المتعلقة بأصول العقيدة
بحيث يطلب فيها القطع , وهي أن العبد المذكور والمُزهد - وهو بضم الميم إسكان
الزاي قليل المال - لا حساب عليهما , فهو يجعل الحساب على كبار الأغنياء لأحرار
وحدهم , وهذا مخالف لعمومات الكتاب والسنة القطعية ومعارَض بنصوص خاصة.
وأما ما ذكر من رواية له في آخر كتاب الإيمان منه فهو أن أبا هريرة قال
لكعب إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعوها , فأنا أريد أن
أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) فقال له كعب: أنت سمعت هذا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. روى هذا عن كعب عمرو بن سفيان
الثقفي , انفرد مسلم بروايته عنه وليس له غيره إلا حديث واحد , ولمسلم عن كعب
مثله في الاستفهام من أبي هريرة عن حديث الأمة التي فُقدت من بني إسرائيل
وكونها هي الفار.
وجملة القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم الذي
في صحيح مسلم , ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند
غيره؛ ولذلك امتنع البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته، ومع
هذا كله يجعل المنتقد ما زعمه من رواية البخاري عنه الركن الأعظم لتعديله ,
والخوف على ضياع السنة من جرحه فكلامه حجة عليه.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: ونقل في الفتح انتقاد الداودي لكلمة وهب وكونها مخالفة لحديث الباب الذي رواه البخاري بعدها , وهي على كل حال لا تدل على الورع ولا الورع يقتضي صحة الرواية مطلقًا , وكذا نطقه ببعض الحكم.(26/73)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مجلات وجرائد جديدة
(الإخاء)
(مجلة علمية تاريخية أدبية روائية مصوَّرة , تصدر في أول كل شهر
أفرنكي لصاحبها سليم قبعين) قيمة الاشتراك فيها 80 بمصر والسودان ومئة
قرش في سائر الأقطار - وسليم أفندي كاتب متفنن مشهور , وقد انفرد دون الكُتاب
في مصر بمعرفة اللغة الروسية , فله منها مادة لا يشاركه فيها غيره , وقد أتمت
مجلته السنة الأولى وهي أشق المراحل , فصار الرجاء باستمرارها ونجاحها وطيدًا
وهو ما نتمناه له ولها.
***
(المجلة الشهرية)
مجلة جديدة يصدرها بالقاهرة إسكندر أفندي مكاريوس , ويتولى رئاسة
تحريرها نجيب أفندي شاهين , وقد قال في مقدمتها: (هذه المجلة مرادة للعامة
أولاً وللخاصة ثانيًا , وغايتها مزدوجة وهي إيجابية مع الأولين وسلبية مع الآخرين،
ويكفينا من هؤلاء أن يرمقوها بنظرة عدم الإنكار، لأن الخاصة في كل بلد
متعنتون وإرضاء المتعنت صعب كما جاء في المثل، وتعنُّتُهم هذا ناشئ عن
رسوخهم في العلم وعلو كعبهم في الفن , ونحن إنما نلم بهما إلمامًا هنا) ونقول:
هذه خطة المجلة وهي عن اختيار لا عجز , فإن نجيبًا كاتب بارع تولى التحرير
في المقتطف عدة سنين , وكان قبل إصدار هذه الجريدة أحد محرري جريدة السياسة
وقيمة الاشتراك في هذه المجلة خمسون قرشًا في مصر والسودان و17 شلنًا في
الخارج.
***
(صحيفة الإعلانات)
صحيفة أسبوعية جديدة (تنشر الإعلانات مبوبة , وتبحث في المسائل
الاقتصادية والتجارية والاجتماعية) , تصدر في كل يوم أحد في 16 صفحة كبيرة
منها أربعة باللغة الفرنسية وباقيها باللغة العربية , صاحب امتيازها أحمد شفيق باشا
العالم الإداري الشهير , ورئيس تحريرها الشيخ بولس مسعد من الكُتاب البارعين،
وقيمة الاشتراك السنوي فيها 25 قرشًا في مصر و40 قرشًا في الخارج، والمنتظر
منها أن تخدم النهضة الاقتصادية والصناعية والتجارية خدمة جليلة لم تُسبق إليها.
***
(أم القرى)
جريدة عربية إسلامية أسبوعية تصدر في مكة المكرمة مكان جريدة (القبلة)
التي كان يصدرها الملك حسين، مديرها يوسف أفندي ياسين من أفضل شبان
النابتة العربية السورية , وسنخصها بمقال مطول في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
__________(26/80)
ذو القعدة - 1343هـ
يونيه - 1925م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سبب اتباع المسلم للإسلام
ونفوره من دعوة النصرانية
(س19 و20) من القس الدانمركي ألفرد نيلسن في دمشق
ما هو الذي يجعلك تتبع دين الإسلام كدين الحق، وإذا تعرفت بالتبشير
المسيحي وبالكتب المسيحية فما هو الذي يبعدك ويُنفِّرك عن دعوتها؟
(ج) ثبت عندي أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلاً أميًّا لم يتعلم
القراءة ولا الكتابة، ولا عاشر أحدًا من علماء الأديان ولا التاريخ والقوانين
والفلسفة والآداب، ولا غير ذلك، وأنه لم يكن شاعرًا ولا خطيبًا، ولا محبًّا لما
كان معهودًا بين كبراء قومه وأذكيائهم من الرياسة والمفاخرة والشهرة بالفصاحة
والبلاغة، وإنما كان ممتازًا بين أقرانه في قومه بسلامة الفطرة وحب العزلة
والصدق والأمانة والعفة والمروءة وغير ذلك من مكارم الأخلاق، حتى لقبوه
بالأمين , قضى على ذلك سن الصبا والشباب الذي تظهر فيه جميع رغبات البشر
ومزاياهم , ثم إنه بعد إكمال الأربعين والدخول في سن الكهولة ادعى النبوة , وأن
الله بعثه رسولاً إلى الناس كافة كما أرسل من قبله من الرسل إلى أقوامهم بمثل ما
أرسله به من الدعوة إلى توحيده تعالى وعبادته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله
والدار الآخرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحق والعدل
بالمساواة بين الناس , وغير ذلك من أصول العقائد المعقولة , والآداب العالية ,
والأحكام والشرائع العادلة، التي أكمل الله تعالى بها الدين، وجعله بها خاتم النبيين ,
بما يعد إصلاحًا يفوق جميع ما كان عليه البشر من أتباع الأنبياء وغيرهم , وجاء
بكتاب في ذلك قال: إن الله تعالى أنزله عليه , وأنه وحي من لدنه سبحانه يعجز
جميع البشر عن الإتيان بمثله في علومه ومعارفه وإصلاحه وتأثيره في إبطال الشرك
والخرافات والأباطيل الفاشية في البشر وإصلاح الفطر والقلوب والأعمال لمن
اهتدى به. كما أنه معجز في أسلوبه وبلاغته وتحدَّى الناس بذلك فعجزوا عن الإتيان
بسورة من مثله وجاء فيه من أخبار الغيب الماضية والمستقبلة ما ثبت
ثبوتًا قطعيًّا، ومنه أن الله تعالى سينصره ويخذل أعداءه , ويستخلف قومه وأمته في
الأرض , ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم , وقد وقع جميع ما أخبر به، وما وضح
به صلى الله عليه وسلم أخباره كفتح بلاد كسرى وقيصر , ومنها مصر التي وصى
بأهلها خيرًا، وأيده الله تعالى بآيات أخرى.
ومن أهم ما أخبر به القرآن مما لم يكن يعلمه أحد من قوم الرسول صلى الله
عليه وسلم ولا في بلاده أن اليهود والنصارى {أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ} (آل
عمران: 23) , وأنهم نسوا حظًّا مما ذكروا به، وأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا،
ودخل عليهم الشرك , ومن العجيب أن المسلمين لم يعلموا مصداق ذلك بالتفصيل
إلا بعد اطلاعهم على مجموعة كتب الفريقين وتاريخها , ثم ما كتبه أحرار علماء
أوربة من الطعن فيها، فمن أين عرف ذلك رجل أُميّ نشأ بين قوم أميين لولا وحي
الله تعالى له بذلك؟
فهذه نبذة مجملة في بيان سبب استمساكي بعروة الإسلام , واعتقادي أنه الدين
الحق بالاختصار الذي اقترحه القس السائل.
وأما سبب نفوري من دعوة المبشرين دعاة النصرانية فهي اعتقادي بطلان
دعوتهم في نفسها , فإن أساسها أن آدم عصى ربه فاستحق هو وذريته العذاب
الأبدي بعدل الله، وأن عذابهم ينافي رحمة الله , فلم يجد سبحانه وسيلة للجمع بين
رحمته وعدله إلا أن يحل في ناسوت أحد بني آدم , ويتحمل العذاب والألم واللعنة؛
لتخليصهم من العذاب , فحل في ناسوت المسيح لأجل ذلك , ومع هذا لم يتم له ما
أراد فإنه اشترط لخلاصهم أن يؤمنوا بذلك , ولكن أكثرهم لم يؤمنوا به , ورأيت
جل تأثير هذه الدعوة في الذين يجهلون حقيقة الإسلام تشكيكهم في أصل الدين،
وجعْلهم من الإباحيين، وإيقاع الشقاق بينهم وبين غيرهم , ومن أهم تلك الأسباب
التي جعلتني أحتقر أكثرهم ما ثبت عندي من كونهم يتَّجرون بالدين اتجارًا فيكذبون
ويحرِّفون، ومنهم الملحدون الذين لا إيمان لهم، والمقلدون المتعصبون الذين
يبغضون المسلمين بما تربوا عليه مما لا يجهله القس السائل، ولا أنكر مع هذا أنه
يوجد فيهم المتدين المخلص في دينه، ولكن هذا بحسب اختباري قليل، والله يقول
الحق وهو يهدي السبيل.
__________(26/98)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام وأصول الحكم
بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام
بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها، وتضليل أبنائها
(تمهيد) ما زال أعداء الإسلام الطامعون في ثل عرشه والقضاء على ملكه
وإبطال تشريعه، واستعباد الشعوب التي تدين الله به، يجاهدونه بالسيف والنار،
وبالكيد والدهاء، وبالآراء والأفكار، وبإفساد العقائد والأخلاق، وبالطعن في جميع
مقومات هذه الأمة ومشخصاتها، وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها
وأفرادها، ليسهل جعلها طعمة للطامعين، وفريسة لوحوش المستعمرين، وقد كانت
هذه الحرب السياسية العلمية للإسلام والمسلمين أضر وأنكى من الحروب الصليبية
باسم الدين , فالحرب الصليبية كانت تجمع كلمة المسلمين للدفاع عن حقيقتهم
والمدافعة عن سلطتهم، وهذه الحرب المعنوية فرقت كلمتهم وشقت عصاهم،
ومزقت شمل شعوبهم، وأذاقت بعضهم بأس بعض، فصاروا عونًا لأعدائهم على
أنفسهم , يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
قد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين محو اسم السلطنة العثمانية
الإسلامية من لوح الوجود، وإلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم الصغيرة،
التي أمكنهم استبقاؤها من تلك السلطنة العظيمة , وتأليفهم حكومة جمهورية غير
مقيدة بالشرع الإسلامي في أصول أحكامه ولا فروعها , وتصريحهم بالفصل التام
بين الدولة والدين؛ فذعر العالم الإسلامي وزلزل بعملهم هذا زلزالاً شديدًا،
وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم من نصارى الشرق وملاحدة المتفرنجين
المارقين من الإسلام، ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر، هاتفين لعمل الترك،
وكذلك فعل أمثالهم في سائر البلاد، إلا أن هؤلاء نشطوا لجعل الحكومة المصرية
حكومة لا دينية كحكومة أنقرة فهزئ العالم الإسلامي بدعوتهم وسخر منهم , وراجت
في مقابلتها الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي عام؛ لإحياء منصب الخلافة بقدر ما
تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان.
بينا نحن معشر المسلمين على هذا إذا نحن بنبأة جديدة في شكلها، تؤيد تلك
النزعة الإفرنجية النصرانية في موضوعها، وتلك الفعلة الإلحادية في مشروعها.
بينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة , لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام
صادقًا ولا كاذبًا، بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي ولا
جهمي ولا معتزلي، بل لم تخطر على بال أولئك الزنادقة الذين زعموا أن للإسلام
باطنًا غير ظاهره، فظاهره للعوام الجاهلين، وباطنه للخواص العارفين، وأرادوا
هدم سلطان الإسلام بالإسلام؛ لإعادة سلطان المجوسية الكسروية التي قضى عليها
المسلمون القضاء الأبدي، وإنما سبق الناعق بها اليوم ناعق آخر من متفرنجة هذه
البلاد ومن رجال القانون والقضاء الأهلي , قيل: إنه انضوى إلى دين البابية
البهائية آخر فرق الباطنية , نعق بها هذا الرجل في مجمع عقده لها في الإسكندرية
منذ بضع سنين بخطاب (محاضرة) ألقاه على كثير من رجال القانون , ثم طبعه
ووزعه بالمجان فرددنا عليه ردًّا أعجزه فلم يستطع أن يدافع عن نفسه ولا دافع عنه
أحد من أعداء الإسلام , لا من البهائية ولا من رجال قوانينهم الوضعية الذين
يريدون أن ينسخوا بها الشريعة الإسلامية.
وأما الناعق بهذه البدعة اليوم فمن العلماء المتخرجين في الأزهر ومن قضاة
المحاكم الشرعية {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) , ومن بيت كريم في هذه
البلاد عُرف أهله بالآداب العالية والأخلاق وبالدين أيضًا , خلاصة هذه البدعة:
أنه ليس للإسلام خلافة ولا إمامة ولا حكومة ولا تشريع سياسي ولا قضائي ,
وأنه دين روحاني محض كدين النصارى بالمعنى الذي فهمته شيعة البروتستانت
منهم دون من قبلهم , وأن ما ادعاه المسلمون من عهد أبي بكر الصديق رضي الله
عنه إلى يومنا هذا من أمر الإمامة والخلافة باطل من القول وضلال من العمل،
وفساد في الأرض، لما جعلوه للخليفة من السلطان الديني الإلهي، وإنما أضل
جماعة المسلمين في ذلك الملوك؛ لتوطيد سلطانهم فيهم، وأن أبا بكر كان ملكًا
للعرب أراد أن يحقق وحدتهم. ويجعل السلطان لقريش وحدهم فيهم، وليس له ولا
لمؤيديه حجة من الدين، ولم يكن جميع الخارجين عليه والمانعين أداء الزكاة له
مرتدين عن الإسلام، وأن قتالهم لم يكن دينيًّا بل سياسيًّا للدفاع عن دولة العرب
ووحدتهم، والدين نفسه لم يوجب أن تكون للعرب ولا لغيرهم من المسلمين دولة
ولا وحدة , بل لكل فريق من المسلمين عربهم وعجمهم أن يقيموا لأنفسهم حكومة
يرضونها، ودين الإسلام لم يقيدهم في ذلك بقيد ما , بل هو بريء من كل ما
عزوه إليه من ذلك.
هذه خلاصة البدعة الجديدة التي قام ببثها اليوم في العالم الإسلامي الشيخ علي
عبد الرازق (من علماء الجامع الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية) المصرية بكتاب
ألفه فيها جاوزت صفحاته المائة، وهو يوزعه في الأقطار الإسلامية - على ما
بلغنا - بغير ثمن، وما كان لدعاة الأديان والمذاهب والأحزاب السياسية
والاجتماعية أن يستغلوا دعايتهم ويتجروا بالمال فيها فحسب الديني منهم ثواب الله
في الآخرة، والدنيوي عظمة الدنيا وجاهها والانتظام في سلك مؤسسي الانقلابات
الكبرى فيها.
ولا ينبغي لنا أن نكتفي في بيان ملخص هذه البدعة بما فهمناه من الكتاب من
غير نقل عبارته في النتيجة المرادة منه، وإن كان هذا الملخص مقدمة وتمهيدًا لرد
طويل مفصل نبطل به نصوصه المختلبة، ومقاصده المختبلة، قال في الصفحة
الأخيرة منه (ص103) ما نصه:
(والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون
وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة، والخلافة ليست
في شيء من الخطط الدينية. كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم
ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم
يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى
أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة) ، ثم قال إيضاحًا لهذا:
(لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم
الاجتماع والسياسة كلها , وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه [1]
وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن
ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم) .
أقول: القضية الأولى من هذا الإيضاح حق أريد به باطل وهو ما بعده،
فنظام الخلافة الإسلامية أفضل نظام عرفه البشر , وكان المسلمون أعز الأمم عندما
أقاموه , وما ذلوا واستكانوا لغير ربهم إلا عندما تركوه، وما كان لأمة عاقلة مستقلة
أن تبني قواعد ملكها ونظام حكومتها على أحدث تجارب غيرها من الأمم فتكون
كقدح الراكب لا تستقر على حال من القلق والاضطراب، ومن ذا الذي يحكم لها
بالخيرية بين الجمهورية والملكية، وبين الاشتراكية والبلشفية والرأسمالية مثلاً؟
وإذ كان يقول: هذا حكم الإسلام في المسألة عنده فماذا يقول فيما في القرآن
والسنة من الأحكام السياسية: كالمعاهدات والمعاهدين وأحكام الحرب , والأحكام
القضائية الشخصية كالمواريث والزواج والطلاق والعدة , والأحكام المدنية كتحريم
الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وأحكام العقوبات من حدود وتعزيزات؛ هل
ينكرها من أصلها كما أنكر أحاديث الخلافة والإجماع على نصب الخليفة؟ أم يقول:
إن طاعة الله ورسوله لا تجب فيها، وإنها مستثناة من حكم قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ويستدِلُّ على
ذلك ببعض الشعر الذي يحفظه من الأغاني والعقد الفريد ودواوين الشعراء كما فعل
فيما سنذكره من دلائله في بحث الخلافة.
أم يقول فيها كما قال سلفه والسابق له إلى اقتراح هدم حكومة الإسلام من
أساسها , ونسف أصولها الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس أحمد صفوت
أفندي الذي أشرنا إلى بدعته آنفًا , تلك البدعة التي كانت سببًا فيما نرى لندب
الإنكليز إياه لإصلاح القضاء في فلسطين! ! وملخصها: أن النبي (صلى الله
عليه وسلم) كان حاكمًا للمسلمين , وكانت طاعته واجبة كما تجب طاعة كل حاكم
في زمن حكمه، وأن أحكامه لا يجب أن تتبع من بعده، وأن لكل حاكم في كل
زمن مثلما كان له من ذلك وله بمقتضاه أن يلغي كل حكم كان قبله، لا فرق بين
الرسول وغيره، وكذلك إجماع المتقدمين وأقيستهم لا يجب أن يؤخذ بها من بعدهم
فإجماعنا في هذا العصر خير لنا من إجماعهم، وأقيستنا خير لنا من أقيستهم.
وأما أحكام القرآن فقد صرح بأنها هي التي فرضها الله على المسلمين في كل
زمان دون غيرها , ثم جعل ما عدا المبادئ العامة منها (أي كالأمر بالعدل) ثلاثة
أقسام: ما حرمه الله وما أوجبه وما جوزه - فحكم الأول عنده - وقد مثل له بتحريم
الأمهات والبنات - أن لا يتعرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه! ! وحكم
الثاني عنده - وقد مثل له بالعدة والإشهاد على عقد الزواج - أن يبقى منه ما تتحقق
به الحكمة المقصودة منه , فيستغنى بها عن التزام الحكم نفسه......... [2] حكومة أن
تحرم بالقوانين الوضعية ما تشاء منه , ثم قال ما نصه: (وبذلك ينقض وجوب
التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ الواردة في القرآن) .
فخلاصة رأيه أن كل ما ثبت بالسنة أو الإجماع أو القياس من الأحكام
الشرعية لا يجب على أحد من المسلمين العمل به، وأن أحكام القرآن نفسها لا
يجب العمل بنصوصها ومدلول ألفاظها، وإنما يبحث المسلمون ما داموا يدَّعون
الإسلام عن مرمى المحرمات منها فيراعونه، وعن حكمة الواجبات فيراعونها , وأما
الجائزات فلهم أن يحرموا منها ما أحله الله أو يوجبوه بحسب ما يتراءى لحكوماتهم
في كل زمان.
ولكن ظاهر عبارة عالم الأزهر وقاضي الشرع الذي جاء خلفًا لهذا السلف
القانوني في هدم التشريع الإسلامي أن أحكام القرآن كغيرها لا توجب على المسلمين
التقيد في حكومتهم بها , ولا تمنعهم أن يأخذوا بأحدث تجارب الأمم فيها حتى إذا
فرضنا أن أحدثها وهي البلشفية نجحت فلا حرج عليهم في الأخذ بها.
أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه: إنه هدم لحكم الإسلام
وشرعه من أساسه، وتفريق لجماعته، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في
جميع الأحكام الشرعية الدنيوية، من شخصية وسياسية ومدنية وجنائية , وتجهيل
للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين والمحدثين والمتكلمين،
وبالجملة هو اتباع لغير سبيل المؤمنين , فالإسلام بريء منه بحسب ما فهمه
المسلمون من العصر الأول إلى عصرنا هذا , وإننا سنرد على جميع أبوابه
وفصوله ردًّا مفصلاً جريًا على خطتنا في الدفاع عن ديننا وملتنا، ولكننا لا نقول
في شخص صاحبه شيئًا فحسابه على الله تعالى , وإنما نقول: إنه لا يجوز لمشيخة
الأزهر أن تسكت عنه كما سكتت عن أحمد صفوت وأمثاله، فإن هذا المؤلف
الجديد رجل منهم , فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو
وأنصاره: إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه، فإن كان ردنا عليه
ودحضنا لشبهاته يرفع عنهم إثم الإنكار عليه وتحذير الناس من ضلالته - لأن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات - فإن للأئمة التي توجه
إليهم بالسكوت عن مثل هذا لا ترتفع بردنا وحدنا، بل يحط من أقدارهم في نظر
الأمة كلها، وحاشاهم الله من ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الاستكانة: الذل والخضوع تتعدى باللام لا بـ (إلى) قال تعالى: [فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ] (المؤمنون: 76) .
(2) يوجد هنا بياض بالأصل لم نقف عليه بعد البحث عنه.(26/100)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
مناظرة ابن تيمية العلنية
لدجاجلة البطائحية الرفاعية
(وهي من أعظم ما تصدى له , وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن
تيمية - قدس الله روحه - من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإحياء السنة، ومحاربة البدعة، بعد أن أهمل ذلك الحكام , فالعلماء , ففشت البدع
وصار كثير منها يُعد من شعائر الدين، أو خصائص الصالحين، فكان رحمه الله
من أعظم المجددين) قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين.
(أما بعد) فقد كتبت ما حضرني ذِكْره في المشهد الكبير بقصر الإمارة
والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكُتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم , في
أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس؛ لتشوُّف الهمم إلى معرفة
ذلك , وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع
بعض أطراف الواقعة , ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن
الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويَرَه لانتشار هذه الواقعة العظيمة،
ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا وقهر الناس على متابعة الكتاب
والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة
والتلبيس على المسلمين.
وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم وطريق
الشيخ أحمد بن الرفاعي , وحاله وما وافقوا منه المسلمين وما خالفوهم؛ ليتبين ما
دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه
في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة
المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم، وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في
غير هذا الموضع , وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر
والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتألُّه والوجد والمحبة والزهد والفقر
والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف
ونحو ذلك ما يوجد , فيوجد أيضًا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر،
ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف
بشريعة الإسلام والكذب والتلبيس، وإظهار المخارق [1] الباطلة , وأكل أموال
الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.
وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة , بيَّنت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم
بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم
جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق
مثل ملابسة النار والحيات , وإظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل
والسكر وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد
غير مرة منهم قوم إظهار ذلك , فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن
أسترهم , فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام
فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن
نغتسل بما يذهب الحيلة , ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن
ذلك.
وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التَّتَر بالمشرق , وكان له
صنم يعبده قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم , ويبقى أثر
الأكل في الطعام بيِّنًا يُرَى فيه، فأنكرت ذلك، فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟
فقلت: نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر،
فاستعظم ذلك التتري ذلك , وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل لكن
اليوم بحضورك لم يظهر ذلك , فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك , ذلك
التتري كافر مشرك , ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام , وأنت
كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل
ذلك بحضورك [2] , وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري
بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم
بُلْق فيكم سواد وبياض , فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا.
وقلت لهم في مجلس آخر لمَّا قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن
عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن من الأعراب والفلاحين أو الأتراك أو
العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة , لم يُحسب لكم ذلك , فمن معه
ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص
من المغشوش من الصُّفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك , فقالوا لي: لا
نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا [3] , فقلت: همتي ليست معكم بل أنا معارض
لكم مانع لكم؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا , فانقلبوا صاغرين.
فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ
البر مُطوَّقين بأغلال الحديد في أعناقهم [4] , وهو وأتباعه معروفون بأمور , وكان
يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن , فلما ذكر الناس ما يظهرونه من
الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينًا , يوهمون به
الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وأنه سِيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين
طريقهم: أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع وقلت:
هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة
ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم [5] , ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به إلى الله
تعالى؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد
كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك , وهو أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال: (ما لي أرى عليك حلية
أهل النار) [6] , وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه
بأهل النار من المنكرات , وقال بعض الناس: قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره: (أحب القيد
وأكره الغل القيد ثبات في الدين) فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة [7] .
فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع زيادة , وخوفته
من عاقبة الإصرار على البدعة , وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله , ونحو ذلك من
الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به , وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في
الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله , ولا اتخاذها
طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله
يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة
إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس
مثلهم.
فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به , وهو أن المباحات إنما تكون
مباحة إذا جعلت مباحات , فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم
يشرعه الله، وجعْل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعْل ما ليس من
المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم
ذم الله في القرآن لمن شرَّع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله
بتحريمه [8] فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا
كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعْل مباح أو مكروه أو محرم , لم
يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين
إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما
ليس بطاعة ولا عبادة [9] .
ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين وعهود أهل
الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك , ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين
والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله , لكن قد يكون عليه
كفارة عند الحنث في ذلك , ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد
بالتزامه طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من
طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , واتباع الكتاب والسنة إذ كان المسلمون
متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر
وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله
عليه وسلم , وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما عُلم باتفاق الأمة أنه ليس
بواجب ولا مستحب ولا قربة , لم يجُزْ أن يُعتقَد أو يقال: إنه قربة وطاعة، فكذلك
هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا
ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة
وعمل، وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم
يكن محرمًا لا ينهى عنه , بل يقال: إنه جائز [10] ولا يفرقون بين اتخاذه دينًا
وطاعة وبرًّا وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينًا
بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما وبالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر
السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها
معاصي سيئات.
***
فصل
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة , ومضت على ذلك مدة والناس
يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين،
ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة،
وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر (ذلك الشيخ) لمسجد الجامع , وكان قد كتب إليّ
كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار , وهو كلام باطل لا تقوم به
حجة، بل إما أحاديث موضوعة أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد
عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل , فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب ,
فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك، وحضر عندنا منهم شخص , فنزعنا
الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور
بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ
اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50) ؛
ولهذا غالب وَجْدِهم هوًى مطلق لا يدرون مَن يعبدون , وفيهم شَبَه قوي من
النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ
وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77) ؛ ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء.
فحملهم هواهم على أن تجمَّعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع
مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب , فلما قضيت صلاة الجمعة
أرسلت إلى شيخهم؛ لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم , ونتفق
على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة وكأنهم
اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم , ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر
لي وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم
مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة ,
فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين
الضجيج والعجيج، والإزباد والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، والتقلب
في نهر بَرَدى، وإظهار التوله الذي يخيلوا [11] به على الردى، وإبراز ما يدعونه
من الحال والمحال، الذي يسلِّمه إليهم مَن أضلوا مِن الجهال.
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له: هم مشتكون،
فقال: ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى عليّ ودعوى الاعتداء مني
عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم:
فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا:
بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا:
نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا [12] , قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه
نصرناه، قالوا: نريد أن تشد منا، قال: لا ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو
معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل
إليّ بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم , عرفني بصورة
الحال , وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.
فلما علمت ذلك أُلقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين،
وكشف حال أهل النفاق المبتدعين؛ لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت
البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت
إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال،
وكثر فيكم القيل والقال , وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان , فهو الذي
أوقع نفسه في الهوان , فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين
يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة،
والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة , وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار
الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع
محمد بن عبد الله , وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.
ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع [13] , وذكر أنه لا بد من
حضورهم لموعد الاجتماع؛ فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته
واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن
أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك , وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل،
وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل , وقد كان بقايا الصابئة
أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى
الدهماء , وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه
من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية ,
يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة , ثم إلى الإشراك , ثم إلى جحود الحق
تعالى , ومِن شِرْكهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن
الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق كالملحدين من أهل الاتحاد ,
والغالية من أصناف العباد , فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب
أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو
المسبب لجميع الأسباب , وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء،
وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به
على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالاً لا
يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء , وأن شيخهم
هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن
المنكِر عليهم ما هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر ,
وأن لهم طريقًا وله طريق , وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى
ذات الزخرف والتزويق , وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على
الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور
الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في
دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول
قائل.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أطلقوا اسم المخارق والمخاريق على الخوارق المفتعلة بالحيل والتلبيس والشعوذة , وهي في أصل اللغة ضرب من لعب الصبيان.
(2) لعل ذلك الشيطان من شياطين الإنس كأن يأكل من الطعام في غفلة من ذلك الأمير الخرافي , ويوهمه أن الصنم أكله لمصلحة له في التلبيس عليه.
(3) أراد بهذا رشوة شيخ الإسلام بمشاركته في هذا الجاه الباطل على حد [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] (القلم: 9) .
(4) رأيت مثل هؤلاء في الهند من متصوفة الشرك.
(5) أي يقتدي بسيرتهم لموافقتها الكتاب والسنة كالجنيد.
(6) رواه النسائي وله تتمة.
(7) أصل الحديث في الصحيحين وهذا لفظ مسلم وبعده: فلا أدري هو هو في الحديث أم قاله ابن سيرين اهـ؛ أي رواية عن أبي هريرة , وفي رواية له إسناده إلى أبي هريرة وليس في رواية البخاري له شيء من الشك المذكور.
(8) بل جعله من الشرك أو الكفر المتعدي الذي هو أضر من الشرك كما بيناه في تفسير [وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] (الأعراف: 33) وغيره راجع ص398-404 من جزء التفسير الثامن , وكذا ص143 و147 و164 و181 منه.
(9) لعله سقط من هنا: طاعة وعبادة، منصوبين.
(10) سقط جواب (إذا) من الناسخ , ومعناه أنهم يرون جواز جعله قربة وعبادة , وهذا مثار كثير من البدع المحدثة , وذكر لي بعض علماء الأزهر في هذه الأيام أن بعض كبار علمائه كانوا يتكلمون فيما يتكره الوهابية من بدع القبور وغيرها , ويستحسنون ذلك , فقال بعضهم منكرًا: ولكنهم منعوا أن يستشفع بأصحابها الصالحين , فقال له شيخ الأزهر (الأستاذ أبو الفضل الجيزاوي) : هذا هو الشرع فقال المنكر: ما دليله؟ فقال الشيخ: إنما يطلب الدليل على الإذن به لا على المنع، فدل هذا على أن الشيخ - أيد الله به السنة - أعلمهم.
(11) كذا ولعل أصله تحيلوا أي اتخذوا الحيل وسيلة للجاه فساقتهم إلى الردى , ذلك بأن أفعالهم التي ذكرها ولباسهم وأغلالهم لها تأثير عظيم في قلوب العوام وأصحاب الأوهام.
(12) هذه كلمة باطلة قالها بعض الفقهاء المغرورين بالدجل , فاتخذها الدجاجلة أصلاً شرعيًّا وحكمًا إلهيًّا.
(13) لعل أصله الأمير المطاع.(26/105)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العالم الغربي والعرب والإسلام
(2)
وماذا يقول الإنسان وماذا عساه أن يباحث أو يناظر لا يخجلون أن يقولوا:
إن الأوربيين بقوا أصدقاء للمسلمين ثلاثة قرون، وأنهم ما ثاروا للحرب الصليبية
إلا بسبب الأتراك، بما تعدوا به على أمم البلقان وعلى شواطئ الإدرياتيك.
مرارًا تمنينا أن الذي لا يعلم شيئًا لا يتشدق به، ومرارًا أملنا أن الذي يرى
نفسه مخطئًا يتجنب الخوض فيما لا يعرفه، إن القارئ ليرثي لهذا القول ولهذا
القائل، وأحيانًا يغلب عليه الضحك، فإنه عندما زحف الأوربيون إلى سورية
وفلسطين لم يكن فيهما أتراك، وما كان الترك إلا في قونية وإن كان الترك حاربوا
الصليبيين في قونية وأنهكوهم نوعًا، فتكون تلك منهم خدمة للعرب الذين كانوا
يومئذ هدفًا للصليبيين، وكان هؤلاء زاحفين إليهم، فإن الصليبيين كانوا قاصدين
القدس والشام والحجاز ومصر لا قونية التي لم يكن لهم شغل بها، والقدس
والشام ومصر والحجاز لم تكن تركية بل عربية، ثم لما قصدوا مصر لم تكن مصر
للأتراك، ثم لما قصدوا تونس في زمان مارلويس لم تكن تونس للأتراك، ثم لما
قصدوها وأخذوها في زمن شارلكان لم تكن للأتراك، ولما استولوا على وهران
وأكثر سواحل مراكش لم يكن شيء من ذلك للأتراك، ولما قصد البرتغاليون
زنجبار في القرن الخامس عشر، وأزالوا منها ملك العرب ثم عمان واستولوا عليها
لم يكن ثمة أتراك، ولما تحالفوا مع الحبشة وقصدوا محاربة مصر وتحويل النيل
الأزرق عن مصر لم تكن مصر للأتراك، وجميع الحروب التي قد وقعت بين
الإفرنج وعرب الأندلس وممالك المغرب لم يكن شيء منها بسبب الأتراك، ولا كان
هناك أتراك، ومما يقهقه له الإنسان من الضحك؛ كون الإفرنج غضبوا على
المسلمين وحاربوهم؛ لكون المسلمين كانوا يُصلون لانتصار الأتراك.. . وانظر
إلى هذه الجملة وتأمل ما فيها من الادعاء مع خلو معناها التام من الصحة وهي هذه.
(إن التاريخ يوضح بما لا يحتمل التأويل ولا يقبل الشك ولا يجوز معه
الجدل ولا نسوغ فيه مناقشة أن العالم الغربي (أي أوربا) بقي ملازمًا صداقة
المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي الشهير عليه، إلى أن
قام الأتراك وتعديهم عليه تباعًا في سهول البلقان وعلى الشاطئ الأدرياتيكي؛ مما
حرك فيه عامل الانتقام لزعمه؛ وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم الإسلامي راضٍ
عن أعمال الأتراك هذه طالما مئات ملايين تصلي لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر
الترك المسلمين على أعداء دينهم) انتهى بنصه الشائق.
ولا يعلم الإنسان ماذا يصلح وماذا يصحح من الأغلاط في هذه الجملة التي
يظهر أنها قرئت في كتاب إنكليزي، فعربت بهذه الصورة، واتخذت حجة،
وظنت آية منزلة، وصارت لا تقبل الشك، ولا تحتمل التأويل.. نقول:
أولاً - عندما قصد الإفرنج الشرق إنما كان مقصدهم بلاد العرب ولم يكن
حينئذ بها أتراك.
ثانيًا - اعتدى الإفرنج على مصر وجزيرة العرب وطرابلس وتونس
والجزائر والقطر المراكشي وعرب الأندلس حينما لم يكن فيها أتراك، ولا لها
علاقة بالأتراك كما قلنا.
ثالثاً - عندما زحف الإفرنج في الصليبية الأولى (سنة 1099) إلى بيت
المقدس لم يكن الأتراك وصلوا إلى سهول البلقان تباعًا ولا إلى الشاطئ الأدرياتيكي
حتى يقال: إن العالم الغربي انتقم من غارات الأتراك في سهول البلقان والشاطئ
الأدرياتيكي بالاعتداء على العرب في القدس والشام ومصر، فإن الإفرنج زحفوا
إلى سورية وفلسطين في القرن الحادي عشر، وأن الأتراك زحفوا على سهول
البلقان والساحل الأدرياتيكي في أواخر القرن الرابع عشر، فبمقتضى هذه العبارة
يكون الإفرنج انتقموا من العرب في بلاد العرب عن أعمال عملها الترك معهم تباعًا
في سهول البلقان والساحل الأدرياتيكي، قبل وقوعها بأربعة قرون ونصف، وهل
تظن أن المكابر يعدل عن عناده ولو ظهر له هذا الجهل الفاضح ممن نقل عنه
وصدق كلامه؟ كلا قد جربنا ذلك من قبل فلم يزل الذي يعرف بما لا يعرف مصرًّا
على خطئه.
رابعًا - كيف بقي العالم الغربي ملازمًا صداقة المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد
انتصار صلاح الدين عليه، وصلاح الدين انتصر على الإفرنج سنة 1192، وبعد
ذلك جرت الصليبية الثالثة التي كانت أشد الصليبيات، وبقيت الحرب فيها على
عكا سنتين ثم عقبتها الصليبية الرابعة سنة 1204، ثم الصليبية الخامسة سنة
1221، ثم الصليبية السادسة سنة 1229، ثم الصليبية السابعة سنة 1252 التي
غزوا فيها دمياط، ثم الصليبية الثامنة سنة 1270 في زمن لويس التاسع وفيها
غزوا مصر، وأُسر فيها مارلويس وبعد أن فدى نفسه عاد فغزا تونس، ومات في
حصارها.
فهذه كلها حروب اعتداء في اعتداء على المسلمين، لا سيما على العرب
الذين ذاقوا فيها من الأهوال والنكبات ما لا يوصف، وكلها من بعد صلاح الدين
وضمن ثلاثة قرون (الصداقة) التي زعمها صاحب تلك الجملة المعربة، فإن
كانت هذه هي الصداقة فيكف تكون العداوة يا تُرى؟ ثم بعد تلك القرون الثلاثة
حروب أخرى تقدم ذكرها لم يكن فيها أدنى رائحة للأتراك، وإنما اضطر عرب
المغرب بتوالي تعدي الإفرنج عليهم إلى استنجاد الأتراك، الذين استخلصوا تونس
والجزائر ووهران في زمن سليمان القانوني، كما أن سواحل مراكش استخلصها
من البرتغال مولاي إسماعيل سلطان قابوس العظيم جد الأسرة السلجماسية، على
أنه من الحقائق التاريخية أن الذي زاد رابطة العرب بالأتراك هو ما رأوه فيما بعد
من جهاد الأتراك في دفع الإفرنج عن البلاد العربية، فالإفرنج هم الذين أحوجوا
العرب إلى الأتراك.
خامسًا - مضحك جدًّا قوله: إن العالم الغربي تحرك فيه عامل الانتقام لزعمه
أن العالم الإسلامي راضٍ عن أعمال الأتراك يصلي لله سرًّا وعلانية؛ لنصر
الترك المسلمين، فالعالم الغربي يذبح تلك الأمم ويوقع تلك المصائب كلها في أقوام
كل ذنبهم أنهم صلوا لنصرة أبناء دينهم بالقتال فعلاً - كما يتطوع ألوف من الإنكليز
وغيرهم اليوم في حرب الريف بجانب الأسبان - حقًّا قائل هذا القول الإفرنجي لا
يخجل، ومصدقه يستحق الرثاء، لا يكفي الإفرنج أن قصدوا القدس من أقصى
بلادهم، وخربوا ديار الشام، ونسفوا الحضارة العربية، ودخلوا بيت المقدس؛
فالتجأ المسلمون إلى المسجد الأقصى فدخلوا إليه وذبحوهم عن آخرهم نساء ورجالاً
وأطفالاً، وكانوا سبعين ألفًا حتى غاصت الخيل في الدم إلى صدورها، وامتلأت
القدس بأشلاء القتلى فاستحيا الإفرنج ثلاثمائة من المسلمين؛ لأجل نقل الجثث
وتنظيف الشوارع من الدماء، وبعد أن فرغوا من عملهم هذا عاد الإفرنج فقتلوهم
أيضًا، وارتكبوا فظائع لا يسع المقام ذكرها، بل بعد ذلك كله يأتي واحد فيقول:
(إنما فعلوا ذلك) لأن العالم الغربي زعم وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم
الإسلامي راضٍ عن الأتراك الذين اعتدوا على العالم الغربي في سهول البلقان
والشاطئ الأدرياتيكي، أي أنه يعطي العالم الغربي الحق في هذه المذابح بأجمعها
التي مذبحة المسجد الأقصى واحدة منها، ويرى الذنب ليس من العالم الغربي بل
من المسلمين الذين (صلوا لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر الترك المسلمين أبناء دينهم
(أفلا تراهم يستحقون هذه المذابح وقد صلوا هذه الصلاة؟ هذا ولو كانوا صلوا
لنصر الأتراك قبل وصول الأتراك إلى الأدرياتيكي بأربعمائة سنة.. . هنا حيلتي
مع الذي لا يعرف ما يقول أصبحت قليلة.
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
وماذا عساني أن أعد من تلك الحقائق الناصعة والآراء الصائبة [1] ؟ أقول له:
إن بلاد شمالي أفريقية بقيت عربية؛ لكون العرب ثبتوا فيها، لا من أجل كونها
إسلامية؟ لم نعلم أي مؤرخ شرقي أو غربي أو فيلسوف اجتماعي قال هذا القول،
ولا كيف يتصور العقل أن مراكش والجزائر وتونس وطرابلس تبقى عربية بدون
إسلام، وأية رابطة تبقى للبربر الذين هم القسم الأعظم فيها مع العرب إن لم يكن
الإسلام؟ وأية قوة كانت للعرب على البربر ليس في الوقت الحاضر فقط بل في
وقت الفتح نفسه إن لم تكن قوة الإسلام، فإن فتح العرب لهذه الأقطار باتفاق جميع
المؤرخين شرقًا وغربًا إنما تم واتسق بدخول البربر في الإسلام وليس بسبب آخر.
أم ذلك القول: بأنه يجب أن نترك هذا الحلم الجميل الذي هو نشر العربية
بواسطة القرآن والهزء بهذا (الحلم الجميل) ؟ فهذا أيضًا من الفلسفة التي عجزت
العقول عن إدراكها.. . نعم إن المستعمرين ولا سيما الإنكليز تعجبهم هذه النقمة،
ويتمنون انتشارها ورواج هذا التضليل بين العرب طمعًا في حص أجنحة الأمة
العربية التي تخشى إنكلترة انتظام شملها واستئناف دولتها أكثر كثيرًا مما تخشى
الأتراك، وهذا هو السبب الوحيد في كوننا نُعنى بإدحاض هذه الأقاويل وإزالة
تلبيسها، وإظهار ما فيها من العته؛ لئلا يلصق منها شيء بأذهان الجالية العربية
بأميركا وفيها كثير من السذج وغير المتعلمين، ومن ربما يظنون أن تلك الأقاويل
على شيء من الصحة، فمعلوم عند الجميع أن كل الأمم العظيمة والصغيرة تجد
وتدأب في نشر لغاتها، وتؤسس لذلك المعاهد العلمية، وتنفق عليها القناطير
المقنطرة، وكلما ازداد انتشار لغة ازدادت سعادة المتكلمين بها وحق إعجابهم، فإن
انتشار لغة أمة من الأمم يعتبر إضافة لعدد كبير من غير أبنائها إليها، فضلاً عما
يُستجلب إليها من الميول؛ لأن من عرف شيئًا أحبه ومن جهل شيئًا عاداه، والأمة
العربية تجسدها سائر الأمم على كون لغتها هي لغة سبعين مليونًا من العرب
والمستعربين - المستعربين بسبب الإسلام ونفوذه الماضي لا يسبب آخر أصلاً -
واللغة الدينية لثلاثمائة وخمسين مليون مسلم في الأرض قد امتزجت بلغاتهم
الأصلية، وتشكلت منها أكثر ألفاظهم العلمية، وهذا كله بدون شيء من العناء
الذي يعانيه الإفرنج، لأجل نشر لغاتهم، أفمثل هذا الغرض الذي ترمي إليه كل
الأمم الراقية، وتبذل من أجل بعضه الجهود والأموال الطائلة يهزأ به؟ ويقال عنه:
(حلم جميل) لا فائدة لنا به.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
ثم عاد الكاتب إلى ذكر تلك الدعوى الغربية الغريبة في تعليل حرب
الصليبيين للعرب بأسلوب آخر وقفّى عليه بقوله:
ربما قيل لي: كررت هذا المعنى كثيراً ولم تزل ترجع إليه، فأقول: بلى؛
لأنه أعجبني وأطربني جدًّا، وحقًّا أراد أن يعامل ويغلط من يباهت في الحقائق التي
لا يختلف فيها اثنان، فليأت بمثل هذه المزاعم وليُضحك قُراءه ويُطربهم وإلا فلا، ولا سيما عندما يقول: إن هذه الرواية هي مما لا يحتمل الشك ولا التأويل، ولا
يقبل الجدل ولا يسوغ المناقشة) أنه هو كون الإفرنج لم يقصدوا سورية، ولا خربوا مدنها، ولا طمسوا حضارتها العربية، ولا ذبحوا مئات الألوف من أهلها
كالشياه، ولا أجروا الدماء في المسجد الأقصى حتى غاصت الخيل فيها إلى
صدورها، ولما وصل الخبر إلى بغداد قام العويل وعلا البكاء وهجمت العامة
على دار الخلافة، وكان يومًا عظيمًا، كلا لم يعملوا شيئًا من هذه الأفعال سنة
1099 إلا نكاية بالأتراك عن حروب مستقبلة سيعملونها نحو سنة 1400
إلى 1450.
وهذه أشبه بما كانت دول الحلفاء تقول للعرب قبل الحرب العامة وفي أثنائها:
وهو أن هذه الدول (دول الحق والعدل) ليس لها غرض سوى تحرير العرب
من عبودية الأتراك، وإنزال العقاب في هؤلاء الأتراك البرابرة، وتأسيس استقلال
للعرب يستأنفون به مجدهم السابق، وما زالوا يكررون هذا التدجيل على العرب
وصدقهم فيه كثير من معاتيه الله في ملكه كما يقال - ولا يزال بعضهم مصدقًا -
حتى وضعت الحرب أوزارها، فكانت الدائرة الحقيقية هي على العرب، وظهر
الغش والخداع وغدروا بالحسين بن علي حليفهم وهزؤوا به وهم الآن بهذه المدة بعد
سقوطه يحاولون إخراجه من العقبة التي هي من أراضي الحجاز الصرفة، وهو
أصبح لا يكره أحدًا في العالم كرهه للإنكليز، حال كون الأتراك الآن ناعمين
بملكهم مستقلين أكثر من ذي قبل (والعالم الغربي) يتزلف إليهم ظاهرًا.
لا تثقل علينا هذه الأقاويل من أجل تضمنها محاربة الدين الإسلامي أو
الجامعة الإسلامية، فإننا نحترم جميع الآراء والمذاهب، ونقرأ كلام كثيرين ممن
يجاهر بالإلحاد أو التعطيل، أو يحارب الدين المسيحي خاصة أو الدين الإسلامي
خاصة، ونأخذ كثيرًا من أقوالهم بعين الاعتبار [2] إذا كان أصحابها من ذوي العلم
والاطلاع والفلسفة والتاريخ، لا بل نعجب بهم وبسعة علمهم إذا كانوا نظير الدكتور
شبلي الشميل والأستاذ الزهاوي وأمثالهما، والجامعة الإسلامية لا نفهمها إلا بمعنى
الرابطة التي يقدر أن يستفيد منها الأمم المستضعفة منهم على قدر إمكانهم؛ لأن من
سنة الخلق أن الضعفاء يتفقون والأقوياء يختلفون، وإذا كانت إنكلترة اليوم وهي
أقوى الأقوياء تدعو فرنسة وإيطالية وأسبانية لتشكيل جبهة واحدة في وجه الإسلام
فما ظنك بالمسلمين الضعفاء، الذين هم أحوج إلى الانضمام، وكون ابن عبد
المؤمن لم ينجد صلاح الدين أثناء الحرب الصليبية على الإفرنج - على رواية أنه
لم ينجده - ناشئ عن كون الإسلام قويًّا يومئذ لا يخشى عليه بالجملة، على أن ما
جاء مخالفًا للواجب لا يجوز أن يكون قياسًا، فقد وُجد في ملوك فاس من أسقطه
أهل مملكته فذهب إلى الأسبان، وجاء بهم، وقاتل قومه، أفنجعل ذلك مثالاً ونقول:
إن خيانة الملك لقومه ليست بشيء، فقد فعل الملك فلان ما هو كيت وكيت؟ وكم
في تاريخ الإسلام من حوادث سيئة، وأخبار منكرة عن ملوك وأمراء ووزراء مما
لا يخلو منه أمة أفنتخذ ذلك حجة ونقول: ما دام فلان سرق فيجوز لي أن أسرق
وما دام فلان قتل فلا حرج علي في أن أقتل؟
وليس بالضروري الاستمساك بالجامعة الإسلامية دون سواها، فالجامعة
الشرقية هي أوسع منها وأكثر وسائل، ولقد استعدت لها الأمم الشرقية منذ أمد،
وتأسست في طوكيو جمعية؛ لغرض تحرير الأمم الأسيوية من رق أوربا , وصل
فيها مؤخرًا اجتماع يقال: إنه لم يسبق له مثيل في الازدحام والاكتظاظ، وخطب
فيه خطباء من الصين واليابان في موضوع اتحاد الأمم الأسيوية، ووجوب
تضامنها وتعاضدها لرفع سلطة العالم الغربي عنها، وستنمو هذه الجمعية ويكون لها
شأن عظيم.
وكان يود الإنسان أن لا يكون من حاجة إلى جامعة إسلامية ولا إلى جامعة
شرقية، وأن ترتفع الفوارق الدينية والوطنية، وتصير الجامعة هي الجامعة
الإنسانية لا غير، ولكن مع الأسف نقول: إن (العالم الغربي) لا يزال بعيدًا من
هذه الإحساسات، محتقرًا غيره مجوِّزًا لنفسه استعباد سائر الشعوب في السياسة
وفي الاقتصاديات وفي كل شيء، بحيث لا يقدر الشرقيون أن يسترسلوا إليه أو
يثقوا به، فإذا قام واحد مع ذلك يناضل عن (العالم الغربي) بعلم وحكمة وإنصاف
وروايات صحيحة شأن العلماء - سَرَّ الإنسان أن يناظرهم ولو كانوا سائرين في
عكس خطة الشرقيين، وأما النضال عن (العالم الغربي) بمثل هذا الخلط الذي قدمت لك أنموذجات منه فهو شيء مزعج لا يطاق، ويخشى الإنسان منه على أذهان البسطاء. اهـ.
__________
(1) يعني أقوال ذلك المتفرنج الملحد الذي يرد عليه.
(2) المنار: المراد بالاعتبار ما فيها من العبرة والموعظة.(26/116)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله
(4)
تتمة شرح مطالب الأزهريين
(المطلب السادس) : (تعديل الكشف الطبي بحيث لا يُمنع من تولي
وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ، ومعاملة العلماء معاملة خاصة في
الكشف الطبي بوزارة المعارف، وحفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف
التدريس بالأزهر، ووظائف الإمامة والخطابة بالمساجد) .
إن من ينظر إلى الإجراءات التي يتخذها ما يسمونه (القومسيون الطبي)
ليثبت بها صلاحية الشخص للوظيفة، يجد تلك الإجراءات شديدة وقاسية، وهي
أشد وأقصى إذا عومل بها الأزهريون، الذين اعتادوا أو عودهم ولاة الأمور أن لا
يُعتنى بهم صحيًّا، وأن يتركوا لجيوش الأمراض المختلفة تفتك بهم، فأماكن
الدراسة في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح - ولم توجد إلا لتكون أماكن
للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة القاسية، وفي زمني الحر
والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف الصحة الجيدة، هذا إلى
المتاعب الكثيرة التي يستلزمها الانكباب على الدرس والتحصيل، سيما في العلوم
الأزهرية البعيدة الغور والطويلة المدى، ولا ريب أن ذلك كافٍ لأن يحول دون
استيفاء خريجي الأزهر للشروط التي يفرضها القومسيون الطبي، فلابد أن تكون
للأزهريين معاملة خاصة تراعى فيها الاعتبارات التي ذكرنا، سيما أن هذه
الإجراءات لم يكن للأزهريين بها عهد، ولم يقيدهم بها قانون، على أنه إذا أجيب
ما نطلب بشأن أماكن الدراسة وغير ذلك من المطالب فقد يكون لولاة الأمور الحق
في أن يعاملوا من ينتفع بهذه الإصلاحات معاملة بقية إخوانهم خريجي المدارس.
وإذا ثبت بما ذكرنا وجوب تعديل الكشف الطبي بالنسبة للأزهريين، فإنا
نذكر أن هذا الطلب يشمل أموراً ثلاثة:
(1) أن لا يمنع من وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ.
(2) أن يعامل العلماء إذا عينوا للتدريس بوزارة المعارف معاملة خاصة
كالاكتفاء بنصف نظر في مجموع العينين.
(3) حفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف التدريس بالأزهر، ووظائف
الإمامة والخطابة بالمساجد، ونكتفي بما قدمنا عن الكلام في الأمرين الأولين،
ونتكلم عن الأمر الثالث.
ذلك أن المكفوفين الذين يمضون زمنًا طويلاً في الأزهر، يكدون؛ لنيل
شهادة العالمية - هم أولى الناس بالعطف عليهم، وأجدرهم بالأخذ بناصرهم فلابد
أن يفتح لهم باب الأمل بما يتناسب مع كدهم واجتهادهم وما أحاط بهم من اعتبارات
أخرى، أما حرمانهم نهائيًّا من كل عمل فمعناه أنهم ليسوا أهلاً لشيء، وأنهم
أضاعوا حياتهم سدى، وهو تصرف لا يستطيع إنسان تبريره أو الذود عنه، سيما
أن كلهم أو جلهم يحتاج بعد تخرجه إلى المعونة وما يسد به رمقه في الحياة وإلى ما
يجعله كذلك عضوًا نافعًا في الهيئة الاجتماعية، فلابد أن يعطوا حظهم من الإنصاف
والرعاية.
وإذا طلبنا لهم حق التدريس بالأزهر، وهو ما كان حقهم حتى الزمن القريب
وحرمتهم منه القوانين الحديثة؛ فإنا لا نطلب لهم ما لا يستطيعون، فكثير منهم في
كل زمان كانوا من رجال العلم النابهين وأساطينه الأجلاء.
ولا يزال العلم والدين مدينين لأمثال عبد الله بن عباس وعبد الله بن أم مكتوم
وو، في العصور الغابرة، وإن كثيرًا من مكفوفي العصر الحاضر في الأزهر
خاصة وفي مصر عامة لدليل جدي على أن الله عوض هذه الطائفة المسكينة من فقد
أبصارهم ذكاء حادًّا، وفكرًا ثاقبًا، وقلبًا بصيرًا، وليس من مصلحة العلم والدين
أن تقبر تلك المواهب، ويحرم الناس من الانتفاع بها بحجة أن أهلها غير مبصرين.
على أنه لا يزال إلى اليوم عدد كبير من علماء الأزهر المكفوفين يباشرون
التدريس بالأزهر، وليس من يعيب كفايتهم فيما يكلفون به من مختلف الفنون.
وإذا كان التدريس بالأزهر من الحقوق الضرورية للمكفوفين، فإنه يستلزم أن
لا يحرموا من دخول قسم التخصص بالأزهر، ومما يساعد ذلك أن المرسوم الملكي
الكريم الصادر بإنشاء قسم التخصص، لم يشترط لدخوله سوى نيل شهادة العالمية
دون أن يفرق بين مكفوف ومبصر، فلا يصح مع هذا الإطلاق أن يكون التخصص
وقفًا على طائفة خاصة لتهمل طائفة أخرى هي أحوج الناس إلى المعونة والعطف.
وأما حقهم في الإمامة والخطابة فليس لأحد أن يقول: إن بهم مانعًا من الأهلية
له فمن الواجب أن يعطوه؛ لتُكفَل لهم حاجتهم الضرورية، ولينتفع المجتمع بكثير
من الكفايات التي منَّ الله بها عليهم.
(المطلب السابع) : (إرسال بعثات إلى الجامعات الأوربية؛ لدراسة العلوم
التي تتناسب مع التعليم في الأزهر، واتخاذ الطرق التي تكفل ذلك) .
لقد دهش بعض الناس لهذا الطلب، واعتبروه غريبًا في ذاته، وأنه لا يليق
بطالب العلم الديني، ولكن الأزهر الناهض الذي يريد أن يستعيد مجده وكرامته،
وأن يشغل المركز الجدير به بصفته أكبر جامعة شرقية إسلامية، يجب أن ينال هذا
المطلب الضروري، وأن تتخذ له الوسائل التي تكفل نجاحه.
أوَلَسْنا في حاجة لعلوم جديدة في حياة الأزهر الجديدة؟ أو قل: إلى دراسة
تلك العلوم التي جاءت الأزهر منذ زمن غير بعيد - كالتربية - دراسة وافية؟
ثم أليس من اللازم مثلاً أن ندرس في جامعات أوربا فلسفة الديانات وغيرها
من العلوم التي لها علاقة بالأديان، وإلا فكيف نفعل ونحن نرى الأجانب يدرسون
إلى جانب دينهم ديننا أيضًا؛ ليتقولوا علينا إذا شاؤوا، وليحرفوا الكلم عن مواضعه،
في الوقت الذي لا ندري نحن من دينهم شيئًا لنرد باطلهم بحقنا! !
فمن الضروري أن نلم بذلك كله، ونتوسع فيه توسعًا نتمكن به من تأدية
واجباتنا على الوجه الأكمل، فإن في عنقنا واجب الدفاع عن الدين وإذاعة شأنه بين
الناس، وذلك يستلزم الوقوف على كل ما له مساس بالأديان.
ومن الضروري أيضًا أن يكون من البعثة الأزهرية من يتخصص في الفلسفة
والتاريخ والعلوم العقلية، فنكون قد عملنا على أن نعيد للعلم في الشرق والأزهر
قوته وشبابه، وفي ذلك مفخرة عظيمة لمصر تجعلها على الدوام قبلة رواد العلوم
والآداب في الشرق عامة.
ولقد فطن إلى ذلك منشئ مصر الحديثة محمد علي باشا، فأرسل بعثات
كثيرة إلى الخارج كانت كلها أو أغلبها من الأزهريين، وقد كان أولئك المبعوثون
بعد عودتهم قواد النهضة العلمية المزدهرة التي غمرت مصر، ورددت البلاد
الشرقية صداها، وكان لها منها الأثر الجميل.
وإذا كان هذا أثر البعثات الأزهرية في الماضي، فإن بوسع مصر في
الحاضر أن تستفيد مما يمتاز به الأزهر من نشاط وكفاية ودأب على العمل واستعداد
للتفوق والنبوغ، فترسل إلى الخارج من الأزهريين من يكون عونًا لها في مستقبلها
المحتاج إلى الكفاح الشديد في سبيل سعادة الأهلين.
وما يقوله بعض قصار النظر: من أن إرسال الأزهريين إلى الخارج مفسد
لدينهم هو من باب الوهم الذي لا يقبله عقل، فإنما يفتتن عن دينه أولئك الجاهلون
بالدين الذين لم تمتزج تعاليمه بأنفسهم، ولم يدركوا أسراره ومبادئه لا الأزهريون
الذين هم أعرف الناس بالدين، والذين عملوا جهدهم لحفظه، وكانوا على الدوام
حُماته الأمجاد وحراسه القادرين.
وإذا قال أحد: إن الأزهريين لا يملكون الوسيلة التي يتمكنون بها من السفر
إلى الخارج كإتقان اللغة الأجنبية؛ فإنا نرد عليهم بأنا نقبل عن طيب خاطر أن
ينشأ قسم اختياري بالأزهر لتعليم اللغات، يستطيع بواسطته الطالب إتقان اللغة
التي يريدها؛ ليكون على استعداد للسفر، وليس في تعليم اللغة الأجنبية وإتقانها ما
يمكن أن يكون موضع اعتراض من الوجهة الدينية أو غيرها، على أن عددًا غير
قليل من الأزهريين يدرس الآن بعض اللغات خارج الأزهر، وكثير منهم يتقن هذه
اللغات التي يدرسها، مما يدل على استعداد الأزهريين للسفر في البعثات من الآن
إذا أجابهم إلى طلبهم ولاة الأمور.
(المطلب الثامن) : (إيجاد أمكنة صحية صالحة للدراسة غير الأمكنة
الحالية التي يدرس فيها الطلبة) .
لقد قلنا فيما سبق عند الكلام على الكشف الطبي ووجوب تعديله بالنسبة
للأزهريين: (إن أماكن الدراسة الحالية في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح
ولم توجد - إلا لتكون أماكن للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة
القاسية، وفي زمني الحر والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف
الصحة الجيدة) والآن نقول: إن هذه الأماكن التي يدرس بها الأزهريون لا
تستوفي شرطًا واحدًا مما توجبه التربية الحديثة، فالطلبة يضطرون للجلوس
متربعين طول يومهم، لا يحول بينهم وبين الأرض سوى حاجز بالٍ من الحصير،
لا يدفع رطوبة ولا يمنع أذى، ولا ريب أن تلك الجلسة الدائمة على الشكل الذي
ذكرنا مما يعرض صحة الطلبة للضعف، ويجعلهم عرضة لشتى الأمراض، فضلاً
عن تشتيت أذهانهم، وفقد انتباههم أثناء إلقاء الدرس، مع أن الانتباه واجتماع
الذهن ضروريان؛ ليستفيد الطالب مما يُلقَى عليه استفادة صحيحة قيمة.
هذا مع أن في تجاور الدروس بدون حاجز يفصلها عن بعضها ما يدعو لاختلاط
أصوات المدرسين والتهويش على بعضهم، وما يتبع ذلك من الجلبة والضوضاء
وسماع الطلبة الذين يجلسون في آخر الحلقات أصوات مدرسي الفصول الأخرى؛
التي قد تكون أصواتهم أقرب إليهم من أصوات مدرسيهم، وإن أقل نظرة لحالة
الدروس بالأزهر وقت انتظامها تكفي للاقتناع، وليس هذا من المصلحة في شيء،
على أنه ليس هناك ما يصح أن يسمى موازنة بين أماكن الدراسة بالمعاهد الدينية
والمدارس الأخرى، من حيث استيفاء الشروط التي تستوجبها التربية، فإن شرطًا
واحدًا من الشروط التي توجبها لا يوجد بأماكن الدراسة بالأزهر، في الوقت الذي لا
تنقص فيه المدارس الأخرى شرطًا واحدًا، ونحن على يقين بأن ذلك لا يرضي ولاة
الأمور؛ لأنهم مقتنعون بأنه من الضروري لمصلحة الطلبة ولتمام الاستفادة المدرسية
صلاحية الأمكنة للدراسة، واستيفاءها للشروط اللازمة، وذلك ما يجب أن ينظر إليه
بعين الاعتبار في المعاهد الدينية.
(المطلب التاسع) : (جعل الوظائف الكتابية بالمحاكم الشرعية حقًّا مشتركًا
بين جميع المذاهب) .
لا ريب أن هذا الطلب مع عدالته لا يكلف الحكومة شيئًا من المال، وهو
ليس إلا تنازلاً من علماء الحنفية عن بعض حق هو لهم، رضوا بأن يشركهم
إخوانهم من المذاهب الأخرى في الانتفاع به؛ لأن لأولئك الإخوان من الكفاءة لهذا
العمل ما لهم (الأحناف) .
على أنا إذا اعتبرناه حقًّا للأحناف، فليس إلا مجاراة لما هو واقع دون شيء
آخر؛ لأن القانون جعله حقًّا مطلقًا لحامل العالمية دون أن يفرق بين مذهب ومذهب
أليس من المصلحة مراعاة هذا الإطلاق، لا سيما أن فيه تحقيقًا للعدالة؟ ؟
وما دامت الكفاية والأهلية موجودتين فلا سبيل لإهمالهما.
لو أن الكتابة بالمحاكم الشرعية تشمل إصدار أحكام فقهية على مذهب الحنفية
لمَا كان للأحناف أن يرضوا بمشاركة غيرهم لهم في هذه الوظيفة، ولما كان
لغيرهم أن يطلبها، وإذا كانت وزارة الحقانية قد اتخذت - ولا تزال - مفتشين
للمحاكم الشرعية من غير الحنفية، فأولى لها أن تقبلهم في وظائف الكتابة التي لا
يسوغ حرمانهم منها.
(المطلب العاشر) : (إلغاء القوانين الاستثنائية والإجراءات التي ترتبت
عليها، وإباحة الانتساب والتحويل إلى الجهة التي يريدها الطالب) .
لقد كان مما لا يُتوقع أن تصدر قوانين جائرة تقيد بها حرية رجال الدين
الأزهريين في التعبير عن ميولهم وآرائهم، سواء كانت هذه الآراء في إصلاح
الأزهر أو في حالة البلد العامة؛ لأن الآراء يجب أن تكون على الدوام محترمة،
وأن يفسح المجال لظهورها لا أن تتخذ الوسائل لقمعها، وإذا وجب أن تحترم
الآراء وأن تكون حرة، فإن أولى بالاحترام والحرية آراء المتعلمين من رجال الدين
فهي على كل حال بعيدة عن أن تكون سيئة الغاية أو منكرة الأثر.
إن الأزهريين مَحوطون دائمًا بآداب دينهم وأوامره ونواهيه، وهذا كافٍ لأن
يحول بينهم وبين ما يمكن أن يكون أداة شر أو وسيلة للإفساد، فكان من الضروري
أن يكون لهم ما لسائر طوائف الأمة من تمام الحرية في التعبير عن أفكارهم
وميولهم، ما دام ذلك في حدود القانون العام.
وإذا كانت هذه القوانين قد ألجئ إليها في ظروف خاصة أيام كانت البلاد
خاضعة خضوعًا مطلقًا للأجنبي، ولم تكن الوزارات شاعرة بشيء من الاستقلال
في خدمة البلاد، فإن من الضروري إزالة هذه القوانين بعد أن تغيرت الحال،
وأصبح للبلد دستور يضمن حرية الآراء.
وليس ما يدعو لأن نذكر بالتفصيل مبلغ هذه القوانين من الجور، ويكفي أن
نقول أنها مخالفة للدستور، وهي مع ذلك في شكلها وجوهرها مما لا مثيل له في
جامعة من الجامعات، بل ولا في مدرسة من المدارس المصرية، وذلك كافٍ
لوجوب إلغائها مع ما ترتب عليها من إجراءات.
وكذلك يجب أن يحدد النظر في القانون القاضي بقصر طلبة كل جهة على
المعهد القريب لهم دون أن يسمح لأحد منهم بالانتساب إلى معهد آخر.
فقد تكون وسائل حياة الطالب موفورة في بعض الجهات دون بعض، وقد
تكون هناك اعتبارات أخرى كوجود الطالب مع من يعوله أو يلي أمره، فمن
الضروري أن تراعى في القانون المذكور هذه الاعتبارات؛ حتى لا يحال بين العلم
والراغبين فيه.
(المطلب الحادي عشر) : (جعل الامتحانات على دورين في السنة الواحدة
حسب المتبع في المدارس) .
إذا راعينا كثرة المواد المقررة في سني الدراسة بالأزهر، والكتب التي
تدرس فيها تلك المواد، وغزارة مادتها وحاجتها إلى البحث المطرد والتعمق فيه،
نجد أن من اللازم لمصلحة العلم والطلبة أن يكون هناك امتحانان أحدهما في آخر
السنة الدراسية الماضية، وثانيهما قبل بدء العام الدراسي المقبل، ولكل شخص
الحق في دخول أي الامتحانين، على أن لا يعتبر الثاني ملحقًا للأول، ويكون لمن
رسب في الامتحان الأول ولو في كل المواد أن يدخل الامتحان الثاني، وما دامت
الغاية من الامتحان هي أن يتأكد من إحاطة الطالب بالمواد التي درسها فلا على ولاة
الأمور أن يكون ذلك في أي الامتحانين، مع مراعاة أن إعطاء الطلبة هذا الحق
يفتح باب الأمل لمن يخونهم الحظ في آخر العام لأسباب، قد لا يكون في وسعهم دفعها
،فتهيأ لهم الفرصة؛ ليتمكنوا من حفظ عام من حياتهم، وفي ذلك أيضًا تخفيف
العبء عن ولاة أمور الطلبة في الإنفاق عليهم، سيما من الطبقات غير
الغنية، وذلك ما لا يحسن إهماله لمصلحة العلم والمتعلمين.
(المطلب الثاني عشر) : (انتقاء الكتب وتعديل البرامج بما يتناسب مع
حاجيات العصر الحاضر والتقدم العلمي الحالي) .
يعد هذا الطلب من لوازم الإصلاح المنشود، فإن الكتب المقررة الآن بالأزهر
قد ألفت في عصور سابقة، تختلف حالتها كثيرًا عن حالة هذا العصر ,
فالأسلوب الذي كتبت به، والأبحاث التي تناولتها يحتاجان إلى كثير من التهذيب
والتنقيح، ليتفق ذلك مع حاجيات هذا الزمن.
ففي التوحيد مثلاً لا تزال تدرس الكتب التي تبحث مذاهب السوفسطائية، وما
عليها من ردود مع انقراض هذه المذاهب وأصحابها، وقد كان الواجب أن يُعنى
بمذاهب الإلحاد التي تفشت في هذا العصر، فتدرس ماهيتها وطرق دحضها والرد
عليها، وفي علوم البلاغة ندرس كتبًا لا نجاوز الحد، إذا قلنا: إنها معقدة لا تعين
الطالب على فهم روح العلم، وهي مع ذلك تأخذ من وقته أكثر مما يأخذ منها،
وبإجمال فإن كثيرًا من الكتب المقررة بالأزهر تحتاج إلى تهذيب أو استبدال.
ولا ريب أن الميول إذا اتجهت إلى سد هذا النقص وجدت ذلك من الميسور،
فإن للعرب مؤلفات قيمة تتفق مع حالة العصر، وما لا يوجد من ذلك فمن الممكن
أن تقوم به لجنة تناط بها هذه الغاية، وفي مصر من الرجال الأكفاء في الفنون
المختلفة من يؤدي ذلك على أكمل وجه.
وأما تعديل البرامج فإنا نطلبه؛ ليسير الأزهر جنبًا إلى جنب مع أكبر المعاهد
العلمية، وليعلم المتعنتون أنا لسنا جامدين، وأنا على استعداد لأن يستفيد الأزهر
من كل تقدم علمي في الخارج؛ ليحتفظ بمجده الخالد، وليبقى معهد الشرق العظيم
كما كان في سالف الأيام.
***
الخاتمة
وبعد، فقد وضحنا مطالب الأزهر بعد أن صورنا متاعبه وآلامه، ولا ريب
ولا ريب أن قارئها الكريم وجد فيها آية الحق الواضح، ولمس برهان العدالة
الناصع، ومن أجل ذلك لا يخامرنا الشك في أنها ستَلقى تعضيدًا يُشعر الأزهريين
أن العدل لا يعدم أنصارًا يذودون عنه، ويساعدون على أن يسود، ولولا اعتقادنا
أن للحق صولة على الأفئدة، وسلطانًا مهيمنًا على النفوس، لكان لنا مندوحة عن
الشكوى، ولكنا بسطنا هذه الأدواء وشفعناها بأدويتها الناجعة، ولا شفيع لنا غير ما
تضمنته من الحقائق، فإلى كل غيور نزجيها على هذه الصفة، وعليها يرحب
الأزهر بمن يتقدم لنصرته وإرجاع مجده إليه، وفق الله الجميع إلى ما فيه الخير
العام.
عبد الوكيل جابر، محمد فهمي السيد، عبد اللطيف محمد السبكي، مصطفى
العطيفي، كامل محمد حسن، محمود حسين مهدلي، علي محمد حسن، جاد
سليمان محمد محمد الجسر، عبد الحميد مطاوع، منصور علي رجب، عبد الحكيم
أبو المعالي، طه علي طه، محمد عبد الله أبو النجا، محمود عبد الدايم، حامد
عوني، محرز السباعي، أحمد علي أحمد، عبد الفتاح محمد، عبد الحميد عباس،
الأبحر، صالح موسى، محمد الفحيل، محمد أبو الحسن، محمود خليفة، محمود
الخولي، عبد العظيم المسلاوي، حسين مشرف، نصار شديد، محمود ربيع،
أحمد هنداوي، محمود نعيم جاد، مشهر أحمد هندي، علي علي الطباخ، علي
محمد عامر، زكريا حسن مكاوي، محمد الأباصيري، محمود عوض، محمد منير
محمود، عبد الرحمن النواوي، أحمد الكومي، عبد العظيم سالم حسين السيد عبد
الله، أحمد طالب عبد الله، حسن سيد أحمد البخشونجي , انتهى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(26/123)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس
شروط تسليم غرناطة لإسبانية وعاقبة المسلمين معها
(مقتبس من خلاصة تاريخ الأندلس للأمير شكيب أرسلان)
أما شروط تسليم غرناطة فقد سردها المرحوم ضيا باشا في تاريخه للأندلس،
وهي خمس وخمسون مادة، تتضمن تفاصيل ما وقع عليه الاتفاق، وفي طيها من
عهود المحاسنة والملاطفة والمراعاة والمحافظة على أعراض القوم، وعقائدهم
ودمائهم وأموالهم وكراماتهم وراحاتهم ما لا يفي به إلا نصه.
وقد تكرر في المادة الخامسة العهد من الملك والملكة باحترام ديانة المسلمين
ومساجدهم وأوقافها وأموالها المحفوظة، وعدم التعرض لأمورهم الشرعية، بل
إعادة ذلك إلى فقهائهم والمحافظة على أصول الفقهاء وعاداتهم وملابسهم، وأن يبقى
هذا العهد معمولاً به في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.
وفي المادة السادسة عدم سلب أسلحة المسلمين ومراكبهم ومواشيهم إلا الأسلحة
النارية فتَقرَّر أخذها.
وفي المادة السابعة تسهيل السفر لكل من شاء الهجرة بأمواله وأمتعته، وفيما
بعدها إجازته على نفقة دولة قشتالة من أي مرسى أراد، وتسهيل معاملات بيع
العقار لمن شاء الرحيل، وإذا لم يتهيأ البيع ووكل صاحب المِلك وكيلاً، تعتبر
وكالته، ويساعَد على استيفاء حاصلاته وإيصالها إليه بمكانه وراء البحر.
وورد في المادة الحادية عشرة تشديد مجازاة كل من يدخل من النصارى جامعًا
بدون رخصة الفقهاء.
وورد في المادة الخامسة عشرة إعفاء السلطان أبي عبد الله وسائر أمراء
المسلمين وقُوَّادهم وفقهائهم من الضرائب والرسوم، وإقرار الجميع على امتيازاتهم
كما كانوا لعهد ملوكهم، وأن تكون كلمتهم نافذة وقولهم مسموعًا.
وورد في المادة السادسة عشرة والتي بعدها ما يتضمن عدم جواز دخول أحد
من النصارى بيوت المسلمين، حتى ولا الملك والملكة، ومن خالف ذلك من
النصارى يجازَى بشدة.
وفي المادة الخامسة والعشرين إذا فر أحد من أسرى المسلمين المعتقلين في
سائر الممالك، ووصل إلى غرناطة فقد نجا، ولم يكن لمأموري شرطة غرناطة أن
يمسكوه، لكن ذلك الامتياز مخصوص بعرب الأندلس لا يتناول أسرى المغرب.
وفي المادة الثلاثين أن من أسلم من النصارى قبل هذه الكائنة فلا تجوز
معاملته إلا بالحسنى، ولا يرى أقل تحقير، ومن خالف ذلك ينال من الجزاء شدة،
وفي المادة الواحدة والثلاثين لا يجبر مسلم ولا مسلمة على قبول الدين المسيحي.
وفي المادة الثانية والثلاثين إذا كان المسلم متزوجًا بنصرانية وأسلمت، لا
تجبر على الرجوع إلى دينها الأصلي، والذين يتولدون من هذا الزواج يعدون
مسلمين، ولو ارتدت الزوجة عن إسلامها.
وفي الخامسة والثلاثين لا يرد المسلمون شيئًا مما غنموه أثناء الوقائع التي
جرت إلى يوم تسليم البلد، وفي التي بعدها لا يعاقبون على شيء مما مضى من
تحقير الأسرى أو إهانتهم.
وفي الثانية والأربعين تفصل الخصومات بين المسلمين والنصارى في مجلس
مؤلف من قائدين أحدهما مسلم والآخر مسيحي.
وفي الثالثة والأربعين تعاد جميع أسرى المسلمين في مدة ثمانية أشهر
من أي بلاد وُجدوا فيها من إسبانية، وفي مدة خمسة أشهر إن كانوا في
بلاد الأندلس.
وفي الثانية والخمسين عدم استخدام شرطة من النصارى؛ لمراقبة شؤون
المسلمين، بل تكون شرطتهم من أنفسهم.
وفي آخر هذه المعاهدة تعهد الملك فرديناند وامرأته صاحبا ممالك قشتالة
وأراغون وليون وصقلية أن يحافظا على نص شروطها حرفًا بحرف، وينفذا جميع
أحكامها من خاص وعام وكلي وجزئي بكمال التدقيق، وبدون أدنى زيادة ولا
نقصان مهما يكن من الأسباب، وأن تبقى على شكلها وهيئتها، ولا يتغير ولا يتبدل
حرف منها إلى الأبد، ولا يمكن أحدًا من خلفاء الملكين المشار إليهما، ولا خلفاء
خلفائهما ولا حفدتهما ولا أولادهم إلى ما شاء الله أن ينقضوا أقل حكم من أحكامها،
أو يبدلوا حركة من حركاتها، وأُعطِيَ الأمر بها إلى الأمراء والوزراء والقواد
والأجناد والرهبان والرعية من حاضر وغائب، وقاصٍ ودانٍ، وكبير وصغير،
وأعلن أن من يجترئ على الخلل بشيء مما تضمنته هذه المعاهدة، يجزى جزاء
من أقدم على إفساد البراءات الملوكية أو تقليد الحجج والسندات بدون أدنى تأخير.
وأقسم الملك فرديناند والملكة إيزابلا وسائر من أمضوا الشروط على دينهم
وشرفهم برعايتها إلى الأبد على الصورة المبينة، وكتبت على رق غزال محلى
ومطرز تحريرًا في ثلاثين من كانون الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وألف من
الميلاد.
وحررها فرناند وصفره بأمر الملكين، وأمضاها الملك فرديناند والملكة
إيزابلا وأولادهما الدون جان والدونة وإيزابلا والدونة حنة والدونة ماريانة والدونة
كتالينة ورئيس أساقفة أشبيلية الدون دياغو هرتادو رئيس أساقفة صانتياغو الدون
ألفونس وكبير فرسان صانتياغو المسمى بالدون ألفونس أيضًا، والدون جان كبير
فرسان القنطرة والدون الفارو زعيم رهابين ماريوحنا والدون بيروغونزالس
كردينال أسبانية، ورئيس أساقفة المملكة، والدون هنري كبير حكومة أراغون،
ومن أبناء عم الملك، والدون ألفونس من أبناء عمه أيضًا، والدون الفارو مدير
دائرة الملكين، والدون بتروفاناندز رئيس جند قشتالة، ويليهم نحو من أربعين دونًا
كلهم من أبناء السلالة المالكة، وأساقفة البلاد وأمرائها وأعيانها وقوادها.
وكتب أيضًا معاهدة أخرى لسلطان غرناطة أبي عبد الله بن أبي الحسن
متضمنة أربع عشرة مادة فيها تمليكه الإقطاعات والأراضي والبلدان التي وهبها
إياه المَلِكان، معينًا كلاًّ منها بذاته والتعهد بإعطائه أربعة عشر مليونًا وخمسمائة
قطعة من السكة المعروفة بالمراويد عند دخولهما قلعة الحمراء، وإفراز ملكيته
لجميع العقار الموروث، وإعفاؤه من دفع الضرائب والرسوم وأداء المكوس عما
يجلب من الأمتعة برسمه، وأنه في أي وقت شاء بيع هذه الأراضي والأملاك،
يشتريها الملكان كلها بقيمتها العادلة، وإن لم يشأ بيعها، وأراد النقلة إلى بر
المغرب فالوكيل الذي يعينه عليها يستوفي له حاصلاتها، ويوردها عليه في أي
جهة كان مما وراء البحر، وفي أي وقت عول على الإجازة تنقله مع رجاله وعياله
وأمواله سفن دولة قشتالة مجانًا، ولا يطالب بشيء، ولا يكون مسؤولاً عن شيء
مما حصل إلى حين عقد الصلح، ولا يسترد شيء مما غنمه، وجميع هذه الشروط
كما هي جارية في حقه تجري أيضًا في حق والدته وشقائقه وزوجته وزوجة مولاي
أبي نصر، والعهدة الثانية مؤرخة في يوم تاريخ الأولى، إلا أنني وجدت أكثر
المؤرخين يؤرخون إمضاء المعاهدات في 25 كانون الأول وفق 22 المحرم سنة
897.
(ثم نقل المؤرخ رواية نفح الطيب في تسليم غرناطة، وبعض شروط
الصلح بينهم وبين المسلمين مخلصًا بما نصه) .
(وفي ثاني ربيع الأول من سنة 897 استولى النصارى على الحمراء،
ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف
الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل
والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم
على ما كانت عليه، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم - وأن تبقى المساجد كما
كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدًا -وأن لا
يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي، وأن يُفتكَّ جميع من أُسر في غرناطة من
حيث كانوا، وخصوصًا أعيان نَُّص عليهم، ومن هرب من أسرى المسلمين ودخل
غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد
الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا
الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء , وأن لا يؤخذ أحد بذنب
غيره , وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى , وأن من تنصر من المسلمين
يوقف أيامًا، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع
إلى الإسلام تمادى على ما أراد؛ ولا يعاقب من قتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا
يؤخذ ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى
ولا يسفر لجهة من الجهات , ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم
جميع المظالم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين،
ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه
وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود [1] ، وأهل الدجن , ولا يمنع مؤذن ولا
مُصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منهم يعاقَب، ويُتركون من
المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده،
وأمثال هذا مما تركنا ذكره، انتهى المراد منه.
نقض الأسبانيول عهد مسلمي الأندلس وتنكيلهم بهم
وإكراههم على التنصر
قال صاحب المختصر المذكور:
ولنذكر حالة بقية مسلمي الأندلس بعد ذهاب ملكهم فيها فنقول: ورد في تاريخ
(الإسلام في إسبانية) تأليف ستانلي لانبول ما محصله (إن آخر أنفاس أبي عبد
الله على تلك الربوة لم يكن بآخر حر أنفاس المسلمين في تلك الديار، بل بداية
أنفاس يرسلونها الصعداء، وافتتاح عهد انتقام وابتلاء، وإن أسقف غرناطة الأول
هرناندو دوتالافيره كان رجلاً حليمًا عادلاً، أحسن معاملة المغاربة، وأبى الجور
عليهم، وتعلم العربية، وكان يصلي بها، وعلى يده ارتد ألوف من المغاربة إلى
النصرانية، قيل: إن ثلاثة آلاف تنصروا في يوم واحد، إلا أن الكردينال
كسيميناس الذي كان من القسم المحارب بين رؤساء الكنيسة اعتسف السبيل، ومال
إلى العنف والإكراه، وأساء معاملة المسلمين، وحمل الملكة إيزابلا على ما بقي
نقطة دهماء في تاريخ حياتها من اضطهادهم واستعبادهم وإكراههم على التنصر،
فأثار ذلك ساكنهم، وأخرج كامنهم، وفي إحدى المرات حبست امرأة من البيازين
لشأن من هذا القبيل، فثار سكان البيازين، وتحصنوا وحملوا السلاح، وكادوا
يفتكون بالجند وأوشك الدم أن يسيل بحدة الكردينال كسيميناس.
إلا أن المطران هرناندو الموصوف بالوداعة، دخل ربض البيازين بالسكينة
والأنس مع نفر قليل من حاشيته بدون سلاح، وسأل القوم عن شكواهم، وتقبلها
منهم بالاستماع والاحتفال، وهدأ روعهم وأعاد طائر الأمن إلى وكره، وحجب
الدماء يومئذ، على أن كسمينيس المشهور لم يزل يُغوي الملكة، حتى أصدرت
أمرها إكراه المسلمين على إحدى الخطتين الجلاء أو النصرانية، وذلك بأنهم كانوا
يذكرون المسلمين بأنهم سلالة النصارى في الأصل، فأُقفلت المساجد وأحرقت
الكتب، التي هي ثمرات القرون وزبد الحقب، وأذيق المسلمون العذاب أشكالاً
وألوانًا، ففضل عامتهم فراق دينهم على فراق أوطانهم، إلا أن شعلة من الحمية
الإسلامية بقيت تلمع في جبال البشرات، حيث حمتهم أوعارها من مضطهديهم.
وأول جيش أرسل إليهم تحت قيادة الدون ألونزو دواغيلار البطل الشهير
انهزم هزيمة شنعاء وذلك في سنة 1501، وقتل الدون المذكور، وقيل: إنه الدون
الخامس المقتول من عشيرتهم في حرب المسلمين، فازداد انتقام الأسبانيول من
المغاربة بعد هذه الغلبة، وهجم كونت طنديلة على قوجار، وهدم كونت سرين
جامعًا على جماعة التجأوا إليه من المسلمين بنسائهم وأطفالهم، وأمسك الملك
فرديناند بنفسه الطريق على الفارين من الجبال، فمن بقي حيًّا من الثوار فر إلى
مراكش ومصر والبلاد العثمانية وانتهت الثورة الأولى في الجبال.
ومضى على ذلك نصف قرن والبُغض دفين في القلوب، والمسلمون
المتنصرون يعمدون أولادهم ظاهرًا، فإذا انصرف القسيس مسحوا عن الولد ماء
المعمودية، وإذا تزوج أحد الموريسك (لقب المتنصرة من المغاربة) أجرى
القسيس عقد الإكليل، ثم بعد ذهابه عقدوا النكاح بحسب السنة الإسلامية.
وكانوا يتلقون قرصان البحر من أهل المغرب، ويعاونونهم على اختطاف
أولاد النصارى، ويأتون غير ذلك، فلو كانت ثمت حكومة عاقلة قوية ترعى
عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة، لم يكن محل لذلك البغض العميق،
ولكن حكام الأسبانيول لم يكونوا أهل عقل ولا عدل، وكانوا يزدادون بتمادي الأيام
شرًّا، ولم تلبث الأوامر أن صدرت بإكراه المغاربة على ترك ألبستهم المخصوصة
بهم، وعلى لبس البرنيطة والسراويلات الأسبانيولية، وبحظر الغسل ودخول
الحمام عليهم اقتداء بغالبيتهم في احتمال الأقذار، ثم منعوهم من التكلم بالعربية،
وصدر الأمر بأن لا يتكلموا بغير الأسبانيولي، بأن يغيروا أسماءهم ويسيروا سيرة
أسبانيولية، ويسموا أنفسهم أسبانيولاً، وكان تصديق الإمبراطور شرلكان هذا الأمر
الفظيع في سنة 1526 على أنه لم يكن الظاهر من اعتماده إجراءه بالفعل، لكن
عماله اتخذوه ذريعة لاستنزاف أموال الموسرين من المغاربة، صار ديوان التفتيش
يحترف ويتجر بهذه المسألة، ولما صار الأمر إلى فيليب الثاني شدد في إنفاذ
الأوامر بحق الموريسك، وسنة 1567 عزز الأمر الصادر بشأن تغيير الزي
واللغة باستيثاق غريب؛ لأجل منع النظافة التي هي من سنن الإسلام، وذلك بأنه
أخذ يهدم حمامات الحمراء البديعة، فالطرائق التي أخذوا بها لتنكير أحوال تلك
الأمة هي أشد من أن يحتملها أي قبيل كان، دع سلائل المنصور وعبد الرحمن
وأبناء سراج، ولذلك لم يطل الزمن حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة، وثار فرج
ابن فرج من نسل بني سراج بجماعة من ذوي الحمية من غرناطة، قاصدًا الجبال
قبل أن تمكنت الحامية من تعقبهم، ونودي بهرناندو دوفلور من نسل خلفاء قرطبة
ملكًا على الأندلس تحت اسم محمد بن أمية، وعمت الثورة في أسبوع واحد كل
أنحاء جبال البشرات ووقع ذلك سنة 1568.
ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى وأوعرها مسلكًا،
كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالاً، والفتنة فيه بعيدة المرمى، فاستمرت
هذه المرة حولين كاملين، حافلاً تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر
والتعذيب والاستباحة والاحتيال من الجانبين، لكنه أيضًا حافل بوقائع يندر في
تاريخ الفروسية، وكتب الحماسة الظفر بأمثالها، وتبقى على صفحات السير فخرًا
للقرون والأمم، كان المغاربة هناك في موطنهم الأخير، والموقف الذي يحاولون
فيه إدراك الثأر على نحو مئة سنة قضوها في البلاء العظيم، والهون الذي ليس له
نظير، فهبوا جميعًا منادين بأخذ الثأر واقتضاء الأوتار قرية بعد قرية، وهدموا
الكنائس، وأهانوا ما فيها، وفتكوا بالقسيسين، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في
أيديهم، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج، ودافعوا دفاعًا شديدًا، وكان مركيز
مونتيجارة قائدًا في غرناطة، فعمد إلى المسالمة، وأخذ بالملاينة، وكادت الوقدة
تنطفئ لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء في حبس البيازين من
المغاربة، قيل: إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز، لكن الموريسك لم يقبلوا العذر،
ونشروا لواء الثورة، وصار ابن أمية أميرًا بالفعل على جميع جهات البشرات،
إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة، فقام بعض أعوانه وقتلوه، وبويع لرجل آخر
موصوف بالنجدة والحماسة اسمه عبد الله بن أبوه.
فأرسلت دولة إسبانية لتدويخ الثوار الدون جون الأوسترى أخا الملك، وهو
شاب في الثانية والعشرين من العمر، فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى
1570، وأتى من الفظائع، ما بخلت بأنداده كتب الوقائع، فذُبح النساء والأطفال
أمام عينيه، وأحرق المساكن ودمر البلاد، وكانت علامته (لا هوادة) وانتهى
الأمر بإذعان الموريسك، لكنه لم يطل واستأنف مولاي عبد الله بن أبوه الكرة،
فاحتال الأسبانيول حتى قتلوه غيلة، وبقي رأسه منصوبًا فوق أحد أبواب غرناطة
ثلاثين سنة، وأفحش الأسبانيول في قمع الثورة بما أقدموا عليه من الذبح والحريق
والخنق بالدخان حتى أهلكوا من بقية العرب هناك خلقًا كثيرًا، وخنع الذين نجوا
من الموت لكنهم وقعوا في الرق، وسيقوا مماليك وعبدانًا، ونُفي جملة منهم، فأخذ
عددهم يتناقص، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ وهو عيد جميع
القديسين سنة 1570، بلغ عدد من ذهب منهم عشرين ألفًا، والذين أخذوا منهم في
معمعة الفتنة صاروا إلى الاستعباد، والباقون أخرجوا من البلاد مخفورين، فمات
كثير منهم على الطرق تعبًا، فمنهم من أجاز إلى بر العدوة وطافوا هناك سائلين
لأجل قوتهم الضروري، ومنهم من لجأ إلى بلاد فرنسا حيث استقبلوهم بِرًّا وترحيبًا،
واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانية، ولم ينتهِ إخراجهم
تمامًا إلى سنة 1610، إذ وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم بعد أن
وليها الإسلام ثمانية قرون، ويقال: إن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت
فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين، وأن
الذين خرجوا لآخر مرة نحو نصف مليون.
وأما الأسبانيول المساكين فلم يعرفوا ماذا يصنعون، ولا أنهم يخربون بيوتهم
بأيديهم، بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة، مع أن أسبانية كانت مركز
المدنية ومبعث أشعة العلم قرونًا، وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام
بمقدار ما استفادته هذه البلاد، فلما غادرها الإسلام انكسفت شمسها وتسلط نحسها،
وإن فضل مسلمي الأندلس؛ ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة،
وسقوط هذه الأمة في سلم الاجتماع بعد أن خلت ديارها من الإسلام انتهى كلامه
ملخصًا.
واستشهد في حاشية هذه الجملة بنقل يمثل لك درجة هذه الحقيقة، وهو أن
الملِك حوَّل مدينة غرناطة ضياعًا واسعة ومزارع التزموا بيعها سنة 1591؛ بسبب
كونهم يخسرون عليها أكثر من غلتها، مع أن هذه البقاع كانت لعهد العرب حدائق
غنَّاء، وغياضًا ذات أفياء، وموارد ثروة ورخاء.
وقال واشنطون أرفن في تاريخه لفتح غرناطة ما معناه ملخصًا: إنه بعد
دخول هذه البلدة في حوزة الأسبانيول بقيت الحال غير مستتبة تمامًا مدة سنوات إلى
أن وقع من اجتهاد رؤساء مذهب الكاثوليك في حمل المسلمين هناك على النصرانية،
ما أيأس مغاربة الجبال المتشددين في دينهم، فثأروا برؤساء الدين، وقبضوا على
اثنين من هؤلاء الدعاة في مدينة دارين وعرضوا عليهما الإسلام فامتنعا فقتلوهما،
وقيل: إن النساء والأولاد قتلوهما قصعًا بالعصي وشدخًا بالحجارة، وإنهم أحرقوا
جثتيهما، فانتقم النصارى من هذه الفعلة بأن اجتمع منهم نحو ثمانمائة فارس،
وساروا إلى قرى المغاربة يخربون ويعيثون، فاعتصم المغاربة بالجبال، وانتشرت
الفتنة في الجبال كلها، لكن وسطها كان في جبل برميجه المصاقب للبحر، فلما
اتصل الخبر بالملك فرديناند أصدر أوامره بنقل المغاربة الساكنين في جهات الثورة
إلى قشتالة، وأعطى الأمر سرًّا بأن من يدخل منهم في النصرانية يبقى في وطنه،
ثم رمى تلك الأُمة بالصائد المشهور ألونزو دواغيلار، ومعه جيش وهو الذي قضى
معظم شبابه في قتال المغاربة، فما اقترب من بلادهم حتى هرع جملة وافرة منهم
إلى رندة للدخول في النصرانية، وجمر الباقون منهم تحت قيادة فارس اسمه
الفهري سائقين نساءهم وأطفالهم إلى حيث يتعذر السلوك من تلك الأوعار،
مرابطين شعاب الجبال دون مرور عساكر الأسبانيول فالتقى الجمعان أمام بلدة
مونارده، وانتشب القتال فيقال: إن الدون ألونزو مع ابنه الدون بطرو وثلاثمائة
من شجعانه صدقوا الحملة على المغاربة، فأزاحوهم وتلاحقوا في الهزيمة، فتتبعهم
الجند يغنمون وينهبون، ولما امتلأت أيديهم بالغنائم كر عليهم الفهري بجماعة من
أبطاله، وعلت الصرخة فارتجَّت لها جوانب الأودية، وذعر الأسبانيول، فتداعوا
للفرار، وثبت ألونزو في مكانه يحرضهم، ويضم من شتيت شملهم، فصبر معه
جماعة، وولى الأكثرون، ودخل الظلام، وخيم الغسق، واشتد الخناق بالأسبانيول،
وجرح بطرو ابن ألونزو، فأمره أبوه بالرجوع، فأصر على البقاء بجانب أبيه،
فأمر أتباعه بحمله إلى معسكر كونت أورينه فاحتملوه مثخنًا جراحًا، ولبث الدون
بمائتين من رجاله، يناضلون حتى فنوا عن آخرهم.
وتحصن الدون بين صخرين يتقي بهما، فبصر به الفهري فقصده واستحر
الصراع، وألحّ الفهري وطمع في قرنه، وكانا متماثلين في ثبات الجنان مع قوة
الأضلاع وتوثق الخلق، فصاح ألونزو بخصمه (لا تحسبن نفسك وقعت على صيد
هين، فأنا الدون ألونزو دراغيلار) فأجابه المغربي (إن كنت أنت الدون ألونزو
فاعلم أنني أنا الفهري) ثم كوره صريعًا، ومات بموته مثال الفراسة الأسبانيولية
والنموذج الغشمشمية في الأندلس.
واندفع المغاربة ذلك الليل بطوله يطاردون الأسبانيول ولم ينكفئوا حتى لاح
الصباح، فأجلى المعترك عن قتل الدون فرنسيسكو دوناميز المدريدي الذي كان قائد
المدفعية الأكبر، وكانت له المواقف المشكورة في حصار غرناطة، لكن مصرع
الدون ألونزو دواغيلار أنسى الأحزان جميعها، وعند وصول خبر هذه الفاجعة إلى
الملك زحف بالجيش إلى جبال رندة، فسكنت بحضوره النائرة، واشترى بعض
المغاربة أرواحهم فجازوا إلى إفريقية، واحتمى آخرون بالنصرانية , وأما أهل البلد
الذي قتل فيه الدعاة فسُلكوا في سلسلة العبودية، وبحث الملك عن جثة الدون
فوجدوها بين مائتي جثة من الأسبانيول، فيها أجساد عدد من الأمراء والكبراء،
فحملوها إلى قرطبة في مشهد حافل، بين مدامع كالسحب الهواطل، ودفن في
كنيسة مار هيبو ليتو، وندبه الأسبانيول دهرًا طويلاً) انتهى كلامه مجملاً.
وذكر المؤرخ الفرنسي الشهير فيكتور دروى في تاريخه ما يأتي ملخصًا (أن
أسبانية تخلصت من العرب لكنها بقيت حافظة عليهم إحنة شديدة، ربتها في قلوبهم
ثمانية قرون قضتها معهم في الحرب، وكان لذلك العهد سكان الجزيرة أخلاطًا من
مسلمين ونصارى ويهود، فعول فرديناند على توحيد الهيئة بوحدة الاعتقاد؛ تعزيزًا
للدولة، فأنشأ ديوانًا جديدًا للتفتيش، وكان الملك هو الذي يعين الرئيس والمفتش
الكبير، ويضع يده على أملاك المحكوم عليهم، وكان هؤلاء في البداية من
النصارى المتهودين والمسلمين المتنصرين ظاهرًا الباقين في الباطن أمناء لمحمد
(صلى الله عليه وسلم) ثم شملت أحكام الديوان أهل البدع السياسية كالبدع الدينية
أيضًا.
وسنة 1492 قرر ديوان التفتيش المذكور طرد اليهود من إسبانية بعد أن
سلبوهم أموالهم، وقد قدر بعض المؤرخين المعاصرين لتلك الحادثة عدد من خرج
منهم 800 ألف (قلت: منهم جماعة وافرة بأزمير وأقوام بالآستانة هاجروا إليها في
تلك الكائنة، ومنذ خمس سنين احتفلوا بعيد مُضيّ الأربعمائة سنة على دخولهم بلاد
الدولة العلية، أكثروا فيه من الدعاء لسلطنة آل عثمان التي هي كهف المطرودين)
والقسم الأكبر منهم هلكوا وعذبوا بما لم يعذبه أحد من العالمين، وسنة 1499 صدر
أمر بسلب المغاربة حريتهم الدينية التي تقررت لهم بموجب عهد غرناطة، فجلا
منهم جم غفير، ولم يتم خروجهم جميعًا حتى القرن التالي في سنة 1609، وهكذا
فازت إسبانية بوحدتها الدينية، لكنها خسرت صناعتها وتجارتها اللتين كان العرب
واليهود أهم عمالها.
وذكر مرة عند كلامه على شرلكان أنه أكمل مقصد فرديناند، فأكره مغاربة
بلنسية على التنصر وأهل غرناطة على ترك زيهم والتكلم بغير لغتهم، وقال
بمناسبة فيليب الثاني أنه اضطهد المغاربة، وضيق عليهم حتى التزموا الثورة سنة
1568، وأوقدوا نيرانهم على تلك الجبال إيذانًا بالخروج، وكان يمكنهم بما أمسكوه
من مخانق جبالهم الثبات طويلاً لو امتدت إليهم يد معونة من إخوانهم أهل إفريقية،
ففرق فيليب شملهم، وبددهم في مقاطعته، ولم تمض سنون عشر حتى صاروا كلهم
أرقاء.
ثم لنذكر بحسب عادتنا في المقابلة كلام المقرئ في هذه الوقائع الأخيرة، وهو
ببعض تصرف (ثم إن النصارى نكثوا العهود، ونقضوا الشروط عروة عروة إلى
أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة، بعد أمور وأسباب
أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا: إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من
النصارى أن يرجعوا قهرًا للنصرانية، ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا قوة لهم، ثم
تعدوا إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للمسلم: إن جدك كان نصرانيًّا فأسْلَمَ فلترجع
نصرانيًّا، ولما فحُش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم، وهذا كان
السبب للتنصر قالوا: إن الحكم خرج من السلطان من قام على الحاكم فليس إلا
الموت إلا أن يتنصروا بالجملة، فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وامتنع
قوم من التنصر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك
منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم
قتلاً وسبيًا، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا
منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب قرطبة وهو ألونزو دواغيلار، وأخرجوا
على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر.
ثم بعد هذا كله كان مَن أظهر التنصر من المسلمين، يعبد الله في خفية
ويصلي، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرًا بسبب ذلك،
ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في
بعض الجبال على النصارى مرارًا، ولم يقيض الله تعالى لها ناصرًا، إلى أن كان
إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام [2] سبعة عشر وألف، فخرجت
ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان من وهران وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط
عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد
تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المضرة.
وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها
الخالية وبلادها، وكذلك بتطاون وسلا وفيجة الجزائر، ولما استخدم سلطان
المغرب الأقصى منهم عسكرًا جرارًا، وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر
ما هو مشهور الآن، وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والحمامات وهم الآن
بهذا الحال، ووصل منهم جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام
وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصف، والله وارث الأرض
ومن عليها، وهو خير الوارثين) انتهى.
__________
(1) لعل الأصل: ولا يحمل علامة إلخ أو - ولا يجعل له علامة كما يجعل لليهود اهـ , مصححه.
(2) لعل أصله: أي عام.(26/131)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بطل العرب والإسلام وأندلسهما الجديدة
الأمير محمد عبد الكريم
وقول كاتب أسباني فيه
ركدت عاصفة المعارك بين الدولة الأسبانية والأمير محمد عبد الكريم، وخمد
لهيبها فبقي جل جمرها تحت الرماد من حيث اشتعلت نارها بينه وبين الدولة
الفرنسية في منطقة حكومة المخزن المغربية الواقعة تحت حمايتها، وكان الكثيرون
من الناس سيظنون أنَّ تقحُّم هذا البطل بِصِليِّ هذه النار الحامية سيحرق شهرته
ويقضي على آماله؛ لما لفرنسة من الشهرة الطائرة في فنون الحرب علمًا وعملاً،
ولكن فوزه في حرب الفرنسيس لم يكن دون فوزه في حرب الأسبانيول، بل كان
فوزًا قامت له أعرق أمم في أوربة في الحرب وقعدت، فأسقط قيمة نقدها إلى أسفل
دركة كانت ألقته فيها الحرب العظمى، واضطرها إلي متابعة سَوق الجيوش من
الوطن أرسالاً، واستنفارهم خفافًا وثقالاً، وطفقت صحف العالم تتحدث بدنو الخطر
من فاس وتوقع امتداده إلى الجزائر، هذا على كون أخبار الوقائع لا مصدر له
دونها، ويعلم جميع الناس سنة الدول كلها في إفراغ هذه الأخبار في القوالب
السياسية الموافقة لمصلحتها من كتمان بعض وتمويه بعض، والمنار لا يعنى بنشر
الوقائع الحربية ووصف ميادين القتال، وإنما يدخل في موضوعه ما له شأن في
الانقلابات والتطور الاجتماعي وأسبابه من حوادث التاريخ.
وقد قرأنا في جريدة البيان العربية التي تصدر عن (نيويورك) مقالة لكاتب
أسباني اسمه (إنريك دي مناس) ، نشرها في جريدة (هرالد تربيون) النيوركية،
وصف بها ما عرف وما اعتقد من حرب الأمير محمد عبد الكريم وشؤونه ومقاصده
بعد اختباره الشخصي، إذ كان من الذين شهدوا بعض معارك القتال بينه وبين قومه؛
فرأينا أن ننقل جل هذا المقالة عن عدد البيان الذي صدر في 22 شوال الماضي
الموافق 16 مايو (أيار) .
بدأ الكاتب كلامه بمقدمة ذكر فيها أن أخبار القتال في الريف لا يصدر شيء
منها عن معسكر عبد الكريم، بل كلها تصد عن طريق خصوم العرب، فلا يوثق
بشيء منها ولا سبيل إلى معرفة الحقيقة منها إلا لمن يستنبطها من فحوى الكلام،
ويستشفها من لحن القول دون صريحه (وعبر عن ذلك بقراءة ما بين السطور
وهي كناية عصرية غربية صارت مشهورة) وضرب لذلك المثل ببعض الأخبار
الفرنسية المختَلَقَة التي لا تُعقل بحسب الفن العسكري من خسائر العرب وخسائر
الفرنسيس، ولا ينسين القارئ أنه أسٍباني عدو لهم وناصح لفرنسة، ثم قال:
وقد قدر لي أن حاربت عبد الكريم بنفسي من عهد غير بعيد، فأنا لذلك
أعرف بعض الشيء عن نشاط الريفيين وشدة مراسهم، وأشهد علنًا بالقلم واللسان
ببطولتهم، رأيت بعيني أولئك العرب الشجعان يواجهون المدافع الرشاشة،
ويهاجمون رجالها غير مبالين بنيرانها الآكلة حتى كأنها ليست موجودة أو أنها
عديمة الأذى، ومن أجل هذا أقول: إن دعوى الفرنساويين بأن مثل هؤلاء الأبطال
يتراجعون إلى الوراء بسبب خمسين رجلاً من الأقوال المضحكة.
فالمصيبة في هذا هي أن الأمير كان وغيرهم من أهل الغرب الموالين لفرنسة
والمريدين لها الفوز يقبلون على هذه الأنباء كأنها آيات منزلة، ويصدقونها فلا
يجهدون العقول ولو قليلاً للتمييز بين غثها وسمينها أو صدقها وكذبها، وهذا هو
الباعث على خفاء حقيقة الخطر الكبير الذي يهدد كل أوربة من جانب المشكل
المراكشي [1] ؛ ولهذا عقدت العزيمة على كتابة هذا المقال؛ لكي أوضح فيه نيات
الريفيين وما يرمون إليه في ثورتهم هذه من الوجهتين السياسية والدينية.
فالحركة التي يقوم بها عبد الكريم الآن متأتية في أصلها عن البواعث التالية:
لقد كانت فرنسا تسعى من زمن غير يسير إلى موالاة القبائل المراكشية المختلفة،
والاتفاق معها على ترويج المتاجر الفرنساوية هناك وذلك بواسطة الشريف
حرقاوي، وهو زعيم كبير من قبيلة بني مولود، وقد حصرت أكثر قواها في
ترويج هذه السياسة في قبيلة بني زروال المجاورة لقبيلة بني مولود، ثم إن القسم
الأكبر من قبيلة بني زروال تحت زعامة ابن مناله وهو زعيم كثير الطموح صمم
العزيمة عندما وجد نفسه في مركز منيع يخطب وده فيه الفرنساويون من جهة وعبد
الكريم من جهة أخرى على سياسة مزدوجة.
وكان في هذا الوقت أحد مناصري عبد الكريم وهو الفقيه الزهاري قد ناجز
الشريف حرقاوي في وقعات عديدة، لم يكن فيها نصر فاصل لأحدهما، فابن مناله
حافظ على خطة الحياد وهو لكي يقي رجاله من أن يستميلهم الفرنساويون أو
العرب إليهم، ويحفظ ما له من السيطرة عليهم مال إلى استعمال القسوة فيهم؛ فأدى
ذلك إلى تذمر شديد بينهم، فعلم عبد الكريم بذلك؛ لأنه كان يرقبهم بعين ساهرة،
وسعى إلى اغتيال ابن مناله بوسائل مختلفة أهمها الرشوة والوعود التي بذلها لمحبي
الزعامة فيهم.
كان ذلك في شهر مارس (آذار) من هذا العام، فلما تخلص عبد الكريم من
ابن مناله وتمكن بدهائه من إزالة ما للحرقاوي من النفوذ، أدرك أنه قد أصبح في
مركز منيع يساعده على مهاجمة فرنسة؛ فحشد جموعه على ما علمنا قريبًا من تازه
على مسافة ثلاثين ميلاً من فاس شمالاً بشرق، وأرسل كتائب من أنصاره؛ لتعيث
فسادًا في منطقة متالزا الفرنساوية على التخوم التي تفصل بين مراكش الأسبانية
ومراكش الفرنساوية، وكان الفرنساويون قد أنشأوا على مقربة من تازه عدة مراكز
عسكرية، وعمل فرنسة في إنشاء تلك المراكز خطأ فاضح من الوجهة الحربية.
ذلك أن مثل هذه المواقع العسكرية التي عرفت أسبانية بعد فوات الوقت أنها
علة شقائها، والتي أمر المسيطر الأسباني دي ريفيرا بتخليتها في الحال يمكن
قطعها عن مجموع الجيش بسهولة ومحاصرتها ومنع النجدات عنها، ولما كان عبد
الكريم قد عرف باختباراته الماضية ملاءمة هذه المواقع العسكرية لحركاته لم يُضيع
دقيقة من الوقت في التردد في مهاجمتها؛ لعلمه بأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي
يكسبه التفوق (أولاً) لأنها قريبة (وثانيًا) لأن فصلها عن بقية الجيش سهل
للغاية (وثالثًا) لأن أول انتصار يحرزه مهما يكن قليل الشأن ينشط أتباعه،
ويثير في صدورهم روح الشجاعة ويحملهم على المخاطرة والإقدام.
وأنا أعتقد أن المواقع العسكرية الفرنساوية المحصورة المسلحة بمدافع رشاشة
وغيرها عديدة ستتمكن من المقاومة وقتًا طويلاً، ولكن الصعوبة هي في طريقة
تمكن فرنسة من إمدادها بالمؤن والذخائر، فإذا لم يحصل المحصورون على أقوات
جديدة ومياه صالحة للشرب تصير مقاومتهم عديمة الجدوى، وبما أن الريفيين
يدركون هذه الأمور فهم قد زادوا عدد المراقبين للطرق المؤدية إلى تلك المعاقل
لكي يحولوا - مهما كلفهم ذلك - دون وصول أقوات إلى الرجال الذين فيها والذين
يعدهم الريفيون الآن من أسراهم.
وطريقة العرب في الحرب هي أن لا يوجدوا مقاومة رسمية منظمة إلا ما كان
منها في الأقاليم الجبلية أو في الأماكن الملائمة لهم بنوع خاص، فأساليبهم الحربية
منحصرة في الدفاع عن موقف معلوم وقتًا معلومًا عندما يهاجمهم العدو، ومن ثم
ينهزمون منه اختيارًا يوهمون مهاجميهم إمكان الظفر بهم بسهولة، ولكنهم يعودون
ذات ليلة أو في نفس تلك الليلة كأنما قد خرجوا من جوف الأرض، ويقومون
بمهاجمة عنيفة، فهذه الطريقة قد مكنتهم من أعدائهم، وسهلت لهم الحصول على
الغنائم والأسلاب، وتبديد شمل العدو.
فالجيش الفرنساوي المؤلف من 12000 رجل تحت قيادة الجنرال ليوتي في
الوقت الحاضر لا يكفي لسوى حماية مدينة فاس وأرباضها، على أنه لا يقوى على
الحراك أو على مناهضة عبد الكريم إلا بعد أن تصله النجدات المنتظرة من الجزائر،
وهي فيما يقال: ستكون متراوحة في العدد بين 15000 و 20000 جندي،
وعندها يزحف إلى إنقاذ المعاقل العسكرية المحصورة على أن تلك النجدات سوف
تلاقي صعوبات جمة في الوصول إليه؛ لأنها مضطرة إلى عبور نهر أوترغا،
وهو في هذه الأيام بحالة فيضان يتعذر معها عبوره.
وفي رأيي أن فرنسة لا تَقوى على مواجهة عبد الكريم بما يصون ماء وجهها
في العراك بأقل من أربعين إلى خمسين ألف جندي، ومن المعلوم أن عجز فرنسة
عن مناهضة عبد الكريم وصد هجماته قد أوجدت تأثيرًا سيئًا في نفوس القبائل التي
لا تزال موالية لها، والتي قد تنقلب إلى أعداء في أقل من ارتداد الطرف كما قد
وقع لأسبانية، فإذا جرى هذا يصبح موقف فرنسة في تلك الأرجاء حرجًا كبير
الخطر.
وأنا أعتقد أن فرنسة قد ارتكبت خطأ فظيعًا في غض نظرها عن النكبات التي
لحقت بأسبانية في مراكشها مدة خمس عشرة سنة، فهي فيما أظن قد اعتقدت أن
عبد الكريم بالرغم مما أحرزه من الانتصارات على أسبانية لا تحدثه نفسه بمهاجمة
فرنسة، ففي هذا لم تكن ذات نظر بعيد، وقد كان من حقها أن تدرك أن سَكرة
النصر التي قد تتملك عبد الكريم تحمله يومًا من الأيام على التمادي في إبعاد كل
الأجانب عن بلاده - وهكذا يهاجم فرنسة - تلك أمور قد أدركها كثيرون من زمن
طويل، وأما فرنسة فقد عجزت عن إدراكها.
وإنني على ما يدعيه بعض الفرنساويين من أن العرب يكرهون الأسبانيين
أقول عن اختبار: إنهم يكرهون الفرنساويين أضعاف ذلك، نعم إنهم كانوا يبدون
احترامًا أكثر لفرنسة، ولكن ذلك الاحترام ناتج عن خوف لا عن حب، فالعرب
كما لا يخفى لا يحترمون سوى القوة، وبما أنهم كانوا إلى اليوم يعتقدون أن فرنسة
في مراكش أقوى منهم بالشيء الكثير لم يفكروا في مهاجمتها، وعلى هذا أقول: إن
الفتنة الحالية منظورًا إليها من كل الجهات هي من الحركات العظيمة الأهمية، وقد
تكون أهميتها في هذا الحين غير بادية للعيان إلا أن المستقبل مخيف.
ويمكنني أن أدعي بعض العلم بالخطط التي رسمها عبد الكريم لنفسه،استقيت
ذلك من صديق لي اسمه خوزي دياز، وهو من الناس القلائل الذين زاروا عبد
الكريم في منزله بأكسدير، علمت من هذا الصديق وغيره أن عبد الكريم يفاوض
على الدوام زعماء العالم الإسلامي في كل مكان في العالم، وغرضه من ذلك إيجاد
حركة عدائية ضد كل الدول المسيحية التي تحتل بلدانًا إسلامية، وعبد الكريم يعتمد
في خلق ما يلزمه من القوة على تعصب العرب الديني وهو يؤجج نيرانه ليبلغ من
ذلك مُناه في طرد أسبانية وفرنسة من مراكش [2] ودعاية عبد الكريم مبثوثة بين
جميع القبائل تدعوهم إلى مناصرته للبطش بالطامعين بأراضي الإسلام، وتؤكد لهم
أنه سيقذف بهم جميعًا إلى البحر.
ومما هو جدير بالذكر أن عبد الكريم ليس بطلاً مجربًا فقط فقد حدثته في
مواضع كثيرة وحدثه غيري كثيرون، فهو رجل واسع الاطلاع وفيه ذكاء ودهاء
وتعقل بمقدار يندر وجود مثله في رجل واحد، والرجل يعتقد أن عليه واجبًا وطنيًّا،
وهو يعرف كل الحوادث المتعلقة بمدة السبعمائة سنة التي سيطر فيها العرب على
أسبانية، وهو وأخوه الذي تلقى فن الهندسة في مدريد قد جالا في كثير من البلدان
المتمدنة، وسكنا زمنًا طويلاً في جنوبي أسبانية.
وفي مدة إقامة عبد الكريم في ذلك الجانب من أسبانية شاهد آثار أمجاد العرب
الباقية في كل مكان من تلك البلاد، ولا سيما في غرناطة، فأثر ذلك فيه أيما تأثير،
وولد فيه نزوعًا إلى محاولة استعادة أمجاد الأجداد، وهو أمر نبيل يشكر عليه
الرجل مهما قيل عن مساوئه وأخطاره، وقد بث هذه الدعوة العربية في كل مكان
بواسطة المشايخ والأئمة الذين يتجولون من مكان إلى آخر، ولهم سلطة معروفة
على العامة.
وقد لقب عبد الكريم نفسه منذ زمن بعيد برئيس جمهورية الريف حتى إنه
ألف وزارة وهو طامح إلى توحيد كل القبائل والشعوب التي هي من جنسه تحت
هيئة حكومة منظمة، ومعلوم أن فرنسة حسب الظاهر لا تحسب حسابًا كبيرًا لفتنة
الريفيين، ولعلها تصبر إلى أن يهب كل سكان مراكش لمناهضتها قبل أن تدرك
وتعترف بأن الحالة موجبة للخوف والاحتساب، على أن المراكشيين فيما أعتقد لا
يخيبون آمالها من هذا القبيل ولكل شيء وقت، والتاريخ مملوء من هذه
النظائر.
ويذكر الذاكرون أن نابليون قد انكسر مرارًا بجيشه المجرب في أسبانية،
حيث حاربه هناك شراذم من الرجال عام 1808، وكانوا يجرون في مكافحته على
نفس الخطة التي يجري عليها الريفيون مع الفرنسويين اليوم، وثورة البورس على
إنكلترا هي مثال آخر من تلك الأمثلة، ومثل هذا يقال عن الفتنة في بنجاب من
بلاد الهند [3] ، ومن المعلوم أن تملُّك المستعمرات البعيدة الشُّقة هو الآن من
الكماليات الموجبة لباهظ النفقات التي تستكبرها أغنى الدول وأقواها.
وقد أصبح الناس في تلك المستعمرات غيرهم بالأمس، فهم يعرفون تاريخ
بلادهم وتاريخ الدولة التي تسيطر عليهم، ويدركون حقوقهم وواجباتهم، خذ مثالاً
لذلك عبد الكريم الذي تلقى العلوم في أسبانية وغيرها، وعاد إلى بلاده ينشر ما
استنتجه من ذلك بين أبناء قومه، فالعلوم التي تلقَّنها كانت بمثابة سلاح قاطع في
أيدي التلاميذ ضد معلمهم، وعبثًا تحاول فرنسة قمع العصيان وإطفاء نائرة الفتنة،
فهي وإن استطاعت ذلك (وهو فيما نرى بعيد) فإنها لم تستأصل أسباب الخروج
وبواعث النواة التي بثها عبد الكريم بين مواطنيه.
وانغلاب العرب في الكفاح ليس من الأمور التي يعبأون بها، فهم إن انهزموا
اليوم يعودون في الغد إلى المناجزة أوفر نشاطًا وأكثر إقدامًا، وما يشيعه ذوو
الأغراض من أن عبد الكريم يقصد بتوجيه حملاته على المنطقة الفرنساوية خدع
الأسبانيول الذين يطمع في إخراجهم من البلاد هو من الأقوال العارية عن الصحة؛
لأن عبد الكريم غير مبالٍ الآن بالمنطقة الأسبانية؛ لأنه يدرك قوة تحصين الأسبان
بعد تراجعهم إلى الوراء، وهو أعقل من أن يهاجمهم في هذا الحين.
فغرض عبد الكريم الحقيقي هو توجيه ضربة شديدة إلى فرنسة حتى إذا بطش
بجيشها يثير عواطف الشعوب والقبائل المراكشية، ويحملها بفوزه على مناصرته،
وحينئذ يحشد من الجيوش ما يمكنه من توجيه الضربات الشديدة إلى فرنسة
وأسبانية معًا، ومن أجل هذا أقول: إنه ما لم تقو فرنسة على إنزال أشد العقاب
بعبد الكريم بالأسرع الممكن، تكون خسارة فرنسة في مراكش عظيمة وسقوط
مهابتها في عيون أهل البلاد سريعًا للغاية؛ لأن عبد الكريم يذيع أنباء انتصاراته في
طول البلاد وعرضها لكي يحمل أهل البلاد على اعتقاد أن سحق فرنسة وأسبانية في
مراكش ليس من الأمور المحتملة فقط بل من الأمور المقررة.
ويجب أن لا ننسى أن المراكشيين إذا حاربوا بعدد قليل من الرجال لا يكون
ذلك ناتجًا عن عدم وجود الرجال عندهم، بل عن عدم وجود الأسلحة، على أن
كفاحهم بالقليل من الرجال يزيل سوء نتائج هذه الحاجة فإن المراكشي إذا حارب
يندفع بشجاعة أو بالحري يتناسى الخوف، والمراكشي الذي يرى رفيقه مجندلاً في
ساحة القتال لا يرتاع ولا يلوي إلى الفرار بل يأخذ مكانه.
والأسلوب الحربي الذي يتمشى عليه عبد الكريم هو أن يتراجع بينما يكون
العدو متقدمًا، حتى إذا وقف العدو عن التقدم يشرع هو ورجاله في اصطياد رجال
العدو واحدًا بعد آخر، وهو فن يحسنه العرب أكثر من كل شعب آخر، ومن
الصعب جدًّا إطلاق الرصاص على المراكشيين؛ لأنهم لا يحاربون مجتمعين بل
أفرادًا أو أزواجًا يتحركون على الدوام، بينما الفرنساويون أو الأسبانيون يزحفون
جماعات تكون أفضل هدف لرصاص عدوهم.
إن المقاتل العربي الفارس لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار، فهو يهجم
كالمارد على صفوف الأعداء إلى أن يصير على مسافة 1500 إلى 2000 متر،
ويطلق نيرانه وهو مثابر على الجولان، وهو على الغالب لا يخطئ المرمى حتى
إذا قضى وطرًا يكر راجعًا؛ ليعبئ بندقيته من حيث تطيش طلقات الأعداء
المصوبة عليه فلا تصل إليه، وغني عن البيان أن الطيارات والمدافع لا نفع منها
في هذه الولايات، ولا توجد هناك مدن أو حصون ليضربها العدو ويستولي عليها،
بل أبطال مجربون يصيبون ولا يصابون.
هؤلاء العرب هم جنود مدربون من المهد، وهم يفضلون اصطياد الناس على
اصطياد الوحوش وغيرها، ومن الأقوال المأثورة عنهم: إن أحب الأشياء إلى
العربي في الحياة بندقيته ثم جواده وأخيرًا زوجته التي يعاملها على ما هو مشهور
كما يعامل البهيمة، وهي قلما تترك البيت، فإذا فعلت تخرج مبرقعة، ولا يرى
وجهها إلا سيدها دون سواه [4] .
والمحارب العربي يكفيه القليل من القوت كحفنة من التين أو التمر تغذوه
النهار بطوله، ولا يعطش ويقوى على الركض مسافات طويلة، ولا يتأثر من الحر،
وإذا حارب العرب حربًا دينية فلا يوجد في جيوش الأرض من يضارعهم؛ ذلك
لما في دينهم من الوعود بالجنة لمن حارب ضد المسيحيين [5] , فهم ينالون مقابل
هذا الجهاد مكانًا جميلاً في السماء، ويحرزون الجياد المطهمة والسلاح الجميل
والنساء الحسان، ومن أجل هذا فهم لا يخافون من الموت في ساحة القتال [6] .
وبعكس ذلك الجندي الفرنساوي أو الأسباني الذي لا دين له على الغالب ولا
هو يؤمن بثواب حتى ولا في هذا العالم، ولا بعقاب في الآخرة، ومن أجل هذا
فهو لا يستميت في القتال ولا يتهالك كالعربي، ذلك ما أردت بيانه هنا إيضاحًا
للحالة الراهنة، وهناك أشياء كثيرة مهمة لا تسمح الفسحة بإيرادها، على أن القراء
يدركون من الذي تقدم بيانه راكنة الحركة التي يقوم بها عبد الكريم، وأنها تتطلب
اهتمامًا خاصًّا ودراية وتدبيرًا عظيمًا؛ لإنقاذ غوائلها.
وجملة القول أنه إذا كان عبد الكريم قد نجح في مساعيه بغرس البغضاء في
أذهان مواطنيه للأوروبيين فليس في الدنيا ما يقوى على إزالتها، ومهما أتى
الفرنساويون من آيات القتال، ومهما جردوا من الجيوش فإنهم يعجزون عن
استئصال هذه الفكرة القومية التي ستكلف فرنسة على تمادي الزمن أنهارًا من الدماء
وأنهارًا من الذهب كما كلفت أسبانية.
(المنار)
انتهت المقالة، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذه الكراسة من المنار بأن محمد
عبد الكريم يحارب الآن الدولتين معًا وهو منتصر عليهما.
__________
(1) المنار: يريد بهذا الكلام تحريض أوربة كلها على الريفيين كعادتهم.
(2) (البيان) عادوا إلى ذكر التعصب الذي يرمي به الغرب الشرق كلما شكا من ظلم الاستعماريين أو هب للتخلص من تصلفهم وجشعهم.
(3) المنار: أي التي كان سببها إطلاق الإنكليز العادلين الرحماء مدافعهم على الأهالي العزل من رجال ونساء وأطفال بلا ذنب إلا أن يكون التعصب الذي معناه التألم من ظلم الأجنبي المستعبِد لهم.
(4) المنار: إنها على هذا أفضل عند العرب من الزوجة الإفرنجية التي يرى غير زوجها لا وجهها فقط بل سائر بدنها أيضًا.
(5) المنار: هذه التهمة اختلقها الصليبيون واستغلها الماديون والملحدون من سلائلهم، والصواب أن القرآن نطق بأن النصارى أقرب الناس مودة للمسلمين؛ ولكن الإفرنج عادوا المسلمين وسلبوا ملكهم، ثم كانوا معهم مضرب المثل (رمتني بدائها وانسلت) فهم يتهمونهم بذلك لتطيعهم شعوبهم الحرة، وتوافقهم على استمرار استعبادهم واضطهادهم لهم.
(6) هذا أهم أسباب عناية الإفرنج بإفساد عقائد المسلمين وإبطال ثقتهم بدينهم، وقد كان تأثير مدارسهم ومدارسنا المقلدة لهم في تمكينهم من استعباد المسلمين وسلب ملكهم أعظم من تأثير أساطيلهم وجيوشهم، وإن ملاحدة المتفرنجين منا لشر منهم وأضر، لعنة الله عليهم.(26/147)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحج في هذا العام (1343)
كان للدول المستعمرة المسيطرة على الشعوب الإسلامية غرض واحد من
السعي لمنع الحج وهو معروف لكل المسلمين بسياسة الاستعمار، فصار لهم في
هذا العام غرضان، ثانيهما: أن لا ترى شعوبهم إدارة إسلامية صالحة في حرم الله
عز وجل كإدارة السلطان عبد العزيز آل سعود، فيحدث لهم أمل جديد في حكومة
إسلامية عادلة مستعدة لأن تكون دولة قوية، تقدر أن تنقذ الحرمين الشريفين من
وقوعهما تحت سيطرة الاستعمار الذي رضيه لهما الشريف حسين وأولاده علي
وعبد الله فيصل كما رضوه للعراق وسورية وفلسطين، على شرط أن يكونوا
ملوكًا وأمراء فيه تحت السيادة الإنكليزية، كما بيناه مرارًا بالبراهين التي لم يقدر
أن ينقضها أحد منهم ولا من أُجَرائهم.
أذاع السلطان عبد العزيز منشورًا في الدعوة إلى أداء فريضة الحج، ونشر
في جريدة أم القرى المكية، ووزعت منه نسخ مستقلة كثيرة في مشارق العالم
الإسلامي ومغاربه، ونشر في أشهر صحف مصر وسورية والهند وجاوه وغيرها
من الأقطار، ذكر فيه أمن الطريق، وفتح ثلاث من ثغور الحجاز لنزول الحجاج
فيها، القنفذة والليث في جنوب جدة ورابغ في شمالها، فطفق الأجانب يدسون
الدسائس ويثيرون الهواجس والوساوس؛ لتخويف المسلمين من سبيل الحج،
ويدَّعون أن جيوش الشريف على المحصور في جدة وأساطيله واقفة للحجاج
بالمرصاد، فهم على خطر أينما توجهوا من بر وبحر، وأن الحجاز ولا سيما مكة
المكرمة في مجاعة، فيخشى على من يجيئها من الحجاج أن يموتوا جوعًا إن هم
نجوا من جيوش الشريف علي (ملك الحجاز) وتجاوبت بمثل هذا البرقيات
الإنكليزية من جدة ولندن والهند، ولبعضها صفة رسمية بريطانية، كزعم قنصل
الإنكليز في جدة عدم صلاحية الثغور المذكورة لنزول الحجاج، وعدم وجود
الأقوات وغيرها مما يحتاجون إليه، فيها حتى نصحت الحكومة الهندية البريطانية
مسلمي الهند بأن لا يحج أحد منهم في هذا العام، فلم يقبلوا نصحها (وقد يستفيد
الظنة المتنصح) وتابعتها حكومة مصر فنصحت للمصريين بمثل ذلك، وزادت
أن فرضت على من يريد الحج دفع تأمين لها ضِعفَي ما كانت تأخذه من كل حاج
عاقبة ذلك على مثل هذه الإذاعات التي كانت تنشرها جريدة المقطم، المنشأة؛
لخدمة السياسة البريطانية والمنفردة بترويج الدعاية الحجازية، حتى إن أحد
محرريها قال لبعض الناس قبل نشر الحكومة لقرارها بأيام: إننا قد نجحنا في منع
الحج في هذا العام، ولا غرو فنفوذ الإنكليز بمصر في هذه الأيام، أقوى مما كان
في كل زمان، وإننا كنا طبعنا نداء سلطان نجد عند وصوله، ووزعنا منه نسخًا
كثيرة وهذا نصه:
نداء عام إلى جميع المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها.
مكة المكرمة 1 شعبان سنة 1343 ... 25 فبراير سنة 1925.
من سلطان نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى كافة إخواننا
المسلمين في أقاصي الأرض وأدانيها.
نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه، ونستفتح بالذي هو خير، وبعد فلقد مَنَّ الله علينا وأمدنا بعنايته في دخول
هذه البلاد المقدسة، وتفضَّلَ علينا ومكننا من طرد الحسين وأولاده الفئة الباغية من
هذه الديار المطهرة، وبذلك زالت والحمد لله دولة الظلم والجبروت، وحلت
الشريعة السمحة محل الأغراض والأهواء، وتوزع العدل بين الناس سواء في ذلك
الصغير والكبير والشريف والوضيع، فسَادَ النظام في البلدة المطهرة وفي سائر
أنحاء البلاد، واستتبَّ الأمن وعمَّتْ السكينة والطمأنينة سائر الأرجاء بصورة لم
تعهد من قبل، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة:
54) , وهذا مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من
أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) تبارك وتعالى.
هذه هي الحقيقة الراهنة في البلاد، ولكن الحسين وأولاده وأشياعهم قعدوا في
الخارج يخلقون الأراجيف، ويشيعون الأكاذيب عن الموقف الحربي في الحجاز
وعما يمكن أن يؤول موسم الحج في هذا العام تضليلاً للأفكار وتشويهًا للحقائق.
ولما كان من أجلِّ مقاصدنا خدمة الإسلام والعالم الإسلامي، وهو المبدأ الذي
اتخذناه عند الشروع في هذه القضية العظيمة الشأن، رأيت الواجب يدعوني لأبين
للمسلمين عامة ما يأتي:
(1) أن جندنا قد حصر علي بن الحسين وجنده وقُواه في بلدة جدة التي
أحاطها بالأسلاك والحصون، وضيق عليه تضييقًا عظيمًا، وسيخرجه منها في
وقت قريب إن شاء الله تعالى.
(2) أننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من كافة
المسلمين في موسم هذه السنة، ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم والمحافظة على
جميع حقوقهم، وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة من إحدى المواني التي
ينزلون إليها وهي رابغ أو (الليث) أو (القنفدة) وقد أحكم فيها النظام واستتب
الأمن استتبابًا تامًّا منذ دخلتها جيوشنا، وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز جميع
الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى.
(3) أعلن لكافة إخواننا المسلمين أنه لم يبق أثر للمشاكل والعراقيل التي
كان يضعها الحسين ضد المشاريع الخيرية والاقتصادية، وأن أبواب الحجاز
مفتوحة لجميع من يريد القيام بأي عمل خيري أو اقتصادي، وأن الحكومة المحلية
مستعدة للقيام بجميع التسهيلات الممكنة؛ لتنشيط من يريد القيام بهذه المشاريع
الخيرية والاقتصادية.
هذا ما أردنا إعلانه للناس كافة؛ ليحيط الجميع علمًا به، سائلاً الله تعالى أن
يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، ويهدينا وإياكم إلى سبيل الرشاد، إنه ولي التوفيق،
نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سلطان نجد
... ... عبد العزيز عبد الرحمن
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الفيصل السعود
__________(26/156)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عاقبة الشريف حسين بن علي مع الإنكليز
كتبت في الرحلة الحجازية فصلاً في صفات هذا الرجل وشمائله، وكان ذلك
قبل اليأس من كل خير يُرجى منه لأمته وملته، والجزم بأنه لا يُتَوقع منه إلا الشر،
على أنني لم أكن حرًّا في التصريح برأيي كله فيه عند كتابته، ومع شدة
احتراسي من التصريح بانتقاد ما ينتقد منه، لأنني لم أكن أرى ذلك من المصلحة
ولا من الذوق والأدب، ولأن ذلك كان في عهد المراقبة على الصحف، ولا سيما
المنار، وقد أمرت المراقبة الإنكليزية بحذف بعض الجمل من ذلك الفصل لم تأمر
بحذفه المراقبة المصرية قبلها، وكان ما يكتب في المنار من مسائل الحرب والبلاد
العربية ونحوها يراقَب مراقبة مزدوجة.
وَصَفْتُه في ذلك الفصل بشدة الاستبداد والعناد بسوء الظن وعدم الثقة بأحد،
ولكن جعلت ذلك في معرض مظهره المدح ثم قلت: وقد وقفت منه على آراء
سيكون لها أعظم شأن في سياسته، منها يأسه من الدولة العثمانية، ومنها
(أن له ثقة بالدولة البريطانية وتقديرًا لقوتها وعظمتها لا حد لهما ولا سلطان لشيء
عليهما) وعنيت بهذا أنه لا يمكن تحويله عن شيء من ذلك ببرهان عقلي ولا
سياسي ولا ديني ولا بمراعاة مصلحة قومية إلخ.
ثم كان من مصداق هذا القول فيه أنه رضي لنفسه أن يكون موظفًا بريطانيًّا
في الحجاز، فكان إذا استاء من شيء يطلب من الحكومة الإنكليزية إقالته من ملك
الحجاز وتعيين غيره في مكانه، حتى إنه نشر خبر استقالته في جريدته (القبلة)
ونشر مرة صورة برقية، أرسلها إلى مدير جريدة التيمس، يرجوه فيها بأن يقنع
حكومته بقبول استقالته، ونصح له غيرنا وكنا نصحنا له كغيرنا وأنى يقبل نصيحة
أحد؟ .
فكان عاقبة جهله وغروره واستبداده برأيه أن خذله الإنكليز في كل شيء،
بعد أن نالوا منه ومن أولاده ما ثبت به لكل أحد مطلع على أمرهم وأمر العالم أنهم
خانوا أُمتهم، ونبذوا دينهم وشرفهم وراء ظهورهم في خدمتهم، تعددت أحداث
خذلانهم له هو، وبقي مصرًّا على الاتكال عليهم والثقة بحسياتهم النجيبة، وقد
طرده سلطان نجد من مكة فانهزم إلى العقبة آخر ثغور الحجاز الشمالية، وكان
الإنكليز خدعوه بأن يضم منطقة العقبة ومعان إلى إمارة ولده عبد الله (شرقي
الأردن) ففعل وهو يتخيل أنها من مملكته العربية، وأنه هو الذي ولى نجله
المحبوب عليها! !
ثم كان عاقبة هذه الجناية والخيانة أن أمره الإنكليز بالخروج من هذه المنطقة
والسفر إلى البصرة، حيث أعد له نجله فيصل قصرًا لائقًا بمقامه، فتمنع وقال:
إنه لا يخرج من أرض الحجاز مختارًا، فسررنا بذلك وعزمت على كتابة مقالة في
تأييده والدفاع عنه والاحتجاج على الإنكليز، وكاشفت بعض أصدقائي بذلك، ولكن
لم نلبث أن نُبِّئنا بأنه خضع وخنع عملاً برأي ولده عبد الله، وأبسل نفسه فأرسلوه
إلى جزيرة قبرص حيث أعدت له الحكومة الإنكليزية دارًا لائقة به؛ ليقيم في ظل
عَلمها الظليل، كما اقترح عليها من قبل مرارًا {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا
السُّوأَى} (الروم: 10) وإنما العاقبة الحسنى للمتقين، وسنعود إلى تفصيل
القول في هذه المسألة وبيان العبرة فيها.
ونختم هذه الكلمة هنا بإنذار الحكومة البريطانية أن لا تغتر بسوء حال
المسلمين وتواكلهم، فتضم شيئًا من أرض الحجاز إلى ما نسميه منطقة الانتداب،
فقد أصبح جميع الناس يعرفون معنى هذا الانتداب، وشروعها في الاستيلاء على
الحجاز، إن هي تجرأت عليه سيكون مبدأ زوال سلطانها من الشرق الإسلامي إن
شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(26/159)
ذو الحجة - 1343هـ
يوليو - 1925م(26/)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
مناظرة ابن تيمية العلنية
لدجاجلة البطائحية الرفاعية
كتبها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية -نفسه
رضي الله عنه
(2)
قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم
أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب،
والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلي مرة ثانية فبلغه أنَّا
في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة
وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في
حضورهم، فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع،
متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من
الأمراء، بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال: إنهم قالوا:
إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت: هذا من
البهتان.
وها أنا ذا أصف ما كان قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل
نارًا، ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء
يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما
الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير
المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا
على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماه وعلى أمير السلاح أجل
أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم، فذكرت تلبيسهم على
الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم
يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال
الغيب، فصنعوا خشبًا طوالاً، وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر
الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزّة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على
الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا منه مالاً كثيرًا، ثم انكشف له أمرهم.
قلت للأمير وولده: هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني
بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم أوهموه أن الموتى
تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي
بجبل لبنان، ولم يقربوه منه، بل من بعيد؛ لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب
منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها
هذا كله، وتقرب قفجق منه، وجذب الشعر؛ فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده
من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس،
وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا، وهو نائب السلطنة بحماه،
يخبره بصورة ما جرى.
وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا
نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة، وسألني عنه،
فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد
ذلك في المجلس العام كما سأذكره.
قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون
بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي
يعجز عنها أهل الشرع، فليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه
سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل
أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل
جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم
بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر البارنج وحجر الطلق، وغير ذلك
من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل
والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال:
أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقيَ في قلبي أن أفعله،
ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى
الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله،
والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا
أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه،
وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين
الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض
ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات.
وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم، أيد الله
موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم، فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء
على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر
أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر،
وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال: اليوم نرى
حربًا عظيمًا، ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.
وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه
القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى
مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر
والمولهين ونحو ذلك فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة،
وأن له فيهم ظنًّا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال فإنه ذكر لي ذلك.
وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق، فإنه من
أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه
وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون،
وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء،
والطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة
عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} (لقمان: 19) .
فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء
والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يُسمي نفسه خليفة
سيده أحمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك،
وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من
المسائلة، فأعطيته طِلْبته، ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا
خفي عليَّ تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى عليَّ تلبيس أحد، بل أدركه في
أول الأمر، فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك
الذي كان اجتمع بي قديمًا، فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد
يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.
فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح،
والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال
وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة (فقلت) أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى:
{غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ} (غافر: 3) هذه إلى جنب هذه، وقال
تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: 49-50) فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن
وهب بن منبه روى: أنه كان في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقًا في
حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت، (فقلت) لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا
بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر
ابن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من
التوراة فقال: (أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان
موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتمونني لضللتم) وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال:
(كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم) وأنزل
الله تعالى {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51)
فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا
خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة
والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة:
48) ، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تُعلم صحتها، وما
علينا من عباد بني إسرائيل {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 134) هات ما في القرآن وما في
الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.
فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة
والفقهاء، ونحن قوم شافعية (فقلت) له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد
من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال
الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته، وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟
فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة
فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك (وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر،
فإني تكلمت بكلام بعُد عهدي به.
فانتدب ذلك الشيخ عبد الله، ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور
باطنة، لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه مثل المجالس والمدارس
والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا
يقف [1] عليه أهل الظاهر، فلا ينكرونه علينا (فقلت) له ورفعت صوتي
وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق، كل هذا
مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من
الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم
طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه.
(فقال) ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة
كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها
(فقلت) ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى
مغربها:أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو
مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء
الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار
يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج وحجر الطلق، فضجَّ الناس
بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى
جسومنا بالكبريت (فقلت) : فقم، وأخذت أحرز [2] عليه في القيام إلى ذلك، فمد
يده يظهر خلع القميص (فقلت) : لا حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر
الوهم على عادتهم (فقال) : من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة
حطب، (فقلت) هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود، بل قنديل
يوقد، وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة
الله، أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك، تغير وذل وذكر لي أن وجهه أصفرَّ.
ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو
طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل
على صحة ما تدَّعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال
الأكبر يقول للسماء أمطري، فتُمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي
كنوزك فتخرُج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم
فيقوم [3] ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك،
فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي
على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي،
وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا يعني:
الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به، فقال
الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به،
وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند
الأمير في طلب الصلح، وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد
مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون
منهم، وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.
فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118-119) ،
وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته
ثلاثين درهمًا، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم، وذهب أنه ملبس، وكان قد
حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماه، ولما
فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة، وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم.
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا
يشدون منهم أنهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما
بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة
عما مضى، وسألني الأمير عما يطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن
يعتقد [4] أنه لا يجب عليه اتباعهما أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك،
أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما ونحو ذلك من وجوه الخروج عن
الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال
الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه.
(فقالوا) : نحن ملتزمون بالكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟
نحن نخلعها (فقلت) : الأطواق وغير الأطواق ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما
المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه
وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم
الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا
التزامًا عامًّا، ومن خرج عنه ضربت عنقه - وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية
الميدان - وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًّا في حق جميع الناس، فإن هذا
مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان
والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور، أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت
عنقه.
(قلت) : ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله،
فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته؛ حتى إنهم بالأمس بعد أن
اشتكوا علي في عصر الجمعة، جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي
أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله، ودعاء لغيره في حال
مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
وهذا قد فُعل بالأمس بحضرة شيخهم، فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون
بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة،
وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا، وهذا منكر يبطل الصلاة.
(فقال) : هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس (فقلت) : العطاس
من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا
الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني
بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود
والنصارى، مثل قول أحدهم: أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر: كذا وكذا
من الإمام ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكِر تركَ الصلاة
يصلون بالتوبة، وأنا أعلم أنهم متولين [5] شياطين وليسوا مغلوبين على ذلك كما
يُغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.
فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم
الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت) له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ (فقال) :
هذا من الله حال يَرِد عليهم (فقلت) : هذا من الشيطان الرجيم، لم يأمر الله به
ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله (فقال) : ما في
السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، (فقلت) له: هذا
من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو
بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان
وسخطه الرحمن.
(فقال) : فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ (فقلت) : بهذه السياط الشرعية،
فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال
الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط
الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام
وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يُقَرُّونَ ولا نُقَرُّ نحن؟ (فقلت) : اليهود
والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على
بدعته، فأُفحموا لذلك.
وحقيقة الأمر أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يُقَر على ذلك، فمن دعا
إلى بدعة وأظهرها لم يقر ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون
على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم، فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام
وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًّا فهو إما مرتد وإما مشرك، وإما زنديق
ظاهر الزندقة، وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن
محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي
هدي محمد وشر الأمور محدثاتها [6] ، وكل بدعة ضلالة) وفي السنن عن
العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها
العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول كأن هذه موعظة مودع، فماذا
تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى
اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا
بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل
بدعة ضلالة) وفي رواية [7] (وكل ضلالة في النار) (فقال) لي: البدعة مثل
الزنا، وروى حديثًا في ذم الزنا (فقلت) : هذا حديث موضوع على رسول الله
صلى الله تعالى عليه وسلم، والزنا معصية والبدعة شر من المعصية، كما قال
سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها،
والبدعة لا يتاب منها، وكان قد (قال) بعضهم: نحن نتوِّب الناس (فقلت) :
مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، (فقلت) :
حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون
تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه أو ينوون التوبة،
فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما
يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم
عليها شر من المعاصي.
(قلت) مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري
في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر،
وكان يُضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم جلده الحد، فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به
إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لا
تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) (قلت) : فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا
فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله، شهد له النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم بذلك، ونهى عن لعنه.
وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي
سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس،
بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يخرج
من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم
وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما
يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية (لو يعلم الذين
يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل) وفي رواية (شر قتلى تحت
أديم السماء خير قتلى من قتلوه) قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم
وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم؛ وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول
الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من
هذه الأهواء، فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة
وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني
والسارق وشارب الخمر.
أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعني
أتباع أحمد بن الرفاعي - فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب
العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعزبار والرزجنة [8] ، تريدون أن تبطلوا دين الله
ورسوله، (فقال) : يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، (فقلت) : مثل ما أحرقني
الرافضة لما قصدت الصعود إليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم،
ويقول أصحابهم: إن لهم سرًّا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء
الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسَّره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب - فإن فيهم من الغلو والشرك
والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب
ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب
الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب
من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ
لاَ تُنظِرُونِ} (هود: 55) .
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة
ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت
عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق
وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
هذا آخر ما جرى مع البطائحية لشيخ الإسلام
وإمام الأئمة الأعلام، الشيخ تقي الدين
أحمد الشهير بابن تيمية
قدس الله روحه
ونور ضريحه
ورضي عنه
(انتهى عن الأصل البغدادي كسابقه)
__________
(1) وفي نسخة لا يقدر.
(2) كذا في الأصل، ولعله أصر عليه في القيام.
(3) كذا في الأصل، وفي رواية مسلم في حديث الدجال قال فيقول: أتؤمن بي قال فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به، فيؤشر بالمنشار من فرقه؛ حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين , ثم يقول له: قم فيستوي قائمًا، قال ثم يقول له: أتؤمن بي، فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، قال: ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، الحديث اهـ من حاشية الأصل.
(4) الأمثلة الثلاثة التي ذكرها هي لعدم متابعة الكتاب والسنة لا لمتابعتهما المطلوبة، فلعله قد سقط من هذا الموضوع جملة مضمونها: والرجوع عما يخالفها مثل كذا وكذا.
(5) كذا في الأصل، ومقتضى الإعراب (متولون) إلا أن يكون حُذف من الكلام شيء فيه ناصب لقوله متولين.
(6) المنار: لفظ مسلم: فإن خير الحديث كتاب الله إلخ.
(7) هذه الزيادة شاذة ليست في السنن، فذِكر شيخ الإسلام وحافظ السنة لها غريب، وكأنه أراد بها زيادة الترهيب.
(8) كذا في الأصل.(26/185)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أثارة من التاريخ
في حالة نجد قبل الشيخ محمد عبد الوهاب
وما قام به من التجديد والإصلاح
قال الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (تبرئة الشيخين) : قال أبو بكر حسين
بن غنام - رحمه الله - في تاريخه:
(وقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، والكل على تلك الأحوال مقيم،
وفي ذلك الوادي مسيم {حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} (التوبة:
48) ، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب، يأتون من الشرك بالعجاب، ينسلون
إليه من كل باب، ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب , ويدعونه؛ لتفريج
الكرب بفصيح الخطاب، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب، {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، وكان ذلك في الجبيلة مشهورًا، بقضاء الحوائج مذكورًا، وكذلك
قرية في الدرعية، يزعمون أن فيها قبورًا، أصبح فيها بعض الصحابة مقبورًا،
فصار حظهم في عبادتها موفورًا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون {أَئِفْكاً
آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات: 86) ؟ وكان أهل تلك التربة أعظم في
صدورهم من الله خوفًا ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب
الحاجات بهم يبتدون {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) ، وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر، ما لا يعهد مثله،
ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان
مزور، مثله لهم إبليس وصور، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر
النخل المعروف بالفحال، يأتونه النساء والرجال، ويفدون عليه بالبكور والآصال،
ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبركون به ويعتقدون وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن
الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل أن
يحول الحول، هكذا صح عنهم القول: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 43) وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك
طوائف وفرق، ويعلقون فيها إذا ولدت المرأة ذَكرًا الخِرقَ لعلهم من الموت
يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل
لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله،
فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان الله تعالى لها من ذلك السوء مجير،
فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 95-96) .
ثم ذكر في جميع قرى نجد، من ذلك ما لا يحصى ولا يعد، وكذلك في
الحرمين وفي سواد العرق وبغداد والمجرة والموصل والشام ومصر والحجاز
واليمن ما هو معروف معلوم مذكور في التاريخ، وقد اشتهر ذلك وبلغ مشارق
الأرض ومغاربها، واستفاض ما كان عليه أهل نجد من الكفر بالله والشرك به قبل
دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ودعوته الخلق إلى توحيد
الله وعبادته وترك عبادة ما سواه؛ فاستجاب من استجاب لله رغبة في الحق،
وجاهد في الله من أبى الدخول في دين الإسلام؛ حتى دخلوا في دين الله أفواجًا،
وقد شهد بذلك الخاص والعام، وأقر به الموافق والمخالف، فالحق ما شهدت به
الأعداء.
وقد رأيت في حال تسويد هذا الجواب تاريخًا لبعض المؤرخين من النصارى
في سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف (قال فيه) ما نصه:
***
نجد بعد الرسالة
ومن بعد أن بعث الحكيم (صلى الله عليه وسلم) بالهدى والحق، وانتشر
الدين الإسلامي في هاتيك الربوع، عم بلاد نجد من جملة ما عم، فصار أهلها على
هذه الطريقة المثلى، بيد أن الحوادث التي طرأت على قادة الأمة من بعد أبي بكر
وعمر (رضي الله عنهما) شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فأهملوها، هذا من جهة
ومن الجهة الأخرى أن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت أهل نجد عن
الإمعان في حقائق دينهم، فمرت عليهم السنون الطويلة وهم يحْبُون [1] في الإيمان
والاعتقاد، إلى أن وصل الحال بهم إلى درجة أصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام
والخرافات والاعتقادات الباطلة بالشجر والحجر والنجم وعبادات القبور والعكوف
عليها، والاعتقاد بأهلها النفع والضر إلى غير ذلك مما لأهل العراق فيه اليوم
النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، رغمًا عن انتشار العلم فيه، وبقي أهل نجد في
هذه الحالة وليس لهم سوى الحرب والضرب والاعتقاد الضار بالإنسان دينًا ودنيا
وأخرى، وليس لهم من الدين الحق إلا الاسم وذلك إلى زمن الشيخ محمد بن عبد
الوهاب.
***
نجد في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
نشأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بلدة العينية في حضن والده
عبد الوهاب بن سليمان، فرباه أحسن تربية، ولقنه العلم هو بنفسه، وكان والده
حينئذ قاضيًّا في بلدة العينية من قبل حاكمها الأمير عبد الله بن محمد بن أحمد
المعمري، ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثير المطالعة والتدبر والتفكر
شديد الشوق إلى العلم وطلبه، حدثته نفسه بأن يسير في طلب العلم إلى بلاد أخرى،
فحج ثم سار إلى المدينة فاتصل بالشيخين عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب
(العذب الفائض في علم الفرائض) والشيخ محمد حياة السندي المدني، فأقام عندهما
مدة ثم رجع إلى نجد، ومن هناك سار إلى البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء
يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم، ثم حاول المسير إلى الشام
فمصر، ولكن صده عارض في الطريق، فرجع أدراجه إلى بلاده حاملاً من زاد
العلم ما لم يتيسر لأحد غيره في وقته، ثم ذهب لرؤية والده وكان يومئذ في حريملا،
وسبب تحول الوالد إلى هذه البلدة؛ هو أنه في غياب الشيخ محمد توفى الله
الأمير عبد الله وخلفه في الإمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ عبد الوهاب بن
سليمان عن القضاء، وأقام مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب ورحل عبد
الوهاب القاضي إلى حريملا، ولما ثبت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف
الخرافات والبدع والأضاليل، وشمر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين،
وأخذ ينشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
***
هرب الشيخ محمد رحمه الله من بلدة حريملا
كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع إلى أمير ولا إلى إمارة، بل كانت
كرة تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى، فاتفق يومًا أن الشيخ
زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة على سوء
الأخلاق، فعمد هؤلاء إلى إهانته بل إلى قتله، وأرادوا إتمام الأمر بالفعل، فساروا
إليه ليلاً وتسوروا الجدار، وبينما هم في هذا الفعل إذ صاح صائح في المحلة،
فظن هؤلاء المفسدون أن الصياح عليهم، فهربوا وكفاه الله شرهم، ولما أسفر
الصباح ورحل إلى بلدة العينية، وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض على زمام
الإمارة من بعده عثمان بن حمد بن معمر فتلقاه الأمير عثمان بالتحية والترحاب
والإكرام التام، وهناك أخذ يبث حقائق التوحيد، والأمير عثمان يتعاهده بحفظ
حياته ونصره على أعدائه.
(حكاية الشجرة والقبة) وقد طلب الشيخ من الأمير أن يقطع شجرةً كانت
تُعبد في البلدة، وأن يهدم قبة زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - فتمنَّع الأمير
وبعد ذلك ألح الشيخ عليه وأقنعه، فأذن له في الآخر، ثم طلب إليه أن يسير هو
أيضًا معه، فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس، ولما وصلوا إلى المحل
المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة، وكانت قرب بلدة الجبيلة فكان ذلك العمل
من أخطر الأعمال التي أتاها الشيخ، فلما فعل الشيخ هذا الفعل الأول اشتهر أمره
ونبه ذكره فبلغ خبره أمير الإحساء سليمان بن محمد وكان ذا قوة وبأس شديد،
فبعث إلى عثمان بن حمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه إن لم يطرد
الشيخ من بلاده، فأذن حينئذ الشيخ عثمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يسافر
إلى حيث يريد، فاختار الشيخ الذهاب إلى بلدة الدرعية، فسار وسير الشيخ عثمان
معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل الدرعية فحل ضيفًا عند عبد الله بن
عبد الرحمن بن سويلم أحد أعيانها، ثم علم بعض كبار الدرعية فزاروه فلما اطلعوا
على مبدئه استحسنوه وأحبوه، ثم أرادوا أن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود؛
لينزله ضيفًا عنده فتخوفوا ففاوضوا بذلك أخاه ثنيان وزوجته وأخاه مشاري فاتفق
الجميع على تحقيق ما في الأمنية، فتم الأمر وذلك أن الأمير لما دخل قصره وقابل
زوجته اجتمع به أخواه فعرضا عليه الأمر مع زوجة الأمير، وأشاروا عليه بإكرامه
واحترامه، فسار إليه برجِله، ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به إلى
قصره، فاحتفى به أحسن الاحتفاء وأعزه وقام مؤيدًا لدعوته بكل قوته، فأخذ الناس
يفدون إلى الدرعية أفواجًا أفواجًا؛ فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع
يكاتب بلدان نجد وقراها، ويدعوها إلى طريق الحق، وما لبث أيامًا قلائل إلا
وأصغت له القبائل ودانت له أغلب البلدان، وما زالت الإمارة في امتداد واتساع
حتى أصبحت دولة بني سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة
زمامها في آخر أيامها إلى ثروة ومد نظر في السياسة، لغَدَت اليوم من أعظم الدول
الإسلامية قوة وسطوة ورهبة، ولامتدت أمراؤهم إلى بلاد شاسعة، إلا أنه دهمها ما لم
يدُر في خَلَد أصحابها، فإنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها؛ فاحتالوا على
الفتك بها فأوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين آل سعود وبين الحكومة العثمانية،
وللحال اتقدت تلك النار الحامية: نار الحروب والمضاغنات والزحفات المتكررة
فأضرت بالطرفين، ولا بد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد على القوم
الآخر في فرصة أخرى، والله ولي التوفيق، وهو نعم الرفيق، انتهى.
(المنار)
هذه نبذة صحيحة من تاريخ مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر محمد بن
عبد الوهاب، وقد اتفق الواقفون على تأثير ذلك الإصلاح من مؤرخي الشرق
والغرب على أنه يشبه نشأة الإسلام الأولى، وأنه لولا الموانع التي اعترضته لجدد
للإسلام مجده الديني والدنيوي معًا، وأعظم تلك الموانع مقاومة الدولة العثمانية له
ومساعدة محمد علي باشا لها على قتال الوهابيين وتدمير قوتهم، وكان المحرك
الخفي لهذه المقاومة دولة الدسائس الشيطانية، وعدوة الشرق ولا سيما الأمة
الإسلامية، التي لا تزال هي المقاوِمة لكل إصلاح إسلامي وترقٍّ شرقي، طمعًا في
استعباد الشرق كله، خذلها الله تعالى.
__________
(1) كذا في الأصل، والحبو زحف الطفل أو المُقعد مثلاً على إسته أو على يديه وبطنه، والمراد به ضعف الدين.(26/200)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
السفور والحجاب
(كثر في هذه السنين خوض الكُتاب في مسألة حجاب النساء المسلمات
وسفورهن فأُلفت فيها الكتب، وأخذت مجالاً واسعًا من أبحاث الصحف المنتشرة،
فالمتفرنجون يدعون إلى هتك الحجاب على ما يلزمه من خلع جلباب الحياء والتبرج
والتهتك والفجور، وأهل الدين يدعون إلى المحافظة عليه أو على العرض والنسب
به، ولكن أكثر ما كتب في ذلك مباحث نظرية، وتخيلات شعرية، حتى عثرت
الجرائد في هذه الأيام على بحث علمي فيه لأمير البيان شكيب أرسلان فنشره الكثير
منها على اختلاف مشاربهم في المسألة، ورأينا نحن أن ننشره في المنار أيضًا؛
لما فيه من العبرة والبيان الذي لا يعارَض بالمراء والخلابة وهو:
منذ نحو ثلاث سنوات كانت المعيشة في ألمانيا في غاية الرخص، فكان
طالب العلم في إحدى الكليات يقدر أن يعيش بنحو جنيهين أو ثلاثة في الشهر،
فانتهزت هذه الفرصة لتذكير أبناء وطني سورية وفلسطين بكون المعيشة في ألمانيا
هي أرخص منها في نفس بلادنا، فالذين يعتذرون عن تقصيرهم في تعليم أولادهم
بقلة ذات اليد ليس عليهم إلا أن يرسلوهم إلى ألمانيا؛ فيتاح لهم أرقى تعليم عصري
بأخف ما يتصور العقل كلفة وأقرب منالاً، ونشرت ذلك في جريدة الصباح التي
كانت تصدر في القدس الشريف، فأقبل على إثر هذه الكتابة نحو أربعين طالبًا
عربيًّا يريدون مناهل العلم في برلين ولايبسيغ وكونستانز وغيرها، وإنما كثرت
علي الأسئلة يومئذ في موضوع التعليم في ألمانيا والمعاش في ألمانيا بصورة
وصلت إلى أدق الأمور التافهة إلى أن عجزت عن الجواب، وأحلت ذلك إلى لجنة
خاصة أشرت بتأليفها في برلين لهذا الغرض.
وكان من جملة من استفتاني في أمر التعليم بأوربا رجل من أعيان فلسطين،
كتب إلي أن له في ألمانيا ولدين ابنًا وابنة، فأما الصبي فهو في المدرسة المسماة
جمنازيوم وهو في الثامنة من العمر، وأما الفتاة فهي في مدرسة بنات قد بلغت
الثانية عشرة من العمر، وهو يلتمس رأيي في أمر تعليمهما هل يتركهما يكملان
التحصيل في ألمانيا أم يسحبهما إلى الوطن، ولا سيما البنت فإنها كادت تبلغ سن
الرشد وهذا محل شاهدنا في هذه القضية.
فأتذكر أنني جاوبته بأن الولد يمكنه أن يتم تعليمه هناك بشرط أن يتعلم اللغة
العربية، وبالفعل كل ولد عربي لا يتعلم لغة أهله منذ الصغر ولا يعرف نفسه
عربيًّا منذ الصغر، لو بلغ من العلم أعلى درجة لم يكن لنا أن ندعوه غصنًا مهذبًا
من أغصان هذه الشجرة بل نعده غصنًا اقتُطع منها وغُرس في حقل آخر، وهو قد
أصبح ليس منا ولا يفيدنا بشيء، وأما من جهة البنت فقد جاوبته أنني لا أدري ماذا
أقول لك؛ لأنني لا أعرف مشربك الخاص والمسألة هي بحسب مشربك، فيمكنك
أن تسحب بنتك من ألمانيا منذ الآن وتكمل تعليمها في القدس، وثق أنه يوجد في
القدس علوم تكفي ابنتك ولا تقصر عن شأو رغبتها، كما أنه يمكنك أن تُبقي ابنتك
في ألمانيا إلى أن تتم تحصيلها كأحسن بنت ألمانية، ولكن على الوجه الأول تتعلم
ابنتك مع بعض اللغات الأوربية والعلوم العصرية اللغة العربية والعقيدة الإسلامية
وتخرج مسلمة، وأما على الوجه الثاني فتتعلم بعض اللغات الأوربية والعلوم
العصرية، ولكنها تخرج مسلمة بالاسم فقط وعربية باللفظ العامي لا غير، وعلى
الوجه الأول تبقى ابنتك لك ولا تتزوج إلا مسلمًا، وعلى الوجه الثاني تبقي ابنتك
لك إذا هي شاءت وإن لم تشأ لم تقدر أن تعارض إرادتها في شيء، ولا ينبغي لك
أن تكون مبغوتًا إذا قيل لك: إن ابنتك أحبت شابًّا ألمانيًّا وأخذته - لا بل شابًّا
يهوديًّا واقترنت به، فاختر أنت لنفسك أحد الوجهين، فإنني لا أعرف مشربك
الخاص في هذه المسألة ولا أنا عليم بذات صدرك حتى أقول لك: إن أخذت بهذا
الوجه أو ذاك الوجه تتعب ويحصل لك كما يقال وجع رأس، وترى أني لست قائلاً
لك هذا الوجه أولى من هذا وإياك أن تعمل هذا، كلا. لم أقل لك شيئًا من هذا
المعنى بل قصارى ما قلت لك: إن كان يكرثك أن تلبس ابنتك البرنيطة، وتخاصر
أي شاب استلطفته في الطريق، وتقترن بمن تريد ولو غير مسلم وما أشبه ذلك مما
هو جديد في الإسلام [1] فأولى بك أن تسحب ابنتك من اليوم من ألمانيا قبل أن
يعسو عودها فإنك بعد ذلك لا تقدر على ردها عما تريد، ولا أقول لك: إنها
ستتزوج حتمًا بغير مسلم، وستخاصر حتمًا من شاءت من الشبان بدون إذن منك أو
من أمها، كلا وإنما أقول لك: إنه يجوز أن تفعل ذلك، وحينئذ لا تقدر أنت أن
تمنعها.
وأما إذا كنت أنت ترى أن ما وسع الألماني وما وسع الأوربي بأسره يسع
المسلم أيضًا وهم بشر ونحن بشر، وكما جاز للأوربية أن تتزوج مسلمًا برضا
والديها أو بدون رضاهما، يجوز للمسلمة أن تقترن بأوربي أو بيهودي أو بصيني
بوذي أو بهندي براهمي إلخ بدون رضا والديها؛ فعند ذلك أقول لك: دعها تكمل
تحصيلها في ألمانيا. فالمسألة مسألة وجهة ونظر، فالذي يرى هذه الوجهة فطريقه
هذا والذي يرى تلك الوجهة فطريقه هذا، فأما أن يرسل ابنته إلى أوربا ويخرجها
في مدارس لا تعلم لغة عربية ولا عقيدة إسلامية، أو يخرجها عند الراهبات
العذاريات أو عند راهبات الناصرة، ثم يطالبها بأن تبقى مسلمة دينًا وشرقية ذوقًا
ومشربًا وأن لا يعطيها واحدًا، وأن يحاسبها على عشرة، فهذا تكليف ما لا يطلق،
وأضم إلى هذا المثال مثالاً آخر:
عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 قال أحمد رضا بك من زعماء
أحرار الترك: (ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علنًا مع المرأة التركية
على جسر غلطه وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستورًا ولا حرية) فكانت
هذه المرحلة الأولى، وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب
فالح رفقي بك الذي كان كاتبًا عند جمال باشا في سورية كتب: أنه ما دامت الفتاة
التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت أيان شاءت ولو كان من غير المسلمين، بل
ما دامت لا تقدر أن تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلمًا أو غير
مسلم - فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياه) فهذه هي المرحلة الثانية.
فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور ولا هي بمجرد حرية المرأة
المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل
بعضها ببعض، لا بد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها، وإذا
كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة أن يقبلها بحذافيرها بدون تعنت ولا تثاقل، فإن
كان ممن يرى رأي فالح رفقي بك - إن كان كما بلغني؛ لأنني لم أقرأ كلامه وإنما
أرجح صحته - بهذه الصراحة التامة التي معناها أنه يجب لتمام الرقي أن تصير
الفتاة المسلمة قادرة أن تتزوج بمن شاءت نصرانيًّا أو يهوديًّا أو مجوسيًّا، بل أن
تخادن من شاءت كذلك ولا حرج عليها في قانون بلاها، فقد انحل المشكل وارتفع
النزاع، ولم يبق حاجة إلى أن نقول: السفور خير من الحجاب، أو الحجاب خير
من السفور، بل تنحصر المسألة في هل يجب أن نقبل هذه النتائج بحذافيرها أم لا؟
وأما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها، وأن نطلق لها الأمر تذهب
حيث أرادت، وتحادث من أرادت، وتضاحك من أرادت، وتغامز من أرادت، ثم
إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا، فذهبت وساكنته، وكان بينها وبينه ما
يكون بين الرجل وزوجته - أقمنا القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا ياللحمية وياللأنفة ويا
للغيرة على العرض! فهذا لا يكون وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون.
والنتيجة التي نريدها قد حصلت وهي أن سلوكنا مسلك الأوربيين حذو القذة
بالقذة في مسألة المرأة هذا، له توابع ولوازم لا بد أن نقبلها ولا يبقى معها محل
لكلمة: أعوذ بالله، كلا. لا يوجد هناك (أعوذ بالله) بل تلك مدنية وهذه مدنية،
تلك نظرية وهذه نظرية، فعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما
استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: أعوذ بالله.
إن الشاب المصري منطقي الحكم سريع الفهم، ما نطق بكلمة: أعوذ بالله.
عندما قال له الأستاذ الرافعي: أفتَرضَى أن تقعد أختك عند أوروبي بالإجازة؟ أو
بمعناه - ألا انتبه إلى كون تعوذه هذا مخالفًا للقاعدة التي زعم أن لا إصلاح إلا
بها.. . وهي حرية النساء المطلقة في العالم الإسلامي كما في العالم الأوروبي:
تأخذ المسلمة من تشتهيه نكاحًا أو سفاحًا ولا يُحرَّج عليها في ذلك، قاعدة فالح رفقي
بك الذي مر بنا قوله، قاعدة عبد الله جودت الذي أشار لأجل تجديد دم الأتراك
بتزويج التركيات من شبان الألمان والطليان والحصول على نسل جديد، وكتب
ذلك منذ أشهر، وامتعض من كلامه بعض فتيان الترك من أنصار الجمهورية،
ولكن لم يتحرروا من وساوس الغيرة على العرض فقام ورد عليه قائلاً:
نحن الأتراك دمنا أطهر من أن نصلحه بهذا الاختلاط الذي أشار به عبد الله
جودت، ولكن الحقيقة هي أن القاعدة ما قاله الدكتور عبد الله جودت وما قاله فالح
رفقي وما قاله الشاب المصري مخاطب الأستاذ الرافعي، هذه هي القاعدة لا غيرها،
ويأبى المنطق أن تكون هي القاعدة، وأن يقال على إثر قبولها: أعوذ بالله من
مفاعيلها، لذلك لم يلبث الشاب المصري الذكي أن قال: ما أنا وأمثالي إلا شذوذ،
والقاعدة يجب أن تبقى أبدًا قاعدة، وبعبارة أخرى يقول: أنا وأمثالي لا نزال تحت
سلطان الوهم، ونأبى أن ندع أخواتنا يؤجرن أنفسهن من الأوربيين، لا عملاً
بمقتضى الحكمة والعقل، ولا جريًا على سنن الطبيعة، ولا اتباعًا لمذاهب المدنية
العصرية، بل خضوعًا لأوهام ووساوس لم نتحرر بعد منها، فهو يعترف بصحة
القاعدة التي توجب هذه الإباحة، ولكنه لا يزال يخجل أن يعلن كونه يرضى
بمخادنة أخته لشاب تتفق معه فتؤجره نفسَها بدون عقد نكاح شرعي، نعم هو لا
يزال ينكص عن إعلان الرضا بمثل هذه الفضيحة، وإنما يرجو أن يكون ابنه أو
حفيده ممن يغضي النظر عليها، أو يشترك في سن قانونها في مجلس النواب
المصري سنة 1950 مثلاً.
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) ... ...
__________
(1) يعني بالإسلام عالم الإسلام: أي المسلمين لا دين الإسلام.(26/206)
الكاتب: محمد أبو الفضل
__________
النساء والتبرج والتمثيل
فتوى مشيخة الجامع الأزهر
وزعت مشيخة الجامع الأزهر على الصحف الاستفتاء الآتي وجوابه، وهو:
سأل سائل: ما حكم الشرع في المرأة المسلمة المتبرجة والمتبهرجة، وفي
مسئولية أبيها وزوجها أو أخيها، وفي المرأة المسلمة التي تظهر على مسارح
التمثيل كممثلة.
فنقول: التبرج قد نهى الله عنه بقوله سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) الخطاب في هذه الآية
الشريفة موجه إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الحكم عام ومعناه هو
المشي بتبختر وتكسُّر، أو أن تُلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري
قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، أو أن تبدي من محاسنها ما يجب
عليها ستره، أو أن تبدي محاسنها من وجهها وجسدها، أو أن تخرج من محاسنها
ما تستدعي به شهوة الرجال.
فما يشاهَد الآن من كشف المرأة عن ساقيها وذراعيها وصدرها ووجهها، وما
تتكلفه من زينة تكشف عنها، وما تفعله في غدوها ورواحها من تبختبر في مشيها
وتكسر في قولها وتخلُّع يستلفت الأنظار، ويقوي الأشرار - تبرج منهي عنه
بالإجماع لا تُقره الشريعة الإسلامية، ولا يتفق مع العفة والآداب، لما يؤدي إليه
من إثارة الشهوات وتلويث النفوس وإفساد الأخلاق وإطماع ذوي النفوس المريضة
وكثيرًا ما جر ذلك إلى الجنايات على الشرف والعفة والاستقامة، حتى اشتد الكرب،
وعم الخطب، وأصبحت البلاد ترزح تحت آثاره الضارة ونتائجه السيئة، ولا
حول ولا قوة إلا بالله، وقد أدب الله النساء بقوله:
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ
بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ
الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ
مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) .
واشتغال المرأة المسلمة بمهنة التمثيل أولى بالحرمة من المتبرجة؛ لأن
التمثيل تبرج وتهتك، بل حضور النساء مجال التمثيل والرقص والحفلات التي
شأنها أن يختلط فيها الرجال بالنساء تحرمه الشريعة؛ سدًّا للذريعة.
وحيث كان الأمر كما ذُكر فالواجب على زوج المرأة وأولياء أمرها منعها من
ذلك، ويجب أيضًا على كل مسلم قدر على هذا، وقد آن للناس أن يتداركوا أمر
الأخلاق، فقد أوشك صرحها أن ينهار، وأن يقوِّموا منها ما اعوج، ويجددوا ما
درس قبل أن تصبح أثرًا بعد عين، والله ولي التوفيق.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أبو الفضل
__________(26/210)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام وأصول الحكم
كان صاحب هذه المجلة أول من قام بفريضة تفنيد ما أُودعَ في كتاب
(الإسلام وأصول الحكم) من الكفر والضلال، وتحليل الحرام وتحريم الحلال،
ومنع الحكم بما أنزل الله، وإباحة حكم الطاغوت، وكان أول من دعا علماء
الأزهر إلى رفع أصواتهم بالإنكار له والرد عليه، قبل أن تصل أيدي أكثرهم إليه،
ومن ذلك ما رآه القراء في مقالة الجزء الماضي، وكنا نشرناها قبله في جريدة
اللواء والأخبار، وقد أرسل إلينا طائفة منهم صورة عريضة في ذلك رفعوها إلى
فضيلة شيخ الأزهر وإلى بعض المقامات العالية، ووزعوا نسخًا منها على الصحف،
وهذا نصها:
عريضة مقدمة من علماء الأزهر
حضرة صاحب الفضيلة
السلام عليكم ورحمة الله
نحن الموقعين على هذا نرفع إلى فضيلتكم ما يأتي:
يا صاحب.. .، نص قانون الأزهر أن الغرض من وجود الأزهر وسائر
المعاهد العلمية الدينية هو حراسة الدين وتخريج رجال أكفاء يقومون بوظائف
الشريعة وإرشاد الأمة، ونص كذلك أن شيخ الأزهر الشريف هو صاحب الرياسة
العامة على كل المنتسبين إلى الدين من وجهة سيرهم الشخصي فيما يلائم صفتهم
الدينية.
ونص قانون الدولة أن دين الدولة المصرية هو الدين الإسلامي، واعترفت
سائر القوانين الأجنبية بحرمة الأديان ومعاقبة الطاعن عليها، هذا من الجهة
القانونية.
ثم من الوجهة الشرعية لا نعلم فائدة للعلم الديني، ولا لعلماء الدين، ولا
للأزهر الشريف منذ نشأته إلى الآن إلا القيام بحراسة الدين ودراسة العلوم النافعة
في تأييده، والدفاع عنه بكل الوسائل المشروعة، ونشر هدي الشريعة السمحة
الغراء بين المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الإلحاد
والزندقة وسوء الأخلاق والمعاملة، ودراسة الشبهات والرد عليها، وغير ذلك من كل
ما تقتضيه خدمة الإسلام، ويحبب إلى الناس الآخرين الانتظام في هداه، تلك هي
وظيفة العلماء منذ كان الإسلام، وذلك هو واجبهم الشرعي كالصلاة والصيام، الذي
لا يخرجون عند الله من عهدته ما لم يقوموا به حق القيام.
فهل يجوز ونحن الآن في عهد يوالي حضرة صاحب الجلالة الملكُ الأزهرَ
وعلماءه بما يتفق وكرامتهم، ويغنيهم عن الشغل بوسائل العيش؛ لأجل أن ينقطعوا
لواجبهم العلمي الديني.
وهل يجوز ونحن الآن من الكثرة بما لم يبلغه الأزهر في تاريخه من عدد
العلماء؟
وهل يجوز ونحن الآن من تيسير دواوين الشريعة وأمهات الكتب الدينية
وكثرتها بواسطة المطبوعات بما لم يبلغه عصر قبل؟
فهل يجوز مع هذه الاعتبارات أن يكون هذا العصر في الإلحاد والجهل
بالشريعة والمجاهرة بمحاربتها، وانتشار الدعاية كل يوم في الجرائد وسائر
المطبوعات ضدها، ممن هم من سلالة المسلمين أكثر من كل عصر مضى، ولا
يوجد من يدفع هذه الهجمات، ولا يذود عن بيضة الدين خصمًا واحدًا، بينما نحن
نتمتع باسم الدين بهذه الميزات الكبرى، وبينما نحن من الكثرة بحيث نملأ القرى
والبلدان؟ فماذا هو العذر لنا في ذلك أمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها،
وأمام حضرة صاحب الجلالة الملك الذي يوالي دائمًا إيقاظنا بجميع صنوف الرعاية؟
بل ماذا العذر لنا أمام الله سبحانه وتعالى وأمام رسوله صلى الله عليه وسلم
يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا ولد؟ فهل نعتذر بأن نظم الدراسة وشئون الطلبة
ومصلحة التعليم البحتة استغرقت أعمارنا، واستنفدت هممنا حتى صرفنا بها عما
وجدنا نحن ومعاهدنا من أجله؟
هل كان الأزهر قبل أربعين سنة من إهمال الدين وانصراف أهله عن نشره
في الأمة والدفاع عنه بهذه الدرجة التي نحن بها الآن؟ بينما كان أولئك في شغل
من العيش، ونحن في كفاية بفضل الدين وباسم الدين.
هل يجوز أن يطعن الدين كل يوم بين أيدينا طعنات قاتلة؟ ولا شيء يلهينا
عنه إلا نفس الرفاهية التي أغدقها علينا الدين؟ نعم في كل زمان وُجد إلحاد، ونجم
للدين أعداء، وظهرت مقالات سخيفة واعتراضات فاسدة، وتحريف وتبديل
ولكن كان العلماء على قلتهم وكدِّهم ممتطين هممهم العالية عند كل بادرة من ذلك
بدافع الشرع، منتضين عزمهم القوي وبراهينهم الساطعة، فلا تظهر شبهة إلا
كانوا أول من يقتلها بحثًا، ويقف على منشئها أكثر من صاحبها حتى يعود الحق
جليًّا والضال مهديًّا.
يشهد بذلك علم الكلام الذي ما تكوَّن إلا من ذلك، ويشهد بذلك تلك المصنفات
العديدة في رد الشبهات، ويشهد بذلك تاريخ علماء الإسلام ومناظراتهم التي كانوا
يقيمونها في كل زمان ومكان، ويشهد بذلك علم الخلاف والجدل وعلم آداب البحث
والمناظرة.
نقول هذا ونقدمه إلى فضيلتكم بمناسبة فشو دعاية الإلحاد في هذا الزمان،
والمجاهرة كل وقت بمحاربة الدين والقضاء على آدابه وأحكامه ممن لم يدرسوا منه
كلمة واحدة، ونحن من ذلك في سكوت عميق حتى اتخذوا من سكوتنا دليلاً قويًّا
على عجزنا، واستطرد منه الجاهلون إلى أن ذلك العجز إنما هو في نفس الدين،
فأصبحنا بذلك حجة على ديننا، وسدًّا بينه وبين الناس، شغلاً منا بمصلحة التعليم
البحتة عن نتيجة ذلك التعليم، ولم يقف التشكيك في الدين وتسريب الريب فيه إلى
المسلمين على أولئك الذين لم يدرسوه فحسب، حتى نجم اليوم ناجم، ونطق بعد
دهره ناطق، لم يشأ أن يباحث العلماء في خواطر نفسه قبل أن يفاجئ الناس بها،
وأخرج للناس كتابًا سماه (الإسلام وأصول الحكم) بصفة كونه عالمًا من علماء
الأزهر، وقاضيًا من القضاة الشرعيين ملأه بالشك والترديد، وأنكر أشياء لا نعلم
إلا أنها معلومة من الدين بالضرورة باتفاق العلماء.
أنكر الخلافة وأنها مقام إسلامي واجب بالشرع، وأفاض في النعاية على
معتقديها من عهد أبي بكر إلى الآن، ولم يُبالِ في ذلك بمس الصحابة أو الخلفاء
الراشدين، من أن عملهم عليها كان من قبيل المُلك لا من قبيل الدين! وهكذا
أنكر القضاء وسائر صنوف الحكومة، وأنها ليست من الدين في شيء.. . حاول
أكثر من ذلك في القسم الثاني من كتابه: أن النبي كان نبيًّا فحسب أم كان نبيًّا ملكًا؟
وأكثر من الترديد في ذلك، ومراودة العقول عليه، وبسط الاعتراضات وأوجز
الإجابة الواهية، ليَعبُر عابر من ذلك إلى أن سنة النبي صلى الله وآله وسلم التي
هي توأم الكتاب العزيز وبيانه، وديوان الشرع وأدلته التفصيلية إنما هي أحكام
محلية وقتية تنتهي بانتقاله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن نأخذ بها الآن، ولا
أن نقيمها في أي زمان أو مكان، بل نأخذ في كل شئوننا ومرافقنا بآخر ما أنتجته
العقول البشرية: أي (طبعًا من أمثال رجال أوربة وأمريكا المسيحيين) وكثير
من خصوم الدين من يتشدقون بذلك، فكيف يكون انتصارهم إذا رأوا بارقة تلوح
لهم بذلك من عالم من علماء المسلمين.
فنرغب إلى مقامكم السامي ورياستكم العظمى على تلك المصلحة الكبرى،
مصلحة الدين التي تتمتع بكل الصفات المرعية في مصالح الدولة، من قوانين
عالية، وإرادات سنية، ومقام لدى ولي الأمر لا يدانيه مقام، وكرامة في الأمة
دونها كل كرامة، ومسئولية عند الله تعالى دونها كل مسئولية، نرغب إليكم وأنتم
بهذه الصفة العالية أن تتخذوا الدفاع عن الدين وتأييده بالحجة والبرهان جميع وسائل
النفوذ المشروعة التي تخولها لكم القوانين؛ حتى تظفروا به على كل خصم،
وتنجلي آياته الباهرة رغم كل تشكيك، كما هو الشأن في حماية كل مصلحة من
مصالح الدولة.
كما أننا نرغب إلى فضيلتكم أن تساعدوا هذه الهيئة الدينية العظمى في النزول
إلى معترك الحياة العامة، ومشاركة الناس في مصالح الحياة؛ إعلانًا بأن الدين لا
ينافي الدنيا بل إنما جاء لصلاحها، والعمل على رفع الشر والظلم منها، وبث
العدل والأمن فيها، وأن يدرس رجال الدين كل ما يطرأ عند الناس من شبهة في
الدين؛ ليكشفوا عنها اللثام، ويعود الخلاف في الأمة وفاقًا، وتأمن الأمة شر
الانقسام، ونقوم بواجب الشرع خير قيام والسلام.
وهذه هي أرقام الصحائف التي تتضمن زيادة شذوذ وإغراب وتحريف:
ص 20 دعوى الوجوب الشرعي دعوى كبيرة، وليس كل حديث وإن صح
بصالح لموازنة تلك الدعوى.
ص 36 (فإنما كانت الخلافة - ولم تزل - نكبة على الإسلام والمسلمين،
وينبوع شر وفساد) .
ص53 (وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة فذلك لا
يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم
إلا أنه كان في سبيل المُلك، ولتكوين الحكومة الإسلامية - إلى أن قال: فذلك
عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه.
ص55 المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود
الرسالة.
ص57 القول بأن الإسلام سلطة دينية وسياسية قول لا نعرف سندًا له، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة.
ص92 بيعة أبي بكر بيعة سياسية على القوة والسيف.
ص96 اختراع لقب خليفة لأبي بكر ليأخذ الناس برهبة هذا اللقب.
ص97 حرب أبي بكر لمن سُموا مرتدين ليس للدين وإنما هو للسياسة.
ص 102 التصاق الخلافة بمباحث الدين من جناية الملوك.
ص 103 وهي آخر صحيفة قال فيها: (والحق أن الدين الإسلامي بريء
من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة
ورهبة ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا ولا القضاء
ولا غيرهما من وظائف الحكم) إلى آخر الصحيفة.
تحريرًا في يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة سنة 1343 (23 يونيو سنة 1925)
إمضاءات علماء الأزهر
حضرات المشايخ: يوسف حجازي، محمد مطاوع نصير، إبراهيم
عمارة، إسماعيل عبد الباقي، محمد علي شايب، إسماعيل علي، محمد علي
القاضي الطماوي، عتمان صبره، على جاويش، أحمد المكاري. إبراهيم
الدسوقي. حسب النبي محمود. علي شقير: عبد الحميد الهنامي. محمد خليل
بدوي. جاد عزام. بركات أحمد عواد علي. شمس الدين أحمد. محمد
مخلوف عيسى. معوض السخاوي. علي إبراهيم منيب. حسن حجازي. طه
البيباتي. رفاعي عصر. محمد حماد. سعيد حسن. أحمد أبو العينين كامل.
على الهنامي. أحمد عبد السلام. محمد علي الخولي. كمال القاوقجي. علي جاد
الله عبد الجليل. عيسى أبو النصر. عبد الرحيم البرديسي. خليفة راشد. محمود
عفيفي. حسن أبو عزب. علي أحمد صبره. عبد العزيز مهنا. محمد سامون.
عبد الحميد البجيرمي. مصطفى بدر زيد. عبد الحميد السرو. محمد العربي.
محمد عبد السلام القباني. سيد رضوان عثمان. محمد إبراهيم الحنبلي. قنديل
الفقي. سليمان البيلي. عبد الحافظ محمد عسل. سليمان الشيخ. إبراهيم
سليمان. محمد الشنواني: محمد البراوي. محمود زيد. توفيق البتشتي. محمد
العشري. عبد المقصود عبد الخالق، أحمد المرشدي، حسين البيومي، عبيد عبد
ربه، محمد مصطفى علي ناصر. عبد الفتاح قطب الملاح.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(26/212)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حرب الريف
أو الأندلس الجديدة
مساعدة منكوبيها وضروب من العبر فيها
ريف المغرب الأقصى بقعة صغيرة، اشتهر أهلها بعزة النفس، وشدة البأس،
ورسخ فيهم حب الاستقلال أو غريزته، فلم يذلوا لفاتح ولا خنعوا لمقاتل، ولما
ظهر للعالم كله عجز دولة إسبانية عن قهرهم في هذا العصر، وأنها باءت في
جميع معاركها معهم بالخيبة والخسر، وذاع صيت أميرهم وقائدهم العظيم محمد
عبد الكريم في الغرب والشرق، خافت فرنسة أن يستفحل أمره؛ فيستولي على
فاس، ويفضي ذلك إلى تحيز جميع القبائل له؛ فيتجرأ أهل الجزائر فتونس على
الانتقاض عليها وإلقاء نير العبودية الثقيل عن أعناقهم، وقد يئسوا من إنصافها
إياهم إذ اشتد إعناتها وإرهاقها لهم بعد الحرب الكبرى التي سفكوا فيها دماءهم دفاعًا
عنها، نعم خافت ذلك؛ فبادرت إلى قتال الريفيين كما قلنا في الجزء الماضي.
قد كان ذلك ومن المعقول أن يكون , ثم من المعهود المألوف أن تتهم فرنسة
الأمير محمد عبد الكريم وقومه بالبغي والعدوان , وأن تتهمهم بالتعصب الإسلامي
الذي هو عند الأوربيين كراهة المسلمين لاستعباد أوربة لهم، وحبهم للاستقلال بأمر
أنفسهم , ومن المعهود المألوف أن يرى صدى هذه التهمة في جميع ممالك أوربة ,
ومن المعهود المألوف أن تتفق دولها وساسة شعوبها على الدعوة إلى التنكيل بهم؛
لئلا يطمع المسلمون المستبعدون في سائر أفريقية وآسية في الحرية والاستقلال،
والتفصي مما وضع في أيديهم وأرجلهم من السلاسل والمقاطر والأغلال.
ولكن الأمر الذي لم يكن مثله معهودًا مألوفًا ولا منتظرًا عند أكثر الناس هو
أن تمتد هذه الدعوة الصليبية إلى الولايات المتحدة الأمريكانية؛ فترسل سربًا من
الطيارات إلى قتال أهل الريف انتصارًا لفرنسة وإسبانية، ومن تطوع للقتال معهما
من ممالك أوربة، فيا ليت شعري هل يعتقد هؤلاء الأمريكيون الأحرار المتساهلون
الذين يبرئهم نصارى الشرق من التعصب الديني المذموم، أن هؤلاء الشراذم من
الريفيين الفقراء يمكن أن يكسروا جيش الدولتين، وينقذوا بلاد المغرب الإسلامي
من العبودية، فعز عليهم ذلك فتطوعوا لوقاية هاتين الدولتين المسيحيتين أو
المدنيتين من هذه الخسارة الخطرة؟ أم نفروا لمساعدتهما؛ ابتغاء وجه الله تعالى
وطلبًا لرضوان يسوع المسيح يوم الدينونة بقتل أعدائه بقذائف الطيارات التي لا
تفرق بين المحارب وغيره، فلا ترحم طفلاً ولا امرأة ولا حيوانًا، والرحمة لا
يستحقها مسلم عند إعياء أتباع رسول الرحمة والسلام والزهد الآمر بمحبة الأعداء
عليه الصلاة والسلام؟ ولعلهم يرون أنه لا يستحق الوجود أيضًا عملاً بنصائح
مبشرهم القس زويمر الأمريكاني الذي لا يزال يحرض الدول المسيحية وشعوبها
على مسلمي العالم كله؟ نعم ولكن هل يتدبر هذه المعاملة متفرنجة المسلمين؟ لا
لا.
وإن تعجب أيها المسلم فأعجب من هذا أن جمعية الهلال الأحمر المصرية قد
اهتمت بإرسال بعثة طبية إلى جدة؛ لمساعدة جيش الشريف علي بن حسين في
قتاله للنجديين والحجازيين المشايعين لهم بالفعل، وإن كانت لمساعدة الفريقين
بالقول، وساعدتها الحكومة المصرية على ذلك بجمع الإعانات من الأهالي، ولكنها
لم تتصد لإرسال بعثة طبية إلى الريف وهو أشد احتياجًا إليها من جنود الشريف
علي في جدة، وقد سعينا إلى ذلك كغيرنا وكلمنا بعض أعضاء الجمعية، فسمعنا
ممن ترجى منهم المساعدة جمجمة وغمغمة، واعتذارات مضطربة، لم نقنع بها
ولا نقدر على الطعن الصريح فيها.
وكنا اقترحنا في الاجتماع العام لجمعية الرابطة الشرقية أن تتصدى الجمعية
للسعي في إرسال بعثة طبية إلى الريف، فاستحسن الحفل المجتمع ذلك، وصفقوا
له، ثم أحيل الاقتراح على مجلس إدارتها؛ لينظر فيه فبحث فيه مرارًا، ولكنه
أرهقه صعودًا، وألفى عقبته كئودًا ومرامه بعيدًا، وكان الله على ذلك شهيدًا.
ثم انتدب لهذا الواجب شرعًا وعقلاً وإنسانية صاحب السمو والهمة السامية
الأمير (عمر باشا طوسون) ، فألف لجنة للنهوض به تحت رياسته، ونشرت
الدعوة إلى التبرع لها في الجرائد، ولكننا لم نر الإقبال عليها من الشعب كما يجب،
ولا كما يليق بصيت بلادنا هذه وبثروتها وبنجدتها، ولا كما يعهد من تاريخها،
فهي قد ساعدت الطليان في نكبات الزلازل والبراكين التي انتابت مسيني وغيرها،
وساعدت أهل طرابلس وبرقة عند إغارة الطليان عليهم بغيًا وعدوانًا، وفي تلك
الأثناء أسست جمعية الهلال الأحمر المصري.
وما لي لا أذكر مساعدة هذه الجمعية الإسلامية لجمعية الصليب الأحمر
المسيحية بألوف الجنيهات، ومساعدة البلاد المصرية كلها حتى علماء الأزهر
(لأيام) الإعانات الإنكليزية كذلك، على كون الإنكليز أعداء للبلاد باحتلالهم إياها،
ثم (إعلان الحماية عليها) - وعلى كونهم كانوا يحاربون دولة الخلافة صاحبة
السيادة عليها - وعلى إرهاقهم إياها، وتحكمهم في استخدام رجالها وجمالها
وحميرها وبغالها، كتحكمهم في أموال حكومتها ومرافقها ومبانيها وسككها.
(فإن قلت) : إن هذا قد كان بقوة الحكومة المحلية وإكراهها للأهالي على
ذلك، (قلت) : هذا بيت القصيد، والتعليل الأول لفتور الشعب في إعانة الريف،
فالحكومة في مصر هي التي كانت ولا تزال تفعل كل شيء، وما كان يفعل فيها
شيء مهم إلا بنفوذها أو برضاها وإقرارها على الأقل، ولا تستثن جمع الإعانات
للوفد المصري ومظاهرة الأمة له، وإن وقع في إثر ثورة وطنية كانت أول عهد
بجرأة الشعب على الإنكليز، ثم على الحكومة المصرية، فإن الوزارة كانت
مرتاحة إلى تأليف الوفد، ولما شرع مستشار الداخلية الإنكليزي في مقاومة أعمال
الوفد وأخذه وثائق التوكيل من وجهاء الأمة، صرح يومئذ رئيس الوزارة ووزير
داخليتها بأن المستشار إنما فعل ذلك من تلقاء نفسه، وقد بينا في مقالنا التاريخي
المبسوط في المسألة المصرية الذي نشرناه في المجلد 22 (سنة 1339 هـ 1919
م) ما كان من الشأن لمساعدة وزارة رشدي باشا في تكوين الوفد المصري، ثم ما
كان من الشأن لوزارة عدلي باشا في الاحتفال الأعظم الذي استقبلت البلاد به سعد
باشا عند عودته من أوربة، وقد صدقت الأيام بعد ذلك صحة رأينا على ما لا ينكر
من نهضة الأمة وعملها مرارًا بما يخالف رغبة الحكومة، وما ساعد على بعثة
جمعية الهلال الأحمر الأخيرة إلا كارهة أو مكرهة، إذ لا تجد باعثًا يرغبها فيه،
ولكن ما بالها لم تقبل على التبرع لجرحى الريف مع كثرة الدواعي والأواصر التي
تعطفها عليه، وتدعوها إلى تخفيف آلامه، من أخوة دينية، وآصرة عربية،
ووطنية إفريقية، ورابطة شرقية، وجامعة إنسانية، وتألم من تألب الشعوب
الأوربية، واعتبار بغيرتها الملية، إن لهذا الفتور موانع أكثرها فيما أرى سلبية من
عدم رغبة الحكومة وعطفها، ومن صد ملاحدة المتفرنجين عن مثل هذا العمل؛
لئلا يقوي الجامعة الإسلامية، ومن عدم تنظيم لجنة الإعانة للعمل واتخاذ الوسائل
المؤثرة لتعميمه، فعسى أن تعني اللجنة بذلك، وتنشر دعوتها في الجرائد المصرية
وغيرها، وتنشئ لها لجانًا فرعية، في كل محافظة ومديرية، فحينئذ يقبل عليها
المصريون الإقبال الذي يكونون به قدوة لغيرهم.
وأما مجلس جمعية الرابطة الشرقية فقد قرر استنجاد الشعوب الشرقية كافة
والشعب المصري خاصة، وحض الجميع على مساعدة لجنة الأمير طوسن باشا،
وتبرع بعض أعضائه وأعضاء الجمعية لذلك قبل نشر نداء الاستنجاد واستنداء
الأكف في الصحف، وتوزيع ألوف منه في المعاهد العامة والطرق، وهذا نصه:
***
نداء جمعية الرابطة الشرقية
لإعانة جرحى الريف في المغرب الأقصى
لئن كان من سيئات هذا العصر أن صارت نكبات الحروب وفتكها فيه أشد
مما كانت في جميع عصور التاريخ، فإن من حسناته كثرة الوسائل لتلافي شرور
هذه المصائب وتخفيف آلامها، ومنها - ولعلها أفضلها - تضامن الشعوب البشرية
بالعطف على المصابين والمنكوبين من جرحى الحرب وغيرها من النوازل العامة
بعاطفة الإنسانية الجامعة بين الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأوطانهم وحكوماتهم
وإننا نرى جميع هذه الشعوب قد أعرضت عن مد أيديها لمساعدة منكوبي الريف وجرحاهم في المغرب الأقصى، على ما يعلم الجميع من عدم وجود الأطباء
والجراحين والممرضين في تلك المنطقة، ومن فقد الأدوات الطبية التي لا بد منها
لمواساة الجرحى ومعالجتهم، فكأن هذا الشعب المنكوب ليس من البشر، فهو
يقاسي جميع نكبات الحرب منذ سنين، ولم يعطف عليه أحد من الشرقيين ولا من
الغربيين.
إذا كانت مساعدة منكوبي البشر حقًّا على جميع البشر للاشتراك العام في
الجامعة البشرية، فإن هنالك جامعات أخرى تجعل هذا الحق على بعض الناس آكد،
وتوجب أن يكون الشعور به أقوى، كالجامعة الشرقية والجامعة الجنسية والجامعة
اللغوية والجامعة الدينية، بداعية هذه الجامعات العامة والخاصة ارتفعت أصوات
كثير من الكتاب في الجرائد الشرقية من عربية وعجمية بطلب جمع التبرعات؛
لمساعدة جرحى الريف ومنكوبي الحرب فيه، وتجاوبت الجرائد فيه بين مصر
والهند.
وقد كانت الجمعية العامة للرابطة الشرقية استحسنت اقتراحًا عرض عليها
بجمع الإعانة لهؤلاء المنكوبين، وتبرع بعض أعضائها لذلك بالفعل، ثم نظر
مجلس إدارتها في تنفيذ ذلك، ولما لم يجد وسيلة أو طريقة لإرسال بعثة طبية لم
يتصد لذلك، ثم تألفت في هذه الأيام لجنة؛ للقيام بجمع التبرعات لهم برئاسة سمو
الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وعهدت بأمانة صندوقها إلى حضرة السيد أبي
بكر بك راتب، بناء على وقوف سموه على طريق مأمون لإرسالها إليهم، فعاد
مجلس إدارة الرابطة الشرقية إلى البحث في المسألة، وقرر استنهاض الهمم
واستنداء الأكف؛ لمساعدة هذه اللجنة في عملها هذا.
فالرابطة الشرقية تنادي كل شرقي كريم الخيم رقيق القلب سخي النفس من
مصري وسوري وعراقي وإيراني وهندي وجاري وتركي، وقوقاسي وياباني
وصيني قائلة: إن شعبًا صغيرًا من أكرم شعوبكم منبتًا، وأعزهم نفسًا، وأسوئهم
في الحياة حظًّا، يعاني على فقره وقلة ذات يده، حربًا عاتية يدافع فيها عن نفسه،
فتجندل أبطاله في حومة الوغى بقذائف الطيارات والمدافع والبنادق؛ فيكون أسعدهم
حظًّا من يلاقي حتفه لساعته، وأشقاهم وأشدهم بؤسًا أولئك الذين تفصل القذائف
الجهنمية أيديهم وأرجلهم من أبدانهم، أو يخترق الرصاص صدورهم فينفذ من
ظهورهم، أو يقطع أمعاءهم ويمزق أكبادهم، ويبقى مستكنًا في طيات أحشائهم،
ولا يجد طبيبًا ولا ممرضًا يأسو له قرحًا، أو يطهر له جرحًا، أو يحفظ له بقية دمه،
أو يخفف عنه بعض ألمه {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) .
أولئك أيها الشرقيون إخوانكم في الرابطة الشرقية، أولئك أيها العرب إخوانكم
في الوشيجة العربية، أولئك أيها الأفريقيون أشقاؤكم في القارة الأفريقية، أولئك
أيها المسلمون أخوتكم في الجامعة الإسلامية، أولئك أيها الناس أبناء أبيكم وأمكم في
الإنسانية، فليعطف عليهم كل واحد منكم بما يجده في قلبه من عطف الجامعة التي
تجمعه بهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وأما أنتم أيها المصريون الكرام فقد عرف الزمان لكم كل مكرمة، وحفظ لكم
مواقف بركم بالمنكوبين من الأمم المختلفة، ولو لم يكن لكم من آثار البر إلا إنشاء
جمعية الهلال الأحمر المصرية لكفى، فأنتم أجدر بأن تكونوا أسبق الشعوب إجابة
لنداء جمعية الرابطة الشرقية التي سبقتم إلى تأسيسها، ولا زلتم خير أهل للبر
والإحسان اهـ.
__________(26/217)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الحديثة
(كتاب حاضر العالم الإسلامي)
لو كان المسلمون يُعنون بمعرفة شئون أنفسهم، ويبحثون عن أسباب تغييرهم
لما كان بأنفسهم من عقائد وفضائل ومعارف، وما أعقبها من تغيير الله تعالى
ما كان بهم من نعم السيادة والسلطان والعزة والقوة كما يعنى بذلك علماء
الإفرنج - لما وصلوا إلى هذه الدركة من الضعف والهوان.
قد أتى على الشعوب الإسلامية قرون متتابعة وهم يتدهورون من قنة إلى هوة،
كما تتدهور الجلاميد من شماريخ الذرى، لا ندري من حطها من علٍ إلى أسفل،
وتتحول من عزة إلى ذلة، ولا تعلم لم تتحول.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) فقد قيض بفضله للمسلمين من يوقظهم من سباتهم، ويرشدهم
إلى تغيير ما بأنفسهم الآن من أسباب التردي على علم وبصيرة، كما غيروا من
قبل ما كان بأنفسهم من أسباب الترقي عن جهل وغفلة، ولكن طرأت عليهم في
أثناء هذا الإيقاظ فتنة التفرنج فلبستهم شيعًا، وفرقتهم طرائق قددًا، فقد أفسد ساسة
الإفرنج وملاحدتهم جبلاً كثيرًا من أبناء المسلمين، كانوا أضر عليهم من سائر
أعدائهم في الدنيا والدين، فهم يضلون المسلمين ويخدعونهم عن دينهم ودنياهم، من
حيث يوجد في أحرار الإفرنج من يرشد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم،
بما يعنون به من تمحيص الحقائق في شؤونهم لذاتها، أو ليستفيد أقوامهم منها.
أمامنا الآن ونحن نكتب هذا كتابان يشغلان مسلمي مصر وسيشغلان سائر
البلاد الإسلامية التي يصلان إليها.
(أحدهما) كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي رأى القراء في الجزء
الماضي ويرون في هذا الجزء شيئًا من بيان مفاسده، وأنه لرجل متخرج في
الجامع الأزهر وقاضٍ شرعي في بعض المحاكم المصرية، هو أضر على
المسلمين من كل عدو.
(والثاني) كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وهو لعالم إفرنجي هو أنفع
للمسلمين من كثير من أفرادهم الناصحين، دع متفرنجتهم الملاحدة المفرقين، ألا
وهو العلامة البحاثة (مستر لوثروب ستودارد) الأمريكي الذي زاد به شهرة على
شهرته، ألفه بلغته الإنكليزية وسماه (العالم الإسلامي الجديد) فراج في أمريكة
وأوربة رواجًا عظيمًا، وطبع مرارًا متعددة، ونقل إلى أشهر اللغات الغربية
والشرقية، وقرظه كبار الكتاب، وأعجبوا بدقة بحثه وسعة اطلاع صاحبه.
ونقله إلى لغتنا العربية عجاج أفندي نويهض أحد أبنائها البررة المجيدين لها
وللُّغة الإنكليزية؛ ليُطلع هذه الأمة على أصح ما كتب في وصف حالها، أدق من
عرف من علماء الفرنجة بحثًا عنها، وأعد لهم حكمًا لها وعليها، وأصدقهم قولاً
فيها، وذكر أن المحققين من العلماء الغربيين شهدوا له بهذه الصفات عند تقريظ
كتابه هذا.
ترجم الكتاب وعرض ترجمته على كاتب العصر - كما قال بحق - الأمير
شكيب أرسلان الشهير، وطلب منه أن يكتب له مقدمة تليف به ففعل، بل أجاب
السائل بأكثر مما سأل، وله في ذلك أسوة حسنة [1] ولكنه أربى في الكرم، فوضع
على الكتاب حواشي وذيولاً يصح في وصفها قول العرب: على التمرة مثلها زبدًا،
بل تُربي على صحائف الأصل عدًّا، ولعلها مدت مادته بضعفيها مدًّا، فهي بطولها
واستطرادتها تضاهي الحواشي الأزهرية، ولا غرو فروح الأمير العلمية والأدبية،
أغلب عليه من روحه الاقتصادية والاجتماعية، فإنه لو جعل هذه الحواشي كتابًا
مستقلاً لكان أليق بمقامه وأجدر بإفادتها من جعله إياها تابعة لغيرها، ولكان له
منها ربح مالي يزيد على ربح الكتاب الأصلي، بل ربما زاد عليه موشى وموشحًا
بها أيضًا، فإن أكثرها موضوعات مستقلة بنفسها، وما فيها من إيضاح لبعض
غوامض الكتاب أو استدراك عليه هو أقلها، ولكنه على ما يظهر من معرفته لقدر
نفسه، وعلى ما يقول بعض حساده أو مكبري فضله من إعجابه بها، كثيرًا ما
يهضمها، ويضعها تواضعه دون ما رفع الله من قدرها، ومن ذلك ظنه أن جعل
هذه الحقائق الثمينة ذيولاً لترجمة هذا الكتاب أحرى باستمالة الناس إلى مطالعتها،
كأنه لم يشعر بأنه أشهر من صاحب الكتاب لدى قراء العربية، ولم يستشعر أن
الثقة به في شؤون الإسلام أقوى من الثقة بذاك عند جميع الشعوب الإسلامية،
وغيرهم من الشعوب الشرقية، وكثير من علماء البلاد الغربية وإننا نكتفي الآن
بذكر عناوين فصول الكتاب، وأهم عناوين الحواشي لتعريف قراء المنار
قيمتها.
- أما موضوع الكتاب ومواده فهي مودعة في مقدمة وتسعة فصول وخاتمة لا
يستغني مسلم يهمه أمر أمته وملته عن الاطلاع عليها.
المقدمة (في نشوء الإسلام وارتقائه وانحطاطه) وقد أنصف فيها الإسلام
بالثناء عليه، وبيان أصول الإصلاح والهدى المودعة فيه، فتكلم في ذلك كلام عليم
خبير منصف، وبين ما أصاب المسلمون بهدايته وما أصابهم بتركها وأسباب
الارتقاء وأسباب الانحطاط في الحالين بما تعطيه فلسفة التاريخ وأصول علم
الاجتماع للمطلع على تاريخ الإسلام القديم والحديث، والواقف على عقائده وآدابه
بالإجمال.
ولكن كلامه فيها لم يسلم من الخطأ في مسائل يتوقف تحقيق الحق فيها على
علم استقلالي واسع في العقائد الإسلامية والفرق المختلفة فيهم، فهو على إدراكه
لطهارة العقائد والآداب الإسلامية وموافقتها للفطرة البشرية والعقل السليم، ولعدالة
التشريع الإسلامي وإصلاحه اللذين جحدهما الشيخ علي عبد الرازق - ولكون
العرب كانوا أجدر الشعوب بفهم تلك المزايا لحريتهم وطباعهم السليمة غير
المضطربة بتقاليد الأديان التي كان قد أفسدها الزمان - وعلى جعله هذين الأمرين-
التعاليم الإسلامية والفطرة العربية - هما الأساس والعلة الأولى لنجاح الإسلام
ومدنيته , وعلى إدراكه أن الأعاجم المبلبلة قلوبهم وعقولهم بالتقاليد الموروثة لم
يفهموا الإسلام كما فهمه العرب، وأن تغلبهم على الخلفاء وسلبهم لسلطان العرب
كان علة العلل للانحطاط الذي تلا ذلك بالارتقاء , هو على إدراكه لكل ما ذكر - قد
اختلط عليه الأمر عند المقابلة بين أهل السنة ومتبعي النقل، والمعتزلة الذين
حكموا العقل.
علم أن الإسلام دين العقل والفطرة، فظن أن المعتزلة الذين أرجعوا كل شيء
في الدين إلى أصول العقل هم الذين استمسكوا بجوهر الإسلام ولبابه الصحيح،
وأن خصومهم المحافظين الذين ذهبوا إلى أن النقل والسنة مقياس كل شيء في
الدين، هم الذين جهلوا جوهر الإسلام، وظن أن الذين دخلوا في الإسلام، وقد
أشربوا في قلوبهم الدين البيزنطي القديم (وأمثالهم من الذين فهموا الإسلام بمرآة
أديانهم وتقاليدها؟) قد كانوا من زمرة أهل السنة والنقل؛ لما اعتادوا من التقليد،
وأنهم هم الذين أولوا القرآن والأحاديث النبوية تأويلات بعدت بها عن سهولتها
وبساطتها قال: (فنتج من ذلك أن أصيب الإسلام بمثل ما أصيبت به النصرانية
في الأجيال المظلمة، من تلبيس الدين عقائد غير عقائده، ونسبة الآراء الدينية
الجافة إليه وهو براء منها، فلا غرو إذا اشتد الخلاف واتسعت شقته وطال عهده
بين الذين اعتصموا بالسنة والنقل، فقاسوا عليهما، وبين الذين جعلوا العقل نفسه
مقياسًا لكل شيء) .
ثم زعم أن عقيدة السنة هي التي غلبت على العقل كما كان متوقعًا، وأن
تاريخ السنة والتقاليد إنما هو تاريخ السير نحو أدوار الاستبداد وعواقبه المشؤومة.
لم يفرق المؤلف بين السنة والنقل في الإسلام وبين التقاليد في الأديان الأخرى
وهي عبارة عن العقائد والشعائر الموروثة عن الآباء والرؤساء والمعلمين، والحق
الواقع أن كل ما ذكر من الفساد في الإسلام إنما كان من بدع الذين حكموا عقولهم
أي آراءهم النظرية في الدين، وأنهم هم الذين حولوا الإسلام عن بساطته المعقولة
الموافقة للفطرة، وهم الذين كانوا السبب في إدخال البدع وضلالات الأديان القديمة
وسخافاتها وخرافات الوثنية في الإسلام بالشبهات النظرية التي سموها دلائل عقلية،
والأقيسة الشيطانية فيما لا مجال للقياس فيه من عقائد الدين التي لا مأخذ لها إلا
الوحي، ومن الأحكام الثابتة بالنص.
أهل السنة والجماعة هم الذين كانوا يجمعون قداسة الدين وسهولته من تطرق
بدع الأديان والآراء الفلسفية والشعرية إليها، لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم
أمته منها، فمنهم من منع القياس في أمور الدين مطلقًا، ومنهم من قال: إن القياس
جائز في غير الأمور الاعتقادية والتعبدية، وقصره بعضهم على الأحكام القضائية
والمدنية والسياسية.
وكان من بدع المعتزلة دعوتهم إلى القول بخلق القرآن، وحملهم بعض خلفاء
العباسيين الذين اتبعوا نحلتهم بحمل المسلمين على ذلك بالقهر والاضطهاد، وقد
آذوا به خلقًا كثيرًا من أهل السنة من أجلهم قدرًا إمام الأئمة أحمد بن حنبل - رضي
الله عنه - فقد ضربوه ضربًا مبرحًا، وداسوه بأرجلهم ليقول بقولهم، فامتنع أن
يقول: هو مخلوق أو غير مخلوق، احتجاجًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه لم يأمروا بذلك ولم يقولوا به، فيسعنا ما وسعهم، ولا نعرف ديننا إلا
عنهم، ولو أجزنا مجاوزة نصوص الوحي وتفسير السنة له بآرائنا العقلية تزول
الوحدة ونتفرق شيعًا كما تفرق من حذرنا الله أن نكون مثلهم.
ومبتدعة الشيعة الفاطميين، بل زنادقة الباطنيين كانوا يعتمدون في ترويج
بدعهم على الفلسفة اليونانية، وهم الذين ابتدعوا في مصر احتفالات الموالد التي لا
تزال مشوهة للإسلام وسبة للمسلمين، والإسلام بريء منها، وملوك الأعاجم
وأمراؤهم هم الذين ابتدعوا جعل القبور مساجد، وكانوا سبب تقديس الجاهلين لها
بل عبادتهم إياها، كما فعل أهل الكتاب قبلنا، وحذرنا نبينا من فعلهم، إذ قالت
السيدة عائشة - رضي الله عنها - في سبب لعنه صلى الله عليه وسلم للذين اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد: يحذر ما صنعوا - كما في صحيح البخاري، ولا يزال
المدافعون عن هذه البدع يحتجون لها بنظريات يسمونها عقلية كوجود الأرواح،
وجواز قضائها أو حملها الخالق تعالى على قضاء الحاجات، ولا يوجد دليل نقلي
علي شيء من هذه البدع والخرافات.
من الأسف أن البدع التي يسمونها نظريات عقلية هي التي غلبت على السنة
حتى أفسدت على المسلمين دينهم ودنياهم خلافًا لما قاله المؤلف، ولو اتبع الناس
الإمام أحمد وأمثاله لما زادوا في الدين شيئًا ولا نقصوا منه شيئًا، ولصرفوا ذكاءهم
وجهدهم في العلوم والفنون الكسبية التي تفيدهم وترفع شأنهم، ولم يخلطوا بالدين ما
ليس منه.
ألم تر أن مؤلف الكتاب يعد الدعوة الوهابية إصلاحًا في الدين وإرجاعًا له إلى
أصله الطاهر، وهل الوهابية إلا الوقوف بالدين على صراطه المستقيم. الكتاب
والسنة الصحيحة - ورد جميع ما ابتدع فيه سواء استحسنته العقول أم لا، وهل
للعقول قاعدة أو حد تقف عنده في هذه الأمور؟ أليس لعباد الأوثان فلسفة دينية،
وشبهات نظرية يسمونها دلائل عقلية؟ بلى، ويكفينا هذا في بيان غلط المؤلف في
هذه المسألة.
ولنعد إلى موضوعات الكتاب فنقول:
الفصل الأول في اليقظة الإسلامية. وهو في الجزء الأول.
الفصل الثاني في الجامعة الإسلامية. وهو في الجزء الأول.
الفصل الثالث في سيطرة الغرب على الشرق. ج 2.
الفصل الرابع في التطور السياسي. وهو في الجزء الثاني.
الفصل الخامس في العصبية الجنسية. وهو في الجزء الثاني.
الفصل السادس في العصبية الجنسية في الهند. وهو في الجزء الثاني.
الفصل السابع في التطور الاقتصادي. وهو في الجزء الثاني.
الفصل الثامن في التطور الاجتماعي. وهو في الجزء الثاني.
الفصل التاسع مع الخاتمة في القلق الاجتماعي والبلشفية.
وأما موضوعات حواشي الأمير شكيب أرسلان فهي في بيان أحوال مسلمي
العصر العامة الحديثة وبعض القديمة، تكلم عن مسلمي الصين وجاوة وما جاورها
والهند ومسلمي الروسيا في عهد البلشفية الحاضر وشرقي أفريقية والحبشة
وماداغسكر وجزائر القومور وريف المغرب الأقصى والفلبين.
تكلم عن مسلمي هذه البلاد وغيرها بما يهم كل مسلم يهتم بأمر المسلمين أن
يعلمه، ولا سيما علاقتهم بأوربة ومن سيادتها عليهم ومحاولتها لتنصيرهم، وله في
أذيال الجزء الأول فصول تحت عنوان (الإسلام والجنود السوداء) منها (لمحة
على حالة الإسلام الحاضرة) ومنها فصل في (الإسلام الأسود) وفصل في
(الإسلام عند السنغاليين) ، ويلي ذلك (خلاصة) سياسية لهذه الفصول وما قبلها في
شؤون المسلمين وأوربة، فيها من الحقائق التاريخية والعبر السياسية ما يعز أن
يصدر مثله عن غير الأمير شكيب.
ويليها فصل في (الجنس الأسود والإسلامية) ، ففصل (في الإسلام في
أفريقية) وما يلاقيه من مهاجمة الاستعمار ودعوة النصرانية - ففصل في
(الرسالات البروتستانية في أفريقية) ، ففصل (في نهضة الإسلام في
أفريقية وأسبابها ووسائل دعوتها من سنة 1790-1900) .
ويلي ذلك الكلام في الطرق الصوفية في أفريقية: القادرية والشاذلية
والتيجانية والسنوسية، ويتبع الكلام في الأخيرة ترجمة بعض كبار شيوخها
وجدول في أسماء زواياها في ست صفحات بالحرف الصغير (جسم 12) .
ويلي ذلك فصل في (مجاري الدعوة الإسلامية في أفريقية) ففصل في
(الصراع بين الإسلام والنصرانية، وأيها الغالب في أمر المدنية) ويليه خلاصة لما
تقدم في هذا الموضوع كله.
ومن موضوعات هذه الحواشي والذيول فصول في الإصلاح والمصلحين،
وزعماء الإسلام المجددين، منها الكلام عن الوهابية وزعيمها العلمي الشيخ محمد
عبد الوهاب وزعمائها الأمراء آل سعود (ومنها ترجمة حكيم الإسلام وموقظ الشرق
السيد جمال الدين الأفغاني وشيء من ترجمة الأستاذ الإمام، وأشكر له حسن ظنه
أن قرن اسمي باسم أستاذنا) ومنها ترجمة بطل الإسلام والعرب في هذا العهد
(الأمير محمد عبد الكريم) ، وتراجم زعماء جمعية الاتحاد والترقي التركية: أنور
باشا وطلعت باشا وجمال باشا إلخ.
وكلام عن بعض الفرق والطرق القديمة والحديثة كالمعتزلة والخوارج
والبكطشية والبابية والبهائية والاشتراكية والبلشفية والأحمدية القاديانية.
وجملة القول أن مؤلف هذا الكتاب من أعلم كتاب الفرنجة بشؤون المسلمين،
فإن لم يكن أعلمهم بها فهو أجدرهم بتحري الحقيقة وبيانها، وإن واضع الحواشي
والذيول التي هي كتاب آخر هو أجدر كتاب العرب بالجمع بين تاريخ الإسلام
والمسلمين وبين علاقة أوربة بهم وسياستها فيهم، وأقدرهم على بيان ذلك
وأحرصهم على النصح فيه، نعم إنه يوجد من يساويه ومن يفوقه في بعض فروع
هذا التاريخ وشعب هذه المسائل، ولكنا لا نعرف أحدًا يضاهئه في معرفة جملتها
وتفصيلها، ولا في مزية حسن البيان لها، وقد بلغنا أنه طالع وراجع عند كتابة هذه
الحواشي عشرات من الكتب الحديثة التي ألفت بأشهر اللغات الأوربية، ولم يعتمد
على حفظه واختباره، فقد اجتمعت في هذا الكتاب خلاصة معارف الغرب والشرق
الخاصة بحال المسلمين السياسية والدينية والاجتماعية الحاضرة والمستقبلة، فهو
يغني في بابه عن كثير من الكتب والجرائد والمجلات وهي لا تغني عنه، وسننقل
للقراء بعض النماذج منه.
طبع الكتاب بالمطبعة السلفية بمصر (سنة 1343) على ورق جيد بنوعين
من أصغر حروف الطبع، فالأصل بحرف 18 والحواشي والذيول بحرف 12،
فدخل في جزئين يزيد كل منهما على 400 صفحة، وثمن النسخة منهما مجلدة
بالقماش المتين 85 قرشًا من الورق الجيد، و60 من ورق دونه، وهو يطلب من
مكتبة المنار، ومن مكتبة المعارف بمصر، ومن طلب إرساله بالبريد فليرسل
أجرته وهي خمسة قروش صاغ.
***
(الإسلام وأصول الحكم، بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام)
كتاب جديد ألفه الشيخ علي عبد الرازق الحامل لشهادة العالمية من الجامع
الأزهر وأحد قضاة المحاكم الشرعية، حاول فيه أن يثبت أن الإسلام ليس له
حكومة ولا دولة ولا سياسة ولا قضاء، وأنه لا ينبغي أن يكون له ذلك، وأن ما
ورد في القرآن الحكيم والسنة النبوية من الأحكام القضائية، والمعاملات السياسية
والحربية كان تنفيذه والحكم به خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، من حيث إنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى لم يكلف المسلمين أن يلتزموا تلك
الأحكام من بعده، وليس لأحد من أمته أن يخلُفه في إقامة حدود الله وتنفيذ أحكام
شريعته، وانتحال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - للقب خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان باطلاً، وإن اتفق عليه العلماء وأهل الحل والعقد من
الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم ما فعلوا ذلك إلا خدعة سياسية؛ لإخضاع
العرب وغير العرب لملكهم، وأن حكومتهم كانت في الواقع ونفس الأمر لا دينية،
وأن كل ما قاله المسلمون في الخلافة الإسلامية والحكومة الدينية باطل لا يقوم عليه
دليل، وإنما يقوم الدليل على أنه لا بد للناس من حكومة مهما يكن شكلها ولو
اشتراكية بلشفية، وأن حكومة الخلافة كانت شرًّا وإذلالاً للمسلمين، وخلاصة
الكتاب أن المسلمين ليس لهم تشريع إسلامي سياسي ولا مدني ولا قضائي، وأن
الدين ترك لهم ذلك ليرجعوا فيه إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، فيباح لجميع
المسلمين ولكل شعب منهم أن يختار لنفسه ما شاء من أنواع الحكم إلا شكل الخلافة
والنيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة ما ورد في الكتاب والسنة، وما
جرى عليه الخلفاء الراشدون من الحكم الإسلامي.
فهذا الكتاب شر مما كتب جميع أعداء الإسلام لهدم الإسلام وتمزيق شمل
جامعته الدينية والدنيوية، يدعو المسلمين إلى الارتداد عن دينهم، ويبيح لهم
عصيان الله تعالى ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه، وتوعدا على عصيانه بعذاب
الله تعالى , فهو مخالف لما لا يُحصى من النصوص القطعية المجمع عليها المعلومة
من الدين بالضرورة، ولا خلاف بين أحد من المسلمين في كفر من يجحد شيئًا من
ذلك، وقد كتبت أربع مقالات في التفنيد الإجمالي لهذا الكتاب، نشرت الأولى منهن
في الجزء الماضي، وهي ما كتبته قبل قراءة الكتاب كله، وضاق هذا الجزء عن
نشر شيء آخر منها.
يقول مؤلف هذا الكتاب أنه ألفه في مدة عشر سنين متقطعة لا متصلة؛
وذلك لأنه حاول إبطال الحق الصريح الذي هو أوضح من الشمس ببعض التخييل
الشعري والسفسطة، فتكلف كثرة التفكير في الشبهات التي تقيه ما هو متوقع له من
التكفير، وكان جل مادته فيه بعض كتب الإفرنج التي كتبوها في الخلافة، وكتاب
(خلافت وحاكميت ملية) الذي كتبه بعض علماء الترك لإقناع مسلميهم بما فعلته
حكومة أنقرة الجمهورية من إلغاء الخلافة والفصل بين الدين والحكومة، ومن
بعض كتب التاريخ والأدب والكلام، ومن العجيب أن يكون من مادته مع ما ذكر
مثل كتاب الأغاني وكتاب العقد الفريد، ولم يكن منها صحيح البخاري ولا صحيح
مسلم، ولا موطأ مالك، ولا مسند أحمد، ولا شيء من كتب السنن! وماذا يفعل
بالصحاح والسنن من يريد هدمها والاستغناء بكتب الإفرنج عنها؟
قامت قيامة علماء الأزهر وغيرهم من أهل الدين احتماء على المتجرئ على
هذه الضلالة والإهانة للإسلام والمسلمين كافة، وقام في تجاههم بعض الإفرنج
والملاحدة والمرتدين ينصرون داعيتهم ويناضلون دونه، وكان لسان حماة الإسلام
جريدة (اللواء والأخبار) الإسلامية، ولسان أنصاره وحماته جريدة (السياسة)
وبعض الجرائد الإفرنجية، والتزم بعض الجرائد العربية الحياد، واختار بعضها
الذبذبة والنفاق، وإنما تكأة أنصاره في الدفاع عنه ما يسمونه (حرية الرأي)
ولكنهم يحتكرون هذه الحرية له ولأنفسهم، ويحرمونها على رجال الدين،
فالمدافعون عن الإسلام والمبينون لحقيقته يتهمون عندهم بالاعتداء على حرية الرأي
المقدسة في القانون، وأما المهاجم للإسلام الداعي لهدم تشريعه، المهين لجميع
المسلمين من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فله عندهم أن
يقول ما يشاء فيهم، وليس لهم أن يقولوا فيه شيئًا! !
ولم أقرأ له ولأنصاره مقالة ولا عبارة في إثبات شيء من مقاصد الكتاب ولا
في تخطئة شيء مما فنده المنتقدون منها، لم يتجرأ أحد ممن قرأت كلامهم على ذلك
إلا محامٍ اسمه (أحمد مصطفى) قال أنه قرأ الكتاب كله، وأنه مؤمن بما فيه،
وبأنه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) فهو عنده قد
سلب القرآن ما وصفه الله تعالى به من عصمته، ولا يمكن أن يريد أنه شاركه في
هذه الصفة؛ لأنه مخالف له وناقض لجميع أحكامه السياسية والمدنية والشخصية،
فإذا كان القرآن هو الحق المعصوم من الباطل كما وصفه الله تعالى فلا يمكن أن
يكون مخالفه - ككتاب الشيخ علي عبد الرازق - إلا باطلاً، فأيهما يختار ذلك
المحامي.
وقد طبع الكتاب سنة 1343 بمطبعة مصر على ورق جيد بشكل جميل في
صورته ووضعه بقدر ما هو قبيح في معناه وموضوعه، وبيعت النسخة منه بعشرة
قروش، والظاهر أن نسخه نفدت بكثرة الخوض فيه مع قلة المطبوع منه، فإنه
ألف نسخة فقط.
__________
(1) هذه إشارة إلى ترجمة آخر أبواب كتاب العلم من صحيح البخاري (باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل) وهو النبي صلى الله عليه وسلم.(26/223)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوثائق الرسمية في المسألة العربية
بلاغ سلطان نجد [*]
لمن في مكة وضواحيها من سكان الحجاز، الحاضر منهم والباد.
نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو رب هذا البيت العتيق، ونصلي ونسلم على
خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.
(أما بعد) فلم نقدم من ديارنا إليكم إلا انتصارًا لدين الله الذي انتهكت
محارمه، ودفعًا لشرور كان يكيدها لنا ولديارنا من استبد بالأمر فيكم قبلنا.
وقد شرحنا لكم غايتنا هذه من قبل، وها نحن أولاء بعد أن بلغنا حرم الله
نوضح لكم الخطة التي سنسير عليها في هذه الديار المقدسة؛ لتكون معلومة عند
الجميع فنقول:
(1) سيكون أكبر همنا تطهير هذه الديار المقدسة من أعداء أنفسهم الذين
مقتهم العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بما اقترفوه من الآثام في هذه
الديار المباركة وهم (الحسين وأنجاله وأذنابهم) .
(2) سنجعل الأمر في هذه البلاد المقدسة - بعد هذا - شورى بين المسلمين، وقد
أبرقنا لكافة المسلمين في سائر الأنحاء أن يرسلوا وفودهم؛ لعقد مؤتمر
إسلامي عام، يقرر شكل الحكومة التي يرونها صالحة لإنفاذ أحكام الله في هذه
البلاد المطهرة.
(3) إن مصدر التشريع والأحكام لا يكون إلا من كتاب الله ومما جاء
عن رسوله عليه الصلاة والسلام، أو ما أقره علماء الإسلام الأعلام بطريق القياس
أو أجمعوا عليه مما ليس في كتاب ولا سنة، فلا يحل في هذه الديار غير ما أحله
الله ولا يحرم فيها غير ما حرمه.
(4) كل من كان من العلماء في هذه الديار أو من موظفي الحرم الشريف
أو المطوفين ذا راتب معين فهو له على ما كان عليه من قبل، إن لم نزده فلا
ننقصه شيئًا، إلا رجلاً أقام الناس عليه الحجة أنه لا يصلح لما هو قائم عليه، فذلك
ممنوع مما كان له من قبل، وكذلك كل من كان له حق ثابت سابق في بيت مال
المسلمين أعطيناه حقه ولم ننقصه منه شيئًا.
(5) لا كبير عندي إلا الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا ضعيف عندي
إلا الظالم حتى آخذ الحق منه، وليس عندي في إقامة حدود الله هوادة، ولا يقبل
فيها شفاعة، فمن التزم حدود الله ولم يتعدها فأولئك من الآمنين، ومن عصى
واعتدى فإنما إثمه على نفسه ولا يلومن إلا نفسه، والله على ما نقول وكيل وشهيد
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود
***
(بلاغ من علماء الحرم المكي الشريف) [**]
في اتفاقهم مع علماء نجد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
من علماء حرم الله الشريف وأئمته الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ
عمر باجنيد أبي بكر، والشيخ درويش عجيمي، والشيخ محمد مرزوقي، والشيخ
أحمد بن علي النجار، والشيخ جمال المالكي، والشيخ عباس المالكي، والشيخ
حسين بن سعيد، محمد بن سعيد عبد الغني، والشيخ حسين مفتي المالكية، والشيخ
عبد الله حمد، والشيخ عبد الستار، والشيخ سعد وقاص، والشيخ عمر بن صديق
خان، والشيخ عبد الرحمن الزواوي، إلى من يراه من علماء الحكومات الإسلامية
وملوكهم وأمرائهم.
(أما بعد) فقد اجتمعنا نحن المذكورين مع مشايخ نجد حين قدومهم إلى
الحرم الشريف مع الإمام عبد العزيز حفظه الله، وهم: الشيخ عبد الرحمن بن عبد
اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد الوهاب بن مزاحم، والشيخ عبد
الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ مبارك بن
عبد المحسن بن باز، والشيخ إبراهيم بن ناصر بن حسين.
فجرى بيننا وبين المذكورين المحترمين مباحثة، فعرضوا علينا عقيدة أهل
نجد وعرضنا عليهم عقيدتنا، فحصل الاجتماع بيننا وبينهم بعد البحث والمراجعة
في مسائل أصولية:
منها أن من أقر بالشهادتين وعمل بأركان الإسلام الخمسة ثم أتي بمكفر - ينقض
إسلامه - قولي أو فعلي أو اعتقادي، أنه يكون كافرًا بذلك يستتاب ثلاثًا فإن تاب
وإلا قتل.
(ومنها) من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم في
جلب نفع أو دفع ضر، ومن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أن
ذلك شرك، فإن الشفاعة ملك لله ولا تطلب إلا منه، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه
كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وهو لا
يأذن إلا فيمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وهو لا يرضى إلا التوحيد والإخلاص (ومنها) تحريم البناء
على القبور وإسراجها، وتحري الصلاة عندها، وأن ذلك بدعة محرمة في الشريعة،
(ومنها) أن من سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب حرامًا (ومنها)
أنه لا يجوز الحلف بغير الله لا الكعبة ولا الأمانة ولا النبي ولا غير ذلك؛ لقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) .
فهذه المسائل كلها لما وقعت المباحثة فيها حصل الاتفاق بيننا وبين المذكورين،
ولم يحصل خلاف في شيء، فاتفقت بذلك العقيدة بيننا معاشر علماء الحرم
الشريف وبين إخواننا علماء أهل نجد - نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه
ويرضاه آمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
***
الإنذار البريطاني للملك حسين بن علي
هذا نص الإنذار الذي سلمه قائد المدرعة البريطانية فورن يوم 28 مارس إلى
الملك حسين كما نشر في المقطم:
(إلى جلالة الملك حسين من وكيل خارجية بريطانيا العظمى) :
تبلغت حكومة جلالة ملك بريطانيا أن عظمة سلطان نجد هيأ قوة لمهاجمة
(العقبة) ويفهم من هذا بأن الباعث هو جلالتكم وحكومة الحجاز التي جعلت مركز
معان والعقبة بحالة عسكرية ضد ابن السعود، ولا يخفى أن حكومة جلالة ملك
بريطانيا مسئولة عن الأمن العام بفلسطين وشرق الأردن مع معان التي قعد تحت
انتدابها، فعندما أتيتم إلى العقبة كلفت حكومة جلالة الملك علي والأمير عبد الله
بتعيين الحدود الفاصلة بين الحجاز والشرق العربي.
ومع ذلك رأت العظمة البريطانية بأن المثابرة على المذاكرة بمثل هذه الأوقات
الحرجة غير ممكنة بالنظر لحالة الحجاز الراهنة، وعليه فقد أجلت حكومة بريطانيا
المذاكرة في هذا الموضوع لفرصة أخرى.
ولكن هناك نقطة متخذة من قبل جلالة ملك بريطانيا، ولا يمكنه أن يتساهل
بها وهي: أن يبقى أو يسمح بصورة ما بدوام الحالة الحاضرة؛ ولذلك بدأت
بإظهار سلطة حكومة الشرق العربي في الأماكن التي هي مسئولة عنها أمام جمعية
الأمم، وهي تحتوي على معان والعقبة، وتدعوكم أيضًا لمغادرة العقبة؛ لكي لا
تكونوا سببًا لحصول مشاكل جديدة بين بريطانيا وسلطان نجد.
وفي هذه المناسبة تصر بإلحاح على وجوب مغادرتكم العقبة قائلة: لا يمكنها
أن تسمح لكم بالبقاء أكثر من ثلاثة أسابيع) اهـ.
وقد أجاب حسين عن هذا جوابًا طويلاً افتتحه بإثبات إخلاصه لحكومة
بريطانية كعادته، ولكنه زعم أنه لا يطيع الإنذار إلا بشروط، ثم أطاعه بغير شرط
فأرسلته إلى قبرص، ووقع عليه ما اختاره لنفسه حين طلب أن تختار له ولأولاده
بلدًا يقيمون فيه إذا كانت غير راضية عن عمله في الحجاز، كما بيناه مرارًا بالنقل
عن جريدة القبلة.
***
إلحاق منطقة العقبة ومعان الحجازية
بمنطقة شرق الأردن البريطانية
(صورة الإرادة من جلالة الملك علي المعظم ملك الحجاز بتاريخ 25 ذي
القعدة سنة 1343 إلى والي معان بخصوص تسليم العقبة ومعان إلي حكومة الشرق
العربي) .
تقرر بين جلالة الملك علي وسمو الأمير عبد الله ما يأتي:
أ - التصريح بسلامة الشرق العربي.
ب- عدم إزعاج جلالة الخليفة الأعظم (؟) نظرًا لمقامه في العالم العربي
والإسلامي: يعني لا يجري الاستلام إلا بعد تشريف جلالته لجدة.
ج- لا يجري التسليم إلا بعد أن تصدر الأوامر لموظفي ولاية معان بذلك.
د- عدم التعرض لمناقلات الحجاز الحربية مطلقًا.
هـ - عدم التعرض لمناقلات الخط الحجازي الحاضرة.
و إعطاء الحرية للحكومة بنقل جندها وممتلكاتها إلى أي محل تريد قبل
الاستلام وبعده.
وقد زاد جلالة الملك علي بعض مواد أيضًا، وأمر جلالته بأنه عند مجيء
سمو الأمير عبد الله إلى معان تعتمد أوامره، وتنفذ وإليك المواد المذكورة.
أ- تبقى جنود الخط الحجازي التابعون لمحافظة الخط والقطارات تحت قيادة
قائدهم، وتحت نظرة ناظر الخط الحجازي.
ب - تبقى لا سلكي معان بمعان؛ لأجل المخابرة مع الخط الذي تظل إدارته
على حكمها.
ج- على ناظر الخط الحجازي تقديم دفتر بموجود جند الخط الحجازي من
معان إلى مدائن صالح.
د- ترسل السيارات بالباخرة رضوى إلى جدة.
(المنار)
هذا ما نشرته جريدة المقتبس لمكاتبها في عمان تحت عنوان (وثيقة رسمية) ،
ونشر مثله في غيرها، ثم نشرت هذه الجريدة وغيرها ما ترتب على الاتفاق بما
نصه:
معان والعقبة - أصدر سمو الأمير عبد الله المعظم الإرادة الآتية:
نظرًا لتنسيب صاحب الجلالة الهاشمية الملك علي المعظم تلك البلاد المقدسة
الحجازية أيده الله وأدام نصره ضم ولاية معان والعقبة إلى إمارتنا اقتضى إصدار
إرادتنا إليكم - الخطاب لرئيس النظار - إعلامًا بذلك مع الشكر الدائم لجلالته
الملوكية الهاشمية منا ومن شعبنا وحكومتنا.
تشكيلات معان - سافر إلى معان قبل العيد سمو الأمير وبمعيته رئيس أركان
حرب الجيش العربي ورجال المعية وفئة الحرس، وسافر إلى معان حضرة رئيس
النظار وبعض الضباط والأركان والكتائب النظامية، وقد احتفل في معان بإعلان
انضمام ولاية معان إلى إمارة الشرق العربي، ورفع علم الإمارة الجليلة عليها، وقد
بوشر إجراء التشكيلات الجديدة فيها، وأبقى غالب باشا حاكمًا عليها اهـ.
(المنار)
ليعتبر العالم الإسلامي بأعمال هؤلاء الخونة المفتونين بلقب ملك وأمير! !
__________
(*) نشر هذا البلاغ عقب وصوله إلى مكة المكرمة، ونشر في العدد الأول من جريدة أم القرى
التي تصدر في مكة المكرمة.
(**) نشر في جريدة أم القرى أيضًا.(26/233)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
بمناسبة كتاب مفتوح [1]
حضرة الأستاذ الثقة الحجة مفخر العالم الإسلامي السيد رشيد رضا نفع الله به.
سنة 1918 أي السنة الأخيرة من سني الحرب الكبرى بلغني إذ أنا في
الآستانة أن الأمير عليًا بن الملك الحسين بن علي أغار على أطراف حوران وجبل
الدروز واستجاش أهالي تلك الديار للقيام على الدولة العثمانية والالتحاق بالجيش
الحسيني العربي الذي كان يعمل يدًا واحدة مع الجيش البريطاني في جنوبي سورية،
وبلغني أيضًا أن الزعماء الذين استفزهم للثورة أجابوه يومئذ بأنهم يأبون أن يقبلوا
دعوة لم تكن لتفيد غير الأجنبي الطامح إلى الديار، والطامع في القضاء على ما
بقي من ملك الإسلام، وأنذروه بالحرب إن لم يعد من حيث أتى، فحررت كتابًا
مفتوحًا إلى الأمير علي بن الحسين أحذره فيه عاقبة هذه الغارات، وأنهاه عن
التضريب بين العرب خدمة لمصلحة العدو، وأقول له: أتقاتل العرب بالعرب أيها
الأمير حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنكلترة على جزيرة العرب
وفرنسة على سورية واليهود على فلسطين، وما أشبه ذلك مما ورد في مناركم في
الجزء التاسع من المجلد الخامس والعشرين.
إلا أنه بلغني فيما بعد أن الشريف الحجازي الذي ظهر يومئذ على ماء
الأزرق جنوبي جبل الدروز على مسافة يومين منه لم يكن الشريف علي بن الحسين،
بل شريفًا آخر اسمه علي من قواد الجيش الحجازي، وقد تبجحت بذلك (القبلة)
في أحد أعدادها الصادرة سنة 1913 في عرض مقالة ردت فيها على كتابي
المذكور بعد نشره بخمس سنوات؛ بمناسبة ظهوره في مجموعة أخبار ووثائق عن
الحرب لأديب مسيحي سوري، وقد جعلت (القبلة) المنحرفة في الواقع عن القبلة
الحجة القاطعة (! !) على عدم صحة ما كتبته في هذا الكتاب المفتوح من أوله إلى
آخره كون الأمير علي بن الحسين لم يذهب إلى الأزرق.
مع أن ذهاب علي بن الحسين أو علي آخر إلى الأزرق لا يقدم ولا يؤخر
شيئًا في جوهر الموضوع، فالموضوع هو نهي هؤلاء الجماعة الثائرين يومئذ على
الدولة عن التهور في مناصرة دولة أجنبية، كانوا يخدمونها ببذل دماء العرب؛
ليصلوا فيما بعد إلى غاية ليس منها شيء للعرب كما حققت ذلك الحوادث، ويا
للأسف من بعد الحرب، وعلى فرض أن الأمير علي بن الحسين لم يكن ذهب إلى
الأزرق قد ذهب أخٌ له من الأشراف إلى الأزرق، وكلهم كانوا في الثورة سواء
الذي ذهب إلى الأزرق والذي لم يذهب.
على أنني أنا كنت بعثت بالكتاب المفتوح المذكور إلى جريدة (الشرق) التي
كانت تطبع بالشام، وصادف أنني يوم ظهوره في تلك الجريدة كنت في برلين، فلم
أطلع على العدد الذي فيه هذا الخطاب من جريدة (الشرق) ، ويظهر أنه قد
سقطت فيه أغلاط كثيرة في الطبع، لا بل جرى تقديم وتأخير في بعض الجمل
وأهملت جمل برمتها، فجاء المجاور لها قلقًا غير مستو على وضين الأصل، ولم
أشعر بذلك في وقته؛ لأنني لم أطلع على (الشرق) إذ أنا في الغرب ومضت
الأيام والأعوام إلى السنة الماضية 1924 فإذا بجريدة أبابيل البيروتية، قامت تنشر
هذا المكتوب إما نقلاً عن جريدة (الشرق) أو عن مجموعة الأديب المار ذكره،
لست أعلم عن أي مصدر أخذته، وقصار ما أعلم أنني أول ما رأيته مطبوعًا في
جريدة أبابيل البيروتية أيضًا، والآن أراه في المنار منقولاً عن جريدة (الوطن)
الصادرة في البرازيل، والذي أريد أن أنبه عليه هو:
أولاً - إن المكتوب كان موجهًا لا إلى الملك حسين رأسًا بل إلى ولده علي.
ثانيًا - إنه يوجد في المكتوب إشارة لا إلى إنكلترة فقط بل إلى فرنسة أيضًا،
فالجرائد البيروتية التي نقلته حذفت ما تعلق بفرنسة، ونشرت ما يمس إنكلترة؛
خوفًا من قلم المراقبة.
ثالثًا - يوجد في المكتوب أغلاط كثيرة مطبعية وكلمات محرفة مثل (وبنوة
النبوة) جعلوها (بنور النبوة) وكلمات مثل (أو ذمامًا يحفظونه لك أو بسواك إذا
قضت سياستهم غير ذلك) فأطاحوا جملة (غير ذلك) ومثل (فيما لو قضت
عليهم سياستهم عن سلب إمارتك) وأصلها (بسلب إمارتك) كما لا يخفى ومثل
(وما إخالك تجهل التاريخ وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود
والمواثيق، إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى في جميع معاملاتهم
سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم) وأصلها (التواتر عمن شأنهم الإخلال
بالعهود والمواثيق إلى الحد الذي لا تقدر أن تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى) إلخ؛
ومثل (لا جرم أنك تقدر أن تدعي بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة
التي تكفل دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء
الخلق يرتاح إلى قبول هذه الدعوة) وهي جملة لا يخرج لها معنى وأصلها (لا
جرم أنك تقدر أن تدعي وجود بعض عشائر من العرب توفر لك القوة التي تكفل بها
دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء الخلق يرتاح
إلى قبول هذه الدعوى) ومثل (ولا سيما على الحجاز منذ أحتاب) وأصلها (ولا
سيما على الحجاز الذي هو نصب عينها منذ أحقاب) وأما جملة (وإذا كانوا لم
يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز فيمكنك أن تريح فكرك منها
منذ الآن، ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا وضعوا ضباطهم على
أبواب حجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ تفاديًّا من العجلة إلخ، فإن عبارة
(فيمكنك أن تريح فكرك منها منذ الآن) كانت فيما أتذكره موضوعة بين خطين
هكذا - فيمكنك منذ الآن أن تريح فكرك منها - وهي جملة معترضة، والجملة
الشرطية من عند قولي: (وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم) إلى قولي: (ولا
حاولوا إدخال عسكرهم) إلى قولي: (ولا وضعوا ضباطهم إلخ) جوابها (أفليس
عندك أنت بمكانك من الذكاء والفضل ومطالعة التواريخ) إلخ، وأما جملة (فما
يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها) فهي من سبق القلم، والمراد أن أقول: فما
يؤثر في الأمة العربية أو الإسلامية) بمعنى ما يؤثر بين الأمة أو في وسط
الأمة، والخلاصة لم أجد فيما نقل عني كتابًا تعاورته الأيدي بالحذف والطرح
والتقديم والتأخير، فضلاً عما أسقطه مرتبو الحروف مثل هذا الكتاب، فأرجو
نشر هذا التصحيح ولكم الفضل.
... ... ... ... ... شكيب أرسلان
_______________________
(1) يعني الكتاب الذي نشر بعضه في ج9 م25 بعنوان (من الأمير إلى الملك) .(26/238)
المحرم - 1344هـ
أغسطس - 1925م(26/)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة
بسم الله الرحمن الرحيم
(مسألة) سُئلها الشيخ الإمام العالم العلامة، إمام الوقت، فريد الدهر،
جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان، مفتي الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين
أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة
مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه ونفع به آمين:
في جماعة يجتمعون في مجلس، ويُلبسون لشخص منهم لباس الفتوة، ويديرون
بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها، ويزعمون أن هذا من الدين،
ويذكرون في مجالسهم ألفاظًا لا تليق بالعقل والدين، فمنها أنهم يقولون: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ألبس علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لباس
الفتوة، ثم أمره أن يلبسه من شاء، ويقولون: إن اللباس أنزل على النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم في صندوق، ويستدلون عليه بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} (الأعراف: 26) الآية - فهل هو كما زعموا أم
كذب مختلق؟ وهل هو من الدين أم لا؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من
يفعل ذلك أو يعين عليه؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله أبي
عبد الجبار، ويزعم أن ذلك من الدين؛ فهل لذلك أصل أم لا؟ وهل الأسماء التي
يسمون بها بعضهم بعضًا من اسم الفتوة ورؤوس الأحزاب والزعماء، فهل لهذا
أصل أم لا؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة، ويقوم للقوم نقيب إلى
الشخص الذي يلبسونه؛ فينزعه اللباس الذي عليه بيده، ويلبسه اللباس الذي
يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائز أم لا؟ وإذا قيل: لا يجوز فعل ذلك
ولا الإعانة عليه فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك؟ وهل للفتوة أصل في
الشريعة أم لا؟ وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر
أن ينكر عليهم ويمنعهم من ذلك أم لا؟ مع إمكانه من الإنكار [1] ، وهل أحد من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه
الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا؟ وهل خلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من
النور أم خلق من الأربع عناصر أم من غير ذلك؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض
الناس: لولاك ما خلق الله عرشًا ولا كرسيًّا ولا أرضًا ولا سماء ولا شمسًا ولا قمرًا
ولا غير ذلك صحيح هو أم لا؟ وهل الأخوة التي يواخيها المشايخ بين الفقراء في
السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا؟ وهل آخى رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أم بين كل مهاجري وأنصاري؟ وهل
آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أم لا؟
بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة، وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطًا شافيًا
مأجورين أثابكم الله تعالى.
***
لباس خرقة الفتوة مبتدع
(الجواب) الحمد لله أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة السراويل أو غيره،
وإسقاء الملح والماء فهذا باطل لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من
التابعين لهم بإحسان: والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد
الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف ولا يجوز لمسلم أن
ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمرًا من
الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه،
فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه، وعلى
علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وما ذكروه من نزول هذا اللباس في
صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يواري السوءة
هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله تعالى هذه الآية؛
لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف
فيها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة،
وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه
فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه، وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من
زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش، فهذا أيضًا كذب باتفاق أهل المعرفة، فإن
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف ولا سماع
دفوف وشبابات ولا رقص، ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك، ولا قسمه على
أصحابه وكل ما يروى من ذلك فهو كذب مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته.
***
فصل
(شروط لباس خرقة الفتوة)
والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله:
كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، ونصر
المظلوم، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم،
واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله، وأن يجتمعوا على السنة،
ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك، فهذه يؤمن بها كل مسلم
سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله
مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، إن كلا منهما يصادق صديق الآخر في
الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه
سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال،
وهي شروط ليست في كتاب الله [2] ، وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه وسلم
قال: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا
ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله
أوثق) رواه البخاري، وفي السنن عنه أنه قال: (المسلمون عند شروطهم إلا
شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً) وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل
والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين،
ما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله، فإنه يؤمر به كما أمر الله
به ورسوله، وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه كما نهى الله عنه
ورسوله، وليس لبني آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على
خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي
عهدها الله إلى بني آدم كما قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة:
40) ، وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر، أو يعقده الاثنان كعقد البيع
والإجارة والهبة وغيرهما، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف
والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئًا مما نهى الله عنه
ورسوله كان شرطه باطلاً.
وفي الصحيح عن عائشة - رضى الله عنها - عن النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا
يعصه) . والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية،
وهي شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودًا أمروا فيها بما نهى
الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله، فهذا أصل عظيم يجب على
كل مسلم أن يتجنبه.
***
(فصل)
(الفتى والفتوة والزعيم والحزب
والدسكرة وما قالوه فيها)
وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} (الكهف: 13) ، وقوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 60) ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (الكهف: 60) ، لكن
لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن
مكارم الأخلاق: كقول بعضهم طريقنا نتفتى وليس بتقوى (؟) ، وقول بعضهم:
الفتوة أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك،
سماحة لا كظمًا، ومودة لا مضارة، وقول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى،
وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة سواء سميت
فتوة أو لم تسم، وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده
الله ورسوله من الأسماء: كلفظ الإحسان، والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم،
وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، والزكاة، والخير، ونحو ذلك من الأسماء الحسنة
التي تتضمن هذه المعاني، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة
كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله
مذمومين، كلفظ الكذب والخيانة والفجور والظلم والفاحشة، ونحو ذلك.
وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: {وَلِمَن
جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (يوسف: 72) فمن تكفل بأمر طائفة فإنه
يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًّا
كان مذمومًا على ذلك.
وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب: أي تصير حزبًا، فإن
كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون،
لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن
دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان
على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله
أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر
والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالحمى والسهر) وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه
قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، وشبك بين أصابعه، وفي
الصحيح عنه أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله) ، وفي الصحيح
عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قيل يا
رسول الله: أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تمنعه من الظلم فذلك
نصرك إياه) ، وفي الصحيح عنه أنه قال: (خمس تجب للمسلم على المسلم:
يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه،
ويشيعه إذا مات) ، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:
(والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يجب لنفسه) .
فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين
بعضهم على بعض، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:
(لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا) ،
وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا
أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن
تناصحوا من ولاه الله أمركم) .
وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأفضل من
درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟) قالوا:
بلى يا رسول الله قال: (فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر
ولكن تحلق الدين) فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها.
وأما لفظ الدسكرة فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة، فيتعلق بها
حمد أو ذم، ولكن هي في عرف الناس يعبر عنها عن المجامع كما في حديث
هرقل أنه جمع الروم في دسكرة، ويقال للمجتمعين على شرب الخمر: أنهم في
دسكرة، فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب؛ لأن الغالب في
عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم، لكنه من فروض
الكفايات، فإن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر أو غيرهم، وإلا وجب
على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه.
***
(فصل)
(مم خُلق النبي صلى الله عليه وسلم؟
وبم تتفاضل المخلوقات؟)
والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خلق مما يخلق منه البشر، ولم يخلق أحد
من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
أنه قال: (إن الله خلق الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق
آدم مما وصف لكم) ، وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت
منه فقط، بل قد يخلق المؤمن من كافر والكافر من مؤمن، كابن نوح منه كإبراهيم
من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سواه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له
الملائكة وفضله عليهم؛ بتعليمه أسماء كل شيء، وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك،
فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة، وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين وهؤلاء
من نور، وهذه مسألة كبيرة مبسوطة في غير هذا الموضع، فإن فضل بني آدم هو
بأسباب يطول شرحها هنا، وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار {وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد:
23-24) والآدمي خلق من نطفة، ثم من مضغة، ثم من علقة، ثم انتقل من
صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله،
وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذي تشابه أول أمره وآخره،
ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء، حيث نظر إلى أحوال الأنبياء وهم
في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات
الكمال.
وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه
صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة، والله تعالى أظهر من عظيم قدرته
وعجيب حكمته من صالحي الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من
الملائكة، حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات، فخلق بدنه من الأرض وروحه
من الملأ الأعلى ولهذا يقال: هو العالم الصغير، وهو نسخة العالم (الكبير) .
ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الخلق وأكرمهم عليه، ومن هنا قال: من قال:
إن الله خلق من أجله العالم، أو أنه لولا هو لما خلق عرشًا ولا كرسيًّا، ولا سماء
ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا، لكن ليس هذا حديثًا عن النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدري قائله،
ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله: {سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: 20) وقوله: [3] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ
لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ
تُحْصُوهَا} (إبراهيم: 32-34) ، وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق
المخلوقات لبني آدم، ومعلوم أن لله فيها حكمًا عظيمة غير ذلك وأعظم من ذلك،
ولكن يبين لبني آدم ما فيها من المنفعة وما أسبغ عليهم من النعمة، فإذا قيل: فعل
كذا لكذا ما خلق كذا لم يقتضِ ألا يكون فيه حكمة أخرى، وكذلك قول القائل:
لولا كذا ما خلق كذا لا يقتضي ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضي إذا
كان أفضل صالحي بني آدم وأفضلهم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة
بالغة مقصودة من غيره، وصار تمام الخلق، ونهاية الكمال به حصل لمحمد صلى
الله تعالى عليه وسلم، والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان
آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد
العصر في آخر يوم الجمعة، وسيد ولد آدم هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
آدم فمن دونه تحت لوائه، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: (إني عند الله لمكتوب
خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته) أي: كُتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم
قبل نفخ الروح فيه كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد، إذا خلق
الجنين قبل نفخ الروح فيه، فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها، وهو
الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمد إنسان هذا العين،
وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما
ينكر أن يقال: إنه لأجله خلقت جميعها، وإنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام
ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة قبل ذلك.
وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض
المخلوقات في شيء من الربوبية كان ذلك مردودًا غير مقبول، فقد صح عنه صلى
الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم،
فإنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله) ، وقد قال تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ
اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا
خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النساء: 171) ، والله قد جعل له حقًّا لا يشركه
فيه مخلوق، فلا تصلح العبادة إلا له ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا
الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتي
بالحسنات إلا هو، ولا يذهب السيئات إلا هو ولا حول ولا قوة إلا به، {وَلاَ تَنفَعُ
الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23)
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) {إِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً *
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً} (مريم: 93-95) ،
وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} (النور: 52) ، فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده
وكذلك في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا
اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} (التوبة: 59) ، فالإيتاء لله
والرسول، وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الوجه أن يقال: تمكنه بدل إمكانه فلعله محرف.
(2) سقط من الأصل أول الحديث من هنا إلى قوله: كتاب الله فقلنا.
(3) سقط من الأصل آخر الآية السابقة وأول الآية اللاحقة.(26/265)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة
في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير
يقول محمد رشيد رضا صاحب منار الإسلام:
كنت رأيت كلمة سلطان العلماء في عصره الشيخ عز الدين بن عبد السلام -
رحمه الله تعالى - في تفضيل كتابي المحلى لابن حزم والمغني للشيخ الموفق على
غيرهما من كتب الفقه الإسلامي قبل أن أراهما، فدعتني الرغبة في تعرف قيمة
هذه الشهادة إلى الاختلاف إلى خزانة الكتب الكبرى (المكتبة المصرية) مرارًا؛
للنظر في الكتابين، وقرأت عدة مسائل من كل منهما، رأيتها كافية في معرفة قيمة
الشهادة وصحة الحكم، وعلمت أن العلماء الذين قالوا: إن ابن عبد السلام وصل
إلى رتبة الاجتهاد المطلق، لم يقولوا إلا الحق.
فأما كتاب (المحلى) فهو كتاب اجتهاد مطلق، وصاحبه أبو محمد بن حزم إمام
الظاهرية في عصره، وهو صاحب القلم السيال واللسان الفصيح والحجة الناهضة،
والعارضة التي تأبى المعارضة، ولولا سلاطة لسانه في الرد على مخالفيه من
أئمة أصحاب الرأي وأهل القياس لاتسع نطاق مذهبه، وكثر الانتفاع بالمحلى
وغيره من كتبه، فهو يذكر المسألة ويستدل عليها ويرد على المخالفين فيها
على قواعد الظاهرية من الأخذ بالنصوص المأثورة، أو البراءة الأصلية، ولكنه لا
يكتفي بمقارعتهم بالدليل، بل يرميهم بالجهل والتضليل، غير هياب لعلو أقدارهم،
ولا وجل من كثرة أتباعهم وأنصارهم، وإذا أراد الله تعالى أن يتجدد فقه الإسلام فلا
بد أن يعرف المجددون له من قدر كتابه ما عرف العز بن عبد السلام، ولا بد أن
يطبعوه في يوم من الأيام.
وأما (المغني) فصاحبه الموفق فقيه حنبلي، وهو مع ذلك محدث أثري، وقد
ألف عدة كتب في فقه الحنابلة، وأراد أن يكون كتابه المغني في فقه المسلمين كافة،
فهو يذكر أقوال علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين، كالأئمة
المتبوعين، ويحكي أدلة كل منهم، وإذا رجح مذهب الحنابلة في كثير من المسائل
فهو لا ينتقص غيرهم، ولا يحمله التعصب على كتمان شيء من أدلتهم، ولا على
تكلف الطعن فيها، كما يفعل أهل الجمود من المقلدين، فالمزية الأولى لكتاب
المغني أنه لخص لنا مذاهب فقهاء المسلمين المجتهدين بأدلتها في أمهات الأحكام
ومهمات المسائل؛ فأغناها عن مراجعة كتب المذاهب الكثيرة فيما نحتاج إلى
الوقوف عليه منها، وعن مراجعة كتب السنن والآثار لمعرفة أدلتها ومذاهب
الصحابة والتابعين ومسائل الإجماع والخلاف، على أن المصنفات التي تتوسع في
رواية هذه الآثار لم تطبع، ونسخها الخطية قليلة الوجود: كمصنفات ابن أبي شيبة
وعبد الرزاق وابن المنذر.
ومن المعلوم أن كتب فقه المذاهب المتبعة والخلاف منها ما لا تذكر فيه الأدلة،
ومنها ما يذكر فيها ما يؤيد مذاهب مصنفيها ويضعف المذاهب المخالفة لها، ولو
بضروب من التأويل والتحريف وتضعيف الأحاديث التي لا توافق مذهب المؤلف
وإن كانت صحيحة أو حسنة إن أمكن، وتقوية الأحاديث التي توافقه وإن كانت
ضعيفة أو السكوت عن نقل الطعن فيها، وصاحب المغني لا يتعمد مثل هذا، فهو
يرجح ما يعتقد رجحانه من أدلة الحنابلة، ولا يتكلف الطعن في أدلة من خالفهم،
ولولا هذا وذاك لما فضله ابن عبد السلام على كتب الشافعية وكان من أجل
علمائهم، وهي التي يشهد لها من لم يعرف من مزايا تحريرها ما يعرفه هو بأنها
فاقت كتب سائر المذاهب في دقة التحرير والاستدلال، والجزم بالصحيح من
الأقوال، وكان يعتمد على مراجعته في الفتوى إذ صار يفتي بالدليل ويسلك سبيل
الاجتهاد.
عرفت المغني، فتمنيت لو يسخر الله تعالى من يطبعه؛ ليعم نفعه الذي هو
عندي فوق ما كان عند العز بن عبد السلام، وكان صديقنا حسن باشا عاصم خادم
الأمة والملة - رحمه الله تعالى - يقول: إذا يسر الله لنا طبع كتاب (المحكم لابن
سيده) فإنني أموت آمنًا على اللغة العربية أن تموت. ذلك لِمَا سمعه من إمام
اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي من الثناء على المحكم وعلى
النسخة الصحيحة الموجودة منه في المكتبة المصرية، وكان كلما قال لي هذه
الكلمة أقول له: وإذا يسر الله تعالى لكتاب (المغني) من يطبعه فأنا أموت آمنًا على
الفقه الإسلامي أن يموت، ثم ما زلت أفكر في السعي لطبعة إلى أن هداني الله
تعالى إلى تبليغ أمنيتي هذه إلى السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إمام
نجد وملحقاتها، فبُلِّغت عنه (أولاً) أنه أيد الله به العلم والدين، وأعز بسيفه
الإسلام والمسلمين، عازم على طبع هذا الكتاب مع كتب أخرى لإحياء العلم
وتوسيع نطاقه في بلاده - ثم خاطبني هو (آخرًا) في طبعه مع كتاب الشرح
الكبير، وطبع تفسيري ابن جرير وابن كثير، وكتب أخرى من كتب السنة والفقه،
وتلا ذلك إرساله المغني والشرح الكبير للمقنع؛ ليطبعا معًا. وكذا غيرهما مما
عزم على طبعه، وقد شرعنا في طبعهما، والمطبعة غير مستعدة لإنجاز مطبوعات
كبيرة كثيرة؛ فأخذنا في إعدادها لذلك، وسيحصل المراد عن قريب بفضل الله
تعالى وقوته، وإنا وقد نجز الجزء الأول من الكتابين نبين بالإيجاز فوائدهما للأمة
الإسلامية، وكونهما في الفقه الإسلامي العام لا فقه الحنابلة فنقول:
تمهيد في اختلاف الأمة وسيرة الأئمة
قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:
92) ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، ولم
يكن شيء أبغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ولو في الأمور العادية،
ولما كان الاختلاف في الفهم والرأي من طباع البشر {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ
مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) خصَّ الاختلاف المذموم في
الإسلام بما كان عن تفرق أو سببًا للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح
فحظروا فتح باب الآراء في العقائد وأصول الدين، وحتموا الاعتصام فيها بالمأثور
من غير تأويل، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية، ولا سيما المعاملات، وكان
بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهمه.
ثم إن كثيرًا من كبار العلماء حاولوا أن يجعلوا اختلاف العلماء في مسائل
الأحكام رحمة بهذه الأمة، وتحقيقًا ليسر دينها الذي ثبت بنصوص الكتاب والسنة،
ويتقوا ما حذر الله تعالى في كتابه من مضار التفرق والاختلاف الذي أفسد على
الأمم السابقة دينها ودنياها، وأنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) إلى قوله {وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل
عمران: 105) وقد وجد في بعض الكتب حديث مرفوع، اشتهر على الألسنة
وهو (اختلاف أمتي رحمة) ولما لم يوجد له سند في شيء من كتب السنة قال
بعضهم: لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا؛ احترامًا لمن ذكروه
في كتبهم بالقبول أو التسليم، وحرصًا على العمل بمعناه.
ولكن المتعصبين للمذاهب أبوا أن يكون الاختلاف رحمة، وشدد كل منهم في
تحتيم تقليد مذهبه، وعدم الترخيص للمنتمين إليه في تقليد غيره، ولو لحاجة أو
ضرورة، وكان من مناظراتهم في ذلك من طعن بعضهم في بعض ما هو معروف
في كتب التاريخ والتراجم وغيرها: كالإحياء للغزالي، وصار بعض المسلمين إذا
وجد في بلد يتعصب أهله لمذهب غير مذهبه: كالبعير الأجرب بينهم.
وقد وقع من الفتن بين المختلفين في الأصول وفي الفروع ما سود صحف
التاريخ، على أن الخلاف في الفروع أهون وأقل شرًّا، وقد ضعف في هذا الزمان
بضعف أسبابه في أكثر البلاد، ولكننا لا نزال نسمع بمنكرات قبيحة منه في أخرى،
من ذلك أن بعض الحنفية من الأفغانيين سمع رجلاً يقرأ الفاتحة وهو بجانبه في
الصف فضربه بمجموع يده على صدره ضربة وقع بها على ظهره فكاد يموت.
وبلغني أن بعضهم كسر سبابة مصلٍّ؛ لرفعه إياها في التشهد، وقد بلغ من إيذاء
بعض المتعصبين لبعض في طرابلس الشام في آخر القرن الماضي أن ذهب بعض
شيوخ الشافعية إلى المفتي، وهو رئيس العلماء وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين
الحنفية؛ فإن فلانًا من فقهائهم يعدنا كأهل الذمة بما ذاع في هذه الأيام من خلافهم
في تزوج الحنفي بالشافعية، وقول بعضهم: لا يصح لأنها تشك في إيمانها؛ لأن
الشافعية وغيرهم من الأشعرية يجوزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله،
وقول آخرين: بل يصح نكاحها قياسًا على الذمية.
فأين هذا التعصب والإيذاء والتفريق بين المسلمين بالآراء الاجتهادية من
تساهل السلف الصالح، وأخذهم بما أراده الرحمن من اليسر في الشرع وانتفاء
الحرج فيه، واتقائهم التفريق بين المسلمين بظنون اجتهادية، رجح بها كل ناظر ما
رآه أقرب إلى النصوص أو إلى حكمة الشارع، حتى كان أشهر الأئمة لا يستحلون
الجزم بالحكم فيها، فيقول أحدهم: أكره كذا، أو أستقبحه، أو أخشى أن يكون كذا
أو لا ينبغي ولا يصلح ولا يعجبني أو لا أحبه ولا أستحسنه، ويقول في مقابل ذلك:
يفعل السائل كذا احتياطًا أو أحب كذا أو يعجبني أو أعجب إليّ وهذا أحسن.
هكذا كان يقول الإمام أحمد في المسائل الاجتهادية أو فيما لا نص صحيح
صريح فيه من الكتاب أو السنة، ويؤثر نحوه عن غيره، ولكن مدوني المذهب جعلوا
هذه التقوى والورع في التشريع قواعد له في أحكام التكليف وطرق الاستنباط
والاستدلال، وصارت الحنابلة فرقة ذات مذهب مستقل في الفروع، بل صار
المتكلمون يعدونهم فرقة مستقلة في أصول العقائد أيضًا، وإنما كان الإمام أحمد -
رحمه الله - تعالى إمامًا لجميع أهل السنة في الأصول والفروع؛ باستمساكه في
أصول الدين والعبادات بنصوص الكتاب والسنة، وما صح عن علماء الصحابة من
فهم وهدي وعمل مفسر لهما، ولكن أصحابه حرصوا على ما نقلوا عنه من فهم
واستنباط أن يضيع؛ فدونوه كما فعل سائل الأئمة وأصحابهم لا ليقلد لذاته بل لأجل
فتح أبواب العلم وتسهيله لطالبيه من الأفراد في العبادات ومن الحكام في الأمور
القضائية والدولية، وكانوا يقرنونه بأدلته؛ ليكون الدليل هو العمدة في العمل وفي
الترجيح بينه وبين غيره، ولم يقصد أحد منهم أن يكون شارعًا أو كالشارع في
كونه يتبع لذاته، فضلاً عن التزام طائفة من الأمة للتعصب له بمثل ما وقع، ولا
أن تفترق الطوائف المقلدة لكل منهم وتتعادى فتكون كمتبعي الشرائع المتعددة
المختلفة، هذه معاصٍ مجمع على تحريمها.
قال الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي في أول مختصره المشهور بعد
البسملة ما نصه: قال أبو إبراهيم بن يحيى المزني، رحمه الله: (اختصرت
هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله
لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه
ويحتاط لنفسه، وبالله التوفيق) اهـ.
وقال: ملا على القاريْ الحنفي المحدث في رسالته التي ألفها في إشارة
المُسبِّحة: وقد أغرب الكيداني حيث قال: (العاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة
كأهل الحديث) أي مثل جماعة يجمعهم العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم،
وهذا منه خطأ عظيم وجرم جسيم، منشؤه الجهل لقواعد الأصول ومراتب
الفروع من المنقول، ولولا حسن الظن به وتأويل كلامه بسبب، لكان كفره
صريحًا، وارتداده صريحًا، فهل لمؤمن أن يحرم ما ثبت فعله عنه صلى الله عليه
وسلم مما كاد نقله أن يكون متواترًا، ويمنع جواز ما عليه عامة العلماء كابرًا عن
كابر مكابرًا، والحال أن الإمام الأعظم والهمام الأقدم قال: لا يحل لأحد أن
يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس الجلي في
المسألة) إلخ ما قاله ليثبت به أن قاعدة أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في
الاتباع تقتضي رفع المُسبِّحة في التشهد؛ لثبوت الحديث به.
ولكن المتعصبين الذين يقطع بعضهم إصبع من رفع سبابته تقليدًا لمن حرمه
من أهل مذهبهم لا يعلمون أنهم هم الذين يرتكبون المحرم بالإجماع؛ عقابًا على
الواجب أو المندوب بالإجماع، أو بما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا
على مخالفة سنته صلى الله عليه وسلم كما سمعته بأذني من بعض طلاب العلم
الأفغانيين في مسجد لاهور الجامع في الهند، وقد سألتهم عن صحة ما نقل عن
بعض أهل بلادهم في ذلك، فقالوا: نعم وعللوه على مخالفة الرسول صلى الله عليه
وسلم وترك سنته: أي وعلى عداوة شرع الله تعالى واستحلال ما حرمه، إذ قال
بعض فقهاؤهم: بتحريم رفع الإصبع في التشهد، والتحريم في عرف أهل الأصول
خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا. وأين هذا الخطاب الإلهي القطعي؟ هل
هو قول مثل الكيداني المصرح بمخالفة أهل الحديث؟
إن الأحكام العملية التي هي موضوع الفقه منها ما ثبت بالدليل القطعي المجمع
عليه: كأركان الإسلام، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو ما يكون
باتباعه المؤمن به مسلمًا، وبجحده أو استحلال مخالفته كافرًا، وبمخالفته فاسقًا على
التفصيل المعروف، ومنها ما هو محل النظر والاجتهاد، وهو الذي وقع فيه
الخلاف بين علماء الأمة للاختلاف في رواية النصوص أو في دلالتها، أو لعدم
العلم بالنص والرجوع في الاستنباط إلى القواعد العامة أو القياس المختلف في
حجيته [1] ، وكانوا متفقين على أن من خالف مضمون نص لم يبلغه، أو معنى
نص غير قطعي الدلالة؛ لأنه لم يظهر له أو بذل جهده في استبانة مراد الشارع في
مسألة فترجح عنده فيها شيء فعمل به مخطئًا - فهو معذور، فهل يكون بمخالفته
اجتهاد غيره مأزورًا غير معذور؟ .
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل قوله تعالى في الخمر والميسر:
{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) نصًّا في تحريمهما على جميع الأمة،
وإنما حرمهما به من فهم منه الدلالة على التحريم، فترك شرب الخمر والمقامرة -
وهو ما يقطع بمثله الفقهاء كافة - حتى إذا ما نزل فيهما وفي الأنصاب والأزلام أن
ذلك كله {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90) والأمر القطعي بالتحريم
وهو قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90) إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) أجمعوا على تركه، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم
تشريعًا عامًّا يخاطب به كل مؤمن، وأهرق جميع الصحابة الذين كانوا يشربون
الخمر ما كان عندهم منها؛ فأخذ علماء السلف من هذا أن التشريع العام ما كان بهذه
الدرجة من الصحة والصراحة القطعية في النصوص، وأن ما دونه مما فيه مجال
للاجتهاد في الرواية أو الدلالة محل سعة، لا يكلف كل مؤمن الأخذ به، وإنما
يكلفه من ثبت عنده أو وثق بعلم مفتيه به ودينه فقلده فيه، ولم يكونوا يبيحون أن
يكون مما يجبر عليه أحد أو تفرق كلمة المسلمين فيه، وقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقر كلاًّ من المختلفين في الفهم على اجتهاده فيما هو محل الاجتهاد،
كمسألة نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة: أقر من أخذ منهم بمنطوق النهي فلم
يُصلِّها إلا في قريظة، ومن صلى أولاً ثم أدرك معه قريظة؛ لأنهم فهموا أن المراد
من النهي عدم التخلف عن الخروج وإدراك قريظة في الوقت المراد.
وبناءً على هذا لم يرض الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أن يحمل المنصور
العباسي جميع المسلمين على العمل بموطئه على ما كان من تحريه في روايته، ومن
مواطأة علماء دار الهجرة له عليه - وبناء عليه كان الإمام المجتهد منهم ينهى من
يستفتونه أن يتخذوا فتواه دينًا يتقلدونه، أو أن يجعلوه سببًا للتفرق - وبناء عليه
كان أحدهم يأخذ باجتهاد غيره؛ ترخصًا أو موافقة لجماعة المسلمين.
روي عن الإمام أحمد أنه كان يرى الوضوء من الجحامة والفصد، فسئل
عمن رأى الإمامَ احتجم وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ، أيصلي خلفه؟ فقال:
كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟ وفي رواية أنه قال للسائل: أأنهاك
أن تصلي مع فلان وفلان؟ وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج
الدم، ولكن أبا يوسف رأى هارون الرشيد احتجم وصلى ولم يتوضأ - وكان مالك
أفتاه بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم - فصلى أبو يوسف خلفه ولم يُعد الصلاة،
واغتسل أبو يوسف في الحمام وصلى الجمعة، ثم أُخبر بعد الصلاة أنه كان في بئر
الحمام فأرة ميتة فلم يُعد الصلاة، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل الحجاز: (إذا
بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ولم يكن هذا تقليدًا منه؛ لأنه يعرف دليله وهو
حديث القلتين الذي ذكره، ولكنه غير قطعي الرواية والدلالة، كما أنه ليس دون
قولهم في حد الماء الكثير.
ونقل أن الشافعي - رحمه الله - ترك القنوت في الصبح لما صلى مع جماعة
الحنفية في مسجد إمامهم (لعله في المكان المعروف اليوم بالأعظمية من ضواحي
بغداد) ، فقال الحنفية: إنه فعل ذلك أدبًا مع الإمام، وقال الشافعية: بل تغير
اجتهاده في ذلك الوقت، والظاهر مما تقدم أنه لم يرد أن يخالف جماعة من
المسلمين مخالفة عملية، في مسألة اجتماعية غير قطعية، فإن اختلاف الظواهر
من أسباب اختلاف البواطن، كما يؤخذ من حديث (عباد الله لتسون صفوفكم، أو
ليخالفن الله بين وجوهكم) رواه الجماعة من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا،
ولكن سقط من رواية البخاري كلمة (عباد الله) قال النووي في شرح مسلم بعد
ذكر حمل الوجوه على حقيقتها: والأظهر والله أعلم أن معناه يوقع بينكم العداوة
والبغضاء واختلاف القلوب كما تقول: تغير وجه فلان: أي ظهر لي من وجهه
كراهة؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر،
سبب لاختلاف البواطن اهـ، ويؤيده رواية أبي داود له بلفظ (أو ليخالفن الله بين
قلوبكم) ، ويؤيد المعنى من المعقول والتجارب ما ثبت من أن الاتفاق في العادات
واللباس من أسباب التآلف، والاختلاف فيها من أسباب التناكر والتنافر، فكيف إذا
كان الخلاف في الدين، وكان كل فريق يعتقد أن الآخر مخالف بمخالفته لله
ولرسوله؛ بدعواه أن ما عليه أهل مذهبه هو الحق، وما خالفهم فيه غيرهم باطل؟
ولكن المتعصبين للمذاهب لا يفقهون ما يفقهه مثل الشافعي من حكم الدين،
ومقاصده، فهم يتحرون مسائل الخلاف ويلتزمونها، من حيث يترك بعضهم العمل
بكثير من مسائل الاتفاق، وإن كانت مجمعًا عليها، ولهم أشد استمساكًا بخلاف
الذين يعيشون معهم، منهم بخلاف البعداء عنهم، فهم يقيمون في المسجد الواحد
جماعتين أو أكثر في وقت واحد، ويرسل بعضهم أيديهم ويقبضها بعض في الصف
الواحد.. . وبذلك جعلوا اختلاف الاجتهاد بين العلماء نقمة، على حين كان يعد
عند أولئك العلماء نعمة، وإنما سبب ذلك اتباع الأهواء، وتنازع الزعماء، الذين
ورد في وصفهم الأثر بأنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها، وما أغرى فقهاء
المذاهب المتبعة بالتعصب الذي أطال أبو حامد الغزالي نعيه عليهم في إحيائه إلا
حب الرياسة كما قال، بل ما أغراهم بالاشتغال بها دون غيرها، إلا ما بَيَّنَهُ
المقريزي المؤرخ الحكيم من وقف الأوقاف عليها والتزام بعض الملوك والأمراء؛
لتقليد بعضها والحكم به، ولولا ذلك لفعلوا بأقوال أئمة هذه المذاهب ما فعلوه بأقوال
غيرهم من علماء الصحابة والتابعين من المزج وعدم الإفراد بالتأليف والتدريس.
وجملة القول أن التفرق بين المسلمين باختلاف المذاهب والآراء، وتعصب
كل شيعة لمذهب منها في الأصول أو الفروع هو من أكبر الكبائر الثابتة بنصوص
الكتاب والسنة القطعية المجمع عليها، ولا شيء منها بقطعي مجمع عليه، فمن
مقتضى أصولهم كلهم وجوب ترك كل أسباب هذا التفرق والاختلاف حتى قال
الغزالي في القسطاس المستقيم: بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه، وعد المسائل
الظنية المختلف فيها كأن لم تكن.
ثم إن ما ترتب على التفرق من الضرر والفساد المدون في التاريخ، والذي
أفضى في هذه الأزمنة إلى ضعف المسلمين وذهاب ملكهم، وتمكين الأجانب من
الاستيلاء على بلادهم، وما زالوا ينفرون بعض المختلفين في المذاهب من بعض
كما هو واقع في اليمن ونجد مع غيرهما من بلاد العرب - كل ذلك مما يؤكد
وجوب تلافي شرور هذا التفرق، وجمع الكلمة ووحدة الأمة، وكان هذا الغرض
من أهم ما أنشأنا لأجله مجلتنا (المنار) وأول ما كتبناه من التفصيل في ذلك
(محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين 3 و4 أي من أكثر من ربع
قرن، ثم جمعت في كتاب مستقل منذ بضع عشرة سنة.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أنكر الظاهرية من أهل السنة وبعض المعتزلة حجية القياس مطلقًا، ومنعه بعض الأصوليين في أسباب الأحكام وفي الحدود والكفارات، وبعضهم في العبادات؛ لأنها هي المرادة بإكمال الله الدين، وخصها بعضهم بالأمور التعبدية ككل ما لا يعقل، ومذهب مالك الأخذ في العبادات بظواهر نصوص الكتاب والسنة، واعتبار المصالح والتوسع في الاجتهاد في الأحكام الدنيوية.(26/276)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رفيق العظم
وفاته وترجمته
في يوم عرفة (9 ذي الحجة سنة 1343 الموافق 30 حزيران يونيو)
سنة 1925 فجعت البلاد المصرية والسورية، بل الأمة العربية، برجل كان من
أعلى رجالها قدرًا، وأنبههم فيها ذكرًا، وأعظمهم لديها زخرًا، رجل الحسب
الشامخ، والأدب العالي، والفكر المنير، والوطنية الصادقة، العالم المؤرخ،
الكاتب الاجتماعي، العامل السياسي، صديقي الوفي (رفيق بك العظم) ابن
محمود بك خليل العظم من أسرة آل العظم السورية العريقة في المجد، ففقدت الأمة
بفقده زعيمًا كبيرًا، ونابغًا حكيمًا، وكاتبًا قديرًا، في زمن هي أحوج فيه إلى
الرجال المحنكين، والزعماء المخلصين منها إلى العافية للأبدان، والطمأنينة
للحيران، فرحمه الله تعالى.
***
نشأته الأولى
ولد الفقيد في دمشق سنة 1282هـ، ونشأ كما كان ينشأ أمثاله من أبناء
الوجهاء المترفين في ذلك العهد، فلم يُعن والده بتعليمه في مدارس العلم العربية؛
لأنها خاصة برجال الدين، ولا في مدارس الحكومة العثمانية الإعدادية والعالية؛
لعدم شعوره بالحاجة إلى تخريجه فيها، أو عدم رغبته بجعله من عمالها وموظفيها،
الذين لا تكنهم دار ولا يقر لهم بين أهلهم قرار، أو لمحض الإهمال، على أنه
هو لم يتعلم تعلمًا منظمًا وإنما أخذ بعض المبادئ عن بعض شيوخ عصره، وكان
يعاشر العلماء والأدباء والمتصوفة، ويطالع الكتب ودواوين الشعر لأجل التسلية،
فكان بذلك شاعرًا ومؤلفًا في الأدب والتصوف، وجاء فقيدنا وارثًا له في ذكائه
ونشأته؛ ولكنه فاقه في الجد والعلم النافع والعمل، أخذ التعليم الابتدائي في كتاب
أهلي، ثم أخذ شيئًا من مبادئ اللغة العربية عن الأستاذ الفاضل الشيخ توفيق أفندي
الأيوبي الشهير، وكان كل ما حصله بعد ذلك بمطالعاته الشخصية، فهل كان يدور
في خلد أحد أن مؤلف كتاب أشهر مشاهير الإسلام وغيره من الكتب والرسائل
والمقالات الكثيرة في كبرى الجرائد والمجلات المصرية لم يقرأ كتابًا حافلاً من كتب
النحو والصرف ولا من كتب المعاني والبيان، ولم يتلقَّ علمًا ولا فنًّا قديمًا ولا
حديثًا عن أستاذ؟ فما هذا الذكاء النادر الذي وضعه في مصاف العلماء المصنفين،
والكتاب المجيدين؟ وما تلك الهمة العالية التي رفعته إلى مقام الزعماء السياسيين،
ورجال الانقلاب المدبرين؟
كان رفيق ذكي الفؤاد ميالاً بفطرته إلى العلم والجد ومعالي الأمور، عزوفًا
عن سفاسفها وصغائرها، نبت به هذه الفطرة الزكية عن صرف أوقات صباه في
اللهو واللعب مع أمثاله من أبناء الموسرين، وجذبته إلى معاشرة أهل العلم والأدب
والأفكار في الأمور العامة: كالأستاذ المرحوم الشيخ طاهر الجزائري والأستاذ
الشيخ سليم البخاري والأستاذ الشيخ توفيق الأيوبي من كهول مشيخة الشام،
والأستاذ الشيخ محمد علي مسلم ومحمد أفندي كرد علي من الأتراب، وحُبب إليه
البحث ومطالعة كتب الأدب والتاريخ، وكانت نزعته العلمية وكذا الاجتماعية
إسلامية، حتى إن علماء الأقطار البعيدة الذين وصلت إليهم كتبه ورسائله بعد ذلك
كانوا يظنون أنه من علماء الدين.
***
اشتغاله بالسياسة وهجرته إلى مصر
ثم إنه كان يعاشر أحرار رجال الحكومة العثمانية من الترك وغيرهم أيضًا،
وتعلم اللغة التركية باجتهاده حتى صار يقرأ كتبها وجرائدها، وإذ كان ميالاً بطبعه
إلى السياسة والأمور العامة استماله بعضهم إلى الاشتغال معهم في جمعياتهم السرية،
فدخل أولاً في جمعية الدستور التي أسسها في الشام أسعد بك مدير البوليس فيها،
ثم في جمعية الاتحاد والترقي.
ولما اشتد السلطان عبد الحميد في مطاردة السياسيين العثمانيين طلاب
الدستور، وطفق ينكل بمن يتعذر استمالته منهم بالوظائف أو الرتب والنياشين؛
أزمع الفقيد الهجرة إلى مصر، ويقول شقيقه الكبير عثمان بك: إن ذلك كان سنة
1894م.
وبعد استقراره في مصر واتخاذها دار هجرة ومقامة، طفق ينشر المقالات
السياسية والاجتماعية في أشهر جرائدها اليومية: الأهرام، فالمقطم، فالمؤيد،
فاللواء، وفي أشهر مجلاتها: كالمقتطف، والهلال، والمنار، والموسوعات،
وكان يختلف إلى مجالس الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ولا سيما بعد تلاقينا
وتوادنا، وكان له بالشيخ على يوسف صاحب المؤيد صلة ود وثيقة، ثم كان من
أصدقاء الزعيمين السياسيين مصطفى كامل باشا ومحمد فريد بك منذ نشأتهما
السياسية الأولى، وظهورها في ميدان السياسة إلى آخر عمرهما حتى إنه رثى
محمد بك فريد حين علم بموته - طريد وطنيته - في أوربة بأبيات من الشعر
وجدهما شقيقه عثمان بك في أوراقه، وقد رثى قبله الأستاذ الشيخ طاهرًا، ولعل
هذين الرثائين آخر ما نظم، وليسا كل ما نظم، فقد كان - رحمه الله - ينظم
الشعر بما يجده من الداعية في نفسه لإرضاء نفسه، ولكنه لم يكن يحب أن ينشر
شيئًا من شعره في الجرائد ولا أن يظهره للناس، إما لأنه لم يكن يراه بالمنزلة
اللائقة بشهرته، أو لأنه لم يكن يحب أن يسمى شاعرًا، وإذ كان الشعر عنده أمرًا
ثانويًّا ذكرناه في ترجمته استطرادًا.
***
تلاقينا وتعاوننا على خدمة الأمة
في منتصف سنة 1315 (الموافق لخريف سنة 1897م) هاجر كاتب هذه
الترجمة إلى مصر، وفي الربع الأخير منها أنشأ (المنار) فكان سببًا للتعارف
والتآلف بينه وبين الفقيد، فالتعاون على الإصلاح السياسي والاجتماعي فالاشتراك
في الأحزاب والجمعيات السرية والجهرية.
وكانت أول جمعية سياسية أسسناها بمصر (جمعية الشورى العثمانية) وقد
اشترك في تأليفها معنا رجال من سائر الشعوب العثمانية الكبرى وفي مقدمتهم الترك
والجركس والأرمن، وكان من أعضائها المؤسسين الضابط صائب بك الذي كان
حاجبًا لصاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي، ومندوبًا لجمعية الاتحاد والترقي
بمصر، ثم ترك خدمة المندوب العثماني السامي؛ إيثارًا للسياسة التي تغضب
السلطان عليها، ومنهم الدكتور عبد الله جودت بك المشهور أحد مؤسسي جمعية
الاتحاد والترقي أول مرة، وكان هو (السكرتير التركي) لها، وكان الفقيد أمين
صندوقها وابن خاله حقي بك (سكرتيرها العربي) وكاتب هذه السطور رئيس
مجلس إدارتها.
كان تأسيس هذه الجمعية موافقًا لرأي صاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي
المندوب العثماني السامي بمصر، وأنا الذي استشرته في ذلك وطلبت منه أن
يمنحها رعايته، ويأذن لنجله محمود باشا بأن يكون الرئيس العام أو رئيس شرف
لها فيمدها بمساعدته، فقال: إن الإصلاح لا يأتي من الأعلى ومن رجال الدولة،
إنما يأتي من وسط الأمة ومن الطبقات الدنيا فيها، وأخبرني أن السلطان علم
بوجود الجمعية وهو أنه يرسل البرقيات إليه تترى في السؤال عنها وعن مؤسسيها،
ويسميها جمعية إفسادية، وأنه تجاهل في جوابه أولاً، ثم كتب إليه بأن لا إفساد
ولا ضرر منها، فإنها مؤلفة من بعض أهل العلم وأبناء الأسر الوجيهة المخلصة
للدولة.
ثم علمنا من شأن اهتمام السلطان بها ما هو فوق ذلك، فقد روى لنا حقي بك
عن خاله المرحوم صادق باشا المؤيد عن السلطان نفسه أن نبأ هذه الجمعية أقض
مضجعه؛ فبقي ثلاث ليالٍ لا تذوق عيناه النوم إلا غرارًا، ولم يقر له قرار حتى
عرف مؤسسيها من بعض جواسيسه بمصر (وهو رجل اسمه كامل بك) دخل
الجمعية بعد تأسيسها، وأظهر من الإخلاص لها والعناية بخدمتها ما كان محل
إعجاب جميع الأعضاء.
ولا غرو، فقد كان عمل الجمعية عظيمًا: تأسس لها فروع في الأقطار
المختلفة، وكانت تطبع المنشورات بالعربية وبالتركية وترسلها إلى فروعها في
البرد الأجنبية؛ فيوزعونها في الولايات التي يقيمون فيها وفيما جاورها، بل كان
يرسل بعض هذه المنشورات في البواخر الروسية مع بعض المسافرين
والمستخدمين فيها إلى ثغور البحر الأسود؛ فيأخذها هنالك منهم من يتولون إرسالها
إلى جميع بلاد الأناضول.
ثم أصدرت الجمعية (في فبراير سنة 907) جريدة باسمها (الشورى
العثمانية) استغنينا بها عن المنشورات، وكان الفقيد يحرر القسم العربي منها،
وحقي بك يحرر القسم التركي إما إنشاء وإما ترجمة لما يكتبه الفقيد أو غيره منها
بالعربية، وقلما كنا نساعدهما على ذلك، وكان ينشر فيها بعض المقالات باللغة
الفرنسية أيضًا.
وبلغ من عناية جمعية الاتحاد والترقي بالجمعية فوق ما كان من التعاون
والمراسلة بينهما من أوربة ومن المركز العام في سلانيك أن أحمد رضا بك الشهير
جاء من باريس إلى مصر لأجل السعي لتوحيد الجمعيتين، وقد قصد الفقيد أولاً
وكلمه في ذلك، فجاء به إليّ، فلما كلمني قلت له: إن جمعيتكم تركية وجمعيتنا
عثمانية عامة، فنحن لا نتفق معكم إلا في مقاومة الاستبداد والظلم والسعي لجعل
الحكم بالشورى النيابية، قال: ونحن جمعيتنا عثمانية لا يميز قانونها التركي على
غيره، قلت: هي عثمانية بالقانون تركية بالفعل، فليس في زعمائها أحد من غير
الترك، فقانونها كقوانين السلطان عبد الحميد ولو كان السلطان عبد الحميد ينفذ
قوانين الدولة على علاتها لما أبحت لنفسي ولا لغيري أن يسعى لتغيير شكل
الحكومة أو يقاوم نفوذه فيها.. . ثم اتفقنا على أن تعمل الجمعيتان بالتعاون مع بقاء
كل جمعية على حالها.
ثم إن جمعية الاتحاد والترقي عادت بعد إعلان الدستور، فكتبت إلى جمعيتنا
من المركز العام تدعوها إلى الحلول فيها والاتحاد بها، فاشترطنا في ذلك شروطًا لم
تقبلها، ولكن الفقيد وحقي بك دخلا في جمعيتهم عند زيارتهما للآستانة بعد الدستور،
وتفرق سائر الأعضاء الذين لم يجمعهم في مصر إلا الاضطهاد، فلم يبق لجمعية
الشورى عمل.
أطلت بعض الإطالة في ذكر هذه الجمعية؛ لأن عمل الفقيد فيها كان عظيمًا،
وقد أنفق من ماله في سبيلها ما لم ينفقه غيره، ولولا اغتراره بجمعية الاتحاد
والترقي لرضي بما ارتأيته من إبقاء فروع الجمعية وتكثيرها في البلاد العربية؛
لتكون قوة للعرب أمام تعصب الاتحاديين للترك، ولكنه قال لي بعد عودته من
الآستانة: إني عدت إلى جمعيتي الأصلية، وأن بقاء جمعيتنا تفريق غير جائز،
على أنه عاد من الآستانة غير راضٍ عن سير الاتحاديين رضاء تامًّا، ثم صار
يشاهد آنًا بعد آن من تعصبهم على العرب وهضمهم لحقوقهم ما حاول إن يتلافاه
بطرق الإقناع، فألف في ذلك رسالة طويلة يئس من فائدتها قبل أن يتمها، فلم
ينشرها وسيأتي الكلام عليها عند ذكر مؤلفاته وآثاره.
وكان آخر الجمعيات السرية التي اشتركنا في تأسيسها جمعية عربية أسست
للتأليف بين أمراء جزيرة العرب وللتعاون والاتفاق بين الجمعيات السياسية التي
أنشئت في الولايات العربية وفي الآستانة؛ لمقاومة تعصب الاتحاديين وضغطهم
على العرب، ولحفظ حقوق العرب في الدولة والعمل لمستقبلهم.
كان تأسيس هذه الجمعية ضروريًّا؛ لأن آفة العرب المفسدة لجميع مواهبهم
الفطرية هي التفرق والاختلاف، وكان الملجئ إليها انكسار الدولة العثمانية في
حرب البلقان، والخوف على البلاد العربية أن تتخطفها الدول المستعمرة، فرأى
المؤسسون أن قوة العرب في جزيرتهم، وأنها لا يمكن الانتفاع بها، إلا بتأسيس
اتحاد حلفي يجمع بين أمرائها، وكان قد سبق لهذا تمهيد من بعض المؤسسين، ثم
وضع له النظام الذي يرجى تنفيذه، وأما الجمعيات العربية فكانت مختلفة المقاصد،
وليس بينها من التعارف والاستعداد للاتحاد عند الحاجة ما يؤمن معه سوء المغبة،
ويرجى به حسن العاقبة، فوضعت الجمعية نظامًا لذلك، ولم يقنع المترجم
بضرورة هذه الجمعية إلا بعد أن رأى من انكسار الدولة في حرب البلقان ما أقنعه
بأنه ليس لها من القوة الذاتية ما يضمن بقاءها، وأنها عرضة للزوال فجأةً إذا
صدمتها صدمة أخرى.
***
الأحزاب الجهرية
وأما التي اشتركنا فيها فهي حزب اللامركزية، وكان الفقيد رئيسًا له،
وحزب الاتحاد السوري وأمرهما معروف للجمهور، فلا حاجة إلى شرح خدمة
المترجم لوطنه فيهما، وإنما أقول: إن حزب اللامركزية كان يراد به خدمة الدولة
والبلاد العربية معًا، وكان سبب تأسيسه ما ذكر آنفًا من سبب تأليف الجمعية
العربية، وهو ما أنذرت الحرب البلقانية العثمانية من توقع زوال الدولة، وقد كنا
نعتقد أن الدولة لا يمكن أن تعيش طويلاً إذا أصرت على شكل حكومتها المركزي
وتحكيم الترك في جميع شعوب الدولة، وكان المترجم - رحمه الله تعالى -
حريصًا على بقاء الدولة، وكان على هدى وبصيرة في ذلك، وكنا متفقين معًا على
هذا الرأي، وعلى أن العرب يحتاجون إلى زمن طويل؛ لترقية أنفسهم وجمع
كلمتهم واستغنائهم عن الدولة إن زالت أو بقيت، وكنا نرى أن الخروج على الدولة
ضار وخطره على العرب أشد من خطره على الترك، ولا أقول: إن كل أعضاء
الحزب كانوا على رأينا، وإنما كانوا متفقين على أن شكل الحكم اللامركزي خير
لبلادنا ولغيرها، وكان لبعضهم أهواء أخرى وشذوذ في الفكر وفي العمل، ولكن
الحزب نفسه لم ينحرف عن قانونه المستقيم.
وأما حزب الاتحاد السوري فأمره أظهر، لأن العهد به أقرب، وكان الفقيد
من المؤسسين له، ولكنه تركه منذ سنين واعتزل السياسة وغيرها من الأعمال،
لأن صحته ساءت، واشتد عليه مرض الربو، وضاعفه تصلب الشرايين فضعف
القلب، حتى أودى ذلك كله بحياته فجأة.
هذا وإننا لم نختلف في كل هذه المدة في مقصد من المقاصد، ولا في مهمات
الوسائل أيضًا، إلا ما كان في أيام حرب المدنية الكبرى، فقد اختلفنا في مسائل
مهمة لا يحسن في هذه الترجمة ذكرها، ونحمد الله تعالى أن كان اختلافنا محصورًا
في مناقشات جرت بيننا، لم تتجاوزنا إلى غيرنا.
***
آثاره القلمية
(1) إن أجل تآليفه وأعظم آثاره العلمية هو تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام)
الذي طار به صيته في الأقطار، وإنما أتم منه أربعة أجزاء، طبعت مرارًا
ونفدت نسخها.
(2) وكتاب (السوانح الفكرية في المباحث العلمية) وهو كتاب
اجتماعي أدبي جعله أربعة أقسام: (القسم الأول المدنية ودواعيها، وأسباب تقدمها
أو تلاشيها) ، وفيه 3 أبحاث (القسم الثاني التربية والأخلاق) وفيه 4 أبحاث،
(القسم الثالث الأدبيات) وفيها 4 أبحاث (القسم الرابع مباحث علمية مختلفة)
وفيه 5 أبحاث، خامسها (التفرنج) وقد أطال في ذمه، ووصف ضرره
وشره.
وهذا الكتاب مبيض بخطه في زهاء مائة صفحة من القطع الوسط، وإنما
صده عن طبعه -كما نظن- أنه أثنى في فاتحته على السلطان عبد الحميد، فأطراه
إطراء لم يلبث أن ظهر له أنه مخطئ فيه، بعد أن انخدع كغيره بما كانت تنشره
جميع الجرائد العربية والتركية من مدائحه المنثورة والمنظومة.
ويحسن بي أن أذكر عبارته في ذلك؛ لما فيها من الدلالة اللفظية والمعنوية،
على حال فقيدنا العزيز الفكرية والأدبية، قال:
(وإنني لما رأيت أبناء وطني قد تفتحت منهم الأذهان، وتنبهت بعد الرقدة
والفكر، وسرى سر الحمية في أمثالي من شبان هذا العصر، فأخذوا يتتبعون
أشتات العلوم والمعارف، ويتفيئون تحت ظلها الوارف، بوجود من لا تكلُّ عن
الثناء عليه ألسنة رعيته، وقد اتحدت القلوب تحت راية عدله وشوكته، السلطان
ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد، المحفوف من الله بالعز والتأييد، فقد
أحببت إتحافهم بكتاب يروق في عين كل لبيب، ويحتاج إليه كل أديب أريب،
وشحت بفرائد الفوائد طروسه، وأبرزت في دست الكمال عروسه، ليكون بهجة
للناظرين، ولذة للسامعين) .
وإنني لم أر له - رحمه الله - أسجاعًا كهذه في غير هذا الكتاب الذي كان من
أول ما كتب، وأول ما ألف على ما أعلم، بيد أنه لم يلتزم السجع إلا في خطبته
فقط، وهو لا يخلو من لحن فيما هو من ضروريات علم النحو، وهاك أسماء بقية
آثاره القلمية التامة:
(3) (كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية) وكفاه تقريظًا له أن
الأستاذ الإمام قرر تدريسه في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية.
(4) رسالة تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام.
(5) (كيفية انتشار الأديان) .
(6) (الجامعة الإسلامية وأوربة) .
وله خطب علمية ألفاها في بعض المحافل العلمية والمدارس العالية، نشر
بعضها في المنار وبعضها في مجلة دار العلوم، وهذه يسهل جمعها وطبعها كمقالاته
في المجلات، وأما مقالاته في الجرائد فهي كثيرة، وجمعها متعذر أو متعسر.
وأما الكتب التي شرع فيها ولم يتمها فهي اثنان:
(أحدهما) كتاب في (تاريخ السياسة الإسلامية) رسم له ثلاثة أقسام:
عصر الترقي الإسلامي، وعصر الوقوف، وعصر الانحطاط، وبدأ القسم الأول
بخلاصة السيرة النبوية، والخلافة والوزارة، والقضاء والولاية، وإمارة الجيش،
وكتابة الجيش والديوان والعطاء، والكتابة العامة والسفارة إلخ.
وكتب منه بعض الأبواب ثم وقف قلمه دون إتمامه وإتمام أشهر مشاهير
الإسلام وغيرهما، ولو أتمه على المنهج الذي وضعه له لكان أجل من تاريخ أشهر
مشاهير الإسلام، بل من أهم الكتب التي يحتاج إليها المسلمون على الإطلاق.
(ثانيهما) الرسالة التي سبقت الإشارة إليها في الخلاف بين الترك والعرب.
وقد كتبت منها 67 صفحة كبيرة، انتهى فيها إلى البحث فيما سماه (أرجوفة
الخلافة العربية) فبدأ به ولم يتمه، وهذه الرسالة حجة بينة على شدة إخلاصه
للدولة العثمانية وكراهته الشديدة للرابطة الجنسية وتنفيره عنها، وكان رجال
جمعيته الاتحادية يتهمونه مع ذلك بعداوتها، ويتمنون لو تصل إليه أيديهم؛ ليقتلوه
شر قتله، وهو لشدة إخلاصه في خدمته للدولة بحزب اللامركزية العثمانية الذي
كان رئيسًا له صدق الاتحاديين فيما ادعوه من الرغبة في الاتفاق مع العرب
وإعطائهم حقوقهم عقب مؤتمر أريس العربي، الذي عقد هنالك باسم حزب
اللامركزية، وانخدع كما انخدع رئيس ذلك المؤتمر أخونا الشهيد السعيد السيد عبد
الحميد الزهراوي - قدس الله روحه - الذي كان من اغتراره بخلابتهم أن دعاني
ودعا الفقيد إلى الذهاب إلى الآستانة؛ للاشتراك في توثيق روابط الإخاء والوحدة
بين العرب والترك، فأما الفقيد فقد انخدع، وزاد في اطمئنانه كتابة بعض أصدقائه
من رجال الترك الاتحاديين كجلال الدين بك عارف وأخيه نجم الدين بك، فأرسل
برقية إلى الآستانة، وعد فيها بإجابة الطلب والعزم على السفر، وذكر لي ذلك بعد
إرسالها فوقفت لإقناعه بالبقاء هنا، وقلت له: إنهم يريدون أن يجمعوا الزعماء
العاملين هنالك؛ لينتقموا منهم كلهم، ولئن أجبناهم ليحيطن بنا فلا ينجو منا أحد،
وإني لخائف على أخينا السيد عبد الحميد، ولكني أرجح أنهم لا يصيبونه بأذى
مادمنا في مصر؛ لأنهم يريدون أن يصيدونا به.
ثم كافأني الفقيد - أحسن الله إليه - على هذا إخلاصًا في المودة والنصح لا
بقصد المكافأة لما علم أنني سأعود من الهند إلى مصر عن طريق العراق (سنة
1330-1912) ، فأرسل إليّ برقية بأن أعود في البحر؛ خوفًا علىّ من فتك أحمد
جمال باشا السفاك، إذ كان وقتئذ والي بغداد والقائد العام لجيش العراق، ولكن
الله سلم، على أن الفقيد لم ييأس من الدولة كل اليأس إلا في أثناء الحرب العامة
وما كان من جمال باشا فيها.
فهذه جملة سيرة فقيدنا السياسية، ولولا بعض آثاره العلمية لما كان له شيء
يؤثر عنه من وراء السياسة إلا أخلاقه العالية وآدابه السامية.
***
أخلاقه وآدابه
قد أوتي الفقيد حظًّا عظيمًا من الآداب الاجتماعية والفضائل النفسية والفواضل
العملية، كان نزيه اللسان طاهر القلب، منزهًا عن الحسد والحقد، وفيًّا لأصدقائه،
برًّا بأهله وصولاً لرحمه، متواضعًا في عزة نفس، ذا مروءة صادقة، ونفس
سخية، ويد مبسوطة، حسن الضيافة، كثير الصدقات والمساعدات للجمعيات
الخيرية، قليل التبجح والدعوى، ما عاشره أحد من قومه ولا من غيرهم من
الشعوب إلا وأحبه واحترمه، ومن آدابه التي يجب أن تذكر بالنص في هذه
الترجمة الوجيزة أنه تزوج ولم يرزق ولدًا، ولا كان مغتبطًا، ولم أسمع منه ولا
عنه منذ عقدت له عقد زواجه إلى أن توفاه الله تعالى كلمة تؤذن بحسرته على
الحرمان من الولد أو الميل إلى التزوج بامرأة أخرى مع زوجه أو بعد تطليقها،
فهذا من أعجب الوفاء، والصبر والقناعة آداب يقل نظيرها في هذا العصر وفي كل
عصر.
وكان معتدلاً في أمور معيشته، يقتصر على اللائق به من اللباس وجيد
الطعام، من غير اهتمام بالتطرز، ولا جنوح إلى التورن، ولا إنفاق في التنعم،
ولكنه كان شديد الولوع بدخان التبغ، وكثير الاختلاف إلى بعض المقاهي العامة
على قلة عنايته بالملاهي، وإنما كثر ذلك منه بعد أن ضعف جسمه، وصار يتعب
من الكتابة والمطالعة.
وجملة القول أننا قد فقدنا بفقد هذا الصديق الوفي المهذب، وأن الأمة
العربية قد فقدت بفقد الابن البار العامل رجلاً لا عزاء عنه إلا أنه قد انتهى إلى حال
من الضعف والأمراض، لا هناء له في الحياة معه، ولا رجاء في الانتفاع بشيء
من مواهبه وتجاربه، فرحمه الله تعالى، وعفا عنا وعنه، وأدخلنا وإياه برحمته
في عباده الصالحين.
__________(26/288)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
السفور والحجاب
تتمة من مقال الأمير شكيب أرسلان
(تنبيه من المنار)
(كنا رأينا مقال الأمير في عدد من جريدة البيان العربية النيويوركية فحفظناه
لأجل نقله منها، فلما نشرته بعض الصحف المصرية مجزءًا في عددين أو ثلاثة
أعداد، جمعه عمال مطبعتنا من بعضها، فإذا هي قد حذفت منه ما نقله فيه الأمير
عن الأديب الكبير صادق أفندي الرافعي من حوار دار بينه وبين شاب مصري من
المتفرنجين لم تنقله الجريدة؛ لأن رأي قلم التحرير فيها ورئيسه هو رأي الشاب
المتفرنج الذي سفه رأيه الرافعي وأقره الأمير شكيب، وكان من غفلة الجريدة أنها لم
تحذف من بقية المقالة ما قاله صاحبها في رأي الشاب المصري وذكره بحرف
التعريف والبحث في كلامه فلما وصلت عند تصحيح المقالة إلى هذا الموضع (في
ص209 ج3 الماضي) أمرت بالإمساك عن نشر بقية المقالة في الجزء الماضي
وطفقت أبحث عن نسخة جريدة البيان لنقل عبارة الرافعي، وهاكها بنصها، ومحلها
بعد السطر الحادي عشر منها، قال:
واقرأ النبذة الآتية للأستاذ حجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي أنقلها
لك عن كتاب حديث أخرجه آية من آيات البلاغة وهي قوله في شاب حصل العلم
في أوربا كان باحَثَه في هذا الموضوع.
(كان صاحبنا فتى تلمع عليه غرة الشباب، وقد رق حتى كاد يخالط حد
الأنوثة، ولان حتى قارب أن يفوت معنى الرجولة، وظرف حتى أوشك أن يكون
إنسانًا تتفتح في روحه معاني الزهر، ولكنك إذا كنت رجلاً صحيحًا أمررته على
عينيك كما تمر كتابًا لا تريد أن تقرأه، فقد تمدن في أوربة ولبث بعيدًا عن قومه ما
شاء الله، ثم رجع إليهم كأن أمه لم تلده، وكأن أباه جده الأعلى، فبينه وبين أبيه
هذا بضعة أجداد منهم المسيو والمستر أو السنيور أو الهر.. وأصبح يحس أن كل
شيء في هذا الاجتماع الشرقي مسلط على نفسه الرقيقة النحيلة بالغلظة
والجفاء والعنت والأذى، إلى أن قال:
(سألت هذا الفتى: تُرى أنت مصري؟ قال: ووطني صميم، قلت: أفترى
تصلح في علمك وتهذيبك أن تكون مثالاً يتأسى بك نشء بلادك؟ قال: إني لأرجو
ذلك، قلت: وأنت من القائلين بتحرير المرأة الشرقية ومساواتها بالرجل في الحرية
المطلقة وبعثها من هذه القبور التي تسمى المنازل؟ قال: ذلك مذهبي، قلت فكيف
ترى إذا اقتدى بك المصريون فأصهروا إلى الأوربين وخلطوا الشمل بالشمل؟ قال:
لعل ذلك خير الطب لبلادنا فلا معدل عنه في رأيي إذ يأتيها بالدم الجديد، ويدمج
في طباعها النظام والدقة، ويبني البيوت من داخلها.
قلت: أحسنت بارك الله عليك، فكيف ترى إذا سألناك التسوية وقلنا لك:
دع أختك تصبُ إلى رجل أوربي وتتزوج منه إجازة.. . وتأتِ به إلى مصر كما
أتيت أنت بصاحبة لك، ثم لتفعل كل امرأة مصرية فعلها؛ فيكون لكم أوربيات،
ويقوم عليهن أوربيون؟ قال: أعوذ بالله! قلت: فعل الله بك وفعل، أفبلغ من
غفلتك أن لا تعرف لعنة الله إلا إذا رأيتها ملء مملكة، ولا تعرف حق وطنك فيك إلا
حين تراه غريبًا منقطعًا لا حق له في واحد من أهله.
فقال (أي الشاب المصري) : فما أنا وأمثالي إلا شذوذ من القاعدة التي يجب
أن تبقى أبدًا قاعدة. قلت: فعليكم غضب القاعدة ومقتها وسخطها، والله لأن تفجع
البلاد فيكم جميعًا وتستركم بالقبور رمة بعد رمة خير من أن تتقلد منكم بلية الحياة
في اختلاط الأنساب، وارتداد الأسماء العربية عن دينها إلخ. فقال الشاب: فكم من
امرأة وطنية هي حمل على ظهر صاحبها، قلت: وكم من امرأة إفرنجية هي كَيَّة
على قفا صاحبها (هذه عند العرب كناية عن المرأة، يسكت الناس عنها أمام
زوجها، فإذا ولى عنهم قالوا في ظهره ما قالوا.. . وكووا قفاه) نكتفي بهذا القدر
من كلام حجة العربية الرافعي [1] .
ولا شك أن كثيرًا من قراء هذه المقالة سيفغرون أفواههم الآن، ويرفعون
عقائرهم قائلين: ما هذا الذي جئتنا به؟ فليس هذا من لوازم هذا، وقد يجوز أن
نطلق حرية المرأة، ونكون من أنصار العِرض والدين، وقد يصح أن ندعو إلى
السفور، وأن لا نترك أخواتنا يصرن حظايا للآخرين، وما نحسب الأمم التي تدين
بحرية المرأة ولا تعرف للحجاب معنى أقل منا شرف رجال وعفة نساء، ألا وإن
حرية المرأة لا تأتي إلا مع التعليم، ألا وإن المرأة إذا تعلمت وتهذبت كان لها
من عِلمها حجاب يحجبها عن الفاحشة - وغير ذلك من الأقوال التي كلنا نعلمها،
والتي تكررت كثيرًا بحيث قد عرفها العوام فضلاً عن الخواص، فأنا أقول لإخواني
هؤلاء: مهلاً مهلاً. لا تعجلوا عليَّ، ولا تخلطوا شيئًا بشيء، فالموضوع عريض
متشعب الأطراف، لا تكفيه مقالة ولا اثنتان ولا ثلاث، فأما السفور مع العفة
والصون وحفظ الأنساب ورعاية أحكام الدين فهو السفور الشرعي الذي يجيز للمرأة
أن تبرز وتتعاطى الأشغال، وتذهب وتجيء، ولا يوجب أن تسدل على وجهها ولا
أن تدفن نفسها في الحياة، وهذا سنكتب فيه مقالة تحت عنوان (وكذلك جعلناكم أمة
وسطًا) ولكن لا يجوز أن تنسوا أن هذا السفور لا يشمل إلى حد جواز المخادنة
الجهرية، ولا إلى زواج المسلمة بغير المسلم، وأنه إذا كانت المسألة مقصورة على
هذه الدرجة فليست في شيء من الرقي الذي يبغيه فالح رفقي وعبد الله جودت
والشاب المصري، وكثيرون غيرهم ممن نعرف أسماءهم وممن لم نعرف، فهذا
الرقي هو في عرفهم ليس بأن تمشي المرأة المسلمة في الأسواق سافرة عن وجهها
فحسب، فإن هذه الدرجة هم يعلمونها جائزة شرعًا، وطالما برزت النساء
المسلمات، وأخذن وأعطين في العهود الماضية، واشتركن في جلائل الأعمال مع
الرجال، ولم يمنع ذلك شرع ولا عرف، وما جاء من الإفراط في الحجاب وعدم
خروج النسوة من المنازل إلا في الندرى، إن هو إلا من التعصب الناشئ عن
فرط الغيرة، ولم يكن من الدين الإسلامي.
ولكن هذه الفئة لا ترى هذه الدرجة إلا أدنى درجات الرقي الذي يتطلبونه
للنساء المسلمات في هذا العصر، وهم في ترقية المرأة لا يقنعون بشيء دون حرية
الزواج بين المسلمين وغير المسلمين طردًا وعكسًا، لا بل حرية المسلمات أن
يخادنَّ من شئن على نسق الأوربيات بالتمام، فإن كان هذا الذي تطلبونه أنتم معاشر
الدعاة إلى السفور ولا سيما الذين ناشدوني إعطاء رأيي فيه، فينبغي أن تصرحوا
بكل جرأة وتقبلوه بمتمماته، ولا تقولوا كما قال الشاب المصري (أعوذ بالله) فإن
هذه النظرية هي نظرية مئات ملايين من العالم المتمدين، وحسبكم أن تكونوا مثلهم
في الهيئة الاجتماعية، وإن كنتم لم تصلوا بعد إلى تلك الدرجة من (الرقي) ،
وكان مرادكم إعطاء المرأة المسلمة الحرية المطلقة على شرط أن لا تخدن ولا
تتزوج بغير المسلم أجبناكم: إن هذين نقيضان لا يجتمعان، الحرية المطلقة من
جهة، والتقيد بزواج المسلم دون غيره، وبالزواج الشرعي دون غيره من جهة
أخرى، نعم تنطبق على الشريعة الحرية المقيدة التي إن كنتم بتبغونها فالشريعة
الإسلامية قد ضمنتها أحسن ضمان بدون أدنى مَنٍّ ولا تكلف، فأما الحرية النسوية
المطلقة التامة والإسلام فلا يجتمعان أبدًا، وعلى المتخير أن يختار أحدهما، وليس
الإسلام وحده غير مطابق للحرية النسوية المطلقة، بل النصرانية أيضًا هي غير
مطابقة لها؛ لأن النصرانية تمنع المخادنة أيضًا، وتحظر على الفتاة المسيحية
أن تقترن بغير مسيحي، وتزيد على الإسلام في التقييد في كون الإسلام قيد المسلمة
بزواج المسلم دون غيره، ولكنه أباح للمسلم الزواج بغير المسلمة ولو بقيت على
دينها، وأما النصرانية فإنها تمنع زواج المسيحية بغير المسيحي، وزواج
المسيحي بغير المسيحية، فالإسلام في هذا الموضوع أسمح وأوسع، ثم إن
النصرانية قيدت أبناءها في أمر الطلاق، بحيث لا تجيز للمرأة أن تطلق زوجها،
ولا للرجل أن يطلق امرأته، وإذا أقدما على ذلك لم تُجِز لهما أن يتزوجا فيما بعد لا
هو ولا هي، فأنت ترى أن حرية المرأة في الدين المسيحي هي أيضًا غير مطلقة
ولا تامة، وإذا كنا نرى الأوربيين والأمريكيين قد خالفوا هذه القواعد، فالذين
يخالفونها منهم ليسوا عاملين بمبادئ النصرانية، وإلى يومنا هذا كل من ينطبق
عمله في الحياة الدنيا على مبادئ الكنيسة لا يقول بحرية مطلقة للمرأة.
فأما كون الأمم التي ليس فيها حجاب لا تقل عن الأمم القائلة بالحجاب عفة
نساء وصون حلائل فليس بصحيح، إن بين الفريقين في هذا الموضوع فرقًا بعيدًا،
أما نصارى المشرق فإنهم مثلنا في العادات والأخلاق، وتقييد حرية المرأة في
الأمور التي يخشون منها على عفتها، ولذلك لا نقدر أن نتخذهم هنا مثالاً، وأما
العالم الغربي الذي أباح الحرية التامة للمرأة، وتركها تفعل ما تشاء بعد بلوغها سن
الرشد، فلا أحد يمكنه أن يقول: إن العفة والصون اللذين هما من شرائط الإسلام
والنصرانية متوافران فيه بالدرجة التي هما في العالم الإسلامي والعالم المسيحي
الشرقي، لعمري إن ما يحصل في باريس وحدها من الفسق والفجور يساوي كل ما
يحصل من هذا النوع في جميع العالم الإسلامي.
وأما كون التعليم برقي المرأة إلى سنام العفاف، ويجعلها في غنى عن
الحجاب وعن مراقبة بعلها، فمع كوننا لا ننكر أن التعليم يهذب كثيرًا من أخلاق
المرأة ويعصم من هواها، فلا نستطيع أن نقول: إنه كافٍ في هذا الموضوع ساد
مسد المراقبة الزوجية والقيود الشرعية، فالتعليم لا يقوم مقام الخوف ولا يصح
وحده وازعًا، وها نحن أولاء نعرف من الرجال الذين بلغوا الدرجة القصوى من
العلم، ولم يزدهم علمهم ولا فضلهم عفة مئزر ولا طهارة ذيل، فنقص الفسق
والفجور في العالم الشرقي عن مثله في العالم الغربي لا يقدر ولا يحصى، إنما هو
بقوة سيطرة الرجال على النساء، وينضم إليه كون الدين لا يزال في الشرق أرسخ
مما هو في الغرب، فتجد المرأة المسلمة والمسيحية الشرقية تخاف عقاب ربها
وعقاب زوجها، بخلاف كثير من الأوربيات اللائى أصبحن لا يخفن لا من الخالق
ولا من المخلوق.
بقي علينا اعتراض قد يقول به كثيرون من الذين يحبون أن يقال لهم:
(عصريون) محررون من الأوهام والعقائد، سائرون في طريق الرقي بعقول
علمية صرفة، وبصائر فنية محضة - وهو أن نفور المسلم من أن يرى أخته أو
بنته حليلة لرجل مسيحي أو يهودي أو وثني، ونفور المسيحي من رؤية أخته أو
بنته زوجة لرجل مسلم أو يهودي أو وثني، إنما هو من تأثير الأوهام ورسوخ
العقائد، لا بل من رسوخ الوساوس التي ليست من الحقائق في شيء، وكذلك يقال
في مخادنة المسلمة أو المسيحية العاملة بدينها لرجل تتفق معه على بدل معلوم تبيعه
به عرضها، فهذا هو أيضًا من عمل الأوهام والوساوس التي بمرور الأزمان وشدة
التكرار، انقلبت شرفًا وغيرة وحمية، حال كون العلم ينبغي أن يزيل هذه الأوهام
من الأذهان، وأن يصفيها للحقائق دون غيرها، وأن أهم مهمة يقوم بها العصر
الحاضر هو تبديد الأوهام وإزالة دولة الخرافات، فإن وقع هذا الاعتراض من أحد
فنكون رجعنا إلى قاعدة فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب الذي تحاور مع الرافعي،
ولسنا في هذه المقالة رامين إلى تفنيد هذا الزعم من حيث هو، وإنما نقول لهم:
إنهم كانوا يرون المدنية الأوروبية أرجح من الصون والطهر فلا بأس بقبول هذه
النظرية على علاتها، وإلا فإذا كانوا يلتزمون مبادئ العفة والطهارة والاحتياط التام
لأجل حصول الولد من صلب أبيه، فلا بد لهم من رفضها أو تقييدها على الأقل
وإنني أؤكد لهم أن الإنسان ما دام إنسانًا وما دام هذا تركيبه فلن يمكنه التحرز مما
نسميه بالأوهام والعقائد، ولن يعول على الحقيقة المجردة من كل عادة وتقليد إلا إذا
رضي بحالة تشبه حالة البهائم.
إننا إذا تأملنا بعين الحقيقة المجردة وجدنا النكاح والسفاح واحدًا لا فرق بينهما،
وأي فرق في العمل بين من يتزوج ومن يزني؟ فلماذا إذا خامرت الإنسان شبهة
في امرأته طلقها، وإذا وجد عندها رجلاً متمتعًا بعرضها جاز له قتله بدون أن
يقاص ولا يضار لا في الشريعة الإسلامية وحدها [1] ، بل في جميع الشرائع وفي
أحدث القوانين الديموقراطية العصرية الجمهورية؟ إذا قلنا جاء ذلك لتسلط
الزاني على امرأة غيره، أجبناك: إن هذا الزنا إنما وقع برضاها واختيارها فلماذا
جاز للزوج أن يقتل الزاني بامرأته ويذهب دم هذا هدرًا؟ ولماذا اتفق أكثر البشر
على كون هذه الكبيرة هي أعظم الكبائر، وإن معرتها أفظع المعرات، وإنه لا يهدم
الشرف والمجد في البيوت مثل دنس الوساد، ولا يرفع الرأس ويريح الوجدان
ويلحف الإنسان الشرف بمطرفيه مثل نقاء العرض وطهارة البيت. لماذا هذا كله؟
مع أنه بينما هو يعد أكبر الكبائر وأفضح المعرات بدون صورة شرعية، إذ هو
بمجرد شهادة اثنين أو بقصاصة ورق انقلب ناموسًا عظيمًا وعملاً شريفًا، وجاء
والد البنت نفسه يفرح بتهاليل ابنته، واجتمع أهل العروس يطبلون ويزمرون،
ويقبلون التهاني على هذا العمل الذي لولا قصاصة الورق تلك كان استوجب القتل
مما تجد فيه سر الحديث النبوي الشريف (جَدعَ الحلالُ أنفَ الغيرة) [2] .
(الجواب) أن الناس اصطلحوا من قديم الدهر على اعتبار هذا العمل
على إثر اتفاق شرعي حلالاً وعمرانًا للكون وداعيًا للفرح والتهنئة، وعلى عده
بدون هذه المعاملة الشرعية فضيحةً وجنايةً وإثمًا كبيرًا. وما هذا الذي رسخ
في الأذهان من هذين الاعتبارين سوى تواطؤ قديم بين البشر، واصطلاح ساروا
عليه منذ قرون لا يعلم بدؤها. وبالجملة فوهم ليس له علاقة بطبيعة العمل نفسه،
نعم هو وهم مقدس، ولكن كونه مقدسًا لا يخرجه عن كونه تواطؤًا واصطلاحًا
ووهمًا [2] ، إذ الإنسان لا يزال بعيدًا عن أن ينسخ أعماله عن الطبيعة رأسًا بدون
أوهام وعقائد، وما ينزل على حكم الطبيعة رأسًا بدون أوهام وخيالات سوى
الحيوانات.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(1) بعد هذه الجملة يجيء ما بعد السطر الحادي عشر من ص 209 إلى آخر ما نشر من المقالة في ص 110 ويلي ذلك قوله.
(2) كرر الكاتب لفظ الأوهام حكاية لأقوال الملاحدة على الطريقة الحديثة.(26/300)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
من عذيري
الشكوى من صاحب المنار وشكواه أو عذره
رب لائم مليم، ورب ملوم بريء أو غير مسيء
في يوم السبت 28 ذي القعدة (20 مارس) جاءني كتاب في البريد
بإمضاء (عبد الغفار) يقول فيه: إنه تاجر هندي في مدينة لندن، وإنه جاء
القاهرة لكي يقابلني ويقابل بعض الذين يعرفون شيئًا عن السيد جمال الدين
الأفغاني لجمع ما لديهم من المعلومات عنه؛ لأنه يريد أن يكتب سيرة لهذا المجدد
الشهير، وأنه يحمل خطابًا من حضرة صديقي فؤاد بك سليم حجازي الشهير، وأنه
يلتمس أن أعين له وقتًا خاصًّا لذلك.
وبعد يوم أو يومين جاء دارنا رسول من قبله ولم أكن فيها؛ فترك لي كتاب
فؤاد بك سليم الذي يحمله من أوربة، وكتابًا آخر من حضرة صديقي إسماعيل بك
شيرين وكيل محافظة مصر مؤرخًا في 29 ذي القعدة (21 مارس) يقدمه فيه،
ويوصي بحسن قبوله، فعجبت من عنايته بطلب توصية بعد توصية فيما لا يحتاج
إلى توصية، ثم من إرساله لهما مع رسول يطلب له تعيين وقت معين للقائه وعدم
مجيئه هو، وحملت ذلك على حرصه على أوقاته وعلى وقتي أيضًا؛ لأنه يعلم
عقلاً أنني كثير العمل، ومن المعقول في هذه الحالة أن أعين له وقتًا يمكنني أن
أفرغ فيه لحديثه مدة طويلة، واطلاعه على ما عندي من المواد وليست بقليلة، وأنا
لا أملك مثل هذا الوقت إلا في بعض أيام الجمع، وإذ كان أول جمعة لا يزال بعيدًا،
رأيت أن أبلغه من أقرب الطرق - وهو طريق التليفون - أنني مستعد في كل
يوم بل في كل ساعة من ساعات كل يوم للقائه، وأنني على قلة خروجي من الدار
لا أخرج في وقت الصباح، وأنه لأجل الاحتياط يمكنه أن يسأل عني بالتليفون قبل
مجيئه، بلغناه هذا في الفندق الذي نزل فيه، ولم يكن فيه عند التبليغ، فعهدنا
أصحاب الفندق بتبليغه إياه المرة بعد المرة، ولو حضر لأخبرته بما عندي من
المواد في ترجمة السيد وبعض مقالاته وآثاره، واتفقنا معًا على الأوقات التي يطلع
فيها عليها، والطريقة التي يقتبس بها ما يريد اقتباسه منها - وهو لا يعرف العربية.
بيد أنه فاجأني عصر اليوم الثالث من ذي الحجة (24 يونيو) كتاب هذا
نصه:
كتاب وجيه هندي لصاحب المنار
24 يونيو سنة 1925
سيدي الأستاذ الجليل سلامًا واحترامًا. وبعد، فقد حملتني الرغبة الصادقة في
البحث عن كل ما يتعلق بحياة السيد جمال الدين الأفغاني - بمناسبة اعتزامي على
تأليف يشتمل على حياة هذا الفيلسوف الإسلامي الشهير - حملتني هذه الرغبة على
التقرب، ثم على التشرف بزيارتكم؛ لينالني تشرف الاستقاء عن علمكم الغزير،
فبادرت بإرسال جواب إلى فضيلتكم ساعة وصولي إلى القاهرة؛ لتتكرموا بتحديد
وقت أتمثل فيه بين أيديكم (!) ، فلما تأخر الرد كلفت صديقًا لي ليتفق مع
فضيلتكم على الوقت الذي ترضون فيه بمقابلتي (!) ، ولما لم يجدكم في البيت؛
ترك هناك كتابي التعرف من حضرة صاحبي العزة فؤاد بك سليم وشيرين بك،
لعلكم تتنازلون بهذه الوسيلة بزيارتي، وقد مكثت في القاهرة أنتظر الرد سبعة
أيام [1] ، وما جنيت يا للأسف من هذا الاتفاق إلا الخيبة والملل.
سيدي - الآن وقد عزمت الرحيل، من هذه الديار أرى من واجبي أن ألفتكم
إلى بعض ما يجول بخاطري بمناسبة هذا الفتور الذي لقيته منكم في هذه الديار،
وقد كنت أنتظر غير ما رأيت.
على أن هذا الفتور لو كان مصدره رجل عادي غيركم وموجهًا إلى شخصي
من حيث إنني بشر لا أكثر ولا أقل لما أتعبت نفسي بالشكوى إليكم، ولما رجوتكم
قراءة هذه السطور، ولكن الرتبة العلمية التي تمثلونها، والصفة الإسلامية التي
جعلتموها شعارًا لكم، والمسئوليات العظيمة التي تتحملونها بصفتكم من علماء
الدين وحامل لواء الشريعة - كل هذه الأمور تحتم علي أن أنبهكم إلى الخطر
العلمي والأخلاقي (!) الذي قد يجركم إليه مثل هذا الفتور، والإهمال غير اللائق
بمقامكم (!) .
شيء آخر يحملني على الإكثار من الشكوى إليكم، وقد اضطررت إلى ذكره
اضطرارًا سيدي، أظنكم لم تنسوا بعد ذلك الاحتفال المهيب بقدومكم إلى البلاد
الهندية، والمقابلات الحارة المخلصة التي استقبلكم بها الهنود، فكنتم موضع إجلال
واحترام من جميع الطبقات بلا استثناء - أما كان يصح في هذه الحالة أن ينتظر
أحد المحتفلين بكم من مكارمكم وتعطفاتكم ما يزيده إخلاصًا إليكم وحبًّا فيكم؟
ولكنني أقول والأسف يملأ قلبي: إن هذا الأمل كان في غير محله.
سيدي، اعتقدوا أنني حاولت كثيرًا أن أبرر عملكم هذا، فكانت هذه المحاولة
خائبة خيبة أملي بلقائكم.
ولست أدري كيف أفسر عملكم هذا عندما أقدم للجمهور مؤلفي، وأذكر ما لاقيت
في سبيل جمع مواده.
وعلى كل حال قد حصلت إقامتي هنا على معلومات بقدر ما تمكنت الحصول
عليها، وأغادر القاهرة اليوم وأنا كل اليقين (؟) والاعتقاد أنني سوف ألاقي في
أوربا وغيرها من بلاد الكفر والإلحاد (؟) من العلماء من هم أوسع صدرًا وأرحب
ساحة من علمائنا الكرام وأخيرًا تقبلوا سلامي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الخادم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الغفار
(المنار)
لقد بلوت من الناس غرائب كثيرة، ولم أر أغرب من حال هذا الرجل في
أمر سفره من لندن إلى مصر للبحث عن سيرة السيد جمال الدين، وجمع ما يمكن
جمعه منها؛ لأجل تأليف كتاب خاص في سيرته، وللقيام ببعض الأعمال
التجاريةأيضًا، ومكثه في القاهرة أسبوعًا واحدًا وعودته بسرعة، وهذه المدة لم تكن
كلها تتسع لأخذ ما عندي من المواد الخاصة بسيرة السيد - رحمه الله
تعالى - لو لم يكن لنا شغل غيرها، ولا من حاله في أمر اهتمامه بمقابلتي بالتوسل
إليها بتوصيته مَن يعرف ومن لم يكن يعرف من الوجهاء، وبالكتابة وإرسال
الرسول؛ لأجل تعيين موعد خاص للمذاكرة في سيرة السيد، وأخذ المعلومات
المطلوبة، وعدم تفضله بالزيارة بدون سبق الموعد المطلوب، على كونه قد زار
بعض الناس بدون أخذ موعد معين منهم، كإسماعيل شيرين بك ونور الدين بك
مصطفى كما أخبراني بذلك، ثم إسراعه بالسفر بعد مجيء رسوله إلى مكتبة المنار
وسؤاله عني فيها بيومين , وفي أمر كتابه الجامع بين التعظيم والتهكم والمن
والتهديد.
أما أنا فعلى شدة تعجبي من هذا الكتاب واستنباطي منه أن صاحبه شاذ في
عقله وأخلاقه، أسفت أسفًا شديدًا لما فهمته منه أن الفندق لم يبلغه ما عهدناه إليه من
الاستعداد للقائه في كل يوم، ولا سيما وقت الصباح على كونه وقت تزاحم الأعمال
عليَّ الذي به كان وجودي فيه بمكتبي حتمًا لازمًا، وقد حملني هذا الأسف على
الذهاب إلى محطة مصر قبل وقت سفر قطار المساء الحديدي إلى بورسعيد؛ لعلي
أجده مسافرًا فأعتذر له، وأتفق معه على طريقة لإيصال ما يطلبه من المواد في
سيرة حكيمنا الأكبر السيد جمال الدين رحمه الله تعالى.
ذهبت إلى المحطة قبل موعد دخول المسافرين في القطار، وطفقت أتوسم
وجوه ركاب الدرجة الأولى - وكذا الثانية احتياطًا - لعلي أجد سحنة هندية أتطفل
بالسؤال عن صاحبها فلم أجد، وإنما فعلت هذا؛ لأنني أعد للرجل عليَّ حقين لا
يبيح لي شذوذ كتابه هضمهما:
(أحدهما) أنه خاطبني بالوسائط، ولم يعلم أنني أجبته، ولم يلتمس لي
عذرًا على سعة باب التماس الأعذار الذي ضاق عليه.
(وثانيهما) أنه يريد تأليف كتاب في سيرة أستاذنا الأكبر موقظ الشرق
وحكيم الإسلام، وأنا أحرص الناس كما أعتقد على نشر سيرته الصحيحة والاعتبار
بها.
بعد هذا قصصت خبره على شابين هنديين نجيبين مشتغلين بطلب العلم
بمصر، فجزم كل منهما وحده برأي واحد، وهو أن هذا الشذوذ بالامتناع من
الزيارة أولاً وبالكتاب الجامع للغرائب ثانيًا، ليس من شأن هذا الرجل ولا من
المعهود من آدابه وأخلاقه، وإنما هو تأثير مؤثر خادع من الهنود الزائغين، كالذين
يبثون دعوة المسيح الدجال القادياني في مصر باسم الأحمدية، أو الملاحدة الذين
فتنوا بأفكار بعض الزنادقة اللادينيين هنا، وكلا الفريقين يمقت المنار وصاحبه؛
لأنه أشد خصم لهم في العالم الإسلامي، وجزم كل منهما بأن الرجل لا يعرف
العربية، وأن الذي كتب له هذا الكتاب الشاذ لم يخبره بكُنْه ما فيه، ولو أخبره لما
أمضاه.
ثم سألني عنه الزعيمان الهنديان الكبيران اللذان ألما بالقاهرة في هذه الأيام
الحكيم محمد أجمل خان والدكتور مختار أحمد الأنصاري، فذكرت لكل منهما نبأه،
وأطلعت كلاً منهما على كتابه، فوافقا الشابين بأن هذا ليس من دأبه ولا من آدابه،
وأنه خدع به.
***
اعتذار صاحب المنار عن تقصيره
ولما كان من شأن هذا الغش وسوء الفهم أن يقع كثيرًا رأيت أن لا تثنيني هذه
الشهادة من أربعة عدول، بما تقدم آنفًا عن ذكر بعض ما جال في خاطري، من
الآراء عند قراءة هذا الكتاب بالإيجاز، وإظهار عذري فيما عسى أن يكون قد وقع
أو قد يقع من سوء الفهم في مثل هذه المرة بيني وبين بعض الناس فأقول:
(أولاً) إنني رجل ضعيف، دخلت في سن الشيخوخة، وأشكو بعض
مبادئ الأمراض التي تهدد الناس في هذه السن، وأنا مع هذا مطالب بأعمال كثيرة
أذكر مجامعها:
(1) القيام بشئون أسرة كبيرة وأطفال لا عائل ولا مربي لهم غيري.
(2) القيام بتحرير مجلة دينية اجتماعية ليس لها محرر ولا مساعد غيري.
(3و4) إنني صاحب مكتبة ومطبعة لا بد لي من نظر ما في بعض أمر
إدارتهما، ولضيق وقتي عن إتقان ذلك يفوتني ربح كبير أنا محتاج إليه، بل
تحملت كثيرًا من الخسارات المالية والأدبية.
(5) إنني أتولى تصحيح جميع مطبوعاتي من المنار وغيره بنفسي المرة
بعد المرة، وأنظر في تصحيح غيرها مما يطبع في المطبعة مع مصححها، وهذا
العمل يستغرق أكثر أوقاتي في هذه السنين، وقد جربت الاعتماد على المصححين
فرأيت كل ما يصصحونه كثير الغلط، حتى إنني اضطررت إلى مراجعة جداول
تصحيح الغلط الذي وضعوه لبعض الكتب على المطبوع والمخطوط كلمة كلمة،
بمعارضتها على عدة نسخ في خلال سنين متفرقة، وأخرت إرسال بعض الكتب
إلى أصحابها زمنًا طويلاً لأجل ذلك، فساءهم ذلك، وهم لا يعذرونني بأمانتي
العلمية الدينية، ولو فعلت كما يفعل سائر أصحاب المطابع لكان أرضى لهم وأربح
لي، ووضع لي بعض الأذكياء فهارس للمنار، فكان شغلي بتصحيحها أطول من
شغلي بوضع خير منها.
(6) إنني أعمل في بضع جمعيات علمية واجتماعية وسياسية، كالمجمع
اللغوي والرابطة الشرقية، ومؤتمر الخلافة، ونقابة الصحافة، ولجنة المؤتمر
السوري الفلسطيني إلخ، وقد كنت في الأسبوع الذي زار فيه حضرة الأخ محمد
عبد الغفار القاهرة مكلفًا ثلاثة أعمال كتابية لبعض هذه الجماعات.
(7) أنه تأتيني مكتوبات كثيرة من أقطار الشرق والغرب أقلها في شئون
المجلة والمطبعة والمكتبة التي يوجد عندي من يساعدني على ما يطلب منهن -
وأكثرها يتعلق بشؤون الأمة العامة أو بالشئون الأدبية العلمية والعملية أو السياسية
أو الشخصية، أما الشخصية فأكثرها استفتاءات خاصة شرعية من دينية ودنيوية،
غير ما يطلب نشره في المنار، وأقلها طلب مساعدات مالية أو شفاعات، وأما
العلمية فمثل طلب الأخ محمد عبد الغفار، وكلها مبنية مثل ما حملني من التبعة
والمسئولية بسبب الشهرة العلمية، ومن أغربها أن بعض المؤلفين المعاصرين
طلبوا مني قراءة ما ألفوا، والشهادة لها بأنها جديرة بأن تدرس في المدارس
الإسلامية لعامة المسلمين على أن بعضها لأهل السنة وبعضها للشيعة الميالين إلى
الوحدة الإسلامية مثلنا.
(8) كثرة الزائرين المختلفي الأغراض من أصدقاء أولياء، ومن عفاة
وطلاب حاجات، ومن مستفتين ومشاورين في بعض الشؤون العامة أو الخاصة،
ومنهم من لا يذكر حاجته إلا بعد بَسْطِ أخبار ووقائع طويلة، ولو شرحت هذه
الحاجات لعجب جميع القراء من ذكر الناس لمثلها، ومن صبري عليهم.
(9) النظر ولو إجمالاً في العشرات من الصحف السياسية والمجلات
العلمية التي ترد من الأقطار المختلفة للوقوف الإجمالي على حال العالم وسياسته،
وسير العلم والأدب والعمران، ويناسب هذا النوع ما يهدى إلى المجلة من الكتب
والرسائل التي تنشر في كل آن، ولا بد من النظر فيه بقدر ما تسمح به الفرص،
وأنا مقصر فيه لضيق وقتي.
(10) ما أضطر إليه من نشر بعض المقالات في الصحف اليومية
كالمقالات التي نشرت في سياسة الملك حسين بن علي وأولاده، ومقالات الخلافة،
وما فعل الترك بخلافتهم وسلطتهم، ومقالات (الوهابيون والحجاز) ، والرد على
كتاب الإسلام وأصول الحكم.
إنني وايم الحق لعاجز عما يرضي الناس في الأمر السابع من هذه الأمور
العشرة، وهو الذي يظن أصحابه وغيرهم أنه أهونها، وأعني به الكتابة إلي في
الشؤون المختلفة، فإنه لتأتيني المكتوبات أحيانًا وأنا مشتغل بكتابة موضوع أو كثر
لأجل عمال المطبعة، وبتصحيح كراسة أو أكثر؛ ليشتغل بها مصححها، فأقرأ
بعضها وأرجئ قراءة بعض إلى فرصة لا تستلزم تعطيل عمل لا بد منه، وقد أعهد
إلى وكيل الإدارة بقراءتها وإخباري بما فيها عند فرصة فراغ من الضروريات إذا
كان خاصًّا بي، وإن هذا الإرجاء قد يفضي إلى اجتماع عشرات من هذه المكتوبات
أمامي، فتمر الأيام والأسابيع ولا أجد وقتًا لقراءتها، حتى إذا سنحت فرصة فراغ
من الضروريات، أكتب لصاحب الحق الأول فالأول موضوعًا أو زمنًا، وقد أكتب
إلى الرجل الواحد مرجوع كتاب له في الأمور العامة في بضعة قراطيس، ومن
هذه المكتوبات ما يرد بلغة لا أعرفها، وليس عندي من يترجمه لي، فيتأخر عندي
إلى أن أجد مترجمًا ثقة أمينًا، ومن ذلك ما كتبته إليَّ إدارة المدرسة الجامعة
الإسلامية في عليكره (الهند) في اختيار أستاذ للعربية فيها، كتبت إلىّ باللغة
الإنكليزية، وأرسلت مع كتابها نظام المدرسة ومنهج التعليم فيها، وكلاهما
بالإنكليزية ليعرضا عليَّ الأستاذ الذي اختاره لها، فالقيام بحقوق الناس في الرد
على مكتوباتهم لا يتم لي إلا بمساعدة كتاب ومترجمين موظفين، ولست قادرًا على
ذلك.
بعد هذا التمهيد العام أقول - عودًا على بدء -:
(ثانيًا) قد كان من المتعذر عليَّ أن أجيب طلب الأخ محمد عبد الغفار عقب
وصولِ كتابه لو كان صاحب الحق الأول , فإنه طلب تعيين موعد خاص لاطلاعه
على ما عندي من سيرة السيد جمال الدين، ولم أكن أملك وقتًا يتّسع لذلك مع الأعمال
الضرورية اليومية التي لا يمكن تأخيرها. وأما الزيارة فهي عندي مباحة في عامة
أوقاتي لأنني أشتغل في حضرة الزائرين معتذرًا لهم، وأحدثهم في أثناء العمل ولو كان
تفسير القرآن الحكيم أو الإفتاء ولولا هذا لاضررت إلى ردِّ أكثر الزائرين، وهو لم
يكن يريد هذه الزيارة غير المقيدة بما طلبه , وإلا لزاراني كما زار غيري من الرجال
الراسبين وغير الراسبين , فزيارتي أسهل من زيارتهم.
(ثالثًا) لم يكن يخطر في بالي أن يكون وقت إقامته بمصر لمثل هذا العمل وغيره
من الأعمال التجارية أيامًا تُعَدُّ على الأصابع تتحكم فيها بوقت غيره المجهول عنده كما
يتحكم في عمَّاله وخدمه الواثق مِنِ استطاعتهم على طاعته متى شاء؛ بل ليس من
المعقول عندي أن يكفي مثل هذا الوقت لأخذِ موادٍ كافيةٍ لتأليفِهِ من معاهد العلم العامة؛
كخزانة الكتب المصرية مثلاً , لذلك كُنْتُ أظن أننا لا بد أن نلتقي وأن تبليغه بالتلفون
الاستعداد لمقابلة كل يوم هو كل ما يجب عليَّ.
(رابعًا) إن مَنِّهِ عليَّ بحفاوة مسلمي الهند بي لم يكن لائقًا منه، وإنْ جعله حجةً
على أنه يجب عليَّ أن أقابل كل هندي مثلي، واتهامي تعريضًا بل تصريحًا بعدمِ
الوفاء ومقابلة الجميل بمثله بعيد عن اللياقة وعن الصواب جميعًا.
إنَّ جمعية ندوة العلماء دعتني إلى رياسة مؤتمرها السنوي رجاءَ أن يكون ذلك
سببًا لإقبال الجمهور على المؤتمر، وإنني أَجَبْتُ دعوتَها في وقتٍ كنت مشتغلاً فيه
بتأسيس مدرسة الدعوة والإرشاد التي أعتقد أنها أفضل عمل وضع لخدمة الإسلام في
هذا العصر , ووافقني على اعتقادي هذا كل مَنْ وقف على كنهه من خواص مسلمي
العرب والعجم حتى في الهند والآستانة، كما أنني كنت عازمًا على الزواج، تركت
هذا وذاك إجابة لدعوة الندوة، وسافرت على نفقة نفسي لا على نفقتها كما هو المعتاد
في مثل هذه الدعوة وقد احتفى بي المسلمون في كل بلد زرته كما قال وفوق ما قال،
وما كان لذلك من سبب إلا اعتقادهم أنني أخدم الإسلام والمسلمين لوجه الله
تعالى، وكنت أعلنت أنني لا أقبل من أحد مساعدة ما ولو باسم الهدية
المسنونة، حتى إن آنية الشاي الفضية التي صاغتها الندوة تذكارًا لزيارتي، ونقشت
عليها اسمها واسمي لم أقبل أن آخذها منها، ولكنها أرسلتها إلى صديقي المحسن الكبير
الشيخ قاسم إبراهيم الشهير في بمبي، وهو أرسلها إلى مصر، احتفوا بي بداعية
الإخلاص كما أجبت دعوة ندوتهم بمحض الإخلاص، وأنفقت من المال والوقت في
هذه السبيل فوق ما أنفقت هي في الحفاوة بي، وهي جماعة وأنا فرد، وإنما سدى
ذلك ولحمته الإخلاص، فلا يليق بأحد منا أن يحيط هذا الإخلاص، ولا أن يشوهه
بالمن والأذى، ولا أن يوجب لنفسه على الآخر به حقًّا ويهدده بالتشهير العلني
والإهانة على التقصير فيه.
(خامسًا) إنني لست من عشاق التعظيم والحفاوة، ولا من المفتونين
بالشهرة؛ ولذلك لم أكتب، ولم أوعز إلى أحد من إخواني أو تلاميذي أن ينشر في
الجرائد أخبار تلك الاحتفالات العظيمة التي كنت أفر منها، حتى لم أكن أخبر من
تلقاء نفسي بلدة من البلاد بوقت وصولي إليها.
(سادسًا) إنني على هذا وذاك ما قصرت، ولن أقصر - إن شاء الله تعالى -
في الشكر والثناء الخالص على مسلمي الهند عامة، وعلى الذين تفضلوا بإكرامي
منهم خاصة؛ لإخلاصهم في تلك الحفاوة وفي عامة شؤونهم الملية، وغيرتهم
الدينية، ومازلت أفضل مسلمي الهند على سائر الشعوب الإسلامية في شعور
الجامعة الإسلامية، وبذل النفس والنفيس في سبيله، وأعترف بأنه لا يباريهم في
هذا غيرهم؛ على أن ضيافتي وتكريمي من قومي العرب في بمبي ومسقط
والكويت والعراق كانت أكبر مظاهر الكرم وبمحض الإخلاص أيضًا، وهل
أستطيع أن أكافئ جميع هؤلاء الناس بمثل ما يطالبني به هذا الفاضل
الهندي؟ .
(سابعًا) إنني لما ذكرت من رأيي في مسلمي الهند أراني أشد ارتياحًا
لزيارة فضلائهم لي من زيارة غيرهم، وقد زارني أعضاء الوفد الذي أرسلته
جمعية الخلافة إلى الحجاز قبل موسم الحج الأخير، في صبيحة الليلة التي وصلوا
فيها إلى مصر عائدين من جدة - ولكن بغير توسل بأحد، ولا بإرسال مكتوبات
ورسل، ولا بطلب تحديد موعد كتابي معين - وكنت في ذلك الوقت مشغولاً بالنقلة
من دار إلى دار: نقلة المتاع والماعون والمكتبة والمطبعة جميعًا، ولا يوجد عندي
من يقوم مقامي في الأمر بوضع كل شيء في موضعه من الدار الجديدة، فكنت
أترك الناقلين يلقون ما ينقلون بعضه فوق بعض، وأشغل الزمن الطويل مع أعضاء
الوفد، فتلف بذلك بعض الأثاث والماعون، وفقد بعض، وبقيت كتبي الخاصة
وأوراقي ملقاة على الأرض أكثر من أسبوعين لا يمكن تمييز بعضها من بعض،
بل عرضت نفسي لنزلة صدرية؛ بالذهاب معهم إلى أهرام الجيزة مساء بالسيارة
وأنا في ملابس خفيفة لا تقي تأثير تيار الهواء. ولما سافروا ودعتهم في محطة
السكة الحديدية، وأعترف مع هذا بأنني مقصر، إذ لم أقم بحق ضيافتهم؛ لأن
الدار لم تكن صالحة لذلك.
وليعلم الأخ الكريم محمد عبد الغفار أنه لو لم يكن من مسلمي الهند وممن
يعنون بتاريخ حكيمنا السيد جمال الدين، لما عنيت بالذهاب إلى محطة مصر
للاعتذار له بعد أن رأيت ما في كتابه من الشذوذ الأدبي والتهديد والوعيد اللذين لا
يبالي بهما مثلي ممن لا يخاف ولا يرجو غير الله تعالى، ولا يقابل أصحاب التهديد
والوعيد إلا بالإعراض.
ولست أبالي من رماني بريبة ... إذا كنت عند الله غير مريب
(ثامنًا) إنني من أشد الناس مقتًا للمداهنة وتكلف المدح الكاذب والإطراء،
كما أنني من فضل الله عليّ من أقلهم مبالاة بالمدح والذم الشعريين، حتى إنني لا
أحفل بقراءة ذلك إذا قيل لي: إنه نشر في جريدة كذا مثلاً، ولكنني أبحث عن
عيوبي بعرض عملي على أهل النقد، وبسؤال أهل الصدق والإخلاص عما
ينكرونه علىّ أو مني؛ لأستعين بذلك على تربية نفسي، وإتقان عملي.
وإنني أعلم أن كراهتي للتملق والنفاق أسخطت علىّ كثيرًا من الناس، وأن
المداراة مطلوبة شرعًا وعقلاً، ولكن من الناس من لا يرضيهم إلا الكذب وقول
الزور، ويعدون من يتحامى الإطراء بالباطل مقصرًا في حقهم أو مهينًا لهم أو
متكبرًا عليهم، وأمثال هؤلاء لا حيلة لي في إرضاءهم، على أنني أبرأ إلى الله
تعالى أن أتعمد التحقير أو التقصير في حق أحد منهم أو من غيرهم.
ومن دون هذا الصنف صنف آخر خير منه، وأنا عاجز عن إرضاء أفراده
حتى المخلصين في المودة منهم، وأعني بهم أهل المساومة والمشاحة في المعاشرة
للربح أو المساواة: زيارة بزيارة، ودعوة بدعوة، وتهنئة بتهنئة، وتعزية بتعزية،
وكتاب بكتاب، كما قال الحريري:
وكلت للخل كما كال لي ... علي وفاء الكيل أو بخسه
فأنا لا أعد هذه الطريقة من الخلة ولا الصداقة الخالصة، كما قلت في
المقصورة:
من كال للخل كما كال له ... فتاجر ليس خليلاً يصطفى
فلا ألتزم تهنئة أصدقائي في الأعياد بزيارة قريب الديار ومكاتبة بعيدها، ولا
أطالبهم بذلك، ولا ألومهم على تركه، وإنما أزور وأكتب عند سنوح الفرص،
وأبني الصداقة على أساس الصدق والإخلاص وترك التكلف، وعدم الظنة، فلا
أتهم أحدًا بتعمد التقصير في حقي، كما أنني لا أتعمد التقصير في حق أحد، وأكره
أن يتهمني بذلك؛ لأنه ظلم، ولا أعاشر أحدًا لأجل أن أنتفع منه نفعًا ماديًّا،
ولكنني قد أزور من أرجو أن أستفيد من رأيه ومذاكرته، وإن لم يكن صديقًا لي.
وجملة القول أنني افترضت هذا التثريب والتأنيب من أحد إخواننا فضلاء
الهند (على قبول عذر من اعتذر عنه إن وافقهم عليه) لأبين حقيقة حالي لقراء
المنار البعيد منهم والقريب، فإنني أعلم أن بعض من لم يعرف هذه الحقيقة ينكرون
عليَّ ما لا أنكره من التقصير في مكاتبتهم أو زيارتهم، أو قضاء حاجتهم، وإنما
أنكر تعمد ذلك، وأعترف بالعجز، فما يطلب مني هو في الغالب فوق استطاعتي،
وكله يبنى على الأساس الذي بنى عليه هذا الوجيه الهندي: أي الشهرة بالعلم
وخدمة الإسلام، حتى إن الذين يطلبون مني المنار وتفسير المنار وغيره بنصف
ثمن أو بغير ثمن، وكذا الذين يطلبون المساعدات المالية يقولون ويكتبون إليَّ بأنها
واجبة عليَّ لما ذكر، ولكن لم يساعدني أحد من المسلمين مساعدة مالية أستعين بها
على خدمة الإسلام والمسلمين بمثل ما ذكر، ولا أنا صاحب عقار أنفق منه، بل لا
أملك دارًا أقيم بها، بل أكثر مشتركي المنار يمطلون بحقه مطلاً، ومنهم من
يهضمه هضمًا، وأنا أعلم أن هذا البيان غير معتاد ولا مألوف في العرف العام،
وقد ينتقده بعض الناس، ولكن أهل الصدق والإخلاص يعلمون أنه حق صادر عن
صدق وإخلاص، وإني ألخص عذري بهذه الكلمة:
إنني قد ابتليت بشهرة هي أكبر مني، ولم أوت من العلم ولا من المال ما
يسهل عليَّ القيام بأعبائها، وأنا أتحمل أثقالها بالرغم مني، كما قال لي أحد كبار
ضباط الإنكليز عندما رآني متبرمًا من تضييقهم عليَّ في الإذن بالسفر إلى سورية
بعد الحرب الكبرى: إن الشهرة الكبيرة تلزمها أثقال كبيرة لا بد من الصبر عليها،
فأنا ضعيف في كل شيء، وأطالب بما لا يقدر عليه إلا جماعة من الأقوياء ذات
إدارة غنية منظمة، لا أستطيع إجابة كل سائل، ولا مراسلة كل مراسل، ولا
سماع القصص والوقائع الشخصية من كل قائل، ولا رد زيارة كل زائر، ولكنني-
وأقسم بالله - لا أتعمد التقصير في حق أحد استهانة به أو تفضيلاً لنفسي عليه،
وإنني أرجح المصلحة العامة ومصالح بعض الناس أحيانًا على مصلحتي الشخصية،
ولولا ذلك لما تأخرت مجلة المنار عن موعدها يومًا واحدًا؛ على أنني لا أتهم
أحدًا بالتقصير في حقي، ولا أؤاخذه عليه بقول ولا عمل، وإنما أعاتب الإخوان
المخلصين تلذذًا بالعتاب، وأجتهد بقدر استطاعتي في مساعدة كل منهم على خدمته
الملة والأمة، وفي قضاء حاجته الشخصية أيضًا. وإذا كانوا يصفون بالإنصاف
قول الشاعر الذي ضربوا به المثل:
على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا عليَّ ولا ليا
فأنا أرضى بأن أحمله، وأخلص منه وعليَّ أكثر مما لي، فمن رضي بهذه
المعاملة فعلى الرحب والسعة، والمقابلة بالترحيب والترجيب، ومن لم يرض بذلك
وهو منتهى ما في الوسع بل فوقه، فما له عندي إلا قول بعض شيوخ الصوفية:
غنينا بنا عن كل من لا يزورنا ... وإن كثرت أوصافه ونعوته
فمن جاءنا يا مرحبًا بقدومه ... يجد عندنا ودًّا صحيحًا ثبوته
ومن صد عنا حسبه الصد والجفا ... ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من ذنب التبجح والدعوى، ومن كل
ذنب، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
__________
(1) المدة بين كتاب شيرين بك وبين كتابه هذا ثلاثة أيام فقط، وإذا كان قد وصل إليّ في مساء 21 مارس ففرصة الرد كانت يومين فقط.(26/307)
الكاتب: عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود
__________
منشور عام [1]
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى إخواننا المسلمين في
مشارق الأرض ومغاربها.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو: والصلاة والسلام على رسوله محمد الشفيع
المشفع يوم المحشر (وبعد) :
فقد تفاوضت أنا والوفد الهندي الموفد من جمعية الخلافة الهندية وجمعية
العلماء في المسائل التي يهم المسلمين الاطلاع عليها، والوقوف على حقيقة أفكارنا
تجاهها، وكان رائد الجميع الإخلاص في العمل، والصراحة في القول، والنصح
لله ولرسوله وللمسلمين، وإني أحمد الله على أن انتهى البحث في جميع المسائل
التي دارت المفاوضة فيها.
وإني دحضًا لما يفتريه أعداء الحق ونصراء الباطل ممن يستغلون التفرقة بين
المسلمين، ويحاولون أن يطفئوا نور الله بسعيهم الباطل للتمويه على قلوب السذج
من المسلمين الذين يجهلون حقيقة ما نحن عليه، أعلن ما يأتي {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) .
(1) أشكر الشعوب التي وقفت تجاهنا موقف المدافع عن الحق، وأشكر
الشعب الهندي خصوصًا على موقفه تجاه العرب وقضيتهم في الوقت الذي اشتغل
العرب فيه بالمشاحنات والمخاصمات، ونسوا واجبهم نحو دينهم ووطنهم، وإني
أشكر أهل الهند؛ لأنهم كانوا أول من لبى الدعوة، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام
خير الجزاء.
(2) إني لا أزال عند قولي فيما دعوت العالم الإسلامي إليه: من وجوب
عقد مؤتمر عام ينظر في الأمور التي تهم سائر المسلمين في الحجاز من إصلاح
الطرق وتأمينها، وتوفير وسائل الراحة لكل وافد، وتسهيل المواصلات بقدر ما
يمكن، وبذلك نتحمل نحن وإياهم مسئولية إدارة الحجاز، وستجدد الدعوة لهذا
المؤتمر الإسلامي متى تمهدت وسائل المواصلات.
(3) إننا نحافظ على استقلال الحجاز الاستقلال التام محافظتنا على أرواحنا،
وإننا لا نسمح أن يكون لغير المسلمين أي نفوذ فيه، محافظة على ديننا وشرفنا.
(4) إن الشريعة الإسلامية هي القانون العام الذي يجري العمل على وفقه
في البلاد المقدسة، وإن السلف الصالح وأئمة المذاهب الأربعة هم قدوتنا في السير
على الطريق القويم، وسيكون العلماء المحققون من جميع الأمصار هم المرجع لكل
المسائل التي تحتاج إلى تمحيص ونظر ثاقب.
(5) إني أؤكد لكم القول: إن المدينة المنورة لا تزال حرمًا آمنًا لا يصح
أن يحدث فيه حدث من قتل أو سلب أو نهب، وصونًا لشرفها، اكتفيت بحصارها،
على ما في ذلك من طول وقت وخسائر مالية، وإني أستطيع بحول الله وقوته أن
أفتحها في ساعة واحدة، ولكني حريص على سلامة البلاد والعباد، وإني مشدد
الأوامر على الجنود ألا يهاجموا حرم المدينة بأي صورة، ولا يدخلوها حتى يستسلم
العدو، وأن ما فها من المباني والمآثر يكون العمل فيه على ما تقدم في المادة
السابقة.
إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول صلى
الله عليه وسلم، وحاشا أن تحدث نفس مسلم بذلك، إني أفتديها بنفسي وولدي
ومالي ورجالي، وإني لا أجد فرقًا بين ما حرم الله ورسوله من حرم مكة والمدينة،
فإنه صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها، كما حرم سيدنا إبراهيم حرم مكة -
وأسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، 28 ذي الحجة سنة 1343.
(المنار)
قد أجمع العارفون على أن النجديين لو واصلوا زحفهم بعد كسر جيوش الملك
حسين في الطائف والهدوكرا لاستولوا على مكة وجدة وسائر الحجاز بدون قتال؛
لأنه لم يبق وراء تلك القوة قوة فيه للملك حسين، ولاستولوا على كنوزه كلها،
ولكن السلطان عبد العزيز يكره سفك الدماء، ويتقي القتال في الحرم تدينًا، فأمر
بوقف جيشه فوقف حتى جاء بنفسه ودخل مكة مع جيشه محرمًا بالعمرة، ثم تأنى
حتى مكن حسينًا وأولاده من تحصين جدة، وترك الزحف على المدينة إلى هذا
العام، فأمر بحصر حامية الشريف علي فيها، وأصدر هذا المنشور؛ ليعلم العالم
الإسلامي بغرضه الشريف، وليحتاط لبهتان الشريف علي، ويتقي اتهامه بضرب
المدينة أو حرمها المنيع لو دخلها فاتحًا، بل يستحل علي وقواده فعل ذلك؛ ليتهموا
الوهابيين به، كما فعل والده إذ أمر بضرب الكعبة المشرفة بالنار، واتهم بذلك
الترك عندما قاتلهم بمكة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) نقل عن العدد 30 من جريدة أم القرى التي تصدر بمكة المكرمة.(26/319)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسرار البلاغة أو فلسفة البيان
تكلم بعض البلغاء من علماء العربية في طرق البيان وبلاغة الكلام وفصاحته
كلامًا إجماليًّا، حتى جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس، فوضع
القواعد والأصول لعلم البيان؛ بكتابه أسرار البلاغة ولعلم المعاني؛ بكتابه دلائل
الإعجاز، وسلك فيها مسلك الفلسفة العقلية وعلم النفس، فعلمنا من كتابيه أن
البلاغة عبارة عن إصابة موقع الإقناع من العقل، والتأثير من القلب، فإنه يثبت لك
بلاغة الكلام؛ بإرجاعك فيه إلى ما تجده في نفسك من تأثيره وروعته والارتياح
له، والتفرقة بينه وبين ما يؤدي معناه من غير البليغ، ويشرح لك ذلك حتى يقنع
به جنانك، ويطمئن به وجدانك، بعبارة فصيحة هي أظهر مصداق لقواعده ومثال
لفلسفته، فهو يفيدك العلم والعمل معًا بعبارته وأسلوبه.
ثم إن الذين أخذوا عنه هذا العلم زادوا عليه في القواعد والأحكام، وحكوه
فيما وضعوه من الحدود والرسوم لبلاغة الكلام، ولكن فاتتهم فلسفته، وعدتهم
بلاغة عبارته، فكانوا كما قال الشاعر: (لقد حكيت ولكن فاتك الشنب) ، فإنهم
جعلوا أحكام البيان مواضعات اصطلاحية، لأشكال التراكيب اللفظية، لا مرجع
لها من علم النفس، ولا مستند لها من حكم العقل، ولا من وجدان النفس، ككون
التمثيل - الاستعارة التمثيلية - عبارة عن تشبيه هيئة بهيئة تناسبها، كجملة ما لي
أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. وأما كون التمثيل أعلى مراتب البيان، وأبلغ ما
يفضل به الكلام الكلام، وسبب هذا وسره؛ فهو ما لم يعرضوا له، ولم يتبعوا
إمامهم في البحث عنه، ولا في سائر خصائص محاسن الكلام من التشبيه بأنواعه
الأخرى من صريح واستعارة، والتعريض والكناية، فكانت قواعد البلاغة وأحكام
البيان عندهم اصطلاحات لفظية جافة، تؤخذ بالإيمان والتسليم كأنها أخبار
الرسل - عليهم السلام - من عالم الغيب، وتطبق على كل قول، وإن كان له
من السخف أوفر نصيب.
لهذا لم تعد كتب علوم البلاغة تفيد قارئها البلاغة، ولا تساعده عليها، بل ربما
صارت صادة له عنها، وحائلة دونها، فكأين من مدارس قرأ أدق كتبها كشرحي
السعد للتلخيص مرارًا مع حواشيها الطويلة العريضة، وكان بعد ذلك كله
عاجزًا عن فهم كلام البلغاء، ووجه تفضيله على غيره، دع عجزه عن ارتجال
خطبة أو نظم قصيدة، أو كتابة رسالة، مما يصح أن يوصف بالبلاغة، إلا أن
يكون من وصف الجاهل الفاقد الذوق لكلامه أو كلام أمثاله بما يراه في مرآته أو من
التحكم في تطبيق كل كلام على تلك القواعد الاصطلاحية، التي لا يعرفون لها مدركًا
علميًّا ولا نفسيًّا، كتشبيه حسن فهمي أفندي أحد مشايخ الإسلام في الدولة
العثمانية للخد بالسفرجل تقليدًا لمن شبهوه بالتفاح بقوله:
وقلبي هام في خد سفرجل ...
وكقوله:
حمد البلابل في الأغصان سبحان ... لذاك جاد على الناطور بستان
اقتبس علماء البيان الأولون من عبد القاهر كالسكاكي والخطيب، ثم فقد
كتاباه، ونسي ذكرهما مدة بضعة قرون؛ حتى إن بعض من ترجمه من
المؤرخين لم يذكرهما له، وأعيا طلبهما بعض كبار أمراء العلم والحكم: كالإمام
يحيى اليمني صاحب كتاب (الطراز في علوم الإعجاز) ، حتى هدانا الله تعالى إلى
بعث بعض نسخهما من مقابر خزانات الكتب الخاصة في هذا القرن، فطبعناهما،
وأحياهما شيخنا الأستاذ الإمام بتدريسهما في الجامع الأزهر؛ فكان ذلك سببًا
لارتقاء فنون البلاغة وملكتها، وارتقاء الآداب العربية من طور إلى طور في
القطر المصري عامة، وفي الأزهر خاصة، وإن خفي هذا السبب على الغافلين
الذين لا يشعرون بأسباب الأطوار، التي تطرأ على الأمم ومسبباتها، وارتباط
بعضها ببعض، فقد صار يوجد في الأزهر عشرات من الكتاب المجيدين، ولم
تكن تقدر أن تعد على أناملك أحدًا منهم غير القدماء من تلاميذ السيد جمال الدين
وتلاميذه الأستاذ الإمام في إبان النهضة الجمالية، ومن أشهر الكتاب الذين طار
ذكرهم ممن حضروا الكتابين على الأستاذ الإمام المرحوم السيد مصطفى المنفلوطي.
بل أقول: إن جميع الذين قرءوا الكتابين كليهما أو أحدهما حتى في بلاد
الأعاجم قد ارتقت ملكة البيان فيهم شعروا بذلك أم لا، وإنما يشعر بمثل هذا
أصحاب اللوذعية والعقل الفقيه، فقد كتب إليَّ صديقي أكتب الكتاب، وأخطب
خطباء مسلمي الهند الشيخ أبو الكلام أحمد المجدد الشهير، يذكر لي أول عهده
بمعرفتي قبل تلاقينا في الهند سنة 1330، من كتاب طويل كتبه إثر خروجه من
السجن بعد الحرب ما نصه.
(وماذا أستطيع أن أقول عن نفسي غير أن قلبي ممتلئ بالاعتراف لكم
بخدماتكم الجليلة العلمية والعملية، فإني أحبكم وأحب من يحبكم، ولا غرو فإني قد
عرفتكم في صباي لما كنت أقرأ شرح التلخيص للتفتازاني،،، فقرأت أسرار
البلاغة ومقدمتكم عليه؛ فانفتح علي باب المعرفة الصحيحة، وهذا أول عهدي بكم
(أتاني هواها إلخ) ، ثم ذكر اطلاعه على المنار، وما كان من تأثيره في نفسه مما
ليس من موضوعنا.
وأقول: إنني رأيت من قوة فهمه للغة العربية أنني كنت ألقي الخطبة في الهند
في ساعتين أو أكثر من الزمن؛ فيقوم هو فيعيدها باللغة الأوردية، لا يفوته
منها شيء.
كنت عند طبعي لأسرار البلاغة سنة 1319 نشرت نبذة منه على سبيل
النموذج، وقد رأيت أن أنشر عند إعادة طبعه الآن نموذجًا أطول من ذلك
النموذج؛ ليكون مثلاً لما وصفت، ودليلاً على ما قررت، قال مؤلفه
رحمه الله تعالى.
***
(فصل)
في مواقع التمثيل وتأثيره
واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو
برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها
أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في
تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة
وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا. فإن كان مدحًا كان أبهى
وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف، وأسرع للإلف، وأجلب
للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأفضى له بغرر
المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.
وإن كان ذمًّا كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده
أحد، وإن كان حجابًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر , وإن كان
افتخارًا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألد [1] , وإن كان اعتذارًا كان إلى
القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وفي عقد
العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث [2] , وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر،
وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلي الغياية [3] ، ويبصر
الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل , وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول
وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه [4] ، وإن أردت أن تعرف ذلك، وإن كان تقل
الحاجة فيه إلى التعريف، ويستغنى في الوقوف عليه عن التوقيف، فانظر إلى
نحو قول البحتري:
دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب [5]
كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جدُّ قريب [6]
وفكر في حالك وحال المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني،
ولم تتدبر نصرته إياه، وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه، ويؤدي إليه
ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بعد
ما بين حالتيك، وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك، وتحببه إليك، ونبله في
نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لي بالصدق فيما قلت، والحق فيما ادعيت [7] .
وكذلك فتعهد الفرق بين أن تقول: فلان يكد نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم
منها شيئًا، وتسكت، وبين أن تتلو الآية، وتنشد قول الشاعر: [8]
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... يجيدها إلا كعلم الأباعر [9]
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوسافه أو راح ما في الغرائر
والفصل بين أن تقول: (أرى قومًا لهم بهاء ومنظر، وليس هناك مخبر، بل
في الأخلاق دقة، وفي الكرم ضعف وقلة) ، وتقطع الكلام، وبين أن تتبعه نحو قول
الحكيم: أما البيت فحسن، وأما الساكن فرديء.
وقول ابن لَنْكك:
في شجر السرو منهم مثل ... له رُواء وما له ثمر
وقول ابن الرومي:
فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الأثمار كل الإباء
وقول الآخر:
فإن طرة راقتك فانظر فربما ... أمر [10] مذاق العود والعود أخضر
وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر، ويفتر ثغره
ويبسم، وكيف تشتار الأري من مذاقته [11] ، كما ترى الحسن في شارته [12] وأنشد قول ابن لنكك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجًا ... رأيت صورته من أقبح الصور
وتبين المعنى، وأعرف مقداره، ثم أنشد البيت بعده:
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر
وانظر كيف يزيد شرفه عندك، وهكذا فتأمل بيت أبي تمام: [13]
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
مقطوعًا عن البيت الذي يليه، والتمثيل الذي يؤديه، واستقص في تعرَّف
قيمته، على وضوح معناه وحسن مزيته [14] ، ثم أتبعه إياه:
لولا اشتعال النار فيما جاورتْ ... ما كان يُعرف طيب عَرف العُود
وانظر هل نشر المعنى تمام حلته، وأظهر المكنون من حسنه وزينته،
وعطرك بعرف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من مطلع سعوده،
واستكمل فضله في النفس ونبله، واستحق التقديم كله، إلا بالبيت الأخير، وما
فيه من التمثيل والتصوير، وكذلك فرق في بيت المتنبي:
ومن يك ذا فم مريض ... يجد مرًّا به الماء الزلالا
لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع
يتصور المعنى بغير صورته، ويخيل إليه في الصواب أنه خطأ. هل كنت
تجد هذه الروعة؟ وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه [15] وقمعه وردعه،
والتهجين له والكشف عن نقصه، ما بلغ التمثيل في البيت، وينتهي إلى
حيث انتهى وإن أردت [16] اعتبار ذلك في الفن الذي هو أكرم وأشرف؛ فقابل
بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره، - وتقتصر
عليه - وبين أن تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس
ويحرق نفسه) ، ويروى (مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) [17] ، وكذا،
فوازن بين قولك للرجل وأنت تعظه: (إنك لا تجزى على السيئة حسنة، فلا تغر
نفسك) وتمسك، وبين أن تقول في إثره: (إنك لا تجني من الشوك العنب وإنما
تحصد ما تزرع) ، وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول: لا تكلم الجاهل بما لا يعرفه
ونحوه، وبين أن تقول: (لا تنثر الدر قدام الخنازير. أو لا تجعل الدر في أفواه
الكلاب) ، وتنشد نحو قول الشافعي رحمه الله (أأنثر درًّا بين سارحة الغنم) [18]
وكذا بين أن تقول: الدنيا لا تدوم ولا تبقى، وبين أن تقول: (هي ظل زائل؛
وعارية تسترد، ووديعة تسترجع) ، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من
في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة)
وتنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يومًا أن ترد الودائع
وقول الآخر:
إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار
فهذه جملة من القول تخبر عن صيغ التمثيل، وتخبر عن حال المعنى معه،
فأما القول في العلة والسبب: لم كان للتمثيل هذا التأثير؟ وبيان جهته ومعناه، وما
الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها. وإذا بحثنا عن ذلك وجدنا له أسبابًا وعللاً، كل
منها يقتضي أن يفخم المعنى بالتمثيل وينبل، ويشرف ويكمل، فأول ذلك وأظهره
أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد
مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به
في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر، إلى
ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها
من جهة الطبع، وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من وجهة النظر والفكر في
القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا: (ليس الخبر
كالمعاينة) [19] ، ولا الظن كاليقين. فلهذا يحصل بهذا العلم هذا الأنس: أعني الأنس
من جهة الاستحكام والقوة، وضرب آخر من الأنس وهو ما يوجبه تقدم الألف كما
قيل:
ما الحب إلا للحبيب الأول ...
ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أولاً من طريق الحواس والطباع، ثم من
جهة النظر والروية، فهو إذن أمس بها رحمًا، وأقوى لديها ذممًا، وأقدم لها صحبة،
وآكد عندها حرمة، وإذا نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض،
وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس أو يعلم بالطبع، وعلى حد الضرورة،
فأنت كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم، فأنت
إذن مع الشاعر وغير الشاعر، إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثل ثم مثله، كمن
يخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه الحجاب، ويقول: هاهو ذا،
فأبصره تجده على ما وصفت.
(فإن قلت) : إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر إنما يكون لزوال
الريب والشك في الأكثر، أفتقول: إن التمثيل إنما أنس به؛ لأنه يصحح المذكور
والصفة السابقة، ويثبت أن كونها جائز ووجودها صحيح غير مستحيل، حتى لا
يكون تمثيل إلا كذلك؟ فالجواب: أن المعاني التي يجيء التمثيل في عقبها على
ضربين غريب بديع يمكن أن يخالف فيه، ويدعي امتناعه، واستحالة وجوده،
وذلك نحو قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حد بطل معه أن يكون بينه وبينهم
مشابهة ومقاربة، بل صار كأنه أصل بنفسه، وجنس برأسه، وهذا أمر غريب،
وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصة به إلى أن يصير كأنه
ليس من ذلك الجنس، وبالمدعي له حاجة إلى أن يصحح دعواه في جواز وجوده
على الجملة، إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح، فإذا قال: (فإن المسك بعض
دم الغزال) ، فقد احتج لدعواه، وأبان أن لما ادعاه أصلاً في الوجود، وبرأ نفسه
من صفة الكذب، وباعدها من سفه المقدم على غير بصيرة، والمتوسع في الدعوة
من غير البينة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته حتى لا يعد في
جنسه إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه لا ما
قل ولا ما كثر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دمًا ألبتة.
(والضرب الثاني) أن لا يكون المعنى الممثل غريبًا نادرًا يحتاج في دعوى
كونه على الجملة إلى بينة وحجة وإثبات. نظير ذلك أن ينفي عن فعل من الأفعال
التي يفعلها الإنسان الفائدة ويدعي أنه لا يحصل منه على طائل، ثم يمثله في
ذلك بالقابض على الماء والراقم فيه، فالذي مثلت ليس بمنكر مستبدع، إذ لا ينكر
خطأ الإنسان في فعله أو ظنه وأمله وطلبه. ألا ترى أن المغزى من قوله [20] :
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
إنه قد خاب في ظنه أنه يتمتع بها ويسعد بوصلها، وليس بمنكر ولا عجيب
ولا ممتنع في الوجود، خارج من المعروف المعهود، أن يخيب ظن الإنسان في
أشباه هذا من الأمور، حتى يستشهد على إمكانه، وتقام البينة على صدق المدعي
لوجدانه.
وإذا ثبت أن المعاني الممثلة تكون على هذين الضربين فإن فائدة التمثيل
وسبب الأنس في الضرب الأول بَيِّن لائح، لأنه يفيد فيه الصحة وينفي الريب
والشك، ويؤمّن صاحبه من تكذيب المخالف وتهجم المنكر وتهكم المعترض،
وموازنته بحالة كشف الحجاب عن الموصوف المخبر عنه حتى يرى ويبصر،
ويعلم كونه على ما أثبته عليه موازنة ظاهرة صحيحة.
وأما الضرب الثاني فإن التمثيل وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة فهو
يفيد أمرًا آخر يجري مجراه وذلك أن الوصف كما يحتاج إلى إقامة الحجة على
صحة وجوده في نفسه، وزيادة التثبيت والتقرير في ذاته وأصله، فقد يحتاج إلى
بيان المقدار فيه، ووضع قياس من غيره يكشف عن حده، ومبلغه في القوة
والضعف والزيادة والنقصان، وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر أولاً إلى التشبيه
الصريح الذي ليس بتمثيل كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلاً (كحنك
الغراب) [21] تريد أن تعرف مقدار الشدة لا أن تعرف نفس السواد على الإطلاق.
وإذا تقرر هذا الأصل فإن الأوصاف التي ترد السامع فيها بالتمثيل من العقل
إلى العيان والحس، وهي في أنفسها معروفة مشهورة صحيحة، لا تحتاج إلى
الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودة أما لا؟ فإنها وإن غنيت من هذه الجهة عن
التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات، فإنها تفتقر إليه من جهة المقدار؛ لأن مقاديرها
في العقل تختلف وتتفاوت، فقد يقال في الفعل: إنه من حال الفائدة على حدود
مختلفة في المبالغة والتوسط، فإذا رجعت إلى ما تبصر وتحس عرفت ذلك بحقيقته
وكما يوزن بالقسطاس، فالشاعر لما قال: (كقابض على الماء خانته فروج
الأصابع) ، أراك رؤية لا تشك معها، ولا ترتاب أنه بلغ في خيبة ظنه وبوار
سعيه إلى أقصى المبالغ، وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يحظ لا بما قل ولا
ما كثر.
فهذا هو الجواب ونحن [22] بنوع من التسهيل والتسامح نقع على أن الأنس
الحاصل بانتقالك في الشيء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر ليس له
سبب سوى زوال الشك والريب.
فأما إذا رجعنا إلى التحقيق فأنا أعلم أن المشاهدة تؤثر في النفوس مع العلم
بصدق الخبر، كما أخبر الله تعالى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في قوله:
{قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260) ، والشواهد في ذلك كثيرة،
والأمر فيه ظاهر، ولولا أن الأمر كذلك لما كان لنحو قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
معنى وذلك أن هذا التجدد لا معنى له إن كانت الرؤية لا تفيد أنسًا من حيث
هي رؤية، وكان الأنس لنفيها الشك والريب، أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من
قبل، وإذا كان الأمر كذلك فأنت إذا قلت للرجل: أنت مضيع للحزم في سعيك
ومخطئ وجه الرشاد، وطالب لما لا تناله إذا كان الطلب على هذه الصفة ومن هذه
الجهة، ثم عقبته بقولك: (وهل يحصل في كف القابض على الماء شيء مما
يقبض عليه) ، فلو تركنا حديث تعريف المقدار في الشدة والمبالغة، ونفي الفائدة
من أصلها جانبًا، بقي لنا ما تقتضيه الرؤية للموصوف على ما وصف عليه من
الحالة المتجددة مع العلم بصدق الصفة. يبين ذلك أنه لو كان الرجل مثلاً على
طرف نهر في وقت مخاطبة صاحبه وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شيء،
فأدخل يده في الماء، وقال: انظر هل حصل في كفي من الماء شيء؟ فكذلك
أنت في أمرك؛ كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون
الفعل [23] .
ولو أن رجلاً أراد أن يضرب لك مثلاً في تنافي الشيئين فقال: هذا وذاك هل
يجتمعان؟ وأشار إلى ماء ونار حاضرين، وجدت لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا
أخبرك بالقول فقال: هل يجتمع الماء والنار؟ وذلك الذي تفعل المشاهدة من
التحريك للنفس، والذي يجب بها من تمكن المعنى في القلب، إذا كانت مستفادة من
العيان، ومتصرفة حيث تتصرف العينان، وإلا فلا حاجة بنا في أن الماء والنار لا
يجتمعان، إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة، واستيثاق بتجربة.
ومما يدلك على أن التمثيل بالمشاهدة يزيد أنسًا وإن لم يكن بك حاجة إلى
تصحيح المعنى، أو بيان لمقدار المبالغة فيه؛ أنك قد تعبر عن المعنى بالعبارة التي
تؤديه، وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس منزعًا نحو أن تقول وأنت تصف
اليوم بالطول: يوم كأطول ما يتوهم وكأنه لا آخر له. وما شاكل ذلك من نحو
قوله:
في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالحشر موصول [24]
فلا تجد له من الأنس ما تجده لقوله:
ويوم كظل الرمح قصر طوله [25] ...
على أن عبارتك الأولى أشد وأقوى في المبالغة من هذا، فظل الرمح على كل
حال متناه، تدرك العين نهايته، وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخر له،
وكذلك تقول: يوم كأقصر ما يتصور وكأنه ساعة وكلمح البصر، و (كلا ولا) ،
فتجد هذا مع كونه تمثيلاً لا يؤنسك إيناس قولهم: أيام كإبراهيم القطا [26] ، وقول
ابن المعتز:
بدلت من يوم كظل حصاة ... ليلاً كظل الرمح غير موات [27]
وقول آخر:
ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب [28]
وكذا نقول: فلان إذا هم بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره وقلبه، وقصر
خواطره على إمضاء عزمه، ولم يشغله شيء عنه، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن،
ثم لا ترى في نفسك له هزة، ولا تصادف لما تسمعه أريحية، وإنما تسمع حديثًا
ساذجًا وخبرًا غفلاً [29] حتى إذا قلت:
إذا هَمَّ ألقى بين عينيه عزمه [30] ...
امتلأت نفسك سرورًا وأدركتك طربة - كما يقول القاضي أبو الحسن - لا
تملك دفعها عنك، ولا تقل: إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب شيئًا منه
فليس الأصل له، بل لأن أراك العزم واقفًا [31] بين العينين، وفتح إلى مكان
المعقول من قلبك بابًا من العين.
وههنا إذا تأملنا - مذهب آخر في بيان السبب الموجب؛ لذلك هو ألطف
مأخذًا، وأمكن في التحقيق، وأولى بأن يحيط بأطراف الباب، وهو أن لتصور
الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير محلته، واجتلابه
إليه من النيق البعيد [32] بابًا آخر من الظرف واللطف، ومذهبًا من مذاهب
الإحسان لا يخفى موضعه من العقل. وأحضر شاهدًا لك على هذا أن تنظر
إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات سواء كانت عامية مشتركة،
أم خاصية مقصورة على قائل دون قائل، تراها لا يقع بها اعتداد، ولا يكون لها
موقع من السامعين، ولا تهز ولا تحرك، حتى يكون الشبه مقررًا بين شيئين
مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنرجس عامي مشترك معروف في أجيال
الناس، صار في جميع العادات، وأنت تنظر إلى بعد ما بين العينين وبينه من
حيث الجنس، وتشبيه الثريا بما شبهت به من عنقود الكرم المنور، واللجام
المفضض، والوشاح [33] المفصل، وأشباه ذلك - خاصي، والتباين بين المشبه
والمشبه به في الجنس على ما لا يخفى.
وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد،
كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث
الأريحية أقرب، وذلك أن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف، والمثير للدفين
من الارتياح، والمتألف للنافر من المسرة، والمؤلف لأطراف البهجة، أنك ترى
بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء
والأرض، وفي خلقة الإنسان وخلال الروض، وهكذا طرائف تنثل عليك إذا
فصلت هذه الجملة، وتتبعت هذه اللمحة [34] ؛ ولذلك تجد تشبيه البنفسج في
قوله [35] :
ولازوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
أغرب وأعجب، وأحق بالولوع وأجدر، من تشبيه النرجس بمداهن در
حشوهن عقيق، لأنه إذ ذاك مشبه لنبات غض يرف [36] ، وأوراق رطبة ترى
الماء منها يشف [37] ، بلهب نار مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف [38] ومبني
الطباع وموضوع الجبلة، على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه،
وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان بالشغف
منها أجدر، فسواء في إثارة التعجب، وإخراجك إلى روعة [39] المستغرب،
وجودك الشيء في مكان ليس من أمكنته، ووجود شيء لم يوجد ولم يعرف من
أصله في ذاته وصفته، ولو أنه شبه البنفسج ببعض النبات، أو صادف له شبهًا في
شيء من المتلونات، لم تجد له هذه الغرابة، ولم ينل من الحسن هذا الحظ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الشأو: السَّبْق والغاية والأمد. وقوله: أجد: أي أعظم، والألد الشديد الخصومة.
(2) السخائم: الضغائن، وسلها نزعها واستخراجها، وغرب السيف حده، وفعل السيف ثلمه، والنفث في العقد هو النفخ فيها مع إلقاء شيء من الريق عليها؛ لأجل تسهيل حلها، ومنه نفث الراقي في العقدة التي يعقدها، ثم يحلها يوهم بذلك الناس أنه أبرم بعقدها رابطة المحبة بين فلان وفلانة، وبحلها أنه حل ذلك العقد وأبطل ذلك الارتباط بسحره، وإن الكلام البليغ ليفعل بحسن التمثيل في حل عقد العقود مالا يفعل السحر، وإن من البيان لسحرًا.
(3) الغياية بيائين مثناتين كل ما أظلك من فوق رأسك، وقد ذكرنا لكل نوع مما ذكره المصنف من أنواع الكلام أمثلة من القرآن المجيد ومن كلام البشر.
(4) يشير المصنف إلى سائر مناحي الكلام: كالغزل، والرثاء، والوصف، والشكوى، وهي مع الذي ذكره وشائج متشابكة، وأمشاج متمازجة وأعمها الوصف، فهو الطويل الذيل، المتدفق السيل، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] (فصلت: 11) ، ومثله قوله تعالى: [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي] (هود: 44) الآية، ومنها قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا] (إبراهيم: 24-25) وقوله بعده: [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ] (إبراهيم: 26) ، وهكذا الحق يثبت والباطل يزهق ومن ذلك الرؤى فإنها تمثيل للواقع الذي تعبر عنه: كالرؤى المذكورة في سورة يوسف عليه السلام، ومثاله من الشعر قول ابن النبيه:
والليل تجري الدراري في مجرته ... كالروض تطفو على نهر أزاهره
وقول بعضهم في وصف الكأس يعلوها الحباب والساقي (أو هذا من تعدد التشبيه) :
وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء
وفي وصف الأمير والجيش:
يهز الجيش حولك جانبيه ... كما نقضت جناحيها العقاب
ومنه قولنا في المقصورة في وصف الوفاق:
لم نختلف في مبتدا مسألة ... إلا وكان للوفاق المنتهى
كمن على المحيط من دائرة ... أنى تفارقا فبعدُ ملتقى
وقولنا منها في وصف روضة:
والشمس تبدو من خلال دوحها ... آونة تخفى وطورًا تجتلى
كغادة وضاحة قد أتلعت ... من خلل السجوف ترنو والكوى
تلقي على الروض نثير عسجد ... فتحسب الروض عروسًا تجتلى
وقولنا منها:
والباسقات رفعت أكفها ... تستنزل الغيث وتطلب الندى
ثبت في العلوم الطبيعية أن الأشجار تكون سببًا لنزول المطر، فمثلت هنا بحال المستسقين يجاب دعاؤهم ويليه قولنا:
يمتلج الكربون من ضرع الهوا ... تؤثرنا بالأكسجين المنتقى
ومعناه أن الأشجار الباسقة ترضع غاز الكربون وتمتصه من الهواء، تتغذي به وهو سام، لنا وتترك لنا أكسجين الهواء المطهر كالدم في أبداننا باستنشاقنا له في الهواء، فمثلت بحال حي عاقل ينتزع ما يضر الناس، ويؤثرهم بما ينفعهم وقول ابن دريد في وصف النوق:
يرسبن في بحر الدجى وفي الضحى ... يطفون في الآل إذا الآل طفا
ومن أحسن ما يدخل من التمثيل في باب الغراميات قول المجنون:
وقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا
وقوله:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
وقول بعضهم:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
وقول الآخر:
إني وإياك كالصادي رأى نهلاً ... ودونه هوة يخشى بها التلفا
رأى بعينيه ماء عز مورده ... وليس يملك دون الماء منصرفا
ومن الأمثال التي تدخل من باب الشكوى (ليس لها راع ولكن حلبة) حلبة بالتحريك جمع حالب، والمثل يضرب للأمة المظلومة، و (ولو كويت على داء لم أكره) يضرب لمن يعاقب على غير ذنب، (وسال بهم السيل وجاش بنا البحر) .
(5) الضريب المثل والنظير.
(6) أي بالغ الغاية في القرب.
(7) مثال المدح ويتلوه مثال الذم.
(8) الآية قوله تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا]
(الجمعة: 5) والشاعر مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة يهجو قومًا من رواة الشعر، رواه بن بري (ش) .
(9) الزوامل جمع زاملة، وهي التي يحمل عليها من الإبل وغيرها والأباعر جمع بعير.
(10) أمر صار مرًّا كمر الثلاثي.
(11) الأري العسل واشتياره اجتناؤه.
(12) تطلق الشارة على الهيئة واللباس.
(13) شروع في مثال الحجاج.
(14) وفي نسخة بزته.
(15) وقم الرجل قهره وأذله ورده عن حاجته أقبح الرد، والوقذ الضرب القاتل بغير محدد يكون أطول ألمًا، وأشد تعذيبًا، ولأجله حرمت الموقوذة، ويسند إلى الكلام تجوزًا.
(16) شروع في أمثلة الوعظ، ولم يمثل للافتخار والاعتذار.
(17) بهذا اللفظ رواه الطبراني في معجمه الكبير عن أبي برزة بسند حسن.
(18) المصراع الثاني (وأنثر منظومًا لراعية النعم) وهي أبيات قالها بمصر في إثر مجيئه إليها لما كلمه بعض أصحاب مالك وآخرها:
فمن منح الجهال علمًا أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقط ظلم.
(19) هذه الجملة حديث نبوي رواه الطبراني في الأوسط والخطيب عن أبي هريرة ورويناه مسلسلاً بالإشراف عن شيخنا أبي المحاسن القاوقجي، ولا أذكر له رواية بزيادة ولا الظن كاليقين، ورواه أحمد والحاكم الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس بزيادة (أن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت) .
(20) وفي نسخة المغزى في قوله.
(21) حنك الغراب بالتحريك منقاره أو سواده، قالهما (ش) .
(22) الجملة حالية.
(23) جملة كان لذلك إلخ جواب (لو كان الرجل مثلاً) إلخ.
(24) البيت لحندج (كقنفذ المري) وصول بالضم بلدة إبراهيم الصولي المشهور، والرواية الصحيحة في الشطر الثاني (كأنما ليلة بالليل موصول) : أي كأن لأنهار بين لياليه.
(25) البيت لشبرمة بن الطفيل وتمامه (دم الزق عنا واصطفاق المزاهر) ، ويروى واصطكاك المزاهر، وشبرمة كقنفذة، والطفيل بكسر فسكون ففتح.
(26) ويقال: أباهم أيضًا.
(27) وأتاه يواتيه طاوعه فهو موات وأصله الهمز.
(28) السالفة ناصية مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى قَلْت الترقوة، ومن الفرس هاديه: أي ما تقدم من عنقه، وقوله: قلت الترقوة القلت بالفتح النقرة في الجبل، والمراد هنا نقرة الترقوة (ش) .
(29) الغفل بالضم يوصف به ما يخلو من سمات كماله وحسنه يقال: فلاة غفل: أي لا علم بها، ورجل غفل لم تسمه التجارب، ومصحف غفل إذا جرد عن العواشر ونحوها من المحسنات، وكتاب غفل لم يسم واضعه, والكلام الغفل هنا ما ليس فيه من الحسن ما يؤثر في النفس ويحرك الوجدان.
(30) الشطر () .
(31)
(32) النيق بالكسر أرفع موضع في الجبل.
(33) الوشاح بالضم وبالكسر كرسان من لؤلؤ وجوهر، منظومان يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر - وأديم عريض، يرصع بالجواهر، تشده المرأة بين عاتقيها وكشحها، والمراد هنا الثاني (ش) .
(34) اللمحة بالفتح إما واحدة اللمح وهو اختلاس النظر، وإما واحدة الملامح وهي محاسن الوجه.
(ش) .
(35) أي ابن المعتز، ويروى البيتان هكذا:
بنفسج جمعت أوراقه فحكى ... كحلاً تشرب دمعًا يوم تشتيت
كأنه وضعاف القضب تحمله ... أوائل النار في أطراف كبريت
ويروى الشطر الثالث هكذا مع تأنيث الضميرين كما في الرواية الأولى.
(36) رف لونه يرف بضم الراء وكسرها رفًا ورفيفًا يرق وتلالاً، ورف النبات اهتز واضطربت أغصانه.
(37) إما من شف يشف شفوفًا، إذا رق فحكى ما تحته أو من شف يشف شفًا إذا تحرك (ش) .
(38) الكلف بالتحريك لون بين السواد والحمرة، وحمرة كدرة تعلو الوجه.
(39) الروعة بالفتح الفزعة والمسحة من الجمال (ش) .(26/345)
صفر - 1344هـ
سبتمبر - 1925م(26/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم هيئة كبار العلماء
في كتاب الإسلام وأصول الحكم
هيئة كبار العلماء المجتمعة بصفة تأديبية بمقتضى المادة الأولى بعد المائة من
قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية والإسلامية رقم 10 لسنة 1911 في
دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 (12 أغسطس
سنة 1925) ، برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي
الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين عالمًا من هيئة كبار
العلماء، وهم حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة:
الشيخ محمد حسنين، والشيخ دسوقي العربي، والشيخ أحمد نصر، والشيخ
محمد بخيت، والشيخ محمد شاكر، والشيخ محمد أحمد الطوخي، والشيخ
إبراهيم الحديدي، والشيخ محمد النجدي، والشيخ عبد المعطي الشرشيمي، والشيخ
يونس موسى العطافي، والشيخ عبد الرحمن قراعة، والشيخ عبد الغني محمود،
والشيخ محمد إبراهيم السمالوطي، والشيخ يوسف نصر الدجوي، والشيخ إبراهيم
بصيلة، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري، والشيخ مصطفى الههياوي. والشيخ
يوسف شلبي الشبرابخومي , والشيخ محمد سبيع الذهبي , والشيخ محمد حموده ,
والشيخ أحمد الدلبشاني، والشيخ حسين والي، والشيخ محمد الحلبي , والشيخ
سيد علي المرصفي.
نظرت في التهم الموجهة إلى الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع
الأزهر، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية التي تضمنها
كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ، وأعلنت له في يوم الأربعاء 8 المحرم سنة
1344 (29 يولية سنة 1925) .
وقد قام بعمل السكرتارية لهذه الهيئة محمد قدري أفندي رئيس أقلام
السكرتارية العامة لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية، وعلي أحمد عزت
أفندي الكاتب الأول للجامع الأزهر، والمنتدب بالإدارة العامة للمعاهد الدينية.
***
الوقائع
نشر باسم الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي
الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية الكتاب المسمى (الإسلام وأصول
الحكم) ؛ فقدمت إلى مشيخة الجامع الأزهر عرائض وقع عليها جمع غفير من
العلماء في تواريخ 23 ذي القعدة وأول و8 ذي الحجة سنة 1343 (15 و23 و30
يونية سنة 1925) وقد تضمنت أن الكتاب المذكور يحوي أمورًا مخالفة للدين
ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة. منها:
1- جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم
والتنفيذ في أمور الدنيا.
2- وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل
الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
3- وأن نظام الملك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض
أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة.
4- وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغًا للشريعة مجردًا عن
الحكم والتنفيذ.
5- وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة
ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا.
6- وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية.
7- وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا
دينية.
وقرر حضرة صاحب الفضيلة الشيخ الأكبر محمد أبي الفضل شيخ الجامع
الأزهر، بناءً على ذلك اجتماع هيئة كبار العلماء بصفة تأديبية في يوم الأربعاء 15
المحرم سنة 1344 (5 أغسطس سنة 1925) الساعة العاشرة صباحًا في دار
الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 8
المحرم سنة 1344 (29 يولية سنة 1925) ، وكلف الحضور أمام
الهيئة المذكورة في التاريخ والمكان المذكورين.
وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور ثلاثة وعشرين عالمًا
من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً عدا فضيلة الأستاذ الشيخ
دسوقي العربي، ولم يحضر الشيخ علي عبد الرازق، وإنما أرسل خطابًا مؤرخًا
في 14 المحرم سنة 1344 يطلب فيه إعطاءه فرصة طويلة، تكفي لإعداد ما يلزم
للمناقشة، وقد عرض الكتاب على الهيئة في هذه الجلسة؛ فقررت تأجيل النظر في
الموضوع إلى يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925)
الساعة العاشرة صباحًا في دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ
علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 25 المحرم سنة 1344 (5 أغسطس سنة
1925) .
وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين
عالمًا من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً، وقد حضر الشيخ علي
عبد الرازق أمام هذه الهيئة، وسئل عن كتابه (الإسلام وأصول الحكم) المشار
إليه؟ فاعترف بصدوره منه، ثم تليت عليه التهم الموجهة إليه ومآخذها من كتابه،
وقبل إجابته عنها وجه دفعًا فرعيًّا، وهو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية،
وطلب ألا تعتبر الهيئة حضوره أمامها اعترافًا منه بأن لها حقًّا قانونيًّا.
فبعد المداولة القانونية في هذا الدفع قررت الهيئة رفضه؛ اعتمادًا على أنها
إنما تنفذ حقًّا خوله إياها القانون، وهي المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع
الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911.
ثم دعي الشيخ علي عبد الرازق أمام هذه الهيئة، فأعلن له حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس رفض دفعه طبقًا للمادة المذكورة، فطلب الشيخ علي
عبد الرازق أن تسمع له الهيئة مذكرة أعدها للدفاع عن التهم الموجهة إليه، فأذن له
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس أن يتلوها فتلاها، وبعد الفراغ من
تلاوتها وتوقيعه على كل ورقة منها أخذت منه وحفظت في أضمامة الجلسة، ثم
انصرف.
***
هيئة كبار العلماء
بعد الاطلاع على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) المطبوع في مطبعة مصر
الطبعة الأولى سنة 1343 هـ الموافقة سنة 1925 م السابق الذكر والعلم بما
تضمنه من الأمور المخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية،
وإجماع الأمة، وسماع ما جاء في مذكرة دفاع الشيخ علي عبد الرازق عن التهم
الموجهة إليه.
وبعد الاطلاع على المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع الأزهر والمعاهد
الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911، وعلى المادة الرابعة من هذا
القانون.
وبعد المداولة القانونية:
من حيث إن الشيخ عليًّا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا
علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا، فقد قال في ص 78 و79: (والدنيا من
أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على
تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلمنا من
أسماء ومسميات، هي أهون عند الله من أن يبعث لها رسولاً، وأهون عند رسل
الله من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدبيرها) .
وقال في ص 85: (إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب
وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير.
وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا. وسيان أن يكون
منها للبشر مصلحة مدنية أم لا. فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر
إليه الرسول) .
الدين الإسلامي بإجماع المسلمين ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من
عقائد وعبادات ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة.
وإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلاهما مشتمل على
أحكام كثيرة في أمور الدنيا وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.
والشيخ علي في ص 78 و79 يزعم أن أمور الدنيا قد تركها الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم - تتحكم فيها عواطف الناس وشهواتهم. وفي ص 85 زعم
أن ما جاء به الإسلام إنما هو المصلحة الأخروية لا غير، وأما المصلحة المدنية أو
المصلحة الدنيوية، فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه
الرسول.
وواضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت
لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط. أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية
وتدبير الشؤون العامة؛ فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها.
وهل في استطاعة الشيخ علي أن يشطر الدين الإسلامي شطرين، ويلغي منه
شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم عرض الحائط؟ وقد قال الشيخ عليّ في دفاعه: إنه لم يقل
ذلك مطلقًا لا في الكتاب ولا في غير الكتاب، ولا قال قولاً يشبهه أو يدانيه.
وقد علمت أن ذلك واضح من كلامه الذي نقلناه لك , وقد ذكر مثله في مذكرة دفاعه.
وقال في دفاعه أيضًا: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بقواعد وآداب
وشرائع عامة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة والأمم، فكان
فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش والجهاد، وللبيع والمداينة والرهن، ولآداب
الجلوس والمشي والحديث) . إلخ ص 84.
غير أنه قال عقب ذلك ص 84 أيضًا: ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما
شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في
شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم ... إلى آخره.
فآخر كلامه في الصحفة المذكورة يهدم كلامه، ولا ينفعه ركونه إلى حديث:
(لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما متع الكافر منها بشربة ماء) .
وحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، لأن الحديث الأول ضعيف لا يصلح حجةً ,
وهو على فرض صحته وارد في معرض التزهيد في الدنيا وعدم الإفراط في طلبها،
وليس معناه كما يزعم الشيخ عليّ أن تترك الناس فوضى تتحكم فيهم العواطف
والشهوات ليس لهم حدود يقفون عندها، ولا معالم ينتهون إليها.
ولو لم يكن معناه كما ذكرنا؛ لهدم آيات الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، وصادم
آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا} (القصص: 77) ، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (المائدة: 87) .
ولأن الحديث الثاني وارد في تأبير النخل وتلقيحه، ويجري فيما يشبه ذلك
من شؤون الزراعة وغيرها من الأمور التي لم تجئ الشريعة بتعليمها، وإنما
تجيء لبيان أحكامها من حل وحرمة، وصحة وفساد ونحو ذلك، يعلم ذلك من له
صلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهل يجترئ الشيخ علي أن يسلخ الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا من الدين،
ويترك الناس لأهوائهم ويقول: (إن ذلك من الأغراض الدنيوية التي أنكر النبي صلى
الله عليه وسلم أن يكون له فيها حكم وتدبير) ، ويدعي على النبي صلى الله
عليه وسلم هذه الدعوى.
وهل يرى الشيخ علي أن تدبير أمور الدنيا، وسياسة الناس أهون عند الله من
مشية يقول الله في شأنها: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} (الإسراء: 37) ،
وأهون عند الله من شيء من المال يقول الله في شأنه: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: 5) ويقول أيضًا: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ
البَسْطِ} (الإسراء: 29) ، وأهون عند الله من صاع شعير أو رطل ملح، يقول
الله في شأنهما: {أَوْفُوا الكَيْلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ
المُسْتَقِيمِ} (الشعراء: 181-182) .
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل قوله تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) ، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم
بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة: 49)
، وقوله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ
إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29) ، وقوله تعالى في شأن
الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا
إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) .
وماذا يعمل الشيخ علي في مثل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن
ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها، فاختصموا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، فأمر بالقصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أتقتص من فلانة؟
لا والله. فقال: (سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص) . ومثل ما رواه
البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضى الله عنهما - أنه قال: قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة. وما رواه أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه
قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع. وما
رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه - وما رواه أيضًا عن ابن عباس -
رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
(2)
ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
فقد قال في ص 52: (وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة
إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله) .
ثم قال في ص 53: (وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد لجأ إلى القوة
والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين،
وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك) .
فالشيخ علي في كلامه هذا يقطع بأن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
وفي كلامه الذي سنذكره زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاده - صلى الله
عليه وسلم - كان في سبيل الملك.
فقد قال في ص54: (قلنا: إن الجهاد كان آية من آيات الدولة الإسلامية،
ومثالاً من أمثلة الشؤون الملكية، وإليك مثلاً آخر: كان في زمن النبي - صلى الله
عليه وسلم - عمل كبير متعلق بالشؤون المالية من حيث الإيرادات والمصروفات،
ومن حيث جمع المال من جهاته العديدة (الزكاة والجزية والغنائم إلخ) ، ومن
حيث توزيع ذلك كله بين مصارفه، وكان له - صلى الله عليه وسلم - سعاة وجباة
يتولون ذلك له، ولا شك أن تدبير المال عمل ملكي؛ بل هو من أهم مقومات
الحكومات) .
ثم قال في ص55: إذا ترجح عند بعض الناظرين اعتبار تلك الأمثلة، واطمأن
إلى الحكم بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً وملكًا، فسوف يعترضه حينئذ
بحث آخر جدير بالتفكير، فهل كان تأسيسه - صلى الله عليه وسلم - المملكة
الإسلامية، وتصرفه في ذلك الجانب شيئًا خارجًا عن حدود رسالته صلى الله عليه
وسلم؟ أم كان جزءًا مما بعثه الله له، وأوحى به إليه؟ فأما أن المملكة النبوية عمل
منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في
مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك
رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا إلحادًا، وربما كان
محمولاً على هذا المذهب ما يراه بعض الفرق الإسلامية من إنكار الخلافة في
الإسلام مرة واحدة. ولا يهولنك أن تسمع أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - عملاً
كهذا خارجًا عن وظيفة الرسالة، وأن ملكه الذي شيده هو من قبيل ذلك العمل
الدنيوي الذي لا علاقة له بالرسالة، فذلك قول إن أنكرته الأذن - لأن التشدق به
غير مألوف في لغة المسلمين - فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة وروح التشريع
وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه،
بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا، ولكنه على كل حال رأي نراه بعيدًا) .
فعلم من كلامه هذا أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين،
وهذا أقل ما يؤخذ عليه في مجموعة نصوصه.
على أنه لم يقف عند هذا الحد، بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك،
ومن الشؤون الملكية جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم ونحو ذلك في سبيل
الملك أيضًا، وجعل كل ذلك على هذا خارجًا عن حدود رسالة النبي صلى الله عليه
وسلم، لم ينزل به وحي، ولم يأمر به الله تعالى.
ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله: (إننا قد استقصينا الكتاب أيضًا فلم
نجد ذلك القول فيه، وربما كان استنتاجًا لم نهتد إلى مقدماته) . غير صحيح؛ لأن
ما اتهم به نجده صريحًا في صحيفة 52 و53 و54. وفي ص55 حيث يقول:
(وهو على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا ولا
إلحادًا) ، وحيث يقول بعد ذلك: (فقواعد الإسلام، ومعنى الرسالة، وروح التشريع
وتاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لا يصادم رأيًا كهذا ولا يستفظعه،
بل ربما وجد ما يصلح له دعامة وسندًا) .
ومن حيث إن دفاع الشيخ علي بقوله: (إنه رأي من الآراء لم نرض به،
ومذهب رفضنا آخر الأمر أن نذهب إليه) ، غير مطابق للواقع؛ لأنه قال: (وهو
على ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه) إلى آخره، وقوله بعد ذلك: (ولكنه على
كل حال رأي نراه بعيدًا) لا ينفعه، فإنه مع قوله: وهو على ذلك رأي صالح لأن
يذهب إليه، إلى آخره - أسلوب تجويز لا أسلوب رفض، يعرف ذلك من له إلمام
بالمنطق وأساليب الكلام.
وقال الشيخ علي في دفاعه بعد ذلك: (بل نحن قررنا ضد ذلك على خط
مستقيم ص70 حيث قلنا ... (وفي سبيل هذه الوحدة الإسلامية ناضل - عليه
السلام - بلسانه وسنانه) ، وقلنا في ص79: (لا يريبنك هذا الذي ترى أحيانًا في
سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك
والدولة، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي
كان عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يلجأ إليها تثبيتًا للدين وتأييدًا للدعوة، وليس
عجيبًا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل) .
ودفاعه هذا لا يجدي، فإنه زعم أن ما قاله هنا ضد لما اتهم به، والواقع أنه
ليس ضدًّا؛ لأنه ساقه محتملاً أن يكون نضاله وجهاده - عليه الصلاة والسلام -
مما خرج عن حدود رسالته صلى الله عليه وسلم، وأن يكون جزءًا مما بعثه الله له
وأوحى به إليه على الرأيين اللذين قررهما الشيخ علي، فالتهمة الموجهة إليه باقية.
والشيخ علي بذلك لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز فضلاً عن
صريح الأحاديث الصحيحة المعروفة، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين
بالضرورة.
قال الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 84) ، وقال تعالى:
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} (النساء: 74) ،
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) ،
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) ، وقال تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) ، وقال تعالى في
بيان مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} (التوبة: 60) ، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ
وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى
يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) ، وقال تعالى: {َاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ} (الأنفال: 41) .
(3)
ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان موضع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة، فقد قال في
ص40: (لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غامضة
ومبهمة من كل جانب) .
وقال في ص46: (كثيرًا كلما أمعنا في حال القضاء زمن النبي - صلى الله
عليه وسلم -، وفي حال غير القضاء أيضًا من أعمال الحكم وأنواع الولاية - وجدنا
إبهامًا في البحث يتزايد، وخفاءً في الأمر يشتد، ثم لا تزال حيرة الفكر تنقلنا من
لبس إلى لبس، وتردنا من بحث إلى بحث، إلى أن ينتهي النظر بنا إلى غاية ذلك
المجال المشتبه الحائر) .
وقال في ص57: (إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أسس
دولة سياسية أو شرع في تأسيسها، فلماذا خلت دولته إذًا من كثير من أركان الدولة
ودعائم الحكم،؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم
يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في
حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا ولماذا؟ نريد أن
نعرف منشأ ذاك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص أو ما شئت
فسمه، في بناء الحكومة أيام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كان ذلك وما
سره؟) .
وهذا تصريح من الشيخ علي بما يثبت التهمة.
وإذا كان قد اعترف ببعض أنظمة للحكم في الشريعة الإسلامية، فإنه نقض
الاعتراف، وقرر أن هذه الأنظمة ملحقة بالعدم.
قال في ص84: (ربما أمكن أن يقال: إن تلك القواعد والآداب والشرائع
التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمم العربية ولغير الأمم العربية
أيضًا كانت كثيرة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم،
فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش وللجهاد وللبيع والمداينة والرهن، ولآداب
الجلوس والمشي والحديث وكثير غير ذلك) ، ثم قال: (ولكنك إذا تأملت وجدت
أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من
أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي،
ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما
يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين) .
ومن حيث إنه قال في دفاعه: إنه ساق ذلك مساق الاعتراض على من يقول:
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان صاحب حكومة. وإنه أخذ في رد
الاعتراض عقب توجيهه. ولكنه رد الاعتراض بجوابين لم يرتض واحدًا منهما
ص59 و63؛ فالتهمة باقية.
وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهبًا هو قوله: (إنما كانت ولاية محمد - صلى
الله عليه وسلم - على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم) - ص
80 - وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها، وهي أنه جرد النبي - صلى
الله عليه وسلم - من الحكم، وقال: (رسالة لا حكم، ودين لا دولة) .
وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) ،
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) ، وقال
تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقال
تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ، ومعلوم أن الرد إلى
الله بالرجوع إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول بالرجوع إلى سنته صلى الله
عليه وسلم، وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، والدين عند المسلمين ما جاء به محمد - صلى
الله عليه وسلم - من عند الله في معاملة الخالق والمخلوق.
(4)
ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بلاغًا
للشريعة مجردًا عن الحكم والتنفيذ، فقد قال الشيخ علي في ص71: (ظواهر
القرآن المجيد تؤيد القول: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له شأن في
الملك السياسي، وآياته متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ
المجرد من كل معاني السلطان) .
ثم عاد فأكد ذلك فقال في ص73: (القرآن كما رأيت صريح في أن
محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى
إلى الناس، وأنه لم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس
بما جاء به، ولا أن يحملهم عليه) .
ولو كان الأمر كما زعم هو لكان ذلك رفضًا لجميع آيات الأحكام الكثيرة في
القرآن الكريم. ودون ذلك خرط القتاد.
وقد قال الشيخ علي في دفاعه: (إنه قرر في مكان آخر من الكتاب بصراحة
لا مواربة فيها أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - سلطانًا عامًا، وأنه ناضل في
سبيل الدعوة بلسانه وسنانه) .
وهذا دفاع لا يجدي؛ إذ لو كان معنى ذلك الذي قرره في ص66 و70 كما
أشار إليه أن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السماوي يتجاوز حد البلاغ
المجرد عن كل معاني السلطان، لما كان سائغًا أن يقول بعد ذلك في صفحة 71:
إن آيات الكتاب متضافرة، على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد
من كل معاني السلطان. وأن يقول بعد ذلك في صفحة 73: إن القرآن صريح في
أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله تعالى إلى
الناس، ولم يكلف شيئًا غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به،
ولا أن يحملهم عليه.
والواقع أن السلطان الذي أثبته إنما هو السلطان الروحي كما صرح به في
مذكرة دفاعه، حيث قال فيها: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستولي
على كل ذلك السلطان، لا من طريق القوة المادية وإخضاع الجسم كما هو شأن
الملوك والحكام، ولكن من طريق الإيمان به إيمانًا قلبيًّا والخضوع له خضوعًا
روحيًّا) فكان دفاعه إثباتًا للتهمة لا نفيًا لها.
على أنه قد نسب في ص65 و66 السلطان إلى عوامل أخرى من نحو: الكمال
الخلقي، والتميز الاجتماعي، لا إلى وحي الله وآيات كتابه الكريم، كما أنه جعل
الجهاد في موضع آخر من كتابه وسيلة كان على النبي - صلى الله عليه وسلم -
أن يلجأ إليها لتأييد الدعوة، ولم ينسبه إلى وحي الله وأمره.
وكلام الشيخ علي مخالف لصريح كتاب الله تعالى الذي يرد عليه زعمه،
ويثبت أن مهمته - صلى الله عليه وسلم - تجاوزت البلاغ إلى غيره من الحكم
والتنفيذ، فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) ، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49) ،
وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (الشورى: 15) ، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) ، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) ، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) ، وقال تعالى:
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 84) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ} (الأنفال: 65) ، وقال تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: 61) ، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ
المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9) .
وكلام الشيخ علي مخالف أيضًا لصريح السنة الصحيحة، فقد روى البخاري
في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا
ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام) ، وروى عن أبي سلمة عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد
شرب فقال: اضربوه. وروى عن عروة - رضي الله عنه - أن قريشًا أهمتهم
المرأة المخزومية التي سرقت، وقالوا: من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام
فخطب، فقال: (يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف
تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطع محمد يدها) .
فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد - صلى الله عليه وسلم -: إن عمله
السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وإنه لم يكلف أن
يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه؟
وهل يجوز أن يقال بعد ذلك في القرآن الكريم: إنه صريح في أنه صلى الله
عليه وسلم لم يكن من عمله شيء غير إبلاغ رسالة الله إلى الناس، وليس عليه أن
يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه.
(5)
ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا
بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا، فقد قال في ص22: (أما دعوى
الإجماع في هذه المسألة - وجوب نصب الإمام - فلا نجد مساغًا لقبولها على أي
حال، ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل، على أننا مثبتون لك فيما يلي أن
دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة، سواء أرادوا بها إجماع الصحابة
وحدهم، أم الصحابة والتابعين، أم علماء المسلمين، أم المسلمين كلهم بعد
أن نمهد لهذا تمهيدًا) .
ادعى الشيخ علي في ذلك التمهيد أن حظ العلوم السياسية في العصر الإسلامي
كان سيئًا، على الرغم من توافر الدواعي التي تحمل على البحث فيها، وأهمها أن
مقام الخلافة منذ زمن الخليفة الأول كان غرضه للخارجين عليه، غير أن حركة
المعارضة كانت تضعف وتقوى. ثم ساق بعض أمثلة يؤديد بها ما يدعيه من أن
الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا.
ولو سلم للشيخ علي ذلك جدلاً لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة
على وجوب نصب إمام للمسلمين، فإن إجماعهم على ذلك شيء، وإجماعهم على
بيعة إمام معين شيء آخر. واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على
وجوب نصب الإمام، أي إمام كان، وقد ثبت إجماع المسلمين على امتناع خلو
الوقت من إمام، ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار.
وقد اعترف الشيخ علي عبد الرازق في دفاعه بأنه ينكر الإجماع على وجوب
نصب الإمام بالمعنى الذي ذكره الفقهاء، وقال عن نفسه: إنه يقف في ذلك في
صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة. (يعني بعض الخوارج ولا صم) ،
وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين، وحسبه في
بدعته أنه في صف الخوارج لا في صف جماهير المسلمين. وهل وقوفه في
صف الخوارج الذين خالفوا الإجماع بعد انعقاده يسوغ له أن يخرج على إجماع
المسلمين؟ قال في المواقف وشرحه: (تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول
بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام،
حتى قال أبو بكر - رضي الله عنه - في خطبته المشهورة حين وفاته عليه
السلام: ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى
قبوله، ولم يقل أحد: لا حاجة إلى ذلك، بل اتفقوا عليه وقالوا: ننظر في هذا
الأمر. وبكروا إلى سقيفة بني ساعدة، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -. واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك الاتفاق، ولم يزل
الناس على ذلك في كل عصر إلى زمننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر) .
وقد روى مسلم في صحيحه حديث حذيفة، وقد جاء فيه أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) ، قلت: فإن لم يكن لهم إمام،
قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك
الموت) وروى مسلم أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خلع يدًا
من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات
ميتة جاهلية) ، وروى مسلم أيضًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي
وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم
حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم) ، وروى مسلم أيضًا عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى
الله - عز وجل - وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه) .
(6)
ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية، فقد قال في ص103:
(والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا، ولا القضاء ولا غيرهما من
وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين
بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع
فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة) .
وكلام الشيخ علي في دفاعه يقضي بأن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة
شرعية جعلوه متفرعًا عن الخلافة، فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.
وكلامه غير صحيح؛ فالقضاء ثابت في الدين على كل تقدير تمسكًا بالأدلة
الشرعية التي لا يستطاع نقضها، وقد ذكرنا فيما تقدم كثيرًا من الآيات والأحاديث
في الحكم والقضاء، وسنذكر شيئًا من ذلك فيما يأتي: -
وقال الشيخ علي في دفاعه: (إن الذي أنكر أنه خطة شرعية إنما هو جعل
القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة، واتخاذه مقامًا ذا أنظمة
معينة وأساليب خاصة) .
وهو دفاع غير صحيح، فإن عبارته في صفحة 103 فيها إنكار أن القضاء
نفسه خطة دينية، وقد زعم أنه خطة سياسية صرفة لا شأن للدين فيها.
وقد نقل عن ميزان الشعراني في دفاعه (أن الإمام أحمد في أظهر رواياته
يرى أنه -أي: القضاء- ليس من فروض الكفايات، ولا يجب على من تعين له
الدخول فيه وإن لم يوجد غيره) .
وهذا دفاع عن القضاء نفسه. وبذلك يتبين أيضًا أنه قد أنكر أن القضاء نفسه
وظيفة شرعية، لا جعل القضاء وظيفة معينة من وظائف الحكم ومراكز الدولة،
واتخاذه مقامًا ذا أنظمة معينة وأساليب خاصة. فلزمته التهمة.
واستناده على ما نقله الشعراني في ميزانه عن الإمام أحمد استناد لا ينفعه،
فإن الذي حرر من ميزان الشعراني إنما هو إلى باب ما يحرم من النكاح، وقد ذكر
ذلك الشعراني نفسه في ص8 من الجزء الأول من الميزان، وكتاب الأقضية واقع
بعد ذلك بسبعة عشر كتابًا، فكتاب الأقضية في ميزان الشعراني لم يحرر حتى
يكون ما فيه مستندًا صحيحًا. وقال صاحب الإشاعة في أشراط الساعة: إن
الشعراني لم يحرر ميزانه في حياته، وإنه قال: لا أحل لأحد أن يروي هذا الكتاب
عني حتى نعرضه على علماء المسلمين ويجيزوا ما فيه. انتهى كلامه، والمعروف
في كتب الحنابلة أن القضاء من فروض الكفايات. راجع ص258 من الجزء الرابع
من المنتهى، وص968 من الإقناع، وص580 من المقنع، وقد ذكر محشيه عند
قوله: (وهو فرض كفاية) : إن ذلك هو المذهب. وذكر قولاً عن الإمام أحمد بأن
القضاء سنة. فإذا لم يكن القضاء فرض كفاية عند الإمام أحمد فهو سنة عنده
والمسنون من الخطط الشرعية، فما زعمه الشيخ علي من إنكار أن القضاء وظيفة
شرعية وخطة دينية باطل ومصادم لآيات الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) ، وقال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ} (المائدة: 48)
، وقال تعالى:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) ،
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) .
(7)
ومن حيث إنه يزعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده - رضي
الله عنهم - كانت لا دينية [1] فقد قال في صفحة 90: (طبيعي ومعقول لي درجة
البداهة ألا توجد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - زعامة دينية، وأما الذي يمكن
أن يتصور وجوده فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائمًا
على الدين، هو إذًا نوع لا ديني) .
وهذه جرأة لا دينية، فإن الطبيعي والمعقول عند المسلمين إلى درجة البداهة
أن زعامة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت دينية، يعرف ذلك المسلمون سلفهم
وخلفهم جيلاً بعد جيل، ولقد كانت زعامته على أساس (أنه لا بد لهذا الدين ممن
يقوم به) ، وقد انعقد على ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - كما
سبق.
ودفاع الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا
تستند إلى وحي ولا إلى رسالة مضحك موقع في الأسف، فإن أحدًا لا يتوهم أن أبا
بكر - رضي الله عنه - كان نبيًّا يوحى إليه، حتى يعنى الشيخ علي بدفع هذا
التوهم.
لقد بايع أبا بكر - رضي الله عنه - جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين
على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم -
فقام بالأمر خير قيام، ومثله في هذا بقية الخلفاء الراشدين.
وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر - رضي الله عنه - من أن حكومته لا
دينية لم يقدم على مثله أحد من المسلمين , فالله حسبه.
ولكن الذي يطعن في مقام النبوة يسهل عليه كثيرًا أن يطعن في مقام أبي بكر
وإخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.
ومن حيث إنه - علاوة على ما ذكر - يقف الشيخ علي في ص 34 و35 من
المسلمين موقف الطاعن على دليلهم الديني، والخارج على إجماعهم المتواتر الذي
انعقد على شكل حكومتهم الدينية، أو موقف المجيز للمسلمين إقامة حكومة بلشفية،
وكيف ذلك والدين الإسلامي في جملته وتفصيله يحارب البلشفية؛ لأن البلشفية فتنة
في الأرض وفساد كبير. لقد وضع الدين الإسلامي للمواريث أحكامًا يلجأ إليها
أحيانًا غير المسلمين لما فيها من الرحمة والعدل، وأوجب على المسلمين مقادير من
الصدقات، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وأمر بإقامة الحكومة الدينية التي
تحفظ لكل ذي حق حقه، ولكل عامل ثمرة عمله، وجعل الدماء والأعراض
والأموال حرمة لا يجوز انتهاكها، وضرب على أيدي المفسدين في الأرض،
وحسبنا في ذلك أن نقول: إن البلشفية تهدم نظام المجتمع الإنساني، وتضيع حكمة
الله في جعل الناس درجات ينتفع بعضهم من بعض، قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم
بَعْضاً سُخْرِياً} (الزخرف: 32) .
ومن حيث إن الشيخ عليًّا يقول في ص 103: (لا شيء في الدين يمنع
المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا
ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام
حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على
أنه خير أصول الحكم) ، ومعلوم أن أصول الحكم ومصادر التشريع عند المسلمين
إنما هي كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين،
وليس هناك للمسلمين خير منها. والشيخ علي يطلب أن يهدموا ما بنوه على هذه
الأصول من نظام حكومتهم (العتيق) ، ويطلب إليهم أن يبنوا حكومتهم وشؤونهم
الدينية والدنيوية على أصول خير من أصولهم، يجدونها عند الأمم غير الإسلامية،
فكيف يبيح دين الإسلام للمسلمين أن يهدموه؟!
ومن حيث إنه يزعم في ص 83 و84 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يغير شيئًا من أساليب الحكم عند أي أمة أو قبيلة في البلاد العربية، وإنما تركهم
وما لهم من فوضى أو نظام، وهذا طعن صريح على محمد - صلى الله عليه وسلم
- بأنه لم يرسل لسعادة الناس في دينهم ودنياهم، وطعن صريح على كتاب الله
تعالى بأنه غير وافٍ بما يلزم في الشؤون الاجتماعية، وقد قال الله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ
يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: 156-157) ،
وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً} (المائدة: 3) .
ومن حيث إنه تبين مما تقدم أن التهم الموجهة ضد الشيخ علي عبد الرازق
ثابتة عليه، وهي مما لا يناسب وصف العالمية وفاقًا للمادة (101) من القانون
رقم 10 لسنة 1911 ونصها:
(إذا وقع من أحد العلماء أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ما لا يناسب وصف
العالمية، يحكم عليه من شيخ الجامع الأزهر بإجماع تسعة عشر عالمًا معه من هيئة
كبار العلماء، المنصوص عليها في الباب السابع من هذا القانون بإخراجه من زمرة
العلماء، ولا يقبل الطعن في هذا الحكم.
ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة
كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية) .
فبناءً على هذه الأسباب:
حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالمًا معنا من هيئة
كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي
الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية، ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول
الحكم) من زمرة العلماء.
صدر هذا الحكم بدار الإدارة العامة للمعاهد الدينية في يوم الأربعاء 22
المحرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
***
تنفيذ الحكم
(وهو النصر المبين، لأهل الدين على اللادينيين)
كان الشيخ علي عبد الرازق مغرورًا بأنصاره من الإفرنج والمتفرنجين،
وملاحدة اللادينيين، ظانًّا أنهم يرهبون - بما يكتبون في جريدة السياسة - كبار
علماء الدين، فلا يتجرؤون على الحكم عليه، ثم إنه كان متكلاً على الوزيرين
النافذي الرأي: إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية، وعبد العزيز فهمي باشا
وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري، واثقًا هو وأنصاره اللادينيون بأن
يبقى في وظيفته القضاء الشرعي، بالرغم من أنوف كبار العلماء إن هم حكموا
بإخراجه من جماعتهم - وبلغنا أن وزير الحقانية وعده ببقائه في منصب القضاء
الشرعي الذي أنكر هو كونه منصبًا شرعيًّا بالتبع لإنكار كون منصب الخلافة دينيًّا؛
أي: مقيدًا بأحكام الدين. كما علم واشتهر أن إسماعيل صدقي باشا لم يحفل بقرار
هيئة العلماء الذي بلغته إياه قبل المحاكمة، ولم يجب إلى ما طلبه بعضهم منه من
مصادرة الكتاب - وإننا لم نكن نعلم من هذا شيئًا حين كتبنا في إحدى مقالاتنا في الرد
على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) : إننا نعلم أن من أنصاره بعض الباشوات
والدكاترة، وغيرهم من الأكابر، وأنهم أقوياء، ولكن قوتهم تتضاءل أمام قوة ملك
البلاد. وقد عاقبتنا جريدة السياسة على القول بنشر تهمة غريبة تتهمنا فيها بأعمال
دينية سياسية تغضب علينا - لو صحت - جلالة الملك وحكومته، وتجعلنا
عرضة للعقاب، ولكن الحكومة كذبت التهمة، وقد أشير علينا يومئذ أن نقاضي جريدة
السياسة على تلك التهمة، فقلنا: إنه لا يليق بنا - معشر أرباب الصحف - أن
نتقاضى إلى الحكام، وقد صرف الله عنا شر التهمة الباطلة بسلام.
هذا الغرور والاتكال على الوزراء والأحزاب هو الذي جرأ الشيخ علي عبد
الرازق على تهديد هيئة كبار العلماء في مقال نشرته له السياسة في صدر عددها
الذي صدر في 20 ذي الحجة سنة 1343، نهاهم فيه أن تأخذهم العزة بالإثم،
وتقحم بهم في أودية ليس عليها دليل، وتهجم بهم على موارد لا يجدون عنها
مصدرًا، وتنتهي بهم إلى عواقب لا يحمدون عندها السرى، ثم قال: يا أيها
السادة لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، ولا تركبوا للانتقام مركبًا أخاف أن
يرديكم قبل أن يصل بكم إلى الانتقام.
إن شر ما ترجونه لنا لهو خير ما نرجو لأنفسنا، ولئن كنا غالبين أو
مغلوبين، فإن لنا في الحالتين، لإحدى الحسنيين، أما أنتم أيها السادة فخافوا على
أنفسكم شرين مالكم من أحدهما بد، شر الانتصار إن غَلَبْتُمْ، وشر الهزيمة إن غُلِبْتُمْ
أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كيلا ألام على نهجي وإنذاري
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلفون خزيًا ظاهر العار
ثم كررت جريدة السياسة بلسانها وألسنة كتابها أمثال هذه النذر بما هو أشد
تهديدًا ووعيدًا وتقريعًا وتثريبًا، ولكن الحكم صدر ثم نفذ، ولقد امتنع عبد العزيز
باشا عن تنفيذه، فكان جزاؤه العزل من الوزارة، ثم كان جزاء حزبه الحر
الدستوري الخروج من الوزارة أيضًا، فقد استقال سائر وزراء الحزب حتى
إسماعيل باشا صدقي، فقبلت استقالتهم أجمعين، وكانوا يظنون أنها لا تقبل، وأن
الحكومة الشاذة المعطلة للدستور لا تقوم إلا بهم.
تنفيذ هذا الحكم من الجهة العامة منوط في القانون برئيس الوزراء، ومقتضى
التنفيذ طرد الشيخ علي عبد الرازق من منصب القضاء الشرعي التابع لوزارة
الحقانية، ورئيس الوزراة الآن في أوربة، ونائبه يحيى باشا إبراهيم وزير المالية،
وهو الذي بلغ وزير الحقانية الحكم مع توقيعه عليه بالتنفيذ، وكان الواجب على
وزير الحقانية إخراج الشيخ علي عبد الرازق بمقتضاه من القضاء من غير تريث،
ولكنه لم يفعل، بل أحاله على لجنة قسم القضايا في الوزارة مبينًا لها ما عنده من
الإشكال في تنفيذه لترى رأيها فيه. وهذا نص عبارته في ذلك نقلاً عن جريدتهم
(السياسة)
قال وزير الحقانية بعد الديباجة:
(وحيث إننا نتشكك كثيرًا (أولاً) : فيما إذا كان نص الفقرة الأولى من
المادة 101 من قانون الأزهر نمرة 10 سنة 1911 يقصر الموضوع الذي تختص
هيئة كبار العلماء بالنظر فيه على الأفعال الشائنة التي تمس كرامة العالم: كالفسق
وشرب الخمر، والميسر، والرقص، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالسلوك الشخصي،
أم هو يتعدى ذلك إلى الخطأ في الرأي في الأبحاث العلمية والدينية، من مثل ما
نسب للشيخ علي عبد الرازق، ووقعت المحاكمة فيه.
(ثانيًا) : على فرض أن اختصاص تلك الهيئة شامل - بمقتضى النص -
لجريمة الفعل الشائن، الماس بكرامة العالم، ولجريمة الرأي معًا، فهل هذا النص
مستمر النفاذ للآن فيما يتعلق بجريمة الرأي ولا تأثير لأحكام المواد 12 و14
و167 من الدستور فيها؟
(ثالثًا) : إن كان نص الفقرة المذكورة عامًّا يشمل الجريمتين، وكان لا
تأثير لشيء من أحكام الدستور فيه، وكان الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء
بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء صحيحًا، فهل الفقرة الأخيرة من
المادة 101 المذكورة - وهي المنصوص فيها على العقوبات التبعية - هي أيضًا
واجبة التنفيذ لم ينسخها شيء من أحكام مواد الدستور المذكورة أو غيرها من
أحكامه) .
(لذلك نرسل لجنابكم أوراق هذا الموضوع رجاء عرضها على لجنة قضايا
الحكومة مجتمعة لدراسته وموافاتنا برأيها فيه، والرجاء عند البحث ملاحظة سلطة
شيخ الجامع الأزهر المبينة بالمادة الرابعة من القانون المذكور، فإنها بالنسبة للعلماء
خاصة بالإشراف على سيرتهم الشخصية، وكأنه يظهر لنا أن الفقرة الأولى من
المادة 101 المذكورة هي الوازع في هذا الصدد، فقد يجوز أن يفسرها ذلك على ما
يظهر) .
... ... ... ... ... ... بولكلي في 5 سبتمبر سنة 1925
(المنار)
قد كان هذا الاستفتاء من عبد العزيز باشا فهمي مستنكرًا من جماهير الناس
وجميع الأحزاب - ما عدا حزبه طبعًا - واشتدت مؤاخذتهم إياه عليه حتى بما لا
يرضاه الأدب كسنة جريدة حزبه، ومن أقوى وجوه تلك المؤاخذة المنطقية التي
تعنينا أن الاستفتاء من وزير مسلم في حكم صدر من كبار علماء الإسلام في
موضوع متعلق بدين الإسلام، وأن اللجنة المستفتاة أكثر أعضائها غير مسلمين
وغير وطنيين - إن من وجوه الاستفتاء تفسير ما يسمى كرامة العالم الديني، هل
يشمل مثل الآراء التي نشرها المحكوم عليه في كتابه أم لا؟ وهل الحكم الصادر
من كبار هيئة العلماء صحيح أم لا؟
الحق أقول: إن استفتاء عبد العزيز فهمي باشا لهذه اللجنة غريب، فإذا كان
هو على علمه الإجمالي بالشريعة، ونشأته الإسلامية (يشك كثيرًا) في كون ما
فهمته هيئة كبار العلماء وغيرهم من علماء الشرع وسائر الطبقات المسلمة، من
كون تلك الآراء مشتملة على الطعن في القرآن وفي النبي عليه الصلاة والسلام،
وإهانة للمسلمين وللإسلام؛ أي: ردة: وخروجًا من الملة - إذا كان هو على علمه
وذكائه وإسلامه يشك كثيرًا في كون هذه الآراء تمس كرامة العالم المسلم: كالشرب أو
اللعب أو الرقص، فماذا ينتظر من موسيو فلان ومستر فلان، ولا سيما بعد إبداء
رأي الوزير المسلم ما بين شك وجزم؟ أيعقل أن يصدر عن مسلم عامي الشك في
كون إهانة الإسلام والمسلمين من عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن، والقول بجعل
حكومتهم لا دينية - أهون من الرقص الذي قد يكون مباحًا، وقد يكون
مكروهًا للتنزيه؟ وإنما يعد مخلاًّ بكرامة العالم الديني مروءة وعرفًا فقط.
يغلب على ظني أن عبد العزيز باشا فهمي لم يقرأ هذا الكتاب الرجس الذي
هو شر من كتب ابن الراوندي الزنديق المشهور، وأن جريدة السياسة قد خدعته
بزعمها أن ليس في الكتاب إلا آراء في شكل حكومات الخلفاء، ونظام القضاء،
وكونها ليست من أمور الدين التي تعبد الله بها المسلمين، ولم أروجها لحسن الظن
به أقوى من هذا.
***
عزل وزير الحقانية
لما علم رئيس مجلس الوزراء بالنيابة (يحيى باشا إبراهيم) بأن عبد العزيز
باشا فهمي امتنع من تنفيذ الحكم، وجعله موضعًا للاستفتاء والبحث، عرض الأمر
على جلالة الملك، فوافق على عزله من وزارة الحقانية، ونوط أمرها مؤقتًا بوزير
المعارف، وأصدر مرسومًا بذلك؛ فقامت قيامة (الحزب الحر الدستوري) لذلك،
وقرر عدم مساعدة الوزارة، واستقال سائر وزراء الحزب، وكانوا يظنون أن
استقالتهم لا تقبل لمكانتهم عند الإنكليز، ولأن الوزارة مؤلفة من حزبهم ومن حزب
الاتحاد الجديد - وهما متفقان على مقاومة سعد باشا زغلول وحزبه أو (الوفد
المصري) ، وأن حزب الاتحاد وحده لا يقوى على المقاومة، ولا يستطيع
النهوض بأعباء الوزارة - ولكن جلالة الملك لم يتلبث في قبول استقالتهم
واستقالة إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية، وأقوى خصوم سعد زغلول باشا
وهو منهم فعلاً لا رسمًا، وتألفت الوزارة من الاتحاديين وحدهم، واشتد طعن كل
من الحزبين وجرائدها في الآخر. ومن أنصار جريدة (الاتحاد) ، وحزبها علماء
الدين الذين يصفون محرري السياسة وأركان حزبها باللادينيين وبالملاحدة، وما
كنت لأذكر - هذا على اجتنابي الخوض في مسائل الأحزاب المصرية إلا للإشارة إلى
خيبة أمل الشيخ علي عبد الرازق، ومكانة انتصار أهل الدين على خصومهم في
أول معركة علنية، كان الفصل فيها بصفة رسمية، لهذا اشتغلت الجرائد منذ تقرر
تنفيذ الحكم برفع برقيات التهاني والثناء من هيئة كبار العلماء بالأزهر، ومن علماء
سائر المعاهد الدينية، ومن الطبقات الإسلامية المختلفة إلى جلالة الملك أولاً بالذات،
وإلى رئيس الوزراء بالنيابة، على تأييد الدين، وخذل (الإلحاد والملحدين) ،
ولا تزال تنشر المقالات الكثيرة في ذلك.
***
حكم المجلس المخصوص بوزارة الحقانية
بتنفيذ الحكم بالفعل وعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء
(بجلسة تأديب قضاة المحاكم الشرعية بوزارة الحقانية ببولكلي، في يوم
الخميس 17 سبتمبر سنة 1925- 29 صفر سنة 1344 الساعة العاشرة وثلث
صباحًا تحت رئاسة حضرة صاحب المعالي علي ماهر باشا وزير الحقانية بالنيابة،
وبحضور كل من حضرات: حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ
عبد الرحمن قراعة، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد العطار نائب المحكمة
العليا الشرعية، وحضرتي الشيخ محمد مخلوف رئيس التفتيش الشرعي، والشيخ
عبد الجليل عشوب مفتش المحاكم الشرعية أعضاء، وحضرة أحمد محمد حسن
أفندي مدير إدارة مكتب وزير الحقانية.
صدر الحكم الآتي في قضية تأديب الشيخ علي عبد الرازق.
***
المجلس
(بعد الإطلاع على قرار هيئة كبار العلماء الصادر بتاريخ 22 محرم سنة
1344 الموافق 12 أغسطس سنة 1925) .
(وعلى الخطاب المرسل من الشيخ علي عبد الرازق لمعالي وزير الحقانية
بتاريخ 5 سبتمبر سنة 1925 الذي يبين فيه أوجه دفاعه) .
(ومن حيث إن المتهم قد أعلن قانونًا بتاريخ 10 سبتمبر سنة 1925
للحضور أمام هذا المجلس ولم يحضر) .
(وبما أن فضيلة شيخ الجامع الأزهر ومعه أربعة وعشرون عالمًا من هيئة
كبار العلماء، قضوا بالإجماع في 22 محرم سنة 1344 الموافق 12 أغسطس سنة
1925 بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، بسبب ما أذاعه في كتابه
(الإسلام وأصول الحكم) .
(وبما أن المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم 10 سنة 1911 الخاص
بالجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية ترتب على هذا الحكم طرد
المحكوم عليه من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أية جهة كانت) .
(وبما أن مجلس تأديب القضاة الشرعيين (المنصوص عنه في قرار وزير
الحقانية الصادر في 18 أبريل سنة 1917) ، وهو الذي يملك عزل القضاة
الشرعيين بصفة نهائية، هو كذلك بطبيعة الحال الجهة المنوط بها تنفيذ مثل هذا
الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء) .
(وبما أنه يلزم البدء بتعرف وتحديد ماهية ما لمجلس التأديب من السلطة
حين ينعقد لتنفيذ الحكم الصادر تطبيقًا للمادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع
الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية، لمعرفة ما إذا كان مجلس التأديب
مختصًّا بالنظر في موضوع التهمة، وبالفصل فيما إذا كان الحكم الصادر فيها من
هيئة كبار العلماء صحيحًا أو غير صحيح، وفيما إذا كان العالم الذي حوكم قد
ارتكب بالفعل أمرًا يوقعه تحت طائلة القانون، أو أن هنالك تجاوزًا في التطبيق
القانوني) .
(وبما أنه من المسلم الذي لا ريب فيه أن مجلس التأديب لا يملك شيئًا مما
تقدم، إذ من المبادىء العامة المقررة أن الهيئات القضائية المختلفة تعتبر في
الدولة على حد سواء، وليس بينها في دوائر اختصاصها أي تفاوت في الاعتبار) .
(وبما أن الفقرة الثانية من المادة الأولى بعد المائة الآنف ذكرها تنص على
أن الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء لا يقبل الطعن، فيلزم من هذا أنه ليس لأية
سلطة قضائية أن تلغيه أو تبحث عن صحته، كما يلزم منه أن سلطة مجلس
التأديب مقصورة حتمًا على النظر فيما يترتب على حكم هيئة كبار العلماء من
النتائج القانونية) .
***
عن الاختصاص
(وبما أن الدفع بعدم اختصاص هيئة كبار العلماء بالنظر في موضوع كتاب
(الإسلام وأصول الحكم) مبناه أن عبارة (ما لا يناسب وصف العالمية) الواردة
في المادة الأولى بعد المائة من القانون رقم 10 سنة 1911 لا تتناول إلا الأفعال
الشائنة التي تمس كرامة العالم: كالفسق، وشرب الخمر، والميسر، وما أشبه ذلك
مما يتعلق بالسلوك الشخصي، وأن هذه العبارة لا يمكن أن تتعدى ذلك إلى الخطأ
في الأبحاث العلمية الدينية) .
(وبما أن الدفع على فرض صحته وقبوله لا يطعن في اختصاص هيئة كبار
العلماء، وليس له من نتيجة سوى ما قد يفهم من أن حكم الهيئة أخطأ في تطبيق
القانون، أما اختصاص الهيئة فلا يطعن فيه؛ لأن الشيخ علي عبد الرازق كان من
العلماء، ولأن الفعل الذي حوكم من أجله مما قد يقع من العلماء ويتصل بهم، ولأن
القانون أجاز لهيئة كبار العلماء محاكمة العالم أيًّا كانت وظيفته أو مهنته) .
(وبما أنه على فرض وقوع خطأ في التطبيق القانوني، فليس من
اختصاص أية سلطة أخرى أن تنظر فيه) .
(على أنه ليس ثمة ما يدل على وقوع خطأ في تطبيق القانون؛ لأن عبارة
(ما لا يناسب وصف العالمية) جاءت عامة مطلقة من كل قيد بحيث لا يمكن
قصرها على السلوك الشخصي، فضلاً عن أن وصف العالمية يفترض بذاته فوق
السلوك الشخصي كفاية علمية خاصة، وعقيدة معينة. ولا شك أن هيئة كبار
العلماء هي المختصة دون غيرها بالفصل فيما إذا كانت هذه العقيدة مطابقة أو غير
مطابقة للدين، وفيما إذا كان صاحبها قد ارتكب أو لم يرتكب ما لا يناسب وصف
العالمية) .
(يؤيد ما تقدم أن هيئة كبار العلماء ليست هيئة مدنية، ولا مجرد هيئة
أخلاقية حتى يقصر عملها على مراقبة السلوك الشخصي للعلماء، وإنما هي قبل
كل شيء هيئة دينية، الغرض من تكوينها رعاية أصول الدين ومبادئه، وصيانتها
من كل عبث) .
(وبما أنه مسلم فوق ذلك أن لكل جماعة ناموسًا خاصًّا، وحقًّا مقررًا يجيز
لها أن تطرد من هيئتها كل عضو ترى أنه غير لائق بها، وهذا الحق الطبيعي
ثابت لها بدون احتياج إلى نص وضعي يقرره. ويبنى على ذلك أن هيئة كبار
العلماء يصح لها أن تخرج أي عالم من زمرة العلماء ولو لم يكن ثمة قانون ينص
على ذلك [2] ) .
وبما أنه لا معنى كذلك للاحتجاج بالمواد 12 و14 و167 من الدستور؛ لأن
المادة 12 التي تنص على أن (حرية الرأي مكفولة.. . في حدود القانون) لا تفيد
سوى أن لكل إنسان الحق في أن يعتنق الدين الذي يريده، أو يكون لنفسه الاعتقاد
الذي يرضاه، أو يعرب عن رأيه بالقول، أو الكتابة أو التصوير بدون أن يتعرض
للعقاب بسبب اعتناقه دينًا من الأديان، أو إبانته عن رأي من الآراء ما دام أنه لم
يخرج عن حدود القانون.
(وبعبارة أخرى: لا تفيد هاتان المادتان سوى أن كل إنسان له أن يتمتع
بحقوقه الوطنية، كحق الترشيح للانتخاب أو التصويت فيه مهما كان دينه أو مذهبه
أو رأيه، وهذا لا ينافي أن الحكومة مثلاً لها أن تفصل من خدمتها كل وطني
يرتكب أمورًا معينة، ولهذا قيدت المادة 14 من الدستور حرية الرأي بأنها الحرية
المستعملة في حدود القانون) .
(ويلزم مما تقدم أن الذي حظره الدستور إنما هو المحاكمة الجنائية، أو
الحرمان من الحقوق الوطنية؛ بسبب اعتناق دين أو عقيدة ما، أما صفة العالم أو
صفة الموظف فلا مانع من أن تكون محلاًّ لتقنين خاص، وهذا التقنين لا يتعارض
مع الدستور في شيء ما) .
(وبما أنه لا صحة للقول: بأن الفقرة الأخيرة من المادة الأولى بعد المائة،
وهي المادة السابق الإشارة إليها، والمنصوص فيها على العقوبات التبعية قد نسخها
الدستور؛ لأن الدستور قد نص في المادة 167 على استمرار العمل بالقوانين
والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات، ما دام نفاذها متفقًا مع المبادىء المقررة
فيه. وظاهر أن قانون الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية لا يوجد فيه ما
يخالف تلك المبادئ كما سبق بيانه) .
(وفوق ذلك فما دامت الوظيفة التي يشغلها الشيخ علي عبد الرازق من
وظائف العلماء؛ أي: وظيفة دينية، فهي لذلك لا تحل إلا لمن كان مقرًّا له بأنه من
رجال الدين) .
(وبما أن المجلس يرى أن يقرر إثبات عزل الشيخ علي عبد الرازق من
اليوم الذي صدر فيه قرار هيئة كبار العلماء بإخراجه من زمرة العلماء) .
فلهذه الأسباب
(قرر المجلس بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق المذكور
من وظيفته اعتبارًا من يوم 22 محرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925) ،
مع مراعاة عدم حرمانه من حقه في المكافأة) اهـ.
... ... ... ... ... ... ... الأعضاء ... ... رئيس المجلس
... ... ... ... ... ... ... إمضاءات ... إمضاء
***
تضمن الحكم على الشيخ علي عبد الرازق
الإفتاء بارتداده عن الإسلام
إن هذا الحكم له صفة قانونية يجب تنفيذها على الحكومة المصرية، وقد
فعلت. وله صفة الفتوى، وهي بيان الحكم الشرعي في هذا الكتاب ومؤلفه، وكل
من يعتقد اعتقاده في المسائل المخالفة لنصوص القرآن القطعية المعنى، وغير ذلك
من الأمور المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة - وهو الردة عن
الإسلام، والخروج من الملة الإسلامية، وهيئة كبار العلماء لا تملك الحكم بالردة
في هذه البلاد، وإنما تملك الفتوى ببيان الحكم الشرعي؛ إذ لا يحتاج هذا إلى تقريره
بنص قانوني، وهي لم تصرح بأن الشيخ علي عبد الرازق ارتد عن الإسلام بلفظ
الردة أو الارتداد، وإنما ذكرت بعض ما يدل على ذلك باتفاق المذاهب الأربعة
التي هم كبار علماؤها في الأزهر، بل بإجماع المسلمين أيضًا؛ لأجل أن يحتاط إلى
نفسه، ويرجع إلى دينه بالرجوع عن ذلك، ولئلا يغتر أحد من المسلمين بشيء من
ضلاله، وقد كان بعض الجاهلين بأحكام الشرع استنكر قول هيئة كبار العلماء قبل هذا
الحكم: إنه لا يصدر مثله عن مسلم فضلاً عن عالم، وهذا الحكم بما فيه من التفصيل
يبين لهم ذلك، وإن لم يجعل تفسيرًا لتلك الكلمة البليغة، على أنها ليست بنص في
الردة كأقوالهم في أسباب هذا الحكم.
ولكن صاحب هذا الكتاب ليس عنده من العلم ولا من الحجة إلا الخلابة
اللفظية، والتلبيس والتمويه والإفك اللفظي، ومن ذلك أنه كتب مقالة نشرتها له
نصيرته (جريدة السياسة) في صدر عددها الذي نشرت فيه صورة الحكم، وهو
المؤرخ في 16 صفر، زعم فيها أن كبار العلماء تراجعوا عن اتهامه بشيء (لا
يصدر من مسلم) ، بعد أن ذكر أنه كان خائفًا وجلاً أن يقرروا خروجه من زمرة
المسلمين، (وإن كان قد تبرأ منهم في كتابه مرارًا) ، وهو يعلم أنهم قرروا
خروجه من ملة الإسلام، وأراد أن يضل عن ذلك العوام، وإلا كان مثله كمثل من
قيل له: من أكل السمك وشرب العسل فدخل الحمام جنّ؛ فأراد أن يجرب ذلك
لضعف عقله ففعل فجن، فخرج من الحمام إلى السوق عاريًا، وطفق يقول للناس:
(يقول: من فعل كذا وكذا جن، وها أنا ذا فعلت ولم أجن! ! وإننا نذكر بعض
عباراتهم:
(1) التصريح في الحيثية الأولى بأنه ألغى من الدين شطره، وهو الأحكام
المتعلقة بأمور الدنيا، وإن كان الكثير منها من المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة، أقول: وكل ما كان كذلك فجحده ردة لا خلاف فيها.
(2) التصريح في الحيثية الثانية وغيرها بأن الشيخ علي عبد الرازق (لا
يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز، فضلاً عن صريح الأحاديث
الصحيحة المعروفة، ولا يمنع أن ينكر معلوم من الدين بالضرورة (راجع ص
372 من المنار) .
(3) في الحيثية السابعة بيان لما ذكر في غيرها من جعله الحكومة
الإسلامية لا دينية، لا تقوم أحكامها السياسية ولا القضائية على الدين، وتصريحه
بأن حكومة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وسائر الخلفاء الراشدين لا دينية،
وأنه لا يمنع المسلمين مانع من هدمها، واستبدال أي نوع من الحكم بها، ولو
الحكم البلشفي، وتلك إباحة لهدم أحكام القرآن، واستحلال لما هو محرم بالإجماع،
ومعلوم من الدين بالضرورة.
(4) التصريح فيها بأن في كلامه في إجازة النبي - صلى الله عليه وسلم -
لما كان في قبائل الجاهلية من أحكام وفوضى ونظام (طعنًا صريحًا على النبي -
صلى الله عليه وسلم - وعلى كتاب الله تعالى) ، (راجع أول ص382) ،
والطعن فيهما ردة صريحة بالإجماع.
هذا وإن البرقيات التي رفعها العلماء إلى الملك ورئيس الوزارة على عنايتهما
بتنفيذ الحكم صريحة فيما يعتقدون من اشتمال هذا الكتاب على الكفر والإلحاد،
وكتب بعضهم مقالات صرحوا فيها بالتكفير والردة: كالشيخ محمد شاكر، والشيخ
يوسف الدجوي، ونكتفي من البرقيات الكثيرة بواحدة وهي الرسمية الخاصة بالملك:
صاحب السعادة كبير الأمناء بالنيابة بالإسكندرية
أرجو أن ترفعوا إلى السدة العلية الملكية عني وعن هيئة كبار العلماء وسائر
العلماء فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء؛ على أن حفظ الدين في عهد جلالة
مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين، وحفظت كرامة العلم والعلماء،
وإننا جميعًا نبتهل إلى الله ونضرع إليه أن يديم جلالة مولانا الملك مؤيدًا للدين،
ورافعًا لشأن الإسلام والمسلمين، وأن يحرس بعين عنايته حضرة صاحب السمو
الأمير فاروق ولي عهد الدولة المصرية، إنه سميع مجيب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: إن الغرض الأول له من الكتاب إثبات أن الحكومة في الإسلام (لا دينية) بناءً على زعمه أن جميع الأحكام الواردة في الكتاب والسنة - وهو لا ينكرها - خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم- من حيث هو رسول الله، وأنه ليس لأحد أن يخلفه فيها كالرسالة. وإنما نص على خلافة الراشدين؛ لأن قيامها على الدين أظهر، ودفاعه مبني على زعمه هذا لا رجوع عنه، فهو يريد أن الحكم الديني خاص يوحى إليه، وأبو بكر ليس كذلك فحكمه، فكان الظاهر أن يجعل هذا أول أسباب الحكم، وهو ردة صريحة؛ لأنه نفي للدين من شطر الشريعة - وهو الأحكام السياسية والقضائية - وتعطيل له كما أشير إليه في الحكم، وقد استغرب هو في مقال انتقد فيه الحكم جعله كالأمر الثانوي.
(2) المنار: هذا الإطلاق في هذا السبب غير مسلم ولا حاجة إليه في تعليل صحة القرار، وإنما تطرد الجماعة من أفرادها من تجمعه بهم صفات وحقوق تميزهم من غيرهم، تتعلق بها أحكام شرعية ووضعية أعطتهم حق الجزاء على الإخلال بتلك الصفات والحقوق، كما فعل الشيخ علي عبد الرازق بإخلاله بالعقيدة الإسلامية وبإهانته للإسلام والمسلمين، وبإنكاره كون الحكم والقضاء في الإسلام مقيدًا بأحكام الدين، وهو لم يكن قاضيًا إلا بكونه مسلمًا وعالمًا أزهريًّا، ولكن ليس لكل هيئة طبية أن تطرد كل طبيب ترى أنه غير لائق بها، فالإطلاق فيه تسامح لعله لا يراد به العموم، وشرح المسألة لا محل له في هذه الحاشية.(26/363)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإنكليز والحجاز
لا يزال الساسة الإنكليز على افتضاح أمرهم وانتهاك سرائرهم، يعبثون
بالشعوب الإسلامية، ولا سيما في البلاد التي أفسدها نفوذهم فيها، وقد جرأتهم
غفلة هذه الشعوب وخيانة الكثير من أكابر مجرميها لها على الإسراع في القضاء
الأخير على الإسلام والمسلمين الذين يعتقدون أن لا يتم لهم إلا بالاستيلاء على
الحجاز، وقد بدؤوا السعي لذلك باصطناع الشريف حسين بن علي وأولاده،
فأطمعوهم بأن يجعلوهم خلفاء وملوكًا في البلاد العربية الحجاز وغيره تحت حمايتهم
وفي معدة إمبراطوريتهم المستعدة لهضم العالم كله، فرضوا وخدموهم بجد
وإخلاص حتى تم لهم احتلال البلاد العربية من البحر الأحمر إلى شط العرب فخليج
فارس، وكان نفوذهم في الحجاز نفسه أقوى منه في غيره؛ حتى كان الملك حسين
إذا استاء منهم يرفع استقالته إلى الحكومة البريطانية رسميًّا، وينشر ذلك في
جريدته (القبلة) كما نقلناه عنها مرارًا. ٍ
إن أولاد حسين صغار النفوس كبار الشهوات، همهم اللذة وحب الفخفخة
الظاهرة، لذلك رضي فيصل وعبد الله منهم بالملك والإمارة الصورية في خدمة
الإنكليز، وأما حسين فكبير النفس، عاشق للحكم والسلطان الاستبدادي، واسع
الطمع، زاهد في الشهوات البدنية، فلذلك لم يكن راضيًا من الإنكليز بحصرهم
سلطته في الحجاز، وظل يطالبهم بما وعدوه من تأسيس مملكة عربية واسعة تحت
حمايتهم حتى ملوا وسئموا منه، ولم يبالوا بإخراج الوهابية إياه من الحجاز بعد
علمهم بكره العالم الإسلامي له، وعدم طمعهم بخدمة جديدة يسديها إليهم.
ثم أرادوا أن يستفيدوا من التنازع على الحجاز، فساوموا سلطان نجد، فأبى
الدخول في المساومة معهم، ورد مندوبهم مستر (فلبي) بخفي حنين، وأعلن رأيه
الرسمي في الحجاز وهو تفويض أمر شكل الحكم فيه وإصلاحه إلى رأي مؤتمر
إسلامي عام، مع عدم السماح لأدنى نفوذ أجنبي أن يصل إليه.
وأما حسين وأولاده فتربصوا بهم الحاجة إلى المال والذخيرة، وساوموهم
على منطقة العقبة ومعان من شمالي الحجاز فرضوا ببيعها لهم باسم الانتداب،
وجعلها من إمارة عبد الله، فطلبوا خروج (الملك) حسين منها؛ إذ بقاؤه فيها يسوغ
للوهابيين مهاجمتها، فتمنع ظاهرًا أو باطنًا لعدم رضاه بمكان آخر يقيم فيه أو ظاهرًا
فقط - الله أعلم - ثم رضي بالخروج منها بعد إنذار حقيقي أو صوري - الله أعلم -
ثم خرج منقادًا كالجمل الأنف، ولو لم يخرج لما استطاعوا إخراجه إلا بحرب ولن
ترضى الحكومة البريطانية بأن تحاربه هنالك، وستكشف الأيام سر هذه المسألة.
وأما أولاده علي وعبد الله وكذا فيصل - وقد استشير - فكانوا كلهم راضين،
ولكن عليًّا اشترط بل اقترح أن يرجع والده إلى جدة؛ ليتمتع هو بأمواله ونفوذه فلم
يجب إلى اقتراحه، وقد أصدر (إرادته السنية) بفصل المنطقة من (مملكته)
الحجازية، وإلحاقها بمنطقة شرق الأردن، وذكر في نص الإرادة أن التسليم يكون
بعد خروج (الخليفة الأعظم) منها إلى جدة.
ثم أصدر الأمير عبد الله (إرادته السنية) بضم المنطقة الحجازية إلى
(إمارته) ، والاحتفال بذلك رسميًّا، ونشر نص الإرادتين في جريدة (الشرق
العربي الرسمية) وفي غيرها من الجرائد السورية، (وقد نقلناهما في جزء المنار
الثالث م26) .
تم بذلك للإنكليز الاستيلاء على أهم بقعة حربية برية بحرية من أرض
الحجاز المقدسة باسم الانتداب الجديد الذي كان من حقوقه عندهم إنشاء وطن قومي
لليهود في فلسطين، وصاروا على مقربة من المدينة المنورة، كل هذا والشعوب
الإسلامية وعلماء المسلمين لاهون غافلون، لم ترتفع أصواتهم بالاحتجاج على هذا
العدوان الإنكليزي على الإسلام، ناسين وصية نبيهم - عليه أفضل الصلاة
والسلام -، اللهم إلا صوتنا الضعيف في المنار وبعض الأصوات الشخصية
المشابهة له.
وأما أصحاب الأصوات العالية التي تتجاوب أصداؤها في الأقطار، وتطير
بها البرقيات كل مطار، لما لها من الصفة الرسمية أو شبه الرسمية؛ كالملوك،
والأمراء، ورؤساء الهيئات العلمية، والزعماء، فقد ظلوا صامتين - اللهم إلا
جمعية العلماء وجمعية الخلافة في الهند - كأن أمر اعتداء الإنكليز على الحجاز أمر
عادي لا يؤبه له.
ومن العجيب أن وجد في رجال الإنكليز المشهورين أنفسهم من أنكروا على
حكومتهم حق ضم شيء من أرض الحجاز إلى منطقة الانتداب، ولم يوجد من
أمراء المسلمين وحكوماتهم ولا من جماعاتهم الرسمية من فعل ذلك.
إن هؤلاء لا يجهلون أن وضع الإنكليز أقدامهم بقرب المدينة المنورة بحجة
حماية شرق الأردن من الوهابيين أو غيرهم سيحملهم على الاستيلاء على المدينة
المنورة نفسها لحماية العقبة ومعان، ثم الاستيلاء على مكة؛ لأجل حماية المدينة
المنورة، فأين أنتم أيها المسلمون وأين وصية رسولكم - صلى الله عليه وسلم -
في مرض موته؟
وأعجب من هذا السكوت والسكون أن الإنكليز مع هذا العدوان على الإسلام
يهيجون الشعوب الإسلامية على السلطان ابن السعود الذي أعلن رسميًّا أنه يمنع أي
نفوذ أجنبي أن ينفذ إلى الحجاز، ويحملونهم على الانتصار للشريف علي الذي
وهب لهم منطقة من الحجاز حربية بحرية برية، فأذاعوا في العالم أن الوهابيين
أطلقوا رصاصهم أو نارهم على قبة الحرم النبوي الشريف، وأنهم هدموا قبر
حمزة - رضي الله تعالى عنه -، وهي فرية افتراها سماسرة الشريف علي
بمصر، ونشروها في المقطم؛ فطارت بها البرقيات البريطانية، ودبر وفد الشريف
علي في بمبي (الهند) فتنة، هيجوا بها بعض الغوغاء في المسجد ببرقية مزورة من
القدس على الزعيم الكبير شوكت علي رئيس جمعية الخلافة؛ لمقاومته للاستبداد
الإنكليزي في الهند، والعدوان على الإسلام والمسلمين [1] .
وقد طيرت البرقيات البريطانية خبر هذه الفتنة المدبرة، فلم يبق قطر إسلامي
إلا ونشرته فيه، وقد أظهر شيخة الجرائد البريطانية تعجبها من سكوت المصريين
وعدم تهيجهم على ابن السعود، فعلم بهذا من لم يكن يعلم أن غرضها من ذلك هو
التهييج، ومساعدة الشريف علي على الوهابية بالدعاية الباطلة.
إن (التيمس) تعلم أن كذبها وكذب البرقيات الإنكليزية والسياسة البريطانية
نفسها قد صارت مضرب الأمثال عند المسلمين وغيرهم، ولا سيما إذا كانت في
الأمور الإسلامية، وآخرها زعمها أن الرأي الإسلامي العام بمصر مؤيد للشيخ علي
عبد الرازق في زعمه أن حكومة الإسلام لا دينية، وفي إهانته للإسلام والمسلمين المفيدة لسياستهم في الاستعمار، ودعوة مبشريهم إلى تنصير المسلمين.
ولم ينس المسلمون الأكاذيب الحجازية البريطانية التي أذيعت قبل موسم الحج
لصرف المسلمين عن أداء الفريضة، كقولهم: إن أساطيل الحجاز تمنع الحجاج من
النزول في ثغري رابغ والقنفذة، وأن جنود الحجاز تقطع عليهم الطريق إذا أمكنهم
النزول، وإنهم مع ذلك لا يجدون ماءً ولا قوتًا، ثم ظهر أن ذلك كذب صادر عن
سوء نية، فقد ذهب الألوف من أهل الهند الذين لم يصدقوا الإنكليز ولا دعاة
الشريف علي، ونزلوا في تلك الثغور، وأدوا الفريضة بأمان واطمئنان وراحة لم
يسبق لها نظير.
مع هذا كله اغتر بعض الناس بخبر المدينة المنورة؛ فانتدب جلالة مليكنا
العظيم بحكمته، وكشف للأمة الغطاء عن الحقيقة ببرقيته إلى السلطان ابن السعود،
وما جاءه من الجواب المكذب لتلك الفرية [2] فقطعت جهيزة قول كل خطيب،
وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون اهـ.
***
ما نشره الديوان الملكي في الجرائد
بعنوان بين الحجاز ومصر
ديوان جلالة الملك:
(1) صورة البرقية المرسلة من حضرة صاحب الجلالة الملك إلى عظمة
السلطان عبد العزيز سلطان نجد في 11 صفر سنة 1344 -30 أغسطس سنة
1925.
عظمة السلطان عبد العزيز سلطان نجد:
إن الحرب القائمة حول المدينة المنورة قد أقلقت خواطر المسلمين قاطبة؛ لما
عساه يحدث من تأثيرها في الأماكن النبوية المقدسة التي نجهلها جميعًا؛ ونحافظ
على آثارها الكريمة، ولا يخفى على عظمتكم ما لهذه الأماكن من الحرمة التي
توجب أن تكون بعيدة عن كل أذى، رغم ما يقتضيه أي نزاع أو خلاف، ولكن ما
نعهده في شديد غيرتكم الدينية لما يطمئن قلوبنا والمسلمين عامة على صيانة الحرم
النبوي الشريف، وآثار السلف الصالح الدينية. والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فؤاد
(2) صورة البرقية الواردة من عظمة السلطان عبد العزيز سلطان نجد إلى
حضرة صاحب الجلالة الملك في 16 صفر سنة 1344 - 4 سبتمبر سنة 1925.
حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم الملك فؤاد دامت معاليه:
إني أشكركم من صميم فؤادي على غيرتكم الدينية، وإني أقدر ما شرحتموه
حق قدره - إن حرم المدينة كحرم مكة نفديه بأرواحنا وكل ما نملك، وإن ديننا
يحمينا من الإتيان بأي حدث في المدينة المنورة، وسنحافظ على آثار السلف وكل
ما هو في المدينة مما يهم كل مسلم المحافظة عليه - إن العدو يحاول أن يشوه
وجهة جهادنا بما يفتريه من الكذب والبهتان، يحاول أن ينال بالبهتان ما عجز عنه
بالسنان، ولكن الحق أبلج، والله مؤيد دينه، وآخذ بناصر أهله ولو كره المبطلون،
هذا وأرجو أن تقبلوا تحياتي واحتراماتي.
... عبد العزيز بن عبد الرحمن السعود
(3) صورة البرقية الواردة من جلالة الملك علي ملك الحجاز إلى حضرة
صاحب الجلالة الملك في 13 صفر سنة 1344 (أول سبتمبر سنة 1925) .
صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر المعظم:
أهدي لجلالتكم الملوكية أعظم الشكر على غيرتكم الإسلامية الجديرة بذاتكم
العلية ومقامكم السامي، فيما رغبتم فيه من تنزه البقاع المقدسة عن أن تكون ساحة
قتال، ولا يستكثر ذلك على سليل محمد علي الكبير الذي سبقت له خدمة هذه الديار
المباركة من قبل، وفي مثل هذه الكارثة نفسها مادة ومعنى، ونبرأ إلى الله أن يكون
أحد منا - نحن أبناء الحرمين الشريفين - أراد القتال أو أخذ على الاستمرار فيه،
سواء ذلك في مكة المشرفة أو المدينة المنورة، ونسجل على المتسبب مسؤولية ما
تهدم منها من آثار، وما لا يزال يصيبها من أذى كجعل القبة الخضراء النبوية هدفًا للرصاص، وسائر قبب وقبور أهل البيت في البقيع، وتخريب مسجد سيدنا
حمزة، وهدم ضريحه الشريف طبقًا للأساس الذي قام عليه المذهب الوهابي
المعلوم، وبهذه المناسبة نؤكد لجلالتكم أننا قائمون بالواجب الديني والوطني من بذل
النفس والنفيس في صيانة ما بقي من تلك الآثار، وترميم ما خرب منها؛ حتى يتم
إخراج المعتدي - بحول الله وقوته - من الوطن المقدس كله، ونثق أن العالم
الإسلامي يشد أزرنا في ذلك، وفي مقدمتهم جلالتكم الملوكية بصفتكم
أكبر ملوك المسلمين وأعزهم غيرة على الله والدين.
أدام الله جلالتكم مؤيدين بالتوفيق والنصر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي
(المنار)
نشر الديوان الملكي هذه البرقيات الثلاث في الجرائد بهذا الترتيب، وقد راب
المفكرين علم الشريف علي بالبرقية المرسلة إلى سلطان نجد قبل وصولها إليه
وجوابه عنها، وجعلها وسيلة للدعاية الهاشمية التي كانت أساس ما يدعيه من
امتلاك الحجاز الذي ترتب عليه بيعه منطقة من أعظم مناطقه البرية البحرية
للإنكليز؛ بجعلها تحت الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردن، كما كانت
أساس ادعاء أبيه الملك على جميع البلاد العربية والخلافة على الأمة الإسلامية.
ولا يزال الشريف علي هذا وأخوته متمسكين بخلافة أبيهم إذ نص في صك
بيعه منطقة العقبة ومعان للإنكليز، أنه يشترط أن يكون التسليم بعد (خروج
الخليفة الأعظم منها) ، وهو يحرض ملك مصر بهذه البرقية على مساعدته على
إخراج سلطان نجد من الحجاز، كما فعل جده محمد علي بإخراج سلف سلطان نجد
منه، ويدعي مع هذا أنه لا يريد الحرب في الحجاز (! !) ، وتحاول الدعاية
الهاشمية بث هذه الفتنة، وتخويف ابن سعود من مصر؛ ليقر الإنكليز على ما
أخذوا من الحجاز، كما فعلت بتخويف المسلمين من خطر الحج فمنعته الحكومة
المصرية.
وفات الشريف علي أن محمد علي وشرفاء مكة كانوا خاضعين لخلافة
السلطان العثماني الذي خلص له ملك الحجاز بإخراج الوهابية منه، والملك فؤاد
غير خاضع لخلافة حسين بن علي؛ فينقذ له الحجاز ويكون تابعًا لخلافته، بل هو
ملك دستوري لا يمكنه الإقدام على عمل كبير كهذا إلا بإقرار برلمان دولته عليه،
ولا يعقل ذلك إلا بمبايعة الملك والبرلمان وكبار العلماء والجند من المصريين
لحسين بالخلافة.
وأما إذا أراد الشريف علي بإنقاذ ملك مصر للحجاز، جعله تابعًا لمصر فما
عليه إلا أن يعلن هو ورجال حكومته ذلك، ويبايعوا ملك مصر، ويخرجوا من هذه
الورطة التي اضطرته إلى بيع جزء من الحجاز للأجانب، ولا يعلم إلى أي حد
تنتهي به، وهو لا يملك مالاً ولا جندًا بل يتكل على الأجانب؛ ليبقى ممتعًا بلقب
ملك الحجاز، وليعود والده خليفة في الحجاز، فما له ولملك مصر ولخداع المسلمين
بالمحافظة على الحجاز والآثار فيه؟
ومتى كان الشريف علي وأبوه وإخوته يعرفون الإسلام أو يعملون بما يعرفه
كل أحد منه؟ في أي كتاب من كتبه تعلموا أن الإسلام مبني على تعظيم القبور،
واستحلال بيع الأراضي المقدسة لغير المسلمين؟ هل أخذوه من وصية النبي صلى
الله عليه وسلم في مرض موته قبيل وفاته، بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان،
وبإخراج المشركين واليهود والنصارى منها؟ أم من لعنه صلى الله عليه وسلم للذين
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (يحذر ما صنعوا) ، كما قالت عائشة راوية الحديث
في الصحيح؟ أم من لعنه صلى الله عليه وسلم لزائرات القبور والمتخذين عليها
المساجد والسرج كما رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم؟ أم من
حديث علي - كرم الله وجهه - في صحيح مسلم، وهو قوله لأبي هياج الأسدي:
ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا
طمسته، ولا قبرًا مشرفًا (أي: مرتفعًا) إلا سويته: (أي هدمته وسويته
بالتراب) ، وقال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى:
(أي: من القبور) قال النووي: ويؤيد الهدم قوله: (ولا قبرًا مشرفًا إلا
سويته) اهـ.
نعم إن الألوف من عوام المسلمين في بلاد كثيرة غير نجد يجهلون هذه
الأحاديث الصحيحة ويخالفون هديها، وفيهم تنفع دعاية علي بن حسين وتضليلهم،
ولكن لا تروج هذه الدعاية لدى ملك مصر الذي يحف بعرشه كبار علماء الأزهر،
ويعلم فوق ما يعلمون من سوء عاقبة جعل منطقة العقبة ومعان تحت الانتداب
البريطاني، ومن الخطر على سائر الحجاز وعلى شعائر الإسلام، ويعلم أن الأمير
عبد الله بن حسين ليس له من الحق في إمارة شرق الأردن الحقيرة عشر معشار ما
لدولة مصر من الحق في القطر السوداني العظيم، وقد طرد الإنكليز منه الجيش
المصري الذي فتحه بعد إكراه الإنكليز للحكومة المصرية على التخلي عنه، وهو
الذي عمره بأيديه وبملايين الخزينة المصرية! ! فكيف يطوف بعقل الشريف علي
أن ينصره ملك مصر على ابن السعود، الذي أعلن رسميًّا بأن يجعل أمر الحجاز
مفوضًا إلى العالم الإسلامي، ويخضع لما يقرره المؤتمر الذي يعقد لذلك؟ فهل يأبى
ملك مصر هذا ويرضى بأن يبقى بيده يبيع من أرضه للأجانب ما يشاء؟
إذا كان الوهابية قد هدموا بعض القبور أو الآثار كما قالوا، وقرر المؤتمر
الإسلامي إعادة بنائها، فلا يسع ابن السعود مخالفته، وأما استرجاع ما باعه
الشريف علي للإنكليز فليس رده بالسهل على المؤتمر الإسلامي ولا على غيره
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) علمنا بعد نشرنا لهذه المقالة في الأهرام أن مجلس إدارة الأمور الشرعية في القدس المسمى بالمجلس الإسلامي الأعلى أرسل إلى الهند برقية يؤكد بها الدعاية الهاشمية البريطانية في هذه المسألة جناياته الإسلامية، فأسفنا لغرور هذا المجلس بلقبه، وتدخله في مضايق هذه الفتن، وكانت أولى مبايعته لحسين بالخلافة، وهو مجلس إداري محلي ليس له من الصفات العلمية الدينية ولا غيرها من يوهمه اسمه، ولا ما يعطيه هذه الحقوق، وسنعود إلى بيان ذلك في الجزء التالي.
(2) وقد أرسل السلطان برقية أخرى لنقابة الصحابة كذب بها دعوى إطلاق الرصاص على قبة الحرم الشريف تكذيبًا صريحًا.(26/394)