الكاتب: أبو الكلام
__________
الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزية
العالم العلامة الأستاذ أبو الكلام
(2)
الإسلام والاستبداد:
إني مسلم، ولأني مسلم وجب عليَّ أن أندِّد بالاستبداد وأقبحه وأُشْهِرَ مساويه.
وليعلم أن الإسلام لا يعترف بالحكومة الشخصية، ولا بحكومة عصبة من
الموظفين يُنْقَدُونَ رواتبهم؛ لأنه نظام كامل للجمهورية، وإنما جاء ليرد إلى النوع
الإنساني حريته المغصوبة التي كان اغتصبها الملوك المستبدون، والحكومات
الأجنبية، والرؤساء الروحانيون ذوو الأهواء، والرجال الأقوياء من الجماعة، وقد
كانوا يعتقدون أن الحق للقوة والتسلط والقهر والغلبة، ولكن الإسلام بمجرد ظهوره
أعلن أن الحق ليس في القوة، ولا هو القوة، بل الحق هو الحق، وإنه ليس لأحد من
البشر أن يعبِّد عباد الله ويذلهم ويسخرهم. ثم قضى على سائر الامتيازات والمناصب
المؤسسة على الغلبة القومية والجنسية قضاء تامًا وبيَّن أن الناس كلهم متساوون في
الإنسانية، متساوون في الحقوق، متساوون في الحياة، وليس اللون والجنس والنسل
معيارًا للفضل والحسب، وإنما معياره (العمل) وحده، فأعلاهم قدرًا وأكرمهم
حسبًا: أحسنهم عملا وأتقاهم لربهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) .
الإسلام نظام جمهوري:
إن الإسلام أعلن (حقوق الإنسان) قبل انقلاب فرنسا بأحد عشر قرنًا، وليس
مجرد إعلان، بل وضع نظامًا عمليًّا للجمهورية الحق بالغًا في الكمال منتهاه،
ونظيرًا لنفسه في الإتقان، كما قال المؤرخ الشهير (غبون أو: جبون) فكانت
حكومة نبي الإسلام وخلفائه الأربعة، جمهورية كاملة، تتشكل برأي الأمة وانتخابها
ونيابتها. ولذا توجد في مصطلحات الإسلام كلمات جامعة لهذا الغرض لا توجد
مثلها في لغة ما. فحيث إنه لم يعترف بوجود ملك ومنصبه، وعوضه بمنصب
لرئيس الجمهورية سماه (بالخلافة) وهي في اللغة (النيابة) وسمى صاحبها
(بالخليفة) أي (النائب) الذي لا يملك قوة ولا نفوذًا بنفسه، وكذلك اختار لنظام
الجمهورية كلمة (الشورى) ووصف المسلمين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) والشورى ضد الاستبداد، فقرر به أن جميع أعمال الحكومة يجب
أن تكون برأي الجماعة وشوراها، لا برأي شخص وحكمه - فأي اسم للجمهورية
ورئيسها ونظامها يكون أحسن وأجمع من هذه الأسماء الإسلامية؟
البيوروكريسي الوطني والإسلامي ظلم أيضًا:
فما دام الإسلام ينهى المسلمين عن قبول حكومة إسلامية لم تتشكل برأي الأمة
وانتخابها. فما تكون قيمة هذا (البيوروكريسي) الأجنبي BUROCRECI في
عين المسلمين؟ وَهَبْ أنه لو تقوم الآن في الهند حكومة إسلامية على نظام شخصي.
أو تكون (بيوروكريسيا) لطائفة من الوطنيين، فإن الإسلام يوجب عليَّ أن أسميها
أيضًا ظالمة وجائرة، وأسعى لخرابها ونقضها كما أفعل الآن، ولست ببدع فعلماء
الإسلام ما زالوا يجاهرون بظلم الولاة ويحاسبون المستبدين من المسلمين أنفسهم.
وإني لأعترف بكل الأسف أن نظام الإسلام الجمهوري لم يُعمل به طويلاً بل
أضلت القيصرية والكسروية ولاة المسلمين، فحادوا على الطريق وآثروا التشبه
بقيصر وكسرى واستنكفوا من التشبه بأسلافهم الخلفاء الراشدين، الذين عاشوا طول
حياتهم في ثياب رثة كآحاد الناس، بيد أنه لم يَخْلُ عهد من أصحاب الحق الذين
ناقشوا الملوك والسلاطين في استبدادهم وتفردهم بالحكم، وتحملوا جميع تلك
المصائب التي صُبت عليهم في هذه السبيل بوجوه مستبشرة.
الوظيفة الملية للمسلم إعلاء الحق وإعلانه:
ولعمري إن المطالبة من مسلم بأن يسكت عن الحق ولا يسمي الظلم ظلمًا،
مثل مطالبته بأن يتنازل عن حياته الإسلامية، فإن كنتم لا ترون لأنفسكم أن تطالبوا
أحدًا بأن يرتد عن دينه، فليس لكم أن تطالبوا مسلمًا بأن يمتنع عن قوله للظلم: إنه
ظلم، لأن معنى كلتا المطالبتين واحد.
إن التصديق بالحق وإعلانه عنصر ضروري للحياة الإسلامية، فإن فصل
عنها فقدت أكبر ما تمتاز به؛ لأن الإسلام أسَّس قومية المسلمين عليه، وجعلهم
شهداء الحق على العالم كله، فكما يجب على الشاهد أن لا يتوانى في إبداء شهادته
كذلك يتحتم على المسلم أن لا يتتعتع في إعلاء الحق، ولا يبالي في أداء فرضه
بمصيبة وابتلاء، بل يصدع به حيثما كان، ولو لاقى دونه الحِمام. وتصير هذه
الفريضة أوكد وأوجب عندما يسود الظلم والجور، ويُمْنَع الناسُ من إعلان الحق
بالعنف والشدة؛ لأنه إن أجيز السكوت عنه خوفًا من بطش الجبارين الذين يقطعون
الألسنة ويفتنون الأبدان بأنواع من العذاب، يصبح الحق في خطر دائم، ولا يبقى
لظهوره وقيامه من سبيل، مع أن ناموس الحق فوق القوة، وليس بمحتاج في ثبوته
إلى تصديق القوة، ولا يضره سكوت الناس عنه قاطبة، بل إنه يظل على كل حال
حقًّا: حقًّا عندما نجد في سبيله ما نحب ونشتهي، وحقًّا عندما يكون دونه الموت
الزؤام، وهل تصير النار بردًا، والثلج نارًا لأننا نحبس ونسجن؟
وجوب الشهادة بالحق وخطر كتمانها:
لهذا أنبئ المسلمون في كتابهم أنهم (شهداء الحق) في أرض الله، فالشهادة
بالحق والصدع به وظيفتهم الملية وديانتهم القومية التي تميزهم عن سائر الأمم
الغابرة والآتية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة:
143) وقال لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء لله في الأرض [1] )
فالمسلم ما دام مسلمًا لا يستطيع كتمان هذه الشهادة، وإن حُبِسَ أو قُتِلَ أو أُلْقِيَ
جسدُه في النيران المتأججة.
وأخبر القرآن بأن مَن يكتم شهادته يبوء بغضب الله، ومأواه جهنم وبئس
المهاد، وكذلك أنبأ أن الأمم الكبيرة لم تهلك إلا لأنها كتمت الحق: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ
اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة: 159) [2] وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا
لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ولذا نجد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من آكد الفرائض الإسلامية،
وقد أخبر القرآن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس لعظمة المسلمين
وفخارهم القومي، وأنهم خير الأمم لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،
وأنهم إن حادوا عنه يفقدون سؤددهم ومجدهم الشامخ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو
ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم لَتَدْعُنَّهُ ولا يُسْتَجَابُ لكم) رواه
الترمذي عن حذيفة.
وأما أداء هذه الفريضة فعلى ثلاث درجات في ثلاث حالات مختلفة، قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليُغَيِّره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (رواه مسلم) .
وحيث إننا لسوء حظنا لا نقدر في هذه البلاد على تغيير منكرات الحكومة
بأيدينا لجأنا إلى الدرجة الثانية التي في وسعنا وهي أن نعلن بألسنتنا ظلمها ومساوئها،
ونندد بمثَالبها ونشهر بمعايبها.
الأركان الأربعة:
إن القرآن وضع أساس الحياة الإسلامية على أربع دعائم: الإيمان، والعمل
الصالح، والتوصية بالحق، والتوصية بالصبر. فالإيمان والعمل الصالح معناهما
ظاهر، أما (التوصية بالحق) فهي أن يوصي كلٌّ أخَاه بالتزام الحق.
(والتوصية بالصبر) هي أن يتواصيا بتجشم المهالك وتحَمُّل النوازل في
سبيل الحق، وإنما قرنت هذه بتلك؛ لأن وقوع المِحَن والمَشَاقّ أمرٌ لا مَنَاص منه
في سبيله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3) .
التوحيد الإسلامي والأمر بالمعروف:
التوحيد أساس الإسلام وقطب رحاه، وضد (الشرك) الذي أشرب المسلمون
بعضه في قلوبهم، ومعنى التوحيد أن يوحد الله في ذاته وصفاته، والشرك هو أن
يجعل له سبحانه شريك في ذاته أو صفاته. والتوحيد يُعَلِّم المسلمين أن الخوف
والخشوع لا يكون إلا لله الواحد العظيم، أما غيره فلا يخاف منه ولا يخشع له، وأن
مَن يخشى غير الله فهو مشرك به وجاعل غيره أهلاً للخوف والطاعة، وهذا ما لا
يجتمع مع التوحيد أبدًا.
الإسلام من أوله إلى آخره دعوة عامة إلى البسالة والجرأة والتضحية
والاستهانة بالموت في سبيل الحق، والقرآن يكرِّر هذا مرة بعد أخرى: {وَلاَ
يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (الأحزاب: 39) {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} (التوبة: 18)
{وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ
تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ
عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: 36) .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب
ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه الحاكم عن جابر على شرط
الصحيحين، وفي رواية: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (رواه أبو
داود وابن ماجه والترمذي) وقد كان يأخذ العهد من أصحابه أن يقولوا بالحق أينما
كانوا (كما رواه عبادة بن الصامت وأخرجه الشيخان) .
وقد ابيضت عين الدهر، ولم تر مثل هذه الضحايا العظيمة الكثيرة في إعلاء
كلمة الحق التي قدمتها الأمة الإسلامية في كل دور من حياتها، فتراجم علمائها
ومشايخها وسادتها عبارة عن هذه الضحايا.
ألا فلتعلم الحكومة الإنجليزية أن المسلم الذي أمره ربه أن يرحب بالموت
الأحمر، ويتغلغل في لجج الدواهي والكوارث ولا يقبل السكوت عن الحق - لا يخيفه
قانون (124) من العقوبات الهندية ولا يرده عن دينه وأداء فريضته؛ إذ أكبر عقاب
في هذا القانون حبس المرء طول حياته، والمسلم يرحب به ويتمناه إن كان لا بد منه
في سبيل الحق.
لا يوجد في الإسلام قانون 124:
إن تاريخ الأمة الإسلامية ينقسم إلى دورين مختلفين، فالدور الأول دور
نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وخلفائه الأربعة، وقد كان النظام الإسلامي
الجمهوري فيه قائمًا بأتم معانيه، فكانت الأمة متمتعة بالجمهورية الحق، ترتع في
رياض المساواة الإسلامية العامة، وتعيش عيشة هنيئة في ظلال الحرية الكاملة، لا
تخيفها الملكية المطلقة، ولا تثقل كواهلها القيصرية والكسروية، خليفتها ورئيس
جمهوريتها من آحادها، تُنَصِّبُهُ بأيديها وتحاسبه في جليل الأمور وحقيرها، ولا
تسمح له أن يُجْحِفَ بها أو يَسْتَبِدَّ برأيه دون رأيها، وهو نفسه يكون من أعدل
الناس وأفضلهم وأعلمهم بوظائف الخلافة والحكومة، يعيش عيشة الفقراء
والمساكين، يستر جسده بأطمار بالية، ويسكن في كوخ حقير، ولم يكن إذ ذاك
بدار الخلافة الإسلامية (القصر الأبيض) لجمهورية أمريكا.
وقد كان المسلمون في هذا الدور يقاطعون الخلفاء ويناقشونهم وهم على المنابر
يخطبون، حتى إن عجوزًا من عجائز العاصمة كانت تتجرأ عليهم وتخاطب الواحد
منهم على ملأ من الناس بقولها: (إن تزغ عن الحق نُقَوِّمك بسيوفنا) والخليفة لا
يؤاخذها ولا يعاقبها على ذلك بجناية (الثورة) بل يشكر الله ويحمده أن وجد في
الأمة ألسنة صادقة ذربة في إعلان الحق كهذه العجوز. وقد قام الخليفة مرة يوم
الجمعة خطيبًا وقال (اسمعوا وأطيعوا) فرد عليه رجل قائلاً: والله لا نسمع ولا
نطيع لأنك خنت الأمانة وأخذت القماش أكثر من سهام المسلمين، فنادى الخليفة
ابنه، فشهد أن أباه لم يخُن المسلمين، بل إني قد أعطيته سهمي من القماش، ومن
سهمينا فُصلت الجبة والرداء.
وقد كان سير الأمة هذا مع ذلك الخليفة الذي كانت تقشعر من خشيته جلود
الملوك في عقر دورهم، وتخر أمام هيبته عروش فارس ومصر، وتزلزل من
بأسه جدران القسطنطينية، ولكن مع هذا كله لم يكن عند الحكومة الإسلامية قانون
(124) يحاكم به الخليفة معارضيه من أصحاب الحق.
أما الدور الثاني فدور الحكومة الشخصية والملكية المطلقة، بدأ باستيلاء بني
أمية على الخلافة قهرًا وعنوة، فانقلبت فيه الجمهورية الإسلامية على رأسها وَحَلَّ
الاستبداد والقهر محلها، وظهر مكان الخليفة الإسلامي ملك مكلل بتاج الملك،
متربع على عرش الحكومة المذهب. ولكن استبداد هذا الدور مع سائر عقوباته
المريعة من الجلد بالسياط، والحبس في السجون، والقتل بالسيوف - لم يستطع أن
يصد المسلمين عن إعلان الحق، ويقعدهم عن الذَوْدِ عنه وحمايته، بل ظلت
ألسنتهم حادة ذَلِقَة في إعلانه، ونفوسهم متهيئة لتقديم المُهَج في سبيله، فأصحاب
الرسول صلى الله عليه وسلم ما عاشوا ظلوا ينددون بظلم الولاة ويشهرونه،
ويطالبونهم بتغييره وجعل الحكومة شورى بين المسلمين [2] ثم قام مقامهم التابعون
الذين تربوا في حُجُورهم وتخلقوا بأخلاقهم، فكانوا خير خلف لخير سلف، ما هابوا
غير الله، وما داهنوا أحدًا من خلقه، بل كانوا يجهرون بالحق، ويقولون للجبابرة
والطواغيت: (أصلحوا أو زولوا، أزالكم الله) وقد عد الإمام محمد الغزالي
أولئك الصحابة والتابعين الذين كانوا إلى زمن الخليفة هشام بن عبد الملك وأنكروا
ظلم الأمراء وطالبوهم بحكومة الشورى والنيابة، فبلغ عددهم أكثر من ثلاثة
وعشرين رجلاً [3] ، وإني أنبه ههنا أنه لا يوجد في شريعة الإسلام قانون (124)
(من القوانين الهندية) الذي كان يمنع هؤلاء الأخيار من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وإعلان الحق وتقبيح الظلم.
طلب الخليفة الأموي الشهير هشام بن عبد الملك طاوس اليماني يومًا إلى
مجلسه فلما دخل عليه لم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن قال: (السلام عليك يا
هشام) وجلس بإزائه، وقال: (كيف أنت يا هشام) فغضب هشام غضبًا شديدًا
حتى هَمَّ بقتله، وقال له: (يا طاوس، ما الذي حملك على ما صنعتَ؟) قال:
(وما الذي صنعتُ؟) فازداد غضبًا وغيظًا، وقال: (خلعتَ نعليك بحاشية بساطي،
ولم تقبل يدي، ولم تسلم عليَّ بإمرة المؤمنين، ولم تُكَنِّنِي، وجلستَ بإزائي بغير
إذني، وقلتَ: كيف أنت يا هشام؟) قال: (أما ما فعلتُ من خلع نعلي بحاشية
بساطك فإني أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، وأما قولك: لم تقبل
يدي، فإني سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لا يحل لرجل أن
يقبل يد أحد، إلا امرأته من شهوة أو ولده من رحمة، وأما قولك: لم تسلم عليَّ
بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك. فكرهت أن أكذب، وأما قولك:
جلستَ بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين عليًّا يقول: (إذا أردت أن تنظر إلى
رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام) فقال هشام: عِظْنِي،
فقال: سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن في جهنم حيات كالقلال،
وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته، ثم قام. انتهى ملخصًا.
وكان مالك بن دينار ينادي في جامع البصرة: (إن الله دفع إلى هؤلاء الملوك
غنمًا سمانًا صحاحًا، فأكلوا اللحم ولبسوا الصوف، وتركوها عظامًا تتقعقع)
وخاطب أبو حازم سليمان بن عبد الملك الجبار بقوله: إن آباءك قهروا الناس
بالسيف وأخذوا هذا الملك عُنْوَة من غير مشورة من المسلمين ولا رضًا منهم، حتى
قتلوا منهم مَقْتَلَةً عظيمة، وقد ارتحلوا، فلو شعرتَ بما قالوا وما قيل فيهم! فقال له
رجل من جلسائه: بئسما قلتَ، قال أبو حازم: إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء
ليبيننه للناس ولا يكتمونه! قال سليمان، وكيف لنا أن نُصْلِح هذا الفساد؟ قال: أن
تأخذه من حِلِّه، فتضعه في حقه. فقال سليمان: ومن يقدر على ذلك؟ فقال من
يطلب الجنة ويخاف من النار، فقال سليمان: ادع لي، فقال أبو حازم: اللهم إن كان
سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب
وترضى! فقال سليمان: أوصني، فقال: أوصيك وأوجز، عظِّم ربك ونزِّهه أن
يراك حيث نهاك، أو يفقدك من حيث أمرك!)
وكان سعيد بن المسيب التابعي الكبير يقول على رءوس الأشهاد في ولاة زمنه:
يجيعون الناس، ويشبعون الكلاب!
وقد ظل علماء الإسلام على هذه الديدنة بعد عهد بني أمية، غير هيابين ولا
وجلين في عهد العباسية، فهذا المنصور الخليفة العباسي القهار لما قال لسفيان
الثوري: (ارفع إلينا حاجتك) رد عليه قائلاً: (اتق الله! فقد ملأت الأرض ظلمًا
وجورًا!) .
ولما استقر على منصة الخلافة هارون الرشيد الخليفة العباسي الشهير، كتب
إلى سفيان الثوري كتابًا بيده يقول فيه:
(من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين، إلى أخيه سفيان بن سعيد بن
المنذر، أما بعد يا أخي! قد علمت أن الله تبارك وتعالى آخى بين المؤمنين وجعل
ذلك فيه وله، واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك، ولم أقطع منها
ودك، وإني مُنْطَوٍ لك على أفضل المحبة، واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من
إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت
الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي، وقرت به عيني، وإني
استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت إليك كتابًا شوقًا مني إليك شديدًا، وقد علمت يا أبا
عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد إليك كتابي فالعجل
العجل) .
وهل يعلم اللورد (ريدنغ) من كان هذا الرشيد الذي يكتب إلى عالم من علماء
المسلمين بهذه اللهجة اللينة؟ إنه قد كان يحكم ربع الكرة الأرضية ويخاطب قيصر
الروم في كتاب منه إليه بـ (يا ابن الكلب) كما صرَّح به المؤرخ جبن الإنجليزيثم
هل علم بما رد عليه ذلك العالم؟ إن لم يعلم فليسمع مني جوابه ثم يتدبر فيه، فإنه
يجلي له ما خفي عليه من حقيقة الإسلام، وجرأة المسلمين في إعلان الحق، ويُبيَّن له
أن ما تطلبه حكومته منا لا ينال، وأن المسلم لا يمتنع من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ولو فُجِعَ في النفس والمال.
قد كان من حديث سفيان أنه لما أتاه الرسول بكتاب الخليفة، كان في مسجد
الكوفة وحوله أصحابه، فرمى إليه الرسول الكتاب، فلما رآه ارتعد وتباعد عنه،
كأنه حية عرضت له، ثم أدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذ الكتاب فقلبه بيده ثم
رماه إلى مَن كان عنده، وقال يأخذه بعضكم يقرءه، فإني أستغفر الله أن أمس شيئًا
مسه ظالم بيده، فلما فرغ من قراءته، قال: (اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر
كتابه) فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة، فلو كتبت إليه في قرطاس نقي! فقال:
اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فإن اكتسبه من حلال فسوف يُجْزَى به، وإن كان
اكتسبه من حرام فسوف يَصْلَى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا، فيفسد علينا
ديننا، ثم قال اكتبوا:
(من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري، إلى العبد المغرور
بالآمال هارون الرشيد، الذي سُلب حلاوة الإيمان: أما بعد. فإني قد كتبت إليك
أعرفك أن قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وقليت موضعك، فإنك قد جعلتني
شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين
فأنفقته في غير حقه، وأنفذته في غير حُكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناءٍ عني،
حتى كتبت إليَّ تشهدني على نفسك! أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين
شهدوا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة عليك غدًا بين يدي الله تعالى- يا هارون
هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم،
والعاملون عليها في أرض الله تعالى، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل، أم
رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم، والأرامل والأيتام، أم هل رضي بذلك خلق
من رعيتك؟ فشدَّ يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابًا، وللبلاء جلبابًا، واعلم
أنك ستقف بين يدي الحَكَم العدل، فقد رُزِئْتَ في نفسك إذ سُلبت حلاوة العلم والزهد
ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالمًا، وللظالمين إمامًا،
يا هارون قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت سترًا دون بابك،
وتشبهت بالحَجَبَة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك
يظلمون الناس ولا ينصفون.
أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس، فكيف بك
يا هارون غدًا إذا نادى المنادي من قِبَل الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات: 22) أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فقدمت بين يدي الله
تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكها إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك
وأنت لهم سابق وإمام إلى النار. كأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق،
ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في
ميزانك زيادة عن سيئاتك، بلاء على بلاء، وظُلمة فوق ظُلمة، فاحتفظ بوصيتي،
واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح
غاية، والسلام) .
فلما وصل هذا الكتاب إلى هارون أقبل يقرأه ودموعه تنحدر من عينيه،
ويقرأ ويشهق. ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرأه عند كل صلاة حتى
توفي. انتهى ملخصًا.
ولم يكن العلماء والأئمة هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وحدهم، بل كان يوجد إذ ذاك من دهماء المسلمين وعامتهم من يؤدي هذه الفريضة
بكل شجاعة ورباطة جأش.
فبينما كان الخليفة المنصور العباسي يطوف بالبيت إذ سمع رجلاً عند الملتزم
يقول: (اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق
وأهله من الظلم والطمع) فدعاه المنصور وقال: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور
البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم؟ فقال
الرجل: (الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي
والفساد في الأرض: أنت) قال المنصور: ويحك! كيف يدخلني الطمع والصفراء
والبيضاء في يدي، والحلو والحامض في قبضتي؟ قال: وهل دخل أحدًا من الطمع
ما دخلك؟ إن الله استرعاك أمور المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع
أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجُرّ، وأبوابًا من الحديد، وحجبة
معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم، وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها،
واتخذت وزراء وأعوانًا ظلمة، إن نسيت لم يذكروك، وإن ذكرت لم يعينوك،
وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع والسلاح، وأمرت بأن لا يدخل عليك من
الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس
شيء إلا ما أرادوا، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم
شركاءك في سلطانك وأنت غافل ... إلى آخره. فبكى المنصور بكاء شديدًا حتى
نحب وارتفع صوته.
ومن ذا الذي لم يسمع بظلم داهية بني أمية الحجاج بن يوسف الثقفي وغلظته
وسفكه للدماء؟ ولكنه مع جبروته وغطرسته لم يستطع صد المسلمين عن إعلان
الحق، فلقد جيء إليه يومًا بحطيط الزيات أسيرًا، فلما دخل عليه قال: أنت
حطيط؟ قال: نعم سل ما بدا لك، فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال:
إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. قال: فما تقول
فيَّ؟ قال: أقول: إنك من أعداء الله في الأرض، تنتهك المحارم وتقتل بالظِّنّة،
قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول: إنه أعظم
جرمًا منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه.
ودخل رجل من المسلمين على المأمون بن الرشيد وقال له على ملأ من رجاله:
يا ظالم، أنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم. فأقبل عليه المأمون وقال: من أنت؟
قال: أنا رجل من السياحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه
حظًّا، فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم. فأمر بضرب عنقه.
فهكذا كان المسلمون في الأيام الأولى يتقربون إلى مولاهم بتعرضهم للملوك
والسلاطين وتخشينهم لهم في القول وتقديم مُهَجِهِم للهلاك، ولقد ظلوا على هذه
الوتيرة بعدُ، ولا يزال يوجد فيهم الربانيون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
حتى يأتي أمر الله كما ورد في الخبر: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون) .
الفتنة التتارية والفتنة الغربية:
فلا تفتنهم الفتنة الحديثة الغربية، ولا تستطيع ردعهم عن عملهم الحق؛ إذ
هي ليست بجديدة لهم، فلقد دُهموا قبلها بالفتنة التتارية، وزُلزلوا بها زلزالاً شديدًا،
فكما نرى الدول الأوربية ولا سيما إنجلترة قد دمرت البلاد الإسلامية ومزَّقت
شمل الخلافة العثمانية، وقضت على حرية الممالك الشرقية، وأباحت سفك دماء
المسلمين أنهارًا في السهول الأناضولية، كذلك كانت الفتنة التتارية، والتتار لم
يكونوا أناسي بل سباعًا ووحوشًا، انهالوا على البلاد الإسلامية كالسيل الجارف،
ووضعوا السيف في رقاب المسلمين، ودمروا الخلافة العباسية ودخلوا بغداد فجاسوا
خلال الديار. ولكن هل قدرت سيوف (هولاكو ومنكو وأباقا آن) السفاكين أن تقهر
العلماء الربانيين وتسكتهم عن الحق؟ كلا فهذا شاعر إيران الشهير السعدي
الشيرازي قد قال لهولاكو خان وجهًا لوجه: (إنك ظالم!) ودعا شمس الدين
التتاري على منكو خان وهو يسمع ويرى، ولعن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
أباقا آن في حضرته وعلى ملأ من جنوده. نعم كانت في أيدي التتار السيوف البتارة
تطير الهامات في طرفة عين، ولكن لم يكن في (الثورة الجنكيزية) قانون 124
الذي امتازت به الدولة البريطانية المدنية في بلاد الهند!
الحجاج وريدنغ:
فإذا كنا نحن المسلمين نعامل حكومتنا الإسلامية هذه المعاملة، فماذا يرجوه
منا عمال هذه الحكومة الأجنبية؟ وهل تكون الحكومة الإنجليزية الهندية (القانونية)
أكرم علينا من الحكومات الإسلامية التي طاعتها واجبة علينا (شرعًا ودينًا) ؟
وهل دولة الملك جورج الخامس ونيابة اللورد ريدنغ أعز علينا من خلافة عبد الملك
ابن مروان ونيابة الحجاج بن يوسف الثقفي؟ ولو غضضنا الطرف عن الفرق
الشرعي العظيم بين الحكومة الأجنبية غير الإسلامية والحكومة الوطنية الإسلامية،
وأنزلناهما منزلة واحدة، أفلا نقول في حكومات (جيسفورد) و (ريدنغ) ما قلناه
في حكومات الحجاج وخالد القسري من قبل؟ قد قلنا يومئذ: اتق الله، فقد ملأت
الأرض ظلمًا وجورًا! وهذا هو الذي نقوله اليوم، ولا نزال نقوله حتى يزول
الاستبداد أو نزول نحن!
والحقيقة أن ما نعمله الآن في الهند من ترك التعاون ومقاطعة الحكومة، إنما
كنا أمرنا به في مقابلة ظلم الولاة من المسلمين، لا في مقابلة الأجانب. ولو فهم
أساطين بريطانيا ودهاتها هذه الحقيقة لاعترفوا بأن مساهلة المسلمين ومداراتهم قد
بلغت منتهاها، وأنه لا ينبغي أن ينتظر منهم أكثر من هذا؛ إذ ليس وراءه إلا
الارتداد عن الإسلام أو النفاق فيه، ولا يمكنهم أن يفعلوا ذلك حبًّا في سواد عيون
البريطانيين (أو زرقتها) .
(للخطاب بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه البخاري.
(2) من سورة البقرة.
(3) أراد معاوية بن أبي سفيان أن يجعل ابنه يزيد خليفة بعده وأخذ يكره الناس على مبايعته فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فرد عليه قائلاً: (أهرقلية؟ إذا مات كسرى قام كسرى مكانه، والله لا نفعل أبدا) .
(4) المنار: ليس هذا من قبيل الحصر بل ما اتفق من الروايات التي تنقل للأسوة والقدوة، وإلا فالمنكرون للمنكر لم يكن حصرهم ممكنًا.(24/373)
الكاتب: حسني عبد الهادي
__________
من الخرافات إلى الحقيقة
(9)
بابك ومذهبه:
في أوائل خلافة المأمون ظهر في ولاية (مازندران) رجل اسمه بابك. وفي
تلك الآونة كان العرب مشغولين باختلافات داخلية. لذلك صمم الرجل أن يستفيد من
ذلك الاضطراب إعادة السلطنة الفارسية. وكان هذا المتخيل من طائفة مجوسية
اسمها (خرميه) .
وخلاصة مذهبه: هدم قواعد الأخلاق من أساسها؛ لأن الأخلاق أساس الدين.
ثم طفق ينشر عقيدة التناسخ، وعندما كثر أتباعه اعتصم في قلعة منيعة في
مازندان، وأخذ ينشر تعاليمه منها، وكان بين آونة وأخرى يخرج من قلعته وينهب
القرى والبلاد المجاورة، ويقتل الرجال ويأسر النساء، فكان قتل النفوس والزنا
وجميع المحرمات مباحة دينًا في مذهب بابك وبهذا كثر أتباعه.
ظل هذا الرجل في قلعة (بذر) عشرين سنة ينفث منها سمومه بين العرب
المسلمين لتجرئتهم على مخالفة أحكام الدين الإسلامي لأجل أن تنحل الرابطة التي
بينهم، وعندئذ لا يجد الساعون لإعادة المجد الفارسي أمامهم معارضين أشداء. ثم
أرسل الخليفة المعتصم عام 223 قائدًا تركيًّا اسمه (آفشين) للقضاء على هذا
الرجل فَوُفِّقَ لإراحة المسلمين من وجوده. ولكنه لم يستطع أن يقلع ما بذره من
الشرور في أدمغة العوام فلم تنقض سنة 260 إلا وقد ظهر مذهب آخر اسمه
(مذهب القرامطة) في زمان مُلكْشَاه أحد ملوك السلجوقيين في مازندران أيضًا.
وكان نبات هذا المذهب من الجذور السامة التي غرسها بابك
***
خروج الإسلامية عن صبغتها الأولى ومن السبب؟
إن شدة الأمويين في السياسة وحيلهم للاغتصاب قَلَبَ أفكار المسلمين عليهم.
فكان الإيرانيون والعراقيون ظمآنين للانتقام منهم، ولا سيما مظالم الحجاج وعبد
الله بن زياد فقد كانت من أهم الأسباب لانقلاب الأفكار على بني أمية؛ لأن الشدة
والبطش في الإدارة تنتج ضد ما يُرَاد منها دائمًا، فإن أنالت الجبارين شيئًا من
مُبْتَغَاهم عاجلاً، فلا بد أن تنعكس القضية بعد حين ويتباعد عنهم الناس. وبعد أن
يبقوا منفردين يُبطش بهم كما بطشوا بغيرهم، هذه قاعدة عامة جاء مفعولها في كافة
أدوار التاريخ.
وجملة القول: إن شدة الإدارة في زمان بني أمية كانت من جملة الأسباب
التي حملت رجال الفرس على العمل باسم الدين والانتقام فظهرت أحزاب متعددة
ظاهرها ديني وباطنها سياسي يراد به تفكيك عُرَى الإسلام والمسلمين، وأهم هذه
الفرق:
(1) الشيعة (2) الإمامية (3) الكاملية (4) العليائية (5) المغيرية (6) الهاشمية (7) اليونسية (8) المفوضة.
***
الشيعة
كان دعاتها يدعون أن الإمامة والخلافة أو الوصاية خفية أو جلية منحصِرة في
علي بن أبي طالب وأولاده، ويرفضون أساس الانتخاب والبيعة ويعدون الخلافة
من أركان الدين ويحيلون ترك النبي صلى الله عليه وسلم إياها بدون بيان ولا
وصية. إن بعض الشيعة لم يبعدوا عن أهل السنة كثيرًا مثل الجعفريين ومنهم أهل
إيران ولكن هناك غلاة الشيعة الذين يبغضون السني أكثر من بغضهم لليهودي
والنصراني! شيء غريب. إن عملهم هذا مخالفة صريحة لأفكار سيدنا علي بن أبي
طالب الذي يدّعون الانتصار له، وقد آن الأوان للعدول عن سياسات باطنها غير
ظاهرها، فليتنبه المسلمون [1] ! ! !
***
الإمامية
أول اختلاف ظهر بين المسلمين نشأ من مسألة الإمامة. نعم إن نارها أُطفئت
في (سقيفة بني ساعدة) يوم بويع الصديق. إلا أن ذلك كان ظاهريًّا ودليلنا الفرق
المتعددة التي ظهرت بعد ذلك.
ادعى بعض الناس أن هناك نصًّا نبويًّا على إمامة سيدنا علي، وأنه أفضل
الأنبياء والأولياء بعده صلى الله عليه وسلم وأن لأولاده وأحفاده ما له من الفضيلة
والرجحان. ويتهم هؤلاء أبا بكر وعمر وعثمان بغصب حقوق أبي الحسنين.
يزعم هؤلاء أن الإمامة مُنْحَصِرَة في اثني عشر إمامًا من أحفاد علي
المرتضى وأنه ظهر منهم إلى اليوم أحد عشر، وأن الثاني عشر موجود إلا أنه لم
يظهر إلى الآن، وأنه سيظهر يوم يعم الظلم وجه الأرض، فيملأها نورًا وعدلاً.
هذه العقيدة شبيهة بعقيدة الفُرس في (هرمز) لأن العجم كانوا يعتقدون أنه عندما
يسود الباطل على الحق يظهر (هرمز) وينصر الحق على الباطل.
فهذه الخرافة قد دخلت على الإسلام من إيران أيضًا. ولكنهم بدَّلُوا باسم
(هرمز) اسمًا عربيًّا هو (المهدي والقائم المنتظر) ويزعم هؤلاء أن اسم علي كان
مذكورًا في القرآن الشريف، وأن عثمان ذا النورين أخرجه منه حين الجمع.
وإلى القارئ الكريم الآيات المزعوم إخراجها من القرآن الشريف [2] :
***
ما افتراه بعض الزنادقة على القرآن
(يا أيها الذين آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب
يوم عظيم. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم. إن الذين يوفون بعهد الله
ورسوله في آيات (؟) لهم جنات النعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم
ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا الوحي
الرسول (؟) أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء
واصطفى من الملائكة والرسل (؟) وجعل من المؤمنين (؟) أولئك في خلقه يفعل
الله ما يشاء. لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذتهم
بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عادًا وثمودًا بما كسبوا وجعلهم لكم
تذكرة أفلا تتقون. ليكون لكم آية وإن أكثركم فاسقون، إن الله يجمعهم يوم الحشر
فلا يستطيعون الجواب حين يسألون، إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم. يا
أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون، قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي
معرضون (؟) مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم (؟) جنات النعيم، إن الله
لذو مغفرة وأجر عظيم، وأن عليًّا لمن المتقين، وإنا لنوفيه حقه يوم الدين. ما
نحن عن ظلمه غافلين، وكرمناه على أهلك أجمعين، فإنه وذريته لصابرون، وإن
عدوهم إمام المجرمين، قل للذين كفروا بعد ما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا
واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد
ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون، يا أيها الرسول إنا أنزلنا إليك آيات بينات فيها
من يتوفه مؤمنًا (؟) ومن يتوله بعدك يظهرون (؟) فأعرض عنهم إنهم
معروضون، إنا لهم محضرون، في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون، إن
لهم في جهنم مقامًا عنه لا يعدلون (؟) فسبح باسم ربك وكن من الساجدين، ولقد
أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون (؟) فصبر جميل (؟)
فجعلنا منهم القردة والخنازير، ولعناهم إلى يوم يبعثون. فاصبر فسوف يبصرون،
ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين، وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم
يرجعون، ومن يتول عن أمري فإني مرجعه (؟) فليتمتعوا بكفرهم قليلا، فلا
تسأل عن الناكثين، يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهدًا فخذه
وكن من الشاكرين.
إن عليًّا قانتًا بالليل ساجدًا (؟) يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه. قل هل
يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون (؟) سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على
أعمالهم يندمون، إنا بشرناك بذرية صالحين، وإنهم لأمرنا لا يخلفون، فعليهم مني
صلوات ورحمة أحياء وأمواتًا يوم يبعثون، وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة،
وهم في الغرفات آمنون، والحمد لله رب العالمين [*] اهـ.
ومن نظر هذه العبارات يرى لأول وهلة أن لا علاقة بينها وبين القرآن الكريم.
وما سبّب تلفيقها إلا تفريق كلمة المسلمين. ليتهيأ للفرس إعادة مجد إيران أثناء
اشتغال الأمة بالخصام [3] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: قد أخطأ المؤلف خطأً ظاهرًا في جعله الشيعة فرقة مستقلة غير الإمامية وجعلها منقسمة إلى معتدلين كالجعفرية - وهم شيعة إيران - وإلى غلاة لم يذكر أين هم ولا ما اسمهم، فالجعفرية إذًا غير الإمامية، والصواب أن الجعفرية هم الإمامية، وأن الشيعة مقسم لا قسم، فمن أقسامها الإمامية الجعفرية، ومنها الزيدية وهم أشدهم اعتدالاً وأقربهم من أهل السنة، ومنها الفرق الأخرى التي ذكرها وغيرها، ثم إنه قد نقض ما بناه من جعل جميع ما أنكره على الشيعة والظاهرية والباطنية نابعًا من إيران وصادرًا عن روح الإيرانية المجوسية وقد نبهنا من قبل وبيَّنا أن هذا البحث كله تاريخي، وأن روح الجامعة الإسلامية قد استيقظت في جميع المسلمين وطفقت تصلح ما أفسد الدهر بينهم.
(2) إن هذا مما افتراه بعض الروافض وسموه سورة، ولم يكن مفتريها متقنًا للغة العربية فجاءت في غاية الضعف والركاكة على أن أكثر ألفاظها منقولة من سور أخرى ولكنه لم يحسن التأليف بينها، ولم يضعها في مواضعها اللائقة بها فكثر خطأه في مفرداتها وأساليبها، وظن أنه حاكى القرآن، وأبطل حجة الإعجاز بتقليده في الفواصل لآياته لظنه أنه لا يمتاز على كلام البشر إلا بفواصله، ومن سوء حظه وحظ فرقته أنه جمع بين ضعف العقل والفهم والحرمان من العلم، فخاطب المؤمنين بقوله (وإن أكثركم فاسقون) ولو شئت أن أبين أغلاطه اللغوية النحوية والبيانية لألفت فيها كتابًا وناهيك بقوله: أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفه مؤمنًا ومن يتوله من بعدك يظهرون! وقوله: ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل! وناهيك بقوله: إن عليًّا قانتًا بالليل ساجدًا يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون! تأمل أيها القارئ كيف حرف بهذه الصفة قول الله تعالى: [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 9) .
(*) انتهت الأفيكة الركيكة، وقد نبهنا بعلامة الاستفهام إلى أقبح ذلك فيها، ولظهور ذلك لكل أحد لم يعدها أحد شبهة تحتاج إلى الرد عليها لا من المسلمين ولا من غيرهم.
(3) حاشية للمترجم: إن هذه الطريقة هي نفس الطريقة التي سلكها نصارى سورية الذين تعلموا في المدارس الأجنبية: الإيرانيون قصدوا إعادة مجد كسرى ففرقوا بين أكابر الصحابة وقصد نصارى السوريين إعادة مجد قيصر الرومان ففرقوا بين العرب والترك بحجة العربية فما كانت النتيجة بعد أن نالوا مبتغاهم؟ تركوا العرب والعربية وأصبحوا إنجليزا وفرنسيين وهذه غاية من يستعجل الشيء قبل أن يستكمل وسائطه، الفرس أسسوا دولة العباسيين ثم الصفويين ونالوا المبتغى ونصارى سورية أيضًا أسسوا فيها حكومتي الإنجليز والإفرنسيس ونالوا المقصد وفي الحالتين خسر العرب المسلمين وفي الحالتين كانوا آلة لزوال حاكميتهم ولحد اليوم قل من يعتبر.(24/388)
الكاتب: مصطفى عبد الرازق
__________
ذكرى رينان في الجامعة المصرية
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني
(2)
كلمة المنار في المحاضرة [*]
تفصيل لرأي السيد جمال الدين في أن الحضارة والحكمة منوطتان بالدين:
تقدم أن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق قد استنبط مما فهمه من كلام السيد
الذي خلص إليه من ثلاث ترجمات أنه بعد وصوله إلى باريس في سنة 1883 دخل
طورًا جديدًا تغير فيه اعتقاده ورأيه في الإسلام، وكونه منشأ العلم والحكمة
والعمران، وبيَّنا أن ما نقله إلينا من الترجمة الثالثة لكلام السيد فيه ما يدل على
خلاف ذلك، وأن فهمنا مُؤَيَّد بما نقله لنا عنه من عاشروه قبل سنة 1883 وبعدها
وبآثاره بعدها، وأهمها جريدة (العروة الوثقى) التي أنشأها بباريس في أوائل سنة
1884 عقب رده على رينان، وشهادة هذا له بالفلسفة والعرفان، لظنه أنه (آريّ)
من عنصر الأفغان.
نسبة هذه الجريدة إلى السيد جمال الدين متواترة؛ لأن ألوفًا من النُّسَخ كانت
تُوَزَّع منها في عهده في أقطار الأرض كلها، ولا يزال في الناس من يحفظ نسخها
الأصلية، ومَن نَسَخَها عنها مثلنا، على أنها طبعت بعد ذلك برمتها. وقد صرح
في فاتحة العدد الأول منها بأنه هو المنشئ لها والمدير لسياستها، والشيخ محمد
عبده وإن كان رئيس تحريرها، لم يكن يخرج فيها عن رأيه بل كان يعبر عنه،
وكثيرًا ما كان يتلقاه منه، وكان الغرض منها معالجة ما طرأ من الضعف على
المسلمين وإرشادهم إلى الوسائل التي يستعيدون بها قوتهم ومجدهم وحضارتهم
وإنقاذ بلادهم من الأجانب، ووقاية دينهم مما يهدده من النوائب، وقد اعتمد في ذلك
كله على إرشاد القرآن وهدايته، والرجوع في فهمه والعمل به إلى منهج الخلفاء
الراشدين وسائر السلف الصالح.
ومن المعلوم بالضرورة أن هذا الغرض لا يتم في هذا العصر إلا بالعلوم
والفنون الرائجة في أوروبة وأمريكة والتي هي منشأ قوتها وحضارتها.
أفرأيت لو كان السيد جمال الدين رجع بباريس سنة 1883 عن رأيه في كون
الدين ولا سيما الإسلامي لا يتفق مع العلم والحكمة، أكان يبني سياسته في إعادة مجد
المسلمين على هذه الدعوة؟ كلا إنه لو دخل في الطور الذي استنبطه صاحب تلك
المحاضرة، لجعل دعوته فلسفية محضة مشوبة بفصل الدين من السياسة، وبالتشكيك
في الدين أو الصد عنه، كما فعل النصارى في أوروبة من قبل، وكما يفعل مقلدتهم
من متفرنجة المصريين والترك والفرس.
لكنه لم يفعل ذلك بل جعل دعوة الإصلاح كلها قائمة على إحياء هداية القرآن
وصحيح السنة، وسيرة السلف الصالح من الأمة، وهذه حجتنا الناهضة على أن ما
سلم به لرينان من اضطهاد بعض المسلمين للعلم إنما كان بسوء فهمهم للإسلام،
وأن الإسلام المشوب بالبدع والأهواء هو الذي يناهض الحكمة والعلم لا إسلام
القرآن الذي كان المسلمون يفهمونه في إبان سلطان الدولة العربية قبل تغلب العجم
عليهم وتحكمهم في دينهم ودنياهم، كما نقلنا التصريح بذلك عن الأستاذ الإمام
بالإجمال، وأحلنا على كتابه (الإسلام والنصرانية) لمن يريد التفصيل، وننقل هنا
بعض الشواهد على ذلك من أشهر مقالات (العروة الوثقى) التي لا انفصام لها.
(الشاهد الأول)
من العدد الثاني الذي صدر بباريس في 20 مارس سنة 1884.
جاء في أواخر مقالة (الجنسية والديانة الإسلامية) من هذا العدد ما نصه:
(ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية وثابر
على رعايتها، وأخذ الدهماء بحدودها، وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع
لها، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز بسطة في
الملك وعظمة في السلطان، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة
بأرباب هذا الدين، ولا يتجشم في ذلك أتعابًا ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير
الجيوش ولا مظاهرة الدول العظيمة، ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية
ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين والرجوع إلى الأصول
الأولى من الديانة الإسلامية القويمة، ومن سيره هذا تنبعث القوة، وتتجدد لوازم
المنعة.
أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم تكن وجهته كوجهة
سائر الأديان إلى الآخرة فقط، ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في دنياهم
وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة وهو المعبر عنه في الاصطلاح
الشرعي بسعادة الدارين) ... إلخ.
ثم ختم المقالة بهذه الجملة (فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى قواعد
شرعهم وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد آتاهم الله
بسطة في الملك وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة هذا الدين، وفقنا الله للسداد،
وهدانا سبيل الرشاد) .
(الشاهد الثاني)
من العدد 3 المؤرخ في 27 مارس سنة 1884.
في هذا العدد مقال طويل جعلنا عنوانه في تاريخ الأستاذ الإمام (ماضي الأمة
وحاضرها، وعلاج عللها) ذكر فيه خلاصة آراء أهل العصر في ترقية الأمم من
نشر الجرائد وإنشاء المدارس، وتعميم المعارف، وبيَّن أن هذا العلاج في
المصريين والعثمانيين لم يأت بالمطلوب من الحرية والعزة والاعتصام من استذلال
الأجانب إذ كان تقليدًا لم تكن له غاية إلا نسف ثروتهم، وأن المتشدقين منهم بألفاظ
الحرية والوطنية والجنسية وما شاكلها يصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا
تعرف غايتها، ولا تدرك بدايتها، وإن المقلدين من كل أمة المنتحلين لأطوار
غيرهم يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط
الوساوس، ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين
قلدوهم، واحتقار مَن لم يكن على مثالهم، شؤمًا على أبناء أمتهم، يذلونهم
ويحقرون أمرهم، ويستهينون بجميع أعمالهم. إلى أن قال: ولهذا لو طرق
الأجانب أرضًا لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم، ويعرضون
أنفسهم لخدمتهم إلخ (ثم بين رأيه بما نصه) : (لا أطيل عليك بحثًا، ولا
أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني أستلفت نظرك إلى سبب يجمع
الأسباب، ووسيلة تحيط بالوسائل: أرسل طرفك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد
النباهة وضعفت بعد القوة، واسترقت بعد السيادة، وضيمت بعد المنعة، وتبين
أسباب نهوضها الأول حتى تتبين مضارب الخلل، وجراثيم العلل، فقد يكون ما
جمع كلمتها، وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها، وصعد بها إلى مكانة
تشرف منها على رءوس الأمم وتسوسهم وهى في مقامها بدقيق حكمتها - إنما هو
دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة، داع إلى
المحبة، مُزَكٍّ للنفوس مطهِّر للقلوب من أدران الخسائس، مُنَوِّر للعقول بإشراق
الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات
البشرية وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية. فإن كانت
هذه شرعتها، ولها وردت، وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها
وهبوطها عن مكانتها إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًّا، وحدوث بدع
ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد
إليه الدين، وعمَّا أتى لأجله، وما أعدته الحكمة الإلهية له، حتى لم يبق منه إلا أسماء
تذكر وعبارات تقرأ. فتكون هذه الحادثات حجابًا بين الأمة وبين الحق الذي تشعر
بندائه أحيانًا بين جوانحها …) .
(فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما
كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق،
وإيقاد نيران الغيرة وجمع الكلمة وبيع الأرواح لشرف الأمة؛ ولأن جرثومة الدين
متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها
نور خفي من محبته، فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها
في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا لشؤونهم، ووضعوا أقدامهم على طريق
نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نُصْبَ أعينهم، فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا
بسيرهم منتهى الكمال الإنساني …)
(ومن طلب إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها
شططًا وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية وخالف فيها نظام الوجود فينعكس
عليه القصد ولا يزيد الأمة إلا نحسًا، ولا يكسبها إلا تعسًا) .
(هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن
محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة
الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل، وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى
أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد. هل نسيت تاريخ
الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات، وإتيان الدنايا
والمنكرات حتى إذا جاءها الدين فوحدها وقوَّاهَا وهَذَّبَهَا، ونَوَّرَ عقولها وقَوَّم أخلاقها
وسدَّد أحكامها، فسادت على العالم، وساست من تولته سياسة العدل والإنصاف،
وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها
وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى بلادهم طب بقراط
وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو، وما كانوا
قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها
ومدنيتها في التمسك بأصول دينها …) .
(تنبيه) إن هذه الجملة وحدها نص صريح في الرد على مزاعم رينان في
الإسلام على القاعدة التي بيَّناها. وعلى خطأ الأستاذ الشيخ مصطفي عبد الرازق
فيما فهمه من الترجمة الثالثة من رده.
(الشاهد الثالث)
من العدد الرابع المؤرخ في 3 إبريل 1884.
المقالة الاجتماعية لهذا العدد في المقابلة بين الإسلام والنصرانية وأتباعهما في
فنون الحرب، وكيف انحصرت في اتباع دين الزهد والسلم، وبعد أن بيَّن سبب
عناية الشعوب الأوربية في القتال وفنونه وآلاته خلافًا لتعاليم دينهم، قال: (أما
المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا وأخذوا من كل كمال حربي حظًّا،
وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المُقَارَعَة،
وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه وخلطوا بأصوله
ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى اخترقتها
وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة
فيما بين القرن الثالث والرابع وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر الوجود
وعدُّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من
الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها في الكتب
وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وأن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم
وفتورًا في العزائم.
وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره
عن العامة خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم والتقصير في إرشاد الكافة إلى
أصول دينهم الحقة، ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة
الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة وبين فئة معينة. لعل
هذا هو العلة في وقوفهم بل المُوجِب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من عنائه اليوم ما
نسأل الله السلامة منه) .
(إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن
رعايته وإن كان حجابها كثيفًا لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها
بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين
المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم،
ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة، فلا بد يومًا أن
يسطع ضياؤها ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يُتْلَى بين المسلمين وهو
كتابهم المنزل، وإمامهم الحق، وهو القائم بأمرهم، بحماية حوزتهم، والدفاع عن
ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المَنَعَة من كل سبيل، لا يعين لها وجهًا، ولا
يخصص لها طريقًا - فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى
مقاضاة الزمان ما سلب منهم فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة
والمصاولة، حفظًا لحقوقهم وضنًّا بأنفسهم عن الذل، وملتهم عن الضياع، وإلى الله
تصير الأمور) .
(الشاهد الرابع)
من العدد الخامس المؤرخ في 10 إبريل 1884.
المقالة الاجتماعية لهذا العدد في الاعتصام وجمع كلمة المسلمين بيّن فيها هدي
الدين الإسلامي في الموضوع وأثره في سلف المسلمين وخلفهم، وشكا مما ألم بهم
من التفرق والانفصام بعد الوحدة والالتئام، وبيَّن سبب ذلك وبدأه بقوله: (بدأ
هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن
رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم
والتفقه في الدين والاجتهاد أصوله وفروعه كما كان الراشدون رضي الله عنهم) .
(كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حدٍّ
لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى خلافة
عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس.
تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك،
فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل
القوة والشوكة، ولا يرعون جانب الخلافة) .
(وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،
وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً، حتى أذهلوهم عن أنفسهم
فتفرق الشمل بالكلية، وانفصمت عُرَى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا … إلخ) .
إلى أن قال: (وكان الواجب على العلماء - قيامًا بحق الوراثة النبوية التي
شرفوا بها على لسان الشارع - أن ينهضوا لأحياء الرابطة الدينية ويتداركوا
الاختلاف الذي وقع في الملك ... إلخ)
(تنبيه) السيد جمال الدين يحقق أن السبب الأول لضعف المسلمين هو
انتقال الخلافة إلى غير العلماء المجتهدين في الدين خلافًا لرينان الذي يزعم أن
سبب ضعف المسلمين هو دينهم حتى إنه زعم أن العلماء الكبار من خلفاء العباسيين
كالمنصور والرشيد والمأمون كانوا مرتدين عن الإسلام في باطنهم الذي زعم أنه
اكتشفه هو بعد زهاء ألف سنة! !
(الشاهد الخامس)
من العدد السادس المؤرخ في 24 إبريل.
المقالة الاجتماعية لهذا العدد موضوعها (التعصب) بيَّن فيها حقيقة التعصب،
وهو القيام بالعصبية لحماية من تجمعهم رابطة نسب أو جنس أو وطن أو دين
بحماية أنفسهم من عدوان المخالفين لهم، وتعاونهم على القيام بمصالحهم ومنافعهم،
وبيَّن أنه وصف كسائر الأوصاف له حد اعتدال وطرفا تفريط وإفراط، وأن
الاعتدال فيه من أسمى الفضائل، كما أن الخروج عنه من أضر الرذائل، ثم قال ما
نصه وهو محل الشاهد:
(ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني
وزعموا أن حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم، وتضافرهم لدفع ما يَلُمُّ
بدينهم من غاشية الوهن والضعف - هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية
ويحجبهم عن نور العلم والمعرفة ويرمي بهم في ظلمات الجهل ويحملهم على الجور
والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم. ومن رأي أولئك المتفقين أن لا سبيل
لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبة الدينية ومحو أثرها وتخليص
العقول من سلطة العقائد، وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي ويخوضون في
نسبة مذام التعصب إليهم) .
(كذب الخراصون ! إن الدين أول معلم، وأرشد أستاذ، وأهدى قائد للأنفس
إلى اكتساب العلوم والتوسع في المعارف، وأرحم مؤدب، وأبصر مروض يطبع
الأرواح على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة، ويقيمها على جادة العدل، وينبه
فيها حاسة الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإسلام فهو الذي رفع أمة كانت من
أعرق الأمم في التوحش والقسوة والخشونة، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة
والمدنية في أقرب مدة، وهي الأمة العربية) اهـ.
(تنبيه) هذا نص صريح في الرد على رينان أثبت فيه أن العرب بلغوا
أرقى مراقي الحكمة (الفلسفة) والمدنية بدينهم، ودليل على أن السيد جمال الدين
لم يتغير رأيه في الدين بباريس سنة 1883.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر بالعدد السابق ص 303.(24/393)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخوارج والإباضية
راجعنا بعض أهل العلم فيما جاء في الجزء الرابع من رسالة (أهل
الصفة) لابن تيمية (276) من قتال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه
للمارقين، قال: إنه يدل على أن المراد بهم الخوارج ويخشى أن يكون في
نشر هذا تفريق بل إغراء بينهم وبين جيرانهم ... فقلنا: إن شيخ الإسلام بيَّن
في المنهاج أن عليًّا رضي الله عنه لم يكفر الخوارج بل قاتلهم لخروجهم عليه
وبدئهم إياه بالقتال وعاملهم معاملة الإسلام، وقد نقلنا عنه ذلك في المنار من
عهد غير بعيد. وقد قتل علي غيرهم من المرتدين الذين قالوا بألوهيته.
هذا وإن حديث المارقين المذكور في (ص 276) رواه البخاري في قوم
يخرجون في آخر الزمان، وقد تكلف في تأويله من حملوه على الخوارج على
أنه لم يبق من طوائف الخوارج إلا الإباضية المعتدلون. وهم من أشد
المسلمين استمساكًا بالإسلام وما يخالفون به أهل السنة فهم فيه كأهل كل
مذهب، عامتهم مقلدون، ومتعلموهم متأولون، وإذا كان جمهور أهل السنة لم
يكفروا غلاتهم المتقدمين، أفنفرق كلمة المسلمين بتكفير متأخريهم المعتدلين؟
__________(24/401)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة زعيم عربي علوي عظيم
السيد محمد علي الإدريسي
في منتصف شهر شعبان نعت إلينا أنباء عدن السيد محمد علي الإدريسي أمير
عسير وتهامة - اليمن السفلى - فشككنا كعشيرته وجماهير الناس هنا في صحة
الخبر، ولم نستيقن إلا في آخر شعبان، وكان سبب الشك أنه كان قد جاء قبل ذلك
بأشهر نبأ من الحجاز بوفاته ثم ظهر كذبه.
قد امتاز السيد محمد علي الإدريسي في عشيرته بمزايا عظيمة لا يجتمع مثلها
عادة إلا للأفراد الأفذاذ في الأجيال، كالذكاء والسخاء والشجاعة والحزم والإقدام،
مزايا مكنته من تأسيس مملكة مستقلة بنفسها في بلاد يتنازع الحكم والسلطان فيها
أقدم دولة عربية إسلامية - وهي دولة أئمة اليمن - وأقوى دولة إسلامية عسكرية -
وهي الدولة العثمانية- وقد اجتمعت الدولتان على مناوأته وقتاله واستعانت الدولة
العثمانية عليه بحكومة الحجاز فكان له الفلج والظفر، وبذلك تأيد حكمه واستقر.
الإدريسيون شيوخ طريقة صوفية، لا قواد جيوش ولا رجال أحكام
وسياسة، ولجدهم السيد أحمد بن إدريس شهرة ذائعة بالصلاح والولاية، وهو مدفون
بجوار (صبيا) عاصمة عسير، ولطريقته في تلك البلاد أتباع كثيرون يخضعون
لشيوخ الطريقة خضوعًا روحيًّا إذعانيًّا، لا يقبل أهله فيه بحثًا ولا برهانًا عقليًّا ولا
دينيًّا، كدأب عامة بلاد اليمن وإفريقيا، فمثل الإدريسية كمثل إخوانهم السنوسية.
ومما امتاز به السيد محمد علي - رحمه الله تعالى - على شيوخ طريقتهم في
هذا العصر أنه طلب العلم في الأزهر بجد وعناية فاستفاد في سنوات قليلة ما لا يدرك
أكثر المجاورين في هذا المعهد مثله في بضع عشرة سنة، بل ما يقصر عنه فيه أكثر
الشيوخ الذين يقضون عشرات السنين هنالك متعلمين ومعلمين، ذلك بأنه كان نَيِّر
العقل، مستقل الفكر، لم تَقْوَ خرافات الطريقة ولا طريقة التعليم الأزهري العقيمة
على أن تغلب على فطرته الزكية، ومن آيات ذلك أنه كان راضيًا عن المنار معجبًا
به كثير الثناء عليه، وقد اقتنى جميع مجلداته السابقة على الحرب العامة الكبرى التي
قطعت الصلة بيننا وبينه، ولما عادت في هذا العام جدَّد الاشتراك فيه، وكنا على
وشك بإرسال بقية المجلدات التي تجددت لإكمال مجموعته عنده، ومنها أنه عقد اتفاقًا
رسميًّا مع سلطان نجد كان من وسائله أنه هو على مذهب السلف في عقيدته، وقد هدم
القبة التي كانت مبنية على قبر جده معترفًا بأنها من البدع المخالفة للأحاديث
الصحيحة.
ذهب الفقيد إلى بلاد عسير بعد ما كان من طلبه للعلم بقصد الإرشاد والتعليم،
ولم يبلغنا عنه أنه كان مستشرفًا للإمارة والحكم، فكان إقبال الناس عليه عظيمًا،
وكانوا يتحاكمون إليه حيث لا حكم للدولة العثمانية في داخلية البلاد فيحكم بينهم
بالشرع على مذهب الإمام الشافعي الذي ينتمي إليه أكثر الناس هنالك، فارتابت فيه
الدولة العثمانية، فكان رجالها يكيدون له، ويذيعون عنه أنه يغش الناس بالدخل
والتلبيس وإظهار الكرامات المصنوعة، كزعمهم أنه يظهر للناس في بعض الليالي
أنوارًا كهربائية من أدوات يخفيها عنهم فيوهمهم أنها تفيض من صدره على وجهه،
وأمثال ذلك. والمعروف عنه أنه لم يكن يخطر بباله أن يخرج الدولة من البلاد
ليؤسس له ملكًا فيها، بل كان يريد مساعدتها على إدارتها وإصلاح شؤونها بنفوذه
الديني بشرط أن تكون أحكامها فيها شرعية محضة، وأن يلتزم حكامها
الإداريون والقضائيون شعائر الدين، لا كذلك الباشا الذي أرسلوه إليه ليفاوضه
فذهب مخاصرًا لامرأة إفرنجية بملابسها المعتادة، ومعها كلب لها فدخلت المسجد
مع الباشا وتبعها الكلب.
وقد أرسل الاتحاديون إليه بعد إعلان الدستور الشيخ توفيق خوجه العالم
السائح المشهور ليكشف لهم حقيقته، وكان يعرف شخصه إذ كانا مجاورين في
الأزهر، فكتب إليهم بما وقف عليه من حسن نيته وكذب الطاعنين فيه، وأخبروني
بذلك في نادي نور عثمانية بالآستانة فذكرته للصدر الأعظم حسين حلمي باشا فرمى
الشيخ توفيقًا بالبلاهة والغفلة، ولكن التهمة إغراء، وفي الحكم النبوية: (إن
الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود والحاكم عن أربعة من
الصحابة رضي الله عنهم.
وقف الرجل على كيد رجال الدولة له فأخذ حذره وأجمع أمره على المقاومة،
وانتهى ذلك بالحرب، فقتل في معركة واحدة من عسكر الدولة بعدد جميع رجاله،
وعجزت الدولة مع إمام اليمن وشريف مكة عن القضاء عليه، بل كان ذلك هو
السبب لرسوخ قدمه وتوطيد سلطانه.
وقد أنكر المسلمون عليه في كل قطر مصافاته للحكومة الإيطالية في أثناء
حربها لطرابلس واستمداد للسلاح والمال منها. وكان بعض العقلاء يجيب هؤلاء
المنكرين بأنه لا حرج على مَن يأخذ من الأجنبي. وإنما الحرج على من يعطيه،
وهو لم يعط أحدًا شيئًا ولم يساعد إيطالية على أهل طرابلس ولا على الترك بشيء.
ثم أنكروا عليه موالاته للدولة البريطانية في أثناء الحرب الكبرى وأخذه منها
السلاح والمال، ولذلك كافأته بإعطائه ثغر الحديدة، وأجاب عنه المحبون له بأن
اتفاقه مع الإنجليز لم يكن إلا كاتفاقه مع الطليان من قبل، وهو أن يأخذ ولا يعطي،
فلم يرض أن يقاتل الترك وإنما التزم للإنجليز أن لا يساعدهم أيضًا، وقيل: إنه
كان يسمح للأهالي بإمدادهم بالقوت؛ وأن الإنجليز عاتبوه على ذلك فأجاب بأنه لم
يساعدهم بنفسه، ولم يدخل في مواد الاتفاق أن يمنع الأهالي من الاتجار معهم،
ولكن يقال: إن في اتفاقه معهم الاعترافَ لهم بحماية سواحله.
وقد نقل إلينا عنه أنه قال: إنه لا يستحل أن يبدأ أحدًا من المسلمين بقتال،
وإنما يقاتل من يقاتله، فحكم الأقوام والشعوب عنده كحكم الأفراد، فاعتداء بعضها
على بعض كاعتداء الصائل إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل أبيح قتله كما هو مقرر في
الفقه.
ولكن لا ندري أكان يلتزم الدفاع في حربه لإمام اليمن ويقف فيه عند حد
الضرورة؟ كيف وقد روي أنه استولى على عدة مواقع من مملكة الإمام؟ وأنه كان
يطمع في أخذ سائر البلاد التي يقطنها الشافعية. ولو كان يعتقد صحة إمامة الإمام
يحيى أو السلطان التركي لما كان لاجتهاده هذا وجه شرعي؛ لأن الإمام الحق هو
صاحب السلطان فلا يعد إخضاعه البلاد صيالاً.
كانت الروايات التي تصل إلينا في التنازع والتقاتل بينه وبين الإمام متعارضة
وقد سعينا للتأليف والاتفاق بينهما قبل الحرب العامة وبعدها، وكنا نرجو أن نبلغ
هذه الغاية بالرغم من أولي الدسائس بينهما الذين كانوا يمنون كلاًّ منهما بمساعدته
على الآخر إذا هو واتاهما، ولكن الله توفاه إليه قبل ذلك، وقد بايع زعماء البلاد
نجله السيد علي على أن يكون إمامًا لهم من بعده، وسننظر ما يكون من أمره،
ونرجو أن يوفقه الله تعالى إلى ما فيه السلام والخير لقومه، والمرضاة لربه باتباع
شرعه، وقد ذكر لنا عن نجله هذا أنه شاب مهذب في الثانية والعشرين، وأنه
مشتغل بطلب العلم، وله من أبناء عمومته مستشارون أولو تجربة واختبار،
وبصيرة في أحوال تلك البلاد، فعسى أن ينصحوا له بمكاتبة الإمام، والاتفاق معه
على الاتحاد اليماني العام، ومنه أن يكونوا مستقلين في إدارة منطقتهم، ومرتبطين
بمجلس الاتحاد في سياستهم، فذلك خير من استمرار القتال، وأحسن مآلاً من أماني
الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
__________(24/402)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(الجامعة)
مجلة أدبية علمية اجتماعية تدعو إلى الجامعة الإسلامية والشرقية، تحت
رعاية الأستاذ الشيخ أحمد المكنى بأبي الكلام، وهي تصدر في كلكتا (الهند) باللغة
العربية ومديرها ومحررها المسئول الشيخ عبد الرازق اللكنوي. ومن مقاصدها
توثيق عرى التعارف والتعاون بين جميع البلاد الإسلامية والشرقية، ولا سيما
القطر الهندي والعالم الإسلامي والعربي، ومنها توحيد مساعي الأمم الشرقية في
عهد هذا الانقلاب الجديد، وتبادل الآراء بين المفكرين في مسألة الإصلاح
الإسلامي (ومنها) : (ترقية اللغة العربية ونشرها في البلدان الإسلامية العجمية،
ولا سيما الهند وأفغانستان؛ لأنها اللغة الملية العلمية المشتركة بين سائر العالم
الإسلامي، وعليها يتوقف انبعاث روح الحياة الاجتماعية) (ومنها) (إحياء
العلوم الإسلامية بالبحث والمذاكرة ونشر المقالات العلمية وجمع الأفكار والمباحث
لمحققي العصر) فنعمت المقاصد ونسأل الله أن يحققها، وأن ينجح سعي الجامعة
لها، ويسخر لها مَن يشد أزرها، ويقيها كيد السياسة وشرها، فما أخوفنا عليها
منها.
وكان مدير هذه المجلة قد كاشفنا بالعزم عليها ورغب إلينا أن نكتب لها مقالة
يجعلها في فاتحة الجزء الأول منها، فكتبنا له مقالة تناسب مشربها لم تدرك الجزء
الأول فنشرت في الثاني، وموضوعها التعارض بين الجامعة الإسلامية والجامعة
الجنسية ذات السلطان العظيم في هذا العصر، وما ينبغي للمسلمين من دفعه، وقد
كنا نعلم عند كتابتها أن سيثقل على أسماع كثير من إخواننا مسلمي الهند، ما فيها
من ذكر فشو العصبية الجنسية في متفرنجة الترك، ولكن الحق يجب أن يعلم وإن
ضرب الناس المثل في ثقله، وضل أكثرهم بجبن العلماء عن التصريح به، وأجدر
الناس بهذا التصريح من مرن على الكتابة مدة ربع قرن فيما يؤلم ملوك أمته
وأمراءها، والسواد الأعظم من رؤسائها وزعمائها، ومرشديها وعلمائها، وسائر
طبقات دهمائها، ولماذا؟ لأنه قام بما يجب عليه من فريضة الدعوة إلى الخير
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان ما فشا في المسلمين من المفاسد والبدع
التي أضاعت دينهم ودنياهم، بقصد الإصلاح ابتغاء لوجه الله تعالى، لا يخاف في
الله لومه لائم، ولا يرجو من أحد من الناس على ذلك نفعًا ولا يهاب ضرًّا، وقد
أوذي كثيرًا، ولم ينل من الفائدة الدنيوية من كل عمله أن ملك بيتًا يسكنه، وهو لو
شاء أن يتبع الأهواء أو أن يحابي في الحق لكان من كبار الأغنياء.
نشر المدير المقالة خائفًا وَجِلاً فقدم لها مقدمة تشبه الاعتذار للقراء، والدفاع
لما توقعه من الانتقاد، وقد انتقدها من لم يفهمها، ولا عرف من تاريخ كاتبها شيئًا،
فرَمَانَا بما ننهى عنه من العصبية الجنسية التي انفردنا دون جميع كتاب المسلمين
وعلمائهم بتكرار الصد عنها في جميع مجلدات المنار، ونحن أشد حبًّا للترك وأكثر
خدمة لهم من هذا المنتقد وأمثاله، ولكن حبنا حب علم وعقل وعمل وإيمان، لا
مجرد عاطفة وجدان، وكثيرًا ما كان ضرر هذه المحبة أكبر من نفعها، وإن من
أشد الجهل المظلم أن يبرئ أحد شعبًا برمته في هذا العصر من العصبية الجنسية،
ولا سيما شعب فَشَتْ فيه التربية والتعاليم الأوروبية، وسيعلم هو وأمثاله أن كل ما
قلناه في تلك المقالة هو الحق الصراح، ويعلم مدير الجامعة والأستاذ أبو الكلام أننا
لم نبرئ متفرنجة العرب مما أنكرناه على متفرنجة الترك لاطلاعهما على كثير مما
كتبنا في تحذير الجميع من ذلك، وأننا بدأنا بانتقاد الجنسية الوطنية المصرية مما
جعلها معارضة للجامعة الإسلامية، أيام كانت عصبية الجنسية اللغوية خفية في
الشعوب العثمانية بضغط السلطان عبد الحميد. وطالما بيَّنا وجه التوفيق بين
الرابطتين الإسلامية والوطنية واتقاء جناية العصبية على الدين، وهذا ما نحاوله
الآن. هذا وإن قيمة الاشتراك في (الجامعة) 80 قرشًا مصريًّا وهي تطلب من مكتبة
المنار بمصر.
***
(قميص من نار)
قصة وطنية في نهضة الترك في الأناضول بعد الحرب العامة وضعتها
بالتركية (خالدة أديب) التي كانت ناظرة المعارف العامة للحكومة الوطنية في
أنقرة وترجمها بالعربية محب الدين أفندي الخطيب، وطبعها بمطبعته السلفية؛
ليري قراء الأمة العربية كيف تأسست هذه النهضة القومية. فأنقذت أهلها من براثن
المنية، بل مكنتهم من الأمنية التي تتوقف عليها كل أمنية، وهي تُطْلَب من المكتبة
السلفية ومن سائر المكاتب.
***
(سيرة مصطفى كمال باشا، وتاريخ الحركة التركية في الأناضول)
كتاب تناهز صفحاته السبعين مزين بالصور والرسوم، اشترك في تأليفه وجمع
مواده من اللغة التركية وبعض اللغات الإفرنجية أمين أفندي سعيد وكريم أفندي
خليل ثابت من محرري المقطم، أَوْدَعَاه ترجمة بطل الترك في هذا العصر وتاريخ
الحركة الوطنية في الأناضول الإدارية والحربية وما يتعلق بها من الأمور السياسية
كمعاهدة سيفر ومعاهدة باريس الأخيرة. ونجاح الحركة بإخراج الفرنسيس من
كليكية واستعادة الترك لها مع جزء من سورية بالاتفاق الذي عقدوه مع فرنسة ثم
التنكيل بالجيش اليوناني وسحقه وتطهير الأناضول من عيثه وفساده. وفي هذا
التاريخ الوجيز ما يجب أن يعتبر به كل شرقي، وثمنه خمسة قروش.
__________(24/405)
الكاتب: صالح بن سعد بن سالم
__________
تقريظ للمنار
(ننشره قبولاً لمودة صديق جديد، من أهل الفضل الطريف والنبل التليد)
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي العلامة صاحب الفضل والفضيلة الإمام الأجل السيد محمد رشيد رضا
حفظه الله، آمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام.
أنا - أعز الله السيد - أنزع إلى محرراتكم، وأميل إلى منهاجكم، وعلى ما
لدي من ضعف الإحساسات، وقلة الإدراكات، والبضائع المزجاة، أتطفل في
محبتكم، وأباهي بعملكم؛ لأفوز بحظ من علمكم، وأتشرف بأن أعد من جملة
تلامذتكم، وكما قد مَنَّ الله علينا بالاشتراك في مجلتكم المنار الغراء في المجلد 23
أصبحت النفس فائزة بتمثيل شخصكم الكريم، من ثنايا سطور قلمكم البليغ، كذلك
أتمنى ما تنزع إليه النفس والعين معًا من الفوز باللقيا والظفر بالاجتماع، ولا غرو
فإن وجه الإسلام متهلل لما تفعلون، وقلوب المؤمنين صادية إلى ما تنزعون، وهم
فيه شُرَّع: الاجتماعي والعمراني والسياسي والمتدين والفيلسوف، فكل من مناركم
يرد مشربه، ويعود وقد قضى أربه، والسيد يملأ الدلو إلى عقد الكرب، ويذود عن
حوض الإسلام (والحكم لمن غلب)
يا أيها الساري الملجج في العمى ... رفقًا بنفسك إنها لخطيره
أترى المنار (بدت) أمامك فانتهج ... بيضاء واضحة الدليل منيره
وانشد هناك علاج دائك إنها ... طب بأدواء القلوب خبيره
واستطلع الإرشاد من صفحاتها ... تهديك إكليل العلا وسريره
فهناك إرشاد الرشيد وعلمه ... وهناك عين الطيبين قريره
تفضلوا اقبلوا عني تقريظي لمجلتكم الغراء، وإن كنت قليل البضاعة،
ضعيف العبارة، ركيك الألفاظ، فأنتم أهل السماح. وهذا أول حرف كتبته إلى
مجلتكم.
اقبلوا فائق احترامي، وجزيل سلامي، ودمتم في خير.
... ... ... ... ... ... ... محبكم الحقير
... ... ... ... صالح بن سعد بن سالم الأمير بدار سعد (لحج)
__________(24/408)
شوال - 1341هـ
يونيه - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحلف بالطلاق - وأنواط النقود
(س19و20) [*] من الأستاذ السيد طلحة المدرس في الكلية المشرقية في
لاهور بنجاب (الهند) :
إلى حضرة الفاضل الجليل منشئ المنار الأغر متع الله المسلمين بطول حياته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد فإن صيت علمكم رحمكم الله وخدماتكم
الدينية حملنا على أن نكلفكم بالإفتاء في حادثة ونرجو من فضلكم أن تمنوا علينا
بجواب هذا المكتوب:
صورة المسألة:
استحلف زيد عمرًا بأنك لا تقاطعني ولا تهاجرني طول حياتك ولا تؤثر أحدًا
عليَّ وقل: لو فعلت ذلك فكلما تزوجت امرأة فهي طالق - فحلف عمرو ثم حنث.
لعل جنابكم تستدلون بحديث الترمذي رحمه الله: (لا طلاق فيما لا يملك) إلخ.
فالحديث حسن ليس بصحيح، ومع هذا فإن ابن الهمام نقل في فتح القدير أن
الشعبي وسالمًا والزهري قالوا: إن معنى الحديث في التنجيز لا في التعليق. وبعض
الروايات التي تدل على التعليق فكلها مجروحة كروايات الدارقطني في الباب، ونقل
الترمذي قول البخاري: إن الحديث المذكور أصح شيء في هذا الباب.
فإن المبتلى بهذه المسألة في غاية الضيق والشدة، فالمرجو من جنابكم أن تمنوا
علينا بجواب شافٍ كافٍ بالأحاديث الصحاح. فإن كتب الحديث في الهند قليلة ليس
يوجد إلا الكتب المتداولة. وفي مصر لم تزل كتب الحديث كثيرة منذ زمن قديم.
والمسألة الثانية مسألة النوط Note هل تكلم فيه أستاذكم الإمام؟ أو أحد من
العلماء الأفاضل؟ أو سنح لكم شيء فيه؟ والسلام.
الجواب عن مسألة الحلف بالطلاق:
إن أمهات كتب الحديث موجودة في الهند، ومنها ما طبع فيها ولم يطبع في
مصر، وقلما يوجد في غير الأمهات وشروحها ما يثبت به حكم بالنص، وقد ورد
في هذه المسألة عدة أحاديث وآثار في الكتب المشهورة لمجموعها من القوة ما ليس
لآحادها مع ضعف القياس المعارض بها، فأما حديث الترمذي الذي ذكره السائل فقد
رواه أحمد وسائر أصحاب السنن والبزار والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا
يملك ولا طلاق له فيما لا يملك) وقال البيهقي كالبخاري: هو أصح شيء في هذا
الباب وأشهر. ولا يخفى على السائل أن سبب إسقاطهم لحديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده عن مرتبة الصحة أن جُلَّ حديثه عنه كتاب لا سماع، قال ابن
معين: ومن هنا جاء ضعفه. وتضعيفهم لما روي كتابة من المسائل الفنية التي لا
تؤخذ على إطلاقها. فمن وثق بالمكتوب ولم يكن عنده فيه شبهة فله أن يفضله على
المسموع؛ لأنه يأمن فيه من الخطأ. والتحقيق فيه ما قاله الحافظ ابن حجر وقد ضعَّفه
ناس مطلقًا ووثَّقه الجمهور، وضعَّف بعضهم روايته عن أبيه عن جده، ومن ضعَّفَه
مطلقًا فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلَّس ما في
الصحيفة بلفظ (عن) فإذا قال: (حدثني أبي) فلا ريب في صحتها كما يقتضيه
كلام أبي زرعة إلخ، وقد قال الترمذي في مضمون هذا الحديث: إنه قول أكثر أهل
العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وقال الخطابي: وأسعد الناس
بهذا الحديث من قال بظاهره وأجراه على عمومه اهـ. أي في التنجيز والتعليق.
وروى ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مرفوعًا: (لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل
ملك) وقد حسَّنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، ورواية الزهري إياه عن
عروة عن المسور وعنه عن عائشة ليس من العلل التي تقتضي رده. وروى الحاكم
في المستدرك عن جابر مرفوعًا: (لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك)
صحَّحه وقال: وأنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من
حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس وجابر. اهـ.
وقد نقل القاضي الشوكاني ما قيل في علل هذه الروايات ثم قال: (ولا
يخفى عليك أن مثل هذه الروايات التي سقناها في الباب من طريق أولئك الجماعة
من الصحابة مما لا يشك مُنْصِف أنها صالحة بمجموعها للاحتجاج، وقد وقع الإجماع
على أنه لا يقع الطلاق الناجز على الأجنبية، وأما التعليق نحو أن يقول: إن
تزوجت فلانة فهي طالق: فذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أنه لا
يقع، وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والمؤيد بالله في أحد قوليه أنه يصح التعليق
مطلقًا، وذهب مالك في المشهور عنه وربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي
ليلى إلى التفصيل وهو أنه إن جاء بحاصر نحو أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني
فلان أو بلد كذا فهي طالق - صح الطلاق ووقع، وإن عمم لم يقع شيء. وهذا
التفصيل لا وجه له إلا مجرد الاستحسان كما أنه لا وجه للقول بإطلاق الصحة.
والحق أنه لا يصح الطلاق قبل النكاح مطلقًا للأحاديث المذكورة في الباب. وكذا
العتق قبل الملك، والنذر بغير الملك اهـ.
فتبين بهذا أن جمهور علماء الصحابة وغيرهم من السلف على القول بأن
الطلاق لا يقع تنجيزًا ولا تعليقًا إلا على زوجة يملك المطلق عصمتها ويختار أن
يحل هذه العصمة لترجيحه الفراق عليها، ولو لم يكن للجمهور ما ذكروه من
الأحاديث التي يحتجون بمجموعها ويحتج بعض الأئمة بما دونها مما لا يعارضه
أقوى منه - لكفى أن يأخذ بها السائل المتحير وأمثاله ولا سيما إذا علم أن سبب فشو
القول بإيقاع الطلاق المعلق في مثل النازلة المسئول عنها هو ما جرى عليه الخلفاء
في أيمان البيعة لهم فقد كانوا لا يولون القضاء والإفتاء لمن لا يجيز تلك الأيمان
وإذا كان أقل علماء السلف من قال بوقوع الطلاق المعلق قبل الزواج في غير
اليمين، وأنه ضعيف لا وجه له من النقل ولا من القياس كما قال الشوكاني -
فالخلاف في وقوع ذلك في اليمين أقوى والقول بالوقوع فيه أضعف.
ذلك بأن الذي يحلف بالطلاق على فعل شيء أو تركه تنجيزًا أو تعليقًا لا
يقصد بحلفه إلا الامتناع مما حلف عليه كما إذا حلف بالله تعالى أو علَّق بالكفر أو
البراءة من دين الإسلام وهو لا يقصد أنه إن فعل ذلك يرتد عن الإسلام فيكون مُعطلاً
أو وثنيًّا أو يهوديًّا مثلاً، وإنما يقصد تأكيد الامتناع عن ذلك الشيء الذي حلف عليه.
فإن فعل ما علقه بالكفر - وهو يكره الكفر ولا يريده - لا يكفر، ومثله الحلف
بالطلاق من غير فارق.
وقد فرض الله للمؤمنين تحلة أيمانهم بالكفارة فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) وقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن
يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة: 89) الآية.
وقد أطلق اليمين فدخل فيه كل ما يحلف به الإنسان مما يصح به الحلف، وأما ما لا
يصح به الحلف شرعًا كالحلف بالمخلوقات فلا ينعقد ولا يجب به شيء. وقد روى
أحمد ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من حلف على يمين فرأى
غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) .
وللعلماء المجتهدين في أيمان الطلاق والعتق والنذر والكفر ثلاثة أقوال:
(أحدها) أنه إذا حدث لزمه ما حلف به. وهذا الذي غلب واشتهر عند
المقلدين بسبب حكم الحكام به إرضاء للخلفاء في أيمان البيعة.
(ثانيها) لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يقصد الإيقاع، وإنما قصد الامتناع،
واليمين صورية لا حقيقية.
(ثالثها) أنه يجب عليه كفارة يمين؛ لأنه يدخل في عموم الأيمان الواردة في
إطلاق القرآن، وهذا أرجح الأقوال دليلاً، وأقومها قيلاً، وأهداها سبيلاً، لدلالة ما
تقدم من الأحاديث عليها، وأخذ جمهور السلف بها، وقد أيده شيخ الإسلام ابن
تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم بتفصيل بينا فيه دلائله واختلاف الأقوال فيه عن
السلف وفي المذاهب الأربعة وبيان أنه مقتضى القياس الصحيح، ولابن
تيمية فيه مصنفات مخصوصة وفتاوى متعددة وقواعد ممهدة وفي أول المجلد
الثالث من مجموع الفتاوى المطبوعة بمصر وفي آخره بعض ذلك فليراجعه السائل
فلعله يجد فيه ما يطمئن له قلبه، ولعلنا نفصل المسألة في مقال مستقل بعدُ.
الجواب عن مسألة الأنواط:
سبق لنا عدة فتاوى في مسألة الأنواط كوجوب الزكاة وجريان الربا فيها.
__________
(*) الفتوى الأولى من الجزء السابق (الخامس) مشتملة على سبع مسائل وقد عدت واحدة سهوًا فإنما العدد للمسائل ومجموع ما سبق منها 18.(24/419)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن
(21 - 24) من الأستاذ صاحب الإمضاء:
حضرة صاحب الفضيلة ملجأ الحيران الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فأرجو من فضيلتكم إبداء رأيكم (من جهة الدين)
في ليلة نصف شعبان وفي قراءة القرآن في رمضان وغيره على الأموات
والأحياء وأخذ الأجرة على ذلك وفي استعماله تمائم (وحجب) وغير ذلك مما لا
يخفى على فضيلتكم، وما رأي حضرتكم في حديث (أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب
الله) أرجوك يا سيدي وأنت ملجئي وملجأ كل حيران في هذا الزمان الذي اختلطت
فيه العادات (بالدين) إجابتي وعدم إحالتي على أعداد المنار السابقة؛ لأني حديث
عهد بالاشتراك في مجلتكم الغراء (المنار) ولا توجد جميع أعدادها عندي وتقبل يا
سيدي فائق احترامي.
... ... ... ... ... ... ... توفيق عبد الجليل
... ... ... ... ... ... ناظر مدرسة العرابة المدفونة بالبلينا
الجواب عن مسألة ليلة نصف شعبان:
وضع الوضاعون عدة أحاديث في فضائل ليلة نصف شعبان والعبادة فيها
وصيام نهارها مهدت للملوك والأمراء المبتدعين للمواسم الدينية سبيل جعلها موسمًا
من هذه المواسم كالموالد، ووافقهم عليه علماء السوء كما وافقوهم على أمثاله. وقد
بيَّنا في المجلد الثالث من المنار بدع هذه الليلة ومنكراتها وهي 16 بدعة، منها
الدعاء المعروف، ثم سُئلنا: هل ورد فيها أحاديث صحيحة يُعمل بها؟ فأجبنا عن
ذلك في المجلد السادس جوابًا مختصرًا لا يزيد على صفحتين قلنا فيه: إن أمثل ما
ورد فيها حديث ابن ماجه عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا: (إذا كانت ليلة
النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس
إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من مسترزق فأرزقه؟
حتى يطلع الفجر) ورواه عبد الرزاق في مصنفه، وقد قالوا: إنه ضعيف. واكتفينا
بنقل ذلك عنهم في المنار وقتئذ، والصواب أنه موضوع؛ فإن في إسناده أبا بكر
عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي بسرة، قال فيه الإمام أحمد ويحيى بن معين أنه
كان يضع الحديث. وللترمذي وابن ماجه في نزول الرب في هذه الليلة حديث آخر
عن عائشة ضعفه البخاري والبيهقي ولابن ماجه حديث آخر عن أبي موسى لفظه:
(إن الله ليطلع من ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)
وهو من رواية الوليد بن مسلم المدلس عن ابن لهيعة وهو ضعيف، والتابعي فيه
عبد الرحمن بن عزرب وهو لم يلق أبا موسى.
الجواب عن مسألة الاكتساب بالقرآن:
من المسائل المُجْمَع عليها في دين الله على ألسنة جميع رسله أن العبادة لا
تكون عبادة إلا بالإخلاص فيها لله تعالى لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5) وأن العبادة المحضة لا تصح بالأجرة،
ولا يجوز أخذ الأجرة عليها من الناس. ومن قرأ القرآن بالأجرة ليجعل ثواب
قراءته للموتى فلا ثواب له، بل هو آثم، فأي شيء ينال الموتى من قراءته التي
هي معصية؟ هذا إذا صح أن الإنسان يمكنه أن يجعل ثواب عبادته لغيره كما قال
بعض العلماء، وقد بيَّنا ضعفه في آخر تفسير سورة الأنعام بالإسهاب وكشف
شبهات القائلين به، إلا ما صح من انتفاع الوالدين بعمل أولادهم لأنهم ملحقون
بهم، فيراجع هنالك، ونحن مضطرون إلى الإجمال فيما نُسأل عنه مما سبق فيه
التفصيل كالمسألة السابقة على أنا نزيد على ما سبق بعض الفوائد مما تيسر لنا
لإفادة من قرءوا ما سبق شيئًا جديدًا.
روى أحمد وأبو داود من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: (اقرءوا
القرآن وابتغوا به الله تعالى من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا
يتأجلونه) وله ألفاظ أخرى، ومعناه أنهم يقيمون ألفاظه ويضيعون أحكامه،
ويتعجلون أجره في الدنيا ولا يدخرون ثوابه الآجل عند الله في الآخرة. والقدح
- بالكسر - عود السهم قبل أن يُرَاش ويُرَكَّب فيه النصل. وفي معناه حديث عمران
ابن حصين رضي الله عنه عند الترمذي وحسنه: (من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه
سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) رواه أحمد أيضًا وأقوى منه ما رواه
أحمد بسند رجاله ثقات من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعًا: (اقرءوا القرآن ولا
تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به) .
وفي معنى ذلك أحاديث أخرى بعضها في وقائع ونوازل حدثت، وفي أسانيد
كل ما روي في هذا الباب بعض العلل ولكن بعضها يقوي بعضًا وهي واردة في
أصل صحيح. وقد ورد في مقابلها ما يدل على جواز الانتفاع بالقرآن في مصالح
الدنيا كحديث الصحيحين فيمن زوجه النبي صلى الله عليه وسلم امرأة على أن
يعلمها ما معه من القرآن بدل المهر. وفي رواية لأبي داود: علمها عشرين آية
وهي امرأتك.
الجواب عن الحديث:
ومنها الحديث الوارد في السؤال، وسببه أن نفرًا من الصحابة رضي الله
عنهم مروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد الحي
فسعوا له بكل ما علموا فلم ينفعه فسألوا أولئك النفر هل عندهم من شيء؟ فقال
أحدهم: إنه يرقي وطلب الجُعْل على الرقية؛ لأنهم لم يضيفوهم فجعلوا له قطيعًا من
الغنم فرقاه بفاتحة الكتاب فشفي فأعطوهم القطيع فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم فأقرهم عليه وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) روى البخاري هذا
اللفظ للحديث المرفوع عن ابن عباس وروى الجماعة إلا النسائي القصة من حديث
أبي سعيد الخدري وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية) أي
الفاتحة ثم قال: (اقتسموا واضربوا لي معكم سهمًا) أي قاله تطييبًا لقلوبهم؛ لأنهم
شكوا في جواز أكلها كما قيل.
وقد استدل بعض العلماء بهذه الأحاديث على جواز أخذ الأجرة على تعليم
القرآن دون التعبد بتلاوته، ومنع ذلك آخرون وأجابوا عن الحديثين بأجوبة أظهرها:
أن ما وردت فيه أخص من المُدَّعَى. وحديث الرقية يدل على جوازها وجواز أخذ
الأجرة عليها إذا لم يكن فيها شيء من الباطل كما ورد في حديث راقٍ آخر بالفاتحة
قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عما أعطي عليها: (خذها فلعمري من
أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق) رواه أحمد وأبو داود عن خارجة بن الصلت
عن عمه ورجاله رجال الصحيح إلا خارجة وقد وثقه ابن حبان وقال الحافظ في
التقريب: مقبول من الثالثة، والرقية بالقرآن لا يقصد بها التعبد به لأجل الثواب
والقربة وإنما يقصد بها تقوية روحانية الراقي؛ لأجل أن تؤثر روحه وإرادته في
نفس المُرْقَى تأثيرًا يغلب أثر الألم فلا يقاس عليها التعبد به لأجل الثواب، ثم إهداء
الثواب إلى مَن لم يقرأ لينتفع بعبادة غيره.
(فإن قيل) : قد ثبت في حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب في
الصحيح أنهم (الذين لا يرقون ولا يسترقون ... ) . فالجواب أن الرقية ليست دواء
يشفي من الألم أو المرض باطِّرَادٍ، بل الغالب فيها تأثير الاعتقاد أو تأثير نفس ذات
إرادة قوية روحانية في نفس أخرى بحسب سنة الله في البشر لذلك كانت تنافي
التوكل الذي هو الأخذ بسنن الله الثابتة في الأسباب والمسببات الصحيحة وتفويض
الأمر إلى الله وحده فيما لا يُعْرَف له سبب صحيح. وقد فصَّلنا هذه المسألة من قبل
في المنار (ص390-393 من المجلد السابع) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
لُدِغَ مرة فغشي عليه فرقاه ناس فلما أفاق قال: (إن الله شفاني وليس برقيتكم)
رواه البخاري في التاريخ وابن سعد والبغوي والطبراني والدارقطني وغيرهم،
وذلك أن النفس لا تؤثر إلا في نفس أضعف منها وروحه صلى الله عليه وسلم أقوى
من جميع الأرواح، وهذا المدرك يؤيد القول ببطلان ما ورد من أنه صلى الله عليه
وسلم سُحِرَ، وأثَّرَ السحر فيه كما بيَّنَه الأستاذ الإمام، وسبقه إليه أبو بكر
الجصاص من أئمة الحنفية في كتابه أحكام القرآن.
وفي ص 855 من ذلك المجلد (السابع) سؤال عن أخذ الأجرة على القرآن
استشكالاً على عَدِّ الأستاذ الإمام إياه من أكل أموال الناس بالباطل ويعني به ما بيَّناه
في تفسير {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) والاحتجاج عليه
بحديث الرقية مع الجواب عنه.
الجواب عن مسألة التمائم ونحوها:
ورد في حظر التمائم وما في معناها أحاديث مرفوعة، منها: (من علق تميمة
فقد أشرك) رواه أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر ومنها: (إن الرقى والتمائم
والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ومنها: (ثلاث من السحر:
الرقى والتولة والتمائم) رواه الحاكم. والمراد بها رقى الطلسمات الخرافية.
وإذا أراد السائل مزيد بيان لهذه المسألة فليراجع ما ذكرناه من المواضع في
المجلد السابع، وكذا ما نقلناه عن الدر النضيد في (ص 584) من المجلد الثاني
والعشرين من الأحاديث في النهي عن تعليق التمائم والودع والعظام ووضع الخيط
في اليد للحمى وقلادة الوتر في عنق البعير لأجل وقايته. وكل هذا داخل في
مفهوم كلمة (الجبت) ففي حديث قطن بن قبيصة مرفوعًا عند أبي داود
(العيافة والطيرة والطرق من الجبت) وفسر العيافة بالخط وهو ضرب الرمل، وهو
من تفسير العام ببعض أفراده فالجبت يشمل كل الخرافات كالطرق وهو الضرب
بالحصى والودع أو حب الفول لمعرفة البخت وغيره من أمر الغيب.
__________(24/423)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المعاهدة البريطانية الحجازية
وخدعة الوحدة العربية
بلغنا منذ بضعة أشهر أن الدكتور ناجي الأصيل الموصلي ذهب إلى مكة وأخذ
تفويضًا من ملك الحجاز بالسعي لدى أرباب الأموال من الإنجليز بعقد امتيازات في
الحجاز باستخراج المعادن وبغير ذلك، ثم سافر منها إلى (لندن) مارًّا بمصر، ثم
شاع أن الدكتور وكيل سياسي لملك الحجاز، ثم جاءتنا أخبار أوروبة العامة
والخاصة بأنه ذهب إلى لوازن لحضور مؤتمر الصلح فيها بالوكالة عن ملك الحجاز،
وأنه كان هنالك مع جعفر باشا العسكري البغدادي مندوب الملك فيصل ملحقين أو
تابعين للوفد البريطاني، ولنا من أخبارهما التفصيلية الفاضحة هنالك ما ليس من
موضوع هذا المقال.
ثم إن برقيات روتر الإنجليزية وجرائد لندن أذاعت في العالم كله نبأ عقد
مؤتمر عربي يمثل الشعوب العربية كلها؛ لأجل حل المسألة العربية ووضع أساس
الاتحاد العربي، ثم علمنا أن أعضاء هذا المؤتمر خمسة نفر من صنائع أمراء
الحجاز ووسائلهم لدى الإنجليز وهم جعفر باشا العسكري وناجي بك السويدي
والدكتور ناجي الأصيل وأمين بك التميمي وإحسان بك الجابر. فتذكرنا بذلك ما
كانت البرقيات والجرائد الإنجليزية بلغتنا إياه عند إعلان (اتفاق سايكس بيكو)
على قسمة البلاد العراقية والسورية بين إنجلترة وفرنسة، إذ زعمت أن الأمة
العربية قد اشتركت في الاحتفال بإعلان هذا الاتفاق في لندن بحضور ممثليها فيه،
ثم علمنا أن المراد بهؤلاء الممثلين تاجر سوري مسيحي مقيم بلندن ومتجنس
بالجنسية الإنجليزية وأسير مسلم من عكا اسمه إسماعيل.
وهذا شأن الأجانب في العبث واللعب بالشعوب والأمم والكذب والتزوير:
رجلان مجهولان يمثلان أمة بدون علمها ولا إذنها، ويقرران إبسال بلادهم
واستعبادها، أو ينسب ذلك إليهم، وخمسة نفر يعقدون مؤتمرًا باسم الأمة العربية
بدون توكيل ولا إذن ولا علم منها، وذلك أنهم يعملون بأمر الأجنبي في بلده.
وأما المؤتمر السوري الفلسطيني الذي عقد في جنيف ممثلاً للأحزاب
الاستقلالية في الوطن والمهاجر، والمؤتمر السوري العام المنتخب من جميع المناطق
السورية. والمؤتمرات الفلسطينية العامة المنتخب أعضاؤها من جميع بلاد
فلسطين - فهي لا تمثل من تتكلم باسمهم في عرف الأجانب المغتصبين للبلاد.
ثم أذاعت البرقيات والجرائد الإنجليزية في أقطار العالم أن ناجي الأصيل قد
اتفق مع الحكومة البريطانية على عقد معاهدة بريطانية عربية تقرر فيها اتحاد
الممالك العربية واستقلالها، فكانت الجرائد العربية تُعنى بنقل هذه الأخبار والتعليق
عليها في مصر وفلسطين وسائر سورية وفي مهاجر السوريين، واغتر بذلك كثير من
الناس وصدقوها، واتسع مجال الإيهام والتغرير لجرائد الدعاية (البوبغندة)
الحجازية في سورية وفلسطين بها فصورت للبسطاء تأليف سلطنة (إمبراطورية)
عربية مؤلفة من جزيرة العرب برمتها ومن ممالك فلسطين وشرق الأردن والعراق
والدويلات السورية، وصدق أحداث السياسة والعوام في سورية أن بلادهم داخلة
في هذه الإمبراطورية الجديدة. وروَّج هذه الخدعة الخيالية فيهم ما نقلته إليهم
الجرائد من تودد الأمير عبد الله الحجازي لفرنسة فحسن عندهم هذا لتحقيقه الغاية
التي أذاعوها منذ حلول ركابه في شرق الأردن، وهي أنه ما جاء إلا لإنقاذ سورية
من فرنسة، ومن البديهي أن إنقاذه إياها بالدهاء السياسي أولى وأسلم من إنقاذها
بالحرب. وكل ذلك غش وخداع لم يتقن هؤلاء الأمراء الحجازيون من أمور
السياسة العصرية غيره، وهو إنما يقوم بالبذل.
كان بعض الإخوان يسألونني عن رأيي في هذه الأخبار كلما حملت الجوائب
شيئًا منها فأقول: إنني أتمنى لو يكون فيها خير ولكنني أعتقد أنها خداع وتضليل
فلو كان الإنجليز يريدون للعرب الاستقلال والاتحاد لما احتاجوا إلى الدكتور ناجي
الأصيل في وضع الخطط لذلك، وإنما يريدون من وكيل الملك حسين الاتفاق على
خدعة ينالون بها ما يريدون منه، وهو موافقته الرسمية على ما قرروه ونفذوه في
البلاد العربية، وقد سألني بعض هؤلاء الإخوان أن أكتب رأيي في ذلك وأنشره في
الجرائد لكشف الغش والتلبيس للأمة العربية فكنت أقول: أرى أن نصبر إلى أن
تظهر نتيجة هذه الأخدوعة الجديدة فنكون على بينة فيما نقول، ولا نرمي من
أعوان الخادعين باتباع الهوى أو الفضول، وإنني على سوء ظني المبني على
طول التجربة والاختبار أتمنى أن أكون مخطئًا في هذه المرة، وإذًا أكون في طليعة
أنصار ما يأتي من كل مشروع أو عمل لاستقلال العرب واتحادهم.
صبرت إلى أن انكشف الستر، وظهر ما بُولِغَ في إخفاءه من الأمر، وتركت
السبق لغيري في إنكار ذلك فكان أول المنكرين له من كانوا أول المحسنين للظن
بالملك حسين والأمير عبد الله وهم أهل فلسطين. ولما زالت ثقتهم بالثاني ظلوا
واثقين بالأول، حتى كانوا يكابرون أنفسهم، ويكذبون الأخبار الرسمية البريطانية
الجلية، اغترارًا ببرقيات الحجاز المبهمة الموهمة.
ألم تر أن ناجي الأصيل عاد من لندن إلى مصر فسبقه إليها كل من الشيخ عبد
القادر المظفر وأمين بك التميمي من دعاة ملك الحجاز في فلسطين فاستقبلاه في
الإسكندرية فاستنطقاه ليسبقا بالبشائر إلى قومهما فلم يفهما منه شيئًا جليًّا، ألم تر أنه
سافر إلى الحجاز في بارجة بريطانية فسابقه إليها الشيخ عبد القادر المظفر ثم سبقه
بالعودة إلى مصر مبشرًا بتأويل حلم الاتحاد العربي، وبأن عهد بلفور قد ألغي،
أخبرني بذلك فلم أصدق، ولكنني قلت له: إنني أصبر فإن صح هذا كنت أول
مؤيد له ومُنَوِّه به، وإن كوفئت على ذلك بالإيذاء وإعراض هؤلاء الزعماء، وقد
استنبط الشيخ بشائره من فرح الملك بهذه المعاهدة واحتفاله بالدكتور ناجي الأصيل
كاحتفال الأمم بالقواد الفاتحين، ولم يطلعه أحد على شيء من مواد المعاهدة كدأب
الملك حسين في الكتمان وعدم استشارة أحد في شيء من أمور الأمة، ولكنه روى
لنا عن فؤاد الخطيب وكيل الخارجية عن الملك الجزم بإلغاء وعد بلفور، فجزمت
بعدم صحة متن هذه الرواية جزمًا لا تردد فيه وتركت الكلام في سندها، ثم أيدت
الحوادث كذب المتن بما لا يعد طعنًا في سنده، إذ علم أن الملك فهم ذلك من
المعاهدة وهي نص في ضده، كما ثبت في النصوص الرسمية الآتية. بناء على هذا
الفهم الملكي أعلن المعاهدة بمكة يوم عيد الفطر باحتفال رسمي حافل، وتضمن
الإعلان الملكي الأمر بجعل هذا اليوم عيدًا. وهاك نص الإعلان منقولاً عن العدد
688 من جريدة القبلة الرسمية المؤرخ في 5 شوال الحال بعد ذكر الاحتفال بعيد
الفطر:
عيد على عيد
إعلان استقلال العرب ووحدتهم في جميع الجزيرة العربية
ولما استقر بجلالة المنقذ المقام في بهو الاستقبال العام مثُل بين يدي جلالته
الأشراف والسادة العلماء والأعيان والوجهاء وأماثل الأمة على اختلاف طبقاتها
حاضرها وباديها، وحينذاك تفضل جلالته ففاه بخطاب ملوكي سامٍ، حمد الله فيه
وأثنى عليه ثم أشار إلى أن هذا العيد المبارك لا شك في تضاعف يمنه حيث صادف
قبول المراجع الإيجابية [1] لجميع المطالب العربية فلا ريب في أنه يوم اجتمع فيه
عيدان: عيد الفطر السعيد، وعيد الاعتراف باستقلال العرب ووحدتهم، وعليه
فجلالته يعلن ذلك للأمة العربية حاضرها وباديها.
وعلى إثر ذلك أمر جلالته صاحب الإقبال رئيس الديوان العالي أن يلقي في ذلك
المحفل الجليل الخطاب الملوكي الهاشمي الآتي، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(نصرح في هذا العيد المبارك بمآل المعاهدة العربية البريطانية المؤسسة
على مقرراتنا السياسية والتي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا باستقلال
العرب بجزيرتهم وسائر بلادهم، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية
لتأسيس الوحدة العامة الشاملة لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق الأردن
وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب (ما خلا عدن) فنأمر أن يعتبر هذا اليوم
المبارك عيد الاعتراف باستقلال الأمة العربية، والله ولي التوفيق. انتهى.
وعقبه خطاب مندوب الحكومة بلندن، وهذا نصه أخذناه منه بخط يده:
مولاي:
(أحمده تعالى وأشكره على هذه الوقفة الفريدة التي مننتم يا مولاي عليَّ بها
لأقف بين يدي جلالتكم في هذا اليوم العظيم لأقول كلمتي عن المعاهدة العربية
البريطانية التي انتهت - والحمد لله - باعتراف بريطانيا باستقلال العرب في
جزيرتهم وسائر بلادهم، وبتعهدها لجلالتكم بالمعاضدة الفعلية لتأسيس الوحدة
العربية العامة.
إن بداية هذا الانقلاب الكبير في تاريخ الأمة العربية ظهر يوم نادى جلالتكم
بأمته مستصرخًا إياها بالنهوض وفك القيود لإعادة حريتها القديمة واستقلالها
المغصوب، فيا لها من نهضة مباركة قامت فحطمت سلاسل الذل والاستعباد،
وجاءت اليوم بالاستقلال والاتحاد لأمة عرفها التاريخ بفتوحاتها العظيمة ومجدها
المشيد. فالأمة العربية مديونة لكم (يا مولاي) في نهضتها، مديونة لكم في العهود
التي قطعتموها لحفظها وصيانتها من مصائب الحرب ونتائجها، مديونة لكم في هذا
الاعتراف باستقلالها ووحدتها، فكما أني ما قمت إلا بواجبي الوطني يوم لَبَّيْتُ الدعوة
فتركت الجيش التركي والتحقت بجيوش جلالتكم لأشترك بالدفاع عن استقلال بلادي
العربية في تلك المعركة الكبرى، أيضًا يا مولاي بذهابي إلى لوزان حسب تنسيب
جلالتكم للدفاع عن القضية العربية أمام المؤتمر وثم إلى عاصمة بريطانيا لمطالبتها
بإيفاء العهود - لم أقم إلا بنفس ذلك الواجب السامي الذي يفديه كل عربي صميم
بروحه وماله وما تملك يداه) (أسأله تعالى أن يؤيد جلالة مولاي المنقذ الأكبر ويبقيه
ذخرًا للأمة العربية، وأن يجعل هذا اليوم بدء كل خير لصالح الأمة العربية) انتهى.
وقد جاء في رسالة أرسلت من جدة إلى الأهرام نبأ الاحتفال بالمعاهدة فيها
بالنص الذي أرسله الملك إلى حاكمها الإداري (قائمقام جدة) وأن هذا قال بعد تلاوة
أمر الملك في الحفلة: (وقريبًا سنتفق مع فرنسة على سورية اتفاقًا مرضيًا) . ولقب
ملك الحجاز بملك البلاد العربية ومؤسسها.
مضمون الإعلان الملكي وما ترتب عليه:
دل هذا الاحتفال وما قيل فيه دلالة قولية فعلية على الأمور التالية:
(1) أن المعاهدة التي حملها الدكتور ناجي الأصيل من لندن قد اشتملت
على اعتراف صاحب الجلالة البريطانية باستقلال العرب في جزيرتهم وجميع
بلادهم.
(2) أنها مبنية على المقررات السابقة، وهي التي عرضها أمير مكة
حسين بن علي على الدولة البريطانية في بيان شروط قيامه بالثورة العربية فقبلتها
مع تحفظات مبينة في كتب السر هنري مكماهون له وقد نشرنا ذلك كله في الجزء
الثامن من مجلة المنار م23 الذي صدر في سلخ صفر من هذا العام (الموافق 20
أكتوبر سنة 1922) .
ولعل القراء يتذكرون أن المادة الأولى من تلك المقررات: أن الحكومة
البريطانية تتعهد بتشكيل حكومة عربية مستقلة ... إلخ، وأن المادة الثانية نص
صريح في محافظة الدولة البريطانية وصيانتها لهذه الحكومة بأي صورة كانت في
داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ في أي شكل يكون، حتى
الدسائس والفتن الداخلية، وأن المادة الثالثة تصرح بأن هذه الحكومة العربية حكمها
حكم القاصر في حضن الدولة البريطانية.
وبناء على هذا يكون الاستقلال المعترف به نوعًا من أنواع استقلال بعض
المستعمرات البريطانية لا الاستقلال المطلق من كل قيد.
(3) أن الملك قد فهم أن فلسطين داخلة في مملكته الجديدة ومن لوازمه أن
عهد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود قد ألغي كما لقن الشيخ عبد القادر المظفر قبل
الاحتفال بإعلان المعاهدة عند سفره من الحجاز، وكان من لوازم هذا الفهم أن
(ملك البلاد العربية ومؤسسها) أرسل برقية إلى كاظم باشا الحسيني رئيس الوفد
الفلسطيني - وهو في القدس - بلغه فيها خبر المعاهدة وأمره لرعيته أهل فلسطين
بالتزام الهدوء والسكينة، أي إلى أن تتسلم جلالته إدارة البلاد بالفعل، حتى إنه قال
له في البرقية: (وأنتم المسئولون عن كل ما يحدث) وظاهر هذا أنه يرى أن
حكومة فلسطين البريطانية الصهيونية تلغى بمجرد وصول برقيته.
لهذا بادرت هذه الحكومة إلى نشر بلاغ رسمي صرحت فيه بأن المعاهدة
الجديدة لا تتضمن أدنى تغيير في حكومة فلسطين، فهاج ذلك أهل فلسطين وبلغوا
الملك حسينًا خبره فكذب بلاغ الحكومة الفلسطينية؛ إذ صرح بأنه مخالف لنص
المعاهدة الواردة من وزارة الخارجية البريطانية. فنشرت هذه الحكومة خلاصة
نص المعاهدة ومنها التصريح بأن فلسطين غير داخلة في البلاد التي اعترفت
الحكومة البريطانية باستقلالها؛ إذ سبق بيان ما تقرر بشأنها، وتضمن هذا بقاء
عهد بلفور وأنه لم يُلْغَ ولم يُعَدَّل كما سيأتي.
لا يتوهمن أحد أننا سررنا بخطأ الملك حسين في فهمه وبخيبة أمله، والله إننا
نتمنى لو تستقل فلسطين استقلالاً صحيحًا ولو بسعيه لدخولها في حدود ملكه، فإن
لم يكن أهلاً لإدارتها فما هو بخالد فيها، على أننا نعلم أنه لا يستطيع أن يستبد فيها
كما يستبد في مكة وجدة، وإنما نحن ندون أهم أحداث تاريخنا الحديث بما فيه
العبرة لأهل العصر ولمن بعدهم.
وأهم ما نُذَكِّر به من العِبرة في هذه المسألة: التفكير في سبب خطأ الملك في
فهم الذي كان سببًا لأقبح الخزي المُحْزِن، ونحن نرى أن الذنب في هذا على
الدكتور ناجي الأصيل وفؤاد أفندي الخطيب وزير خارجية الملك الذي اشترك مع
الدكتور في ترجمة المعاهدة.
ذلك بأن صيغة المعاهدة قد وضعت باللغة الإنجليزية قطعًا ومن دأب الملك
حسين عدم إطلاع أحد على شيء من أسرار سياسته إلا من يضطر إلى استخدامه
فيها، ولا نرى منجاة للدكتور ناجي الأصيل ولفؤاد أفندي الخطيب من تبعة غش
الملك في الترجمة إلا إذا كانت الترجمة صحيحة، وألقيت إلى الملك مكتوبة فلم
يفهمها ولم يجعلها هو والمترجمون لها موضع البحث، بل بلَّغ فلسطين ما بلَّغها قبل
أن يبحث مع وكيله ووزير خارجيته فيها، ولكن هذا بعيد وخلاف الظاهر- وإن
كان الملك لا يفهم اللغة العربية العصرية ولا القديمة فهمًا صحيحًا بدليل أن كتابته
كثيرة الغلط والعسلطة فلا تُفْهَم إلا بالقرائن- فإن ناجي الأصيل حضر إعلان
الاستقلال ووافق عليه ببيان منه بخطه، فإن قيل: إنه تعذر عليه أن يصحح خطأ
الملك عقب إلقاء خطابه فكيف لم يتنبه له بعد ذلك وتركه على غلطه حتى تجرأ
على تخطئة حكومة فلسطين الإنجليزية في فهمها للمعاهدة وعلى مخاطبته
للفلسطينيين بعد مراجعتهم إياه في المسألة بما يدل على أنه لا يزال على فهمه الأول،
وكذا رده على الجرائد المصرية فإنه يدل على ذلك أيضًا.
وأما احتمال عدم فهم ناجي الأصيل للنص الإنجليزي الذي لم يوضع إلا بعد
طول البحث مع وزارتي الخارجية والمستعمرات الإنجليزيتين فيه - فغير معقول،
وقد جرى له حديث مع مكاتب الأهرام في الإسكندرية إثر وصوله إليها عائدًا من
لندن يدل على أنه واقف على دقائق المعاهدة، وعلى أن المناقشة في مسألة فلسطين
معه كانت شديدة، وقد علم أن فؤاد الخطيب قد ساعده على ترجمة المعاهدة، فهل
يتفقان على الخطأ في جعل المنفي مثبتًا.
على أن البلية في عدم فهمهما للمعاهدة حينئذ أعظم من البلية في غشهما للملك،
فما أعظم مصاب العرب فيمن يقيِّدونهم بمعاهدات لا يفهمون معناها مع دولة
يحتاج من يعقد معها أي معاهدة أو اتفاق أن يكون من أدق الناس فهمًا وأقدرهم على
تحديد المعاني بحيث لا تحتمل التأويل بضرب من ضروب الاشتراك أو المجاز أو
الكناية؛ لأن رجالها أبرع الناس في التفصي من المعاهدات بالتأويل كما قال
البرنس بسمارك.
وما طرقت باب هذا المبحث إلا لأنني قد عزَّ عليَّ أن أوافق من يظنون أن
الملك حسينًا قد خدع الفلسطينيين ليؤيدوه فيما رضيه للبلاد كلها من الوصاية
البريطانية ولفلسطين معها من عهد بلفور إلى أن ينفذ السهم، وإنما أوافقهم بسهولة
إذا جعلته الحكومة البريطانية هو القوس الذي ترمي سهمها عنه. على أنه خدع
الأمة العربية منذ بدء الثورة فإنه اتفق مع حلفائه على استقلالها ولا يزال يدعي ذلك
بعد علم الناس بمقررات النهضة، ومع أخذ البلاد باسم الانتداب الذي وافقهم عليه
في هذه المعاهدة.
سوء تأثير هذه المعاهدة:
احتفل الملك حسين بهذه المعاهدة احتفالاً رسميًّا في مكة المكرمة وغيرها من
بلاد الحجاز وجعل يوم هذا الاحتفال عيدًا وطنيًّا دائمًا كما تقدم، وقدم له أركان
حكومته وكبار الدولة التهاني على هذه النعمة التي أصابت الأمة العربية بسعيه،
واحتفل مثل هذا الاحتفال في شرق الأردن عاصمة إحدى أركان هذه الدول العربية
المستقلة المتحدة (؟!) ولُقِّب الملك حسين في هذه الاحتفالات بـ (ملك البلاد العربية
ومؤسسها) و (بأمير المؤمنين) ومُدِحَ هو ونجله الأمير عبد الله بالخطب والقصائد،
ورجعت صدى ذلك كله الجرائد، وأظهرت المستأجرة والمغرورة منها غاية الحبور
والابتهاج.
في أثناء هذا نشرت حكومة فلسطين خلاصة المعاهدة مترجمة باللغة العربية
ففهم منها جميع الناس في كل مكان أنها أعظم نكبة على الأمة العربية والإسلام،
واجتمع المؤتمر الفلسطيني العام للنظر فيها فقرر رفضها والاحتجاج عليها، وقامت
قيامة الصحف المصرية وانبرت جميعها للرد والاحتجاج والتشنيع على ملك الحجاز.
وستفعل ذلك سائر جرائد العالم الإسلامي، وهذه ترجمة خلاصة المعاهدة.
خلاصة المعاهدة البريطانية العربية
نشرت حكومة فلسطين بلاغًا رسميًّا قالت فيه:
فيما يلي خلاصة المعاهدة التي جرت المفاوضة بشأنها بين حكومة جلالة ملك
بريطانيا وجلالة ملك الحجاز، أما المعاهدة فلم تبرم نهائيًّا حتى الآن وقد اقترح
جلالة الملك حسين تعديلات صغيرة لم تعرف تفاصيلها تمامًا والبحث جارٍ فيها.
المادة 1 تنص على وجود سِلم بين الحكومتين، وعلى منع استعمال بلاد
الحكومة الواحدة قاعدة لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى.
وهذا نص المادة الثانية:
يتعهد جلالة ملك بريطانيا بأن يعترف باستقلال العرب في العراق وشرقي
الأردن والدول العربية في شبه جزيرة العرب ما خلا عدن وأن يعضد هذا الاستقلال.
وأما فيما يتعلق بفلسطين فقد تعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن لا يجري شيء
في هذه البلاد مما يمكن أن يجحف بحقوق الأهالي العرب المدنية أو الدينية. وأما
إذا أبدت إحدى هاته الحكومات أو كلها رغبة في الاشتراك في الجمارك أو خلاف
ذلك بقصد إيجاد حلف في ما بعد - فإن صاحب الجلالة البريطانية يسعى لترويج
رغبتهم إذا طلب إليه ذلك المتعاقدون ذوو الشأن.
ويعترف صاحب الجلالة الهاشمية بالمركز الخاص الذي لجلالته البريطانية
في العراق وشرقي الأردن وفلسطين ويتعهد بأن يبذل غاية جهده في التعاون مع
جلالته البريطانية على القيام بتعهداته في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته
الهاشمية بشأن هذه البلاد.
في المادة الثالثة يتعهد جلالة ملك الحجاز بالمحافظة على العلاقات الودية التي
وجدت قبل الحرب بين جلالته وبين حاكم العسير وحاكم نجد.
في المادة الرابعة يتعهد صاحب الجلالة الهاشمية بأن يسعى في تسوية
المنازعات بشأن الحدود بين بلاده وبلاد حاكمي العسير ونجد بمخابرات ودية ويتعهد
صاحب الجلالة البريطانية بأن يسعى في المساعدة بتسوية منازعات كهذه عندما
يُرْغَب في ذلك.
وفي المادة الخامسة يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي قد تقرر نهائيًّا.
المادة 6 تنص على تعيين وكيل من قِبَل جلالته الهاشمية في لندن، وعلى
تعيين وكيل من قبل جلالته البريطانية في جدة أو أي مدينة ساحلية أخرى. ويجوز
لجلالته الهاشمية أن يعين أيضًا قناصل من قبله في إنكلترا والهند وكذلك يحق
لجلالته البريطانية أن يعين قناصل في جدة وغيرها من المدن الساحلية كما يرى
جلالته موافقًا ويتمتع هؤلاء الوكلاء والقناصل بالامتيازات السياسية والقنصلية
العادية.
في المادة السابعة يعترف صاحب الجلالة الهاشمية بالترتيبات الصحية
(الكورنتينات) الموضوعة مؤقتاً من قِبَل صاحب الجلالة البريطانية في (قمران)
قيامًا بنصوص الاتفاق الصحي الدولي الموضوع في سنة 1912.
ويتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يعترف بالتدابير المتممة التي قد تتخذ
في جدة أو غيرها من المرافئ الواقعة في بلاد جلالته الهاشمية وفقًا لأنظمة
يصدرها صاحب الجلالة الهاشمية.
في المادة الثامنة يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن لا يتدخل في التدابير
التي يتخذها صاحب الجلالة الهاشمية للاعتناء بالحجاج ويتعهد صاحب الجلالة
الهاشمية أن يعضد المساعي التي يبذلها الرعايا البريطانيون المسلمون لمساعدة
الحجاج في الحجاز.
المادة التاسعة تنص على تعيين مبلغ محدود كي يدفعه كل حاج، وعلى نشر
المبلغ المعين سنويًّا.
وتنص المادة العاشرة أيضًا على الاعتراف بالصفة الهاشمية التي لرعايا
جلالته الهاشمية في بلاد جلالته البريطانية وكذلك تنص على الاعتراف من قِبَل
جلالته الهاشمية بالصفة البريطانية التي لرعايا جلالته البريطانية في بلاد جلالته
الهاشمية.
المادة11 تنص على تسليم أموال الرعايا البريطانيين ممن يموتون في
بلاد جلالته الهاشمية إلى المعتمدين البريطانيين في تلك البلاد، ويصير التصرف
بأموال كهذه وفقًا للقانون الساري على ظروف كهذه.
المادة12 تنص على حضور قنصل بريطاني في محاكم جلالته الهاشمية
عندما تنظر هذه المحاكم في قضية يكون فيها أحد الرعايا البريطانيين مدعيًا أو
مُدَّعًى عليه وعلى تأجيل أي حكم إذا رغب المعتمد البريطاني في إجراء المخابرات
طلبًا للعدالة.
ولا تسري نصوص هذه المادة في حالة الرعايا البريطانيين أو الأشخاص
الذين يتمتعون بحماية جلالته البريطانية القاطنين في بلاد جلالته الهاشمية بصورة
دائمة.
المادة13 تنص على تسليم صاحب الجلالة الهاشمية الرعايا البريطانيين
الذين يلقى عليهم القبض من قبل السلطات الهاشمية إلى البريطانيين بشرط أن
يعطي هؤلاء ضمانًا لإحضارهم عند الاقتضاء.
ولا تسري نصوص هذه المادة على الرعايا المقيمين بصورة دائمة في بلاد
الحكومة الهاشمية خارج جدة وغيرها من المرافئ التي قد يعين لصاحب الجلالة
البريطانية قناصل فيها.
المادة14 تنص على رؤية دعاوي الرعايا البريطانيين التي لا تمس فيها
مصالح رعايا الحكومة الهاشمية من قبل القناصل البريطانيين.
المادة15 تنص على التنازل من قِبَل جلالته البريطانية عن جميع الامتيازات
والاستثناءات خلاف المنصوص عليها في هذه المعاهدة التي كان يتمتع بها الرعايا
البريطانيون بمقتضى الامتيازات بين بريطانيا العظمى وتركيا.
المادة 16 تنص على إعلام جلالته الهاشمية المعتمد البريطاني عند ما
يرغب جلالته في إبعاد أحد الرعايا البريطانيين.
المادة 17 تعالج الشروط التي بموجبها يعترف صاحب الجلالة البريطانية
بعَلَم جلالته الهاشمية.
المادة 18 تصرح بأنه لا يجوز لأي الفريقين المتعاقدين الساميين أن يعقد أية
معاهدة أو اتفاق مع فريق ثالث ضد مصالح الفريق المتعاقد السامي الآخر.
المادة 19 تنص على أن لا شيء في هذه المعاهدة يبطل أي تعهد قد تعهد به
أو قد يتعهد به في المستقبل أحد الفريقين المتعاقدين الساميين بمقتضى عهد جمعية
الأمم.
المادة20 تنص على تصديق هذه المعاهدة وأنها نافذة الفعل لمدة 7 سنوات
من اليوم الذي توضع فيه موضع العمل.
هذه خلاصة المعاهدة التي نشرتها حكومة فلسطين البريطانية. فهم الناس منها في
فلسطين ومصر وفي كل مكان أنها تستثني فلسطين من البلاد العربية التي
يعترف ملك الإنجليز لها بالاستقلال- على ما فيه- معللة ذلك بأنه قد سبق للحكومة
البريطانية تقرير أمرها، وأنها تضمن للعرب في حكمها إياها حريتهم المدنية والدينية
أي لا يمنعون من البيع والشراء ورفع القضايا إلى حكامهم من الإنجليز واليهود،
ولا يمنعون من الصلاة والصيام - مثلاً - وجميع الناس يعلمون أن المراد بذلك هو ما
يسمونه الانتداب المتضمن لعهد بلفور بالوطن القومي لليهود، وهذه العبارة الضمانية
مأخوذة من صك الانتداب المذكور، هذا ما فهمه الناس كافة، وهو خلاف ما فهمه
الملك حسين أو أراد أن يُفهمه للناس في فلسطين وغيرها.
ولهذا قامت قيامة المسلمين في مصر وشايعتهم الجرائد كلها على الطعن في
هذه المعاهدة باسم الإسلام، فعسى أن يكون في هذا وفي رفض أهل فلسطين لها ما
يحمل الملك حسينًا على ترك عناده وإصراره على عقدها، أو يحمل الحكومة
الإنجليزية. وسنشرح مواد خلاصة المعاهدة في الجزء التالي، ونعجل في هذا
الجزء بإعلام الشعب البريطاني الحكيم بشعور العالم الإسلامي وشعور الأمة
العربية بهذه المعاهدة لعله يتدارك الأمر ويحول دون عقدها، ويتلافى شر ما نكرهه
من جعل العداء بين الإنجليز والإسلام أمرًا واقعًا نهائيًّا لا مفر منه. فإننا نعلم ما في
تفاقم هذا العداء من الضرر والفساد، وما في استبدال الصداقة به - إن أمكن - من
الخير الخاص العام. ولهذا القصد ننشر الخطاب التالي، على أن نُقَفِّيَ عليه بخطاب
آخر يبين للشعب الإنجليزي الطريقة المثلى لصداقة الإسلام والعرب كما بيناها
لحكومته من قبل:
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذه الكلمة من الاصطلاحات التركية، وهي بمعنى أولي الأمر، والمراد هنا الحكومة الإنجليزية لأنها في عرف ملك الحجاز ولية أمر العرب والوصية عليهم كما سيأتي.(24/428)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب مفتوح من روح الإسلام والجامعة العربية
إلى الشعب الإنجليزي والحكومة البريطانية
فعلتم ما فعلتم في الدولتين العثمانية والإيرانية، وكدتم ما كدتم للشعوب
العربية، فاتركوا لنا قبلة صلاتنا، ومشاعر حجنا، وأمهات مساجدنا، وقبر نبينا،
ولا تحسبوا أن الفرصة قد سنحت لكم للقضاء على ديننا، كما حسبتم حين أردتم
القضاء على دولنا، اغترارًا بقوتكم وضعفنا، واجتماعكم وتفرقنا، فرب قوة أحالها
الغرور ضعفًا، ورب ضعف أعطاه اليأس قوة وبأسًا.
أردتم استعباد الشعب الأفغاني بفرصة زوال المعارضة الروسية، فحررتموه
وأنتم كارهون، وأردتم استعمار بلاد الشعب الفارسي بفرصة الحرب العظمى
فغادرتموه وأنتم عاجزون، وأردتم إماتة الشعب التركي بفرصة انكسار دولته
فأحييتموه وأنتم مرغمون، وخدعتم أكثر رؤساء الشعب العربي بالأموال، والتغرير
بالوعود والآمال، فسترون سوء العاقبة والمآل، وأنتم الغارمون الراغمون، إلا أن
ترجعوا عن سياستكم فيهم، قبل أن يخرج الأمر من يدكم، وأنتم بذلك جديرون.
اغتر العرب بوعودكم، ووثقوا بعهودكم، ووالاكم بعضهم على أهل دينهم،
وساعدوكم على احتلال أخصب بلادهم، فكان جزاؤهم منكم شرًّا من جزاء من
قاتلوكم بسيوفهم ومدافعهم، ولم تقفوا عند حد في النكاية بهم واتخاذ الوسائل
للاستيلاء على جزيرتهم بعقد المعاهدات السياسية والامتيازات في بلادهم، وإلقاء
العداوة والشحناء بين الشافعية والزيدية في اليمن، وبين السنية والشيعة في
العراق ونجد، وبتجديد شعوب آشورية وكلدانية في العراق لعدم نجاح إلقاء
الشقاق بين العرب والأكراد، وبإيجاد شعب يهودي في فلسطين، يعادي أهلها في
أمري الدنيا والدين، وأنتم مع هذا تمنون على العرب بتحريرهم من الرق،
وإنقاذهم من الترك، وتطالبونهم بالحمد والشكر، لأنهم في نظركم قوم لا يعقلون
{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 3-4) .
ولم أر ظلمًا مثل هضم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
لقد جئت أيتها الحكومة البريطانية في فلسطين بمثار شرور لم يأت بمثله
أحد من الظالمين، ألا وهو محاولة انتزاع شعب من وطنه أو وطن من أهله،
وإحلال شعب آخر في محله، وإيقاد نار العصبية الدينية بين اليهود والعرب وسائر
الأمة الإسلامية ومن يشايعها من الشعوب المسيحية، فإن غرض اليهود من تجديد
ملكهم في هذه البلاد لا يتم إلا بالاستيلاء على المسجد الأقصى لإعادة هيكل
سليمان، وإذا تمت لهم القوة لا يأمن المسلمون أن ينسفوه نسفًا، فيذروا أرضه قاعًا
صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، ثم يبنوا بأنقاضه هيكلهم، ويذبحوا لدى
صخرته قرابينهم، فإذا عجز أهل فلسطين عنهم بنصركم إياهم وحمايتكم لهم،
فماذا يفعل سائر العرب والعالم الإسلامي بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) ثم ماذا يفعلون بما
ورد في الأحاديث النبوية التي لا أذكرها لكم، لئلا تدَّعوا أنني أريد بها الإغراء
الذي تطرق سياستكم أبوابه، وتمهد له أسبابه، على أنها مشهورة في كتب السنة
التي يتداولها جميع علماء الملة.
أما يكفيكم رفع علمكم وعلم اليهود حيث ثالث الحرمين وأولى القبلتين،
حتى عمدتم إلى جعل الحرمين الشريفين تحت سيادتكم، ومهانين بالعدول عن
تأمين الله لهما إلى تأمينكم وحمايتكم.
أما ترحمون هذا الشيخ الكبير المستبد برأيه، المغرور بنفسه، المحتقر لقومه
وأهل ملته بالافتيات عليهم، بالتصرف بمهد دينهم وقبلة صلاتهم بدون إذنهم، الذي
ضحى نفسه في سبيلكم، غرورًا بوعودكم وعهودكم، فأصبح عدوًّا لأمراء الجزيرة،
ومضغة في أفواه مسلمي المعمورة، تنبذه أفواههم وأقلامهم بالألقاب، ويكيدون له
الذم والتثريب بغير حساب، بما والاكم ونصركم، وتعهده ببذل ما جعلتم له من
النفوذ الصوري على تأييد نفوذكم في الحرم الثالث (الأقصى) وفي العراق، حيث
مشاهد آل بيت الرسول عليه وعليهم السلام، وإقراركم على الوفاء لأحلافكم
الفرنسيس في استعمار سورية؟ وهل يكفيه من جزائكم على ذلك اعترافكم له
بتسميته لنفسه بملك العرب، وقد جعلتموه به عدوًّا لمسلمي العرب والعجم؟ وهل
العرب من رعاياكم، حتى تولوا عليهم من شئتم من صنائعكم؟
أيها الشعب الإنجليزي الحكيم! اعلم أن حكومتك الحاضرة، إنما تضع الألغام
لنسف ما شيدته لك حكوماتك الغابرة، اعلم أنها تصطنع ثلاثة رجال تعادي بهم
ثلاثمائة مليون، اعلم أن نصبها حسين بن علي ملكًا على الحجاز لا يعطيه من
السلطة الشرعية المطلقة ما يجعل له أدنى حق أو ذامتياز فيه، اعلم أن سيد العرب
والعجم، وخاتم رسل الله إلى جميع الأمم، لم يجعل لنفسه حقًّا بأن يحتجر مكانًا
صغيرًا في (منى) من أرض الحرم، يتخذ فيه مظلة تقيه حر الشمس، ولما سئل
ذلك قال: (منى مناخ من سبق) ومقتضاه أنه إذا جاء نفر من حجاج الصين
وسبقوا إلى النزول في المكان الذي ينصب فيه أمير مكة - أو ملك الحجاز- خيامه
فليس له أن يُخْرِجَهم منه، أفيملك أن يجعل لغير المسلمين حق حمايته أو أدنى
امتياز فيه؟ كلا إن كل ما تعقدونه معه في ذلك سيكون قصاصة ورق، لا يملك
تنفيذه أحد.
بل اعلم أيها الشعب الحكيم، وأعْلِم حكومتك بما لا يمكن أن تعلمه حق العلم
إلا منك؛ لأنها تحتقر جميع البشر من دونك. لا أقول: أعلمها بأنه لا يوجد مسلم
قوي الإسلام - ولا ضعيفه - يرضى بأن يكون لأي دولة أدنى سلطة أو نفوذ أو
امتياز في الحجاز، أو يجيز لمن نصبتموه ملكًا عليه أن يعقد معكم أي عهد أو اتفاق
على شيء من تلك البلاد، أو يسكت له على ذلك أو على فرض الضرائب على
الحجاج، أو على جعل حكومته دولة حربية تعادي من تشاء وتوالي من تشاء.
لا أقول لك أيها الشعب الحكيم: أعلمها بذلك، فإنها تعلمه، ولكنها لا تبالي
بعاقبته. بل أقول لك: اعلم وأعلم حكومتك بالحقيقة التي لعلها لم تعلمها، ولم
تسمع بها قبل هذا الخطاب.
أقول لك: اعلم وأعلم حكومتك أن العالم الإسلامي لا يرضى لمهد دينه
وموضع إقامة شعائره إلا أحد أمرين لا ثالث لهما (أولهما) أن تكون الحجاز في
كفالة خليفة المسلمين عندما تتجدد الخلافة الإسلامية على وجهها الشرعي ويبايع
الخليفة أهل الحل والعقد من أمراء المسلمين الحاكمين وزعماء بلادهم في جزيرة
العرب وغيرها من البلاد الإسلامية الحرة على السمع والطاعة بشروطها الشرعية،
ويكون له دولة قوية تستطيع حماية الحجاز وغيره بقوتها الذاتية، وهذا ما يجب
على المسلمين السعي إليه وقد شرعوا فيه، ولا يعلم غير الله متى يدركونه، وإنما
نعلم كما تعلم الحكومة البريطانية أنه لن يرضى شعب من الشعوب الإسلامية أن
يكون حسين بن علي بن عون خليفة للمسلمين، وإن لقَّبَه ابنه عبد الله أو جميع
أولاده وصنائعهم (بأمير المؤمنين) .
(الثاني) أن تكون الحجاز قطرًا سلميًّا على الحياد باعتراف جميع الدول
الإسلامية وغير الإسلامية: لا يعتدي ولا يُعْتَدَى عليه، ولا يُقَاتِل ولا يُقَاتَل، ولا
يكون لفرد من الأفراد ولا لشعب من الشعوب ولا لدولة من الدول امتياز فيه، وأن
تكون له حكومة إسلامية شورية لحفظ الأمن وإقامة العدل، وتسهيل سبل الحج،
وتعمير البلاد، وتنفيذ مضمون قوله تعالى: {سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج:
25) . وأن يكون لهذه الحكومة مجلس شورى مُؤَلَّف من أشراف الحجاز وعلمائها
بالانتخاب، ومن أعضاء مختارين من علماء جميع الشعوب والأقطار التي تحج
بيت الله الحرام، وتزور حرم رسوله عليه وآله الصلاة والسلام - كاليمن
وعسير ونجد وسورية والعراق ومصر وسائر أقطار إفريقية والترك والفرس
والأفغان والهند وجاوه والصين - وأن يكون لهذه الحكومة حرس مؤلف من
الحجازيين ومن جند الحكومات الإسلامية المستقلة، التي لا سيطرة فعلية عليها
لدولة أجنبية، كحكومات جزيرة العرب والترك والفرس والأفغان ومصر (التي
سيتم استقلالها في هذا العام بمشيئة الله)
وهذا هو الممكن الآن الذي يجب على العالم الإسلامي أن يبادر إلى السعي
إليه، ووضع النظام له والسعي لتنفيذه، وهو فاعل إن شاء الله تعالى، وحينئذ تعلم
الدولة البريطانية إن لم تعلم اليوم أن سمسارًا اسمه (ناجي الأصيل) لا يستطيع أن
يضع معاهدة بين حسين بن علي موكله وبين وزارتي المستعمرات
والخارجية البريطانيتين في شأن الحجاز وبلاد العرب بحيث تنفذ على الأمة العربية
والشعوب الإسلامية كلها، وتذل رقاب 300 مليون من المسلمين لها.
لقد أسرفت الحكومة البريطانية في احتقار العالم الإسلامي؛ إذ ظنت أن
خضوع هذا الرجل وأولاده لها يجعلها قيمة ووصية على البلاد الحجازية، وسيدة
للأمة العربية، وستعلم وتعلمون أن هذا الاحتقار، وما يُبْنَى عليه من الأعمال، لن
يفيدها إلا إسراف العالم الإسلامي كله في عداوتها، ويضل سعيها في حمل ناجي
الأصيل على بوارجها الحربية وغير الحربية، في سبيل استخدامها إياه بين لندن
ومكة.
سيعقد مؤتمر إسلامي حر يقرر أمر الحجاز وحكومته وحرسه على القاعدة
التي أشرنا إليها؛ إذ لا سبيل إلى إنقاذه وحريته بدونها، وسيبلغ قراره لحكومة
الحجاز الحاضرة ولجميع الدول ولا سيما ذوات الرعايا من المسلمين، ولا يسع
الدولة البريطانية حينئذ إلا أحد أمرين: إما نصر صنيعتها حسين بن علي عون،
الذي تعهدت بحماية الحجاز له لتكون لها السيادة على الحرمين الشريفين، إن لم
يكن بإبرام المعاهدة الجديدة، فبما يسميه هو مقررات النهضة المعروفة [1]- وإما
النزول على إرادة العالم الإسلامي وانتظار حكمه، تفاديًا من إظهار عداوتها له
ولدينه. أفليس الخير لها أن تنفض يدها من هذه المعاهدة وأمثالها اختيارًا، قبل أن
تضطر إلى إقرار إحدى الخطتين اضطرارًا؟
ثم اعلم أيها الشعب الإنجليزي الحكيم أن كل ما تنفقه حكومتك الحاضرة من
أموالك لأجل السيطرة على بلاد العرب واحتكار خيراتها ستضيع كما ضاعت
الأموال التي بذلتها في سبيل الحجاز، فإياكم أن تتبعوها فتبذلوا أموالكم في تأليف
الشركات، لما عقدته أو تعقده لكم في جزيرة العرب من الامتيازات، فإنكم لن
تنالوا من هذه الامتيازات - والحالة هذه - إلا الخسار.
أيها الشعب الإنجليزي العاقل! إن حكومتك تعلم أن صاحب هذا الخطاب
صدوق لا يكذب، وصريح لا يخدع ولا يختل، فإنه بيَّنَ لرجالها خطأهم في
المسألتين العربية والإسلامية قولاً وكتابة، وظهر لها صدق أقواله، وصواب آرائه،
ولكن لم تعمل بها، لمخالفتها لأهوائها ومطامعها، فإذا رأت تأثير هذا الخطاب في
شعبها، فستقول له: إنه خطاب عدو لها، وما هو بعدو لأحد، ولكنه صديق لأمته
وملته، ويرى أن من الممكن أن يكون الشعب الإنجليزي (ودولته من ورائه)
صديقًا لهما أيضًا، ويرغب كغيره من عقلاء الأمة في ذلك، ويعلم أن رجال هذه
الدولة يعرفون الوسيلة المثلى لتحقيق هذه الصداقة ولا يبتغونها، وإن كانوا يدعونها؛
لأنهم ألِفوا سياسة قديمة لا يتركونها، ولكن الشعب الإنجليزي إذا عرفها فلا يعز
عليه أن يوجدها؛ لأن من عادته أن يساير طبيعة الاجتماع لا أن يعاندها، وسأبينها
له في خطاب آخر كما بينتها لحكومته من قبل في مذكرات آخرها (مذكرة في بيان
رغائب العرب والمسلمين السياسية) أرسلتها إلى الوزير لويد جورج في يونيو سنة
1919 وحملها إليه رجل من كبار الإنجليز. وسأذكر خلاصتها لكم، فإما أن نجد
فيكم من يقدر أن يجمع بين مصلحتنا ومصلحتكم، وإما نيأس منكم كما يئسنا من
حكومتكم، واليأس إحدى الراحتين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار الإسلامي
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(1) إن من مواد قرارات النهضة التي بنى عليها أمير مكة ثورته أن تكون البلاد العربية وفي مقدمتها الحجاز بمنزلة القاصر في حجر الدولة البريطانية، وأن على هذه الدولة حمايتها في الداخل والخارج حتى في قمع الفتن والثورات الداخلية والأهلية.(24/441)
الكاتب: محمد أمين الحسيني
__________
دعوة عامة
من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين
لعمارة الحرم القدسي الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) .
إلى إخواننا المسلمين في أقطار الأرض عامة نقدم هذه الدعوة الشاملة لنلفت
أنظاركم إلى أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين: المسجد الأقصى الذي بارك
الله تعالى حوله وجعله آية من آياته الكبرى.
وبعدُ؛ فإن الحرم الشريف المشتمل على مسجدي الأقصى المبارك،
والصخرة الشريفة، وما يحتويان من المباني البديعة، والكنوز الفنية القيمة النادرة
المثال - هو عُرْضَة لكارثة عظمى قد تأتي عليه اليوم أو غدًا لا يبقى منه إلا أثره (لا
سمح الله) وذلك أن بنيانه المتين قد تصدع في بعض أقسامه المهمة كقبة الأقصى
التي لم يخلق مثلها في البلاد نفاسة وبهاء وإتقانًا، فإنها آيلة للسقوط من جَرَّاءِ تأثير
العوامل الطبيعية عليها كالمطر والشمس والثلج والأعاصير الشديدة التي نقبت ما
يكنها من صفائح الرصاص، ونخرت ما قامت عليه من الأخشاب منذ زمن بعيد.
وكذا قبة الصخرة الشريفة وأعمدتها وما يستر جوانبها من القيشاني الفاخر. وما
يزينها من الفصوص المذهبة المنقطعة النظير، إلى غير ذلك مما يوشك أن ينهار من
هذين المعبدين الجليلين اللذين تشد إليهما الرحال من أقصى المعمورة واستنزال
روحانية الله تعالى ونبيه الكريم [1] صلى الله عليه وسلم في ظلهما {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (النور: 36-37) .
أما قيمته الفنية فحدِّث عنها ولا حرج، ويكفيك في بيان عظمتها تقاطر الناس
لمشاهدتها من كل فج عميق فترى المشارقة والمغاربة والمسلمين وغير المسلمين
يؤمونها زرافات ووحدانًا للتمتع برؤية أبدع ما وصل إليه السلف الصالح من
الفنانين المسلمين في هندسة المباني وقدره حق قدره.
ولقد أحس القائمون على الحرم الشريف بتصدع مبانيه قبيل الحرب الكبرى
فقدر الخبيرون من المهندسين لترميمه بعد الكشف عليه نحو خمسة وثلاثين ألف
جنيه، فحالت الظروف السيئة دون الشروع بذلك، وازداد التصدع إبان الحرب فقدر
ما يلزم لعمارته إذ ذاك بنحو خمسة وسبعين ألف جنيه. ولما وضعت الحرب
أوزارها وتألف المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى كشف على البناء ثالثة؛ فإذا به
يحتاج لنحو مائة وخمسين ألف جنيه على أقل تعديل. فصرف المجلس همته
للشروع في الترميم حالاً خوفاً من اتساع الخرق وتفاقم الخطر، ودعا لذلك
الغرض أكبر رجال الفن لدرس الموضوع والمباشرة في العمارة فألف هيئة تحت
رئاسة الأستاذ المعماري القدير كمال الدين بك الذي استدعي حالاً من دار الخلافة
للقيام بهذا العمل الخطير، فلبى الطلب وشرع مع أعضاء هيئته بوضع الخطط
اللازمة وطفق المجلس الإسلامي الأعلى يمده بما تصل إليه يده من فضلة أموال
الأوقاف المحلية، غير أن مال الأوقاف في فلسطين قليل لا يكاد يكفي لعشر معشار ما
يقتضيه مثل هذه العمارة العظيمة، فرأى المجلس الإسلامي أن يستصرخ جميع الأمم
الإسلامية جماعات وأفرادًا لمد يد المعونة والاشتراك في حفظ هذا المكان المقدس
الذي يعطف عليه ثلاثمائة مليون من البشر كلهم متساوون في احترامه وتقديسه
والغيرة عليه من أن تصل إليه يد البلى والاندثار.
فالبِدَار البِدَار معاشر إخواننا المسلمين إلى هذا العمل الصالح والمأثرة الحسنة،
ولتجُد كل نفس بما تقدر عليه عاجلاً؛ إذ خير البر عاجله، واذكروا قوله تعالى:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 18) وفقنا الله
وإياكم جميعًا لعمل الخير وخير العمل، إنه سميع مجيب.
الفقير إليه تعالى ... ...
... ... مفتي الديار المقدسة ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى
... ... ... ... ... ... ... محمد أمين الحسيني
(المنار) المسجد الأقصى الذي شرَّفه الله بذكره في كتابه كما شرفه بجعله
البيت الثاني من بيوت عبادته التي سخر لوضعها ورفع قواعدها لأول مرة رسله
الكرام، وجعلها إرثًا باقيًا لإقامة الإسلام، وقد بذل ملوك المسلمين في بنائه وتشييده
ألوف الألوف من الدنانير، وأهرقوا في سبيل حفظه وحمايته دماء مئات الألوف من
مجاهديهم، وقد أمسى الآن عُرْضَة للخراب فالذهاب من أيديهم، إذا لم يتداركوا
أمره بالتعاون بينهم، ولا يخفى أن كل مساعد علي تجديد بنائه وحفظه يكون شريكًا
في الأجر لمن سبقهم في ذلك من رسل الله تعالى والمجاهدين في سبيله من المؤمنين،
وجديرًا بحسن الذكر بالحق في الآخرين، وأولى الناس بالسبق إلى ذلك أمراء
المسلمين وملوكهم وكبار زعمائهم، وقد سبق ملك مصر إلى العطف على هذا العمل
ووعد بمساعدته ومساعدة حكومته له، ولا غرو فمصر أولى بالسبق لما لهذا
المسجد الشريف عليها من حق الجوار، ولما لها فيه من تالد الآثار، وكيف وهذا
الأثر العظيم الذي تفتخر به المدنية العربية الإسلامية قد بني بمال مصر، إذ أُرصد
له خراجها سبع سنين كما هو مُبَيَّن في الخلاصة التاريخية التالية، وستؤلف في
مصر لجنة لجمع الإعانة تحت رعاية الملك. ومن بلغته هذه الدعوى في أي قطر
من الأقطار ووفقه الله تعالى لإجابتها، فليرسل ما تجود به نفسه حوالة على إحدى
المصارف المشهورة في القدس الشريف (فلسطين) أو في لندن باسم رئيس
المجلس الإسلامي الأعلى في القدس محمد أمين الحسيني.
__________
(1) المنار: هذه العبارة منتقدة لفظًا ومعنى، ولعله وقع فيها تحريف كما وقع في الآية التي افتتح بها الكلام وصححناه، فالروحانية لا تضاف إلى الله تعالى ولعل أصلها لاستنزال رحمة الله تعالى وروحانية نبيه بمعنى دعاء الله بإنزال رحمته وإمداد الداعي بروح الحق النبوية، والظاهر أن المفتي الفاضل كتب الأصل، ولم يصححه عند الطبع.(24/448)
الكاتب: عن الرسالة التي نشرها المجلس الإسلامي الأعلى مع الدعوة
__________
صفة المسجد الأقصى الشريف
وخلاصة تاريخية له [1]
(1)
جمال الحرم وجلال مبانيه الفنية:
للمباني التي يتألف منها الحرم الشريف جمال وجلال يشعر بهما حالاً كل من
يُتَاح له التمتع بمشاهدته أيًّا كان سواء في ذلك العالم والجاهل، الكبير والصغير،
المسلم وغير المسلم، فإذا سرح الطرف متأملاً في عجائب صنعتها ازداد تأثره،
واتسع شعوره وحلَّق وجدانه مرتقيًا من الحسن إلى الأحسن ومن السامي إلى الأسمى،
فيخشع قلبه وتحل عليه روحانية لطيفة تسمو بنفسه إلى إدراك حقائق الدين
ودقائق معانيه ونبيل مقاصده، إلى غير ذلك مما يدل على بلوغ فناني العرب
والمسلمين الغاية القصوى في الإتقان والإبداع.
فالداخل إلى الحرم المكرم من أي باب من أبوابه المباركة تأخذه روعة المقام
الشريف؛ إذ ينبسط أمامه مشهد من مشاهد السعة والصفاء: رحب فسيح ينشرح له
الصدر، وينجلي بمرآه الذهن فلا يلبث النظر أن يرسل رائده إلى ما حوله من
المباني الفخمة المتنوعة بتناسب تام من مربع إلى مسدس إلى مثمن إلى مستطيل
إلى كروي إلى أسطواني … على أشكال وأوضاع متلائمة آخذ بعضها برقاب بعض
تسر الناظرين، وتسبح بحمد رب العالمين.
وترى أروقة ممتدة على جوانب الساحة يتخللها النور والهواء فتنزل على
النفس السكينة والهناء، وقببًا عظيمة تحنو على ما تحتها من المعابد ولا حنو الأم
على فطيمها، وأساطين شاهقة ترفع ما فوقها بقوة ومتانة، وأعمدة هيفاء مختلفة
الأشكال والألوان، قامت صفوفًا متزاوجة توحي إلى القلوب الاحترام وحب النظام،
ومآذن تخترق الفضاء، وتمعن في العلاء، لتكون رسولاً بين الأرض والسماء،
ومنادياً ينادي الناس كل يوم خمس مرات (بحي على الصلاة، حي على الفلاح)
ومقاصير وفساقي، وأدراجًا ومراقي، ومنابر خاشعة، تتلى عليها المواعظ الحسنة
ومحاريب ساكنة يستقبل فيها المصلون وجه ربك ذي الجلال والإكرام، ويذكرون
فيها اسمه تبارك وتعالى في الغدو والآصال.
وكل ذلك قد أحكم بناؤه من حجر منقوش، أو مرمر مسنون، أو خزف
مصقول، أو خشب منجور، أو صفر مطلي بالفضة أو مكسو بالتبر، أو فص
مُذَهَّب يعلوه التزيين والتلوين، والتشجير والتزهير، والتذهيب والترصيع،
والوشي والزخرفة والتنميق … فإذا أشرقت الشمس وامتزج نورها بتلك التراكيب
الهندسية البديعة رأيت لها لألاء يأخذ الأبصار ويملأ الجوانح وينقل النفوس إلى نعيم
قدسي لا يُدْرَك كنهُهُ، ولا يُعْرَف سره.
فتبارك الله أحسن الخالقين.
المساحة - السور - الأبواب
يقع الحرم القدسي الشريف على مساحة مربعة طول الجهة الغربية منها
(490) مترًا، والشرقية (474) مترًا، والشمالية (321) مترًا والجنوبية
(283) مترًا، يحيط بها سور يتراوح ارتفاعه بين (30) مترًا (عند الزاوية
الشمالية الشرقية) و (40) مترًا (في الجنوب الشرقي) ويبلغ بعض الحجارة فيه
نحو 5 أمتار طولاً في أربعة أمتار عرضًا وحول السور من جهة الغرب والشمال
أروقة فسيحة معقودة يتخللها بعض أبواب الحرم وهي 14 بابًا المشروع منها أحد
عشر وهي:
1- في الجهة الشمالية: باب الأسباط، وباب حطة، وباب شرف الأنبياء أو
الدويدار (العتم) .
2- في الجهة الغربية: باب الغوانمة (وكان يسمى قديمًا بباب ميكائيل)
وباب الحديد، وباب القطانين، وباب المتوضأ، وبابا السلسلة والسكينة (وهما
متلاصقان) وكان باب السلسلة يعرف قديمًا بباب داود، وباب المغاربة (وكان
يسمى بباب النبي) .
ومن الأبواب غير المشروعة بابا الرحمة والتوبة المعروفان بباب الذهب،
وهما في السور الشرقي للحرم الشريف، وباب آخر في السور القبلي.
قبة الصخرة
شيد جامع الصخرة الشريفة على صحن مربع مفروش بالبلاط المصقول طوله
من القبلة إلى الشمال أكثر من عرضه من المشرق إلى المغرب وارتفاعه 3 أمتار
يُصعد إليه بأدراج من الجهات الأربع: اثنان منها في الجهة الشمالية، وواحد في
الجهة الشرقية، واثنان آخران في الجهة الجنوبية، وثلاثة في الجهة الغربية، وقد
عقد على كل درج من أعلاه قناطر هيفاء، محمولة على أعمدة من رخام وأركان
من البناء، فكأن كل قنطرة منها إطار يبدو منه للرائي عن كثب منظر جامع للقبة
وبدائعها الرائعة.
والقبة قائمة على بناء فخم مثمن الشكل ذرع كل تثمينة منه (29) ذراعًا
وثلث ذراع أو 20 مترًا و 40 سنتيمترًا، وقد كسي القسم السفلي من ظاهره
بالرخام الأبيض المشجر والقيشاني البديع الذي يترقرق فيه ماء الألوان المتزاوجة
من لازوردي صاف، وأخضر قاتم، وأبيض ناصع، يعلو ذلك شبه أفريز رسمت
عليه آي القرآن الكريم بخط جميل، وقد صنع هذا القيشاني العجيب في أيام
السلطان سليمان القانوني سنة 969 للهجرة.
وللقبة سقفان من خشب (التنوب) أحدهما فوق الآخر بينهما خلاء متسع،
فأما الخارجي منهما فمكسو بشقائق الرصاص من الخارج، وأما الداخلي فمدهون
مذهب، وسيأتي وصف ذلك.
وتحتوي كل تثمينة من البناء على سبع طاقات للتي لا باب فيها، وعلى ست
للتي لها باب، والطاقات المحاذية لأطراف التثمينات مسدودة كلها، والأخرى
مركب عليها الزجاج والشبابيك الحديد، وشكلها الحاضر يدل على أنها جددت في
القرن العاشر الهجري (أي في القرن السادس عشر للميلاد) .
ولجامع الصخرة أربعة أبواب مزدوجة داخلا وخارجًا مربعة الشكل بعقود
مقوسة وهي:
باب الجنة في الشمال، وباب النساء في الغرب، وباب داود أو باب السلسلة
في الشرق، وباب القبلة في الجنوب، وأمام هذا الباب الأخير من الخارج رواق
مفروش بالرخام عليه سقف مكسو بالقيشاني في وسطه قنطرة معقودة والسقف
محمول على ثمانية أعمدة من الرخام مختلفات في النوع واللون، وللباب المذكور
مِصْرَاعَان ملبسان بالنحاس الأصفر المنقوش. عليها أقفال نفيسة متقنة الصنع،
وأما الأبواب الثلاثة الأخرى فيرجح أنها كانت مثل الباب القبلي، وهي الآن لا
أروقة لها.
ويبلغ دور البناء من الداخل 53 مترًا، وهو مقسم إلى ثلاث دوائر يفصل
بعضها عن بعض صفان مستديران من الأعمدة والأركان يتألف الأول منهما من
ثماني سواري مسدسة الأضلاع و 16 عمودًا منها (أبيض وأزرق) عشرة،
و (أخضر مرسيني) ثلاثة، و (شحم ولحم) [2] ثلاثة، والصف الثاني مؤلف
من أربع سوارٍ مربعة الأضلاع، واثني عشر عمودًا، منها سبعة (أخضر
مرسيني) وخمسة (شحم ولحم) .
والسواري ملبسة بالرخام المشجر والملون البديع، والأعمدة قديمة جدًّا وأكثر
تيجانها تدل على أنها من الطراز الروماني أو البيزنطي القديم، ويربط أعمدة
الصف الأول بعضها ببعض وبالسواري (بساتل) [3] ملبسة بالنحاس الأصفر
المنقوش المذهب. وتحمل هذه الأعمدة مع جدار الجامع سقفًا مائلاً بعض الميل
مدهونًا بأنواع الدهان قائمًا على قناطر مرصعة بالفص المُذَهَّب متصلاً طرفه
الأعلى بكرسي القبة.
ويزين باطن القبة مجموعة لا نظير لها من الفصوص الملونة تمثل 64 شكلاً
من الزخارف على نحو ما كان يصنعه فنانو البيزنطيين وهي مركبة على سطح
موشى بالذهب يأخذ ببصر الناظر ولبه. وفي كرسي القبة ست عشرة طاقة زجاج
مذهبة يعلو كل منها طبقة من الجبس مقسمة عيونًا مغطاة بقطع الزجاج المختلفة
الألوان والأشكال تنفذ منها أشعة الشمس صافية ملطفة بفضل ألواح الزجاج
الخارجية والمشبكات المصنوعة من القيشاني. وعلى هذه الطاقات نقوش تدل على
أنها صنعت في زمن السلطان سليمان سنة 945 هجرية كما أن المرمر الذي
يكسوها إنما ركب في زمن (السلطان) صلاح الدين وجدد في أيام السلطان سليمان
المذكور.
والصخرة الشريفة واقعة داخل درابزين [4] من خشب منقوش مدهون بأنواع
الدهان طولها 17.70 مترًا وعرضها 13.50 مترًا وارتفاعها عن الأرض يبلغ
نحو 1.25 متر إلى مترين وينزل إلى المغارة التي تحتها بإحدى عشرة درجة من
جهة القبلة، وعند باب المغارة قنطرة معقودة بالرخام العجيب على عمودين
وبباطنها محرابان كل محراب على عمودي رخام لطيفين، وأمام المحراب الأيمن
صفة تسمى مقام الخضر يواجها عمود رخام قائم للسقف وآخر راقد، وفي الركن
الشمالي منها صفة تسمى مقام الخليل.
وجميع باطن أرض الصخرة والمغارة مفروش بالرخام وفي وسط المغارة
بلاطة مستديرة ينبعث عنها إذا نقر عليها رنين تتجاوب أصداؤه، وهذا يدل على
خلو ما تحتها. وحول الدرابزين الخشبي مصلى النساء، وهو مُحَاط بالقضب
الحديدية من جميع جهاته وله أبواب أربعة لا يفتح منها عادة إلا الباب الغربي
الموازي لباب النساء، وهو من عمل الصليبيين إبان احتلالهم بيت المقدس.
صفة المسجد الأقصى
يقع المسجد الأقصى جنوبي جامع الصخرة وطوله 80 مترًا وعرضه 55
مترًا ما عدا ما أضيف من الأبنية.
وأول ما يقابلك من المسجد الأقصى عند الدخول إليه من الجهة الشمالية رواق
كبير أنشأه الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق سنة 634
هجرية وجُدد مِن بعده، وهو مؤلف من سبع قناطر عقدت على ممشى ينتهي إلى
سبعة أبواب كل باب يؤدي إلى (كور) من (أكوار) المسجد السبعة، وللمسجد
عدا هذه الأبواب باب في جهة الشرق، وآخر في جهة الغرب، ومدخل إلى المكان
المعروف بجامع النساء، فيكون مجموع ما للمسجد من الأبواب عشرة والبناء قائم
على خمسة وأربعين عمودًا، منها ثلاثة وثلاثون من الرخام واثنا عشر مبنية
بالأحجار وهي تحت (الجملون) [5] والعمود الأخير مبني بالحجارة أيضًا وموضعه
عند الباب الشرقي تجاه محراب زكريا، وهذه الأعمدة قديمة نقلت في الغالب من
أنقاض أبنية متنوعة أقدم عهدًا من الحرم، وفوق الأعمدة قناطر عريضة حديثة
العهد يربط بعضها ببعض أخشاب ضخمة مستطيلة وفوق القناطر صفان من
الطاقات، العلوية منها تفتح على الخارج والسفلية على (الأكوار) داخل المسجد
وباطن السقف مكون من عوارض كلها من الخشب.
وعدة ما في المسجد من السواري أربعون وهي ضخمة مربعة الشكل مبنية
بالحجارة.
وبأقصى البناء من جهة الجنوب قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة المذهبة،
وهي مما رمَّمه صلاح الدين الأيوبي، وذلك في سنة 584 هجرية كما أنه رمم
أكبر جناحي المسجد، والقبة والجناح على الغالب إنما صنعا في خلافة المهدي بعد
تهدم المسجد بفعل الزلازل. وهي كقبة الصخرة من خشب مكسوة بصفائح
الرصاص من ظاهرها وبالفص المُذَهَّب من باطنها. ومجدد هذه التزيينات هو
الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 728 للهجرة كما يفهم ذلك من الكتابة التي
عليها وهناك آيات قرآنية كتبت بخط كوفي على جانبي المحراب. والمحراب قائم
على أعمدة لطاف من المرمر وبجانبه المنبر وهو من الخشب المرصع بالعاج
والآبنوس أمر بصنعه خصيصًا لبيت المقدس الملك العادل نور الدين الشهيد وهو
بحلب سنة 564 هـ فلما فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين أمر بإحضاره
ونصبه في المكان الموجود به حالاً.
ويقابل المنبر دكة المؤذنين وهي على عمد من رخام في غاية الحسن وبداخل
المسجد من جهة الغرب جامع النساء أو جامع الأبيض وهو عبارة عن عشر قناطر
على تسع سوارٍ في غاية الإحكام بناه الفاطميون. ومن جهة الشرق جامع عمر وهو
معقود بالحجر والجير سمي بذلك لأنه بقية من الجامع الذي بناه عمر رضي الله عنه
حين الفتح. وإلى جانب هذا البناء إيوان كبير معقود يسمى مقام عزيز وبه باب
يتوصل منه إلى جامع عمر، وبجوار هذا الإيوان من جهة الشمال إيوان لطيف به
يسمى محراب زكريا عليه السلام وهو بجوار الباب الشرقي.
وفي صحن المسجد الأقصى شمالاً بركة مستديرة من رخام سورت بالقضب
الحديدية يقال لها الكاس يأتيها الماء بأنابيب خاصة من عيون جارية بالقرب من
برك المرجيع المسماة ببرك سليمان أهمها عين عطاب ووادي الآبار وغيرهما.
ومنها يتوضأ المصلون.
ومن الآثار المهمة في الحرم الشريف: البناء السفلي المعقود بالحجر والجير
المعروف عند الإفرنج بإسطبل سليمان عليه السلام وهو عبارة عن مهد عيسى
ومحراب مريم والعقود الواسعة التي يقوم عليها المسجد الأقصى. وكذا البراق
الشريف وهو في السور الغربي وجامع المغاربة، والمدرسة النحوية (المعظمية)
وفيها اليوم دار كتب المسجد الأقصى وهي من أبنية الملك المعظم (سنة 304هـ)
ومنبر القاضي برهان الدين بن جماعة ومحرابه وقبة السلسلة وهي شرقي قبة
الصخرة وعلى شكلها. صنعت في أيام عبد الملك بن مروان. وقبة المعراج (سنة
597هـ) وسبيل قايتباي (سنة 887هـ) وما يحيط بالحرم الشريف من المدارس
القديمة كالمدرسة التنكزية وفيها اليوم المحكمة الشرعية والمدرسة المنجكية وفيها
المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والرباط المنصوري في باب علاء الدين وغير
ذلك من الآثار الإسلامية والأماكن التاريخية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (للكلام بقية)
__________
(1) من الرسالة التي نشرها المجلس الإسلامي الأعلى مع الدعوة.
(2) المنار: المراد بالشحم واللحم ما كان حجرها ذا بقع بيض وحمر على هيئة الشحم مع اللحم.
(3) جمع (بستلة) وهي عارضة من حديد تصل ما بين الأعمدة ولعلها فارسية، وقد وردت في كتاب (مسالك الأبصار في الممالك والأمصار) لابن فضل الله العمري.
(4) الدرابزين كلمة أعجمية يمكن أن يجعل محلها كلمة (كفاف) بالكسر.
(5) الجملون من أوضاع العامة، وهي تعني السقف المحدب.(24/451)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة كتاب الخلافة
أو الإمامة العظمى
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن
ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124) .? {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 165) .
هدانا الكتاب الحق، والنظر في تاريخ الخلق إلى الاعتبار بخلافة الشعوب
بعضها لبعض، وما فيها من حق مشروع وتراث مغصوب، وإلى ما للرب تعالى
في ذلك من الحِكَم والسنن الاجتماعية، والأحكام والسنن الشرعية، ومن العهد
بالإمامة العامة لبعض المرسلين، والوعد بالاستخلاف وإرث الأرض لعباده
الصالحين.
ومن تلك السنن العامة: ابتلاء بعض الشعوب ببعض، ليظهر أيها أقوم
وأقرب إلى العدل والحق، فيكون حجة له على الخلق؛ ولينتقم من الظالمين، تارة
بأمثالهم من المفسدين، وتارة بأضدادهم من المصلحين وتكون عاقبة التنازع
للمتقين، فالمتقون هم الذين يتقون باب الخيبة والفشل، ويسيرون على سنن الله
الشرعية والكونية في العمل، والصالحون هم الذين يجتنبون الفساد، ويسلكون
سبيل الرشاد، ويقَوِّمُون ما اعوَج من أمر العباد.
عهد الله تعالى بالإمامة العامة لنبيه وخليله إبراهيم، وللعادلين من ذريته غير
الظالمين [1] ، فوعد بها قوم موسى من بني إسرائيل، وقوم محمد من بني إسماعيل،
قال تعالى في الوعد الأول {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) وقال في الوفاء به: {وَأَوْرَثْنَا
القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: 137) الآية، وقال
في الوعد الثاني: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور:
55) إلخ، وقد صدق الله هذه الأمة وعده ووفى لها، كما وفى لمن قبلها، ثم
سلبها جل ما أعطاها، كما عاقب بذلك سواها، إذ نقضت عهدها كما نقضوا،
وفسقت عن أمر ربها كما فسقوا، واغترت بنسبها وبكتابها كما اغتروا، وإنما ناط
تعالى إرث الأرض بإقامة الحق والعدل، وبالصلاح والإصلاح لأمور الخلق،
واستثنى من نيل عهده الظالمين، وتوعد بسلبه من الفاسقين، وكان الواجب عليها
أن تعتبر بذلك فتثوب إلى رشدها، وتتوب إلى ربها، عسى أن يرحمها ويتم
لآخرها ما أنجز من عهده لأولها، ولكنها لما تفعل، وعسى أن تفعل.
إن المريض الجاهل بمرضه لا يصيب نجاحًا، وإن داء المسلمين ودواءه
مُبَيَّن في كتابهم المُنَزَّل، ولكنهم حرموا على أنفسهم العلم والعمل به، استغناء
عنهما بفقه المقلدين وكتبهم، ويمكن العلم بهما مما أرشدهم إليه الكتاب من السير في
الأرض للنظر في أمور الأمم والاعتبار بسنن الله في الخلق، ولكنهم قلما كانوا
يسيرون، وإذا ساروا فقلما ينظرون ويعتبرون.
الإسلام هداية روحية وسياسة اجتماعية مدنية، أكمل الله به دين الأنبياء وما أقام
عليه نظام الاجتماع البشري من سنن الارتقاء.
فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً،
ولما طرأ الضعف على المسلمين جهلوا هذا الأصل، فغلا بعضهم في الدين، فزاد
في أحكام العبادات والمحرمات الدينية والمواسم، والأحزاب والأوراد الصوفية، ما
ألفت فيه المجلدات، ويستغرق العمل به جميع الأوقات، ويستلزم جعله من الدين
نقصان دين الصحابة والتابعين إذ لم يكن لديهم شيء منه، ولو اشتغلوا بمثله لما
وجدوا وقتًا لفتح البلاد وإصلاح أمور العباد.
وأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع
للأمة الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي
بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها وأمرها
شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز
في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة،
وأنها حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية،
وممهدة لتعميم الأخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما
طرأ الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد والعمل بالأصول، ولو
أقاموها لوضعوا لكل عصر ما يليق به من النظم والفروع.
ظهرت مدنية الإسلام مشرقة من أفق هداية القرآن، مبنية على أساس البدء
بإصلاح الإنسان، ليكون هو المصلح لأمور الكون وشئون الاجتماع، فكان جل
إصلاح الخلفاء الراشدين إقامة الحق والعدل، والمساواة بين الناس في القسط،
ونشر الفضائل، وقمع الرذائل، وإبطال ما أرهق البشر من استبداد الملوك
والأمراء، وسيطرة الكهنة ورؤساء الدين على العقول والأرواح، فبلغوا بذلك حدًّا
من الكمال، لم يعرف له نظير في تاريخ الأمم والأجيال، واستتبع ذلك مدنية
سريعة السير، جامعة بين الدين والفضيلة، وبين التمتع بالطيبات والزينة، ارتقت
فيها العلوم والفنون بسرعة غريبة، حتى قال الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف
لوبون في كتابه (تطور الأمم) : إن ملكة الفنون لم تستحكم لأمة من الأمم فيما دون
الثلاثة الأجيال الطبيعية إلا للعرب. ويعني بالثلاثة الأجيال: الجيل المقلد، والجيل
المخضرم، والجيل المستقل.
لقد أتى على الناس حينٌ من الدهر وهم يظنون أن المدنية الإسلامية قد ماتت
وبليت فلا رجاء في بعثها، وأن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فلا مطمع في
موتها، ثم استدار الزمان، وظهر خطأ الحسبان، وكثر في حكماء أوروبة وعلمائها
من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بما يفتك بها من أوبئة الأفكار المادية والروح
الحربية، والمطامع الأشعبية، والإسراف في الشهوات الحيوانية، وقد كان من
أساطين أهل هذا الرأي شيخ فلاسفة العصر هربرت سبنسر الإنجليزي مؤسس علم
الاجتماع، وكثر أهله بعد الحرب الكبرى؛ لما ترتب عليها من المفاسد التي لا
تُحْصَى، فقد أرَّثت الأحقاد والأضغان بين الشعوب الأوروبية، وضاعفت المفاسد
والمشاكل المالية والسياسية، ولكنها قد هزت العالم الإسلامي والشرق كله هزة عنيفة،
وأحدثت في شعوبه ثورات لم تكن مألوفة، فسنحت له فرصة للعمل، هي مناط
الرجاء وقوة الأمل.
إن أعظم مظاهر هذه الفرصة نهضة الشعب التركي من كبوته التي قضت
على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بين الدولتين الإيرانية والأفغانية،
وبثه دعوة الاعتصام مع سائر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه في إلغاء
الامتيازات الأجنبية، والنقص من سائر القيود والأغلال السياسية والمالية،
فرجاؤها فيه أن يشد أواخيّ الإخاء مع الأمة العربية، ويتعاون معها على إحياء
المدنية الإسلامية، بتجديد حكومة الخلافة على القواعد المقرَّرة في الكتب الكلامية
والفقهية، وأن لا يرضى بما دون ذلك من المظاهر الدنيوية، ولا يغتر بتحبيذ عوام
المسلمين لما قرره في أمر الخلافة الروحية، فما أضاع على المسلمين دنياهم ودينهم،
إلا تحبيذ دهمائهم لكل ما تفعله حكوماتهم ودولهم، وناهيك بشعور المسلمين
الذين يئطون من أثقال حكم المستعمرين. إنه شعور شريف، وإنما يعوزه الرأي
الحصيف، فقد كان السواد الأعظم من هؤلاء الملايين يرمي من يخالف أهواء
السلطان عبد الحميد بالخيانة أو المروق من الدين، وهو السلطان الذي أقنع جمهور
ساسة الترك بإسقاط سلطة السلاطين، الذي تحمده اليوم هذه الملايين، وما لهم بهذا
ولا ذاك من علم ولا سلطان مبين.
أيها الشعب التركي الحي: إن الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو
الذي يمكن أن يحيي مدنية الشرق وينقذ مدنية الغرب، فإن المدنية لا تبقى إلا
بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا
الإسلام، وإنما عاشت المدنية الغربية هذه القرون بما كان فيها من التوازن بين بقايا
الفضائل المسيحية، مع التنازع بين العلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فإن الأمم لا
تنسل من فضائل دينها بمجرد طروء الشك في عقائده على أذهان الأفراد والجماعات
منها، وإنما يكون ذلك بالتدريج في عدة أجيال، وقد انتهى التنازع بفقد ذلك التوازن،
وأصبح الدين والحضارة على خطر الزوال، واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح
روحي مدني ثابت الأركان، يزول به استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الأغنياء
للفقراء وخطر البلشفية على الأغنياء، ويبطل به امتياز الأجناس، لتتحقق الأخوة
العامة بين الناس، ولن يكون ذلك إلا بحكومة الإسلام التي بيناها بالإجمال في هذا
الكتاب، ونحن مستعدون للمساعدة على تفصيلها، إذا وفق الله للعمل بها.
أيها الشعب التركي الباسل: إنك اليوم أقدر الشعوب الإسلامية، على أن
تحقق للبشر هذه الأمنية، فاغتنم هذه الفرصة لتأسيس مجد إنساني خالد، لا يذكر
معه مجدك الحربي التالد، ولا يجرمنك المتفرنجون على تقليد الإفرنج في سيرتهم،
وأنت أهل لأن تكون إمامًا لهم بمدنية خير من مدنيتهم، وما ثم إلا المدنية الإسلامية،
الثابتة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدينية، فلا تزلزلها النظريات التي
تعبث بالعمران، وتفسد نظم الحياة الاجتماعية على الناس.
أيها الشعب التركي المتروي: انهض بتجديد حكومة الخلافة الإسلامية،
بقصد الجمع بين هداية الدين والحضارة لخدمة الإنسانية، لا لتأسيس عصبية
إسلامية تهدد الدول الغربية، فإن فعلت ذلك وأثبت إخلاصك وصحة نيتك فيه،
فإنك تجد من علماء الإفرنج وفضلاء أحرارهم من يشد أزرك ويرفع ذكرك،
ويدفع عنك تهم الساسة المفترين، وإغراء الطامعين المغررين.
أيها الشعب التركي العاقل: إنني أهدي إليك هذه المباحث التي كتبتها في بيان
حقيقة الخلافة وأحكامها، وشيء من تاريخها وعلو مكانتها، وبيان حاجة جميع
البشر إليها، وجناية المسلمين على أنفسهم بسوء التصرف فيها، والخروج بها عن
موضوعها، وما يعترض الآن في سبيل إحيائها، مع بيان المَخْرَج منها بما أشرع
السبيل وأنار الدليل، بمقال وسط بين الإجمال والتفصيل، جامع لآراء العارفين
بمصالح الدنيا وحقيقة الدين، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، وإنما الشكر لها
بالعمل بها: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) .
__________
(1) ذكر أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع في كتابه (أحكام القرآن) أن في قوله تعالى لإبراهيم: [لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] (البقرة: 124) إجابة لسؤاله أن يجعل من ذريته أئمة وتعريفًا له بذلك، وبأن الظالمين منهم لا يكونون أئمة ثم قال: فلا يجوز أن يكون الظالم نبيًّا ولا خليفة لنبي ولا قاضيًا ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مُفْتٍ أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا. فقد أفادت الآية أن شرط جميع من كان في محل الاتهام به في أمر الدين: العدالة والصلاح إلخ وذكر القاضي البيضاوي أن الجملة تفيد إجابة إبراهيم إلى مُلْتَمَسِهِ وأن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة؛ لأنها أمانة من الله وعهد وإن الفاسق لا يصلح للإمامة اهـ. ملخصًا، والمراد أن إمامة غير العدل لا تصح فلا يكون إمامًا شرعيًّا؛ لأنها لا تقع، وقد نقل الجصاص وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا يلزم الوفاء بعهد الظالم فإن عقد عليك في ظلم فانْقُضْهُ.(24/459)
الكاتب: مصطفى عبد الرازق
__________
ذكرى رينان في الجامعة المصرية
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني
(3)
كلمة المنار في المحاضرة
(الشاهد السادس)
(من العدد السابع من العروة الوثقى المؤرخ في أول مايو سنة 1884) .
موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد (عقيدة القضاء والقدر) ذكر فيها أنها
من أصول عقائد الدين الإسلامي التي ارتقى بها المسلمون، وكانوا من أعظم
الفاتحين، وأنه لولا ما طرأ عليها من الالتباس ببدعة الجبر لَما حل بالمسلمين من
الضعف والفقر ما حل بهم، وزعم من زعموا أنها هي التي كانت سبب ضعفهم
وتقهقرهم. وهاك بعض عباراتها في ذلك:
(أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشؤه هذه العقيدة
ولا غيرها من العقائد الإسلامية، ونِسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه؛ بل أشبه
ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار. نعم حدث للمسلمين بعد
نشأتهم نشوة من الظفر، وثمل من العز والغلب، وفاجأهم وهُم على تلك الحال
صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده،
وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوروبية بأسرها على ديارهم. وإن
الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة،
وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة، ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله، وولي على
أمورهم مَن لا يحسن سياستها، فكان حكامهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في
أخلاقهم وطباعهم، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم، فتمكن الضعف من نفوسهم
وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذته الآنية،
وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له الضرر ويلتمس له السوء من كل باب، لا
لعلة صحيحة ولا داع قوي، وجعلوا هذه ثمرة الحياة فآل الأمر بهم إلى الضعف
والقنوط، وأدى إلى ما صاروا إليه) .
(ولكني أقول وحق ما أقول: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد
الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم، ورسومها تلوح في أذهانهم، وحقائقها متداولة بين
العلماء الراسخين منهم. وكل ما عرض عليهم من الأمراض النفسية والاعتلال
العقلي فلا بد أن تدفعه قوة العقائد الحقة ويعود الأمر كما بدأ، وينشطوا من عقالهم،
ويذهبوا مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم، وإرهاب الأمم الطامعة إليهم
وإيقافها عند حدها) . اهـ.
(الشاهد السابع)
(من العدد الثامن المؤرخ في 22 مايو سنة 1884) .
موضوع المقالة الاجتماعية في هذا العدد المقابلة بين ماضي المسلمين
وحاضرهم في العلم والعرفان، والسيادة والسلطان، والقوة الحربية البرية
والبحرية، وبيان سبب ما كان من الارتقاء الماضي، وتنازعهم الذي فرق الكلمة،
حتى شغلوا بأنفسهم عن أعدائهم ثم صاروا ينصرون أعداءهم على أنفسهم، استعانة
بهم على استبقاء سلطانهم والتفوق على أقرانهم من إخوانهم.
قال في هذا السياق: (أما وعزة الحق وسر العدل، لو ترك المسلمون وأنفسهم
بما هم عليه من العقائد مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم،
وائتلفت آحادهم، ولكن واأسفاه، تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة
في لقب أمير أو ملك، ولو على قرية لا أمر له فيها ولا نهي) .
(هؤلاء هم الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم الله وخرجوا على ملوكهم
وخلفائهم، حتى تناكرت الوجوه واختلفت الرغائب) .
ثم قال في الخاتمة: (إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده
فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لم ينسخ فارجعوا
إليه وحكموه في أحوالكم وطباعكم، وما الله بغافل عما تعملون. ولعل أمراء
المسلمين قد وعظوا بسوء مغبة أعمال السالفين، وهموا بملافاة أمرهم قبل أن
يقضى عليهم، بما رزئ به المفرطون من قبلهم) إلخ.
(الشاهد الثامن)
(من العدد التاسع المؤرخ في 5 يونيه 1884) .
موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد، ما يجب من التعاون على طلب السيادة
والغلب واتقاء سوء المنقلب، ومما جاء فيها:
(إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة، وصدق الرغبة في حفظ حَوْزَة الإسلام،
كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم ما أشرنا إليه في
أعداد ماضية. فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم) إلخ.
(الشاهد التاسع)
(من العدد العاشر المؤرخ في 19 يونيه سنة 1884)
موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد: الأمل الذي يبعث على العمل، وطلب
المجد المؤثل، واليأس المميت للهمم، والقاتل للأمم، وفيها الحجج من آيات القرآن
ومن العقل والوجدان، على أن اليأس لا يجتمع مع الإيمان في قلب إنسان، وحث
المسلمين عامة والعلماء خاصة على الرجوع إلى هداية الكتاب والعمل بها وهي
الضامنة لهم إعادة ملكهم، واسترجاع مجدهم.
وفيها مقال آخر عنوانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: 118) ولا يخلو من شاهد ولكننا نود الاختصار.
(الشاهد العاشر)
(من العدد الخامس عشر المؤرخ في 11 سبتمبر سنة 1884)
في هذا العدد عدة مقالات اجتماعية إصلاحية إسلامية في كل منها شواهد
على ما نحن بصدد بيانه من حصر السيد جمال الدين كل ما يبغيه المسلمون من عز
ومجد وحضارة وسيادة في هداية دينهم، نكتفي منها بالكلمة الآتية التي نجعلها خاتمة
الشواهد وهي:
(لو تدبرنا آيات القرآن واعتبرنا بالحوادث التي ألمت بالممالك الإسلامية
لعلمنا أن فينا من حاد عن أوامر الله وضل عن هديه، ومنا من مال عن الصراط
المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدنا إليه، وبيننا من اتبع أهواء الأنفس وخطوات
الشيطان {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) فعلى العلماء الراسخين وهم روح الأمة وفؤاد
الملة المحمدية أن يهتموا بتنبيه الغافلين عما أوجب الله، وإيقاظ النائمة قلوبهم عما
فرض الدين، ويُعلّموا الجاهل، ويزعجوا نفس الذاهل، ويذكِّروا الجميع بما أنعم الله
به على آبائهم، ويستلفتوهم إلى ما أعد الله لهم لو استقاموا، ويحذروهم سوء العاقبة
لو لم يتداركوا أمرهم بالرجوع إلى ما كان عليه النبي وأصحابه، ورفض كل بدعة،
والخروج من كل عادة سيئة لا تنطبق على نصوص الكتاب العزيز، ويقصوا
عليهم أحوال الأمم الماضية وما نزل بها من قضاء الله عندما حادت عن شرائعه
ونبذت أوامره {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الخِزْيَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ} (الزمر: 26) .
(على العلماء أن يزيلوا اليأس بتذكير وعد الله - ووعده الحق - في قوله:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور: 55) هذه وظيفة العلماء الراسخين وما هم بقليل بين المسلمين ولا نظنهم
يتهاونون فيما فوَّض الله إليهم ووكَّل إلى ذمتهم، وهم أمناء الدين وحملة الشرع
ورافعو لواء الإسلام وأوصياء الله على المؤمنين، أعانهم الله على خير أعمالهم،
ونفع المؤمنين بإرشادهم) .
***
(خلاصة الكلام في السيد جمال الدين)
قد علم من هذه الشواهد صحة ما حقَّقْنَاه من أن السيد جمال الدين الأفغاني كان
يعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإسلام هو الذي أحيا الأمة العربية الأمية التي كانت بعيدة
عن الحضارة وجعلها بإرشاد القرآن المنزل، وهدى النبي المرسل، وسيرة السلف
الأول، أرقى أمم الأرض علمًا وحكمة وحضارة، وأن كل ما يذمها به رينان اليوم
فسببه محصور في تركها لتلك الهداية، لا من العمل بها، ولا غرو فإن بقاء الشيء
ببقاء سببه وعلته، وإن الأمة العربية هي التي أحيت كثيرًا من الشعوب الأعجمية
وأنقذتهم من الذل والمهانة التي كانوا يُسامونها من ملوكهم وكهنتهم، وأن هؤلاء
الأعاجم هم الذين تغلبوا على الحضارة العربية بالقوة الوحشية حتى هدموها، وأنه
لا يمكن أن يعود للمسلمين مجدهم وحضارتهم وعلمهم وحكمتهم إلا برجوعهم إلى
هداية دينهم.
فسقط بهذا كل ما قاله رينان وعلم به خطأ استنتاج الأستاذ الشيخ مصطفى عبد
الرازق مما فهمه من كلام السيد أنه تطور بعد زيارته لباريس في أواخر سنة
1883 وتغير رأيه في الإسلام فصار يعتقد أنه مناف للعلم والحضارة.
***
الرد على رينان
بعد هذا نلخص ما أورده الشيخ مصطفى من طعن رينان في الإسلام نفسه
ونُبين بطلانه بغاية الإيجاز، من غير خروج عن الموضوع ولا استطراد فنقول:
(1) (بدأ رينان محاضرته بالنظر فيما عليه المسلمون في هذا العصر من
الانحطاط في العلم والمدنية وملاحظة اتصال ذلك بالدين) كما قال صاحب
المحاضرة، ثم نقل عنه أنه زعم أن هذه الدول الإسلامية المنحطة في هذا العصر
لا تستقي معارفها وآدابها من غير الدين، وأن الذين زاروا الشرق استرعى نظرهم
ما يجعل المؤمن الصادق الإيمان لا ينجو من ضيق العقل، وأن الطفل الذكي النبيه
إذا لُقِّن دينه في سن العاشرة أو الثانية عشرة انقلب متعصبًا يملؤه زهو طائش بما
يزعم أنه الحقيقة المطلقة.
والجواب عن هذا أننا لا ننكر أنه يغلب على المسلمين الجهل وضيق العقل
في هذا العصر، وإنما ننكر أن سبب هذا ما لُقنوه من أصول دينهم وآدابه، بل
سببه الحق عدم تلقين عامتهم إياه ولا تربيتهم على ذلك وحمل طلاب العلم منهم على
التقليد الذي أجمع أئمة دينهم على أنه ينافي العلم، وعبروا عنه بالجهل، واختلفوا
في إيمان المقلد فبعضهم قال: إنه لا يُعْتَدُّ به، وهم أكثر المتقدمين، وقال بعض
آخر: إنه يصح إذا اتفق أنه لقن الحق وجزم به، واحتج مَن لا يقول بصحة إيمان
المقلد ولا يعتد بدينه بما شنع القرآن على التقليد والمقلدين وجعل التقليد منافيًا للعلم
والعقل بمثل قوله:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتبعوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) .
دع الآيات الكثيرة الناطقة بالمطالبة بالبرهان وبالعلم وبعدم الاعتداد بالظن في
الحق.
وسواء كان إيمان المقلد صحيحًا أو غير صحيح، فإن الجاهلين من رؤساء
المسلمين لم يجنوا عليهم جناية أضر عليهم في دينهم ودنياهم من نسخ ما شرعه الله
وفرضه من العلم بالبرهان، واستبدالهم إياه التقليد الأعمى الذي ألزمهم قبول كل
قول ينتسب صاحبه إلى المذهب الذي ينتمي إليه قوم الناشئ أو عشيرته؛ إذ أدى
ذلك إلى أخذ السواد الأعظم من المسلمين وهم الأميون بالرغم من بعثة رسولهم
لإبطال الأمية بقول آبائهم وأمهاتهم وما هم عليه من الجهل والخرافات بل غلب عليهم
التقليد في علوم الدنيا وفنونها وصنائعها حتى صاروا عالة على غيرهم في كل شيء.
إن فلسفة رينان، وعلمه النزر بالتاريخ وتعاليم الأديان، وجهله المطلق
بالقرآن، تحول دون فهمه لهذه الحقيقة - حتى بعد تنبيه السيد جمال الدين إياه لها -
كما فهمها غوستاف لوبون وسديو من علماء قومه وكثير من علماء الشعوب الغربية
الأخرى.
(2) شتمه للمسلمين ونبزهم بألقاب الزهو والطيش والحمق والغرور
والتعصب لاعتقادهم أن دينهم هو (الحقيقة المطلقة) (قال) : هذا الغرور الأحمق
هو أكبر عيوب المسلم وما يلوح من بساطة دينه يلهمه احتقارًا لسائر الأديان غير
وجيه.
وجوابنا عن هذا: هل جهل الفيلسوف أن كل ذي دين يعتقد أن دينه هو
الحقيقة؟ أم بلغ من عقله وفلسفته أن يظن أن المؤمنين بالأديان ينظرون إليها
بالعين التي ينظره بها أمثاله من المعطلة فيرون أنها كالعادات القومية تحترم كلها
مجاملة، ويستهجن منها كلها ما يستهجن فلسفة؟ وإذن يجب أن يكون الناس كلهم
فلاسفة مثله! ولكن من يرى هذا فأجدر به أن يكون جاهلاً غبيًّا لا فيلسوفًا.
هذا وإن المسلمين أعلى أهل الملل كلها آدابًا في مخاطبة المخالفين لهم في
الدين، ومراعاة لشعورهم في التعبير عن دينهم، وأصدقهم في النقل عنهم، فإن
كابرنا في هذا أحد فليأتنا بأنكر ما ينكرونه على علمائنا في الرد على المخالفين لهم
عامة، وعلى النصارى منهم خاصة، ونحن نأتيه بأمثلة مما كتب أعظم رجال
الدين ورجال الدنيا من الأوروبيين في الكذب والبهتان على الإسلام والإيذاء لأهله
بأشنع المطاعن البذيئة، يعلم بها الفرق.
لقد بلغ من علو آدابنا الدينية وتنزهنا عن التعصب المذموم- دون المحمود -
أن أفتى بعض فقهائنا بتحريم مخاطبة الذمي والمعاهد بلقب الكافر إذا كان يتأذى به؛
لأن الله تعالى حرم إيذاءهم؛ ولأن وصف القرآن إياهم بالكافرين لم يكن سبًّا ولا
شتمًا بل بيان لعدم إيمانهم بما شرعه من تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم بأنزه
الألفاظ في اللغة وهو لفظ الكفر المرادف للتغطية والستر، كما سمى الزراع كفارًا
في قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) لأنهم يَكفرون
الحب الذي يزرعونه بالتراب، ويطلق لفظ الكافر في لغتنا على الليل وعلى البحر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(24/466)
الكاتب: عبد المولى آل طريح ـ بغدادي
__________
المراسلة والمناظرة
(تهورات أدعياء العلم في الموصل)
لأحد العلماء الأعلام
ولو أني بُلِيتُ بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن ... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
ما أكثر الأدعياء، أدعياء العلم والأدب في هذا العالم، وما أعظم إفسادهم لسنن
الكون وتكديرهم صفو الحياة!
كل يوم تقرع صفا أسماعنا أخبار الغوائل والبوائق التي تصدر منهم والشرور
التي يأتونها، والمخازي التي يرتكبونها، والمحارم التي يستحلونها. وهم دائبون
في ذلك آناء الليل وأطراف النهار لا يردعهم رادع من ديانتهم، ولا يزعهم وازع
من أنفسهم.
أولئك الذين لا هَمَّ لهم في حياتهم إلا اصطياد طائر الرزق من منصب
يجلسون على منصته ويطلبون به الجاه والدنيا. ووظيفة ينالون بها مطامع أنفسهم
الخبيثة المطبوعة على الطبَع والدنس وارتكاب الرذائل والدنايا.
وليس لهم هم بغير رئاسة ... وما همهم إلا صدور المناصب
طرق سمعنا قبل أيام نبأ حادثة صدرت من بعض الأدعياء المتقمصين بثياب
أهل العلم، والمتردين بأردية أهل الزهد من أهل الموصل. فلم نثق به ولم نؤمن
لأنه نبأ لو تعلمون عظيم، ذلك النبأ هو تكفير أعظم علماء الإسلام وأجلهم قدرًا
وأرفعهم ذكرًا. ألا وهو المجدد العظيم والمصلح الكبير محيي الدين وفيلسوف
الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه! والأمر بإحراق
بعض كتبه ومؤلفاته التي تمزق حُجب الأوهام والشكوك، وتبدد سحب الضلالة
المتلبدة في سماء الأفكار، وتنقي العقائد من الشوائب، وتهدي للتي هي أقوم، حتى
ورد كتاب من ثقة في الموصل إلى أديب موصلي يذكر فيه تلك الحاثة وتلك العثرة
التي لا يقال لصاحبها: لعا، ومما جاء فيه:
من عشرين يومًا وردت إلى أحد العلماء مجموعة في فلسفة الدين من تأليف
الإمام ابن تيمية مطبوعة في المنار على نفقة أحد التجار الأخيار وقفًا لله تعالى،
وقد حصل في الموصل لتوزيعها تأثير شديد خاصة على من لم يوافقهم نبذ
الخرافات حتى آل الأمر إلى اجتماع بعض من يدعي العلم بذلك الفاضل الذي
وردت إليه الرسائل (في دار النقيب) والكلام معه بجمعها وإحراقها وتكفير
صاحبها ولعنه على المنابر. وبعد القرار قصروا عن جمعها وإحراقها خوفًا من
الفتن والقلاقل؛ لأن بعض الأهالي المهذبين، والشبان المتنورين كانوا مناصرين
لنشرها ومعارضة من يمد يده إليها بسوء إلخ. فانظر رعاك الله إلى هذه الفعلة
الهمجية هل رأيت أو سمعت عن البربر بإتيان مثلها بل بارتكاب أمر أقل منها
خطرًا؟
متى كانت كتب الدين وفلسفته التي تأمر باتباع الكتاب والسنة وتنهى عن
البدع والمنكرات تحرق ويلعن أصحابها فوق المنابر؟ ولا سيما مثل كتب المجدد
الأعظم إمام الأئمة تقي الدين أحمد بن تيمية الذي أحيا الدين ونشر أعلامه على
ربوع الإسلام، وتلقت أقواله الناس بالقبول وأخذت بها ورجعت إليها في كل عصر
ومصر. وأكبر دليل على ذلك وأعظم برهان هو إقبال الناس على طبع كتبه في
مصر والهند والعراق وسورية وقازان وغيرها. وأهل قازان اليوم يتبعونه بدلاً
من اتباع الإمامين الأشعري والماتريدي كما يعلم من الكتاب الذي ألفه أحد علمائهم
الأعلام بلغة (الجاغتائي) وقد سماه بابن تيمية حتى إن بعضها نفد وأعيد طبعه،
ومنها هذه الرسائل التي يأمر الأدعياء بحرقها، طبعها بعض كرام المصريين
وأفاضلهم فنفدت بمدة وجيزة، فازداد اشتياق المهذبين الذين هداهم الله إلى نبذ
التقاليد القديمة التي وجدوا عليها آباءهم وتمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها،
فطبعها بعض التجار الأبرار مع رسائل أخرى في التوحيد والإصلاح وقفًا لله
تعالى بأشهر مطبعة إسلامية ألا وهي مطبعة المنار، لأعظم رجل مصلح ألا وهو
العلامة رحلة أهل الآفاق السيد محمد رشيد رضا، في أعظم بلدة إسلامية وفي منبع
العلوم والعرفان ومحط الأجلة الأعلام وفطاحل الإسلام، ألا وهي مصر.
ولم نر أحدًا رأى فيها ما يضر بالدين أو قام بمعارضتها، والرد عليها وحكم
بكفر صاحبها، ولعنه على المنابر، ولو كان فيها شيء من ذلك لكان الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي أولى بالمعارضة والرد، وهو الذي وقف
محياه ومماته لله رب العالمين، في سبيل إصلاح المسلمين، والذب عن الإسلام
ورد أباطيل المفترين على الدين المبين.
عجيب وأيم الحق! يرتضيها الأئمة الأعلام وجهابذة الإسلام ويتقبلونها
قبولاً حسنًا، ويأخذون بها ويرجعون إليها في كل عصر ومصر، وتتذمر منها
شرذمة جاهلة تدعي العلم، وليست منه ولا قلامة ظفر، فتقوم لها وتقعد، وتبرق
وترعد، وتهذي وتعوي، وتصرخ وتهرج.
غيرة عظيمة منكم أيها الأدعياء على الدين: تتذمرون من كتب التوحيد
والإصلاح وتنهون عن مطالعتها، وتأمرون بحرقها، وتكفرون أصحابها على
المنابر، والمبشرون اليوم أخذوا ينشرون الرسائل بين ظهرانيكم ويدعون شبانكم
إلى دين النصرانية، ويبثون الدعوة إلى دين التثليث، ونشروا منها ما نشروا في
المدارس الابتدائية والكتاتيب قبل بضعة أيام، وأنتم غاضون راضون صم بكم عمي
لا تتكلمون، ولا نرى أحدًا منكم ينبس ببنت شفة أمامهم ويرد مطاعنهم ويذب عن
الدين الحنيف وينتصر له.
وهم يشهدون الطعن في دين أحمد ... وما منهم من غاضب أو معاتب
وتنظرهم ما بين كاسٍ وطاعمٍ ... وتشهدهم ما بين لاه ولاعب
فمن كان منهم غائبًا مثل حاضر ... ومن كان منهم حاضرًا مثل غائب
وليس لهم هم بغير رئاسة ... وما همهم إلا صدور المناصب
إذا كنتم أيها الأدعياء تزعمون أنكم من خيل حلبة الفضل، وكماة ميدان العلم
والإصلاح، فاكتبوا ردًّا عليها وادعموه بما عندكم من الدلائل - ولا أراكم قادرين -
فإنا نجيبكم إن شاء الله تعالى على كل ما ترونه في نظركم القاصر مضرًّا ونبين لكم
خطأكم وجهلكم بالدليل والبرهان، فأي حاجة بعد إلى الصراخ والعواء، والإرعاد
والإبراق والسب والشتم، ومجاوزة الحد في سوء الأدب وتوسيع الدائرة في لعن
العلماء الذين أحيوا الدين وجددوه، وتحريق كتبهم الهادية إلى سواء السبيل؟
فهل يعمد إلى السب والشتم واللغو والهذر إلا عاجز جاهل عيي أو صاحب
هوًى يريد أن يفرق كلمة المسلمين ويشتت شملهم ويضعف قواهم في هذا اليوم؟
اليوم نحن في حاجة كبيرة فيه إلى جمع الكلمة والتأليف بين المسلمين الذين
فرَّقهم أهل الأهواء والمطامع، وعبدة الدينار والدرهم، وعباد الملوك والسلاطين
الجائرين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بغدادي
(المنار)
إن محاولة بعض الموصوفين بالعلم جمع بعض الكتب التي لا ترضيهم من
أيدي أهلها وإحراقها ولعن مؤلفيها - فضيحة من أقبح فضائح الجهل والغباوة
والعصبية العمياء، وأمثال هؤلاء هم حجة رينان وأمثاله على الإسلام والمسلمين،
وهم الفتنة التي كانت سبب ارتداد كثير من المتعلمين عن الدين، ومن لطائف
المصادفات أن اضطررنا إلى تأخير نشر هذه الرسالة حتى اتفق وضعها في إثر الرد
على الفيلسوف رينان، ومِن شبهاته ما لم يبين تحقيق الحق ومفاسد التلبيس فيه أحد
من أئمة المسلمين كما بيَّنها شيخ الإسلام ابن تيمية كمسألة القدر التكويني والتشريعي
وما يجب الرضا به من الأول وما يجب كرهه ومقاومته (وسيأتي في الجزء الآتي)
فنحن لا نقول لهؤلاء الذين كادوا يجعلون اسم الموصل سبة في التاريخ لو نفذ رأيهم
الأفين: إنكم أخطأتم لأن هذه الكتب من الكتب النافعة، بل نقول لهم: إنكم في بلاد
فيها أديان ومذاهب مختلفة وآراء متباينة، فإذا ساغ لكل من أهلها أن يحرق ما يخالف
اعتقاده أو رأيه من كتبها لم يبق فيها كتاب ديني ولا علمي ولا أدبي ولا تاريخي! وإذا
ساغ لكم هذا وحدكم فمن أنتم؟ وبأي سلطان استبدادي تحكمون، وحكومتكم أباحت
الطعن في دينكم وكتابكم ونبيكم وأنتم راضون ساكتون؟ إن ما حاولتم لا يتم إلا
لحكومة شخصية مستبدة كحكومة أسبانية في القرون الوسطى وحكومة الحجاز في
هذا العصر، فإنها هي التي تمنع أمثال هذه الكتب النافعة، وأما بلادكم فلا يفوز فيها
بعد اليوم إلا ذو العلم الصحيح فتعلموا، وإلا ضاع دينكم ودنياكم.
***
(تظاهر العقل والشرع)
اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لن يتبين إلا بالعقل والعقل كالأس،
والشرع كالبناء، ولم يثبت بناء ما لم يكن أس ولم يغن أس ما لم يكن بناء،
وأيضًا العقل كالبصر والشرع كالشعاع ولن ينفع البصر ما لم يكن شعاع من خارج
ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر. فلهذا قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ} (المائدة: 15-16) وأيضًا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده،
فما لم يكن زيت لم يشعل السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا
نبه بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: 35) إلى
قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور: 35) وأيضًا فالشرع عقل من خارج، والعقل
شرع من داخل وهما يتعاضدان بل يتحدان ولكون الشرع عقلاً من خارج سلب الله
اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن نحو: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) ولكون العقل شرعًا من داخل قال تعالى في صفة العقل:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) فسمي العقل دينًا ولكونهما
متحدين قال: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور: 35) أي نور العقل ونور الشرع ثم
قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (النور: 35) فجعلهما نورًا واحدًا، فالعقل
إذا فقد الشرع عجز عن أكثر الأمور كما تعجز العين عند فقد النور.
واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلى معرفة كليات الشيء
دون جزئياته نحو أنه يعلم جملة حسن اعتقاد العقل (؟) وقول الصدق وتعاطي
الجميل وحسن استعمال المعدلة وملازمة العفة، ونحو ذلك من غير أن يعرف ذلك
في شيء شيء، والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته ويبين ما الذي يجب أن
يعتقد في شيء شيء، وما الذي هو معدلة في شيء شيء، ولا يعرف العقل مثلاً أن
لحم الخنزير والخمر محرمان وأنه يجب أن يتحاشى من تناول الطعام في وقت
معلوم، وأن لا ينكح ذوات المحارم، وأنه لا يجامع المرأة في حال الحيض، فإن
أشباه ذلك لا سبيل إليها إلا بالشرع، فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة، والأفعال
المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة مَن عدَل عنه فقد ضل سواء السبيل؛
ولأجل أن لا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا
لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: 134)
وإلى العقل والشرع أشار بالفضل والرحمة بقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء: 83) وعني بالقليل المصطفين
الأخيار ويصدقه ما روى عنه الإمام عليه أفضل السلام: العقل عقلان: مطبوع
ومسموع، ولا ينفع المسموع ما لم يكن مطبوع كما لا ينفع نور الشمس ونور العين
ممنوع، وقد ظهر مما ذكر أن أصحاب العقل قليل جدًّا، وأن مَن لم يهتد لنور
الشرع ولم يطابقه عقله فليس من ذوي العقول في شيء، وأن العقل فضل من الله
ونور كما أن الشرع رحمة من الله وهدًى، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
ويهدي الله لنوره من يشاء {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور:
40) ، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
... ... ... ... ... النجف (عبد المولى آل طريح قدس سره)
__________(24/473)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(مختصر شُعب الإيمان)
كتاب شُعب الإيمان للحافظ أبي بكر أحمد البيهقي المتوفى سنة 458 من
أجلّ كتب السنة قدرًا، وأشهرها ذكرًا، وهو كبير يتألف من ستة مجلدات، ولكن
شعب الإيمان التي صح الحديث بأنها بضع وسبعون متفرقة في ذلك الكتاب الكبير،
غير مجموعة في مكان منه محصية بالعدد؛ ليتمكن من حفظها أو الإحاطة بها كل
أحد من غير تكلف ولا بذل جهد، فاستخرجها منه الشيخ أبو جعفر عمر القزويني
المتوفى سنة 699 وجمعها في كتاب وجيز معدودة عدًّا، مكتفيًا بالاستدلال أو
الاستشهاد على كل منها بآية من كتاب الله، أو بحديث من أصح ما روي فيه على
الأقل، وربما زاد في بعض الشعب آية أو آيات، أو حديثًا أو كلمات، أو حكاية أو
حكايات، أو بيتًا أو أبيات كما قال. وسماه مختصر شعب الإيمان.
طبع هذا المختصر بمطبعة السعادة على ورق جيد بقطع المنار مع تعليق عليه
لأخينا السلفي الشهير الشيخ محمد منير أحد علماء الأزهر الشريف فبلغت صفحاته
91 صفحة، وهو يطلب منه ومن مكتبة المنار وثمن النسخة منه ستة قروش
صحيحة فنحث كل قارئ على اقتنائه ومطالعته.
***
(تلبيس إبليس)
كتاب جليل القدر كبير الفائدة للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي
في الإرشاد إلى التزام هداية الشرع باتباع أهل السنة والجماعة، والتنفير عن البدعة
والضلالة. وبيان مناشئ الباطل والضلال، بما يلبس به الشيطان على الناس،
حتى يوهم كل فريق منهم بأنهم على الحق، أو بأن الخير والنفع لهم فيما هم عليه
دون غيره. ومباحثه تدخل في 13 بابًا:
(1) في الأمر بلزوم السنة والجماعة.
(2) في ذم البدع والمبتدعين.
(3) في التحذير من فتن إبليس ومكايده.
(4) في معنى التلبيس والغرور.
(5) في تلبيسه في العقائد والديانات، وفيه الكلام على الملل والنِّحَل
والمذاهب والفرق.
(6) في تلبيسه على العلماء في فنون العلم ويدخل في العلماء المحدثون
والمتكلمون والفقهاء والوعاظ والأدباء وغيرهم.
(7) في تلبيسه على الولاة والسلاطين.
(8) في تلبيسه على العباد في فنون العبادات.
(9) في تلبيسه على الزهاد.
(10) في تلبيسه على الصوفية.
(11) في تلبيسه على المتدينين بما يشبه الكرامات.
(12) في تلبيسه على العوام.
(13) في تلبيسه على جميع الناس بطول الأمل.
طبع الكتاب في مطبعة السعادة بقطع المنار ونوع حروفه فبلغت صفحاته
440 مع الفهرس وجعل الاسم الأول له (نقد العلم والعلماء) وعني بتصحيحه
أخونا الشيخ محمد منير الدمشقي السلفي من علماء الأزهر، وهو يُطلب منه ومن
مكتبة المنار وغيرها وثمن النسخة منه 16 قرشًا صحيحًا فننصح لكل قارئ
بمطالعته.
***
(هدي الرسول)
مختصر وجيز لكتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) الذي هو أشهر كتب
المحقق ابن القيم الممتازة بين كتب أكبر علماء الإسلام في بيان ما صح في السنة،
ومع حكمته وموافقته لمصالح البشر. وهو مجلدان كبيران في السيرة النبوية
وحكمها وأحكامها وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات
والآداب ينبغي لكل مسلم ولكل من يحب أن يعرف الإسلام أن يقرأه كله، وهو مطبوع
في مصر وفي الهند، فأحب السيخ محمد أبو زيد أن يختصره لرغبة أكثر الناس في
هذا العصر عن قراءة المطولات من كتب الدين ولا سيما إذا كان طبعها غير حسن
وورقها غير جيد فاختصره اختصارًا موجزًا في مائتي صفحة ونيف من قطع
المنار مع تعليقه بعض الحواشي المناسبة لحال العصر في مواضع منه، وافتتحه
بخطبة بيَّن فيها مكانة الأصل ووجه الحاجة إلى اختصاره والحث على إيثاره على
كتب الفقه المتداولة وذم هذه الكتب وطرق تعليمها أو تعلمها في الأزهر، وما
يتبعه من معاهد التعليم الديني، وبالغ في ذلك بما انتقدنا عليه بعضه وبعض تعليقه
- وإن كان متبعًا فيه للمنار لا مبتدئًا - بأنه لم يراع فيه الحكمة والموعظة
الحسنة في الكلام مع علماء هذه المعاهد، وهو يطلب منهم تدريس مختصره
فيها، فهل هو يرجو منهم إجابة طلبه بهذه الصفة، أم لا يقصد به إلا إقامة
الحجة عليهم، على أن في كلامه إنكار ما ليس بمنكر كتقسيم الفقهاء ألفاظ
الطلاق إلى صريح وكناية فقد جعله مما لا يكلف الله أحدًا من الناس اتباعه. فهل
ينكر أن في اللفظ صريحًا وكناية أم يقول: إن حكمهما واحد؟ فإذا قال الرجل
لامرأته: أنتِ طالق، أو قال: امرأتي طالق، أيفتي بوقوع الطلاق عليه أم لا؟ وإذا
كان قاضيًا وثبت ذلك عنده بالإقرار أو البينة في دعوى رفعتها المرأة أيحكم بالطلاق
أم يقبل قول الزوج إنه لم ينوِ به طلاقًا؟ وإذا قال الرجل لامرأته: الحقي بأهلك
- أو: اذهبي إلى بيت أهلك - وقال لم أنوِ به الطلاق بل نويت إرسالها للزيارة أو
لتكون هنالك مدة إعساري أو سفري مثلاً - أيفتي ويحكم بوقوع الطلاق عليه والحالة
هذه؟ أم لا يفتي ولا يحكم بذلك، وإن قال: نويت به الطلاق؟ الصواب أن هذا
التقسيم مما يتوقف عليه العمل بأحكام الطلاق الثابتة في الكتاب والسنة والاجتهاد في
بعض مسائله من قبيل الاجتهاد في معرفة القبلة.
وقد عني جماعة من العلماء بطبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا حسنًا على
ورق حسن، فنحُثُّ القراء على مطالعته وعسى أن يبعث ذلك هممهم على مطالعة
أصله، وهو يُطْلَب من مكتبة المنار بمصر، وثمن النسخة منه 10 قروش.
__________(24/478)
ذو القعدة - 1341هـ
يوليو - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التصرف في الكون
وحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكه
للسيد البدوي
(س21) جاء في عدد جريدة الأهرام التي صدرت في 24 ذي القعدة و9
يوليو تحت عنوان (أفتونا برأيكم) رسالة من مراسلها في بركة السبع هذا نصها:
(حدث أمس في جامع الدبابة نزاع بين المصلين سببه أن إمام البلدة عند
الصلاة في خطبة الجمعة قال: إن الله سبحانه وتعالى أعطى السيد البدوي حق
التصرف بملكه العزيز) .
(فقاطعه أستاذ آخر وقال له: إنه كاذب؛ إذ إنه طبقًا لشريعة الإسلام لا
يكون لله شريك) .
(فترتب على ذلك قطع الصلاة بضع دقائق حصل في فترتها نزاع بين
المصلين، ولما وصل ضابط بوليس بركة السبع أفهمهم أن المسألة دينية لا تستلزم
إلا الاستفتاء، وتمكن من إصلاح ذات البين بين الأستاذين فاستحق حضرته ثناء
الحاضرين. فما رأي أصحاب الفضيلة العلماء في هذا الخلاف في الرأي ا. هـ.
وقد طلب منا بعض علماء الأزهر وغيرهم أن نجيب عن هذا السؤال، فنقول
وبالله التوفيق ونسأله الهداية للصواب:
(الجواب) المراد بالتصرف في الكون أن الله تعالى قد وكل أمور العالم إلى
بعض الصالحين من الأحياء والميتين فهم يفعلون في الكون ما شاءوا بالخوارق لا
بالأسباب المشتركة العامة من بَسْطِ الرزق لبعض الناس وقَدْرِهِ - أي تضييقه على
بعض - ومن شفاء المرضى، وإحياء الموتى وإماتة بعض الأصحاء الذين ينكرون
عليهم أو الذين يستعديهم عليهم بعض زوارهم، والمتقربين بالنذور والهدايا
لأضرحتهم، وغير ذلك من أمور الناس وأمور الكون كالرياح والبحار والجبال
والحيوان والنبات. كما حكي عن بعضهم أنه مد رجله مرة وقال: إن سفينة خُرقت
في البحر وأشرفت على الغرق فاستغاث به بعض راكبيها فمد رِجله وسد بها ذلك
الخَرق، وذكروا أن ذلك المستغيث رأى عقب استغاثته رِجل الشيخ قد سدت ذلك
الخرق ونجت السفينة.
وسمعتُ مرة امرأة تستصرخ المتبولي وتستغيث به بِوَجْدٍ وجُؤَارٍ تستعديه على
رجل آذاها (تحيله عليه) لينتقم منه. فقلت لها: لماذا لم تطلبي من الرب تعالى
أن يجازيه؟ فقالت ما معناه: إن الله يمهل والمتبولي لا يمهل، واستدلت على ذلك
بأن رجلاً سرق فسيخة فأحال عليه صاحبها المتبولي فما عتم أن قيأه إياها.
وأمثال هذه الحكايات عنهم كثيرة جدًّا لعله لا يوجد أحد لم يسمع منها ما لم
يسمعه غيره، دع ما يتداوله الكثيرون في كل بلد وكل جيل مما يعدونه متواترًا،
وما المتواتر إلا نقل الكثيرين عن (المفتري) الأول الذي اختلق الحكاية أو تخيلها أو
توهمها فقصها وتناقلها عنه أمثاله.
وليست هذه الحكايات كلها من مفتريات العوام الأميين ومن هم على مقربة
منهم في قبول الأوهام والخرافات، بل تجد كتب المتصوفة محشوة بها؛ لأنها
أدخلت في عقائد الملة من أبواب ما يسمونه كرامات الأولياء، وهي تكثر في
المسلمين على نسبة إعراضهم عن الدين علماً وعملاً، فالمنقول عن الصحابة
رضي الله عنهم، وهم خير هذه الأمة بإجماع أهلها تبعًا للنص على ذلك من النبي
صلى الله عليه وسلم قليل جدًّا وأقله ما روي بإسناد آحادي قوي، وليس فيه شيء
قطعي، وما روي عن التابعين أكثر، ولكنه لا يعد شيئًا يذكر في عدده، ولا في
نوعه بالنسبة إلى ما اختلق في القرون الوسطى وتسلسل إلى هذا العصر.
ففي بعض كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يُفقِر ويُغْنِي، ويُسعد
ويُشقي، ويُميت ويُحيي - أي وإن حصر القرآنُ مثلَ هذا في عمل الخالق بقوله:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: 48) {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم:
44) وأنه وصل إلى درجة صارت السموات السبع في رجله كالخلخال، وأن
الله تعالى وعده بأن من مسه لا تحرقه النار في الدنيا ولا في الآخرة، وأن هذا له
ولمريديه وأتباعه إلى يوم القيامة، وذكروا أن سبب إخباره إياهم بهذه (الكرامة)
أنه كان قد لمس سمكة حية فوضعوها بعد لمسه إياها على النار لشيها فلم تؤثر فيها
النار، فسألوه عن سبب ذلك فذكره.
وفي بعض كتب مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي - رحمه الله تعالى - أن مريدًا
له مات فطلبت أمه منه إحياءه فطلب روحه من ملك الموت، فأجابه بأنه لا يعطيه إلا
بإذن من الله تعالى، وكان ملك الموت جمع الأرواح التي قبضها يومئذ في زنبيل
وطار بها إلى السماء ليستأذن الرب ماذا يفعل بها فطار الشيخ عبد القادر في إثره
وجذب الزنبيل منه وأخذ روح مريده فتناثرت منه جميع الأرواح فذهب كل روح إلى
جسده فحيي جميع من مات في ذلك اليوم كرامة للشيخ عبد القادر. ولا أذكر هنا ما
قاله مفتري الحكاية في شكوى ملك الموت لربه تعالى من اعتداء الشيخ عليه (في حال
التلبس بأداء وظيفته) !! كما يقال في اصطلاح أهل هذا العصر - وما افتروا على الله
تعالى في جوابه - لا أذكره أدبًا مع الرب عز وجل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا
كبيرًا.
وقد شاع بين الناس أن الأقطاب الأربعة المتصرفين أو (المدّركين بالكون)
كما يقولون هم السادة الجيلاني والرفاعي والبدوي والدسوقي، فلا يجري في العالم
العلوي ولا السفلي شيء إلا بتصرفهم، وعلى هذا يكون سائر المتصرفين في الكون
عمالاً أو جندًا لهم.
ماذا كان من تأثير فشو هذا الاعتقاد في المسلمين؟ أن ألوف الألوف منهم
باتوا لا يعنون أقل عناية بشئون أمتهم العامة، ولا بشئون أنفسهم الصحية ولا
الدينية ولا الاجتماعية إلا ما تقتضيه الضرورة والعادة من القيام بضروريات المعاش
والقناعة منه بأخسه؛ لأن كل ما عدا ذلك موكول إلى أولئك الميتين!! فإذا وقع أحدهم
في شدة أو مرض أو حاجة استغاث بأحد المدركين بالكون أو أحد أعوانهم وجندهم
من المشايخ الميتين لينقذه من شدته أو يشفيه هو أو ولده من مرضه أو ينتقم له من
عدوه أو… أو … وإذا عظم الخطب يتقرب إليه بعجل أو خروف ينذره له، وإذا
أبطأت الإغاثة يشد رحله إلى قبره ويستنجده بالقرب منه مع اعتقاده أن القرب عنده
كالبعد في إحاطة علمه بالغيوب كإحاطة قدرته بالعالم، ولذلك يقولون للولي عند
قبره: (يا سيدي: العارف لا يُعَرَّف) وقد صح عندنا أن بعض أصحاب العمائم
الكبرى يقولون ذلك، ومن المروي في الكتب عن الجيلي أنه متصرف في اثني
عشر عالمًا أحاطيًّا، السموات والأرض واحد منها.
وناهيكم بشد الرحال إلى احتفالات الموالد التي تتخذ أعيادًا ومواسم دينية لهم،
واجتماع مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال في كل مولد يقام لهؤلاء
المتصرفين في الكون الذين يقضون مصالح الناس في الدنيا وينجونهم من عذاب الله
في الآخرة مهما تكن جرائمهم وفواحشهم، ومن المشهور الذي يكاد يبلغ درجة
التواتر أن المُعْسِرين منهم يقترضون الأموال بالربا الفاحش لأجل إنفاقها في المولد،
على أن الكثيرين من هؤلاء الذين يَسْخُونَ بالألوف في هذه السبيل - وإن رهنوا في
ضمان قروضها أطيانهم - أشحة بخلاء ربما يقتل أحدهم أخاه أو أباه لأجل جاموسة
أو مال قليل.
هذا تذكير وجيز بمعنى التصرف في الكون وما له من سوء التأثير في إفساد
الدين والدنيا. وتجد رجال الشرع يشاركون رجال الطرق المنسوبة إلى الصوفية
في إقامة هذه الموالد وحضور دعواتها، وأكل نذورها، حتى ما كان مسيبًا للسيد
البدوي من العجول والخرفان، كالسوائب التي كانت تسيب للأصنام، ولا يرون في
هذا حرجًا ولا إفسادًا؛ لأنه داخل عندهم في باب كرامات الأولياء الواسع الذي لا
حدَّ له، وقد قال صاحب الجوهرة تبعًا لغيره من مؤلفي العقائد رضي الله عنهم
وأرضاهم:
وأثبتن للأوليا الكرامه ... ومن نفاها فانبذن كلامه
كما أن منكرات القبور التي تعد بالعشرات والمئات في بنائها ووضع السُّرُج
عليها واتخاذها مساجد وتشييدها وما فيها من مفاسد اجتماع النساء والرجال والأطفال
- كل ذلك يُقَرَّر ولا يُنْهَى عن شيء منه؛ لأنه يدخل في باب ما ورد من استحباب
زيارة القبور للرجال؛ لأجل تذكر الموت والآخرة، فالأمر المستحب يرتكب لأجله ما
لا يعد من كبائر المعاصي التي لعن الشارع مرتكبيها كمتخذي القبور مساجد وواضعي
السرج عليها وزيارة النساء لها وغير ذلك مما وردت فيه الأحاديث الصحيحة.
إعطاء الله حق التصرف في ملكه للبدوي:
بعد هذا أقول كلمتي في موضوع السؤال وأُقَفِّي عليها بكلمة في الكرامات
موضوع السؤال: زعم ذلك الخطيب أن الله تعالى قد أعطى السيد أحمد البدوي
الميت صاحب القبر المشهور في طنطا حق التصرف في ملكه العزيز.
ليست هذه المسألة مسألة جواز الكرامات ووقوعها وما فيها من خلاف لا يُعَدُّ
من أصول الدين وعقائده ولا من فروعه، بل هي مسألة تتعلق بأصول عقائد الدين؛
لأنها إسناد شيء إلى الله تعالى لا يمكن العلم به إلا منه عز وجل، وقد انقطع
الوحي عنه تعالى بموت خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله،
ولا طريق للعلم الصحيح عنه تعالى غير الوحي، وقد قال تعالى في بيان أصول
كبائر الكفر والفسق: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
بيَّنَ بعضُ المحققين أن هذه المحرمات في دين الله تعالى على ألسنة جميع
رسله قد ذكرت على طريقة الترقي في الحظر من المعاصي القاصرة إلى المتعدية
كالبغي على الناس، ومن الكفر القاصر على صاحبه كالشرك إلى المتعدي الضرر
كالقول على الله بغير علم، فإنه أصل جميع الفساد في الدين وجميع البدع.
والقول على الله بغير علم قسمان: أحدهما خاص بالعقائد كالكلام في ذاته
وصفاته وأفعاله ومنه نازلة الفتوى، ومثلها القول باتخاذ الولد قال تعالى: {قَالُوا
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن
سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (يونس: 68) نفى أن يكون عندهم
سلطان- أي برهان قطعي- على هذا القول ووبَّخهم أن قالوا على الله ما لا يعلمون
بعد أن بيَّنَ البرهان على بطلان قولهم بأنه هو الغني الكامل غناه المطلق، وبأن ما
في السموات والأرض أي العالم كله ملك له، وهذا عين البرهان على بطلان اتخاذ
الناس يتصرفون في ملكه، ومن أصول المناظرة أن البينة على المُدَّعِي ويكفي
المنكر المنع، ولكن القرآن هداية لا جدل، ولذلك بيَّن بطلان الدعوى في نفسها
بالدليل، وبيَّن أنه لا دليل عليها، وأن مثلها لا يصح أن يقال بالظن والوهم، وإنما
يُطْلَبُ فيه العلم القطعي، كما قال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ
وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) .
ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي
الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) فقولهم: (إنهم شفعاؤهم عند
الله) من القول على الله بغير علم، فإن العلم بالشفيع المعين للمشفوع له المعين
خاص به تعالى؛ إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وهو لا يأذن بأصل الشفاعة إلا
لمن ارتضاه شفيعًا، ثم لا يأذن له بأن يشفع إلا لمن كان سبحانه راضيًا عنه، كما
قال في شأن عباده المكرمين: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 27-28) .
والقسم الثاني من القول على الله بغير علم: خاص بالتشريع كابتداع عبادة لم
يشرعها الله تعالى ألبتة، أو شرع أصلها فجيء بها على غير الصفة التي شرعها
كأذكار أهل الطريق بألفاظ لم ترد في الشرع مع الرقص والغناء، وغير ذلك مما
فصَّله الشاطبي في كتابه الاعتصام وابن الحاج في المدخل وغيرهما من الأعلام -
وكتحريم ما لم يحرمه الله تعالى في وحيه. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم
مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116)
الآية.
فعُلِمَ من هذه الآيات وما في معناها أن القول على الله بغير علم أغلظ أنواع
الكفر وأشدها إفسادًا لدين الناس ولعقولهم وفطرتهم، وأنه يسمى شركًا ويتضمن ذلك
عد فاعله شريكًا لله تعالى، ومن قَبِلَ تشريعًا من غير الله فقد اتخذه ربًّا وشريكًا،
وقد ورد في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) أن معناه أنهم كانوا يتبعونهم فيما
يحلون لهم ويحرمون عليهم. ومن شرع للناس عقيدة لم يشرعها ربهم لهم فهو أجدر
بانتحال الربوبية وجعْل نفسه شريكًا للرب تعالى ممن يشرع لهم تحريم شيء من
طعام أو شراب مثلاً.
وهل عنى هذا من قال لخطيب الفتنة المُضِلّ: ليس لله شريك، ردًّا لقوله:
إن الله أعطى السيد البدوي حق التصرف في ملكه العزيز؟ أم عنى أن هذا
التصرف يقتضي أن يكون البدوي شريكًا لله تعالى في تدبير أمر عباده؟ أيًّا ما عنى
فله وجه وجيه.
ذلك بأن الذين يقولون بهذا التصرف لا يعنون به أنه منتظم في سلسلة الأسباب
والمسببات العادية كتصرف البدوي في رعي ماشيته وسوقها حين يريح وحين
يسرح، وتصرف الفلاح في أرضه حين يعزق وحين يزرع، وإنما هو عندهم
بسلطة غيبية هي فوق الأسباب العادية والسنن الكونية المعروفة للبشر في الأعمال
التي يتناولها كسبهم، وهذه السلطة هي الخاصة بالخالق عز وجل، بمعنى أنه ليس
للناس فيها عمل ولا كسب، وهي التي تمتاز بها العبادات من العادات، فكل دعاء
أو تعظيم قولي أو عملي يوجهه الإنسان إلى من يؤمن بأن له سلطانًا غيبيًّا هو فوق
الأسباب المشتركة بين الخلق - فهو عبادة له وإلا فلا، فالفرق جليٌّ بين من يدعو
ميتًا لشفاء مرضه أو مرض ولده مثلاً أو للانتقام من عدوه، أو ينذر لأجل ذلك
وبين من يدعو الطبيب للمعالجة أو يشكو إلى الحاكم ظالمه، وسواء اعتقد من يدعو
الميت أنه يفعل ذلك وحده بقدرته الذاتية أو اعتقد أنه يفعل ذلك بتأثيره في علم الله
تعالى وإرادته بأن يكون واسطة وسببًا لأنْ يفعل سبحانه ما لم يكن ليفعله لولاه،
وذلك يقتضي تأثير الحادث في القديم وتعليل أفعاله تعالى بالحوادث، وكون هذا
الفعل لم يقع إلا باشتراك سلطتين غيبيتين هما فوق سنن الخالق في الأسباب
والمسببات - هو صورة هذا الوجه في المسألة، ولم يكن مشركو العرب وأمثالهم
يقولون بمساواة آلهتهم لرب العالمين في شيء بل كانوا يقولون: إنه ربهم وخالقهم،
وهم شفعاء عنده فقط. على أن هذا التحليل لا يخطر في بال أكثر الذين يدعون
هؤلاء الموتى وينذرون لهم ويشدون الرحال إلى قبورهم خاشعين متضرعين،
تاركين للصلاة مقترضين بالربا مرتكبين لكثير من المنكرات إرضاء لهم، لأجل أن
يقضوا لهم حاجتهم. وإنما هو تأويل من تلقوا عن شيوخهم كتبًا في العقائد قررت
فيها وحدانية الأفعال لله تعالى بما ينافي ما تلقوه ورسخ في أنفسهم ممن نشأوا بينهم
من تصرف بعض هؤلاء الشيوخ الميتين في الكون - فاخترعوا هذه التأويلات
للجمع بين العقيدتين.
ولئن سألتهم ليقولُن: إنه ليس لهم أدنى تأثير في إرادة الله تعالى ولا في
أفعاله وإنما هم أسباب خفية يخلق الله الأشياء عندها لا بها، كما يقول أكثرهم في
الأسباب الجلية العادية كإحراق النار وإرواء الماء، ولو كان هؤلاء المفتونون
بالقبور يعتقدون أنه لا تأثير لأصحابها ألبتة لما وجد شيء من هذه الخرافات والبدع
التي أفسدت الأمة ولوقف الناس في زيارة القبور عند هداية السنة، يزورونها
لتذكرة الآخرة ويدعون لأربابها ولا يدعونهم، ويشفعون لهم بالدعاء ولا يستشفعون
بهم؛ لأن هذا هو الوارد في السنة. على أن الأسباب الظاهرة من عالم الشهادة قد
علم كونها أسبابًا بالمشاهدة والتجربة المُطَّرِدَة. وأما تصرف الموتى فهو أمر غيبي
لم يثبت بالمشاهدة ولا بالتجربة المطردة، ولا جاءنا الوحي من عالِم الغيب والشهادة
بأنه جعلهم أسبابًا لشيء من ذلك، بل كل من التجربة الدقيقة في الأمم المختلفة ومن
الوحي الصادق يدل على خلاف ذلك.
أما التجربة فإننا قد علمنا من تاريخ الأمم أن هذا الاعتقاد إنما يفشو ويَرُوجُ
فيها في زمن الجهل والانحطاط فتكون به أشقى الأمم وأشدها خسارًا في دينها
ودُنياها وصحتها ومعيشتها، فالمسلمون لم يكونوا كذلك في خير القرون التي فتحوا
بها الممالك ودونوا العلوم وأسسوا الحضارة، فلم يَرْوِ لنا أصحاب الصحاح ولا
السنن أن الصحابة كانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره الشريف ولا
عند اشتداد الخطوب في الحروب ولا في حالة المرض لأجل النصر والشفاء، ولا
روى التاريخ لنا ذلك عن التابعين ولا تابعيهم من علماء الأمصار كأئمة الفقه الأربعة
وأئمة آل البيت النبوي رضي الله عنهم أجمعين. بل رووا لنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه كانوا ينوطون الأشياء بأسبابها وأنهم لما قصروا فيها يوم أحد
انكسروا ونال المشركون منهم حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم شج رأسه
الشريف وكسرت سنه. ولما تعجب الصحابة وتساءلوا في ذلك أنزل الله تعالى:
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165) .
وقد فشت هذه البدع في الأمم الوثنية فالكتابية من قبلنا، فكان فشوها فيهم من
أسباب ضعفهم والعون لسلفنا على السيادة عليهم، فلما ضعفت هذه العقائد الخرافية
فيهم بارتقائهم في علوم الكون وسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات، وقل فيهم
من يعتمد في إصلاح حال الأفراد والجماعات على تصرف الأولياء الأحياء
والأموات، بعد أن سرت إلينا منهم هذه الخرافات، دالت لهم الدولة علينا، وصاروا
أحسن منا صحة، وأشد قوة، وأعلى سيادة، وأرفه معيشة.
وأما الوحي فالله تعالى قد أمر خاتم رسله الذي أكمل دينه وأتمه على لسانه
وهديه أن يخاطب من آمن به بقوله عز وجل في {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ
وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) فقد نفى أن تكون عنده
خزائن رزقِ اللهِ يتصرف فيها، ويأتي ما اقترحوا عليه من الآيات لإثبات رسالته
من تفجير الينبوع في مكة وإيجاد جنة فيها يفجر الأنهار خلالها تفجيرًا كما قال
الفخر الرازي، ونفى أن يكون يعلم الغيب، وأن يكون مَلَكًا كما اقترحوا أو يقدر
على ما يقدر عليه الملَك، ثم أمره أن يقول بعد ذلك {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50) كما قال في الرد على ما اقترحوه عليه من الآيات التي أشرنا إليها:
{سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: 93) أي فهو من حيث
إنه بشر لا يقدر على ما لا يقدر عليه البشر، ومن حيث إنه رسول ليس عنده إلا
ما يوحيه الله إليه فيبلغه ويبينه للناس. فأين هذا ممن يدعون أن السموات السبع في
رِجْلِ أحدهم كالخلخال إلخ.
وأمره أيضًا أن يخاطب الناس بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ
ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ
أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) وبقوله: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ
لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21) أي: ولا نفعًا ولا غيًّا، ففي الآية احتباك.
أي: وإنما الذي يملك ذلك كله الله تعالى، ونفي الإغواء لا يقتضي جواز وقوعه منه
صلى الله عليه وسلم، فهو كنفي الظلم عن الرب تعالى بيّن به الحق الواقع فلا يقتضي
أنه مظنة الوقوع، والمراد هنا أن هداية الناس وضلالهم ونفعهم وضرهم كلها بيد الله
تعالى من حيث إنه هو الخالق المدبر الواضع للسنن والأسباب لكل من ذلك، فليس
وراء هذه الأسباب تصرف لغيره.
هذا نوع من أنواع دلالة الوحي على بطلان تلك الدعوى، أعني نفي علم الغيب
ونفي القدرة على التصرف في ملك الله وخزائن رزقه عن الرسل عليهم السلام.
ويتصل به نوع آخر وهو كون الآيات (المعجزات) التي يؤيدهم الله تعالى بها لا
تتعلق بها قدرتهم، وإنما هي لله وعند الله وبيد الله عز وجل، والآيات فيها معروفة،
وهناك نوع إيجابي أقوى من هذا ويُجَامِع ما قبله وهو دلائل وحدانية الأفعال التي
فسرها الأشعرية بأنه لا فعل لغير الله، وأن الله تعالى يخلق المسببات عند الأسباب
لا بها، وهل يمكن أن يطلب المؤمن بهذه الوحدانية شيئًا من الموتى وهم لم يصح
شرعًا ولا علمًا أن الله جعلهم أسبابًا؟
كرامات الأولياء:
علم مما مر أن فتنة الغلو في كرامات الأولياء قد هدمت من عقول الألوف
وألوف الألوف من الناس عقيدة تجريد التوحيد وهو أساس الدين الذي بني عليه
غيره منه، وأعلى علوم البشر ومعارفهم التي يتحقق بها تكريم الله تعالى لهم
بإعتاقهم من الذل والعبودية لغيره عز وجل، ونسخت من أذهانهم وقلوبهم الآيات
المحكمة في العقائد الإلهية ومعنى الرسالة ووظائف الرسل، ووضعت في مكانها ما
لا يُحْصَى من الخُرَافات والأوهام التي أفسدت عليهم أمري الدين والدنيا، ويزعم
كثير من أنصار هذه الخرافات المُعَمَّمِين أن تشكيك العوام فيها يفضي إلى شكهم في
الرسالة وفي سائر أصول الدين، وقد جهلوا أن هذا الغلو فيها هو الذي أفسد عقائد
جماهير العوام وأعمالهم، ونفَّر جماهير الخواص الذين تلقوا العلوم العقلية والكونية
والاجتماعية من الإسلام نفسه، إذ حسبوا أنه مجموعة خرافات لا تليق إلا بأمثال
هؤلاء العوام.
ولو صح أن بعض هؤلاء لا يقنعه بأصل الإسلام إلا هذه الكرامات لكان ذلك
مفسدة أخرى يطلب من العلماء إزالتها وبناء العقيدة على البراهين العقلية والنقلية
القطعية؛ وهو الواجب الذي قرره جميع العلماء، وإلا فإن التشكيك في هذه
الكرامات من أسهل الأمور وقلما ترى أحدًا من المتعلمين المتدينين يصدق شيئًا مما
يرويه هؤلاء العوام منها دع غير المتدينين الذين لا شبهة لأكثرهم على الدين إلا
جعلها من أركانه وأسس بنيانه.
ما هذه الكرامات؟ إنها ليست من عقائد الدين وإنما تُذْكَرُ في كتب الكلام
بالتبع لبحث معجزات الرسل كما يذكر السحر وغيره مما عَدُّوا من خوارق العادات.
وقد اختلف نظار العلماء في جوازها، واختلف المُجَوِّزُونَ لها في وقوعها،
واختلف القائلون بوقوعها هل تقع في جميع خوارق العادات التي يؤيد الله تعالى
بمثلها الرسل أم لا تقع إلا في أمور محدودة؟ وهل تكون بقصد من الولي واختيار
أم بغيرهما؟ وهل تتكرر أم لا وكيف يكون المكرر من الخوارق.
جاء في المواقف وشرحه ما نصه: (المقصد التاسع) في كرامات الأولياء
وأنها جائزة عندنا خلافًا لمن منع جواز الخوارق، واقعة خلافًا للأستاذ أبي إسحاق
والحليمي منا، وغير أبي الحسين من المعتزلة اهـ. فهذان إمامان من أكبر أئمة
الأشعرية ينكران وقوع الكرامات، ولم يكن ذلك مطعنًا في دينهما ولا مُسْقِطًا من
مكانتهما من أئمة أهل السنة، بل ظلا في الذروة، وكان أبو إسحاق الإسفرايني هذا
إمام الأئمة في عصره، ولا يزال يعبر عنه في كتب العقائد والأصول بالأستاذ،
فإذا أطلق لا ينصرف إلى سواه.
لا تتسع هذه الفتوى لتمحيص القول في مسألة الكرمات وقد كتبنا من قبل
مقالات كثيرة فيها خاصة، وألممنا ببعض مسائلها في مقالات أخرى نشرت في
مجلدات المنار المتفرقة. منها بضع مقالات بعنوان (الكرمات) في المجلد الثاني
لخصنا فيها ما أورده التاج السبكي في طبقات الشافعية من الخلاف فيها، وحجج
منكريها ومثبتيها، والمأثور منها، ومنها إحدى عشرة مقالة بهذا العنوان في المجلد
السادس ذكرنا فيها ما أورده السبكي من أنواعها، وتأويل ما ورد منها على تقدير
صحة الرواية فيه. ومنها مقالات أخرى بعنوان الخوارق والتصرف في الكون
والموالد وغير ذلك.
وفي هذه المقالات فوائد كثيرة من المنقول والمعقول تعطي المُطَلَّع عليها
بصيرة في الدين والدنيا، نشير إلى بعضها بالأرقام:
(1) إن ما يُنقل إلينا من الوقائع المخالفة لسنن الله تعالى في الخلق
وفي سير الاجتماع البشري يجب أن لا يُقْبَل فيجعل محلاٍّ للبحث فيه إلا إذا ثبت
ببرهان يقيني؛ لأنه جاء على خلاف الأصل من المعقول والمنقول، وأعني
بالمنقول ما ثبت في نص القرآن من أن سنن الله تعالى في نظام الخلق وشئون
الأمم لا تتبدل ولا تتحول.
(2) إن كثيرًا مما يظهر بادي الرأي أنه من خوارق العادات لا يكون كذلك
في الواقع ونفس الأمر، بل منه شعوذة وتخييل، ومنه ما له أسباب خفية من
طبيعية وصناعية، كقوله تعالى في الحبال والعصي التي ألقاها سحرة فرعون:
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) وقد أثبت صاحب جامع التواريخ
أو (نشوار المحاضرة) عن معاصري الحلاج وكذا الحافظ ابن الجوزي أن كراماته
كلها كانت من قبيل الحِيَل وقد اكتشفوا حيله في عصره كالذي عرف الدار والبستان
الخفيين اللذين كان يحفظ فيهما السمك الحي والفاكهة والأطعمة فيأتي بها عند الحاجة
وأنذره الحلاج القتل إذا هو فضحه، وقد ذكرنا في مقالات المنار شواهد كثيرة
للحيل ولما في معناها من الخواص الكونية.
(3) إن روايات الكرامات مأثورة عن جميع الأمم الوثنية والكتابية، وإن
دعواها تكثر في العصور التي يضعف فيها العلم والدين ويكثر الكذب والدَّجَل،
وتقل في عصر العلم وعهد التقوى، ولذلك ترى المروي عن الصحابة والتابعين
منها قليلاً، وقد زعم بعض الناس أن سبب هذا: حاجة الناس في زمن الجهل
والفسق إلى ما يقوي إيمانهم، ولكننا نرى أنها لا تزيد الناس في هذا الحال إلا
فسقًا وجهلاً ودجلاً وغرورًا وضعفًا في الدين والدنيا، وخضوعًا للدجالين الذين
يعبثون بأموال الناس وأعراضهم، كما أشرنا إليه في أوائل الفتوى.
(4) إن الأصل في الكرامات أن تكون خفية، وأن الأولياء لا يَدَّعونها ولا
يظهرونها إلا لضرورة حتى قال السبكي إنه (لا يجوز إظهارها إلا بسبب ملزم،
وأمر مهم) فأين هذا وذاك من معمل الكرامات الكبير بل معاملها (فبريكاتها)
الكثيرة المعبر عن صناعاتها الدائمة بالتصرف في الكون؟ الذي ينقلون عن كل قبر
من قبور عماله الكثيرين ما لا يحصى من الكرامات لأحقر الأسباب كإصابة زيد من
الناس بداءٍ قَتَّال أو مرض عضال أو إماتته فجأة أو إصابته بجائحة في زرعه أو
هلاك لبهائمه لأجل استغاثة خصم أو عدو له بولي يستعديه عليه ولو بالباطل، أو
لأنه قال كلمة اعتراض وإساءة أدب مع صاحب القبر، كأن أولياءهم من الأشرار
الذين خلقوا للأذى والضرر. دع قسم المستشفيات من معمل التصرف في الكون الذي
يبرئ كل يوم ألوفًا من المرضى الذين لا يذكر مرض أجسامهم في جانب أمراض
عقولهم وأديانهم.
(5) كون الكرامات الحقيقية لا تتكرر وعلله الشيخ محيي الدين بن عربي
في الفتوحات المكية بأن ما يتكرر يكون معتادًا فلا يدخل في خوارق العادات،
ونحن نرى أن ما يدعونه للمتصرفين في الكون من (صادرات المعامل الدائمة)
يتكرر في كل يوم وفي كل ساعة.
(6) إن أكثر ما فشا ويتناقله الناس من الأمور التي يسمونها كرامات،
والكثير مما يصح نقله - من المصادفات التي يكثر وقوعها، وإنما الاعتقاد هو الذي
يحمل غير المدقق في معرفة أسبابها على جعلها من الكرامات، والجاهل بالمنطق لا
يفرق بين القضية الشرطية الحقيقية، كقولهم: إذا كانت الشمس طالعة فالنهار
موجود - والشرطية الاتفاقية، كقولهم: إن كان الإنسان ناطقًا فالحمار ناهق. فإذا
استدعى أحد شيخًا (وليًّا) على عدوه (أو حاله عليه كما يقولون) أو إذا أنكر منكر
على الشيخ وأصابه عقب هذا أو ذاك مصيبة في نفسه أو أهله أو ماله قال أصحاب
العقول الخرافية: إنه تصرف به، وقد وقع مثل هذا لنا ولأهل بيتنا كما وقع لغيرنا
مرارًا ولم نعده من الكرامات. ولو شئنا أن نعد لنفسنا عشرات من الكرامات التي
يثبت مثلها لدجال الشيخ يوسف النبهاني لفعلنا وكنا أصدق منه في النقل، وأقدر على
الإتيان عليه بالشهود العدول من الأحياء.
(7) إن ما يُعَدُّ بادي الرأي خارقًا للعادة يجوز أن يكون له أسباب خفية،
ومنه ما يسميه علماء الكون فلتات الطبيعة. ومنه ما هو من خواص الأنفس
البشرية التي يتفاوت فيها الناس تفاوتًا بعيدًا، كالمكاشفة والتأثير النفسي في بعض
الناس ولا سيما أصحاب الإرادات الضعيفة وناهيك أصحاب الأمزجة العصبية من
النساء وبعض الرجال الذين يعتقدون أن لزيد من الأموات والأحياء سلطانًا غيبيًّا
يتصرف به في الكون، فإن هؤلاء يكونون سريعي التأثر والانفعال بما يعتقدون
تأثيره حتى إن بعض الأطباء يعالجونهم بما للأوهام من السلطان على أنفسهم،
ولذلك تجد هذه الأنواع كثيرة الوقوع.
وقد وضَّحْنَا هذه المسألة في المنار مرارًا، وشبهنا فيها أرواح البشر وأنفسهم
بأجسادهم في تفاوت الأفراد في قوتهما وضعفهما واختلاف استعدادهما واستعمالهما
لهذا الاستعداد.
مثال ذلك أن الروح هو المُدْرِك من الإنسان وإدراكه غير مقيد لذاته بالحواس
التي هي آلات له ما دام محبوسًا في الجسد بل يمكن أن يدرك بعض الأمور بذاته
في نوم أو يقظة، وقد يدرك بعض الأمور قبل وقوعها، وبيَّنا أن هذا النوع من
الإدراك ليس من العلم بالغيب الذي استأثر الله تعالى به، وإنما هو غيب إضافيٌّ لا
حقيقيٌّ، وأن قلة هؤلاء المدركين لهذه الأمور لا ينافي أن إدراكها مما أودع في
الفطرة البشرية وجعل من مقدورها، على أنها في الغالب تقع بدون إرادة من
صاحبها، ومن غير الغالب أن تكون بتوجيه الإرادة إلى إدراك الشيء وحصر الهمة
في التوجه إليه وصرفها عما عداه حتى إذا انحصر التوجه وصرفت عن الفكر
الشواغل، أدرك الروح ما توجه إليه إدراكًا ما، وضربنا له المثل في انفراد بعض
الأفراد بالقوة العضلية النادرة كقوة القيصر الروسي إسكندر الثالث الذي كان يأخذ
بيده الريال الروسي فيجوفه بأصابعه فيجعله كفنجان القهوة ويضع فيه زهرة يتحف
بها بعض النساء في مجلسه. وكان الشيخ علي العمري عندنا في طرابلس الشام
يلوي بأصابعه حديد النوافذ ويمسح القطعة من النقد فيزيل حرشة نقشها، وله
غرائب في قوة العضل كانوا يعدونها من كراماته الكثيرة، ولم يعد أحد مثلها من
القيصر الروسي كرامات له. ولا غرو فالمتكلمون يُجَوِّزُونَ وقوع خوارق العادات
من كل أحد حتى الفساق والكفار ووضعوا لها أسماء تختلف باختلاف حال من وقعت
لهم أو على أيديهم.
هذا وإن الروحيين من المتقدمين ومن فرنجة هذا العصر الذين يقولون: إن
أرواح الأحياء قد تتجرد من المادة الكثيفة، وإن أرواح الموتى قد تتجلى في مادة
لطيفة أو كثيفة تستمدها عن عناصر الكون - لم يثبت أحد منهم أنها قد أعطيت
التصرف في أمور العالم ونفع الناس وضرهم بل صرح بعضهم بأنها لم تُعْطَ هذا
ولا تقدر عليه.
وما نقل عن بعض كبار الصالحين العارفين من ادعاء ذلك فأكثره كذب وزور
لا تصح به الرواية عنهم، ومنه ما عَدُّوهُ من الشطح الذي يصدر عنهم في حال
غيبة ثم يتوبون منه، ومنه ما يقصد به الأسباب الظاهرة كالبيتين المنسوبين للسيد
الجيلي قدس الله روحه:
على بابنا قف عند ضيق المناهج ... تفز بعليّ القدر من ذي المعارج
ألم تر أن الله أسبغ نعمه ... علينا وولانا قضاء الحوائج
فقد كان - رحمه الله تعالى - ذا مقام رفيع عند الخلفاء وكبار الحكام فإذا
أوصى بكشف ظلامة لا تُرَدُّ وصيته، وقد كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ممن
يصدق عليه معنى هذين البيتين، على أن علماء النقل قد قالوا: إن الجيلي كان ذا
كرامات صحيحة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن أكثر ما في كتب مناقبه كذب،
وبعضها ليس من الكرامة في شيء.
وهاهنا مسألة يغفل الناس عنها بيناها في المنار مرارًا وهي كيف يصح أن
يكون أولياء الله الأحياء والأموات يتولون قضاء حاج المسلمين ودفع المضار عنهم
وجلب المنافع لهم بما أوتوا من التصرف في ملك الله الواسع بخوارق العادات ونحن
نرى المسلمين أسوأ حالاً من سائر الأمم - ولا سيما الإفرنج - في صحتهم وسعة
عيشهم وعزهم وعظمة ملكهم؟ وسائر ما يطلبه الناس من هؤلاء الأولياء من أمور
دنياهم، فلماذا لا يتصرفون في الأسطول البريطاني مثلاً؟ ونرى الذين لا يصدقون
بقدرة هؤلاء الأولياء على التصرف في أمور الكون من المسلمين أنفسهم أحسن حالاً
في ذلك كله من المصدقين الذين وصفنا حالهم من قبل، سواء كان سبب إنكار هذا
التصرف كمال التوحيد والعلم الصحيح بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، أو العلم
بسنن الكون ونواميسه وتواريخ الملل وكون هذه الخرافات قد انتقلت من الوثنيين
إلى أهل الكتاب ومنهم إلى المسلمين، فكانت مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر
ضب تبعتموهم. أو: لدخلتموه) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد وغيره.
تفاوت الأرواح وما تسعد به وتشقى:
هذا وإن ما ذكرناه من تفاوت أرواح البشر في أصل الخلق له أصل في
الكتاب والسنة يجب أن نعتبر به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن
كمعادن الفضة والذهب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا،
والأرواح جنود مُجَنَّدَة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) رواه مسلم
هكذا حديثًا واحدًا بهذا اللفظ عن أبي هريرة ورويا حديثين في كل من الصحيحين،
وفي بعض ألفاظ الحديث الأول: (إن الناس معادن في الخير والشر) أي إن
أنفسهم في أصل فطرتها التي تؤثر فيها الوراثة كمعادن الذهب والفضة والنحاس
والحديد والقصدير وغيرهن.
وقال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ
مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10) فالنفس الإنسانية مستعدة
في أصل الفطرة للخير والشر وللفجور والتقوى، على تفاوت في الاستعداد، ولكن
الفلاح والفوز بالسعادة مَنُوطٌ بتزكيتها بالعلم الصحيح وما يترتب عليه من العمل
الصالح، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (خيارهم في الجاهلية خيارهم
في الإسلام إذا فقهوا) والخيبة والشقاء منوطان بتدسيتها أي إهمال صقلها وتزكيتها
بالعلم الصحيح والعمل الصالح، وهو من دس الشيء في التراب مثلاً. ولذلك قال
البيضاوي في تفسير: {دَسَّاهَا} (الشمس: 10) أخفاها ونقصها بالجهالة
والفسوق.
فمدار السعادة والشقاء في الإسلام على صقل معدن النفس بالعلم والفضيلة أو
دسه فيما يفسد جوهره من الجهالات والخرافات والرذائل، ومن المعروف عند
الناس كافة أن الجوهر الأدنى يكون بجودة صقله أجمل وأنفع من الجوهر الأعلى
الذي دس في الأرض، ولا سيما الرطبة ذات المواد الملحية. ألم تر أن الذهب
والفضة يفسد جوهرهما بهذا الدس والإهمال، حتى إذا عثر عليهما الناس لا يكادون
يعرفونهما من حيث نرى الصفر المجلو والحديد المصقول يتلألآن كالمرآة فيكونان
أجمل منظرًا وأحسن مرتفقًا وفائدة للناس من الذهب والفضة المدسيان في السبخة؟
ولكن المعدن الأعلى إذا صُقِلَ كما يصقل المعدن الأدنى فإنه يكون أبهج منه منظرًا
وأكرم عند الناس استعمالاً.
فيجب أن نجعل هذه الحقيقة هي الأصل في تربية المسلمين وتعليمهم، وهي
أن سعادة كل فرد من الأفراد محصورة في تزكيته لنفسه بالعلم والفضيلة والعمل
الصالح وشقاؤه بضد ذلك، وإن من فسدت نفسه وخبثت لا ينفعه زكاة نفس غيره
من الأحياء ولا من الموتى لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى لو أعطي هؤلاء
تصرفًا في الكون لَمَا بالوا بمن دسوا أنفسهم وتركوا هداية ربهم اتكالاً على أن يعمل
لهم بعض خلقه ما كلفهم أن يعملوه هم لأنفسهم. ومِصْدَاق هذا الأصل ظاهر في
الأمم كلها لمن سار في الأرض أو قرأ التاريخ قراءة عبرة.
ولذلك كان فيما وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أقرب الناس منه قرابة حين
أنزل الله تعالى عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) أن دعا
بطون قريش وعمَّ وخصَّ، قال: (يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا
أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا. إلى أن قال: يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار
فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعًا) رواه أحمد والشيخان في الصحيحين وغيرهم من
حديث أبي هريرة. وفي رواية لأحمد ومسلم وغيرهما من حديث عائشة أنه قال
يومئذ: (يا فاطمة ابنة محمد يا صفية ابنة عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك
لكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم) .
مدار النجاة في الإسلام وفي الوثنية:
وجملة القول أن مدار دين التوحيد على أن النجاة في الآخرة بالإيمان والعمل
الصالح، ومدار أديان الوثنية على أن النجاة فيها بتأثير الصالحين عند الله في نجاة
الضالين، وحسبنا قول الله عز وجل في وصف هذا اليوم: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ
لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وحكم الله في ذلك اليوم مبين في
كتابه كقوله الذي أنزله يوم تفاخر بعض الصحابة مع بعض أهل الكتاب: {لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ
وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ
الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: 123-124) والعبرة عند جمهور أهل السنة
بالخاتمة فهم لا يقطعون بولاية شخص معين كالبدوي ولا بدخوله الجنة؛ لأن القطع
يختص مَن ورد النص بأنهم أهلها كالسبطين سيدَي شباب أهل الجنة والعَشرة رضي
الله عنهم أجمعين.
فيا أيها العلماء حسبكم إهمالاً لأمر عامة هذه الأمة ! بَيِّنُوا لها حقيقة دينها،
وأنذروها عاقبة هذه الخرافات التي أفسدت عليها دينها ودنياها، أما ترونها تتسلل
من الدين لواذًا، وتعلن الكفر والفسوق ثبات وأفذاذًا، حتى صاروا يدعون إلى
الإلحاد جهرًا، وإلى ترك الشريعة احتقارًا لها واستكبارًا، زاعمين أن الإسلام دين
خرافات وأوهام، لا يمكن أن ترتقي به الأمة في هذا الزمان، ويستدلون على هذا
بما أشرنا إليه من الضلالات والخرافات الفاشية في الأمة، ومشاركة الكثير من
علمائها لها فيها بحضور هذه الموالد معها، وترك إقامة شعائر الدين والدروس في
المساجد لأجلها، وبتأويل البدع والخرافات لها، واضطهاد مَن تصدى من العلماء
وطلاب المعاهد الدينية لإنكارها كما وقع في دمياط وطنطا والإسكندرية وغيرها.
فاتقوا الله وتداركوها قبل أن يخرج الأمر من يدكم، ولا عذر لكم بعد اليوم بما كنتم
تعتذرون به من سلب الحكام لحريتكم، فإن الدستور الذي كرهه بعضكم قد أعطاكم
من الحرية ما لم يكن لكم، وهو لم يعط الملاحدة والفساق شيئًا لم يكن لهم، فقد
كانت حرية الكفر والفسق تامة وحرية الإسلام صورية ناقصة، على أن نقصها
في مصر كان خاصًّا بالإنكار على الحكام والأحكام، دون ما يتعلق بإرشاد العوام.
ملخص الفتوى:
إن ذلك الخطيب قد قال على الله تعالى ما ليس له به علم، فدخل فيمن
شرعوا للناس ما لم يأذن به الله، وقد دل القرآن والسنة على أن هذا من الشرك،
فإنكار المنكِر عليه صحيح، فإن كان متأولاً أو معذورًا بجهله عذرًا يدرأ عنه الردة،
فعليه بعد العلم أن يتوب توبة صحيحة، وأنا لا أكفر شخصًا معينًا لم أختبر حاله
اختبارًا تامًّا. وأعلم أن أكثر مسلمي هذا العصر لم يلقنوا عقائد الإسلام كما أنزلها
الله تعالى. فأكثرهم يحبونه ولا يعرفونه، والواجب على العالم أن يبين الحق وعلى
من بلغه أن يحاسب نفسه، والقاعدة عند العلماء أن الجهل ليس بعذر في دار
الإسلام إلا لحديث العهد به، ولها فروع وجزئيات في باب الردة وغيرها دقيقة قد
حققناها في مواضع من المنار، والله أعلم.
__________(24/489)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
أهل الصُّفَة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوى فيهم
لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية قدس سره
تابع لما قبله
(فصل) وأما الحديث المروي: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي
لله) [1] فمن الأكاذيب، ليس في دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد تكون كفارًا
وفساقًا يموتون على ذلك.
(فصل) وأولياء الله تعالى هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما ذكر الله ذلك في
كتابه، وهم قسمان: المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون، فولي الله
ضد عدو الله، قال الله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) وقال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن
يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: 55-56)
وقال: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: 1) وقال: {وَيَوْمَ
يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (فصلت: 19) وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف: 50) .
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد
بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي
المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء
ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت
سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي
بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى) .
والولي: من الوَلْيِ [2] وهو القرب، كما أن العدو من العَدْو وهو البُعْد، فولي
الله مَن والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من
طاعاته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصنفين: المقتصدون [3]
أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى الله تعالى بالواجبات، والسابقون المقربون
وهم المتقربون بالنوافل بعد الواجبات. وذكرهم الله في سورة فاطر والواقعة
والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يُرْوَى به المقربون بشربهم إياه يُمْزَج
لأصحاب اليمين. والولي المطلق هو مَن مات على ذلك، فأما إن قام به الإيمان
والتقوى وكان في علم الله تعالى أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه
وليًّا لله أو يقال لم يكن وليًّا لله قط لعلم الله بعاقبة هدايته؟ قولان للعلماء.
وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة
ما يحبط من الأعمال بعد كماله؟ أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب
الشمس في صيامه، ومن أحدث قبل السلام في صلاته أيضًا؟ فيه قولان للفقهاء
المتكلمين والصوفية، والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام
أحمد وغيرهم.
وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم. ولكن أكثر
أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي
شرط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن
متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع هل ولي الله يصير عدو الله؟ وبالعكس،
ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه الله وسخط عليه في وقت ما؟ وبالعكس،
ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما؟ على القولين.
والتحقيق - وهو الجمع بين القولين - فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من
محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير، فمن علم الله منه أنه
يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلقت به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلاً
وأبدًا.
وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله
وعداوته وسخطه أزلاً وأبدًا لكن مع ذلك فإن الله يبغض ما قام بالأول من كفر
وفسوق قبل موته، وقد يقال: إنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك،
وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به
ويرضاه. وقد قال: إنه يوليه حينئذٍ على ذلك.
والدليل على ذلك اتفاق الأمة على أن مَن كان مؤمنًا ثم ارتد فإنه لا يُحْكَم بأن
إيمانه الأول كان فاسدًا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال، وإنما
يقال كما قال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5)
وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا
لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) ولو كان فاسدًا في نفسه لوجب أن
يُحْكَم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان حج
عن غيره كان حجه باطلاً، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان لهم أن يعيدوا صلاتهم
خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك. وكذلك أيضًا
الكافر إذا تاب من كفره فلو كان محبوبًا لله وليًّا له في حال كفره لوجب أن يقضى
بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذه كلها خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الآجال والأرزاق ونحو ذلك، وهي
أيضًا على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة، وعلى هذا يخرج جواب السائل.
فمن قال: إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى
فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره. ومن قال: قد يكون ولي الله من كان مؤمنًا
تقيًّا وأن يعلم عاقبته، فالعلم بذلك أسهل، ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه
ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز التهجم بالقطع علي ذلك. فمن ثبتت ولايته لله
بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له
به النص. وأما من شاع له لسان صدق من الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء
عليه فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك،
هذا في الأمر العام.
وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم. لكن ليس
هذا مما يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف
يكون ظانًّا في ذلك ظنًّا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات
يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا
وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم
ومشاهداتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن
سيد المحدثين المخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، وقد كان تقع له وقائع يردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه
التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المُحَدَّث الذي يحدث نفسه عن ربه؛ ولهذا
أوجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع
أمورهم الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على
الكتاب والسنة لكان مستغنيًا عن الرسول في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين
الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا
فهو كافر. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} (الحج: 52) فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في
أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن
عباس وغيره: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى
ألقى الشيطان في أمنيته) .
ويحتمل -والله أعلم- أن يكون هذا الحرف متلوًّا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى
الشيطان، فأما نسخ ما ألقى الشيطان فليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم
معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان،
وغيرهم لا يجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء الله المتقين، فليس من
شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفورًا لهم،
بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر
الذي تعقبه التوبة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
المُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر: 33-35) فقد
وصفهم الله تعالى بأنهم هم المتقون؛ والمتقون هم أولياء الله، ومع هذا بإجزائه،
ويكفر عنهم أسوأ الذي عملوا [4] ، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان،
وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض
المشايخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء، فالرافضة تزعم أن الاثني عشر
معصومون من الخطأ والذنب، ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشايخ
قد يقولون: إن الولي محفوظ والنبي معصوم، وكثير منهم لم يقل ذلك بلسانه،
فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب، وقد يبلغ الغلو
بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي أو أفضل منه، وإن
زادوا الأمر جعلوا له نوعًا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهئة
للضلالات النصرانية، فإن في النصارى من الغلو في المسيح والرهبان والأحبار ما
ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم؛ ولهذا قال سيد ولد
آدم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد
الله ورسوله) .
(فصل) وأما الفقراء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فهم صنفان: مستحقو
الصدقات، ومستحقو الفيء، أما المستحقون للصدقات فقد ذكرهم الله في قوله:
{إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة:
271) وفي قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } (التوبة: 60) وإذ
ذكر في القرآن اسم المسكين وحده أو الفقير وحده كقوله {ِإطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة: 89) فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعها فهما صنفان.
والمقصود بهما أهل الحاجة، وهم الذين لا يجدون كفايتهم لا من مسألة ولا
من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من صدقات
المسلمين المفروضة والموقوفة والمنذورة والمُوصَى بها، وبين الفقهاء نزاع في
بعض فروع هذه المسائل معروفة عند أهل العلم.
وضد هؤلاء: الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة؛ ثم هم نوعان، نوع تجب
عليه الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء، ونوع
لا تجب عليه، وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال الله
فيهم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ} (البقرة: 219) وقد لا يكون له فضل.
وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف فهم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم
فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها، وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى
الجنة بنصف يوم؛ لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها،
فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة.
ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول
الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما يقدم أغنياء الأنبياء
والصديقين عن السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. ومن هنا قال الفقراء:
ذهب أهل الدثور بالأجور، وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية وامتازوا
عنهم بالعبادات المالية: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهذا هو الفقير في عرف
الكتاب والسنة.
وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين ويكونون ظالمي أنفسهم
كالأغنياء. وفي كلا الطائفتين المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق.
وأما المستأخرون فالفقير في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى كما هو
الصوفي في عرفهم أيضًا، ثم منهم من يرجح مسمى الصوفي؛ لأنه عنده الذي
قطع العلائق كلها، ولم يتقيد في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات
لفظية اصطلاحية، والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين داخل في مسمى
الصديق أو الولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة
فمن حيث دخل في الأسماء النبوية يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة.
وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلاً وليس بفضل، أو مما يوالي عليه
صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدنيا - فهي
أمور مُهْدَرَة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات من الأمور المستحبات [5] ،
وأما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله من أنواع البدع والفجور
فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة.
(فصل) وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث
الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين، والنجباء
الثلاثمائة - فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن
النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ (الأبدال) فقد
روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلاً،
كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً) .
ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب، ولا هي
مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشايخ المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا، وإنما
توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشايخ، وقد قالها إما أثرًا لها عن
غيره أو ذكرًا. وهذا الجنس ونحوه من العلم الذي قد التبس على أكثر المتأخرين حقه
بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله، ومن الباطل ما يوجب رده. وصار
كثير من الناس فيه على طرفي نقيض: قوم كذَّبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل،
وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق
والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ركوب
هذه الأمة سَنن من كان قبلها حذو القُذَّة بالقُذَّة، فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل،
وهذا هو التبديل والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يعتبر [6] الدين بالتبديل تارة
وبالنسخ أخرى.
وهذا الدين لا يُنْسَخ أبدًا لكن يكون فيه مَن يدخِل فيه من التحريف والتبديل
والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به
الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل
الجاهلين [7] ؛ ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون. فبالكتب المنزلة
من السماء والآثار من العلوم المأثورة عن الأنبياء يميز الله الحق من الباطل ويحكم
بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقًّا في
كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين
يقلون تارة ويكثرون أخرى ويقل فيهم السابقون المقربون تارة ويكثرون أخرى
وينتقلون في الأمكنة، ليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل
منهم في السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وقد بعث الله رسوله
بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل
من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة، فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن
يكون منهم من كان في الكفار.
ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة،
ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين لأبي بكر
وعثمان وعمر وعلي، وإن كان (علي) قد خرج منها بعد أن بويع له فيها. ومن
الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم مَن يكون أفضل منهم.
ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في المؤمنين في كل
وقت من أولياء الله المتقين بل من الصديقين السابقين المقربين مَن لا يُحْصي عدده
إلا رب العالمين، لا يحصون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون
الثلاثة الفاضلة كان أيضًا في القرون الحالية من أولياء الله المتقين بل من السابقين
من جعل لهم عددًا محصورًا لازمًا فهو من المتظلمين (؟) عمدًا أو خطأً.
وأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله تعالى فهو غياث المستغيثين لا
يجوز لأحد الاستغاثة بغيره لا بمَلَك مقرب، ولا نبي مُرْسَل، ومن زعم أن أهل
الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم ونزول الرحمة بهم،
إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعين إلى الأربعين والأربعين إلى
السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث - فهو كاذب ضال مشرك، فقد
كان المشركون كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن
تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 67) وقال: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل: 62) فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعدة وسائط من
الحُجَّاب؟! وهو القائل تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} (البقرة:
186) .
وقال الخليل عليه السلام داعيًا لأهل مكة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى
عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ * الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إبراهيم: 37 - 39) وقال النبي صلى
الله عليه وسلم لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالتلبية: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم
فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا وإنما تدعون سميعًا قريبًا إن الذي تدعونه أقرب إلى
أحدكم من عنق راحته) .
وهذا باب واسع وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا
مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم لا ظاهرًا ولا باطنًَا بهذه الوسائط
والحُجَّاب، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك، وسائر ما يقوله الظالمون
علوًّا كبيرًا.
وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يكون
حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به، ثم مع هذا يقولون: إنه كان صبيًّا دخل
السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر ولا يدرك
له حس ولا خبر.
وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم معناها للرافضة من بعض الوجوه،
بل هذه الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية
ونحوهم في السابق والثاني، والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب
الذي ما أنزل الله به من سلطان.
وأما الأوتاد فقد يوجد في كلام بعضهم أنه يقول فلان من الأوتاد، ومعنى ذلك أن
الله يثبت به من الدين والإيمان في قلوب من يهديهم الله به كما يثبت الأرض
بأوتادها، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة، فكل مَن حصل به تثبيت العلم
والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة، ومن كان
دونه كان بحسبه، وليس ذلك محصورًا في أربعة ولا أقل ولا أكثر، بل جعل هؤلاء
أربعة مضاهاة لقول المنجمين في أوتاد الأرض.
(فصل) وأما القطب فيوجد في كلامهم أيضًا: فلان من الأقطاب وفلان قطب،
فكل من دار عليه أمر من أمور الدين والدنيا باطنًا أو ظاهرًا فهو قطب ذلك الأمر
ومداره، سواء كان الدائر عليه أمر داره أو قرية أو مدينة: أمر دينها أو دنياها
باطنًا أو ظاهرًا، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر، لكن الممدوح
من ذلك من كان مدارًا لصالح الدين دون مجرد صلاح الدنيا، وهذا هو القطب في
عرفهم، وقد يتفق في عصر آخر أن تكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله، ولا
يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هو أفضل الخلق عند الله مطلقًا.
وكذلك لفظ (البدل) جاء في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه
ليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح
الشام وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم في خلافة علي قد ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين يقتلهم أولى
الطائفتين بالحق) فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام،
ومعلوم أن الذين كانوا مع علي من الصحابة مثل عمار وسهل بن حنيف ونحوهما
كانوا أفضل من الذين مع معاوية وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين
أفضل ممن كان معهم، فكيف يُعْتَقَد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل
الخلق كانوا في أهل الشام؟ هذا باطل قطعًا، وإن كان قد ورد في الشام وأهله
فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
والكلام يجب أن يكون بالعلم وبالقسط فمن تكلم في الدين بغير علم دخل في
قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) وفي قوله: {وَأَن
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) ومن لم يتكلم بقسط وعدل خرج
من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (النساء:
135) ومن قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: 152) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25) .
والذين تكلموا باسم البدل فَرَّدُوهُ بمعانٍ: منها أنهم أبدال، ومنها أنهم كلما مات
منهم رجل أبدل الله مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم
وعقائدهم بالحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا أكثر،
ولا تُحْصَر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحرير يظهر المعنيّ باسم النجباء.
فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف
مثل تفسير بعضهم بأن الغوث هو الذي يغيث الله به أهل الأرض من رزقهم
ونصرهم. فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب، وهو معدوم بالعلم والأثر،
وتشبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة، وكذلك من
فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما يُنْصَرُونَ ويُرْزَقُونَ بهم، فذلك باطل، بل النصر
والرزق يحصل بأسباب من أوكدها دعاء المسلمين المؤمنين وصلاتهم وإخلاصهم ولا
يتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا أكثر كما في الحديث المعروف أن سعد بن أبي
وقاص قال: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيسهم له مثل ما يسهم لضعفتهم؟
فقال: يا سعد وهل تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم)
وقد يكون للنصر والرزق أسباب أخر، فإن الكفار أيضًا والفجار ينصرون ويرزقون.
وقد يجدب الله الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم؛ لينيبوا إليه ويتوبوا من
ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل
السماء عليهم مدرارًا ويمدهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، إما
ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر، وإما ليضاعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس
كل إنعام كرامة، ولا كل امتحان عقوبة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ} (الفجر: 15-17) .
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) زاد بعضهم فيه: (لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه) قال علي القاري في موضوعاته: وهو كلام باطل.
(2) الوَلْيِ بوزن فلس: القرب، قاله في المصباح.
(3) أي: وهم المقتصدون إلخ.
(4) كذا في الأصل وهو محرف، والمعنى الذي يدل عليه السياق أنهم مع هذا يسيئون، ولكن الله يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، أي لغلبة إحسانهم على سيئاتهم.
(5) كذا في نسختنا، ولا يظهر له معنى جلي بغير تكلف، ولعل أصله: إذا جعلت المباحات مما ذكر من المستحبات بالنية الصالحة كالسياحة الأصل فيها الإباحة وقد تكون مستحبة إذا نُوي بها أمر مستحب شرعًا كتحصيل العلوم والفنون النافعة غير الواجبة شرعًا كما تكون واجبة، وفنون الصناعات التي تتوقف عليها المصالح المعاشية والحربية من فروض الكفايات.
(6) المنار: لعل الأصل: (يتغير) بدل: يعتبر.
(7) هذا حديث أوله (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولُهُ ينفون عنه) إلخ.(24/508)
الكاتب: أبو الكلام
__________
الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزية
العالم العلامةالأستاذ أبو الكلام
(3)
وظيفة المسلمين إذا ظُلموا:
إن الشريعة الإسلامية رسمت للمسلمين خطتين إذا ظُلموا: خطة ضد استبداد
الحكومة الإسلامية، وخطة ضد استبداد الحكومة الأجنبية - والأولى تنحصر في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الحق وتقبيح الظلم من استطاع إليه
سبيلاً - أما الثانية فليست إلا السيف والحرب العوان وضرب الرقاب. وفي كلتيهما
أُمر المسلمون بأن يضحوا نفوسهم ويرحبوا بالموت صابرين ثابتين شاكرين،
راجين رحمة ربهم وفلاح الدنيا والآخرة. ولذا تجدهم كما تجرعوا كؤوس المنايا
بين الولاة الظلمة من أنفسهم في سبيل الحق، كذلك باعوا رءوسهم بيد الأجانب في
إعلاء كلمة الحق، وقد سبقوا سائر الأمم في هذا المضمار، فلا يوجد (لسعيهم
الحربي) مثال، ولا يوجد (لسعيهم المدني) مثال.
ولقد كان يجب على مسلمي الهند الآن أن يتخذوا الخطة الثانية فيحاربوا
الحكومة الإنجليزية بالسلاح ويتفانوا في جهادها، غير أنهم آثروا الأولى، وأعلنوا
أنهم لا يرفعون عليها السلاح، ولا يسفكون الدماء، بل يظلون متمسكين بعُرَى
الأمن والسلم، وإنما يقاطعونها، وينفضون أيديهم من التعاون معها ويشهرون
سوءاتها، ويطلبون تغييرها (بالسعي المدني) أي يعاملونها كما كانوا يعاملون
الحكومات الإسلامية الجائرة.
أجل إن فيهم ضعفًا ووهنًا، ولا يستطيعون محاربة الدولة البريطانية القوية،
إلا أنهم لم يكونوا عاجزين عن إلقاء أنفسهم في أفواه مدافعها وسد طريقها بجثثهم
الممزقة، ولكنهم مع قدرتهم عليه اختاروا الخطة الأولى، ولم يضيقوا عليها السبل،
فهلا كان يجب عليها أن تفكر في صنيعهم وتسامُحِهم معها؟ فحسبها أنهم يعاملونها
كمعاملتهم لحكوماتهم الإسلامية!
انقلاب الحال:
وإني أقول حقًّا: إنه لا يؤلمني أن أرى الحكومة عازمة على معاقبتي، وأنها
لا تحاكمني إلا لأن تزجني في السجون؛ إذ هذا أمر لا بد منه، وإنما الذي يؤلمني
فيفتت كبدي هو أن أرى الحالة تنقلب انقلابًا تامًّا، فبدلاً من أن ينتظر من المسلم
صدق اللهجة والقول الحق، يطلب منه السكوت عنه وكتمان الشهادة، وأن لا يقول
للظالم: (إنك ظالم) لأن قانون 124 يعاقب عليه.
ولقد كان المسلم في العهد الأول يوقف بين يدي ملك جبار لقوله له: (إنك
ظالم) فيصب عليه العذاب إلى أن تتشقق له القصب، ثم يمدون قصبة قصبة حتى
يذهب لحمه كله، فلا يسمعونه يستغيث أو يندم أو يتألم، بل لا ينفك لسانه يقول ما
قاله أولاً [1] فوازنوا بين هذا وبين قانونكم (124) .
ولست أنكر أن الحقيقة المحزنة هي أن المسلمين أنفسهم مسئولون عن هذا
الانقلاب المُخْزِي وتسلُّط الأجانب عليهم حتى أصبحوا بحالتهم الحاضرة أكبر فتنة
للإسلام - أقول هذا وقلبي يذوب حزنًا وكمدًا على وجود أناس من المسلمين في هذه
البلاد يتخذون أربابًا من دون الله ويعبدون الظلم والظلمة جهرًا وعلنًا، فإلى الله
المشتكى ثم إلى الله المشتكى.
الحرية أو الموت:
ولكن سوء حال المسلمين لا يسوِّد ناصية تعاليم الإسلام الحق البيضاء
المصونة بين دفتي الكتاب الحكيم. وهي لا تبيح للمسلمين في حال من الأحوال أن
يعيشوا عبيدًا وخولاً للأجانب والمستبدين بل توجب عليهم أن يحيوا أحرارًا، أو
يموتوا كِرَامًا، وليس بينهما سبيل.
وهذا الذي حملني قبل اليوم باثنتي عشرة سنة على أن أُذَكِّر المسلمين في
الهلال [2] بأن الجهاد في سبيل الحرية، وبيع الرءوس لإعلاء كلمة الحق هو إرثهم
الإسلامي القديم الذي ورثوه عن أجدادهم العظام، وأنه يجب أن يحافظوا عليها بكل
قوة، وأن دينهم يحتم عليهم أن يسبقوا جميع أبناء وطنهم في الجهاد الوطني، فلا
يكونوا فيه أذنابًا؛ بل رءوسًا وأعلامًا يُهْتَدَى بهم. ولقد كان من فضل الله أن
دعوتي لم تذهب أدراج الرياح، بل لقيت القبول والإجابة منهم، وها نحن أولاء
نراهم اليوم قد شمروا عن ساعديهم وعزموا عزمًا شديدًا على السعي والعمل مع
إخوانهم الوطنيين من الهندوس والنصارى والمجوس لتحرير وطنهم من ربقة
العبودية الأجنبية، ولا يقر لهم قرار إلا بعد نيل المرام.
مسألة الخلافة:
وإني لا أذكر ههنا مظالم الحكومة حيال الخلافة الإسلامية؛ لأنها أشهر من أن
تُذْكَر، ولكن الذي أريد التصريح به هو أنه لم يمض عليَّ يوم ولا ليلة في خلال
السنتين الماضيتين إلا وأعلنت تلكم المظالم على رءوس الأشهاد، وصرخت بأعلى
صوتي قائلاً: (إن الدولة التي تدوس الخلافة الإسلامية تحت أقدامها ولا تندم على
ما اقترفته في الهند من الفظائع والمنكرات لا تستحق أن يخلص لها أحد من أبناء
هذه البلاد؛ لأنها بأعمالها قد أصبحت عدوًّا ألد للإسلام والمسلمين ولسكان هذا
القطر!) .
ولا تلومن الحكومة أحدًا غير نفسها على سقوطها في هذا المأزق الذي يصعب
عليها الخروج منه؛ لأنني قد نبهتها سنة 1918 من معتقلي في كتاب مِنِّي إلى
(اللورد جيمس فورد) الوالي السابق فصَّلْتُ لها فيه الأحكام الإسلامية التي تتعلق
بالخلافة وجزيرة العرب، وصارحتها بأن الدولة البريطانية إذا نقضت عهودها،
واستولت على الخلافة والبلاد الإسلامية تُوقِع المسلمين في حالة حرجة جدًّا ولا
يبقى لهم إذ ذاك إلا أن يكونوا مع الإسلام أو مع البريطانية، ومعلوم أنهم يؤثرون
الإسلام عليها.
ولكنها لكبرها وعجرفتها لم تُبَالِ بما كتبتُ، فألقت كتابي ظِهْرِيًّا، ونكثت
أيمانها من بعد توكيدها، فاحتلت دار الخلافة الإسلامية واستولت على العراق
والشام وفلسطين، وبسطت نفوذها على جزيرة العرب، فعادت الإسلام والمسلمين
علنًا، واضطرتهم إلى مقاطعتها ونبذ معونتها والتبري من طاعتها (وهو أقل ما
توحيه الشريعة في مثل هذه الحالة كما مر) ثم إنها بإصرارها على غيها وإعراضها
عنهم واستنكافها من الإنصات إليهم أَيْأَسَتْهُمْ من نفسها، حتى أيقنوا أن لا سبيل إلى
الحياة ونيل حقوقهم المغصوبة إلا بإسقاط هذه الحكومة وإقامة حكومة وطنية بحتة،
وهي التي يسمونها في لغتهم (بالسوارج) .
أعدل هذا أم ظلم؟
والحاصل أن اعترافاتي في هذا الباب جلية وصريحة، فإني لا أعد الحكومة
الحاضرة إلا (بيوو كريسيا) غير شرعي وعدمًا محضًا في عين الحق والقانون
ولرضا مئات (؟) الملايين من أبناء البلاد، فهم يمقتونها أشد المقت، ويطلبون
زوالها وسقوطها بأسرع ما يمكن؛ لأنهم ألفوها دائمًا تؤثر الرهبة والشدة في أعمالها
على العدل والحق، وتبيح سفك الدماء البريئة بدون رحمة ولا شفقة في (جليانوا
لاباغ) [3] وتجلد الصبيان الذين ما عرفوا الذنوب بعدُ لأن ينحنوا أمام العلم
البريطاني المثلث. ثم إنهم وجدوها لا ترتدع عن دوس الخلافة الإسلامية، ولا
تسمع الصيحات المتوالية التي تعلو من أفواه المسلمين وغيرهم، وتسلم أزمير
وتراقية إلى اليونان ظلمًا وجورًا، وتسمح لهم بإراقة دماء المسلمين أنهارًا في سهول
الأناضول.
ولقد رأوا جرأتها في سحق الحق غير قليلة، وهمتها في لبس الصدق بالإفك
غير كليلة، ولسانها في تكذيب الحقائق غير عيي ولا متلعثم، فمع أنه يوجد في
ولاية أزمير 70 في المائة من المسلمين، يعلن رئيس وزرائها بدون أدنى لَكْنَة أن
الأكثرية للنصارى. ولقد وضع اليونانيون السيف في رقاب المسلمين وذبحوهم ذبح
الأنعام، هو يقلب الحقيقة فيتهم العثمانيين بالقتل وسفك الدماء، ويشهر المظالم
التركية المخترعة في العالم بلا مبالاة، ويخفى بكل وقاحة تقرير لجنة التفتيش
الأمريكية التي ندبتها حكومته بنفسها، ويؤلب على الأحرار العثمانيين الدول
الغربية كلها، ويدعوها إلى محاربتهم واستئصالهم.
ثم إنهم وجدوها لا تخجل ولا تندم على هذه الفضائح والمنكرات، ولا ترغب
في تلافيها وإصلاح عوجها، بل تعود، فتستبد أكثر من قبل، وتقهر البلاد وتكبح
سعيها الشرعي السلمي، وتعمل كل ما عملته في السنة الماضية، وما تعمله منذ
18 نوفمبر إلى الآن، من الأعمال الشنيعة التي تشمئز منها الإنسانية وتعافها.
فيا ليت شِعْرِي إن لم أقل لمثل هذه الحكومة (إنك ظالمة، فإما أن تتوبي وإما
أن تزولي) فماذا أقول؟ أفأكذب وأقول لها: لا بل إنك عادلة فلا تتوبي ولا تزولي؟
لعمر الله إن هذا لا يكون أبدًا! .
وهل يستحق الظلم أن يبدل اسمه ويسمى بغير اسمه؛ لأنه يملك القوة
والسجون والمشانق؟ كلا بل أقول كما قال صالح إيطالية وبطل الحرية (ميزني) :
إننا لا نسكت عن سيئاتكم؛ لأنكم تملكون قوة عما قليل تزول!
قرة عيني في (هذه الجناية) :
إني لأعجب كيف تقدم الحكومة هاتين الخطبتين الناقصتين ضدي؟ أفما كانت
تجد غيرهما؟ ألا توجد هذه الأقوال بعينها وأكثر منها في الألوف المؤلفة من
الصحائف التي حبَّرتُها، وفي جميع خطبي التي خطبتها في سائر أنحاء الهند؟ فلو
أنها رجعت إليها لوجدتها ممتلئة من هذه الأفكار الثوروية.
الحكومة تعلم أني لست حديث عهد (بمبادئ الثورة) كما سمتها فلقد مارستها
وأنا صغير، وباشرت الخطابة والكتابة فيها وأنا ابن ثماني عشرة سنة، وأفنيت
شبابي في عشقها والهيمان بها، ودعوت أمتي إليها جهرًا على مسمع من الحكومة
وحرضتها على المطالبة بحقوقها منها؛ ولذا اعتقلتني أربع سنوات، ولكن الاعتقال
لم يكن ليمنعني من أداء واجباتي فظللت تحت المراقبة الشديدة أرفع صوتي بها
وأدعو الناس إليها، لا سرًّا بل علنًا في رابعة النهار! وكيف لا، وفيها قرة عيني،
وهي مقصدي من الحياة، إن أعش: أعش لأجلها، وإن أمت: أمت عليها {إِنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 162) .
الحركة الإسلامية الأخيرة:
كيف أستطيع التبري من هذه (الجناية) وأنا الذي قمت بهذه (الحركة
الإسلامية) التي أحدثت انقلابًا عظيمًا في أفكار المسلمين السياسية، وأوصلتهم إلى
حيث نراهم الآن، فإنهم بقبولهم أفكاري أصبحوا شركائي في الجريمة واستحقوا
العقاب الذي تشرفني به الحكومة. ولقد أصدرت سنة 1912 صحيفة باسم (الهلال)
بَثَثْتُ فيها جراثيم هذا الذنب في المسلمين، فَعَلِقَتْ بقلوبهم وسَمَّمتْ أفكارهم، فبعد
أن كانوا أعداء لإخوانهم الهندوس وعقبة كئودًا في جهادهم الوطني، وآلة صماء بيد
الحكومة، يعتقدون أن البلاد إذا استقلت تغلب عليهم الهندوس وأسسوا دولتهم؛
لأنهم أكثر عددًا منهم - أصبحوا بدعوة (الهلال) يرجحون قوة الإيمان والحق على
قوة العُدد والعَدَد، وَدَعَتْهُمْ إلى مساهمة الهندوس في الجهاد الوطني، فأصبحوا
متحدين معهم وقاموا جميعًا بالحركة الحاضرة. وغني عن البيان أن الحكومة لم تكن
لتتحمل الحركة التي أحدثتها (الهلال) فعمدت إلى منعها وإقفال مطبعتها؛ ثم لما
أنشأتُ جريدة أخرى باسم (البلاغ) اعتقلتني.
وإني أصرح هنا بأن (الهلال) لم تكن إلا دعوة للحرية أو الموت، وإن ما
يعمله الآن (مهاتما غاندهي) من بث الروح الدينية في الهندوس، كانت (الهلال)
قد فرغت منه سنة 1914 وإن من المصادفات العجيبة أن المسلمين والهندوس ما
قاموا بالحركة الجديدة إلا بعد أن حلت فيهم الروحانية الدينية محل المدنية الغربية
المادية.
مؤتمر الخلافة بكلكتا:
ثم إني منذ خرجت من الاعتقال الطويل ما برحت أنشر هذه المبادئ بين
الناس وأدعوهم إليها: ففي مؤتمر الخلافة الذي انعقد في 28 و 29 فبراير بكلكتا
نفسها، والذي رَأَسْتُ جلساته، حَمَلْتُ المسلمين على أن يعلنوا القرار الآتي:
(إن أصرت الحكومة على غوايتها، ولم تُصْغِ لمطالبنا في مسألة الخلافة،
يضطر المسلمون بأوامر دينهم أن يصرموا جميع أواصر الولاء التي تربطهم
بها!) .
وألقيت في هذا المؤتمر خطبة طويلة بَيَّنْتُ فيها جميع تلك الأمور بيانًا تامًّا،
وهي توجد في هاتين الخطبتين ناقصة.
التعاون والخدمة العسكرية:
ولقد شرحت في هذه الخطبة أن الشريعة توجب على المسلمين في الحالة
الحاضرة أن يكفوا عن التعاون مع الحكومة وأن يقاطعوها مقاطعة تامة - وهذا هو
(اللاتعاون) الذي أطلق عليه بعد اسم cooperation Nen وتولى (مهاتما
غاندهي) قيادته.
وفي نفس هذا المؤتمر أعلن: أنه لا يحل للمسلمين أن ينسلكوا في الخدمة
العسكرية لهذه الحكومة؛ لأنها تحارب الخلافة والدولة الإسلامية! وإن من أعجب
العجب أن تؤاخذ الحكومة أناسًا [4] وتعاقبهم لإعلانهم هذا الحكم في مدينة كراجي
ولا تؤاخذني به، مع أني صرحت مرارًا على صفحات الجرائد وفي خطبي أن أول
من قدم هذا الاقتراح وأعلن هذا الحكم الديني، هو أنا بعيني، فقد قرر وصدق عليه
في ثلاثة مؤتمرات تحت رياستي: أولاً في كلكتا ثم في بريلي، ثم في لاهور.
وقد أعلنته مرارًا في غير هذه المؤتمرات، ودعوت الحكومة إلى معاقبتي فلم تُجِبْنِي،
مع أني كنت أحق الناس وأولاهم بالعقاب عليه.
وقد طبعت خطبة مؤتمر كلكتا بعد زيادات فيها، ونشرت مع الترجمة
الإنجليزية مرارًا، وهي بمثابة جدول مكتوب لجرائمي وذنوبي.
(حياتي كلها جناية) :
إنني قد طفت البلاد الهندية كلها عدة مرات في خلال السنتين الماضيتين،
وحدي ومع (مهاتما غاندهي) ولا توجد بلدة إلا وقد خطبت فيها على مسألة الخلافة
وبنجاب (وسوراج) واللا تعاون. وبينت جميع تلك الأمور التي تحتوي عليها
هاتان الخطبتان.
ولقد انعقدت جمعية الخلافة الكبرى في ديسمبر سنة 1920 مع الجمعية الوطنية
العامة (بناغبور) وجمعية العلماء في إبريل سنة 1921 (بيريلي) وجمعية
الخلافة لمقاطعة (أورهر) في أكتوبر (بآغره) وجمعية العلماء العامة في نوفمبر
(بلاهور) وقد رأست هذه الجمعيات كلها، وخطبت فيها خطبًا طويلة، قلت فيها
ما قلت في هاتين الخطبتين، بل أكثر منه وأشد.
فإن كانت مطالب هاتين الخطبتين لا تلائم الحكومة، وتراني أستحق العقاب
لأجلها تحت قانون 124، فلم لا تعاقبني على جميع خطبي وهي كلها مثلهما، بل
أشد وطأة على الاستبداد منهما؟ بل إني مضطر إلى التصريح بأني ارتكبت هذه
الجناية مرارًا يستحيل عَدُّهَا، بل ما عملت في السنتين الماضيتين غير هذه الجناية!
اللاتعاون السلمي:
إننا قد وضعنا لجهادنا الحق خطة (اللاتعاون السلمي) أجل، إن القوات
المادية واقفة أمامنا بجميع أسلحتها القتالة، وموادها العظيمة، تريد أن تسحقنا سحقًا،
وتمحق الحرية والحق محقًا، ولكن هذا لا يهولنا؛ لأننا لا نثق بالمادة والأسلحة
المادية، إنما اتكالنا على الله الواحد القهار، وثقتنا بالضحايا المتوالية التي نقدمها،
والثبات القوي الذي نُظْهِرُه في هذه المعمعة القائمة بين الحق والباطل والحرية
والاستبداد. وإني لا أرى مثل (مهاتما غاندهي) أن استعمال السلاح لا يجوز
بحال، فإني مسلم وأعتقد أن استعماله مباح في المواقع التي أباحه الإسلام فيها.
ولكني مع هذا أسلم بجميع دلائل (مهاتما غاندهي) في المسألة الحاضرة وأعتقد
صحتها، وإني لعلى يقين من ربي في أن الهند ستفوز في قضيتها بخطة
(اللاتعاون السلمي) ويكون فوزها مثالاً عظيمًا لفوز القوة الروحانية والأخلاقية
والحق على الباطل والمادة.
الحالة الحاضرة طبيعية:
وإني أكرر أخيرًا ما قلته أولاً، وهو أن ما تعمله الحكومة معنا ليس بأمر
عجيب ولا غير منتظر فنلومها عليه أو نتبرم منه، فإن القهر والعنف لقمع الحرية
والحق دأب الحكومات الجائرة وطبعها منذ الأيام الخالية إلى اليوم، ولا ينبغي لنا
أن نُمَنِّي أنفسنا بتغير الطبيعة لأجلنا.
وهذا الضعف الطبيعي كما يوجد في الآحاد، يوجد في الجماعات، فكم من
الناس من يرد النزر اليسير المغصوب لأنه لا حق له فيه؟ وكيف ننتظر من دولة
أن تتخلى عن قارة تسلطت عليها ووجدتها تدر كالبقرة الحلوب؟ والقوة لا تقبل
شيئًا لأنه حق وعدل، بل تنتظر قوة مقاومة مثلها، فإذا تصادمت بها خضعت لكل
طلب مهما كان فاحشًا، فالحرب التي نشبت الآن بين البلاد والحكومة فلا بد من
طولها وامتدادها، ولا تأتي النتيجة إلا بعد شق الأنفس، وإن هذا لواضح جلي لكل
بصير، بل عادي مثل سائر أحوالنا العادية، فلا ينبغي أن نعجب معه أو نضجر.
وإني أسلم بأننا لم يصبنا ما أصاب الأمم قبلنا في هذه السبيل من العسف
والظلم ونقص الأموال والأنفس، ولا أدري أهذا لضعف في مطالبتنا بالحقوق
ووهن في سعينا وجهادنا؟ أم لأن ظلم الحكومة لم يبلغ منتهاه بعد؟ المستقبل رهين
بكشفه وبيانه.
وقد علمنا التاريخ أن هذا التزاحم كما يبتدئ في كل زمن متشابهًا، كذلك
ينتهي دائمًا متشابهًا، فالحرية والحق ينتصران ويغلبان، والاستبداد والباطل
يخذلان ويسقطان، فإذا كنا صادقين في قضيتنا وصابرين في ابتلائنا ننجح ونفوز
بلا ريب، وتضطر هذه الحكومة التي تعاملنا اليوم كالمجرمين، إلى أن ترحب بنا
غدًا كالأبطال والفاتحين.
الثورة:
إني قد اتُّهِمْتُ (بالثورة) مهلاً، ذروني أفهم معنى (الثورة) أهي ذلك
السعي الذي لم ينجح بعد؟ إن كان هذا هو الثورة، فنعم إني (لثائر) ومتمثل بين
يديكم، عاقبوني بأي عقاب شئتم؛ ولكن اعلموا أن هذا السعي إذا تكلل بالنجاح فإنه
يسمى (بحب الوطن) و (جهاد الحرية) فقد كنتم بالأمس تسمون قادة أيرلندة
(ثوارًا وعصاة) ولكن أي اسم تختاره اليوم الدولة البريطانية لديوليرا وغريفت؟
أهم ثوار الآن أم أبطال الحرية؟
ولقد قال مرة قائد أيرلندة بارنل: ما زال عملنا هذا يسمى في البداية (ثورة)
وفي النهاية (جهادًا وحربًا مقدسة للحرية والوطن!) .
ناموس القضاء بالحق:
إنني مسلم، وحسب المسلم يقينًا كتابه الذي يؤمن به، فالقرآن يدل على أن
ناموس (انتخاب الطبيعة وبقاء الأصلح) ناموس عام، كما يعمل عمله في الأجسام
والمادة، فيبقى منها الأصح والأصلح للبقاء كذلك يعمل في العقائد والأعمال،
فالأعمال الصالحة تخلُدُ وتثمر، والأعمال السيئة تفنَى وتصير هباء منثورًا وإذا
وقع بينهما نزاع غلبت الأولى وحلت محل الثانية: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
ولذا يسمي القرآن العمل الصالح (بالحق) الذي معناه الثبوت والقيام،
ويسمي الشر والسوء (بالباطل) الذي من شأنه أن يزول {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) .
فالتدافع الذي نراه قائمًا بين الحزبين سينتهي غدًا بفوز الحق والصدق،
وبخسران الباطل والظلم. تلك سنة الله {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:
62) {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
وأني لا أدري قريب يوم الفصل أم بعيد؟ ولكنني أرى الجو قد اكفهر وتلبد
بالغيوم، واجتمعت الآيات على سقوط الأمطار، والويل كل الويل لمن يرى الآيات
والنذر ثم لا يأخذ أهبته، ولا يرتق فتقه، ولا يسد ثغره، وإني لأرى الحكومة
من أولئك الذين لا تغنيهم الآيات والنذر فإنها لا تزال متمادية في تيهها وخنزوانتها.
وقد قلت في هاتين الخطبتين: إن الحرية لا ينبت نبتها ولا تستوي على
سوقها إلا إذا سُقِيَتْ بماء الظلم والقهر. فها هي ذي الحكومة قد أخذت تسقيها
بظلمها وقهرها!
وكذلك قلت فيهما: إخواني لا تحزنوا على من حُبِسَ منكم، بل إن كنتم
تطلبون الحق والحرية حقًّا، فهلموا إلى السجون واملأوها! فها نحن أولاء نرى
السجون قد ازدحمت وامتلأت حُجُرها حتى لم يبق فيها محل للصوص والقتلة
واضطرت الحكومة إلى تشييد سجون جديدة!
وكيل الدعوى، البوليس، والقاضي:
وفي الختام أريد أن أسوق كلمة إلى هذا النفر من بني جِلْدَتِى الذين يعملون
ضدي في هذه القضية فأقول: أصحابي ثِقُوا بأني لا أغضب ولا أحقد عليكم، بل
لا أتهمكم بالكذب والزور عليَّ؛ لأن كل ما قلتموه في الشهادة حق وصدق، ولكني
أراكم قد عصيتم الله ربكم بمساعدة الحكومة في استبدادها وظلمها ومحاربتها للإسلام
والإنسانية. إني أعلم أن صوت الضمير يوبخكم في أعماق سرائركم على ما
تعملونه، ولكنكم إنما اضطررتم إليه اضطرارًا؛ لأنكم لا تملكون ما تسدون به
عوزكم، وترزقون به أهليكم، وليس فيكم قوة لتحمل البأساء والضراء في سبيل
الحق، فلذا لا أحنق عليكم ولا أعذلكم بل أعفو عنكم وأستغفر لكم الله.
وأما وكيل الدعوى فهو أيضًا أحد أبناء وطني، ولا علم لي بسريرته وإنما
أرى علانيته، وهي تشهد أنه لا حظ له في هذه القضية غير ما يُنْقَدُهُ من النقود،
فإنه أجير يعمل لأجرته فلذا لا أسخط ولا أحتمي عليه، بل أدعو لجميع هؤلاء
بدعوة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لقومه: (اللهم اهد قومي فإنهم لا
يعلمون) .
فاقض ما أنت قاضٍ!
وأنت أيها القاضي ماذا عسى أن أقول لك؟ إن أقول إلا ما قاله المؤمنون قبلي
في مثل موقفي هذا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه:
72) فإني لا أحس بأدنى هَمٍّ ولا ألم، مهما تبالغ في العقاب؛ لأن خطابي مع
الحكومة لا مع شخص واحد. وما دامت الحكومة فاسدة فلا رجاء في إصلاح
أعمالنا.
وأني لأختم خطابي بكلمات لفقيد إيطالية وشهيد الحق (غارينيو برونو) الذي
كان أُوقِف مثلي أمام المحاكم فقال: (عاقبوني بأكثر ما يمكنكم أن تعاقبوني به فإني
أؤكد لكم أن ما يشعر به قلبكم من العطف والحنان عند كتابتكم الجزاء لا يشعر قلبي
في مقابله بذرة من الفزع والهلع عند سماعي هذا الجزاء) .
الخاتمة:
أيها القاضي، لقد طال الحديث وآن أوان الوداع، فليودع كل منا صاحبه،
وإن ما يدور الآن بيننا سيسجله التاريخ بين دفاتره ويعتبر به المعتبرون، ولقد
تَشَارَكنا في ترتيبه على سواء: أنا من هذا القفص للجناة، وأنت من ذلك الكرسي
للقضاة، وإني عالم بأنه لا بد من هذا الكرسي، وكذلك لا بد من هذا القفص، فهلم
بنا نفرغ من هذا العمل الذي سيكون عبرة وتذكرة للآتين، فالمؤرخ ينتظرنا،
والمستقبل يترقب فراغنا، لنسرع إلى المجيء إليك ولتسرع أنت في القضاء علينا،
وإن هذا العمل لا يطول قليلاً حتى يفتح باب لمحكمة أخرى، وتلك المحكمة
محكمة قانون الله الحق، الزمان يقضي فيها، ويكون قضاؤه حقًّا وحكمه نافذًا.
ا. هـ.
__________
(1) وقد فعل هذا الحجاج بن يوسف الثقفي مع حطيط الزيات الذي مرت حكايته آنفًا " المترجم ".
(2) الهلال مجلة لصاحب الخطاب.
(3) هو ميدان محيط بالجدران بمدينة أمرتسر من مقاطعة بنجاب، قتلت فيه الجيوش الإنجليزية مئات من الوطنيين، رجالاً وشيوخًا وأطفالاً، كانوا اجتمعوا فيه ليتشاوروا في بعض القوانين الجائرة
(المترجم) .
(4) سجنت الحكومة الأخوين الشهيرين محمد علي وشوكت علي ونفرًا غيرهما سنتين لإعلانهم هذا في كراجى من مقاطعة السند (المترجم) .(24/520)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المعاهدة البريطانية الحجازية
وخدعة الوحدة العربية
(2)
(تعليق وجيز على خلاصة المعاهدة)
لم يظهر لنا أدنى وجه لجعل المسيطر على الحجاز هذه المعاهدة عيدًا للأمة
العربية، فما أبعد الفرق بين معاهدة لوزان التي جعلت الحكومة التركية عيد النحر -
وهو يوم إعلانها - عيدًا وطنيًّا للترك، وبين هذه المعاهدة التي جعل الملك حسين
يوم إعلانها بمكة عيدًا وطنيًّا للعرب؟
معاهدة لوزان قررت استقلال الترك استقلالاً مطلقًا من كل قيد سياسي
واقتصادي واجتماعي، والمعاهدة البريطانية الحجازية قررت استعباد بلاد العراق
وفلسطين وشرق الأردن بالوصاية البريطانية، وبلاد الحجاز بالحماية الإنجليزية،
فتلك جديرة بأن تجعل ذكراها عيدًا وموسمًا، وهذه جديرة إن أمضيت بأن تجعل
ذكرى خزيها مناحة ومأتمًا.
بينت الجرائد المصرية ما في هذه المعاهدة من قيود استعباد العرب والحجاز.
وبيَّن المؤتمر العربي الفلسطيني ما فيها من استعباد فلسطين والاعتراف بالحال
الحاضرة فيها وما هي إلا الاستعمار الإنجليزي بالانتداب المتضمن للوطن القومي
لليهود. وبينت اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني هذا أيضًا وزادت عليه
ما فيها من إقرار الانتداب في سورية الشمالية أيضًا. وإننا نسجل في المنار أهم ما
ظهر لنا من غوائل هذه المعاهدة المشئومة بما لا نعلم أن أحدًا سبقنا إلى مثله،
ونسأل الله أن يقضي عليها بالفشل، وحسبنا من أعياد ملك الحجاز (عيد النهضة)
التي هي علة كل هذا الشقاء.
(المادة الأولى) تنص على منع استعمال بلاد كل من الحكومتين المتعاهدتين
قاعدة لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى.
ليس في هذا النص أدنى فائدة للعرب! بل فيه من الضرر أنه يحظر عليهم
وعلى جميع مسلمي الأرض أن يتواطئوا في الحجاز أو يتشاوروا في أي أمر
ينكرونه على الإنجليز من ظلم شعبهم أو استعباد بعض بلادهم والاعتداء على
حكوماتهم، وكل ذلك واقع.
وسلب المسلمين لهذه الحرية في مهد دينهم ليس مما أعطاه الله لهذا الرجل الذي
نصبه الإنجليز ملكًا على بلادهم المقدسة التي جعل كتاب الله لكل مسلم من الأمن
والحرية فيه مثل ما لهذا الملك وأولاده ورجال حكومته سواء. وأما حكومته فلن تنال
في مقابل ذلك شيئًا، فإن الإنجليز لن يمنعوا مسلمي الهند من الأعمال الموجهة إلى
الإنكار على ملك الحجاز وحكومته وعليهم أيضًا في سياستهم الحجازية والعربية لا
في الهند ولا في إنكلتره نفسها.
وأما (المادة الثانية) فهي مشتملة على ست قضايا بعضها خداع وبعضها
خزي ونكال.
(1) تعهد عاهل بريطانية بأن يعترف باستقلال العرب في العراق وشرق
الأردن والدول العربية في شبه جزيرة العرب ما عدا (عَدَنًا) .
نريد قبل كل شيء أن نفهم معنى هذا الاستقلال، فإن عند الإنكليز ممالك
وولايات تسمى مستقلة وهي ذات نظم مختلفة، فنرى هنا أن الإنجليز لا يزالون
متمسكين بما يسمونه الانتداب - أي الوصاية - على العراق وفلسطين وشرق الأردن
فكيف تكون مستقلة إذًا؟ وهنالك حكومات عربية كانوا جعلوها تحت حمايتهم كلحج
وحضرموت ولا نرى دليلاً يدل على رفع هذه الحماية عنها، والحجاز قد قيدها
(موبقها) بمقررات النهضة من قبل، وقيدتها هذه المعاهدة بما يأتي بعد، فما معنى
استقلال هذه الممالك إذًا؟ وأما حكومات اليمن وتهامة ونجد فهي مستقلة، ولم
ينكر الإنجليز عليها استقلالها وإنما كل همهم تقييدها بعهود واتفاقات وامتيازات
خادعة، تمهد لهم السبيل للعبث باستقلالها عند سنوح الفرص المناسبة. فإذا لم يكن
هذا الاستقلال لفظًا خادعًا فليصرحوا في المعاهدة بإلغاء الانتداب والحماية … كيف
وهي لم تعقد إلا لتثبيت ذلك وتوكيده كما يعلم مما يأتي في القضية الخامسة، أفيصح
أن تعد هذه نعمة على العرب يأمرهم من سمى نفسه ملكهم بأن يتخذوا ذكرى إعلانه
عيدًا لهم؟
(2) تعهد العاهل البريطاني بتعضيد هذا الاستقلال. هذه قضية مبهمة
تُخْشَى عواقبها ولا تُرْجَى أوائلها، فإنها باب مفتوح للتدخل في شئون البلاد الداخلية
بحجة تعضيد الاستقلال كما تدخل الإنجليز والفرنسيس في شئون بلاد اليونان في
أيام الحرب فعزلوا ملكها اتهامًا له بأنه يعبث باستقلالها، وقد كانوا صرحوا بأنهم
ضامنون له! فهل تعد هذه سعادة للعرب يجعلون بها يوم إعلانها عيدًا؟
(3) التصريح بأنه لا حظَّ لعرب فلسطين أصحاب البلاد إلا ما ضمنته لهم
به الحكومة البريطانية في صك الانتداب المرتبط بعهد بلفور لليهود وهو إنه لا
يجري في البلاد شيء يُجْحِفُ بحقوقهم الدينية والمدنية، وهو حق سلبي محض
معناه أن الحكومة البريطانية صاحبة السيادة على البلاد لا تمنعهم ولا تدع اليهود
الذين تجعل هذه البلاد وطنًا قوميًّا لهم أن يمنعوهم من الصلاة والصيام، ولا البيع
والشراء أو من التقاضي إلى المحاكم مثلاً، على أننا علمنا بالتجارب أن كل
ضمان وعهد من قوي لضعيف لا ينفذ منه إلا ما فيه مصلحة القوي، وقد ضمن
ملك الإنجليز لمصر أن يدافع عنها في الحرب الكبرى، ولا يكلفها شيئًا في مقابلة
ذلك، فكان من أمر سلطة جيشه العسكرية أن جعلت جميع ما تملك الحكومة
المصرية والشعب المصري رهن تصرف الجيش، ويُقدر ما استفاده الجيش من
مصر بمئات الملايين من الجنيهات، دع تجنيده لزهاء مليون مصري استعان بهم
على فتح فلسطين والعراق! فهل يصح - والحالة هذه - أن يتخذ يوم إعلان تسجيل
هذه الرزية العظمى عيدًا للعرب؟
(4) إذا رغبت هذه الحكومات كلها أو بعضها في الاشتراك في الجمارك أو
غير الجمارك بقصد التوسل به إلى عقد حلف بينها فيما بعد، وطلبت من العاهل
البريطاني أن يروج رغبتهم فإنه يسعى لذلك.
ونقول: إن كانت هذه الحكومات مستقلة استقلالاً صحيحًا، فأي حاجة إلى
طلبها من ملك أجنبي أن يروج ما تريد تنفيذه في بلادها من تلقاء نفسها؟ وهل وعد
هذا الملك لهم بالسعي لذلك يصح أن يعد نعمة له عليهم يتخذون يوم إعلانها عيدًا لهم؟
(5) يعترف (صاحب الجلالة الهاشمية بالمركز الخاص الذي للجلالة
البريطانية في العراق وشرق الأردن) .
ونقول: إن هذا المركز الخاص المذكور بصيغة المعرفة - أي بلام العهد - لا
يمكن تفسيره لغة ولا عُرْفًا سواء كان العهد ذهنيًّا أو خارجيًّا إلا بالحال الحاضرة
التي سموها الانتداب في هذه البلاد الذي اختاروا في تنفيذه أن تكون كل حكومة فيها
على الوضع الذي هي عليه الآن، ومنه حكم فلسطين بما يستغيث أهلها منه من
الإدارة اليهودية والسيادة البريطانية.
ثم نقول على سبيل الإنذار والتحذير: إن استحلال ملك الحجاز لإقرار
الإنجليز على هذا ورضاه به يعد ارتدادًا عن الإسلام بإجماع المسلمين، ولا يوجد
عالم مسلم يمكن أن ينازعنا في هذا بعد العلم به، فهل يصح أن يستبدل بهذا جعْله
نعمة يَمُنُّهَا ملك الإنجليز على (ملك العرب) يأمر هذا بجعل إعلانها عيدًا للأمة
العربية؟
(6) يتعهد (صاحب الجلالة الهاشمية) بأن يبذل غاية جهده في التعاون
مع جلالته البريطانية على القيام بتعهداته في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته
الهاشمية بشأن هذه البلاد.
ونقول: يالله العجب! كيف لم يكتف الإنجليز من هذا الرجل بمطالبته أن
يبذل في سبيلهم دينه وشرفه بأن يعترف لهم بالاستيلاء على بلاد الإسلام المقدسة
والتصرف في رقبتها كيفما أرادوا حتى حملوه على التعهد لهم ببذل منتهى جهده
على القيام بتعهداتهم في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته، أي في الحجاز وغيره
من البلاد العربية!! ثم يالله العجب كيف يفرح هو بهذا وذاك ويعلن في بيت الله أنه
يجب على العرب اتخاذ يوم إعلانه عيدًا وطنيًّا؟
(المادتان3و4) يفرض فيهما على ملك الحجاز المحافظة على العلاقات
الودية بينه وبين حاكمي عسير ونجد، وأن يسعى لتسوية المنازعات على الحدود
بينه وبينهما بالمفاوضات الودية. ويتعهد ملك الإنجليز في الثالثة بالسعي لتسوية
أمثال هذه المنازعات إذا رغب إليه في ذلك.
ونقول: أما الأول فحسن في نفسه، ويغلب على ظننا أن الملك حسينًا لم
يرض به، وأنه أهم ما أعاد الدكتور ناجي الأصيل إلى لندن لأجل تعديله، ودليلنا
على هذا أنه في أثناء المفاوضة في عقد هذه المعاهدة قد اعتدى على نجد وعسير
فأرسل جيشًا احتل (أبها) عاصمة العسير التي كان نزل عنها المرحوم السيد
الإدريسي لصديقه سلطان نجد عند عقد المعاهدة بينهما، كما أنه اعتدى على بعض
القبائل التابعة لنجد، ولكنه باء بالخيبة والخسران في كلتا الحملتين.
(المادة الخامسة) فيها (يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي تقرر نهائيًّا) .
هذه هي الطامة الكبرى والصاخة العظمى التي صخت مسامع العالم الإسلامي
فعلا صراخه في جميع الأقطار وهي إهانة حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله
عليه وسلم بجعلهما تحت حماية دولة لا تدين الله بدينهما؛ بل هي طامعة في محوه
وتنصير أهله.
وقد اتفقت الجرائد المصرية والسورية التي ترجمت خلاصة المعاهدة الرسمية
على التعبير بعطف (الممكنة) على (السلمية) وعبر بعضها (بالفعلية) بدل
(السلمية) والعطف يقتضي المغايَرَة، فيكون معناها: والوسائل الحربية الممكنة
أي من برية وبحرية وجوية واحتلال وغير ذلك. وهذا عين ما صرح به فيما يسميه
ملك الحجاز بمقررات النهضة، فهو قد اشترط فيها على الإنجليز حماية البلاد في
الداخل والخارج حتى حال الفتن الداخلية واعتداء الأمراء الحاسدين! !
(المادة السادسة) تنص على تعيين وكيل سياسي بريطاني في جدة ووكيل
سياسي حجازي في لندن، وعلى قناصل حجازيين في إنكلتره والهند، وقناصل
بريطانيين في جميع سواحل الحجاز.
نقول: إن لذة صاحب الجلالة الهاشمية في هذه المادة أنها من مظاهر فخفخة
المُلك الصوري، وإلا فأين المصالح السياسية والتجارية للحجازيين في بلاد
الإنجليز ومستعمراتهم التي تقتضي بذل النفقات العظيمة لتأسيس الوكالات السياسية
والقنصلية في هذه الممالك الواسعة، وأين المال الذي ينفق في هذا السبيل؟ أيؤخذ
من الضرائب والمكوس على أداء فريضة الحج؟
وأما الإنجليز فلهم مصالح كثيرة في تطويق سواحل الحجاز برجالهم
السياسيين والبحريين الحربيين لمراقبة كل ما يدخل في هذه البلاد المقدسة وما
يخرج منها، ولسبر غور هذه السواحل ومعرفة ما يكفي من القوة البرية والبحرية
للإحاطة بها عند الحاجة التي يتوسلون إليها عند سنوح الفرصة باسم الحماية
الممنوحة لهم من الجلالة الهاشمية المالكة المتصرفة بالدين ومعاهده أو باسم
المحافظة على معاهدهم هذه وعلى رجالهم إذا اعتدى عليها أحد من أعراب البلاد -
ولو بدسيسة منهم - وقد عهد في تاريخ الاستعمار البريطاني أن يكون دخول بريطاني
واحد في قطر عظيم مقدمة لسلب استقلاله وإذلال أهله لعظمتهم.
وأخر الأمثلة لهذا قنصلهم في جزيرة البحرين فقد سلب سلطة حكومتها وانفرد
بالتصرف فيها وجعل حاكمها الصالح التقي الجاهل أذل من عير الحي والوتد.
ومن دواعي الأسى والحزن أن هذه الحقيقة قد عرفت مثلها ملكة سبأ العربية
من ألوف السنين ويجهلها صاحب (الجلالة الهاشمية) الذي يظن في نفسه أنه أرقى
الخلق علمًا وخبرة وسياسة وكياسة حتى إن جريدته (القبلة) كانت تدعي أنها تعلِّم
دول أوروبا الخطط الحربية بما ينشره من آرائه فيها، والذي يدعي أن حكومته
شرعية ويقرأ في القرآن قوله تعالى حكاية عن ملكة سبأ: {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا
قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 34) وقد بلغته
وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أمر جزيرة العرب وأهم المراد منها أن لا يقيم
في بلاد الحجاز غير المسلمين، ولا سيما الطامعين. وإن دخول تاجر إنجليزي في
بلاد شرقية ضعيفة وإقامته فيها ليعد أعظم خطرًا عليها من دخول ملك فاتح من
المتقدمين، فكيف بدخول الرجال السياسيين والحربيين، إذا أعطوا صفات الحماة
المحافظين؟ فإذا كان صاحب الجلالة الهاشمية يجهل تاريخ تأسيس إمبراطورية
الهند بسعي شركة الجلد البريطانية فإن له في سودان مصر وجزيرة البحرين لعبرة
ماثلة؛ إن كان من المعتبرين. وقد بيَّنا من قبل أن الإنجليز قد أسسوا لإدارة
سواحل الحجاز وغيره من بلاد العرب محافظة جديدة سموها محافظة البحر الأحمر
شرعت في أعمالها بهدوء وخفاء.
(المادة السابعة) يعترف فيها ملك الحجاز بنظام الحجر الصحي الذي
اتخذه الإنجليز في جزيرة قمران لأجل الحجر فيها على حجاج الشرق والجنوب،
كما يعترف له ملك الإنجليز (بالتدابير المتممة التي قد تتخذ في جدة أو غيرها من
مرافئ بلاد جلالته) .
ونقول: إن هذه المادة تعترف للإنجليز بما لا تعترف بمثله لدولة مصر
الإسلامية، وموضوع هذه المادة أن يكون عملها في مسألة الحجر على الحجاج متممًا
لعمل الإنجليز في (قمران) لا مستقلاًّ، ولا ندري كيف يكون تنفيذ ذلك، وإنما
ظاهره يدل على ترجيح ملك الحجاز رفض قبول الحجاج الذين يحجر عليهم في
(الطور) محجر الحكومة المصرية الإسلامية، وحتم أن يحجر عليهم، ولو مرة
ثانية في محجره بجزيرة (أبي سعد) مع أن هذا تضييق على الحجاج ليس له
مسوغ شرعي ولا فني.
(المادة الثامنة) يتعهد فيها ملك الإنجليز بأن لا يتدخل في التدابير التي
يتخذها ملك الحئجاز للاعتناء بالحجاج، ويتعهد ملك الحجاز بأن يعضد المساعي
التي يبذلها الرعايا البريطانيين المسلمون لمساعدة الحجاج في الحجاز.
ونقول: لماذا جعل ملك الحجاز لملك الإنجليز حقًّا في الاعتراف له بالاعتناء
بالحجاج، إذا لم يكن هذا مبنيًّا على أن الحجاز داخل في دائرة الإمبراطورية؟ ثم
ما هذا الاعتناء الذي يريده ويرى أنه لا يتم له إلا بإجازة ملك الإنجليز؟ إن الذي
يتبادر إلى الذهن أن العناية بالحجاج إنما تكون بتأمين البلاد وتسهيل الطرق وتوفير
المياه والعناية بمواد الغذاء والنظافة وتحتيم الاعتدال في أجور الجمال والمساكن -
فهل يحتاج شيء من هذا إلى إجازة ملك الإنجليز، وهو من أمور الإدارة الداخلية
المحضة؟ أم لهذه الكلمة معنى سياسيّ خفي يراد به التحكم في الحجاج بمصادرة
أموالهم وضرب المكوس عليهم، وإذا كان هذا أو ذاك يتوقف على إجازة ملك
الإنجليز؛ لأن له رعايا من الحجاج فلماذا لا يتوقف على إجازة سائر الدول
والحكومات التي لها رعايا يحجون كمسلمي الدولة البريطانية، وما وجه تخصيص
هذه الدولة بهذا الحق إذا لم يكن (منقذ الحجاز والعرب) قد جعل كل ما يدخل في
ملكه تابعًا لمستعمراتها؟
ثم إن تعهد ملك الحجاز في هذه المادة بتعضيد مساعي الرعايا البريطانيين
لمساعدة الحجاج في نفس الحجاز يقتضي أن يقبل منهم بعد إمضاء هذه المعاهدة ما
منع منه الحكومة المصرية في هذا العلم من البعثة الطبية المرافقة لركب المحمل
المصري مع أننا رأينا في الاعتذار له عن قبولها أنه يفتح الباب لغير دولة مصر
من الدول غير الإسلامية لإرسال بعثات طبية، فما الذي أباح للبريطانيين ما حرم
على المصريين؟ أليست الدولة المصرية الإسلامية أولى بهذا من الدولة
البريطانية؟ إذا لم يكن الحجاز كله تابعًا لهذه الإمبراطورية؟
(المادة التاسعة) (تنص على تعيين مبلغ محدود كي يدفعه كل حاج) .
ونقول: هذا نص صريح في ضرب المكوس على الحجاج بإطلاق. ولا شك
في أن هذا محرم بإجماع المسلمين ولا سيما إذا جعل شرطًا لدخول الحجاز لأجل
النسك كضريبة جواز السفر، ومن يستحله يكن مرتدًّا عن الإسلام، هذا حكمه
الشرعي، أما حكمه السياسي فيقال فيه ما قيل فيما قبله: لماذا جعل منوطًا بإجازة ملك
الإنجليز له دون غيره من ملوك المسلمين وغيرهم الذين تضرب هذه المكوس على
رعاياهم؟ أَوَلَيْسَ الواجب أن لا يكون في الحجاز نفوذ ولا وجود لأجنبي غير مسلم؟
وماذا يقول ملك الحجاز إذا خاطبته هذه الحكومات بأنه ليس له حق أن
يتقاضى من رعاياهن مكوسًا بغير اتفاق معهن عليها كما اتفق مع الإنجليز؟ أيحتج
بالحماية والوصاية؟ أم يعاملها كما عامل الحكومة المصرية؟
(المادة العاشرة) في الاعتراف بما لرعايا كل من الحكومتين في بلاد
الأخرى من الصفة، وهي مجملة لا يمكن العلم بما فيها من ضر أو نفع إلا بعد بيان
صفة كل منها، وهو لا بد أن يكون مُبَيَّنًا في أصل المعاهدة.
(المادة الحادية عشرة) وما بعدها إلى (السادسة عشرة) في تفصيل
الامتيازات القضائية للإنجليز في بلاد الحجاز، وكل ما يتوقعون أن يدخل في ملك
حسين بن علي وكلها تنافي الاستقلال التام وتنفيذ الشرع الإسلامي في الحجاز في
المسلمين التابعين للدولة البريطانية، وهذه المسألة قد رفض المصريون مثلها في
مفاوضة الإنجليز، وقد رفضها الترك وما زالوا يجادلون ويناضلون في مؤتمر
الصلح حتى أنقذوا دولتهم من رقها، وملك الحجاز يقبلها في الحرمين الشريفين من
تلقاء نفسه بلا موجب ولا مقتضٍ ولا مقابلة لها بمثلها، فما أذل هذا الرجل
للبريطانيين! وما أعزه وأعظم جبروته وكبرياءه على المسلمين! !
(المادة السابعة عشرة) (تعالج الشروط التي بموجبها يعترف صاحب
الجلالة البريطانية بعلم الجلالة الهاشمية) وهي مجملة لا يمكن بيان الرأي فيها إلا
بعد بيان الشروط المشار إليها فيها وستعلم متى نشرت المعاهدة بنصها.
(المعاهدة الثامنة عشرة) تصرح بأنه لا يجوز لأي الفريقين المتعاقدين
الساميين أن يعقد أية معاهدة أو اتفاق مع فريق ثالث ضد مصالح الفريق المتعاقد
السامي الآخر) .
ونقول: إن هذه مادة عادلة في صورتها لما فيها من التساوي، وإنما يقال فيها
ما يقال في المعاهدة بجملتها وهو أن الإنجليز يقيدون فيها الحجاز ولا يتقيدون معه
في شيء بالفعل، كما فعلوا فيما اتفقوا عليه عند حمله على الخروج على الدولة
العثمانية، وذلك أن المعاهدات عند أوروبة حجة القوي على الضعيف، والإنجليز
أبرع الأمم في التفصي من الوفاء بها بالتأويل، كما قال البرنس بسمارك، أو هي
عبارة عن عقد شركة بين طرفين متكافئين في القوة كما قال لويد جورج، وقد لدغ
الملك حسين من هذا الجحر المرة بعد المرة، ولا يزال لاصقًا به متعرضًا لتوالي
لدغه، فلم يكن له حظ من حديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) .
(المادة التاسعة عشر) (تنص على أن لا شيء في هذه المعاهدة يبطل ما قد
تعهد به أو قد يتعهد به أحد الفريقين المتعاقدين الساميين بمقتضى عهد جمعية الأمم)
ونقول: إن ذكر الفريقين الساميين هنا كغيره من المخدرات التي تخدر
أعصاب الملك حسين وتشغله بنشوة توهم مساواته بما يسميه (العظمة البريطانية)
فهو ما تعهد بمقتضى عهد عصبة الأمم بشيء وإنما تعهد الطرف الآخر بالانتداب
على أعظم بلاد العرب عمرانًا وخصبًا بالاشتراك بينه وبين فرنسا، فإمضاء الملك
حسين لهذه المعاهدة يسلبه حق مطالبة الإنجليز بتركها هذا الانتداب على العراق
وفلسطين وشرق الأردن أو إلغاء وعد بلفور الداخل في صك الانتداب والوصاية
على فلسطين بمقتضى عهد جمعية الأمم.
(المادة العشرون) في تحديد مدة العمل بهذه المعاهدة وجعله سبع سنين،
وهي المدة التي يقدرها الإنجليز لفض المشاكل وحل المعضلات السياسية
والاقتصادية التي خلفتها الحرب الكبرى، ولتأسيس قوى الطيران والمواصلات
الجوية والحربية في شرق الأردن والعراق ومصر والقوة البحرية ومراكز الدسائس
في سواحل الحجاز وغيرها من البحر الأحمر، وهم يعتقدون أن (ملك البلاد
العربية) سيضطر بعد هذا كله إلى تجديدها بما هو خير لهم وشر له ولبلاده وقومه
منها.
فهذه كلمتنا المجملة المختصرة في النص الرسمي الذي نشر لخلاصتها، وقد
كان من المعقول المتوقع أن يضطرب العالم الإسلامي كله لها، ويستنكر ما فيها من
تدخل دولة غير مسلمة في مهد الإسلام المقدس بالحماية والامتيازات السياسية
والقضائية والحماية وما تقتضيه من الخزي والنكال.
ولكن العجب العجاب أن يشذ مسلمو سورية وفلسطين وحدهم عن سائر
المسلمين؛ إذ لم نر لهم قولاً ولا احتجاجًا في استنكار شيء منها إلا ما أنكروه
أهل فلسطين، وهو ما يخصهم من تضمن المعاهدة لإقرار الانتداب وما فيه من عهد
بلفور. كأن حرم الله تعالى وحرم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم لا قيمة لهما عند
أحد من مسلمي تلك البلاد!! ولماذا يطالبون العالم الإسلامي أن يهتم بأمرهم لمكان
المسجد الأقصى منه وهو في المرتبة الثالثة؟ !
فيا ليت شِعري هل جهل علماؤهم ومديرو جرائدهم ومحرروها ورجال الشرع
والقوانين فيها ما فهمه المصريون وغيرهم من معناها، أم هم يرون أن للملك حسين
أن يتصرف في دين الله ومعاهده المقدسة بما شاء، وإن خالف أحكام الشرع المجمع
عليها وكرامة الإسلام ومشاعره العظام بشرط ألا يقر وعد بلفور عند بعضهم؟
فإذا كانوا لا يرون في هذه المعاهدة منكرًا شرعيًّا ولا خطرًا سياسيًّا إلا
تضمنها لوعد بلفور فليبينوا لنا خطأنا فيما فهمناه نحن وغيرنا من المسلمين، وإلا
فليرفعوا أصواتهم في إنكار هذا المنكر، ولهم أن يسلكوا في التعبير الطريق الذي
يفضلونه، والأسلوب الذي يرجحونه، ولا يغفلوا عن كون سكوتهم عارًا عظيمًا
عليهم، وتأييدًا لمرتكب المنكر وتجرئة له على الإصرار عليه، بل الأمر أعظم من
ذلك هو إقراره مع أولاده على القضاء على استقلال بقية البلاد العربية، حتى
الجزيرة التي عزت على جميع الفاتحين من قبل. ولقد كان استعبادهم لمصر
والسودان وحماية فرنسا لمملكة مراكش وسلاطينها (أولاد عم) شرفاء مكة بما
هو دون تداخل الإنجليز في البلاد العربية الآن بمعاونة هؤلاء الأشراف والزعماء!
فليتدبر العقلاء أصحاب الغيرة على أمتهم ودينهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(24/532)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نص البيان
الذي أصدره المؤتمر الفلسطيني السادس عن المعاهدة
(يعلن المؤتمر العربي الفلسطيني السادس المنعقد في يافا رفْضَ مشروع
المعاهدة التي نشرت حكومة فلسطين خلاصتها رسميًّا بتاريخ 5 حزيران سنة
1923 وفيها أن المعاهدة لم تبرم نهائيًّا، وأن المفاوضات بشأنها بين جلالة الملك
حسين وحكومة بريطانيا العظمى جارية حول تعديلات طفيفة لا تزال مجهولة، وأن
هذا المؤتمر الممثل للأمة العربية الفلسطينية يرفض كل مشروع لا يضمن لها في
وطنها المقدس مطالبها العادلة المعلومة التي ذكرت تأييدها المؤتمرات السابقة، من
استقلال البلاد وإلغاء السياسة الصهيونية الفاضحة، وقد أبرق المؤتمر بذلك إلى
صاحب الجلالة الهاشمية.
قبل هذا النص بعد حوار قليل، وبعد أن زيد في آخره ما اقترحه السيد عمر
البيطار من ذكر البرقية التي أرسلت لجلالة الملك حسين.
صورة البرقية
التي اقترح هذا المؤتمر إرسالها إلى الملك حسين
(حاولت حكومة فلسطين محو السرور الذي أحدثته برقية جلالتكم التبشيرية
بنشرها مشروع المعاهدة الإنجليزي المناقض للبرقية فاغتم الأهالي ودعت الحالة
لجمع مؤتمر عام بيافا فقرر عرض الشكوى لأعتابكم التي لا يمكن أن تقبل مثل هذا
المشروع، ولن يقبله فلسطيني ما دام فيه رمق حياة، واسترحام التفضل على أهل
البلاد بإطلاع ممثليها على ما يتعلق بهم في المعاهدة قبل إبرامه نهائيًّا، لازلتم للقضية
العربية بجميع وجوهها، وقبلة إجلال العرب واحترامهم) .
فَجَرَتْ مناقشة طويلة في نص البرقية وأخيرًا تقرر قبولها بعد أن اقترح السيد
عيسى العيسى زيادة (سيما فيما يتعلق بفلسطين) بعد جملة (مشروع المعاهدة
الإنجليزي المناقض للبرقية) وزيادة كلمة (الإسراع) بعد (الاسترحام) .
وقد أجاب الملك حسين عن هذه البرقية هذا نصها (حَسِّنُوا الظن) وكيف
يحسن العاقل الظن بالأمر المعلوم ضرره وفساده بالقطع؟
***
صورة البرقية التي أرسلها المؤتمر
إلى رئاسة الوزارة. وزارة الخارجية. وزارة المستعمرات. رئاسة مجلس
الأعيان. رئاسة مجلس النواب والجمعية الوطنية السياسية بلندن.
(قرر المؤتمرُ العربي الفلسطيني السادس المنعقد في يافا والممثل للأمة
رفضَ مشروع المعاهدة الإنجليزي المقدم لجلالة الملك حسين والذي نشرت حكومة
فلسطين خلاصته؛ لأنه مخالف للعهود المقطوعة للعرب ولحقوق الشعب الفلسطيني
ومطالبه بإلغاء السياسة الصهيونية وبتأسيس حكومة وطنية نيابية مستقلة. والأمة
ترفض كل مشروع لا يضمن جميع مطالبها وقد أبرقنا بهذا لجلالة الملك حسين) .
***
بيان اللجنة التنفيذية
للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر في شأن المعاهدة الذي نشرته الجرائد
(عقدت اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني جلسة فوق العادة في 20
يونيه 1923 للبحث في حظ الوطن السوري من المعاهدة البريطانية العربية التي
قُررت مبدئيًّا، ولا تزال موضوع المفاوضة النهائية بين مكة ولندن. وبعد البحث
والمناقشة في الخلاصة الرسمية التي نشرتها حكومة فلسطين أخيرًا لهذه المعاهدة
تقرر بالإجماع إصدار البيان الآتي:
(إن المادة الثانية من هذه المعاهدة تنص على إصرار الحكومة البريطانية
على موقفها الحاضر في فلسطين. ولم تعترف لأهلها العرب فيها بحق من الحقوق
السياسية والقومية غير ما تضمنه صك الانتداب وعهد بلفور من الحق السلبي وهو
أن لا يجري في البلاد ما يجحف بحقوقهم المدنية والدينية.
وتنص أيضًا (على اعتراف صاحب الجلالة الهاشمية بالمركز الخاص الذي
لصاحب الجلالة البريطانية في العراق وشرق الأردن وفلسطين) .
(ثم إن المادة التاسعة عشرة تنص على أن لا شيء في المعاهدة يبطل أي
عهد تعهد أو قد يتعهد به في المستقبل أحد الفريقين المتعاقدين بمقتضى عهد جمعية
الأمم) .
(ولا يخفى أن المركز الخاص المشار إليه هو ما يسمونه الانتداب الذي كان
صاحب الجلالة الهاشمية يأبى الاعتراف به قبل هذه المعاهدة، فنصت على اعترافه
به فيها بأسلوب سياسي في كل من العراق وشرق الأردن وفلسطين كما انطوت على
الاعتراف ضمنًا بتجزئة سورية وبوعد بلفور في الوطن القومي لليهود) .
(ومن المعلوم أن مجلس جمعية الأمم قرر انتداب فرنسا على سورية
الشمالية - سورية ولبنان - وانتداب إنجلترة على سوريا الجنوبية - فلسطين وشرق
الأردن - فالانتداب باقٍ إذن على حاله لا تنقض هذه المعاهدة شيئًا منه) .
(فاللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني الأمينة على ما قرره مؤتمر
جنيف من طلب الاعتراف باستقلال البلاد وإعلان إلغاء الانتداب - تصرح بأن كل
اتفاق وكل معاهدة تتضمن ما يخالف هذه القرارات في الوطن السوري هي باطلة
في نظر أهله الذين لا يقبلون شيئًا يخالف حقوقهم الطبيعية والشرعية في تقرير
مصيرهم) .
(فبناء على هذا لا تكون هذه المعاهدة مقيدة أهل سورية وفلسطين ولبنان
بحق لأحد فيها، ولا بقيد تتقيد به الأمة، ولا بمخلية للطرفين المتعاقدين ولا للحلفاء
ولا للولايات المتحدة مما كانوا صرحوا به لأهل هذه البلاد في ضمن البلاد العربية
المنفصلة عن تركيا من حق الاستقلال وتقرير المصير.
... ... ... ... ... ... ((لتحيا سورية حرة مستقلة))
(المنار)
اتفقت الأحزاب والجماعات والصحف العربية على أن المادة الثانية من هذه
المعاهدة صريحة في استثناء فلسطين من الاستقلال الخادع المذكور في المادة الأولى،
وجاءت البرقية الإنكليزية من لندن مصرحة بهذا، ولكن الملك حسينًا لا يزال يصرح
في (قبلته) بما أراد أن يقنع به أهل فلسطين وغيرهم بخلاف ذلك. وهذا الإصرار
من أغرب وقائع عناده المعهود، وأغرب منه إصرار دعامة المأجورين في فلسطين
على وجوب الاعتصام بحبله غير المتين، بغير حياء ولا خجل من العالمين، وحجة
بعضهم أن نيته حسنة في هذا كما كانت حسنة في مساعدة الإنجليز في فتح بلادهم
وتهنئتهم به، فليهنأوا بسياسة حسن النية، وسياسة الصوفية؟!
__________(24/542)
الكاتب: مصطفى عبد الرازق
__________
ذكرى رينان في الجامعة المصرية
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني
كلمة المنار في المحاضرة
(4)
(4) قال رينان: (إن المسلم يؤمن بأن الله يهب الرزق والسلطان لمن
يشاء من غير نظر إلى تهذيب أو استحقاق خاص، وهو بإيمانه هذا يزدري أشد
الازدراء العلم والتهذيب، وكل ما يدخل في تكوين الروح الأوروبي) .
وإننا نجيب عن هذا جوابًا موجزًا يظهر جهل رينان بالإسلام والمسلمين
ويحبط عمله، ويؤيد ما حققناه في معنى رد السيد جمال الدين عليه، فنقول:
إن عقيدة المسلمين في المشيئة الإلهية أعلى وأرقى من فلسفته، ومِن علم
جميع فلاسفة الأرض، وإن زعم أن عقول العرب ولغتهم لا تسع شيئًا من علم ما
وراء الطبيعة. فهم على موافقتهم لغيرهم من المؤمنين بالله في إثبات المشيئة
والإرادة له تعالى يقولون: إن متعلقات هذه المشيئة قسمان: قسم قدري تكويني،
وقسم ديني تشريعي، وبين القسمين العموم والخصوص المطلق فيجتمعان في بعض
الأمور وينفرد أحدهما ببعض.
فأما ما يجتمعان فيه فمثاله كسب الرزق من الحلال وإنفاقه في سبيل البر
والخير، ونيل الرجلِ العالمِ العادلِ السلطانَ باختيار الأمة وإقامته ميزان العدل فيها.
وأما ما ينفرد به أحدهما عن الآخر فمثاله كسب الرزق من الطرق المحرمة
كالغش والخيانة، ونيل الإمارة والسلطان بالتغلب والقهر، فهذا مخالف لدين الله
وشرعه، ولكنه لا يقع إلا بمشيئته التكوينية وقدره، ومعنى هذا أنه سبحانه جعل
نظام هذا العالم مبنيًّا على الأسباب والمسببات وجعل لذلك سننًا عامة وهي ما يُعَبَّر
عنه في عرف العصر بالنواميس الطبيعية والاجتماعية، وفي عرف القرآن بالأقدار
والمقادير وبالسنن. قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .
وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ
بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) أي فلا شيء منها بُجزاف ولا بخارج عن النظام، فمن
راعى هذه السنن في الكسب، وفي الاستيلاء على البلاد والعباد قد ينال ما سعى
إليه بمشيئة الله التكوينية وقدره في نظام العالم، وإن لم يراع شرعه وهداية دينه في
أسباب ذلك ولا في نتائجه كاستيلاء المستعمرين من قومه وغيرهم بإتقان أسباب
القوة على المستضعفين المهملين لها.
ولما كان المسلمون يفهمون أصول دينهم حق الفهم كانوا يتحرون الجمع بين
أحكام الشريعة الدينية الآمرة بالحق والعدل والفضيلة والإحسان، وبين مراعاة سنن
الله في غيرهم، فاجتمع لهم بهداية دينهم الحضارة والسيادة، والغنى والنعمة،
والعدل والفضيلة والتقوى.
ولما استحوذ عليهم الجهل والضعف بتوسيد أمور حكومتهم إلى غير أهلها
وتغلب همج الأعاجم عليهم بالقوة القاهرة - أعرضوا عن النظر في سنن الله
الاجتماعية وعن هدايته الدينية معًا، وكان مما أدخله جهلة الصوفية ومبتدعة
الجبرية في عقائدهم بدسائس حكامهم أن المُلك والرزق والظلم والفسق كلها من قدر
الله تعالى فيجب الرضا بها، وعدم الاعتراض عليها، وكذا عدم مقاومتها بالأَولى،
وبنشر هذه السموم طال ملك أولئك الظالمين، وتمتع أولئك الفاسقون، حتى سلبه
منهم من هم أشد مراعاة لسنن الكون والاجتماع، وكل هذا مخالف لنصوص القرآن
والسنة ولما قرره الأئمة الراسخون في العلم من المتكلمين والصوفية أيضًا كالشيخ
عبد القادر الجيلاني الذي صرح بوجوب مقاومة الأقدار بالأقدار، أخذًا من قول
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي وافقه عليه جمهور الصحابة: (نَفِرُّ مِن قَدَر
الله إلى قَدَر الله) قال هذا حينما قرَّر بعد مشاورة جميع شبانهم وشيوخهم عدم
دخول الشام والوباء فيها. ومثل ذلك وجوب مقاومة الظلم وأهله، فليس في الإسلام
مثل ما في الإنجيل من وجوب الخضوع لكل سلطة لأنها من الله ! بل فيه ضده كما
سيأتي، وإنما ذلك من خرافات المتصوفة.
وإنه يحق لرينان أن يسخر من جميع المسلمين بما علمه هو وقومه من فشو
هذه الضلالة بين مسلمي الجزائر وسائر إفريقية حتى تسنى لمن تلبس بالإسلام
وتعمم بعمائم شيوخ الطريقة (من قومه) أن يبثوا فيهم وجوب الرضا بسلطتهم
وتحريم التبرم بهم والكراهة لشيء من أحكامهم وأعمالهم بشبهة أنه يتضمن
الاعتراض على الله والكراهة لقضائه وقدره بزعمهم! وأنَّى لأولئك المحرومين من
علوم الدين والدنيا أن يميزوا بين الرضا من الله تعالى وعدم الاعتراض عليه،
وبين ما أوجبه من عدم الرضا بالمقضي والمقدور نفسه إذا كان ضارًّا أو مخالفًا
للشرع، ومن وجوب مقاومته بما يعلم من سنن الله تعالى وأقداره؟ ومثاله المرض:
لا نعترض على الله تعالى إذا مرضنا ولا نسخط على تقديره إصابة من يتعرض
لأسباب الأمراض فيها، ولكن يجب أن نكره المرض وأن نقاومه بالدواء والمعالجة
بعد وقوعه، وباتقائه قبل وقوعه، كما فر جمهور الصحابة من الشام. ولم يدخلوا
البلد الذي وقع فيه الوباء منها بالإجماع فثبت بهذا أن ما ينكره على مسلمي إفريقية
وأمثالهم إنما هو مخالفة قواعد الإسلام لا الاهتداء بها.
وإننا نذكر للمفتونين بفلسفة رينان والمشيدين بفلسفته من قومنا بعض الشواهد
من نصوص القرآن على أن مشيئة الله التشريعية لا تقضي بأن يكون السلطان في
الدنيا لمن لا أهلية له ولا استحقاق ولا مزية في الفضل، بل الأمر بالضد.
(أ) أخبرنا الله تعالى في سورة البقرة أنه وعد نبيه وخليله إبراهيم صلى
الله عليه وسلم بأنه يجعله إمامًا للناس فسأله إبراهيم أن يجعل من ذريته أئمة مثله
فأجابه تعالى بقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124) أفليس هذا نصًّا
صريحًا في أن الإمامة والسلطان في الناس لا يكونان عهدًا من الله تعالى لأحد من
الظالمين، وإن كانوا من ذرية الأنبياء المرسلين؟ بلى! وقد فهم هذا الحكم من الآية
أئمة المفسرين، فقالوا: إن الآية تدل على أن الظالم لا يصح في دين الله أن يكون
إمامًا للناس في أمور دينهم ولا أمور دنياهم، أي لا يكون خليفة ولا سلطانًا ولا
أميرًا، وقد ذكرنا بعض أقوالهم في فاتحة كتاب الخلافة وفصلنا المسألة فيه.
(ب) قال تعالى في الآيات التي أذن فيها للمسلمين بأن يقاتلوا من قاتلوهم
من أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم بغير حق، بل لأجل توحيدهم لله عز وجل:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
المُنكَرِ} (الحج: 41) فالدين الذي يشترط على أهله في المدافعة عن أنفسهم
وإعطائهم السلطان في الأرض أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، هل يقال:
إنه يعطي السلطان لمن شاء بدون تهذيب ولا استحقاق؟ والآيات والأحاديث في هذا
المعنى كثيرة.
(ج) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) ومعلوم أن الصلاح ضد الفساد. وقد
ذم الفساد والإفساد في الأرض من الملوك وغيرهم وتوعدهم في عشرات من الآيات
في سور كثيرة. قال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) وهذا دليل على أن المراد
بالصالحات أعم من العبادات البدنية؛ لأنه مقابل لكل ما فيه إفساد في الأرض،
وهو يشمل إفساد النبات والحيوان والإنسان، بأي طريق وأي وسيلة وكل شكل من
أشكال الفساد، كما أن إرث الأرض فيها عام يشمل الدنيا والآخرة، فلا يرث
الأرض في حكم الله ومقتضى دينه إلا الصالح، وخص الأرض بعض المفسرين
هنا بالمقدسة وبعضهم بالجنة، ويدل على إرث الملك والسلطان في الأرض المقدسة
أو مطلقًا آية الشاهد التالي وهو:
(د) قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) الآية.
(هـ) قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) فسر بعضهم الظلم هنا بالشرك أخذًا من قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) ومن غيره. والمعنى أنه ليس من سنة الله أن يهلك
الأمم بسبب الشرك به إذا كان أهلها مصلحين في الأرض بالعدل والعمران، وقال
بعضهم: إن المعنى: وما كان من شأن ربك ولا مما مضت به سنته في العمران أن
يهلك الأمم بظلم منه وهم مصلحون في أعمالهم - إي إذا أهلكهم وهم مصلحون يكون
ظالمًا لهم، وهو منزَّه عن الظلم. ويؤيده ما ورد من الآيات الكثيرة في إهلاك
الظالمين، وإدالة الدولة للعادلين المصلحين، ونكتفي منها بالشواهد الثلاثة الآتية.
(و. ز. ح) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) وقال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (إبراهيم: 13-14) وقال: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (الحج:
45) وحث بعدها على السير في الأرض والاعتبار بآثار الأمم.
هذا قليل من كثير من شواهد القرآن على أن الله تعالى لا يعطي السلطان في
الأرض لمن يشاء من غير أهلية ولا استحقاق مطلقًا كما زعم رينان بل هو يعطيها
لمن يشاء من أهل العدل والإصلاح، ولو بالنسبة إلى غيرهم، وإن لم يكونوا
عادلين ومصلحين مطلقًا.
وأما مسألة الرزق فليس من سنة الله في الاجتماع البشري أن يخص الله
بالرزق الصالحين المصلحين ولا المفسدين بل قال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ
عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: 20) ولكنه على هذه السنة
قد خص أهل التقوى والاستقامة بما يؤخذ من الشواهد الآتية:
(ط) قال تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: 16) .
(ي) قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ
يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2-3) ولكنه قرن الرزق بالسعي بما يدل عليه:
(ك) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) .
(ل) قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) قال الربيع رضي الله عنه: أي أنهم إذا شكروا
النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم في الرزق. ومِن شُكْرِ النعمة عند علماء الإسلام
حفظُها وحسنُ التصرف فيها بوضعها في مواضعها من غير إسراف ولا تبذير.
وأما نَوْطُ الرزقِ وغيرِهِ بالكسب العملي فالشواهد عليه من الكتاب والسنة وأقوال
السلف الصالح كثيرة.
__________(24/546)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منشور للإمام يحيى حميد الدين
جاءنا من اليمن المنشور الآتي مطبوعًا في مطبعة (المقام الشريف) بصنعاء،
متوجًا بعد البسملة بختم الإمام يحيى حميد الدين الرسمي الملقب فيه بأمير
المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، وهو في دعوة المسلمين إلى جمع الكلمة
والاعتصام بالكتاب والسنة، والاستمساك بالعترة الطاهرة، وترك الخلاف والفرقة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران:
104) .
الحمد لله الهادي إلى السَّنن القويم، وكل خير عميم، بقوله عز وجل:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) * {وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل
عمران: 105) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153) .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ذي الخلق العظيم، المبعوث
رحمة
للعالمين من رب العرش الكريم، بالشريعة السمحة الكافلة بخيريْ الآخرة والأولى،
القائل: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا - المؤمنون كرجل واحد إن
اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله - يد الله على الجماعة - لا
ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض - المؤمن أخو المؤمن يكف عليه
ضيعته ويحوطه من ورائه - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم
الساعة) وعلى آله المخصوصين برعاية التقديم والتكريم، قرناء الذكر الحكيم،
الذين ورد فيهم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا: كتاب
الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض. أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى.
أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة، وعلى أصحابه الذين قاموا
بنصرته وبإيضاح طريقه المستقيم، وبذلوا أنفسهم ونفيسهم في مرضاة الرب العليم.
أما بعد فهذا بلاغ وافٍ، وبيان شافٍ، أردنا به نصح إخوان الدين، وايقاظ
همم المسلمين، وحررناه إلى كل مطلع عليه من العلماء العاملين، وإخواننا أهل
الدين، وفقهم الله لصالح القول والعمل، وحرسهم بطاعته عن مزالق الزلل.
وحياهم بشريف السلام، ورحمة الله وبركاته على الدوام.
إنه قد عُلم ما دهى الإسلام والمسلمين من داء التفرق والاختلاف،
والمخاصمات التي أُغلقت بها أبواب الوفاق والائتلاف، حتى فشل المسلمون وذهبت
ريحهم وصاروا كأنهم أدنى عنصر في العالم غير مهاب الجناب، ولا مصون من
الاغتصاب، إلى أن طمعت في استئصالهم وإخضاعهم الدول الأجنبية، وخصوصًا
العرب الذين هم منشأ هذا الدين ومبدأ ظهوره، وأفق تجليات نوره، وهم الذين أعز
الله بهم الإسلام، وملكوا أكثر العالم، وإن فتحت لهم قاراته وحصين قصوره، لِمَا
كانوا عليه من التوحيد ديانة وسياسة وعلمًا وعملاً، والتعاضد والتعاون لا يبغون عنه
حِوَلاً، ولا يرضون بسواه بدلاً، حتى خضعت لهم الرقاب، وذللت لهم الصعاب،
وضربت بعزهم الأمثال، وسعدت بصولتهم الأجيال، وقد استبان في هذا القرن شؤم
التفرق والاختلاف، وأنه السبب الوحيد لتمزيق الأجانب بلاد المسلمين ثم الأخذ
والاختطاف، وانهدام ذلك المجد الشامخ، والعز الباذخ، وحل بكثير من المسلمين
ذوي العقول عظيم التأسف والندم، ولكن بعد أن صاروا في أشراك الاقتناص وبعد
زلة القدم.
وقد آن لنا معشر المسلمين أن ننظر لأنفسنا بعيون الاستبصار، وأن نجيد
آراءنا لما يكون به عزنا وشرفنا ورجوع أيامنا التي ارتقينا فيها صهوة كل عز
وانتصار، وليس لنا إلى ذلك من سبيل، إلا باتباع ما أرشدنا إليه الرب الجليل،
من الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق والتنازع واتباع صراط الله المستقيم. وترك
اتباع السبل المتفرقة المضلة عن سبيله كما جاء في الذكر الحكيم. وإدارة كل
شئوننا على منهاج شريعة الله عبادة ومعاملة ودفاعًا. وكفى بهدي الله لنا وسيلة إلى
نيل كل مطلوب، ودفع كل مخوف ومرهوب، ولقد قمنا بمقامنا هذا الحرج طلبًا
لخدمة الله بإصلاح ما نقدر عليه من أحوال المسلمين والدعاء إلى الله وطاعته،
بامتثال أوامره ونواهيه والانقياد لشريعته، وقد حصل لنا في أكثر هذه البلاد المرام،
وترتبت الأعمال على مراضي الرب العلام، ولم نزل نجدد الإرشاد إلى كثير
من البلاد، راجين الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين لما به حفظ دينهم وبلادهم،
وحوزتهم وعزهم وكيانهم، ولما كانت بلاد اليمن قطعة واحدة وأهلها متحدو العنصر
والديانة متفقو اللغة متقاربو الأنساب من الأشراف والقبائل، لا اختلاف بينهم في
شيء فربهم واحد ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ودينهم واحد، بلا اختلاف يعول
عليه إلا من لا معرفة له بالشريعة، ولا بواضح مناهجها الوسيعة، وأما أهل الديانة
والعرفان، وأولو العقول التي بها تعرف طرائق الإحسان فهم يعرفون أن أهل
القطعة المباركة اليمنية كأهل مدينة واحدة، ومع هذا فالواجب علينا جمع الكلمة،
واتحاد الرأي وتوحيد الطريقة، وعقد الولاء على الحقيقة، حتى نكون كالجسم
الواحد وكالبنان أو كالبنيان، كما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم وآله
وصحبه أهل الإيمان.
وقد عممنا دعوتنا هذه التي هي دعوة حق إلى كل من بلغته، وحررنا هذا
الكتاب مع غيره إلى أهل جهاتكم وما والاها من العلماء الأعلام، والرؤساء الفخام،
والمشايخ والأفراد، ندعوكم بدعوة الحق إلى ما أسلفناه في هذا الكتاب، ونقول:
هلموا أيها الإخوان إلى ما به عز الدنيا والدين، والوصول إلى الخير المستبين؛
لنعمر أمور ديننا ودنيانا، على طريقة الأسلاف الذين هم أسوتنا ومُقتَدَانا، وليس
المراد مُلكًا نشيده، ولا مالاً نستزيده، ولا جاهًا نستفيده، وإنما المراد اجتماع
المسلمين بالمحجة البيضاء والصراط المستقيم، وسنقر كل بلاد بيد رؤسائها،
ونحيل إليهم مجرى أعمالها ومرساها، هلموا إلينا للعمل بكتاب الله وسنة رسول الله
والسلف الصالح: نحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، نأمر بالمعروف،
وننهى عن المنكر المخوف، ونمنع التظالم، ونأخذ على يد الظالم، ونحقن الدماء،
ونعمل بشريعة خالق الأرض والسماء، ونجري الأعمال على محور إرشادات ذي
الجلال، فكل ما خالفها فهو الباطل المُضْمَحِلّ، وما وافقها فهو الحق المستفحل،
بإرشادات الشريعة صلاح الدين والدنيا، وقد خاب من عدل عنها. ولم يتم للسلف
الصالح نصرة الدين وفتح الأقطار الشاسعة إلا بالعمل بإرشادات شريعة الله.
ونقول أيضًا: أيها العلماء الأعلام، أنتم المكلفون بِبَثِّ ما علمكم الله ونَشْرِهِ
للناس، وثمرة العلم إنما هي العمل والإرشاد إلى ما به ذهاب البأس، فقد أخذ الله
عليكم ميثاقه الأكيد، وألزمكم القيام بالتعليم والوعظ والنصيحة للعامة وإرشادهم إلى
الخير والمزيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من عقاب الله،
والإنذار بسخطه ومقته على من أعرض عما أوجبه الله عليه، ولم يوجب الله على
العامة السؤال بقوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:
43) حتى أوجب عليهم البيان بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) وقال صلى الله عليه وآله
وصحبه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم [1]
عهد الله أحق ما أدي [2] ) فشمروا كثَّر الله سوادكم عن ساق الهمة في هذا السبيل،
وبيِّنوا وعظوا وانصحوا لتفوزوا بالأجر الجزيل، وأحيوا سنة السلف الصالح في
هذا الجيل، فقد قام بالدعوة إلى آل محمد من السلف الصالح مَن به يُقْتَدَى، ويُقْْْتََفَى
أثره وبنور إرشاده يُهْتَدَى، منهم الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة رضي الله عنهما.
واعلموا أن هذا الذي ندعوكم إليه هو أمر محبوب عند كل بني الإنسان،
خصوصًا عند الدول المتمدنة فإنها تعتبر هذا من الأمور الواجبة على الأمم،
وخصوصًا الحكومة البريطانية، وإنَّا نؤمل منها غاية المساعدة [3] لأمور مهمة،
مما تتقوى به هذه الدعوى المبنية على أساس متين، فهي الدولة المفتخرة بمحبتها
للعرب، وإعانتها لهم في كل ما يتم به الأرب، خدمة للإنسانية ورعاية لحقوقها
التي ترشد إليها الضمائر الوجدانية.
وقد وصل إلينا رؤساء البيضا [4] في هذه الآونة وأعلمناهم ما ندعو إليه، وما
نُحَرِّض الناس عليه، وضربنا لهم الأمثال، بأحوال الجهات التي نفذت فيها أحكام
ذي الجلال، وما ضرب فيها من العدل والإحسان والأمان، وما ارتفع عنها من
الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان، ثم كان عزمهم من لدينا متقلدين الطاعة،
منخرطين في سلك الجماعة، ونحن إن شاء الله على أهبة إرسال شرذمة من
الأجناد، إلى هاتيك البلاد؛ لصلاح أحوالها، ومحق أهوالها، ونسأل الله تعالى أن
يأخذ بنواصي الجميع إلى مراضيه، ويوفقنا إلى سلوك السبيل الأقوم واجتناب
معاصيه، ويفتح لسماع نصيحتنا وإرشاداتنا أسماع كافة الإخوان، إنه الكريم المنان،
فهذا ما ندعوكم إليه، ونأمركم به، وهو معذرة إلى الله، وحجة عليكم عند الله
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) والسلام عليكم. بتاريخه في 4 ذي القعدة الحرام سنة 1341 هـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: تتمة الحديث (شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) .
(2) المنار: هذا حديث آخر.
(3) يعني بهذه المساعدة - والله أعلم - تمكينه من نشر دعوته ورفع لواء إمامته في البلاد المجاورة التي كانت قد قيدتها بالحماية، ولعل سبب هذا الأمل أنه قد تم الاتفاق بينه وبين الدولة البريطانية وقد بلغنا أنهم قد حذفوا من مواده كل القيود التي تنافي الاستقلال المطلق إلا تقديمهم على غيرهم من الأجانب في كل مشروع أو امتياز اقتصادي عند تساوي الشروط، وأن يمنح الإمام البلاد التي كانت محمية الاستقلال الإداري تحت سيادته كحضرموت ولحج، وسننشر نص الاتفاق متى جاءنا بعد العلم الصحيح بالتوقيع عليه، ووضعه موضع التنفيذ.
(4) البيضاء من بلاد اليمن بالقرب من حضرموت.(24/551)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين
ذكرنا في المجلد السادس عشر شيئًا من خبر اهتداء هذا اللورد الإنجليزي إلى
الإسلام، وما نشره في بعض الجرائد الإنجليزية عن إسلامه، وأما خوجه كمال
الدين فهو رئيس جمعية هندية تدعو إلى الإسلام في لندن ولها مجلة هنالك، ويقال:
إنه من المعتدلين من شيعة ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادَّعَى أنه المسيح
المنتظر، وأن الوحي ينزل عليه بذلك. وقد رددنا عليه في حياته ورد علينا في
بعض كتبه، وأتباعه الآن فريقان: غلاة ومعتدلون، وسنتكلم عنهم في جزء آخر.
ولجمعية خوجه كمال الدين أنصار في القطر المصري ينقلون أنه من مسيحية
القادياني وجرى لنا مع بعض أصدقائنا منهم حديث اتفقنا فيه على أن نسأل الأستاذ
كمال الدين نفسه عن ذلك، ونعتمد ما يقوله وننشره، ولم يتيسر لنا ذلك قبل سفره
إلى الحجاز. وهو قد كان كتب إليهم بأنه يريد الحج بصحبة اللورد هدلي ويمر
بمصر فدعوا الناس إلى الاحتفال باللورد وصاحبه، وألفت لذلك جمعية خاصة في
القاهرة وأخرى في الإسكندرية اشترك فيها كثيرون من جميع الطبقات العليا
والوسطى واستقبلوا الضيفين أحسن استقبال وأدبوا لهم المآدب اللائقة بكرامة
الضيف وكرم المضيف. وأحسن ما نشر في الجرائد بهذا الشأن وأقربه إلى الفائدة
ما كتبه أحد محرري جريدة السياسة وهذا نصه:
(حديث مع رحمة الله فاروق جناب اللورد هدلي)
لم تستقبل مصر رجلاً منذ رجوع سعد باشا زغلول كما استقبلت بالأمس حضرة
المستر (جورج رولان السن دن) المشهور المعروف باسم اللورد هدلي والمعتنق
للديانة الإسلامية تحت اسم رحمة الله فاروق.
لقد غصت المحطات بالمستقبلين، من بورسعيد إلى مصر، والشعب يهتف
مرحبًا مستقبلاً هذا الضيف الكريم. وهذا ما دعا كاتب هذه السطور لزيارة جناب
اللورد الكريم زيارة إفراديه خاصة في منشية البكري حيث حل ضيفًا عزيزًا مع
رفيقيه المحترمين خوجة كمال الدين مدير المجلة الإسلامية في لندن والمبشر
المشهور المقيم في بلاد الإنجليز يدعو الناس للدخول في دين الإسلام، وجناب عبد
المحيي مفتي الديار الإنجليزية وشيخ جامع وكنج في ضواحي لندن.
استقبلني جناب اللورد بلطفه وأدبه الكبيرين. على رأسه الطربوش المصري
الموضوع فوق شعره المكلل بالبياض فينعكس من احمراره لون وردي جميل على
وجهه الأبيض وعلى عينيه الزرقاوين المتحركتين كثيرًا ثم نزلنا إلى جنينة المنشية
الواسعة وجلسنا نتحادث.
كنت أصغي إلى حديثه وأنا أقول في نفسي: ما السبب الحقيقي الذي دعا هذا
الرجل الإنجليزي المنحدر بنسبه من (ملوك نورث وايلس) ما الذي دعا هذا الرجل
الذي وقف شارل الثاني سنة 1660 يعلق على صدر أجداده شارات البارونية؟ ما
الذي دعا هذا اللورد لاعتناق دين الإسلام؟
لقد اجتهدت كثيرًا أن أتغلغل إلى داخلية نفسه لعلي أستكشف العاطفة النفسية
التي دفعته إلى الإسلام. لقد حادثته مليًّا ساعتين كاملتين فلم أشك بعدهما في أن هذا
الرجل اعتنق الإسلام نهائيًّا.
إن اللورد هدلي لم يكن في حياته مسيحيًّا قط كما قال لي هو بنفسه، وقد كان
على مذهب الموحدين الذين يؤمنون بإله واحد ويعتقدون أن المسيح نبي، وهؤلاء
شيعة كبيرة في إنجلترا وأمريكا وهم الموحدون المشهورون.
واللورد هدلي مهندس معروف، وقد قص عليَّ من حديثه ما يأتي، قال:
(أنا مسلم منذ خمسين سنة، ولكني لم أعتنق الإسلام رسميًّا إلا في 17
نوفمبر سنة 1913 وذلك لأسباب عائلية سنأتي على ذكرها. وقد كنت في صغري
أشك في أمور كثيرة في الدين المسيحي، وكنت لا أعرف كيف أستطيع أن أؤمن
بالمبدأ المسيحي القائل: إذا كنت لا تؤمن بألوهية المسيح فلا تنجو من عذاب جهنم
الأبدي، وإذا لم تأكل جسد المسيح وتشرب دمه فلن تنجو أيضًا. لذلك كنت في
دخيلة نفسي ثائرًا على الديانة المسيحية من السادسة عشره من العمر. وفي سنة
1883 سافرت إلى الهند إلى مقاطعة كشمير لمشاريع هندسية وإنشاء طرق وتعمير
تلك الولايات على الطرق الحديثة الفنية. وهناك اجتمعت بصديقي الكولونيل..
(وطلب إليَّ أن لا أذكر اسمه) الذي أهداني نسخة من القرآن الكريم. وكنت أجد في
هذا الكتاب الشريف من بساطة الدين الإسلامي المبني على الفطرة الطبيعية الصادقة
التي تدفع الإنسان إلى الخير وتنهاه عن المنكر - ما يوافق طبيعة نفسي ويلائم
روحي، وكنت كلما قرأت في ذلك المصحف الكريم اكتشفت بنفسي أنني مسلم دون أن
يبشرني أحد بالإسلام، ودون أن يدعوني أحد إلى الإسلام. لذلك أحب أن يُترك
الإنسان في مسألة الأديان إلى نفسه ليختار الدين الذي يريده أو يوافقه، وأنا أعتقد أن
ثلاثة أرباع الناس في إنجلترا هم مسلمون دون أن يشعروا أو يعرفوا ذلك، وإذا سألت
أحدًا ما هو دينك؟ فيقول لك أنا مسيحي، وإذا قلت له كلا فأنت مسلم بحسب اعتقادك
يضحك منك قائلاً كلا فأنا على دين المسيح) .
(أنا أؤمن أن لا إله إلا الله وأؤمن أن محمدًا وموسى وعيسى أنبياء الله لا
نفرق بينهم بحسب تعاليم القرآن. وأجد الدين الإسلامي دينًا بسيطًا يفهمه قلبي
ويتفق معه عقلي؛ لأني لا أستطيع أن أؤمن بما لا يفهمه القلب ولا يتفق مع العقل
وقد خطر لي أن أعلن إسلامي منذ صغري لكني كنت مضطرًا إلى مراعاة عواطف
أنسبائي المتقدمين في العمر الذين كنت من غير شك سأجرح عواطفهم، وأكسر
قلوبهم إذا أعلنت أني خرجت عن دينهم الذي يعتقدونه ويعتقدون أن لا خلاص لمن
لا يؤمن به. لكن في السنوات الأخيرة قبل الحرب مات جميع المتقدمين في السن
من أقربائي. وفي ذلك الحين تعرفت بصديقي خوجه كمال الدين فكنا نتحادث
ونتباحث كثيرًا في أمور الدين الإسلامي. ولا أنكر أن له الفضل الأكبر في
مساعدتي وإرشادي لإعلاني الانضمام إلى حظيرة الدين الإسلامي. أما زوجتي فقد
توفيت منذ زمن طويل ولي أربعة أولاد لهم الخيار في اعتناق أي مذهب يشاءون.
وقد كنت أعجب دائمًا بما كنت أقرأه عن أبطال الإسلام، وعن أولئك الأفراد
الذين خرجوا من الصحراء حفاة الأقدام فاستطاعوا أن يكونوا أعظم قواد العالم
وأعدل قضاة الأرض وأشهر المتشرعين على الإطلاق) .
(وإني أفتخر بديني الجديد وأشكر الله عليه فهو دين بسيط جدًّا مفهوم تمامًا،
أعرفه كما هو وأعيش بموجبه مسترشدًا بما يوحيه إليَّ ضميري ووجداني.
وقد كنت عقدت النية على أداء فريضة الحج وزيارة قبر النبي المصطفى في
أوائل اعتناقي الإسلام لكن الحرب العالمية الكبرى جاءت فجأة فاضطررت إلى
تأجيل زيارتي هذه إلى هذه السنة) .
وقد ذكر لي أنه هو أول من اعتنق الإسلام بين الإنجليز وهو الآن رئيس
المجلس الإسلامي الأعلى في إنجلترا وأنه قد دخل إلى حظيرة الإسلام منذ دخوله
إليها نحو أربعمائة شخص من رجال ونساء من الإنجليز، أما هو نفسه فيعتقد
اعتقادًا ثابتًا راسخًا أن ثلاثة أرباع الناس في إنجلترا هم مسلمون بأفكارهم ومبادئهم
ولكنهم لا يدركون ذلك؛ ولأجل هذا هم لا يريدون أن يعترفوا به.
هذا هو خلاصة حديث اللورد هدلي.
وقد اجتمعت بحضرته مرة أخرى فوجدت أنه لا يستطيع أن يزيد شيئًا على ما
قال. فالرجل مفكر حر تعبت نفسه من تقاليد الديانة التي ربي فيها وتاقت نفسه إلى
مبدأ بسيط يوافق طبيعة روحه فوجد في بساطة الدين الإسلامي القائم على توحيد الله
ضالته المنشودة فاعتنق الإسلام وهو الآن سائر في طريقه إلى بيت الله الحرام.اهـ.
(المنار) لا يقرأ هذا الحديث أحد له قلب إلا ويشعر بأنه من إملاء الصدق
والإخلاص، ولم نر خطأ فيه إلا قوله أنه أول من أسلم في إنجلترا. وقد يشك
الملاحدة والنصارى الواثقون بدينهم في قول اللورد أنه يعتقد أن ثلاثة أرباع الشعب
الإنجليزي مسلمون بفطرتهم كما يشك بعض المسلمين في صحة إسلامه هو!
وعندنا أن هذا هو الحق اليقين من حيث إن الإسلام دين الفطرة وفي الحديث
الصحيح: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه) وإذا كانت التربية الإنجليزية مبنية على مراعاة الفطرة،
ومنها استقلال الفكر فلا غرو إذا كان ثلاثة أرباعهم لا يصدقون تقاليد الكنيسة
المبتدعة بعد المسيح عليه السلام بل يؤمنون بتوحيد الله وكون المسيح رسولاً كسائر
رسل الله كما قال عليه السلام: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله
الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) وهذا عين إصلاح الإسلام للنصرانية،
ولو تولى الدعوة إلى الإسلام في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية من يعرفون
الإسلام معرفة صحيحة برهانية عمرانية وأمكنهم بيانه وبيان غش رجال السياسة
والمبشرين المضلين الذين أوقعوا العداوة والبغضاء بين الإسلام وأوروبة - لدخل
هذان الشعبان في دين الله أفواجًا.
وكنا شرعنا في الاستعداد لذلك بمشروع الدعوة والإرشاد، والتزم العزيز
عباس حلمي أعقل أمراء المسلمين وأعلاهم همة مساعدتنا على عملنا من حيث قاومنا
بعض المسلمين الحاسدين ومقلدتهم، حتى إذا ما ذهب بنفوذه أقفلت مدرسة دار الدعوة
والإرشاد بدسائس الإنجليز وإغراء بعض البهائية والإنجليز.
__________(24/555)
الكاتب: محمد بن عبد العزيز المانع
__________
وفاة رجل كبير ومحسن شهير
هو الحاج مقبل الذكير
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الأستاذ الإمام والفاضل الكامل الهمام العلامة النحرير والبدر المنير
السيد محمد رشيد آل رضا رضي الله عنه وأرضاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأزكى وأشرف تحياته (أما بعد) فإني
أعزيك بأخيك الطاهر النقي، والعابد التقي، الناسك البَرّ الأوَّاه، الباذل أمواله في
سبيل الله، طلبًا لرضاه: الحاج مقبل بن عبد الرحمن الذكير، طيَّب الله ثراه، وجعل
جنة الفردوس مثواه، فقد أجاب الداعي، ولبى المنادي، في اليوم السادس والعشرين
من شهر رمضان سنة 1341 فأول ليلة قدم فيها على ربه هي ليلة سبع وعشرين من
رمضان، وهي ليلة القدر على أصح الأقوال وأشهرها، وقد ناهز عمره ثمانين عامًا؛
وبارك الله في حياته، فلم تلهه دنياه عما فيه رضا الله، فكم ضعيف أعانه،
وملهوف أغاثه، ومعسر يسَّر عليه، وكان رحمه الله وصولاً لأرحامه، برًّا بأصحابه
وله الآثار الجميلة الجليلة في البحرين وغيرها من عمارة المساجد، وحفر الآبار،
والصدقات الجارية، وله من الصدقات على عموم المسلمين ما يعجز عن القيام بمثله
غالب الناس، فقد أنفق كثيرًا من أمواله على طبع الكتب العلمية وجعلها وقفًا لوجه
الله تعالى، فمنها: (إعلام الموقعين، وحادي الأرواح) لابن القيم في ثلاثة
مجلدات، (وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) وبعض كتبه في خمسة مجلدات،
والتدمرية والخيده والصابونية وإثبات صفة العلو للإمام الموفق، ومنها شرح الإقناع
وشرح المنتهى في أربعة أجزاء كبار وكلاهما في فقه الحنابلة، وهذه طبعها ووقفها لمَّا
كان في جزيرة البحرين.
عاد قبل وفاته بسنوات قليلة إلى مسقط رأسه وبلد أسلافه عنيزة أم بلدان
القصيم ولم يُثنِ عزمه عن عمل الصالحات والمسابقة إلى الخيرات ما كان يكابده من
آلام الكبر وضعف الحواس، فبنى في بلده مدرسة ودارًا لمن يكون مدرسًا في تلك
المدرسة وأمر أن يطبع على نفقته كتاب (اللطائف) لابن رجب (والبحور الزاخرة)
للسفاريني وقد بوشر بطبعهما في الهند، فجاءت المنية قبل تمام الأمنية، ولنا في
ذريته وأقاربه عظيم الأمل أن يسيروا على منهاجه؛ لأنهم أهل بيت راسخ في
المجد، عريق في الكرم، وكان رحمه الله سلفي الاعتقاد محبًّا لنشر السنة، وقد قرأ
طرفًا من فقه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في أوائل عمره فرحمه الله تعالى
برحمته الواسعة وأعظم فيه الأجر {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156)
تسليمًا لأمر الله ورضًا بقضائه، وحسبنا الله وكفى. وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وسلم. 24 شوال سنة 1341 هـ
... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه
... ... ... ... ... ... ... محمد بن عبد العزيزالمانع
(المنار) نسأل الله تعالى أن يبارك في عمر أخينا الناعي قاضي قطر العادل،
وأن يتغمد أخانا المنعي برحمته ورضوانه ويجمعنا به {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ
مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) وأن يحسن عزاء أهله وولده، ويوفقهم لاقتفاء أثره.
__________(24/559)
ذو الحجة - 1341هـ
أغسطس - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الراتبة القَبلية للجمعة
القياس في العبادات، والتردد في نية الصلاة
ومن صلى غير ما نوى [*]
(س22-24)
رفع أستاذ من المدارس العليا أسئلة أو (سؤالاً ذا شعب) إلى العلماء كافة
وخصني بالذكر مع ثلاثة منهم فأقول سائلاً من الله تعالى أن يلهمني الصواب،
ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب:
(نص السؤال الأول) :
هل ثبت من طريق شرعي- غير ما رواه ابن ماجه وقد ضعَّفه وجرَّحه أهل
الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الجمعة ركعتين أو أربعًا بنية سنة
الجمعة أو أمر بذلك أو أقره؟
(الجواب) يعني السائل بحديث ابن ماجه ما رواه عن ابن عباس رضي الله
عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعًا لا يفصل في
شيء منهن) . وفي إسناده مبشر بن عبيد كذاب وَضَّاع؛ بل قال صاحب الزوائد:
إسناده مسلسل بالضعفاء: عطية متفق على ضعفه وحجاج مدلس ومبشر بن عبيد
كذاب وبقية بن الوليد مدلس ا. هـ أقول: وقد عَنْعَن كل من الحجاج وبقية وكذا
مبشر فالحديث موضوع، وقال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل.
وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث أمثل من حديث ابن ماجه ولكنها ضعيفة
(منها) حديث أبي هريرة عن البزار: كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا.
ومثلها عن علي رواه الأثرم وقال: إنه وَاهٍ والطبراني في الأوسط، وروى
الطبراني مثله عن أبي مسعود وفي إسناده ضعف وانقطاع، والصواب أنه موقوف
كما رواه عبد الرزاق. ومثله عن ابن سعد عن صفية زوج النبي صلى الله عليه
وسلم وهو موقوف أيضًا. أفاد ذلك كله الحافظ ابن حجر. ولم نطَّلِع في كتب السنة
ولا فيما احتج به من قال بأن للجمعة سنة قبلية على حديث صحيح صريح في ذلك؛
بل الثابت الذي لا خلاف فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته
إلى المسجد إذا زالت الشمس فيؤذن بين يديه فيخطب فيصلي بالناس فريضة الجمعة
فينصرف إلى بيته فيصلي فيه ركعتين.
ولكن ورد أحاديث في الصحاح وغيرها استدل بها القائلون بسنية الصلاة قبل
الجمعة ورد عليهم المانعون استدلالهم (منها) ما رواه أبو داود وابن حبان من
طريق أيوب عن نافع قال: (كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي
بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) .
قال الحافظ: احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها.
وتُعُقِّبَ بأن قوله: (كان يفعل ذلك) عائد على قوله: ويصلي بعد الجمعة ركعتين
في بيته. ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله أنه كان إذا صلى الجمعة
انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع
ذلك. أخرجه مسلم، وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، فإن كان المراد بعد
دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا
زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإذا كان المراد قبل دخول الوقت
فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل
مطلق، وقد ورد الترغيب فيه اهـ.
أقول: وروى أحمد عن عطاء الخراساني عن نبيشة الهذلي عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي
أحدًا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع
حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه - إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أرجو أن
تكون كفارة للجمعة التي تليها) .
وعطاء الخراساني فيه خلاف وثَّقه بعضهم وضعَّفه البخاري، وذكر بإسناد له
عن سعيد بن المسيب أنه قال: كذب عليَّ عطاء ما حدثته هكذا، وقال ابن حبان:
كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به. وهو لم يسمع من نبيشة بل
قال الطبراني: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أنس. على أن الحديث
كما يتبادر من لفظه في النفل المطلق ولا خلاف في جوازه قبل الصلاة.
وظاهره منع تحية المسجد إذا كان الإمام قد خرج وهو معارض بحديث:
(إذا جاء أحدكم والإمام يخطب يوم الجمعة فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه
أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله وفي رواية: (إذا جاء أحدكم والإمام
يخطب - أو قد خرج - فليصل ركعتين) وسببه ما رواه الجماعة عنه قال:
(دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال (صليتَ؟)
قال: لا. قال (فصل ركعتين) وهو مُفَصَّل في رواية أخرى، وقد حقَّق الجمهور أن
هاتين الركعتين هما ركعتا تحية المسجد، ولو كانت سنة قبلية للجمعة لأمر الناس كلهم
بها قبل الخطبة التي كان يبتدر المنبر بها عند الزوال.
وروى الجماعة كلهم (أحمد والشيخان وأصحاب السنن) عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. ولم يذكر قبلها
شيئًا، وورد في معناه أحاديث أخرى، وروى الجماعة ما عدا البخاري من حديث
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل
بعدها أربع ركعات) وفي رواية لمسلم: (من كان منكم مُصَلِّيًا بعد الجمعة فليصل
أربعًا) وهو لفظ أبي داود والترمذي، ولكن لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم
صلى بعدها أربعًا ولا قبلها شيئًا.
(ومنها) ما استدلوا به من عموم ما ورد في الرواتب. قال الحافظ: وأقوى
ما يُتَمَسَّكُ به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة ما صحَّحه ابن حبان من حديث عبد
الله بن الزبير مرفوعًا (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان) ومثله
حديث عبد الله بن مغفل (بين كل أذانين صلاة ... لمن شاء) ا. هـ أقول: وقد
رواه الجماعة كلهم، والمراد بالأذانين الأذان والإقامة. والمانعون يقولون: إن هذا
العموم مخصوص بغير الجمعة؛ إذ ثبت - بل تواتر بالعمل الإجماعي - أنه ليس
بين آذانها وإقامتها إلا الخطبة- ولا يعارضه ما صح من صلاة ركعتي تحية المسجد
في وقت الخطبة - وهذا أقوى من تخصيص بعضهم له بغير صلاة المغرب؛ لما ورد
من أنهم لم يكونوا يصلون بين آذانها وإقامتها شيئًا بل كانوا يشرعون في الصلاة في
أثناء الأذان، ولما ورد من حديث بريدة عند البزار من استثناء صلاة المغرب في مثل
حديث عبد الله بن مغفل مع أن هذا ضعيف، وما قبله معارَض بما روي من صلاة
بعضهم لها في الصحيح.
السؤال الثاني:
أيصح القياس في تشريع الصلوات فنصلي سنة قبلية للجمعة قياسًا على
الظهر أو نصلي قبلية للعيد قياسًا على الجمعة؟
(ج) الأصل في القياس الصحيح أن يكون فيما لا نص فيه من كتاب ولا
سنة، وهو ما ورد النص على علته مع نفي الفارق فيما يشاركه في العلة،
والأصل في جميع الأحكام التعبدية أن تثبت بالنص، ولولا ذلك لم يثبت إكمال
الدين ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أكمل المؤمنين دينًا وعبادة،
وكل منهما قطعي. وهذا أساس مذهب الإمام مالك كما بينه الشاطبي في الاعتصام
(يراجع ص 123 من الجزء الثاني) وقد فصَّلنا هذه المسألة في المنار مرارًا وفي
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) من جزء التفسير السابع، وفيه تفصيل لمسألة القياس الصحيح
والباطل. والتحقيق أنه لا يمكن إثبات عبادة عملية محضة مستقلة بالقياس المحض
لا نحو نية، وما كان من تحقيق المناط وما ثبت بفحوى الخطاب أو لحنه، ولا
يتسع هذا الجواب لبسط هذه المسألة، ولا هي من موضوعه، وقد غلط من جوز
إثبات سنة قبلية للجمعة بالقياس على الظهر، ويغني عن القول بأن كون الجمعة
بدلاً من الظهر يقتضي أن يصلي قبلها وبعدها من الراتبة ما يصلي قبله وبعده،
وهذا ليس بقياس. وللمانعين أن يردوه بما دلت عليه النصوص في الجمعة، وليس
من موضوعنا هنا الترجيح بين الأقوال في المسألة، ووجد من العلماء من قاس
راتبة العيد على راتبة الجمعة، وهو شاذ. وقد اختلف العلماء في الصلاة قبل صلاة
العيد وبعدها بسبب اختلاف الأخبار والآثار. والتحقيق أنه لم تثبت لها سنة قبلها
ولا بعدها ولم يثبت منع خاص للتنفل قبلها أو بعدها، كما قال الحافظ في الفتح.
السؤال الثالث:
(أتجوز نية الصلاة مع التردد في كون المنوي فرضًا أو نفلاً؟ وهل يجوز
للمصلي أن ينوي فرضًا مُعَيَّنًا وركعات معدودات ثم يفعل غير ما نواه؟) .
(ج) لا تتحقق النية إلا بالعزم القاطع، ومن شروطها: العلم بالمنوي وعدم
الصارف عنه بأن يستصحبها حكمًا من أول الصلاة إلى آخرها، فلا يأتي بشيء
ينافيها، كما صرحوا به، ولكن بعض الفقهاء جوَّزوا تحويل الفرض نفلاً لعذر
وتحويل الجمعة إلى الظهر إذا خرج الوقت؛ إذ عدوه شرطًا لصحتها.
قال الشيخ موفق الدين الحنبلي في المغنى: وإذا دخل في الصلاة بنية مترددة
بين إتمامها وقطعها لم تصح؛ لأن النية عزم جازم، ومع التردد لا يحصل الجزم،
وإن تلبس بها بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تبطل بذلك؛ لأنها عبادة صح دخوله فيها فلم تفسد بنية
الخروج منها كالحج ... إلخ (ثم قال) : وإذا أحرم بفريضة ثم نوى نقلها إلى
فريضة أخرى بطلت الأولى لأنه قطع نيتها، ولم تصح الثانية لأنه لم ينوها من
أولها. اهـ.
ثم ذكر خلافًا عن الحنابلة في نقلها إلى نفل لعذر أو لغرض صحيح أو بدونه،
والراجح عندهم جوازه لغرض صحيح كالشافعية الذين توسعوا في العذر، ومثلوا
له بقول الشمس الرملي الشافعي في شرحه للمنهاج: ولو قلب المصلي صلاته التي
هو فيها صلاة أخرى عالمًا عامدًا بطلت، أو أتى بمنافي الفرض لا النفل كأن أحرم
القادر بالفرض قاعدًا أو أحرم به قبل وقته عامدًا عالمًا - لم تنعقد صلاته لتلاعبه،
فإن كان له عذر كظنه دخول الوقت فأحرم بالفرض أو قلبه نفلاً لإدراك جماعة
مشروعة وهو منفرد فسلم من ركعتين ليدركها أو ركع مسبوقًا قبل تمام التكبيرة
جاهلاً - انقلبت نفلاً لعذره؛ إذ لا يلزم من بطلان الخصوص بطلان العموم. ولو
قلبها معينًا كركعتي الضحى لم تصح لافتقاره إلى تعيين.ا. هـ. والمراد بالخصوص
في كلامه هنا الفرض وبالعموم النفل.
وأما قلب الجمعة ظهرًا فقد جزم به الشافعية في حال خروج الوقت بناء أو
استئنافًا، والمراد بالبناء ما بدأوا به من صلاة الجمعة أربع ركعات وبالاستئناف
قلب ما بدأوا به من فريضة الجمعة نفلاً كما تقدم في المصلي المنفرد، واستئناف
صلاة الظهر بنيته بعد السلام منها. ومذهب الحنابلة أظهر بل هو الظاهر في
المسألة، وهو أن يتموها جمعة وإن خرج الوقت في أثنائها كسائر الصلوات. قال
صاحب الفروع منهم: فإن خرج (أي وقت الجمعة) صلوا ظهرًا فإن كانوا فيها
أتموا جمعة، قال بعضهم نص عليه، وهو ظاهر المذهب وفاقًا لمالك. وعنه قيل
ركعة لا. اختاره الخرقي والشيخ. ثم هل يتمونها ظهرًا وفاقًا للشافعي أو يستأنفونها
وفاقًا لأبي حنيفة؟ فيه وجهان اهـ. وذكر مصحح الفروع أن الصحيح من
الوجهين أن يتمها ظهرًا إن كان قد نوى الظهر وإلا استأنفها. فهذه مدارك
المجتهدين في المسألة، والمختار عندنا منها عدم صحة تحويل صلاة الجمعة إلى
الظهر وأمثاله، والله أعلم.
__________
(*) نشر السؤال ثم الجواب في الأهرام.(24/572)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسيحية الإسلامية القاديانية
الملقبة بالأحمدية
نجم بمصر هذه الأيام قرن بدعة (ميرزا غلام أحمد القادياني) بعد أن كانت
محصورة في الهند ثم بثت دعوتها في أوروبة والبلاد الأمريكية فصارت كالبهائية
ذات دعاة وأتباع يبثون تعاليمهم في رسائل يطبعونها ويوزعونها، ومقالات
ينشرونها.
كانت مسألة الاعتقاد بالمهدي المنتظر مثار فتن كثيرة وبدع كبيرة، وسفك
دماء غزيرة، كان آخر مظاهرها في البلاد الإفريقية مهدي السودان، وفي آسيا
(الباب) الذي ظهر في إيران، وكان أمثال هؤلاء المبتدعين غافلين عن مسألة
الاعتقاد بنزول المسيح على الأرض في آخر الزمان حتى قام بها البهائية ونظموا
دعوتها وجعلوها قاعدة دعوتهم للنصارى، كما كانوا جعلوا قاعدة دعوتهم للمسلمين
مسألة المهدي المنتظر، ولكل من الدعوتين عندهم درجات كدرجات سلفهم من
باطنية الإسماعيلية، ولكنها مناسبة لحال هذا الزمان، وآخر درجاتها دعوى
الألوهية والربوبية لزعيمهم البهاء.
ثم ظهر ميرزا غلام أحمد القادياني في الهند فادعى أنه هو المسيح المنتظر،
وأن الوحي نزل عليه بذلك، وقد رددنا عليه في عصره، ورد علينا وهجانا في
مصنف خاص أملاه عليه وحيه الشيطاني، وكان من وحيه هذا أن صاحب المنار
(سيهزم فلا يرى) ولو نزل بنا قضاء الله تعالى بموت أو نكبة يبطل بها المنار،
لكان ذلك من أكبر فتن أتباعه الأغرار، ولكن ظهور الكذب والخذلان مما ينساه أو
لا يراه أمثال هؤلاء العميان.
ضل كثير من المسلمين بدعوتي البهائية والقاديانية، فلهذا كانت الدولة
البريطانية مؤيدة ومساعدة لهما في الهند وإيران وفلسطين ومصر، كلهم مخلصون
لها، مؤيدون لسياستها، وقد كان حسين روحي أفندي البهائي أمين معتمدها في
الحجاز منذ بدء الثورة الحجازية، وقد كنا نظن أن بدعة القادياني لا تتجاوز بعد
موته ما نسخه من أحكام الشريعة - وأهمها وجوب الجهاد - ثم علمنا أنهم يدعون
استمرار الوحي والنبوة في أتباعه، وقد نشروا في هذه الأيام رسالة مطبوعة في
الدعوة إلى دينهم المسيحي الإسلامي، وضعها بالإنجليزية (ميرزا بشير الدين
محمود أحمد) زعيم الحركة الأحمدية من قاديان - بنجاب بلاد الهند. وترجمها
بالعربية (الرحالة عبد المجيد كامل) صاحب (رحلة في بلاد الناس) وطبع
على نفقة الحركة الأحمدية بمصر.
موضوع الرسالة (الصلاة عند الإسلام) وصلاتهم صلاة المسلمين في
الصورة، وإنما تخالفها في المعنى والعقيدة، فقد علق واضع الرسالة على تفسير
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) تعليقًا صرح فيه بأصل ارتدادهم عن
الإسلام وهذا نصه:
(ملحوظة: لقد وضع كل دين من الأديان المتبعة نموذجًا خصوصيًّا، ولا
شك أن أفضل تلك النماذج هو ما وضعه الإسلام. إن في هذا الدعاء لإرشاد
المسلم بأن يتوسل إلى الله بأن يهديه صراط الذين أنعم عليهم، أو بعبارة أخرى:
يتوسل إلى الله أن ينعم عليه بمثل ما أنعم به على أولئك المنعم عليهم الذين قيل
عنهم في موضع آخر من القرآن ما يفهم منه أنهم أصحاب النبي والصديقون
والشهداء والصالحون، وقيل في موضع آخر:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ
وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ} (المائدة: 20) .
وجاء في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم إنما هم الأنبياء [1] ، فالنبوة إذًا
هي أسمى المراتب التي يتطلع إليها المسلم، لذلك ابتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن
يحشره في زمرة الأنبياء، وهو نموذج لم ينسج على منواله دين من الأديان على
الإطلاق، بل جميعها سدت طريق الوحي الإلهي في وجوه العالم، فالدين الإسلامي
وحده هو الذي يرشد تابعيه إلى أن طريق الوحي لا يمكن أن يُسَدُّ في وجوه الناس؛
إذ إن الله الذي خاطب الناس وقتًا ما لن يكف عن هداية شعبه ومخاطبته) .
(إن هذا النموذج فضلا عن كونه نافٍ للاستحالة، فإنه يفتح أمام ذوي
القلوب الطاهرة طرق النجاح التي لا نهاية لها، ويرسم لهم طريق السعي للاتصال
بالله خالق الأكوان ومنبع كل قوة ومحبة) .
(لقد أنبأنا النبي الأقدس صلى الله عليه وسلم بظهور أحد أعاظم أولئك الذين
أنعم الله عليهم واسمه (المهدي والمسيح) فهو يُدعى (المهدي) لأنه يهدي مسلمي
وقته الذين انغمسوا في الخطايا ونسوا أوامر الدين الإسلامي حتى لم يعد في أقوالهم
وأفعالهم أثر لجمال الإيمان، ويسمى (المسيح) لأنه يتمم النبوات المختصة بعودة
يسوع المسيح إلى الأرض، وهداية العالم المسيحي الذي خالف التعاليم المسيحية كل
المخالفة) .
(ولقد ظهر ذلك الذات في (الهند) بمحل يقال له (قاديان) وفي ظرف
ثلاثين عامًا من حياته الرسولية، قوى دعائم الإسلام بمعجزات جديدة من عند الله،
وقد يوجد الآن آلاف من حوارييه يستمعون الوحي الإلهي) .
(ولقد عاش عيشة ملؤها الهداية الروحية بين أشياعه الذين فازوا فوزًا مبينًا
باتجاه العالم إليهم، فهناك الشيخ (فاتح محمد سيال) وحضرة (عبد الرحيم نيار)
يبشران بالإسلام في إنجلترا، ومفتي (محمد صادق) في أمريكا، فلا غرو أن
إعلام الناس بأنه من الممكن الحصول على الوحي في أي وقت قد كان من
الأخبار السارة التي تدعو إلى تشجيع المسلم الحقيقي في كل آن، وتعد قياسًا للحكم
بين الأديان المختلفة) .
(إن الدين الصحيح الحي لهو الذي لا يخلو من الثمر أبدًا، ولا ثمرة للدين
إلا الاتصال بالله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الوحي) .
(ليس الإسلام كغيره من الأديان التي تتمشى بأتباعها إلى أحط الدرجات بل
هو يسمو بتابعيه إلى أعلى ذروة الخيال الذي يمكن أن يصل إليه فكر الإنسان،
وعلى ذلك فهو أوحد الأديان الذي يشفي غلة الطبيعة البشرية، وأن أكبر حجة
يتمسك بها الملحد ضد جميع الأديان إنما هي قوله: إنه إذا كان هناك إله كما
يدعون فلماذا لا يظهر بنفسه للناس؟ أما هذا الاعتراض فلا يمكن أن يوجه إلى
الإسلام الذي لا يعتمد في براهينه على القصص الماضية، بل يعلن بأن هناك
رجال (؟) حتى الآن يُوحَى إليهم عَلَمُهم الزعيم الروحي (ومهدي هذا الزمن) .
اهـ.
(رد المنار)
إن بين مسيح الهند الدجال وبين باب إيران شبهًا في أن كلاًّ منهما كان مصابًا
بجنون الهوس الديني حتى لا يبعد أن يكون معتقدًا لما ادعاه، وفي أن تأثيره كان
محصورًا في الأعاجم؛ إذ تصدى كل منهما لتأويل القرآن والأحاديث بجرأة وجهل
وإسراف في الكلام، فافتُتن بهما بعض جهلة الأعاجم؛ إذ صدقوا أنهما بالإلهام
والوحي أمكنهما أن يجولا تلك الجولات الواسعة في كيان الله عز وجل، ولو كانوا
يفهمون العربية لسخروا من هوسهما ووصيهما الشيطاني.
وكان القادياني أعلم بالعربية وآدابها من الباب، فهو قد عني بفنونها وآدابها
كل العناية فكان يحفظ مقامات الحريري والمعلقات السبع وكثيرًا من المنظوم
والمنثور، ولكنه على هذا كله لم يحصل ملكة الإعراب ولا ذوق الآداب فيها فكان
كثير اللحن والغلط فيما يقول ويكتب، وكثير الخطأ والشطط فيما يفسر به الكلام،
وكان لصًّا جريئًا على السرقة بمزج شعره ونثره بما يحفظه بعينه أو بتغيير ما فيه،
فكان أتباعه يخدعون الأعاجم بذلك، وتجرأ هو على دعوة إعجاز كلامه كالقرآن
العزيز ولذلك عظم عليه الأمر عندما قلت في ردي على كتابه: (إعجاز أحمدي)
إنه كثير اللحن والغلط، واللغو الذي لا يفهم له معنى صحيح في هذه اللغة، وألف
كتابًا خاصًّا في الشكوى والتبرم من رَدِّي ظهر فيه من ضعف نفسه، واضطراب
حدسه، ما يدل على أنه مخذول لا مؤَيَّد من الله تعالى، ولولا تناقض هؤلاء
الموسوسين لعددت هذا دليلاً على أنه متعمد لقول الزور، غير مخدوع بنفسه ولا
مغرور، فقد عُهِدَ مثلُ هذا التناقض من أمثاله:
ادعى رجلٌ سوري النبوةَ وجاء ليظهر نبوته في مصر، فلما بلغ بورسعيد
أرسل منها برقيات إلى الخديو ولورد كرومر ورئيس النظار ورئيس تحرير الأهرام
وصاحب المنار يبشرهم بوقت تشريفه لعاصمة ملكه، وكان يتردد عليَّ ويقول لي:
إنك ستكون مني كأبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كان يقبل يدي أحيانًا
ويتذلل لي لأساعده على إظهار دعوته! مثال ذلك أنه ترجح عنده أن يستبدل
الآستانة بالقاهرة، فكلفني أن أكلم رؤوف باشا المعتمد العثماني بأن يطلب له من
الدولة أسطولاً أو بارجة حربية لأجل نقله إلى الآستانة، قلت له: إني إن أطلب
هذا من رؤوف باشا يعتقد أنني سُلِبْتُ عقلي، ولو طلب هو هذا من الآستانة يعتقدون
أنه جُنَّ ويستبدلون به غيره، وأما أنت فيمكنك أن تدفع تهمة الجنون عن نفسك
بمعجزة تظهرها للباشا إن كنت نبيًّا كما تقول …
قلت: إن هؤلاء قد ضلوا بجهل العربية، وهذا شاهد قطعي على وجوب هذه
اللغة على كل مسلم، فإذا كان من ادعى أنه المسيح المُؤَيَّد بالإعجاز في كتبه يزعم
أن البسملة تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى مسيحيته هو، فلا
عجب إذا ادعى هو وأتباعه أن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6-7) يدل على طلب النبوة بدليل أن المنعم
عليهم (إنما هم الأنبياء) فعلى هذا يكون المفروض على كل مسلم أن يطلب من الله
تعالى في كل ركعة من صلاته أن يجعله نبيًّا يوحى إليه
هذا الفهم الذي جاءنا به هؤلاء الأعاجم قد فات الصحابة والتابعين من العرب
الخُلَّص ومواليهم، وفات جميع واضعي فنون هذه اللغة لضبط ألفاظها ومعانيها
وفلسفتها وآدابها وأسرار بلاغتها، وجميع من فسر القرآن من السلف والخلف -
حتى قام بعض أعاجم الهند في القرن الرابع عشر يزعمون أنه أصل الإسلام وركنه
الأعظم الذي امتاز به على جميع الأديان.
لقد كنت أظن أن ضلالة هؤلاء المسيحيين القاديانيين قد وقفت عند حد لا
تتجاوزه هو دعوى ظهور المسيح والمهدي المنتظرَيْنِ، وأن هذه الدعوى ستموت
ويخجل أهلها منها بظهور كذب مسيحهم في دعواه أنه أبطل الحرب والجهاد من
الأرض، واستبدل بهما السلم العام، وقد ادعى البهائية عين هذه الدعوى؛ إذ كان
كل منهما يتوهم أن أوروبة تريد ذلك، ثم كذبت أوروبة الدينين الجديدين، بحرب
طرابلس الغرب وحرب البلقان، ثم بالحرب العامة التي لم يسبق لها نظير في
تاريخ العالم باتساع شرها، وعظائم ضرها، ولكن ظهور كذب دعوى البهاء
والقادياني لا يرجع زعماء أديانهما عنها، وترك هذه الرياسة ونعيمها وثروتها، ولا
يرجع من قلدوهم تقليدًا أصم أعمى، كما أن رد السواد الأعظم من المسلمين
والنصارى لدعواهما لم يمنعهما من الإصرار على ادعاء هداية أهل الدينين وتغيير
حال الأرض.
وإذ قد ظهر لي أن القاديانية قد ازدادوا ضلالاً، وأنهم نظموا دعوتهم وحاولوا
تعميمها كإخوانهم مسيحيي البهائية، فسأجدد الرد عليهم وتفنيد مزاعمهم في مقالات
تترى في الأجزاء الآتية، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) المنار: يعني بهذه الآية قوله تعالى في سورة مريم: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ] (مريم: 58) إلخ، وهي لا تدل لغة على ما ذكره من حصر المنعم عليهم في الأنبياء، ولو دلت على ذلك لكانت معارضة لغيرها من الآيات التي ذكرها أو المشار إليها، ولكن هؤلاء أعاجم لم يتقنوا اللغة العربية فجهلهم بها كجهل مسيحهم.(24/578)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأستاذ الخوجه كمال الدين
أشرنا في الجزء الماضي إلى ما كان يقال من أن الرجل من شيعة المسيحية
القاديانية وإننا سنعتمد في استبانة الحق في ذلك على سؤاله عنه بعد عودته من
الحجاز، وقد اتفق أن كتبت بعض الجرائد اليومية كلامًا جازمًا في هذا المعنى، فلما
عاد الأستاذ كمال الدين من الحجاز اطلع عليه، وسئل عنه فنشر في الجرائد بيانًا
صرَّح فيه بأنه مسلم سني حنفي، وأنه لا يدين بدين القاديانية، ولا هو من شيعة
مسيحهم الكذاب، فنهنئه ونهنئ أصدقاءه من المسلمين بذلك، حامدين لله عز وجل.
__________(24/583)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها
إن سبب قذف الوهابية بالابتداع والكفر سياسي مَحْضٌ. كان أولاً لتنفير
المسلمين منهم لاستيلائهم على الحجاز وخوف الترك أن يقيموا دولة عربية إلخ؛
ولذلك كان الناس يهيجون عليهم تبعًا لسخط الدولة، ويسكتون عنهم إذا سكنت ريح
السياسة، إلى أن جددها الملك حسين في الحجاز وولده الملك فيصل في العراق
وولده الأمير عبد الله في سورية وفلسطين بعد توليتهم لأمور هذه البلاد.
أصدر الملك حسين عدة منشورات في جريدته (القبلة) في 9 شوال سنة
1336 وغرة ربيع الأول سنة 1337 و8 جمادى الأول منها رماهم فيها بالكفر،
وتكفير أهل السنة، والطعن في الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم … وقد
صرح في الثاني منها بأن حكومته رأت أن تمحو بدعتهم بالأصالة عن نفسها
وبالنيابة عن سائر المسلمين … وفي الثالث (أنه لا بد للسلطان من قتالهم بكل
موجوديته) إذا لم ينفع ما بدأ به من الدفاع لمحو بدعهم وكفرهم. ويعني بالسلطان
نفسَهُ، فإنه يرى أنه إمام المسلمين وسلطانهم. وفعل الملك فيصل ما فعل في
العراق وكان من مؤتمر الشيعة في كربلاء ما كان، ثم رأينا بعض أهل دمشق
وبيروت يتقربون إليه وإلى ولده الأمير عبد الله بطبع الرسائل في تكفيرهم ورميهم
بما يرميهم هو به وما بُهِتُوا عند ظهور أمرهم ويزيدون، حتى قال بعضهم: إن
محمد عبد الوهاب كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم ويريد أن يدعي النبوة! !
دع أقوال من يزعمون أنهم ينكرون الشفاعة والكرامات كالمعتزلة، وقد اشتهر أن هذا
كله بإغراء الأمير عبد الله. ثم سرى ذلك إلى مصر وظهر له أثر في بعض
الجرائد من حيث لا يدري أصحابها من أين جاء. وقد رد على هذه الرسائل بعض
علماء الشام، ووصل الأصل والرد إلى نجد فجمع بعض علمائها عدة رسائل لمتقدمي
علمائهم ومتأخريهم طبعت في مطبعتنا، فرأينا أن نقتبس منها ما يأتي ليعلم
المطلعون عليه حقيقة أمرهم ومنشأ بهتهم والافتراء عليهم، وهو:
نموذج من مناظرة الشيخ عبد الله
ابن الشيخ محمد عبد الوهاب
لعلماء مكة
وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن
الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود
وخاصته من أهل المعرفة ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها من
دون حياء ولا خجل لعدم سابقة جرم له.
فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقنا
طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال: طريقة
الخلف أعلم، وهي أنّا نُقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها، ونكل علمها إلى
الله مع اعتقاد حقائقها، فإن مالكًا وهو من أجلّ علماء السلف لما سئل عن الاستواء في
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: الاستواء معلوم،
والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد،
فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب رتب عليه الثواب فضلاً،
والعقاب عدلاً، لا يجب على الله لعبده شيء، وأنه يراه المؤمنون في الآخرة بلا
كيف ولا إحاطة. ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا
ننكر على مَن قلَّد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة
والزيدية والإمامية ونحوهم [1] لا نُقِرُّهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة [2] ؛
بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.
ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعيها، إلا أنَّا في بعض
المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصَّص ولا
معارَض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث
الجد والإخوة، فإنَّا نقدم الجد بالإرث، وإن خالفه مذهب الحنابلة.
ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا إذا اطلعنا على نص جلي
مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة
فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس
بين السجدتين؛ لوضوح ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره
بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف
المذهب وذلك يكون نادرًا جدًّا، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المذاهب دون
بعض، ولا مناقضة لعدم الاجتهاد المطلق. وقد سبق جمع من أئمة المذاهب
الأربعة لاختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه.
ثم إنَّا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلِّها لدينا
تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير والشافعي، وكذلك البغوي والبيضاوي
والخازن والحداد والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشرح الأئمة المبرزين
كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع
الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصًا الأمهات الست وشروحها، ونعتني
بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعًا، وقواعد وسِيَرًا ونحوًا وصرفًا وجميع
علوم الأئمة، ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً إلا ما اشتمل على ما يوقع
الناس في الشرك كروض الرياحين. وما يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق
فإنه قد حرَّمه جمع من العلماء [3] على أنا لا نفحص عن مثل ذلك وكالدلائل (؟)
إلا إن تظاهر به صاحبه معاندًا أُتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو من إتلاف بعض
كتب أهل الطائف إنما صدر من بعض الجهلة وقد زُجِرَ هو وغيره عن مثل ذلك.
ومما نحن عليه أنا لا نرى سبي العرب ولم نفعله ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى
قتل النساء والصبيان.
وأما ما يُكْذَب علينا سترًا للحق وتلبيسًا على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا،
ونأخذ من الحديث ما وافق أفهامنا، من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ،
وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره،
وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا
يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد:
19) مع كون الآية مدنية، وأنَّا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف مؤلفات أهل
المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق
أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أن لا
نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه بأنه كان مشركًا، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله،
وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور
المشروعة مطلقًا، وأن مَن دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى
الديون، وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبرهم على تزويج
غير الكفء لهم،، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شابًّا
إذا ترافعوا إلينا.
فلا وجه لذلك!! فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفُهمنا عنها. من ذكر أو
لا وكان جوابنا في كل مسألة من ذلك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) .
فمن روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد
حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعيًّا أن جميع ذلك وضعه علينا
وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد
لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعًا من الكبائر كقتل المسلم بغير حق
والزنا والربا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة
الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدًا بجميع أنواع العبادة.
والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين
على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء؛ للنصوص عليها
في التنزيل؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن
زيارته إلا إنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه - وإذا قصد مع ذلك
الزيارة فلا بأس - ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه- عليه الصلاة
والسلام - الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين، وكُفِيَ همَّه وغمَّه كما جاء في الحديث
عنه.
ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدًى من ربهم،
مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئًا
من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يُطْلَب من أحدهم الدعاء في
حال حياته بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث: (دعاء المرء المسلم مستجاب
لأخيه) الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعليًّا بسؤال الاستغفار من أويس
ففعلا.
ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد،
وكذا نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضًا،
ونسألها من المالك لها والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها
كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعًا إلى الله تعالى: اللهم شفِّع نبينا محمدًا صلى الله
عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو
نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو: بولي الله أسألك
الشفاعة أو غيرها، كأدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي، ونحو
ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلبت ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان
من أقسام الشرك؛ إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح
على ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: ما تقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟ قلت: ننظر إلى حال
المُقْسِم إن قصد به التعظيم كتعظيم الله أو أشد كما يقع لبعض غلاة المشركين من
أهل زماننا إذا استحلفه بشيخه - أي معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه - لا
يرضى أن يحلف إذا كان كاذبًا أو شاكًّا، وإذا استحلف بالله فقط رضي - فهو كافر
من أقبح المشركين وأجهلهم إجماعًا. وإن لم يقصد التعظيم بل سبق لسانه إليه فهذا
ليس بشرك أكبر، فيُنهى عنه ويُزجر ويؤمر صاحبه بالاستغفار عن تلك الهفوة.
وأما التوسل وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد
صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين أو بحق عبدك فلان،
فهذا من أقسام البدعة المذمومة، ولم يرد بذلك نص كرفع الصوت بالصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم عند الآذان.
وأما أهل البيت فقد ورد سؤال على الدرعية في مثل ذلك وعن جواز نكاح
الفاطمية غير الفاطمي وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت رضوان الله عليهم
لا شك في طلب حبهم ومودتهم؛ لما ورد فيه من كتاب وسنة فيجب حبهم ومودتهم،
إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير
والتكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك إذا تقارب أحدهم مع
غيره في السن أو العلم، وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم
على من هو أمثل منه حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه وصارمه أو ضارَّ
به أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص ولا دل عليه دليل بل منكر تجب إزالته،
ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات أو لطول
غيبة فلا بأس به، إلا أنه لما أُلِفَ في الجاهلية الأخرى أن التقبيل صار علمًا لمن
يعتقد فيه أو في أسلافه أو عادة المتكبرين من غيرهم - نهينا عنه مطلقًا لا سيما لمن
ذُكر حسمًا لذرائع الشرك ما أمكن.
وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة وقبة المولد وبعض الزوايا المنسوبة لبعض
الأولياء حسمًا لتلك المادة، وتنفيرًا عن الإشراك بالله ما أمكن لعظم شأنه فإنه لا
يغفر [4] ، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى؛ إذ الولد كمال في حق المخلوق،
وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق؛ لقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ
أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} (الروم: 28)
الآية.
وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي فجائز إجماعًا، بل ولا كراهة في ذلك وقد
زوج عليٌّ عمرَ بن الخطاب وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن
علي بأربعة ليس فيهم فاطمي بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من
دون إنكار؛ إلا أنا لا نجبر أحدًا على تزويج موليته ما لم تطلب هي وتمتنع من
غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض، فما اعتيد في بعض البلاد من المنع
دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير كما ورد [5] ، بل
يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد وهو من الموالي زينب أم المؤمنين [6]
وهي قرشية، والمسألة معروفة النقول عند أهل المذهب. انتهى [7] .
(فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له) : يلزم من تقريركم
وقطعكم في أن من قال: يا رسول الله أسألك الشفاعة- أنه مشرك مهدر الدم- أن
يقال بكفر غالب الأمة ولا سيما المتأخرين لتصريح علمائهم المعتبرين أن ذلك
مندوب وشنوا الغارة على من خالف في ذلك؟
(قلت) لا يلزم ذلك لأن لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرَّر، ومثل
ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو كما ورد الحديث بذلك، ونحن
نقول فيمن مات: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} (البقرة: 134) ولا نكفر إلا مَن بلغته
دعوتنا للحق ووضحت له المحجة وقامت عليه الحجة وأصر مستكبرًا معاندًا كغالب
من نقاتلهم اليوم يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات،
ويتظاهرون بأفعال الكبائر المحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته لمن هذه
حاله ورضاه به، ولتكثير مواد من ذكر والتغليب معه فله حينئذ حكمه في حِل قتاله،
ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع
في ذلك ممنوع قطعيًّا، ومن شن الغارة فقد غلط، ولا بدع أن يغلط فقد غلط من هو
خير منه كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة
المهر وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع ونبينا
صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم سارٍ فيهم نوره فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما
لهم ذات أنواط.
(فإن قلت) : هذا فيمن ذهل فلما نُبِّهَ انتبه فما القول فيمن حرَّر الأدلة،
واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مُصِرًّا على ذلك حتى مات؟
(قلت) : ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه
مخطئ، وإن استمر على خطأه؛ لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته بلسانه
وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على
زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسًا، ومن
اطلع عليه أعرض عنه قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم
عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا
من شاء الله منهم.
هذا وقد رأى معاوية وأصحابه رضي الله عنهم منابذة أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب رضي الله عنه بل وقتاله ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون
بالإجماع واستمروا في ذلك الخطأ حتى ماتوا ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير
أحد منهم إجماعًا، بل ولا تفسيقه بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وإن كانوا مخطئين
كما ذلك مشهور عند أهل السنة.
ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته وشهر صلاحه، وعلم ورعه
وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة
والتأليف فيها وإن كان مخطئًا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي فإنا
نعرف كلامه في (الدر المنظم) ولا ننكر سعة علمه ولهذا نعتني بكتبه كشرح
الأربعين والزواجر وغيرهما ونعتمد على نقله إذا نقل؛ لأنه من جملة علماء
المسلمين.
هذا ما نحن عليه مخاطبين به مَن له عقل أو علم وهو متصف بالإنصاف،
خالٍ عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال لا إلى من قال، وأما
من شأنه لزوم مألوفه وعادته سواء كان حقًّا أو غير حق فقلد من قال الله تعالى فيهم
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) عادته
وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف
حتى يستقيم أوده، ويصح معوجه، وجنود التوحيد بحمد الله منصورة، وراياتهم
بالسعد والإقبال منشورة {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
227) {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: 56) وقال تعالى: {وَإِنَّ
جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: 173) {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) .
__________
(1) إن كلمة الرافضة التي وضعت لغلاة الشيعة تشمل الباطنية وآخرين دون الزيدية ومعتدلي الإمامية والظاهر أن صاحب هذه الرسالة ووالده لم يطلعوا على كتب الزيدية في الفقه ولو اطلعوا عليها لعلموا أن فقههم مدون وكذلك الإمامية، وأن الفرق بينه وبين فقه الأربعة قليل قلما قال أحد مجتهديه قولاً انفرد به وخالف الإجماع قبله، وكيف وهم يحتجون بالإجماع وبعمل السلف؟ وكذا بأحاديث دواوين السنة المشهورة كالكتب الستة وقد كان مشايخنا يقولون كما قال مشايخ نجد: إن سبب حصر التقليد في فقه الأربعة دون سائر مجتهدي الأمة هو تدوين مذاهبهم دون غيرها. وهذا غلط سببه عدم الاطلاع وكتبه مصححه.
(2) أي لا نقر - بصفتنا حكام البلاد - أصحاب المذاهب غير المضبوطة أن يظهروا شيئًا من مفاسدهم الفاسدة بالإجماع كأقوال الباطنية بأن لأحكام العبادات معاني غير الظاهر الذي عليه العمل، وبوجود إمام معصوم في كل عصر يجب اتباعه في كل ما يقول وكَسَبِّ غلاة الرافضة للشيخين رضي الله عنهم وبراءة الخوارج من الصهرين رضي الله عنهم، ومقابل قوله: (ظاهرًا) أنهم لا يحاسبون أحدًا على ما يخفيه من أمثال هذه المسائل.
(3) إنما حرموا بعض كتب المنطق القديمة الممزوجة بالفلسفة اليونانية الباطلة دون ما ألَّفه المسلمون ولم يمزجوه بذلك.
(4) ذكر الإمام الشافعي في الأم أن ولاة مكة كانوا يهدمون ما بني في مقبرتها من القبور ولا يعترض عليهم الفقهاء ونقله عنه النووي في شرح مسلم عند شرح ما ورد في هذا المعني من الأحاديث، وفي (الزواجر) لابن حجر الهيتمي أن اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا والطواف بها واستلامها والصلاة إليها كلها من كبائر المعاصي (راجع الكبيرة 93-98) وبعد أن أورد بعض الأحاديث الصحيحة في ذلك ذكر كلام الفقهاء الشافعية والحنابلة ومنه أنها من أسباب الشرك، وآخره قولهم: (وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد
الضرار؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم) بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه. اهـ. ص 163 من الجزء الأول- طبع المطبعة الوهبية بمصر سنة 1292.
(5) أشار إلى حديث: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وفي رواية (إذا خطب إليكم) .
(6) أي قبل أن صارت أم المؤمنين كما هو معلوم.
(7) انتهى ما أفتى به في الدرعية وهي بلد الشيخ محمد عبد الوهاب والد المؤلف ومركز تلك النهضة، وهل الفتوى لوالده في زمنه أم كان هناك مفتٍ خاص بعد الشيخ أو جماعة؟ الله أعلم.(24/584)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاستفتاء في مَلك الحجاز
موقفه الحاضر. سلطته، ومحالفته دولة مسيحية على أن تحمي الحجاز
وتمتاز فيه على المسلمين، ضربه الضرائب على الحجاج، ومصادرة أموالهم،
ومنعه من شاء أن يحج بيت الله. صفات سلطته، خدعة استقلاله. صفته
الحقيقية وحكم الشرع فيها. الوحدة العربية. ما يجب على المسلمين في أمر
الحجاز.
استفتينا في هذه المسائل قولاً وكتابة في الجرائد كما استُفتِيَ غيرُنا فوجب
علينا أن نجيب بما نعلم فيها؛ إذ لم نر أحدًا أجاب عنها كلها، وقلما يوجد من أحاط
بما أحطنا به منها، فنقول:
موقفه الحاضر:
أسرف حسين بن علي المتغلب على الحجاز في استبداده، وفي احتقاره للعالم
الإسلامي كله كاحتقاره لأهل الحجاز المستضعفين، وحَسِبَ أن حرمَ الله تعالى
وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم مِلكٌ له يتصرف فيهما كما يشاء، ويستغلهما كيفما
أراد، وأنه متى نال تعضيد الدولة البريطانية وحمايتها، لا يبالي بأحد من دونها،
بل هو يعد الحجاز وسائر بلاد العرب جزءًا من إمبراطوريتها. ورضي أن يكون
هو وولداه فيصل وعبد الله من عمالها، بدليل أنه طلب منها مرارًا أن تولي غيره،
وتختار له ولأولاده مكانًا آخر يقيمون فيه، ونشر ذلك في جريدته (القبلة)
وسيجيء نص عبارته في ذلك (وإن سبق نشره في المنار) .
والأصل في هذا عنده ما يسميه (مقررات النهضة) وهي ما اشترطه على
الإنجليز للقيام بالثورة والخروج على الدولة، ومنها حماية الإنجليز للبلاد في داخلها
وخارجها، حتى في حال الفتن الداخلية بين أهلها. ومنها الاعتراف بجعل الأمة
العربية في حكم القاصر في حجر الدولة البريطانية. وقد كان يكتم هذه المقررات
حتى نشرها ولده فيصل في دمشق والشام، فلما رأى أنه لم ينكرها عليه أحد من
المسلمين غير صاحب المنار، توهم أن العالم الإسلامي لا يهتم بأمر الحجاز، أو لا
يتجرأ على إنكار شيء تتفق عليه الجلالة الهاشمية مع العظمة البريطانية (هذا
تعبيره) حتى بدا له في هذه الأيام ما لم يكن في الحسبان.
تلك (المقررات) كانت قد دارت في شأنها مكاتبات بينه وبين المستر هنري
مكماهون الذي كان يسجل عليه كل ما اعترف به من الحقوق للدولة البريطانية
ويتحفظ من التصريح له بما طلب لنفسه من توليته على جميع البلاد العربية في ظل
الوصاية البريطانية، فاستثنى منها معظم سورية الشمالية وكليكية، واحتفظ بحقوق
بريطانية في العراق (إلى آخر ما هنالك) وقد نشرنا هذه المكتوبات بنصها في
مجلد المنار الثالث والعشرين. وسنذكر بعضها هنا، ونرى أنه لولا السكوت فيها
عن استثناء فلسطين من الدخول في المملكة العربية التي وعد بها لنفذت تلك
المقررات الموبقات، ولكن رغبة الإنجليز في حمل الملك حسين على الاعتراف لهم
بفلسطين وما يلزمه من إقرار وعدهم لليهود بجعلها وطنًا قوميًّا لهم، هي التي
دعتهم إلى وضع معاهدة بينهم وبينه يعترف لهم فيها بفلسطين كالعراق وشرق
الأردن، ويلطفون فيها ما يذكر بشأن حماية البلاد العربية كلها، فلا يكون صريحًا
كمقررات النهضة المحتفظ بها.
طال أمد المراجعة والمناقشة في هذه المعاهدة؛ إذ كانت توضع بصيغة
فاضحة مفضوحة ليس للملك حسين فيها ما يرضاه ثمنًا لخزي ما يعترف به، حتى
أتيح للإنجليز أن يضعوا مع سمساره الدكتور ناجي الأصيل الصيغة الراضية
المرضية عنده التي أقام لها الاحتفالات في بلاده وأعلن الرضا بها واتخذ يوم
الاعتراف بها عيدًا قوميًّا وقبل التهاني عليها، ولقب بملك البلاد العربية ومؤسسها! !
وأراد خداع أهل فلسطين بأنه أنقذهم بها من اليهود كما أنقذ الحجاز وسائر البلاد
العربية من الترك لأجل إخماد الحركة الوطنية فيها، وهددهم بإلقاء المسئولية عليهم
إذا حصل ما يوجبها في البلاد، فنشرت السلطة البريطانية الحاكمة في فلسطين
خلاصة المعاهدة فكان هذا سببًا لإطلاع الناس كافة على سر المعاهدة المكتوم، فماذا
كان من تأثيره؟
هبَّ أهل فلسطين فعقدوا مؤتمرًا عامًّا احتجوا فيه على المعاهدة وقرروا أنه
ليس للملك حسين أن يعقد معاهدة يتقرر فيها شيء في أمر بلادهم بدون رأيهم ولا
رضاهم، وهب مسلمو مصر وغيرها من الأقطار ينكرون على الرجل أن يكون له
حق في عقد معاهدة تجعل الحرمين الشريفين تحت حماية دولة نصرانية أو تجعل
لرعاياها أدنى امتياز في الحجاز، فما فعل المعتدي المُفْتَات؟
كتب إلى الفلسطينيين يرجوهم أن يحسنوا الظن به ويفوضوا الأمر إليه
وهزئ وتهكم بإنكار المصريين عليه فرد عليهم في جريدته (القبلة) معبرًا عنهم
بكلمة (أخو ثومها وبصلها) فلما اشتد الإنكار والاحتجاج منهم بغيرة الدين أصدر
منشورًا رسميًّا جمع فيه بين تجهيلهم والتهكم بهم، وبين التعريض برميهم بالكفر بما
وضعوا من الدستور لحكومتهم، كما كفَّر الترك وحكومتهم من قبل بمثل ذلك. ولكن
أكثر المصريين لم يفهموا مراده هذا من منشوره لفساد لغته، وعدم علمهم برأيه في
القوانين والعاملين بها. فاشتغلوا بالتهكم بعبارته كما تهكم بهم بالإشارة إلى قول
الشاعر:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
ذلك بأن جريدة القبلة كانت قد نشرت مقالة في تكفير الدولة العثمانية في أول
العهد بالثورة الحجازية؛ لتكون من حجج أمير مكة العثماني بالخروج على دولته.
ثم أعادت نشرها في أوائل هذا العام الهجري عندما اشتد النزاع بين الحكومة
التركية الجديدة والحكومة البريطانية؛ انتصارًا من الملك الحجازي لدولته الحامية
له، واستدلت على كفر الترك بوضعهم للقانون الأساسي وبين أيديهم كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً} (النساء: 65) بل زعمت أنه لا يمكن لمن يزعم أنه يؤمن بما أنزل
على محمد صلى الله عليه وسلم التردد في حصول الحرج مما قضاه (في الذين
ألفوا القانون الأساسي وسنوا أحكامه ورضوه وارتضوه وجعلوه دستوراً للأعمال
والأحكام. ولا مشاحة والحالة هذه في أنهم لا غاية ولا قصد لهم من اعتنائهم
بجمعه وتنسيقه إلا دعوى أن هنالك نقصًا أو خطأً - والعياذ بالله تعالى - في كتاب
الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه فأرادوا إكمالهما وتعديلهما وإلا
فلماذا؟) .
هذا أحد نصوص جريدة القبلة في تكفير الترك بوضع الدستور، وهو يتضمن
تكفير من لم يكفرهم به. ثم استدلت أيضًا بعدم إقامتهم لحدود الزنا والسرقة
للقصاص الشرعي ومن شاء فليراجع العددين 617 و 624 من جريدة القبلة أو
المقالات التي رد عليها بها (السيد العلوي) ونشرت في جريدة الأخبار المصرية
في شهري صفر وربيع الأول من هذا العام ومنه يعلم مغزى استفتاء تهكم بلاغة
عسلطته [1] الهاشمية (ويا للأسف) في قوله: (تأليف الدستور - وبين أيديهم
كتاب الله وسنة رسوله) .
وبعد أن بيَّن للمصريين مكانتهم من الدين عنده أراد أن يبين لهم مكانة
حكومتهم لدى جلاله، وقدر استقلالها في جنب استقلاله، فعارضها في إرسال بعثة
طبية من الحجيج المصري تنقص من استقلاله، وكان يقدر أنها تخضع لعزة
سلطانه كما خضعت في مسألة الحجر الصحي، ولم يخطر بباله أن تفعل ما فعلت،
أما وقد فعلت فكل شيء أسهل عليه من الرجوع عن قول قاله أو رأي أرتاه وعرف
عنه، لذلك أقدم على المشاكسة التي أدت إلى حرمان ركب المحمل الرسمي مع بَعْثِهِ
الطبي من أداء فريضة الحج وحرمان أهل الحجاز مما كانوا يربحونه منهم بغير
مبالاة بسوء العاقبة وقبح الأحدوثة.
فهذا ملخص موقف الرجل في الحجاز: إصرار على عقد المحالفة مع
الإنجليز وتعجيل بما أباحته له من ضرب الضرائب على كل من يريد الحج إلى
بيت الله الحرام قبل دخول الحجاز، ومصادرة لأموالهم بعد دخوله، واستبداد في
أمر صحتهم، ومنع لمن شاء من الحج لأسباب سياسية أو مالية أو وهمية، كما منع
أهل نجد عدة سنين.
صفات سلطته في الحجاز:
وأما سلطته فلها أربع صفات: (الأولى) صفته عند الإنجليز ومن اعترف
بحكومته من الإفرنج، وهو أنه ملك مطلق ذو حكومة شخصية مستبدة، فكل ما
يعقدونه معه من اتفاق أو عهد أو امتياز يكون نافذًا، ولهم أن يطالبوا به مَن بعده
وإن تغير شكل الحكومة الحجازية، وهم في هذا مخطئون.
(الثانية) : صفته في نظر جمهور العالم الإسلامي، وهو أنه خارجي
متغلب خرج على سلطانه وخليفته كما يخرج البغاة وسيأتي بيان حكم الشرع في
ذلك.
(الثالثة) : صفته في نظر أهل الحجاز، وهو أنه ملك مستبد قاهر أزال
سلطة حكومتهم السابقة فاضطروا إلى مبايعته ولكنهم اشترطوا فيها شرطًا عاهدوه
عليه فنكث، فهم الآن في حل من مبايعته شرعًا، ولكنه متغلب عليهم بالقهر، وإن
سمى نفسه (منقذًا) ويتمنون أن يقيض لهم الله تعالى من ينقذهم من هذا (المنقذ) .
وإننا نعيد هنا نص المبايعة الرسمية له كما وضعت في العريضة التي كتبها
قاضي القضاة وقرأت في حفلة المبايعة في غرة المحرم سنة 1335 منقولة عن
جريدة القبلة التي صدرت في 3 المحرم من ذلك العام وهو:
(وإننا نبايع سيدنا ومولانا الحسين بن علي ملكًا لنا نحن العرب يعمل بيننا
بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونقسم له على ذلك يمين الطاعة
والإخلاص في السر والعلانية، كما أننا نعتبره مرجعًا دينيًّا لنا أجمعنا عليه ريثما
يقر قرار العالم الإسلامي على رأي يجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية.
نبايعك على هذا يا صاحب الجلالة ونقسم لك بالله العظيم على طاعتك والرضا
بك والانقياد إليك في السر والعلانية. ولك علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقمت
الدين، واجتهدت فيما فيه صلاح العرب والمسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى
نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) ا. هـ
ومن البديهي أنه ما أقام الدين ولا يستطيع أن يقيمه؛ لأنه جاهل به وبلغته
التي يتوقف فهمه عليها بدليل فساد لغة مكتوباته واشتمالها على الأحاديث التي لا
أصل لها وعلى تحريف القرآن - والعمل يتوقف على العلم - ولأنه مستبد، والدين
قيَّد الحكام بالشرع وبالشورى. ولأنه جعل لغير المسلمين في الحجاز نفوذًا
وامتيازات مخالفة لأحكامه ولوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته؛
ولأنه ضرب المكوس على الحجاج بدون مسوغ شرعي كما تقدم، إلى غير ذلك من
مظالمه واستبداده.
(الرابعة) صفته عند ولده الأمير عبد الله وبعض رجال حكومته وهي أنه
أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ولديه هو في هذا صحيفة معلقة في ديوانه
الهاشمي فيها أسماء مئات من أحياء السوريين وأمواتهم قد بايعوه فيها بالخلافة جاءه
بها أحد سماسرته في أيام مشاركة الجيش الحجازي لجيوش الحلفاء في احتلال
سورية، وقد أخبرنا بعض ثقات الدمشقيين الذين رأوها أنها مزورة. على أننا نعلم
أن ولده فيصلاً كان قد أخذ له البيعة على كثير من أهل سورية في ذلك العهد،
وأمثال هذه المبايعات لا قيمة لها؛ لأنها ليست من أهل الحل والعقد، ولا مراعى
فيها سائر أحكام الشرع.
مثال ذلك: أنهم بايعوه مع وجود خليفة قبله في الآستانة، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: (إذا بُويِعَ لخليفتين فاقتلوا الآخر) رواه مسلم عن أبي سعيد
الخدري.
(يقولون) : إن خلافة ذلك التركي غير صحيحة؛ لأنه غير قرشي
(ونقول) : إن خلافة صاحبكم غير صحيحة؛ لأنه فاقد لما هو أهم من شرط
القرشية كشروط العلم الاجتهادي والعدالة والمنعة، ولعدم مبايعة أهل الحل والعقد له،
ولذلك بنى سلطته على حماية دولة نصرانية يعد ملكها حامي الإيمان المسيحي ودعاة النصرانية.
(يقولون) : إن خليفة الآستانة كانت هذه الدولة وغيرها قد احتللن عاصمته
وفقد الاستقلال والمنعة، ثم خلعه قومه وأسسوا لأنفسهم حكومة جمهورية وسموا
أحد أفرادهم خليفة ولكن لم يجعلوا له أمرًا ولا نهيًا، فلا يناط به إقامة أحكام الشرع
وحدوده، ولا حفظ البلاد الإسلامية من الأعداء، وقد اعترفوا بعد ذلك باستقلال
بلاد الحجاز وبالحالة الحاضرة في سائر البلاد العربية حتى المحتلة منها، فوجب
علينا أن لا نعطل حكم الخلافة الإسلامية في مهد الإسلام.
(ونقول) : إن لديكم في البلاد العربية المجاورة لكم إمامًا قرشيًّا علويًّا
عالمًا مجتهدًا عادلاً ذا منعة قاتل الإنجليز مع الترك ولم يتغلب على بلاده أجنبي غير
مسلم، بل أصبحت حكومته الآن أقدم حكومة إسلامية مستقلة تسلسلت فيها
الإمامة الإسلامية من القرن الثالث للهجرة كما صرح به شيخ الإسلام الحافظ ابن
حجر في شرحه لصحيح البخاري في سياق حديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش
ما بقي منهم اثنان) وجعلهم مصداقًا للحديث.
فإن كنتم صادقين في زعمكم أنكم غير طامعين في الملك والرياسة كما أذاع
رئيسكم مرارًا في جريدة القبلة فلماذا لم تضموا الحجاز إلى اليمن وتبايعوا إمامها
الذي عقدت إمامته منذ عشرات من السنين، وحينئذ يضطر صاحبا نجد وعسير
إلى الارتباط بهذه القوة والاتحاد بها، ولا سيما إذا دعيا إلى بناء قواعد الوحدة
العربية على أساس اللامركزية التي يستحيل جمع الكلمة في هذا العصر بدونها،
ومتى تمت الوحدة في الجزيرة كان ذلك تمهيدًا لتحقيقها في غيرها، مع الاستقلال
المطلق من قيود النفوذ الأجنبي بله الحماية وخزيها. ولكنكم أناس لا تطلبون إلا
الرياسة والعظمة الصورية لأنفسكم؛ وإذ كنتم عاجزين عن الوصول إليها بقوتكم
توسلتم إليها بالأجنبي، وفضلتم أن تبيعوه استقلال الأمة العربية بتيجان يتوجكم بها
في ظل إمبراطوريته على حفظ هذا الاستقلال لها بالحق.
خدعة الاستقلال:
يخدع أهل هذا البيت أقوامهم بأنهم أنقذوهم وجعلوهم أمة مستقلة، ولا يزالون
يهذون بكلمة الاستقلال التي ابتذلت وامتُهِنَتْ بإطلاقها على شر ضروب الاستعمار
والاستعباد. ولو لم تنشر (مقررات النهضة) التي أشرنا إليها، وبعض مكتوبات
الملك حسين للإنجليز التي صرح فيها بأنه عامل من عمالهم - لكان لنا أن ننخدع بأنه
مستقل في بلاد الحجاز، وإن كان الإنجليز يعدونها من مستعمراتهم، وقد أنشأوا لها
محافظة سرية سموها محافظة البحر الأحمر. وإننا نعيد في هذا المقال الوجيز نبذة
من كتاب (الملك المستقل العظيم) وبرقية من برقياته الدالة على كنه استقلاله
(وكنا نشرناها من قبل) .
كتب إلى نائب ملك الإنجليز بمصر كتابًا نشرته جريدة القبلة مرارًا متبجحة
به زاعمة (أن الأمم تتباهى بالجزئية مما احتواه تحرير مولاه المنقذ) ؟ وتمثلت
بقول الله عز وجل من غير حياء منه تعالى ولا وَجل: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) .
أعني ذلك الكتاب الذي تضرع فيه (صاحب الجلالة الهاشمية) لنائب ملك
الإنجليز بأن لا تعدِّل حكومته (مقررات النهضة) التي أشرنا إليها آنفًا الناطقة
بتأسيس المُلك العربي له في ظل ذل الوصاية وخزيها، الذي يقول فيه ما نصه
السقيم:
(فإن كان ولا بد (؟) من التعديل فلا لي (؟) سوى الاعتزال والانسحاب،
ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا إلا أنه أمر (؟) يتعلق بالحياة لا
لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وأنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها
الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء، ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها
بالسفر إليها في أول فرصة (؟)
(وإن رأت ذلك ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقتضي بتأجيله إلى ختامها،
فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما سيتضاعف علينا من التهمات
ونحوه من العموم (؟) مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حسن النية - فالأمر إليها) .
(وأما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح، فالجواب عليه من الآن بأنه لا
علاقة لنا به ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر المؤتمر
المذكور إضعاف مقرراتنا وكان ذلك من غير وساطتكم وقبلناها فنكن (؟) من
المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا) . اهـ المراد منه.
وقد عزز الملك المتبجح بالاستقلال هذا الطلب الناطق بأنه موظف بريطاني
ببرقية بمعناه أرسلها إلى جريدة التيمس، وهذا نصها منقولا عن العدد 553 من
جريدة القبلة:
المدير العمومي لصحيفة التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب والتزامكم أحد
أمرائهم، ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير المذكور،
أو من تراه ليستلم البلاد، فإن غايتي الراحة العمومية وخدمتها كما يعلم من
أساسات قيامي وشرائطه يؤيده طلبي هذا المثبت للحقيقة من سائر وجهاتها)
الأمير المشار إليه في البرقية عدوه سلطان نجد، وقوله: (أساسات قيامي
وشرائطه) يعني به (مقررات النهضة) الخمس التي سبقت الإشارة إليها.
صفته الحقيقية وحكم الشرع فيها:
قد صرح بعض علماء الأزهر بما قلنا أنه صفة ملك الحجاز في نظر جمهور
المسلمين، وهو أنه من البغاة المتغلبين، وأحكام البغاة مفصَّلَة في كتب الفقه، وهي
مبنية على وجود دار العدل التي يقيم الشرع فيها إمام المسلمين الحق وجماعتهم،
والإمام الحق هو المستجمِع لشروط الخلافة كلها، المبايَع من جماعة أهل الحل
والعقد باختيارها، في حال عدم وجود إمام آخر قد بويع قبله بها. ولهم مع الإمام
والجماعة أحوال أشبهها بحال هذا الرجل ما يعلم حكمه من قول العلامة الماوردي
في (الأحكام السلطانية) قال:
(وإن امتنعت الطائفة الباغية من طاعة الإمام ومنعوا ما عليهم من الحقوق
وتفردوا باجتباء الأموال وتنفيذ الأحكام - فإن فعلوا ذلك ولم ينصبوا لأنفسهم إمامًا
ولا قدموا عليهم زعيمًا: كان ما اجتبوه من الأموال غصبًا لا تبرأ منه ذمة، وما
نفذوه من الأحكام مردودًا لا يثبت به حق) .
(وإن فعلوا ذلك وقد نصبوا لأنفسهم إمامًا اجتبوا بقوله الأموال، ونفذوا
بأمره الأحكام: لم يتعرض لأحكامهم بالرد إلا لما اجتبوه بالمطالبة، وحُورِبُوا في
الحالين على سواء؛ لينزعوا عن المباينة، ويفيئوا إلى الطاعة، ثم بيَّن أن قتال
هؤلاء يخالف قتال المرتدين والمشركين من ثمانية أوجه) .
فإذا قلنا: إن الحال الأخير هي عين نازلة متغلب الحجاز وأنه يجب قتاله
على إمام المسلمين الأعظم (الخليفة) المؤيد بجماعتهم، فهذا الإمام هو الذي يجب
عليه أن يدعوه إلى الطاعة والاعتصام بالجماعة، ويقاتله على الإصرار على
البغي وعدم الإجابة، فأين هذا الإمام؟ ولماذا لم يفعل؟ وأين جماعة أهل الحل
والعقد الذين هم أهل الشورى عنده، والممثلين لسلطة الأمة في مراقبته وتأييده إذا
استقام على الطريقة، وتقويمه إذا زاع عنها، الذين حكمهم الخليفة الأول في ذلك
على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قد بينا في مباحث الخلافة تفرق المسلمين ونصب أئمة وسلاطين وأمراء
كثيرين لهم في بلاد العرب والعجم، ولكن لا نرى أحدًا منهم يتصدى الآن للقيام
بأعباء الإمامة العظمى العامة ويدعو جميع المسلمين إلى مؤازرته على ذلك بنظام
يرجى تنفيذه في مهد الإسلام وموطن مشاعره وأداء شعائره، فنطالبه بأن يلزم هذا
الباغي الملحد في الحرم الطاعة له ويقاتله على ذلك إن لم يستجب.
أما خليفة الآستانة فلم يبلغ درجة المتغلب بالقوة؛ إذ لم يعط من حقوق الخلافة
شيئًا، فلا حكم له ولا أمر ولا نهي ولا جيش ولا أسطول، وحكومة جمهورية أنقرة
الناصبة له قد أقرت الحالة الحاضرة في الحجاز في مؤتمر الصلح مع الحلفاء فهي
لا تبذل في إنقاذ الحجاز درهمًا ولا دينارًا، ولا تجرد له جيشًا ولا أسطولاً، أعني
أنها لا تريد، وإذا أرادت لا تقدر. ولكن يرجى أن تشترك مع غيرها من
الحكومات الإسلامية في تنفيذ ما يقرره مؤتمر إسلامي عام في مسألة الحجاز.
وأما إمام اليمن فهو قادر على إنقاذ الحجاز من هذا المتغلب وكذا سلطان نجد
ولا سيما بعد اتفاق هذا مع السيد الإدريسي ولكن هؤلاء يعلمون أن تصديهم لهذا
الأمر يحمل حسين بن علي على الاستعانة عليهم بمواليه وحلفائه الإنجليز الذين بنى
(مقررات نهضته) على حمايتهم له في داخل بلاده وخارجها فيكون في التصدي له
فتنة يرونها أرجح من مفسدة إقراره على سلطته العارضة، وهي مفسدة احتلال
الإنجليز لبلاد الحجاز، ولو بجيش يسمى مسلمًا، وقد بيَّنا من قبل أن خوفه من
جيرانه هو الذي حمله على جعل الحجاز تحت حماية الإنجليز.
وهاك ما جاء في نص المادة الثانية من (مقررات النهضة) التي أشرنا إليها
من قبل:
(تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي
مداخلة كانت بأي صورة كانت في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي
تعدٍّ بأي شكل يكون حتى لو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد بعض
الأمراء فهي تساعد الحكومة المذكورة (أي العربية الهاشمية) مادة ومعنى على رفع
ذلك القيام لحين اندفاعه) .
قلنا: إن كلاًّ من إمام اليمن وسلطان نجد قادر على إنقاذ الحجاز من هذا
الرجل فكيف إذا اجتمعا، ولكن الأول لا مطمع له في غير ملك اليمن، وكذلك كان
سلفه؛ ولذلك لم تتوجه همتهم إلى اتخاذ الوسائل لتعميم سلطة إمامتهم، على
اعتقادهم أن الإمامة الحق محصورة فيهم، ولعمر الحق إنهم كانوا أولى بها من
العباسيين والعبيديين (الفاطميين) لأنهم حافظوا على العلم الاستقلالي والعدالة
وسائر الشروط الشرعية على صراحة نسبهم، وسبب ذلك أو أهم أسبابه اعتمادهم
على عصبية الزيدية دون غيرهم، وما زالت عصبية المذاهب ضارة حتى فيما
يظن أصحابها أنها مفيدة فيه.
وأما الثاني فأكثر الناس يعتقدون أن المانع له من الاستيلاء على الحجاز
اصطناع الإنجليز له بالمال وتخويفهم إياه من تأليب الحجاز والعراق وعرب
فلسطين عليه إذا خالف رأيهم في ذلك، ويقولون: إنهم هم الذين صرفوه عن
الاستيلاء على مكة يوم سحق أكبر قوة أمكن للشريف جمعها وسوقها عليه بقيادة
ولده الأمير عبد الله عقب هدنة الحرب العامة وجلاء الترك عن المدينة المنورة.
ويقول بعض النجديين من بطانة سلطانهم وثقات رجاله: إن المانع الحقيقي له
من ذلك حبه للسلم وكراهته القتل مطلقًا؛ ولذلك أخضع آل الرشيد بالحصار الطويل
الذي كلفه أعظم النفقات في أشد أيام العسرة والغلاء، وكان قادرًا على إخضاعهم
بالمُنَاجَزَة بنفقة قليلة. وقال بعضهم: إننا ألححنا عليه عند سحق قوة الشريف في
طربة بأن يستولي على مكة المكرمة فلم يقبل وتحرَّجَ أن يدخلها فاتحًا مع قول النبي
صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من الحديث الصحيح المشهور: (وإنه لم يحل القتال
فيه لأحد قبلي ولم يحل إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) .
وأقول: إن هذه المسألة تدخل في مسائل الاستفتاء عما يجب على المسلمين
من إنقاذ الحرمين فيجب أن نبين أقوال أئمة الشرع فيها.
قال الحافظ ابن حجر فى الكلام على هذا الحديث من شرحه لصحيح البخاري:
واستُدل به على تحريم القتل والقتال في الحرم. وبعد أن ذكر الخلاف في مسألة
القتل حتى إقامة الحد الشرعي في الحرم قال:
(وأما القتال فقال الماوردي: من خصائص مكة أن لا يُحَارَبَ أهلها، فلو
بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز (أي قتالهم) وإن لم يمكن
إلا بالقتال، فقال الجمهور: يقاتَلُون؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى فلا يجوز
إضاعتها، وقال الآخرون: لا يجوز قتالهم بل يُضَيَّقُ عليهم إلى أن يرجعوا إلى
الطاعة. قال النووي: والأول نص عليه الشافعي. وأجاب أصحابه عن الحديث
بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه كالمنجنيق ونحوه بخلاف ما لو تحصن
الكفار في بلد، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه. وعن الشافعي قول آخر بالتحريم
اختاره القفال وجزم به في شرح التلخيص، وبه قال جماعة من علماء الشافعية
والمالكية) .
(قال الطبراني: من أتى حدًّا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلي
الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيق عليه حتى
يذعن للطاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد
عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس) فعلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي
حلت له به وهو محاربة أهلها والقتل فيها، ومال ابن العربي إلى هذا. وقال ابن
المنير: قد أكد النبي صلى الله عليه وسلم التحريم بقوله: (حرمه الله) ثم قال:
(فهو حرام بحرمة الله) ثم قال: (ولم تحل لي إلا ساعة من نهار) وكان إذا أراد
التأكيد ذكر الشيء ثلاثًا قال: فهذا نص لا يحتمل التأويل) .
(وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم
بالقتال لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتل
والقتال لصدهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه
أبو شريح كما تقدم، وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن دقيق العيد: يتأكد
القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيه لم
يؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال لا القتال الخاص بما يعم
المنجنيق فكيف يسوغ التأويل المذكور؟ وأيضًا فسياق الحديث يدل على أن التحريم
لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها؛ وذلك لا يختص بما يستأصل) . اهـ
ما لخصه الحافظ من أقول العلماء في المسألة.
فعلم منه أن التحقيق أن الحديث على ظاهره فكل من القتل والقتال محرم في
أرض الحرم، وإذا كان قتل الطير والحيوان والحشرات - ما عدا الفواسق الخمس -
محرمًا فيه، فهل يكون قتل الإنسان مباحًا؟ وما الفرق بينه وبين غيره إذن؟ ولكن
الملك حسينًا قاتل الترك ولا يزال يقتل من يستحل قتله في نفس مكة إذا كان يعد
قتله حدًّا شرعيًّا بحسب رأيه، كما قطع يد من هرب من سجنه ورجله مدعيًا أنه
داخل في حكم المحاربين لله ورسوله والساعين في الأرض بالفساد ونحوه، وأمر
بصلب رجل في المدينة؛ لأنه أنكر على الخطيب تعظيمه له بما هو مأمور به من
الألقاب والنعوت، لهذه الشبهة.
فإن قيل: إن ترجيح هذا القول يستلزم جواز جعل الحرم الشريف الذي عظَّم
الله شأنه مأوى للقتلة واللصوص ومرتكبي الفواحش، وأنه إذا تغلب عليه الكفار لا
يُقاتلون لإخراجهم منه، وهو يؤدي إلى ضد ما أراد الله تعالى من تعظيمه وتكريمه
وتأمينه لإقامة شعائره وعبادته فيه.
فالجواب أن الوسيلة إلى ذلك قريبة المنال، وهي إلجاء أفراد الجناة أو جماعة
البغاة إلى الخروج منه بالإحاطة بهم في شقة الحرم الضيقة، وبالدخول على جماعة
البغاة بالقوة الكافية من غير قتال، فإن بدءوا هم بقتال أهل العدل فيه قُتِلُوا كما يقتل
من قتل فيه وانتهك حرمته من أفراد المجرمين عملاً بقول ابن عباس رضي الله
عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ} (البقرة: 191) .
وجملة القول في هذه المسألة أن القتال الشرعي ليس محرمًا في كل أرض
الحجاز، بل بقعة الحرم منها، وهي معروفة الحدود، فإذا أمكن لقوة عسكرية
الوصول إليها فهي لا تصل إلا بعد الإحاطة بكل قوة يمكن لحكومة الحجاز تجهيزها
للدفاع عنها. ولكن في تصدي بعض جيران الحجاز لذلك مفاسد غير ما أشرنا إليه
من تدخل الأجانب على أن كلاًّ منهم يضن بهذا المكان أن يدخل في سلطان الآخر،
وإن كانوا مجمعين على أن كلاًّ منهم خير من هذا الرجل الذي رضي أن يكون هو
وبيت الله وحرم رسوله تحت وصاية دولة طامعة في إزالة ملك الإسلام واستعباد
المسلمين أو تنصيرهم، ولن يرضى أحد منهم بمثل ذلك لأي بلد إسلامي - بله
الحرمين الشريفين - فليس من المصلحة إذًا أن يأخذ أحد منهم الحجاز بالقوة.
الوحدة العربية:
لو أن الملك حسينًا يريد الوحدة العربية التي يدعيها مع الاستقلال الصحيح
للعرب لما وُجدت هذه المسألة الحجازية التي هي أعظم مشكلة إسلامية ستشغل
جميع شعوب المسلمين إلى أن تُحَلُّ على وجه يرضيهم.
إن الطريقة المثلى أو الوحيدة للوحدة العربية هي أن يعقد حلف بين أمراء
الجزيرة في الحجاز وعسير واليمن ونجد أساسه استقلال كل حكومة ثابتة في إدارة
بلادها مع اتفاق الجميع على صيانة البلاد كلها من كل عدوان أو نفوذ خارجي
والتعاون على إنقاذ البلاد العربية التي احتلها الأجانب بالطرق الممكنة. وأن يكون
لهم مجلس حلفي تقرر فيه جميع المسائل العامة المتعلقة بحفظ استقلال البلاد
وترقيتها …
اقترحنا نحن وغيرنا هذا على الشريف حسين فأباه؛ لأنه يريد أن يكون ملكًا
لجميع هذه البلاد وخليفة للمسلمين بقوة الإنجليز لا بقوة العرب ولا غيرهم من
المسلمين، ولو قبل ذلك وسعى إليه وتم على يديه وثبت بالعمل أنه يرجح المصلحة
العامة للعرب والمسلمين على حب السيادة والملك - لرُجِيَ أن يكون هو رئيس مجلس
الحلف العربي؛ إذ لا يعقل أن يعقد هذا المجلس في غير مكة المكرمة، وهذه
الرياسة أفضل وأحسن عاقبة مما هو عليه الآن، ولو لم يكن فيه تحت وصاية دولة
أجنبية نصرانية، ولكنه فضَّل هذه الوصاية وأصر عليها وهو يتوقع أن يسود البلاد
العربية كلها بعد استقرار سلطته وسلطة ولديه بمقتضى المحالفة الجديدة في العراق
وشرق الأردن- بل فلسطين كلها على ما فَهم أو زَعم- وكذا سائر سورية كما وُعد
أو أُوهم.
فثبت بهذا أنه الخصم الأكبر للعرب والوحدة العربية واستقلال العرب كما أنه
الخصم الأكبر للإسلام بوجوده في الحجاز، ولكن جريدة مُذَبْذَبَةٌ لمأجور غير مسلم
يقول: إنه لا زعيم للعرب ولا أهل للخلافة الإسلامية إلا هذا الرجل، ولا يزال في
مسلمي سورية من يرضى بهذه الزعامة مهما تكن صفتها وعواقبها؛ لتألمهم من
السلطة الفرنسية وتوهمهم أنه مع الإنجليز ينقذونهم منها (؟ ؟) .
***
(ما يجب على المسلمين في أمر الحجاز)
مكانة الحجاز والحرم الشريف فيه:
ليس شأن الحجاز كشأن غيره من البلاد، فيقال: إن حكومته التغلب فيها
كغيرها، فالحجاز مهد الإسلام الأول ومهبط الوحي الأكمل، ومحل الشعائر الدينية
التي لا توجد في غيره، ومعهد إقامة الركن الاجتماعي العام من أركان الإسلام،
الممتاز عن غيره من الأركان. وهو مأرزه الذي يأوي إليه وينصره في آخر الزمان.
وقال أحد الأعلام في صفة مكة: دار النسك، ومُتَعَبَّد الخلق، وحرم الرب تعالى
الذي {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) والمسجد الحرام هنا المراد به الحرم كله. وقوله
سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) وفي الصحيح أنه أُسْرِيَ به من بيت أم هانئ.
وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ} (البقرة:
196) وليس المراد به حضور موضع الصلاة اتفاقًا، وإنما هو حضور الحرم
والقرب منه، وسياق آية (الحج) يدل على ذلك، فإنه قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعًا
بل المراد به الحرم كله، والذي جعله للناس كلهم سواء العاكف فيه والبادي، هو الذي
توعد من صد عنه ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه.
(فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى والمزدلفة لا يختص
بها أحد دون أحد بل هي مشتركة بين الناس؛ إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم - فهي
مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه، ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبْنَى
له بيتٌ بمنى يظله من الشمس وقال: (مِنَى مناخ من سبق) .
(ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي
مكة ولا إجارة بيوتها. هذا مذهب مجاهد وعطاء من أهل مكة ومالك من أهل
المدينة وأبي حنيفة من أهل العراق وسفيان الثوري والإمام أحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه رحمة الله عليهم) .
(وروى الإمام أحمد رحمه الله عن علقمة بن نضلة أنه قال: كانت رباع
مكة تدعى السوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر:
من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضًا عن عبد الله بن عمر (من أكل
أجور بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم) رواه الدارقطني مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وفيه: (إن الله حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها) .
وبعد أن أطال في أدلة هذا المذهب ذكر أدلة القائلين بجواز بيع بيوت مكة
وإجارتها كالشافعية الذين أجازوا القتل والقتال الشرعيين في الحرم، وأن التحقيق
الجمع بين القولين وهو أن المباني تملك دون الأرض، كمن يبني في سائر
الأراضي الموقوفة.
وقال إمام المفسرين ابن عباس رضي الله عنه في تفسير: {وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ
الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25) : المسجد الحرام
الحرم كله خلق الله فيه سواء. وفي رواية أخرى عنه: (سواء) يعني شرعًا
واحدًا {العَاكِفُ فِيهِ} (الحج: 25) أي أهل مكة في مكة أيام الحج {وَالْبَادِ} (الحج: 25) من كان من غير أهلها ممن يعتكف فيه من أهل الآفاق (قال) : هم
في منازل مكة سواء؛ فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم. وفي
رواية ثالثة: البادي وأهل مكة سواء في الحرم. وقال قتادة: سواء في جواره
وأمنه وحرمته، العاكف فيه أهل مكة، والبادي من يعتكفه من أهل الآفاق. فعلى
هذا لا يجوز التفرقة هنالك بين المسلمين بأن هذا وطني من رعايا الحكومة الهاشمية،
وهذا غير وطني من مسلمي الممالك الأجنبية. بل لا يمتاز هنالك ملك ولا سُوقَة
فكل المسلمين فيه سواء.
هذا وإن الله قد امتن على هذه الأمة بتأمين هذا الحرم الشريف في آيات من
كتابه كقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} (البقرة: 125) وقوله:
{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً
آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67) فيجب أن يظل هذا الحرم
الشريف في أكمل درجات الأمن والحرية لجميع المسلمين في أنفسهم وأموالهم
وأقوالهم وأفعالهم ما لم تكن معصية لله تعالى. وهو أحق بهذا من (لندن) عاصمة
الإنجليز التي يضرب المثل بحرية ساكنيها، وإن كانوا أعدى أعداء حكومتها
وأشدهم طعنًا فيها. وإذا منع الله تعالى فيه تنفير الصيد وترويع الحيوان الأعجم
والاعتداء على النبات بقلع أو قطع، فهل يحل أن يكون فيه ملك ذو جبروت
يضرب على حجاجه المكوس فلا يبيح لأحد أن يدخل حرم الله تعالى لعبادته إلا
إذا أعطاه كذا من النقد باسم التوقيع على جواز السفر أو الحجر الصحي أو بغير
ذلك من الأسماء؟ ثم تصادر أمواله إن كانت من الفضة؛ لأن هذا الملك أوجب أن
يكون سعر الفضة النسبي دون سعر الذهب، ثم تحيط به الجواسيس فإن رأى ظلمًا
أو منكرًا من أعمال الملك أو حكومته فأنكره لما فرض الله من النهي عن المنكر
قبض عليه ووضع في سجن شر من سجن الحجاج وعذب أقبح العذاب كما هو
الواقع الآن، بل مما يروي الثقات أن مِن الناس مَن يُعذب في ذلك السجن بمجرد
التهمة، كالرجل المغربي الذي كان رفيق الشريف شرف عدنان باشا، ومنهم من
يعذب لمذهبه حتى يموت صبرًا كالشيخ أبي بكر خوقير السلفي الحنبلي رحمه الله
تعالى، وقد كان السلف الصالح يعدون شتم الخادم في الحرم من الإلحاد فيه، وفي
الحديث (احتكار الطعام بمكة إلحاد) رواه الطبراني في الأوسط، وقال ابن عباس:
تجارة الأمير بمكة إلحاد.
ذلك وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود
غريبًا كما بدأ ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم من
حديث ابن عمر، والترمذي من حديث عمرو بن عوف بلفظ: (إن الإسلام ليأرز
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
من الجبل، إن الدين بدأ غريبًا وسيعود كما بدأ) وقد أوصى النبي صلى الله عليه
وسلم قبيل وفاته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، ونص على إخراج اليهود
والنصارى من جزيرة العرب على تسامحه مع أهل الكتاب في سائر ما يدخل في
ملك أمته من البلاد، وأكثر ما تساهل به بعض العلماء أن خصوا ذلك بالحجاز.
وحكمة هذه الوصية أن الله تعالى أعلم رسوله بما سيعاقب به أمته على ترك
ما شرعه لهم من إقامة العدل والحق من تداعي الأمم عليهم، والإدالة لهم منهم،
فأوصاهم بأن لا يدعوا لغيرهم سبيلاً إلى مهبط دينهم ومنشأ شريعتهم، ليبقى ملجأ
حرًّا لهم، لا يكون لغيرهم فيه نفوذ ولا وجود، ليجدد فيه الدين، ويكون مصدرًا
لإصلاح ما أفسد الناس منه - فهل يجوز أن يكون فيه ملك مستبد بالاستناد على
سلطة دولة غير مسلمة جعلها وصية عليه وعلى حرم الله ورسوله - على ما يعرف
الناس كافة عنها من طمعها في بلاد الإسلام والعناية بتنصير المسلمين - فيسلب
المسلمين فيه ما وهب الله تعالى لهم، ويهب لغيرهم فيه ما سلب الله تعالى منهم؟
ما يجب على المسلمين في أمر الحجاز:
أيها المسلمون إن الله تعالى قد جعل أمر مصالحكم العامة لكم، فما يزعم أهل
القوانين الوضعية من أن نظرية سلطة الأمة هي من إحداثهم زعم باطل، إنها أصل
من أصول الإصلاح الإسلامي التي أنزلها الله تعالى في كتابه ونفذها خاتم رسله
صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه الراشدون ومن اهتدى بهديهم ممن بعدهم وصرح
بها العلماء المحققون كما بيناه في كتاب مباحث الخلافة، ومن شواهد القرآن المجيد
في ذلك مخاطبة جماعة المسلمين بالأحكام العامة كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا
الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)
وقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) فجماعة الأمة هي التي
تنصب الخلفاء وهي التي تعزلهم، ودرء المفاسد العامة والقيام بالمصالح العامة من
فروض الكفاية على الأمة.
فيجب عليكم بما فرض الله عليكم من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر أن تقوموا بما يمكن من الوسائل لإنقاذ حرم ربكم وحرم رسولكم
صلى الله عليه وسلم من الظلم والاستبداد والسيطرة الأجنبية. ولتقرير الأمن فيهما
لأهلهما، ولكل مسلم يدخل في حماهما، بحيث يكون حرًّا آمنًا لا يخاف أحدًا إلا الله
تعالى، ولا يؤاخذ بشيء إلا بحكم شرعي من محكمة إسلامية مستقلة أتم الاستقلال
في أحكامها، لا سيطرة لملك ولا لغيره عليها، تتألف من علماء جميع الشعوب
الإسلامية - ولمنع الفتن والدسائس السياسية والنفوذ الأجنبي أن تسري إليهما، وإلى
جعل الحجاز قطرًا سلميًّا على الحياد لا يحارب أحدًا ولا يحاربه أحد بحيث تعترف
بذلك جميع الحكومات الإسلامية وغيرها، وإلى كفاية أهله الحاجة وإغناء أعرابه
عن التعدي على الحجاج وغيرهم بتأمين معايشهم ونشر العلم والدين فيهم، ثم إلى
جعل الحرمين الأشرفين مثابة للناس في تلقي العلوم والمعارف، كما أنهما مثابة لهم
في العبادة وأداء المناسك…
فكر أخوكم كاتب هذا المقال في هذه المسألة منذ سنين واقترح هذا الإصلاح
في المنار (ج 3 م 22 الذي صدر في 30 جمادى الأولى سنة 1339) وصرَّح
برجائه في الملك حسين أن يقبله ويبادر إلى تنفيذه برأي كبار الشرفاء والعلماء في
مكة بأن يضعوا له نظامًا ينشر في جريدة القبلة، وترسل نسخ منه مطبوعة إلى
المدن الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب والجنوب والشمال لأخذ رأي أهل العلم
والخبرة فيه، ويضرب موسم الحج القابل من ذلك العام موعدًا لتنفيذه، بعد جمع
الآراء وتمحيصها فيه بعرضها على لجنة تؤلف من خيار حجاج الأقطار علمًا ورأيًا،
فيكون هذا مؤتمرًا إسلاميًّا يقرر ما يراه من تعاون المسلمين على عمران الحجاز
وتسهيل طرقه، وتكثير موارده، ونشر العلم فيه وغير ذلك من المصالح والمنافع
إننا أعذرنا إلى ملك الحجاز بتفويض أمر هذا الاقتراح إليه قبل كل أحد، وأثبتنا
بهذا أننا نود لو يكون هذا الإصلاح على يديه على سوء ظننا فيه، ونأسف الآن أن
صدق ظننا فيه من كل وجه، فهو لم يرفع لهذا الاقتراح رأسًا، ولم يدرك أنه
أضمن لعظمته وجاهه من الحماية البريطانية، بتلك الاتفاقات السرية الشائنة،
والمعاهدات الجهرية الخادعة، ولولا أنه يفضل لذة الاستبداد الشخصي والإلحاد في
الحرم على كل إصلاح يشاركه فيه المسلمون لبادر إلى تنفيذه.
على أننا في ذلك الوقت قد وضعنا نظامًا لمشروع جمعية إسلامية تقوم بالسعي
لهذا الإصلاح الإسلامي العام على ما وصل إليه علمنا ورأي من أطلعناه على هذا
المشروع في مصر، وأرسلنا نُسَخًا من هذا النظام إلى أنقرة فاستُحْسِنَ فيها وظهر
أثر استحسانه في الجرائد بتصريح في معناه نطق به مصطفى كمال باشا، وما
منعنا من إظهار المشروع وتأليف الجمعية بالفعل إلا العلم بأن السلطة العرفية
البريطانية تشدد في مقاومته. ثم أعدنا نشر الاقتراح بما أودعناه في (الكتاب
المفتوح) الموجه من روح الإسلام والجامعة العربية إلى الحكومة البريطانية
والشعب الإنجليزي، إنذارًا لهما بأن لا يعتمدا على الملك حسين فيما تطمع فيه تلك
الحكومة من الحجاز وبلاد العرب وأن لا يُصِرَّا على ترجيح صداقته على صداقة
العالم الإسلامي والأمة العربية.
أما وقد خابت المساعي وفشلت جميع الوسائل لإقناع هذا المتغلب على الحجاز
بحفظه وصيانته من نفوذ الأجانب وحفظ سياجه من جزيرة العرب، وقد ظهر
للشعوب الإسلامية كلها أمره وما فيه من الخطر على مشاعر دينهم ومأواه ومأرزه
بجعله الحجاز تحت حمايتهم وتوطيده مع أولاده لنفوذهم وسلطانهم في قلب الجزيرة
من حدود مصر إلى خليج فارس - فالواجب عليهم شرعًا أن يسعوا إلى إنقاذه من
هذا الخطر وجعله قطرًا حرًّا حياديًّا لا سلطان عليه لغير الشرع العادل الذي أنزله
الله تعالى فيه بضمان العالم الإسلامي كله.
وقد بيَّنا في هذا المقال أن هذا الإنقاذ إذا صمدت له إحدى الإمارات العربية
المجاورة للحجاز يخشى أن يكون إثمه أكبر من نفعه ومفاسده أرجح من المصلحة
المطلوبة، وأنه لا يُرْجَى من دولة أخرى كالمصرية والتركية؛ لأن طريق البحر
إليه تحت سلطان الإنجليز حماة هذا المتغلب وأنصاره على المسلمين فلا يُمَكِّنُونَ
دولة أن تسوق إليه جندًا.
وإذ كان الأمر كذلك تعين لإنقاذ الحجاز سعي جميع الحكومات الإسلامية
المستقلة واتفاقها على الوسيلة التي تُبتغَى له وتعاونها على تنفيذها، فإن لم تتفق
كلها فأقدرها وأقربها. وإلا فالواجب على شعوب المسلمين اتخاذ الوسيلة لذلك فإن
لم يفعلوا كانوا كلهم فساقًا ضالين، ولن تجتمع هذه الأمة على ضلالة، فإنقاذ
الحجاز فرض ولا بد من أدائه.
أما الدولة الإسلامية التي تُطََالَبُ بذلك أولاً فهي اليمنية والنجدية والمصرية
والتركية والإيرانية والأفغانية، فإن لم تبدأ إحداهن بالدعوة إلى عقد مؤتمر من
أعضاء مُفَوَّضِينَ من كل منهن، فليدْعُهُن إلى ذلك بعض أصحاب المكانة المحترمة
كشيخ الجامع الأزهر أو جمعية تؤلف لذلك. فإذا أجبن الدعوة فليس لأحد أن يفتات
عليهن في تعيين الزمان والمكان للاجتماع، وإن كان كل أحد يعلم أن مصر أوسط
بلاد الإسلام وأليقها بذلك. ولكن لكل مسلم أن يقترح على المؤتمر ما يرى فيه
الصلاح والإصلاح. ومتى قرر مؤتمرهن شيئًا فلا يعقل أن تتصدى الدولة
البريطانية لمقاومة جميع دول الإسلام في مسألة إسلامية محضة انتصارًا للشخص
الذي نصبته ملكًا على مهد دينهم وقبلة صلاتهم وشعائر حجهم بل يرجى أن تغتنم هذه
الدولة العاقلة فرصة اتحاد الحكومات الإسلامية المستقلة فتواتيهن وتعقد رابطة المودة
معهن، ولا يخفى ما في هذا من الخير لها ولهن، وللإنسانية كلها.
وأما الشعوب الإسلامية فلا يمكنها أن تعمل شيئًا إلا بتأليف جمعية منظمة،
وإننا ننشر بعض المواد التي كنا وضعناها مع بعض أهل الغيرة الدينية لمثل هذه
الجمعية على سبيل التذكير والوسيلة لتبادل الآراء فيها وبناء الدعوة عليها:
المواد الأساسية لجمعية سلامة الحجاز:
(1) تألفت في العالم الإسلامي جمعية إصلاحية باسم (جمعية سعادة
الدارين في تجديد الإسلام في الحرمين الشريفين) ذات شعب وفروع في جميع
الأقطار الإسلامية.
(2) سيكون المركز العام الدائم لهذه الجمعية مكة المكرمة حيث الشعبة
الأولى لها في المرتبة، وهو الآن حيث الشعبة الثالثة في المرتبة (وهي الأولى
المؤسسة) .
(3) مقصد هذه الجمعية: (1) إقامة الدين في الحجاز علمًا وعملاً
وإرشادًا وتعليمًا كما شرعه الله. (2) وتحقيق جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا
للناس. (3) ومثابة للناس وأمنًا. (4) سواء العاكف فيه والبادي كما جعله الله.
(5) منع الإلحاد والظلم فيه كما منعه الله. (6) ليكون الحجاز مأرزًا للإسلام كما
أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (7) وتقام فيه وصيته الأخيرة عليه وعلى
آله صلوات الله. (8) ويظل آية بينة على استجابة دعاء إبراهيم الخليل عليه
وعلى آله صلوات الله. (9) فيكون قطر سلام وحياد لا يُنال بحرب ولا عدوان
يغضب الله (10) وتحترمه جميع الأمم والدول كما يحب ويرضى الله ورسوله
والمؤمنون.
(4) تتوسل الجمعية إلى هذه المقاصد الشريفة بأنواع الوسائل المشروعة
الآتية:
(أ) السعي لإحصاء أوقاف الحرمين الشريفين في جميع الأقطار وضبط
مواردها وجلب ريعها إلى خزينة الحرمين الشريفين وصرفها في مصارفها الشرعية
التي وقفت عليها.
(ب) جمع الإعانات والتبرعات الاختيارية بنظام لصرفها في إحياء هذا
القطر بالعلم والعمران.
(ج) السعي لصيانة سكة الحديد الحجازية وتعميم نفعها فيما أنشئت لأجله.
(د) السعي لاعتراف جميع الدول والحكومات بكون الحجاز قطر سلم وحياد
واحترامها له، وضمان أولي الأمر لها فيه قيامه هو بهذا الحياد والسلم العام.
(هـ) السعي لجعل ما يقام فيه من الإصلاح الديني والمدني والعمراني في
أيدي الأكفاء من أهل العلم والرأي والمكانة من جميع الشعوب الإسلامية.
(و) السعي إلى كفاية البدو فيه أمر معاشهم مع حفظ كرامتهم وتعليمهم أمور
دينهم وما تمس إليه الحاجة من أمر دنياهم والاجتهاد في تحضيرهم.
(ز) نشر العلوم والفنون فيه ولا سيما التفسير والحديث وفنون البلاغة
بأعلى الدرجات حتى تشد الرحال إلى المسجدين لأجل النبوغ والتخرج في العلم كما
تشد إليهما لأجل العبادة وحتى يكونا مصدرًا للإرشاد والإصلاح الإسلامي في العالم
كله.
(ح) السعي لتأليف محكمتين شرعيتين إحداهما في مكة المكرمة والأخرى
في المدينة المنورة يكون لكل قطر إسلامي وكل شعب إسلامي حق تمثيله فيهما
بعضو من علماء الشرع المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية التي يحج المتبعون لها
هذا البيت ويستقبلونه في صلاتهم؛ لأجل محاكمة من يرتكب هنالك ذنبًا يتعلق
بالحقوق الشخصية أو الحقوق والمصالح العامة، بحيث يكون كل من تبوأ هذه
البلاد المقدسة من حاج ومقيم آمنًا على نفسه وكرامته واثقًا بأنه في كنف الله تعالى
وحماية شرعه الذي يقيمه ويحكم به طائفة من كبار علمائه من الأقطار المختلفة لا
سيطرة عليهم في ذلك لأحد من الخلق وليسوا مظنة لاتباع الهوى في الحكم.
(ط) يوضع لهاتين المحكمتين نظام خاص يبين فيه وصف تأليفهما
وأعضائهما وأنواع الذنوب العامة والخاصة التي يُحَاكَمُ المذنبون فيها وأنواع
العقوبات عليها - من حد أو تعزير - وينشر هذا النظام على الناس باللغات الشهيرة
للشعوب الإسلامية ليكون جميع الحجاج كأهالي البلاد عالمين به ا. هـ المراد من
هذا القانون هنا.
ويضاف إلى هذه المواد ما اقترحناه في الخطاب المفتوح من السعي لإقامة
حرس فيه من أهله ومن جنود الدول الإسلامية المستقلة العربية والعجمية.
فنحن نعرض هذه المواد على علماء المسلمين وعقلائهم ليسعوا لها سعيها،
ولا سيما إذا قصرت الحكومات الإسلامية عن القيام بما يجب عليها في هذا الأمر.
***
ملخص الفتوى:
إن هذا الرجل قد جنى على الحرمين الشريفين وعلى الحرم الثالث وهو
المسجد الأقصى (أولاً) بموالاته لغير المسلمين ومساعدتهم على فتح الأرض
المقدسة وغيرها من بلاد العرب (وثانيًا) بجعل الحجاز تحت وصايتهم وحمايتهم
(وثالثًا) بإقراره هو وأولاده إياهم على مركزهم الممتاز في السيادة والسيطرة على
فلسطين وشرق الأردن والعراق.
وهو باعتماده على حماية هؤلاء الأجانب له قد وضع المكوس والضرائب
على حجاج بيت الله الحرام، فلا يسمح لأحد بأداء هذه الفريضة إلا إذا دفع لحكومته
المكوس التي قررها، ولا يبعد أن يضرب إتاوات أخرى على كل ركن من أركان
الحج كالطواف والسعي والوقوف بعرفات وعلى الصلاة في الحرم أيضًا؛ إذ لا
فرق بين الإتاوتين! ثم إنه يمنع عمل البر من الحجاز كتطبيب المرضى كما منع
البعثة الطبية الهندية ثم المصرية، ويصادر أموال الحجاج ويمنعهم من التصرف
بالفضة منها في الحجاز لأجل أن يأخذها بثمن بخس دون ثمنها الإضافي أي بالنسبة
إلى ثمن الذهب، فإذا كان يُعْذَرُ باستحلاله لبعض هذه المحرمات لتأوله فيه، فلا
وجه لاستحلاله لسائرها؛ لأنها من المُجْمَع على تحريمها المعلومة من الدين
بالضرورة بحيث يُعَدُّ مستحلُّها مرتدًّا عن الإسلام إلا إذا كان حديث عهد به ونشأ في
شاهق جبل بحيث لم تبلغه الشريعة كما هو المنصوص في كتب العقائد والفقه.
وقد كان فيما سئلنا عنه عقيدته … فنحن نبين أعماله وحكم الشرع فيها وندع
تطبيقها للمسلمين ولا نفتي بأنفسنا بكفره وإن كَفَّرَ هو في جريدته التركَ والمصريين
والنجديين، وحرَّف آيات القرآن المبين لفظًا ومعنًى كما فعل في منشور رسمي له
يرد فيه على الترك الذين أزالوا حجاب النساء ويحتج عليهم بالقرآن الذي يدعي
العمل به فأورد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59)
فحرف الجملة الأخيرة بقوله: ذلك أدنى أن لا يعرفن فيؤذين! فجعل النفي إثباتًا
والإثبات نفيًا ليثبت أن المرأة المسلمة لا يجوز أن يعرفها أحد، وقد كتبنا يومئذ إلى
جريدة القبلة بأنه يجب أن تصحح الآية من قبل الديوان الهاشمي فلم تصحح؛ لئلا
يكون تخطئة (للمنشور الكريم) كأن ذلك المنشور الجهلي السخيف أكرم في اعتبار
ذلك الديوان من كتاب الله عز وجل، ثم نشرنا المنشور في المنار وبيَّنا الخطأ الذي
وقع في الآية مع بيان معناها وسبب نزولها، وأرسلنا ذلك إلى الملك نفسه وإلى
جريدة القبلة فلم يفد إرساله شيئًا.
وهو يسفك الدماء فيقتل ويصلب مدعيًا إقامة الحدود بما ليس منها بإجماع
العلماء المسلمين من غير حكم شرعي يصدر ممن هو أهل للحكم من علماء الشرع،
وكذلك يفعل ولده الأمير عبد الله في شرق الأردن، ويسميان تصرفهما بأهوائهما عملاً
بالكتاب والسنة وهما لا يعلمان منهما ما يؤهلهما لذلك؛ لأنهما لم يتعلما و (إنما العلم
بالتعلم) كما ورد، وهو ما لا يخفى على أحد.
فأقل ما يقال في هذا الرجل: أنه ملحد في الحرم - والإلحاد فيه ليس كالإلحاد
في غيره؛ إذ الصغيرة في غيره كبيرة فيه - وأنه مستحل لما حرمه الله
بالفعل، ولكنا نجهل كُنْهَ حاله فلا ندري أيستحل ذلك اعتقادًا؟ ويفعله جهلاً أم عنادًا؟
وإن في بقائه ملكًا في مكة خطرًا على الحرمين الشريفين وسائر جزيرة العرب أن
يزول ملك الإسلام عنها كما زال عن غيرها بمساعدته ومساعدة أولاده، فالواجب على
المسلمين - ملوكهم وأمرائهم ودهمائهم - المبادرة إلى إنقاذ الحرمين وجزيرة
العرب، وأقرب الطرق إلى ذلك وسيلة ومقصدًا ما شرحناه آنفًا.
هذا ما ظهر لنا من حكم الشرع فيه مبنيًّا على أعماله الرسمية التي لا يستطيع
أن ينكرها. فإن رأى علماء الإسلام خطأ فليبادروا إلى بيانه وإلا فليبادروا إلى
السعي لإزالة هذه المنكرات كما فرض الله عليهم، والله أعلم.
(تنبيه) يرى قراء المنار في هذه الفتوى مع ما سبق لنا نشره في المسألة
الحجازية تكرارًا، وسببه أن هذا كتب لأجل نشره في صحف الأخبار اليومية التي
نشر فيها الاستفتاء فنشر في بعضها ولخص في بعض، وقد نشرت جريدة الأخبار
بعضه في أوائل ذي الحجة وبعضه في أواخره ونشرته جريدة الأهرام بعد أن
اختصرت منه مشروع جمعية إنقاذ الحجاز، وقد كبر على المنافقين من أُجَرَاء
الملك حسين وولده الأمير عبد الله أن ينتقد عليهما وينكر من أعمالهما ما خالف
الشرع؛ لأنهما مشهوران بشرف النسب، كأن الله أباح للشرفاء ما حرمه على سائر
عباده، فإن كان للشرفاء حكم خاص في هذا المقام فهو مضاعفة العذاب على ما
يعصون الله تعالى به، وسنبين هذا في مقال آخر.
__________
(1) العسلطة: الكلام الذي لا نظام له، وتكرار الإضافات هنا تعريض بأسلوبه.(24/593)
الكاتب: سليمان الندوي
__________
جهاد مسلمي الهند في سبيل الخلافة الإسلامية
وتحرير الجزيرة العربية
نشرت جمعية الخلافة في الهند الرسالة الآتية التي أنشأها أحد أركانها الكرام
الأستاذ العالم العامل المصلح الشيخ سليمان الندوي أحد أعضاء وفدها الأوروبي
وسماها (الدرر البهية) وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل كلمة الإسلام جامعة المسلمين، أقوى من نسب الماء
والطين، والصلاة والسلام على مَن أخرجنا من ظلمات العصبية، وحوالك الجنسية
والعنصرية، والتفاخر بالأنساب وعبية الجاهلية.
وبعد؛ فلعل إخواننا المسلمين في البلاد الأخرى ليسوا على خبرة تامة
بالحركة التي قام بها إخوانهم المسلمون بالهند والمطالب التي نهضوا بها أمام
حكومتهم البريطانية، والدعاوى التي نادوا بها على منابر جمعياتهم الدينية
ومؤتمراتهم السياسية، والمواعيد التي وعدتهم بها حكومتهم أثناء الحرب الماضية،
ومساعيهم التي بذلوها في سبيل الخلافة العثمانية، والدفاع عن كرامة الجزيرة
العربية، والأخذ بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه الزكية،
والدراهم التي جمعوها من تبرعاتهم لإغاثة المنكوبين الذين قتلوا وظلموا وسلبوا
وأخرجوا من ديارهم بغير حق في بلاد تراقيا وأزمير وأناطوليا، وما لقي المسلمون
في الهند من الجهد في سبيل تأدية واجباتهم من حكومتهم المستولية.
من يجهل من إخواننا في الشرق ما تُكِنُّ صدور الإفرنجيين وما ترمي به
نواياهم [1] نحو الإسلام والشرقيين، وما أحدثوا من الملاحم والفتن، وما دبروا من
الدسائس والحِيَل؛ لتوهين عُرَى الإسلام وتقويض أركان الأخوة الإسلامية، وبث
بذور العداوة بين أبناء الملة الطاهرة، والتظاهر بمودة أهل الشرق.
مضت القرون وهم على ذلك، والحوادث تترى، والمصيبات تتوالى
والنواكب [2] تتواتر، ونحن عنها غافلون، وفيما بيننا متشاغلون، حتى دهمتنا هذه
الحرب التعسة النحسة فقام الاتحاديون في الشرق بالمناداة باستقلال الأمم الموعظة
(؟) بالخروج من ربقة الدين والانحياز إلى الجنسية والعنصرية؛ لتضعف به كلمة
الإسلام ولتهن جامعة المسلمين ولتنحل رابطة الشرقيين، ويستولي عليهم
الانقسام ويسودهم النفاق، فصار ما صار مما لا حاجة لنا إلى إطالة بيانه، والكشف
عن قناعه، وكان المتبصرون من المسلمين في الهند على علم بما وراء الأستار
والحُجُب، فدعوا المسلمين إلى التناصر والتآخي، والدفاع عن حوزة مركز الإسلام،
وهي الخلافة العثمانية، والذَّب عن ذمار مركز الدين، وهي الجزيرة العربية،
وأسسوا جمعية سموها جمعية (خدام الكعبة) وأخذوا في نشر إعلاناتهم،
والمظاهرة (بنياتهم) والمجاهَرَة بمطالبهم، وتدوين أسماء المتطوعين، وجمع
اكتتابات المتبرعين، وإصلاح أحوال الحجاج والزائرين، وإنشاء مراكب لنقل
القاصدين إلى بيت الله الحرام.
كانوا على عدة من ذلك إذا الحرب استعرت نارها، وارتفعت أوزارها،
واستحوذت أخطارها، وظهرت حكومة الهند بإبراق وإرعاد، ووعد وإيعاد،
ووضعت قوانين جائرة، وأحكامًا غير عادلة، ومنعت الجرائد، وأجرفت [3] ألسنة
الخطباء، وغلَّت أيدي العاملين، وأسرت رقاب المتبصرين، ثم أصدرت إعلانات
ملوكية تسكن غيظ المسلمين، وتضلل آراءهم، وتموه عليهم حقيقة أمرهم.
وهاهي (ذي) الإعلانات البريطانية الملوكية، والمواثيق التي أعطتها
المسلمين في الهند ونشرت في نواحي البلاد كلها:
(1)
(لمسلمي الهند أن يتيقنوا أن لن تأتي الحكومة البريطانية وحليفاتها في أثناء
هذه الحرب بما يمس بعواطفهم وحياتهم الدينية، والبقاع المقدسة الإسلامية تبقى
محفوظة من حملات الحرب ويبذل كل اهتمام لحرمتها، ولا تسرد حملة ضد دار
الخلافة الإسلامية المقدسة، إنما نحن محاربون لوزراء الأتراك الذين هم منقادون
لأهواء ألمانيا ولسنا بمحاربين خليفة الإسلام، الحكومة البريطانية من نفسها
وحليفاتها [4] تعطي هذه المواثيق وهي مسئولة عن هذه المواعيد) .
(2)
الإعلان الملوكي في نوفمبر سنة 1914
قال اللورد (هاردنغ) نائب الحكومة البريطانية في الهند في مجلس التشريع
الملوكي الهندي في يوم 12 يناير سنة 1915 [5] قد أعلنت الحكومة (البريطانية
وفرنسا والروسيا) أن بقاع العرب والعراق المقدسة تبقى آمنة من الحملات، وقد
أعلنت الحكومة البريطانية أيضًا أنهم مستعدون إذا مست الحاجة للدفاع عن البقاع
المذكورة ضد الأجانب الداخلين فيها الهاجمين عليها، لتبقى غير مهجوم عليها على
كل حال، حيثما تحولت أمواج الأحوال، لا يرتاب في أن هذه البقاع المقدسة تبقى
غير مهجوم عليها، ويظل الإسلام معدودًا من القوات العظمى في العالم.
(3)
قال (اللورد كرومر) في مجلس اللوردات البريطاني في يوم 20 إبريل سنة
1915: (أنا لا أحتاج إلى أن أؤكد أني متفق غاية الاتفاق مع صاحب السعادة
(كريو) أن المسلمين لهم وحدهم أن يخوضوا في شأن الخلافة، بل إني أرى أنه
يمكن لي أن أعطيهم نوعًا من الميثاق بأنا نعترف بأن الخليفة يكون مسلمًا بل لا بد
له أن يكون مسلمًا ومستقلاًّ من كل سلطة أوروباوية) .
(4)
قال (لويد جورج) صدر الإمبراطورية البريطانية في خامس يناير سنة
1918: (نحن لا نحارب تركيا لنحرمها عاصمتها وبلاد تراقيا وآسيا الصغرى
(أناطوليا) المخضرة الكثيرة الخيرات التي بأجمعها معمورة بالأمة التركية) .
هذه نصوص مواثيق وعهود أعطتها الحكومة البريطانية المسلمين في العالم
عامة وفي الهند خاصة، وهذا أساس ما نطالب به الحكومة البريطانية، ولا
يجوز لها الانحراف عنها، ولن ندعها أن تتركها سدًى.
نقلنا هذه النصوص هاهنا ليكون إخواننا في البلاد الأخرى على خبرة مما جرى
في الهند، وما قامت عليه الحركة السياسية الدينية الحاضرة، وما تدور عليه رحى
الحرب السلمية القائمة منذ سنتين بين المسلمين والبريطانيين في الهند. وهذا ما بعثنا
أن نقوم قومة واحدة والأخذ بالحكومة (؟) بإنجاز ما وعدت، وإيتاء ما عاهدت.
بعد ما وضعت الحرب أوزارها وحُرر أُسارى الأحرار من المسلمين، ورُفعت
الرقابة، أخذوا فيما كانوا فيه ودعوا إخوانهم إلى الانضمام معهم، وتلوا عليهم ما
كتب الله عليهم، وذكَّروهم بما أوصاهم رسولهم الكريم بأن الإمامة لا بد من إقامتها،
والجزيرة العربية المحدودة بنهري العراق، وبحر الشام، وترعة السويس،
والبحر الأحمر، وبحر العرب وبحر الهند، والخليج الفارسي لا تزال آمنة سالمة
من كل نوع من أنواع السلطة غير المسلمة، وأسسوا جمعية جليلة لها فروع في كل
أصقاع البلاد الهندية سموها (جمعية الخلافة) .
وهاهي (ذي) مطالبها ومقاصدها بحروفها:
أ- القيام ببقاء قوة الخلافة الإسلامية وسلطتها، والسعي لإعادة مجدها وإعلاء
أمرها.
ب - اتخاذ الوسائل اللازمة لتمكن تركيا من الصلح المحترم العادل ويصبح
أمر الخلافة وجزيرة العرب والأماكن المقدسة الإسلامية كما تقتضيه الشريعة
الإسلامية الغراء (أي أن تكون مطلقة حرة مستقلة من كل نوع سلطة غير مسلمة
عليها) .
ج - السعي تمام السعي لتضطر الحكومة إلى إيفائها بما وعدت به في إعلانها
المُؤَرَّخ في ثالث نوفمبر سنة 1914 وبما قال وزيرها الأعظم خامس يناير سنة
1918 في شأن البقاع المقدسة، وبلاد الدولة العثمانية، واتخذوا للفوز بهذه
المطالب وسائل عديدة منها:
1 - بث هذه الأفكار في البلاد الهندية والبلاد الإسلامية الأخرى.
2 - التآخي بين مسلمي الهند ومسلمي الممالك الأخرى وإعانتهم ونصرتهم،
وقطع المنازعات الحادثة بينهم، وإصلاح ذات بينهم.
3 - ولأن تضطر الحكومة للإذعان بالحق نقطع عنها العلائق كلها [6] ، ولا
ننصرها ولا نخدمها ولا نواليها في أمر من الأمور، وهذا هو المراد بعدم الموالاة،
أو ترك التعاون، وللوصول إلى هذه الغاية يجب علينا أن نقوم بالتعليم الملي والتجارة
والصناعة الوطنية، ونقاطع البضائع غير الوطنية وننشئ دواوين القضاء بين
أنفسنا.
4 - التوفيق والتوحيد بين المسلمين والعناصر الهندية الأخرى للحصول على
الاستقلال (السوارج) بالهند.
مضت سنتان وأكثر منها [7] إن المسلمين والهنود الوثنيين اتفقوا فيما بينهم
على استقلال البلاد الهندية والمطالب الإسلامية المصرحة وجعلوا طريقة (عدم
الموالاة للحكومة البريطانية) وسيلة موصلة لهم إلى المطلوب - مضت سنة كاملة
وهم قد قطعوا على الحكومة كل علائق المناصرة والمودة والمعاونة والخدمة حتى
تَضَعْضَعَتْ أركان الحكومة وهي تخبط خبط عشواء في أمرها، دوائرها كلها
مخلخلة ودخل الخلل في أهم نظاماتها، وهي لا تجد السبيل لرتق ما فُتِقَ، ولجبر
ما انكسر، إلا أن تذعن للمطالب الإسلامية الهندية، وهي الصلح مع الدولة
العثمانية، ورفع كل رقابة ووصاية عن البلاد العربية من عراقها وشامها وفلسطينها
وحجازها ونجدها ويمنها ومنح الاستقلال للهند.
هذه هي الأحوال الجارية في الهند، وحكومتها في حيص بيص في أمرها،
فالمسئول من إخواننا ولا سيما إخواننا العرب من الطوائف كلها أن يتفكروا في
الأمر ويتدبروا العاقبة، ويتلافوا ما صدر منهم، ويتحدوا مع إخوانهم الهنود في
رفع منار الدين، وإعلاء كلمة الشرق وإعادة مجد الإسلام، والسلام على من اتبع
الهدى. انتهى.
(المنار)
نشكر لإخواننا مسلمي الهند غيرتهم، وإنني ما زلت أشهد لهم بأنهم أشد
مسلمي الأرض عناية بالجامعة الإسلامية، ورسوخًا في الغيرة الدينية، وأنه لا يوجد
شعب إسلامي يهتم بأمر سائر المسلمين مثلهم؛ لأن بعض هذه الشعوب قد فصمت
عصبيةُ الجنس عروةَ اعتصامها بالوحدة الإسلامية، وبعضها قد استحوذ عليها الجهل
بالسياسة العامة وأحوال المسلمين، وسيكون إخواننا مسلمو الهند من المنبهين لهم
بعنايتهم بهم؛ لأنهم سيزدادون علمًا بأن حفظ الإسلام كما أنزله الله تعالى لا يتم إلا
بهم، ولا يكمل إلا في بلادهم.
وأما ما ظهر منهم بموالاة أمير مكة وأولاده للإنجليز، ومن خدعوهم من
السوريين والعراقيين فلا يرجى تلافيه من قبل هؤلاء الخادعين والمخدوعين؛ لأنهم
أصروا على ما فعلوا بعد أن ظهر لهم سوء نية الإنجليز بإخلافهم لوعودهم لهم
ونقضهم لعهودهم معهم- على أنها مبنية على فساد- وسائر العرب في الجزيرة،
ومنها الحجاز آسفون ناقمون ساخطون، والقادرون منهم يجاهدون في تلافي هذا
الشر؛ فإذا آزرهم إخواننا مسلمو الهند بمثل ما آزروا به إخواننا الترك فالرجاء
بالنجاح عظيم، فإن أمراء الحجاز لا حول لهم ولا قوة إلا بالإنجليز، فإذا اعتصمنا
مع إخواننا الهنود بحول الله وقوته في مكافحتهم، فقد يكون من أوائل النجاح نبذ
الإنجليز لهم وإيثار إرضاء العالم الإسلامي والعرب الصادقين عليهم، والعاقبة
للمتقين.
__________
(1) النية تجمع على نيات لا نوايا.
(2) المنار: النواكب: جمع ناكبة، وهي التي تتحول عن الطريق أو غيره وليس مرادًا، بل المراد النكبات وهي جمع نكبة (كسجدات جمع سجدة) والتعبير بالنكبات يناسب ذكر (المصيبات) قبله، وكان المناسب من جهة المعنى أن يعبر بالمصائب؛ لأنه جمع كثرة.
(3) هذا تحريف من المطبعة، والصواب أجرّت بتشديد الراء أي منعت الألسنة من الكلام.
(4) أي بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن أحلافها.
(5) اختلف التاريخان، والمراد أن حاكم الهند بلَّغ في 12 يناير سنة 1915 ما قررته حكومته مع حليفتها في نوفمبر سنة 1914.
(6) المناسب أن يؤخر التعليل ويقدم المقصود بالذات ويعبر عنه بالمصدر كالذي قبله وبعده فيقال: الثالث: قطع جميع العلائق بيننا وبين الحكومة لتضطر إلى الإذعان إلخ.
(7) كذا في الأصل، ولعله تحريف من المطبعة أصله: حدث فيها أن المسلمين إلخ.(24/619)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلاف بين مصر والحجاز
لما بلغنا أن ملك الحجاز أبى قبول البعثة الطبية المصرية التي أرسلتها
الحكومة المصرية مع ركب المحمل المصري - ظننا أنه يريد بهذا المنع أن يُري
المصريين وحكومتهم من أمر استقلاله ما يعرفون به خطأهم في قولهم: إنه وضع
البلاد تحت حماية الإنجليز.
ولما بلغنا أن الحكومة المصرية تريد إرجاع ركب المحمل المصري من جدة مع
ما يحمله من المال والغلال لأهل الحجاز إذا أصر الملك على منع البعثة الطبية
المذكورة - كتبنا مقالاً وجيزًا نشرناه في جريدة الأهرام نصحنا فيه للحكومة المصرية
بأن لا تفعل ذلك وأنه لا يجوز لها شرعًا أن تمنع رجال ركب المحمل ولا غيرهم من
الحج - وكانوا قد شرعوا فيه ووصلوا إلى جدة مُحْرِمِينَ به - وأن ملك الحجاز إذا
كان مستبدًّا غير مقيد في أحكامه بشرع ولا قانون يمنعه عن رد البعثة الطبية، فهي
ليست كذلك، وأن عليها أن تستفتي في مثل هذه المسألة الشرعية علماء الدين،
وارتأينا أن تأمر بعثتها الطبية بأن لا تمتثل أمر ملك الحجاز إذا أراد ردها وعدم
تمكينها من أداء المناسك أو معالجة من يحتاج إلى معالجتها من الحجاج؛ لأنه منع من
عمل شرعي لا يملكه ولا تباح طاعته فيه شرعًا. فإن افترضنا أنه أمر رجال حكومته
بمنع الأطباء أو غيرهم من ذلك بالقهر دافعوا عن أنفسهم- أي كما ورد في كتاب
الصيال من الشرع الإسلامي- وبيَّنا أننا نعتقد أنه لا يفعل؛ لأنه لا يجهل ما في ذلك
من التبعة وسوء الأحدوثة، وقد حمد رأينا هذا المعتدلون، ولم ينكره الغالون في
الإنكار على ملك الحجاز والمبالغون في الطعن فيه.
وأما الحكومة المصرية فقد استفتت شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية في
المسألة استفتاء مبهمًا غير منطبق على النازلة؛ فإنها بَنَتْ الاستفتاء على جواز منع
الحج إذا لم يكن هناك أمن أو كان خطر على الصحة، وأين الخوف أو الخطر؟ أما
حفظ الأمن حيث تؤدى المناسك من الحجاز فلا تقصير فيه، وقد نوَّه المنار به
مرارًا، وصرَّح بأن أكبر حسنات الملك حسين شدة عنايته بالأمن وراحة الحجاج
بقدر طاقته، وهو قادر على ذلك فيما بين جدة وعرفات ولا يتجاوز المصريين ذلك،
وأما الوباء فالظاهر أن الحكومة المصرية كانت تتوقع حدوثه في الحجاز؛ لوجوده
في الهند، وعلى هذا كان يتحتم عليها إبقاء البعثة الطبية وركب المحمل وإلقاء
تبعة كل ما يعمله الملك حسين عليه كما نصحنا لها، وليست هذه التبعة بالأمر
الهين. ولو وقع الوباء - والعياذ بالله تعالى - لما أمكن لها أن تبرئ نفسها من
التبعة، ولفضحت حكومة الحجاز شر فضيحة بعجزها عن القيام بما يجب للحجازيين
وللحجاج؛ إذ ليس عندها أطباء ولا أدوات وعقاقير تكفي لذلك.
وقد علمنا بعد ذلك أن مثار الخلاف أمر مادي محض، ذلك بأن السلطة
البريطانية كانت منذ انضم الملك حسين إلى دولتهم في الحرب ترسل إليه جميع ما
هو مخصص للحجاز من الأوقاف ومن الحكومة المصرية، وكان يتصرف فيه كما
يشاء على أن بعضه لأهل المدينة المنورة التي كانت إلى ما بعد هدنة الحرب في يد
الترك وللأعراب الذين على الطريق إليها، ثم إن حكومة مصر أرادت أن تتولى
توزيع هذه المخصصات بأدائها إلى أهلها؛ إذ بلغها كما بلغنا نحن - والله على ما
نقول شهيد - أن الملك لا يعطي كل ذي حق حقه منها، ومما نقله إلينا بعض
الحجاج الذين بلَّغهم في الحجاز مَن يثق بأمانتهم أنه في بعض السنين لم يُعطِ أحدًا
شيئًا وأن بعض المستحقين في المدينة المنورة ماتوا جوعًا، وأنه في سنة أخرى،
ولعلها التي قبل هذه السنة أعطى النصف. والحكومة المصرية أعلم منا بما هنالك؛
لأن لها تكية في مكة المكرمة وأخرى في المدينة المنورة والمستخدمون المصريون
فيهما أجدر بمعرفة هذا الأمر من غيرهم.
بل نقول: إن الملك حسينًا كان يتوسل بالإنجليز إلى الاستيلاء على جميع
أوقاف الحرمين الشريفين في مصر؛ ليتولى إدارتها برجال من قِبَلِهِ، وبلغنا أنه
كان موعودًا بذلك ولكن حال دون الوفاء به استقلال مصر فعظم عليه الأمر، ورأى
أن يتوسل إلى أخذ المخصصات المذكورة بمشاكسة الحكومة المصرية، ولم يجد
شيئًا يُشَاكِسُهَا به إلا مسألة البعثة الطبية، فأهان رجالها في جدة بجعلهم كالمجرمين
المحجور عليهم تحت خفارة رجال الشرطة في مقامهم وفي انتقالهم من مكان إلى
آخر، فكبرت هذه الإهانة على الحكومة المصرية ولكنها لم تحسن التصرف في
تلافيها بحسب ما وصل إليه علمنا إلى وقت كتابة هذه السطور؛ إذ لم تطبقه على
أحكام الشرع الإسلامي تطبيقًا صحيحًا، ولولا الحالة الشرعية وما لها من الأحكام،
لكان عملها من قبيل المعهود في مثل هذه الأحوال، والناس ينتظرون بلاغًا رسميًّا
منها يوضح الخفايا ويعرف بمقابلته ببلاغ حكومة الحجاز ما يُمَكِّنُ كلَّ مطلعٍ مِن
الحكم في المسألة من كل وجه.
حدث هذا الخلاف في أثناء اهتياج المسلمين من المعاهدة البريطانية الحجازية
فكان ضغثًا على إبالة، كان للناس مطعن في ملك الحجاز فصار لهم مطعنان، فكان
الطعن فيه شغل جميع الجرائد، وقد أسرف فيه بعض الكُتَّاب بما خرجوا عن الأدب
والذوق، وصورته جريدة اللطائف المصورة بصورة حمار حوله الحشيش … فكان
عملها أقبح خزي أعماها الطمع عن سوء موقعه من المسلمين الذين يحترمون مكانته
ومكانة نسبه وسنه، وإن أنكروا سياسته وعمله، وتجاوز بعضهم خطة الإنكار إلى
الغميزة والازدراء، والتهكم والاستهزاء، ونبزه بعضهم بلقب البدوي وصفة البداوة،
وما هو إلا ربيب مكة والآستانة ومكة أقدم مدن الأرض حضارة، ووجهاء أهلها على
أدب جم، وإنما اشتهر سُوقَتُهَا بالشراسة، ولعمر الحق إن الملك حسينًا لَمِنْ أرقى
الناس آدابًا، وإنه لا يوجد في أرقى طبقات المصريين والترك مَنْ يَفْضُلُهُ في ذلك،
لولا أنه على كبريائه يجاهل الجرائد، ويطعن في الأفراد والجماعات والشعوب في
جريدته (القبلة) حتى في منشوراته الرسمية، ولو تنزه عن هذا لكان خيرًا له، ولما
وجد الناس مجالاً للكلام فيه إلا من ناحية سياسته ولغته وما يتعلق بهما، وكأن الله
تعالى سلط عليه الناس جزاء له! فإن كان بعضهم قد قدح فيه بالباطل، فقد وجد من
يدافع عنه وينصره بالباطل أيضًا، وقد كان طعن جريدة القبلة في المصريين أن
شبهتهم بالبقر والغنم، وجعلتهم إخوة الثوم والبصل، وكفَّرَهم الملك في منشور رسمي
بإنشائهم الدستور. وهددهم نجله الأمير عبد الله بما ينبئ أنه لولا الإنجليز لقام بما هو
مستعد له من غزوهم وفتح بلادهم كما فتح الطائف! وقد نسي أنه عجز عن فتح قرية
الخرما، وأن والده لم يُخْرِج التركَ من الممالك الهاشمية - الطائف ومكة وجدة - إلا
بجيشهم وأموالهم، ولعله لا يجهل أن دخل رجل واحد من مزارعيهم أعظم من دخل
(حكومة الشرق العربية) ذات الوزراء والألقاب الفخمة.
ونحن على علمنا بهذا كله نقول: إن الجرائد المصرية أسرفت في الطعن في
الرجلين؛ لأن المنار لا يكتب إلا ما يعتقد أنه الحق، ويحاسب صاحبُه في ذلك
نفسَه على خطرات القلب، والذي ظهر لنا من الحق في هذه المسألة أن الملك
حسينًا أخطأ شرعًا ورأيًا في منع البعثة الطبية المصرية أن تعمل بحريتها كل ما
تراه من الاستعداد لمعالجة الحجاج المصريين وغيرهم عند الحاجة إليها، فإنه ليس
له حق أن يمنع أحدًا من المسلمين هنالك من شيء إلا إذا كان مخالفًا للشرع كما بيَّنا
ذلك بالتفصيل في مقال الاستفتاء في أمره وأعماله وسياسته.
وإذا كان يخاف أن يفضي ذلك إلى تدخل النفوذ الأجنبي في الحجاز من هذه
الناحية، فما عليه إلا أن يسن للحجاز قانونًا سياسيًّا يصرح فيه بأن جميع الحجاج
أحرار في كل ما لا يخالف الشرع، وأنه لا يجوز أن يكون لأي دولة من دول
الأرض أدنى نفوذ ولا تداخل في شئون الحجاز الداخلية بسبب وجود حجاج من
رعاياها فيه. ولكن مشروع المعاهدة التي فرض على الأمة العربية جعلها عيدًا لها
قد جعلت للإنكليز عدة امتيازات في الحجاز كما بيَّنَّاه في تعليقنا عليها.
وأما الحكومة المصرية فقد أخطأت في إرجاع ركب المحمل المصري ومنه
البعثة الطبية، وأما إرجاع النقود والأقوات المخصصة لأهل الحرمين في هذا العام،
فإن كان سببه أن الملك لا يمكنها من إعطائها لمستحقيها بحجة منافاته لاستقلاله
في ملكه - فالذنب عليه لا عليها، وإن كان انتقامًا منه لمغاضبته إياها وإهانته لبعثتها
فالذنب عليها، فإنَّ ما يقع بين الحكومات من الأمور المنافية للحقوق الودية يتلافى
بغير هضم حقوق الأفراد كشرفاء الحرمين وفقرائهما الذين لا ذنب لهم.
ويجب أن تعلم الحكومة المصرية والرأي العام المصري أن ما هو موقوف
على الحجاز وأهله من أرض مصر فصرفه إليهم واجب شرعي لا مِنَّةَ لأحد في
أدائه إلى أهله، وأن ما يُرْسَل من الصدقات غير المستحقة لهم - ونحن غير واقفين
على تفصيلها - فإن لمصر به مكانة ومنزلة في المعاهد المقدسة، وفي سائر العالم
الإسلامي ينبغي لها أن تحافظ عليها، ولا تلتفت لكلام بعض الماديين المارقين الذين
لا يفقهون للمكانة الروحية والمنزلة الأدبية معنًى، وسنوضح هذا إن احتيج إليه
في فرصة أخرى.
هذا وإن كلاًّ من حكومتي مصر والحجاز الحاضرتين مؤقت، فإذا لم يفصلا
هذا الخلاف بالحق والعدل، وبما يحفظ لمصر مكانها من الفضل، فلا يكون ما
يقررانه مبرمًا دائمًا، أما مصر فستخلف حكومتها الوزارية الحاضرة حكومة
الدستور المقيدة بمجلس النواب والأعيان، وأما حكومة الحجاز فلا يمكن الجزم الآن
بما يكون من أمرها، وإنما المجزوم به أنها لن تبقى حكومة شخصية مطلقة خلافًا
لشريعة الإسلام، وبالرغم من أنوف مئات الملايين من المسلمين؛ لأن الدولة
البريطانية تريد ذلك، والمعقول الموافق للمصلحة الإسلامية العامة ما اقترحناه من
قبل في أمرها، وهو الذي سيكون إن شاء الله تعالى، وحينئذ يتعاون العالم
الإسلامي كله على رفع شأن الحجاز من كل وجه، ويكون لمصر القَدَح المُعَلَّى في
ذلك.
هذا وإن كثيرًا من المصريين كانوا يظنون أن الإنجليز هم الذين أثاروا هذا
الخلاف بحمل الملك حسين على رد البعثة الطبية لغرض لهم في ذلك كثر البحث
فيه والسؤال عنه، وكنا نقول لمن يسألنا عن رأينا في هذا: إنها تصدق على مثلهم:
لا نخلق الفرص ولا نضيعها.. .
وكان الكثيرون يظنون أن الملك المذكور يوشك أن يؤذي الحجاج المصريين
انتقامًا من حكومتهم، وكنا نجزم بأن الخلاف إنما يحمله على تحري إرضائهم بأشد
مما يعنى بإرضاء غيرهم؛ ليكونوا دعاة له ومدافعين عنه، وكذلك كان.
__________(24/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رجل مات والرجال قليل
الأستاذ محمد وهبي
مات محمد وهبي. وسبحان الحي الذي لا يموت، مات محمد وهبي فكتب في
الجرائد اليومية بضعة أسطر ملخصها أنه قد توفي فلان ناظر مدرسة الفيوم ونسيب
فلان، وصهر علان، وستشيع جنازته من داره في حي السكاكيني في الساعة
العاشرة قبل الظهر. ذلك بأن أصحاب الجرائد لا يعرفون قيمة محمد وهبي؛ لأنه
كان كنزًا خفيًّا، وهم قلما يعرفون إلا أصحاب الظهور، وإن كان بلباس الزور،
وقد شيعه العشرات من أولي القربى منه وأصدقائه وأصدقائهم وليس فيهم أمير ولا
وزير ولا أحد من أصحاب الرتب العالية؛ لأن هؤلاء قلما يعرفون مثل محمد وهبي،
بل قلما يوجد فيهم من هو أهل لمعرفة مثل محمد وهبي.
كان محمد وهبي في الذرورة العليا في علومه وأخلاقه وآدابه، وقوة إيمانه
وصلاح أعماله، والإخلاص في وطنيته، والجهاد في سبيل ملته وأمته. ولكنه
كان لشدة إخلاصه يؤثر الكتمان ويكره الظهور، ولو كان الناس يكتمون سيئاتهم كما
كان محمد وهبي يكتم حسناته لما وجد في البلاد قدوة في الشر والفجور.
صليتُ على محمد وهبي صلاة الجنازة، والتفتُّ بعد السلام فلم أجد ورائي
من المصلين إلا بضعة رجال، وأذن بعد الصلاة عليه مؤذن: ماذا تشهدون فيه؟
فقال الحاضرون كما يقولون في جواب كل سائل عن ميت: رجل طيب، أو من
أهل الخير. وقلت: اللهم إني أشهد أنه خير من أعرف من الناس؛ ذلك بأنني كنت
أفكر قبل هذا السؤال وبعده في أفضل الرجال الذين أعرفهم، خضخضت دماغي
لأحرك في زوايا تلافيفه كل رجل رُقمتْ ترجمتُه فيها، فلم أذكر في أحيائهم أفضل
من محمد وهبي ولا مثله في مجموعة مزاياه.
عرفت محمد وهبي على تنكره وإخفاء فضائله لأنه أحسن الظن بي فحضر
عليَّ بعض دروس التفسير والبخاري وأصول الفقه، وكان يسألني عن بعض
أسرار الدين ومزايا الإسلام، ويستشير في صالح الأعمال، ويواظب على قراءة
المنار. عرفته معرفة خُبر، عرفته راسخًا في التوحيد، واسع الاطلاع في أصول
الدين وفروعه، ذا بصيرة في حكمه وأسراره، لم يسألني مشتبهًا أو شاكًّا كما وقع
كثيرًا للطبيبين الفاضلين الصالحين المصلحين (محمد توفيق صدقي وعبده
إبراهيم) في بدايتهما، وكذا غيرهما، بل كانت أسئلته تدل على علم يطلب صاحبه
المزيد والكمال، كان يقتني أنفس كتب الدين ويطالعها للاهتداء والعمل بها، وكان
شديد العناية بكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم ولعله لم يَفُتْهُ شيء مما طبع
منها، بل كان يرغب في استنساخ ما وجد منها إذا يئس من طبعه.
ومن مزاياه أنه كان جامعًا بين هداية الدين اعتقادًا وأخلاقًا وعملاً وبين أرقى
النظام المدني في أهل بيته وتربية أولاده: كان يستيقظ من النوم فيوقظ زوجه
وبناته فيتطهرون ويصلي بهم صلاة الفجر إمامًا، ثم يقرءون جزءًا من القرآن
العظيم، ثم يقومون للرياضة البدنية فيأخذون منها بنصيب، وبعد الاستراحة منها
يصيبون من ذواق الصباح ما تيسر، ثم ينصرف كل إلى عمله، فلو أن أمة أو
أهل مدينة كانت بيوتهم كبيت محمد وهبي في الصلاح والنظام والأدب والنظافة،
والتنزه من كل خرافة وسخافة - لكانوا حجة للإسلام والمسلمين، وسبب دخول أهل
المدينة فيه أفواجًا.
كان محمد وهبي عالمًا عاملاً، صالحًا مصلحًا، يأمر بالمعروف مُؤْتَمِرًا،
وينهي عن المنكر مُنْتَهِيًا، كان كلما تولى إدارة مدرسة حمل أساتذتها وتلاميذها على
المحافظة على الصلوات، حتى لم يكن يدعهم يخرجون منها إلا بعد أن يصلوا
العصر، وكان يبث في كل مدرسة روح الوطنية الصادقة مع روح الصلاح
والتقوى، فكان المستر (دنلوب) الرقيب العتيد لا يفوته شيء من سيرته هذه، وقد
حاول أن يفتنه مرارًا فاستعصم، وقد قال له مرارًا: إنك أقدر أستاذ عندنا إلا أن
فيك عيبًا واحدًا لو تركته لارتقيت بسرعة إلى أعلى المراقي! ذلك العيب أنك لا
تُرْضِي رؤساءك. فكان الفقيد يتجاهل مراده ويقول: إنني أبذل كل ما في وسعي
للقيام بما يجب عليَّ في عملي، فإذا لم يُرْضِهِمْ هذا فما يرضيهم؟ وهو يعلم أن
الذي يُرضي دنلوب عنه هو الذي يسخط عليه الله عز وجل، فكان يُؤْثِر رضاء الله
تعالى على رضاء دنلوب ومفتشيه وأعوانه، وما وراء ذلك من توالي زيادة الراتب،
وارتقاء المناصب، وقد جرَّبوا أن يفتنوه بالترغيب أو الترهيب، فعصمه الله
تعالى منهم.
حصروا عمله مرة في تعليم اللغة الإنجليزية للطلبة والمعلمات الإنجليزيات
حتى لا يجد لخدمة الدين واللغة العربية سبيلاً، فرأوه قد توسل لخدمة اللغة العربية
وبث الآراء الصالحة في التلاميذ بتعليم الترجمة وما يختاره لها من الكلام، أبعدوه
عن مصر إلى إدفو في أقصى الصعيد على ما يعلمون من نحافته وقلة احتماله،
وذلك من العقوبات الخفية التي يعرفها أهلها - فأثر ذلك في جسمه ولم يؤثر في
نفسه، وكان أخوه كاتب هذا هو الذي عرض أمره وبيَّن فضله لسعد باشا زغلول إذ
صار وزيرًا للمعارف فنقله إلى القاهرة وجعله ناظرًا للمدرسة الحسينية.
وكان في خدمته الوطنية مصداقًا لقول قاسم أمين: إن الوطنية الصادقة هي
التي تعمل ولا تتكلم. فهو لم يكن متصلاً بحزب من الأحزاب السياسية، ولا من
الذين يترددون على بيت الأمة (دار سعد زغلول باشا) على إجلاله لسعد وشكره
لجميله، بل كان يضع لكل عمل نافع نظامًا، ويستعين على تنفيذه بخُلَّصِ أصدقائه
متحريًا أن يكونوا قليلي العدد، وأن لا يذكروا اسمه لأحد يعمل معهم، كأنه وهو
يفعل المعروف الذي يستحق به الفخر، يأتي منكرًا فيتقي سوء الأحدوثة والذكر.
ومثال ذلك أن العشرات من الألوف في أرجاء القطر قرأوا رسائل في الحث
على إقامة أركان الدين مع بيان أهم أحكامها وحكمها وفي النهي عن المنكرات وبيان ما
عمت البلوى بجهله من أحكام المعاملات كأحكام الرضا - ولم يعلم إلا القليل منهم أن
هذا العمل من جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برأيه وإرشاده، وأنه هو
المقترِح له، ولا أن مكانه منها مكان القطب من الرَّحَى، ولذلك لم تعمل عملاً يُذْكَر
منذ فارق القاهرة.
وكان من تدينه وعقله أن لا يعمل عملاً غير مشروع سواء في ذلك الوسيلة
والمقصد، فكان على مذهبنا في أن الباطل لا يكون موصلاً إلى الحق، والشر لا
يكون طريقًا إلى الخير.
وجملة القول: إن محمد وهبي كان من شهداء الله وحُجَجه على خلقه، وكنت
أرجو أن يكون خير عون وظهير لي على ما أرجو من تجديد دار الدعوة والإرشاد
ومن إحياء السنة بالعلم والعمل والتأليف وطبع الكتب المفيدة على الوجه الذي يَعُمُّ
به نفعُها، فكان المصاب بوفاته أشد عليَّ منه على أهله وولده وسائر أصدقائه،
أسأله تعالى أن يتغمده برحمته ورضوانه ويجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر،
وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
***
ترجمة حياته
بقلم أعرف أصدقائه بسيرته
ولد - رحمه الله - بالقاهرة بجهة بيت القاضي التابعة لقسم الجمالية في أواخر
ذي القعدة سنة 1298 الموافق لأول شهر أكتوبر سنة 1881 من أبوين فقيرين.
فوالده هو المرحوم الشيخ إبراهيم محمد من قرية (آبا الوقف) في مركز مغاغة من
مديرية المنيا وهو من بيت قديم مشهور في القرية، ولد رحمه الله بصيرًا وأصيب
بالعمى بعد ستة أشهر من مولده، ومكث في تلك القرية حتى أرسله أبوه إلى الجامع
الأزهر وهو في الخامسة عشرة من عمره بعد أن حفظ القرآن الكريم فعكف على تلقي
العلوم وانقطع لها طول عمره وتزوج من القاهرة بزوج رُزِقَ منها صاحب الترجمة
وأخاه.
ولما بلغ صاحب الترجمة الرابعة من عمره دخل المكتب ليتعلم القراءة
والكتابة والقرآن ومبادئ الأحكام الدينية فكان ممتازًا بين الأطفال بالأدب والنجابة
حتى صار فقيه المكتب يعتمد عليه في حفظ نظام المكتب على صغره. ومكث في
المكتب ثلاث سنين حفظ فيها القرآن وأجاد الخط وتعلم مبادئ الدين وبعد خروجه
من المكتب كان والده يعتمد عليه في حفظ الدروس؛ إذ كان يستصحبه معه مساء
لمطالعة الدروس الأزهرية فحفظ على حداثته بعض المتون، فقوي رجاؤه فيه.
أدخله والده مدرسة الجمالية الأميرية فظهر على أقرانه وكان يحفظ لنفسه
المكان الأول في كل فرقة من فرق المدرسة. ولم تشغله دروسها الكثيرة عما جرى
عليه قبلها من مطالعة الدروس لنفسه ولوالده فكان يواظب على ذلك في المساء بعد
الخروج منها فرسخت ملكة الدرس وحب العلم في نفسه.
وبعد نيل شهادة الدراسة الابتدائية أدخله والده المدرسة الخديوية الثانوية فمكث
فيها أربع سنين كان في خلالها مطمح أنظار المعلمين والتلاميذ.
وكان قد بلغ السن التي يستقل فيها بنفسه فكان يختلف وحده إلى الأزهر في
أوقات الفراغ يحضر الدروس على مشاهير العلماء كالأستاذ الإمام والشيخ حسين
زائد والشيخ سليم البشري وغيرهم، فأخذ عنهم من العلم شيئًا كثيرًا حتى أصبح
يناقش والده مناقشة الند للند. وبعد حصوله على شهادة الدراسة الثانوية وبعد أن
قضى سنتين معلمًا بمدرسة محمد علي الأميرية مال إلى صناعة التعليم فدخل
مدرسة المعلمين العالية ومازال يحفظ لنفسه المكان الأول فيها حتى نال شهادتها
سابقًا جميع أقرانه ولا سيما في العلوم العربية والرياضية على الأخص.
كان حينئذ قد بلغ الثامنة عشرة من عمره فعُيِّنَ مدرسًا بمدرسة المنصورة
الأميرية فأظهر من البراعة في العلم والتعليم ما لم يسبقه به أحد، ونقل في العام
الثاني إلى مدرسة شبين الكوم الأميرية ولم يمض عليه العام المدرسي حتى عين
ناظرًا لمدرس إدفو الأميرية سنة 1905. ومن ذلك الحين أخذت مواهبه العالية
تظهر بين أفاضل الرجال فكان على حداثته وبحكم مركزه يخالط أكابر القوم
وخواصهم وكان يظهر عليهم جميعًا، وعشقوا فضله فكانوا يودون لو يلازمونه ليلاً
ونهارًا. وكان رؤساء الوزارة يضربون به المثل في حسن الأخلاق وإدارة المدارس.
ومكث في إدفو ثلاث سنين تزوج في خلالها من ابنة خالته ثم نقل من إدفو إلى
المدرسة الحسينية بالقاهرة بالرغم من اعتراض المستر دنلوب مستشار وزارة
المعارف في ذلك الوقت؛ لأنه لم يجد منه ذلك التزلُّف والتملق اللذين كان يحب أن
يتصف بهما جميع مرءوسيه وإنما نقله إلى مصر سعد باشا غلول أيام كان وزيرًا
للمعارف سنة 1908 ومكث بمدرسة الحسينية ثلاث سنين كان خلالها موضع
إعجاب المفتشين الأجانب منهم والوطنيين. حتى كان الشيخ حمزة فتح الله رحمه
الله يلقبه بسيد النظار. وكان إطراء المدرسين له في تقاريرهم يزيد المستشار
غضبًا على غضبه منه. وعرفه في ذلك الحين الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش
واتخذه صديقًا عزيزًا، وكان يلح عليه أن ينضم إلى الحزب الوطني إلا أنه رحمه
الله كان لا يميل إلى حزب سوى (حزب الله) فإنه هو الغالب.
ثم نقل سنة 1909 إلى مدرسة سوهاج الأميرية وكانت الفوضى ضاربة
أطنابها في تلك المدرسة من قلة المدرسين بها فأخذ يشتغل رحمه الله في المدرسة
مدرسًا. وكان ما عليه من الدروس يزيد على دروس سائر المعلمين حتى خرج من
الأزمة مكللاً بالفوز فأثنت عليه جريدة العلم المصرية حينئذ لحسن قيامه بالواجب.
فزاد ذلك المستشار كمدًا على كمده، وسافر إلى سوهاج وقامت بينهما مجادلات كان
رحمة الله عليه الفائز فيها بالحق إلا أن الغطرسة الإنجليزية قضت بتعيينه بعد ذلك
مدرسًا للترجمة بالمدرسة التوفيقية جزاء لما قام به من الخدمات الجليلة لوزارة
المعارف (؟) ومكث فيها تسع سنين كان فيها موضع إعجاب المفتشين والناظر،
ومهبط ظلم المستشار وأعوانه. حتى إنه لم يمنحه في خلال هذه المدة الطويلة من
زيادة المرتب سوى جنيهين مصريين، وما كان ذلك ليَفُتَّ في عَضُدِهِ، أو يغير من
يقينه، بل كان ثابتًا على الحق.
ولما كان مبدأ الحركة المصرية سنة 1919 انهالت على وزارة المعارف
العرائض والتقارير أنه كان من أشد أنصار الطلبة، ومن أكبر المحرضين لهم على
الإضراب وغيره إلا أن الله سبحانه وتعالى حماه من كيد الماكرين ولم يتمكن الوشاة
الظالمون من الإضرار به.
وكم حاول ناظر المدرسة التوفيقية إغراءه بالمال والرتب ليحوله عن خطته،
ويجعله طوع إرادته! فلم ينل من نفسه العالية وأخلاقه الثابتة منالاً.
ثم عُيِّنَ ناظرًا لمدرسة الجمالية الأميرية فكان خير قدوة لأساتذتها وتلاميذها
في حسن التربية ومكارم الأخلاق وصالح الأعمال.
ولما وجد الرؤساء المسيطرون أن نفسه الأبية ووطنيته الصادقة فوق تأثير
الوظيفة، وأنه ما زال مُكِبًّا على خدمة العلم والدين والوطن بجأش رابط ونفس
مطمئنة - نقلوه إلى مدرسة الفيوم الأميرية ليكون بعيدًا عن العاصمة ... وكان وجوده
في ذلك الوادي الرطب سببًا في مرضه الطويل الذي أودى بحياته.
كان رحمه الله شديدًا في الحق، عاملاً على اتباعه لا يخشى فيه لومه لائم،
وكم دافع عنه أمام كبار الموظفين في الإدارة، وكم طُلِبَ إليه أن يحابي أولاد كبار
الموظفين عند دخول المدارس فكان يأبى إلا أن يعطي كل ذي حق حقه، فغضب
عليه كثير من الرؤساء لذلك.
وكان وَرِعًا تقيًّا عالِمًا بالدين عاملاً به يَحُثُّ جميع الموظفين المرءوسين له
على الاعتصام بحبله، والعمل به، وينشره أينما كان ويتناقش مع كل مَن يتوسم
فيه العلم والميل إليه، حتى كان يجعل في المدرسة التي يتولى إدارتها مسجدًا تقام
فيه شعائر الدين في أوقاتها كما تدرس فيه الدروس بأنواعها بكل نشاط وإخلاص.
كان سباق غايات في العلوم الرياضية حتى إنه لشدة اشتغاله بها كان يُظَنُّ أنه
نال غاية الإخصاء في إحدى كليات أوروبا.
وكان كاتبًا قديرًا وكم كتب لوزارة المعارف من تقارير كانت موضع إعجاب
المفتشين وموظفي الديوان. وكان يعرف اللغتين العربية والإنجليزية معرفة أهَّلَتْهُ
لأنْ يكون موضع ثقة الوزارة. ولإعجاب الرؤساء الإنجليز بعلمه وأدبه عهدوا إليه
بتعليم المعلمات الإنجليزيات اللغة العربية على كراهيتهم له. واشتغل في أواخر
أيامه بعلم الفلك، وكان على وشك أن يضع فيه كتابًا إلا أن المنية أدركته قبل
الأوان.
ولما كان ناظرًا لمدرسة سوهاج عرض عليه المرحوم أبو الفتوح باشا في
حفلة شيئًا من الخمر فأنكر عليه ذلك علنًا ثم ما زال يتعهده بالنصيحة والموعظة
الحسنة حتى ترك مُعَاقَرَة الراح أو المجاهرة بها.
وربَّى أولاده تربية دينية متينة فهم يحافظون على الصلاة في أوقاتها وكانت
زوجه تقرأ القرآن عليه وكان يعلم بناته وزوجه الإسعافات الأولية وطرق العلاج
وكان كلمَّا مرض له ولد يكب على درس الكتب الطبية في الحالات المختلفة حتى
كان أحيانًا ينتقد المذكرات الطبية التي يكتبها له الأطباء بحق يعترفون له به.
وتوفي رحمه الله عن أم ضرير وزوج وخمس بنات وغلام كان موضع رجائه
ومحط آماله، أحياه الله تعالى وجعله خير خلف له آمين.
__________(24/630)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب مصر بعالمها الأثري الأكبر
أحمد كمال باشا
فُجئت الأمة المصرية - بل فجعت - باختطاف المنية لعَلاَّمتها الأثرى الأكبر
أحمد كمال باشا الشهير، كان مُكِبًّا على تنقيح معجمه للغة الهيروغليفية بداره التي
في (شبرا) إلى أصيل النهار، ترك الكتب مُفَتَّحَة وذهب إلى داره التي في جوار
الأهرام فتوضأ وصلى المغرب وشرع يغير ثياب النهار بلبوس الليل والنوم فَخَرَّ
ميتًا، ولم يكن يشكو شيئًا.
يعرف قراء المنار في الأقطار البعيدة أحمد كمال باشا رحمه الله تعالى بما نشرنا
له فيه من المقارنة بين اللغتين العربية والهيروغليفية، وهو الاكتشاف الذي امتاز به
على جميع علماء العاديات من الإفرنج فأثبت به أو أكَّد ما اكتشفه غيره قبله من عراقة
مصر في العربية وكون قدماء المصريين والعرب من عرق واحد لا يُعْلَمُ باليقين أيهما
الأصل، أو من عرقين اشتبكت وَشَائِجهما من ألوف السنين ثم افترقا ثم عادا فاتصلا
بعد الفتح الإسلامي واتحدا بفرع المُضرية من لغتهما القديمة السامية، أو المصرية
ذات الأمشاج العديدة.
بَرَأَ الخالق سبحانه أحمد كمال من معدن من أشرف المعادن: معدن العلم
والصلاح، فكان منذ نشأته وطفوليته إلى وفاته في شيخوخته طاهرًا تقيًّا، تلقى
العلم في مدارس مصر درجة بعد درجة، ورغب في الإخصاء بعلم العاديات
المصرية واللغة الهيروغليفية فأتقنها، وألف فيها معجمه الكبير، الذي ليس له نظير،
وكان مكبًّا على تحريره وتنقيحه إلى أن توفاه الله تعالى.
والذي يعني المنار من ترجمته أنه كان منقطعًا للعلم، معرضًا عن اللهو
واللغو، تقيًّا نقيًّا متنزهًا عن الفواحش والمنكرات، محتقرًا للشهوات، محافظًا على
الصلوات، حتى إنه حضر في سن الشباب حفلة رسمية في حديقة الأزبكية في عهد
إسماعيل باشا فقدم له أحد الكبراء فيها كوبًا من الماء الغازي (الغازوزة) ولم يكن
يعرفها فظن بها من المسكرات فأنكر على محاول إكرامه ونهره قائلا: أنا. أنا من
هؤلاء؟
وقد ربَّى أولاده النجباء على الدين والتقوى والجد والإقبال على العلم، فكان
بيته كما قال الله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (يونس: 87) كان كل من فيه
يحافظون على الصلوات الخمس حتى الخدم من رجال ونساء، وكان رحمه الله
تعالى في درجة عالية من مكارم الأخلاق، وأحاسن الصفات والعادات، كعلماء
السلف الأعلام صدقًا وأمانة وحلمًا وتواضعًا. فهو من شهداء الله وحُجَجه على خلقه،
تغمده الله برحمته، وجعل أنجاله النجباء خير خلف له.
__________(24/637)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منشور الإمام يحيى والإنجليز
قال الإمام يحيى في منشوره الذي نشرناه في الجزء السابع: إن الدولة
البريطانية تفتخر بحب الخير للعرب، فاستنبط بعض أصحاب الأهواء من هذه الكلمة
أنه قد ارتبط بحمايتهم كغيره من أمراء العرب، وطفق بعض الكُتَّاب في سورية يُنَوِّهُ
بذلك، وبعضهم ينصح للإمام ويحذره من الإنجليز، وهو أحذر من غراب، وأعلم
من هؤلاء الناصحين، وممن هم أعلم منهم بكُنْهِ القوم، وآخر ما جاءنا من أخبار
الإمام أنه لازال ممتنعًا عن عقد أي اتفاق معهم وإن لم يكن ضارًّا به؛ فليوجه
أولئك الناصحون نصحهم إلى من هم أحوج إليه من الخادعين لهم والمخدوعين بهم
إلى الملك حسين بن علي الذي أسس نهضته على الحماية الإنجليزية في الداخل
والخارج، وكتب في كتاب رسمي أنه يكون خارجًا من رحمة الله تعالى إذا قَبِلَ
من الدول كلها أضعاف ما يعطيه الإنجليز لأمته بدون وساطتهم! !
__________(24/638)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف)
للشيخ محمد جاد الله بن ظهيرة القرشي المكي، ألفه أو أتمه في سنة 950
للهجرة الشريفة، وهو - كما قال - مختصر من المطولات، مع قليل من الزيادات،
تعمد مؤلفه رحمه الله ذلك؛ لقلة مَن يقرأ المطولات وكثرة من يرغب في معرفة
تاريخ حرم الله من غير إضاعة زمن طويل في ذلك، وقد طبع في العام الماضي
(1340) بمطبعة إحياء العلوم العربية الكبرى بمصر فبلغ مع فهارسه أربعمائة
صحفة ونيف من القطع الصغير. فقد وُضع له غير الفهرس المعتاد فهرس طويل
جمع أسماء الأعلام التي ذكرت فيه وأسماء الأماكن والمساجد والمعاهد والجبال
والدور والقبور وغير ذلك كأبواب الحرم ومناوره، فنحث القراء على مطالعته.
***
(كنز الرشاد وزاد المعاد)
تأليف أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين، عز الدين بن الحسن عليه
السلام وهو الإمام الهادي الذي ولي الإمامة في اليمن سنة (880) وتوفي سنة
(900) وكان عالمًا متفننًا وعابدًا ناسكًا، وكتابه هذا مختصر من أجمع
المختصرات في تصوف الأخلاق والآداب الدينية، وهو يستمد من إحياء العلوم
للغزالي وأمثاله من كتب التصوف والرقائق والمواعظ، وقد علق عليه صديقنا
الشيخ عبد الواسع الواسعي اليمني بعض الحواشي لإتمام الفائدة، وطبع في هذا
العام (بمطبعة أمين طبيش الكبرى) بمصر على ورق أصفر غير صقيل فبلغت
صفحاته تسعين صفحة من حجم رسالة التوحيد.
***
(واجبات الطبيب)
كتاب مشهور من مصنفات الدكتور عبد العزيز نظمي بك المفيدة - هو
موضوع للأطباء ولا يقصر عن إفادة غيرهم، وقد طبع طبعة ثالثة في هذا العام
بمطبعة المدرسة الصناعية الإلهامية على ورق صقيل جيد ولكن جاء طبعه دون ما
يليق بإتقان مطبعة لمدرسة صناعية، وإنما يميز هذا من له إلمام بصناعة الطبع،
فزادت صفحاته على مائة وسبعين من حجم رسالة التوحيد أيضًا، وثمن النسخة منه
15 قرشًا صحيحًا.
ولما كان الأطباء يطلعون على ما لا يجوز ولا يسمح لغيرهم بالاطلاع عليه
من أسرار الناس وعوراتهم وعيوبهم - أحببنا أن ننقل من هذا الكتاب (قَسَمَ الطبيب
أبقراط) اليوناني الشهير - على ضَعْف ترجمته بالعربية - والعهد الذي يؤخذ على
الأطباء في مدارس هذه البلاد الطبية عند إعطائهم الشهادة النهائية:
(قسم أبقراط - الذي لا يزال يقسم به الأطباء)
(أقسم بالشرف أن كل ما رأيته أو سمعته أو فهمته مدة قيامي بوظيفتي أو
خارجًا عنها مما يجب كتمانه، لا أبوح بشيء منه ولا يجوز إفشاؤه، وأعتبر الكتمان
في هذه الحالة واجبًا مقدسًا) .
(عهد الأطباء)
(أقسم بالله العظيم وبنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أني أكون أمينًا
حريصًا على شروط الشرف والسر والصلاح في تعاطي صناعة الطب وأن أسعف
الفقراء مجانًا ولا أطلب أجرة تزيد على أجرة عملي، وأني إذا دخلت بيتًا فلا تنظر
عيناي ماذا يحصل فيه، ولا ينطق لساني بالأسرار التي يأتمونني عليها، ولا
أستعمل صناعتي في إفساد الخصال الحميدة. ولا أعاون بها على الذنوب، ولا
أعطي سُمًّا ألبتة، ولا أدل عليه ولا أشير به، ولا أعطي دواء فيه ضرر على
الحوامل أو إسقاط لهن، وأكون موقرًا حافظًا للمعرفة مع من علموني ومكافئًا
لأولادهم بتعليمي إياهم ما تعلمته من آبائهم، فما دمت حريصًا على عهدي وأمينًا
على يميني، فجميع الناس يعتبرونني ويوقرونني، وإن خالفت ذلك كنت المَرْذُول
المُحْتَقَر، والله على ما أقول شهيد. اهـ.
وإننا ننكر على الأطباء القسم بالنبي فإنه يحرم على لسانه صلى الله عليه
وسلم، فإن لم يكتفوا بالقسم بالله تعالى فلا بأس بتوكيده بالقسم بالقرآن العظيم فإنه
كلامه وفي عبارة العهد ضعف ينبغي إصلاحها بما هو أفصح منها وأبين للمراد،
كأن يقال: وإذا دخلت بيتًا فعليَّ أن أغُضَّ بصري ولا أتعمد رؤية ما لا تحل لي
رؤيته فيه، ولا أتجاوز الحد الذي لا بد منه في الكشف الطبي.
__________(24/639)
المحرم - 1342هـ
سبتمبر - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم
يعرف لغة غير العربية
(س 25) من صاحب الإمضاء الطالب في الأزهر:
مولانا الأستاذ الفاضل محمد رشيد رضا نفعنا الله بمواهبه. آمين:
لقد احتد الجدال بين عالمين مسلمين فلسطينيين في: هل كان النبي عليه
السلام يعرف اللغات كلها أو اللغة العربية فقط؟ ولقد قبل الطرفان فتواكم، ورضيا
بقولكم لحل هذه المعضلة، وكشف هذه المسألة. نرجو من الله أن يهدي المسلمين
إلى ما فيه الخير الجزيل. وأن يبعدهم من التعصب الذميم. وفي الختام تقبلوا
تشكراتنا القلبية سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد الشطي
... ... ... ... ... ... ... ... طالب علم بِرِوَاق الشوام
(ج) قد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أميًّا لم يتعلم قراءة ولا
كتابة، ومن المعلوم بالقطع الثابت بكتاب الله تعالى وبالتواتر أنه عربي أمي، فالعلم
بلغة غير لغة قومه لا يكون إلا بالتعلم وهو لم يتعلم. أو بالوحي وقد كان الوحي
إليه بلسانه قطعًا بنص القرآن ولم يثبت ما يخصص هذا النص أو يقيد إطلاقه، بل
ثبت ما يؤيده وينفي ما عداه كقوله تعالى في سورة النحل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:
103) نزلت في عبد لبني الحضرمي رومي كان يقرأ الكتب، وقيل في قين
(حداد) رومي كان يعمل السيوف بمكة مع أخ له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
وآله وسلم يحب أن يرى هذه الصنعة فيختلف إليه. فقال بعض المشركين: إنه
يتعلم منه فحجَّهم الله تعالى بقوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103) ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم شيئًا ما
من اللغات الأعجمية لكانت الرومية؛ لاختلاط بعض قريش بالروم عند اختلافهم إلى
بلاد الشام التي كانت تحت سلطان الروم، ولو عرف الرومية لكان للشبهة المذكورة
وجه ما من جهة اللغة، ولكان ردها من طريق آخر أقوى من طريق اختلاف اللغة
كأنْ يقال: إن الذين يلحدون إليه جاهل بكل علم من علوم القرآن، كعقائد التوحيد
والتنزيه للخالق وأصول الشريعة، وحقائق الآداب، والفصل فيما حرفه وما نسيه
أهل الكتاب من دينهم.. . وأنى لعبد بني الحضرمي أو ذلك القين الرومي أن يعلم
شيئًا من هذا؟ ولكن اختلاف اللغة الذي لا مكابرة فيه أغنى عن هذا البرهان الذي
لا يعقله إلا من عرف القرآن، وكان أكثر المشركين وقت نزول سورة النحل بمكة
لا يعرفون من القرآن شيئًا؛ لأن رؤساء قريش كانوا يصدون الناس عن النبي
صلى الله عليه وسلم كما يصدونه عن التبليغ بقراءة القرآن، فلهذا كان الرد عليهم
باختلاف اللغة المانع من الأخذ والتلقي، أقوى في الإقناع.
هذا وإن بعض العلماء قد ذكروا بحثًا نظريًّا في احتمال تعليم الله خاتم رسله
لجميع خلقه جميع ألسنتهم؛ لقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ
لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وأيدوه بنطقه صلى الله عليه وسلم بكلمات مفردة قيل: إنها
أعجمية، وإننا نورد أصح ما روي في ذلك ونبين غلط الاحتمال فيه وهو ما جاء
في صحيح البخاري قال: (باب من تكلم بالفارسية والرطانة) [1] وقوله تعالى:
{وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (الروم: 22) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم: 4) ثم ذكر بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قلت: يا
رسول الله ذبحنا بُهَيْمَةً [2] لنا وطحنت صاعًا من شعير، فتعال أنت ونفر فصاح
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع لكم سورًا فحيهلا
بكم.... الحديث. ثم ذكر بسنده من طريق عبد الله بن المبارك عن أم خالد بنت
خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميص
أصفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سنه سنه) قال عبد الله: وهي
بالحبشية حسنة. الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في كلامه على الآيتين من ترجمة الباب: كأنه أشار إلى
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الألسنة؛ لأنه أرسل إلى الأمم كلها على
اختلاف ألسنتهم فجميع الأمم قومه بالنسبة إلى عموم رسالته فاقتضى أن يعرف
ألسنتهم؛ ليفهم عنهم ويفهموا عنه، ويحتمل أن يقال: لا يستلزم ذلك نطقه بجميع
الألسنة لإمكان الترجمان الموثوق به عندهم. اهـ.
أقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي العلم بجميع اللغات ليفهم
عن جميع الأمم التي أرسل إليها ويفهموا عنه لكان ذلك من أعظم المعجزات الحسية
التي لا يمكن لأحد أن يكابر فيها ولتحققت العلة بخطابه للأعاجم الذين بدأ بدعوتهم
إلى الإسلام كهرقل قيصر الروم وكسرى الفرس والمقوقس عظيم القبط، ولكن
صح أنه كتب إليهم بالعربية، ولم يُنْقَل قطُّ أنه دعا أعجميًّا إلى الإسلام بلغته، ولا
أنه سمع من أعجمي كلامًا بلغته في شأن الإسلام، ولا أمر أصحابه وأتباعه بأن
يبلغوا الإسلام للأعاجم بلغتهم، بل الذي ثبت ثبوتًا قطعيًّا خلاف ذلك، وهو أنه كان
يدعو إلى الإسلام هو وأصحابه باللسان العربي وبالقرآن العربي، وكانوا يعلمون
كل من أسلم من الأعاجم اللسان العربي ولذلك انتشر هذا اللسان بانتشار الإسلام منذ
العصر الأول من غير مدارس أنشئت لذلك ولا إجبار للأمم التي فتح الصحابة
والتابعون وتابعو التابعين بلادهم كما تفعل أمم أوربة في البلاد التي يستعمرونها،
بل كان الذين يدخلون في الإسلام يتعلمون لغته لأجل القيام بما فرض الله عليهم من
التعبد بكتابه المُنَزَّل، والتفقه فيه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله هذا البحث في أول رسالته في أصول
الشريعة فذكر الآيات التي تصف القرآن بأنه عربي مبين، وآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وذكر الاحتمالين المُشَار إليهما:
هل النبي صلى الله عليه وسلم أُوتِيَ ألسنة جميع من أُرْسِلَ إليهم أم كُلِّفُوا هم أن
يعرفوا لسانه كما كُلِّفُوا أن يعرفوا دينه؟ وجزم بالثاني وأقام عليه البراهين ووافقه
جميع علماء المسلمين؛ فلم يُنْقَل عن أحد من المجتهدين ولا المقلدين أنه عارضه
فيه أو أنكره عليه، وقد فصَّلنا ذلك في مقالتين ننشرهما في الجزء العاشر الآتي.
فالمسألة إجماعية وقد عجبت لسهو الحافظ ابن حجر عنها في هذا المقام على سعة
اطلاعه وذكره لخلاصة أقوال المحققين في شرح كل حديث في الباب اللائق به،
وقد ذكر أن الغرض من حديث جابر هنا أن كلمة (سور) بضم السين وسكون
الواو غير مهموز فارسية، وقيل حبشية وأن معناها الطعام الذي يُدْعَى إليه، وقيل
مطلقًا. كما أن كلمة (سنه) حبشية، وقال: إنها في رواية الكشميهني (سناه)
بزيادة ألف، وإن الهاء فيهما للسكت (قال) قال ابن قرقول: بفتح النون الخفيفة
عند أبي ذر وشددها الباقون، وهي بفتح أوله للجميع إلا القابسي فكسره اهـ.
وروى البخاري في هذا الباب حديثًا ثالثًا عن أبي هريرة وهو أن الحسن بن
علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم له:
(كَخٍ كَخٍ، أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة) .
وقد قال الحافظ بعد إيراد الثلاثة: وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة
أعجمية؛ لأن الأول (وهو سور) يجوز أن يكون من توافق اللغتين. والثاني
(وهو سنه) يجوز أن أصله حسنة فحذف أوله إيجازًا، والثالث من أسماء
الأصوات.
وقد أجاب عن الأخير ابن المُنَيِّر فقال: وجه مناسبته أنه صلى الله عليه وسلم
خاطبه (أي الحسن) بما يفهم مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل فهو كمخاطبة
العجمي بما يفهم من لغته. قلت: وبهذا يجاب عن الباقي ويزاد بأن تجويزه حذف
أول حرف من الكلمة لا يُعْرَف، وتشبيهه بقوله: (كفى بالسيف شا) لا يتجه لأن
حذف الأخير معهود في الترخيم، والله أعلم اهـ. كلام الحافظ في كتاب الجهاد،
وقال في الكلام على حديث جابر في غزوة الخندق: إن كلمة (سور) معناها الصنع
بالحبشية، وقيل: العرس بالفارسية، ويطلق أيضًا على البناء الذي يحيط بالمدينة
اهـ.
ونقول: الصواب أن معنى الكلمة بالفارسية الوليمة أي طعام العرس، ولا
يطلق على طعام جابر إلا بِتَجَوُّزٍ؛ فإذا لم يكن هذا اللفظ معربًا من قبل فيكفي أن
يكون صلى الله عليه وسلم هو الذي عربه، وكذا لفظ سنه أو سناه. وهل تعد
معرفة الكلمة المفردة من اللغة معرفة باللغة؟ قلما يوجد في عوام مصر من لا
يعرف عدة كلمات تركية أو إنكليزية فهل يقال: إنهم علماء بهاتين اللغتين علمًا
يفهمون به كلام أهلها ويُفْهِمُونَهُم مرادهم؟ كلا إنما تساهل بعض العلماء في إطلاق
احتمال أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم المئات من لغات الأمم؛ لأنهم يرونه
من باب التعظيم الذي يكاد بعضهم أن يقبل فيه كل شيء، وإن كان مخالفًا لبعض
القطعيات أو مُفْضِيًا لبعض المطاعن من جهة أخرى لم يفطنوا لها، فإن كون النبي
صلى الله عليه وسلم أميًّا ركن من أركان إثبات نبوته ومقدمة من مقدمات البرهان
على إعجاز كتابه.
__________
(1) الرطانة بكسر الراء، ويجوز فتحها: هو كلام غير العرب يقال: رطن له من باب نصر وتراطنوا بالفارسية مثلاً أو بالإنجليزية.
(2) بوزن جُهَيْنَة مصغر.(24/641)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها
(س 26) من صاحب الإمضاء المدرس في مدينة تطوان - في المغرب
الأقصى.
الحمد لله وحده - من تطوان في 27 شوال سنة 1341
فضيلة أستاذي الوحيد، وملاذي الفريد، أستاذ العالم ومفتيه ومرشده السيد
محمد رشيد رضا.
سلام على تلك الذات، وتلك الروح الطاهرة من قلب يتأجج بنار الأشواق
ويضطرم في سعير البعاد، غير أن ثلج ماء عين (مناركم) قد يطفئ شيئًا من
ذاك اللهيب، ويُخْمِد سعيرها عنه ما يهيم الفكر في استحسان تلك الدرر اليتيمة،
والتمتع بتلك المعاني الوحيدة الفريدة.
سيدي وسندي، أرجو من فضيلتكم الجواب على صفحات (المنار) الأغر
عما يأتي:
من المقرَّر عند علماء الجغرافية أن الأرض لها دورتان يومية وسنوية، وأن
الليل والنهار والفصول ينشآن عن هاتين الدورتين للأرض ويقتضي هذا أن الشمس
ثابتة والله تعالى يقول {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) فأرجو من
فضيلتكم جوابًا كافيًا شافيًا كما هو شأن فضيلتكم بحيث لا يبقى في النفس ولو كانت
جاحدة أدنى مخالفة. حفظكم الله وأطال حياتكم، وبارك في عمركم وعمر أنجالكم
الكرام، مدى الليالي والأيام، من الداعي لفضيلتكم بذلك تلميذكم وصديقكم.
... ... ... ... ... ... ... محمد العربي بن أحمد الخطيب
(ج) إذا كان ما ذكره السائل من المقرَّر عند علماء الجغرافية فإن من
المقرر عندهم، وعند علماء الفلك أن الشمس تدور على محورها كغيرها من
الأجرام السماوية، وأنها تدور هي والكواكب السيارة التي حولها حول نجم آخر
مجهول يعدونه المركز لها، وبلغنا عن أحد المعاصرين من هؤلاء العلماء أنه حقق
حديثًا أن مجاميع الشموس كلها - أو العالم كله - يجري في الفضاء لغاية مجهولة.
وتجدون هذا البحث ما عدا القول الأخير في مقالة طويلة للدكتور محمد توفيق
صدقي رحمه الله في المجلد الرابع عشر من المنار. وتجدون فيها رأيًا عزاه إلينا؛
إذ تلقاه عنا، وهو أن لجميع العالم المؤلف من هذه الشموس والكواكب مركزًا واحدًا
هو مصدر التدبير والنظام لها وهو عرش الرحمن تبارك وتعالى (راجع ص 590
و591 ج 8 منه) ونحن قد استنبطناه من عرض مذهب الفلكيين على قوله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ
الأَمْرَ} (يونس: 3) فجريان الشمس ثابت بالاتفاق فإن دورانها على محورها
يسمى جريانًا، ودورانها مع مجموعها المعلوم حول نجم مجهول - على قولهم -
كدوران المجاميع الشمالية حول نجم القطب الشمالي - يسمى جريانًا أيضًا. وأولى
منه وأظهر سيرها مع بقية العالم الذي قال به بعض المتأخرين كما ذكر في تقويم
لفلامريون المشهور. على أن الجريان يستعمل استعمالاً مجازيًّا في السير المعنوي
كما يقال جرى القضاء بكذا، ولك أن تقول الآن: إن أوربة تجري في تنازع دولها
لحرب أخرى شر من الحرب الأخيرة.
وأما المستقر الذي تجري الشمس إليه أو له ففيه وجهان (أحدهما) أنه ما
ينتهي إليه أمرها بخراب عالمنا هذا التي هي ركن نظامه فيكون جريانها كجريان
غيرها بمعنى قوله تعالى في أول سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى
يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: 2) وهو بمعنى ما
روي عن قتادة قال: تجري لمستقرها: لوقتها ولأجل لا تعدوه (ثانيهما) أنه مستقر
نظامها لا أجلها وهو النجم المجهول عند علماء الفلك والعرش على رأينا. ويؤيده
حديث أبي ذر في كون مستقرها تحت العرش، والحديث قد روي بألفاظ مختلفة
أظهرها أخصرها وهو ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه وغيرهم عنه قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس:
38) قال: (مستقرها تحت العرش) وبعض ألفاظه مشكل في ظاهره جدًّا،
ورواته أقل، وهو ما ذكر فيه سجودها لله تحت العرش واستئذانها، وإن فسر بمعنى
خضوعها لإرادته كقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) والراجح
عندنا أنه روي بالمعنى فأخطأ بعض الرواة في فهمه فعبَّر عنه بما فهمه والله أعلم.
وسنعود إلى هذا البحث في وقت أوسع ومجال أوسع، إن شاء الله تعالى.
__________(24/669)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم الصائم الذي يغطس في الماء
(س 27) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأستاذ الفاضل مولانا السيد محمد رشيد رضا أدام الله وجوده للمسلمين
آمين.
بعد تقبيل أناملكم الكريمة. نعرفكم أنه صرَّح لنا بعض الأستاذة هنا بأن
الصائم إذا غطس في الماء، صيامه صحيح ولا يفطر، فكان عندنا شك من ذلك
فنلتمس من فضيلتكم أن ترشدونا عن ذلك أدامكم الله ذخرًا لمحبيكم.
... ... ... ... عبد الله المزروع ومحمد يوسف فخرو
(ج) قال صاحب المغني من علماء الحنابلة ما نصه:
(فصل) ولا بأس أن يغتسل الصائم؛ لأن عائشة وأم سلمة قالتا: نشهد
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان ليصبح جنبًا من غير احتلام ثم يغتسل
ثم يصوم. متفق عليه. وروى أبو بكر بإسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو
صائم، هو وأصحاب له في شهر رمضان.
فأما الغوص في الماء فقال أحمد في الصائم ينغمس في الماء: إذا لم يخف أن
يدخل في مسامعه، فإن دخل في مسامعه فوصل إلى دماغه من الغسل المشروع في
المضمضة والاستنشاق من غير إسراف ولا قصد فلا شيء عليه كما لو دخل إلى حلقه
من المضمضة في الوضوء، فإن غاص في الماء أو أسرف أو كان عابثًا فحكمه حكم
الداخل إلى الحلق من المبالغة في المضمضة والاستنشاق الزائدة على الثلاث، والله
أعلم.
وقال الشمس الرملي من فقهاء الشافعية في نهاية المحتاج عند قول المنهاج:
(فلا يضر وصول الدهن بتشرب المسام ولا يضر الاكتحال وإن وجد طعمه بحلقه)
ما نصه: كما لا يضر الانغماس في الماء وإن وجد أثره بباطنه. اهـ. وناهيك
بدقة الشافعية وتشديدهم في تعريف الصوم، وعندنا أن أحسن تعريف شرعي
للصوم قول صاحب الهداية من الحنفية: هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع
نهارًا مع النية. والانغماس في الماء ليس شربًا ولا نهي عنه بخصوصه ولا هو
مظنة لدخول الماء إلى الجوف أكثر من المضمضة المشروعة في الصيام، ودخول
الماء إلى الجوف من الأذن لا يسمى شربًا وهو لا من الأفعال الاختيارية التي تفعل
بقصد ولا فائدة منه في نقع الغلة أو إزالة الظمأ فهو ليس منافيًا لحقيقة الصيام ولا
لمقصده، وإنما البحث فيه من التنطع المذموم شرعًا، والله أعلم.
__________(24/671)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
حقيقة الإيمان والكفر وشُعبهما
والظلم والفسق وما يُعد من ذلك خروجًا من الملة
أسهب المحقق ابن القيم في كتابه (الصلاة) في الخلاف بين العلماء في كفر
تارك الصلاة وعدمه وأدلة المثبت والنافي. ثم قَفَّى على ذلك بفصول في الحكم بين
الفريقين بدأها بالبحث في مسألة العنوان المهمة فأحببنا نشرها، لأنها من المسائل
المهمة التي لم يوفها مثلُه حقها.
فصل
في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين
معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر ثم
يصح النفي والإثبات بعد ذلك، فالكفر والإيمان متقابلان إذا زال أحدهما خلفه الآخر؛
ولما كان الإيمان أصلاً له شُعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانًا. فالصلاة
من الإيمان وكذلك الزكاة والحج والصيام والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية
من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة
من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها
ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتًا
عظيمًا، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة
الأذى ويكون إليها أقرب.
وكذلك الكفر ذو أصل وشُعب فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشُعب الكفر كفر،
والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من
شعب الإيمان والكذب شعبة من شعب الكفر. والصلاة والزكاة والحج والصيام من
شعب الإيمان وتركها من شعب الكفر، والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان
والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن
الطاعات كلها من شعب الإيمان.
وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية. وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية
وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من
شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان. وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية،
فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارًا وهي شعبة من شعب الكفر فكذلك يكفر بفعل
شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل.
وها هنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول
قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام.
والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه
الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن
تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد
الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مُجْمِعُونَ على
زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده كما لم
ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول
بل ويقرون به سرًّا وجهرًا ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به.
وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مُسْتَنْكَر أن يزول بزوال أعظم
أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزومًا لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم
لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة
الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته
وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد
التصديق، كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا
الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل
بموجبه، وإن سُمِّيَ الأولُ هدًى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن
اعتقاد التصديق وإن سُمِّيَ تصديقًا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك
بمراجعة هذا الأصل ومراعاته [1] .
فصل
وها هنا أصل آخر وهو: الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد،
فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله - جحودًا وعنادًا - من
أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه. وأما
كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة
بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان , وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك
الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا، ولا يمكن أن يُنْفَى عنه اسمُ الكفر بعد أن أطلقه
الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يسمي
الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا، ويسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم
تارك الصلاة كافرًا ولا يُطْلَقُ عليهما اسم الكفر، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه
وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر. وعمن لا يأمن جاره بوائقه،
وإذا نُفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود
والاعتقاد. وكذلك قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)
فهذا كفر عمل، وكذلك قوله: (من أتى كاهنًا فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر
بما أنزل على محمد) وقوله: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)
وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما
عمل به وكافرًا بما ترك العمل به، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ
دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن
يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوَهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} (البقرة: 84 - 85) فأخبر سبحانه
أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأنهم لا
يقتل بعضهم بعضًا ولا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره
وقتل فريق منهم فريقًا وأخرجوهم من ديارهم. فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في
الكتاب، ثم أخبر أنهم يفدون من أُسِرَ من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ
عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه،
فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي،
وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح:
(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ففرق بين قتاله وسبابه وجعل أحدهما فسوقًا لا
يكفر به والآخر كفرًا، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر
لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق
والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام
والكفر ولوازمهما، فلا تُتَلَقَّى هذه المسائل إلا عنهم فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم
فانقسموا فريقين: فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود
في النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا،
وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام
في الملل، فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق
دون فسوق وظلم دون ظلم.
قال سفيان بن عيينة عن هشام بن جحير عن طاووس عن ابن عباس في
قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) :
ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه، وقال ابن عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن
طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) قال: هو بهم كفر وليس كمن كفر بالله
وملائكته وكتبه ورسله. وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة، وقال
طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة، وقال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن
عطاء: (كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق) وهذا الذي قاله عطاء
بَيِّنٌ في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافرًا،
ويسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافرًا. وليس الكافران على حد سواء، ويسمى
الكافر ظالمًا كما في قوله تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254)
وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا فقال: {وَمَن يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) قال يونس نبيه: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) وقال صَفِيُّهُ آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) وقال كليمه موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم.
ويسمى الكافر فاسقًا كما في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ * الَّذِينَ
يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (البقرة: 26-27) الآية، وقوله: {وَلَقَدْ
أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ} (البقرة: 99) .
وهذا كثير في القرآن.
ويسمى المؤمن فاسقًا كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) نزلت في الحكم بن أبي العاص وليس الفاسق كالفاسق، وقال
تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 4) .
وقال عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50) وقال: {فَمَن
فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} (البقرة: 197) وليس الفسوق كالفسوق.
والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان وكذا الجهل جهلان، جهل كفر
كما في قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف:
199) وجهل غير كفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: 17) .
كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا
ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر، وهو شرك العمل كالرياء، وقال تعالى في
الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: 72) وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ
تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31) وفي شرك الرياء: {فَمَن كَانَ
يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110)
ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)
رواه أبو داود وغيره ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب
له حكم الكفار. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى
من دبيب النمل) .
فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل
عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها.
وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره
الله على المنافقين في القرآن، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل
كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث
كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وفي الصحيح أيضا: (أربع من كن
فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى
يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان)
فهذا نفاق عمل، وقد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ
صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى
المؤمن عن هذه الخلال، فإذا أكملت في العبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها،
فهذا لا يكون إلا منافقًا خالصًا، وكلام الإمام أحمد يدل على هذا فإن إسماعيل بن
سعيد الصالح قال: سألت أحمد بن حنبل عن المُصِرُّ على الكبائر يطلبها بجهده إلا
أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم، هل يكون مُصِرًّا من كانت هذه حاله؟ قال:
هو مُصِرٌّ. مثل قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يخرج من الإيمان
ويقع في الإسلام، ونحو قوله: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق
حين يسرق وهو مؤمن) ونحو قول ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) قال إسماعيل: فقلت له: ما
هذا الكفر؟ قال: كفر لا يَنْقلُ عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك
الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه.
فصل
وههنا أصل آخر، وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد
وتقوى وفجور ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم
من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار
وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع
الصحابة.
قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106)
فأثبت لهم إيمانًا به سبحانه مع الشرك، وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ
يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: 14) فأثبت لهم إسلامًا
وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه
بمطلقه: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ} (الحجرات: 15) وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين؛ بل هم
مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله وليسوا مؤمنين، وإن كان معهم جزء من
الإيمان أخرجهم من الكفر.
(قال) الإمام أحمد: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن - يريد الزنا
والسرقة وشرب الخمر والانتهاب - فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا، ومن أتى دون ذلك -
يريد دون الكبائر - سميته مؤمنًا ناقص الإيمان، فقد دل على هذا قوله صلى الله عليه
وسلم: (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق) فدل على أنه يجتمع
في الرجل نفاق وإسلام. وكذلك الرياء شرك، فإذا راءى الرجل في شيء من عمله
اجتمع فيه الشرك والإسلام، وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله
صلى الله عليه وسلم كفرًا وهو ملتزم بالإسلام وشرائعه، فقد قام به كفر وإسلام. وقد
بيَّنا أن المعاصي كلها شعب من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها شعب من شعب
الإيمان فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمنًا
وقد لا يُسَمَّى، كما أنه قد يسمى بشعب الكفر كافرًا، وقد لا يطلق عليه هذا الاسم.
فهاهنا أمران: أمر اسميّ لفظيّ، وأمر معنويّ حكميّ. فالمعنوي: هل هذه
الخصلة كفر أم لا؟ واللفظي: هل يسمى من قامت به كافرًا أم لا؟ فالأمر الأول
شرعي محضٌ، والثاني لغوي وشرعي.
فصل
وها هنا أصل آخر، وهو أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد
أن يسمى مؤمنًا وإن كان ما قام به إيمانًا، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر به أن
يسمى كافرًا وإن كان ما قام به كفرًا، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم
به أن يسمى عالمًا ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن يسمى فقيهًا ولا
طبيبًا، ولا يمنع ذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيمانًا، وشعبة النفاق نفاقًا، وشعبة
الكفر كفرًا، وقد يطلق عليه الفعل كقوله (فمن تركها فقد كفر) و (من حلف بغير
الله فقد كفر) وقوله: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر، ومن حلف بغير
الله فقد كفر) رواه الحاكم في صحيحه بهذا اللفظ.
فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، وكذا
يقال لمن ارتكب محرمًا إنه فعل فسوقًا وإنه فسق بذلك المحرم، ولا يلزمه اسم
فاسق إلا بغلبة ذلك عليه. وهكذا الزاني والسارق والشارب والمنتهب لا يسمى
مؤمنًا وإن كان معه إيمان كما أنه لا يسمى كافرًا وإن كان ما أتى به من خصال
الكفر وشعبه؛ إذ المعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب
الإيمان.
والمقصود أن سلب الإيمان من تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب
الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه
ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلمًا ولا مؤمنًا، وإن كان معه شعبة من شعب
الإسلام والإيمان. نعم يبقي أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود
في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطًا في صحة الباقي واعتباره، وإن
كان المتروك شرطًا في اعتبار الباقي لم ينفعه. ولهذا لم ينفع الإيمان بالله
ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو مَن أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تنفع
الصلاة من صلاها عمدًا بغير وضوء، فشعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق
المشروط بشرطه، وقد لا يكون كذلك.
فيبقى النظر في الصلاة هل هي شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة،
والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يُقْبَلُ من العبد شيء من أعماله إلا
بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه، ورأس مال ربحه، ومُحَال بقاء الربح بلا رأس
مال، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، وإن أتى بها صورة. وقد أشار إلى هذا في
قوله: (فإن ضيعها فهو لما سواها أضيع) وفي قوله: (إن أول ما ينظر في
أعماله الصلاة فإن جازت له نظر في سائر أعماله، وإن لم تُجَزْ له لم ينظر في
شيء من أعماله بعد) .
ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودُعِيَ إلى فعلها على
رءوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، وشُدَّ للقتل وعُصِبَتْ عيناه،
وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبدًا! ! ومن لا يكفر
تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن مسلم يُغَسَّل ويُصَلَّى عليه، ويُدْفَن في مقابر
المسلمين. وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل
وميكائيل، فلا يستحي مَن هذا قولُه مِن إنكاره تكفير مَن شهد بكفره الكتاب والسنة
واتفاق الصحابة؟ والله الموفق. اهـ.
__________(24/673)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بطل العرب والإسلام العظيم
القائد الكبير محمد عبد الكريم
اقتسمت فرنسة مع أسبانية مملكة المغرب الأقصى كما اقتسمت مع إنكلترة
سورية والعراق. وقد قيَّض الله تعالى لأهل الريف الذي جُعِلَ حصة لأسبانية
زعيمًا عظيمًا نظَّم لهم جيشًا من أنفسهم يقاتل به الأسبانيين؛ لإخراجهم من بلادهم
فأتى في قتاله لهذه الدولة بما يكاد يكون من خوارق العادات التي أيَّد الله بها سلف
هذه الأمة في صدر الإسلام، وما زلنا نمني النفس بالتنويه بجهاده منذ بطش
البطشة الكبرى قبل ثلاث سنين حتى رأينا في هذه الأيام ما كفانا المؤنة من المقال
الآتي (لسعادة الكاتب السياسي الكبير) الذي يغني وصفه عن تعيين شخصه،
وحرف الإمضاء عن التصريح باسمه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المنار
من عادة الجرائد أن تكثر من لفظ (البطولة) تعرب بها كلمة Heroisme
التي تدور كثيرًا في الكتابات الأوروبية، والناس مضطرة اليوم إلى تعريب كلماتهم
وتقليد مناحيهم. أما أنا فكنت غير راغب في هذا الاستعمال؛ لأنني لا أكتفي من
اللفظة بأن تأتي في معاجم اللغة، وأن لا تعد غلطًا، بل أحب أن أجدها في كلام
العرب الأولين أو المخضرمين أو المولدين على الأقل، ولا أتذكر أنني عثرت
بالبطولة - أي حالة من كان بطلاً - في غير متون اللغة. أما الآن فأريد أن أستعملها
لهذا الأسد الزائر، والفحل الصائل، المسمى بمحمد بن عبد الكريم، المتولي كِبرَ
تحرير قومه في شمالي مراكش، فأقول: بطل محمد بن عبد الكريم بطولة وبطالة
فهو بطل، لا بل هو بطل الأبطال، وفذ الأفذاذ وعلم الأعلام، بل هو عندي أعظم
مزية من مصطفى كمال، ومن جميع أبطال العصر الحاضر، البادي منهم
والحاضر. وكل من ينظر في قضية الأمير محمد بن عبد الكريم ويتأمل فيها ويرى
موقفه المدهش المحير للعقول في وجه إسبانية مع الفرق الشاسع والشقة الهائلة بين
درجتي كل من إسبانية والمنطقة التي تقاتلها من شمالي المغرب - يحكم بأنه لو كان
في الدنيا إنصاف لما كان أحد اليوم أولى من محمد بن عبد الكريم بأن يوضع في
مقدمة أبطال العصر، ويكتب تاريخه، وتُدَوَّنُ سيرته، وتعرض صورته، ويرجح
على فوش وهندنبرغ ومصطفى كمال ودانو نسيو ولنين ومسوليني وطبقتهم التي
اختلط ذكرها بالتاريخ العام.
إن فوش عندما أحرز النصر كان رأسًا على 15 مليون جندي من عساكر
الحلفاء عدا جنود أميركا التي كان وصل منها إلى فرنسا مليونان ونصف مليون
وبقي منها مثل هذا العدد في أميركا، وإن هندنبورغ كان قائدًا لستة ملايين ألماني
هم أحسن جنود العالم بدون نزاع، وإن مصطفى كمال وإن صح أن يقال: إنه بعث
تركية من قبرها، فإنه كان في تركية عساكر منظمة، وجنود مدربة، وضباط
أركان حرب معدودين من الطبقة الأولى، وبقايا أسلحة، وآثار دولة مبنية من
أصلها على الأسل، وجاءها لويد جورج بمعاهدة سيفر التي تجعل تركية أثرًا بعد
عين، وزحف إليها اليونانيون يذبحون الرجال، ويهتكون الأعراض، فأتيحت لهمة
مصطفى كمال أسباب عديدة تجمع حوله أمه باسلة مستبسلة كالأمة التركية.
وإن سائر من ذكرنا من الرجال المعدودين في هذا العصر كانوا في حركاتهم
متوكئين على أمم عظام، وأعداد لا تُحْصَى، وتشكيلات إدارية تامة، فاستوسق لهم
من الأمور ما استوسق، وظهر من شأنهم ما ظهر.
وأما محمد بن عبد الكريم فإن جئنا إلى عد أنصاره فإن الريف كله يبلغ جزءًا
من سبعة من سلطنة المغرب، فإن كانت هذه السلطنة ثمانية ملايين فيكون الريف
زائدًا قليلا على المليون، وإن كانت هذه السلطنة لا تنوف على أربعة ملايين أو
خمسة كما جاء في بعض مؤلفات الفرنسيس الأخيرة؛ فيكون الريف نحو ثلثي
المليون أي أكثر قليلاً من جبل لبنان وأقل شيئًا من فلسطين، ومع هذا فإن هذين
الثلثين من المليون، أو فلنقل هذا المليون واقف في وجه دولة إسبانية التي عدة أهلها
عشرون مليونًا بخلاف تركية مع اليونان؛ إذ تركية مع كل ما اقتطع منها بقيت 12
مليونًا، واليونان مع كل ما أضيف إليها لا تزيد على 6 ملايين. فأنت ترى ما
هنالك من الفرق، وزد عليه أنه لم يجتمع من جنود اليونان في وجه مصطفى كمال
ما اجتمع من جنود الإسبانيول في وجه محمد عبد الكريم، فقد كان جيش اليونان
المحارب لجيش أنقرة من 150 إلى 170 ألفًا حال كون الجيش الإسبانيولي الذي
غزا الريف سنة 1921 بلغ عدده 250 ألف مقاتل وباء بالخذلان كما هو معروف.
والجيش الإسبانيولي الزاحف اليوم إلى الريف هو بحسب قول الجرائد
الأوروبية مائة وستون ألف مقاتل. وإنه في كلتا المرتين تطوع في الجيش
الإسبانيولي ألوف مؤلفة من أصناف الإفرنجة لا سيما من الإنكليز الذين لا يتركون
فرصة يُظهرون فيها فرط محبتهم للإسلام إلا وَلَجُوهَا، وهذه المرة يقال: إن أكثر
الإلحاح على الدولة الإسبانية في استئصال شأفة المقاومة من الريف واقع من دولة
بريطانيا العظمى.
ثم لا يخفى ما يوجد من الفرق بين زحف اليونان من بلادهم راكبين أثباج
البحر الواسع وإيغالهم في بلاد الأناضول الطويلة العريضة التي تأكل الجيوش
بمساوفهم وبين ركوب الإسبانيول بحرًا اسمه بحر الزقاق أو بوغاز جبل طارق
عرضه ساعات قلائل، وكون الريف كله لا يساوي في الرقعة ولاية من ولايات
الأناضول.
لا نريد في هذه المقابلات والمقارنات تصغير شيء من مجادة العمل الذي قام
به إخواننا الترك وأدهش الربع العامر بأسره، وترنحت له أعطاف الشرقيين عند
من يقول بجامعة شرقية، وقرَّت به عيون المسلمين عند مَن يأخذ بجامعة إسلامية.
إن الأتراك أشهر في الحروب من أن ينوه فيها الإنسان بقدرهم، وإن
انتصارهم الأخير بعد أن نهكت قواهم الحروب المتتابعة بدون انقطاع ولا فتور منذ
بضع عشرة سنة - أضاف صفحة جديدة على تاريخ مجدهم، وخلد مصطفى كمال
ذكرًا لا تمحوه الأعصر بأنه هو المؤسس الأخير للدولة التركية.
ولكننا نريد أن نثبت بهذه المقارنات أنه بالنسبة إلى قلة الوسائل وضيق الرقعة
وفقد التشكيلات، ونزارة الأسلحة، وندورة الضباط، وانحصار الريف بين البحر
من جهة والمنطقة الفرنسوية من أخرى، وصغر الريف من أصله، فإن فضل
محمد بن عبد الكريم هو أعظم من فضل مصطفى كمال ومن فضل أعاظم قواد
أوروبا؛ لأنه لو قام أي واحد من أولئك العظام مقام ابن عبد الكريم لعجز أن يأتي
بشي مما أتاه.
في تموز سنة 1921 استأصل الريفيون بقيادة هذا البطل الغشمشم 25 ألف
مقاتل إسبانيولي وأسروا ألوفًا وغنموا 170 مدفعًا وقيل 300 مدفع و 70 ألف
بندقية وأعتادًا حربية لا تحصى وعددًا من الطيارات، وسبق لهذا العاجز - المعجب
بمحمد بن عبد الكريم المتحسر على أن ليس في سورية مثله - مقالات متعددة عن
تلك الطوائل التي طال بها والوقائع التي انتصر فيها، منها ما نشرناه (بالبيان)
ومنها في (الصباح) الذي كان يطلع بفلسطين؛ لأن حرية المطبوعات ... في
سورية لعهد محرري الأمم ... لم تكن تسمح بنشر شيء عن قوم يدافعون عن
استقلالهم، ولو كانوا من أقصى البلاد عن سورية.
وبعد هاتيك الهزيمة عوَّل الإسبانيول على سياسة التفريق والشقاق بين
الريفيين، تلك السياسة التي طالما نجحت بها الدول المستعمرة، ونالت مآربها من
الشرق من ثنايا منافسات الشرقيين بعضهم مع بعض، فعقد الإسبانيول الصلح مع
الرسولي، وأعملوا الهمة في التضريب بين القبائل الريفية، وخدَّروا أعصاب
كثيرين منها، وبذلوا المواعيد ومنوا الأماني، حتى خُيِّلَ لهم أن الحركة قد همدت،
وأن حزب ابن عبد الكريم قد ضعف جدًّا عن ذي قبل، وأنهم إن صمدوا إليه وجدوه
هذه المرة في قلة من قومه وقضوا منه وطرهم، فكان الأمر بعكس ما خالوا، وهو
أنهم لما آنسوا منه رقة الجانب وطمعوا في أخذه بالقوة عاد هذا الأمير فاستفز قبائل
الريف، وأوضح لهم الخطر فارتفعت الواعية، وامتدت الصارخة، واعصوصبت
القبائل حول قائدها، وتأهبت للنضح عن ذمارها، وعاد الأمر كما بدأ، لا بل رأى
محمد بن عبد الكريم أن يجعل الإسبانيول غداءه قبل أن يجعلوه عشاءهم، فجمر [1]
للزحف على مواقعهم الأمامية بقرب مليلا، وناوشهم القتال منذ أوائل هذا الصيف،
فدارت رحى الهيجاء، وحمي الوطيس وتباعث العرب والبربر على الموت في سبيل
دينهم ووطنهم، فجفلوا الإسبانيول عن مراكزهم، وأفحشوا النكاية فيهم، ورأت
إسبانية أن ابن عبد الكريم لا يزال ابن عبد الكريم من المَنََعَة في قومه، والحيطة من
وراء أمره، والحمية على وطنه، والحفيظة لحقه، وأن الريفيين لم يبرحوا على
عهدهم بالشهامة وإباء الضيم، والبصائر بالحرب، والغرام بالطعن والضرب،
فسقط في يدها، وخابت آمالها، وجردت إلى الريف زحوفها، حتى بلغ عدد الفيلق [2]
الإسبانيولي المرابط الآن بالريف 160 ألفًا، وهي لم تنل وطرًا، ولا قضت حاجة،
فثارت الخواطر في مادريد واضطربت الحكومة وادْلَهمَّ الخطبُ، وأبى الحزب
العسكري إلا أن يتابع إرسال الإمداد إلى أن تستقيم عصاة الريف أو تنكسر، وذهب
آخرون إلى أنه لا فائدة من غزو الريف إلا تراكم الخسائر في المال والرجال، وقدم
اثنان من النظار استعفاءهما: أحدهما ناظر المالية الذي شكا من كون عجز الموازنة
المالية هذه السنة بلغ 900 مليون، فماذا يكون إن أصرت الحكومة على متابعة حرب
الريف؟
هذه حالة إسبانية اليوم، وهذا هو الفري الذي فراه محمد بن عبد الكريم عوْدًا
على بَدْءٍ، فأثبت أنه بطلها اليوم كما كان بطلها بالأمس، وسنرى أنه بطل السلم
كما هو بطل الحرب، وأنه أصدر أوامر بالاتفاق مع أعضاء الحكومة الريفية التي
هو رأسها بإنزال أشد العقاب إلى حد القتل بمن يعتدي على إسبانيولي أو أي
أوروبي أو يخالف القوانين الحربية المرعية بين الدول المتمدينة.
وقد نشر رجل سويسري من زوريخ منذ أيام رسالة تناقلتها كثير جرائد
سويسرة كنا نود تعريبها ونشرها كلها نقلاً عن جريدة (فوي دافي) الصادرة
بلوزان لكن طولها حال دون تعريبها برمتها، ومآلها: أن بعض الشبان من سويسرة
قصدوا إسبانية للعمل وبينما هم يعملون ببرسلونة [3] إذ أخذتهم حكومة إسبانية إلى
الريف بحجة أنها تريد أن تستخدمهم في النقليات. وأن هنا عملاً بأجرة وهناك
عملاً بأجرة فذهبوا مسيرين غير مخيرين، ولما صاروا إلى مليلا نظموهم في
التابور وأرسلوهم إلى ميدان الحرب؛ خلافًا لما كانوا وعدوهم به، ولما كانوا من
رعية سويسرة لا شأن لهم في حرب واقعة مع إسبانية فر منهم بضعة نفر فأدركهم
الإسبانيول وحاكموهم محاكمة البلط (الفارين من العسكر) وحكموا عليهم بالقتل
ونفذ فيهم الحكم رميًا بالرصاص مع أنهم لم يكونوا متطوعين في جند إسبانية وإنما
سيقوا إلى الحرب جبرًا وقهرًا بعد أن خدعوا بقول الحكومة الإسبانية لهم أنهم
يكونون في مليلا عَمَلَةً كما كانوا في برسلونة. قال هذا الرجل السويسري
الزوريخي: فالتزمنا أن نشهد وقائع من أشد وأهول ما يتصور العقل كانت غالبًا
خسائر الإسبانيول فيها أفدح من خسائر المغاربة، وذكر واقعة قال: إن الإسبانيول
خسروا فيها وحدها أربعة آلاف مقاتل. وهو يحزر مجموع خسائر الإسبانيول
بستين ألف مقاتل.
ثم قال: إننا مللنا القتال ونحن لا ناقة لنا في الأمر ولا جمل ففررنا إلى جهة
العرب فأخذونا إلى عبد الكريم فأمر بانتظامنا في الجيش، فبعد أن كنا نقاتل في صف
الإسبانيول صرنا نقاتل الإسبانيول، وكنا في كلا الحالين مكرهين لا أبطالاً، فبعد
أن شهدنا عدة وقائع لاحت لنا فرصة للفرار ففررنا أملاً بالوصول إلى ساحل البحر،
ومنه نجد فُلْكًا يأخذنا إلى أوروبا فكانت وقعتنا بالقرب من قرية عربية فقبضوا
علينا وساقونا إلى الأمير عبد الكريم فأيقنا في أنفسنا بالهلكة، وقلنا: يصيبنا هنا ما
أصاب رفاقنا عند الإسبانيول، فلما وصلنا إلى الأمير كان منه أن قال لنا: نعم
يحق لكم أن تفروا؛ لأنه طال عليكم الغياب عن أوطانكم، ولكن أخطأتم بأنكم لم
تخبرونا بعزيمتكم حتى نؤدي إليكم نفقة الطريق، ثم نقد لنا [3] مبلغًا يكفي نفقتنا
وأرسلنا إلى جهة ركبنا منها البحر إلخ.
ويذكر هذا السويسري بعد ذلك الفرق بين الإسبانيول والمغاربة مما هو ظاهر
للعيان من سياق هذه القصة.
إن الذي يربطنا بعبد الكريم وقومه ليس أنهم مسلمون فقط ولا أنهم معدودون
من الأمم الشرقية، ولو كانوا من الغرب، بل لكوننا مقيدين وإياهم بسلسلة طويلة فهي
متصلة الحلقات لا خرم فيها من أولها إلى آخرها، ومن المحال أن يفوز المغربي
في الريف أو في أي مكان آخر بدون أن ينتشق أخوه المشرقي أرج الفرج، ولو
على بُعْد ألوف من الفراسخ، وهذا أمر يعرفه الأوروبيون جيدًا؛ لذلك تجدهم
متضامنين متكافلين في وجهنا مهما اشتدت الشحناء بينهم في بلدانهم. وهاك مثالاً
وقع معنا نحن الوفد السوري:
إنه لمعلوم كون فرنسا منافسة إسبانية في المغرب. وإسبانية لا تود فرنسا،
وأكثر الخلاف بينهما على مسألة طنجة، فذهب مرة أحد زملائنا أعضاء الوفد
السوري لمقابلة المندوب الأسباني في جمعية الأمم نظير غيره من مندوبي الدول
الذين قابلناهم وشرحنا لهم قصة سورية، إلا أنني لم أكن والحمد لله حاضرًا هذه
المرة مقابلة المندوب الإسبانيولي بل كان الرصيف وحده، فما كاد يفتح له حديث
الاستقلال وحق سورية في الاستقلال إلا وجد المندوب الإسباني نفر وانتثر وقال له:
(نحن لا نساعد أبدًا أممًا أمثالكم على الاستقلال ويكفينا ما عندنا من مسألة الريف)
وصادف أن رصيفنا لم يكن يريد إغضابه ظنًّا بأن مرضاته ربما تفيد شيئًا، وأنه
هو أيضًا ممن يعتقد المصانعة وكتمان الضمير في السياسة، فأخذ يبرهن له على
أهلية سورية للاستقلال، ويؤكد له وجود قسم كبير فيها من المسيحيين. وشرع
الإسبانيولي يرد عليه بأن المسيحيين في سورية هم فئة قليلة فأجابه رفيقنا لا بل عندنا
مسيحيون نحو الثلث. وأخيرًا فصل السياسي الأسباني الخطاب بأنهم هم أي
الأوروبيين لا يجدر بهم أن يساعدوا أمة شرقية على الاستقلال، ولو كان فيها
مسيحيون، وأتى بهذا الجواب المقشر بدون أدنى محاباة ولا محاياة، فلينظر إذًا
الشرقي وليتأمل.
هذه قضية لم نأخذ منها النتيجة عقلاً، بل أخذناها نقلاً بل شفهيًّا من فم
مندوب إسبانية في جمعية الأمم. يكره هؤلاء استقلالنا بالشام؛ لئلا تشتد بقوتنا نحن
عزائم أهل الريف، ولو كان الأسبان أضداد الفرنسيس، أبعد هذا شك في وجود
التضامن بينهم ووجوب التضامن لا بيننا وبين كل أمة إسلامية فقط بل كل أمة
شرقية بل كل أمة مظلومة مسلمة أو غير مسلمة؟ إذًا فليحي محمد بن عبد الكريم؛
لأن قضيته هي قضيتنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... البيان - (ش)
(المنار)
إن فيما ختم به مقاله أمير الكُتَّاب، لموعظة وذكرى لأولي الألباب، ومن
العجب العجاب أن أهل الشرق كافة، والمسلمين منهم خاصة والإفريقيين منهم
على الأخص. لم يحفلوا بأمر هؤلاء الريفيين على إعجابهم ببسالتهم، وعلمهم
بقلة الوسائل التي بأيديهم، ولو كنا أحياء كالإفرنج الذين يتعاونون على استعبادنا،
ويتكافل المتنازعون منهم فيما بينهم في كل ما يقضون به علينا - لكنا أجدر بإرسال
المتطوعين إلى الريفيين، من الإنكليز بالتطوع مع الأسبانيين، وإننا نرى نهضة
شعبنا المصري قد دخلت في كل طور من أطوار حياة الأمم إلا طور الجهاد بالنفس،
والتمرن على فنون الحرب، أفلم يكن يجدر بهم أن يغتنموا مثل هذه الفرص
- حرب طرابلس وحرب الريف - فيرسلوا حملات المتطوعين من شبانهم التي دلتنا
الثورة الأخيرة على شجاعتهم فيها وعدم مبالاتهم بالرصاص في أثنائها، وأن يجدوا
من ضباطهم الذين في (الاستيداع) مَن يقود حملتهم ويدربها؟ بلى، والله ثم بلى.
فإن كان هذا طورًا جديدًا لَمَّا يُتَح لهم فما بال أغنيائهم الذين حمد العالم لهم
بذلهم المساعدة للدولة العثمانية في حروبها ولا سيما حرب طرابلس الغرب
وحرب الأناضول - لا يمدون أيديهم السخية لمساعدة هؤلاء المنكوبين حتى إن
جمعية الهلال الأحمر لم تُبَالِ بهم، كأنها لا تشعر بوجودهم؟
__________
(1) المنار: جمر بنو فلان: اجتمعوا وجمرتهم: حشدتهم وهو مأخوذ من: جمرات العرب، جمع جمرة وهي الطائفة التي تجتمع على حدة لقوتها وشدة بأسها، وقول الكاتب: جمر للزحف، معناه لأجل الزحف وفي حقيقة الأساس: وجمر الأمير الغزاة (بتشديد الميم) حبسهم في الثغر وفي نحر العدو لا يقفلهم، أي: لا يأذن لهم بالرجوع.
(2) الفيلق بوزن زينب: الكتيبة العظيمة، مؤنثة المعنى، وكتاب العصر يذكرونها بتذكير اللفظة، أو بمعنى الجيش.
(3) قال في معجم البلدان: برشليانة بسكون اللام وياء وألف ونون بلدة بالأندلس من أقليم كبلة.
(4) يقال: نقدته الدراهم ونقدتها له على الزيادة بمعنى أعطيته إياها.(24/684)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلافة والسلطان القومي
وجهة نظر الترك إلى هذه المسألة الكبرى
صدر من أنقرة كتاب بالتركية بعنوان (الخلافة والسلطان القومي) يقع في
78 صفحة، هو مجرد من اسم المؤلف واسم المطبعة واسم البلد الذي طبع فيه،
ولكن مهما أراد واضعوه أن يتكتموا، فإن موضوعه ومادته وكل شيء فيه يَنُمُّ على
حقيقته. وهو مطبوع أجمل طبع على ورق جيد، ومنسق تنسيقًا يشهد لواضعيه
بأنهم بذلوا الجهد في التأنق به وإفراغه في القالب الذي أرادوه له.
ويرجح أن حكومة المجلس الوطني الكبير هي التي نشرت كتاب (الخلافة
والسلطان القومي) تأييدًا لخطتها في هذه المسألة الإسلامية الكبرى، وقد تولت أمر
نشره في العالم كله مديرية الاستخبارات؛ لأن ذلك داخل في دائرة اختصاصها، أما
أصحاب المعلومات التي تضمنها هذا الكتاب فهم أنفسهم الذين أعدوا للغازي
مصطفى كمال باشا المادة الدينية والعلمية من خطبته الشهيرة في الخلافة.
يتألف كتاب (الخلافة والسلطان القومي) من مقدمة وفصلين وخاتمة، أما
المقدمة ففي اختلاف وجهة نظر الفرق الإسلامية كالخوارج والإمامية والباطنية
وغيرها إلى الخلافة، وهل هي ضرورية أم لا؟ وأما الفصل الأول ففي تعريف
الخلافة وتقسيمها إلى حقيقية وصورية وفي شروطها وكونها في قريش، وفي أنها
من نوع عقود الوكالة، وفي الغاية منها وما يترتب على ذلك من واجبات الخليفة
ومسئوليته، وفي الولاية العامة والسلطان القومي. وأما الفصل الثاني ففي التفريق
بين السلطة والخلافة وهو بيت القصيد في الكتاب، والفصل كله يدور حول الإقناع
بجواز ما صنعته حكومة أنقرة في الخلافة الإسلامية؛ ولأن هذا الفصل هو المقصود
من الكتاب فقد جعلت الخاتمة أيضًا في هذا الموضوع لزيادة تأييده.
ومما أراد مؤلفو الكتاب إثباته أن الخلافة الإسلامية ليست من مسائل الدين،
بل هي مسألة دنيوية وسياسية (ذكروا ذلك في المقدمة ثم في متن الكتاب) .
وبعد أن نقلوا عن (شرح المقاصد) تعريف الخلافة بأنها: (رياسة عامة في
أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم) ونقلوا عن (المسايرة)
لابن الهمام أنها: (استحقاق تصرف عام على المسلمين) قالوا: إن المعنى الذي
تدل عليه كلمة (الإمامة) هو المعنى الذي يراد الآن من لفظ (الحكومة) والإسلام
ليس فيه رياسة دينية لأحد، حتى إن (مشيخة الإسلام) مما ابتدعه العثمانيون،
ولم يكن هناك مقام رسمي ديني في الحكومات الإسلامية السابقة له هذه الصفة من
الرياسة الدينية، وغاية ما في الباب أن شيخ الإسلام له صفة الفتوى لا يمتاز عن
المفتين في شيء، والمفتي هو العالم وفتواه متى كانت صوابًا صحيحة سواء كانت
فتوى رسمية أو غير رسمية.
ثم قسم واضعو الكتابِ الخلافةَ إلى حقيقية وصورية، فالخليفة الحقيقي هو
الجامع لكل الصفات والشروط المطلوب وجودها في الخليفة، وأن تكون الأمة قد
اختارته وبايعته برضاها وإرادتها، وأن يكون - فضلاً عن هذا وذاك - مجردًا
من الأغراض الدنيوية والمطامع المختلفة، وأن تكون له على الأمة شفقة الأب على
بنيه، وأن لا ينحرف عن الشرع قيد أنملة. والخلاصة أن الخليفة الحقيقي هو الذي
يسلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أعماله، فإن لم يكن الخليفة كذلك، أو
إذا لم تكن متوفرة فيه شروط الخلافة، أو أن يكون قد نال هذا المقام بالغلبة والقهر،
فهو سلطان وليس بخليفة، بل إن السلطة والملك لا يكونان مشروعين إذا قاما على
الظلم والاعتساف، فلا يعتبر قضاء القاضي ولا ولاية الوالي إذا كانا منصوبين من
إمام أو سلطان جائر.
وذكر مؤلفو الكتاب شروط الخلافة، ومنها (أن يكون الخليفة من قريش) أي
من أركان القبيلة القرشية، قالوا: وقريش هم بنو النضر بن كنانة الذين منهم النبي
صلى الله عليه وسلم ومنهم بنو هاشم وبنو أمية وبنو العباس فهؤلاء جميعًا من
قريش، وذلك مذهب أهل السنة من حنفية وشافعية ومالكية وحنابلة؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) وقد قرر ذلك بلسان قطعي وبإطلاق
تام أستاذ فقهاء الحنفية وكبير من كبراء فحول علماء تركستان وهو النجم النسفي
المعروف بمفتي الثقلين المتوفى في سمرقند عام 537 فأثبته في كتابه (العقائد
النسفية) الذي يُدَرَّس في جميع المدارس الإسلامية منذ عصور وهو من الكتب
المقررة في المدارس الدينية في الآستانة إلى يومنا هذا، لذلك قال العلامة التفتازاني
في (شرح العقائد النسفية) : إن الأمر أصبح مشكلاً بعد انقراض الخلافة العباسية
لأن الخلافة القرشية قد زالت بزوالها.
واستنتج واضعو كتاب (الخلافة والسلطان القومي) من ذلك أنه ما دام واجبًا
على المسلمين إقامة الخليفة، وما دام الخليفة لا بد أن يكون من قريش - فإنه من
الواجب تحويل ذلك إلى إقامة حكومة فقط؛ لتعذر وجود خليفة جامع للصفات
والشروط اللازمة، ولا يكون المسلمون آثمين إذا أقاموا حكومة تحل محل الخلافة
ولا حاجة حينئذ إلى أن تكون هذه الحكومة حكومة الخلافة ولا إلى أن يكون رئيسها
خليفة (انظر ص 22 من هذا الكتاب) ولذلك لم ينكر العلماء المعاصرون للسلطان
سليم الأول على هذا السلطان حمله الخليفة (المتوكل على الله العباسي) على أن
يفرغ له الخلافة سنة 923 مع أنه فعل ذلك على مرأى منهم في جامع آيا صوفية،
ومع ذلك فإن خلافة السلطان سليم الأول خلافة صورية وليست خلافة حقيقية.
ولذلك لم يعبأ أحد في العالم الإسلامي بل ولا في جزيرة العرب لادعاء
الشريف حسين الخلافة وإعلانه ذلك مع أنه في مكة ومن قريش بل ومن بني هاشم
ولم يكد المجلس الوطني الكبير يعلن أنه أجلس في مقام الخلافة حضرة عبد المجيد
حتى ارتفع صوت الإجابة والبيعة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولو بالقول
على الأقل، وعلى ذلك فإن مما يوافق الحكمة حصر المجلس الوطني الكبير الخلافة
في آل عثمان.
ثم تساءل مؤلفو الكتاب عما إذا كان رجل جامع في نفسه شروط الخلافة أكثر
من كل رجل آخر في العالم الإسلامي هل يكون خليفة بنفسه؟ وأجابوا أنه لا يكون
خليفة ما لم تخوله الأمة حق التصرف العام عليها، ونقلوا عن الماوردي في
(الأحكام السلطانية) أن الخلافة عبارة عن نوع من أنواع العقود فيما بين الأمة
الإسلامية والخليفة، فهو من نوع عقود الوكالة، ولذلك كانت العمدة في انعقاد
الخلافة إنما هي الشورى، حتى إن البيعة بنفسها تفيد معنى العقد كالبيع والشراء.
وللوصول إلى مقام الخلافة طريقان: إما البيعة العامة، أو استخلاف الخليفة
ولي عهده، فالأول هو الأصل، والثاني متفرع عنه، بشرط توفر شروط الخلافة
فيمن يتولاها في كل من الحالتين، وأما الإرث فلا تجوز الخلافة به؛ لأن الوكالة
لا تورث، وذكروا طريقًا ثالثًا لإحراز الخلافة، وهو طريق القهر والغلبة، وذلك
لا يكون بطبيعة الحال إلا في الخلافة الصورية دون الحقيقية، فإذا ثار عليه متغلب
آخر وغلبه ينعزل الأول بتغلب الثاني.
والخليفة لا يملك حق التصرف في أمور المسلمين بما فيه ضررهم أو ضرر
أفراد منهم، وإن كان الضرر قليلاً، وتصرفه من هذا القبيل لا يُعَدُّ معتبرًا ولا نافذًا
فلو تصرف بشبر من الأرض العامة لغير مصلحة يكون تصرفه لاغيًا.
والخلافة ليست معقودة لنفسها بل تكون وسيلة لشيء آخر وهو الحكومة،
فالغاية منها توزيع العدل وصيانة الملة، بل تلك هل الغاية من الشرع نفسه، وإنما
استفحل ملك الإسلام يوم كان يُنْظَرُ إلى الشرع والإمامة بهذا النظر ثم اضمحل
الإسلام وأهله لما انصرفت الإمامة عن واجباتها هذه إلى ما يخالفها، فغرق العالم
الإسلامي في جهل كثيف، وتولاه تعصب متعفن، وكانت نتيجة هذا وذاك سقوط
الملة الإسلامية في حَمَأَةِ الفقر والسفلة.
ومسئولية الخليفة عظيمة، بل ليس في الإسلام فرد مجرد من المسئولية، وقد
ورد في الحديث: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول
عن رعيته) .
أما ما ورد في قانون الدولة العثمانية الأساسي من أن (السلطان مقدس وغير
مسئول) فإنما اقتبسه العثمانيون من قوانين أوروبا الأساسية وهو ينافي الشرع
الإسلامي كل المنافاة؛ لأنه ليس أحد من الناس مقدسًا في حكم الشريعة الإسلامية،
فالمقدس هو الله وحده، وإذا كان في المخلوقات شيء مقدَّس فإنما هي الحقوق؛
لأنها أمانة الله بين يدي من يتولاها، فالإمام إذا عبث بهذه الحقوق وظلم الأمة فهو
واقع تحت حكم الحديث الشريف: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة إمام جائر)
وأما الولاية العامة التي هي للإمام (الخليفة) على المسلمين فإنما هي ولاية
تفويض، فإذا خُلع الخليفة أو تخلى عن منصبه سقط عنه حق الولاية العامة، وعاد
فردًا كأفراد الناس، وهذا هو معنى السلطان الشعبي تمامًا.
وما جاء في الكتب الإسلامية من وجوب نصب الخليفة فإنما نظروا فيه إلى
أن الأمة لا يمكنها أن تتولى بجمهورها القيام بمهامها العامة فقضوا بتفويض هذه
المهام العامة إلى الإمام أو الخليفة، وهم إنما يريدون أن من الواجب على الأمة
الإسلامية ألا تكون بلا حكومة، وهم يقولون في كتبهم: إن المقصد الأصلي من
نصب الإمام إنما هو سد الثغور وتجهيز الجيوش وإقامة الحدود وقطع النزاع وفصل
الخصومات وإقامة الشعائر الدينية، وهذا الأمر كما يقوم به الإمام العادل المُدَبِّر
يمكن أن تقوم به (الحكومة) مهما كان شكلها إذا كانت ذات أنظمة صالحة
فالمقصود هو أن لا تضيع حقوق الناس، وأن لا تختل مصالح الملة، فالولاية
العامة كما تكون للخليفة تكون للحكومة المنتظمة العادلة.
وأخذ مؤلفو الكتاب يبرهنون على صحة غرضهم وهو أن الحكومة تقوم مقام
الخلافة؛ لأن الخلافة انقطعت منذ أمد طويل والخلفاء الذين نعرفهم كلهم خلفاء
صوريون غير حقيقيين بل إن الخلفاء العباسيين أيضًا كذلك، وجعل مؤلفو الكتاب
يردون على العلامة التفتازاني (انظر ص51) لقوله في شرح (العقائد النسفية) :
(إن أهل الحل والعقد من أئمة الدين اتفقوا على خلافة آل العباس بن عبد المطلب
رضي الله عنه) واستدلوا من عدم رضا الإمام أبي حنيفة بتولي وظيفة القضاء أنه
كان خارجًا على الخلافة العباسية وغير معترِف بها.
ولما انتبهوا إلى ما ثبت في التاريخ من ولاية الإمامين أبي يوسف ومحمد
القضاء للخلفاء المهدي والهادي والرشيد، وهذان الإمامان كانا صاحبي أبي حنيفة
وعلى أقوالهما قام مذهبه، رجعوا فقالوا: إن ذلك لا يدل على اعترافهما بالخلافة
الحقيقية لهؤلاء الخلفاء. ونقلوا عن ابن الهمام في (المسايرة) أن قبول منصب
القضاء والولاية من السلطان الظالم الفاسق جائز وصحيح، وقد شحنوا عدة
صفحات من كتابهم بانتقاص خلفاء الملة الإسلامية من أقدم الأزمان إلى الآن، ولم
يستثنوا غير الخلفاء الراشدين الأربعة وواحدًا أو اثنين آخرين، وسلبوا سائر خلفاء
الإسلام كل مزية ليبرهنوا على أن الخلافة يجب أن تُهْمَل، وأن الخليفة يجب أن
يُسْلَبَ كل سلطة.
ثم قالوا: بما أن الخلافة عقد وكالة، فالأمة لها عند البيعة أن تشترط في
الخليفة ما تشاء، فإن قبل فذاك، وإلا بايعت من يقبل شروطها، هذا طريق،
وطريق آخر وهو أن يجرد الخليفة من كل شيء ويعهد بوظيفته إلى أشخاص
آخرين، قالوا: ولنا قدوة في التاريخ يوم تولى الملوك الإدارة عن الخلفاء وجعلوهم
لا يتدخلون في أمر ولا يتولون للأمة عملاً.
قالوا (ص 59) : وإن فريقًا من الناس في زماننا يترددون في تجويز تقييد
الخليفة إلى هذا الحد الذي تنفصل فيه السلطة عن الخلافة وهم مخطئون في ترددهم،
فإن علماء مصر جوزوا ذلك ليس الآن بل قبل ستمائة سنة حيث بايعوا المستنصر
بالله العباسي بيعة صورية وكان الحكم والعمل في يد الظاهر بيبرس، وقد أقر ذلك
العز بن عبد السلام من كبار علماء الشافعية. قالوا (ص60) : ومعلوم أن علماء
الشافعية لا يتساهلون في الأمور الشرعية كما يتساهل الحنفية، ومن الجور أن نقول:
إنهم وافقوا سلطان مصر على ذلك رياء فالعز بن عبد السلام من أشد العلماء
صلابة في أخلاقه ودينه وتمسكًا بعلمه اهـ.
__________(24/692)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية
هذا ما لخصه قلم الترجمة لجريدة الأهرام من كتاب (خلافت وحاكميت ملية)
لم نحذف منه إلا بعض الجمل الاستطرادية للمترجم الذي فاته بعض المسائل المهمة
منه، وما ارتآه في تعيين مؤلفيه بإيعاز حكومة أنقرة التي نشرته.
أما كون الكتاب قد نشرته (إدارة الاستخبارات التركية الرسمية) فإننا نعلمه
ولا نشك فيه، وأما كون جامعه ومؤلفه فردًا أو جماعة فلا شأن له عندنا فإننا ننظر
إلى القول لا إلى القائل، وإننا ننتقد أهم ما نراه في هذه الخلاصة منتقَدًا فنقول:
(1) قولهم: (إن الخلافة ليست من مسائل الدين بل هي مسألة دنيوية
وسياسية) إن أرادوا به أنها ليست من المسائل الاعتقادية المحضة؛ لأنها عملية
وليست من العبادات، بل هي من الأحكام الشرعية العملية التي يعبر الفقهاء عنها
بالمعاملات - فقولهم يكون صحيحًا، لكنه لا يفيد ما يظهر أنهم قصدوه به وإن كان هو
اللائق باطلاعهم، وإن أرادوا به أنها من الأمور الدنيوية المباحة التي لم يوجبها
الدين الإسلامي، فقولهم باطل بإجماع المسلمين كما بين ذلك المتكلمون والفقهاء،
ولو تُرجم لنا الكتاب كله لأمكننا منه معرفة مرادهم، قال صاحب جوهرة التوحيد:
وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل
(2) تقسيمهم الخلافة إلى حقيقية وصورية، تقسيم مبتدع، وإنما قسمها
علماء العقائد والفقه إلى إمامة حق، وهي ما كانت على الوجه الشرعي من اختيار
أهل الحل والعقد للمستجمع للشروط، وإمامة تغلُّب وهي ما يقابلها، وقد فصلنا ذلك
في كتاب (الخلافة) والخلافة الحقيقية قد تكون كاملة كخلافة الراشدين ومن كان
على هديهم كعمر بن عبد العزيز، وقد تكون ناقصة على تفاوت في النقص؛ إذ
بعضه يقرب من الكمال وبعضه يبعد عنه.
وقد اشترطوا في الخليفة الحقيقي شروطًا لم يقل بها أحد من أهل السنة ككون
شفقته على جميع المسلمين كشفقته على بنيه وعدم انحرافه عن الشرع قيد أنملة،
ويقرب هذا من اشتراط بعض الشيعة فيه العصمة.
(3) قد فات ملخص الكتاب بالعربية أن يذكر زعم مؤلفي الكتاب أن
الخلافة الحقيقية محصورة في الراشدين واستدلالهم على هذا بحديث (الخلافة بعدي
ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا عضوضًا) وحكمهم بصحته كما في (ص13) .
ونقول: قد اشتهر هذا الحديث على الألسنة - على عدم صحته - لسببين:
(أحدهما) أنه يذكر في دلائل النبوة، وما كان كذلك لا يُعنى العلماء عادة
بإعلاله؛ إذ لا يخشى منه إثبات شيء باطل.
(وثانيها) أن أعداء بني أمية كانوا يقصدون به الطعن في خلافتهم
فيروجونه لذلك. وقد ذكر معناه النسفي في كتاب العقائد، واستدل له شارحها
العلامة التفتازاني به باللفظ الذي حاء في كتاب (خلافت وحاكميت ملية) ثم
قال: هذا مشكل؛ لأن أهل الحل والعقد من قد كانوا متفقين على خلافة الخلفاء
العباسية، وبعض المروانية كعمر بن عبد العزيز مثلاً، ولعل المراد أن الخلافة
الكاملة التي لا يشوبها شيء من المخالفة وميل عن المتابعة تكون ثلاثين سنة،
وبعدها قد تكون وقد لا تكون ا. هـ كلام السعد.
وقال ملا أحمد في حاشيته عليه: إن الحديث أخرجه الترمذي في الفتن
والنسائي في المناقب وابن حبان من حديث سفينة بألفاظ متقاربة، وأخرجه أبو داود
بلفظ: (خلافة النبوة ثلاثون ثم يؤتي الله الملك من يشاء) . اهـ.
أقول: حديث سفينة رواه الإمام أحمد أيضًا ولفظه عند غير أبي داود: (ثم
ملك بعد ذلك) ولم أره في النسائي. وقد انفرد به سعيد بن جهمان عنه عندهم كلهم،
وقال الترمذي: حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جهمان ولا نعرفه
إلا من حديثه اهـ. والصواب أنه ضعيف وإن وَثَّقَ أحمدُ سعيدًا فقد ضعفه غيره،
والجَرْحُ مُقَدَّمٌ على التعديل، وقد بيَّنُوا سببه، قال يحيى بن معين: روى عن سفينة
أحاديث لم يروها غيره، وأرجو أنه لا بأس به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا
يحتج به، وقال البخاري: في حديثه عجائب. وقال الساجي لا يُتَابَعُ على حديثه
وتصحيح ابن حبان وحده له لا يعتد به لتساهله في التصحيح. قال رواة الحديث: قال
سعيد: ثم قال سفينة أمسك خلافة أبي بكر ثم قال: وخلافة عمر وخلافة عثمان،
ثم قال أمسك خلافة علي فوجدناها ثلاثين، قال سعيد: فقلت له أن بني أمية
يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: (كذبوا بنو الزرقاء هم ملوك من شر الملوك)
وليس في شيء من ألفاظ هذا الحديث: (ثم تكون ملكًا عضوضًا) ولكن ورد هذا
اللفظ في سياق حديث آخر غير حديث: (الخلافة ثلاثون سنة..) .
ثم إن هذا الحديث على لفظه معارض بأحاديث صحيحة، منها حديث: (لا
يزال هذا الدين عزيزًا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش) إلخ رواه مسلم وأبو
داود وغيرهما، وهو في البخاري بلفظ: (يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش)
وحديث مسلم: (وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول
فالأول) وحديثه: (يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيًا لا يعده عدًّا) فما
فسر السعد به حديث أسامة لا مندوحة عنه، وقال بعضهم: إن المراد بالخلافة فيه
خلافة النبوة وهو لفظ رواية أبي داود، والمراد بها الكاملة بزهد الخلفاء وإعراضهم
عن زينة الدنيا وعظمة الرياسة، وهذا الكمال ليس بشرط لصحة الخلافة؛ بل هو
مزيد كمال فيها، ولكن لا يقتضي ذلك أن تكون الخلافة بدونه صورية، فإن معنى
الخلافة رياسة الحكومة الإسلامية المستجمعة للشروط التي ذكرنا المجمع عليه منها
عند أهل السنة ومنها كونه من قريش، وما زاده مؤلف أو مؤلفو كتاب (خلافت …)
باطل أريد به باطل.
(3) أنهم أرادوا من ادعاء انتهاء أجل خلافة النبوة وصيرورة رياسة
الحكومة الإسلامية ملكًا، ومن اشتراط كون الخليفة الحق كالنبي الذي يخلفه بغير
فرق، ومن اشتراط النسب القرشي فيه - أن وجوده متعذر، وأن تعذره يجعل
المسلمين في حل من نسخ الإمامة الإسلامية العظمى واستبدال حكومة أخرى بها لا
يكون رئيسها إمامًا للمسلمين ولا خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم في سياسة الدنيا
وإقامة الدين، وهو ما صرحوا به في الصفحة الثانية والعشرين.
ونقول: إن الخوف من مثل هذه الجرأة على العبث بالشرع والتلاعب بالدين
هو الذي جعل بعض علمائنا العقلاء يشايعون أهل الجمود التقليدي على القول بإقفال
باب الاجتهاد !! فقد كنت أتكلم مع أستاذنا الشيخ حسين الجسر في هذه المسألة فقال:
إننا نخاف من فتح هذا الباب أن يَدَّعِي أهل الجرأة والجهل الاجتهاد، ويروج ذلك
لهم الحكام الظالمون ليُفتُوا لهم بما يوافق أهواءهم، وذكر لي مثلاً على ذلك الشيوخ
المقربين من السلطان عبد الحميد كالشيخ أبي الهدى الصيادي، وقال: إن السلطان
كان يرغب في جعله منهم، وأن يظل لديه في (المابين) وأنهم عرضوا عليه أن
يفتي في بعض المسائل التي يعتقد بطلانها فاعتذر وتنصل بلطف وألح في الاستئذان
بالعودة إلى بلده معتذرًا بأن الإقامة في الآستانة تزيد في مرضه الصدري المزمن
فلما صدرت الإرادة السنية له بالإذن كان كأنه خرج من السجن، وقد كانت شرًّا من
السجن على محب الحق.
ولكن إقفال باب الاجتهاد لم يَحُلْ دون المفسدة التي كان يخشاها شيخنا رحمه
الله تعالى فقد كان مشايخ الإسلام في الآستانة كمشايخ مصر وغيرها يفتون الحكام
بكل ما يطلبون منهم الفتوى فيه بإيراد نصوص مبهمة يتركون لهم الحرية في
تطبيقها على النوازل بما يخالف الشريعة، وأحدث هذه الفتاوى في عصرنا فتوى
شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية لوزارة مصر بما جعلته حجة لإرجاع ركب
محمل الحج من جدة ومنعهم من إتمام النُّسُك بعد الإحرام به، والشيخان لا يبيحان
هذا لو سئلوا عنه بخصوصه. وشر من هذه الفتوى وأضر فتوى شيخ الإسلام
عبد الله دري أفندي لحكومة السلطان محمد وحيد الدين بأن جيش الأناضول المُدَافِع
عن استقلال الدولة عاصٍ على الخليفة خارج عليه فيجب قتالهم، ومن قتل في ذلك
فهو شهيد، وهو لم يذكر جيش الأناضول وإنما ذكر عبارة مجملة عامة طبقتها
الحكومة عليهم، والتقليد أعون على هذه المفسدة من الاجتهاد، فإن الاجتهاد يبيح لكل
عالم أن يُفَنِّدَ خطأ المخطئين بالدليل كما نفعل بالرد على مؤلفي كتاب (خلافت
وحاكميت ملية) .
أما قولكم: (إنه يجب على المسلمين إقامة خليفة) فهو صحيح، وعليه
أجمع أهل السنة ومن وافقهم من سائر الفرق المعتدلة كالزيدية. وقولكم: (إن الخليفة
لا بد أن يكون من قريش) صحيح أيضًا ومجمَع عليه عند أهل السنة كما نقلتموه عن
كتب العقائد الشهيرة التي لا تزال تدرس في مدارس السلاطين في الآستانة، وفي
سائر بلاد الترك وغيرها.
وأما قولكم: (إن وجود خليفة جامع للشروط والصفات متعذر) فهو باطل؛
فإن الشروط المذكورة في كتب العقائد والفقه كلها متوفرة في كثير من رجال قريش،
ولا سيما إذا جرينا على عدم اشتراط بعض الحنفية - الذين يقلدهم الترك- العلم
الاجتهادي، فحينئذ نقول لهؤلاء: بِمَ تطعنون في صديقكم السيد أحمد شريف
السنوسي؟ ألستم تشهدون بأنه قرشي حسني تقي صالح عادل؟ على أنه يوجد في
علوية قريش من هم أهل للاجتهاد سواء ادعوه كصديقكم إمام اليمن أم لم يدعوه
تواضعًا كالسيد محمود شكري الآلوسي البغدادي.
وقد بيَّنا لكم في كتاب الخلافة الطريقة المُثْلَى لإيجاد كثير من المستجمعين
لشروط الخلافة، وهو تأسيس مدرسة لتخريج المجتهدين في الشرع الإسلامي،
يختار لها بعض الطلاب من أذكياء العلويين؛ لأنه قلما توجد أنساب ثابتة لغيرهم من
بطون قريش، وهم أولى من غيرهم بهذا الأمر إذا ساووا غيرهم في العلم والعدالة؛
لأن في المسلمين ملايين كثيرة تشترط النسب العلوي الفاطمي في الإمامة العظمى،
فتجتمع بذلك كلمتهم مع أهل السنة الذين يكتفون بالنسب القرشي والأخص يستلزم
الأعم ولا عكس. فإن تعذر استجماع الشروط قبل تَخَرُّجِ مَن يتربون ويتعلمون في
هذه المدرسة كما تقولون يكون نصب الخليفة الفاقد لشرط واحد أو شرطين للضرورة
أولى من تعطيل هذا الفرض وإزالة شكل الحكومة الإسلامية واستبدال شكل آخر به،
يتقيد فيه بشيء من الشروط، بل هو الحتم اللازم.
(4) قولكم في هذا المقام: (ولذلك لم ينكر العلماء المعاصرون للسلطان
سليم عليه حمل الخليفة المتوكل على الله العباسي على التخلي له عن الخلافة) لم نَرَ
له وجهًا شرعيًّا ولا عقليًّا! فعلماء الآستانة لم يكونوا أحرارًا قادرين على معارضة
السلطان سليم السفاك، وهم غير معصومين من الخطأ عمدًا، وليسوا ممن يُحْتَجُّ
بقولهم فضلاً عن سكوتهم ولو بغير عذر. ومثل هذا التعليل استدلال مصطفى كمال
باشا بسكوت علماء مصر لحكومتها على نصب التماثيل - على كون صنعها ونصبها
غير مخالف للشرع - فهو استدلال باطل سواء كانوا معذورين في السكوت أو غير
معذورين، فإن منهم مَن يرى رجاء قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطًا
لوجوبه، وهم متفقون على أن الخوف على النفس يسقط الوجوب عملاً بحديث (من
رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك
أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبى سعيد مرفوعًا.
على أنه يجوز أن يكون من هؤلاء وأولئك من أنكر سرًّا أو جهرًا ولم ينقل إنكاره.
(5) قولكم: (ولذلك لم يعبأ أحد في العالم الإسلامي ولا في جزيرة العرب
لادعاء الشريف حسين الخلافة وإعلانه ذلك إلخ) نقول فيه - أولاً -: إننا لم نر
للشريف حسين دعوى صريحة للخلافة أعلنها وطلب المبايعة عليها، وإنما قدم له
بعض السورين المسترزقين منشورًا مصنوعًا بالمبايعة من بعض أهل الشام فَسُرَّ به
بل بايعه بعضهم فعلاً؛ تقربًا لفيصل في عهده ثم آخرون تقربًا إلى عبد الله من خدم
حكومته … - وثانيا - وخاطبه بعضهم بلقب أمير المؤمنين فسُرَّ به ورغب في
تعميمه بقدر طاقته، ولو ادعى الخلافة جهرًا وصراحة لكلف أهل الحجاز بمبايعته
بها وأعلنها كما يعلنها ولده عبد الله في شرق الأردن - وثالثًا - أن العالم إذا لم يعبأ
بدعوة الشريف الخلافة على فرض وقوعها فلا يعقل أن يكون لعدم اعتداده بإجماع
أهل السنة باشتراط النسب الفرشي لها ولا لعدم احترامه للحرمين الشريفين ومن
يتولى خدمتهما، كيف وأنتم تلقبون خليفتكم الصوري أو الاسمي بخادم الحرمين
الشريفين؛ لأنكم ترون هذا من لوازم الخلافة، وإن كانت دعوى خدمتهما باطلة؟
ولكن العالم الإسلامي يعتقد في جملته أن هذا الرجل آلة في يد أعداء الإسلام وخطر
عليه وعلى الحجاز وأنه غير مستجمع لشروط الخلافة الكسبية التي يمتاز بها قرشي
على قرشي - ورابعًا - أن ارتفاع أصوات الإجابة لبيعة عبد المجيد أفندي (ولو
بالقول على الأقل) كما قلتم، لا يدل على ما تريدون، وهو أن يشايعكم العالم
الإسلامي على إقامة خلافة صورية مبتدعة لا يكون ممثلها رئيسًا لحكومة إسلامية
تقيم الشرع، وسنبين وجهة نظر العالم الإسلامي في هذه المسألة في مقال آخر؛ إذ
لا يحتمله هذا التعليق.
(6) قولكم: (إن الخلافة غير مقصودة لنفسها بل وسيلة لشيء آخر هو
الحكومة التي تقيم العدل وتصون الملة) الصواب فيه أن يقال: إنها رياسة الحكومة
الإسلامية التي تقيم العدل وتصون الدين وتحفظ استقلال الأمة الإسلامية، لا أنها
شيء آخر فإذًا لا يجوز إسقاطها واستبدل شكل آخر من أشكال الحكومات بها.
ويقال مثل هذا في قولكم: (إن الغاية التي ذكرتموها هي المرادة من الشرع
نفسه أيضًا) أعني أنه لا يجوز للمسلمين إهمال الشرع الإسلامي والاستغناء عنه
بشرع آخر بدعوى أنه وسيلة للعدل وحفظ الأمة مثله، ولو جاز هذا للمسلمين لجاز أن
يقولوا: إن المقصد من الدين نفسه تزكية النفس بعبادة الله تعالى وفعل المعروف وترك
المنكر - فلا بأس يطلب هذا المقصد باتباع دين آخر يقصد به الغاية! ! إن أقْيستكم
التي اتخذتموها أدلة لإسقاط حكومة الخلافة ونسخها بحكومة ما تسمونه الحاكمية
القومية، باطلة شيطانية تؤدي إلى إباحة ترك الإسلام برمته وأنتم لا تشعرون بذلك.
فإن قلتم: إننا نريد تقييد حاكميتنا الملية بالشرع الإسلامي، ولكن لما كان
الخليفة مشترَط فيه أن يكون قرشيًّا فنحن لا نرضى أن نجعل رئيسًا لحكومتنا من
ليس من نسبنا، ولا أن نسمي رئيس حكومتنا التركي خلفية؛ لأن هذا تزوير على
ديننا، وقد قلنا: إن كتب العقائد التي تقرأ في جميع مدارسنا الدينية مصرِّحَة
بالإجماع على اشتراط النسب القرشي في الخليفة (قلنا) : إذا كان هذا رأي مجلس
حكومتكم فليصرح به وليترك إقامة خليفة صوري ليس له في حكومته أمر ولا نهي؛
فإن هذا أبعد عن الشرع وأبعث على العبث به من جعله رئيسًا لحكومة؛ إذ رئيس
الحكومة إذا ادعى الخلافة مع فقد بعض شروطها تصح تسميته خليفة متغلبًا ويجب
طاعته على من يبايعونه إلا في معصية الله تعالى، بل على جميع من يتغلب عليهم،
وإن لم يبايعوه، فأما الإمام الحق المستجمع للشروط فيجب اتباعه على جميع
المسلمين، ويُعَدُّ المتغلبون الذين يرفضون اتباعه بغاة يجب قتالهم عند الإمكان،
وأما الخليفة الاسمي الصوري فإن هذا اللقب لا يجعل له أدني حق في طاعة أحد.
(7) ما ذكرنا في المسألة السادسة يغنينا عن إطالة القول في تفنيد كلامكم
الذي زعمتم فيه أن ما ذكره العلماء من الواجبات على الخليفة من إقامة الحدود
وفصل الخصومات، وإقامة الشعائر، وتجهيز الجيوش، وغير ذلك يمكن أن تقوم
به حكومة مهما يكن شكلها إذا كانت ذات أنظمة صالحة، فنكتفي بأن نقول فيه: إن
هذه الأنظمة لا بد أن تكون موافقة للشرع، وأن تراعي أحكامه في رئيسها.
(8) إن ما عللتم به عدم قبول الإمام أبي حنيفة لتولي القضاء وهو الخروج
على الخلافة العباسية، باطل لا يمكن إثباته بل كان خاضعًا لحكمهم وإمامتهم في
صلاة الجمعة وسائر أحكامهم، وقد علَّلَه غيركم بأنه كان مُبَايعًا في السر لأستاذه
الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام ولم يثبت. وأما ما فرقتم به بينه وبين
الأمام أبي يوسف فهو من الترجيح بين المتساويين بغير مُرَجِّح.
(9) استدلالكم على جواز تجريد الخليفة من السلطة وجعل الخلافة صورية
بما سبق له من المثل في التاريخ، وسكت عنه العلماء - من أظهر الأباطيل كما تقدم
مثله في الكلام على سكوت علماء الآستانة للسلطان سليم، ففي التاريخ ضلالات
وظلم وكفر كثير …
فخلاصة القول في هذا الكتاب: أنه يحرّف أحكام الشرع في الحكومة
الإسلامية ويزيد فيها وينقص، يثبت جواز جعل خليفة الرسول في أمته مرءوسًا
لحكومة لا أمر له فيها ولا نهي. ويشترط فيه أن يكون من بيت خاص من الشعب
التركي بدلاً مما أجمع عليه المسلمون من جعل الخليفة الحق من عشيرة الرسول صلى
الله عليه وسلم أو قبيله، ولا يشترط فيه العلم بالشرع؛ لأنه لا دخل له في التشريع
ولا في تنفيذ الشرع، وجواز جعل الحكومة الإسلامية شعبية أو قومية يكون التشريع
فيها في كل شعب لجماعة منتخبة منه لا يشترط فيهم العلم بالشرع الإسلامي اجتهادًا
ولا تقليدًا. والعجب لمن يريد هذا كيف يجرؤ على جعله إسلاميًّا؟
__________(24/698)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بريطانية وبلاد العرب
معنى المعاهدة الجديدة في نظر الإنكليز
عقدت جريدة (النيوستيسمان) الإنجليزية المقال الآتي في مشروع المعاهدة
العربية البريطانية فترجمته جريدة الأخبار، ورأينا أن ننقله لإطلاع قرائنا على
أفكار الإنكليز في قومنا، وفي الملك حسين وأولاده لعلهم يعتبرون. وهذا نص
الترجمة:
ظاهر من الحوادث التي جرت في الأسابيع الأخيرة القليلة أن العلاقات بين
بريطانيا العظمى والعالم العربي قد شارفت نقطة التحول، ومما له دلالة خاصة على
اتجاه التيار إتمام (الثالوث الشريفي) بترقية الأمير عبد الله إلى ما هو على الأقل
شبيه بالعرش. ذلك أن السر هربرت صمويل في آخر مايو زار الأمير في عاصمة
عمان وأعلن أن بريطانيا العظمى تعترف بوجود حكومة مستقلة شرقي الأردن، ولا
بد من موافقة عصبة الأمم قبل أن يصبح هذا الاعتراف تامًّا ولكن هذا إجراء رسمي
لن تقوم في سبيله صعوبة ما، على أن إعلان السر هربرت صمويل مفرَّغ في
قالب الحيطة. فقد اقتصر على الاعتراف بِعَدِّ الأردن كحكومة مستقلة واستخدم
عبارة غامضة بعض الغموض لا تحتمل التحليل الدقيق، وإنما استدعى هذا
الاحتياط ضرورات الحالة من جهة والانتداب لفلسطين من جهة أخرى، ذلك أن
شرقي الأردن - الذي لا يتجاوز تعداد سكانه 350.000 ولا مساحته سبعة آلاف
ميل مربع - لا يكاد يستطيع في الوقت الحاضر أن يقف على قدميه وحده، وهو لم
يبلغ درجة يستطيع معها أن يستغني عن المستشارين البريطانيين أو المعونة
البريطانية التي في السنة المالية 150.000 جنيه إنجليزي.
وأما الانتداب فيشمل فلسطين قاطبة وفي جملتها شرقي الأردن وغربه على
السواء، وقد أعلن أن بعض نصوص الانتداب، وبخاصة ما يتعلق منها بالوطن
القومي لليهود لا ينطبق على غبر [*] الأردن. والانتداب نافذ معمول به، وقد
أبلغت بريطانية العظمى عصبة الأمم في سبتمبر الماضي أن حكومة غبر الأردن
ستظل سائرة تحت إشرافها العام (إشراف بريطانية) وعلى هذا فليس ثَمَّ استقلال
تام في الوقت الحاضر على الأقل. ولكن هذا الإعلان الذي صدر (بالاعتراف
بالاستقلال) له مغزاه على كل حال، وهو يعني أن غبر الأردن مقدور له أن
ينفصل عن فلسطين الغربية، وأن يصبح دولة عربية تنظر جنوبًا إلى الحجاز
وشرقًا إلى العراق (؟) .
ولكن هذه ليست إلا مرحلة واحدة في عملية كبرى، لقد لمح السر هربرت
صمويل في خطابه تلميحًا جليًّا إلى أن المركز الجديد الممنوح للأمير عبد الله يجب
أن يُفَسَّر في ضوء المعاهدة التي توشك أن تعقد بين بريطانية العظمى ووالده الملك
حسين. وهذه المعاهدة هي آخر حلقة في سلسلة من المعاملات يرجع مبدؤها إلى
1915 فقد كان دخول الشريف في الحرب مسبوقًا بمكاتبات طويلة غير حاسمة بين
مكة والقاهرة، وكانت آراء الشريف السياسية غامضة مضطربة، ولكن الذي كان
يتطلع إليه دون أن يستوضحه هو إنشاء إمبراطورية عربية بمساعدة بريطانية أو
على الأقل إقامة اتحاد عربي يدور على محور شريفي ولم يدخل الميدان إلا بعد أن
ارتبطت بريطانيا العظمى بتعهدات مفرَّغة في لهجة بيانية أكثر منها سياسية ولكنها
مشجعة كثيرًا ولا ريب.
أوهام الملك حسين:
ولما أرادت بريطانية العظمى أن تصفي هذه التعهدات سارت على خطين
متوازيين فأنشأت من جهة كتلة من الدول الشريفية فاعترفت في 1916 بالشريف
حسين ملكًا للحجاز. ولما آن الأوان وجد فيصل عرشًا في العراق، وقد تمت الآن
الدائرة العائلية بإقامة عبد الله شرق الأردن. ولكنه من جهة أخرى لا يزال على
بريطانية العظمى أن تختم الحساب مع الملك حسين.
وقد هبطت بضاعة حسين هبوطًا شديدًا في ختام الحرب ولكنه كان بطيئًا في
إحداث التلاؤم اللازم بين نفسه وبين مستوى السعر الجديد فظل عائشًا في عالم من
الأوهام، سابحًا في بحر من الخيالات، وكانت المعونة التي تبذل له تبلغ مائتي
ألف جنيه في الشهر في أثناء الحرب ولكنها في 1920 أنقصت حتى وصلت إلى
درجة الزوال، وظل رافضًا أن يتعاقد وذهبت بعثة الكولونل لورانس إلى جدة
1921 ثم عادت تاركة كل شيء حيث كان. وفي أوائل هذا العام بدأت الحركة من
جديد ووصل إلي لندن عن طريق لوزان الدكتور ناجي الأصيل وهو آخر سلسلة
طويلة من رسل الشريف ثم آب إلي مكة بعد بضعة أسابيع يحمل في حقيبته
مشروع معاهدة. ولم يُرْضِ المشروعُ (الملك حسينَ) تمام الرضا ومالَ بحكم عادته
إلى طلب المزيد. والملك حسين مشهور بأنه مُسَاوِمٌ شديدٌ، ولكنه قد يجد إذا تعنت
أنه ضيع الفرصة، وأما إذا تغلبت المشورة التي يُمْلِيهَا الحزم فليس ثَمَّ ما يمنع أن
تكون المعاهدة مجهزة بعد قليل للتوقيع، وقد صارت نقط المعاهدة الهمة ملكًا شائعًا
للجمهور، نعم إن لندن لم تصدر بها بيانًا رسميًّا، ولكنه بسبب الضغط الذي
أوجدته سلسلة من الحماقات في مكة والقاهرة [1] نشرت حكومة فلسطين خلاصة
رسمية منذ بضعة أسابيع. وفي هذه المعاهدة تتعهد بريطانية العظمى بأن تؤيد
وتعترف باستقلال العرب في العراق وغبر الأردن وشبه جزيرة العرب. وإذا
أرادت الدول العربية أو واحدة منها (أن تدخل في اتحاد جمركي أو غيره بقصد
تكوين اتحاد علي مر الأيام) فإن بريطانية العظمى تضع خدماتها تحت تصرفها.
والغرض من باقي المعاهدة تنظيم العلاقات بين بريطانية العظمى ومملكة الحجاز
نفسها.
وهذا البرنامج المتواضع تواضعًا نسبيًّا دون المشروعات الضخمة التي
غصت بها الأحلام في أيام سنة 1915 الهادئة! ولكن المعاهدة على هذا هي فاتحة
مرحلة محدودة مهمة في تطورات السياسة البريطانية في الشرق الأوسط. ومعلوم
أن بلاد العرب الداخلية مِرْجَل يغلي، وليس لبريطانية العظمى رغبة ما في غمس
يديها أكثر مما لا بد منه. ولكن لها (لبريطانية) على الحافة الخارجية للعالم
العربي آمالاً في إنشاء طائفة من الدول المتمدينة تمدينًا نسبيًّا يمكن أن تتكون منها
على الزمن نواة صالحة لاتحاد عربي، والواقع أن للمعاهدة دلالتين: فمعناها من
جهة أن بريطانية العظمى ستربط نفسها بعلاقات وثيقة دائمة مع الشعوب العربية،
ومعناها من جهة أخرى أن بيت الشريف هو المحور الذي تدور حوله هذه العلاقات.
ثلاثة عروش قلقة:
وقد قالوا في بعض الأحيان: إن بريطانية العظمى بمظاهرتها للشريف إنما
تراهن على غير الجواد الرابح. والجواب عن ذلك أنه قد يكون في الإسطبل أو لا
يكون خير من هذا الجواد، ولكن الميدان كان يخلو من الجياد. ولعل أبعث على
الشك من ذلك أن يستطيع الشريفيون الجري إلى آخر الشوط. وليس بين هذه
العروش الشريفية الثلاثة عرش واحد قوي الدعائم غير قلق. وأقل ما يقال في
مركز الأمير عبد الله: إنه خطر. أما فيصل فمستورد كأخيه عبد الله! ويزيد في
ضعف مركزه أن عليه أن يرد مقاومة الشيعة لملك سُنِّيٍّ. أما الحسين فإن ضراوته
على السلب ضراوة صارت مثلاً مضروبًا في الشرق قاصيه ودانيه - لم تجمع حوله
قلوب شعبه. وليس من الأسرار أن الأمراء الشريفيين أنفسهم ليس بينهم حب مفقود -
أي إنهم لا يحب بعضهم بعضًا - وليست العواطف السامية التي يتبادلونها علنًا
لسوء الحظ إلا حجابًا رقيقًا يشف عن التحاسد والاسترابة المتبادلة. وقد بقي أن
نعلم إلى أي حد يستطيع حسين وأولاده أن يواجهوا خصومهم متحدين. وليس
هؤلاء الخصوم بالذين يُسْتَطَاع إغفال أمرهم، ولا ينقص الحسين أن يتعلم فن تغريم
الأجنبي، وقد بدأنا نسمع التذمر من الجهات التي يعنيها أمر الحج ولا سيما مصر.
هذا وليس في قيام اتحاد عربي تكون مكة مركزه والشريف رأسه الظاهر ما
يرتاح إليه العرب المسيحيون الذين لا يكتمون مخاوفهم الصحيحة. ولكن لبيت
الشريف أعداء أقوى وأشد. ولقد استُهْدِفَ هذا البيت أكثر من مرة منذ قيام الحرب
لخطر تيار الوهابية المتضخم، فهناك في قلب بلاد العرب ابن السعود ذلك الرجل
القوي البأس جار الحسين ومُزَاحِمه الذي لا تلين قناته، نعم إنه الآن مقيد، ولكن
من ذا الذي يسعه أن يضمن أن لا يصدع القيد متى ألفى نفسه محوطًا بطائفة من
الدول الشريفية؟ وثَمَّ جهة أخرى لا ينتظر أحد أن تستقبل فيها المعاهدة بحماسة
شديدة، وشرح ذلك أن الفرنسيين غير مطمئنين في سورية وليس من شأن المعاهدة
أن تجعل مقامهم أسهل. ولا ينكر أحد أن لدمشق في الحركة القومية العربية دورًا لا
يقل أهمية وخطرًا عن دوريْ بغداد ومكة. ولا يكاد يُعْقَل أن لا يكون لمنظر
انتصار القومية العربية في الظاهر في منطقة النفوذ البريطاني - رد فعل مقلق فيما
وراء الحدود السورية. وسيحتاج الموقف إلى الحذر في العلاج إذا أريد اجتناب
التعارض مرة أخرى بين بريطانية العظمى وفرنسا في الشرق الأوسط.
مدى المهمة وغايتها:
هذه بعض المصاعب لا مَفَرَّ من مواجهتها، وليس في الكشف عنها زراية
على الغايات التي يراد من المعاهدة أن تؤدي إليها. ومن الخطأ أن تُعَدُّ المعاهدة
عبارة عن محاولة لتسكين هامة مكاتبات مكماهون، فإن لها سببًا معقولاً يدعو إلى
عقدها. والحركة القوية العربية ليست في الوقت الحاضر إلا زورقًا ضعيفًا تطوح
به الأمواج إلى غاية غير محققة. ولكنها على ذلك حقيقة. ومن مصلحة التسوية
الوطيدة أن يهتدي هذا الزورق المتخبط إلى الميناء. وواضح جدًّا أن لبريطانية
العظمى ربحًا من وراء إقامة كتلة عربية يمكن اتخاذها في يوم من الأيام لمواجهة
قوات أخرى في العالم الإسلامي أقل ميلاً إلينا بالود (ليتأمل القارئ) ولعل هناك
من يطوون جوانحهم على آمال أوسع. ومَن لا يزالون متعلقين بخيال الخلافة
العربية. ومهما يكن من الأمر فما يسع أحدًا إلا العطف على مجهود حسن لإتاحة
الفرصة للشعب العربي أن يجدد شبابه وأن يحيي التقاليد المجيدة التي هو وارثها،
ولكن المعاهدة ليست أكثر من صيغة من الألفاظ، ولا يمكن أن تكون أكثر من ذلك،
وعلى العرب أن يخرجوا ما فيها إلى حيز الوجود، وسترى إلى أي مدًى يستطيعون
ذلك، ولكن الحقائق القاسية التي تحيط بالموقف لا تشجع على التفاؤل المبالغ فيه.
اهـ.
***
(تعليق المنار على المقالة) :
نذكر قُرَّاء هذه المقالة الحرة الصريحة بأن يرجعوا إلى التأمل في فَحْوَى
المسائل الآتية منها، فقلما يجدون مقالة لبريطاني في مثل صراحتها:
(1) إتمام ما سماه الكاتب الثالوث الشريفي بترقية الأمير عبد الله الذي هو
الأقنوم الثالث منه إلى عرش أو ما هو شبيه بالعرش على الأقل. وهذا ما سبقنا إلى
بيانه مرارًا فقلنا: إن هؤلاء إنما يعملون للدولة البريطانية ولأنفسهم ويتجرون
بالأمة العربية فيبيعون بلادها للأجانب الطامعة بعروش وتيجان، ثم لا يخجل
أجراؤهم في سورية من البهتان علينا بأننا نطعن فيهم لأنهم لم يعطونا وظيفة
قاضي القضاة بمكة! ! وهم يعلمون أن طريق الوظائف عندهم التملق لهم ومساعدتهم
على أعمالهم التي نَعُدُّ كل مساعد لهم عليها خائنًا لأمته. وهم يعلمون أيضًا أن الأمير
عبد الله الذي استخدمهم قد صرح مرارًا بأنه لا يتبع أهواء طلاب الاستقلال لسورية،
ولا سيما حزب الاستقلال العربي الذي يبغضه أشد البغض؛ لئلا يحرم من إمارته
التي يرجو توسيعها كما حرم أخوه فيصل من عرش سورية.
(2) ما قاله الكاتب الإنجليزي في استقلال الأردن الصوري أو اللفظي الذي
أعلنه السر هربرت صمويل اليهودي الصهيوني الإنكليزي تحت نير الانتداب،
الذي صرح بأنه ليس باستقلال تام - والذي جعل عبد الله الحجازي مستخدميه فيه
وزراء ووكلاء وزينهم بالألقاب الفخمة التي كانت تستعملها الدولة العثمانية أيام
كانت مالكة لقلب الأرض من أوربة وآسية وأفريقية: صاحب الفخامة - صاحب
السماحة - صاحب الدولة - صاحب السعادة. هذه الألقاب التي صارت تستحي منها
الدولة التركية الجديدة التي أكرهت الدول العظمى على تقرير معاملتها معاملة الند
للند… وناهيكم بإنعامه بلقب (باشا) التركي بغير حساب، وبأراضي البلاد على
مَن شاء تمتعًا بأبهة المُلْك الكاذب في مملكة يقل عدد سكانها عن مدينة الإسكندرية
ويقل دخل حكومتها عن دخل مُزَارع واحد في القطر المصري - هذا وأهل مصر
من زعيمهم الأكبر سعد باشا زغلول إلى تلاميذ المدارس الابتدائية يقولون: إن
استقلالنا مُزَيَّف أو حماية مقنعة! ! !
(3) التصريح بأن آراء الشريف حسين المضطربة التي حملته على
الارتباط بالدولة البريطانية يُفْهَمُ منها -على غموضها- أنه يطلب أن تؤسس له
بريطانية إمبراطورية عربية أو دول اتحاد عربي يدور على محور شريفي. ونقول:
إن هذا أقل مما في مقرَّرَات النهضة التي قدمها الشريف حسين للإنكليز ونشرها
الشريف فيصل في جريدة المفيد بدمشق ففيها التصريح بالحماية الإنكليزية لهذه
الأمة العربية القاصرة في حجر الدولة البريطانية. ولا نزال نبين لقومنا أن أساس
حركة هؤلاء الشرفاء بيع البلاد العربية للإنكليز بعرش أو عروش ولا يزال مع هذا
يوجد فيهم منافقون وأجراء وأغرار يقولون: إنهم زعماؤنا، الذين يسعون لاستقلالنا،
وقد قال الكاتب الإنكليزي: إن دولته وفَّت للملك حسين بتعهداتها بإنشائها الثالوث
الشريفي في مكة والعراق وشرق الأردن؛ لأجل الغرض الذي بيَّنَه في آخر مقاله.
(4) تصريح الكاتب بأن ما نشرته حكومة فلسطين من خلاصة المعاهدة
رسمي، وهذا ما صرحت به جميع جرائد لندن، ولكن جريدة الملك حسين (القبلة)
كذبت الخلاصة الرسمية؛ لأنها أظهرت كذب بلاغ الملك حسين لفلسطين ولا
يزال يوجد في سورية وفلسطين من يصدق وُرَيْقَةِ القبلة الساقطة التي فضحت
الحجاز والعرب بكذبها وجهلها.
(5) تصريحه بأن المعاهدة تشتمل على تعهد دولته بتأييد استقلال العرب
في العراق وغبر الأردن وجزيرة العرب - أي دون فلسطين - خلافًا لأقوال الملك
حسين الرسمية التي ظهر كذبها لكل أحد حتى اضطر هو إلى الإذعان له بعد عناد
طويل؛ إذ أرسل مندوبًا بلغ أهل فلسطين أنه يساوم الآن على إقناع الدولة
البريطانية بإنشاء حكومة وطنية لهم أي في ظل الانتداب الظليل، وحسبهم أن
يرأسهم عبد الله بعد صمويل، الذي وعد الإنكليز بأن يخمد لهم أنفاس العرب في
فلسطين، بما ينكل برؤسائهم المعروفين، على أنه لا يبعد أن يرجع عن وعد هذا
المندوب، كما رجع عن ذلك البلاغ المكذوب.
وأما أهل جزيرة العرب فإنهم لا يقبلون تعهد إنكلترا بتأييدهم، فإن ذلك نصٌّ
في أن لها الحق في التدخل في شؤونهم وإدارة بلادهم، فإن قَبِلَهُ الملك حسين
للحجاز فزوال ملكه من الحجاز أيسرُ من تنفيذه فيه وأقربُ، ولن يقبله سائر أمراء
الجزيرة أصحاب القوة التي يتضاءل دونها ما عدا الغرور والكبرياء من حسين الذي
سمى نفسه ملكًا لهم، وأباح لنفسه أن يعقد المُحَالَفَات على بلادهم بدون رأيهم، ولن
يرضاه العالم الإسلامي الذي لكل فرد من أفراده حق مساواة الملك حسين في حرم
الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن مأجوري الحجاز المنتصرين له في
سورية يتملقون له ولولده عبد الله بزعمهم أن له الحق أن يتصرف في شعائر الله
ومشاعر دينه بما يشاء، وأن ينظر في حال الحجاج ويحاسبهم على ما في قلبهم
فيأذن بالحج لمن شاء منهم ويمنع من شاء كما صرح به مستأجرهم الأمير عبد الله،
وأجازوه على ذلك بالرغم من دينهم الذي يدعونه.
(6) وصفه المعاهدة الجديدة بأنها مرحلة محدودة مهمة في تطورات
السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، فهو صريح في أنها تمهيد لمراحل أخرى في
سياستهم ومطامعهم في بلادنا. ونحن قد فهمنا هذا فأنكرناه وبيَّنا فساده وضرره لما
يوجبه علينا ديننا وحقوق أمتنا، فدافع أمراء الحجاز عن أنفسهم بشتمنا في وُرَيْقَتِهِم
البذيئة التي سموها (القبلة) وأغروا بعض السفهاء بشتمنا أيضًا، ولكن لم نجد
أحدًا منهم رَدَّ علينا ولا على الجرائد المصرية وغيرها بكلمة واحدة في الدفاع عن
المعاهدة، ولا تزال الأيام تصدقنا وتكذبهم، وتؤيدنا وتفندهم.
(7) تفسيره لهذه السياسة البريطانية بآمالهم في إنشاء طائفة من الدول
العربية ذات حضارة نسبية أي لا حقيقية، وبأن الرشوة التي يرضون بها الشريف
وأولاده هي جعلهم إياهم محور هذه الدول وقطب رحاها، فليتأمل القراء فحوى
تأليف الدولة البريطانية لهذه الدول وهل هو لحب العرب أم لحب نفسها وتمكينها
من استعمارهم، وفحوى جعل مدنيتهم نسبية لا حقيقية، أليس معناه أن يكونوا عالة
على الإنكليز طول حياتهم؟ أليس هذا عين ما حذرنا العرب منه وأقمنا النكير على
الملك حسين لقبوله مبدئيًّا وجعل إعلانه عيدًا للأمة العربية؟ أليس من مصائب أمتنا
أن يوجد عربي أو مسلم ينصر هذا الرجل ويدافع عنه؟! بلى، ولولا أن ثلاثة من
أفضل فضلاء سورية كتبوا إليَّ يقترحون الكفَّ عن الإنكار عليه، وصرح واحد
منهم بتحسين الظن به، والرجاء فيه وفي أولاده، لما اعتقدنا أنه يوجد رجل ذو قيمة
مغرور به، فإنا لم نر في أسماء من ناضلوا دونه أحدًا من أهل الفضل المعروفين،
بل كلهم من الجاهلين أو المجهولين والمنافقين المأجورين له أو للإنكليز! ولولا
وريقة القبلة لما علمنا إلا بأقل ما كتبوا، فإننا نربأ بأنفسنا أن ننظر في شيء من تلك
الصحف لما أمرنا الله تعالى به من الإعراض عن اللغو وعن الجاهلين.
(8) ليتأمل القُرَّاء جد التأمل كلامه في وصفه عروش الثالوث الشريف
بالقلقة لضعف أقانيمه الثلاثة والشك في قدرتهم على تبليغ الدولة البريطانية مرادها
من استخدامهم وتشبيهه اعتمادها على الملك حسين بالمقامَرة على الجواد الخاسر في
السباق، واعتذاره عنها بأنها لم تجد في الميدان غيره، وإن كان يمكن أن يوجد في
الإصطبل العربي جياد أخرى خير منه، فهو صريح في أنها لم تجد أحدًا من
زعماء العرب يرضى أن يكون مطية لها، يبلغها ما تطمع فيه من بلادها!! فطوبى
لكم يا أنصار حسين بهذا الزعيم الذي تقولون أنكم لا تجدون غيره! فقد تكلمتم
بلسان بريطانية العظمى.
(9) كلامه في تحاسد الأمراء الشريفيين وتباغضهم وكونه معروفًا لم يبق
سرًّا فيكتمه كرامة لهم، وإن ستروه بتبادل ألفاظ العواطف السامية بينهم، والقول:
إن هذا هو الحق وإن جهله أو تجاهله بعض أصحاب الآمال فيهم، ولكن لا يجهله
الإنكليز المحيطون بجميع أسرارهم بما لهم من الجواسيس لديهم، وجميع المعاشرين
لعبد الله يعرفون شدة مقته لأخيه فيصل الذي انتزع منه عرش العراق بعد أن بايعه
عليه المؤتمر العراقي بدمشق، ويتربص به الدوائر لاسترجاع العرش منه، ومما
رواه لنا بعض المقيمين في عمان أن (ذا الإقبال الشيخ فؤاد الخطيب وكيل خارجية
دولة الحجاز) مدح الأمير عبد الله بقصيدة أنشدها بين يديه في (المقر العالي)
نسيب أفندي الخطيب مدير البريد في مملكته فلما بلغ قوله فيها:
تنازل عن ملك العراق كرامة ... وأفضل من عرش العراق تنازله
قال له الأمير: كذبت! إنني لم أتنازل، ومنعه من إتمام إنشاد القصيدة، بل لم
يلبث أن عزله.
وأما ما سماه الإنكليزي المجاملات بإظهار العواطف الكاذبة فمثالها ما رواه لنا
هؤلاء عن زيارة الملك فيصل له من عهد قريب، وهو أن كلاًّ منهما كان يعبر عن
الآخر بجلالة أخي، بل كان فيصل يزيد على ذلك قوله (سيدي) .
(10) تأملوا أيها المسلمون حق التأمل وجد التأمل فيما يصرح به الإنكليز
من غرضهم من عقد المعاهدة مع الملك حسين ومما يسميه ويسمونه الوحدة العربية،
وأعني به قول الكاتب السياسي الإنكليزي:
(وواضح جدًّا أن لبريطانية العظمى ربحًا من وراء إقامة كتلة عربية يمكن
اتخاذها في يوم من الأيام لمواجهة قوات أخرى في العالم الإسلامي أقل ميلاً إلينا
بالود) .
أليس هذا صريحًا في أنهم يريدون جعل العرب جندًا لهم يقاتلون به الترك
والإيرانيين عند الحاجة؟ بلى، أللعرب مصلحة في قتال الترك والإيرانيين لتوطيد
دعائم الاستعمار البريطاني؟ إنني لا أسأل هذا السؤال ذا الدين من المغرورين
بالملك حسين وأولاده، بل الملاحدة الذين لم تُبْقِ العصبيةُ أدنَى أثر للرابطة الدينية -
ولو سياسية - في قلوبهم أن يأتوني بمصلحة بَيِّنَة للعرب في تكوين الإنكليز لوحدتهم،
وبنائها على عداوة الترك وجعلهم جندًا للدولة الإنكليزية يحاربون به هذا الشعب
الحربي الباسل الذي ظلت أوربة تكيد له بالحرب وغير الحرب عدة أجيال ولم
تستطع انتزاع سيادته من يده، فإن جئتموني أيها الملاحدة بهذه المصلحة وأثبتموها
بالحجة، ولم يبق لي من أسباب مخالفتكم إلا حرصي على المودة الإسلامية فإنني
أعذركم على اتباعكم لإغراء هؤلاء الحجازيين بذلك خدمة للإنكليز الذين صرحوا
لنا بأنهم لم يجدوا في هذا الميدان من إصطبل العرب إلا الملك حسينًا مع الشك في
أن يوجد في الإصطبل غيره.
ومن الإنصاف حينئذ أن تعذروني في اتباعي لديني الذي يرشدني إلى التأليف
بين المسلمين عَرَبهم وتُرْكهم وفُرْسهم، كما أعذركم في عصبيتكم الجاهلية. على
أنني أعتقد عجزكم عن إثبات المصلحة أو نفي المفسدة في ذلك، وعن إثبات
زعمكم تفضيلي لمصلحة الترك على مصلحة العرب، وهل تستطيعون أن تأتوني
برجل من أمتنا ناضل الاتحاديين الذين هضموا حقوق العرب كما ناضلتُهم؟ أو
برجل منكم أو من غيركم خطَّأ الغازي مصطفى كمال في خطبته التاريخية التي ألقاها
في المجلس الوطني بأنقرة كما خطأته فيما قاله عن العرب والخلافة، وفي مسائل
أخرى؟ أو برجل منكم أو من غيركم خطَّأَه وحكومته في مسألة الخلاقة الحاضرة،
وأقام من الدلائل الشرعية والحكم الاجتماعية على وجوب حصر الخلافة في قريش ما
أقمته على ذلك؟ أو برجل منكم أو من غيركم أقام ما أقمت من الأدلة على كون اللغة
العربية هي لغة الإسلام ووجوب تعلُّمها على جميع المسلمين؟ نعم إنني مع هذا لم
أهضم الترك حقًّا لهم، ولم أنحلهم ما ليس لهم، وإنني اقترحت عليهم التعاون مع
العرب على إقامة الخلافة بالحق لأجل إعادة مجد الإسلام، مع استقلال كل من
الشعبين.. وإنني أبذل جهدي في سبيل منع التعادي والشقاق بيننا وبينهم،
وأرى الخطر علينا من ذلك أشد من الخطر عليهم {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .
__________
(*) هكذا في الأصل (غبر) ولعلّها (غور) فالاسم المعروف الآن هو غور الأردن.
(1) يعني بهذا ما كتبه الملك حسين إلى رئيس وفد فلسطين من أن بلادهم استقلت تحت سلطته وما قام به المصريون من الإنكار على هذه المعاهدة بتضمنها للحماية على الحجاز، والأحزاب السورية من الإنكار على تضمنها للانتداب.(24/706)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
العرب في إيطالية في القرون الوسطى
حضرة الأستاذ العلامة حجة الإسلام مفتي الأنام السيد محمد رشيد رضا أيده
الله ونفع به.
جوابًا على ملاحظتكم بشأن ما ذكرته في رسالة (العرب في سويسرة في
القرون الوسطى) من كون العرب اكتسحوا رومة، وقولكم: أحقيقة أراد الكاتب
بهذا أو مجازًا؛ لأن العرب لم يقتحموا رومة ولا سلبوها؟ أقول:
ورد في التواريخ أن العرب صعدوا إلى رومة من مصب نهر التيبر واجتاحوا
البلدة وأخذوا من كنيسة مار بطرس تابوتًا من فضة ولكنهم لم يستقروا برومة، ثم
إن العرب كانوا يختلفون إلى ضواحي رومة ويشنون الغارات فيها وفي إحدى
المرار اجتمع عليهم الأهالي فهزموهم فخلص منهم فئة إلى البحر وفئة استؤصلت
بالسيف وفئة من بقايا السيوف لاذت بمكان منيع هناك وناضلت عن نفسها وبقيت
تحمي نفسها إلى أن وقع الصلح بينها وبين أهل البلاد؛ ولأسباب مجهولة عندنا
تفاصيلها تركوا توطن تلك الأرض، فالآن على مسافة 40 كيلو متر من رومة قرية
اسمها (سارازينسكو) Sarrasinesco من اسمها يعرف أن أهلها أصلاً مسلمون
لأن (سارازينو) معناه مسلم كما لا يخفى، وليس الدليل على كون أهل هذه القرية
عربًا هو الاسم فقط بل حدثني الكونت كولالتو صاحب جريدة رومة الإيطالية التي
تصدر بالقاهرة وهو من جلة أدباء الطليان وفحول الكتاب أن أهالي قرية
سارازينسكو هم إلى يومنا هذا حافظون عاداتهم العربية ومآكلهم العربية ولا يزالون
يعزفون بآلات الطرب العربية مما لا يوجد عند قوم سواهم في إيطالية وإن سحناتهم
إلى هذا اليوم سحنات العرب لا يتمارى في ذلك من رآهم.
ويوجد آثار للعرب فيما عدا رومة من بر العدوة الإيطالية، مثلاً بلدة لوشيرة
بين نابلي وكالابرة، كان فيها الملك فريدريك هوشتافن الألماني في نحو السنة الألف
والمائتين والخمسين للميلاد، وكان عنده عسكر من العرب نحو 20 ألفًا وآثار
مساكنهم لا تزال إلى هذه الساعة.
وغير خَافٍ أنني أنا لم أقل: إن العرب افتتحوا رومة ولا استولوا عليها بل
إنهم اكتسحوها، ومما يؤيد صحة هذه الروايات أنهم كانوا لرومة جيرانًا مكاسرين
بوجودهم بصقلية من جهة وبصردانية من أخرى ثم بنزولهم بجهات جنوى على ما
ذكرت في رسالة (العرب في سويسرة) .
وإنني أضيف إلى ما ذكرت في تلك الرسالة شيئًا اطلعت عليه في (صان
ريمو) مؤخرًا وهو أنني قرأت في دليل تلك المدينة البديعة التي هي اليوم من أبهى
مشاتِي أوروبا أن العرب استولوا عليها في القرن العاشر (للميلاد) ولا عجب فإن
صان ريمو هي على مقربة من فراكسيناتوم التي هي أول بلدة نزل العرب بها في
أوائل القرن العاشر حسبما تقدم في رسالتنا.
ومما علمته مؤخرًا من آثار العرب بإيطالية أن في بلاد اسمها كالياري
Cagliari في صردانية قرى كل من رأى أهلها وخالطهم علم أنهم عرب ونساؤهم
لا يختلطن بالرجال في مجامعهم، ولا يخرجن إلا متنقبات إلى هذا اليوم! سمعته من
ضابط إيطالي من أركان الحرب الكبار كان أقام مدة بتلك الديار، ومَن بَحَثَ وجد
للعرب في أوروبا آثارًا أكثر جدًّا مما روى المؤرخون.
لوزان 12 مايو سنة 1923 ... ... ... ... شكيب أرسلان
(المنار) قد أجاد أمير الكُتَّاب وثبت التاريخ فيما أفاد، ولما يظهر لي منه
وجه التعبير عن ذلك بالاكتساح.
__________(24/717)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الحديثة
(شرح الأزهار، المسمى بالمنتزع المختار من الغيث المدرار)
كتاب الأزهار في فقه الأئمة الأخيار، متن جامع في فقه الزيدية أو العترة
النبوية لعلامتهم المتفنن الإمام المهدي. وهو أحمد بن مرتضى الحسين الهدوي الذي
بويع بالإمامة العظمى لما مات الإمام صلاح الدين سنة 793 وقد حدث عقب
مبايعته أحداثٌ، سُجِنَ في أثنائها في قصر صنعاء، وقيل: في الدار العمراء،
وكانت مدة حبسه سبع سنين ألف في أثنائها متن الأزهار، وشرحه الغيث المدرار،
ثم خرج وذهب إلى الإمام الهادي واتفقا وتوادا وتم له الأمر بعده، قال العلامة
المقبلي صاحب العلم الشامخ: الإمام المهدي هو الذي أخرج مذهب الزيدية إلى حيز
الوجود، وقد شرح الأزهار كثيرون من علماء اليمن المستقلين المجتهدين كالإمام
الشوكاني وسمى شرحه السيل الجرار.. والمقلدين كالعلامة أبي الحسن عبد الله بن
مفتاح المتوفى سنة 877 وسمى شرحه (المنتزع المختار من الغيث المدرار) فهو
مختصر من شرح المصنف.
فأما الإمام الشوكاني فهو يذكر الأحكام بأدلتها، ويقيم ميزان التعادل والترجيح
بينها، على طريقته في كتاب (نيل الأوطار) في فقه الحديث، وأما ابن مفتاح
فيعنى بتحقيق الراجح في مذهبهم، ويذكر خلاف كبار علماء الأمصار كالأئمة
الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وقلما يخرج مذهب الزيدية عن هذه
المذاهب، وإنما يتحقق بأربعة أصول: العدل والتوحيد - بالمعنى المشهور عن
المعتزلة فيهما - والقول بإمامة زيد بن علي رضي الله عنه، ووجوب الخروج على
الظلمة.
طبع هذا الشرح (المنتزع المختار) في العام الماضي مع حواشي عليه في
أربعة مجلدات كبيرة، طبع بمصر في عدة مطابع على نفقة ملتزمه (الشيخ علي
يحيى اليماني) ووقف على طبعه وعُنِيَ بتصحيحه صديقنا الشيخ عبد الواسع
الواسعي اليماني فيحسن بالمتوسعين في علم الفقه أن يقتنوا هذا الكتاب ويطالعوه أو
يراجعوه عند الحاجة.
***
(المناهج الطبية لاتقاء الأمراض الإفرنجية)
كتاب ينطوي على أحدث الآراء والمباحث، وفيه ما يهم الأطباء والطلبة وما
لا غِنَى عنه للعامة، تأليف الدكتور جورج صوايا المتخرج في الطب والجراحة في
الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة ماريلنه في بلطمور وجامعة هارفرد في
بوطسن والحاصل على شهادة الحكومة القانونية من جامعة بوانس أيرس.
كتاب ضخم فخم غزير العلم مُؤَلَّف من ثلاثة أجزاء صدر الجزء الأول منها
في العام الماضي (1922م) مطبوعًا طبعًا حسنًا على ورق جيد في إحدى المطابع
العربية السورية في (بونس إيرس - الأرجنتين) وهو خاص بداء السفلس
المرض الإفرنجي الحقيقي، وقد بلغت صفحاته زهاء خمسمائة صفحة فصارت
اللغة الغربية غنية به في هذا الموضوع النافع، فإن الداء الإفرنجي لا يزال يفشو
وينتشر في البلاد العربية بانتشار التفرنج وكثرة تغلغل الإفرنج في البلاد وإباحة
الفسق بتسهيل سبله في كل مكان يكثرون فيه أو يكثر مقلدتهم حتى إنه قد تضاعف
في بلادنا السورية بعد الاحتلال الفرنسي فيها بكثرة الزنا والعهر، والعياذ بالله من
سوء العاقبة.
فالدكتور صوايا قد خدم أمته العربية وبلاده بهذا الكتاب خدمة جليلة فاق بها
جميع أطبائنا كما أنه يخدمها بصدق وطنيته واستقامة سياسته؛ إذ هو رئيس الحزب
العربي الوطني في الأرجنتين المعارض لكل احتلال واستعمار، فنشكر له عَمَلَيْهِ
الطبي والسياسي، ونرجو أن يكثر في أمتنا العربية وبلادنا السورية من أمثاله.
__________(24/719)
ربيع الأول - 1342هـ
نوفمبر - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة في حقيقة الخمر والسبيرتو
وما يدخل فيه من أدوية وغيرها
(س28-23) من الأستاذ الفاضل مولوي محمد شفيق الرحمن في بُمْبي
(الهند) وهو صاحب الفتوى التي نشرناها ورددنا عليها في (ج 9 م 23) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نستعينه وكفى. وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد
فنظرًا إلى أمره تعالى العلماء بالبيان، ونهيه عن الكتمان، نرجو من فضيلة العلامة
الفهامة السيد رشيد رضا، وفقه الله لما يحبه ويرضى، سيد الأحرار، المدير
المسئول للمنار، أن يفيدنا الجواب الصواب، من الأسئلة المفصلة في ذيل هذا
الكتاب، فإننا قد عزمنا بعد المناظرات (لإحقاق الحق وإبطال الباطل، واتفاق
جمهور الفقهاء الأفاضل) على أن ننشر الفتوى مع ما لها وما عليها بقدر الضرورة
وبحسب الإمكان نشرًا {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) .
الأسئلة مع أجوبة المنار
(س1) هل الملحقان الطبيان المذكوران في الجزء الأول للمجلد الرابع
والعشرين من المنار يشهدان على دعْوَاكم أن السبيرتو ليس بخمر أو على خلاف
ذلك كما حقَّقْنَاه سابقًا، وسنزيد التحقيق لاحقًا؟
(ج) إن الملحقين المذكورين صريحان على إيجازهما وقصورهما في أن
السيبرتو يستخرج بالتطير من المائعات السكرية ومن المواد السكرية والنشوية ومن
القصب والخشب، وأنه كان في الابتداء يستخرج من النبيذ ولا يستخرج الآن منه
ولا من غيره من الخمور لغلائها ورخص المواد التي يستخرجونه منها، فهو مادة
سُمِّيَّة توجد في الخمر وغيرها حتى العجين المخمر، ولم يعده أحد من الأشربة
الخمرية ولا سمَّاه خمرًا ولا هو بنفسه مُعَدٌّ للشرب؛ لأنه مُحْرِقٌ، نعم إذا مُزِجَ
بغيره من الأشربة على نسبة مخصوصة يصير ذلك الشراب مسكرًا.
فالخمر عند الحنفية ومن وافقهم من علماء اللغة هي: عصير العنب إذا اشتد
وغلا وقذف بالزبد، وما عدا هذا من المسكرات ليس بخمر عندهم، ولا له كل
أحكام الخمر، ومقلدة الحنفية هم أكثر مسلمي الهند والترك والصين وما جاور هذه
الشعوب. ونحن وإن كنا نرجِّح ما عليه سائر علماء الشرع واللغة وهو أن كل
شراب مسكر خمر، لم يثبت عندنا أن السبيرتو من الأشربة، ولو ثبت أنه من
الأشربة لسميناه خمرًا، على أننا نعتقد أن شربه محرم على كل حال إن أمكن؛
لأنه ضار بل قاتل، ولكننا لا نعتقد أن الخمر نجسة، ولا أن كل ما فيه عنصر من
عناصر الخمر من طعام وشراب وداء وصبغ ودهان وطلاء يكون محرم الاستعمال،
فصبغة اليود من الأدوية وطلاء الخشب المسمى (بالبوية) والعجين المختمر لا
يسمى شيء منه خمرًا لغة ولا عرفًا ولا شرعًا لا على مذهبنا الذي هو مذهب أهل
الأثر وفقهاء الحديث ولا على مذهب أهل الرأي كالحنفية ولا في عرف أهل الطب
والصيدلة. فالخلاف بيننا وبينكم في تسمية السبيرتو خمرًا أو عدم تسميته لفظيٌّ لا
شأن له عندنا في المسألة المتنازَع فيها وهي كون الطلاء المعروف في مصر
والشام بالبوية الذي يدهَن به الخشب نجس له أحكام سائر النجاسات من تحريم دهن
جدران المساجد وخشبها به وسائر الأحكام المتعلقة بشروط الصلاة وغيرها - ولا
فيما يشبه هذه المسألة من المسائل التي يستعمل فيها السبيرتو وقودًا أو مطهرًا في
الجراحة والطب، وغير ذلك مما ليس بشراب متخذ للنشوة والسكر، فالانتفاع به
ليس مخالفًا لمنطوق النص في تحريم الخمر ولا لفحواه، ولا يصدهم عن ذكر الله
وعن الصلاة.
(س2) هل قول إمامكم الأستاذ العلامة المفتي سابقًا في الديار المصرية،
والمُصْلِح الكبير للراعي والرعية، الشيخ محمد عبده رحمه الله في (ج 1 ص 340
التفسير) صحيح عندكم مثبت خمرية السبيرتو وإسكاره أم لا؟ نرجو مراجعة كتب
الطب الجديد.
(ج) إن ما أشار إليه السائل وهو ما نقلناه عن شخينا المذكور رحمه الله
تعالى نص صريح فيما قلناه من أن السبيرتو ليس بخمر ولا بشراب من الأشربة
التي تعد الخمر نوعًا منها وإنما هو مادة سامة إذا ركبت مع غيرها من المائعات
على نسبة مخصوصة يكون ذلك المركب مسكرًا وهذا نص ما نقلناه عنه من الدرس
في الكلام على انتشار السكر في الفلاحين والخمور التي تباع لهم وللفقراء، قال:
(وما هي بخمر جعلت للشرب، وإنما هي المادة المحرقة السامة التي تسمى السبيرتو
يضاف إليها شيء من الماء والسكر أو غير ذلك مما يمكن من تناولها) فإن قوله:
(وما هي بخمر جعلت للشرب) عين ما نقوله، ولكن السائل المركب منها ومن الماء
والسكر وغيره الذي يصير شرابًا مسكرًا يسمى خمرًا حقيقة أو مجازًا على الخلاف
المشهور في ذلك، بخلاف المركب غير السائل أو ما لا يكون شرابًا كالأعطار
والأدوية التي لا يمكن شربها، وإنما تستعمل في الجراحة، أو يؤخذ منها نقط
معدودة في مائع آخر لا يصير بها مسكرًا ولا ذريعة للسكر، والدهن والطلاء
والعطر، فكل ذلك لا يسمى خمرًا لغة ولا شرعًا، ولا في العرف العام ولا الخاص
بالصيادلة والأطباء وسائر الفنون والصناعات. وقد وصف بعض الأطباء للأستاذ
الإمام نفسه صبغة اليود علاجًا للرثية (الروماتزم) فكان يأخذ بضع نقط منها في
نصف كوب من الماء قبل الطعام، كما وقع لوالدتنا من بعده، وكان يعلم أن صبغة
اليود تُحَلَّل بالسبيرتو فيدخلها قليل منه لا تكون به شرابًا مسكرًا ولا ذريعة للسكر،
وكان يتطيب بالأعطار الحديثة ولا سيما (الكولونيا) وأكثرها سبيرتو، بل أفتى
بجواز اتخاذ الدواء الذي يدخل فيه نقط قليلة من الخمر نفسها، إذا لم يصر ذريعة
للسكر وقد نقلنا عنه في تفسير آية المائدة (ص 89 ج 7 تفسير - وص 102 م 18
منار) ما نصه: (وقال شيخنا محمد عبده: يشترط في التدواي بالخمر أن لا يقصد
المتداوي بها اللذة والنشوة ولا يتجاوز مقدار الطبيب. اهـ) .
هذا وإنني قد فهمت من تعبيركم بكلمة إمامكم أنكم تظنون أن إطلاقنا هذا
اللقب على الشيخ رحمه الله تعالى نريد به أننا نقلده فيما يستنبطه أو يرجِّحه كما هو
شأن سائر المقلدين مع شيوخهم، وليس كذلك. وإنما نعنى بإمامته أنه من العلماء
المستقلين الذين يتحرون الحق ويأخذون بالدليل، وأنه إذا ظهر له الحق اتبعه وعمل
به، وهكذا كان أئمة الأمصار، ونحن نتبعه ونتبعهم في ذلك ولا نأخذ بشيء من
آرائهم وترجيحاتهم إلا إذا ظهر لنا أنها الصواب. وكنا نراجعه في بعض المسائل
التي يقولها أو يكتبها إذا رأيناها خطأ، فكان إما أن يقنعنا بأنه مصيب وإما أن
يرجع إلى رأينا، وهذه صفات الأئمة المهديين. ولولا ما كان عليه من الاستقلال في
العلم والدوران مع الحق كيفها دار لما وصل إلى تلك الدرجة العالية في دقة الفهم،
وصحة الحكم، ولما اعترف له الجمهور الأعظم في بلاده وغيرها بهذه الإمامة،
ولما رأينا كثيرًا من العلماء المتخرجين في الأزهر وغيره من المدارس الدينية وغير
الدينية يتلقون عنه ويحضرون درسه مع الطلبة، وقد نال هذا العاجز قبل اتصاله
به إجازة التدريس (أو العالمية) قولاً وكتابة من شيوخه في طرابلس الشام كالشيخ
حسين الجسر الشهير وشيخ الشيوخ محمود نشابه، ولكننا رأينا عنده ما لم نرعند
غيره رحمهم الله أجمعين.
(س3) هل ثبت عندكم أن المسلمين عمومًا والمصرين خصوصًا
مضطرون إلى الخمريات في الحاجيات والمعالجات؟ بَيِّنُوا لنا حقيقة الاضطرار
وعموم البلوى والتعامل على ما في كتب الأصول مثل الموافقات وإرشاد الفحول.
(ج) قد ثبت عندنا أن المسلمين الذين يعيشون في البلاد التي نعرفها كمصر
وسورية والآستانة لا يستغنون عن الأطباء والجراحين الذين يداوون أمراضهم
ويؤاسون جروحهم، وأن جميع الأطباء والجراحين يصفون الأدوية المستحضرة
بالسبيرتو أو الداخل في تركيبها ويستعملونه في التطهير من السموم وما يسمونه
ميكروبات الأمراض؛ لأنه قاتل لها. ويقولون: إنه ضروريٌّ في بعض ما ذُكِرَ،
وحَاجِيٌّ عمت به البلوى في بعض - فتطهير الأيدي والآلات والأواني من بعض
السموم والميكروبات الضارة قطعًا لا ظنًّا قد يكون بالسبيرتو وقد يكون بمحلول
السليماني مثلاً، ولكن محلول السليماني لا يصلح لشيء من المعدنيات، وإنما
يصلح للزجاج والفخار، والصيادلة يؤيدون الأطباء بجزمهم بأن كثيرًا من الأدوية
التي يصفونها لا يمكن تحضيرها إلا بالسبيرتو - فهو إذًا ضروي في بعض الأشياء
وحَاجِيٌّ في بعضٍ آخر، وكذلك الصناعات فهو في بعضها ضروريٌّ، وفي بعضها
حاجيٌّ وفي بعضها كماليٌّ للزينة وإن شئت قلت تحسينيٌّ، كما هو اصطلاح
الشاطبي في الموافقات والشوكاني في إرشاد الفحول وغيرهما. فإن كنتم تعنون
بالخمريات ما يدخله السبيرتو الذي سميتوه خمرًا، فإن من القطعي المعلوم عندنا
بالضرورة أنه مما عمت به البلوى في الضروريات والحاجيات والتحسينات التي
ترجع إليها أصول الأحكام الشرعية كلها على الوجه الذي شرحه الإمام الشاطبي في
الموافقات، وإن في منع الناس منه وتحريمه عليهم حرجًا عظيمًا وقطعًا لمعايش مَن
لا يُحْصَى من الناس، ولكن هذه الأشياء التي نقول: إنها قد عمت بها البلوى، ليست
من الأشربة المسكرة ولا من ذرائع السُّكْر في شيء، ولا وجه لتسميتها بالخمريات،
وسنبين معنى الضرورة والاضطرار وعموم البلوى في خاتمة هذه الفتوى.
(س4) هل يتعين شرب خمر عندكم في علاج الأمراض كلها أو بعضها
كما يتعين أكل الميتة في المخمصة؟ (نرجو مراجعة فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله
في الخمر والعلاج) ؟
(ج) لا يتعين عندنا ذلك، ولا نحتاج فيه إلى مراجعة فنحن جازمون بذلك
في الجملة في حالة السعة كالحال التي نحن عليها في مصر، ولكن يحتمل أن توجد
أحوال قليلة يضطر فيها إلى شيء من الخمور لا يوجد ما يقوم مقامها كأن يصاب
مسافر أو رجل في قرية ليس فيها صيادلة بنوبة قلبية يخشى أن تُفْضِي إلى هلاكه
كما قال الفقهاء فيمن غُصَّ بلقمة خُشِيَ هلاكه بها ولم يجد ماءً ولا مائعًا حلالاً آخر
فهذه نوادر، وقد فصَّلْنَا القول في ذلك من قبل فراجعوا ص 101-103 من مجلد
المنار الثامن عشر ولكم أن تضيفوه إلى هذا الموضع فيما تريدون نشره على الناس
ففيه بيان خلاف العلماء وما رجَّحناه فيه، وسيأتي له تتمة في بحث الاضطرار.
(س5) هل يجوز لمسلم الاستشفاء بخمر بعدما قال فيها ما قال الذي لا
ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وبعد كون المسلم مُجَازًا شرعًا بين أن يترك
العلاج ويتوكل على رب العالمين: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء:
80) [1] وبين أن يستشفي بالقرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين أو بماء زمزم
أو بالعسل أو بالأدعية المناسبة المأثورة، أو الأدوية الطاهرة المشهورة؟
(ج) لا يجوز شرب الخمر لأجل التداوي بها من ضعف المعدة وما أشبه
في حال الاختيار كما بيَّناه في فتاوى سابقة، وخاصة ما أشرنا إليه في جواب السؤال
الذي قبل هذا. وإننا نراكم مخطئين في قولكم: إن المسلم مُجَازٌ (مطلقًا) بأن
يترك التداوي توكلاً أو استغناء عنه بالاستشفاء بالدعاء أو القرآن أو العسل أو ماء
زمزم، ولا غرو فقد غلط بهذا قبلكم بعض الصوفية والفقهاء، وسنبين الحق في
هذا بكتابة مقال خاص ننشره في المنار إن شاء الله تعالى.
(س6) هل يجوز لعالم يقتدي به أهل الإسلام أن يعلن جهارًا للخاص والعام
بأنه أعلج (لعله عالج) أمه السيدة المسكينة بالخمر الخبيثة اللعينة (الكُنْيَاك وهو
البراندي) ؟
ونسأله تعالى أن يديم لنا ولكم التوفيق والهداية، وفي هذا القدر كفاية، والسلام.
(ج) لا يجوز القول بأنه عالج أمه ولا غيرها بشرب الخمر مطلقًا أو شرب
نوع معين آخر منه كالكونياك؛ لأنه يُفضي إلى الاقتداء به. وأخشى أن يكون في
سؤالكم تلبيس بأن تعدوا بعض الأدوية التي يستعان على تحضيرها وتركيبها
بالسبيرتو خمرًا، وتجعلوا حكمها وحكم الشراب المسكر واحدًا، فأحببت التذكير
بذلك.
***
خلاصة وجيزة في أصل موضوع هذه الفتوى
إن أصل الخلاف بيننا وبين أخينا الشيخ محمد شفيق الرحمن كان في مسألة
الطلاء المعروف الذي تطلى به جدران البيوت وخشبها فتكون صقيلة جميلة لا تؤثر
فيها الرطوبات والأقذار كما تؤثر في الأجسام ذات المسام الواسعة فتطول مدتها
نظيفة ويسهل تنظيف ما يصيبها من الوسخ. أفتى الأستاذ بنجاسة هذا الطلاء
وبتحريم طلي جدران المساجد وخشبها به معللاً ذلك بأنه يُعَالَجُ بالمادة المعروفة
بالسبيرتو وبالكحول، مدعيًا أنها خمر، وأن كل خمر نجسة، وكل ما يدخل فيه
شيء من السبيرتو نجس وإن لم يكن شرابًا ألبتة كطلاء البيوت، وقد سألنا بعضُ
إخواننا مسلمي الهند عن هذه الفتوى فأفتينا بأنها خطأ وأقمنا على ذلك من الدلائل ما
رآه القراء في الجزء التاسع من المجلد الثالث والعشرين.
وقد جاء بعد سنة أو أكثر يحاول إبطال بعض تلك الدلائل وإثبات فتواه من
وراء البحث في تحريم شرب الخمر والتداوي بها … فأرسل إلينا هذه المسائل
فرأينا بعد أن أجبنا عنها بالإيجاز أن نوضح الموضوع بخلاصة مختصرة مفيدة لمن
عقلها مفصلة، فنقول وبالله التوفيق:
(1) إن الله تعالى قد حرم الخمر لأنها مسكرة؛ ولأن للسكر مضار كثيرة
بيَّن الكتاب أهمها إجمالاً وتفصيلاً. وإنما حرمها ألبتة في آخر مدة تبليغ الرسالة
ومهد لذلك تمهيدًا بعد تمهيد لما كان من افتتان الناس بها، واقتضاء الحكمة التدريج
في تحريمها. ومن المقرَّر عند الفقهاء أن علة تحريمها إسكارها وأن السكر هو
المحرم لذاته، ولكن لما كان شرب القليل غير المسكر مدعاة لشرب الكثير وذريعة
له حرم القليل أيضًا مطلقًا على ما في هذا من الخلاف المعروف.
(2) لم يقم دليل صحيح على نجاسة الخمر، ولا على كون نجاستها سببًا
لتحريمها، فإنها ليست من النجاسات والأقذار في عرف أهل لغة الشرع؛ بل كان
العرب يعدونها من الطيبات وكانوا يسمونها الطيبة (بالتخفيف) ويقولون في
أصفاها (طيبة الخمر) ولو كانت من النجاسات في عرفهم أو في عرف الشارع
لجعل ذلك أول وسائل التدريج في تحريمها بأن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل
تحريمها بأن يغسل كل عضو أو إناء أو ثوب تصيبه الخمر، ولم يرد أنه أمر بذلك
قبل التحريم ولا بعده، ولو أمر بذلك لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر
والاستفاضة، وقد كانت الحاجة إليه شديدة عند نزول آية المائدة وإهراق المسلمين
لما كان عندهم من الخمر حتى كان تجري في شوارع المدينة كالسيل فكان الناس
عرضة لإصابة أبدانهم وثيابهم بشيء منها عند إهراقها، وفي أثناء السير في
الشوارع التي كانت تجري فيها.
(3) من المعلوم بالاختبار وبالنصوص أن من الناس من يميل بطبعه إلى
المبالغة والإفراط في الدين وفي غيره، ومنهم من يميل إلى الإغماص والتفريط
ومنهم من يميل إلى الاعتدال، ولكل من هذه الحالات الثلاث درجات، فالمبالغة في
اجتناب المحظورات تقتضي اجتناب المشتبهات تورعًا واحتياطًا وهذا محمود
ومندوب شرعًا، وقد تُفْضِي إلى اجتناب المباحات تَحَرُّجًا وتأثمًا فتكون غلوًّا مذمومًا،
والإغماص فيها يدعو إلى الخوض في الشبهات، وقد ينتهي إلى الاحتيال على
ارتكاب المحرمات، أو تأويل النصوص الواضحات، أو معارضتها بالأقيسة
والتعليلات الباطلات، ويكثر هذا التفريط في حشوية المتفقهة الجامدين، وذاك
الغلو في المتصوفة الجاهلين.
والتحقيق أن كل حيلة تخالف نص كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله
عليه وسلم أو تُفْضِي إلى فَوَات ما شرع له الحكم من مصلحة أو دفع مفسدة - فهي
باطلة، وكذا كل تأويل وقياس يخالف المتبادر من النصوص من غير حجة شرعية
أو ينافي غرض الشرع وحكمته. وأن المذهب الوسط الحق هو المحافظة على
النص، وما علم من قصد الشرع وحكمته منه جميعًا، وهو في مسألة الخمر أن لا
نشرب شرابًا مسكرًا وأن لا نتوسل إلى السكر بالتداوي، ولا بالأخذ بظواهر فلسفة
الذين قالوا: إن الخمر المنهي عنها لذاتها لا تكون إلا من عصير العنب، فهي التي
تحرم منها النقطة الواحدة، وما عداها من المُسْكِرَات لا يحرم منه إلا القدر المسكر
أو الحَسْوَة الأخيرة التي يحصل بها السُّكْر، وأن لا نغلو فنحرم استعمال الأدوية
والأعطار والأدوية والأدهان والأصبغة والأطلية التي يدخل في صنعها أو
تحضيرها المادة التي عُلِمَ مِن فن الكيمياء الحديث أنها توجد في تركيب الخمر،
وهي علة الإسكار فيها، وإن لم تكن هذه الأشياء أشربة تُتَّخَذ للسكر أو يتوسل بها
إليه، فإن هذا غلوٌّ لا يُطَالب دين الفطرة والحنيفية السمحة به أحدًا، فهذا دين عام
للبدو والحضر، وقد ظهر في أمة كانت أمية فهو سهل لا تعقيد فيه، ولا عُسْرَ ولا
حَرَجَ. أَوَلَيْسَ من الغلو والحرج والعسر وقلب الحقائق أن تحرم على أهله منافع
كثيرة في طيبهم وطبهم وجراحتهم وصيدلتهم وصناعاتهم وعمرانهم بحشرها كلها في
تحريم السكر وشرب الخمر وهي ليست منها مقصدًا ولا وسيلة؟
(4) إن مَن استقرأ جميع ما في القرآن الحكيم من الآيات المُنَزَّلَة في
الطهارة وجميع ما في دواوين السنة السنية من الأحاديث الواردة فيها - يجد خلاصتها
أن النظافة مشروعة في هذا الدين، وأن الله تعالى يحب المتطهرين من الأقذار
الحسية، كما يحب التوابين عن المعاصي وهي الأقذار المعنوية، وأن الطهارة
قسمان: إيجابية كالوضوء والغسل. وسلبية وهي التنزه عن التضمخ بالأقذار، وما
يترتب عليه من إزالة ما يطرأ منها على البدن والثوب والمكان، ويكره الغلو
والتنطع فيها كغيرها، ولا يوجد في هذه النصوص دليل قطعي على كونها شرطًا
لصحة الصلاة وفاقًا لمذهب الإمام مالك وأطال الشوكاني في تحقيق إثباته في نيل
الأوطار. والنجس الحسي في اللغة هو القذر الشديد القذارة الخبيث الرائحة وأشده
غائط الإنسان وبوله. ولم يرد في الكتاب ولا في السنة بيان لأنواع النجاسات والأمر
بغسلها بل تركها الشارع إلى عرف اللغة. وقد صحَّ مع ذلك أنه صلى الله عليه
وسلم أمر بنضح بول الغلام بالماء. ولذلك قال بعضهم بعدم نجاسته شرعًا مع العلم
بأنه نجس لغة، وغلط بعض الفقهاء في تعليل الأمر بنضحه بأنه رقيق أي ضعيف
القذارة، وهذا مخالف للحس؛ ولكن الحق أن الطهارة الشرعية لا يُشْتَرَطُ فيها
زوال العين والأثر ألبتة. وقد شدَّد بعض الفقهاء كالشافعية في تطهير النجاسات
حتى جعلوها كتطهير الأطباء للمواد السامة وجراثيم الأمراض والأوبئة، وتساهل
بعضهم عملاً بظواهر النصوص الواردة في نضح بول الغلام ودم الحيض والصلاة
في النعال والاكتفاء بدلكها بالأرض إذا رُؤِيَ عليها عين النجاسة، وإفتاء النبي
صلى الله عليه وسلم بعض النساء بأن الأرض الطاهرة تُطَهِّرُ الذيلَ الذي يجر على
النجاسة، كما شدَّد بعضهم في جعل التطهير محصورًا بالماء، ويَسَّرَ بعضُهم فجعل
مدار التطهير على إزالة القذارة ولو بالصقل أو انقلاب العين، وهذا هو اللائق
بدين الفطرة وسيره، وليس في العمل به مخالفة لنص الشارع ولا للمراد من
الطهارة، وليس تطهير الأبدان والأشياء من الأقذار أمرًا تعبديًّا؛ ولذلك لم يشترط
أحد في صحته وإجزائه النية ... وأما هذه الشدة والعسر والحرج الذي ذهب إليه
بعض المعاصرين كالأستاذ شفيق الرحمن في مسألتنا فهو قلب للحقائق؛ لأنه يجعل
الطيب قذرًا، وأشد المطهرات إزالة للنجاسة نجسًا، فإن الأعطار الذكية التي هي
من مستحضرات السبيرتو، قد عمت الأمصار والأقطار، ويستعملها أكثر المسلمين
كغيرهم في هذه الديار لرخص ثمنها ولأنها تستعمل للتطيب وللتطهير الحسي
كإزالة الأقذار والتطهير الطبي من جراثيم الأوبئة والأمراض، فبأي حجة تقلبون
حقائق اللغة التي جاء بها الدين، وتقلبون مقاصد الشرع الذي يحب للمؤمنين
الطهارة والطيب، ويكره لهم النجاسة والخبث، فتجعلون الأعطار الذكية المطهرة
من النجاسات التي أوجب الله تطهيرها؟ وهي ليست أشربة مسكرة ولا ذريعة
للسكر، ثم إنكم تقرءون في كتب فقهائكم ما لا نحب إعادة ذكره من تعريف الخمر،
والفلسفة في القدر المسكر مما ذكرناه في الفتوى الأولى !
(5) إن هذا السبيرتو مما عمت به البلوى في أكثر بلاد الحضارة لما
تقدمت الإشارة إليه من أنواع استعماله في الوقود والتطهير والصيدلة والطب
والصناعة، حتى صار بعضها ضروريًّا وبعضها حَاجِيًّا أو تحسينيًّا، ولو حكم على
الناس في مصر - مثلا - بترك كل ما يدخل فيه السبيرتو لوقع الناس في حرج
عظيم وتعطلت أعمال ذات منافع عظيمة، وإننا نبين هنا حقيقة الضرورة
والاضطرار وعموم البلوى بأقوال أشهر العلماء الأعلام من المذاهب المشهورة
المتبعة.
الاضطرار والضرورة المبيحة للمحظور:
الاضطرار (افتعال) من الضرر أو الضرورة، فهو وقوع الضرورة أو تكلف
ما يضر بِمُلْجِئٍ يُلْجِئ إليه، وقد حققنا هذا وبينا الضرورة الشرعية في تفسير: {فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} (المائدة: 3) من أوائل سورة المائدة بالتفصيل (ص167
و168 ج6 تفسير) وقد اطلعنا أخيرًا على كتاب أحكام القرآن للإمام أبي بكر أحمد
ابن علي الرازي المشهور بالجصاص المتوفى سنة 370 وهو من أئمة الحنفية فألفيناه
قد شرح مسألة الاضطرار شرحًا تامًّا فرأينا أن ننقل هنا ما يتعلق بموضوعنا منه،
وهو قوله (ص126 ج1) المطبوع في الآستانة:
قول الإمام الجصاص الحنفي:
قال في باب ذكر الضرورة المبيحة لأكل الميتة من تفسير سورة البقرة ما
نصه: قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173)
وقال في آية أخرى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 3) فقد ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات، وأطلق
الإباحة في بعضها بوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله: {وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) فاقتضى ذلك
وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها. اهـ.
وبعد أن أطال في تفسير: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} (البقرة: 173) واختلاف
الشافعية مع الجمهور فيه، قال في أول ص 129 وما يليها ما نصه:
(ومعنى الضرورة هاهنا هو خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه
بتركه الأكل، وقد انطوى تحته معنيان (أحدهما) أن يحصل في موضع لا يجد
غير الميتة (والثاني) أن يكون غيرها موجودًا، ولكنه أكره على أكلها بوعيد
يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه وكلا المعنيين مُرَادٌ بالآية عندنا
لاحتمالهما، وقد روي عن مجاهد أنه تأولها على ضرورة الإكراه؛ ولأنه إذا كان
المعنى في ضرورة الميتة ما يخاف على نفسه من الضرر في ترك تناوله، وذلك
موجود في ضرورة الإكراه - وجب أن يكون حكمه حكمه؛ ولذلك قال أصحابنا
فيمن أكره على أكل الميتة فلم يأكلها حتى قتل: كان عاصيًا لله، كمن اضطر إلى ميتة
بأن عدم غيرها من المأكولات لم يأكل حتى مات، كان عاصيًا، كمن ترك الطعام
والشراب وهو واجدهما حتى مات، فيموت عاصيًا لله بتركه الأكل؛ لأن أكل الميتة
مباح فى حال الضرورة كسائر الأطعمة في غير حال الضرورة، والله أعلم.
***
باب المضطر إلى شرب الخمر
(قال أبو بكر: وقد اختُلِفَ في المضطر إلى شرب الخمر، فقال سعيد بن
جبير: المطيع المضطر إلى شرب الخمر يشربها، وهو قول أصحابنا جميعًا. وإنما
يشرب منها مقدار ما يمسك به رمقه؛ إذ كان يَرُدُّ عطشه، وقال الحارث العكلي
ومكحول: لا يشرب؛ لأنها لا تزيده إلا عطشًا، وقال مالك والشافعي: لا يشرب؛
لأنها لا تزيده إلا عطشًا وجوعًا، وقال الشافعي: ولأنها تذهب بالعقل، وقال مالك:
إنما ذُكرت الضرورة في الميتة ولم تذكر في الخمر، قال أبو بكر في قول من
قال: (إنها لا تزيل ضرورة العطش والجوع) لا معنى له من وجهين (أحدهما) أنه
معلوم من حالها أنها تمسك الرمق عند الضرورة، وتزيل العطش ومن أهل الذمة
فيما بلغنا من لا يشرب الماء دهرًا اكتفاء بشرب الخمر عنه، فقولهم في ذلك غير
المعقول المعلوم من حال شاربها. (والوجه الآخر) أنه إن كان كذلك كان الواجب
أن نُحِيلَ مسألة السائل عنها ونقول: إن الضرورة لا تقع إلى شرب الخمر، وأما
قول الشافعي في ذهاب العقل فليس من مسألتنا في شيء؛ لأنه سئل عن القليل الذي
لا يذهب العقل إذا اضطر إليه. وأما قول مالك: إن الضرورة إنما ذكرت في
الميتة ولم تذكر في الخمر، فإنما في بعضها مذكورة في الميتة وما ذكر معها، وفي
بعضها مذكورة في سائر المحرمات، وهو قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) وقد فصل لنا تحريم الخمر في
مواضع من كتاب الله في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ} (البقرة: 219) وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} (الأعراف: 33) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ
وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90)
وذلك يقتضي التحريم. والضرورة المذكورة في الآية منتظمة لسائر المحرمات،
وذكره لها في الميتة وما عطف عليها غير مانع من اعتبار عموم الآية الأخرى في
سائر المحرمات، ومن جهة أخرى أنه إذا كان المعنى في إباحة الميتة إحياء نفسه
بأكلها وخوف التلف في تركها، وذلك موجود في سائر المحرمات وجب أن يكون
حكمُها حكمَها؛ لوجود الضرورة، والله أعلم) . اهـ.
قول الإمام أبي بكر بن العربي المالكي المتوفى سنة 542:
قال في أحكام آية البقرة من تفسيره (أحكام القرآن) بعد تحقيق معنى
الاضطرار بنحو مما تقدم أو أوضح - ومداره على اتقاء الضرر - ما نصه:
(المسالة التاسعة) هذا الضرر الذي بيَّناه يلحق إما بإكراه من ظالم أو بجوع
في مخمصة أو بفقر لا يجد فيه غيره، فإن التحريم يرتفع عن ذلك بحكم الاستثناء
ويكون مباحًا، فأما الإكراه فيبيح ذلك كله إلى آخر الإكراه. وأما المخمصة فلا
يخلو أن تكون دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها، وإن كانت نادرة فاختلف
العلماء في ذلك على قولين: (أحدهما) يأكل حتى يشبع ويتضلع. قاله مالك، وقال
غيره: يأكل على قدر سد الرمق، وبه قال ابن حبيب وابن الماجشون لأن الإباحة
ضرورة فتُقَدَّرُ بقَدْرِ الضرورة. وقد قال مالك في موطئه الذي ألفه بيده وأملاه على
أصحابه وأقرأه وقرأه عمره كله: يأكل حتى يشبع، ودليله أن الضرورة ترفع
التحريم فيعود مباحًا ومقدار الضرورة إنما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده
حتى يجد، وغير ذلك ضعيف.
(المسألة العاشرة) من اضطر إلى خمر، فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف،
وإن كان لجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العُتْبِيَّة، قال: ولا يزيده
الخمر إلا عطشًا. وحجته أن الله تعالى حرم الخمر مطلقًا وحرَّم الميتة بشرط عدم
الضرورة، ومنهم من حمله على الميتة، وقال أبو بكر الأبهري إن ردت الخمر
عنه جوعًا أو عطشًا شربها، وقد قال الله تعالى في الخنزير: (إنه رجس) ثم أباحه
للضرورة، وقال تعالى أيضًا في الخمر: (إنه رجس) فتدخل في إباحة ضرورة
الخنزير بالمعنى الجليِّ الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة وترد
الجوع ولو مدة.
(المسألة الحادية عشر) إذا غُصَّ بلقمة فهل يجيزها بخمر أم لا؟ قيل: لا
يسيغها بالخمر مخافة أن يدَّعي ذلك، وقال ابن حبيب. يسيغها؛ لأنها حالة ضرورة،
وقد قال العلماء: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل، دخل
النار إلا أن يعفو الله تعالى عنه، والصحيح أنه سبحانه حرم الميتة والدم ولحم
الخنزير أعيانًا مخصوصة في أوقات مطلقة، ثم دخل التخصيص بالدليل في بعض
الأعيان، وتطرق التخصيص بالنص إلى بعض الأوقات والأحوال، فقال تعالى:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} (البقرة: 173) فرفعت الضرورة التحريم،
ودخل التخصيص أيضًا بحال الضرورة إلى حال تحريم الخمر لوجهين: (أحدهما)
حملاً على هذا بالدليل كما تقدم من أنه محرَّم فأباحته الضرورة كالميتة (والثاني)
أن من يقول: إن تحريم الخمر لا يحل بالضرورة، ذكر أنها لا تزيده إلا عطشًا ولا
تدفع عنه شبعًا، فإن صح ما ذكره كانت حرامًا، وإن لم يصح - وهو الظاهر -
أباحتها الضرورة كسائر المحرمات، وأما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين
الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شهدناه فلا يخفى بقرائن الحال صورة الغصة من
غيرها فيُصَدَّقُ إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حدَدْنَاه ظاهرًا وسلم من العقوبة عند الله
تعالى باطنًا. اهـ.
قول الإمام الرازي الشافعي:
عقد الفخر الرازي في أحكام آية البقرة من تفسيره الكبير المشهور فصولاً بعد
تفسير الاضطرار بمثل ما تقدم قال في آخر الفصل منه ما نصه: ...
(المسألة الرابعة) اختلفوا في المضطر إلى الشرب إذا وجد خمرًا أو من
غُصَّ بلقمة فلم يجد ماء يسيغه ووجد الخمر، فمنهم من أباحه بالقياس على هذه
الصورة فإن الله تعالى إنما أباح هذه المحرمات إبقاء للنفس ودفعًا للهلاك عنها،
فكذلك في هذه الصورة، وهذا هو الأقرب إلى الظاهر والقياس، وهو قول سعيد بن
جبير وأبي حنفية، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يشرب؛ لأنه يزيده عطشًا
وجوعًا ويذهب عقله. وأجيب عنه بأن قوله (لا يزيده إلا عطشًا وجوعًا) مكابرة،
وقوله: (يزيل العقل) فكلامنا في القليل الذي لا يكون كذلك.
(المسألة الخامسة) اختلفوا إذا كانت الميتة يُحْتَاجُ إلى تناولها للعلاج، إما
بانفرادها أو بوقوعها في بعض الأدوية المركبة، فأباحه بعضهم للنص والمعنى، أما
النص فهو أنه صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها للتداوي،
وأما المعنى فمن وجوه: (الأول) أن الترياق الذي جعل فيه لحوم الأفاعي
مستطاب فوجب أن يحل؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: 4)
غاية ما في الباب أن هذا العموم مخصوص، ولكن لا يقدح في كونه حجة.
(الثاني) أن أبا حنيفة لما عفا عن قدر الدرهم من النجاسة لأجل الحاجة،
والشافعي عفا عن دم البراغيث للحاجة، فلم لا يحكمان بالعفو في هذه الصورة
للحاجة؟ (الثالث) أنه تعالى أباح أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا هاهنا. ومن
الناس من حرَّمه واحتج بقوله عليه السلام: (إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما
حرم عليهم) وأجاب الأولون بأن التمسك بهذا الخبر إنما يتم لو ثبت أنه يحرم عليه
تناوله، والنزاع ليس إلا فيه.
(المسألة السادسة) اختلفوا في التداوي بالخمر، واعلم أن الحاجة إلى ذلك
التداوي إن انتهت إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الرابعة، فإن لم تنته
إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الخامسة. اهـ.
قول الإمام الطوفي الحنبلي:
قال الإمام الشيخ سليمان بن عبد القوي الطوفي في تفسيره: (الإشارات
الإلهية إلى المباحث الأصولية) في تفسير آية البقرة ما نصه:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) أي إذا أكل
من هذه المحرمات مضطرًّا لا إثم عليه. والمضطر من خشي على نفسه الهلاك أو
مرضًا أو ضعفًا فاحشًا يخشى منه الهلاك أو الزمانة، ونحو ذلك من الضرر الفظيع
فله أن يأكل ما يسد رمقه، وفي تمام الشبع قولان للعلماء، إلخ.
***
ما ورد في السنة والأثر
هذا ما قاله أشهر المفسرين المحققين المنتمين إلى المذاهب الأربعة في
الضرورة والاضطرار الذي يبيح شرب الخمر التي لا خلاف في كونها خمرًا، أو
يوجبه، وكونه في حال الاضطرار لا يُعَدُّ من التداوي بالمحرم لأنه صار واجبًا،
وأحسنه كلام ابن العربي. وإن في الآثار عن بعض أئمة السلف ما يدل على
الرخصة فيما دون ذلك، كما يتبادر من الرواية الثانية الآتية عن سعيد بن جبير من
أئمة التابعين، فقد روى عنه ابن جرير في تفسير: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ
عَادٍ} (البقرة: 173) أنه قال: إذا خرج في سبيل من سبيل الله فاضطر إلى
شرب الخمر شرب، وإن اضطر إلى الميتة أكل. وفي رواية أخرى أنه قال في
تفسير الباغي والعادي: هو الذي يقطع الطريق فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل
الميتة، وإذا عطش أن يشرب الخمر اهـ. فناط أكل الميتة وشرب الخمر بمجرد
الجوع والعطش أي مع عدم وجود غيرهما، ولم يشترط فيه الخوف على نفسه أن
تهلك أو تمرض أو تضعف ضعفًا شديدًا فهو يَعُدُّ من الضرورة فقد الطعام والشراب
المباح مع الحاجة، ونظيره إباحة التيمم. وهو موافق ما حقَّقه ابن العربي في عده
الفقر من الضرورة المبيحة ويؤيده ما يأتي من السنة.
وأما السنة - وقد أخرناها لأنها القاضية على كل ما قيل في تفسير الآية - فمنها
حديث أبي واقد الليثي قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا مخمصة فما يحل
لنا من الميتة فقال: (إذا لم تَصْطَبِحُوا ولم تَغْتَبِقُوا ولم تَحْتَفِئُوا بها بقلاً فشأنكم بها)
وقد رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات كما قال في مجمع الزوائد [2] .
وفي معناه حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (إن أهل بيت كانوا
بالحرة محتاجين قال: فماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم فرخَّص لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أكلها فعصمتهم بقية شتائهم. أو سنتهم) رواه أحمد. وفي
لفظ: إن رجلاً نزل بالحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت فإن
وجدتها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت فقالت له امرأته: انحرها فأبى
فنفقت - أي ماتت - فقالت: اسلخها حتى نقدر [3]- وفي رواية: نُقَدِّد - شحمها
ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فسأله فقال:
هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا. قال: فكلوه، قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر
فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك. رواه أبو داود، وسكت عنه هو
والمنذري.
وهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن المضطر إلى أكل الميتة ونحوها
هو من لا يجد قوتًا يغنيه عنها، وأنه يأكل ما يكفيه عادة - كما هو مذهب مالك - فلا
يبغيه وهو يجد عنه غنًى، ولا يعدو حد الحاجة التي يقوى منها على السعي والعمل
إلى حد البطنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينط إفتاءه بخوف الهلاك أو الضرر
الذي لا يحتمل، ولم يأمر بالاقتصار في الأكل على ما يسد الرمق، بل ناطها بالحاجة
إليها، وعدم ما يغني عنها، ولما نقل الحافظ ابن حجر قول من قال: (إنه يجوز أكل
المعتاد للمضطر في غير أيام الاضطرار) قال: وهو الراجح لإطلاق الآية. ويؤخذ
من هذا أن من كان مسافرًا في أرض شديدة البرد والثلج والجليد كالبلاد الشمالية، ولم
يجد ما يدفع عنه ضرر البرد ولا وقودًا يذيب به الثلج ليشرب منه - أن له أن يشرب
من الخمر ما يدفع عنه البرد الضار والظمأ ما دام لا يجد ما يغني عنها، غير متجانف
لإثم - أي غير باغ النشوة والسكر - ولا عادٍ حد ما يدفع الضرر.
هذا وإن شرب الخمر ليس من موضوع مسألتنا، وإنما موضوعه الأصلي
الطلاء الذي تطلى به الجدران وخشب البيوت والأثاث فيكون به نظيفًا جميلاً طويل
العمر غير قابل لامتصاص الأقذار النجسة الضارة وغيرها، فالسائل الفاضل
يحرمه؛ لأنه يعالج بالسبيرتو، وهو - أي الطلاء - ليس بشراب ولا قذر ولا يمكن
أن يكون ذريعة للسكر، وبذلك انجر الكلام إلى البحث في السبيرتو وسائر ما
يُسْتَحْضَر به من الأدوية وغيرها.
وإننا نرى الثقات من الأطباء والجراحين يجزمون بأن استعمال السبيرتو في
التطهير والوقود المتعلق به واستعمال الأدوية المستحضرة به يصل إلى حد
الضرورة في بعض الأحيان والأحوال، ولا سيما حال الحرب بحيث إذا ترك يقع
الضرر العظيم كتلف بعض الأعضاء المجروحة وبقية المقطوعة، وإنه في غير
حال الضرورة من الحاجات التي عمت بها البلوى في طب الأبدان والأسنان
والجراحة بحيث يكون حظره والمنع منه حرجًا عظيمًا.
مسألة عموم البلوى ويسر الشريعة:
وإننا نوضح مسألة عموم البلوى ويسر الشريعة ورفع الحرج الثابت
بنصوصها القطعية والإجماع، بكلام بعض المحققين الذين يذعن السائل الفاضل
لتحقيقهم:
قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي الغرناطي في سياق المسألة الثانية
عشرة من كتاب الأحكام من كتابه (الموافقات) ما نصه:
(إن محالّ الاضطرار مغْتَفَرة في الشرع، أعني أن إقامة الضرورة معتبر،
وما يطرأ عليه من معارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة كما
اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك (أي كالخمر) في جنب
الضرورة لإحياء النفس المضطرة ا. هـ (صفحة 103ج1) .
إن أصول الشاطبي التي حققها في كتاب المقاصد تبني أحكام الشريعة كلها
على أساسَي: مراعاة مصالح الخلق ودفع المفاسد عنهم في الأمور الثلاثة:
الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
والضروريات هي الكليات الخمس المشهورة: حفظ الدين، والنفس، والنسل،
والمال، والعقل (ص4ج2) .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح قاعدته الثانية في العقود - حرامها
وحلالها - فصلاً فيما عمت به البلوى، ومسَّت إليه الحاجة في كثير من بلاد الإسلام
من إجارة الأرض المشتملة على الغرس والمباني التي اختلف الفقهاء في أحكام
إجاراتها، فأطال الكلام فيها، وذكر ما للناس من الحيل لاستباحة المحظور منها، ثم
أتى بقاعدة عامة في يسر الشريعة وهو ما نريده من كلامه، فقال جزاه الله خيرًا:
(فالمقصود المعقود عليه ظاهر، والذين لا يحتالون أو يحتالون - وقد ظهر
لهم فساد هذه الحيلة - هم بين أمرين: إما أن يفعلوا ذلك للحاجة ويعتقدون أنهم
فاعلون للمحرم كما رأينا عليه الناس، وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار
الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر والاضطرار ما لا يعلمه إلا الله.
وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان، فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد
الأموال التي لا تأتي بها شريعة قط، فضلاً عن شريعة قال الله فيها: {وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ
عَنكُمْ} (النساء: 28) وفي الصحيحين: (إنما بعثتم مُيَسرين) (يسروا ولا
تعسروا) (ليعلم اليهود أن في ديننا سعة) فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه
حرج وهو منتفٍ شرعًا. والغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن للأمة
التزامه قط لِمَا فيه من الفساد الذي لا يُطَاق، فعلم أنه ليس بحرام، بل هو أشد من
الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد
صلى الله عليه وسلم، ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية
على قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173)
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 3)
اهـ. المراد منه.
فالقاعدة الشرعية المستندة إلى نص هذه الآيات العامة لجميع أحكام الشريعة
هي أن المحرم لذاته - وهو ما كان ضارًّا بذاته - يباح للضرورة، ويليها قاعدة
أخرى متممة لها، وهي أن ما كان محرمًا لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، ولا
يشترط فيه الضرورة. وقد شرح ذلك المحقق ابن القيم في بحث الربا من كتابه
(إعلام الموقعين) فإنه أثبت أن صنعة الحلية لها قيمة فليس من الربا أن تباع بأكثر
من وزنها دراهم إن كانت فضة، أو دنانير إن كانت ذهبًا، ومما وضحه به قوله:
(يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه، وما
حرم سدًّا للذريعة، أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما
أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب
والشاهد والطبيب والعامل من جملة النظر المُحَرَّم، وكذلك تحريم الذهب والحرير
على الرجال حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه
الحاجة. وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها؛
لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة. اهـ.
وملخص ما تقدم كله أن السبيرتو ليس بخمر، وإن كان يوجد فيها وفي
غيرها مما أجمع المسملون على حله وطهارته كالعجين المختمر، وهو الآن لا
يستخرج من الخمر لرخصه وغلائها، وأن الخمر غير نجسة نجاسة حسية على
التحقيق. وأن الواجب في تطهير النجاسة ما يزول أو يضعف به وصف القذارة
كما علم من أحاديث دم الحيض والمني وبول الغلام والنعال وذيول النساء التي
تجر على الأرض النجسة، وإن من المطهرات بهذا المعنى الشمس والنار
وانقلاب العين والصقل، ومنه أكل أبي الدرداء وغيره من الصحابة السمك المُعَالَج
بالخمر المسمى (المري) وتعليله لذلك بقوله (ذبح الخمرَ النينانُ والشمسُ) كما
نقلناه في الفتوى الأولى عن صحيح البخاري، ونتيجة ذلك كله أن طلاء الخشب
الذي هو واقعة الفتوى الهندية، وسائر ما يعالج أو يُحَضَّر بالسبيرتو من الأدوية
والأعطار والأدهان والأطلية طاهر، ولو لم تعم به البلوى، فكيف وقد ثبت عمومها
في جميع بلاد الحضارة؟ وسنكتب مقالاً خاصًّا في التداوي إن شاء الله تعالى. والله
أعلم.
__________
(1) المنار: هكذا الأصل وكان ينبغي أن يكتب: الذي قال حكاية عن خليله إبراهيم: [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] (الشعراء: 80) .
(2) فسروا الصبوح والغبوق بما يُتَغَذَّى به في الصباح وفي المساء طعامًا كان أو شرابًا وهو في أصل اللغة: الشرب فيهما، فتفسيره بالأعم تفسير بالمراد. وأصل الاحتفاء: اقتلاع الحفاء وهو البردي (بضم الموحدة) نوع من جيد التمر، وقد استعير لاقتلاع البقل كما قال الزمخشري في الفائق، قال: وروى: (تحتفوا) من احتفى القوم المرعى: إذا رعوه وقلعوه. وأورده الجصاص بلفظ: (ولم يجدوا بها بقلاً) .
(3) نقدر بالراء، يقال: قدر الطعام (من باب قتل) إذا طبخه بالقدر. وهي رواية أحمد. ونقدد بالدال، من قدّد اللحم: إذا جعله قديدًا لأجل الادخار.(24/733)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لغة الإسلام
واللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية
(1)
قرأنا في برقيات الأهرام وغيرها نبأ غريبا: هو أن جريدة (طنين) التركية
تلقت رسالة مُوَقَّعًا عليها من خمسة وعشرين مسلمًا في طشقند وأفغانستان ومصر
والجزائر وبمباي وبكين وبلاد أخرى يحثون فيها جميع المسلمين على استعمال
لغة واحدة في العلاقات التي بينهم أسوة بالقاعدة المتبعة في استعمال اللغة الفرنسية
في المسائل السياسية، وإن الموقعين على هذه الدعوة صرَّحوا بأن اللغة التركية
متوفرة فيها الصفات الضرورية لهذا الأمر على كونها لغة أكبر دولة إسلامية،
واقترحوا عرضها على مؤتمر يعقد في مدينة أنقرة يكون مؤلفًا من أعضاء مندوبين
من جميع الممالك الإسلامية، لكل مملكة منها عضوان.
هذا كل ما لخصته البرقيات من رسالة طنين، فوجب أن نبحث في هذه المسألة
بما يرشد إليه الإسلام ومصلحة المسلمين، والبحث فيها ذو وجوه:
(الأول) : إن هذا الاقتراح مصنوع، وصنعة غير متقن فيما يظهر، فقد
أراد الملفقون له في الآستانة أن يوهموا من يطلع عليه أن هذه الفكرة مما يشغل
جميع الشعوب الإسلامية من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وأنه يكاد يكون
بادئ ذي بدء رأيًا إجماعيًّا لها لا يعوزه إلا أن يقرَّر في مؤتمر رسمي، وعندنا أن
فكرة سخيفة غير ممكنة كهذه الفكرة، لا يمكن أن توجد فجأة في شرق البلاد الإسلامية
وغربها، ولا يعقل أن تتمخض في جميع هذه الشعوب من غير أن يظهر لها أثر
ولا ينقل عنها خبر في جرائد هذه الممالك ثم تولد في إدارة جريدة طنين في الآستانة!
إذن هي مما يدرك كل ذي حجى أنه تدبير مُلَفَّق. وأن هذا الجنين ليس من نسل
العالم الإسلامي كله بل من نسل متعصبي الطورانية الذين لا يزالون يشتغلون
بتطهير [1] اللغة العثمانية من لغة القرآن العربية، ولا يعسر على هؤلاء أن يجدوا
في الآستانة خمسة وعشرين رجلاً من أوشاب البلاد المختلفة يوقعون اقتراحًا كهذا،
بل لو طلبوا بعده من يوقع لهم اقتراحًا بأنه يجب على مسلمي الأرض كلها أن يتلقوا
أصول دينهم وفروعه بلغة واحدة يقرأ بها القرآن ويدرس بها السنة؛ لأنه أدعى إلى
وحدة التعليم وَحِدَّةِ تأثير الدين، وأن اللغة التركية هي الجديرة بالاختيار لذلك،
لوجدوا من هؤلاء وأمثالهم من يوقع لهم هذا الاقتراح، ولا يبعد أن يكون ممثل
مصر فيهم عمر رضا أفندي مراسل جريدة الأخبار الذي ينكر أن اللغة العربية هي
لغة دين الإسلام [2] وسيأتي بيان هذه المسألة بعدُ، وأن الاقتراح لا يمكن تنفيذه إلا
بها، وأنه حينئذ يكون من أعظم دعائم الإصلاح الإسلامي الديني والاجتماعي
والسياسي.
(الثاني) : إن كلمة (اللغة التركية) تُطْلَقُ بحق على لغة أهل تركستان وهم
عشرات الملايين، وتطلق تَجَوُّزًا على اللغة العثمانية التي قال إمام أدبائها (نامق
كمال بك) الشهير: إنها مؤلفة من أشهر لغات الشرق وهي العربية والفارسية
والتركية، وهذه اللغة لا يتقنها إلا المتعلمون في مكاتب الدولة العثمانية، وهم
يعدون بالألوف لا بالملايين، وأصحاب العصبية الطورانية منهم غير راضين عنها،
ويجمعون على وجوب إرجاعها إلى اللغة التركية الأصلية، ويقولون: إن فلاحي
الأناضول لا يفهمونها فضلاً عن الترك الخُلَّص في تركستان، وقد جاء صديقنا
السائح الشهير الشيخ سعيد العسل الطرابلسي بكتاب تهنئة بالدستور للدولة العثمانية
من كاشغر فلم يوجد في الباب العالي ولا في غيره من رجال الآستانة من فهم لغته
التركية المحضة، بل احتاجوا إلى ترجمته بمساعدة من جاء به، ولا تزال جمعية
(تورك أوجاغي) تشتغل بتنقيح اللغة العثمانية - لغة الآستانة وأنقرة - لإرجاعها
إلى التركية، على ما يدخل فيها كل حين من الألفاظ الإفرنجية، التي ربما تزيد
على ما يخرج منها من الألفاظ العربية، فهل فكرت في هذا شعوب الشرق والغرب
بل الخمسة والعشرون الذين ادعوا أو ادُّعِيَ أنهم يتكلمون بلسانها؟ فإن كانوا فكروا،
فأي اللغتين أتقنوا، ورأوا الصفات الضرورية متوفرة فيها؟ آلتركية المستعملة
في تركستان التي تجهلها (الدولة الإسلامية الكبرى) التي هي إحدى عِلَّتَيْ الاختيار أم
العثمانية التي هي عرضة للمحو والإثبات؟
(الثالث) : ماذا يريدون بالعلاقات التي بين جميع شعوب المسلمين من
مراكش إلى بكين؟ نحن لا نعرف أن بينهم علاقات مشتركة غير علاقة الدين،
والدين له لغة عامة مشتركة يعرفها علماؤه، وكثير من الطبقات الأخرى في كل
شعب من شعوبهم، وسيأتي الكلام فيها.
أما العلاقة السياسية فإنها تختص بالدول المستقلة منهم، وليس لأحد من
الخمسة والعشرين أصحاب الاقتراح دولة مستقلة إلا الأفغاني، والمصري الذي لَمَّا
يتم استقلال بلاده، والاتفاق على اللغة السياسية المشتركة بين الدول الإسلامية إنما
يتقرر بالمفاوضة فيما بينها لا بمؤتمر يعقد في أنقرة، فالعلاقة السياسية غير مرادة
للخمسة والعشرين.
وأما العلاقات الاقتصادية من تجارية وغيرها فهي غير موجودة إلا بين البلاد
المتجاورة كالبلاد الإفريقية بعضها مع بعض ومع سورية، والبلاد العربية مع البلاد
التركية والإيرانية، والهند مع هذه البلاد كلها، ومن البديهي أن استعمال اللغة
التركية في علاقة مصر بطرابلس الغرب وتونس أو بالحجاز وسورية أو علاقة
الهند بإيران وبلاد العرب ضرب من المُحَال، لا يقترحه إلا من أصيب بضرب من
الخَبَال، فانحصر الأمر في العلاقة الدينية وسيأتي الكلام فيها.
(الرابع) : هل بيَّنَ لنا الخمسة والعشرون كيف يكون اختيار عضوين من
كل مملكة إسلامية لحضور هذا المؤتمر؟ هل يختار رئيس جمهورية الصين الوثني
مندوبي الصين وحاكم الهند الإنكليزي مندوبي الهند، ووالي الجزائر الفرنسي
مندوبي الجزائر، وملك مصر مندوبي مصر، وملك الحجاز مندوبي الحجاز؟ إلخ
أم تختارهم الشعوب؟ إذا كان الشق الأول غير مراد لتوقفه على رضا حكام الممالك
غير الإسلامية والدول المستعمرة للبلاد غير المستقلة على ذلك، وهو متعذر فالشق
الثاني أشد تعذرًا؛ إذ لا يُعْقَل كيف ينتخب ستون مليونًا من مسلمي الصين
وخمسون مليونًا من مسلمي الملاو من يمثلهم في مؤتمر كهذا، فيكون قرار المؤتمر
نافذًا فيهم لوجود اثنين من بلادهم فيه، وإنما يمكن مثل هذا الاختيار في بلاد لها
جمعيات تمثل الجمهور الأكبر كالهند ومصر على ما بين جمعياتهما وأحزابهما من
الخلاف، وكون كبار علماء الدين بمصر لا ينتمون إلى حزب من أحزابها.
(الخامس) : إذا فرضنا إمكان انتخاب هذه الشعوب الإسلامية كلها لأعضاء
يمثلونها لتقرير لغة واحدة تتخاطب بها في العلاقة الدينية المشتركة بينهما، فهل
يقال لهؤلاء المندوبين أو لهذه الشعوب التي تختارها: إنه يجب أن يمضوا القرار
الذي اقترحه الخمسة والعشرون في جريدة طنين؟ أم يدعون للتشاور واختيار اللغة
المشتركة؟ إن أريد الشق الأول فلا حاجة إلى إرسال مندوبين، ولا إلى عقد مؤتمر،
بل يكفي تبليغ هذه الشعوب قرار الخمسة والعشرين، وأنه ليس عليها إلا الإذعان
والخضوع. وإن أريد الشق الثاني فما يُدْرِي هؤلاء الخمسة والعشرين ومن حملوهم
على هذا الاقتراح أن مندوبي مصر والحجاز ونجد واليمن وجاوه وفارس
ومراكش وغيرها يتفقون على تفضيل اللغة التركستانية أو العثمانية على لغة القرآن
وعلى لغاتهم الوطنية؟ وإذا لم يتفقوا فما فائدة هذا المؤتمر؟ ثم إذا أجمعوا أو اتفق
أكثرهم على اختيار اللغة العربية فهل يرضى الشعب التركي بذلك؟
(السادس) إذا غضضنا البصر عن كل ما ذُكِرَ، وفرضنا أن المؤتمر
اجتمع بمثل السهولة التي اجتمع بها الخمسة والعشرون ووافقهم على اقتراحهم فكيف
يكون تنفيذ قراره؟ أيفرض على البلاد العربية الممتدة من المحيط الأطلسي
(الأتلانتيك) إلى خليج فارس والمحيط الهندي وعلى شعوب الملاو في الجنوب
وشعوب الفرس والهند والأفغان والصين في الشرق أن يتعلموا اللغة العثمانية المُلَفَّقَة
القَلِقَة لأجل أن يتلقوا بها تفسير القرآن وشروح الحديث وفقه المذاهب السنية
والشيعية والإباضية من أنقرة بلغة واحدة؟ وإن فرض عليهم هذا وقبلوه بأن مسخ
الله عقولهم وقلوبهم فجعلهم بذلك كالخمسة والعشرين، فمن ذا الذي يعلمهم هذه اللغة؟
أيوجد في الآستانة والأناضول معلمون يكفون لنشر هذه اللغة من أقصى المشرق
إلى أقصى المغرب مستمدين تنقيحها المتصل من جمعية (تورك أوجاغي)
الطورانية؟ إذا فرضنا إمكان كل ما ذكر، فلا تبحث في المال الذي يُنْفَقُ في هذه
السبيل فهو أيسر الأمور بالنسبة إلى تلك العقبات الكأداء التي فرضنا أن الاقتراح قد
اقتحمها قبل ذلك.
(السابع) : قلنا: إن هذا الاقتراح لا تقبله الشعوب الإسلامية إلا إذا مسخت
عقولاً وقلوبًا فأمست لا تميز بين المفاسد والمصالح ولا بين المعقول وغير المعقول
في دنيا ولا دين، وإننا نبين ذلك ببرهاني العقل والدين فنقول:
أما برهان العقل فلا نطرق فيه باب تفضيل اللغة العربية بنفسها على التركية
أو العثمانية، وهو ما لا يختلف فيه اثنان من العارفين، ولا باب تفضيلها بكونها
لغة هذا الدين الذي نريد التخاطب في شأنه؛ بل نقول: إن لغة شطر القارة
الإفريقية الشمالي من الغرب إلى الشرق وشطر آسية الشرقي من البحر الأحمر إلى
خليج فارس هي اللغة العربية، وفي هذه البلاد مهد الإسلام، ومهبط وحيه،
ومهوى أفئدة أهله، وقبلة صلاتهم ومَشْعَر نُسُكِهم، ومثابتهم التي يَؤُمُّهَا مئات
الألوف من جميع شعوبهم على اختلاف أقطارهم في كل عام. وهذه اللغة هي التي
يَتَعَبَّدُ بها جميع هؤلاء المسلمين، ويتلقون دينهم منها في جميع الأقطار، فلا يوجد
بلد يقام فيه الدين إلا ويوجد فيه بعض العلماء الذين يعرفون هذه اللغة. فعلماء
الترك والفرس والأفغان والهند والصين والملاو وغيرهم من الأعاجم يعرفون هذه
اللغة ويتخاطبون بها، ولا يزالون كذلك ما داموا مسلمين، فهل من المعقول -
والحالة هذه - أن يُتْرَك جعلُها اللغة العامة لتعارف المسلمين وتوثيق عُرَى الدين
بينهم ويتكلف إقناعهم باختيار لغة أخرى عليها لا يعرفها إلا عدد قليل وهم
المتعلمون من ترك الرومللي والأناضول وبعض العرب الذين كانوا عثمانيين؟
إن من القواعد المتفق عليها عند علماء المعقول، المعدودة عند المتكلمين من
مقدمات براهين التوحيد: أن الترجيح بغير مُرَجِّح، مُحَالٌ، وأن ترجيح المرجوح
مُحَال بالأولى، وهذه المسألة من القسم الثاني بغير مِرَاءٍ، وكون اللغة التركية لغة
أكبر دولة إسلامية لا يصلح مُرَجِّحًا في هذا المقام. على أنه غير مُسَلَّم، فإن دولة
مصر أكبر من دولة أنقرة وأعلم بالدين وأقدر على نشره.
وأما برهان الدين فقد عُلِمَ بالإجمال مما قبله، وهو أن العربية هي لغة الدين
الإسلامي لا يمكن العلم الصحيح به ولا العمل الصحيح بإقامة أعظم عباداته إلا بها،
فيتعين أن تكون هي اللغة الوحيدة للتعاون بين الشعوب الإسلامية على إحياء
هدايته ونشر تعاليمه وبث عقائده وأحكامه، وإننا نزيد على ذلك أن تعلمها فرض
شرعي على جميع هذه الشعوب، وأن الاستغناء عنها بغيرها يُفْضِي إلى إضاعة
الإسلام، وهو ما نبينه في الفصل التالي.
***
(2)
العربية لغة الإسلام الواجبة على جميع المسلمين:
للإسلام لغة ذكرها الله في كتابه المجيد (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وأجمع عليها علماء المسلمين سلفًا وخلفًا،
علمًا وعملاً، ولم يفتح المسلمون العارفون حقيقة الإسلام بلدًا إلا ونشروها فيه كما
نشروا الدين، بل بنشر الدين، بل ما نشروا الدين إلا بها؛ إذ لا مظهر له سواها،
ثم هضم الأعاجم حقها بالجهل، ثم بالعصبية الجاهلية العمية، فقصر خلفهم عما
اجتهد فيه سلف الأمة الإسلامية الصالح منهم ومن غيرهم، ولكن لم يبلغ الجهل ولا
العصبية من أحد منهم أن يقول بمثل قول الخمسة والعشرين الذين اقترحوا في هذه
الأيام أن يجعل للإسلام لغة سواها، وإنما اقترحوا لغة مُلَفَّقَة من عدة لغات لا توجد
داعية دينية ولا دنيوية لشعب إسلامي إلى تعلمها؛ إذ ليست لغة دين ولا شرع ولا
علم ولا تجارة ولا صناعة ولا سياسة مشتركة بين هذه الشعوب حتى إن أهلها
يريدون تغييرها على ما لا ينكر من المحاسن فيها.
ولو أنهم اقترحوا تنظيم جعل لغة الإسلام التي نزل بها كتابه من عند الله
تعالى لغة التعارف والتعليم الديني بإقناع الشعوب الإسلامية الأعجمية بإتقانها
وتقرير الدروس الدينية للمتبدئين كالمنتهين بها بدلاً من الترجمة التي جروا عليها
في القرون الأخيرة - لحمد الله اقتراحهم ورسوله والمؤمنون، وعدُّوهم من دعاة
الإصلاح المخلصين؛ لأن تعليم التفسير والحديث والعقائد والفقه بترجمة كتبها
العربية باللغات المختلفة كما هو الشائع الآن في بلاد الأعاجم - عائق عن التحصيل،
وشر منه قراءة الكتب المترجمة؛ ولذلك قل العلماء المحصلون في بلاد الأعاجم
بالنسبة إلى أهل العصور الأولى الذين كانوا يتدارسون العربية ويتقنون متنها
وفنونها ويدرسون علوم الدين بها، وما وجد ولا يوجد عالم أعجمي يوثق بعلمه في
الدين إلا ممن حذقوا هذه اللغة وأتقنوها.
ولو فهم خَلَفُ الشعوب الأعجمية الإسلام كما فهمه سلفهم الصالح لآثروا لغته
وفضلوها واقتصروا عليها، ولم يبالوا بترك لغاتهم ألبتة؛ لتحقيق الوحدة الإسلامية
من جميع وجوهها، وأعني بسلفهم مثل البخاري من أهل الحديث وأبي حنيفة من
الفقهاء وسيبويه والزمخشري من أهل اللغة وفنونها.
ذلك بأن تعارف البشر وتآخيهم وتوادهم واتحادهم إنما يكون بكثرة ما
يشتركون فيه من المقومات والمشخصات العامة، وأهمها الدين وعقائده وعباداته
وآدابه، والشرع العادل الذي يساوي بينهم في السياسة والقضاء ويكونون به أمة
حاكمة واللغة التي يتخاطبون بها، ويفضي كل منهم للآخر بما في نفسه، وهي
مظهر علومهم وآدابهم، ودون هذه الثلاثة عرق النسب، وجوار الوطن.
ولما كان الإسلام دينًا إصلاحيًّا عامًّا لجميع البشر كان من أصوله دعوة الأمم
كلها إلى التوحيد في الدين والشرع واللغة التي هي أعظم مقومات الأمم النفسية
والسياسية والاجتماعية، لتكون الأمة الإسلامية بهم متحدة لا يفصل بين اتحادها ولا
جامعاتها هذه شيء من اختلاف الأنساب والأوطان؛ ولذلك حرَّم عصبية النسب
وغيرها تحريمًا غليظًا حتى أخرج النبي صلى الله عليه وسلم أهلها من جماعة
الإسلام بمثل قوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على
عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم رضى الله عنه، وثَم أحاديث
أخرى في الصحاح والسنن ذكرنا بعضها في كتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) .
ذلك بأن عصبية الجِنْسِيَّة أمضى مُدْيَة تقطع رابطة الدين، وتفسد أخوة
الإيمان بين المؤمنين. وقد كانت شرًّا على المسلمين من اختلاف المذاهب،
ولولاها لعم الإسلام المشارق والمغارب، وهي التي أفسدت بين العرب والفرس من
قبل، وهي التي أفسدت بينهم وبين الترك من بعد، وإننا لنجاهد منذ سنين في
تلافي شرها، وهو جُلُّ غرضنا من كتابة مباحث الخلافة التي بينا فيها أن اللغة
العربية قد جعلها الإسلام لغة جميع المسلمين لا لغة أبناء يعرب بن قحطان وحدهم،
وأن الإمام الخليل بن أحمد العربي الواضع لأول معجم لها ليس أولى بها من تلميذه
سيبويه الفارسي، وأن الإمام البخاري الأعجمي النسب قد امتاز في خدمة السنة من
بعض الوجوه على أستاذيه الإمامين أحمد وإسحاق بن راهويه العربيين، كما أن
الإمام النعمان قد قدم في فقه القياس على الأئمة الأعلام من العرب وغيرهم، وقد
قلد الخلفاء العباسيون بعض تلاميذ أبي حنيفة رياسة القضاء في دار خلافتهم، وما
كان المسلمون يفرقون في عهد الدول العربية بين عربي وعجمي في إمامة العلوم
الشرعية ولا غيرها، وكان مذهب الشافعي القرشي منتشرًا في بلاد الفرس، كما
كان مذهب أبي حنيفة الفارسي منتشرًا في العراق العربي، ولا يزال العدد الكثير
من أشراف العرب ودهمائهم على مذهب أبي حنيفة، ولكن الشعوب الأعجمية
الإسلامية المنسوبة إلى السنة اقتصروا على مذهب أبي حنفية بعد ذلك إلا أهل
جاوه وما جاورها (ورضي الله عن الجميع) .
هذا وإن اللغة من أعظم أسباب الوحدة، والاختلاف فيها من أعظم أسباب
الشقاق والفُرْقَة، ولما كان الإسلام دين التوحيد دينًا عامًّا لجميع البشر، وكان من
مقاصده أن يؤلف بينهم ويجعلهم بنعمة الله إخوانًا، فرَض عليهم توحيد اللغة، كما
فرض عليهم توحيد الألوهية والربوبية، وتوحيد الشريعة والآداب النفسية
والاجتماعية، فخرجت هذه اللغة بشرع الله تعالى عن أن تكون لغة شعب واحد
منهم، ولولا ذلك لم تؤثرها جميع الشعوب الإسلامية على لغاتها حتى عم انتشارها
المشرق والمغرب مع الإسلام أيام كان الإسلام إسلامًا، ونحمد الله تعالى أن وجد في
عدة شعوب إسلامية من يفكر اليوم في عظم شأن وحدة اللغة بين المسلمين ويسعى
لها سعيها، وإن أخطأ بعضهم في وضعها في غير موضعها، فإذا انتشر الشعور
بهذا النوع من الوحدة بين أهل التوحيد فإنهم يرجعون فيها إلى أصل دينهم وقاعدة
شرعهم، وقد نوهنا بهذه المسألة في كتاب (الخلافة) ولا يتهم من يدعو إلى اللسان
العربي بالتعصب للنسب العربي إلا من يجهل هذه الحقيقة الواضحة، كما فعل
بعض من كتب في مجلة الجامعة الهندية.
وقد مست الحاجة الآن إلى بيان الأدلة الشرعية على كون اللغة العربية
مفروضة على المسلمين فرضًا دينيًّا؛ لأننا على علمنا بجهل كثير من المسلمين أو
غفلتهم عن هذه المسألة قد وجدنا فيهم من أنكرها إنكارًا شديدًا كعمر رضا أفندي
مراسل الأخبار في الآستانة.
وهاؤم اقرءوا ما كتبه إمام من أعظم أئمة المسلمين وهو الإمام الشافعي رضي
الله عنه فيها فقد صرَّح بهذا وأقام الأدلة عليه في رسالته التي هي أول كتاب وضع
في أصول الفقه قال [2] :
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يُرْسَلُونَ
إلى قومهم خاصة، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة. (قيل)
فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة ويكون على الناس كافة أن يتعلموا
لسانه، أو ما أطاقوه منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم [3] فإن قال قائل: فهل من
دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فالدلالة على ذلك بَيِّنَةٌ من كتاب الله عز وجل
في غير موضع، فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلا بد
أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع،
وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُه لسانُ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا
يجوز - والله تعالى أعلم- أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في
حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد
بيَّن الله تعالى ذلك في غير آية من كتابه. قال الله عز ذكره: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ
العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد:
37) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى: 7) وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 1-3) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية
ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل وعز كل لسان غير لسان العرب في آيتين
من كتابه فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103) وقال: {وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وعرّفنا قدر نعمه، بما خصنا به من مكانة
فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ.....} (التوبة: 128)
الآية، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (الجمعة: 2) الآية.
وكان مما عرَّف الله تعالى نبيه عليه السلام من إنعامه عليه أن قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف: 44) فخصَّ قومه بالذكر معه بكتابه، وقال: {وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) وقال: {لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام: 92) وأم القرى مكة وهي بلده وبلد قومه فجعلهم في كتابه خاصة،
وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم
خاصة.
فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله تعالى
وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأُمِرَ به من التسبيح والتشهد وغير
ذلك، وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به
آخر كتبه، كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما
أمر بإتيانه ويتوجه لما وُجِّهَ له ويكون تبعًا فيما افتُرِضَ عليه ونُدِبَ إليه لا متبوعًا.
قال الشافعي رحمة الله: وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب
دون غيرهم؛ لأنه لا يعلم من إيضاح مجمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب
وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرُّقها، ومن علمها انتفت عنه الشبه التي دخلت
على من جهل لسانها، فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة
نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، أو إدراك نافلة خير لا
يدعها إلا مَن سفه نفسه وتَرَكَ موضع حظه، فكان يجمع مع النصيحة لهم قيامًا
بإيضاح حق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين طاعة لله، وطاعة الله جامعة
للخير. انتهى.
هذا ما قاله الإمام الشافعي في رسالة الأصول الشهيرة المطبوعة بمصر
بنصها، ولا تحسبن أن هذا مذهب له، خالفه فيه غيره من أئمة المسلمين، كلا إنه
إجماع لا اختلاف فيه، وقد اشتهرت رسالته هذه في جميع أقطار الإسلام؛ إذ كانت
هي أول ما كتب في أصول الفقه، وقد خالفه بعض المجتهدين في بعض مسائل
الأصول دون هذه المسألة فلم يخالفه ولم يناقشه أحد فيها، ولا فيما أورده من الأدلة
عليها. وأوضح الأدلة على هذا إجماع المسلمين سلفًا وخلفًا على التعبد بتلاوة القرآن
العربي وأذكار الصلاة والحج وغيرهما بالعربية، لم يشذ عن هذا سني ولا شيعي ولا
إباضي ولا معتزلي ... نعم إن الخلف قد قصروا في دراسة هذه اللغة فعطلوا بذلك
بعض ما أمرهم الله تعالى به من تدبر القرآن والعبرة والاتعاظ بآياته وفهم عقائده وفقه
أحكامه، ولكن روي قول شاذ عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى بجواز أداء بعض
أذكار الصلاة بغير العربية لمن تعذر عليه تعلم ما يجب منها، وقد نقل عنه أيضًا أنه
رجع عن هذا القول، على أنه مقيَّد بالضرورة الشخصية، ولم يقل هو ولا غيره
بإطلاق ذلك وأنه يسع أي شعب أعجمي أن يستغني في دينه عن لغة كتابه وسنته،
والدليل على هذا أن جميع مقلديه من الأعاجم لا يزالون يقرءون القرآن وأذكار الصلاة
والحج وغيرها بالعربية وكذلك خطبة صلاة الجمعة والعيدين إلا ما شذت به الحكومة
الكمالية التركية في العام الماضي فأمرت الخطباء بأن يخطبوا بالتركية.
وليست عبادات الإسلام وحدها هي التي تتوقف على العربية بل أحكام
المعاملات تتوقف عليها أيضًا؛ فإن أحكام الشريعة بجميع أنواعها حتى المدنية
والسياسية متوقفة على الاجتهاد المعبر عنه في عرف هذا العصر بالتشريع، وقد
أجمع علماء الأصول من جميع المذاهب الإسلامية على توقف الاجتهاد في الشرع
واستنباط الأحكام على معرفة اللغة العربية معرفة تُمَكِّنُ صاحبها من فهم أحكام
القرآن والسنة، وقد وضَّحْنا هذه المسألة وبيَّنا وجه الحاجة إليها في هذا العصر في
كتاب (الخلافة) فيراجع فيه.
وجملة القول أن إقامة دين الإسلام متوقفة على لغة كتابه المُنَزَّل، وسنة نبيه
المرسل، سواء في ذلك هدايته الروحية، ورابطته الاجتماعية، وحكومته العادلة
المدنية، وأن المسلمين لم يكونوا في عصر من العصور أحوج إلى الوحدة المفروضة
عليهم المتوقفة على هذه اللغة منهم في هذا العصر الذي تمزقوا فيه كل مُمَزَّق فأصبحوا
أكلة لمنهومي الاستعمار ومستعبدي الأمم والشعوب، وصدق فيهم قول النبي صلى
الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها....)
الحديث.
سيقول بعض الجاهلين لحقيقة الإسلام وكونه دينًا روحانيًّا مدنيًّا سياسيًّا،
وبعض أولي العصبية الجنسية الجاهلية: إن مقتضى ما ذكرت أنه لا يمكن إقامة
دين الإسلام كما يجب إلا باللغة العربية؛ فلماذا لا يجوز على شعوب المسلمين ما
جاز على شعوب النصارى مثلاً من ترجمة كتبهم المقدسة بلغاتهم المختلفة مع بقائهم
على دين النصرانية وملة المسيح عليه السلام؟
ونقول أولاً: إن المسألة عندنا مسألة نقل واتباع لا مسألة رأي، وقد علمتَ أن
أئمتنا مجمعون على ما ذكرنا (وثانيًا) إننا نحن المسلمين لا نعتقد أن النصارى
على ملة المسيح عليه السلام، ولا يصح أن نزيد على ذكر اعتقادنا هذا في صحيفة
عمومية. (وثالثًا) إن ترجمة القرآن المُعْجِز للبشر ترجمة تؤدي معانيه تأدية تامة
كما أنزلها الله تعالى ويبقى بها مُعْجِزًا وآية - متعذرة، وقد بيَّنا هذا بالإيضاح في
مجلتنا (المنار) ولا محل له هنا، وسنبين نموذجًا من تخبط الأعاجم في مسألة
الخلافة في نقد الرسالة التركية التي ألفت فيها باسم (خلافت وحاكميت ملية) مع
أن مؤلفيها يعرفون العربية معرفةً ما، ليُتَّخَذَ هذا نموذجًا لصفة إضاعة الدين بعدم
استمداده من لغته (ورابعًا) إذا فرضنا أن ترجمة الكتاب والسنة لا تُخِلُّ بِفََهْمِ
أصول الدين وفروعه وتشريعه، أفلا تُخِلُّ بما هو موضوع هذا المقال من وجوب
وحدتهم وتعارفهم وتعاونهم، وتوقف ذلك على لغة واحدة إذا لم تكن لغة جميع أفراد
شعوبهم فلتكن مما يتقنه طوائف رجال الدين ودعاة الوحدة والاتفاق منهم؟ بلى بلى.
حسبنا هذا البيان الوجيز للمسألة، ولا شك عندنا في أن كل من يؤمن بالله
تعالى وبما جاء به خاتم رسله إلى جميع خلقه محمد النبي العربي عليه أفضل
الصلاة والسلام، يتقبله بالرضاء والإذعان، وأنه لا يماري فيه ويتبرم به إلا
المنافقون الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، فنقترح على الجرائد التركية والفارسية
والأفغانية ترجمته ونشره، والدعوة إلى إحياء اللغة العربية الدينية في شعوبهم،
وحثِّهم على تعلمها بقدر الاستطاعة، وتنظيم التعارف بها، وكأني بالخمسة
والعشرين وقد رجعوا عن اقتراحهم الأول إلى ما هو الأحسن بل الممكن بل الواجب:
{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ
وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
__________
(1) أنكر هذا في مقالة نشرها في مجلة الجامعة التي تصدر في الهند نقل فيها عنا أننا وصمنا الشريعة الإسلامية بوصفها بالعربية أي عبناها وحقرناها (!) وأسرف في إنكار هذا، وفي الطعن علينا والتهكم علينا به بما يستلزم رمينا بالارتداد عن الإسلام، على أنه أمر مجمع عليه بين المسلمين. وقد علل هذا بالتعصب الجنسي للعرب على الترك، وهو تعليل للباطل بالباطل؛ إذ نحن أعدى أعداء هذه العصبية ولم نرد على هذه المقالة لاعتقادنا أن صاحبها مُمَارٍ بما لا يعتقد؛ ولأن بطلان قوله مما لا يجهله مسلم، على أننا سنبين أدلتنا على كون لغة الدين الإسلامي هي العربية في هذا البحث.
(2) ذكر الشافعي هذا البحث عقب إثباته لكون القرآن عربيًّا محضًا.
(3) أراد الاحتمال النظري الفرضي ثم أثبت أحد الشقين.(24/753)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلافة الإسلامية
(مقال لجريدة الأهرام في المقابلة بين كتاب (الخلافة) العربي الذي نشره
صاحب المنار، وكتاب (الخلافة والحاكمية القومية) التركي الذي صدر عن أنقرة
وما كان من عناية الأهرام - شيخة الجرائد العربية - بتلخيص الكتاب التركي
وعناية (إقدام) شيخة الجرائد التركية بالكتاب العربي) .
إن التغيير الجوهري الذي أحدثه الكماليون في أمر (الخلافة الإسلامية) قد
اختاروا له طورًا خطيرًا من أطوار (المسألة الشرقية) لأن ذلك وقع في الوقت
الذي كان العالم الإسلامي يشعر فيه بحكم سليقة الجماعات بأن حقًّا عليه لتركيا أن
يظهر بمظهر التأييد لها ما دامت خائضة مع أوروبا في لوزان أعظم معركة سياسية
تحوم حول تصفية كثير من حسابات الشرق والغرب. فنهجت العامة ومن هم في
حكم العامة من جماهير المصريين والهنود وغيرهم المنهج الذي علمه الناس في أمر
الخلافة. ولكن كما أن للعامة لغة تنطق بها على ما تقضي به الدواعي فإن هنالك
عهدًا بين الله وبين الخاصة أن لا يكتموا العلم ولا يخذلوه.
ومن أجل ذلك صدر أثناء ضجيج العامة من الناطقين بالعربية في بلاد العرب
وبالتركية في بلاد الترك كتابان اثنان عن (الخلافة الإسلامية) أحدهما بلغة العرب
وهو كتاب (الخلافة) لحضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
(المنار) وهو أحفل كتاب أُلِّفَ من صدر الإسلام إلى الآن في هذا الموضوع حيث
تناوله من جميع أطرافه ووفاه حقه من التمحيص وأرضى فيه الحق الذي يقره عليه
فحول علماء العالم الإسلامي وفي مقدمتهم علماء مصر والهند، القطرين الإسلاميين
العظيمين.
وأما الكتاب الثاني فهو الكتاب الذي صدر من أنقرة باللغة التركية وقد ضمَّنه
أصحابه أقصى ما يمكنهم من عبارات الاعتذار للكماليين عما فعلوه في أمر الخلافة،
حتى اضطروا إلى أن يطعنوا في جميع أمراء المؤمنين أيام عصور الإسلام
الذهبية بعد الخلفاء الراشدين، كل ذلك لأجل أن يقولوا: إن أمراء المؤمنين لا
يصلحون لتولي إمارة المؤمنين، رغم قاعدة الشورى والقيود الشرعية التي من حق
الأمة أن تقيدهم بها بحكم الشرع، ومع ذلك فإننا لا نبخس هذا الكتاب حقه فهو
- والحق يقال - قد كُتِبَ بأجود أسلوب يمكنهم أن يكتبوه به، وقد سبق للأهرام
تلخيصه بكل أمانة.
وكما عنينا نحن بكتاب (أنقرة) عن الخلافة ولخصناه لقراء (الأهرام) كذلك
عنيت جريدة (إقدام) التركية التي تصدر في الآستانة بالكتاب العربي عن الخلافة،
فأنشأ شيخ الصحافة التركية أحمد جودت بك صاحب جريدة إقدام مقالة عن هذا
الكتاب أرسلها إلى جريدته من (لوزان) متضمنة تقريظه وانتقاده، وهذا تعريبها:
تقريظ مدير جريدة أقدام التركية لكتاب الخلافة
لقد نشر السيد رشيد رضا محرر مجلة (المنار) الصادرة في مصر كتابًا في
المدة الأخيرة عنوانه (الخلافة أو الإمامة العظمى) .
وذلك بمناسبة الحوادث والمسائل التي وقعت أخيرًا بشأن الخلافة الإسلامية،
وقدم له مقدمة خاطب بها الترك والعرب والهنود وسائر الشعوب الإسلامية.
وقد قال في فقرة يخاطب بها الترك: (أيها الشعب التركي العاقل: إنني
أهدي إليك هذه المباحث التي كتبتها في بيان حقيقة الخلافة وأحكامها، وشيء من
تاريخها وعلو مكانتها، وبيان حاجة جميع البشر إليها، وجناية المسلمين على
أنفسهم بسوء التصرف فيها، والخروج بها عن موضوعها) ثم أورد في اثنين
وأربعين فصلاً آراء ومباحث شرعية وسياسية واجتماعية عن الخلافة والإمامة وما
يتعلق بهما، وما من مبحث من هذه المباحث إلا وهو جدير بإمعان الإخصائيين فيه
على حدته، والسيد رشيد عالم مشهور من علماء الإسلام في العصر الحاضر وهو
تلميذ المرحوم (الشيخ محمد عبده) الذي كان علامة إسلاميًّا، وكانت وفاته من
عظميات الخسائر على العالم الإسلامي؛ لأبحاثه وتدقيقاته في قوانين أوروبا
وشئونها الاجتماعية وأبحاثها العلمية، وهو أعظم من أدخل النور على مصر وأوجد
فيها العقلية العصرية.
أريد أن أتكلم على بحث من أبحاث السيد رشيد، وهو البحث الذي عنوانه
(الترك العثمانيون والخلافة والتفرنج) (ص137) فإن السطور الواردة تحت هذا
العنوان لفتت نظري إليها، فهو يقول:
(كان أجدر المسلمين بالسبق إلى هذا - أي إلى إصلاح نظام الخلافة - رجال
الدولة العثمانية، ولا سيما الذين يقيمون في الآستانة والرومللي من بلاد أوروبا
يشاهدون تطور شعوبها وترقيهم في العلوم والفنون والنظام، ولكن دولتهم لم تكن
دولة علوم وفنون؛ لأنه لم يكن لهم لغة علمية مدونة قابلة لذلك إلا في أثناء القرن
الماضي. (وقال المؤلف) في موضع آخر من كتابه: (إن العثمانيين لم يجتهدوا
في تكوين اللغة التركية حتى تكون كذلك، ولم يكن يتعلم علوم الإسلام منهم إلا قليل
من المقلدين، ولهذا جعلوا سلطة سلاطينهم شخصية مطلقة، حتى بعد تحليتهم بلقب
الخلافة، فلما صاروا يدرسون تاريخ أوروبا وقوانينها، وثوراتها على حكوماتها
لإزالة استبدادها، ظنوا أن لا سبيل لتقييد استبدادهم ومنع ظلمهم إلا بتقليد أوربة
في شكل حكوماتها الملكية المقيدة، ثم رجّحوا في هذا الزمن الجمهورية؛ لأنهم رأوا
أن جعل السلطان مقدسًا غير مسئول كما قرروه في قانونهم الأساسي لم يف
بالغرض، ولو درسوا الشريعة دراسة استقلالية كما يدرسون القوانين، لوجدوا
فيها مخرجًا أوسع وأفضل من القانون الأساسي السابق، ومن الخلافة الروحية
وحكومة الجمعية الوطنية الحاضرة) .
السيد رشيد يؤاخذنا لرجعونا إلى الطرق الأوروبية، ولا نراه محقًّا في ذلك؛
إذ هو أيضًا يعلم حق العلم أن الخلافة لم تستقم في طريقها إلا إلى آخر مدة عمر،
وبدأت الفوضى زمن عثمان، فلم يعد في الإمكان إدراك مثل دوري أبي بكر وعمر.
وبعد هذين الشيخين لم يظهر من يدانيهما في العدل غير رجل واحد هو عمر
ابن عبد العزيز وآخر من الترك هو نور الدين زنكي ويعد رابعهم. ومعلوم كم ذا
الذي لقيه المسلمون من مضار الاختلاف بين الأمويين والعباسيين.
ينتقد السيد رشيد رضا جنود الترك لتغلبهم على الخلافة العباسية، نعم لقد صدر
من هؤلاء بعض أمور غير مناسبة، ولكن من المعلوم جنوح الخلفاء العباسيين بعد
ذلك إلى عدم الاعتقاد، فإذا صار الخلفاء إلى ذلك ماذا يصنع الجاهلون من الجنود
الذين في معيتهم.
والسيد رشيد يعزو كل هذه الأمور التي حلت بالإسلام إلى الفتن والمفاسد التي
نصبها مجوس فارس لتقويض هذا الدين ودك معالمه، ولكن هل مفاسد زماننا أقل
من مفاسد ذلك العهد؟ وإذا كان أولئك يدسون دسائسهم من تحت ستار فإن أمثالها
في هذا الزمان ترتكب علنًا، وهذا ما فعله الشريف حسين بتركيا ماثل أمامنا، فهل
في أحكام الشرع ما يجيز قيامه على تركيا؟ إذن فهنالك أمور تتبدل بحسب الزمان.
إن الترك لم يكونوا البادئين بالانصراف إلى جامعتهم القومية. فهم لما رأوا
الحركات الموجهة إليهم قالوا: فلنفكر إذن في قوميتنا، وليس معنى ذلك أن الترك
قطعوا علاقتهم بالمسلمين، فالصلة المعنوية باقية كما كانت، ونحن سنؤسس علاقتنا
الحسنة مع جاراتنا الحكومات العربية قائلين: مضى ما مضى وسنتمسك بأواخي
الود مع كل جيراننا من عرب وعجم، دون أن نتدخل في الشئون الداخلية والآمال
القومية لأية أمة من تلك الأمم، وسنتعاون معهم علميًّا واقتصاديًّا إذا استطعنا، ولا
ننظر إليهم بعين العداء كما كنا نفعل وقتًا ما. فلتعمل كل أمة من هذه الأمم على
حدتها ولتسر في طريق الحضارة والارتقاء حتى تبلغ ساحل السلامة، إن الحكمة
ضالة المؤمن ونحن سننشد هذه الضالة ونأخذها حيث وجدناها في الشرق أو الغرب،
ومن الخطأ الفاحش التعامي عن المحاسن المؤدي إلى التأخر.
نحن نظن أن في استطاعة المسملين أن يستفيدوا من موقف الخلافة الحاضرة
علمًا وأدبًا استفادة لم يسبق حصولها، لأن السياسة كانت تعترض في سبيل ذلك،
فإذا كان علماء الإسلام وأهل الخير منهم يودون الاستفادة من الخلافة حقًّا، فإن
هنالك وسائل لا تضر أحدًا. فالمسلمون في كل مكان محتاجون إلى مرشدين في
العلم والتهذيب؛ إذ إن المسلمين في بعض الأماكن (ولا نريد أن نسمي) واقفون
موقفًا سيئًا في جهة الاتصال بين دينهم وقوميتهم، فإذا لم تبذل العناية في تهذيبهم
وتعليمهم فإن مستقبلهم مظلم، وإنشاء الأوضاع الدينية والتهذيبية لهؤلاء يحتاج إلى
مال، فليقرر المسلمون أولاً هذه الجهة. كأن نؤسس مدرسة إسلامية عملية في مقر
الخلافة لتدريس العلوم الدينية والعلوم العصرية معًا. فإذا تحققت المعونة على ذلك
من المسلمين يمكن الآن أكثر مما كان ممكنًا من قبل قيام الخلافة بهذه المهمة
التهذيبية.
وكما أن السيد رشيد وجه إلينا خطاب الود والصداقة في بعض فصول كتابه
فإن فيه أيضًا فقرات ينتقدنا بها بشدة، وهو ينصح لنا دائمًا أن نستمد من الشرع
الإسلامي وأن نستنير بتاريخ الإسلام، ويعنى عناية زائدة بتوطيد أواخي الإخاء بين
المسلمين ويرى أن ضعف الحكومات الإسلامية ناشئ عن الوهن العارض من هذه
الجهة. فهو ينتقد كون شخص السلطان (مقدسًا وغير مسئول) مع أن المقصود من
ذلك أنه ليس للقانون سبيل إليه وأن المسئولية في المملكة منحصرة في رئيس
الوزارة وزملائه، ولا يكون السلطان مسئولاً إلا إذا باشر العمل فلا يكون حينئذ
دستوريًّا، والسلطان الدستوري الحقيقي عندنا هو السلطان محمد الخامس ولكن
الذين لم يرق لهم عمله من رجالنا كانوا يسمونه (الدرويش محمد) .
وينتقد السيد لغتنا بأنها ليست لغة علم، وحقًّا إن تقصيرنا نحن معاشر الترك
العثمانيين وغفلتنا في هذا الأمر عظيمة. ففضلاً عن إهمالنا جعل التركية لغة علم
فإننا أهملناها بوجه عام، وكان شعراؤنا في مقدمة الذين أهملوها حتى جعلوها
بشكل لا يفهمها جمهور الشعب، ولم يبق فيها من التركية غير الروابط وسائرها من
العربية والفارسية. مما يؤسف له أننا إلى اليوم كلما أردنا أن نصطلح على اسم نلجأ
إلى العربية حتى إذا وجدنا فيها لفظة غير علمية نصرفها عن معناها إلى معنى آخر
ونلوكها بألسنتنا، كأن ذلك لا يكون إلا بأخذه من العربية. ولا تزال اللجنة التي في
وزارة المعارف سائرة على هذا المنهاج، ولو أمعنوا النظر لوجدوا في التركية ما يسد
في هذا المسد. ولكن ليس بيننا من يعرف التركية حقًّا. ولا نعلم فروعها كما يعلمها
الأستاذ فون لوكوك أستاذ التركية في برلين وذلك لأن رجالنا لم يتعودوا إزعاج
أنفسهم بالرحلة في سبيل العلم، بل كل منا يريد أن يمتلئ جيبه نقودًا وأن يبقى في
بلده محتفظًا براحته فلا يذهب إلى تركستان ولا إلى الأناضول لدرس اللهجات
التركية. وإن كتاب اللغة الذي هو مصدر للسان الترك إنما جاءنا به من مدينة
(كاشغر) رجل عربي من أهل طرابلس الشام [1] فأصبحنا وليس للغة التركية كتاب
صرف ولا قاموس؛ لأنه ليس عندنا رجال يحملون أنفسهم عناء الدرس والتحقيق،
فمتى يا ترى يكون عندنا هؤلاء الرجال؟ الله أعلم اهـ.
***
(تعليق المنار على مقالة جريدة إقدام في الخلافة)
قد كتب رصيفنا جودت بك ما كتبه وهو لم يقرأ من كتاب الخلافة إلا ما يتعلق
بالترك كله أو بعضه كما يظهر لنا، ولعله لو قرأه كله لكتب غير الذي كتبه في
الخلافة والخلفاء، والحكومة الإسلامية، وما يقابلها من الحكومات الأوروبية، ولما
كان قد نقل مما قرأه منه تعليلنا تقليد الترك للإفرنج بعدم دراستهم الشريعة دراسة
استقلالية كما يدرسون القوانين. كان ينبغي له أن يقرأ جميع مباحث هذا الكتاب
الوجيز المبين لحقيقة الخلافة وتفضيل الحكومة الإسلامية على الحكومات الإفرنجية
قبل أن يبدي رأيًا في المسألة فنحن نتنقد عليه هذا ونناقشه في بعض المسائل التي
هي من لُبَاب الموضوع فنقول:
(1) إنه لا يرى لنا حقًّا في مؤاخذة الترك في الرجوع إلى الطرق
الأوروبية في حكومتهم، واستدل على ذلك بأن الخلافة لم تستقم على طريقتها إلا
إلى آخر مدة عمر. (قال) : وبدأت الفوضى في زمن عثمان ... وافتات علينا
بقوله: إننا نعلم ما قاله حق العلم، ولو قرأ الكتاب لما قال هذا القول، فإن فيه ما
يخالفه. وقد أخطأ فيه خطأ آخر بطعنه في خلافتي عثمان وعلي من الراشدين
المهديين رضي الله عنهما فخالف بهذا إجماع أهل السنة، وكذا الشيعة في الطعن
في علي كرم الله وجه، ولا أقول إنه وافق الخوارج، فإن طعنه في خلافة الصهرين
غير ما ينقمونه منهما. وأخطأ أيضًا في حكمه بأن الفوضى ظهرت من أول خلافة
عثمان، والصواب أن ما سماه الفوضى ليس إلا ثورة من ثار عليه رضي الله عنه،
وهي لم تظهر إلا في أواخر مدته وبدأت أسابها في الشطر الثاني منها، فقد أخرج
ابن سعد عن الزهري إمام المحدثين أنه قال: ولي عثمان الخلافة اثنتى عشرة سنة
فعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئًا، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن
الخطاب لأن عمر كان شديدًا عليهم، فلما وليهم عثمان لانَ لهم ووصلهم، ثم توانى
في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر ... إلخ ما قاله هنا
مختصرًا ورواه ابن عساكر عنه عن سعيد بن المسيب مفصلاً.
والخطأ الأكبر جعْله الثورة على عثمان مطعنًا في شكل الحكومة الإسلامية
المُعَبَّر عنها بالخلافة - ومطعنًا في كفايته وعدالته - أما الأول فباستدلاله بها على
تخطئتنا للترك في تفضيل طريقة الإفرنج في الحكومة الملكية المقيدة ثم الجمهورية
على الطريقة الإسلامية - وأما الثاني فبقوله: إن الخلافة لم تستقم إلا إلى آخر مدة
عمر، وبعدم اعترافه بعدالة أحد بعد عمر بن الخطاب إلا عمر بن عبد العزيز
ونور الدين زنكي التركي الأصل. ذلك بأن الناس ما ثاروا على عثمان بظلم اقترفه،
وإنما ثاروا بظلم بعض عماله من مجرمي بني أمية، وكَمْ قتل الثوار في أوربة
من ملك ورئيس جمهورية ولم يعد أحد قتلهم دليلاً على فساد طريقة الحكم في بلادهم،
والثورة على عثمان لم تكن عن سخط على نظام الخلافة ولا أحكام الشريعة ولا
بسبب اتهامه بمخالفتها والخروج عنها، بل أثارها ظلم بعض عماله في الظاهر،
وجمعية عبد الله بن سبأ اليهودي في الباطن.
وأما الفتن التي حدثت في خلافة علي كرم الله وجهه فقد كانت ببغي معاوية
وآله وبدسائس السبئيين أيضًا، وتلا ذلك تأويلات الخوارج الباطلة. وعمر بن عبد
العزيز لم يكن على فضله بالعلم والعدل والزهد بالذي يلز بعليٍّ في هذه الثلاث، دع
سائر مناقب عليٍّ وفضائله، وأما نور الدين فلم يكن من فرسان ميدان هذا ولا ذاك،
على ما يعرفه له التاريخ من العدل والزهد والصلاح، إذ كان عاميًّا مقلدًا، وأين
العامي المقلد من كبار علماء مذهبه؟ وأين هم من إمام المذهب؟ وأين هؤلاء الأئمة،
المعروفون بعلماء الأمصار من عمر بن عبد العزيز؟ وأين هو من إمام الأئمة،
وأقضى قضاة الأمة، ربيب الرسول وصنوه الذي جعله منه كهارون من موسى
عليهم الصلاة والسلام؟
يكثر غلاة التفرنج من ذكر الفتن التي وقعت في عصر الإسلام الأول بين
الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، يريدون بذلك الطعن في الحكومة الإسلامية
وهم لا يعرفون من تلك الأحداث إلا بعض قشور الأخبار التاريخية، وقد خانتهم
كلهم فلسفتهم الاجتماعية فيها، ولولا ذلك لعلموا أنها أحداث كانت تقتضيها سنن
الاجتماع البشري في ملك جديد، طويل عريض، لم يعرف التاريخ له مثلاً من
طريف ولا تليد، فإن جمع الإسلام لكلمة العرب المتفرقة منذ ألوف السنين في
عشرين سنة كان من المعجزات الاجتماعية التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه
وسلم، ثم إن استيلاءهم بهدايته على قيصرية قيصر (إمبراطورية الرومان)
وكسروية كسرى وآسية الصغرى وشطر أفريقية الشمالي كله في جيل واحد - كان من
خوارق سنن التواريخ أيضًا، كما كانت قدرة هؤلاء الأميين الذين غلبت عليهم
طبيعة البداوة على إدارة هذه الممالك المختلفة الأجناس واللغات والأديان
والحضارات، المترامية الأرجاء من المحيط الأطلس إلى حدود الهند، وحفظ الأمن
وإقامة العدل فيها - يكاد يكون من آيات الإسلام أيضًا. أفيعقل أن تجري أمور هذه
الأقطار في حكومتها بتأثير الآيات وما يشبه الخوارق طول الحياة؟ أليس مما
تقتضيه طبيعة البشر أن يوجد في العرب محبون للرئاسة لمحض التمتع بعظمتها
ولذاتها؟ أليس من الطبيعي أن يقوم من اليهود مثل عبد الله بن سبأ يكيد لدين
الإسلام وأهله؟ أليس من الطبيعي أن تؤلف تلك الجمعيات من مجوس الفرس الذين
لبسوا لباس الإسلام يكيدون للعرب ولملك العرب ولدين العرب الذي جمع كلمتها
وأعطاها من القوة ما تمكنت به من إزالة ملك الفرس العظيم القدر، القديم العهد في
سنوات معدودات؟
كل هذا مما سبق لنا بيانه بالتفصيل وهو من سنن الاجتماع البشري - ولكن
العبرة فيه لمن يعتبر. أنه لم يوجد في تلك المملكة الإسلامية الكبرى أحد شكَا من
الشريعة الإسلامية أو رماها بالظلم، لا عربي ولا عجمي، لا يهودي ولا نصراني
ولا مجوسي ولا وثني - وإنما رمي بالظلم أفراد من عمال عثمان ثم من غيرهم،
وهذا مما لا تسلم منه حكومة ولا جماعة من البشر.
وقد بيَّنا في كتاب الخلافة وغيره أن العدل العام كان هو الغالب في الدولة
الأموية المطعون في خلافتها، وإنما كان الظلم المبين فيها خاصًّا في الغالب بما
يتعلق بحفظ سلطانهم ومقاومة خصومهم وما يستلزمه من سوء التصرف في بيت
المال، وما عدا هذا مما يؤاخذون به فذنوب شخصية لا يلقي لها أهل هذا العصر
بالاً. ومثل هذا يقال في الخلفاء العباسيين. فجميع مقاصد الخلافة كانت حاصلة في
عهد الفريقين، ولكن مع عظمة الملك كما قال ابن خلدون.
وإنما كلامنا اليوم مع إخواننا الترك في تفضيل التشريع الإسلامي على
التشريع الأوربي - ويقول شيخ الصحافة التركية: إنه لا حق لنا فيه، ويحتج بما
حدث من الفتنة في زمني عثمان وعلى رضي الله عنهما، وبتفضيل زمن الشيخين
على زمن الصِهْرَيْنِ، وهو يعلم حق العلم أن الفتن التي سماها بالفوضى لم يكن
سببها الشريعة ولا التشريع - كما أن التشريع الأوربي وشكل الحكومات فيه ليسا
بعاصمين من الفتن ولا من الفوضى، وما فيها من نظام حسن كنظام الشرطة
والشحنة (البوليس والضابطة) ليس مما يمنعه الشرع الإسلامي، بل قد يوجبه إذا
لم يوجد نظام أحفظ للأمن منه، وكذلك النظام العسكري، ولكن التشريع الإسلامي
يمنع كل ما يهدد الحضارة الأوربية من تعاليم البلشفية والفوضوية والاشتراكية
المسرفة كما بيَّناه في كتاب الخلافة، وإن صاحب جريدة إقدام لأعلم منا بالفتن التي
تضطرم في ممالك أوربة بالخطر الذي يهددها، ولهذا دعونا الشعب التركي الباسل
أن يجدد حكومة الخلافة الإسلامية لخدمة الإنسانية، وأن يكون قدوة لأوربة لا مقلدًا
لها في عهد اضطراب مدنيتها المادية التي آن لميكروبات الفساد المتغلغلة فيها أن
تقضي عليها، فما كان ينبغي للسياسي المُحَنَّك جودت بك أن يُعَجِّلَ بتخطئتنا في
هذه الدعوة قبل أن يدرس ما كتبناه فيها.
(2) اعتذر جودت بك عن إفساد الجند التركية للخلافة العباسية وثله
لعرشها بأنه (صدر من هؤلاء أمور غير مناسبة) قال: ولكن من المعلوم جنوح
الخلفاء العباسين لعدم الاعتقاد، فإذا صار الخلفاء إلى ذلك، فماذا يصنع الجندي
الجاهل الذي في خدمتهم؟
مثل هذا التعليل والاعتذار يُعْهَدُ في المجادلات السياسية، دون ما نحن فيه من
الحقائق التاريخية للحكومات الإسلامية! فالذي صدر عن ذلك الجند ليس (أمورًا غير
مناسبة) بل أفظع الجنايات والخيانات للدين والدولة؛ إذ كان الجندي يدمر على
الخليفة إمام الأمة ورئيس الدولة فيغتاله وهو جالس على عرشه، وإنما وظيفته
المحافظة عليه والطاعة له ولمن دونه من رؤساء حكومته، ولا ندري من أين جاء
الكاتب الكبير بقوله: (إنه من المعلوم جنوح الخلفاء العباسين بعد ذلك لعدم الاعتقاد) ؟
أمر الاعتقاد من الأمور الباطنة، فمن أين صار معلومًا للكاتب السياسي الكبير
بعد ألف سنة؟ وهب أنه أمرٌ كان معلومًا عن بعضهم في عصرهم، فهل يصح أن
يكون لجنودهم عذرًا في قتل من قتلوا من سلفهم أو منهم؟ بل إذا فرضنا أنهم
جنحوا إلى ما يسميه (عدم الاعتقاد) قبل تصدي جنودهم للفتك بهم لا بعده، كما قال
فهل يمكن أن يقال: إن ذلك الجند - الذي اعترف الكاتب الكبير بجهله - قد اقترف
جناياته تربية للخفاء على ذلك الجنوح؟ وإذا فرض ذلك فهل يكون عذرًا له مخففًا
لِجُرْمِهِ؟ إذا كان الجندي الجاهل يقتل رئيس الأمة في أمور دينها ودنياها لأمر
يتعلق باعتقاده، فكيف يمكن أن يستقيم للحكومة أو للأمة أمر؟ وأي تشريع في العالم
يجيز هذه الهمجية؟ أما الإسلام فإنه لا يبيح للخليفة نفسه أن يبحث عن عقائد الناس
ويحاسبهم أو يعاقبهم عليها، بل صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يُؤْمَر
بالتنقيب عن القلوب.
(3) ذكر رصيفنا السياسي الكبير ما بيَّناه من تأثير دسائس مجوس الفرس
في الفتن التي دهت الأمة الإسلامية، وتعقبه بادعاء أن مفاسد هذا العصر أشد؛
لأنها تفعل جهرًا وكانت تلك تُدَسُّ من وراء حجاب واستشهد (بقيام الشريف حسين
على تركيا) وقال: (إذن فهنالك أمور تتبدل بتبدل الزمان) .
ونحن نقول: إن للعرب نظرًا آخر في المسألة، يقولون: هنالك جند جاهل
متوحش يهدم سلطة الدين والدولة الإسلامية تلذذًا بما اعتاده وصار كالغريزة له من
حب الفتك والعدوان والفساد في الأرض كما هو مُدَوَّنُ في بطون التواريخ العامة،
فلم يقل أحد من المؤرخين: إن الجند التركي الذي فعل ما فعل في الخلافة العباسية
كان له مقصد من المقاصد الدينية أو المدنية يسعى له سعيه ويتوسل إليه بقتل
الخلفاء، وههنا شَعْبَان كانا مرتبطيْنِ بحكومة انفرد أحدهما بالسيادة والسلطان
الأعلى فيها فاستعان بذلك على قهر الآخر واستذلاله وقهره على التحول عن جنسيته
وترك لغته المقدسة التي تعبد الله تعالى بها جميع أهل دينه إلى لغة الغالب القاهر
الملفقة التي لم يستقر بها على قرار، أكان من العجب أو من المنكر في عرف أحد
من الأمم أن يغتنم زعيم من هذا الشعب المقهور فرصة اشتغال قاهره بحرب يرجح
هو انكساره فيها فيسعى لاستقلاله وحفظ حياته أن تزول بالتبع له؟
هذا ما يراه العرب في التنازع بينهم وبين الترك الذي أثارته جمعية الاتحاد
والترقي في الدولة العثمانية التي كان العرب راضين بالارتباط بها مع هضم حقوقهم
فيها قبل قيام الطورانيين بالسعي لجعلها تركية محضة، يجبر كل مرتبط بها على
أن تكون لغتها لغته دون سواها، وأن تكون أحكامها تركية قومية، ويذكر رصيفنا
صاحب السعادة جودت بك أننا كنا كلمناه كما كلمنا رؤساء الدولة في وجوب تلافي
خطر هذا التنازع بين الشعبين الأكبرين في هذه الدولة اللذين شبهناهما بالعنصرين
المكونين لحقيقة الماء أو الهواء، وأننا عرضنا عليه أن نشرح للدولة وللرأي العام
التركي في العاصمة أسباب التنازع والطريقة المثلى لتلافي ضرره واتقاء خطره
بمقالات ننشرها في جريدته (إقدام) ويتذكر أيضًا أنه رضي أن ينشرها بشرط أن
يحفظ للجريدة حق النقد والمناقشة فيها وأننا رضينا بالشرط، وأنه نشر لنا ثلاث
مقالات لم ينكر منها شيئًا وامتنع عن نشر الثالثة وما بعدها، لما رأى في الثالثة أن
ما يشكو منه العرب حق لا يمكن أن يناقش فيه، وأنه قال لنا: هذه شؤوننا الملية،
فليس لكم أن تعارضونا أو تجادلونا فيها. ويتذكر أيضًا ما كانت تنشره جريدته في
ذلك الوقت من الطعن في العرب لبعض الكتاب حتى في عرضهم وشرفهم، وما
كان من سوء تأثير ذلك باعتداء بعض الشبان عليه في إدارة جريدته … نعم إنه
يتذكر ذلك إذا ذكر به، وقد صرَّح في مقالته التي نحن بصدد المناقشة فيها أنهم
كانوا يبغضون العرب وأن السبب قد زال الآن بانفصال كل منهما عن الآخر، بل
هو يعد خروج الشريف حسين على الدولة التركية من المقتضيات التي تتبدل بتبدل
الزمان، ولكنه لا يرى لها وجهًا في الشرع فهو يستدل بها على تخطئتنا في مطالبة
الدول التركية الجديدة بالتزام الشرع الإسلامي دون التشريع الإفرنجي.
ونقول في جوابه: إذا كان أمير مكة لم يلتزم في قيامه أحكام الشرع، وهو
ينكر ذلك، ويدعي ضده فليس سبب ذلك أن الشرع لا يمكن التزامه في هذا الزمان،
وهذه شبهة المتفرنجين على الشريعة الإسلامية؛ وقد بيَّنا خطأهم فيها مرارًا كثيرة
في المنار، وأثبتنا أنها صالحة لكل زمان ومكان، وذكرنا ذلك في كتاب الخلافة،
والظاهر أن رصيفنا الأكبر أحمد جودت بك لم يقرأ هذا البحث فيه. وقد كان من
الممكن أن يلتزم أمير مكة أحكام الشرع في عمله كما نصحنا له، وكان ذلك خيرًا له
وأحسن عقبى. ولكن الدسائس والأخاديع البريطانية التي تؤيدها (أكياس الذهب) هي
التي أضلته عن الشرع وعن مصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة، ولست أقول:
إنه كان يجب عليه شرعًا أن يطيع سلطان الآستانة - لأنه خليفة الرسول صلى الله
عليه وسلم - وقواده مثل جمال باشا؛ فإن السلطان لم يكن هو الإمام الحق الذي تجب
طاعته على كل مسلم، وإن لم يكن متغلِّبًا عليه، ولو فرضنا أنه كان كذلك فإننا
نعلم كما يعلم جودت بك والأمير حسين أنه كان مغلوبًا على أمره، فلا أمر له ولا
نهي، وإنما نقول: إنه كان يجب عليه شرعًا أن يتقي تغلُّبَ الدول الأجنبية على
الدول الإسلامية والبلاد الإسلامية، وبهذا نصحنا له فصرَّح لنا هنالك في احتفال
العيد بمِنَى أننا متفقون معًا في الرأي، ولكنه كان خادعًا وظهر خداعه من بعد.
(4) قوله: إن الترك لم يكونوا هم البادئين بالانصراف إلى جامعتهم
القومية التي لا تنافي الصلة المعنوية بين الترك وسائر المسلمين إلخ ما في (ص
769) فهو حسن، وأقل ما يجب من توادّ الشعوب الإسلامية وتعاونها، ونحن قد
دعونا الترك إلى منزلة فوق هذه المنزلة.
(5) قوله: إنه يظن أن المسلمين يستطيعون أن يستفيدوا من موقف
الخلافة الحاضرة علمًا وأدبًا إلخ، قول غريب في ظن غريب، فهو قد جعل الخلافة
الشرعية التي نتكلم فيها - وهي رئاسة الحكومة الإسلامية في إقامة الدين وسياسة
الدنيا - بمعنى مشيخة الطريق التي ينحصر عملها في الإرشاد والتهذيب. وإذا كان
هذا ما يريدونه من معنى الخلافة، فلماذا يحرصون على هذا اللقب فيخرجونه عن
مدلوله الشرعي؟ ولماذا يحصرون هذه الوظيفة في أهل بيت تركي معيَّن لا يوجد
أحد من أفراده ممتاز بالعلوم التي يتوقف عليها الإرشاد الإسلامي، وهي علوم
القرآن والسنة والعقائد والفقه والتصوف؟ وكيف ساغ لشيخ الصحافة التركية أن
يقول: إذا كان علماء الإسلام وأهل الخير منهم يودون الاستفادة من الخلافة …
وهو يرى أن الخلافة التي يعرفها علماء الإسلام قد زالت بزوال الحاجة إليها،
والخلافة الجديدة التي يقررونها ليست الخلافة التي يعرفونها، على أنها لم توجد
بعد؟
(6) قوله: إنني أنتقدهم بشدة كما وجهت إليهم خطاب الود والصداقة،
صحيح، وإنني عملت في هذا بالحكمة العربية التي سارت مثلاً، وهي: (أخوك
من صَدَقَكَ لا من صَدَّقَكَ) على أنني لم أتجاوز في النقد حد الضرورة التي لم أر
منها بُدًّا للإقناع بما أريد من الخير للترك وسائر المسلمين الذي اعترف لي به
الرصيف الكريم لظهوره وظهور إخلاصي فيه، ولله الحمد.
(7) ما فسر به جعل السلطان مقدسًا غير مسئول، معروف عندنا، وإنما
انتقدناه؛ لأنه غير شرعي فهو يجب أن يكون عاملاً؛ وأن يكون مسئولاً عن عمله،
والنظرية الدستورية في هذا مبنية على تلافي شر ما جرى عليه الملوك من
التعالي وما جرت عليه الشعوب من تقديسهم فأبقوا لهم العلو والتقديس بسلب السلطة
منهم؛ لئلا يفسدوها باستبدادهم، ولكن الإسلام أبطل تقديس البشر، وأبطل
الاستبداد، وقيد طاعة الرسول المعصوم بالمعروف حتى لا يطمع غيره بالطاعة
المطلقة كما بيَّناه في كتاب الخلافة. فرئيس الحكومة الإسلامية (الخليفة) يجب أن
يكون عاملاً يحمل تبعة عمله , وراعيًا مسئولاً عن رعيته، وليس له امتياز في
الشريعة يرتفع به عن مساواة غيره، أو يبيح طاعته فيما تحرمه الشريعة، وإذا
كانت الحكومة لا بد لها من رئيس، فرئيس الحكومة الإسلامية العليا هو خليفة
الرسول في المسلمين، سواء سمي خليفة أم لا، بشرط أن تراعى فيه الشروط
الشرعية المعروفة، فإن تعذر عليها استجماع الشروط وجب عليها، وعلى الأمة
في جملتها السعي لاستجماعها، وإذا وجدت عدة حكومات إسلامية كانت الحكومة
الشرعية الحق هي المستجمعة لها والقائمة بوظائفها، ولا تجب الطاعة لغيرها
شرعًا في حال الاختيار، بل غيره متغلب تجب الهجرة من داره إلى دار العدل التي
يرأسها الإمام الحق (الخليفة) إلا لعذر، وأما ابتداع رئاسة دينية محضة وتسميتها
خلافة وتسمية رئيسها (خليفة رسول الله) فهو مردود؛ لأنه عبث بهذا الدين.
وإذا نصب المسلمون في أي مكان خليفة مستجمعًا للشروط الشرعية فالواجب
على رئيس هذه الخلافة البدعية أن يطيعه في كل ما يأمر به ما لم يكن معصية لله.
__________
(1) الأهرام - لم تذكر (إقدام) اسم هذا الرجل والذي نعلمه أنه الشيخ سعيد العسل الرحالة العربي إلى الصين وبلاد الترك الصينية، وكان قد زار مصر منذ خمسة عشر عامًا، ونشر فيها قانون الصين ومعلومات عن تلك الربوع.(24/766)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ الحرم الشريف
(تتمة ما نشر في ص 448 ج 6)
للمكان الذي شُيد عليه المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة (تل موريا)
منزلة دينية سامية من أقدم أزمنة التاريخ يقدسها المسلمون والمسيحيون واليهود حتى
الوثنيون. ويظهر من شكل الساحة التي عليها قبة الصخرة أنها كانت في بداية
الأمر بيدرًا لأحد اليبوسيين (سكان فلسطين الأقدمين) وقد بنى فوقها سيدنا داود
عليه السلام بعد فتحه البلاد مذبحًا تقدم فيه القرابين لله تعالى.
(هيكل سليمان)
وفي سنة 1013 ق. م أمر سيدنا سليمان عليه السلام بإنشاء قصر له حيث
المسجد الأقصى، وهيكل فخم حيث قبة الصخرة الشريفة، ولم يكمل البناء إلا بعد
وفاته بمدة طويلة , وقد دمره الكلدانيون سنة 588 ق. م. فحاول اليهود عقب
عودتهم من الأسْر تجديده سنة 516 ق. م. فلم يصنعوا شيئًا مذكورًا.
(هيكل هيرودس)
وفي السنة العشرين قبل الميلاد شرع هيرودس الكبير بتشييد هيكل فخم وبرج
عالٍ (أنطونية) في المكان نفسه فلم يوفق إلى إتمامه، وبقى إلى سنة 70 ميلادية
إذ دمره جنود الرومانيين حرقًا إبان محاصرة الإمبراطور طيطوس بيت المقدس
واستيلائه عليها.
(زون المشترى)
وبنى الإمبراطور إدريان سنة130 م مدينة إيلياء وأمر بتشييد زون كبير
للمشترى (إله الحرب) اثنا عشري الشكل Dodcceastile كالذي ترى على
صورة بعض النقود القديمة فنصب فيه صنمًا للمشترى وآخر (لديوسقورس) أو
صنمًا بتوأمين (كاستور وبلوكس) وأقام تمثالاً لنفسه بالقرب من الصخرة المباركة.
(الحرم الشريف)
وسنة 614 م اكتسح الفرس البلاد فخربوا بيت المقدس وقضوا على ما فيها
من المعابد والكنائس، لكن جيوش المسلمين لم تلبث أن فتحت بيت المقدس سلمًا سنة
15 هجرية و637 م بحضور الخليفة الثاني سيدنا عمر رضى الله عنه. فلما دخلها
ذهب تَوًّا إلى مكان الحرم الشريف وأزال ما كان فيه من الأقذار، ولما أفضت
الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وحيل بينه وبين الحرمين الشريفين لقيام خصمه
عبد الله بن الزبير خليفة في الحجاز ولى وجهه شطر القبلة الأولى فأمر بإنشاء
المسجد الأقصى وقبة الصخرة في بيت المقدس، ورصد لذلك خراج مصر سبع
سنين، ووكل على العمارة أبا المقدم رجاء بن حيوة بن جود الكندي وكان من
العلماء الأعلام، ويزيد بن سلام مولى عبد الملك من أهل بيت المقدس وولديه.
ويقال: إن عبد الملك وصف ما يختاره من عمارة القبة وتكوينها للصناع فصنعوا له
- وهو ببيت المقدس - القبة الصغيرة التي هي شرقي قبة الصخرة (قبة السلسلة)
فأعجبه تكوينها وأمر ببنائها كهيئتها.
وبقيت بعد الفراغ من عمارة الحرم مئة ألف دينار فأمر بها عبد الملك جائزة
لرجاء ويزيد فكتبا إليه: (ونحن أولى أن نزيده من حُلِيِّ نسائنا فضلاً عن أموالنا
فاصرفها في أحب الأشياء إليك) فكتب إليهما بأن تسبك وتفرغ على القبة فسكبت
وأفرغت عليها فما كان أحد يقدر أن يتأملها مما عليها من الذهب، وهيئا لها جلالاً
من لبود توضع من فوقها، فإذا كان الشتاء أُلبستها لتُكِنَّها من الأمطار والرياح
والثلوج.
وكان الفراغ من عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في سنة 72 من الهجرة،
وقد قرن اسم عبد الملك بهذا الأثر الخالد منقوشًا بالفسيفساء عند مدخل الصخرة
من الباب الجنوبي بعبارة هذا نصها:
(بنى هذه القبة عبد الملك (لله الإمام المأمون) أمير المؤمنين في سنة
اثنتين وسبعين، يقبل الله منه ورضي الله عنه، آمين)
ويظهر من اختلاف الخط واللون فيما أشرنا إليه بين هلالين أنه من الإضافات
التي حدثت بعد ذلك التاريخ.
(الحرم الشريف في زمن العباسيين)
وفي سنة 130 هـ سقط شرقي المسجد الأقصى وغربيه في الرجفة التي
حصلت في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي فخوطب بلزوم عمارته فأمر بقلع
صفائح الذهب والفضة التي كانت على الأبواب فقلعت وضربت دنانير ودراهم
وأنفقت عليه حتى فرغ.
ثم حصل زلزال سنة 158 هجرية تهدم فيه البناء الذي كان أمر به أبو جعفر،
فلما كانت خلافة المهدي أمر ببنائه فأنقص من طوله وزيد في عرضه. وذلك في
سنة 169 هـ، وأخيرًا جددت عمارة قبة الصخرة في أيام المأمون (216 هـ)
كما جاء في الكتابة المذهبة الواقعة على الباببن الشرقي والشمالي من الداخل.
(الحرم الشريف في زمن الفاطميين)
ثم جاءت زلزلة ثالثة سنة 407 هـ. تهدمت من جرائها قبة الصخرة وبعض
الجدران الواقعة في الشمال الشرقي من الساحة المحيطة بها، فقام الظاهر لإعزاز
دين الله ابن الحاكم بأمر الله برفعها وتجديد عمارتها سنة 413 هـ على يد علي بن
أحمد كما نقش على الأعمدة الواقعة داخل القبة. ومما زيد فيها في زمن الفاطميين
البناء المسمى اليوم بجامع النساء.
(الحرم الشريف في دولة بني أيوب)
ولما احتل الصليبيون بيت المقدس حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، والمسجد
الأقصى إلى منزل لسُكْنَى ملكهم وسموا ما تحت الأقصى من الأبنية بإصطبل
سليمان وربطوا فيه الخيل، فجاء صلاح الدين الأيوبي وهدم ما أحدثوا من الأبنية
والسواري وأعاد الحرم الشريف إلى ما كان عليه وذلك سنة 583 هـ. وكان الملك
العادل نور الدين الشهيد قد أعدَّ منبرًا عجيب الصنعة برسم القدس صنعه حميد بن
ظافر الحلبي وسليمان بن معالي من خشب مُرَصَّعٌ بالعاج والآبنوس وعليه تاريخ
يرجع إلى سنة 564 هـ وقد أدركته المنية قبل الفتح فأحضره صلاح الدين من
حلب وجعله في المسجد الأقصى وهو الموجود في عصرنا هذا.
وأمر بترميم محراب الأقصى، وكتب عليه بالفصوص المذهبة ما نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة
المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مُؤَسَّسٌ، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو
المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه شهور سنة
ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة، وإجزال حظه من
المغفرة والرحمة) .
وفي سنة 634 قام الملك المعظم عيسى ابن أخي صلاح الدين بعمارة (واجهة)
المسجد الأقصى الشمالية والرواق الموجود في مدخله من تلك الجهة.
وفي سنة 668 هـ اعتنى السلطان الملك الظاهر بيبرس بعمارة المسجد ورمم
صدع الصخرة الشريفة وجدَّد فصوصها التي على الرخام من الظاهر والتي على قبة
السلسلة. وعمر السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي سنة 686 سقف المسجد
الأقصى من جهة القبلة مما يلي الغرب. وفي أيام السلطان الملك العادل كتبغا في
سنة 665 جدد عمل فصوص الصخرة الشريفة وعمارة السور الشرقي المطل على
مقبرة باب الرحمة. وفي أيام السلطان الملك المنصور لاجين جددت عمارة محراب
داود الذي بالسور القبلي عند مهد عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى.
وعُنِيَ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إبان سلطنته الثالثة بعمارة
السور القبلي الذي عند محراب داود عليه السلام ورخم صدر المسجد الأقصى وفتح
به الشباكين اللذين عن يمين المحراب وشماله (731 هـ) وجدد تذهيب القبتين:
قبة المسجد الأقصى وقبة الصخرة سنة 718 هـ. وعمر القناطر على الدرجتين
الشماليتين بصحن الصخرة التي أحدهما مقابل (باب حطة) والأخرى مقابل باب
الدويدارية، وعمّر باب القطانين بالبناء المحكم. وفي أيامه أيضًا عمّر الأمير تنكز
الناصري نائب الشام البركة الرخام بين الأقصى والصخرة والرخام الذي في قبلة
المسجد عند المحراب، وكذا الجانب الغربي سنة 728 هـ.
وفي أيام الملك الأشرف شعبان ابن الأمير حسن ابن الملك الناصر محمد بن
قلاوون عمرت المنارة التي عند باب الأسباط بمباشرة (السيقي قطلو بغا) ناظر
الحرمين الشريفين في 769 هـ. وكذا تم تجديد الأبواب الخشب المركبة على
الجامع الأقصى والقناطر التي على الدرجة الغربية صحن الصخرة المقابل لباب
للناظر في (778 هـ) .
وفي سلطنة السلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق عمرت دكة المؤذنين التي
بالصخرة تجاه المحراب إلى جانب المغيرة بمباشرة ناظر مين ونائب القدس
الشريف الناصري محمد بن السبفى بهادر الظاهري 789 هـ.
وفي أيام الملك الظاهر أبي سعيد جقمق العلائي الظاهري احترق سقف
الصخرة القبلي من جهة الغرب، من جانب القبة فأخمدت النار، وعمر السقف
أحسن مما كان وفي سنة 887 هـ. أمر السلطان الملك الأشرف أبي النصر
بعمارة الدَّرَج الموصل إلى صحن الصخرة الشريفة تجاه باب السلسلة المجاور لقبة
المدرسة النحوية، وفي سنة 884 جدد رصاص قبة الأقصى ولم يكن من حيث
الجودة والإتقان كالقديم. وفي سنة 887 هـ أنشئ سبيل قايتباي المقابل لدرج
الصخرة الغربي على بئر هناك، وكذلك الفسقيتان المجاورتان له.
وقد تمت في الحرم الشريف عمارات متعددة في زمن سلاطين بني عثمان
كزجاج شبابيك الصخرة العجيبة فإنه من آثار السلطان سليمان القانوني 945 هـ كما
تدل على ذلك الكتابات المرسومة على زجاج الطاقات. وكذلك القاشاني البديع
المحيط بقية الصخرة من الخارج فإنه صنع في زمنه سنة 969 هـ وهذا التاريخ
مثبت في صدر محراب قبة السلسلة والنقوش والكتابات النفيسة، فإن قسمًا كبيرًا منها
جُدِّد في أيام السلطان محمود سنة 1233 وسنة 1256 هـ وفي أيام السلطان عبد
العزيز سنة 1291 هـ جدد رصاص الصخرة الخارجي وتذهيبها وحصلت عمارات
طفيفة في زمن السلطان عبد الحميد كتجديد سبيل قايتباي وباب الصخرة الغربي
وغير ذلك. انتهى.
__________(24/780)
الكاتب: محمد الرشيدي بك آل الحجازي
__________
بعثة تنصير المحمديين
وبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين
لمحمد الرشيدي بك آل الحجازي
من أركان الحرب سابقًا (في برلين)
(تمهيد) إن الألمان من أكثر الأمم تسامحًا في الدين أو من أقلها تعصبًا فيه
على الأقل. ولكن تفريط المسلمين في تبليغ العالم الغربي حقائق العقائد والعواطف
التي أودعها الدين الحنيف في صدور أهله، والآداب العالية والأحكام العادلة التي
عامل البشر كافة، وأهل الكتاب خاصة وإفراط حشرات الشرق المؤذية (والأرمن
أشدها عداوة وخبثًا في الكيد لمواطنيهم من أهل الإسلام) هذا الإفراط وذلك التفريط
قضيا بأن يقع كل أجنبي ألمانيًّا كان أو غير ألماني في شَرَك عناكب السوء هذه التي
تملأ صدره حقدًا واحتقارًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع سعيها طبعًا في ابتزاز
مال ذلك الأجنبي.
كنا نعلم ما يعلم كل شرقي عاشَر الأوربيين والأميريكيين من انتشار
المعتقدات الغربية والتهم الباطلة بينهم في المسلمين وأنهم لا يعرفون عنهم سوى
أنهم قوم عائشون على الفطرة ولا يدرون من أمور الحياة سوى التغذي بطعام سيئ
يتناولونه بأصابعهم القذرة والارتواء بالماء والقهوة والتسلي بالتدخين والاستمتاع
بالنساء بالتزوج منهن بغير حساب؛ لأنهن لسن إلا متاعًا للشهوة البهيمية، يشترين
كما تُشْتَرَى الأنعام ويُلْفَظْنَ كما تُلْفَظُ النواة بغير مراعاة لحالتهن ولا لحقوقهن، وإن
أطيب الطيبات عندهم سفك دماء المسيحيين.
وكنا نعمل على قدر الاستطاعة في تفهيم الأمم التي نحتك بها أن الدين
الإسلامي مثل سائر الأديان التي تأمر بالخير وتنهى عن الشر، وأنه أوصى بصفة
خاصة بمراعاة أهل الكتاب وبمجاملة المسيحيين الذين وصفهم بأنهم أقرب الناس
مودة للذين آمنوا، ولم يأمر بمعاداتهم وبقتالهم إلا عند بغيهم وعدوانهم على
المسلمين، وأن مركز المرأة في الإسلام أفضل وأكمل ضمانة لسعادتها وسعادة
عائلتها من مركزها في أي أمة متمدينة من أمم أوربة وأميريكة، وأن تأخرها عن
المرأة الأوربية أو الأميريكة في الرقي العلمي والاجتماعي لم يكن إلا نتيجة الأسباب
التي أدت لتقهقر مدنية الرجال أنفسهم في الشرق، تلك الأسباب التاريخية والسياسية
القديمة والحديثة التي لسوء نيات الأمم الأوروبية فيها عمل كبير، وأن المسلمين
ليسوا أقل نشاطًا من غيرهم بل إنهم من أكبر الأمم استعدادًا لعظائم الأمور، كما
تدل عليه آثارهم في العلوم والفنون والصناعات التي تدين بها الأمم الغربية لهم
وأعمالهم في الظروف العصيبة الحاضرة.
ولكن كانت دائرة عملنا ولا تزال ضيقة لقلة كفاءتنا العلمية الدينية في بسط
شئون الدين الحنيف بسطًا وافيًا شافيًا، وقلة كفاية وسائلنا المادية لتوسيع نطاق هذا
العمل العظيم.
ولقد كنا نفكر دائمًا في اقتراح القيام بهذه المهمة الدقيقة الجسيمة على
الاختصاصيين بالشئون الدينية، ولكننا كنا من جهة أخرى نظن أن الدولة العثمانية
التي كان ولا يزال لها من الاستقلال والوسائل المادية والأدبية ما يُمَكِّنَها من هذا
العمل الضروري للعالم الإسلامي عمومًا، ولها هي نفسها خصوصًا قد فكرت في
الأمر وسعت في القيام به دفعًا لتطاول الأعداء على الدين وعليها؛ إلا أن قضية
مقتل طلعت باشا وأسبابها ونتائجها وما رأيناه في أثنائها وبعدها، دلتنا على أن هذه
الدولة الإسلامية الكبيرة لم تفكر إلى الآن في هذا الواجب.
نعم بينت لنا هذه القضية الحالة النفسية لدى القضاة والمحامين وغيرهم من
الموظفين ولدى الشعب الذي عَدَّ تبرئة ذلك المجرم الأرمني عملاً منطبقًا على
العدالة تمام الانطباق.... وإن لم يقم القضاء بكل الواجبات التي توجبها النزاهة
والعدالة ولم يستمع لآراء نظارة الخارجية، وبينت لنا نتائج إهمال المسلمين
وتفريطهم في الدفاع عن دينهم وأنفسهم إزاء المكايد والمهاجمات التي تتوالى عليهم
منذ زمن طويل.
ولقد استدعى التفاتنا الخاص شهادة الزور التي افتراها (القسيس) المدعو
بالدكتور ليسيوس تلك الشهادة التي حوت من الأكاذيب والغل والضغينة ما يتنزه
عنه القسيسون الحقيقيون الذين أخلصوا الحب والطاعة للمسيح الكريم، بل ما ينفر
منه أدنى صعاليك الوثنيين إن كان عنده ضمير.
ولم يكن ليسيوس هذا من أولئك الأشخاص الذين يوجدون - ويا للأسف - في
كل طائفة دينية، أي من المتعصبين تعصبًا أعمى عن جهل وغباوة، بل هو (مدير)
البعثة الألمانية الدينية الشرقية التي يرأسها الجراف (الكونت) فون برنستورف
مصدر النشرة المدعوة بالشرق المسيحي، هذه النشرة المُعْتَنَى بها أتم اعتناء، فهو ذو
مكانة عند طائفة من المسيحيين يظنون أنه من أصدق خدام المسيح.
إن الكذب الصراح والاختلاق المحض اللذين ظهرا لنا في شهادة ذلك الشخص
المنتحل للدين وجدّه وكدّه في السعي لتبرئة ذلك المجرم، أمور جعلتنا نعتقد اعتقادًا
قويًّا أنه ممن اشترتهم إنكلترة والجمعية الأرمنية [1] وأنه من أشد الأعداء للدين
المسيحي نفسه، ومُحَال أن يستفيد دين بأمثال هؤلاء الناس الفاسدي الضمير، ولقد
بحثنا في الأمر بعد أن ضاعت مساعينا لدى وزارة الخارجية التي أخفقت هي نفسها
في الاعتراض على ذلك القضاء المخطئ ولدى إدارة الأمن العام لنحصل على
أكثر ما يمكن من المعلومات التي يتقى بها ضرر هؤلاء المشركين بالله والمضرين
بالناس، فوفقنا إلى الحصول على أشياء منها مجموعة كاملة للسنة الأولى من
(مجلة الشرق المسيحي) عن سنة (1900) هذه المجلة التي تصدرها تلك البعثة
الدينية (! !) التي تدل على أنه كان لتلك البعثة في سنة 1900 ستة مراكز عمل
في بلاد الدولة العثمانية، واثنان في بلاد فارس واثنان في بلغارية.
وتدور أعمال هذه المراكز على المحور الذي تبينه جليًّا مقالة الأرمني
(أبراهام أميرشانيانس) في تلك المجموعة - تلك المقالة المُعَنْوَنَة بـ (واجبات
البعثة المحمدية ومهماتها) كما أن المجموعة كلها تدل على مقدار دناءة الوسائل التي
تتخذها البعثة الرئيسية التي يديرها ذلك القسيس (ليسيوس) .
ولنقتبس لكم أجزاء من تلك المقالة التي ملأت أربع صفحات كبيرة من
صحف تلك المجموعة؛ لتروا صورة وصفهم للدين الإسلامي وعملهم لإزالته من
الوجود:
قال (أبراهام أميرشانيانس) المذكور، فيما سطره:
(إن الإسلام من أشأم ما ظهر في تاريخ الإنسانية. وهو خليط من الصدق
والكذب، فهو لذلك أشد خطرًا من الوثنية. وإن الدين المسلط على مائتي مليون
رأس ليس من السهل التغلب عليه. فيجب تحضير خطة دقيقة تكون كأحكم الخطط
الحربية وضعًا لمهاجمته وإنفاذ هذه المهاجمة بأنجع وسائل التعبئة) .
وبعد أن أوصى بضرورة مراعاة اختلاف أنواع المسلمين من أهل بلاد
إسلامية مستقلة، وأهل بلاد تابعة لدولة مسيحية في أوربة أو في المستعمرات،
لاتخاذ أحسن الطرق في إنفاذ تلك المهاجمات لمن تعرض للمحمديين الذين ينتحلون
الدين المسيحي للأخطار الناشئة عن صرامة عقاب الحكومات الإسلامية لهم، وعن
شدة تعصب أبناء جنسهم لهم، قال: إنه لا ينصح بالكف عن العمل لتنصير
المسلمين في البلاد الإسلامية المستقلة، بل يوصي بالحذر واتخاذ الوسائل لإنقاذ من
يؤتى بهم إلى المسيحية.
وقد وضح الطرق التي تستعمل في الديار التابعة للحكومات المسيحية للوصول
إلى هذا العرض، وهي:
تبشير مباشر في الكنائس وفي الدور وفي مدارس تربية البنين والبنات
الابتدائية والعالية - وهذا أهم الوسائل عنده - واستخدام الجرائد والنشرات للحملة
على الإسلام والترغيب في المسيحية، والاستعانة بالمبشرين والمعلمين والمعلمات
والمربين والمربيات، وكذا بالباعة المتجولين وبالعمال.
وقد استنتج (إبراهام إيميرشانيانس) هذا من انتحال بعض مسلمي البلغار
والصرب الدين المسيحي أن الدين الإسلامي لا ثبات له، وأن قلة ثباته هذه برهان
على أنه ليس دين حق أو كما يقول: (لا يمكن أن يكون دين حق) .
وبعد أن قال: (إن الإسلام بدون سيف يؤيده شيء لا يعتد به) [2] وصف
المسلمين الذين انفصلوا عن الدولة العثمانية والذين في المستعمرات المغلوبة على
أمرها فشبههم بسمك تركه الجَزْر على الأرض اليابسة يفتح فاه ويطبقه لعدم إمكان
بقائه حيًّا في غير العنصر الذي يعيش فيه [3] .
وصاح: (ما أبرك الوقت وأسعد الفرصة السانحة لتلقين هؤلاء المسلمين
حقائق يسوع المسيح!) .
ثم نصح لجميع البعثات المسيحية بتوحيد مساعيها في العمل لتكون كوحدات
جيش واحد يهاجم الإسلام متبعًا خطة واحدة، وبعد أن دل على مواضع ضعف
الإسلام في جنوب آسية والصين وغيرها من الأصْقَاع التي لم يرتق فيها العلم
والفهم، حض على العمل فيها ونشر مؤلفات (إيلمنسكي) و (مالوف)
و (أو مالوو) و (سايلولوف) و (أوسابلوكوو) و (ماشانوف) على مسلمي
القوقاس وعرض برنامجه الذي نختار منه هذه الفقرات:
1- احتلال البعثات الدينية للديار الإسلامية المستقلة والمغلوبة احتلالاً منظمًا،
وعملها متحدة عملاً منظمًا.
2- تأسيس مدارس لأبناء مسيحيي الأهالي أو المسلمين الذين انتحلوا الدين
المسيحي يتخرجون فيها لخدمة عمل البعثات، وذكر أن من هذه المدارس ما يوجد
في الإسكندرية وفي قسطنطينة في الجزائر وفي قازان.
3 - إلقاء محاضرات في أماكن هذه البعثات آنًا بعد آن.
4 - نشر الكتب المؤلفة لتنوير المسلمين الذين لا يعرفون عن الدين المسيحي
إلا أمورًا (معكوسة) وكتبًا للعائلات وجرائد، وغير ذلك من وسائل نشر الدعوة.
وكتب المجادلة كتلك الكتب (الجليلة) التي ألفها المولوي عماد الدين في الهند.
5 - نشر مثل هذه الكتب على الأهالي المسيحيين ونشر انتقاد لحياة (محمد)
وقد كان المؤلفون المسيحيون يستقون بعض أخبار هذه الحياة من الكتب الكاذبة التي
يؤلفها المصنفون المسلمون عن حياة نبيهم ... كما أنه تجب ترجمة كتاب
(ريجوزي) أو (ريكوزي) أو (ربغوزي) إلى اللغات الأوربية لإظهار فساد
معتقدات المسلمين في الله وفي الآخرة....
6 - إصدار نشرة دورية عامة للبعثات الدينية....
ومن غرائب أفكاره في الموضوع قوله: (إن طريق بغداد الحديدية ستزعزع
الإسلام من أساسه) (! ! !) .
و (إذا كان الروس يمدون خطًّا حديديًّا من باكو إلى البوسفور فإن ذلك يقضي
على الإسلام قضاء مُبْرَمًا (؟ ؟ ؟) .
و (إن الدين الإسلامي قائم على السيف، فإذا أصابت هذا السيف فلول، فلن
يعود تركي ولا إيراني ولا تتري يؤمن بهذا الدين!)
وقد ذكر بعد ذلك تأسيسهم لقاعدة عمل عظيمة الأهمية في بلغارية وهي
القاعدة التي يسعى فيها لتنصير مسلمي بلغارية ووقاية المسلمين الذين يعتنقون الدين
المسيحي في تركية أو في بلاد إيران من فتك أبناء جنسهم بهم.
وهاك نبأ من سيرة (إبراهام إيميرشانيانس، أو إيميرشانيانز) فإن في هذه
القصة مواعظ وعبرًا:
إبراهام هذا هو ابن قروي أرمني من القوقاز يدعى (ميرزا فاروخ) (أو
فروخ؟) كان اختطفه بعض الفارسيين من اللصوص المتاجرين بالرقيق، فوصل
إلى سري إيراني يدعى أمير، كان سردار فأوصى ابنته بتربية الطفل كما فعل
فرعون مصر مع موسى مع بُعْدِ الشبه بين الطفلين والتربيتين فرُبِّيَ تربية إسلامية،
وعُلِّمَ تعليمًا إسلاميًّا إلى أن صار ميرزا (فقيهًا؟) وكاتب سر لسيده الذي كان
قائد في جيش بلاده. واستصحب القائد كاتبه فروخ في محاربته للروس فقتل هذا
القائد فيها، وفي أثناء عودة فاروخ (أو فروخ) هذا التقى بأقارب له فارتد إلى
دينهم وخرج هاربًا من فارس.... . إلى شوشة قريته في القوقاس. وهناك تعرف
إلى الدكتور بفندر السويسري المبشر وغيره وتقلد المذهب البروتستانتي؛ وإذ كان
يعرف الفارسية والتركية والعربية وتعلم الأرمنية والروسية، استخدمته الحكومة
الروسية معلمًا، وتمكن من ترجمة (العهد الجديد) إلى تركية القوقاس وعلم ابنه
إبراهام هذا اللغتين الفارسية والتركية وأسلمه إلى الدكتور تسارمبا فأرسله أولاً إلى
ريفال ثم إلى سويسرة ليتمم علومه في مدرسة (المبشرين) ببازل (بال) ولما
منعت الحكومة الروسية عودته إلى وطنه أرسله المبشرون السويسريون إلى
القسطنطينية. وهنالك بقى مدة عشر سنوات بوظيفة قسيس لطائفة الأرمن مشتغلاً
مع المبشرين السويسريين ثم استخدمه (كاتوليكوس) الأرمن لإدارة المدرسة الدينية
فبقى فيها ثلاث سنين. وبعد أن تجول في بلاد فارس سكن في تفليس وترجم كتبًا
دينية ينشرونها هناك. ولما اشتغل بالوعظ غضب عليه رئيس المجلس وأقر نفيه
فقبض عليه وسيق مع عائلته وأولاده السبع إلى المنفى.... .
وبعد أن فقد ابنيه توسط أحد الأمراء له في تخفيف العقاب وذهب إلى
هلسنجفورس ومنها إلى وارنه في بلغارية واتخذ بعد ذلك تنصير المسلمين حرفة له.
ومن يستطيع أن يثبت لنا أن هرب أبيه من فارس بعد موت ذلك القائد الذي
رباه ليس له علاقة بمقتل ذلك القائد؟
أي من ذا الذي يمكنه أن يبرهن لنا على أن أباه لم يقتل مربيه غيلةً وغدرًا؛
ليتمكن بما سلبه منه من العودة إلى موطنه؟ إن كان فروخ هذا نقي اليد مرتاح
الضمير، فلماذا هذا الهرب وهذا الفرار؟ ومن أين أتته النقود التي مكنته من
الوصول السريع إلى بلاد القفقاس؟
إن هناك مسائل يجب أن يفكر فيها أولئك الذين يظنون أنهم يستطيعون أن
يتبنوا ويربوا مثل هذه الأطفال المختطفة والمسروقة التي ينمو معها الحقد والضغينة
كلما نمت قواها الفكرية والجسدية ولا تستخدم ما أمدها به الإحسان إلا في الإساءة!
لو كان ذلك القائد الفارسي فكر في هذا الأمر لما فعل ذلك الخير الذي لم ينتح إلا
شرًّا، وهل يحترم الذئب إذا كبر شاة غُذِّيَ بِدَرِّهَا؟
ولو كان ذلك القائد ألزم أولئك اللصوص بإرجاع ذلك الطفل لأهله؛ ليتربى
فيهم ويأخذ لغتهم ودينهم ويعيش معهم ويموت فيهم - لما مكن ذلك الثعبان وابنه
إبراهام من جمع كل هذا السم الذي كان هو أول ضحاياه.
ومن هذا القبيل شخص اسمه: (يوهانس اويتارانيان) تصوره تلك المجلة
بملابس شيخ كردي تارة، وبملابس أوربية تارة أخرى، وهو يدعو المسيحيين
للتعاون على تنصير المسلمين، ويدَّعِي أنه من المسلمين الذين هداهم الله إلى
النصرانية، ويقص في المجلة تاريخه وما جرى لغيره من المسلمين المتنصرين.
ومن هؤلاء رجل اسمه (ميرزا إبراهيم) قبض الناس عليه في خيوى
وسجنوه، وقتلوه؛ لأنه بعد أن تنصر أخذ يضايق الناس بسعيه في حملهم على ترك
دينهم.
ولكن لنترك إبراهام وأباه، ومن هم على شاكلته، وكثير ما هم ولننظر ما
يصنعون وما يتبعون من الخطط.
ليس من العجيب أن تكون تلك المجموعة السنوية مجموعة طعن في الدين
الإسلامي وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم يقبلوا المسيحية طوعًا أو
كرهًا، ولا فائدة من تحصيل الحاصل بترجمة تلك الصحائف الكثيرة المشتملة على
شتائم يبرأ المسيح عليه السلام منها ومن قائلها، وكفى بما أتينا به برهانًا على
نياتهم وموضحًا لخططهم وطرقهم.
ولكن نلاحظ أن (القسيس) ليسيوس عند كلامه عن حائط العبرات أو
الدموع في القدس وهو الحائط الذي يبكي عنده اليهود منذ عشرين قرنًا زوال ملكهم
وتخريب هيكلهم - يَسْتَدْرِج نفسه وقارئه إلى اعتقاد أن (المسيحية أعطاها الشرق إلى
الغرب، وسيعطيها الغرب للشرق) أي أنه لم يفكر في الخطر الصهيوني بل حصر
همه في العمل ضد الدين الإسلامي! نحن لا نستنكر أن يحاول المسيحيون تنصير
المسلمين، ولا أن يروم المسلمون إسلام المسيحيين بالتي هي أحسن إذا استطاعوا
أو لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً؛ لأننا نعتقد أن النفس البشرية تجد منها لها حاثًّا
ودافعًا إلى إفادة غيرها ما تعتقد صلاحه ونفعه، ولذلك لا ننقم على مسيحيٍّ يريد
ويسعى في أن يجعل المسلمين نصارى بالطرق التي تقبلها الحكمة والآداب، ولكننا
نعد اتخاذ المطاعن البذيئة وطرق الغش والكذب وسائل لهذه الغاية وجريمة لا
يغفرها الله، ولا يرضي عنها المسيح ولا يقبلها ذو نفس شريفة تكره الكذب
والتزوير في المعاملات العادية عمومًا، والشؤون الدينية خصوصًا.
ولقد كان تَرَفُّعُ المسلمين عن النظر إلى تلك الدنايا، وعدم اهتمام الحكومات
الإسلامية والعلماء والمفكرين من المسلمين بمراقبة ما تدبره هذه الجمعيات من
المكايد الخسيسة، لسببين - ولأمر أعظم ضررًا من تنصير بعض المسلمين ممن لا
يعرفون من أمور دينهم شيئًا. فإن النجاح الذي أدركه (المبشرون) في مشارق
الأرض ومغاربها منذ عشرات، بل مئات من السنين في تنصير المسلمين أقل من
أن يذكر. ذلك الأمر العظيم الضرر هو إلقاء عداوة المسلمين واحتقارهم في نفوس
الأمم الأوربية والأمريكية. وهو ما جعل تلك الأمم ترتاح لوقوع الأمم الإسلامية في
شِرَاك الدول الاستعمارية، وصيَّرَها لا تتأثر إذا اقترف أمثال البلغار والصرب
واليونان والإفرنسيين والإنكليز في الديار الإسلامية فظائع كانت أوربة وأميريكة لا
تغتفرانها لو اقترفها هؤلاء في بلاد أمم مسيحية.
نعم إن الحق لا يعدم نصيرًا. ولقد رأينا في السنين الأخيرة ما يثبت ذلك من
تغير الآراء في ألمانية نحو المسلمين بتأثير الكتب والمقالات التي كتبها القواد
والضباط والجنود والموظفون والعلماء الألمان ذاكرين فيها ما لاحظوه وما شاهدوه
وما اختبروه من أحوال المسلمين في أثناء الحرب العالمية. ولكن ذلك لا يكفي في
إيضاح الحقائق عن الدين الإسلامي وأهله، فإن دعاة السوء لا يزالون مستمرين في
العالم كله على وصف هذا الدين وأهله بأشنع الأوصاف وحمل العالم المسيحي
والوثني على اعتقاد أن كل اعتداء على الشعوب الإسلامية عمل خيري، وأن كل
نقمة تحل بالمسلمين نعمة للمسيحيين وغيرهم.
ولذلك نرى أن من الواجب على الدول الإسلامية التي بقيت محافظة على
استقلالها أن تنظم وسائل الدفاع عن دينها وسمعة أممها في العالم. وعلى الكتاب
المسلمين أن يجِدّوا في إفهام العالم الحقائق التي يحاول أولئك المجرمون طمسها.
ويسمح لنا حضرات علماء الأزهر والزيتونة والفاتح وغيرهم أن نقول: إن
أولئك المعتدين على دينهم وكرامة أمتهم يتعلمون اللغات العربية والتركية والفارسية
والهندية تعلمًا جيدًا؛ ليتطاولوا على الإسلام والمسلمين، فلماذا يمتنع علماؤنا من
تعلم اللغات الإنكليزية والإفرنسية والألمانية وغيرها؛ ليدفعوا تلك الأراجيف
والأكاذيب ويظهروا للأمم فضائل هذا الذين التي تفوق جميع فضائل الأديان
الموجودة في العالم؟ إن العلماء بتمكنهم من دقائق هذا الدين ومعرفة أموره التي لا
تصل إليها مدارك غيرهم هم أحق الناس بالقيام بهذا الواجب الذي نسعى نحن الذين
تنقصنا الوسائل الكثيرة إلى تأديته!
وعسى أن يسمع صوتنا، فنرى حضرات الكتاب والمفكرين عمومًا والعلماء
خصوصًا قد اهتموا بالأمر واشتغلوا بإنفاذه بكل ما أوتوا من نشاط وهمة وكفاءة،
ونجد وفود علماء الإسلام تتجول في أوربة وأميريكة؛ لتنير للشعوب الغربية تلك
الظلمات وتهتك تلك الحُجُب التي نسج برودها أولئك الأفاكون المختلقون الذين نعتقد
أن المسيح عليه السلام يبرأ مما صنعوا ويصنعون باسمه الكريم!
(المنار) سواء وصل صوتك أو لم يصل {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (الروم: 52) وقد ارتفع قبل صوتك الشريف
أصوات أفراد آخرين رأوا شيئًا مما رأيت وشيئًا مما لم تره، ولكن الإسلام ليس له
دولة تسمع وتبصر، وتعقل وتشعر فتعمل، وأكثر حملة العمائم موتى القلوب كُمْه
البصائر، مظلمو العقول، لا يهمهم من الحياة إلا أمر معاشهم ولو بالذل والمسكنة،
وإن ما فسد في بضع قرون لا يصلح في بضع سنين. وإنا قضينا أكثر من ربع
قرن ونحن ندافع عن الإسلام ونُفَنِّدُ ما يفتريه عليه دعاة النصرانية ودعاة الإلحاد ولم
نجد لنا وليًّا ولا نصيرًا من أمراء المسلمين وملوكهم، ولا من منتحلي الرياسة
الدينية وعلماء الرسوم منهم، بل وجدنا من إيذائهم وسعايتهم أضعاف ما وجدنا من
إيذاء المبشرين وحماتهم الذين منعوا المنار أن يدخل السودان المصري بسعاية
هؤلاء المبشرين، ودعونا حكومة الخلافة العثمانية في الآستانة إلى تأسيس جمعية
للدعوة والإرشاد ومدرسة لتخريج الدعاة والمرشدين فارتعدت فرائص رجال
الحكومة الاتحادية من كلمة الدعوة، ثم أبوا تنفيذ الاقتراح حتى بعد تغيير الاسم،
فأسسنا الجمعية وافتتحنا المدرسة في مصر، ونالت من الأوقاف العامة والخاصة
إعانة قبل الحرب، برعاية عزيز البلاد في ذلك الوقت. ولم تلبث أن قطعت بعدها
بإيعاز بريطاني في أوائل عهدها، ووعدنا السلطان حسين ورؤساء أكثر الوزراء
بإعادتها، ولم ينجز لها أحد وعدًا، ولا رعى للإسلام عهدًا. ومن ذلك أن رشدي
باشا في عهد وزارته أخبرنا أنه عرض أمرها على الملك فؤاد فارتاح إلى مساعدتها،
وأنه مهَّدَ لنا السبيل لديه، لعرض الأمر عليه ... ولكن حال بعض رجال القصر
دون ذلك.... ولكن نحمد الله تعالى أن دعوة الإصلاح تمتد، ولو ببطء، فعسى أن
تزول الغصة قبل فوات الفرصة.
__________
(1) المنار: إذًا قد اشترك في تبرئة المسيحي القاتل للمسلم رجال الدين ورجال السياسة من الألمان والإنكليز، ولكن انفرد الإنكليز بتبرئة المرأة الفرنسية التي قتلت زوجها المسلم المصري، وقد كان العدل البريطاني في تبرئة هذه القاتلة المقرة بالقتل مبنيًّا على ادعاء علو آدابها الأوروبية وانحطاط آداب زوجها الشرقية ! فمن أصول التشريع البريطاني العادل أنه يجوز لكل أوروبي أن يقتل كل شرقي ولا يكون بقتله مجرمًا ولا مستحقًّا لأدنى عقاب، وهم مع هذا كله يملأون الكون ادعاء بعدلهم وظلم الشرقيين عامة والمسلمين خاصة! ! وهنالك عدل أعلى من هذا عندهم، وهو أن اتهام شرقي بعصيان إفرنجي معتد على بلاده يبيح قتله وقتل عدد لا يُحْصَى من قومه كما وقع في البلاد العربية من مصر إلى العراق.
(2) المنار: تلقفوا هذه الكلمة من قدماء أعداء الإسلام ولا يستحيون من تكرارها مع حصول ما كان يقصده أولئك الأعداء من وضع رقاب أكثر المسلمين تحت سيوف المسيحيين الذين يكرهون السيف ويعشقون السلام رحمة بالناس كما هو مشاهد في كل العالم! ! ! .
(3) لو أنصف لقال: لعدم إمكان بقائه حرًّا عزيزًا تحت نير الأوروبيين المدعين للمسيحية.(24/785)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحوال العالم الإسلامي
اليمن وتهامة
نجد والكويت والريحاني
الحجاز
الترك
لا تزال جزيرة العرب على ما يعلم الناس عنها من شقاق وتقاتل - في اليمن
وتهامة - يُغْضِبُ الله والمسلمين وجميع العرب الصادقين، ويُرْضِي الأعداء
الطامعين. ولو آثر الإمام والسيد الإدريسي حقن الدماء على سفكها وانصرف كل
منهما إلى الأخذ بوسائل العمران في بلاده لكان كل منهما في منطقته أضعاف أضعاف
ما يطمع به من توسيع حدوده بالبلاد المتنازَع عليها، وأهم ما يتنازعون عليه
وأعظمه شأنًا عندهما (الحديدة) ويمكن أن يتفقا على جعله ثغرًا حرًّا لكل منهما حق
مساوٍ لحق الآخر في الانتفاع منه بالتجارة وِرْدًا وصدْرًا على أن يحميه كل منهما
بالتعاون مع الآخر ممن يعتدي عليه، وتكون حكومته وطنية مستقلة ينفق عليها من
رسوم المكوس فيها.
وأما نجد فقد ذكرت الجرائد أن سلطانها منح بعض الشركات الإنكليزية امتيازًا
كبير الشأن في منطقة الأحساء بزيت البترول وغيره مما يوجد من المعادن، وما
يستلزم ذلك من مد الخطوط الحديدية.... وأشارت إلى ما في هذا الامتياز من
الضرر على هذه البلاد والخطر على استقلالها. وقد بلغنا عن أمين أفندي الريحاني
الأديب اللبناني المشهور أنه هو الذي أقنع السلطان عبد العزيز بن سعود بمنح هذا
الامتياز للإنكليز وأقنع شيخ الكويت بامتياز مثله، وأنه لم يذهب إلى جزيرة العرب
إلا بنفقة شركة إنكليزية معروفة؛ لأجل إقناع أمرائها بإعطائها أمثال هذه
الامتيازات، فخاب سعيه إلا في نجد والكويت، وكان يظن أن النجاح فيهما أبعد
منه في غيرهما، ولا مندوحة لحكوماتهما إذا لم يتفصيا من إمضائه وإنفاذه أن يُعلِّما
بعض نابتتها لغة القوم وتاريخهم وقوانينهم والقانون الدولي العام والمعاهدات الدولية؛
ليعرفوا كيف يعاملونهم ويتقون بعض مفاسدهم وغوائلهم، فهم بعد تقييد أنفسهم
بإدخال الأجانب في بلادهم لا يستطيعون أن يبقوا بمعزل عن العالم المدني،
والطريق وعر، والمركب صعب، وكان الواجب أن تعد لها عدتها، قبل التقحم في
مهامه مفازتها. وقد كنت نصحت المرحوم الشيخ مبارك الصباح بأن يُعلم صغار
أولاده وأحفاده تعليمًا خاصًّا فأجابني بأنهم لا يحتاجون إلى العلم! ! ! وأنى لذي
الجهل المُرَكَّب المطلق أن يشعر بمنفعة العلم؟
ساعد الريحانَّي على نجاح سياحته في جزيرة العرب ما كان له من حظ
الحظوة بمصر ولا سيما احتفال أحمد زكي باشا به في جوار الأهرام ذلك الاحتفال
الغريب الذي حضره ألوف من الناس، وشغل الصحف المصرية بالنقد
والاستحسان. ذهب بعده الريحاني إلى الحجاز، ويقال: إن ملكه قد أوصى به،
وكان اطلع على ما كُتب في الجرائد بشأنه، فعني به وأكرم مثواه، وعرض عليه
أن يحليه بلقب أمير فاعتذر، فأهداه هدايا منها خنجر ذهبي مما يتقلده شرفاء
الحجاز على بطونهم ويسمى (الجنبية) وزوده بكتب توصية إلى إمام اليمن
والسيد الإدريسي وأرسل معه قسطنطين أفندي يني وهو سوري من موظفي
حكومته بجدة فجعلهما وفدًا له، بلغنا أن الإمام أكرمهما بضيافته ومجالسه ولكن
جعل حديثه معهما في المسائل الأدبية والشعر ولم ينالا منه شيئًا مما زاراه لأجله،
وكذلك السيد الإدريسي رحمه الله تعالى. وقد كان الريحاني طلب مني توصية كتابية
إلى (الحجاز) أمراء الجزيرة، فتنصلت بلطف؛ لأنني كنت مرتابًا في الحامل له
على السفر، ورأيت بعض إخواني جازمًا بأنه يقصد خدمة سياسية للإنكليز.
***
نحمد الله تعالى أن خابت (المعاهدة العربية البريطانية) التي أمر الملك
حسين بجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية التي يدَّعِي افتياتًا عليها أنه مِلكُها، وأن
جعلنا من المجاهدين في سبيل خيبتها، ودفع ما فيها من الخزي والخطر على بلاد
الحرمين الشريفين وعلي ثالثهما وهو المسجد الأقصى، وقد ظهر للعالم كله بطلان
دعوى الملك حسين أن المادة الثانية من المعاهدة نص صريح في استقلال فلسطين
وسائر البلاد العربية ماعدا (عدنًا) وحدها.... وما كررته جريدته (القبلة) من
الكذب والإفك في ذلك، ولا ندري ما يقول أنصاره اليوم؟! فإذا كان قد تعمد خداع
العرب عامة والفلسطينيين خاصة ليكفوا عن جهادهم، ويفوضوا إليه وإلى حليفته
إنكلترة أمر بلادهم، فكيف يدَّعُون بعد هذا أنه يخدم العرب ويسعى لاستقلالهم؟
(وإن قالوا) : إنه هو قد خُدِعَ بهذه المعاهدة إذ لم يفهم موادها كما خدع قبلها
بمقررات النهضة الناطقة بحماية الإنكليز لبلاد العرب كلها، وإن كان هو الواضع
لها (قلنا) : أولاً: إذا كان يعقد معاهدات مع أدهى الدول المرة بعد المرة، وهو لا
يفهم معناها، فكيف تتخذونه زعيمًا لأمتكم؟ وثانيًا: إذا كان لم يفهم ترجمة
المعاهدات بالعربية، فكيف لم يفسرها له بالعامية وكيل خارجيته (فؤاد أفندي
الخطيب) ومندوبه لدى الدولة البريطانية (الدكتور ناجي الأصيل) اللذين ترجماها
له، بل وافقاه على ما فهمه منها خطأ بزعمكم؟ وثالثًا: إن كانا هما اللذان خدعاه
بالترجمة أو بموافقته على سوء فهمه، فلماذا لم يعاقبهما على هذه الخيانة، ولو
بطردهما من خدمته؟ بل لماذا أعاد الدكتور إلى لندن لإتمام المساومة في شأنها،
وهو لا يزال يرجو إبرامها؟
هذا، وإنه بعد هذا يريد عقد مؤتمر عربي في (معان) بدسيسة بريطانية قد
بثت الدعاية لها في البلاد السورية كلها، وبذل من المال ما بذل في سبيلها،
وسنشرح ذلك وما يجب من تلافي ضرره في مقال آخر.
وقد كان من سوء سياسة الرجل ومقت العالم الإسلامي له أن أبطأ مسلمو الهند
فيما قرروه من مساعدة جزيرة العرب على الاستقلال، فهو العقبة في طريقها، وإن
بثت الدعوة في الهند وأفريقية الواقعة تحت السيطرة الفرنسية إلى مقاطعة الحجاز
بترك أداء فريضة الحج ما دام هذا الرجل مسيطرًا عليه. ولا شك في أن هذا يسر
حليفتيه البريطانية والفرنسية، وإن لم يشعر أولئك المسلمون في الشرق والغرب
بذلك، فنحن ننكر عليهم ترك الحج الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي العام، ونجزم
بأنه نكبة وجريمة دينية سياسية اجتماعية، وأن لديهم أسهل الطرق لإنقاذ الحجاز
مما جناه عليه هذا الرجل، وهو تعضيد الجمعية التي وضعت لحياده واستقلاله
وحفظه من كل نفوذ غير إسلامي، وسنعلن ذلك إن شاء الله تعالى في الشهر الآتي.
***
(الترك) ثم نحمد الله تعالى أن تم للترك الاستقلال المطلق بمعاهدة الصلح
الأخيرة، وقد جرّأهم ذلك على التصريح بما كانوا يكتمونه من جعل حكومتهم
جمهورية، وهو ما سبقنا إلى التصريح به في العام الماضي عقب اطلاعنا على
التشكيلات الأساسية للجمعية الوطنية، وقد ألغيت الأحكام العسكرية فظهرت
المعارضة للحكومة الكمالية في مسألة الخلافة الاسمية، ومسألة أسرة السلاطين
العثمانية، التي هضمت حقوقها بحرمانها من مساواة الأمة في المناصب والوظائف،
وفي النيابة عن الأمة، ومسألة جعل الغازي مصطفى كمال باشا رئيسًا للجمهورية
ورئيسًا للجمعية الوطنية ورئيسًا للحكومة التنفيذية ورئيسًا لحزب الشعب الذي ألفه
لأجل حصر السلطة كلها فيه، فنزل عن بعض هذه الرياسات في الظاهر الرسمي
وجعلها لأقرب أعضاء حزبه منه، ولو أنه أنجز ما كان وعد به من اعتزال الحكومة
بعد نيل الاستقلال كما فعل واشنطون محرر مملكة الولايات المتحدة في أمريكة -
لأجمعت الأمم على تمجيده مع الشعب التركي ولكانت رياسته أتم، ونفعه لقومه
أعظم، ولكنه قد استهدف الآن لمقاومات كثيرة، فاتُّهِمَ بأنه يسعى لجعل نفسه حاكمًا
عسكريًّا مطلق التصرف من وراء ستار الجمهورية كما جرى في البلاد الأسبانية، أو
ما هو قريب منه كما جرى في الدولة الإيطالية، واكتشفت مكيدة لاغتياله، وانطلقت
الألسنة والأقلام بالخوض في شخصه وعمله.
وظهرت في البلاد التركية - ولا سيما أنقرة - دعوة الغلو في التفرنج بجعل
الحكومة غير دينية كالجمهورية الفرنسية، وبإطلاقها للنساء والرجال حرية الإباحة
كغِشْيَان التركيات للمراقص، ورقصهن متهتكات مع الأجانب والأقارب، وتمثيلهن
أنواع القصص في المسارح، والدعوة إلى تعديل قانون المسكرات وغير ذلك. وقد
نشر في الجرائد أن الحكومة الجمهورية ألغت المحاكم الشرعية ألبتة، ويقال: إنها
منعت تعليم الدين في مدارس الحكومة أيضًا، وعادت دعوة العصبية الجنسية،
والغلو في التفرنج المنافي للإسلام إلى ما كانت عليه بالصراحة التامة. وظهر أن
الحكومة الكمالية كالحكومة الاتحادية التي كانت قبلها، وأنها لا تخالفها إلا في شكلها،
على أن أكثر الكماليين من الاتحاديين، وقد ظهر أن من لم ينتظم في السلك
الكمالي من بقايا رجالاتهم أحرص على المحافظة على منصب الخلافة فيهم. ونسأل
الله تعالى أن يقي هذا الشعب الإسلامي شر الغرور بالمدنية المادية وشر الشقاق،
فالذي يهمنا أن يبقى حصنًا من حصون الإسلام في المشرق، وإنما يكون ذلك
بنجاح حزب الإصلاح الإسلامي.
__________(24/795)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد الرابع والعشرين
بسم الله وبحمده نختتم هذا المجلد من المنار كما افتتحناه به، ونحمده أننا لم
ندخر وسعًا في القيام بما قدرنا عليه من خدمة الملة والأمة، على قصر الساعد،
وقلة المساعد، ولَيِّ المشتركين، وتجهم السنين، ومن العجيب أن يشكو الماطلون
منه تأخير بعض الأجزاء عن موعد صدورها من أول الشهر، وينسون تأخيرهم
لقيمة الاشتراك عن موعدها أول العام، دع من يسوفون بها عامًا بعد عام، وهم
يعلمون أن الاشتراك في الصحف المنتشرة عبارة عن التعاون بين من يتولى أمر
تحريرها وطبعها ونشرها وبين قرائها على خدمة الأمة بها، وجعله الفقهاء من قبيل
ما يسمونه الاستصناع، وهو بذل قدر معين من النقد لمن يقوم بعمل شيء معين
للباذل، والمراد من هذا وذاك أن الجريدة أو المجلة ينفق على إيجادها من أموالهم
فكيف يطلبون وجود المسبب قبل وجود السبب، وهو في أيديهم.
إن تأخير بعض أجزاء المجلات لا يحول دون الاستفادة منها ولا ينقص منه؛
إذ ليست كالجرائد التي يراد منها الإعلام بالجوائب (الأخبار الطارئة) في إبان
طرقها، فيفوت ذلك بتأخير صدورها، أو يستغنى بالسابق على المسبوق منها،
على أن تأخيرنا إصدار بعض أجزاء هذا المجلد لم يمنع من صدور جميع أجزائها
في عامها، فقد صدر الجزء الأول من هذا المجلد في شهر جمادى الأولى من عام
1341 وتم الجزء العاشر الذي هو الخاتمة في ربيع الأول سنة 1342 وأخرَنا
نشره إلى ربيع الآخر الذي بعده، وسيصدر الجزء الأول من المجلد الخامس
والعشرين في مثل موعد الأول مما قبله فيكون الفرق بيننا وبين أشهر مجلاتنا
العربية أننا جعلنا شهري الاستراحة مُفَرَّقًا على أشهر السنة، وهي تجعلهما شهرين
متتابعين.
وقد اضطرنا التوسع في مسائل الخلافة والحجاز والهند في هذا المجلد إلى
تأجيل بعض المباحث التي كنا شرعنا فيها ومقالات أخرى لدينا، وتأجيل انتقاد
على المنار، وحقوق أدبية عليه لمن أهدوا بعض مطبوعاتهم إليه، وسنعود إلى ذلك
كله في المجلد الآتي، إن شاء الله تعالى. وعسى أن يحاسب الهاضمون لحق المنار
أنفسهم، وينتصفوا منها لمن انقطع به إلى خدمة ملتهم وأمتهم، وكذا بالاشتراك في
بضع جماعات دينية وعلمية ولغوية واجتماعية وسياسية، لم تترك له ساعة من نهار
للنظر في شيء من مصالحه الشخصية والمنزلية. ونسأله تعالى أن يوفق كلاًّ منا
لإتقان العمل الذي خلق له، والحمد لله أولاً وآخرًا.
__________(24/800)
المجلد رقم (25)(25/)
جمادى الآخرة - 1342هـ
يناير - 1924م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الخامس والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقدر الآجال
والأعمار، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) ، المحيط علمه بالجهات
والأقطار، النافذة مشيئته في البراري والبحار، البارزة حكمته في القرى والأمصار،
المطَّردة سنته في الأبرار والفجار، الفائضة نعمته على المؤمنين والكفار
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 34) .
والصلاة والسلام على المصلح الأعظم، والرسول الأعز الأكرم، سيد العرب
والعجم، محمد النبي الأمي معلم الكتاب والحكم، المبعوث رحمة لجميع الأمم،
وعلى آله الأطهار، وأصحابه المصطفين الأخيار، وعلى من اتبع هديهم من
المقربين والأبرار، وإنما الخزي والخسار، واللعنة وعذاب النار، على زمر
الأشرار، الذين آثروا الشهوات الحيوانية، والعصبيات الجنسية والوطنية، على
هذه الهداية الإلهية، المكملة للفطرة الإنسانية، والموحدة لسلائل الأسرة الآدمية،
غرورًا باللذات المادية، وجهلاً بالحياة الروحية {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص:
27 - 28) .
أما بعد فإنَّ المنار قد أوفى بفضل الله ونعمته على الخامسة والعشرين، فإن
كان ما توفاها في عدد المجلدات؛ فقد زاد عليها في عدد السنين، وكان حق هذه السنة
أن تكون السابعة والعشرين، لولا ما كان من إدغام بعض السنين في بعض، بما
كان من لأواء الحرب، وما تلا سنيها الأربع، فكان ألذع وأوجع، ناهيك بما
أعقبته من فساد الأخلاق، وضيق الأرزاق، والإعراض عن العلم والأدب، ورواج
اللهو واللعب، وكساد المجلات والكتب، على ما سبق ذلك من جور السلطان،
وكلب الزمان، وعدم الأعوان، وضعف الوفاء، والتهاون في الاقتضاء على قلة
المال، وكثرة العيال.
هذا وإنَّ الخامسة والعشرين هي السن التي تكمل بها بنية الإنسان، وتتم قوى
الأبدان، ولكن لم يكد يبلغ المنار سن الشباب، إلا وكان منشئه قد شاخ وشاب،
ونحمد الله أن كان وقع الشوائب الذي شيب الرأس، لم يشيب العزم والبأس، ولم
يشُب الهمة بشائبة من اليأس، على أن أسبابه من جهة الناس أكثر، وبما يوسوس
به الخناس أكبر، وإنما الإيمان واليأس ضدان لا يجتمعان، والتجارب والوهن
خصمان لا يتفقان، فقد ثبت المنار على دعوته، التي وضعناها له في أول نشأته،
فكلما وسوس إليَّ شيطان اليأس: ألم تر إلى سوء حال المسلمين، وتسللهم أفرادًا
وجماعاتٍ من هداية الدين، وجمود علمائهم، وخمود زعمائهم، وفساد أمرائهم،
وشح أغنيائهم، وضعف صلحائهم، وغباوة دهمائهم، وموت هممهم، وتفرق
جماعاتهم، وتعدد جنسياتهم، وعدم الرجاء في صلاح أمرهم، وشد أزرهم ,
صاحت به آياتُ القرآن، وما يشهد لها من عبر الزمان، وتكاثر الإخوان، فنكص
على عقبيه، وخنس يضرب أصدريه،
ما اعتنَّ لي يأس يناجي همتي ... إلا تحداه رجاء فاكتمي
وقد تذكرت الآن أن أجعل ذكرى الإصلاح في هذه الفاتحة شيئًا من شعري في
أوائل عهد الرشد، وشعوري عند الاستواء وبلوغ الأشد، وأحمد الله تعالى أنني
شببتُ على حب الإصلاح والتفكر فيه، وشِبْتُ على الدعوة إلى مناهجه ومناحيه،
وذلك قولي في (المقصورة الرشيدية) التي عارضت بها (المقصورة الدريدية) :
كم ليلة أبيتها مفكرًا ... يفي ليَ السهد ويُخلف الكرى
أطوي جناحيَّ على جمر اللظى ... أرضك [1] عينيَّ على الماء الرِّوى
خلتهما ركيَّتين [2] كلما ... نزحت هذا الماء فاض وطغى
وكل جفن ماتحًا فكلما أهوى بشبه الغمض يملأ الدلا [3]
تلك ليالٍ خنت عهد الصبر في ... حِندسها وكنت أوفى من وفى
إذ خانني العزم الذي بلوته ... في مبهم الخطب فما قط نبا
لو أنما أبكي لمحبوب جفا ... أو مالٍ اغتيل وذي قربى قضى
وأعوز الصبر فقيل جازع ... أشبه ربات الحجال في البكا
لراعني القول بصدقه وقد يقصد من يصدق إن قيل رمى [4]
لكنما أبكي لمجد أمة ... ثلت عروشه [5] وحُلَّت العرى
ووطن ذل فأمسى حوضه ... (مد عثر الأعضاد مهدوم الحبى) [6]
وملة حكيمة رحيمة ... قد تركت للجهل كالشيء اللقى [7]
وقال فيها الأخسرون إنها علة هذا الانحطاط والشقا
فكيف كانت علة السعادة الـ ... ـتي مضت لنا وذاك الارتقا
(بها) أصبنا الملك والحكمة والـ ... ـعلم (بها) فما عدا مما بدا [8]
ألم توحد أممًا تفرقت واختلفت في الاعتقاد واللغى
فكيف عدتم وأنتم أخوة ... لما تركتم هديها من العدى
أما بدت في أمة أمية ... فجعلتهمو ... أئمة الورى
في كل علم للعقول يقتنى ... وعمل في الكائنات يقتفى
فكيف صرتم بترك هديها ... أجهل مَنْ دَبَّ عليها ومشى
ألم يكن أسلافكم بعدلها ... قد فتحوا الأمصار قبل والقرى
وعمروها فغدت بفضلهم ... تفضل في الوجود كل ما عدا [9]
زراعة صناعة تجارة ... علما وحكمة وعدلاً وعُلى
فلم أضعتم جُلَّ ما تَأثَّلوا ... وأصبح الباقي لكم على شفا
شريعة القرآن دانٍ وِردُها الـ ... ـعذب وتهلِكون من فرط الصدى
فإن أباها الحاكمون عن عمى ... وصد عنها الجامدون عن هوى
فربما أيدها على هدى ... كل صحيح الفكر من أولي النهى
وإنْ يكن قد عقها أبناؤها ... وعاد مَنْ كان صديقًا في العدى
فارجعْ إلى تاريخ خيرِ أمةٍ ... قد أُخرجتْ للناسِ وابعث الأسُى
يريك عصر الراشدين المثل ال ... أعلى لِكُنْهِ العدل زانه الهدى
والمجد والزينة والقوة في الد ... ين جوى قصرُ الرشيد ووعى
وجنة الزهراء [10] في أندلس ... حيث الإمام الحكم العدل ثوى
والجمع ما بين علوم النقل والـ ... ـعقل إلى المأمون عهده انتهى
أحيا ببغداد فنونًا درست ... إذْ كان عمران ذويها قد عفا
والجامعُ الأعظم في قرطبةٍ ... جامعة العلوم في ذاك الرجا [11]
أفاض نور شمسها فى أفق ... طال عليه ليل جهل قد غسا [12]
كان يعادي الدين فيه العلم بل ... يسوم أهله العذاب والأذى
فكم عليم صَلِيَ النار وكم ... متهم بالعلم تفريه المدى [13]
واذكر على ذكر العلوم تونسًا ... ومصر والشام (وسُرَّ مَنْ رَأَى) [14]
وكل قطر ساسه خلائف الْـ ... ـعُرْب بما أوحاه شرع المصطفى
هم الذين عَمرُوا الأرض وبالـ ... عدل مع الرحمة قد ساسوا الورى
فعالَم الشمال منهم قبس النـ ... ور وعنهمُ العلوم قد روى
وسار كلُّ فاتحٍ مُستعمرٍ ... وراءهم فلم يقف دون المدى
ولو أقاموه [15] ولم يبتدعوا ... لدام ملكهم وأصلح الدُّنى
ولسرعان ما أمية أبتْ ... إمامةَ الرشد فأنزت من نزا [16]
وجعلوها دولة موروثة ... وعرضة لغصب أرباب القوى
فعاث فيها العجم مُذْ تفرقت ... فيها قريش فغدت أيدي سبا [17]
وانقطع النظام جامعًا بهم ... فانتثر العقد وشقت العصا
فبعث الله على بلادهم ... من استذل واستباح ولحا [18]
الترك والتتار في الشرق وفي ... أندلس أبيد من ثم ثوى [19]
وصدق الرسول في إنذارهم ... وإن تمارى فيه قوم وامترى
واعتز بالإسلام بَعْدُ من عثا ... فورث الأرض به إذ اعتزى
وامتد ملك ... آل عثمان به ... ثم تزوى آرزا حيث أتى [20]
ألا ترى أوطانهم تنقص من أطرافها ألا ترى ألا ترى
ما السأُوُ إلا برجاله فإِنْ ... عزوا وإلا ساء حالاً وكصا [21]
فكيف حال وطن أبناؤه ... ما فتؤوا أعق من ضب الكدى [22]
قد عضد العاضد منهم دوحه ... وخضد الشوكة والعود التحى [23]
وغادر الأرض به موظوبة ... وغمره الفرات ضحضاحًا جَوَى [24]
وُلِّيَ أمرَهُ إمامٌ جائرٌ ... قد استبد بالأمور واعتدى [25]
إذ استخف قومه فأصبحوا ... أطوعَ من ظل الحذاء يحتذى
يليه في الظلم ولاة أبصروا ... بروقه ترجى لِرَيٍّ وَحَيَا
وسمعوا رعوده تنذر من ... خالف أمره صواعق الردى
فآثروا ما عنده حتى على الأ ... وطان والرحمن جلا وعلا
وجعلوا مال العباد دولة ... فذالت الدولة منهم للعدى
من نال منهم حاجة لكرشه ... وفرشه قال على الدنيا العفا
يريك عزة الأمين فإذا ... لاح له المال استكان وضغا [26]
والوطن الذي امتروا أخلافه ... أوشك أن يقضي وربما قضى [27]
وكيف لا يُسحته الله وهم ... السُّحت أكَّالُون فيه والرُّشا [28]
قد بشمت بطونهم فأصبحوا ... يشكون سوء الهضم منها والطَّسى [29]
ومشبعوها يشتكون سغبًا ... قد أكلوا العلهز من طول الطوى [30]
فأصبحوا في شظف وضعة ... ألانت القنا وأضوت البنى [31]
وعالم مبتدع منافق ... لقد أضل قومه وما هدى
لا يأمر الحكام بالعرف ولا ... ينهى عن المنكر فيهم فشا
وليس يوصي الناس بالحق ولا الصبر ... سوى على المكوس والأذى
ومرشد غير رشيد دأبه ... عزو الخرافات لأرباب الولا
والرجم بالغيوب مسندًا إلى ... أضغاث أحلامٍ ومكذوب رؤى
أولئكم سادتنا الذين قد ... أضلوا السبيل كل من قفا
فنسأله تعالى أن ينقذ هذه الأمة من إغواء هؤلاء الرؤساء الضالين، ويعيد
إليها سلطانها بعز الدنيا وهداية الدين، ويجعلنا فيها من الهداة المهتدين، آمين.
... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني الحسني
__________
(1) يقال أرضك فلان عينيه إذا أغمضهما وفتحهما المرة بعد المرة.
(2) مثنى ركية بوزن قضية وهي البئر.
(3) الماتح: المستسقي يخرج الدلو من البئر، والدلاء جميع دلو قصر لضرورة الوزن.
(4) يُقصد بضم الياء: يصيب المرمى.
(5) أي عروش المجد.
(6) المدعثر المهدوم اسم مفعول، والأعضاد ما حول شفير البئر من البناء كالصفائح وغيرها، ومثله مهدوم الحبى وهي جمع حبوة ما يحيط بالبئر من البناء كالثوب الذي يحتبي به الإنسان، والشطر لابن دريد.
(7) اللقى بالفتح ما يلقى ويطرح لهوانه وعدم الحاجة إليه.
(8) بها الثانية توكيد للأولى التي تفيد الحصر بتقديمها على الفعل وجملة (فما عدا فما بدا) من كلام علي (عليه السلام) ومعناها هنا: فما الذي صرف هذه الملة عن مثل ما كان لها من التأثير مما بدا وظهر بعد ذلك؟ وهو رد على زعم متفرنجة العصر المرتدين أن الإسلام عائق عن العمران والعزة والقوة والثروة.
(9) أي: ما عداها.
(10) معطوف على قصر الرشيد.
(11) الجانب وهو الأندلس.
(12) أظلم.
(13) البيتان إشارة لما كانت أنشأته الحكومة البابوية في أسبانية من المحكمة المعروفة بمحكمة التفتيش للعقاب على الاشتغال بالعلوم العقلية والكونية بالقتل والإحراق بالنار.
(14) هي (سامراء) مدينة المعتصم العباسي.
(15) الضمير لشرع المصطفى.
(16) أي: ولكن ما كان أسرع بني أمية إلى إزالة خلافة الراشدين الشوروية فوثبوا على اغتصابها , وأنزوا عليها غلمانهم الفساق والنزوان الوثبان إلى فوق , وفيه إشارة إلى رؤيا أحد أئمة أهل البيت , أنه رآهم ينزون على منبر جده عليه وعليهم السلام.
(17) أي: تفرقوا تفرقًا لا اجتماع بعده كأهل سبأ من قدماء اليمن وأيديهم قواتهم.
(18) أي: من استذل خلفاءهم وكبراءهم، واستباح أموالهم وأعراضهم، وخرب عمرانهم , يقال: لحا الشجرة لحوًا ولحيًا، والتحاها إذا أزال قشرتَهَا , ويستعار لأشد الإرهاق والتخريب، وفيه إشارة إلى حديث: (يا معشر قريش أنتم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب) رواه أحمد وأبو يعلى بسند رجاله ثقات وفي آخر: (فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتحوكم كما يلتحى القضيب) وحديث: (إِنَّ أَوَّلَ من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) وأورده الحافظ في الفتح بلفظ: (أن بني قنطوراء أول من يسلب أمتي ملكهم) قال: وهو حديث أخرجه الطبراني من حديث معاوية، والمراد ببني قنطوراء الترك ثم قال: وكأنه يريد بقوله: أمتي. أمة النسب لا أمة الدعوة، يعني العرب اهـ، وفي معناه ما رواه عنه أبو يعلى مرفوعًا: (إن الترك تجلي العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح) وقد فعلت فلم يبق الترك استقلالاً للعرب حتى زاحموها في عقر جزيرتها حيث ينبت الشيح.
(19) الترك بدل أو عطف بيان لمن استذل إلخ.
(20) تزَّوى: تقلص وتقبض، آرزا: منكمشًا راجعًا إلى وطنه.
(21) السأو الوطن وكصا: خس بعد رفعة.
(22) الكُدَى جمع كُدْيَة (كغرف جمع غرفة) وهي الأرض أو الصخرة الغليظة الصلبة.
(23) العاضد لك من أعانك، وعضد الشجرة قطعها، والدوح: الشجر العظيم، جمع دوحة بالفتح وخضد الشوكة قطعها، والتحى العود قشره.
(24) موظوبة: واظبت الراعية رعيها حتى لم يبق بها نبات، والغمر: الماء الكثير، والفرات: العذب وما بعدهما ضدهما، وجوى (كهوى) مصدر جوي (كرضي) الواو: أنتن.
(25) هو السلطان عبد الحميد آخر سلاطين بني عثمان وقد كان من خلفه من الجماعات شرًّا منه وأضر.
(26) ضغا: تذلل للخيانة.
(27) امتروا أخلافه حلبوا ضروعه.
(28) أسحتهم الله: أهلكهم واستأصلهم، والسحت الحرام الخسيس.
(29) الطسى بالفتح مصدر طسي (كرضي) : التخمة من كثرة أكل الدسم، وجاء بالواو وبالهمز.
(30) السغب بالتحريك الجوع كالطوى , والعِلْهِز؛ بكسر العين والهاء: أحقر ما يؤكل كالقراد.
(31) أي: فأصبحوا في ضيق عيش ومهانة نفس أخضعتهم وأهزلت أجسامهم.(25/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام
(س 1) من الحزب الوطني التونسي
ما قول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ رشيد رضا أيده الله في
حكومة فرنسا المتسلطة على كثير من الشعوب الإسلامية؛ إذ عمدت أخيرًا إلى
وضع قانون يعرف بقانون التجنس، الغرض منه حمل سكان تلك البلاد من
المسلمين على الخروج من ملتهم , وتكثير سواد أشياعها , وقد جعلت هذا التجنس
شرطًا في نيل الحقوق السياسية التي كانت لهم من قبل , وسلبتها منهم على وجه
الاستبداد الجائر , مع أن اتباع المسلم لهذه الملة؛ يجعله ينكر بالفعل ما هو معلوم
من الدين بالضرورة ولا تتناوله الأحكام الشرعية , بل يصير تابعًا لقوانين وضعية ,
نصوصها صريحة في إباحة الزنا وتعاطي الخمور , وارتكاب الفجور , وتحليل
الربا , والاكتساب من الطرق غير المشروعة , ومنع تعدد الزوجات، واعتبار ما
زاد عن الواحدة من قبيل الزنا المعاقب عليه , وإنكار نسب ما ولد له من غيرها
حالة وجودها , ولا حق له في نفقة ولا إرث ولو على فرض الاستلحاق , وفك
العصمة من الزوج , وإسنادها إلى المحكمة , حتى إذا أوقع الطلاق بنفسه كان
لغوًا , وقسمة المواريث على طريقة مخالفة للفرائض الشرعية وجعل أنصبائها على حد سواء بين الإناث والذكور.
وأشد بلاءً من هذا كله جعل المسلم مجبورًا على الخدمة العسكرية في جيش
عدُوٍّ معد لقتال المسلمين , وإذلالهم وإكراههم على الخضوع، والإلقاء بأنفسهم في
قبضة من لا يرقب فيهم ذمةً ولا يحفظ معهم عهدًا.
فهل يعد إقدام تلك الحكومة على أمر كهذا نكثًا للمعاهدة الموضوعة على
أولئك المسلمين , وفتنة لهم في دينهم وإخلالاً بنظام اجتماعهم؟
وهل يكون أولئك المسلمون إذا قبلوا هذا التجنس مرتدين عن دينهم , فلا
نعاملهم معاملة المسلمين من مثل: المناكحة , والتوارث , وأكل ذبائحهم , ودفن
أمواتهم في مقابر المسلمين؛ لأنهم رضوا بالانسلاخ عن أحكام الشريعة , ولا
مكره لهم على ذلك؟ أم كيف الحال؟
وهل يجوز لمسلم يدرك عواقب هذه الفتنة العمياء , وغوائل السكوت عنها أن يترك الإنكار عليها , والحال أنه آمن على نفسه , وقادر على مقاومتها ,
وإظهار النكير عليها؟
أفتونا في هذه الواقعة بما يقتضيه النظر الشرعي إرشادًا للحائرين، وتنبيهًا
للغافلين، أبقاكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين.
الجواب:
إذا كانت الحال كما ذكر في السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول
هذه الجنسية ردةٌ صريحةٌ , وخروج من الملة الإسلامية، حتى إن الاستفتاءَ فيها يعد
غريبًا في مثل البلاد التونسية , التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال
من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة , ولعل المراد من الاستفتاء إعلام
الجمهور معنى هذه الجنسية , وما تشتمل عليه من الأمور المذكورة المنافية للإسلام
نفسه , لا للسياسة الإسلامية التونسية التي بدئ السؤال بذكر غوائلها فقط , كقوله:
إن هذه الملةَ (يعني الجنسية التي هي بمعنى الملة في الأحكام المخالفة
للشريعة الإسلامية) تحمل صاحبها على إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
على أنه قال: إنه ينكر ذلك بالفعل. ولعله أراد بهذا القيد الاحتراس عن الاعتقاد ,
وجعل هذا هو المراد من الاستفتاء لما هو مشهور بين أهل السنة من أن المعاصي
العملية لا تخرج صاحبها من الملة إذا لم يجحد تحريمها أو يستحلها، وإن كانت
مجمعًا عليها معلومة من الدين بالضرورة.
وهذه المسألة أهم عندنا من كل ما رتبه السائل على هذه الجنسية من الغوائل
كنكث الدولة الفرنسية للمعاهدة التونسية, فإن المعاهداتِ في هذا العصر حجة القوي
على الضعيف كما قال البرنس بسمارك، فهو يأخذ بها من الضعيف أضعاف ما جعله
لنفسه من الحقوق , ولا يعطيه مما التزمه له إلا ما يريد هو , ويوافق مصلحته
كما قلنا للسيد فيصل ابن السيد حسين الحجازي عندما أراد إقناعنا بقبول الوصاية
الفرنسية على سورية بمقتضى معاهدة وشروط … وقد بلغنا أن بعض المتفقهة أبى
الإفتاء بِرِدَّةِ من يقبل مثل هذه الجنسية , ويرتكب ما يترتب عليها من ترك أحكام
الشريعة المشار إليها في السؤال بناءً على قول بعض الأئمة: لا نكفر مسلمًا
بذنب. ونظمه اللقاني في جوهرة التوحيد (فلا نكفر مسلمًا بالوزر) مع الغفلة
عن قوله فيها الذي نظم به قاعدة الردة العامة:
ومن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
فإن هذه القاعدةَ وقع فيها اللبس والاشتباه حتى بين المشتغلين بالعلم، وفي
أحد فروعها وهو استحلال الحرام، فإنه إذا كان من المجمع عليه المعلوم من الدين
بالضرورة كان ردة عن الإسلام بلا خلاف، ولكن بعض المشتغلين بقشور العلم ,
والمجادلين في ألفاظ الكتب من يظنون أن الجحد والاستحلال من أعمال القلب،
فجاحد الصلاة ومستحل شرب الخمر والزنا عندهم هو من يعتقد أن وجوب
الصلاة, وتحريم الخمر والزنا ليسا من دين الإسلام، فلا الصلاة فريضة ولا الزنا
حرام.
وفي هذا الظن من التناقض والتهافت ما هو صريح، فإِنَّ فرضَ المسألةِ أن
الذي يستحل مخالفة ما يعلم أنه من الدين علمًا ضروريًّا , غير قابل للتأويل سواء
كان فعلاً أو تركًا فإنه يكون به مرتدًّا عن الإسلام، والعلم الاعتقاد القطعي فكيف
يفسر الاستحلال بعدم الاعتقاد , وهو جمع بين النقيضين؛ أعني اعتقادَ أنه من الدين ,
وعدم اعتقاد أنه من الدين؟ وقد سبق لنا تحقيق هذه المسألة في بابي التفسير
والفتاوى من المنار، ونقول الآن بإيجاز واختصار: إن حقيقة الجحد هو إنكار
الحق بالفعل، واشترط أن يكون المنكر معتقدًا له بالقلب.
قال الزمخشري في الأساس: جحده حقه وبحقه جحدًا وجحودًا. وقال
الراغب في مفردات القرآن: الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب
نفيه، يقال: جحد جحودًا وجحدًا قال عز وجل:] وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ
ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ (النمل: 14) اهـ. وحسبنا الآية نصًّا في الموضوع وسنذكر غيرها
أيضًا.
وكذلك الاستحلال والاستباحة: أَنْ يفعل الشيء فعل الحلال والمباح؛ أي:
بغير تحرج ولا مبالاة، وهو يعتقد أنه حرام شرعًا , ولو لم يكن مجمعًا عليه ,
فإنْ كان المستحل متأولاً لنص أوقاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعًا , لم
يحكم بردته، وإلا كان مرتدًّا، ويصدق في ادعائه الجهل بحرمته إلا إذا كان مجمعًا
عليه معلومًا من الدين بالضرورة.
والوجه في ذلك أن الإسلام هو الإذعان بالفعل لما علم أنه من دين الله في
جملته وهو الإيمان؛ إذ الاعتقاد القلبي وحده لا يكون به المعتقد مسلمًا , ولا يكون
الاعتقاد إيمانًا حتى يكون نازعًا، ولهذا قالوا بترادف الإيمان والإسلام فيما يصدقان
عليه وإن اختلفا في المفهوم , ورد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) .
وأما الذنب الذي لا يخرج به فاعله من الملة، فهو مفروض في المسلم،
وهو المذعن لدين الله وشرعه كله بالفعل إذا عمل سوءًا بجهالة من سورة غضب
أو ثورة شهوة، وهو لابد أن يحمله الإيمان على الندم والتوبة، ولا يدخل فيه غير
المذعن للأمر والنهي، كالمستحل لجملة المعاصي بالفعل، بحيث يترك ما يترك
منها لعدم الداعية , قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17-18) .
ومن تفسير الفقهاء لمسألة استحلال المحرم بالمعنى الذي وضحناه ما أورده
الفقيه ابن حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) قال: ومن ذلك أن يستحل
محرمًا بالإجماع كالخمر واللواط ولو في مملوكه - وإن كان أبو حنيفة لا يرى الحد
به؛ لأن مأخذ الحرمة عنده غير مأخذ الحد - أو يحرم حلالاً بالإجماع كالنكاح ,
أو ينفي وجوب مجمع على وجوبه كركعة من الصلوات الخمس، أو يعتقد وجوب
ما ليس بواجب بالإجماع , كصلاة سادسة يعتقد فرضيتها كفرضية الخمس؛
ليخرج وجوب معتقد الوتر ونحوه كصوم شوال , هذا ما ذكره الرافعي.
وزاد النووي في الروضة: أن الصواب تقييده بما إذا جحد مجمعًا عليه يعلم
من دين الإسلام ضرورة سواء كان فيه نص أم لا، بخلاف ما لا يعلم كذلك بأن لم
يعرفه كل أحد من المسلمين فإن جحده لا يكون كُفرًا اهـ؛ وما زاده ظاهر،
وخرج بالمجمع عليه الضروري المجمع عليه غير الضروي كاستحقاق بنت الابن
السدس مع بنت الصلب , وتحريم نكاح المتعة؛ فلا يكفر جاحدهما كما بينته في
شرح الإرشاد، ومع بيان أنه هل الكلام في جاحدهما جهلاً أو عنادًا , ومع بيان
رد قول البلقيني: إن تحريم نكاح المتعة معلوم من الدين بالضرورة , وأنه قيد
استحلال الدماء والأموال , بما لم ينشأ عن تأويل ظني البطلان كتأويل البغاة،
وللضروري أمثلة كثيرة استوعبتها في الفتاوى , ومن ذلك أيضا ما لو أجمع أهل
عصر على حادثة فإنكارها لا يكون كفرًا.
ومحل هذا كله في غير من قرب عهده بالإسلام , أو نشأ ببادية بعيدة، وإِلا
عُرِّف الصواب فإن أنكر بعد ذلك كفر فيما يظهر؛ لأن إنكاره حينئذ فيه تضليل
للأمة.
وسيأتي عن الروضة عن القاضي عياض أن كل ما كان فيه تضليل الأمة
يكون كفرًا , ثم ما ذكره الشيخان كالأصحاب في استحلال الخمر استبعده الإمام بأنا
لا نكفر من رد أصل الإجماع، ثم أول ما ذكروه بما إذا صدق المجمعين على أن
التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فإنه يكون ردًّا للشرع. قال الرافعي: وهذا إن
صح فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه فنفاه،
وأجاب عنه أبو القاسم الزنجاني بأن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة
ما علم تحريمه من الدين ضرورة) اهـ ما أردت نقله من الإعلام.
فقول الزنجاني: (إن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة ما علم
تحريمه من الدين ضرورة) معناه استباحته بالعمل , بأن يفعله كما يفعل المباح بغير
تأثم ولا مبالاة ولا توبة , وقول الإمام (أي: إمام الحرمين) قبله: إن المراد من
الاستحلال للمجمع على تحريمه مبني على تصديق المجمعين , على أن التحريم
ثابت في الشرع وتعليله إياه بأنه يكون ردًّا للشرع، فهو صريح في أن المراد برده
عدم الإذعان بالفعل لا عدم الاعتقاد؛ إذ الاعتقاد التصديق وهو مصدق بأنه من
الشرع , وإلا سقطت المسألة من أصلها.
وإنما اشترطوا فيها الإجماع وكونها معلومة من الدين بالضرورة لإسقاط
عذر الجهل - ولذلك استثنوا قريب العهد بالإسلام ومن نشأ بعيدًا عن المسلمين -
وعذر احتمال التأول، وهم لا يختلفون في كون رد أي مسألة من الشرع , يعتقد
رادها أنها منه، كرد المجمع عليه المعلوم بالضرورة عند جماعة المسلمين؛ إذ مدار
الردة في هذا المقام على رد الشرع , وعدم الإذعان له؛ أي: عدم التلبس بالإسلام.
فالقاعدة الأساسية في هذه المسألة أن الإسلام الذي تجري على صاحبه أحكام
المسلمين هو الإذعان والخضوع بالفعل لكل ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم
جاء به عن الله تعالى من أمر الدين، وأن رد بعضه كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) فإن كان الخضوع بالفعل تابعًا للإذعان
النفسي، والاعتقاد القطعي بصدق الرسول في دعوى الرسالة كان إسلامًا وإيمانًا
منجيًا في الآخرة لمن مات عليه، وإن كان في الظاهر دون الباطن كان نفاقًا
تجري على صاحبه أحكام المسلمين في الدنيا ما لم يأت بما ينافيه ويثبت خلافه ,
وأما الاعتقاد في الباطن دون الإذعان في الظاهر لمن تمكن من العمل بأن لم يمت
عقبه فلا يعتد به في الدينا ولا في الآخرة، فإن كفر إبليس لم يكن عن عدم اعتقاد،
بل عن حسد وعناد، وكذلك كفر فرعون موسى والملأ من قومه؛ إذ قال الله
تعالى فيهم في سياق الكلام عن الآيات التي أيد الله نبيه موسى عليه السلام
بها: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14) وكذلك كان
كفر طغاة قريش المستكبرين بالنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) وتقدم أن الإلمام
بمعصية ما لا يعد استحلالاً يوجب الخروج من الملة، لأنها إنما تقع من المذعن
بجهالة من غضب أو شهوة، ويتبعها الندم والتوبة.
علم من هذا أن قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام
خروج من الإسلام؛ فإنه رد له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته،
ويكفي في هذا أن يكون عالمَا بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام
الإسلام , ولكن يقبل اعتذاره بالجهل إن لم تكن مجمعًا عليها معلومة من
الدين بالضرورة , كبعض ما ذكر في السؤال من قتال المسلمين , وبعض أحكام
الإرث وإباحة تعدد الزوجات بشرطها , فلا يعامل معاملة المسلمين في نكاح ولا
إرث ولا يصلى عليه إذا مات.
ومن أدلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا
أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (النساء: 60-
61) .
الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره , ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله ,
وما حكم به رسوله صلى الله عليه وسلم , فإنه جعل مقابلاً له هنا في آيات أخرى
ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع ما يستلزمه اتباع؛
أي: جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم , ومما ورد
في تفسير الآية بالمأثور: إن سبب نزولها تحاكم بعض المنافقين إلى بعض
كهان الجاهلية، وقد سمى سبحانه ادعاء هؤلاء المنافقين للإيمان زعمًا، والزعم
مطية الكذب , وقد بينا في تفسيرنا للأولى منهما اقتضاء الإيمان الصحيح للعمل،
وأن الاستفهام فيها للتعجيب من أمر هؤلاء , الذين يزعمون الإيمان ويعملون ما
ينافيه، وأن الأستاذ الإمام سئل في أثناء تفسيرها في الجامع الأزهر عن
القوانين والمحاكم الأهلية فقال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن
هداية قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) فإذا كنا تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال , من قبل أن نبتلى بهذه
القوانين ومنفذيها، فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ومنها المخالف له؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم
إلى هذه القوانين , فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه: - أي في أهله - {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} (النحل: 106) وانظر فيما هو موكول إلينا إلى الآن , كالأحكام الشخصية والعادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد
والأوزاج والزوجات، فهل ترجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله؟ … إلخ ما
قاله , وقد وضحت المراد منه فيراجع في الجزء الخامس من التفسير.
وأقول: إن إكراه المصريين على ما يخالف الكتاب والسنة من القوانين قد
زال الآن بالاستقلال , فإثم ما يبقى منه بعد انعقاد البرلمان المصري في أعناق
أعضائه, وأعناق الأمة في جملتها؛ إذ هي قادرة على إلزامهم إلغاء إباحة الزنا
والخمر وغير ذلك من المحرمات بالإجماع , هذا وإن المحاكم الأهلية
وقوانينها خاصة بالأحكام المدنية والعقوبات التي تقل فيها النصوص القطعية
المعلومة من الدين بالضرورة , ومن حكم له فيها بربا محرم فليس ملزمًا أخذه،
ومن حكم عليه به وأكره على أدائه فهو معذور، ولا يمس عقيدته ولا عرضه منه
شيء، والحدود الشرعية في العقوبات خاصة بالإمام الحق، والتعزيرات مبنية
على اجتهاد الحكم , فأين حكم المحاكم الأهلية بالقوانين من قبول جنسية تهدم ما
في القرآن من أحكام النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك؟ وهي اختيارية
لا اضطرارية , ومن اختارها فقد فضلها على أحكام الله تعالى في كتابه , وعلى
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم , وفضل أهلها الكافرين على المؤمنين بالفعل.
(ومنها) قوله تعالى: (4: 64) {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) قال أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في تفسيرها من كتابه
(أحكام القرآن) ما نصه:
(وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئًا من أوامر الله تعالى , أو أمر
رسوله صلى الله عليه وسلم , فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه،
أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب
إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة , وقتلهم وسبي ذراريهم؛
لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس
من أهل الإيمان) اهـ.
وقد بينا في تفسيرنا لهذه الآية ما ملخصه: إن الإيمان الصحيح الحقيقي وهو
إيمان الإذعان النفسي المقابل لما يدعيه المنافقون , لا يتحقق إلا بثلاث:
(1) تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر؛ أي: اختلط فيه
الأمر مما يتخاصم فيه الناس.
(2) الرضاء بحكمه وانشراح الصدر له بحيث لا يكون في القلب أدنى
حرج، أي: ضيق وانكماش مما قضى به.
(3) التسليم والانقياد بالفعل , ولا خلاف بين المسلمين في اشتراط هذه
الثلاث في كل ما ثبت مجيئه به صلى الله عليه وسلم من أمر الدين؛ إذ لا يعقل
اجتماع الإيمان الصحيح برسالته , مع إيثار حكم غيره على الحكم الذي جاء به
عن الله تعالى، ولا مع كراهة حكمه والامتعاض منه، ولا مع رده وعدم التسليم له
بالفعل.
وجملة القول: إن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها
بأحكام القرآن، فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا
وقع من أهل بلد أو قبيلة، وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا , والمعقول أن هذا لا يقع
من مسلم صحيح الإيمان بل لا يجوز عقلاً أن يصدر عنه، ذلك بأن الإيمان القطعي
بأن أحكام النكاح والطلاق , والإرث وتحريم الربا والزنا المنصوصة في القرآن من
عند الله العليم الحكيم , يقتضي تفضيلها على كل ما خالفها، والعلم بأن التزامها من
أسباب رضوان الله وثوابه، وترك شيء منها من أسباب عذابه وسخطه، يقتضي
الحرص على الاستمساك بها فعلاً لما أوجب سبحانه، وتركًا لما حرم،
ودليله: أن العلم بالمضار والمنافع يقتضي فعل النافع وترك الضار بسائق الفطرة،
ويعرف ذلك كل إنسان من نفسه بالوجدان الطبيعي , ومن سائر الناس بالتجربة
المطردة في جملة المنافع والمضار. وما يشذ من الجزئيات فله أسباب لا تنقض
القاعدة التي بيناها مرارًا.
ويلتبس الأمر على كثير من الباحثين في بعض هذه الجزئيات , فيحسبها
ناقضة لقاعدة اقتضاء العلم القطعي أو الراجح للعمل، وجل هذا اللبس يرجع إلى
خفاء وجوه الترجيح الطبيعي , فيما يتعارض فيه العلم القطعي والظن والوجدان
والفكر، مثال ذلك: ترك المريض الدواء النافع وفعله لضده كتناول الغذاء الضار
من أمور الدنيا، وتركه لبعض الواجبات أو اجتراحه لبعض السيئات من أمور
الدين، ومن محص المسألة يظهر له أن تارك الدواء لاستبشاع طعمه , قاطع
بضرره المتعلق بالذوق وهو من الحسيات اليقينية , وغير قاطع بنفعه بل هو إما
ظان وإما شاك فيه، وكذلك مرتكب المعصية وإن كان تحريمها قطعيًّا كالزنا , فإن
الشك يعرض له في الوعيد عليه من باب الرجاء في العفو والمغفرة بفضل
الله تعالى , أو بالتكفير عنه بالأعمال الصالحة، ولكن لذة الشهوة التي تعرض له لا
شك فيها، فيرجح العلم القطعي بالمنفعة وهي اللذة على الظن أو الشك في العقاب،
وإنما يقع هذا الترجيح في الكبائر لمن كان ضعيف الإيمان، وهو ما كان عقيدة لم
ترتق بها التربية العملية إلى الوجدان، وإنما الإيمان الكامل المقتضي للعمل في
أفراد الجزئيات ما كان فيه الاعتقاد الصحيح مصاحبًا للشعور الوجداني بالخوف
والرجاء في كل منها، وقد يتخلف في بعض دون بعض، فإن من يعيش بين قوم
يجاهرون بمعصية لا ينفر وجدانه منها , كمن يعيش بين قوم لا يفعلونها إلا ما قد
يقع من بعضهم وراء الأستار.
فهذا ملخص ما يحتج به على استلزام الإيمان الصحيح للعمل بجملة ما ثبت
عند المؤمن أنه من الشرع، والأدلة الشرعية عليه كثيرة، وبها جعل جمهور
السلف العمل ركنًا من أركان الإيمان - وقد اختلف العلماء في معنى الحديث المتفق
عليه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ بناء على اختلافهم في تعريف
الإيمان , فذهب بعضهم إلى أن المنفي هو الإيمان الكامل وهو الوجداني الذي
يقتضي العمل فعلاً وتركًا - وقيل: إن الإيمان يفارق الزاني عند الزنا بحيث لو مات
في أثنائه مات كافرًا. وحقق الغزالي أنه لا يكون عند تلبسه بالزنا مؤمنًا بأنه
يستلزم سخط الله وعذابه , وهو يصدق بنسيان الوعيد عند ذلك لغلبة الشهوة
التي يغيب صاحبها عن إدراك الحسيات أحيانًا. كما قال الشاعر:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري
ويصدق بالشك في وقوع الوعيد بما بيناه آنفًا من رجاء المغفرة أو التكفير ,
ومثل هذا الشك والتأول لا يمكن أن يجري في جملة المأمور به والمنهي عنه ,
ولا في ترك الأحكام الكثيرة التي لا يغلب صاحبها عليها ثورة شهوة، ولا سورة
غضب كأحكام الإرث والنكاح والطلاق وثبوت النسب ونفيه - بل هي مما يتفق
الدليل العقلي والطبعي مع الدليل الشرعي على أن من رغب عنها إلى غيرها من
أحكام البشر لا يمكن أن يكون مؤمنًا، وعندي أن تركها بمثل اختيار الجنسية
المسؤول عنها ليس إنشاء للكفر وابتداء للردة , بل هو أثر له ناشئ عنه، وإنما
أطلت في هذه المسألة التي سبق لي توضيحها مرارًا , لما بلغني من توقف بعض
علماء تونس في الإفتاء بكون التجنس بالجنسية الفرنسية ردة.
جنسية الإسلام وإصلاحه للبشر
ويحسن ختم هذه الفتوى بالتذكير بما كنا نوهنا به مرارًا من الركن الأعظم
لإصلاح الإسلام لشؤون البشر , وتمهيد طريق السعادة لهم , وبيان ذلك بالإيجاز:
أن مثارات شقاء البشر محصورة في اختلافهم في مقومات الاجتماع ومشخصاته
من العقائد واللغات والأوطان والأحكام والحكومات والأنساب؛ أي: العناصر
والأجناس كما يقول أهل هذا العصر، والأصناف كما يعبر علماء المنطق
والطبقات والتقاليد والعادات , وحسبك من هذا الأخير أن المختلفين في الأزياء من
أبناء الوطن الواحد المتفقين فيما عداه من روابط الاجتماع يتفاضلون فيه حتى يحتقر
بعضهم بعضًا…
جاء دين التوحيد والسلام (الإسلام) يرشد الناس كافة إلى المخرج من كل
نوع من أنواع هذا الاختلاف المثيرة لشقائهم , بالتعدي والتباغض بجمعهم على
دين واحد , موافق للفطرة البشرية مُرَقٍّ لها بالجمع بين مصالح الروح والجسد
(وهو الجنسية الدينية) ، ولغة واحدة يتخاطبون بها , ويتلقون معارفهم وآدابهم بها
(وهي الجنسية الاجتماعية الأدبية) وحكم واحد يساوي بينهم على اختلاف مللهم
ونحلهم (وهو الجنسية السياسية) ؛ فهو يزيل من بينهم التفاضل والتعالي بالأنساب
والامتياز بالطبقات، والتعادي باختلاف الأوطان والعادات، وأودع في تعاليمه
وأحكامه جواذب تجذبهم إلى ذلك باختيارهم بالتدريج الذي هو سنة الله في كل
تغيير يعرض لجماعات البشر {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11) .
وحسبنا هنا من الحجة على ذلك ما هو معلوم بالتواتر من أثره في نشأته
الأولى في خير القرون؛ إذ انتشر مع لغته وآدابه وسياسته وأحكامه في العالم
القديم , من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وطالما شرحنا أسباب ذلك من
آيات الكتاب والسنة وعمل الخلفاء وعلوم الأئمة.
وقد قلدته أمم الحضارة الكبرى في هذا العصر، فكل منها تبذل القناطر
المقنطرة من الذهب؛ لنشر دينها ولغتها , وتشريعها وآدابها وأحكامها في جميع
أقطار الأرض , مؤيدة ذلك بآلات القهر والتدمير البرية والبحرية والجوية، ولم
يبلغ تأثيرها في عدة قرون مع سهولة المواصلات , وتقارب الأقطار ودقة النظام
ما بلغه الإسلام في أقل من قرن واحد مع فقد هذه الوسائل كلها - ولو وضع نظام
للإمامة الكبرى (الخلافة) يكفل أصولها وأحكامها الشرعية؛ لعم الإسلام ولغته
العالم كله , ولتحققت به أمنية الحكماء فيما ينشدونه من المدنية الفاضلة قديمًا وحديثًا.
أهمل المسلمون هذه الفريضة الكافلة لجميع الفرائض والفضائل فما زالوا
يرجعون القهقرى، حتى بلغ بهم الخزي ما نسمع ونرى، وصار مستعبدوهم
ومستذلوهم يطمعون في تركهم , لما بقي من شريعتهم اختيارًا في الوقت الذي آن
لهم فيه أن يعرفوا أنفسهم , ويعرفوا قيمة دينهم وشرعهم , وينهضوا به؛ لإصلاح
أنفسهم , وتلافي سقوط حضارة العصر بإبادة بعض أهلها لبعض {فَاعْتَبِرُوا
يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
__________(25/21)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب عام فيما يجب على المسلمين
لبيت الله الحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 96-97) , {جَعَلَ
اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) , {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) , {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) .
أخبر الله تعالى عباده في آخر كتاب أنزله وكفل حفظه ـ وهو القرآن ـ على
لسان آخر نبي أرسله وأكمل به دينه العام، وهو محمد عليه أفضل الصلاة
والسلام، أن هذا المعبد المعروف بمكة أم القرى من بلاد العرب باسم الكعبة،
والبيت الحرام، والمسجد الحرام، هو أول بيت وضعه تعالى للناس كافة، وجعله
قيامًا، ومثابةً، وأمنًا، ومسجدًا، للناس كافة، سواء العاكف فيه من المقيمين حوله،
والبادي ممن يؤمونه من مؤمني سائر الأقطار لعبادة الله وحده، فمن دخله كان
آمنًا بتأمين الله تعالى على نفسه وماله وعرضه وشرفه، وحريته في قوله وفعله،
لا مسيطر عليه غير دين الله وشرعه - وجعل حجه ركنًا من أركان الإسلام،
وجعل الصد عنه وعن سبيله من شأن الكفار، وجعل إرادة الظلم والإلحاد إليه فيه،
كاقتراف الظلم في غيره، وجعل السيئات فيه مضاعفة العقاب، كما جعل الحسنات
مضاعفة الثواب، بل حرم سبحانه على لسان إبراهيم خليله ومحمد خاتم رسله
(عليهما الصلاة والسلام وعلى آلهما) الاعتداء في ذلك الحرم المحيط ببيته على كل
ذي حياة حيوانية أو نباتية، فلا يُعْضَد شجره ولا يُخْتَلى خلاه [1] ولا يحل فيه
الصيد ولا ترويع الحيوان، ولا يقتل فيه إلا الفواسق الضارة التي تقتل في الحل،
والحرم كالحيات والعقارب والفيران.
وقد صح في الأحاديث النبوية أنه يحرم من المدينة مثل ما يحرم من مكة،
وأن الإسلام يأرز بين المسجدين ويأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها،
أي: ينكمش وينقبض فيه ويعود إليه، وأنه لا يجوز أن يكون هنالك ولا فيما حوله
دينان، كما جاء في آخر ما أوصى به عليه الصلاة والسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن حج هذا البيت مفروض على كل من استطاع
إليه سبيلاً، وأن الأمة الإسلامية مطالبة به في جملتها، لا بد أن يؤديه في كل عام
بعض المستطيعين من أفرادها، وهو الركن الروحي البدني المالي الاجتماعي
السياسي من أركان دينها، فهي مطالبة بإقامة هذا الركن مع كل ما تتوقف عليه
إقامته، وكل ما أوجبه الله تعالى من حرمته وتأمينه، وتحقيق مقاصد الدين من ذلك.
ولا نطيل في تفصيل هذا، فهو مما لا يجهله مسلم في جملته، وإنما أتينا بهذه
المقدمة تمهيدًا لما نذكر بعدها من الخطر الحديث على هذا الركن الإسلامي , وعلى
حرم الله وحرم رسوله، وعلى كل ما شرع الله تعالى هنالك من عبادة ونسك
وإجلال، وتعظيم للشعائر والمشاعر العظام، التي تجدد في قلوب الحجاج
والمعتمرين روح الإسلام.
ومن المسلمات التي لا نزاع فيها أن ما أوجبه الله تعالى وشرعه لهذه البلاد ,
وما أوجبه فيها مما أجملنا التذكير به , لا يتم ولا يُضمَن في هذا الزمان إلا بجعل
هذه البلاد المقدسة مصونة من التعدي عليها، ومن جعلها عرضة للغزو
والقتال ـ ومحفوظة من أي تدخل أو نفوذ لغير المسلمين فيها، ولا سيما الدول
الاستعمارية القوية، وبإقامة حكومة شرعية لها تكون قادرة على حفظ الأمن والشرع،
وعاجزة عن الاستبداد والظلم، بمراقبة العالم الإسلامي لها، ومساعدته إياها بالرجال
والمال على الوجه الذي نقترحه بعد، فسكان الحجاز غير قادرين على ذلك حتمًا؛
لفقرهم وفقدهم المال والعلم اللذين يتوقف عليهما ذلك.
أيها المسلمون:
إنه لا يخفى على شعب من شعوبكم في مشارق الأرض ومغاربها أن الدولة
العثمانية كانت كافلة للحجاز، وممدة لحكومته وأهله بالرجال والمال، وكانت دولة
حربية مرهوبة، وذات حقوق دولية مرعية، ومعترف لها بمنصب الخلافة
الإسلامية، وهي مع هذا كله لم تؤد لهذا المكان، كل ما يجب له من الأمن
والعمران، ولم ترقِّ فيه العلم والعرفان، وإنما كان مصونًا بها من أن يهاجم بحرب
أو يمتد إليه نفوذ غير إسلامي، وقد زال بزوالها كل من الأمرين.
ذلك بأنها كانت قد نصبت في مكة أميرًا اسمه الشريف (حسين بن علي)
وأن هذا الأمير خرج عليها وحاربها في الحرب الأخيرة هو ومن أجاب دعوته إلى
قتالها، ووالى الدولة البريطانية وأحلافها، وأذاع بالدعاية العامة أنه يريد بذلك إنقاذ
البلاد العربية واستقلالها، وكانت دعواه في نفسها معقولة، ثم تبين أنها غير
صحيحة، فقد ظهر أنه استبد بالأمر، واتجر بالأمة وسمى نفسه (ملك البلاد
العربية) بغير مبايعة ولا رضا من أهل الحل والعقد في جزيرة العرب وهم الأئمة
والأمراء والعلماء في بلادها المستقلة كاليمن وتهامة ونجد، ولا في غيرها بالأولى،
بل جعل هؤلاء أعداء له , وهم يحيطون بالحجاز من كل جانب كما نبينه لكم
بالوثائق الرسمية، ورفض ما دعاه إليه أهل البصيرة من عقد روابط الحلف , وشد
أواخي الإخاء بينهم , ليكونوا كلهم أعوانًا على حفظ الحرمين الشريفين، وسياجهما
من جزيرة العرب أن ينالها عدوان أجنبي، أو يتسرب إليها نفوذ غير إسلامي،
عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم قبيل لقاء ربه في الرفيق الأعلى.
إن هذا الرجل لم يقدم على ادعاء التملك على الأمة العربية بأسرها , ويعادي
أمراء الجزيرة المقدسة على ما هو عليه من الضعف، ويعقد بانفراده مع الأجانب
المعاهدات السياسية والحربية باسم العرب , فيعطيهم من الحقوق السياسية
والعسكرية ما شاء حتى في الحرمين الشريفين، ومن رقبة البلاد بالاحتلال ما شاء؛
لم يفعل هذا كله إلا اعتمادًا على قوة هؤلاء الأجانب، فقد تواطأ واتفق معهم على
اقتسام السلطان , والنفوذ بينه وبينهم في مهد الإسلام من غير مشاورة أحد من
أصحاب الزعامة والسلطان كالأمراء والأئمة، ولا من أهل العلم والرأي في هذه
الأمة.
فهو بهذا وذاك قد أدخل النفوذ الأجنبي غير الإسلامي في الحجاز، وجعله
ملكًا سياسيًّا حربيًّا معرضًا للغزو والقتال، ولم يقف عند حد هاتين الجنايتين
الخارجيتين، بل استبد وظلم، وألحد في الحرم، كما نثبت ذلك بالحجج الآتية،
ولا غرض لنا إلاَّ بيان الواقع؛ ليعلم أمراء العرب وزعماؤهم. وعلماء المسلمين
وكبراؤهم , ما يجب عليهم من تغيير المنكر , ومنع الخطر المنتظر , ولو بإقناع
هذا الرجل بما يجب , وإقناع الحكومة الإنكليزية بترك معبد المسلمين الأكبر وقبلتهم
لهم , وعدم تصديها لها بحيل المعاهدات وغيرها , ونرى أن هذا خير لنا ولها من
ضم العداوة الدينية إلى العداوة السياسية , وهذا ما نريد بيانه من الوثائق وقد سبق
نشر بعضها.
***
وثائق الجناية الأولى
وضع الحجاز تحت النفوذ والسلطان الأجنبي
الأولى مقررات النهضة:
من المعلوم المشهور أن هذا الرجل يسمي خروجه وثورته التي هي افتيات
على العرب والإسلام (بالنهضة) , ومن أعياده الرسمية (عيد النهضة) ومن
أوسمته الملكية (وسام النهضة) , ويسمي المواد التي عرضها على الدولة البريطانية
والتزمها وقيد نفسه وأمته وبلادها بها بغير حق ولا أهلية (مقررات النهضة)
و (أساس النهضة) , وقد كان يكتم هذه المقررات ويضن بها على كل أحد حتى أولاده
قواد جيش ثورته - حتى إذا ما فثئت الحرب , وجاء وقت اقتسام الغنائم , ومنها
حصته من السلطان على البلاد العربية كلها في ظل الحماية البريطانية، أنكرت
عليه حليفته بريطانية العظمى ما يدعيه لنفسه منها - فحينئذ - سمح بإعطاء ولده
الأمير (فيصل) صورة (مقررات النهضة) ؛ ليناضل له بها، وقد اقتضت الحال
نشره إياها باسمه في جريدة المفيد التي كانت تصدر في دمشق على عهد إمارته لها،
ونقلتها عنها صحف كثيرة في مصر والهند وغيرها، وهذا نصها:
(1) تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني
الاستقلال في داخليتها وخارجيتها , وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس، ومن
الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب
والموصل الشمالية إلى نهر الفرات , ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس
ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية
المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب
في داخل هذه الحدود , بأنها تحل في محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق وتلك
الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد.
(2) تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها
من أي مداخلة , بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعد بأي شكل يكون , حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين
اندفاعه , وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي:
لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية [2] .
(3) تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة
الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية , ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود
يراعى فيه حالة احتياج الحكومة العربية , التي هي حكمها قاصرة في حضن
بريطانيا , وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال.
(4) تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية
من الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب.
(5) تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من
النقط في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد؛ لعدم استعدادها اهـ.
فملخص هذه المقررات: أن الدولة الإنكليزية هي صاحبة البلاد العربية ,
وأنها بما لها من حق التصرف فيها تؤسس لواضعها (أمير مكة) حمايتها في داخلها
وخارجها، حتى لو حصل قيام داخلي على ملكها في حرم الله تعالى أو حرم رسوله
صلى الله عليه وسلم كان على الإنكليز أن يساعدوه مادة ومعنًى على قمعه، ويدخل
في هذا إدخال جيوشها في الحرمين الشريفين؛ لأجل حفظ ملكه فيهما.
فما تقولون أيها المسلمون فيمن يعطي هذه الحقوق لدولة غير مسلمة في
الحرمين الشريفين وسياجهما؟ هل هو مشروع موافق لتلك الآيات القرآنية،
والأحاديث النبوية، والوصية المحمدية، والأحكام الإسلامية، التي ذكرناكم بها في
مقدمة هذا الخطاب؟ أم هو جناية على الحرمين وسياجهما ومشاعرهما , وعلى
الملة الإسلامية والأمة العربية فيجب عليكم السعي لإزالتها؟
إن الدولة البريطانية قد سجلت على هذا الرجل كل ما اعترف لها به من
الحقوق على أمته وبلادها في هذه المقررات وغيرها، ولكنها لم تجبه إلى كل ما
طلبه لنفسه منها، بل استثنت سورية الشمالية من المملكة العربية لأجل حليفتها
فرنسة، وحملته على الاعتراف بحقوق لها في سائر العراق، فلم تقنع بولاية البصرة
التي سمح لها من تلقاء نفسه.
***
الوثيقة الثانية
كونه موظفًا بريطانيًّا
إن هذا الرجل هو الذي انفرد بإعطاء الدولة الإنكليزية الحق بأن تؤسس له
دولة عربية تكون تحت حمايتها، وفي حكم القاصر في حضانتها، وهو الذي اختار
لنفسه أن يكون من جملة رؤساء الممالك المنضوية إلى كنف إمبراطوريتها، وكم
في هذه الإمبراطورية من ممالك تسمى مستقلة، وكم فيها من أمراء وملوك
وسلاطين , فلا غرو ولا عجب منه إذا صرح ونشر في جريدته (القبلة) ما
يصرح بأنه عامل موظف عندها , وأنه هو وأولاده كالبلاد رهن تصرفها , ونكتفي
بشاهدين على ذلك من جريدته القبلة:
(الشاهد الأول) :
لما علم هذا الرجل أن الحكومة البريطانية قررت عرض مطالبه على مؤتمر
الصلح , وإعطائه ما يقرره المجلس , أرسل كتابًا منه إلى نائب ملكها بمصر
بتاريخ 20 ذي القعدة 1336 نشره بعد ذلك مرارًا في جريدة القبلة , وقد جاء فيه ما
نصه:
(فإن كان ولابد (؟) من التعديل فلا لي (؟) سوى الاعتزال والانسحاب ,
ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا إلا أنه أمر (؟) يتعلق بالحياة، لا
لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وإنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها
الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء، ثم تعينوا (؟) البلاد التي تستحسن إقامتنا
فيها بالسفر إليها في أول فرصة) .
(وإن رأت ذلك ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقتضي بتأجيله إلى ختامها،
فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما سيتضاعف علينا من التهمات
ونحوه من العموم , مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حُسْنَ النية، فالأمر إليها) .
(أما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح فالجواب عليه من الآن بأنه لا
علاقة لنا به , ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر
المؤتمر المذكور إضعاف مقرراتنا , وكان ذلك من غير وساطتكم وقبلناها فنكن
(؟) من المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا) اهـ.
نقلنا هذا بحروفه حتى أغلاطه اللفظية عن العدد 391 من جريدة القبلة الذي
صدر بمكة المكرمة في 23 رمضان سنة 1338 , وهو نص في جعل هذا الرجل
إخلاصه في التابعية البريطانية تعبدًا , وأنه يقبل من الدولة الإنكليزية نفيه مع
أسرته من وطنه , ولا يقبل من سائر الدول إضعاف مقررات استقلال الحماية
لمصلحة الأمة , بل يعده كالكفر بالله والطرد من رحمته! ! !
(الشاهد الثاني) :
إنه قد استقال في هذا الكتاب من منصبه (ملك الحجاز) لدى الدولة
البريطانية استقالةً معلقةً , ويظهر أنه قد رفع استقالته إلى الحكومة البريطانية بلندن
مباشرةً بعد الاستقالة الضمنية بهذا الكتاب كما يفهم من نص البرقية الآتية التي
أرسلها إلى مدير جريدة التيمس الإنكليزية يتوسل بها إلى قبول استقالته التي
تكررت , وهذا نصها منقولاً من العدد 553 من جريدة القبلة:
المدير العمومي لصحيفة التيمس
(اطلعت على عددكم المشتمل الرد والقدح باتحاد العرب والتزامكم أحد
أمرائهم [3] ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب
البريطاني أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير المذكور
أو من تراه ليستلم البلاد فإن غايتي الراحة العمومية وخدمتها كما يعلم من أساسات
قيامي وشرائطه يؤيده طلبي هذا المثبت للحقيقة من سائر وجهاتها) .
وهذا نص صريح قطعي في اعتراف الملك حسين بأنه تابع للحكومة
الإنكليزية وخادم لها , وبأنها هي صاحبة الحق في عزله وتولية من تشاء على
الحجاز وغيره من بلاد العرب، وبأن هذا من (أساسات قيامه وشرائطه) يعني ما
يسميه مقررات النهضة، ولو لم يكن له إلا هذه الخزية لما احتيج إلى حجة غيرها
على جعل الحرمين الشريفين تحت السيادة البريطانية , ومن ضمن مستعمرات
التاج البريطاني، وكفى بذلك عداوة وإهانة للإسلام والمسلمين كافة، وإضاعة
لاستقلال العرب خاصة، توجب على مجموعهم التعاون على إزالة هذا المنكر
الأكبر والخطر الأعظم، فإن لم يفعلوا كانوا كلهم عصاة لله تعالى هادمين لأركان
دينه , ومحقرين لما أوجب عليهم من حفظ شعائره ومشاعره.
***
الوثيقة الثالثة
المعاهدة الجديدة:
خاب أمل هذا الرجل في الإنكليز , فلم يجعلوه ملكًا على جميع البلاد العربية
بقوتهم وسلطانهم كما اقترح عليهم في (مقررات النهضة) والحجاز وحده لا يشبع
مطامعه، وليس من مصلحة الإنكليز أن يقاتلوا أمراء جزيرة العرب لأجل
إخضاعهم له , وتحقيق جعله ملكًا عليهم , ولا أن يجعلوه حاكمًا من قلبهم على
العراق وفلسطين، لأنه على خضوعه لهم ليس عنده لين ولده فيصل ومرونته،
ولا فرق ولده عبد الله واستسلامه، وقد جعلوا الأول ملكًا على العراق؛ ليروض
لهم صعاب الشيعة الجامحة بشهرة نسبه وخلابة لسانه، ويسلس لهم قيادة رؤساء
الجند وزعماء الشعب , بدماثة نفسه وجود بنانه , وجعلوا الثاني أميرًا على شرق
الأردن؛ ليكف عن فلسطين عادية قبائل العرب , ويمكن لهم السلطان في هذه
المنطقة؛ فيؤسسوا فيها حظيرة الطيارات التي هي العمدة الأخيرة لهم في تذليل
جزيرة العرب وأمثالها , بدون نفقة كبيرة ولا سفك دماء من جندهم ـ ويمهدوا
بنفوذه في البدو طرق السيارات والدبابات في قلب البلاد العربية؛ تمهيدًا لما
سيشرعون به من مد سكة الحديد العسكرية الحربية بين فلسطين والعراق ليتصل
البحر الأحمر بخليج فارس، ولقد صدق عليه وعلى أخيه ظن وزير المستعمرات
البريطانية، فيما ضمنه لحكومته وأمته من تقليل نفقات الاستيلاء على هذه البلاد
العربية، ولكن أباهما لا يرضيه إلا أن يكون هو ملك البلاد العربية كلها كما لقب
نفسه، فهو ما زال يلح ويلحف في مطالبة الحكومة البريطانية بإنجاز وعدها له على
ما فيه، وما زالت تعرض عليه ما لا يرضيه، حتى جاءه الدكتور ناجي الأصيل
مندوبه لديها في شهر رمضان الماضي (سنة 1341) بالمعاهدة الجديدة فرضي بها ,
وأعلنها بمكة المكرمة في عيد الفطر , وأمر بأن يكون يوم إعلانها عيدًا سياسيًّا
للأمة العربية بأسرها، وأمضاها بالتوقيع الابتدائي مع طلب تعديل جزئي غير
جوهري في بعض موادها غير الأساسية.
وإننا نذكر هنا أهم مقاصدها السياسية , المنافية لمصلحة العرب والإسلام
المؤكدة لما تقدم من جعله الحجاز تحت سيادتها وحمايتها بمنتهى الإيجاز معتمدين
على ترجمة ما نشرته حكومة فلسطين الإنكليزية من الخلاصة الرسمية لها، وهي:
أهم غوائل المعاهدة الحجازية البريطانية:
(1) (تنص المادة الأولى على منع استعمال بلاد كل من الحكومتين قاعدة
لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى) هذا نص الخلاصة الرسمي , وفيه الغنم
للإنكليز، والغرم على العرب وغيرهم من المسلمين، فهي تسلب أهل البلاد
وغيرهم من حجاج الآفاق حرية التعاون والتشاور هنالك في أي مصلحة لهم في
دينهم ودنياهم , تعدها الدولة البريطانية (ضدها) وإن كانت خاصة بمصالح
المسلمين الدينية؛ كاضطهادها إياهم أو ظلمهم في أمر يتعلق بدينهم كالحج نفسه،
وما زال المستعمرون للبلاد الإسلامية يخافون أن يستيقظ المسلمون من رقادهم
الاجتماعي والسياسي , ويتعاونوا على مصالحهم الإسلامية المشتركة في هذا المجمع
العام، عند بيت الله الحرام، فأعطى الملك حسين كبراهن المسلطة على زهاء مائة
مليون مسلم مأربها، وليس لأهل الحجاز ولا لغيرهم من العرب أو المسلمين ولا
للملك حسين أدنى فائدة في مقابلة هذه الغائلة، فإن الحكومة البريطانية لا تستطيع
أن تمنع أهل بلادها مثل هذه الحرية , الذي يتعهد ملك الحجاز بمنعها منه؛ إذ يرى
أنه مالك لرقاب أهله ونواصي كل من لا حامي له من دول الأجانب ممن يحج بيت
الله فيه، فإن الحرية في بلاد الإنكليز أقوى من كل معاهدة تعقدها أي حكومة فيها،
ولكن ملك الحجاز يظن أن حكومة الإنكليز تستطيع أن تعمل في لندن وليفربول كل
ما يستطيع هو أن يفعله في أهل مكة وجدة المستضعفين المستعبدين.
على أن الإنكليز أبرع خلق الله في التفصي من قيود المعاهدات التي يعقدونها
مع الدول الكبرى بالتاويل كما قال أعظم ساسة أوربا في عصره: البرنس (بسمارك)
فكيف يبالون بضعيف رضي لنفسه ولقومه سيادتهم عليهم؟ فإذا فرضنا أن بعض
الإنكليز في بلادهم , أو بعض رعاياهم من مسلمي الهند قاموا بعمل ضد حكومة
الحجاز , ولم تمنعهم حكومتهم، فهل يستطيع ملك الحجاز أن يثبت ذلك ويكره
الحكومة الإنكليزية على منعهم؟ لا، لا، لا.
(2) من قضايا المادة الثانية تعهد ملك الإنكليز بتعضيد استقلال البلاد
العربية التي اعترف باستقلالها، بالمعنى الذي لا ينافي الانتداب , ولا الحماية بدليل
كون فلسطين والعراق منها، وهذا التعهد يعطيه حق التدخل في شؤون هذه البلاد
الداخلية باسم التعضيد ومنها الحجاز واليمن ونجد، كما جعلت حكومته وحكومة
فرنسا لأنفسهما حقًّا في عزل ملك اليونان , بحجة أنهما وعدتا بتعضيد استقلالها، وأن
أعمال ذلك الملك تنافي الاستقلال.
(3) تتضمن هذه المادة إقرار الانتداب على العراق وعلى فلسطين أيضًا،
وعبر عن هذا فيها بأن ملك الحجاز (يعترف بالمركز الخاص الذي لملك الإنكليز
فيهما) وما هو إلا الانتداب ولوازمه، ومنه الاعتراف بعهد بلفور في جعل هذه
البلاد وطنًا لليهود، وتتضمن فوق هذا تعهد ملك الحجاز ببذل غاية جهده في
التعاون مع ملك الإنكليز , على القيام بتعهداته في البلاد العربية (ومنها عهد بلفور
والاتفاق مع فرنسة على سورية) .
(4) في المادة الخامسة (يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء , يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي تقرر نهائيًّا) وهذا نص صريح بإعطاء الإنكليز حق حماية الحجاز , ولهذا
صرح الملك حسين بأن هذه المعاهدة مبنية على أساس مقررات النهضة , وسيأتي
نص عبارته في هذا.
(5) تنص المادة السادسة على تعيين وكلاء سياسيين , وقناصل للإنكليز
في الحجاج , وفي البلاد البريطانية للحجاز ـ والحجاز في غنى عن هذا التدخل
الأجنبي السياسي بما سيجيء بعد.
(6) يعترف ملك الحجاز في المادة السابعة للإنكليز بحق الحجر الصحي
على حجاج الشرق والجنوب، ويعترف له ملك الإنكليز بالتدابير المتممة لذلك في
ثغور الحجاز، وفي كل من الأمرين سيادة لملك الإنكليز على الحجاز , وتحكم في
الحجاز، فإن القانون الدولي يعطي لكل دولة الحق بأن تحجر على الموبوئين ,
الذين يريدون دخول بلادها، وملك الحجاز أعطى حقه هذا للإنكليز , واستمد من
ملكهم حق الأعمال المتممة له في بلاده هو؛ أي: الحجاز , ولم يسمح بمثل الحق
للحكومة المصرية الإسلامية، وما ذلك إلا أنه يعد نفسه تابعًا للدولة البريطانية كما تقدم
في الوثائق السابقة.
(7) يتعهد ملك الحجاز في المادة الثامنة بأن لا يتدخل في التدابير التي
يتخذها ملك الحجاز للاعتناء بالحجاج، ويتعهد ملك الحجاز بتعضيد المساعي التي
يبذلها مسلمو الرعايا البريطانيين؛ لمساعدة الحجاج في الحجاز، فالأول مبني على
الاعتراف بسيادة ملك الإنكليز على الحجاز؛ إذ لا معنى لتعهده بعدم التدخل في
أمر الاعتناء بالحجاج , إلا أن هذا وأمثاله من حقه وقد أباحه لملك الحجاز،
والثاني مما أنكر ملك الحجاز مثله على الحكومة المصرية؛ إذ أرسلت مع ركب
الحج المصري بعثة طبية , فلم يقبلها محتجًّا بأن قبولها ينافي الاستقلال , أليس معنى
هذا أن استقلاله واقع في ضمن دائرة الإمبراطورية البريطانية التي تضم
كثيرًا من المستعمرات التي تسمى مستقلة؟
(8) المادة التاسعة (تنص على تعيين مبلغ محدود يفرض على كل حاج)
وهي معترضة من ثلاثة أوجه:
(أحدها) : أن ضرب إتاوة أو غرامة على كل من يحج بيت الله تعالى
محرم في الشريعة الإسلامية بالإجماع , يدخل في عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) وعموم {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 41) فقد قال تعالى في شأن بيته: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} (آل عمران: 97) وهو كفرض الضرائب على الصلاة والصيام، ومن يستحل
ذلك يعد مرتدًّا عن الإسلام، ويعد أيضًا من الصد عن سبيل الله، ويدخل في عموم
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنَّاسِ} (الحج: 25) ... إلخ.
(ثانيها) : أن وضع هذا التعدي على شرع الله ودينه , وحجاج بيته
الداخلين في أمانه ـ في معاهدة مع دولة غير إسلامية , لا يعقل له سبب إلا
الاستعانة بها على تنفيذه، والاعتماد على حمايتها في قهر جميع المسلمين على
الإذعان له.
(ثالثها) : أنه قد يكون مثار فتن بين الحكومات الإسلامية وبين ملك
الحجاز , تؤدي إلى تدخل هذه الدولة الحامية في الحجاز؛ لتنفيذ عمل محرم في
الإسلام يعد مستحله والراضي به كافرًا خارجًا منه. ذلك بأنه إذا امتنع حجاج نجد
واليمن وتهامة من جيران الحجاز عن دفع هذه الضريبة , فلا سبيل إلى تنفيذها إلا
أن يجبرهم ملك الحجاز عليها أو يصدهم عن أداء الفريضة بقوة السلاح وهو غير
قادر على ذلك بنفسه , فإذا قاوموه وحاولوا دخول الحرم بالقوة , لا يكون له معول
في صدهم إلا على إرسال الجند البريطاني؛ ليحيطوا بالحرم الشريف؛ ويصدوا
عنه هؤلاء الحجاج , تنفيذًا لهذه المعاهدة ولمقررات النهضة.
(9) المادة الحادية عشرة وما بعدها إلى السادسة عشرة , في امتيازات
قضائية للدولة البريطانية في الحجاز , تنافي الاستقلال الصحيح وتنفيذ الشرع
الإسلامي فيه، وتؤكد ما تقدم بيانه.
هذه بعض غوائل هذه المعاهدة ومفاسدها، وقد انفرد هذا الرجل المستبد في
حرم الله تعالى بالتعاقد مع الإنكليز عليها، كأن حرم الله تعالى وحرم رسوله ملك له
يتصرف فيه كما يشاء , لا يتقيد بنص شرعي ولا بمشاورة أحد من أمراء المسلمين
وعلمائهم. فإن قيل: إن المعاهدة لما تمض وتوضع موضع التنفيذ. قلنا: نعم،
ولكن السبب الأول لذلك هو رفض الفلسطينيين لها، ولا تزال المفاوضات بين هذا
الرجل وبين الإنكليز دائرةً في حل المسألة الفلسطينية لأجل تنفيذها، والراجح أن
مجيئه إلى فلسطين يقصد به قبل كل شيء إقناع أهلها بنص خادع فيها؛ إذ لم
ينخدعوا بالنص الأول.
***
الوثيقة الثالثة
اتخاذ يوم إعلان هذه المعاهدة عيدًا
جاء في العدد 688 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 5 شوال
سنة 1342 بعد بيان الاحتفال الرسمي بعيد الفطر ما نصه:
عيد على عيد
إعلان استقلال العرب ووحدتهم في جميع الجزيرة العربية
ولما استقر بجلالة المنقذ المقام، في بهو الاستقبال العام، مثل بين يدي
جلالته الأشراف والسادة العلماء , والأعيان والوجهاء وأماثل الأمة على اختلاف
طبقاتها حاضرها وباديها، وحينذاك تفضل جلالته , ففاه بخطاب ملوكي سامٍ، حمد
الله فيه وأثنى عليه , ثم أشار إلى أن هذا العيد المبارك لا شك في تضاعف يمنه
حيث صادق قبول المراجع الإجابية [4] لجميع المطالب العربية، فلا ريب في أنه
يوم اجتمع فيه عيدان: عيد الفطر السعيد , وعيد الاعتراف باستقلال العرب
ووحدتهم , وعليه فجلالته يعلن ذلك للأمة العربية حاضرها وباديها، وعلى أثر ذلك
أمر جلالته صاحب الإقبال رئيس الديوان العالي , أن يلقي في ذلك المحفل الجليل
الخطاب الملوكي الهاشمي الآتي وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(نصرح في هذا العيد المبارك بمآل المعاهدة العربية البريطانية , المؤسسة
على مقرراتنا الأساسية والتي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا , باستقلال
العرب بجزيرتهم وسائر بلادهم، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية؛
لتأسيس الوحدة العامة الشاملة , لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق
الأردن وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب (ما خلا عدن) فنأمر أن يعتبر هذا
اليوم المبارك عيد الاعتراف باستقلال الأمة العربية والله ولي التوفيق) انتهى.
هذا نص خطاب الملك الرسمي بحروفه، وقد نشرت جريدة القبلة عقبه خطابًا
ألقاه الدكتور ناجي الأصيل , سمسار هذه الخديعة , وحسبنا التصريح الرسمي من
الملك حسين بأن هذا الاستقلال مبني على أساس نهضته؛ أي: حماية الإنكليز لبلاد
العرب ووصايتهم على أهلها , كما علم من الوثيقة الأولى , ولكن الناس يغفلون عند
القراءة فيظنون أن المراد الاستقلال الحقيقي المطلق من كل قيد.
ولهذا يتعجب بعضهم من تصريحه هو وأولاده وجريدته (القبلة) تسمية
العراق وشرق الأردن مستقلة , فليس معنى الاستقلال عندهم , إلا جعل الدولة
الإنكليزية إياهم ملوكًا وأمراءً في البلاد العربية تحت حمايتها؛ إذ يعدون هذه البلاد
ملكًا لها. فلو سمي عبد الله أو أخوه زيد ملكًا على سوريا؛ أي: المدن الأربع
منها صارت مستقلةً عندهم، وصار الانتداب مساعدةً ومحالفةً في عرفهم.
***
الوثيقة الرابعة
خداع أهل فلسطين
بينا أن المعاهدة العربية البريطانية مشتملة على إقرار الانتداب وعهد بلفور
ضمنًا , ولكن الملك حُسَيْنًا قد أرسل البرقية الآتية إلى أهل فلسطين ونشرت في
جرائدها والجرائد المصرية وهذا نصها:
إلى عموم أهالي فلسطين
رغبةً في وقوفكم على الحقيقة , وضرورة إعلانها للعموم , لقد صرحنا
في هذا العيد المبارك بمآل معاهدتنا العربية البريطانية , المؤسسة على مقرراتنا
الأساسية التي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا باستقلال العرب في
جزيرتهم وسائر بلادهم , ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية لتأسيس
الوحدة العامة الشاملة , لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق الأردن ,
وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب ما خلا عدن. وهذا من منن الباري علينا،
وعلى عظمتها بالوفاء بمواعيدنا وأقوالنا للعرب رغمًا عما نسبوني، وعظمتها إليه ,
من هضم حقوقهم وكل ما يرمونا به , ولا نشك أن هذا العيد المبارك سيعتبر أيضًا
عيدًا ميمونًا باستقلال الأمة العربية , ولا أحتاج لتحذيركم عن إحداث أي شيء يخل
بالراحة والسكون بأي صورة كانت , لما في ذلك من ضياع الحقوق , فإنكم
المسؤولون عن ذلك وباقي المعاملات تردكم عقب هذا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين
هذه البرقية هي التي حملت حكومة فلسطين الإنكليزية الصهيونية على نشر
خلاصة المعاهدة , التي كان الملك حسين قد كتمها , وأراد إقناع أهل فلسطين
وسائر العرب بقبولها , والإذعان لها ثقةً ببيانه هو ـ كما فعل بمقررات النهضة
منذ بدأ بالثورة فكانت جريدته (القبلة) , وجريدة الكوكب التي أنشأها الإنكليز
بمصر وغيرها من الجرائد المستأجرة للإنكليز , يُذِعْنَ في العالم أن الأمة العربية قد
ضمن لها استقلالها , وإعادة مجدها بولائها لإنكلترة وحلفائها.
ولما نشرت خلاصة المعاهدة , وعلم أنها مقررة للانتداب لا نافية له بلغ
رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني الملك حسين ذلك , فأجابه الملك ببرقية
هذا نصها: (أحسنوا الظن) وفاته أن اليقين لا ينقض بالظن , وأن تقليد أهل
فلسطين له وهم على علم بالحقيقة محال , فهم لم يقبلوا برقيته ولا غيرها , مما
نشر في جريدته الكاذبة الخاطئة من المكابرة , وتكذيب حكومة فلسطين وجرائد
العالم… بل ألفوا مؤتمرًا قرروا فيه عدم الاعتراف بالمعاهدة , وبأن ملك الحجاز لا
يملك أن يقرر شيئًا في شأن بلادهم افتئاتًا عليهم , وبلغوه ذلك هو والدولة البريطانية -
ولا نطيل بنشر ما لم ننشر من الوثائق في ذلك؛ لقرب العهد بها، وعلمنا أنه
لا يكابرنا أحد فيها.
ولقد كان من عجب العقلاء الذي لا ينتهي أن ملكًا ينفرد بوضع نصوص
معاهدة سياسية مع أدهى دول الأرض , وأحذقهن وأدقهن في استعمال الألفاظ القابلة
للتأويل، ثم إنه يفسر هذه المعاهدة بخلاف المتبادر من نصها , ويخاطب بذلك أهل
بلاد واسعة؛ ليحملهم على الرضا بإضاعة وطنهم , وجعل رقبته وحكمه لغيرهم،
ويخطئ كل من يخالفه في ذلك حتى حكومة فلسطين البريطانية , والجرائد
الإنكليزية - دع العربية وغيرها - ومن شاء فليراجع في ذلك (العدد 690و 696
من جريدة القبلة , والمنشور الرسمي في العدد 701 الذي يرد به على المصريين
خاصةً. ثم يعلم أنه قد ظهر للعالم كله أنه هو المخطئ فيما فهمه أو ما نشره مخالفًا
لفهمه فيرجع عنه. وجه العجب الذي لم يعرف له نظير أن الملك حُسَيْنًا إن كان قد
نشر ما نشر من تفسيره المعاهدة المخالف لنصها , وهو يفهم معنى النص فتلك
خيانة توجب عدم الثقة بقوله وعمله وأمانته، وإن كان نشره وهو لا يفهم معناه ,
ولم يفهمه إياه نائبه لدى الدولة البريطانية , ولا ناظر خارجيته فالمصيبة أعظم؛ إذ
هو حجة على أنه ليس أهلاً لعقد المحالفات ولا لتولي الأحكام , ولا لنصب العمال -
إذ يكون معتمده لدى الدولة البريطانية , ووزير خارجيته قد خاناه بكتمان معنى
المعاهدة , حتى حملاه على التصريح بتضمنها؛ لاستقلال جميع البلاد العربية - ما
عدا عدنا - وبحمل أهل فلسطين على قبولها، ثم ظهر الأمر وافتضح، وبقي
الرجلان موضع ثقته في أعماله السياسية الدولية! .
على أن الظاهر المتبادر هو الأول , وهو أنه صرح بما صرح به على علم بأنه
عبودية للإنكليز لا استقلال , كما إنه اغتبط باحتفال ولده الأمير عبد الله باستقلال شرق الأردن , ونشر ما قيل فيه بجريدته , وهو يعلم أنها تحت الوصاية البريطانية
والتي لا تنافي الاستقلال عنده بل تقتضيه.
***
طور آخر وتصريح جديد
بعد هذا نشرت جريدته في العدد 732 الذي صدر في 19 ربيع الأول سنة
1342 مقالاً , ذكرت فيه أنه صرح لبعض الحجاج من البلاد العربية المختلفة بما
يدل على اعتراف بخطئه , فيما صرح به في أول شوال وما كتبه بمعناه لأهل
فلسطين , وهو كسائر كلامه المتعارض أو المتناقض وهذا نصه:
(يهمني من جميع البلاد العربية ما يهمني من أمر بيت الله الحرام , وقد عرضت
على الحكومة البريطانية معاهدةً , وجدت في بعض موادها ما لم يتفق مع العهود
المقطوعة لي , التي تأسست عليها أعمال النهضة , فعدلت تلك المعاهدة تعديلاً هامًّا
نصصت فيه على استقلال فلسطين استقلالاً مطلقًا , يخول للفلسطينيين إدارة بلادهم
بأنفسهم , واختيارهم طريقة الحكم التي يريدونها , وبذلك جعلت وعد بلفور في حكم
أنه لم يصدر، وقضي عليه بالموت , وفوق ذلك فإنني طلبت في التعديل أنه بعد عقد
المعاهدة , يؤمر المندوب السامي بفلسطين أن يصرح - بحضور مندوب من قبلي
أمام ممثلي فلسطين - باستقلال الأقطار الفلسطينية استقلالاً تامًّا مطلقًا , ودخولها
صراحةً في الوحدة العربية طبقًا للعهود البريطانية المقطوعة لي، وأؤكد لكم أنه إذا
لم تقبل الحكومة البريطانية التعديلات التي طلبتها , فلا يمكن أن أوقع على المعاهدة
بل أرفضها رفضًا باتًّا , وكونوا على ثقة أنه لا يمكن أن يذهب شبر من أراضي
فلسطين وأنا وأولادي أحياء على وجه الأرض , فإنا نحافظ على أحقر قرية في
فلسطين محافظتنا على بيت الله الحرام , ونريق في سبيل ذلك آخر نقطة في دمائنا،
وعلى كل حال فإنني بعد انتهاء أمر المعاهدة , سأحضر بنفسي إلى أطراف تلك
البلاد , فإذا ورد جواب لندن على مطالبي بالإيجاب , أستشيركم في طريقة الحكم
التي تريدونها , وإذا ورد جوابها بالسلب , أستشيركم فيما يجب عمله , وإني أسير
معكم على ما تتفقون عليه، وكونوا على ثقة أنني أنظر إلى أهل فلسطين نظري
إلى أولادي , ولا أفرق في ذلك بين مسلم ومسيحي ويهودي وطني , ومن يرجع
من الصهيونيين عن أطماعه البلفورية، وإنني أشهد الله على ذلك، وهو حسبي ونعم
الوكيل) اهـ.
وسنبين غرضه من هذا التصريح عند ذكر نتيجة هذه الوثائق كلها.
***
الجناية الثانية عداؤه لأمراء جزيرة العرب
وتعريضه الحرمين الشريفين للغزو والقتال
لو شئنا لأتينا بوثائق كثيرة من جريدة القبلة , تثبت هذه الجناية كالمنشورات
الرسمية الصادرة باسم الملك حسين في الطعن بدين أهل نجد وتكفيرهم , وزعمه
أنه يجب على ولي أمر المسلمين يعني (نفسه) عقابهم الذي يقتضيه الشرع؛ أي:
قتالهم قتال أهل الردة , وغير ذلك من التحرش بهم والتصريح بعداوتهم ,
والاستعداد لقتالهم والاعتداء عليهم بالفعل: (كمنشور 9 شوال سنة 1336 الذي
نشر في عدد 202 من جريدة القبلة المؤرخ 24 منه - والمنشور الذي نشرته في
غرة ربيع الأول سنة 1337 - والمنشور الذي نشرته في 8 جمادى الأولى سنة
1337) وكالتصريح بغزوه لبلاد عسير بعد وفاة السيد محمد الإدريسي بالقوة
الحربية والفتح الهاشمي , ولكنا نستغني عن إيراد النصوص في ذلك من أعداد
جريدته , بالتصريح الأخير الذي بين فيه ما كان يكتمه من معنى الوحدة العربية
عنده , وهو إخضاع جميع أمراء جزيرة العرب لملكه , وما يراه من تقسيم البلاد
وإدارة حكومتها بالقوة القاهرة، وهو الوثيقة الخامسة.
***
الوثيقة الخامسة
التفسير الرسمي للوحدة العربية
جاء في صدر العدد 737 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 6
ربيع الآخر سنة 1342 (بيان عام من اللجنة التنفيذية لمؤتمر الجزيرة) بإمضاء
رئيس لجنتها التنفيذية (محمد بن علوي) جعل عنوانه (هذا بلاغ للناس) وذكر
فيه أن اللجنة تشرفت بالمثول بين يدي الملك حسين للوقوف على ما وصلت إليه
القضية العربية , فصرح لها بأمور أهمها عندنا: تفسيره للوحدة العربية التي ملأ
الدنيا تنويهًا بها , وانخدع كثير من العرب الذين يصدقون دعايته , بأنها هي التي
تؤلف بين العرب وتوحد قوتهم - كما انخدعوا بمؤتمر الجزيرة الذي يستخدمه في
ذلك، فتبين الآن من هذا التفسير أن هذه الوحدة عين الفرقة وأنه لا غرض له من
هذه الدعاية إلا إذلال العرب والاستيلاء عليهم بقوة الأجانب الحامين له، وطالما
بين الناصحون العارفون هذا قولاً وكتابةً - ولا سيما المنار - فارتاب في نصحهم
الخادعون والمخدعون وعدوه عداوةً شخصيةً له، حتى صدقهم الملك حسين نفسه،
وهذا نص تصريحه بحروفه:
(إن نهضتي عندما آن أوانها الذي قضت به قدرته جل شأنه , قبل خلق
العالم وكرتنا بما فيها من موجوداتها قد رسمتها على الأساس الآتي: وهو وحدة
البلاد العربية واستقلالها , بحيث تكون خارجيتها وعسكريتها وسياستها العامة واحدة
أما داخليتها فالإمارات المعروفة بجزيرة العرب تكون على ما كانت عليه قبل
الحرب , وإن كل أمير في أي أمارة من هذه الإمارات الموروثة لهم من آبائهم
وأجدادهم , يستقل بداخليته ضمن الحدود التي كانت عليها إمارته قبل الحرب،
بشرط أن يرتبط مع المجموع الذي كل من خرج عنه منهم أو شذ بالخروج عن
الجامعة العربية يحكم عليه المجموع بمقتضى قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9) . وأما ما كان خارجًا عن حدود تلك الإمارات
, سواء كانت تلك الإمارات قائمة بذاتها ضمن حدودها , أو طرأ عليها الاغتصاب
كعسير قبل الحرب وابن رشيد بعد الهدنة , فلا بد من عودتهم إلى ما كانوا عليه
كعودة الإمام يحيى إلى صنعاء فيكون أمرها (أي: تلك المقاطعات بما فيها الحجاز
الخارجة عن حدود تلك الإمارات) منوطًا برأي عموم أهاليها , يعينون رياساتها
وكيفية تشكيلاتها , وإداراتها بالشكل الذي يستنسبونه بشرط المحافظة على الوحدة
والارتباط , وهي القاعدة التي ذكرتها آنفًا) .
وهنا تبرأ مما هو محسوس ومشهود من تهالكه على طلب الرياسة له
ولأبنائه ثم قال:
(وإنني أمقت التداخل الأجنبي وسياسة الاغتصاب , والاعتداء في داخلية
الجزيرة مما هو مشهود من اغتصاب بعض الأمراء لإمارة إخوانه , فإنني أجده
من أكبر الفظائع أمام حِسِّيَّاتي المذكورة؛ إذ إن النهضة ومؤسساتها هي لحفظ حقوق
الجميع وليست لتمييز فريق على فريق , (إلى أن قال بصدد هذا الاعتداء الذي سماه
أجنبيًّا) : (ولذلك فهذه هي الخطة التي عليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن
شاء الله من الآمنين , لذا فلا بد من إعادة آل رشيد وآل عايض إلى إمارتهم
وحدودهم وقبائلهم التي كانوا عليها , إعادة كل أمير من أمراء الجزيرة إلى ما كان
عليه قبل الحرب , وإني لثابت (بقدرة الله تعالى) على هذا الحس والشعور أمام
التجاوزات الأجنبية , إذا أصر أربابها على مطامعهم الحاضرة , المخالفة لمقرراتهم
(الصواب لمقرراتنا) التي تأسست عليها النهضة , والمخالفة لكل عدل حتى لما
جاهروا به من بعد ومن قبل , هذا الذي أدين الله عليه ولو لم تبقَ إلا ذاتي وحياتي
لأنفقتها في هذا السبيل , لا أريد بذلك جزاءً ولا شكورًا إلا خدمة العرب خاصةً
والإسلام عامةً , والأعمال بالنيات (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) اهـ.
هذا نص ألفاظ الملك حسين حتى إننا لم نصحح كلمة (لمقرراتهم التي
تأسست عليها النهضة) مع القطع بأن لفظ لمقرراتهم غلط من المطبعة , أو سبق
لسان أو قلم منه لأن (مقررات النهضة) له لا لأولئك الأجانب في عرفه وهم
أمراء العربية. ويتلخص هذا التصريح بالأمور الآتية:
(1) جعل جميع البلاد العربية (وهو يسمي نفسه ملكها) دولة واحدة ,
تكون سياستها الخارجية وعسكريتها وإدارتها العامة واحدة.
(2) تغيير شكل إمارات جزيرة العرب الحاضرة بانتزاع بلاد حايل وعشائر
شمر من سلطنة نجد , وإعادتها إلى آل الرشيد - وانتزاع بلاد عسير التي كانت
لآل عايض من سلطنة نجد , وإمارة الإدريسي وإعادتها إليهم - وانتزاع إقليم
الحديدة من الإدريسي , وجميع ما بيد الإمام يحيى , مما كان للدولة العثمانية من بلاد
اليمن , واستشارة أهل هذه البلاد كالحجاز في شكل الإدارة التي يحبون أن تكون
في بلادهم , واختيار رؤسائها في ظل وحدته.
(3) إعطاء إمارات الجزيرة الموجودة الموروثة حق الإدارة الداخلية ,
بشرط الخضوع لملك العرب العام , واتباعه في السياسة الخارجية والعسكرية
والإدارة العامة.
(4) أن من يأبى الخضوع لما تقدم يعد خارجًا عن أمر الله وحدود دينه ,
فيقاتل قتالاً دينيًّا , حتى يرجع إلى أمر الله (يعني: أمره هو بما ذكر؛ إذ لم يأمر
الله بذلك) .
(5) أن هذه الوحدة بهذه الصورة الدينية مبنية على مقررات النهضة
المتضمنة لحماية الدولة البريطانية لجميع البلاد العربية.
(6) أن هذه الكليات الخمس عقيدة دينية للملك حسين يدين الله بها , فلا
يرجع هو ولا أولاده عنها , ولو لم تبقَ إلا ذاته وحياته لأنفقها في سبيل تنفيذها.
ولا يخفى أن هذا التصريح الرسمي يتضمن جعل هذه الإمارات كلها في حالة
حرب معه، فعلى أي قوة يعتمد في هذا؟ وهل هو مغرور في اتكاله على نجابة
(الحسيات البريطانية) هذه المرة كما انخدع من قبل ومن بعد على ما نقل عنه
المغرورون بأقواله، أم هو على ثقة من إنجاز وعدها له؟ أم هو متكل على بعض
أهل شرق الأردن وسوريا وفلسطين الرازحين تحت أوزار الوصاية البريطانية
والفرنسية , لا يملكون من أمرهم شيئًا فيملكوا أن يعطوه قوةً حربيةً , يقاتل بها أهل
نجد واليمن وتهامة ويخضعوهم لوحدته العربية، أو قوة دينية بمبايعتهم إياه بالخلافة
تخضع بها أمراء جزيرة العرب الثلاثة لأمره ونهيه , معتقدين أن تلك المبايعة
جعلته إمامهم الشرعي؟ ؟ !
لقد كان أنصار الملك حسين وأولاده من مأجورين ومغرورين , يزعمون أنه
هو الزعيم الوحيد الذي وجه عنايته للوحدة العربية , التي لا رجاء في حياة الأمة
العربية وحفظ استقلالها بدونها , على حين يتقاتل الإمام يحيى والسيد الإدريسي
على حدود بلادهما؛ طمعًا في ربح كل من الآخر ويقاتل السلطان ابن سعود الأمير
ابن الرشيد فيضم بلاده إلى إمارته , ويعتدي أحيانًا على حدود الحجاز (قالوا) :
فإذا كان الملك حسين هو الساعي إلى الاتفاق الذي يجمع كلمة الجميع , فيجب على
كل عربي مخلص لأمته أن يشد أزره , ويجاهد تحت لوائه ويغفر له ما أَلَمَّ أو يُلِمُّ به
من سيئة بإزاء هذه الحسنة الكبرى , التي هي أم الحسنات ويؤاخذ أولئك الأمراء
حتى على الهفوة، لأنها تؤيد أكبر الكبائر وهي الفرقة.
وكان أهل البصيرة من واضعي أساس الجامعة العربية وغيرهم يقولون
لهؤلاء: إننا كنا ظننا كما ظننتم أن الرجل يريد جمع كلمة العرب على أساس
قاعدتنا المعقولة , التي أظهر هو وأولاده الموافقة لنا عليها، وهي تحالف أهل
البلاد المستقلة المسلحة على حفظ الاستقلال، والتعاون على عمران البلاد، وتأليف
مجلس تحكيم لحل مسائل الخلاف، والتوسل بهذه الوحدة الحلفية، إلى الوحدة التامة
التي سبقتهم إلى مثلها الشعوب القوية. ثم علمنا بالاختبار الدقيق له، والاطلاع
على أسس نهضته، إنه إنما يسعى لقتل الأمة العربية وهدم استقلالها بمساعدة
الدولة البريطانية , على ضمها إلى إمبراطوريتها المرنة , على أن تجعله ملكًا على
البلاد كلِّها تحت وصايتها وحمايتها (كما تقدم في الوثائق السابقة) , ومن امتناعه
المرة بعد المرة , عن إجابة ما دعاه إليه مؤسسو الجامعة العربية , من عقد التحالف
مع أمراء الجزيرة على قاعدتهم التي ذكرت آنفًا , وكان من أعوانهم لديه على ذلك
ولداه عبد الله وفيصل , والشواهد والوثائق والدلائل على هذا كثيرة , أشرنا إلى
بعضها في أول الكلام على هذه الجناية، ولم يبقَ للاستدلال بها حاجة، فقد قطعت
جهيزة قول كل خطيب - أقر الخصم وارتفع النزاع -
كان الملك حسين في أول العهد بالثورة , يظهر لمؤسسي الجامعة العربية
ودعاة وحدتها موافقتهم على رأيهم , ويرجئ إجابة دعوتهم ويسوف فيها , حتى لا
يرتابوا فيه ويعرقلوا عمله , على حين كان يصرح لمن يعتقد أنهم يخدمونه في
اتفاقه مع الإنكليز , على استعباد الأمة العربية قائلاً: من هؤلاء الكلاب حتى أتفق
معهم؟ اليوم يوجد في الدنيا ابن سعود , وغدًا لا يكون في الدنيا ابن سعود، اليوم
يوجد في اليمن إمام مطاع، وفي تهامة إدريسي مملك وغدًا لا يبقى في البلاد غير
ملك واحد وإمام واحد ـ أو ما هذا مآله كما نقله المنار الصادق مرارًا ـ وكان ...
المأجورون والمغرورون يكابرون وينتقدون , وقد انقطعت اليوم جميع الألسنة
الخادعة والمخدوعة , التي كانت تكثر اللفظ في تولية الرجل زعامة العرب وتسميته
بملك العرب والبلاد العربية، على تلك القاعدة الكاذبة الريائية.
وقد صرحت إحدى جرائد هذا الحزب بخطته في هذه الأيام , في سياق بث
الدعوة لزيارته لأطراف سوريا وهي الجريدة التي يعبر عنها في جريدته (القبلة)
بقوله: (لسان حال أقوامنا) وهي تصدر في القدس بماله وما يفيضه عليها ولده
الأمير عبد الله , ومال الدولة البريطانية التي صرح أحد رجالها بأنهم جعلوها
(مقطم فلسطين) فقد نشر صاحبها مقالة افتتاحية في العدد 465 الذي صدر في 21
جمادى الأولى , موضوعها (القضية العربية جزيرة العرب ركنها وقوتها) تكلم
فيها على صلابة أهل الجزيرة وقوتهم، وضعف أهل سوريا والعراق , وسهولة
تغلب خصوم القضية العربية عليهم دون أهل الجزيرة.
ثم بين أن (في الجزيرة ثلاث قوات يجب إحلالها محلها اللائق بها من رعاية
العرب واهتمامهم هي: قوة سلطان نجد , وقوة إمام اليمن (قال الكاتب) : وكل
منهما ارتجاعية متأخرة، وقوة الحجاز وما يتبع الحجاز من البلاد كالعراق
والشرق [5] ثم صرح بأن الحجاز دون نجد واليمن قوة عسكرية. (قال) : ولكنه
يفوقهما بطشًا واستعدادًا , إذا ألحقنا به الشرق والعراق فعرب سوريا والعراق
وفلسطين , يميلون بمصلحتهم وتربيتهم وأخلاقهم وصلتهم؛ لتأييد ملك الحجاز في
سعيه وعمله) .
ثم ذكر أن الجزيرة صارت بعد خروج الترك منها تحت رحمة الحكومات
الثلاث، وأن حكومة نجد توسعت بإزاحة إمارة ابن الرشيد , وحكومة اليمن
توسعت في الجنوب حتى حضرموت، وأن حكومة الحجاز واقفة موقف المعارضة
لكل منهما , ولكنها لا تستطيع أن تعمل شيئًا لحاجتها إلى تكوين الاتحاد العربي من
الحجاز والشرق والعراق , (قال) : (ففي نجد وحدة مكونة، وفي اليمن كذلك،
وأما الوحدة الثالثة أو الاتحاد الثالث فلا يزال في دور التكوين , ولا يعلم أحد متى
يتم؟ وكيف يكون؟
(قال) : (والذي نراه هو أن حكومات هذا الاتحاد ستقف موقفًا صعبًا أمام
حكومتي الجزيرة في اليمن ونجد , فلا هي تستطيع التغلب عليهما وإرجاعهما عن
مطامعها إلى الحق والصواب , ولا يوافقها القبول بما تم؛ لأنه يساعد على اختلال
التوازن في الجزيرة , وإيجاد عهد حروب ومشاغبات فيها , وكل حكومة عربية
(مستقلة) تنشأ في سوريا أو العراق , ولا تتكل على دولة من الدول الأوربية تظل
ضعيفةً مهددةً في حياتها الداخلية ما بقيت نجد في قلق , ثائرة على كل ما نسميه
نحن نظامًا، وبقيت اليمن في حالتها الحاضرة) اهـ.
هذا بيان صحيح لما يقصده الملك حسين من الوحدة العربية؛ لضرب العرب
واخضاعهم للاستعمار الأوربي , الذي يظل مهددًا في العراق وسورية , ما دامت نجد
واليمن قويتين هذا سبب تحبيذ صاحب هذه الجريدة له , وهو خادم للأجانب ليس
مسلمًا فيغار على الحرمين الشريفين , ولا من عرق عربي فيغار على العرب وقد
خانهم وغشهم رجال من أشهر بيوتاتهم , وإنما الذي نخشاه أن ينخدع بعض أهل
بلادنا السورية باسم الوحدة العربية الذي يميلون إليه , ويريدون منه غير ما يريده
الملك حسين. أما وقد ظهر لهم ما يريده فلن ينال من أحد ذي قيمة منهم تأييدًا , ولا
تفويضًا ولا مبايعة لسحق قوة العرب (بالاتكال على دولة أجنبية) .
لم يبقَ بعد هذا التصريح الرسمي مجال لحزب مذبذب , يخدع الناس بقول
الملك حسين باستقلال العرب والوحدة العربية، بل أصبحت الأمة العربية حزبين لا
ثالث لهما: حزب الجامعة العربية الذي يسعى للوحدة العربية , من طريق عقد
التحالف والتأليف بين الأمراء , بإقرار كل منهم في بلاده؛ لوقاية البلاد من
المطامع الاستعمارية الغربية , والتمهيد للاتحاد الاختياري مع التعاون الودي بين
العرب وسائر الشعوب الشرقية، والحزب الشريفي الاستعماري , الذي يسعى
لإرغام جميع أمراء العرب بالقوة الحربية على التابعية (لملك العرب) بتسليمه
أزمة السياسية الخارجية والقوى العسكرية والإدارة العامة، في ظل السيادة
والوصاية البريطانية.
ومن المعلوم بالضرورة لجميع المشتغلين بالسياسة , وأولي الإلمام بحال البلاد
العربية أن الملك حُسَيْنًا الذي وضع هذه الخطة من اليوم الأول الذي تصدى فيه
للمسألة العربية , لا يملك القوة التي يرغم بها أمراء جزيرة العرب عليها , وأنه
ليس أمامه قوة يعتمد عليها إلا قوة الدولة البريطانية , وأنه لأجل هذا جعل ما يسميه
النهضة العربية مبنيًّا على أساس الخضوع للسيادة والوصاية البريطانية، فلأجل
هذا سَمَّيْنَا هذا الحزب (الشريفي الاستعماري) ويصح أن يسمى البريطاني؛ أي: الذي يسعى من حيث يدري زعماؤه ويجهل دهماؤه , إلى جعل الحجاز
وسائر جزيرة العرب كالعراق , وفلسطين , وشرق الأردن تحت الوصاية
البريطانية، ويتبع ذلك بقاء سائر سوريا تحت الوصاية الفرنسية أيضًا لاتفاق
الدولتين على ذلك , وعلى تسميته استقلال.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أي: لا يقطع شجره ويقلع حشيشه إلا ما رخص فيه النبي من قلع الإذخر , لوضعه على الموتى عند الدفن وهو نبات طيب الرائحة.
(2) توهم واضع هذا القيد أنه احترس به عن جعل الاحتلال دائمًا جهلاً منه باحتلال مصر , وبأنه لا يمكن له ولا هي تمكنه من إتمام ما ذكر.
(3) يعني: سلطان نجد؛ إذ كانت التيمس قد أثنت في ذلك العدد عليه.
(4) هذه الكلمة من الاصطلاحات التركية , وهي بمعنى أولي الأمر والمراد هنا: الحكومة الإنكليزية؛ لأنها في عرف ملك الحجاز ولية أمر الحجاز , وسائر العرب والوصية عليهم كما سيأتي.
(5) من المعلوم قطعيًّا أن العراق وشرق الأردن غير تابعين للحجاز في شيء من أمر الحكومة , فالمراد: أنهما تتبعانه في قتال أهل نجد واليمن , وتذليلهما وهذا إنما يكون إذا أمرت به الحكومة البريطانية , فهل جاء وقته عندها؟ .(25/33)
الكاتب: محمد أمين الحسيني
__________
تحديد سن الزواج بتشريع قانوني
صدر في أوائل هذا الشهر قانون مصري , حددت فيه سن الزواج للذكر
بثماني عشرة سنةً , وللأنثى بست عشرة سنةً , ومنع فيها سماع القضاة أية دعوى
زوجية , تقل فيها سن أحد الزوجين عن هذا الحد مطلقًا؛ أي: وإن كانا بالغين
رشيدين.
وقد بني هذا التشريع على قول فقهاء الحنفية , بجواز تخصيص القضاء في
الزمان والمكان ونوع الأحكام , بفتوى من مفتي الديار المصرية شيخ الجامع
الأزهر، فاضطرب القطر المصري بهذا القانون أي اضطراب؛ أنكره جمهور
فقهاء الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية , فيما يظهر لنا من كلامهم ومن المقالات
التي نشرت في الجرائد، وحسنه وانتصر له الشيخ محمد الخضري بك فرد عليه
بعضهم، وقد سألنا كثير من الفضلاء عن رأينا فيه فبينا لهم أهم ما فيه من المفاسد
الراجحة، وما قصد به من المصلحة المرجوحة، وكون الحكومة العثمانية قد سبقت
الحكومة المصرية إلى مثل هذا التحديد منذ بضع سنين , فوضعته في مشروع
قانون سموه (قرار حقوق العائلة في النكاح المدني والطلاق) وصدرت إرادة
السلطان محمد رشاد في 8 المحرم سنة 1336 , بأن يعمل به على أن يكلف
المجلس العمومي (أي: المبعوثين والأعيان) جعله قانونًا , وذكرت لهم أن ما
وضعه العثمانيون خير مما وضعته الحكومة المصرية وأضمن للمصلحة , وأبعد
عن المفاسد الكثيرة التي يستلزمها القانون المصري , ومنها ما هو محرم بالنص
والإجماع، وذكرت لهم بعض المسائل ,وضربت الأمثال وقد تكرر الاقتراح علي
بأن أكتب ما أراه في ذلك , فرأيت أن أبدأ بما وضعته الحكومة العثمانية , وهو ما
جاء في اللائحة التي جعلت مقدمة لمشروع القانون المذكور , مبينة الأسباب
الموجبة له وهذه ترجمته بالعربية:
***
أهلية النكاح
(يرى الإمام أبو يوسف والإمام محمد رحمهما الله أن الذكور والإناث إذا
وصلوا إلى الخامسة عشرة من سني حياتهم , ولم تظهر عليهم آثار البلوغ يعدون
بالغين حكمًا , بناء على الغالب والشائع , وتكون عقودهم معتبرة , وكذلك الإمام
مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهم الله تعالى كلهم رأوا ذلك. وقد بنيت
المادتان 986 و 987 من المجلة على قول هؤلاء) .
(نعم إن الذين يبلغون الخامسة عشرة من سني حياتهم , يكونون في الأكثر
بالغين، وقد يوجد فيهم من هم غير بالغين بالفعل؛ أي: إن قواهم البدنية لم تكمل
بعد، فجعل هؤلاء تابعين للأكثرية ومنحهم حقوقًا لا يقدرون على تحملها , يستلزم
تحميلهم وظائف وواجبات مقابل تلك الحقوق تؤدي في العاقبة إلى ضررهم. وإذا
علمنا أن الشرع الشريف مع إنه اعتبر الخامسة عشرة غاية البلوغ , لم يستعجل في
إعطاء الصغير ماله عند بلوغه , بل منعه من التصرف فيه إلى أن تظهر عليه
علائم الرشد والسداد؛ نعلم أنه يتأنى في تحميل الصغار حقوقًا ووظائفًا. والنكاح لا
يقاس على المال؛ لأنه الرابطة لتكون الأسر التي هي أجزاء الجمعية البشرية.
وكلما كانت الأفراد التي تتألف منها الأسرة تقدر حقوق الزوجية حق قدرها ,
تكون الأسرة التي تتألف منها قوية , ويكون ارتباطها مع الأسر الأخرى صميميًّا
ومتينًا، فاعتبار الصغار بالغين حكمًا لمجرد إكمالهم الخامسة عشرة , ومنحهم حق
الزواج يستفاد منه أنه لم ينظر إلى النكاح بالعناية اللائقة به.
والذي يستدعي مزيد الرحمة في هذه المسألة هو حالة البنات؛ إذ من المعلوم
أن الزوج والزوجة هما مشتركان في تأليف الأسر (البيوت) وإدارتها , ففي السن
التي يكون الأطفال فيها معذورين بإضاعة أوقاتهم باللعب في الأزقة , تكون البنت
في مثلها مشغولة بأداء وظيفة من أثقل الوظائف في نظر الجمعية البشرية , وهي
كونها والدة ومدبرة أمور أسرة. وإن صيرورة بنت مسكينة لم يكمل نموها البدني
أُمًّا يضعف أعصابها إلى آخر العمر , ويكسبها عللاً مختلفةً , ويكون الولد الذي تلده
ضاويًا (ضعيفًا هزيلاً) مغلوبًا للمزاج العصبي , وذلك من جملة أسباب تدلي
العنصر الإسلامي.
على أن ابن عباس رضي الله عنهما وتابعيه يقولون: إن سن البلوغ هي
الثامنة عشرة , كما أن بعض أجلة الفقهاء يذهبون إلى أنها الثانية والعشرون , بل
يوجد بينهم من يقول: إنها الخامسة والعشرون , والإمام الأعظم رحمه الله قد اعتمد
تمام الثامنة عشرة نهاية لسن البلوغ في الذكور , وتمام السابعة عشرة نهاية لسن
البلوغ في الإناث احتياطًا وتبعًا لابن عباس رضي الله عنهما، لذلك قبل قول الإمام
المشار إليه هذا في النكاح , ووضعت المادة الرابعة [1] على هذا الأساس؛ منعًا
لهذه الأحوال التي هي من أعظم مصائب مملكتنا.
(وهذا نصها) :
المادة 4- يشترط في أهلية النكاح أن يكون الخاطب في سن الثامنة عشرة
فأكثر , والمخطوبة في سن السابعة عشرة فأكثر.
وقد قبل قول الإمام محمد رضي الله عنه باشتراط رضاء الولي في نكاح
المراهقة , التي تدعى أنها بالغة وتريد أن تزوج نفسها من آخر، وتعليق الإذن لها
بالزواج على إجازة الولي، وقوله بإعطاء الحاكم حق النظر في تحمل المراهق
والمراهقة , اللذين يريدان التزوج ويدعيان أنهما بالغان , أو عدم تحملهما للزواج،
كما قرر ذلك جميع الأئمة رضوان الله عليهم، وبنيت المادتان الخامسة والسادسة
على هذا الأساس (وهذا نصهما) :
المادة 5 - إذا ادعى المراهق الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره البلوغ
فللحاكم أن يأذن له بالزواج إذا كانت هيئته محتملة.
المادة 6 - إذا ادعت المراهقة التي لم تتم السابعة عشرة من عمرها البلوغ
فللحاكم الشرعي أن يأذن لها بالزواج , إذا كانت هيئتها أيضًا محتملة , ووليها أذن
بذلك.
***
تزويج الصغير والصغيرة
إن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجازوا للولي تزويج الصغير والصغيرة ,
ولذلك كانت المعاملة حتى الآن جارية على هذا الوجه , لكن تبدل الأحوال في
زماننا , قد اقتضى العمل بأصول أخرى في هذا الباب.
إن أول وظيفة تترتب على الأبوين في كل زمان , وخاصة هذا الزمان الذي
اشتد فيه التنازع في شؤون الحياة هي: تعليمهم , وتربيتهم , وإيصالهم إلى حالة
تكفل لهم الظفر في معترك الحياة , وتمكنهم من تأليف أسرة منتظمة , ولكن الآباء
عندنا في الغالب يهملون أمر تعليم أولادهم وترببتهم , ويخطبون لهم الزوجات وهم
في المهد , بقصد أن يسروا بهم أو يكسبوهم ميراثًا , وفي النتيجة يزوج أولئك
التعساء قبل أن يروا شيئًا من الدنيا , وتكون أعراسهم أساس مصائبهم الآتية.
إن أكثر البيوت التي يؤلفها أمثال هؤلاء الأولاد , الذين لم يدرسوا في مدرسة
ولا تعلموا كلمة واحدة من أمور دينهم , فضلاً عن عدم تعلمهم قراءة لغتهم وكتابتها
يحكم عليها بالتفرق من أول شهور الزفاف كالجنين الذي يولد ميتًا. وهذا أحد
الأسباب في وهن أساس البيوت عندنا، ولا يعرف مقدار الدعاوى المتولدة من مثل
هذه الأنكحة إلا بالنظر في سجلات المحاكم الشرعية والرجوع إلى أبواب الكتب
الفقهية , وفصولها المتعلقة بتزويج الأب والجد صغيرهما، وتزويج غير الأب والجد
من الأولياء الصغير، وما أعطي للصغير والصغيرة من حق الخيار عند البلوغ
إذا كان المزوج غير الأب والجد.
على أن ابن شبرمة وأبا بكر الأصم رحمهما الله يقولان بأن الولاية على
الصغار مبنية على منافعهم، وفي الأحوال التي لا يحتاج فيها إليها: كقبول
التبرعات مثلاً لا يكون لأحد فيها حق الولاية عليهم , وتزويجهم ليس فيه من فائدة
لا طبعًا ولا شرعًا نظرًا لعدم احتياجهم إليه , لذلك لا يجوز تزويجهم قبل البلوغ من
قبل أحد ألبتة. وقالا: إن النكاح ليس بشيء مؤقت , بل هو عقد يدوم ما دامت
الحياة , فإذا جعل النكاح الذي يعقده أولياء الصغار نافذًا عليهم , فإن آثاره وأحكامه
تستمر بعد بلوغهم أيضًا , في حين أنه لا يجوز لأحد أن يقوم بعمل يسلب منهم
حرية التصرف بعد البلوغ , وحيث إن التجارب المؤلمة المستمرة منذ عصور قد
أيدت قول الإمامين المشار إليهما , فقد قبل رأيهما في هذه المسألة , ووضعت المادة
السابعة على هذا الوجه (وهذا نصها) :
المادة 7 - لا يجوز لأحد أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة من
عمره , ولا الصغيرة التي لم تتم التاسعة من عمرها.
***
تزويج الكبيرة نفسها
إن الكبيرة قادرة على تزويج نفسها بناءً على المذهب المختار , وإنما للولي
حق الاعتراض في أحوال محدودة. على أن إزالة أمثال تلك العوارض قبل النكاح
أولى من فسخه بعد تكوين الأسرة , باعتراض الولي , وأوفق لمصلحة الطرفين ,
وفي المذهب المالكي أن الكبيرة إذا رفعت أمرها إلى الحاكم تطلب تزويج نفسها من
آخر؛ فعليه أن يتعرف حالها من الجيران، وإذا كان وليها موجودًا يأخذ رأيه في
ذلك، فإذا رأى أن الاعتراضات التي يوردها الولي غير واردة , يعين وكيلاً لتزويج
تلك البنت , وفي الحقيقة أن إخبار الولي واستطلاع رأيه على هذه الصورة يدفع
المحذور المذكور، ولذلك استحسن إخبار الولي عند مراجعة الكبير الحاكم لأجل
الإذن , ووضعت المادة الثامنة على هذا الأساس (وهذا نصها) :
المادة 8- إذا راجعت الكبيرة التي لم تتم السابعة عشرة الحاكم بقصد التزوج
بشخص , يخبر الحاكم وليها بذلك , فإذا لم يعترض الولي أو كان اعتراضه غير
وارد , يأذن لها بالزواج.
(المنار)
هذه ما قررته الحكومة العثمانية في المسألة كما تقدم في فاتحة هذا البحث،
وورد في الصحف أن حكومة أنقرة التركية عادت إلى البحث في هذا القانون ,
وأبقت المواد التي ذكرناها على ما كانت عليه.
وأما الحكومة المصرية فقد أصدرت ثلاث مواد قانونية , حددت فيها سن
الزواج بمثل الباعث الذي بعث الحكومة العثمانية إلى تحديدها , ولكنها زادت على
ذلك منع سماع أي دعوى تتعلق بالزوجية , إذا كانت سن الزوجين دون ما حددته
إلا بأمر خاص من الملك , فكان هذا مثار القيل والقال والإنكار من رجال الشرع
كما تقدم، وها نحن أولاء ننشر نص هذه المواد , ونص المذكرة التي وضعها
بعض رجال المحاكم الشرعية في مدركها الشرعي، ووافق عليه مفتي الديار
المصرية وشيخ الجامع الأزهر , ثم نقفي على ذلك بما ينبغي بيانه في الموضوع:
***
نص قانون الزواج (رقم 56)
الذي وضعته الحكومة المصرية
المادة الأولى:
يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها:
(ولا تسمع دعوى الزوجية , إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة
وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة وقت العقد إلا بأمر منا) .
المادة الثانية:
يضاف على المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: (ولا
يجوز مباشرة عقد الزواج , ولا المصادقة على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا
القانون , ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة , وسن الزوج ثماني عشرة سنة وقت
العقد) .
المادة الثالثة:
على وزير الحقانية تنفيذ هذا القانون , ويسري العمل به بعد ثلاثين يومًا من
تاريخ نشره في الجريدة الرسمية [2] .
***
صورة المذكرة الملحقة بهذا القانون
مما اتفقت عليه كلمة علماء الفقه الإسلامي أن الصغير والصغيرة غير
العاقلين , إذا باشرا عقد الزواج فالعقد باطل لا يقبل الإجازة , لا من وليهما ولا
منهما بعد البلوغ، وهذا من بديهيات التشريع؛ لأن أي عقد سواء كان عقد زواج
أم غيره , يعتمد فهم المقصود منه، فما لم يكن متوليه من أهل الفهم فهو عمل لغو
وعبث.
كذلك مما اتفقت عليه علماء الحنفية , أنه بعد بلوغ الصغير والصغيرة ليس
لأحد ولاية إجبار عليهما في عقد الزواج؛ لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل ,
وقد كانت الولاية عليهما؛ لضرورة قصورهما عن الاهتداء إلى الصالح في
شؤونهما , وبالبلوغ زال هذا القصور فيزول ما كان لضرورته.
وقد اختلف علماء الفقه الإسلامي في صحة عقدهما , إذا بلغا سن التمييز قبل
أن يبلغا الحلم , فمنهم من يرى صحة العقد موقوفًا نفاذه على إجازة الولي , ومنهم
من يرى بطلانه وعدم توقفه , كما إذا عقدا غير مميزين، وقال بالأول علماء
الحنفية , وقال بالثاني علماء الشافعية.
واختلفوا أيضًا في صحة تولي الولي عقد زواجهما جبرًا عليهما قبل البلوغ ,
فمنهم من قال بصحته وعمم في الولي الذي له هذا الحق فجعله العاصب بترتيب
الإرث , بل زاد بعضهم باقي الأقارب، ومنهم من قصره على الأب والجد , ومنهم
من قصره على الأب فقط، وبعضهم قال بعدم صحة تولي العقد جبرًا عليهما من أي
شخص كان مستدلاً بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح} (النساء:
6) فجعل حد بلوغ النكاح هو ما به يصلح لتولي شؤون أمواله , وهو ما إذا
وصل إلى سن البلوغ رشيدًا , وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح اليتيمة حتى
تستأمر) واليتيمة هي القاصرة عن درجة البلوغ؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:
(لا يتم بعد الحلم) فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن نكاح اليتيمة , ومد النهي
إلى استئمارها، ولا تصلح لأن تستأمر إلا بعد البلوغ فكأنه قال: حتى تبلغ.
وللبلوغ أمارات كثيرة: أضبطها السن، وأقصى الأقوال في تقديره أنه سن
ثماني عشرة سنة , وقد أخذ بهذا القول في الولاية المالية , ولذا حددت سن الرشد
فيه ببلوغ السن المذكورة.
من هذا يعلم أن لبعض علماء الشريعة الإسلامية قولاً , بأنه لا ولاية إجبار على
الصغير والصغيرة لأحد في عقد الزواج , وأن سن البلوغ أقصاه ثماني عشرة سنة.
ومن حيث إن عقد الزواج له من الأهمية في الحالة الاجتماعية منزلة عظمى
من جهة سعادة المعيشة المنزلية , أو شقائها والعناية بالنسل وإهماله , وقد تطورت
الحالة المتبعة , بحيث أصبحت تتطلب المعيشة المنزلية استعدادًا كبيرًا؛ لحسن
القيام بها , ولا يستأهل الزوج والزوجة لذلك غالبًا قبل سن الرشد المالي , فمن
المصلحة الواضحة منع الزواج قبله؛ لأنه إذا كان لا يباح لهما قبل بلوغ سن الرشد
المالي , أن يتصرفا فيما قيمته دراهم معدودة , مع أن الضرر المنظور محدود
وغير ملازم للحياة , فلأن لا يباح لهما التصرف في أنفسهما بعقد الزواج وآثاره إن
خيرًا وإن شرًّا , قد لا تزول طول حياتهما - أولى وأوجه.
كذلك لما كان عقد الزواج يرجع الأمر فيه أولاً إلى الزوجين , وهما اللذان
يتأثران بنتائجه مباشرةً , فإما أن يكونا به سعيدين , وإما أن يكونا به شقيين , فإن
الواجب أن يكون الخيار إليهما فيه , وتراعى إرادتهما قبل كل إرادة , وليس لإرادة
غيرهما إلا حق النصح والمشورة , بحيث لا تعوقانهما عما يريان المصلحة لهما فيه
وكان من اللازم أن يناط سن الزواج بسن الرشد المالي , بالنسبة لكل من
الزوجين , ولكن لما كانت بنية الأنثى تستحكم وتقوى , قبل استحكام بنية الصبي
وما يلزم لتأهل البنت لمعيشة الزوجية , يتدارك في زمن أقل مما يلزم الصبي،
كان من المناسب أن يناط سن زواج الأنثى ببلوغ ست عشرة سنة , والصبي ببلوغ
ثماني عشرة سنة.
هذا إلى أن المنصوص عليه شرعًا , أن لولي الأمر ولاية تخصيص القضاء
بالزمان والمكان والحادثة , فله أن يولي القضاء في زمن معين دون غيره , وفي
مكان معين دون غيره , وفي نوع من المسائل دون غيرها , حتى لو قضى القاضي
فيما لم يوكل أمره إليه كان قضاؤه باطلاً. وله أيضًا أن يأمر بسماع الدعوى فيما
منع سماعها فيه , وقد تدعو الضرورة إلى ذلك.
ومن حيث إن المصلحة واضحة فيما ذكر لما بيناه , فلا مانع شرعًا من أن
يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها:
(ولا تسمع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة ,
وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنةً وقت العقد إلا بأمر منا) , ويضاف على
المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: (ولا يجوز مباشرة عقد
الزواج ولا المصادقة , على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون , ما لم تكن
سن الزوجة ست عشرة سنةً , وسن الزوج ثماني عشرة سنةً وقت العقدِ) ومرفق
بهذا مشروع التعديل المنوه عنه.
عبد السلام علي ... ... ... طه حبيب ... ... عبد المجيد سليم ... ... ... ... ... ... مفتش المحاكم الشرعية ... نائب محكمة بني سويف ... نائب محكمة
... الشرعية ... مصرالشرعية
... ... ... ...
أوافق على أن مذهب الحنفية لا يمنع من ذلك , لما نص عليه من أن القضاء
يتخصص بالزمان والمكان والحادثة.
... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن قراعة
... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية
اطلعت على بعض كتب الحنفية , فرأيت فيها أن لولي الأمر تخصيص
القضاء بالزمان والمكان والحادثة. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أبوالفضل
(أطلب النقد في الجزء الآتي) ... شيخ الجامع الأزهر
***
منشور في المهور
من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى (في القدس)
إلى حضرات القضاة والمفتين , والخطباء والمدرسين , ومأذوني عقود
الأنكحة والمسلمين عامة في فلسطين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً} (الروم: 21) .
لما كان بقاء هذا العالم متوقفًا على التناسل بالزواج الشرعي , الذي تتكون
منه الأسرة والأمم، وتتقوى بفضله أواصر المودة والقربى بين الناس، وكانت
الأمم التي لا تستن بسنته، ولا تسير على منهاجه قليلة النسل، معرضة لخطر
الانحطاط والاضمحلال، كان من أقدس الواجبات تسهيل الزواج , وتقريب سبله
على الطالبين , ورفع الموانع التي تحول دونه أو تقلل منه.
ولسنا نفيض في فوائد الزواج، فقد أقره الشرع والعقل والطبع، واجتمع فيه
من الفضائل ما لم يجتمع في غيره من أحكام الشرع، قال بعض الفقهاء: (ليس لنا
عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن , ثم تستمر إلا النكاح والإيمان) وجاء في
الحديث الشريف: (لا رهبانية في الإسلام، ( ... وأتزوج النساء فمن رغب
عن سنتي فليس مني) .
وفي الزواج صون الزوجين عن الفاحشة، وحفظ لهما من الرزوح تحت
أعباء نفقات المعيشة الطائلة، بما يرزقهما الله من الذرية الصالحة.
ولم تشأ حكمة الشارع أن تجعل هذا الأمر الخطير صعب المنال , لا يستطيعه
إلا أولو القوة واليسار من الناس، بل مهدت لمن يرغب فيه كل سبيل، وجعلته
بحيث يستطيعه كل من الأغنياء والفقراء؛ إذ إنها لم تشترط فيه سوى الكفاءة
ورضاء الطرفين , وكلمتين خفيفتين على اللسان يتبادلهما الزوجان [3] من إيجاب
وقبول، وقدرت له شيئًا يسيرًا سمته مهرًا، وجعلت أقله عشرة دراهم فضة معجلة
أو مؤجلة، واجتازته بلا تسمية شيء تسهيلاً على الطالبين، وتيسيرًا للراغبين.
فقد جاء في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن يريد الزواج ولا
يجد ما ينفق: (التمس ولو خاتمًا من حديد) وقال لآخر: (زوجتكها بما معك من
القرآن) ، وقال بعض الأئمة: (إن ما يجوز أن يكون ثمنًا في البيع يجوز أن يكون
مهرًا) .
والإغراق في المهر مكروه , بدليل ما روي عن عائشة - رضي الله عنها -
أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يُمن المرأة تسهيل أمرها،
وقلة صداقها) [4] ، وقال عروة: وأنا أقول من عندي: ومن شؤمها تعسير أمرها،
وكثرة صداقها.
وقالت أيضًا - رضي الله عنها -: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أدخل امراة على زوجها قبل أن يعطيها شيئًا [5] ، وفي صحيح ابن ماجه: أنه عليه
السلام تزوج عائشة - رضي الله عنها - على متاع بيت قيمته خمسون درهمًا , وأنه
أولم على صفية بسويق وتمر. وعن عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - قالتا:
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على علي ,
فعمدنا إلى البيت ففرشناه ترابًا لينًا من أعراض البطحاء , ثم حشونا مرفقتين ليفًا
فنشفناه بأيدينا , ثم أطعمنا تمرًا وزبيبًا وسقينا ماء عذبًا، وعمدنا إلى عود فعرضناه في
جانب البيت؛ ليلقي عليه الثوب ويعلق عليه السقاء، فما رأينا عرسًا أحسن من عرس
فاطمة رضي الله عنها.
وقال عمر - رضي الله عنه -: (لا تغالوا في صداق النساء , فإنه لو كانت
مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله , كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه
وسلم) .
ولم يزل أمر الزواج من السهولة على ما وصفنا , إلى أن تبدلت الأحوال
فأفرط الناس في المهور، وغلوا في النفقات، ووقعوا في الإسراف الممقوت،
والتبذير المنهي عنه، فقل الزواج والنسل، وكثر الفجور والفحش، وفسدت
الأخلاق ووهنت الأجسام , وضعفت العقول، إلى غير ذلك مما يسبب انحطاط
الأمة , وتدهورها في هاوية الشقاء والبؤس والعياذ بالله.
وقد لفت هذا الأمر نظر الحكومة العثمانية في الماضي , ففكرت في سوء
عاقبة هذا الإسراف في المهر والجهاز وتوابعه، والولائم المتخذة فيه، واهتمت له
اهتمامًا لائقًا به، فبينت محاذيره , وما ينجم عن توالي محنه وتتابع نكباته، ورأت
أن اجتثاث جذور هذه العادة من بلادها أعظم واجب يكون فيه الخير، فأصدرت
الإعلان المنشور في الجزء الأول من الدستور (صحيفة 494) ذكرت فيه ما حاق
بالناس من شر الإسراف والتبذير في المهور، والولائم المتخذة في الأعراس
وحرمان الكثيرين رجالاً ونساءً بسبب ذلك من الزواج، وبقاء من تزوج منهم
رازحًا تحت أعباء الديون، واضطرار المحرومين منه إلى الوقوع في الجنايات
الجسيمة، وزجهم في أعماق السجون، وارتكاب الفتيات عار الفرار، وغيره مما
مزق حجاب صونهن وعفافهن، وجر الويلات على عائلاتهن، وأدام الأمراض
الفتاكة فيهم، ورمى الأمة بالنقص في النفوس والثمرات. إلى آخر ما جاء فيه.
وقد قسمت الناس أربعة أقسام: قدرت للفريق الأول (1000) قرش وللثاني
(500) قرش وللثالث (100) ولم تقدر للرابع شيئًا. وأسهبت في بيان وتحديد
ما يجب اتخاذه من الأطعمة والأكسية وغيرها، وقضت على كل من لم يأتمر
بأحكام هذا الإعلان بالعقاب الزاجر، والجزاء العادل , ولم يشغلها ما دهم من
الحروب الأخيرة عن هذا الأمر , بل ظلت مثابرة على عملها، وتنفيذ رغبتها، وسنت
من عهد قريب قانونًا آخر , منعت فيه التبذير والإسراف في الزواج وتوابعه؛
لإعمار بلادها، وتكثير النسل , وإعداد الرجال، وقسمت فيه الناس ثلاثة أقسام،
وأمرت بأن لا يزيد الفريق الأول في المهر على (5000) قرش , والثاني على
2500 قرش , والثالث على 500 قرش , ومنعت كل ما فيه إتلاف الأموال،
وتعسير أمر الزواج إلى آخر ما جاء فيه من المنافع الحيوية المادية والمعنوية.
ولما رأى المجلس الإسلامي الأعلى الثقافي هذا الأمر , وعدم وقوفه عند حد،
وتحقق أنه إن دام انهماك هؤلاء المبذرين , الذين كانوا إخوان الشياطين في جر
الويلات على أفراد الأمة , مما يبتدعونه ويتفننون به من بذل المهور الطائلة،
وتوطيد دعائم هذه البدع السيئة؛ ابتغاء الفخر الكاذب، والزهو الباطل، تضمحل
الأمة , وتسقط في أدنى دركات الانحطاط والشقاء، لذلك عقد النية على تطبيق
أحكام ذلك الإعلان، فقرر تبليغ القضاة والمفتين الكرام ومأذوني النكاح بأن
يطلعوا على ذلك المنشور والقانون المذكور , ويتبعوا أحسن ما جاء فيهما جهد
المستطاع، وبالصورة الممكنة، وأن يشكل في البلاد لجان من مفتيها وقاضيها
وأهل الدين والزعامة فيها؛ لتكليف المدرسين والوعاظ والخطباء وأهل الفضل
حمل الناس على ما ذكر من الاعتدال في المهر، والبعد عن الإسراف، وإرشادهم
إلى تسهيل أمر الزواج , وتخفيض المهور، وبيان المنافع المتحققة من ذلك،
وتعداد المضارّ والمفاسد الناجمة من عكسه، إلى آخر ما يفتحه الله عليهم مما يسهل
اتباع هذه السنة الحسنة والخير الأتم.
والمجلس الإسلامي يرجو من الأمة كلها أن تنظر في هذه القضية بعين
الاعتبار والتدبر، وأن تعمل على قمع مثل هذه البدع الممقوتة والمضرة في الدنيا
والآخرة , وأن تسعى إلى الإصلاح ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وفقنا الله لاتباع
أوامره واجتناب نواهيه، وهدانا الله إلى الصراط المستقيم.
... ... ... ... ... ... (رئيس المجلس الشرعي الإسلامي)
... ... ... ... ... ... ... ... محمد أمين الحسيني
(المنار)
جمع هذا المنشور في المطبعة منذ أشهر واضطررنا إلى تأخير نشره.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: رأينا أن نذكر المواد المتعلقة بموضوعنا , عند ذكرها في أثناء المقدمة؛ لتفهم مقرونة بالمدارك الفقهية المستندة إليها.
(2) نشر في عدد 123 منها الذي صدر في جمادى الأولى (27ديسمبر) .
(3) المنار: أي: بأنفسهما أو بالنيابة فمذهب أبي حنيفة جواز تولي المرأة تزويج نفسها، وجمهور السلف والخلف أن الولي هو الذي يزوج المرأة , ومن لا ولي لها يزوجها السلطان أو نائبه , ولا تتولى هي العقد بنفسها وفي المسألة تفصيل آخر.
(4) الحديث رواه أحمد والحاكم والبيهقي بلفظ (إن من يمن المرأة تيسير خطبتها , وتيسير صداقها , وتيسير رحمها) .
(5) رواه أبو داود وابن ماجه وقال أبو داود على سكوته عنه كالمنذري: إن خيثمة - راويه عن عائشة - لم يسمع من عائشة، ومن رجال سنده شريك وفيه مقال , ومعناه متفق عليه , وهو جواز الدخول قبل إعطاء شييء من المهر إذا رضيت المراة , ولها أن تمتنع حتى تأخذ المعجل منه.(25/63)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(أساس البلاغة)
لعلامة اللغة الشهير، وإمام البلاغة النحرير (محمود الزمخشري) أشهر
من نار على علم، ما زال العلماء يقتبسون من نوره منذ ظهر إلى اليوم، وقد طبع
في مصر مرتين طبعًا غفلاً من الضبط غير معتنى بتصحيحه , ثم طبعته أخيرًا إدارة
دار الكتب المصرية بمطبعتها , التي هي القسم الأدبي من المطبعة الأميرية
الشهيرة , على ورق جيد بحروفها الجديدة الجميلة الخاصة بها , وعني بتصحيحه
وضبط ما يخفى ضبطه على الدهماء بالشكل لجنة التصحيح فيها، المؤلفة من أهل
العلم والأدب، مستعينين على ذلك بنسخة علامة اللغة الأوجد في هذا العصر الشيخ
محمد محمود الشنقيطي رحمه الله تعالى، وجلدت نسخه بالقماش تجليدًا حسنًا.
سُرَّ أهل العلم والأدب وطلاب اللغة بهذه الطبعة الجميلة المتقنة , وتقبلوها
بقبول حسن , وقرظها أصحاب الجرائد والمجلات , وأثنوا عليها ورغبوا فيها
ولكنهم لم يبينوا موضوع الكتاب كما يجب , إلا من نقل ما قاله المصنف في خطبته
وجعله أكثرهم من معاجم اللغة التي ألفت؛ لبيان معاني مفرداتها، وظن بعضهم
أن مزيته الوحيدة التفرقة بين الحقيقي والمجازي منها، والصواب أن الكتاب قد
وضع لبيان الاستعمال الفصيح , والأسلوب البليغ فيها، وتصريف القول في
أساليبها ومناحيها، ومنه الحقيقة والمجاز والكناية، وهو قلما يفسر غريبًا، أو يشرح
شاهدًا، لأنه كتب للخواص من أهل العلم والأدب في عصر المؤلف رحمه الله تعالى
أواخر القرن الخامس وأوائل السادس.
على أن هذه اللغة كانت قد دخلت في طور الضعف والتدلي , وإن كثر
التصنيف في فنونها، وما زالت تتدلى حتى صار يندر أن يوجد أحد من المشتغلين
بها يفهم معاني صفحة واحدة من صفحات الأساس , أو ما دون الصفحة من غير
مراجعة معاجم اللغة , للوقوف على معاني كثير من مفرداتها , فقل الانتفاع بالكتاب
في زماننا؛ لعسر المراجعة ولا سيما عند الحاجة للاستعمال، لهذا كنت قد سعيت
إلى طبعه، واقترحت أن يفسر غريبه مع ضبطه، وأن يزاد على مواده ما تشتد
الحاجة إليه من طرق الاستعمال التي تكثر في لسان العرب , وكذا المصباح المنير
على اختصاره وخصوصيته، وكنت قبل ذلك بعشرين سنة أمني نفسي بأن أجد
سعة من الوقت أقوم فيه بهذا العمل , وكانت الشواغل المانعة منه تزداد سنة بعد
أخرى.
يخيل إلي أن الذين يتوخون الانتفاع بهذا الكتاب فيما وضع له قليلون، وأنهم
قلما يعدون فئة الكتاب المتأنقين، والأدباء النقادين، وهو جدير بأن يوضع بين يدي
كل منشىء ومؤلف ومصحح ومترسل بهذه اللغة , وكل طالب من طلاب الآداب
العربية، ويرجع إليه كل منهم فيما يشتبه لديهم، ويتشابه عليهم من أساليب
الاستعمال , وتعدية الأفعال، ويأخذون عنه صوغ الجمل وأساليبها، ووضع
المفردات في مواضعها اللائقة بها، فهو الأستاذ المرشد إلى هذه المقاصد كلها , وما
أشد حاجة معلمي هذه اللغة ومتعلميها إليها.
فنثني على إدارة دار الكتب المصرية الكبرى , ونشكر لها عنايتها بطبعه هذا
الطبع الجميل، وضبطه الدقيق، فالناظر فيه لا يكاد يقف طرفه عند كلمة خفية،
وقلما يعقر ذهنه بغلطة لغوية، كما ظهر لي مما راجعته فيه مرارًا أباحت لي أن
أقول: (قلما) . وقد يكون ما عثرت به وهو قليل، مما يحتمل الصحة أو التأويل،
وأول كلمة عثرت بها في الجزء الأول قوله في أواخر خطبة الكتاب: (وحظي برس
من علم البيان) ضبطت كلمة رس في الطبعتين السابقتين بالسين المهملة، وفي
الطبعة الجديدة بالمعجمة من رش الماء والمطر، ولا أدري أهي من خطأ المطبعة
سها عنها المصححون , أم ضبطت بالمعجمة في نسخة الشنقيطي فاختاروها تبعًا له ,
وعهدي بهم غير مقلدين؟ والمتبادر أن المعنى بالمهملة أظهر , بل هو المناسب
للمقام وللسجعة التي قبل هذه. الرس بالمهملة , والذرو معناهما واحد كما صرح به
في هذا الكتاب نفسه فقوله: (وأصاب ذروًا من علم المعاني، وحظي برس من علم
البيان) لا يختلف فيه معنى الجملة الأولى عن الثانية، ولا يظهر فيه معنى الرش
(بالمعجمة) ، ولو تكلف له وجه لم يجز ترجيحه على الرس.
ومما يصح ذكره في هذا المقام ترجيح ضبط على آخر صحيح , بغير مرجح
يظهر للقارئ على ما تكرر في الكتاب من الجمع بين ضبطين في كثير من الألفاظ،
ومما رأيته من ذلك في أثناء كتابتي لهذا التقريظ , وسبق له أمثال كلمة (خطف)
ضبطت بفتح الطاء في الماضي , وكسرها في المضارع من باب ضرب، ولغة في
هذا الفعل، وفيه لغة أخرى الكسر في الماضي , والفتح في المضارع من باب علم
يعلم، وهي ما يسمعه الناس من حفاظ القرآن ويقرؤونه في المصاحف من قوله تعالى
في سورة الصافات: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} (الصافات: 10) وقوله في
سورة الحج: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج: 31) وإنما ذكرت هذا؛ لتنبيه من يراجع
الكتاب لعدم اتخاذ ضبطه للكلمة حجة على تخطئة ضبط غيره من غير مراجعه.
وثمن الجزأين معًا مجلدين بالقماش خمسون قرشًا صحيحًا , وهو ثمن بخس
تجاه جودة الورق وجودة الطبع، ما كان ليرضى به أحد يطبع الكتاب؛ لأجل
الاتجار به والربح منه، وإدارة المكتبة المصرية الرسمية إنما تبغي نشر العلم، لا
طلب الربح.
***
(الذخيرة الإسلامية)
مجلة دينية أدبية , تصدر كل شهر مرة لمنشئها أحمد بن محمد السركيني
الأنصاري السوداني , تصدر في (ويلتفريدن جافا) من جزائر جافا (أو جاوه)
الهولندية وقيمة الاشتراك فيها عن سنة في تلك الجزائر عشر روبيات، وجنيه
إنكليزي ذهبي في غيرها.
وصلت إلينا الأجزاء الأولى من هذه المجلة في هذا الشهر جمادى الأولى [1]
فنظرنا في فاتحة الجزء الأول منها فإذا هي تنبئنا أنها أخت لمجلتنا في خطتها
الدينية؛ إذ ذكر أخونا الفاضل منشئها أن الغرض منها: بيان محاسن الدين وشرح
ما قد يشكل على ضعفاء طلبة العلم , وما قد يشتبه على من ليس له وقوف على
حقائق الإسلام، وما قد يغمض على الكثير من أسرار التنزيل، مع تنبيه الغافل
وتنشيط العامل، وإصلاح الفاسد، وسلوك خطة التيسير والتبشير، ومنه بيان
الأحاديث المكذوبة والواهية المنشورة على ألسن العوام , وكتب القصاص
والمتصوفة، ورد شبه المعاندين، وبيان محاسن الإسلام، وملاءمته لكل زمان
ومكان، وحث المسلمين على الأخذ بأسباب الارتقاء؛ ليكونوا حجة للإسلام ولا
يكونوا حجة عليه , كما هو شأنهم الغالب اليوم.
وكل هذه المقاصد من بعض موضوعات المنار، التي يحتاج إليها في تلك
البلاد الجاوية التي قل فيها العلم، وعم الجهل، وكثر الدجالون من المسلمين،
والمهاجمون للإسلام من دعاة النصرانية، فعسى أن توفق؛ لإتقان عملها ويوفق
المسلمون للانتفاع بها، ومن وسائل ذلك العمل بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) .
__________
(1) كتب جل هذا الجزء في هذا الشهر , ثم اضطررنا إلى تأخيره إلى ما بعده وأخرنا بعض ما كتب وجمع له.(25/76)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ملك الحجاز في أطراف سورية
كثر تساؤل الناس عن سبب زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية في هذا
الشتاء الشديد العواصف , والبَرْد والثلج والبَرَد، والذي نراه استنتاجًا مما تقدمه ,
وواطأنا عليه كل من ذكرناه له من الباحثين في سياسة البلاد العربية وغيرهم , هو
ما نجمله بالجمل الآتية:
(1) إن مقتضى ما سماه السيد حسين بن علي (مقررات النهضة) التي
هي أساس ثورته وحربه للدولة العثمانية مع الحلفاء , هي أن تؤسس له الدولة
البريطانية بقوتها وتحت حمايتها مملكة عربية تشمل جزيرة العرب وسورية كلها
والعراق إلا ما استثنى، ولكنه قضت وطرها منه ولم يقض وطره منها , فظل يلح
عليها بذلك من جهته , والفلسطينيون يؤلفون الوفود ويرسلونها إلى لندن للسعي
لإلغاء وعد بلفور وتأليف حكومة عربية في فلسطين , ويحتج كل منهما بمقررات
النهضة المذكورة.
(2) حاولت الحكومة البريطانية إسكات السيد حسين والفلسطينيين بشيء
يرضيهما مظهره , إلى أن يزول هذا الاضطراب السياسي والمالي , وتستقر
سلطتها العسكرية في البلاد العربية التي جعلتها تحت انتدابها , من حدود مصر إلى
شط العرب وخليج فارس، فلم توفق لذلك , فإن المعاهدة الأخيرة التي حملها إليها
ناجي الأصيل فطار بها فرحًا , وجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية بأسرها، قد
رفضها الفلسطينيون وأنكروها , ولم يقدر على إقناعهم بها , ولولا ما له من اليد
البيضاء عند بعض زعمائهم , وما يعلمه من حرص الإنكليز على إرضائهم بشكل
من أشكال الإدارة , مع بقاء الانتداب وعهد بلفور، لانقطعت الصلة بينه وبينهم
بأيديهم أو بيده هو، ولكن ما ذكر ألجأه إلى الإمساك عن التوقيع النهائي على
المعاهدة , أو يرضى أهل فلسطين بها , فأعرضت عنه الحكومة البريطانية , ففهم
أنها تعتقد أنه لم يبق له من النفوذ في البلاد العربية ما يمكنه من أداء أي خدمة لها
تكافئه عليها فيما يأتي.
(3) علمت هذه الحكومة أن سلطان نجد قد وقف على دخائل سياستها
العربية وتمهيدها السبل؛ للتغلغل في أحشاء جزيرة العرب , مع الإحاطة بها من
أطرافها فأنشأ يقاومها في ذلك ويفاوض فيه سائر زعماء العرب , ما عدا خدمها
المتبجحين بالإخلاص لها وهم السيد حسين وأولاده , حتى اشتهر أنه سمح لنوري
باشا الشعلان بالتمتع بمقاطعة الجوف التابعة لنجد بشرط منع الإنكليز من جعلها
طريقًا لمواصلاتها العسكرية , وغيرها بين سورية العراق , فاغتنم السيد حسين هذه
الفرصة للاتفاق مع الإنكليز على تمكينه من الاتفاق مع ولديه السيد عبد الله والسيد
فيصل على جمع قوات البلاد , التي يرأسون حكوماتها؛ لمناوأة ابن سعود وإضعافه
باسم الوحدة العربية , في مقابلة بذل نفوذه هو لدى بعض رجال اللجنة التنفيذية
لمؤتمر فلسطين , بالرضا بالانتداب البريطاني، والإمساك عن معارضته , بشكل
ألطف من الشكل المبهم الذي رفضوه بالنص الأول للمعاهدة، وذلك بأن تسمى
حكومة فلسطين وطنية , ينتظم في سلكها بعض الزعماء وتعطى حق الانتظام في
الوحدة العربية المبهمة في ضمن دائرة الانتداب البريطاني ويلطف تنفيذ عهد بلفور
بألفاظ مرضية، وتقييد مؤقت للهجرة الصهيونية، لأجل هذا أنفق السيد حسين بن
علي ألوف الجنيهات في التمهيد لهذه الزيارة , يبث الدعاية لها وسينفق أضعافها في
أثناء مكثه في البلاد، ولأجله أكره أهل الحجاز على بذل ألوف الجنيهات؛ لعمارة
المسجد الأقصى , على حين يتضور كثير من فقراء السادة الأشراف بمكة جوعًا ,
وقد حرموا حقوقهم في وقف جدهم أبي نمي، حتى إننا علمنا من الثقات أن بعض
نسائهم يتكففن الناس في حنادس الظلمات وهن متنقبات.
ولأجل هذا تجرأ السيد حسين على التصريح بما كان يكتمه عن الجمهور من
رأيه في الوحدة العربية , وهو جعل جميع أمراء الجزيرة تابعين له في السياسة
الخارجية والعسكرية والإدارة العامة، ومن المعلوم المشهور أن كل واحد من أئمة
الجزيرة الثلاثة: يحيى وابن سعود والإدريسي أقوى منه منفردًا , فكيف صرح
بعداوتهم كلهم في وقت واحد؟ كنا نقول منذ بضع سنين: إن مراده من الوحدة أن
تكره الدولة البريطانية جميع قوى العرب له تحت حمايتها , وكان الأغبياء في
السياسة والمأجورون ينكرون ذلك علينا فماذا يقولون اليوم؟
ومن الجلي أن ثروة السيد حسين الشخصية من ملك ووقف , وما يبتزه من
الحجاج , لا يفي بمعشار هذه النفقات التي يبذلها في عداوة سلطان نجد وحده
والاستعداد لقتاله، وكل ذي إلمام بشؤون السياسة البريطانية الحجازية , يعلم من أين
تجيء هذه الأموال، وسينجلي كل خفي للأغبياء الجاهلين , ويظهر منتهى شوط
الخادعين والمخدوعين، الذين يعلقون آمال أهل سورية وفلسطين بما يدعيه السيد
حسين بن علي من العمل للوحدة العربية، ويرجو نيلها من وراء مفاوضته لدهاة
الدولة البريطانية والسياسة الصهيونية , والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على
الظالمين.
__________(25/79)
رجب - 1342هـ
فبراير - 1924م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب عام للمسلمين
(2)
الجناية الثالثة: الظلم والاستبداد في الحرمين
إن استبداد الملك حسين , وظلمه في الحجاز لا نعلم له نظيرًا في حكومة
وطنية من حكومات العالم في هذا العصر , وإنما هو كحكم أشد المستعمرين للأمم
الضعيفة قسوة وطمعًا في ابتزاز الأموال وإذلال الناس، فأهل الحجاز في هذا العهد
بائسون ذليلون , ولا يتجرأ أحد منهم على الشكوى بقول ولا كتابة، ونحن قد أمكننا
الوقوف على كثير من الحقائق الآتية من بعض أهل البصيرة والتحقيق من حجاج
الموسم الأخير , الذين لهم أصدقاء في الحجاز يثقون بهم , ومما اختبروه بأنفسهم
على كثرة الجواسيس , وحرص الملك على مراءاة الحجاج، وقد جاءتنا رسالة
طويلة في وصف حالة الحجاز من أحد حجاج الموسم الماضي من جزائر الهند
الشرقية , فنلخص من هذا وذاك ما يتعلق بغرضنا بالإيجاز ونجعله عدة أقسام:
المظالم المالية:
(1) كل ما يرد على مكة من الأنعام ينتقي الملك كرائمها وخيارها لنفسه ,
بواسطة سمسار له اسمه (إبراهيم) فيدفع ثمن الجمل الأعلى منها 25 ريالاً مجيديًا
(تساوي 120 قرشًا مصريًّا) إذا كان الأدنى يباع بخمسة وعشرين جنيهًا مصريًّا ,
ويعطي ثمن الكبش الجيد بل الأجود ريالين مجيدين , إذا كان الأدنى منها يساوي
عشرة ريالات.
(2) يأخذ مكسًا على كل جمل ثلاثة ريالات مجيدية (30 أو 35 قرشًا
مصريًّا) , وعلى كل ثور أو بقرة خمسين قرشًا مصريًّا؛ لأنه لا يأخذ منها لنفسه
كما يأخذ من الإبل والغنم , هذا إذا كانت الإبل والبقر للعمل , وأما إذا كانت للذبح
فيأخذ عن كل رأس عشرة ريالات , ومن المعلوم أن الإبل لا تذبح في الحجاز إلا
إذا هزلت , وتعذر الحمل عليها والسفر بها , وإن كان الجمل الهزيل الضعيف قلما
يباع بأكثر من عشر ريالات , وقد يباع بخمسة، ولكن الملك يأخذ عليه عشرة
ريالات مهما يكن ثمنه الذي بيع به , فيضطر الجزار بذلك إلى بيع لحمه غاليًا ,
وهو لا يأكله إلا الفقراء فيكون الغبن عليهم.
(3) كل من يأتي مكة أو غيرها من بلاد الحجاز بشيء للبيع من خارجها ,
ولو كان من البدو أو أهل القرى الحجازيين , يجبر على أخذ ثمنه ريالات مجيدية
وقروش عثمانية (مما يسمى في سورية متلبك , وفي الحجاز هلل) ؛ لأن الذهب
خاص بالملك، وهذه السكة لا تروج عند الأعراب , الذين يأتون بالماشية وغيرها
إلى مكة , فيرغبون أن يشتروا بثمنها أقواتًا أو أقمشة لعيالهم , ولكن الشراء من مكة
محرم في شرع الملك إلا برخصة من الديوان الهاشمي - ويعبر عنها بالفسح -
وقد يتأخر صدور (الفسح) ولا سيما إذا كثر طلابه حتى ينفق الغريب ما باع
منه , ويرجع إلى عياله بغير شيء , ولا سيما إذا كان ما باعه قليلاً كالوقود والفاكهة.
(4) يأخذ على كل صفيحة سمن خمسين قرشًا مصريًّا , وكان السمن الجيد
يأتي من نجد وعسير , فانقطع مجيئه من نجد وقل من عسير بسبب إجبار تجاره
على أخذ ثمنه من النقد العثماني , الذي لا يروج عندهم، فصارت أقة السمن
البحري الرديء المغشوش تباع بثلاثة مجيديات , وكانت الآقة من الجيد تباع بربع
مجيدي إلى نصف ريال , إذا اشتد الغلاء , وأقة اللحم بريالين , وكانت بقرشين ,
فأصبح أهل مكة في ضيق , لم يعرفوا له نظيرًا إلا في تلك الأيام , التي اتفق فيها
سيدهم مع الإنكليز على منع الأقوات من الحجاز ليواتوه على الثورة.
(5) يأخذ عن كل بضاعة تأتي من البحر إلى الحجاز ثلاثين في المائة
من ثمنها , إلا الكماليات: كالحرير فيأخذ منها خمسين في المائة , وذلك بحسب
أسعارها في سوق جدة لا بحسب السعر الذي اشتريت به، ونترك الكلام في
اقتراض الملك من تجار جدة ألوف الجنيهات , على أن توفى من المكوس التي
تستحق عليهم , ومطل إدارة المكس وتسويفها لهم، بعذر الحاجة إلى المال , ولا
مشتكى إلا إلى الله.
(6) أبطل جميع الأفران التي للأهالي , وفتح أفرانًا لنفسه , يعطيها الدقيق
المختلط من عنده , ويكره الناس على الشراء منها دون غيرها , وهو يربح منها كل
يوم أكثر من تسعين جنيهًا من مكة , وجاء في رواية أخرى كتبها بعض الحجاج
المصريين أنه يربح من أفرانه ثلاثمائة جنيه في كل يوم , وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) رواه البخاري في تاريخه وأبو
داود وأشهر رواة التفسير بالمأثور من حديث يعلى بن أمية , وفي لفظ من حديث ابن
عمر مرفوعًا: (احتكار الطعام بمكة إلحاد) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وروى
سعيد بن منصور والبخاري في التاريخ أيضًا وابن المنذر عن عمر بن الخطاب
أنه قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم) . روي عن ابن عباس أنه قال: في
تفسير الآية: (تجارة الأمير بمكة إلحاد) . فما بال المكوس؟ !
(7) جعل قيمة الجنيه سبعة ريالات مجيدية , يغرم من يخالف ذلك بمبلغ
من المال له , لكنه يبيع الذهب للصيارف بألوف الجنيهات , كل جنيه باثني عشر
ريالاً ثم يجبرهم على إعطائه الجنيه بالسعر الرسمي , وهو سبعة ريالات، والتجار
يرفعون الأثمان؛ لتقرب من سعر الذهب، ومن فوائد الملك من ذلك أن من كان
راتبه من رجال حكومته عشرة جنيهات , يعطيه 72 ريالاً قيمتها الحقيقية ستة
جنيهات.
(8) ما يأخذه من الغرامات , وينزله من العقاب على من يخالف السعر أو
يعترض على اختلاف ما يأخذه هو ويعطيه، لا مستند له إلا رأيه، وقد جازى
التجار على ذلك مرارًا , حتى بلغت الغرامة من جماعتهم من مائة جنيه إلى ثلاثمائة
جنيه , بل عاقب بعد الموسم خمسة من تجار مكة المحترمين بالجلد الشديد وكنس
الشوارع؛ لأن جواسيسه بلغوه عنهم أنهم قالوا: إن سعر النقود العثمانية سينزل ,
حتى مات أحدهم من شدة الضرب , كما جاء في كتاب خاص من مكة لأحد التجار
هنا.
(9) استأثر لنفسه بالغلال المصرية سنتين , فلم يعط المستحقين شيئًا حتى
مات بعض المستحقين لها من فقراء المدينة المنورة جوعًا , ثم صار يعطي الأحياء
نصف ما يستحقونه , ويستأثر بحصص الأموات كلها , فلا يعطي ورثتهم منها
شيئًا , ولعل هذا أحد أسباب امتناع الحكومة المصرية , عن إعطائه مخصصات
الأهالي؛ لأجل أن يتولى توزيعها عليهم مستخدموها , في التكيتين المصريتين بمكة
المكرمة والمدينة المنورة.
(10) استبد بوقف الشريف أبي نمي فلا يوزعه على المستحقين من ذريته
حسب شرطه , حتى قيل: إن بعض الشريفات يخرجن في الليل متسولات , يتكففن
أيدي الناس في الشوارع.
(11) قد استعار من أغنياء مكة أثاثًا ورياشًا وماعونًا كثيرًا , للدار التي
أنزل فيها السلطان وحيد الدين المخلوع وحاشيته , ثم لما ذهب السلطان من مكة
استأثر بهذه العواري النفيسة، ولم يردها إلى أصحابها.
(12) جمع ثلاثين ألف جنيه من أهل الحجاز بالإكراه والإجبار , ومن
الحجاج بالاختيار؛ لإعانة المسجد الأقصى، وأرسل منها اثني عشر ألف
وخمسمائة جنيه، وقد نشر في جريدة القبلة ما أخذ من كبار التجار والموظفين في
الحكومة ومن الحجاج , وأما ما أخذ من العوام وصغار التجار فلم ينشر فيها [1] .
(13) ذهب إلى مكة الشرفاء زامل وجعفر وعلي أولاد السيد ناصر أخي
الملك فوضعهم الملك تحت المراقبة الشديدة والقهر , وكان مرادهم الإقامة في مكة
شهرًا واحدًا , فأكرههم على الإقامة زهاء سنة , ولما عادوا إلى مصر أرسل إلى
وكيل أطيانه إسكندر بك طراد كشف فيه أنه أنفق عليهم في مكة ألف وثمانية
وعشرين جنيهًا وكسورًا , وأمره أن يطالب أخاه الشريف ناصر بهذا المبلغ ,
وينذره بإمساكها من إيراد الوقف المشترك , إذا لم يؤدها إليه نقدًا.
***
العقاب والأحكام
إنه يذيع في جريدته القبلة أن أحكامه كلها شرعية , مستمدة من الكتاب والسنة،
والواقع الذي يعرفه أهل الحجاز ومن أقام فيه زمنًا يزيد على مدة الحج من غيرهم ,
ولا سيما الذين استخدموا فيه - أن أحكامه شخصية محضة , لا يتقيد فيها بقيد
من شرع ولا مشاورة، ولا قانون، وهو وإن كفر الترك والمصريين بوضعهم
للقانون الأساسي وغيره , فقد وضع بعض القوانين وأمر بتنفيذها ومنها:
(قانون هيئة المعاملات العمومية) الذي أمر فيه بتشكيل لجنة بهذا الاسم ,
تفصل في قضايا الإجارة والديون (والكشفيات ونحوها) , مما هو من خصائص
المحاكم بدون محاكمة شرعية , وفيها أحكام وضعها برأيه لم يرجع فيها إلى
دليل شرعي , وسماها دستورًا للعمل كما سماها قانونًا، وقد أعطى بهذا القانون
حق الاجتهاد لأعضاء اللجنة , في كل فروع الإجارات غير الداخلة في المادة 43
منه , ولا حاجة بنا إلى تفصيل ذلك , بل المراد به التنبيه على أنه يحرم على أهل
البلاد التركية والمصرية , ما أباحه لنفسه من وضع القوانين , وإن كان هو
وجميع أعضاء حكومته دون أهل هاتين المملكتين علمًا بالشرع , وبأصول القوانين
وفروعها.
***
قانون الطاغوت أبي نمي
وأدهى من هذا وأعظم في رد الشرع ونبذه وراء الظهر، وتفضيل حكم
الطاغوت على حكم القرآن المنزل من عند الله عز وجل، حكمه بقانون جده الأمير
أبي نمي في جميع مسائل الدماء بين البدو. ومن أصول مواد هذا القانون أن دم
شرفاء الحجاز مربع , فإذا قتل أحدهم يقتل به أربعة من خواص رجال القبيلة
المتهمة بقتله، ولا شك في أن استحلال هذا كفر وردة عن الإسلام. وإن إمام
المسلمين وخليفتهم يجب عليه شرعًا أن يقاتل من يتحاكمون ومن يحكمون بمثل
هذا وغيره , من أصول الجاهلية المقررة فيه، ومرجعها كلها إلى ما يسمونه
(السوالف) , وهي الأحكام السابقة التي قبلها سلف المتحاكمين؛ أي: شيوخ قبيلتهم
من قبلهم في مثل واقعة الدعوى، فالأحكام التي قبلها طواغيتهم هي التي
يرضونها ويحكم لهم بها من يدعي أنه أحق الناس بخلافة النبوة وإقامة شرع
الإسلام , ومن شاء أن يعرف منزلة هذا القانون من الكفر والنفاق فليراجع تفسيرنا
لقوله تعالى من سورة النساء {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات.
وقد حدثنا الضابط نوري بك الكويرى (من بني غازي) الذي كان في الجيش
العربي المنظم , الذي يساعد الحجازيين في حصار المدينة المنورة , أن أحد البدو
قتل ضابطًا أو جنديًّا حضريًّا من الجيش المنظم , واعترف بأنه قتله عمدًا , فطلب
الضباط وغيرهم قتله قصاصًا , بمحاكمة عسكرية أو شرعية , فامتنع قائدهم العام
الشريف عبد الله , ورفع الأمر إلى الملك فأمر بإرسال الضباط الذي طلبوا القصاص
إلى مصر بحيلة , وإعلامهم بعد ذلك بطردهم من الجيش الهاشمي، وكذلك كان،
ويعلم جماهير الناس في شرق الأردن وفلسطين أن عبيد الأمير عبد الله فوق الشرع
والقانون في إمارته البريطانية الحقيرة , فلا يحاكمون ولا يعاقبون على فاحشة ولا
منكر.
وأما ما نقلته جريدة قبلة من أحكامه , التي سمتها إقامة لحدود الشرع وعملاً
بالقرآن , فقد جاءنا الخبر من الثقات في الحجاز , بأنه ليس فيها شيء موافق لحكم
الشرع , ولا كان شيء منها بمقتضى محاكمة شرعية , فقد أمر بقطع يد رجل
ورجله؛ لأنه فر من سجنه الذي هو شر من سجن الحجاج، وفعل مثل ذلك بمن
اعترض على الخطيب بالمدينة المنورة؛ لإطرائه إياه في الخطبة، وادعوا أن هذا
عمل بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (المائدة: 33) الآية وهي في البغاة الذين يؤلفون
العصابات المسلحة , يقطعون بها الطرق ويفسدون النظام , لا فيمن يفر من الظلم
أو ينتقد بدعة من البدع: كمدح الحكام وإطرائهم في الخطب الدينية , ولا سيما إذا
كانوا من الظلمة.
وكتب إلينا أن اللص الذي قطع يده في عرفة , قد اتهمه بعض الناس بأنه
سرق له بعض متاعه , فبمجرد دعواه استحضر المتهم وجيء بفأس قطعت به يده ,
وكتب إلينا أيضًا أن العقاب في الحكومة الهاشمية , لا يكاد يقع إلا على الضعفاء
الذين لا ناصر لهم , وأن جواسيس الملك إذا طعنوا له في شخص يتهمه بعضهم ,
بأنه شرب الخمر فيؤتى به ويجلد بغير بينه ولا يسمع لإنكاره.
واطلعنا في مذكرة لحاج مصري , أنه يأمر المحاكم الشرعية بالذي يريده
وإنها فشت فيها شهادة الزور بالإكراه، وأنه لا ينفذ من أحكامها إلا ما يريده , ويرد
الإعلام الشرعي الذي تصدره بالحكم النهائي ويأمر بتجديد الدعوة لأجل الحكم فيها
بما يأمر به، ويقول: إنه إمام المسلمين والوارث لجده الشارع في التشريع
وهو غير مقيد فيه بشيء، بل فيها أن له مخالفة نصوص الكتاب والسنة , وكنا
سمعنا هذا من بعض خدمه في مكة عدد سنين , ولكن الله تعالى لم يعط للرسول
صلى الله عليه وسلم أن يغير أو يبدل شيئًا من القرآن , وهو معصوم من فعل ذلك من
تلقاء نفسه بدليل النص والإجماع. قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15) , وقد منع الإمام الشافعي نسخ القرآن بالسنة مطلقًا , وجوزه الجمهور
بالسنة المتواترة لأن ثبوتها قعطي كثبوته، ولكنهم أجمعوا على أن ذلك لا يكون برأي
النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده , بل بوحي من الله تعالى , واستدلوا على الجواز
بمفهوم قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي} (يونس: 15) .
وفي هذه المذكرة أنه يقطع يد السارق , إذا كان من قبيلة ضعيفة , فإذا كان
من قبيلة قوية فلا يقطع ولا يسجن , وقد سرقت امرأة قرشية من بني مخزوم في
عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأهم أمرها قريشًا فقالوا: من يكلم فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم , ومن يجترئ عليه إلا حبه أسامة بن زيد، فكلمه أسامة فقال
صلى الله عليه وسلم: (يا أسامة أتشفع في حدٍ من حدود الله , ثم قام فخطب قال:
(إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا
سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت
لقطعت يدها) متفق عليه، بل رواه الجماعة كلهم.
(تنبيه) :
كتب هذا الخطاب منذ بضعة أشهر؛ ليكون مقدمةً لطلب الإصلاح في
الحجاز, وأخر نشره؛ رجاء أن يغير الملك سيرته بزيارته لأطراف سورية.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: لعل سبب عدم نشره قلة المبالغ مع كثرة الأسماء لا قصد أكله.(25/104)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية
وتجديد السنة في بلاد الوهابية
(وهو ما وضعناه فاتحة لنسختها التي طبعناها حديثًا , وفيها كلام في تصحيح
المطبوعات , ولا سيما تصحيح ما طبع عن نسخ غير صحيحة , وكونه يتعذر معرفة
الأصل في بعض المسائل , ويشق العثور على بعضها بمراجعتها في مظانها حتى
الأحاديث النبوية , وخاصة أحاديث البخاري) .
من المعلومات المسلمات عند كل مسلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه
وسلم بيان لكتاب الله عز وجل , وتفسير وشرح لهدايته , وتفصيل لحكمه
وأحكامه، وأنها مستمدة منه، فإنه - جزاه الله عن البشر أفضل الجزاء - قد عاش
قبل النبوة أربعين سنة , وهو أمي لم يُؤْثَرْ عنه شيء من علوم القرآن الإلهية , ولا
الأدبية ولا الشرعية، ولا شيء من حكمه العقلية , ولا قواعد السنن الكونية
والاجتماعية، وقد خاطبه الله تعالى في هذا المعنى بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وبقوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ
بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ} (النساء: 105) , وقد عصمه الله تعالى من
الخطأ في بيان دينه المودع في كتابه , كما عصمه من الخطأ في تبليغه , وكل أحد
غيره يخطئ في فهم الكتاب , وفي بيان ما فهمه تارة ويصيب أخرى، وقد نقل
المحدثون روايات من خطأ بعض الصحابة فغيرهم أولى.
هذا وإن تأثير حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم في القلوب , هو في الدرجة
التالية لتأثير كلام الله عز وجل، ولهذا ضعفت هداية الدين في نفوس المسلمين منذ
صاروا يستغنون عن القرآن والسنة بكتب المتكلمين والفقهاء، وإنما العلماء أدلاء
معلمون، لا شارعون ولا مستقلون بالهداية، ولن يعود روح الدين إلى المسلمين،
ولن يشرق نور الإسلام في قلوبهم، إلا بالعود إلى تلاوة القرآن بالتدبر، ومدارسة
السنة بالتفقه والتأدب.
وقد كان مما استعمل الله تعالى به الشيخ محمد عبد الوهاب مجدد الدين في
نجد وما حولها , أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها؛ للاهتداء بها، لا لمجرد
التبرك بألفاظها، ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في
شرحها والاستنباط منها، بل نرى من هداهم الله تعالى بدعوته , وأنقذهم من
الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب ما زالوا يحيون كتب فقه شيخ
السنة الأكبر الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - مع خيار كتب التفسير والحديث
لغير الحنابلة من علماء السنة , فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة.
وقد انتدب إمامهم وسلطانهم في هذا العصر السلطان عبد العزيز عبد الرحمن
فيصل آل سعود لتجديد طبع هذه المجموعة النفيسة مع كتب أخرى أهمها: تفسير
الحافظ ابن كثير , وابتداء طبع كتب أخرى دينية من أعظمها وأجلها: كتاب
(المغني) في الفقه الإسلامي الذي فضله الإمام المجتهد عز الدين بن عبد السلام ,
هو وكتاب المحلى لابن حزم على جميع ما كتب المسلمون في الفقه , ونقل عنه أنه
لم تطب نفسه للإفتاء , حتى حصل على نسخة من المغني , فهو يطبع الآن على نفقته
مع كتاب الشرح الكبير، على متن المقنع الشهير , والمغني والمقنع كلاهما للشيخ
العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله الشهير بابن قدامة المقدسي، المتوفى سنة
620 , وهو الذي ينصرف إليه لقب (الشيخ) إذا أطلق في كتب الفقه الحنبلي ,
التي ألفت بعده وأما الشرح الكبير فلابن أخيه وتلميذه العلامة الشيخ عبد الرحمن
ابن قدامة المتوفى سنة 682 , وهما من أوسع الكتب أحكامًا وبيانًا للمذاهب
بأدلتها.
هذه المجموعة الحديثية مشتملة على تسعة كتب بيناها في طرتها، فالأربعون
النووية من الأحاديث المختارة في أصول الإسلام , وأسس قواعده أشهر من أن
تعرف، وعمدة الأحكام للحافظ المقدسي المتوفى سنة 620 مشهورة مشروحة ,
وهي مأخوذة من صحيحي البخاري ومسلم - تعطي المطلع عليها علمًا إجماليًّا
بأصح نصوص السنة لجميع أبواب الفقه , وذكر لها في كشف الظنون عدة شروح
لكبار العلماء، وشرحها لشيخ الإسلام المحقق ابن دقيق العيد طبع في الهند ويطبع
الآن بمصر.
وكتب إلينا صديقنا علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي أنه اطلع على
الجزء الأول من شرح شيخ الإسلام ابن تيمية للعمدة (فرأى فيه ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت) ولم يبلغنا شيء عن هذا الشرح من غيره، وذكر صاحب كشف
الظنون أن كتاب العمدة هذا ثلاثة مجلدات عز نظيره , وأن أوله: (الحمد لله أتم
الحمد وأكمله) , وأن الكلام فيه خمسة أقسام: أحدها الأحاديث، وما عندنا هو تجريد
الأحاديث فقط , وأوله (الحمد لله الجبار) , ونقل عن بعض شراحه أن عدد أحاديثه
خمسمائة , ولعله عدَّ ما في بعضها من اختلاف الألفاظ وتعدد الروايات , أو وجد هذا
في بعض نسخها , وإلا فقد أحصيناها بالأرقام حسب عدَّ المصنف لكل باب فبلغت
409 , ولكن وقع غلط في الأرقام في مواضع أولها صفحة 110 فينبغي أن يجعل
أول رقم فيها 48 ويصحح ما بعده بالتسلسل.
وأما كتب الشيخ محمد عبد الوهاب الأربعة , فقد راعى في جمعها أحوج ما
يحتاج إليه جماهير المسلمين من السنة , مع تلقيهم أحكام العبادات والمعاملات من
كتب الفقه , وهو أربعة أقسام: أحاديث الإيمان الاعتقادية، وأصول الإسلام الكلية،
وكبائر الإثم والفواحش التي يجب تركها، والآداب الشرعية التي يجب أو
يستحب فعلها والتأدب بها، وكلها ملخصة من دواوين السنة المشهورة: كالكتب
الستة والمسند والموطأ وغيرها , ومنها ما ليس لدينا نسخ منه: كالسنن الكبرى
وشعب الإيمان للبيهقي.. وقد ترك - رحمه الله تعالى - بعض الأحاديث غير
مخرجة، ولعل سبب ذلك أنه أراد أن يراجعها في غير الكتب التي نقلها منها،
ليبين جميع من خرجوها.
وأما الرسالة السنية للإمام أحمد في الصلاة فهي على ما نعتقد , لا يستغني
مسلم عن الاستفادة منها , قد جمعت في صفة الصلاة وآدابها الظاهرة والباطنة ,
بين الأخبار النبوية والآثار النافعة عن الصحابة والتابعين , ما كانت به سفر تفسير
وحديث وفقه وتصوف شرعي , وقد رأيت لها من التأثير في القلب ما لم أره لغيرها،
فأنا أنصح لكل مسلم أن يطالعها مرارًا، ولكل معلم وواعظ أن يقرأها لطلاب
العلم وللعوام جميعًا.
وأما كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم فهو أشبه الكتب برسالة الإمام أحمد في
مبناها ومعناها ومغزاها، حتى كأنه شرح لها وتفصيل لمجملها، مع بسط مسائل
أخرى استوفاها أو حققها، وناهيك بوصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ,
واختلاف أحوالها من تطويل وتخفيف بالروايات المعتمدة، وبيانه لحكم الصلاة
وأسرارها، وندب إطالتها ومنافعها، وتحقيق فرضية صلاة الجماعة، ومسألة
تكفير تارك الصلاة , ومسألة الخلاف في وجوب قضاء الترك منها عمدًا وعدمه.
فهكذا لعمري يكون اتباع الأئمة والاقتداء بهم، لا اتخاذهم شركاء لله تعالى في
شرع الدين، ولا قرناء لرسوله صلى الله عليه وسلم في العصمة في تبليغه وفهمه،
دع تقديم كلامهم على كلامهما، واتباعهم بالتقليد المحض من دونهما.
وأما كتابه الوابل الصيب فهو طرد لهذه المعاني والمغازي , في جميع الأذكار
والأدعية المأثورة , وتأثيرها في القلب، والقرب بها من الرب، جل ثناؤه وتقدست
أسماؤه، ومن فوائده: بيان مراتب الناس في الصلاة، وصفات القلوب في الظلمة
والنور، وبحث في نور العلم والإيمان عال مشرق مؤثر , لا يوجد في غيره مثله،
أورده في سياق الكلام على فوائد ذكر الله تعالى، ومنه تفسير المثل الذي ضرب
في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النور: 35) الآية، واستطرد من هذا المثل إلى أمثال أخرى في القرآن مائية
ونارية كمثل: سيلان الماء في الأودية، ونار الصائغ لاتخاذ الحلية والآنية - ومثل:
الصيب فيه الظلمات والرعد والبرق - وقد بلغ ما أورده من فوائد الذكر ومزاياه
وتأثيره في تغذية الإيمان وصالح الأعمال 79 فائدة [1] .
فهذه الكتب لا يقرؤها ولا يسمعها مؤمن إلا يشعر بالإيمان يربو وينمي في قلبه،
وبمضمون قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) فيزداد به من العبادة ويكثر فيها من ذكر الله تعالى , فقد كتب -
قدس الله روحه - في الأذكار المأثورة ما لا يحسنه إلا مثله - ومثل كثير في الأنام
قليل - فرضي الله تعالى عن جامعي هذه الأحاديث النبوية، ومبيني ما أودعته من
الهداية الإلهية، وأثاب من جمعها وألف بينها، ومن أنفق على طبعها، وسعى
لتعميم نفعها، ومن تولى طبعها وتصحيحها، ومن يقرؤها للاهتداء وللهداية بها.
وكنت أود لو أتيح لي أن أخدمها , بتخريج جميع ما أغفل تخريجه من
أحاديثها , وتعليق حواش وجيزة في تفسير جميع غريب لغتها، وبيان وجيز لكل ما
يخفى أو يشكل من معانيها، وزيادة العناية بتصحيحها، كالنموذج الذي يراه قارئها
في بعض حواشيها. ولكن كثرة الشواغل والموانع، وقلة العون والمساعد،
واستعجال السلطان بطبعها , قد حالت دون المراد من ذلك في هذه الطبعة، وعسى
أن يوفقنا الله تعالى وإياه لذلك في الطبعة الثالثة.
وإن هذا العمل لشاق دونه الإنشاء والتأليف المستقل، ولا يعرف صعوبته إلا
من ابتلي به , وإنما يكون التصحيح سهلاً , إذا وجدت أصول صحيحة مضبوطة
للمقابلة عليها، والأصل الذي طبعنا عنه هذه المجموعة مطبوع في الهند طبعًا كثير
الغلط والتصحيف والتحريف كأكثر الكتب العربية المطبوعة في ذلك القطر، ولا
سيما المطبوع منها على الحجر، وقد وجدنا لشرح الأربعين النووية ولرسالة الإمام
أحمد , وكتاب الصلاة لابن القيم نسخًا مطبوعة في مصر , فانتفعنا بالمقابلة عليها
على أن تصحيحها غير تام , وجعلنا اعتمادنا في تصحيح آخر كتاب العمدة مقابلته
على النسخة المطبوعة مع الشرح في الهند، بعد أن كنا نعتمد أولاً على مراجعة
الصحيحين فقط. ولكن بعض هذه الأحاديث غير مبين مكانها فيهما، وبعضها
معزو إلى أحد الصحيحين وهو في غيره، ولا ندري سبب ذلك، وقد بينا بعض
ذلك في الحواشي. على أن المراجعة في صحيح البخاري في مكان من الصعوبة لا
يعرفه إلا من عالجه، فإن الحديث الواحد قد يوجد في عدة أبواب منه بألفاظ مختلفة
فمن وجد غلطًا في حديث منها , كان عليه أن يراجع جميع رواياته فيها؛ ليمكنه
الجزم بالصواب، ومن لم يدقق النظر في اختلاف الروايات والرواة والألفاظ فربما
جعل الصواب خطأ.
مثال ذلك الحديث العاشر من كتاب صفة الصلاة في العمدة (صفحة 120) :
عن أبي قلابة - هو عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري رضي الله عنه - قال:
جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: (إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة؛
أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي.
هكذا أورد الحديث صاحب العمدة ولم يعزه , ولما كلفت اثنين من إخواننا
المشتغلين بعلم السنة قراءة هذه المجموعة بعد تمام طبعها؛ لاستخراج ما يجدان
فيها من خطأ الطبع وبيان صوابه , رأى من قرأ العمدة منهما أن هذا الحديث غير
جلي , فظن أنه لا يخلو من غلط , فطفق يبحث عنه في صحيح البخاري فوجده في
(باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة) بلفظ: جاءنا مالك بن الحويرث
فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم , وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن
أريكم كيف رأيت النبي - وفي رواية رسول الله - صلى الله عليه وسلم يصلي؟ إلخ ,
فجعل المصحح هذا صوابًا لوضوحه , وذاك خطأ؛ لخفاء المراد منه , ولما قرأت
جدول الخطأ والصواب بعد جمعه للطبع , رمجت هذا التصحيح؛ لأن ما أورده
صاحب العمدة رواية أخرى للبخاري , أوردها في (باب من صلى بالناس وهو لا
يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وسننه.
فلمثل هذا الاختلاف في الروايات , لا يجزم المصحح بأن كل ما رآه خفي
المعنى محرف فيراجعه، ولا بأن كل ما رآه جلي المعنى هو الصحيح من
الروايتين أو الروايات، بل لا بد من النقل واستقصاء الروايات عند المراجعة ,
وذلك من العسر بمكان. فنحن نرى الحفاظ وكبار المحدثين وشراح دواوين السنة
ينسون بعض الروايات أحيانًا , أو يغفلون ذكرها في مواضعها: فهذا الحافظ ابن
حجر - وناهيك بسعة حفظه - قد ذكر في شرحه لحديث أبي قلابة باللفظ الذي أورده
صاحب العمدة , أن البخاري أورده في (باب المكث بين السجدتين) أيضًا , مع
أنه رواه فيه بلفظ آخر ليس فيه ما نحن بصدده , ولم يذكر أنه أورده في (باب
كيف يعتمد على الأرض…) الذي يوضح معنى الأول , وكذلك القسطلاني لم يذكر
سائر الأبواب الثلاثة عند ذكر كل منها كعادته الغالبة. فمن هذا المثال يعلم
القارئ لهذه المقدمة درجة عسر تصحيح الأحاديث النبوية المنقولة عن نسخة
غير صحيحة , والمحدثون لا يعتدون بنسخة كتاب غير مروية عن المؤلف
بالسند , أو مقابلة على أصل صحيح.
وقد كانت طريقة تصحيحنا لهذا المجموعة (كغيرها) أن مصحح المطبعة
يقرؤها مقابلة على أصلها , فإذا رأى أن في الأصل خطأ , لم يهتد إلى صوابه تركه
لنا , فإذا كان مما نعرف أصله بالقطع صححناه , وإلا بحثنا عن مظانِّ أصله في
عدة كتب مما عندنا , بقدر ما نجد من سعة الوقت , حتى ربما أنفقنا نصف النهار
أو نصف الليل في تصحيح كراسة أو نصف كراسة، وكنا نؤخر طبع الكراسة في
بعض الأحيان عدة أيام؛ لأجل أن نجد وقت فراغ لمراجعة بعض العبارات , التي
نجزم بوقوع الغلط فيها. وقد نكتب في الحاشية كلمة (يراجع) ، ونحيل على
مصحح المطبعة , فإن لم يظفر بالأصل الصحيح يترك الكلام على ما هو عليه تارة
ويعيده إلينا تارة , ولهذا نبطئ في طبع ما ليس له أصل صحيح عندنا , كأكثر كتب
هذه المجموعة ولا سيما (الوابل الصيب) منها , الذي لم نجد له أصلاً ما في دار
الكتب الكبرى ولا في غيرها.
وقد كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - يحمل أكثر أعباء المطبعة
عنا , والمطابع التجارية لا تبالي بذلك مثلنا، بل يكتفي أيها أشد إتقانًا , بأن يكون
ما يطبعه كالأصل المطبوع عنه تقريبًا. وبعضهم لا يصل إلى هذه الدرجة , ومنها
ما يتصرف أصحابها في التصحيح بآرائهم , حتى اعترف بعضهم بأنه كان يزيد في
الأصل , أو ينقص منه وأنه إذا وجد كلامًا ساقطًا أو خفيًّا لا يقرأ , وضع بدله
بحسب فهمه , وهذا تزوير لا يصدر عن صاحب أمانة أو دين.
ولعمري إن إتقان التصحيح لما يطبع عن أصل غير صحيح لا يتيسر إلا
لجماعة من العلماء الأخصائيين , تتعاون عليه بمراجعة كل مسألة في مظانها،
وهذا غير موجود في شيء من مطابع هذه البلاد إلا المطبعة الأميرية , ومع هذا
نرى في بعض مطبوعاتها غلطًا كثيرًا، ولقد عهد إلينا السلطان عبد العزيز آل
سعود بطبع تفسير الحافظ ابن كثير فيما أمر بطبعه من الكتب كما تقدم، ولم نجد له
أصلاً إلا ما طبع في المطبعة الأميرية ونسخة خطية حديثة في دار الكتب الكبرى ,
ولعلها هي التي طبع عنها فإنهما سيان في كثرة الغلط , حتى في الأحاديث المعزوة
إلى كتب السنة المعروفة , وأسماء رجال الحديث على ما فيهما من نقص أشير إليه
بترك بياض يدل عليه، مع كتابة (بياض في الأصل) في الحاشية , وقلما قرأنا
في هذا الكتاب تفسير آية ولم نجد فيه غلطًا مما نعرفه من ذلك، فكيف بما لا يعرف
بالرواية والحفظ لكلام المؤلف نفسه؟! وقد توسلنا ببعض الوسائل إلى تصحيحه
على نسخة معتمدة من خزائن كتب الآستانة، ولما يتم لنا ذلك ولعله يتم قريبًا.
هذا وإنه لما كان غرض السلطان من طبع هذه المجموعة وأمثالها؛ تعميم
العلم في بلاده دون بلادنا طبعنا بإذنه زيادة عما طلبه طائفة قليلة من النسخ؛ لتعميم
نفعها، فإذا بعناها بثمن قليل بالنسبة إلى أمثالها كان له شركة في أجرها.
هذا وإننا نسعى منذ سنين إلى استئجار دار واسعة؛ لأجل توسيع مطبعة
المنار , وتأليف لجنة من أهل العلم؛ لتصحيح مطبوعاتها , وضبط النسخ التي
تلقى إلينا قبل الطبع بمعارضتها على الأصول الصحيحة في دار الكتب الكبرى
وخزانة كتب الجامع الأزهر، أو حيث توجد في غيرها من خزائن الكتب الخاصة؛
كالخزانة الزكية , والتيمورية , والجعفرية , والنورية [2] فعسى أن يهيئ الله تعالى
لنا ذلك , ويوفقنا لكل ما توجهت إليه نفسنا من خدمة العلم والدين، والله ولي
المتقين، والحمد لله رب العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
صدر في جمادى الأولى سنة 1342
__________
(1) وقع غلط مطبعي في عدها , فجعل العدد الذي (في ص 745) هو 35 , والصواب أنه 37 فيصحح مع هذه.
(2) الأولى منسوبة لأحمد زكي باشا , والثانية إلى أحمد تيمور باشا , والثالثة إلى جعفر والي باشا , والرابعة لنور الدين بك مصطفى.(25/113)
الكاتب: عبد القادر المغربي
__________
تزويج المسلم بغير المسلمة [1]
يكاد يكون جواز تزوج المسلم بالكتابية من الأمور المعلومة من الدين
بالضرورة , ولا أظن أن أحدًا من المسلمين يكابر فيه [2] , وجل ما يقوله فقهاؤنا في
هذا الزواج: إنه مكروه تنزيهًا؛ أي: لا تحريمًا. ومعنى ذلك أن الأفضل للمسلم أن
يتزوج بمسلمة , فإذا تزوج بكتابية وترك المسلمة ارتكب خلاف الأولى. ولكن لا
يكون آثمًا أو مرتكبًا حرامًا , وعللوا الكراهة (بخوف أن يتخلق الولد بخلق
أمه) والأخلاق أثر من آثار الدين , فيخشى على الولد أن يتأثر بمؤثرات دين غير
دين أبيه.
هذا ما يقال في المسألة من طريق التفقه , وأما ما يقال فيها من طريق
الاجتماع ومباحث العمران , فهو: أن الشرع الإسلامي أباح لنا التزوج بالكتابيات
توصلاً إلى نشر الإسلام , وحمل الكافة عليه , فإن الأصول أن يحمل البشر على
الحق ولو بالقوة , ولكن الشرع عذر أهل الكتاب بما أوتوه من روح الدين السماوي
وإن كانوا شوهوا هذه الروح بما بدلوا وغيروا , والشرع إذا أمهل غير المسلمين ولم
يقسرهم على الإسلام فهو لم يهملهم، ولم يغفل أمرهم , بل هو يريد من المسلمين أن
يعملوا على نشر الدين بينهم , وعلى دعوتهم إليه بالتي هي أحسن، والدعوة كما
تكون بلسان المقال تكون بلسان الحال، ولسان الحال أشد تأثرًا , وأقرب منالاً من
لسان المقال، والمراد من الدعوة إلى الإسلام بلسان الحال أن يكون المسلمون على
وضع اجتماعي راقٍ , يحمل معاشريهم من غير أبناء ملتهم على النظر في دينهم ,
وحب التخلق بأخلاقهم، والاهتداء بهديهم، وهذا يكون بشيئين:
(1) العدل في حكومة الإسلام.
(2) حسن الأخلاق في أهل الإسلام.
وإننا معشر المسلمين لو حافظنا على هذين الأمرين في تاريخنا الماضي , لما
بقي في بلادنا غيرنا بل كانوا أسلموا كلهم. ولقد بسطت هذا الموضوع يوما أمام
بعض عامة المسيحيين , فرسم إشارة الصليب على وجهه وصدره وقال: نشكر الله
ياسيدي، إذ لم تعملوا بأصول دينكم , وإلا لما عبد المسيح في بلادكم.
ومن جملة الطرق التي شرعها الإسلام؛ لتكون دعوة إليه بلسان الحال -
إباحة تزوج المسلم بالكتابية - فإن زواجه بها يوثق علائق المصاهرة والنسب بعدة
عائلات كتابية , فإذا كان الصهر المسلم على ما يزيده الإسلام من كرم الأخلاق
والتحلي بالفضائل، فإن ذلك يستدرج عائلة زوجته إلى الإسلام بلطف , ويستهويهم
من حيث لا يشعرون إلى الإعجاب به، والدخول فيه، عدا إسلام الزوجة نفسها بما
لزوجها المسلم من السلطة , وحسن التلطف , وقوة التأثير عليها.
وأما اليوم فإن أخلاقنا وفشو الطلاق بيننا , حمل الكتابيين على زيادة التمسك
بدينهم، وعلى النفرة منا ومن ديننا، ولقد سألت مرة صديقًا لي من وجهاء
المسيحيين: هل يرضون أن يزوجوا بناتهم من شبان المسلمين المهذبين ما دام هذا
الزواج جائزًا في الشريعة الإسلامية؟ فقال: إننا لا نراه محظورًا من الوجهة
الدينية [3] , وإنما نراه محظورًا من باب الاحتياط والتدبر، وذلك خشية أن يطلق
الزوج المسلم ابنتنا، أو يتزوج بأخرى سواها فتعيش منغصة.
ونعيد القول في الموضوع بشيء من الشرح والإيضاح فنقول: يفهم من
تضاعيف أقوال علمائنا أن التسامح مع أهل الذمة , وتركهم أحرارًا في دينهم , إنما
هو مؤقت ومنتظر فيه سنوح الفرص، حتى إذا سنحت الفرصة حملوا على الإسلام
لا بطريق الإكراه والقسر، بل بطريق الدعوة اللينة، والمجادلة بالتي هي أحسن
والعدل في الحكومة، والأخلاق الحسنة في المعاشرة.
ومن هذه الطرق: التزوج ببناتهم، وهذا التزوج يفيد في نشر الدين
وتكثير سواد أهله , كما يفيد (الاسترقاق) في ذلك؛ إذ ليس الغرض من
الاسترقاق مجرد استغلال الأرقاء , والانتفاع بخدمتهم كما ينتفع بالدابة، وإنما
الغرض نفع الرقيق نفسه، ونفع البشرية بنشر تعاليم الإسلام بين أبنائها , فإننا نأخذ
الأرقاء في الحرب أسرى , ونؤديهم إلى بيوتنا ونمزجهم بعائلاتنا كي يتخلقوا
بأخلاقنا، ويدخلوا أخيرًا في ديننا، ويكثر بهم سواد أمتنا، وربما كان نصف
المسلمين [4] اليوم هم من سلالة أولئك الآباء الذين دخلوا الإسلام من طريق الرق،
فالرق في نظر العالم المسلم الاجتماعي ضرب من ضروب الاستعمار , أو ما يسميه
سواس هذا العصر (التجنس بالتابعية) .
وقد تنبه بعض ملوك الإسلام الأقدمين إلى وجوب الاستفادة من (الاسترقاق)
بشكل آخر , فاتخذ من أسارى الحرب أو من صغارهم عسكرًا جرارًا , بعد أن كان
يهذبهم ويعلمهم آداب الإسلام، ويخصصهم لفنون القتال، وهكذا فعل الخليفة
(المعتصم) العباسي في أرقاء الترك، والسلطان (أورخان) العثماني في أرقاء
الروم والصقالبة الذين سموا (أنكشارية) .
فإباحة التزوج بالكتابيات هو كإباحة استرقاق أولاد المحاربين , من حيث إن
كلاًّ منهما وسيلة لنشر الدين، وتكثير سواد المسلمين، ولكن قومي كانوا عن هذا
غافلين: غفلوا في أزمنتهم التاريخية الماضية - وقت أن كانت الغلبة لهم والقوة
المادية والمعنوية في جانبهم - عن الانتفاع بهذا التشريع الحكيم - أعني التزوج
بالكتابيات [5]- ولو تزوجوا بهن وأحسنوا المعاملة، وتمسكوا بآداب الشريعة،
وأطاعوا الله فيما نهى وأمر - لكان المسلمون أكثر سوادًا وعددًا مما هم اليوم أضعافًا
مضاعفة، ولكانوا استفادوا من هذه الشريعة فائدة اجتماعية عمرانية، كما استفادوا من
شريعة الاسترقاق، لكنهم - وا خجلاه - لم يستفيدوا من شريعة (التزوج)
بالكتابيات , لا في الأول ولا في الآخر، وأفسدوا شريعة (الاسترقاق) وغيروها
عن وضعها السماوي، فأصبحت تجارة قاسية، ومعاملة وحشية، يحبذ
الشارع الأعظم عمل الساعين في منعها، والضاربين على أيدي مروجيها.
قلنا: إن شريعة التزوج بالكتابيات كانت تفيدنا في الزمن السابق فائدة عظيمة،
ولكن هل تفيدنا اليوم لو عملنا بها؟!
أرى أن الفائدة غير مرجوة اليوم كما كانت مرجوة في السابق، وذلك
لانعكاس الحال في هذا العصر: فبعد أن كانت الغلبة لنا والقوة في جانبنا في العهد
الماضي , وكان يمكننا ونحن غالبون أن نؤثر في نفوس زوجاتنا الكتابيات , وفي
نفوس أهليهن , فنجذبهم إلينا ونطويهم في هيئة اجتماعنا - أصبحنا اليوم مغلوبين
مقلدين للكتابيين , سواء كانوا حربيين أو معاهدين أو ذميين؛ إذ إن الناموس
الاجتماعي الأعظم هو أن يقلد المغلوب الغالب في أطواره ومختلف عاداته , وكذا
في تقاليده أحيانًا , وإنما جعلت الكتابيين غالبين مع أن الكثرة لنا , والحكومة [6]
متدينة بديننا - ذلك بما تيسر لهم من أسباب الرقي العلمي والاقتصادي والعائلي ,
وبما توفر فيهم من تقليد الأوربيين في دينهم ومناحي عمرانهم , وأساليب حياتهم
والأوربيون هم الغالبون , فمن يسبق إلى تحديهم يكون هو الغالب بالطبع , وإن
زوجة أوربية أو ذمية إذا دخلت عائلة إسلامية , تصرفت في أخلاقها , وبدلت من
طباعها، وأفرغتها على طول الزمان في القالب الذي تريد , وذلك لما عليه معظم
الكتابيات من العلم والتربية والتحيل والدراسة , وما عليه معظم عائلاتنا ونساء
بيوتنا من الجهل والغباوة , وضعف الملكة والانصراف عن فهم معنى الحياة السعيدة
خذ أية بلدة من بلادنا , فلا تكاد ترى فتاة مسلمة تحذق القراءة والكتابة كما لا تكاد
ترى فتاة كتابية تجهلها [7] .
لا ريب أن وجود الزوجات الكتابيات المتعلمات في العائلة المسلمة مفيد
كوجود المعلم في المدرسة , لكن تؤدي كثرته بالتدريج إلى صبغ الأمة الإسلامية
بصبغة لا تتفق مع مصلحتها , من حيث هي أمة مستقلة تريد أن تنشئ أبناءها على
دينها وآدابها وتقاليدها.
فالتزوج اليوم بالكتابيات موضع نظر، ومناط حذر، كوضع أبنائنا في
مدارس الفرير والجزويت والأميركان، فإنهم يتعلمون، ولكنهم عن التربية
الإسلامية يبتعدون، وفي المهاوي الأخرى قد يتدهورون.
هذا ما نقوله: لو كان لنا من أمر النواميس الاجتماعية , والسنن الكونية شيء؛
أما والأمر ليس بيدنا، وتحويل مجرى السنن غير داخل تحت قدرتنا، فإن هذه
النواميس حاكمة على الأمم متحكمة في أبنائها شاؤوا أو أبوا، رضوا أو سخطوا،
والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المغربي
(المنار)
إن مسألة تزوج المسلم بالكتابية , وتزوج الكتابي بالمسلمة قد طال بحث الكتاب
فيها بمصر في هذه الأثناء , وقد أتى الكاتب فيها ببحث جديد مفيد , أوجز فيه وهو
منتقد من وجوه , أشرنا إلى بعضها في حواشي الصحائف , ولا سعة عندنا في
الوقت لتحقيق المسألة من جميع وجوهها، وقد فتحت له زميلتنا (الهلال) بابًا
واسعًا , نشرت فيه آراء كثيرين من أشهر كتاب العصر البحاثين , بعد أن استفتتهم
في مسائل معينة فيه , وكنا ممن استفتتهم وحالت كثرة أعمالنا دون كتابة شيء
لها , وإنما نقول بالإجمال: إن كان في تزوج بعض المصريين بالإفرنجيات
فائدة ما في نظام المعيشة , فإن فيه من الغوائل المنزلية والاجتماعية ما يفسد نظام
الأمة المصرية برمتها , إذا كثر، ويحول دون تجديد تكوينها تكوينًا مستقلاًّ , لا ذبذبة
فيه ولا اضطراب، وما أنكره على صديقنا المغربي إنما هو المبالغة في المسألة ,
وإلا فقد قلنا في تعليل منع التزاوج بين المؤمنين والمشركين من سورة البقرة: إن
هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة ,
فتفسد عليه تقاليده (ص361 ج 2 تفسير) وسنشرح المسألة في أول فرصة إن
شاء الله تعالى.
__________
(1) للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي العضو في المجمع العلمي بدمشق.
(2) قد منعه بعض المتقدمين والمتأخرين , وهو مما شذ به عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن جمهور الصحابة.
(3) المنار: إن هذا القول غير صحيح , فقائله إما أن يكون حاكيًا عن فئة معينة غير مقيدة بتعليم الكنيسة , وإما أن يكون جاهلاً أو مصانعًا ,على أنهم لا يزالون يزوجون المسلمين.
(4) المنار: هذه مبالغة عظيمة.
(5) إن الإكثار منهن لم يكن ممكنًا ولا مصلحة؛ لأنه يقتضي تأييم الكثير من المسلمات , وكفى أن السراري كن منهن في الغالب.
(6) أنشئت هذه المقالة في عهد الحكومة العثمانية (الكاتب) .
(7) المنار: هذه مبالغة بل غلو كبير فاللواتي يجدن القراءة والكتابة فينا واللواتي يجهلنها فيهم كثيرات جدًّا , ولكن المتعلمات فيهن أكثر بالنسبة إلى عددهن وعددنا. هذا وإننا نعرف كثيرًا من رجالنا في مصر وسورية تزوجن بنساء أوربيات , فأسلمن وتبعن أزواجهن , أو بقين على دينهن ولا نعرف واحدة منهن نصرت زوجها , ولا تصرفت في أهل بيته كما تشاء، وإني أذكر هذا الرأي لصديقي الأستاذ الكاتب , منذ كنا نطلب العلم في طرابلس الشام ومن العجيب أنه بقي مصرًّا عليه بعد أن زار مصر واتسع اختباره.(25/120)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة تحديد الزواج
بقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه
قد بيَّنا في الجزء السابق نص ما وضعته الحكومة العثمانية منذ سنين من
أحكام هذه المسألة في (قانون الأسرة - العائلة) وما بينته من مداركها , ووجه
الحاجة إليها , وأقوال الفقهاء المجتهدين فيها، ثم ما وضعته الحكومة المصرية هذه السنة في ذلك.
ومما يستحق الذكر في هذا المقام , أن بين المصريين وبين الترك , ومن
نشؤوا في مدارسهم من مسلمي الشعوب العثمانية المسلمة شبهًا , ظهر أثره في
الحكومتين.
المدارس العصرية في بلاد الفريقين: إما إفرنجية أو متفرنجة , وأكثر
المتعلمين فيها قد غلب على أرواحهم وعقولهم وأهوائهم وأذواقهم تشريع الإفرنج
ونظامهم وأدبهم وعاداتهم؛ لأنهم لا يتعلمون أصول الشريعة التي ينتمون إليها , ولا
الآداب الإسلامية التي كان عليها أسلافهم وبناة مجدهم، ولأن الذين لا يزالون
يتدارسون العلوم الشرعية في بلادهم تسقط قيمتهم وقيمة ما يتعلمونه من أنفس
الطبقات العليا فالوسطى عامًا بعد عام بجمودهم على التقليد الجاف , لما يقول
شيوخهم المتأخرون: إنه المعتمد أو المفتى به في المذهب. وإن كان مخالفًا لما عليه
سائر الأئمة المجتهدين , والعلماء الراسخين من أهل الملة - ومخالفًا لنص صريح
عن الشارع أيضًا.
وإنما يعتذرون عنه إذا احتج عليهم به بأنه لم يصح عند إمامهم وإن اتفق
حفاظ الحديث ونقلة السنة عليه - ومخالفًا لمصلحة المسلمين العامة في معايشهم أو
الدفاع عن أوطانهم - فبهذا صاروا حجة على أحكام الشريعة العادلة، وآداب
القرآن والسنة الكاملة، وفتنة للمتفرنجين , يصدونهم عن أصل الدين ويغرونهم
به. وصارت الحكومتان تنشئ المدارس؛ لتعليم نشء الأمة كل ما هو
أوربي بصبغته الأوربية , حتى أصول التشريع وأنواع القوانين , وتدخلها في
أعمالها ومحاكمها العسكرية والجنائية والتجارية والمدنية، وتتفصى من كل ما هو
شرعي إسلامي بالتدريج , وبضروب من التأويل والتلفيق مراعاة لتقاليد العامة
ونفوذ شيوخ الفقه في أنفسهم , حتى انتهتا في هذا الجيل إلى جعل أحكام الزواج
والطلاق , وما يتعلق بهما من أحكام النفقات والعدة وغيرهما قانونًا كسائر القوانين
وقد بينا ما في هذا من الجناية على الشريعة من قبل [1] , كما بينا مرارًا أن شيوخ
الفقه الجامدين على التقليد الجاف , هم الذين ألجؤا الحكومتين إلى ما ذكر , وأنهم
كانوا وما زالوا يأبون في كل بلد أن يسيروا في تعليم الشريعة ودراستها على
الطريقة الاستقلالية , فينظروا إليها في جملتها لا في كل مذهب على حدته , بحيث
يتعصب له فريق معين على سائر المذاهب , ويقارنوا بين ما استنبطه المجتهدون،
ويقيموا بينها ميزان التعادل والترجيح , الذي يتدارسون ألفاظه لذاته، كأنه منزل
للتعبد كالقرآن، أو لأجل أن يستعين به أهل كل مذهب على إبطال غيره أو توهينه.
ثم إنهم بعد هذا لا يقاومون الحكومة فيما يعتقدون أنها خالفت الشرع فيه , بل
أكثرهم يسكت عنها، وبعضهم يتأول لها، وبعضهم يفتيها فتاوى مبهمة , يتحرى
فيها أن يكون ما قاله صحيحًا في نفسه ومرضيًّا عندها , وإن لم ينطبق على واقعة
الفتوى وموضوعها , وهم يعلمون أنها تقنع به العامة بأنها لم تفعل إلا ما أفتاها به أكبر علماء الدين.
ولو أنهم سلكوا مسلك الاستقلال الصحيح , والنظر إلى جميع الأئمة
المجتهدين بعين واحدة , وجعلوا من قواعد الترجيح بين آرائهم الاجتهادية اختيار
أيسرها؛ عملاً بالقاعدة القطعية الثابتة بنص القرآن كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر} (البقرة: 185) وقوله عز وجل: {مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَج} (الحج: 78) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا،
وبشروا لا تنفروا) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. وفي رواية
(وسكنوا) بدل (وبشروا) وورد من حديث أبي موسى بالتثنية؛ أي: إن
النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه هو ومعاذ - رضي الله عنهما - بذلك حين أرسلهما
عاملين إلى اليمن، وأمرهما بالاتفاق وهو متفق عليه أيضًا , وقالت عائشة - رضي
الله تعالى - عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ
أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه. وهو متفق عليه واللفظ
لمسلم - لو سلكوا هذا المسلك , مع بقاء طوائف من طلاب الشريعة يتوسعون في فقه
كل مذهب - لأمكنهم جعل التشريع الإسلامي فوق كل تشريع , وكان عليه مدار
الأحكام في جميع البلاد الإسلامية، وكان لهم مندوحة عن التأويل والأخذ بالأقوال
الشاذة , والتفصي بفتوى مبهمة , يظنون أنهم يسلمون بها من إقرار الحكومة على
ما تخالف فيه الشريعة.
نعم: قد آن للعلماء أن يأخذوا بإيمانهم جميع أمور التشريع , ويبنوا ما هو
قطعي , لا مندوحة للمسلمين عنه , وما هو دون ذلك مما يجب الأخذ فيه بما هو
أيسر على الناس , ما لم يكن معصية لله تعالى , وقد دخلوا الآن في طور جديد ليس
فيه حاكم مستبد يرهقهم أو يعاقبهم إذا أظهروا ما عندهم , ولكن يجب أن يعلموا أنه
يستحيل أن يلتزم البشر في هذا العصر تقليد عالم واحد , فيما يعسر عليهم وينافي
مصالحهم. وهاهم أولاء قد خرجوا عن هذا في الحكومتين، ورجحوا على المذاهب
الأربعة في جملتها قولاً شاذًّا لأحد العلماء المتقدمين , بحجة أنه هو الأيسر والموافق
للمصلحة العامة ولمصلحة من يتحكم الأولياء بتزويجهم صغارًا، وما استخرجه
للحكومتين , من زوايا مسائل الخلاف إلا بعض هؤلاء الفقهاء، فلماذا لا يأخذون
الأمر بجملته في التشريع كله؟
وقد علم القراء مما نشرناه في الجزء السابق , أن ما قررته الحكومة العثمانية
في هذه المسألة أصح أحكامًا، وما دعموه به أحسن بيانًا، ولا يرد عليه من الطعن
ما يرد على ما قررته الحكومة المصرية من تحريم ما أحل الله وأجمع عليه
المسلمون، كتزويج البالغين بالفعل قبل السن المعينة , وعدم الاعتداد بنكاحهما وما
يترتب عليه من الأحكام الكثيرة وإن ولد لهما، وعدم سماع دعوى لأحدهما تتعلق
بهذه القضية في حال حياة الآخر ولا بعد موته لا في الطلاق والنفقة، ولا في
الإرث ولا في غير ذلك - وإباحتها للمحرم بالإجماع من العقد على المتزوجة لرجل
آخر بعد بلوغ السن المقررة - إلى غير ذلك، فالقانون العثماني اختار قولاً مشهورًا
من أقوال أئمة الفقهاء في سن البلوغ , وجعله مناط أهلية التعاقد في النكاح وغيره
وجعل لمن يدعي البلوغ بالفعل , فله أن يستأذن الحاكم الشرعي في الزواج إذا أراده،
وحتم على الحاكم أن يأذن له إذا رأى أن بنيته تطيق ذلك. فوقف عند حد منع
الضرر والضرار الممنوعين بنص الشارع، ولم يمنع من سماع أي دعوى تترتب
على نكاح لم يبلغ فيه أحد الزوجين تلك السن , لما في ذلك من المفاسد الكثيرة،
وتضييع الحقوق الكبيرة. ومن ادعى أن كل زواج قبل السن المحددة في القانون ,
فهو ضار كذبه الطب والحق الواقع، ومن ادعى أنه لا ضرر في شيء منه فهو
جاهل بالواقع أو مكابر.
ومن المغالطة أن يجعل الخلاف في هذا القانون دائرًا بين منع زواج الصغير
والصغيرة مطلقًا وإباحته مطلقًا. فإن بين الأمرين وسطًا لم ينقل عن أحد من العلماء
خلاف فيه , وهو من بلغ بالفعل في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو
السابعة عشرة - وهو لا يصدق عليه وصف الصغر لغةً ولا شرعًا.
لم يبلغنا أن أحدًا من علماء الترك , ولا غيرهم من العثمانيين أنكر على
حكومتهم الأحكام التي جعلتها مواد قانونية لهذه المسألة , ولكن جميع أهل البصيرة
بالدين , يطعنون في دين رؤساء تلك الحكومة الاتحادية , ويحكمون بردتهم،
ويعتقدون أنهم يحاولون هدم هذه الشريعة الإلهية العادلة.
وأما علماء مصر من مدرسي الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار
العلوم والمحامين الشرعيين وغيرهم , فقد تجرؤوا في هذه المرة وانتقدوا هذا القانون
من وجوه عديدة وأنكروا على واضعي نصه , وعلى الشيخين الكبيرين - شيخ
الأزهر ومفتي الديار المصرية - إجازته , واقتصارهما على نقل قول الحنفية بجواز
تخصيص القضاء - ومنهم من أطلق القول في الإنكار وبالغ فيه , ومنهم من عرف
بعضًا وأنكر بعضًا، وقد حوم بعضهم حول مسألة الاجتهاد , وهل يدعيه واضعو
هذا القانون مطلقًا أو مقيدًا؟ وألم آخر بمسألة جعل الشرعية قانونًا , وهو ما سبقنا
إليه عند الأمر بتأليف اللجنة العلمية؛ لوضع قانون الأحكام الشخصية - فبدأنا
بإظهار إنكارنا للشيخ محمد بخيت أكبر أعضاء تلك اللجنة , وثنينا بوزير الحقانية،
ثم كتبنا ما كتبنا في المنار.
ولما كانت هذه المسألة مفتاحًا لمسائل ستتلوها من جنسها , وتكون موضوع
البحث والمناقشة في مجلس النواب المصري الذي سينعقد قريبًا رأينا من المفيد أن
ننشر أقوى ما اطلعنا عليه مما كتب في تأييد هذا القانون , وفي نقده والإنكار عليه؛
ليحفظ أو يسهل الرجوع إليه، والفريق الأول عندنا محصور في الشيخ محمد بك
الخضري - وهذا نص ما كتبه ونشره في جريدة الأهرام:
***
تحديد سن الزواج
للأستاذ الشيخ محمد بك الخضري من المفتشين للمدارس الأميرية [2]
فاجأ الجمهور مرسوم جلالة الملك , بتحديد السن لزواج الصغير والصغيرة ,
حتى لو حصل الزواج قبل هذه السن لا تعترف به المحاكم الشرعية , ولا تبني
عليه شيئًا من آثار الزوجية , ولا يسمح لمن يباشرون عقود الزواج من
المأذونين والقضاة , أن يحرروا عقد زواج بين اثنين لم يبلغ أحدهما السن التي
قررها المرسوم لكل من الزوجين , فاجأهم ذلك فكان مجالاً للأحاديث والسمر،
واستفتاء المستفتين، وانتقاد المنتقدين، من علماء ومحامين، على صفحات الجرائد , وقد دعاني بعض من أحب إلى أن أكتب على صفحات الأهرام الغراء ,
ما يتضح به صبح هذا الأمر الخطير , قبل أن تتشعب الآراء، وتكثر الظنون.
***
زواج الصغير والصغيرة
مما كان موضوع خلاف بين فقهاء المسلمين , عقد زواج الصغيرة والصغير
فمنهم من أجازه , ومنهم من منعه , أما الذين أجازوه فهم جمهور الفقهاء , وهم بين
مضيق لدائرته وموسع لها , ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب:
(الأول) رأي الفقيه المقدم أبي حنفية النعمان بن ثابت -رحمه الله - وهو
الذي توسع فيه توسعًا عظيمًا , حيث أجاز لكل ولي قرب أم بعد أن يتولى تزويج
الصغيرة والصغير , إلا أنه ميز الأب والجد بامتياز , وهو أن عقدهما نافذ لا خيار
فيه , بعد أن يبلغ ذلك الذي زوج وهو صغير ذكرًا أكان أم أنثى أما إن باشره
غيرهما من الأولياء من أخ أو عم أو ابن عم , فإنه يثبت فيه الخيار بعد البلوغ
بشروط وقيود , جعلت ذلك الحق في الغالب عديم الجدوى , وليس من غرضنا الآن
أن نتوسع في شرح تلك القيود.
(الثاني) رأي الفقيه المصري [3] الكبير محمد بن إدريس الشافعي وهو أنه
لا يزوج الصغير والبكر الصغيرة إلا الأب أو الجد , وقيد حقهما في ذلك بقيود
تحفظ للصغير والصغيرة بعض حقوقهما.
(الثالث) رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس وهو أنه لا يباشر هذا العقد إلا
الأب وحده في حياته , ووصيه في التزويج بعد وفاته - احترم رحمه الله - إرادة
الأب حيًّا أو ميتًا.
وأما الذين منعوا تزويج الصغيرة والصغير قبل البلوغ , فقليل من الفقهاء ذكر
منهم صاحب المبسوط: بن شبرمة وأبا بكر بن الأصم. والأول فقيه من كبار فقهاء
الكوفة , وكان قاضيها في عصر الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - وقد ساق صاحب
المبسوط دليل هذا المذهب واضحًا مع مخالفته لمذهبه , كما هو شأن العلماء أمنة
العلم وسرج الهداية - قال - لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) : فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة. يلاحظ أن أئمة الفقهاء وكبار المفسرين قرروا أن كلمة النكاح , لم تأت في القرآن الكريم إلا بمعنى
العقد.
ولأن ثبوت الولاية على الصغير؛ لحاجة المولى عليه , حتى إن فيما لا
تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات - ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن
مقصود النكاح طبعًا هو قضاء الشهوة - وشرعًا النسل - والصغر ينافيهما.
ثم هذا العقد يعقد للعمر ويلزمهما أحكامه بعد البلوغ , فلا يكون لأحد أن
يلزمهما ذلك؛ إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ.
هذا دليل المذهب المانع لزواج الصغيرة والصغير , احتج عليه أصحابه بدليل
منقول وهو إشارة الكتاب , وبدليل راجع إلى العلة التي شرعت من أجلها الولاية ,
وهي حاجة الصغير. فمتى انتفت الحاجة انتفى معلولها، وهي هنا منتفية. وبدليل
معقول وهو ما يترتب من الفساد على هذا العقد , وهو إلزام الصغير بعد بلوغه
أمرًا لم يلتزمه
لمن أجازوا تزويج الصغيرة والصغير - وهم جمهور الفقهاء - أدلة أخرى
وليس القراء في حاجة إلى أن نذكرها لهم؛ لأن الغرض أن نبين أن هناك مذهبًا
إسلاميًّا منع زواج الصغيرة والصغير , وحتم الانتظار إلى البلوغ , والذين رووا
هذا المذهب هم علماؤنا الذين نطمئن إليهم , يظهر أن الحكمة المصرية سمحت
لنفسها منذ أزمان , أنها إذا رأت في حكم من المذهب المعمول به ضررًا يلحق
الجمهور , أن تشير على جلالة الملك بتعديل هذا الحكم مستعينًا بآراء الآخرين من
الفقهاء , سواء أكانوا من أرباب المذاهب المعروفة , كما فعلت في الطلاق على
الغائب ومسائل أخرى , أم من غيرهم كما فعلت في هذه المسألة , وعدم الاعتراض
عليها فيما سبق شجعها على تحديد سن الزواج بعد أن علمت من أضرار تزويج
الصغار ما علمت.
وليس هناك مانع من التلفيق , كما صرح به كبار رجال الأصول , وفي
مقدمتهم: الكمال بن الهمام أشهر الأصوليين من الحنفية.
***
المنع وعدم سماع الدعوى
الحكومة متى تحققت من ضرر السير على حكم من الأحكام في المذهب
المعمول به , ليس في مقدورها أن تمنع من العمل على خلافه , والدليل على ذلك
أن المحاكم الشرعية تسير في أحكامها على الراجح من مذهب أبي حنيفة - رحمه
الله - وهناك أقوال لأصحابه تخالف ذلك الراجح ومذاهب أخرى تخالفه كذلك , فهل
في مقدور الحكومة أن تمنع زواجًا يعقد بين اثنين على مذهب الشافعي - رحمه الله -
وتقول للزوجين: تفرقا؛ لأن العقد بينكما ليس على الراجح من مذهب أبي حنيفة؟ !
كلا ليس ذلك في مقدورها , ما دام الزوجان راضيين , إنما الذي في مقدورها ألا
تعترف محاكمها بهذا العقد ولا بالآثار المترتبة عليه.
هب أن زوجًا قال لزوجه مُطَلِّقا: أنت بائن. وفي أثناء عدتها راجعها من
غير عقد جديد , فهل في وسع حكومة من حكومات العالم الإسلامي أن تقول للزوج
الذي عاد إلى معاشرة زوجه: لا تعد؛ لأن أبا حنيفة يعتبر هذا الطلاق بائنًا ولا عودة
إلا بعقد جديد؟ ! كلا ليس ذلك في وسع أحد , وإنما إذا تقدما للمحكمة لا تعتبرهما
زوجين , وإذا مات أحدهما لا تورث الآخر منه؛ لأن الزوجية في نظر المحكمة قد
انحلت ولم تعد - فما رآه بعض المحامين من أنه كان الأولى بالحكومة , أن تضع
عقوبة على من زوج ابنه أو ابنته في حال الصغر , رأي لم ينضج؛ إذ كيف يعتبر
مجرمًا من اتبع مذهبًا من مذاهب المسلمين في عمل من أعماله الشخصية ويجر إلى
المحاكم المدنية لتحكم عليه بالعقوبة؟ ! .
إن هذا المرسوم الكريم قد دعا إلى الابتعاد عن أمر فيه ضرر عظيم - كانت
هناك عقود تعقد , لا لمصلحة الصغيرة والصغير بل لمصالح آخرين , يريدون
الاستفادة من تقييد أحد الزوجين بالآخر , قبل أن تعرف إرادتهما أو إرادة أحدهما،
وكثير من المطلعين على أحوال الناس يقولون: إن عاقبة مثل هذا الزواج في
الغالب نكد على الزوجين جميعًا. وأكثر من ذلك أن ذوي الخبرة من الأطباء قرروا
لهذا الاجتماع أضرارًا , ليس شرحها بميسور على صفحات الجرائد , وقد سمعت
الكثير منها فآلمني سماعه , ولا طريق إلى تنفير الناس منه , وإبعادهم عنه إلا أن
يروا محاكمهم الشرعية تأبى أن تعترف به.
أما الاعتراض على ذلك , بما يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام؛ فلا محل
له ما دامت هناك مذاهب مختلفة , وكثير من العقود يعتبرها أبو حنيفة - رحمه
الله- صحيحة , ويعتبرها الشافعي باطلة , ولكن القاضي يحكم بالصحة ويحل
الاجتماع , فهل يقوم الشافعي ويقول للمحكمة: قد أحللت ما حرم الله؟ كلا بل
متى حكم القاضي بأي مذهب أبيح له أن يقضي به - كان حكمه قاضيًا على كل
خلاف , وصارت الحادثة كأن فيها قولاً واحدًا , فإذا أباح ولي الأمر لقاضيه أن
يقضي بمذهب ابن شبرمة في زواج الصغيرة والصغير , فقضى حتى ببطلانه لم يعد
هناك خلاف بين الفقهاء في بطلانه , وهكذا الشأن في كل حكم لم يخالف كتابًا ولا
سنة , ومع هذا فإن المرسوم لم يكلف القاضي أن يحكم ببطلان الزواج , وليته فعل
فإن الجادة خير من بنيات الطريق.
ولا محل لقول كاتب في المقطم أمس: (فرأيت الشريعة برمتها لا تحظر ما
منعه القانون الملحق , ولا تمنع ما حرمت هاتان المادتان) فإنه إن أراد بالشريعة
بعض المذاهب الإسلامية , كان قوله صحيحًا , وليست الشريعة مذهبًا معينًا , وإذا
أراد بالشريعة إجماع المسلمين على حل ما يريد المرسوم الامتناع منه خطأه صاحب
المبسوط بما رواه واستدل عليه في الصفحة 212 من الجزء الرابع.
ليس للجمهور المصري بعد ذلك إلا أن يساعد حكومته , التي أرادت به خيرًا
فيمتنع من تلقاء نفسه عن عقد زواج، أحد طرفيه صغير أو صغيرة.
... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري
***
زواج الصغير والصغيرة
رد للأستاذ الشيخ محمد بخيت أشهر علماء
الأزهر وفقهاء الحنفية
أرسله إلينا ونشر في بعض الجرائد اليومية , قد بدأه بمقدمة في حكم النكاح
(التزوج) واختلاف العلماء فيه, هل فرض أو واجب أو سنة على الأعيان أو
على الكفاية، وكونه بصرف النظر عن الخلاف تعتريه الأحكام , فيجب على من
خاف على نفسه الزنا ـ وبعد هذه المقدمة قال:
قد اطلعنا في جريدة الأهرام عدد 14231 الصادر في يوم الإثنين 17 ديسمبر
سنة 1923 - جمادى الأولى سنة 1342 على مقال مذيل بإمضاء الأستاذ الفاضل
الشيخ محمد الخضري , ومذكرة مذيلة بإمضاء علماء من أفاضل العلماء , وبعد أن
ذكروا مذاهب جمهور العلماء في تزويج الصغير والصغيرة , وأن ذلك جائز على
اختلاف بينهم فيمن يتولاه , ذكروا بعد ذلك مذهب الذين منعوا من زواج الصغير
والصغيرة وتزويجهما قبل البلوغ , وأن ذلك مذهب ابن شبرمة وأبي بكر الأصم ,
وأن دليل هذا المذهب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) إلى آخر ما ذكروه من الأدلة.
وأقول: إني أعتقد أن من البعيد أن يكون ذلك النقل صحيحًا وإن نسبه في
المبسوط لها , ولذلك قال صاحب البدائع: يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما
قالا: ليس لهما؛ أي: للأب والجد ولاية التزويج. ولم يستدل لهما بتلك الآية
بل استدل بالمعنى , فقول صاحب البدائع: يحكي دليل على ضعف النقل عن ابن
شبرمة ومن معه , وأن صاحب المبسوط وغيره ممن نقلوا هذا المذهب عمن
ذكروا إنما نقلوه؛ لإبطاله، بقطع النظر عن صحة النقل وعدمه , وأيضًا يبعد كل
البعد أن ابن شبرمة ومن ذكر معه , يستدلون بهذه الآية على منع زواج
الصغير والصغيرة وتزويجهما , ويقولون: إنه لو جاز لم يكن لهذا فائدة؛ وذلك لأن
الآية إنما سيقت لما يتعلق بأموال اليتامى الصغار , ولا دلالة فيها على منع تزويج
الصغير والصغيرة , لا بطريق العبارة ولا بطريق الإشارة , ولا بطريق آخر من
طرق الدلالات.
وإلى كافة العلماء بيان ذلك فنقول: قال تعالى في أول سورة النساء:
{وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2) قال المفسرون جميعًا: فيما نعلم الخطاب
للأوصياء والأولياء , والمراد بإيتاء الأموال: إما تركها سالمة غير متعرض لها بسوء , وإما الإيتاء بالفعل , والمراد باليتامى: إما معناه اللغوي؛ فيشمل الكبار
والصغار فهو حقيقة في ذلك وارد على أصل اللغة , وإما مجاز باعتبار ما كان؛ لأن إيتاء المال بالفعل إنما يكون بعد البلوغ، ثم قال تعالى في تلك السورة:
{وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: 5) قال المفسرون: هذا رجوع إلى بيان
بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى , وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ,
وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس - أعني الزواج - , وبيان بعض
الحقوق المتعلقة بالأجنبيات , من حيث النفس ومن حيث المال استطرادًا؛ إذ
الخطاب كما يدل عليه كلام عكرمة للأولياء , وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السفهاء: اليتامى , ومن أموالكم: أموالهم. ثم قال عز من قائل بعد ذلك:
{وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6) الآية.
قال شيخ الإسلام [4] : إن هذا شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى
إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق , والنهي عنه عند كون أصحابها
سفهاء. وقال غيره: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا
شروع. وأيًّا كان فقد أطبق المفسرون على أن الابتلاء معناه الاختبار , وعلى أن
معنى الآية: واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط
الأموال , وحسن التصرف فيها , وجربوهم بما يليق بحالهم. غير أن أبا حنيفة قد
اقتصر في الاختبار على الاهتداء إلى ما ذكر.
وزاد الشافعي على هذا الاهتداء: الاهتداء إلى الصلاح في الدين , واتفق
الإمامان - رضي الله عنهما - على أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ. وظاهر الآية
يشهد لهما لما تدل عليه (حتى) التي هي للغاية , غير أنهما اختلفا في طريق الاختبار
فقال أبو حنيفة: يكون ذلك بإذن الولي أو الوصي لليتيم في أن يباشر البيع والشراء
مثلاً. وقال الشافعي: لا يكون بذلك بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال بأن
يمرنه على كيفية البيع والشراء , حتى إذا جاء وقت البيع أو الشراء باشره الولي أو
الوصي؛ وذلك لأن الإذن في مباشرة البيع والشراء مثلاً يتوقف على دفع المال
لليتيم , ودفع المال إليه لا يكون إلا بعد البلوغ وإيناس الرشد والغرض الاختبار قبل
ذلك. وقال مالك: الاختبار يكون بعد البلوغ , وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ} (النساء: 6) معناه - على ما اتفق عليه المفسرون - حتى إذا بلغوا الحلم
وحد البلوغ , سواء كان ذلك بالحيض والاحتلام، أو بالسن بالنظر إلى الصغيرة،
أو بالسن أو الاحتلام بالنظر إلى الصغير. ويستوي في ذلك المعنى أن يكون لفظ
النكاح في الآية بمعنى العقد , أو بمعنى الوطء , وإن قال الحنفية: إنه حقيقة في
الوطء. والشافعية: إنه حقيقة في العقد. وقد جاء بمعنى الوطء في قوله تعالى:
{وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 22) الآية. فلا وجه للقول بأنه
لم يجئ في القرآن إلا بمعنى العقد , وقالوا جميعًا: إن معنى قوله تعالى: {فَإِنْ
آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْداً} (النساء: 6) الآية، إن أحسنتم أو تبينتم اهتداء إلى ضبط
الأموال , وحسن التصرف أو إلى ذلك , وصلاح في الدين على ما سبق من الخلاف ,
فادفعوا إلى اليتامى أموالهم عقب البلوغ بدون تأخير فحتى للابتداء وللغاية
و {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) جملة شرطية , جعلت غاية للابتلاء ,
وفعل الشرط (بلغوا) وجوابه الشرطية الثانية , فكان دفع الأموال معلقًا على
شرطين: الوصول إلى حد البلوغ , وإيناس الرشد , ولذلك قال الفخر الرازي: لا
شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ,
وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: 6)
فيجب أن يكون المراد: {فَإِنْ آنَستُم مِنهُمْ رُشْداً} (النساء: 6) في ضبط
مصالحهم , فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم , ولم يبق للبعض تعلق بالبعض.
انتهى.
إذا علمت هذا تعلم أن الآية لا دلالة فيها على منع تزويج الصغير والصغيرة
قبل البلوغ , حتى يقال: لو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة , وما هو
الشيء الذي لا تكون له فائدة في هذا الآية , إذا جاز التزويج قبل البلوغ؟ وقد
علمت معناها الذي أطبق عليه المفسرون.
على أن هذا المذهب بعد كونه غير مدون , ولا أصحاب له يعتمد عليهم في
النقل مصادم لصريح قوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: 4) قال صاحب
المبسوط: بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب العدة شرعًا هو النكاح، وذلك دليل
على تصور زواج الصغيرة.
ومصادم أيضًا لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} (النساء: 3) فإن هذا القول إنما يتحقق إذا كان زواج
اليتيمة جائزًا. وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة ابن
الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختي، هذه
اليتيمة تكون في حجر وليها , يشركها في مالها , ويعجبه مالها وجمالها , فيريد أن
يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها , فيعطيها مثل ما يعطيها غيره , فنهوا أن
ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق , وأمروا أن
ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. فالمراد من اليتامى المتزوج بهن , والقرينة
على ذلك الجواب، فإنه صريح فيه , والربط يقتضيه. والمراد من النساء:
غير اليتامى , كما صرحت به الحميراء رضي الله عنها بدلالة المعنى عليه , وإشارة لفظ النساء إليه , وقد روى ابن جرير وابن المنذر وابن حاتم عن عائشة رضي الله عنها مثل ما رواه البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي عن عروة، فهذا دليل على جواز تزويج اليتيمة.
وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة من عمر بن سلمة
وهي صغيرة , وقد تزوج قدامة بن مظعون بنت الزبير يوم ولدت , وقال: إن مت
فهي خير ورثتي , وإن عشت فهي بنت الزبير. وزوج ابن عمر بنتًا له صغيرة
من عروة بن الزبير. وزوج عروة بن الزبير بنت أخيه , وهما صغيران.
ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي رضي الله
عنه , وزوجت امرأة ابن مسعود بنتًا لها صغيرة ابنًا للمسيب بن نخبة، فأجاز ذلك
عبد الله.
قال في المبسوط: ولكن أبا بكر الأصم لم يسمع بهذه الأحاديث , ثم قال:
والمعنى فيه: إن النكاح من جملة المصالح وضعًا في حق الذكور والإناث جميعًا ,
وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا تتوفر إلا بين الأكفاء , والكفء لا يتفق في
كل وقت , فكانت الحاجة ماسة إلى إثبات الولاية للولي في صغرها؛ لأنه لو انتظر
بلوغها لفات ذلك الكفء ولم يوجد مثله , ولما كان هذا العقد يعقد للعمر بتحقق
الحاجة إلى ما هو من مقاصد هذا العقد , فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة في الحال
بإثبات الولاية للولي. انتهى.
وبعد أن حكى صاحب البدائع أن لا خلاف في تزويج الأب والجد إلا بشيء
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة - بهذا اللفظ الذي يفيد ضعف النقل عنهما كما
ذكرنا- استدل للقول بجواز تزويج الأب والجد للصغير والصغيرة بقوله تعالى:
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) وقال: الأيم اسم للأنثى من بنات آدم
عليه السلام , كبيرة كانت أو صغيرة لا زوج لها , وكلمة (من) إن كانت للتبعيض
يكون هذا خطابًا للآباء , وإن كانت للجنس يكون خطابًا لجنس المؤمنين , وعموم
الخطاب يتناول الأب والجد , وأنكح الصديق - رضي الله عنه -عائشة وهي بنت
ست سنين , وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وزوج علي ابنته أم كلثوم
وهي صغيرة من عمر بن الخطاب، وزوج عبد الله بن عمر ابنته وهي صغيرة
عروة بن الزبير - وبه تبين أن قولهما خرج مخالفًا لإجماع الصحابة , فكان مردودًا.
وأما قولهما: إن حكم النكاح بقي بعد البلوغ. فنعم , ولكن بالإنكاح السابق لا بإنكاح
مبتدأ بعد البلوغ , وهذا جائز كما في البيع , فإن لهما ولاية بيع ما للصغير , وإن
كان حكم البيع وهو الملك يبقى بعد البلوغ لما قلنا، فكذا هذا اهـ.
وقال الكمال في فتح القدير بعد أن استدل على جواز زواج الصغير
والصغيرة بقوله تعالى: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: 4) : فبطل به منع ابن
شبرمة وأبي بكر بن الأصم , وتزويج أبي بكر لعائشة - رضي الله عنهما - وهي
بنت ست نص قريب من المتواتر. اهـ.
فكان هذا المذهب مذهبًا باطلاً مردودًا مخالفًا لصريح الكتاب والسنة والإجماع
فلا يجوز العمل به.
سلمنا صحة النقل عمن ذكروا , وأن المذهب مذهب صحيح يجوز العمل به
لكن أصحاب المذكرة والأستاذ الشيخ الخضري في مقاله لم يعملوا بهذا المذهب ,
ولا بغيره من مذاهب علماء المسلمين؛ وذلك لأن ابن شبرمة وعثمان وأبا بكر بن
الأصم إنما خالفوا على فرض صحة النقل عنهم في تزويج الصغير والصغيرة ,
قبل بلوغهما لا بالحيض ولا بالاحتلام ولا بالسن , ولا يوجد من علماء المسلمين
قاطبة من يقول: بأن بلوغ الصغير والصغيرة لا يكون إلا بالسن , بل الإجماع من
العلماء سلفًا وخلفًا إلى يومنا هذا قائم على أن البلوغ في الصغيرة إما بالحبل أو
بالحيض أو بالاحتلام , وفي الصغير إما بالإحبال أو الاحتلام أو السن , وأنه لا
يصار إلى اعتبار البلوغ بالسن إلا إذا انعدم الحبل والحيض والاحتلام في
الصغيرة، وانعدم الإحبال والاحتلام في الصغير , وأما إذا وجد شيء مما ذكر في
الصغير أو الصغيرة , فقد بلغت هي وبلغ هو النكاح؛ أي: حد بلوغ الحلم وصارا
مكلفين بإجماع المسلمين , فكان حصر بلوغ الصغير والصغيرة في كونه بالسن
ودعوى أنه أضبط - أمارة للبلوغ كما جاء في المذكرة , وفي مقال الأستاذ الشيخ
الخضري مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله وإجماع السلمين , فالقرآن دال
والإجماع قائم على أن الصبي والصبية متى بلغا الحلم , بأن حاضت الصبية أو
احتلمت أو حبلت وكانت رشيدة وقت بلوغها , وجب تسليم أموالها إليها بدون تأخير ,
ولو كانت بنت تسع سنين , وكذلك الصبي إذا احتلم أو أحبل امرأته , وتبين رشده
وقت البلوغ وجب تسليم أمواله إليه , ولو كانت سنه ثنتي عشر سنة بدون تأخير ,
ولا اعتبار بالسن في هاتين الحالتين. وأما إذا لم تحض الصبية ولم تحتلم ولم تحبل ,
ولم يحتلم الصبي ولم يحبل امرأته كان بلوغهما حينئذ بالسن , وهو خمس عشر سنة
عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة , وعليها الفتوى عند
الحنفية , كما أن العادة الفاشية أن الصبي والصبية يصلحان للزواج وثمراته في هذه
المدة ولا يتأخران عنها.
وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للصغير ثمان عشرة , وللصبية سبع عشرة
سنة. وعلى كل حال فاعتبار السن أمارة للبلوغ وحدًّا له متأخر بالإجماع , عن
اعتبار الحيض والاحتلام حدًّا للبلوغ وأمارة له , فلا يصار إليه إلا عند عدمهما , لا
فرق في ذلك بين أن يزوج الإنسان نفسه، أو يزوجه وليه بإذنه على اختلاف
المذاهب في تفصيل ذلك , وبين أن يملك التصرف في ماله ومتى بلغ بالسن على
اختلاف المذاهب , فإن كان رشيدًا وجب تسليم ماله إليه عقب بلوغه هذه السن ,
وإن كان سفيهًا وجب الحجر عليه على قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومن
وافقهم , ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة بل يؤخر ماله إليه إلى أن تبلغ سنه خمسًا
وعشرين سنة , فإنْ بلغ تلك السن سلم إليه ماله على كل حال.
وأما ما أجاب به الأستاذ الفاضل الشيخ الخضري عن السؤال الرابع الذي هو:
ما الرأي فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه السن؟ بأنه لا يعلم تفصيلاً لمذهب
ابن شبرمة في ذلك- فنقول له:
إذا كنت لا تعلم تفصيلاً لمذهب ابن شبرمة فيمن يبلغ بعلامات البلوغ قبل هذه
السن , فلم يكن حد البلوغ معلومًا عند ابن شبرمة , فلا يعلم حد الصغر، فيكون
مذهبه مجهولاً عندنا , فلا يجوز الأخذ به ومع ذلك فمذهب ابن شبرمة وعثمان
البتي وأبي بكر بن الأصم لم يكن مدونًا , وليس له أصحاب نقلوه بطريق صحيح ,
وإنما علمناه مما ذكره بعض علماء المذاهب الأخرى، كصاحب المبسوط وصاحب
البدائع وصاحب الفتح , وهؤلاء قد ذكروه مجملاً , ومع ذلك فهؤلاء يصرحون بأن
هؤلاء العلماء الثلاثة لم يخالفوا إلا في تزويج الصغير والصغيرة قبل البلوغ،
وأطلقوا اعتمادًا على ما هو متفق عليه بين الجميع , من أن البلوغ كما يكون بالسن
يكون بغيرها قبل هذه السن , على ما نطق به الكتاب والسنة وعبارة المبسوط قال
بخلاف ما يقوله ابن شبرمة , وأبو بكر الأصم أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى
يبلغا؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) اهـ.
فكان المنع في هذا المذهب مقيدًا بالبلوغ بأي أمارة كانت , كما هو المراد من
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء: 6) على ما فصلناه , وقال في
البدائع: جملة الكلام فيه: إنه لا خلاف في أن للأب والجد ولاية النكاح , إلا شيئًا
يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما قالا: ليس لهما ولاية التزويج. واستدل
لهما بأن حكم الزواج إذا ثبت لا يقتصر على حال الصغر , بل يدوم ويبقى إلى ما
بعد البلوغ. إلى آخر ما استدل به لهما مما هو صريح في أن منعهما مقيد بحال
الصغر , وأما بعد البلوغ فلا خلاف لأحد في جواز التزويج والتزوج , وهل بمجرد
عدم علم الأستاذ الشيخ الخضري بتفصيل هذا المذهب فيمن يبلغ بعلامات البلوغ
قبل هذه السن , يثبت أن هناك خلافًا ومذهبًا في عدم اعتبار علامات البلوغ في هذه
السن , وإن لم ينقل العلماء خلافًا في ذلك خصوصًا مع الإجماع على أن التكليف
مرفوعٌ عن الصبي حتى يحتلم , وعن الصبية حتى تحيض.
وأما ما قاله في مقاله المنشور بجريدة الأهرام نمرة 14236 , في يوم السبت
22 ديسمبر سنة 1923 من أن الأصوليين اشترطوا في العلل التي تناط بها
الأحكام أن تكون أوصافًا ظاهرة منضبطة , وعلامات البلوغ , وإنْ تكن منضبطة
ليست بظاهرة. إلى آخر ما قال [5]- فنقول له: إن علامات البلوغ ظاهرة منضبطة،
منها الحيض والاحتلام والحبل والإحبال , وكما اعتبر الشارع هذه الأمارات في
البلوغ , فقد اعتبر الحيض أمارة في العدة في ذوات الحيض؛ لانقضائها وتعرف
براءة الرحم , حتى على القول بأن عدة ذوات الحيض بالأطهار؛ لأن الأطهار التي
تنقضي بها العدة إنما تعرف بالحيض , وكما اعتبر الشارع الحيض فيما ذكر قد
اعتبره واعتبر الاحتلام في توجه خطاب التكليف , وأجرى على كل بنت حاضت
أو احتلمت , وابن احتلم أحكام البالغين والمكلفين , فإن كان لدى حضرة الأستاذ علم
بأن في هذا خلافًا، فليدلنا على مذهب المخالف , وكذلك الشارع اعتبر الحبل علة؛
لإيقاف نصيب الحمل في الميراث , ولوجوب الحد على من حملت من الزنا , على
أن المثبت للحكم في مورد النص هو النص لا العلل , وأما ما في دعوى الحيض
من البلاء على الأزواج والزوجات , فهذا منشؤه عدم التزام الشرع والعمل به على
فرض أن الدعاوى تخالف الواقع قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} (البقرة: 228) , وبالجملة فارتكاب مخالفة الحكم لا
ينسخ الحكم.
ومن هذا تعلم أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة: (اتفق العلماء على بطلان
العقد إذا باشره غير مميز) إلخ. بل هو لغو من القول وخروج عن الموضوع ,
ولا علاقة له به؛ لأن الكلام ليس في مباشرة غير المميز عقد الزواج , ولا في
مباشرة المميز له , وإنما الكلام في مباشرة ولي الصغير والصغيرة تزويجهما حال
الصغر بلا فرق بين مميز وغير مميز , كما أنه لا معنى لقول أصحاب المذكرة.
(اتفقت كلمة الحنفية أنه بعد البلوغ لا جبر لأحد في عقد الزواج) . فإنه خروج عن
الموضوع أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الجبر وعدم الجبر.
على أن قولهم فيها: (لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل) . يهدم جميع ما
قصدوه من المقدمات التي ذكروها في المذكرة , ويبطل ما يريدون ترويجه بناء عليها
من جواز تحديد السن للزواج؛ وذلك لأنهم متى اعترفوا بأن البلوغ آية الرشد
واستكمال العقل , وكان البلوغ بإجماع المسلمين كما يكون بالسن - على التفصيل
الذي قدمناه عند عدم الحيض والاحتلام للصبية , وعدم الاحتلام للصبي - يكون
بالحيض والاحتلام متى بلغت تسع سنين , والاحتلام للصبي إذا بلغ ثنتي عشرة
سنة , ولو لم يبلغ كل منهما السن التي حددوها لزواجه , فكان تحديد السن بما حددوه للزواج مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع , كما أن ما ذكروه بالمذكرة من
اختلاف العلماء على فرض صحة الخلاف في جواز تزويج الصغير والصغيرة قبل
البلوغ , لا ينبني عليه جواز تحديد السن التي حددوها للزواج؛ لأن الصغير أو
الصغيرة إذا بلغا بغير السن , فقد بلغا الحلم، وملك تزويج نفسه , إن كان ذكرًا , أو
تزويجها وليها جبرًا أو ندبًا إن كانت أنثى بكرًا أو ثيبًا.
كما أن قول أصحاب المذكرة: (إن من اللازم أن يناط سن الزواج بسن
الرشد بالنسبة لكل من الزوجين إلخ) . قول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أن هناك شرعًا
سنًّا للزواج وسنًّا للرشد , بل إن الصبي والصبية متى بلغا الحلم بأي أمارة من
أمارات البلوغ , سواء كانت بأمارة السن أو بالأمارات الأخرى , التي تكون قبل
السن إن كان رشيدًا مهتديًا لضبط ماله؛ سلم إليه ما له , وإن لم يكن كذلك بأن كان
سفيهًا يحجر عليه أو لا يحجر على الخلاف السابق , وأما حد البلوغ فلا فرق فيه بين
الزواج وغيره.
وأما استدلال الأستاذ الخضري وأصحاب المذكرة لمذهب ابن شبرمة ومن
معه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر) وقوله عليه الصلاة
والسلام: (لا يتم بعد الحلم) , فهو استدلال لا يرضاه صاحب المذهب المذكور , فإن
الحديث الأول يدل بمنطوقه على أن اليتيمة وهي التي لا أب لها لا تنكح حتى
تستأمر , على معنى: حتى تبلغ وتستأذن، كما يقول ذلك الشافعي. أو أن المراد
باليتيمة باعتبار ما كان , كما يقول ذلك أبو حنيفة , ويدل بمفهوم المخالفة على أن
الصغيرة التي لها أب ينكحها أبوها، كما أن الحديث الثاني يدل بمنطوقه على أن اليتم
ينتفي بعد الحلم ولو بالحيض أو بالاحتلام , ولو لم تبلغ البنت ست عشرة سنة ولا
الابن ثماني عشرة سنة , وقد ذكر صاحب المبسوط هذين الحديثين , وجعلهما دليلين
للإمام الشافعي - رضي الله عنه - على مذهبه من أنه لا يجوز لغير الأب والجد
تزويج الصغير والصغيرة , وأما الأب والجد فلهما تزويجهما عملاً في ذلك بمنطوق
الحديث ومفهومه المذكور.
فكيف يمكن الاستدلال بهذين الحديثين لمذهب ابن شبرمة ومن معه وهم
يمنعون تزويج الصغير والصغيرة مطلقًا؟ ولا أدري من أين نقلوا الاستدلال بهذين
الحديثين لمذهب المانعين لتزويج الصغير والصغيرة؟ وأما ما اشتمل عليه مقال
الأستاذ الشيخ الخضري والمذكرة , من التعاليل لهذا المذهب فليس شيء منها يصلح
دليلاً؛ وذلك لانحصار الدليل الشرعي في الكتاب والسنة والإجماع والقياس
الصحيح , وليس ما ذكروه من العلل واحدًا منها.
أما أنه ليس من الكتاب والسنة والإجماع فظاهر , وأما أنه ليس بقياس؛
فلأنهم لم يذكروا الأصل المقيس عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع , وعلى
فرض أنه قياس صحيح فهو في مقابلة الكتاب والسنة أو الإجماع , فلا يعول عليه
ولا يلتفت إليه.
وأما ما قالوه ترويجًا لتحديد سن الزواج: من أن الزواج في الصغر يترتب
عليه المفاسد التي ذكروها , ويضر بصحة الصغير والصغيرة. فغير مسلم؛ لأنه لم
يقل أحد من المسلمين بأن الزواج فيه مفسدة لا في وقت الصغر ولا في وقت الكبر.
والأطباء مختلفون في أن الأفضل التبكير بالزواج أو التأخير , واختلافهم يوجب
الشك في أقوالهم , على أنه لا يمكن لعاقل أن يقول: إن مجرد حصول عقد الزواج
يحصل به ضرر لصحة الصغير أو الصغيرة. وإنما الذي يتوهم أن يقال إنما هو
في الوطء، وأما العقد فلا يترتب عليه شيء أصلاً , فلا وجه لتجديد السن له،
على أنه لا وجه للقول لترتب الفساد أو الضرر بالصحة إذا كانت الصغيرة تشتهي،
وبلغت السن التي تطيق فيه الوطء , ولو لم تبلغ حد البلوغ في الشرع , فإنه لو كان
في ذلك أدنى مفسدة ما أمر الله به في كتابه , ورسوله في سنته , وأجمعت الأمة على
سنته أو إباحته {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: 140) - {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14) .
***
مسألة تخصيص القضاء
وأما ما رتبه أصحاب المذكرة على تلك المقدمات , التي أطالوا فيها بلا طائل ,
من أن المنصوص عليه شرعًا أن لولي الأمر ولاية تخصيص القضاء إلخ. ففضلاً
عن كون ذلك لا يتفرع على تلك المقدمات ولا ينبني عليها , ولا علاقة بينه وبينها؛
لأن كون ولي الأمر يملك التخصيص، معلوم للخاص والعام , ومبناه على وجوه
المصلحة التي تقتضيه على ما فصلناه بمحاضراتنا التي قرأناها بمدرسة الحقوق
الملكية في أوائل ديسمبر سنة 1919 , ونشرت بمجلة الأحكام الشرعية في 21 ديسمبر من تلك السنة في عدد 3 , وجرى على ذلك العمل. وأصحاب المذكرة لم يبينوا فيها وجه المصلحة العامة , التي اقتضت هذا التخصيص , فإنه ليس معنى
التخصيص هو ما فهموه , من أن ولي الأمر يمنع جميع قضاته عن أن ينظروا
حادثة يخرجها عن اختصاصهم جميعًا , ولا ينصب لها قاضيًا يفصل الخصومات
فيها , كما هو الشأن فيما قضت به المذكرة , فإن جميع حوادث الزواج الذي يقع
قبل سن ست عشرة سنة للبنات أو ثماني عشرة سنة للبنين قد منع جميع قضاة مصر
عن أن ينظروا فيها , وقولهم في المادة: إلا بالأمر. لا يغني شيئًا , ولا يقتضي
نصب قاض بالفعل ينظر في تلك الحوادث , بل معنى تخصيص القضاء الذي
تقضيه المصلحة أن يقسم ولي الأمر جميع أماكن مملكته إلى دوائر متعددة , فيجعل
لكل دائرة محكمة تحكم في قضايا القاطنين بها في حوادثهم , ويقسم الحوادث
كذلك بين قضاة تلك المحاكم فيجعل ما يخرج من اختصاص هذا القاضي داخلاً
في اختصاص ذلك القاضي. وعلى هذا لا يوجد مكان في المملكة , أو حادثة
لرعايا ولي الأمر إلا ولها قاض يفصل فيها , خصوصًا إذا كانت تلك الحوادث
في الحقوق المشتركة بين كونها حق الله سبحانه وكونها حق العبد، كالزواج
والطلاق أو الحقوق الخالصة لله تعالى , فإن الزواج بما فيه من حقوق أحد
الزوجين على الآخر حق العباد , ولما يترتب عليه من الحل والحرمة من حقوق
الله تعالى , كما أن الطلاق من حقوق العباد من وجه , ومن حقوق الله من
وجه آخر؛ وذلك لأن الشأن في الحقوق المشتركة أو الخالصة لله تعالى , إنما
هو للحاكم وولي الأمر , فيجب أن يكون لها قاض يفصل فيها أو يفصل فيها ولي
الأمر بنفسه.
على أن التخصيص على فرض وجود المصلحة - وإن لم تظهر - إنما هو فيما
أضيف على المادة نمرة 101 من قانون سنة 1910 , وأما ما أضيف على المادة
نمرة 366 من ذلك القانون من أنه (لا يجوز مباشرة عقد الزواج ولا المصادقة
على الزواج المسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون) فليس من التخصيص في شيء
بل هو نهي عن مباشرة عقد الزواج والمصادقة عليه مسندًا إلى ما قبل العمل بذلك
القانون؛ لأن كلا من المباشرة والمصادقة ليس من عمل القاضي , بل إن الذي
يباشر عقد الزواج أو يتصادق عليه إما الزوجان أو وكيلاهما , إن كانا بالغين بالسن
أو بغيره , أو وليهما إن كانا قاصرين، أو ولي القاصر ووكيل البالغ , وأما المأذون
فوظيفته تلقين صيغة العقد لمن يحتاج إلى التلقين , والكتابة في دفتر، وتحصيل ما
فرضته الحكومة من الرسوم , فعقد الزواج متى كان مستوفيًا أركانه وشروطه كان
صحيحًا شرعًا , حضر المأذون أو لم يحضر , كتب أو لم يكتب.
ففضلاً عن كون عقد الزواج أدنى مراتبه السنية المؤكدة , أو الإباحة التي ندب
الشارع إلى فعلها فهو من الأمور الخاصة لا من الأمور العامة , ولا يجوز النهي
عنه، كما لا يجوز نهي الإنسان عن بيع ملكه إذا كان عاقلاً بالغًا رشيدًا , ولم
يحجر عليه لدين , فضلاً عن أن تحديد سن الزواج والنهي عن مباشرة عقده قبل هذه
السن المحددة يقتضي تحريم الحلال , الذي ندب الشارع إليه وحض الناس إليه أو
تحريم السنة المؤكدة , وكلا الأمرين معصية بإجماع المسلمين.
أما قول حضرة الأستاذ الشيخ الخضري: (أما الاعتراض على ذلك بما
يوجد من تحريم حلال وإحلال حرام , فلا محل له ما دامت هناك مذاهب مختلفة)
فنقول له: يا حضرة الأستاذ، إن الخلاف - على فرض أنه خلاف معتبر - إنما هو في الصغير والصغيرة قبل البلوغ , وأما بعد البلوغ ولو قبل بلوغ السن
المحددة للصغير والصغيرة , فليس هناك مذاهب مختلفة , بل إجماع المسلمين وسنة
سيد المرسلين كلها متفقة على أن الصبية إذا بلغت , والصبي إذا بلغ الحلم بأي أمارة
كانت كان كل منهما بالغًا شرعًا , لا يخالف في زواجه أحد من العلماء , ولو لم تبلغ
البنت ست عشرة سنة والابن ثماني عشرة سنة , وقد صرح الفقهاء قاطبة بأن
البنت إذا بلغت تسع سنين , وادعت الحيض أو الاحتلام تصدق في ذلك , وكانت
بالغة شرعًا، وكذا الابن إذا بلغ ثنتي عشرة سنة وادعى الاحتلام صدق في ذلك ,
وكان بالغًا شرعًا , وإن وجدت أحدًا يخالف فيما قلنا فعليك بالبيان.
فلو فرضنا أن البنت إذا تزوجت بعد البلوغ زواجًا صحيحًا شرعًا , ولم تبلغ
تلك السن المحددة , أليست تلك البنت تحل شرعًا لهذا الزوج الذي تزوجها وتحرم
على غيره , ولا يحل لأحد غير هذا الزوج أن يتزوجها ما دامت في عصمته ,
ووطؤها حلال لهذا الزوج حرام على غيره؟ فلو فرضنا أنها مكثت مع هذا الزوج
مدة , ثم ادعى آخر بعد أن بلغت سنها ست عشرة سنة أنه تزوجها بنكاح صحيح
شرعي وادعاها الأول كذلك , أليس الحكم الشرعي يقتضي أن يحكم لأسبقهما
تاريخًا ولو كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة؟ فإذن ماذا يصنع القاضي؟
أيحكم بمقتضى الشرع للأول , وقد كان زواجه بها قبل أن تبلغ السن المحددة
المذكورة ويخالف ما تحبذه من ذلك التخصيص أو ذلك النهي , وهو معزول
بمقتضى ذلك التخصيص عن أن يحكم بالزواج قبل بلوغ هذه السن؟ أو يحكم
للزوج الثاني وقد أمره الله أن يحكم للزوج الأول لا للثاني؛ لأن زواجه باطل
بالإجماع؟ أليس في ذلك تحريم الحلال وإحلال الحرام؟ وما قلناه في البنت إذا
بلغت تسع سنين وحاضت أو احتلمت وتزوجت , يقال أيضًا في الابن إذا بلغ ثنتي
عشرة سنة واحتلم وتزوج وأحبل زوجته , ثم جاء آخر يدعي أن تلك الزوجة
زوجته , وكان المدعي تبلغ سنه ثماني عشرة سنة , والأول لم يبلغ تلك السن ولم
تبلغ الزوجة أيضًا سن ست عشرة سنة , بل بلغت بغير السن. فماذا يصنع القاضي
أيحكم للسابق كما قضى به الشرع أم يحكم للثاني كما قضى به الرأي المخالف
للشرع؟
إني أعتقد - والله على ما أقول وكيل - أنك وأصحاب المذكرة لا تقولون
بجواز حكم القاضي للثاني , بل بوجوب الحكم للأول وأنكم لا تخالفون في هذا ولا
تستطيعون المخالفة فيه؛ لما في المخالفة من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع , ولا
يسعني إزاء ما وقع إلا أن أقول كما قال صاحب الروض من أئمة الشافعي:
من قلد العلما وأقدم أعذرا ... وعلى الذي أفتى........
إلخ إلخ
هذه نصحيتنا نقدمها لأولياء الأمور وعامة المسلمين عسى الله أن يهدينا جميعًا
إلى سواء السبيل , ويغفر لنا خطايانا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بخيت
... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية سابقًا
(المنار)
لما شرعت الجرائد اليومية في نشر هذه الرسالة , كتب الشيخ محمد
الخضري بك مقالة ثانية؛ لتوضيح المقالة الأولى , والرد على بعض ما نشرته في
الرد عليه ولاسيما هذه الرسالة , وقد تضمنت هذه الرسالة الرد على أقوى ما كتبه،
ثم كتب صاحبها رسالة أخرى , استوفى فيها الرد عليه من الجهة الفقهية , وبقي في
رسالته الأخيرة مسائل أخرى مهمة تتعلق باجتهاد القضاة والحكام , وهو يرى
ويشايعه بعض من كتب في المسألة أن للملوك ورؤساء الحكومات في هذا العصر
مثل هذا الحق في الاجتهاد , وإلزام المسلمين العمل باجتهادهم في كل المعاملات
حتى ما يسمونه الأحكام الشخصية , وأن طاعتهم تجب في ذلك …
وفي هذه المسألة بحث طويل، ونحن نعتقد أن الشريعة لا حياة لها ولا بقاء
لأحكامها في مثل مصر والترك إلا بالاجتهاد الصحيح , وأما انتحال الحكومات
للاجتهاد بغير ما لا يمكن بدونه من العلم بالكتاب والسنة وأصول الفقه فهو مفسدة
عظيمة في الدين والدنيا.
وههنا مسألة أخرى اختصر فيها وأوجز كل من كتب في هذا الموضوع ,
وهو ما ادعى واضعو مذكرتي القانون من الترك والمصريين من الضرر العظيم في
زواج من لم يبلغ السن التي حددوها , فقد بالغوا فيها على اختلاف الفريقين في
تحديد السن , وجعلها في أشد القطرين حرًّا - وهو المصري - أطول منها في
أشدهما بردًا - وهو التركي - مع العلم بأن البلوغ الطبيعي يكون أسرع في الأول
وأبطأ في الثاني غالبًا , وقد جعل الأستاذ الشيخ بخيت الضرر المدعى مشكوكًا فيه؛
بدليل اختلاف الأطباء فيه , وأشار إلى أن العبرة فيه بقوة البنية وطاقتها في
الأنثى البالغة على احتمال أعباء الحمل والولادة , فهذا الضرر خاص بمن لا
تطيق ذلك لا عام , فرب بالغة للسن التي ذكروها لا تطيقه، ورب غير بالغة إياها
وهي تطيقه. وقد راعى الترك هذا في قانونهم , ولا ندري ما هم فاعلون في
تنقيحه في هذا الطور الذي اشتد فيه التنازع الصريح بين الإسلام , والغلو في
التفرنج حتى إن كثيرًا منهم يطالبون حكومتهم بمنع تعدد الزوجات , على علمهم بأن نساءهم أضعاف رجالهم.
وأما الضررالاقتصادي في حال عجز الصغير عن الكسب الذي يمكنه من النفقة
التي يتوقف عليها تكوين الأسرة فالشرع الإسلامي يراعيه , كما يراعي منع الضرر
البدني فهو لا يشرع الزواج إلا للقادر على النفقة , بل التشريع الإسلامي مبني على
منع كل ضرر يجني به الإنسان على نفسه أو على غيره وفي الحديث: (لا
ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجه.
والقوانين الوضعية الأوربية تبيح لكل أحد أن يضر نفسه بالسكر والقمار
والزنا وغير ذلك , وإذا كان مدمن هذه الموبقات صاحب زوج وأولاد فإنه يجني
عليهم باقترافه إياها ما لا يذكر معه كل ما بالغوا فيه من زواج من دون السن التي
حددوها , ولا يزال كثير من الإفرنج يبكرون بالزواج , وقد قرأنا في هذه الأيام
مقالة في جريدة (السياسة) المصرية موضوعها (تبكير أهل أمريكا بالزواج) .
وقد وفَّى هذا الموضوع حقه من الوجهة الطبية وغيرها الدكتور محمد توفيق
صدقي الطبيب العالم الكاتب الشهير (رحمه الله تعالى) في المحاضرات التي كان
يلقيها في مدرسة دار الدعوة والإرشاد ونشرت في المنار , وطبعت على حدتها في
جزأين , ونشر هذا البحث في جريدة الأهرام ومما قاله: إن السن القانونية للزواج
في الشريعة الإنجليزية 14 للذكور و12 للإناث , وتعتبر زواج الأطفال القاصرين
صحيحًا إذا لم يطعن أحد الزوجين في العقد عند بلوغ السن , وعزا ذلك إلى
ص 56 من كتاب (أصول الطب الشرعي) لمؤلفيه جاي وفرير الإنكليزيين
فليراجع البحث من شاء في المجلد 18 من المنار (ص 366 م18) أو في الجزء
الأول من (دروس سنن الكائنات ص 143) .
وجملة القول أن القانون الذي هو محل بحثنا لم يترو في وضعه من الوجهة
الشرعية , ولا من الوجهات الطبية والاجتماعية , فيجب إلغاؤه وتأجيل مسألة سن
الزواج إلى أن ينظر مجلس نواب الأمة في قانون الأحكام الشخصية وحينئذ نعود
إلى الموضوع فنوفيه حقه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) راجع ص 404 م20 و 542 م23.
(2) منقولة عن جريدة الأهرام.
(3) الذي عليه العلماء والمؤرخون نسبة الإمام الشافعي كالإمام مالك إلى الحجاز , وقد نسبه الكاتب هنا إلى مصر؛ لأنه هاجر إليها وتوفي ودفن فيها رحمه الله تعالى.
(4) يعني: أبو السعود العمادي رحمه الله تعالى.
(5) هذه مقالة ثانية للشيخ الخضري , وضح بها مراده في المقالة الأولى؛ ردًّا على بعض المنكرين. ... ... ...(25/125)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*]
(3)
قد بينا في مجلدات المنار 21-23 أطوار المسألة المصرية منذ تألف الوفد
المصري برياسة سعد للمطالبة باستقلال البلاد , وكيف اجتمعت كلمة الأمة مع
رجال الحكومة على تأييده سلبًا وإيجابًا [1] , حتى أثبتوا للحكومة البريطانية
وهي خارجة من الحرب العظمى على رأس الدول الفائزة , أنه يتعذر عليها إدارة
الأمور في مصر بأيدي المصريين الساخطين عليها كما يتعذر عليها إدارتها
بيدها هي بالأولى.
وكيف بعد أن أرسلت لورد ملنر على رأس لجنة؛ ليقف على آرائهم، وقاطعوه
تلك المقاطعة الإجماعية , التي تجلت بها الوحدة في أكمل مظاهرها لجأت إلى
السعي لتفريق كلمتهم؛ إذ لا سبيل إلى الفوز ودوام السيطرة عليهم بدون ذلك [2] ,
وكيف وقع الشقاق في الوفد نفسه فكان بعض أعضائه مع عدلي باشا في طرف،
والباقون مع سعد باشا في طرف آخر.
وكيف دبر في (لندن) نصب وزارة عدلي باشا وتأييد الوفد المصري لها؛
ليسمح لرئيسه وسائر أعضائه بالعودة إلى مصر, فكان نصبها وإظهار الوفد الثقة
بها على دَخَلٍ خادع به كل من الفريقين الآخر , حتى ما عاد سعد باشا للاتصال
بالأمة وتمكن عدلي باشا من تأليف وزارة رضيت عنها الأمة - عاد الشقاق إلى أشد
مظاهره [3] .
ولكنه تولى مفاوضة الحكومة البريطانية باسم الحكومة المصرية؛ للاتفاق
معها على حل القضية ففشل - لعلم الحكومة البريطانية بأن الأمة لا تؤيده , وأنها لا
تستطيع عملاً بعد أن صارت إلى شر مما كانت عليه قبل الاتحاد؛ إذ لم يكن
زعماؤها متعادين ولا متحدين على عمل من الأعمال , فأفضى ذلك إلى استقالة
عدلي باشا وتعذر تأليف وزارة أخرى من حزب العدليين؛ لسخطهم الشديد من الحل
الفظيع الذي عرضه اللورد كرزون على عدلي باشا [4] فصاروا كالسعديين في
الإحجام عن تأليف وزارة، تتولى العمل في ظل الحماية البريطانية.
ثم كيف اضطرت الحكومة البريطانية بهذا إلى نفي سعد باشا مع بعض
أعضاء الوفد إلى جزيرة سيشل الصغيرة المنقطعة عن العالم في البحر المحيط
الهندي وإلغائها للحماية , واعترافها بكون مصر دولة ذات سيادة مع الاحتفاظ
بالمسائل الأربع المعلومة , وكان ذلك إثر مذاكرة بين دار المندوب البريطاني
السامي وعبد الخالق ثروت باشا رضي بها هذا أن يتقلد الوزارة , ويتولى وضع
دستور للبلاد يتألف بموجبه برلمان يفوض إليه تقرير أمر الاتفاق مع الدولة
البريطانية في الأمور المحتفظ بها , ولكن جمهور الأمة قابل ذلك بفتور ونفور , ولم
يحفل بهذا الاستقلال المقيد بالأربعة القيود الذي مهد له السبيل بنفي زعيم الشعب
مع بعض رجاله , وهو حامل لوائه وزمر استقلاله , واشتد ضغط الاحتلال بعد
نواله [5] .
ظن الإنكليز أنهم يرضون السواد الأعظم من المصريين , وينالون مرادهم من
مصر والسودان بالاتفاق مع حكومة مصرية نيابية زمامها بأيدي أصدقائهم الذين
يصفونهم بالمعتدلين , من حيث يقضون على الحياة القومية المصرية بإبعاد الزعيم
الأكبر وبعض رجاله , والتنكيل بمن يتصدى للمعارضة من الباقين منهم بمساعدة
الحكومة الوطنية , ولكن بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون.
اشتد استياء الشعب وتهيجه وتألفت للوفد لجنة أخرى , وصرحت بالمعارضة
ودعت البلاد إلى مقاطعة الإنكليز في كل معاملة تجارية أو شخصية , فحكموا عليها
أحكامًا شديدة , حكموا بعد الاعتقال بالإعدام , ثم استبدلوا به حكم السجن وتغريم
الأموال , وهو أن يدفع كل فرد من أفرادها خمسة آلاف جنيه للسلطة العسكرية.
ثم تألفت لجنة ثالثة فحكموا على بعض أفرادها بالنفي إلى بعض الواحات
المصرية , وساموهم فيها سوء العذاب، فتألفت لجنة رابعة.
وظهر في أثناء ذلك الاعتداء على أشخاص الإنكليز من الموظفين والجند
وغيرهم , فكان يغتال الواحد منهم بعد الآخر في الشوارع العامة في وقت الظهيرة
أو طرفي النهار أو ناشئة الليل , وقد أرهق أهل القاهرة بتفتيش الحكومة المصرية
لبيوتهم؛ للبحث عن آثار يستدل بها على الجناية , فكان رجال الشرطة يدمرون
على أهل البيوت في الليل أو النهار , وإن لم يكن فيها أحد من الرجال فيفتحون
الخزائن والصناديق , ويقلبون الأثاث والرياش , ويأخذون كل ما يجدون من
القراطيس المكتوبة , وقد يقلعون بلاط الحجرات؛ رجاء أن يجدوا تحته سلاحًا،
وكانوا مع بعض الجند الإنكليزي , يستوقفون الناس في الطرقات رجالاً أو ركبانًا
في أنواع المركبات , ويفتشون ثيابهم وجيوبهم , ولم يكن هذا ولا ذلك قاصرًا على
من كان موضع الظنة ومثار الشبهة , بل كان كل أحد عرضة لهذه الإهانة , وليس
من موضوعنا ذكر ما كان يلابس ذلك من الفساد , ولم يكن هذا الإرهاق كله ولا
اعتقال من اعتقل بالتهم بمانع من تكرار الاغتيال , وإنما كانت تقع فترات عند
العناية ببث العيون والرقباء وكثرة الحرس السيار , وقد حوكم كثير من المتهمين
بالشبهات في المحكمة العسكرية فلم يثبت شيء من تلك الجنايات على أحد , ولا
كون شيء منها بإغراء الوفد المصري أو جمعية سياسية أخرى , كما زعم بعض
الرعاع الذين تصدوا لشهادة الزور؛ رجاء نيل المكافآت التي كانت تعد بها الحكومة ,
وتنشر وعودها في الجرائد وعلى الجدران وهي ألوف من الجنيهات.
سارت وزارة عبد الخالق ثروت باشا لطيتها في هذه المآزق القاتمة بجرأة
نادرة , كان فيها مهددًا بالاغتيال , وقد اعتدي عليه بالفعل فنجا فتألفت لجنة من
ثلاثين رجلاً من أنصارها , فوضعوا مشروع دستور للمملكة المصرية , وطفقت
تمهد السبيل لانتخاب غير السعديين بكل حزم وعزم.
وفي تلك الأثناء ألف حزب الأحرار المعتدلين , وانتخب عدلي باشا رئيسًا له
فاكتتب كثير من أغنياء البلاد؛ للاشتراك بالحزب وجريدته (السياسة) , فاجتمع
له بنفوذ الحكومة عشرات الألوف من الجنيهات , وصدرت الجريدة بشكل راق كل
عدد منها (8 ص) خص بعضها بالآداب , وبعضها بالأمور النسائية , وبعضها
بالزراعة أو التجارة.
ولكن جمهور الشعب عاداها حتى كان يعد شراؤها وقراءتها من الذنوب
المنافية للوطنية , وكان الغرض من تأليف هذا الحزب السعي لجعل أكثر أعضاء
النواب والشيوخ من رجاله , وقد اغتيل رجلان من خيرة رجاله.
وكان الشعب لا يزال نافرًا من القصر السلطاني فالملكي منذ أعلنت الحماية
وسمي أمير البلاد سلطانًا , ثم سمي بالتصريح البريطاني الذي ألغيت فيه الحماية
ملكًا , وأشيع أن سعد باشا غير مخلص للملك , وما زال العدليون يرجفون بهذا إلى
عهد قريب , ولكن هذه الغمة تقشعت بسعي محمد نسيم باشا ومن واتاه من رجال
الوفد المصري , وتلا ذلك نفور الملك من وزارة عبد الخالق ثروت باشا , فوقعت
عدة أزمات وزارية انتهت باستقالة هذه الوزارة , وخلفتها وزارة محمد نسيم باشا
فأثار ذلك سخط السياسة الإنكليزية فكادت لها دار المندوب السامي , حتى اضطرتها
إلى الاستقالة باقتراح حذف اسم السودان من الدستور المصري , وكان قد نص فيه
أن ملك مصر هو ملك السودان , وأن حكومة مصر هي التي تتولى إدارته , وأيدت
الاقتراح بتهديد عظيم ملجئ، قوي به اعتقاد الجمهور أن الاستقلال الذي اعترف به
الإنكليز على غير مسمى صحيح , وأن الاستقلال الصحيح لا يمكن تحققه إلا على
يد رئيس الأمة العبقري الأحوذي الشِّمِّري [6] سعد زغلول باشا , فكيف يعقل جعل
إبعاده عن البلاد تمهيدًا له؟ !
وخلفت وزارة محمد نسيم باشا وزارة يحيى باشا إبراهيم فكان استسلامها
للإنكليز , وصدعها بالأوامر السرية التي تصدر عن دار المندوب السامي شرًّا من
كل استسلام سبق من الحكومات المصرية , للسيطرة الإنكليزية في عهد الحماية،
وأشد ما كان قبلها من وطأة الاحتلال , حتى كادت تقضي على المالية المصرية ,
وتجعل النهوض بأعباء الاستقلال متى تم متعذرًا , وكان شر أعمالها قانون
التضمينات , الذي أجاز للسلطة الإنكليزية كل ما فعلته في زمن الحرب من تقتيل
وتغريم , وتغريب وتخريب , وتصرف فيما تملك الحكومة والأمة والأجانب في
بلاد مصر بحيث لا تجوز مطالبتها , ولا مقاضاتها في شيء منها وكان هذا موقوفًا
على المفاوضات المؤجلة , وكذا قانون المكافآت التي تعطى لمن يترك خدمة
الحكومة المصرية من الإنكليز , فكانت تعطي الألوف الكثيرة من الجنيهات لمن
يستقيلون من وظائفهم , حتى التي تنوطها الوزارة بآخرين منهم , أو تنوط بهم
غيرها فمال الحكومة يذهب سدى , ثم قيدت الوزارة هذه العطايا بقانون؛ ليكون
حقًّا ثابتًا لا ينقض , وقد وفت الجرائد الوطنية ذلك حقه من النقد.
***
نتيجة الأطوار السابقة
علمت الحكومة البريطانية في عهد وزارة ثروت باشا أن ما عدته منتهى
الجود على مصر من إلغاء الحماية والاعتراف لها بالاستقلال والسيادة , وما رأته
من منتهى الشدة والحزم في إدارة أمر البلاد من قبل وزارة موالية لها , ومن شدة
قسوة السلطة العسكرية البريطانية في التنقيب عن المعتدين على رجالها - لم يرض
الرأي العام المصري بل لم يزده إلا تماديًا في عداوتها , وجرأة على اغتيال رجالها، وأن نفوذ الوفد المصري الممثل في شخص رئيسه الزعيم الأوحد لا يعلوه
نفوذ فعادت إلى وضع سياسة الحكمة في موضع تحكم السلطة العسكرية ,
والغشمرة الاستعمارية, فطفقت تفرج عن المعتقلين من أعضاء الوفد , وأمرت
بنقل الزعيم من معقل جبل طارق حيث شاء من أوربة، وكانت قد جاءت به من
جزيرة سيشل إليه؛ مراعاة لصحته؛ إذ خشيت أن يموت فيعتقد المصريون أنها قتلته
أو عرضته للموت عمدًا. وكان قد سعى له بذلك بعض رجال الإنكليز وفي مقدمتهم
صديقه رئيس حزب العمال البريطاني , الذي هو رئيس الوزارة الإنكليزية اليوم.
نقل من جبل طارق إلى فرنسة فزاره فيها هذا الرئيس مرتين , ثم لما دنا موعد
انتخاب أعضاء مجلس النواب المصري سمح له بالعودة إلى مصر حتى لا يقال:
إن الانتخاب لم يكن حرًّا , وأن المجلس النيابي الذي يقرر الاتفاق مع الدولة
البريطانية لا يمثل الأمة المصرية.
عاد الزعيم إلى وطنه والكثير من الناس يظنون أن حزب الأحرار المعتدلين
قد انتظم أمره واشتد أزره , وأن الحزب الوطني قد نشط من الخمول الذي كان قد
عرض له , وشرع بعد إلغاء الأحكام العرفية يجدد نفوذه , وأن الوفد المصري قد
صار حزبًا مثلهما , ولم يبق رئيسه زعيمًا للأمة بأسرها , وأن زعامته الحقيقية لا
تعدو طلاب المدارس وجمهور المحامين , وأما كبار الأغنياء والمتحلين بالرتب
الفخمة والألقاب الضخمة وأكثر رجال الحكومة، فهم عليه لا له ولا معه , وأن أكثر
الفلاحين معلقة إرادتهم بإرادة العمد , الذين هم آلة في أيدي مأموري المراكز الذين
يسيرهم المديرون كما تشاء وزارة الداخلية , وأن لعدلي باشا وقد صار مديرا للبنك
العقاري نفوذًا كنفوذ الحكومة في نفس فريق كبير من الأغنياء , وهم الذين رهنوا
أطيانهم لهذا البنك فهم يرجون رضاه ويهابون شذاه.
وكان جمهور رجال الإنكليز في مصر يرون هذا الرأي , ويعتقدون هذا
الاعتقاد , فما سمح الإنكليز لسعد بالعودة إلى مصر إلا وهم يحسبون أن عودته تزيد
التفرق والشقاق احتدامًا , ولا يكون هو الجواد السابق الذي يربح السبقة.
وكان جمهور المصريين المستقلين في الرأي غير المتحيزين إلى فئة ولا
شخص يخشون من عاقبة الشقاق في هذا العهد , فوق ما كان من سوء عاقبته من
قبل، يرون أن الخطة المثلى أن يبدأ الزعيم الأكبر بدعوة خصومه إلى الاتفاق
والاتحاد؛ ليكون (البرلمان المصري قوة متحدة أمام الدولة البريطانية القوية في
كل شيء , وهو لا يملك غير قوة الوحدة , فلما لم يفعل نقموا منه، وانطلقت ألسنة
بعضهم تعذله وتخطئه , وتشاءموا من سوء المصير، ولكن الشؤم والسعد ضدان لا
يجتمعان) .
وأما رأي سعد باشا ورجال الوفد فهو أن جمهور الأمة الأعظم معهم , فإذا هم
أعلنوا له أنهم متفقون مع زعماء هذه الأحزاب بعد أن كانوا هم الذين أحدثوا الشقاق
في الوفد , وصدعوا بناء وحدة الأمة , وأن انتخابهم أعضاء لمجلس النواب
كانتخاب رجال الوفد ومن يرشحه سواء , فإنهم ينالون بنفوذ الوفد ورئيس الأمة
كثيرًا من الأعضاء , ويحسبون أو يدعون بعد ذلك أنهم إنما نالوا ذلك بنفوذهم
والثقة بأحزابهم , ويوقعون الشقاق في مجلس الأمة كما أوقعوه في وفدها من قبل
وتكون هي القاضية على الأمة؛ لأن هذا المجلس هو الممثل الرسمي لها الذي لا
يمكن أن يكابر فيه الإنكليز كما كابروا في تمثيل الوفد؛ إذ ادعوا أنه حزب لا قوة
له إلا تلاميذ المدارس الأغرر.
وقد أجمع الناس على أن الشقاق الذي حصل في الوفد وفرق الكلمة كان أضر ما
منيت به الأمة , ولكن وجد شيء من الخلاف فيمن تلقى عليهم التبعة , فينبغي أن
يجمعوا أيضًا على أن تلافي ذلك الشقاق وما ترتب عليه من إرهاق البلاد بالتنكيل
والتغريب , والتعذيب وسفك الدماء , ومصادرة الأموال لا علاج له إلا تأليف
مجلس النواب من المتفقين في المشرب السياسي، وعلى الزعيم السياسي، وهو لا
يرجى ممن وصل بينهم الخلاف والشقاق إلى الحد المعروف بين الوفديين , وبين
المعتدلين ومن شايعهم من جماعة الحزب الوطني.
وإذا كان الأمر كذلك فالمعقول أن يجتهد كل فريق أن ينال في الانتخاب
الأكثرية العظمى , التي تمكنه من حل القضية المصرية بما يرى أنه هو الذي تطلبه
الأمة التي تمنحه ثقتها.
وقد جرى الانتخاب على هذه القاعدة , فتبارى كل فريق في السعي لانتخاب
رجاله الذين ورشحهم في الطعن في خصمه بالنشر في الجرائد وبإلقاء الخطب في
المحافل , وكانت حرية كل منهم تامة لم تعارضها الحكومة ولا الأمة , ولكن جميع
أهل الفضل ولاسيما المستقلين في الرأي كانوا متألمين من القذع بهجر القول
والتمادي في المطاعن الشخصية , وقد قال سعد باشا كلمة في خطبة له أراد أن
تكون فصل الخطاب وهي: (لهم السباب ولنا مقاعد النواب)
تم الانتخاب في القطر كله وأعلنت الحكومة نتيجته فكانت الأكثرية الساحقة
في جانب الوفد المصري , وظهر أن مجلس النواب سعدي وأي سعدي , فإن بعض
الأعضاء الذين لم يرشحهم الوفد - وقليل ما هم- كانوا يذهبون إلى سعد باشا مهنئين
له بفوزه معترفين برياسته وزعامته , ثم اتفق جمهورهم على إقامة حفلة له جمعوا
نفقتها بالاكتتاب من أنفسهم فحضرها 200 وتخلف عنها 10 اعتذر بعضهم , وقد
ألقى عليهم خطبة تاريخية أودعها مجمل برنامجه السياسي لمجلسهم , فصفقوا لها
وأجمعوا عليها وعدوها كبرنامج سياسي شبه رسمي لمجلس الأمة , وقد صرح فيها
بأن لم يبق لوزارة يحيى باشا إبراهيم مندوحة عن الاستقالة , فلم تلبث هي أن
استقالت , وتلاها طلب الملك لسعد باشا ومذاكرته مشافهة في تأليف الوزارة بعد
بحث طويل سبق للوفد في المسألة , وتقريره قبول الرئيس للوزارة، فقبل. وهذا نص الوثائق الرسمية للوزارة السعدية:
***
وزارة سعد باشا زغلول
أمر ملكي رقم 14 لسنة 1924
عزيزي سعد زغلول باشا
لما كانت آمالنا ورغائبنا متجهة دائمًا نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهته , وبما
أن بلادنا تستقبل الآن عهدًا جديدًا , من أسمى أمانينا أن تبلغ فيه ما ترجوه لها من
رفعة الشأن وسمو المكانة , ولما أنتم عليه من الصدق والولاء , وما تحققناه فيكم
من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأي في تصريف الأمور , وبما لنا فيكم من الثقة
التامة , قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة
الجليلة لعهدتكم.
أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف الوزارة , وعرض مشروع هذا
التأليف علينا لصدور مرسومنا العالي به.
ونسأل الله جلت قدرته أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا بالخير
والسعادة، إنه سميع مجيب.
صدر بسراي عابدين في 22 جمادى الثانية سنة 1342 - في 28 يناير سنة
1924.
***
بيان الوزارة وأسماء الوزراء
هذا هو البيان الذي قدَّمه سعد باشا زغلول لجلالة الملك
مولاي صاحب الجلالة:
إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي
الضعيف توجب علي والبلاد داخلة في نظام نيابي , يقضي باحترام إرادتها وارتكاز
حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسؤولية الحكم , التي طالما تهيبتها في
ظروف أخرى , وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم تكليفي بتشكيلها من غير
أن يعتبر قولي لتحمل أعبائها اعترافًا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري ,
الذي لا أزال متشرفًا برياسته.
إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة على
تمسكها بمبادئ الوفد , التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في
الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان مع احترام المصالح الأجنبية , التي لا تتعارض
مع هذا الاستقلال , كما ظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًّا، ونفورها
من كثير من التعدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية
ونقصت من حقوق البلاد , وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات
المالية والإدارية , ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم , وحفظ الأمن وتحسين الأحوال
الصحية والاقتصادية وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران , فكان حقًّا على الوزارة
التي هي وليدة تلك الانتخابات وعهدًا مسئولاً منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل
الأهم فالمهم منها , وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى
تحقيق رغبات الأمة فيها , وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافي ما هناك من
الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها , وتعيين المسؤولين فيها , وكل ذلك لا يتم
على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان , ولهذا يكون من أول واجبات هذه
الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم؛ لانعقاده في القريب العاجل , وتحضير ما يحتاج
الأمر إليه من المواد والمعلومات؛ لتمكينه بمهمته خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمانًا طويلاً تنظر إلى الحكومة نظرة الطير للصائد , لا
الجيش للقائد , وترى فيها خصمًا قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلاً أمينًا يسعى لخيرها،
وتولد عن هذا الشعور سوء تفاهم أثر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد , وأعاق كثيرًا من
تقدمها , فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن
الثقة في الحكومة [7] ، وبإقناع الكافة بأنها ليست إلا قسمًا من الأمة، تخصص
لقيادتها والدفاع عنها , وتدبير شؤونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام , ولذلك
يلزمها أن تعمل ما في وسعها؛ لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات
وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم , كما
يلزمها أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح , وتعود الكل على احترام
الدستور والخضوع لأحكامه , وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة , وعدم السماح لأيِّ
كان بالاستخفاف بها والإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام وزارتي وضعته طبقًا لما أراه وتريده الأمة , شاعرًا كل
الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات , خصوصًا مع ضعف قوتي
واعتلال صحتي , ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمنًا طويلاً , ولكني أعتمد
في نجاحه على عناية الله وعطف جلالتكم , وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين
وجميع أهل البلاد ونزلائها , فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم
السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي:
سعد زغلول باشا ... ... ... ... للرئاسة ووزارة الداخلية
محمد سعيد باشا ... ... ... لوزارة المعارف
محمد توفيق نسيم باشا ... ... ... لوزارة المالية
أحمد مظلوم باشا ... ... ... ... لوزارة الأوقاف
حسن حسيب باشا ... ... ... ... لوزارة الحربية والبحرية
فتح الله بركات باشا ... ... ... لوزارة الزراعة
مرقص بك حنا ... ... ... ... لوزارة الأشغال
مصطفى النحاس باشا ... ... ... لوزارة المواصلات
واصف بطرس غالي أفندي ... ... لوزارة الخارجية
محمد نجيب الغرابلي أفندي ... ... لوزارة الحقانية
وأدعو الله أن يطيل في أيامكم , ويمد في ظلالكم حتى تنال البلاد في عهدكم
كل ما تتمناه من التقدم والارتقاء.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم , وخادم سيادتكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعد زغلول
وقد صدر أمر المرسوم الملكي باعتماد هذا البيان , والتشكيل الذي فيه
للوزارة بتاريخه , وأصبح سعد زغلول باشا رئيس هذه الأمة ورئيس حكومتها،
وكان فضل الله بهذا عظيمًا وما يجب عليه من الشكر عظيمًا , وإنما الشكر على
هذا الفضل بتحري إقامة ميزان الحق والعدل , ومراعاة المصلحة العامة بدون محاباة
أحد من جماعة أو فرد , وإن كان من أفراد الوفد، إلا أن يكون المرجح له على
مساويه زيادة الثقة بإخلاصه ومباديه , وأرى أنه قد آن لسعد باشا أن يري العالم
بأعماله أنه الأب الحكيم الرحيم لهذا الشعب , وأن من عقه من أبنائه لم يقطعه من
شجرة نسبه , بل يكون أحرص على عودته إلى البر من حمله على التمادي في
العقوق , وأن يترفع عن الانتقام لنفسه , ويتأسى ما استطاع برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم , حين ظفر بزعماء قومه ودخل عليهم عاصمتهم أم القرى فاتحًا بعد أن
كانوا يسيرون الجيوش لقتاله في دار هجرته بإغراء أبي سفيان عدوه وعدو
عشيرته , وقد قال يومئذ: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمِن) (رواه مسلم) .
ويجب على كل مخلص لبلاده من خصوم سعد والوفد أن يؤيد ما استطاع هذه
الحكومة ورئيسها , ولا يدع سبيلاً لإساءة ظنها فيه , ولا يشترط في ذلك عصمتها
من الخطأ , ولا قدرتها على كل عمل , ولا يجعل ما يقترح عليها من إصلاح
وسيلة للمعاجزة والإرهاق , وجملة ما أريده من الساخطين والمعارضين الذين
يعتقدون أنهم مخلصون في معارضتهم , أن يجتهدوا في محاسبة أنفسهم وتمحيص
نيتهم في كل معارضة وكل انتقاد , فإن السخط يري النفس الأشياء بغير لونها
ويحليها لها في غير صورتها , وأما سيء النية ومتبع الهوى فالنصح له بهذا سدى
وإنني أرى - وأنا مستقل الرأي بعيد عن الهوى والتحيز إلى أي حزب - أن الفرصة
التي سنحت لمصر بهذه الوزارة ومكانتها من الأمة الممثلة في (برلمانها) ومن
ملكها , وبصيرورة الوزارة البريطانية إلى حزب العمال , وما بين رئيس وزارتنا
ورئيس وزارتها من التعارف والثقة- أرى أن هذه الفرصة أمثل الفرص وأقرب
الوسائل الممكنة؛ لحل عقدة التنازع بين مصر وبريطانية، أو اليأس من وصول
هذه البلاد إلى حقها بالأساليب السياسية , ولا بد حينئذ من إفضاء الفشل إلى ثورة
عامة طامة , لا يعلم مبدأها ومنتهاها وعاقبتها إلا الله تعالى , فيا أيها الظافرون
اتقوا الغرور بظفركم , وأيها المعارضون الساخطون صححوا نياتكم وحاسبوا
أنفسكم , وافسحوا لهذه الحكومة في مجال العمل , يفسح الله لكم تأملوا قوله تعالى:
{بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (القيامة: 14-15) .
__________
(*) تابع لما في ص 62 و 226 م 23.
(1) ص 274 م 21.
(2) ص 540 م 21.
(3) ص397 والمقالة التاريخية الجامعة في ص 496 - 522 م 22.
(4) راجع ص 62 - 77 م 23.
(5) راجع ص 226 - 235 م 23.
(6) العبقر: النادر المثال من إنسان وغيره , وقد قيل في عمر - رضي الله عنه -: لم أر عبقريًّا مثله، والأحوذي: الذي يسوق الأمور أحسن مساق لعلمه بها، والشَّمِّري - بتشديد المعجمة المكسورة والميم -: المشمر للأمور المجرب ذو المضاء فيها.
(7) المراد أن يكون حسن الظن بالحكومة بدلاً من سوء الظن , فجرى التعبير على العرف الغالب في هذا العصر في مادة الاستبدال والتبدل , وهو عكس الثابت في اللغة.(25/148)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(الوفاق)
جريدة أسبوعية سياسية اجتماعية أدبية , أنشئت في (بينن زورغ - جاوه)
مديرها المسؤول (محمد بن محمد سعيد الفتة) وقد جاء في فاتحة العدد الأول منها
أن الغاية منها ربط العلائق الودية , وتوطيد دعائم الجامعة والوفاق ونشر الحقائق ,
وبث التعارف والتعاون على البر والتقوى , ومؤازرة مجلة الجامعة الإسلامية الهندية
وسائر ما وصل إلينا من أعددها مباحث في شؤون العالم الإسلامي , وبيان ما جاء
عليه ملك الحجاز السيد حسين بن علي مفصلاً تفصيلاً , وقيمة الاشتراك فيها عشر
روبيات في جزائر جاوه الهندية الشرقية وخمس عشرة (أي: جنيه إنكليزي) في
سائر البلاد فنتمنى لها التوفيق والرواج.
***
(حضرموت)
جريدة أسبوعية وطنية , تبحث في السياسة والاجتماع صاحبها ومديرها
المسؤول السيد عيدروس المشهور , ورئيس تحريرها السيد محمد بن هاشم - تصدر
في جزيرة سربايا (جاوه) الغرض الأول: حض الحضرميين الكثيرين في جزائر
جاوه على العناية بأمر وطنهم (حضرموت) , والسعي لعمرانه وإصلاح شؤونه ,
كما صرح به في فاتحة عددها الأول. على أنها لا مندوحة لها عن جعل حال الإسلام
في جاوه ثم في غيرها في الدرجة الأولى من مباحثها - وهو ما نراه في كل عدد
منها في هذا الزمن , الذي تساعد فيه الحكومة الهولندية دعاة النصرانية على
هدم الإسلام فيها , فنسأل الله تعالى أن يقرن سعيها بالتوفيق وينفع البلاد والعباد
بها , وإنه ليسرنا ظهورها وظهور رفيقتها الوفاق والذخيرة في هذه البلاد في هذا
الوقت , ونتمنى أن يجدد جوالي العرب في جاوه همة سلفهم الصالح الذين نشروا
الإسلام في تلك البلاد؛ فيتمكنوا من حفظه وتجديده بما تقتضيه حالة العصر.
***
(الشرق والغرب)
جريدة أسبوعية مصورة تصدر في مدينة (سنتياغورل أستارو) من
(الأرجنتين) رئيسة تحريرها الأديبة السورية الشهيرة لبيبة هاشم منشئة مجلة
(فتاة الشرق) التي لا تزال تصدرها باسمها في مصر , ومديرها العام ملحم أفندي
خير الله , وموضوعها يعرف من اسمها، هي تؤيد النهضة العربية الأدبية , يسرنا
أن عرف إخواننا السوريين لهذه الأديبة البارعة قدرها , وشدوا أزرها , وما زلنا
نرى في كل عدد منها أسماء كثيرين يشتركون فيها لأنفسهم ولغيرهم , ويدفعون
قيمة الاشتراك سلفًا عن سنة أو أكثر.
__________(25/159)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة إلى انتقاد المنار
والمواد المتأخرة لدينا
إننا نُذكِّر قُرَّاء المنار من أهل العلم الديني وأولي الرأي فى مصالح الأمة بما
التزمنا الدعوة إليه في فاتحة كل مجلد من الكتابة إلينا , بما يرونه منتقدًا في المنار
لمخالفته للحق أو للمصلحة العامة؛ لإعانتنا على هذه الخدمة وقيامًا بما شرعه الله
تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وقد ضاق الجزء الأول عن هذه
الدعوة؛ إذ عرض لنا في أثناء كتابة فاتحته أن ننشر فيها ما يناسب الحالة
الحاضرة من مقصورتنا , وكنا تركنا لها كراسة واحدة وطبعنا ما بعدها فضاقت
الكراسة عن كل ما أردنا نشره من المقصورة وعن الدعوة إلى الانتقاد كما ضاق ذلك
الجزء ثم هذا عن نشر ما كتبناه من انتقاد سابق علينا من الشيخ عبد الظاهر،
ومن صاحب مجلة السعادة , ومن ترجمة صديقنا الشيخ مهدي أستاذ الأدب
المشهور - رحمه الله تعالى - وغير ذلك من المواد التي جمعت حروفها , وموعدنا
بها الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.
__________(25/160)
شعبان - 1342هـ
مارس - 1924م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التبشير والمبشرون في نظر المسلمين
(س2-8) من القس المحترم ألفرد نيلسن الدانيمركي بدمشق.
1- هل يحسب المسلم كل تبشير مسيحي للمسلمين مفسد وغير لائق مهما
كان منصفًا وبعيدًا عن الطعن؟
2- هل يحسب المسلم على حد سوى المسيحي الغيور في دينه والمريد نشره
للغير , والمسيحي الذي لا يعمل بدينه في حياته ولا لأجله عند غيره؟
3- أليس من واجبات كل متنور أن يعرف الكتاب المقدس الذي أسس عليه
تمدن الغرب (قابل الحديث: اطلبوا العلم ولو في الصين) ؟
4- ألا يستحق التبشير بالكتاب المقدس شكر كل إنسان؛ إما لأنه يعرف
الإنسان فوائد لم يحصل عليها قبل، أو لأنه يجعل الإنسان بعد التأمل بتدقيق يفضل
كتابه الخاص؟
5- أليس عصرنا الحاضر في كل دين عصر الاجتهاد فيطلب من أصحاب
الدين أن يتمسكوا به , ليس لأنهم هكذا وجدوا آباءهم، لكن لأنهم تدققوا , فوجدوا
الدين نافعًا لأنفسهم وللهيئة الاجتماعية أكثر من أي شيء في الدنيا؟
6- من هو أحسن: الذي يتمسك بدين من الأديان بعد الاقتناع ويطبق حياته
عليه، أم الذي يبقى في دين آبائه بدون اعتقاد داخلي , وبدون أن يطبق حياته على
أعلى مبادئ الدين وأشرفها؟
(الجواب) :
عبارة هذه الأسئلة ضعيفة؛ لضعف عربية صاحبها. ونجيب عن الأول
والثاني جوابًا واحدًا؛ لاشتراكهما في المعنى فنقول:
إن المسلم يميز بقدر ما أوتي من العقل والعلم بين التبشير النزيه الخالي من
الطعن , والتبشير البذيء المبني عليه، ويميز بين المسيحي الغيور في دينه العامل به
وبين من اتخذه تجارة كأكثر المبشرين الذين عرفنا حالهم , ومن جعله سياسة كالذين
رباهم هؤلاء المبشرون على التعصب وعداوة المخالف لدينهم من أبناء وطنهم ,
فصار الدين جنسية سياسية لهم، فهم لا يعملون بأمره بالفضائل ولا بنواهيه عن
الرذائل , وإنما حظهم منه مقاومة المخالف , ولا يحتقر المسلم بطبيعة دينه شيئًا من
الأشياء كاحتقاره للنفاق وأهله. وأما كون كل تبشير يوجهه النصارى إلى المسلمين
مفسدًا وغير لائق , فهو ما أثبته الاختبار إلى الآن , وإن لم يكن من الضروريات
المنطقية في حد نفسه - وأعني بهذا الاختبار سيرة جماعات المبشرين العامة ,
ولكن يوجد أفراد يدعون إلى دينهم بإظهار ما فيه من الفضائل , والدفاع عما يرد
على عقائده وأصوله من الاعتراضات , بما أوتوه من معرفة مع مراعاة النزاهة
واجتناب كل ما يؤذي المناظر , وقد عاشرت بعضهم في طرابلس الشام أيام طلبي
للعلم , وجرت بيني وبينهم مناظرات كثيرة في بضع سنين , لم يشك أحد منا
صاحبه في شيء , بل كنا نحترمهم لآدابهم وعدم اتجارهم بدينهم , وإن كانوا
يأخذون الرواتب من بعض جمعيات التبشير.
ومن أضر أعمال المبشرين في مدارسهم حتى الأميركانية منها , وهي أنزهها
أنهم يشككون الطلاب المسلمين في دينهم , ولا يقنعونهم بالنصرانية , فيخرج
الكثيرين منهم ملحدين أو منافقين وكذا طلاب النصارى وغيرهم , وهذا إفساد عظيم
لا يخفى على ذكاء السائل المحترم , بل يوافق رأيه كما يؤخذ من سؤاليه 5و6 دع
خدمة هذه المدارس ومثلها مستشفياتهم لمطامع السياسة الاستعمارية , حتى قال لورد
سالسبوري الوزير الإنكليزي المشهور: إن مدارس المبشرين أول خطوة من
خطوات الاستعمار؛ لأن أول تأثيرها إحداث الشقاق في الأمة التي تنشأ فيها ,
فينقسم بعضهم على بعض باختلاف الأفكار والشك في الاعتقاد؛ أي: فيتمكن الأجنبي
من ضرب بعضهم ببعض، وينتهي ذلك بتمكين المستعمرين من نواصيهم ,
وسلب استقلالهم وإذلالهم وسلب ثروتهم.
وأما الجواب عن السؤال الثالث ففيه تفصيل لا يتسع لبسطه باب الفتوى
فنلخص الكلام فيه بأن مجموعة الأسفار التاريخية الدينية التي تسمى (الكتاب
المقدس) هي من الكتب التي ينبغي للمشتغلين بالتاريخ وبعلم الملل والنحل وأمثالهم
أن يطلعوا عليها , ولكن لا يجب على كل متنور أن يعرفها , ودعوى بناء تمدن
الغرب عليها ممنوعة على إطلاقها وباطلة بالصفة التي يدعيها المبشرون في هذه
الأيام؛ لاستمالة المفتونين بالمدنية الأوربية إلى النصرانية بها , فقوانين الغرب
أبعد شرائع الأمم عن شريعة التوراة إلا في القسوة على الضعفاء المغلوبين , وآداب
أهله أبعد من آداب جميع شعوب البشر عن آداب الإنجيل من كل وجه , فمدنية
الأمم الغربية مادية شهوانية قوامها الكبرياء والتعالي , وعبادة المال والطمع والرياء
والإسراف في الزينة والشهوات , فأين هي من أصول آداب الإنجيل المبنية على
التواضع والزهد , والإيثار والصدق ونبذ الزينة واحتقار الشهوات؟ وقد فصلنا ذلك
مرارًا كثيرًا في المنار.
وأما العلوم والفنون وشكل الحكومات المقيدة فلم تكن أثرًا من آثار انتشار تلك
المجموعة في بلاد الغرب , بل كانت من آثار العرب والإسلام؛ إذ من المسلمات
التي لا جدال فيها أن تأثير الدين في الأمم يكون على أشده وأكمله في أول العهد
بالاهتداء به , وبعد أن يأخذ مده غاية حده من النماء يضعف بالتدريج , وقد مكث
الغرب عدة قرون بعد انتشار النصرانية فيه , ولم يظهر فيه شيء من مبادئ هذه
العلوم والفنون , واستقلال الفكر والسلطة المقيدة , بل كان هذا مما انتقل إلى أوربة
من الأندلس العربية الإسلامية , ومما حمله غزاة الحروب الصليبية إليها من سورية
ومصر الإسلاميتين ولا يجهل القس الفاضل ما لاقى الدعاة إلى ذلك في أوربة من
اضطهاد حملة تلك المجموعة المقدسة , وحماتها من الظلم والاضطهاد في محاكم
التفتيش وغيرها , ولو اقتبس الغرب من الشرق دين العرب كما اقتبس علمهم
وحكمتهم؛ لجمعت مدنيته بين الكمال في الدين والدنيا؛ ولم تكن مادية محضة كما
هي الآن.
وأما الجواب عن السؤال الرابع: فهو أن التبشير بهذا الكتاب ليس نعمة على
كل فرد من أفراد البشر , حتى يجب شكره على كل فرد منهم , وإنما الشكر على
النعم , بل نقول: إنه كان نقمة ومصيبة على جميع أهل البلاد التي نعرفها , بما
أحدث من الشقاق والتعادي بين أهلها وفاقًا لما قررها اللورد سالسبوري , وإن جميع
أهل العلم والبصيرة من أهل البلاد السورية التي يقيم فيها السائل يعلمون اليوم
حق العلم أنه ما أفسد ذات بينهم , وفرق كلمة طوائفهم وحرمهم نعمة الرابطة
الوطنية التي تفتخر بها البلاد الغربية إلا مدارس المبشرين ونزعاتهم , وقد صر ح
بهذا أشهر كتابهم وخطبائهم وأهل الرأي فيهم من المسلمين والنصارى جميعًا , ومن
المتفق عليه بين هؤلاء العارفين بشؤون البلاد الدينية والاجتماعية , أن التدين
بالنصرانية كان أقوى وأصدق بين أهلها قبل هؤلاء المبشرين , والتعصب الذميم
كان أضعف، وإن كانوا لا ينكرون أن المعرفة بالديانة كانت أقل , ولا نعرف لهم
أثرًا في تنصير أناس ارتقوا بتنصيرهم إياهم , فصاروا خيرًا مما عليه أهل دينهم
فضيلة وآدابًا وعبادة لله عز وجل , دع ما يعتقده المسلمون من بطلان كل عبادة
مشوبة بالشرك.
نعم إن هذه المدارس نفعت البلاد بما بثته فيها من العلوم والفنون العملية
ولا سيما الطب والزراعة والتجارة , وهذه نعم تشكر، ولكنها ليست من التبشير في
شيء , وإن الذين حذقوها في المدارس أبعد عن تعاليم الكتاب المقدس في عقائده
وأحكامه ممن لم يدخل فيها.
وما علل السائل المحترم به وجوب هذا الشكر , من كون هذا التبشير يعرف
الإنسان فوائد لم يحصل عليها من قبل , أو يجعله بعد التأمل الدقيق يفضل كتابه
الخاص - ففيه بحث ونظر من حيث كونه ليس من لوازم هذا التبشير الخاص به؛
فإن كل ما يتعلمه الإنسان يفيده ما لم يعلمه من قبل , ويقل من يدرس هذا الكتاب
بسبب التبشير وبدلالة المبشرين دراسة استقلال تهديه إلى تفضيل كتابه عليه , على
أن كل مسلم عرف حقيقة الإسلام ثم درس هذا الكتاب , يزداد به علمًا بتفضيل
القرآن على جميع الكتب وكونه مهيمنًا عليها , وحكمه هو الحكم الفصل فيها
وهؤلاء قليلون وأنا منهم , وهذا الكتاب الجامع لما عندهم منها من جملة الكتب التي
أضعها بجانبي دائمًا لكثرة مراجعتي لها.
وأما الجواب عن السؤال الخامس، فنقول فيه: إن القرآن أوجب الاجتهاد
والاستقلال في فهم الدين , والاستدلال الذي ينتج اليقين في كل زمن وكل عصر،
وإن الحاجة إلى هذه الهداية في هذا العصر أشد؛ لانتشار التعليم الاستقلالي وحرية
الفكر فيه , فصار التقليد فيه أضر مما كان في العصور التي قبله , وآيات القرآن
في ذم التقليد واتباع الآباء والأجداد صريحة لا تحتمل التأويل , ولكنها لم تمنع
أدعياء العلم الدجالين من تحريم الاجتهاد وذم الاستقلال , ولولا رواج دعوة هؤلاء
الدجالين واغترار كثير من العوام لهم، لكان المسلمون على أحسن حال , ولما صاروا
حجة على الإسلام , ينفرون الناس عنه بجهلهم وصدودهم عنه؛ لستر جهلهم ,
حتى صاروا يحرمون العلم بالدين نفسه وهو المسمى عندهم بالاجتهاد الذي أوجبه
الله , ويوجبون الجهل وهو التقليد الذي حرمه الله تعالى.
وأما الجواب عن السؤال السادس فنجيب عنه بما يصححه فنقول: إن
المنتحل للدين لا يكون صادقًا في انتسابه إليه إلا إذا كان موقنًا بصحته مذعنًا
لأحاكمه إذعانًا نفسيًّا عمليًّا بأداء عباداته وترك محارمه , والتزام سائر أحكامه
وآدابه إلا ما يعرض للبشر عادة من بعض المخالفات , التي يستغفرون الله منها
ويتوبون إليه , وأما مجرد اللقب الموروث فلا قيمة له , والاعتقاد اليقيني هو
المعبر عنه بالإيمان، والإذعان النفسي العملي هو المعبر عنه بالإسلام , هذا إذا قوبل
أحدهما بالآخر وإلا فالمؤمن والمسلم يصدقان على شيء واحد , وقد بينا هذه
المسائل في مواضع كثيرة من المنار بالتفصيل والدلائل.
ومن القواعد المقررة عند علماء العقائد الإسلامية أن دين الإسلام ليس فيه
شيء يحكم العقل باستحالته , وأن المسلم لا يكلف أن يعتقد ما هو محال عقلاً , وأنه
إن وجد في الشريعة ما يعارض القطعي حسًّا أو عقلاً وجب تأويله بما يجمع بين
العقل والنقل؛ لأن الله تعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة:
286) والقاعدة عند غيرنا بخلاف ذلك , وهي أنه يجب الإيمان ولو بالمحال وإن
كان بديهيًّا كالجمع بين النقيضين، أو الضدين المساويين للنقضين كالتوحيد
الحقيقي والتثليث الحقيقي؛ أي: كون الإله واحدًا حقيقة وغير واحد حقيقة - فالمسلم
الذي يتبع ما يوجبه عليه دينه من العلم الصحيح به والأخذ باليقين في عقائده لا
يخشى أن تؤثر في نفسه دعوة دين آخر , وقد بينا في الرد على دعاة النصرانية
بمصر منذ بضع سنين أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا؛ لأن الإسلام
نصرانية وزيادة كما قال السيد جمال الدين الأفغاني , أو لأن من وصل إلى الكمال
في أمر لا يختار أن يستبدل به ما دونه كما نقول نحن.
وقد بين الله تعالى في كتابه المعجز للبشر من وجوه كثيرة أنه قد أكمل دينه
الذي بعث به رسله , وعلى لسان خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
أجمعين فقال: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ
دِيناً} (المائدة: 3) وهذا يوافق سنته تعالى في النشوء والارتقاء.
على أن كتب من قبله من الرسل لم تحفظ كلها كما حفظ كتابه , وسننهم
وتواريخهم لم تحفظ كما حفظت سنته وتاريخه , فهذا المسيح عليه السلام ليس في
الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة من الأناجيل الكثيرة إلا الشيء القليل من
تاريخه , وهي غير منقولة بالأسانيد المتصلة , وقد وقع الخلاف في تواريخ كتابتها
وفي اللغة التي كتبت بها , وفي بعض أشخاص كاتبيها كما صرحوا به في تواريخ
الكنيسة , وفي معاجمهم العلمية الكبرى (دوائر المعارف) .
ونحن إنما نذكر هذه المسألة هنا على سبيل الاستطراد , وغرضنا منه أن
المسلم العارف بدينه المتلقي له بالدلائل كما أمر لا يخاف أن يزداد بتبشير المبشرين
إلا ثباتًا ويقينًا فيه , ولكن هؤلاء المبشرين يبثون دعوتهم في العوام الذين لا
يعرفون من الإسلام إلا بعض الأحكام التقليدية , وفي التلاميذ المبتدئين في طلب
العلوم والفنون , وقد تمر السنين على هذا ولا يوجد واحد في الألف من هؤلاء
الجاهلين بأكثر حقائق الإسلام من عوام وتلاميذ يتنصر , ولكن يكون كثيرون منهم
ملاحدة معطلة أو مشككة (لا أدريين) والسائل المحترم يرى أن هؤلاء شر من
المتدين بأي دين من الأديان التي تنهى عن الشر , وتأمر بالخير وهو مصيب في
ذلك.
وليعلم القس المحترم أن من أصول ديننا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) وأنه تعالى بعث في جميع الأمم
القديمة رسلاً هادين مرشدين إلى توحيده وعبادته , وفعل الخير وترك الشر , وأن
أمر هدايتهم جرى على سنة الارتقاء بالتدرج؛ لاختلاف استعداد البشر كما قلنا آنفًا ,
حتى كمل ذلك الاستعداد ختم الله النبوة بمحمد عليه وعلى سائر إخوانه النبيين
صلوات الله وسلامه , وأن ما جاء به مكمل لما سبقوه به، وأن من معجزاته أنه جاء
بالخلاصة الصحيحة الفضلى لما كان عليه أشهر الرسل القريبي العهد به , الذين
حفظ من دينهم ما لم يحفظ من تعاليم من قبلهم ولاسيما موسى وعيسى (عليهما
السلام) على كونه أميًّا لم يطلع على شيء من الكتب مطلقًا. قال تعالى: {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت:
48) فلا يسع عاقلاً منصفًا عرف دينه أن يؤمن بغيره ولا يؤمن به , والذي نعهده
من هؤلاء المبشرين أنهم ينظرون في الإسلام بقصد العثور على شيء فيه قابل
للطعن فيه , ولو بالتمحل لا بقصد معرفة حقيقته , ولا المقايسة بينه وبين غيره
بالإنصاف.
ولقد كان من العجب عندي أن أرى هذا المبشر- السائل المحترم - يكتب
بأسلوب واثق بما يرمي إليه كلامه , وقلما عرفنا منهم من هو كذلك , وإنما تدل
كتابة أشدهم مبالغة في التبشير وتفضيلاً لما عندهم على ما عند غيرهم , على أنهم
يكتبون ما لا يعتقدون ويقولون الكذب وهم يعلمون , ويحرفون الكلم عن مواضعه
كما فعل سلفهم الأولون , والله يعلم ما يسرون وما يعلنون , فهؤلاء لا يحترمون
عندنا , وأما من دعا إلى دينه عن عقيدة هو مذعن لها ومخلص فيها، فكل عاقل
يحترمه وقليل ما هم.
__________(25/188)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامة
وبدء السلام ورده
(س9-12) من الشيخ محمد عبد الظاهر برمل الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1) صدر من بعض السبكية إنكار على من لم يجب المقيم , ولم يصل
على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الإقامة كالآذان , ولم يأتوا بدليل وقد رأينا
فيه حديث أبي أمامة عند أبي داود ولكنه لم يصح؛ إذ فيه راو مجهول.
(2) وأنكروا وصل المؤذن بين تكبيرتين من تكبيرات الآذان كما يفعل
المؤذنون اليوم , ويقولون: السنة الفصل بين كل تكبيرة وأخرى وإفرادها بالوقف
على كل واحدة , ولا يجوز قطعًا تحريك آخر التكبيرة الأولى لوصلها بالثانية. ولم نعثر لهذا على دليل صريح.
(3) وقالوا: لا سلام على الجالسين في درس علم , فإن العلم أولى
وأفرض. فعارضناهم بأن الأمر عام , والتخصيص لا دليل عليه , وقد سلموا على
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فرد بالإشارة.
(4) وقالوا: لا كلام على الوضوء , وزعموا أن رجلاً سلم على النبي صلى
الله عليه وسلم وهو يتوضأ , فلم يرد عليه حتى أتم الوضوء , ولم نعلم صحة
هذا الحديث ولم يعلموا هم أيضًا. فهل عند سيدنا الأستاذ شيء ثابت في السنة على
هذا كله؟ نرجو إفادتنا؛ لأجل العمل به ولكم الأجر والثواب على هداية السائل
وإرشاد الحيران والسلام.
***
إجابة الإقامة كالآذان
(ج) لم يفتجر تلاميذ الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي شيئًا من هذه
المسائل؛ أي: لم يأتوا بها من عند أنفسهم , بل نقلوها عن الفقهاء، فأما استحباب إجابة المؤذن في الإقامة كالآذان فقد استدلوا عليه بحديث أبي أمامة ولم يروا
ضعفه مانعًا من العمل به في مسألة من فضائل الأعمال على قاعدتهم المعروفة , ولو
قالوا: إن سماع النداء في الأحاديث الصحاح الواردة في ذلك يشمل الإقامة؛ لأنها
نداء كالآذان لم يكن بعيدًا وفي الحديث المتفق عليه: (بين كل آذانين صلاة لمن
شاء) رواه الجماعة من حديث عبد الله بن مغفل , واتفق العلماء على أن المراد
بالآذانين فيه الآذان والإقامة. وكون هذا من باب التغليب لا ينافي ما قلناه من عدم
البعد وإلا كان نصًّا في المسألة.
***
تسكين كلامات الآذان
وأما الجواب عن الثاني فهو أن للمسألة أصلاً من وجهين: (أحدهما) : ما نقل
عن السلف في ذلك , ففي كتابي المغني والشرح الكبير للمقنع من كتب الحنابلة
(التي تتحرى نقل أقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين وأدلتها) أن
عبد الله بن بطة قال: إن في الآذان والإقامة لا يصل الكلام بعضه ببعض معربًا بل
جزمًا. وحكاه ابن الأعرابي عن أهل اللغة وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال:
شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما: الآذان والإقامة. قال صاحب المغني وصاحب
الشرح الكبير: وهذه إشارة إلى جماعتهم؛ أي: الصحابة , فإن إبراهيم من
أشهر علماء التابعين. اهـ وهذه حجة لهم.
(والثاني) - وهو معارض له - إن حديث عمر بن الخطاب (رضي الله
عنه) في إجابة المؤذن , يدل على الوقوف عند كل كلمة (أي: جملة) من كلمات
الآذان إلا التكبير , فإنه يقف عند كل تكبيرتين فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا
قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن
لا إله إلا الله. قال: أشهد أن لا إله إلا الله إلخ ... ) ففيه أنه جعل الوقف على
تكبيرتين في أول الآذان وآخره , بخلاف سائر الجمل المقررة مثنى مثنى , فقد
وقف على كل واحدة منها ورتب الجواب عليهما - ومن المعلوم أن الوقوف في لغة
العرب يكون بالسكون والوصل بالتحريك - فظاهر الحديث يوافق ما عليه المؤذنون
اليوم في أمصار الإسلام من الجمع بين كل تكبيرتين , وهو يقتضي أن تحرك كلمة
أكبر بالرفع في الأولى على القاعدة العامة في هذه اللغة , وهو التحريك في أثناء
الكلام , لكن بعض المؤذنين يصلون أكثر كلمات الإقامة فيقفون بعد التكبيرات
الأربع، والشهادتين كلتيهما، والحيعلتين كلتيهما؛ لأنهم يحدرون في الإقامة فلا
يمدون كلماتها الممدودة ولا يمدونها , وكذا ويرتلونها كالآذان وهو المنقول , فهؤلاء
ينبغي الإنكار عليهم، وكذا من يصل التكبيرتين الأوليين بالأخريين فيقف عند
الرابعة.
***
السلام على المشتغل بالعلم
وأما الجواب عن الثالث وهو عدم السلام على الجالسين في دروس العلم فلا
نص فيه عن الشارع , ولكنه منقول عن بعض الفقهاء وله نظائر: كقارئ القرآن
بالتدبر , والملبي في الحج , قالوا: لا يسلم عليهم؛ لئلا يشغلهما عما هما فيه.
وقالوا: إنه إذا سلم عليهما وجب عليهما الرد. فأمر الرد أعظم من البدء فقد قالوا:
إن الإجماع قد انعقد على أن ابتداء السلام سنة , وأن رده فرض. وهو ظاهر
آية {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) ولا
يترك الواجب إلا بدليل قوي , فمن ترك السلام على المشتغل بالعلم والعبادة؛ لظنه
أنه يتأذى بصرفه به عما شغل ذهنه وقلبه فله وجه وجيه , فإن السلام للتحاب
والتواد , فإذا كان في حالة تنافي ذلك تركه , ولا يعد تاركًا للسنة المستفادة من
عموم الأمر بإفشاء السلام؛ لأنه معارض في مثل هذه الصورة بما هو ثابت
ومقطوع به من تحريم الإيذاء , ومنع الضرر والضرار المحقق، وكراهية ما
كان مظنة له , وقد صرح بعضهم بأن السلام غير المشروع لا يستحق جوابًا.
وترى تتمة بحثه في الجواب الآتي وهو:
***
الكلام على الوضوء
والسلام على المتوضئ
وأما الجواب عن الرابع فهو أن الحديث الذي ذكروه هو ما رواه ابن جرير
عن البراء بن عازب أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ , فلم يرد
عليه حتى فرغ من الوضوء مد يده إليه وصافحه. ونذكر بهذه المناسبة ما يتعلق
بمحظورات السلام , وأوسعها ما جمعه في هذا الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في
شرح كتابه (غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب) في التنبيهات المتعلقة بالسلام
قال: يكره السلام على جماعة منهم: المتوضئ , ومن في الحمام , ومن يأكل أو
يقاتل , وعلى تالٍ وذاكر وملب , ومحدث وخطيب وواعظ , وعلى مستمع لهم
ومقرر فقه , ومدرس وباحث في علم ومؤذن ومقيم , ومن على حاجته ومتمتع
بأهله أو مشتغل بالقضاء ونحوهم , فمن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام لم
يستحق جوابًا , وقد نظمهم الخلوتي وزاد عليهم جماعة فقال:
رد السلام واجب إلا على ... من في الصلاة أو بأكل شغلا
أو شرب أو قراءة أو أدعيه ... أو ذكر أو في خطبة أو تلبيه
أو في قضاء حاجة الإنسان ... أو في إقامة أو الآذان
أو سلم الطفل أو السكران ... أو شابة يخشى بها افتتان
أو فاسق أو ناعس أو نائم ... أو حالة الجماع أو تحاكم
أو كان في الحمام أو مجنونا ... فهي اثنتان قبلها عشرونا
ورد النص في بعض هذه والبقية بالقياس على المنصوص , وإذا انتفى
الوجوب بقي الاستحباب أو الإباحة , نعم في مواضع يكره الرد أيضًا كالذي على
حاجته، ولعل مثله من مع أهله , ويحرم أن يرد وهو في الصلاة لفظًا وتبطل
به، ويكره إشارة. قدمها في الرعاية , وقيل: لا كراهة؛ للعموم، ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم رد على ابن عمر إشارة وعلى صهيب كما روى الإمام
أحمد والترمذي وصححه.
وإن رد عليه بعد السلام فحسن؛ لوروده في حديث ابن مسعود , وإن لقي
طائفة فخص بعضهم بالسلام كره , وكره السلام على امرأة أجنبية غير عجوز
وبرزة , فإن سلمت شابة على رجل رده عليها , وإن سلم لم ترد عليه. قال ابن
الجوزي: المرأة لا تسلم على الرجال أصلاً. وروى من الحلية عن الزهري عن
عطاء الخراساني يرفعه (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) وكره الإمام السلام
على الشواب دون الكبيرة، وقال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي
ولا يجيب دعوته. اهـ
ولنذكر ما اطلعنا عليه في كتب السنة مما يصلح دليلاً لما أورده أيضًا أو
قياسًا عليه أو معارضًا له فنقول: روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم أن
رجلاً - هو المهاجر بن قنفذ- سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول , فلم
يرد عليه ثم قال له: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تُسَلِّم عليّ , فإنك إن
فعلتَ ذلك لم أردّ عليك) وفي بعض الرويات أنه رد عليه بعد أن تسمح , وفي
أخرى: بعد أن توضأ. وتعليل عدم الرد بأنه كان على غير طهارة.
وروى الشافعي في سننه، والبيهقي في المعرفة، والخطيب عن ابن عمر:
(أن رجلاً مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول , فسلَّم عليه فردَّ عليه
وقال: إنما حملني على الرد عليك مخافة أن تذهب إلى قومك فتقول: إني سلمت
على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي. فإذا رأيتني على هذه الحالة
فلا تسلمن , فإنك إن سلمتَ لم أرد عليك) وروى ابن جرير عن أبي جهم أنه سلم
على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى فرغ، ثم جاء إلى
حائط فتيمم ثم رد عليه السلام. وروي عن ابن عمر مثله مرفوعًا فيمن سلم عليه
وهو مقبلٌ من الغائط.
وأما حديث: (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) الذي احتج به السفاريني ,
فقد أشار السيوطي في الجامع الصغير إلى ضعفه , وهو من مراسيل عطاء
الخراساني وهو مدلس لا يحتج بمراسيله من يحتج بالمراسيل , فكيف بمن لا يحتج
بها كالجمهور ومنهم الشافعية وهو معارض لأحاديث صحيحة.
عقد البخاري في صحيحه البخاري بابًا في مشروعية (تسليم الرجال على
النساء والنساء على الرجال) قال الحافظ ابن حجر: في شرح ترجمة الباب
من الفتح: أشار بهذه الترجمة إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى
بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال.
وهو مقطوع أو معضل. والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة , وذكر في
الباب حديثين يؤخذ منهما الجواز , وورد فيه حديث ليس على شرطه وهو حديث
أسماء بنت يزيد: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا. حسنه
الترمذي اهـ.
ثم ذكر الحافظ حديث واثلة عند أبي نعيم في عمل اليوم والليلة مرفوعًا (يسلم
الرجال على النساء ولا يسلم النساء على الرجال) قال: وسنده واه. ومن حديث
عمرو بن حريث مثله موقوفًا وسنده جيد. وثبت في مسلم من حديث أم هانئ: أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه اهـ.
أقول: تسليم الرجال على النساء يوافق آداب الإفرنج ومقلديهم في هذا الزمن
وأما حديثا الباب في البخاري , فأحدهما: حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله
عنه - أنه كان لهم عجوز , تطبخ كل يوم جمعة أصول السلق بدقيق الشعير ,
وكانوا إذا صلوا الجمعة ينصرفون فيسلمون عليها، فتقدمه إليهم، فيفرحون به.
والثاني: تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم عائشة سلام جبريل فترد عليه السلام ,
وكان يجيء بصورة رجل.
وحديث أم هانئ حجة على من منع السلام على من في الحمَّام , وفي
الصحيحين وغيرهما , أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان.
وعقد البخاري له بابًا للرد على من قال: لا يشرع. كالحسن البصري , وقيده الفقهاء
بما قيدوا به السلام على المرأة التي يخشى الافتتان بها , وأما الفاسق فاحتج
الجمهور في ترك السلام والرد عليه بمنع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من
الكلام عن المتخلفين في غزوة تبوك.
__________(25/194)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سكة الحديد الحجازية
(استولت السلطة الفرنسية في سورية على ما فيها من سكة الحديد الحجازية ,
التي هي وقف إسلامي خاص بالبلاد المقدسة , استولت على إدارتها وأدواتها
وأموالها , وجعلتها تابعة لشركة الخط الحديدي الفرنسية بين الشام وحماه , وقد
كتب إلينا كاتب سوري من أعلم الناس بتاريخ هذه السكة المقالة الآتية في سبب
إنشائها , وإثبات وقفيتها وبيان حالها , واغتصاب السلطة الفرنسية لها , وهذا
نصها) :
إن الدولة العثمانية لما رأت أن المسلمين الساكنين في ممالكها , والمتفرقين
في أنحاء كرة الأرض كمسلمي تونس والجزائر وفاس في المغرب، ومسلمي
الهند والأفغان وإيران والصين , وسائر المشرق , يأتون من كل فج عميق في
كل سنة؛ لأداء فريضة الحج , وزيارة حرم الرسول المصطفى صلى الله عليه
وسلم وقبره الشريفين , ورأت ما يعانيه أولئك الحجاج من بعد المسافة وتحمل مشاق
الطريق المملوء بالمصاعب والمتاعب , وركوب متون الإبل لقطع تلك الصحاري
الشاسعة - ارتأت [1] أن تمد سكة حديدية تمتد من حيفا ومن دمشق إلى المدينة المنورة.
وقد كان لهذا الأثر الجليل مقصدان:
(الأول) إجابة إلحاح مسلمي الأرض على مقام الخلافة في ذلك الوقت بهذا
العمل؛ ليتمكنوا من أداء فريضة الحج , وسنة الزيارة بسرعة تامة وراحة واطمئنان
على أموالهم؛ إذ يوجد فيهم الشيخ العاجز والطفل الصغير , والنساء المخَدَّرات
وغيرهم من ذوي المعاذير كالأعرج والأعمى والمقعد.
(الثاني) تأمين سلطة الخليفة على الحرمين الشريفين، إذ كان كل خليفة من
خلفاء المسلمين يلقب بخادم الحرمين الشريفين , ويفتخر هو بأن يتولى هذه الخدمة
إما بنفسه أو بواسطة من ينوب عنه؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى. وإذ كان هذا العمل
العظيم يحتاج إلى نفقات طائلة وافرة , لا يمكن أن يقوم بها فرد من أفراد المسلمين ,
بل يتعذر أن تقوم به الدولة نفسها تقرر بعد الاستشارة والمذاكرة ما يأتي:
(1) تشكلت لجنة عامة لهذا المشروع , أوفدت من قبلها الوعاظ المرشدين
إلى جميع الأقطار الآهلة بالمسلمين؛ لحثهم على جمع الإعانات له، فأجيبت الدعوة
في كل قطر إسلامي , وكانت اللجنة العليا تنشر مقدار الإعانات وأسماء أصحابها
في الجرائد التركية والعربية , وغيرها من صحف العالم. وقد وضعت الدولة
العثمانية لتنشيط هذا العمل (مداليات) أنواطًا من الذهب والفضة , وسمتها باسم
إعانة السكة الحجازية , ويوجد كثير منه عند المتبرعين، كما أنها أحدثت أوراق
طوابع خاصة سمتها بالطوابع الحجازية؛ لكي تلصق على كل ورقة من الأوراق
الرسمية لمعاملات الدولة على كل سند وعقد ينظم بين عاقدين , لا فرق بينه وبين
الطوابع المختصة بالديون العامة , ولا تزال هذه الطوابع إلى يومنا هذا تلصق
ويؤخذ رسمها على جميع الأوراق والمستدعيات , التي ترفع إلى المقامات الرسمية
في تركيا وفى المقاطعات التي انفصلت عنها في أثر الحرب وتقرر انسلاخها عنها
بموجب معاهدة لوزان الأخيرة.
(2) قبل وقوع الحرب الأخيرة حصل اعتراض من سفراء الدول الأجنبية
على إلصاق طوابع الإعانة الحجازية على الأوراق التي تتقدم من طرف رعايا
الأجانب , وكان من حجج اعتراضهم أن هذه الطوابع وضعت؛ لإعانة دينية
إسلامية , فلا يجب على الأجانب دفعها , وبناء على هذا الاعتراض قررت حكومة
الآستانة وقتئذ أن إلصاق الطوابع الحجازية على الأوراق المتعلقة بالأجانب أمر
اختياري لا إجباري , وبلغت جميع ولاياتها هذا القرار , وهذه التبليغات لا تزال
محفوظة في الدوائر الرسمية.
(3) في 18 أغسطس سنة 1330 (الموافق سنة 1921) صدر قانون
بإلحاق السكة الحجازية بنظارة الأوقاف بناءً على كونها من الأوقاف الإسلامية
الموقوفة على الحرمين الشريفين , وفيه أن ريعها يصرف قسم منه على تأمين دوام
عمارتها. والقسم الآخر يصرف على الخيرات والتحسينات في سبيل استكمال
استراحة حجاج بيت الله الحرام , وتأمين راحتهم في حلهم وترحالهم.
ومن المعلوم أن الوقف في عرف الشرع عبارة عن حبس العين الموقوفة على
وجه تعود به منفعتها إلى ما وقفت له منه , وتبقى ثابتة لا تملك ولا يتصرف فيها
ببيع ولا رهن ولا هبة ولا غير ذلك , مما يخل بغرض الواقف وينافي نص الشارع.
فالأوقاف الصحيحة المماثلة لوقف السكة الحجازية لا تباع ولا تشترى , ولا يجوز
هبتها لأحد , وإن لكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية بعيدًا كان أو قريبًا حق الانتفاع
بها في الحج والزيارة , وما يتبعهما من تجارة وحق المدافعة عنها إذا اعتدي عليها.
وليس الوقف خاصًّا بالشرع الإسلامي، فعند سائر الملل أوقاف دينية وخيرية مصونة
من كل اعتداء , ومحترمة عند سائر أهل الأديان.
(4) كانت الحكومة الفرنسية في أثناء عقد قرضها الكبير لتركيا سنة
1914 طلبت جعل الخط الحجازي تحت إدارتها من قبيل الكفالة والضمان لذلك
المال أو بعضه , فردت الحكومة التركية هذا الطلب الشاذ ردًّا قطعيًّا بحجة كون
الخط وقفًا شرعيًّا , لا يجوز لها التصرف فيه بذلك على ما كان من احتياجها الشديد
إلى النقود في ذلك الوقت.
(5) كان الخليفة عند إنشاء هذا الخط هو الناظر عليه بما له من حق
الولاية العامة في الشرع الإسلامي، لا بصفة أخرى.
بعد هذه البينات نقول:
إن السلطة الفرنسية في سورية لم تراع حق وقفية هذا الخط , ووجوب جعله
في يد المسلمين الموقوف على منفعتهم الدينية , فاستولت عليه في آخر شهر شباط
(فبراير) سنة 1924 , وجعلته تابعًا لشركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها
الفرنسية , بموجب مقاولة عقدتها معها مباشرة بغير استشارة أحد من متولي إدارة
الوقف , ولم تشأ السلطة الأفرنسية المذكورة نشر تلك الاتفاقية؛ لما تعلم هي من
إجحافها العظيم بمصالح الخط , بل أبقتها سرًّا مكتومًا بينها وبين الشركة المذكورة،
ولكن تيسر لبعض المنقبين أن يعلم من أحد كبار مأموري هذه الشركة , أن حصتها
هي بنسبة ستين بالمائة من أصل ريع (واردات) الخط , ولها فوق ذلك امتيازات
أخرى من التصرف فيه كاستعمال قاطراته وشاحناته (عربات النقل) على خطها
بلا مقابل ولا بدل , ولم يسمع ولم ير في زمن من الأزمان ولا في مكان من الأمكنة
ذات القوانين والنظام , عقد اتفاقية جائرة ظالمة بهذه الدرجة المدهشة لا تأتلف مع
شرع ولا منطق ولا قانون.
على أن شركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها لم تتمكن من تاريخ تأسيسها
قبل ثلاثين سنة تقريبًا حتى الآن من تحسين شئون إدارتها وتلافي عجزها المالي
السنوي المستمر , وهي تستوفي أعشار حمص وحماه؛ لسد عجزها، خصوصًا
فيما يتعلق بخط رياق - حلب؛ إذ الكفالة الكيلو مترية بموجب صك امتيازها لأن
تكون الحاصلات غير الصافية ثلاثة عشر ألف وستمائة فرنك , عن كل كيلو متر
في السنة، علاوة على كون مقدار هذه الحاصلات زهيدًا جدًّا بالنسبة إلى
الخطوط الحديدية , لم تتمكن الشركة الذكورة من الوصول إليه والحصول عليه ,
وأما حاصلات إدارة السكة الحجازية التي نزعتها السلطة الفرنسية من يد إدارتها ,
التي لم يكن يوجد بين رجالها أحد ما من الأجانب , فلم تنقص عن ثمانية وعشرين
ألف فرنك في السنة , عن كل كيلو متر من السنين الأربع الأخيرة , وهي قد
تمكنت من أن توفر مبلغًا نقديًّا قدره (470522) ليرة؛ لأجل استعماله في ترميم أقسام الخط المخربة ما بين معان والمدينة المنورة , ولكن الشركة الأفرنسية
استولت على هذا المبلغ أيضًا وعلى جميع ما في مخزن الإدارة الكبيرة من
الأدوات , التي تبلغ أثمانها مائتين وعشرين ألف ليرة أخرى , وعلى جميع
القاطرات والشاحنات والعربات بما فيها , والقسم الذي تم إصلاحه وترميمه
المعد لاستئناف العمل، وتأمين السير والسفر للحجاج الكرام حتى المدينة المنورة،
كما كان متبعًا قبل الحرب.
نفذت السلطة الأفرنسية في سورية هذه المعاملة المجحفة خلافًا للشرع الشريف
ولنص المادة (60) الستين من معاهدة لوزان , ولأحكام المواد السادسة والتاسعة
من صك الانتداب على سورية , التي تقضي باحترام الأوقاف , وعدم التجاوز
عليها والتدخل في شؤونها , فهذا الاعتداء يعد اعتداءً على الشرع الإسلامي نفسه
وعلى المصالح الإسلامية الخاصة بالمسلمين , وقد تبعه الاعتداء على جماعة كثيرة
من المسلمين، فإن الشركة المذكورة قد بادرت من أول العهد باستيلائها على الخط
الحجازي في سورية بإخراج مائتين وواحد وأربعين مأمورًا ومستخدمًا فيه , فقضت
بذلك على مائتين وإحدى وأربعين عائلة , واستخدمت من عندها من يقوم مقامهم
ممن ليس له مثل ما لهم من الخبرة والتمرن على العمل؛ لأنهم شبوا في خدمة
الخط الحجازي، وتدربوا وتمرنوا فيه منذ سنين طويلة , وكانوا معدين للاستخدام
فورًا على ما يتجدد من أقسامه ويوجد من فروعه تأمينًا؛ لدوام سير الأعمال،
ومنعًا لتأخير السفر إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
إن حركة السلطة الأفرنسية الواقعة هي عبارة عن ضربة متوجهة إلى قلب
الإسلام , وكان يجب عليها أن تساعد على توحيد فروع الخط مع إدارته , وتشكيل
لجنة إسلامية؛ لمراقبة سير أعماله بموجب قرار لوزان المؤرخ في 27 كانون الثاني
(يناير) سنة 1923 خدمة للمقصد الجليل , الذي أسس لأجله ولإدامة حياته ولكنها لم
تفعل هذا، ولم تترك الخط لإدارته الإسلامية المنظمة , بل شاءت أن تقضي عليه،
وأن تجعله للفرنسيين لا للمسلمين.
إن تجزئة خط الحديد الحجازي جناية عليه , لا يجوز التسامح فيها ألبتة؛
لأن بعض أقسامه يضمن بقاء البعض الآخر؛ إذ منها ذو الربح الدائم. وبعضها
لا ربح فيه في معظم السنة , وإننا نرى بعض أقسامه المثمرة كقسم حيفا بيد سلطة
غريبة غير مسلمة أيضًا , فهي تجني الثمار منه وتصرفها في غير ما وقفت عليه
الخط وما أنشئ لأجله , وبذلك يبقى القسم الجنوبي الكبير الممتد إلى المدينة المنورة
في منطقة الحجاز خرابًا , لا يقوم بالمقصد السامي الذي أسس لأجله، وهو نقل
الحجاج الكرام إلى مدينة الرسول , وتقريبهم من بيت الله الحرام، لعدم كفاية
حاصلاته لتسديد ما يحتاج إليه من النفقات , فإننا نرى في آخر إحصاء للخط
الحجازي قبل الحرب (وهو إحصاء سنة 1913) أن واردات الخط الكبير كانت
(191374) ليرة عثمانية ذهبية , وأن نفقاته بلغت (221430) ليرة فيكون
النقص (30056) ليرة , ولكن واردات قسم حيفا كانت في السنة المذكورة
(92421) ليرة، ونفقاته (29599) ليرة، فتكون الزيادة (62824) .
فيتضح من ذلك أن قسم حيفا أيضًا لازم غير مفارق للخط الكبير , وأنه بدونه
لا يمكن السير والسفر على هذا الخط المقدس بسبب العجز البالغ (30056) ليرة.
يضاف إلى ذلك أيضًا أنه إذا بقى قسم حيفا منفصلاً عن الفرع الكبير على اتصاله
بالبحر , فإن تعليمات الفحم التي تقدر بـ (18000) طن ستنقل بأجرتها على هذا
القسم , وتبلغ مصاريفها (14500) ليرة تقريبًا. يعني أن الخط الجنوبي الكبير
يخسر لذلك سنويًّا (44556) ليرة , وهذا الحال يكون قاضيًا على حياته مما لا
يرضاه العدل النزيه , والوجدان الطاهر اهـ.
(المنار)
يجب على العالم الإسلامي أن يرفع صوته بالاحتجاج على ما فعلته السلطة
الفرنسية في سوريا من الاستيلاء على السكة الحجازية، وسنبين هذا في جزء ثان
إن شاء الله تعالى.
__________
(1) المنار: الحق أن السلطان عبد الحميد هو الذي ارتأى هذا الرأي , ونفذه بقوة إرادته وعلو همته , وثقة العالم الإسلامي به , كما بينا ذلك في المنار في ذلك العهد.(25/200)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوثائق الرسمية في المسألة العربية
(1)
الاتفاق بين الأمير فيصل والدولة
الفرنسية على الانتداب في سورية
نشرت الحكومة الفرنسية بيانًا عن المسألة العربية جاء فيه نص الاتفاق الذي
عقدته بينها وبين الأمير فيصل في أواخر سنة 1919 , وهو الذي حمله فيصل إلى
سوريا في شهر فبراير سنة 1920؛ ليأخذ من زعماء الأمة تفويضًا بعقده نهائيًّا.
وقد بينا ما كان من أمر خيبته فيه من قبل وهذه ترجمة الاتفاق:
باريس في 6 يناير (كانون) الأول سنة 1919
المادة1 - تؤيد حكومة الجمهورية الفرنسية اعترافها بحق الشعوب السورية
في حكومة ذاتية.
المادة2 - تتعهد الحكومة الفرنسية ببذل مشاركتها بكل صفة للأمة السورية
وضمان استقلالها ضد كل تعد في الحدود التي سيعترف لها بها مؤتمر الصلح.
المادة3 - يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن الأمة السورية
المستقلة لا يمكنها أن تستغني الآن عن مشاورة ومساعدة (مندوب) يرشدها في
إدارتها إلى الوقت الذي تقدر فيه على إدارة شؤونها بنفسها , ويقبل باسم الشعوب
السورية أن يفوض إلى فرنسة هذا الانتداب.
المادة4 - يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يطلب من الحكومة
الفرنسية - من هذه الحكومة وحدها - المستشارين اللازمين؛ لتنظيم الإدارات
الملكية والعدلية والنافعة , والمعارف وكل الفروع التي يتبين النفع من إنشائها باتفاق
مشترك بقصد النظام والتقدم.
ويكون للحكومة الفرنسية حق الأولوية في المشروعات الصناعية , والقروض
المحلية , وتحترم أساس القانون الشرعي في مسألة الأوقاف.
المادة 5 - تسهيلاً لتسيير الضمان المعطى من فرنسة للأمة السورية يطلب
صاحب السمو الملكي الأمير فيصل حالاً من الحكومة الجمهورية رجالاً - ضباطًا -
مدربين؛ لتنظيم الدرك والشرطة.
المادة 6 - يقيم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل في باريس بجانب ناظر
الخارجية معتمدًا مفوضًا موكلاً , يتتبع المسائل الخارجية التي تهم الأمة السورية،
ويفوض إلى الممثلين السياسيين والقناصل الفرنسيين في الخارج تمثيل المصالح
الخارجية للدولة السورية، ويصدر للقناصل توكيلاً منه بالمسائل السورية.
المادة 7 - يكون لبنان مستقلاًّ تحت الوصاية الأفرنسية في الحدود التي
يخصصها له مؤتمر السلم.
المادة 8 - سيبقى هذا الاتفاق الحاضر الذي تعين به القواعد العمومية مكتومًا
بين الطرفين إلى حين إمضاء الاتفاق القطعي المفصل (ويدون عند رجوع الأمير
فيصل من سوريا) . ويتبلغ هذا الاتفاق إلى مؤتمر الصلح في الوقت الملائم.
***
(2)
تعديل هذه الوثيقة
باريس في 16 يناير (كانون الأول) 1919
بناءً على التصريح الفرنسي - الإنجليزي بتاريخ 9 تشرين الثاني سنة 1918
من جهة، وبناءً على المبادئ العامة المختصة بتحرير الشعوب , وبالمشاركة الودية
المعلنة من قبل مؤتمر السلم من جهة أخرى , تؤكد الحكومة الجمهورية الأفرنسية
اعترافها بالحق للأهلين الناطقين باللغة العربية والقاطنين في أرض سوريا من كافة
المذاهب أن يتحدوا؛ ليحكموا أنفسهم بأنفسهم بصفتهم أمة مستقلة يعترف صاحب
السمو الملكي الأمير فيصل بأن اللأهلين السوريين , لا يستطيعون في الوقت
الحاضر؛ لاختلال النظام الاجتماعي الناشئ عن الاضطهاد التركي، والخسائر
المحدثة أثناء الحرب - أن يحققوا وحدتهم , وينظموا إدارة الأمة دون مشورة ولا
معاونة من أمة مشاركة , على أن تسجل تلك المشاركة Cooperation من قبل
جمعية الأمم عند إبرامها فعلاً.
وباسم الشعب السوري يطلب هذه المهمة من فرنسة.
1- تتعهد الحكومة الأفرنسية بأن تمنح للأمة السورية مساعدتها على شؤونها
بجميع أنواعها , وأن تضمن استقلالها ضد كل تجاوز ضمن الحدود التي سيعترف
بها مؤتمر السلم , وفي تعيين هذه الحدود ستبذل الحكومة الأفرنسية جهدها؛ لتقرير
التعديلات العادلة من حيث الجنسية واللغة العربية.
2- يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يطلب من الحكومة
الجمهورية الأفرنسية - هذه الحكومة وحدها - المستشارين والمدربين والمأمورين
الفنيين اللازمين لتنظيم جميع الإدارات الملكية والعسكرية , وهؤلاء المستشارون
والأخصائيون يستمدون تفويضهم وسلطتهم التنفيذية من الأمة السورية.
يشترك المستشار المالي في إعداد ميزانية الخرج والدخل؛ لإقامة أساس
التنظيم المالي , الذي تبنى عليه قواعد إدارة الدولة (السورية) الجديدة، وهو الذي
ينفذ بالإجبار جميع نفقات الإدارات المختلفة , وله أن يبحث عن حصة سورية من
الديون العمومية العثمانية.
وستكون السكك الحديدية المعطى امتيازها من خصائص مستشار (النافعة)
وفي أثر انعقاد الاتفاق الحاضر تمنح الحكومة الفرنسية مساعدتها؛ لأجل تنظيم
الدرك والشرطة والجيش.
يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل للحكومة الفرنسية بحق الأولوية
التامة في المشروعات والقروض المحلية , إلا ضد الوطنيين الذين يعملون لأنفسهم
ولا يعيرون أسماءهم لرأس مال أجنبي.
3- يقيم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل في باريس لدى ناظر الأمور
الخارجية مفوضًا , ينتدبه سكرتيره للأمور الخارجية , يعهد إليه النظر في المسائل
الخارجية التي تهم الأمة السورية , ويعهد إلى ممثلي فرنسة السياسيين وقناصلها في
الخارج بتمثيل مصالح دولة سورية الخارجية.
يكون للمفوض السوري الذي يقيم في باريس مندوبون تابعون لأمره في لندن
ورومة وواشنطن ضمن نطاق السفارة الأفرنسية , ووظيفتهم رؤية المسائل المختصة
بأحوال السوريين الشخصية.
وسيعهد للقناصل الفرنسويين بمهمة القنصلية السورية.
4- يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل باستقلال لبنان تحت الوصاية
الفرنسية، وبالحدود التي سيعينها له مؤتمر السلم.
5- يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يتعاون مع فرنسة على
تنظيم حكومة لدروز حوران في داخل الدولة السورية تكون متمتعة بأوسع شكل من
الاستقلال الإداري يلتئم مع وحدة الدولة.
6- تتعهد الأمة السورية بأن تبذل جميع قواها في المساعدة التامة لفرنسا في
كل فرصة؛ امتنانًا من العهد الذي عقدته مع المندوب العالي الأفرنسي ممثل الدولة
المساعدة إقامة عادية في حلب؛ ليكون بهذه الصورة على مقربة من كيليكيا، وهي
منطقة الحدود التي تجتمع فيها عادة الجنود الحامية، ويكون لرئيس الدولة السورية
والمندوب العالي الأفرنسي مشتى في بيروت التي ستتمتع بإدارة بلدية مختارة.
يبقى هذا العهد الذي تضبط به المبادئ العمومية مكتومًا بين الفريقين إلى
إمضاء الاتفاق القطعي المفصل , الذي سيحرر عند رجوع صاحب السمو الملكي
الأمير فيصل إلى فرنسة , وسيعرض في الوقت الموافق على مؤتمر السلم اهـ.
(المنار)
هذا هو الاستقلال الذي كانت جرائد الدعاية البريطانية تبشر به السوريين مع
سائر العرب , وفي مقدمتها جريدة القبلة , وجريدة الكوكب , وجريدة المقطم.
هذا هو الاستقلال الذي كان فيصل يحلف الأيمان المغلظة في خطبه ومحادثاته
بأنه لا يقبله إلا تامًّا ناجزًا مطلقًا من قيود الحماية والوصاية , وكل تدخل أجنبي
وإلا كان بريئًا من دم محمد , ومن نسب محمد صلى الله عليه وسلم. وكان يطلب
من وجهاء السوريين وأحزابهم , ومن المؤتمر السوري أن يفوضوه في سياستهم
الداخلية والخارجية بلا شرط ولا قيد , وكادوا يخدعون، ولو فعلوا لسجل على بلادهم
حمل العبودية , ولكنه خاب أولاً وآخرًا. ولله الحمد، ولا ندري ما تكون عاقبة أمره
فيما عاهد عليه الإنكليز في العراق , من تقييد الأمة بإمضاء صك عبوديتها وبيع
استقلالها.
((يتبع بمقال تالٍ))
______________________(25/205)
الكاتب: محمد الرشيدي بك آل الحجازي
__________
أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض
لمحمد الرشدي بك آل الحجازي
من أركان الحرب
(كتب بمناسبة تلك الزلازل الشديدة التي انتابت المدن الكبرى في بلاد
اليابان، فخربت العمران، وقتلت مئات الألوف من السكان، وسارت أخبار
أهوالها الركبان، وقد جمعت المقالة للمجلد السابق ومرت سنة كاملة ولم يمكن
نشرها، وإنما ننشرها الآن للعبرة بها والتذكير بحقارة هذه الدنيا وعمرانها
والترغيب في العمل للآخرة التي يندر في هذا العصر من يذكر بها. قال الكاتب) :
رمى الحدثان أهل اليابان بمأساة صمدوا لها صمودًا، وقرحوا أعينًا وخدودًا،
ولا عجب، فإن الخطب الذي لحق بهم من أقسى الأرزاء التي أصابت الإنسانية من
غليان مراجل الأرض التي اتخذ الناس مسكنهم منها، واعتمدوا في معاشهم عليها،
ولكن الإنسان جبل على النسيان، فمن ذا الذي يذكر زلازل مسيني التي أودت بما
يزيد عن مائتي ألف نفس، وزلازل صقلية التي خربت مرارًا مدنها وقراها ,
ونخص بالإشارة منها تلك التي خربت في عام 1693 وحده أربعًا وخمسين مدينة
وثلاثمائة قرية , وقتلت ستين ألف نسمة! فكأنما قيل لأهل تلك الجزيرة الجهنمية:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكمو يصير إلى تراب
ولكن ليس بسير الأمور إلى الزوال بالسنة الطبيعية المطردة، بل فجأة وغيلة بغدر الطبيعة وحسن ظن الناس بدنياهم.
دار الردى وقرارة الأكدار ومن ذا الذي فكر قبل مصيبة (طوكيو
ويوكوهامة) وغيرهما من مدن اليابان وقراها أو بين وقوعها وبين حدوث التثور
الأخير لبركان أثنة في صقلية في أن ليسابونه (أو ليشبونة) عاصمة البرتغال منها
أصابتها مثل هذه الأرزاء مرارًا، وأنها في شهر نوفمبر من عام 1755 رجتها
الزلازل رجة شعر بها في مقدار جزء من اثني عشر جزءًا من سطح الكرة
الأرضية، وصيرتها أطلالاً تدفن تحت ترابها وأحجارها , وخشبها وحديدها أكثر من
ستين ألف شخص!
نعم، لا يذكر إلا القليل من أهل التاريخ - الذين مهمتهم أن يحفظوا ذكرى
الحوادث - تلك الكوارث التي انتابت الإنسانية في عام 79 قبل الميلاد حيث زلزلت
الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها في ساحل نابولي وما اكتنفه، فقوضت أعراش
بومبئي وهركولانوم، وأطغت عليهما سيلاً من المواد الذائبة التي لفظها بركان لم
تطفئ الأيام إلى الآن جمر صدره - وهو بركان فيزوف - وما أصاب منها أرجاء
البحر المتوسط في عامي 19 و 526 بعد المسيح , حيث قضت في كل مرة على
نحو مائة وعشرين أو مائة وخمسين ألفًا من البشر , وما كان لهم من أموال وأنعام،
وفي مدينة نابولي نفسها التي رجت أرضها عام 1638 رجة قضت على ما فوق
ثلاثين ألفًا من الأنفس، وجزيرة جامايكا التي اهتزت اهتزازًا كفى لإزالة مدينة
وأهلها من عالم الأحياء؛ إذ محت مدينة بور روايال , وأماتت أكثر من ثلاثة آلاف
نفس من أهلها، وفي ليما وكالاس حيث دمرت المدينتان , وفارق ثمانية عشر
(ألفًا) من السكان الحياة فيهما، وفي المارتينيك حيث صارت مدينة سان بيير إلى ما
صارت إليه بور روايال.
لا يذكر سوى المؤرخين ذلك وغيره مثل طغيان الماء على الأرض في مدينة
(جالفستون) بسبب حركة الزلازل التي دمرت المدينة كلها، وحكمت طوفان السيل
فيها، وما لحق بالإنسانية قبله وبعده من الجوائح والمصائب
بل سينسى أهل اليابان أنفسهم ما لحق بجزائرهم في أوائل هذا الشهر، كما
نسوا ما حل بهم من قبله، وسينسى أهل مسيني ما أصابهم من أثنة وزلازل مسيني
وصقلية، وأهل إيطالية ما أصاب أنحاءهم الجنوبية، كما سينسى أهالي الدرمانال
منهم طغيان النيل في هذا العام.
ولولا ذلك لما سكن أحد نابولي وليشبونه ومسيني وأراضي صقلية وجزائر
اليابان والأقيانوسية وغيرها، ولما اتخذت إيطاليا نابولي أهم مرفأ لها، ولما شنت
الأمم الحروب بعضها على بعض، مع إنه لم تخرج أمة مرة من حرب ولو ظافرة إلا
وأسفت على ما ضاع من النفوس والأموال، وفضلت الرغبة إلى نعيم السلام،
الذي هيهات أن تسمح به الأيام ……
ولكن أين يذهبون إذا أرادوا السكنى في جهة لا زلازل تحركها؟
إن شرقي آسية ووسطها وجنوبيها وجزائر الأقيانوسية ووسط أفريقية
وشماليها وجنوبيها ووسط أوروبة وجنوبيها وغربها أراض صلبة , هي من أكثر
الأراضي تأثرًا بالزلازل , وفيها كثير من البراكين لا تزال تلفظ اليحموم وسيول
المواد الذائبة والنار، كما أن أميريكة من أراضي أمير الويلس (برنس أوف ويلس)
وإسلانده أو (آيلند) - إذا اعتبرنا إسلانده من أميريكة (- وهو على رأينا أصح
من اعتبارها من أوروبة) - شمالاً إلى رأس القرن (كاب هورن) في أراضي
النار جنوبًا بلاد أوجدتها سلسلة براكين , قد تكون سبب زوالها بعد أن كانت سبب
وجودها.
ولقد أصابت اليابان قبل الآن من هذا القبيل مصائب كثيرة , أخصها مصيبة
زلازل عامي 1891 و 1896 وأكثر منهما مصيبة 1855 التي دمرت طوكيو
وكانت وقتئذ تدعى (ييدو) ، كما أن زلازل كراكاتا التي لم تقتصر على رج ما
على القشرة الأرضية من جزائر الأقيانوسية وجنوب الصين والصين الهندية وسيام
الهند، بل وصلت تموجات الارتجاج إلى جنوب أفريقيا، بل إلى جنوب أميريكة
أيضًا، بل إلى ما وراء رأس القرن غر.
وكذلك الهند التي أصابها ارتجاج عقب زلازل طوكيو ويوكوهامة، هذه
الأخيرة هزتها كلها زلازل عام 1861 هزة عنيفة , وكذلك أواسط آسية , رأت من
الزلازل ونتائجها كثيرًا مما يروع ويفزع، وخصوصًا زلازل أرجاء بحيرة
البيكال التي طرأت في عام 1888. ولقد ذكرنا زلازل ليشبونة في عام 1755
وقد اهتزت لرجاتها أرجاء الجزيرة (أو شبه الجزيرة!) الأميرية - أي:
البرتغال وأسبانية وإفرنسة وسويسرة وجزء من شمالي إيطاليا وجزء من غربي
ألمانية وشماليها وجنوبي السويد , وجنوبي النرويج وغربيها وجزء من شماليها ,
وأراضي الدانمارك وهولاندة و (بلجيكة) وجزيرتي إنكلترة وأيرلندة كلها.
ولم تكن أمريكة الشمالية ولا أمريكة الجنوبية بأسعد حظًّا، فقد أصابت الأولى
زلازل كثيرة، نخص بالذكر منها زلازل 1875 التي رجت شرقيها، وزلازل
1895 التي رجت وسطها، وزلازل 1811 و 1711 التي رجت كل أراضي
جنوبي أميريكة الشمالية، وبعض أراضي شمالي أمريكا الجنوبية وما بينهما
من جزائر الانتيل , وأما الثانية - أي: أمريكة الجنوبية - فقد أصابها في شمالها
ووسطها وجنوبها الغربي والشرقي ما دونته سجلات التاريخ، وقماطر علم
الأرض، وخصوصًا زلازل 1815 التي أصابت الشيلي، وزلازل 1895 التي
عمت الشيلي وقسمًا كبيرًا من الجمهورية الفضية (الأرجنتين) والأوروجواي
والباراجواي وبوليفية، وجزءًا من البرازيل.
فهل سلمت أراضي الشرق العربية - ونعني بها ما جاور مصر - من تلك
الزلازل؟ لا، بل تناوبتها الزلازل حينًا بعد حين، نخص بالذكر منها تلك التي لم
تمر عليها ثلاث وخمسون سنة كاملة، وهي زلازل عام 1870 التي شملت مصر
وقسمًا كبيرًا من سودانها وطرابلس الغرب وتونس غربًا، وقسمًا كبيرًا من بلاد
العرب وسورية والأناضول والبلقان وجنوبي إيطالية!
وأما أراضي الجزائر والمغرب الأقصى فهي جبلية بركانية في أكثر مساحتها ,
ومن المعلوم أن أفريقية كانت متصلة بأوروبة - وعلى الأخص في جهة المغرب
الأقصى , وما فصلتهما سوى الزلازل التي مزقت القشرة الأرضية البارزة عند
مقترب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط وأنشأت بينهما بحر الزقاق أو ممر جبل
طارق.
وإذا لم يسجل التاريخ زلازل في صحراء أفريقية الكبرى ولا في غربيها
ووسطها وجنوبيها , فليس ذلك لأنه لم تحدث هناك زلازل؛ بل لأن الطوارق
وأهالي السودان والكونغو والهوتانتوتيين وغيرهم , لم يسجلوا ما لحق بهم منها، ولم
يقيسوا مدى تموجاته بآلات قياس الزلازل … بل لم يرتقوا إلى تدوين أمثال هذه
الأحداث الكونية في تواريخ بلادهم.
لقد درس علماء الأرض والباحثون منهم في الزلازل خاصة هذه الشؤون،
واستعملوا ما يستخدمون من آلات رصد الزلازل كالبندول الأفقي , وآلة مقياس
الزلازل وغيرهما، فوجدوا أنه لا يوجد مقدار شبر من الأرض خلوا من الاهتزاز
الذي قد يشتد يومًا , فيكون زلزلة تميد بها الدور والقلاع والجبال … ولا تترك من
البروج المشيدة إلا الأطلال …
فأين يقطن الناس المساكين ليأمنوا أن تخسف بهم الأرض؟ ؟ ؟
لعمري إن آمن أنواع المساكن ضررًا هي الأهرام لمن أراد سكنى قصور
الأحجار , وما بنى بالبتون على نمط مخازن الذخائر في القلاع، وأخفها وأسلمها
الخيام التي يقطنها البدو آمنين أن تسقط عليهم السقوف والجدران … فهل تعود
المدنية بعد ازدهارها ورفاهتها، إلى ما كانت الإنسانية عليه في بداوتها وتقشفها؟
لقد كان اليابانيون ولا يزال بعضهم إلى الآن يبنون دورهم بقصب البمبو
جاعلين جدرانها من الورق … كما كان أهل الآستانة يبنون مساكنهم بالخشب , ثم
هؤلاء وأولئك اتبعوا حركة (المدنية) الحديثة في البناء بالأحجار والبتون والحديد،
ومنهم من فكر في اتباع الطريقة الحمقاء , أو طريقة وضع الربح فوق كل اعتبار
آخر - وهي الطريقة الأميركية الفظيعة التي تشيد بها منازل ذات طباق تعد
بالعشرات … فإذا ارتجت الأرض تداعت جدران هذه الأبراج المشيدة , وسقط
سكانها من أعلى عليين إلى أسفل سافلين تحت الأنقاض وفيما بينها!
إن هذه الحماقة في التقليد نراها هنا في ألمانية أيضًا …. فإن كثيرًا من
الشركات اغتنمت حلول الحكم الجمهوري الذي ترك الأعنة لكل النزعات في
محل الحكم القيصري الذي كان يحرم على الناس أن يعلوا دورهم، فأخذت في بناء
الدور الشاهقة التي تريد بها أن تضارع (المحتكات بالسحب) الأميركية..
ويعلم الله متى يعاقب البانون والساكنون على هذا الخطأ الفظيع، نسأل الله
السلامة لنا وللناس من عواقب حماقتهم , واندفاعهم وراء الربح بغير تروٍ ولا تفكير!
تسجل مراصد الزلازل في أنحاء العالم آلافًا من الزلازل في كل عام، ولا
يفهم الناس أنهم يعيشون ويبنون قصورهم على قمة بركان , إذا كان لم ينفجر اليوم
فقد ينفجر غدًا أو كما قال أحد الناس في إبان الثورة الأفرنسية إنهم يرقصون
فوق وعاء أو (برميل) بارود) .
إن هذه الأرض التي يظنها الناس ساكنة لها في (بدنها) حركة دائمة، وكيف
تستقر قشرة رقيقة على نواة غليظة من الجمر؟ وما البحر بآمن من الأرض فإنه
على زلازل أنوائه وأمواجه، له زلازل من تحته كالأرض.
فمتى تعقل الإنسانية وتتخذ لنفسها الحيطة من خطر هي معرضة له في كل
طرفة عين؟
فليرجع الناس إلى ما كانت عليه مبانيهم من البساطة والصغر، وإذا كان العلم
قد أفادهم، فليتخذوا وسائل لمنع سقوط السقوف والجدران، والوقاية من الحريق
الذي كان يلتهم أخشاب الآستانة وورق اليابان…
إن مصيبة اليابان على فداحة ضحاياها من الأنفس والأموال، لا يقف مدى
خطبها لدى ما ظهر من جسامة الرزء , بل إنها أكبر بكثير من كل مصيبة حلت
بتلك الأرض الجهنمية. فإنها ضربت (اقتصاد) اليابان من زراعة وصناعة
وتجارة ضربة تكاد تكون قاضية عليه , إذا لم يبذل في إصلاح ما أفسدت فوق ما
يستطاع من الجهد الإنساني، وإذا لم تمد لها الأمم الأخرى يد المعاونة والمساعدة،
ومتى تعيد اليابان بناء مصانعها ومتاجرها ومزارعها التي قوضتها الزلزلة وأعفت
النار ثارها؟ ومتى تعيد دور علومها وأماكن فنونها، وتستعيض عمن قضت عليه
هذه الكارثة من رجال العلم والسياسة والاقتصاد؟
نعم، إنه لا يجوز اليأس ما دامت في اليابان أم تلد (والأمهات يلدن كثيرًا في
اليابان - ويفاخرن أمم العالم بكثرة من يلدن) ولكن مما لا يجوز للشك أن يتطرق
إليه، هو أن خطب اليابان أعظم خطب رأته أمم الإنسانية بعد خطب عاد وثمود.
(المنار)
بعد كتابة هذه المقالة وقبل نشرها نقلت صحف العالم عن أحد علماء الفلك في
إنكلترة، أنه بعد الدراسة والبحث في أسباب الزلازل عشرين سنة، قامت عنده دلائل
أقنعته بأن هذه الأرض ستخرب في سنة كذا- وذكر سنة قريبة نسيتها الآن -
بزلزلة تعم الغرب والشرق فتطغى بها البحار على اليابسة إلخ.
وقد صار الناس يتمارون بأمثال هذه النذر المحددة لموعد خراب الأرض
وهلاك عالمها , أو قيام الساعة؛ لتعدد الذين تنبؤوا بها وظهر كذبهم , وكان الناس
يصدقونها في القرون الوسطى حتى كانوا يتوبون إلى الله، ويتركون المعاصي
ويكثرون الصدقات استعدادًا للقاء الله تعالى , وقد وقف الألوف من أهل أوروبة
أملاكهم للكنائس في إثر مزعم من هذه المزاعم. ولكن أقوال علماء الفلك
والزلازل في خراب العالم مبنية على أصول علمية , إذا لم تبلغ فروعها درجة
القطع وتحديد الزمن , فلا يستطيع أحد أن ينكر أصولها وإمكان وقوع ما أخبر به
هذا العالم الإنكليزي في وقت ما , وقد صرح كتاب الله تعالى بأن للساعة زلزلة
عظيمة تتقدمها , ولكنه قال: {لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187) .
__________(25/209)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ محمد مهدي
فُجع القطر المصري في الشهر الماضي فجأة بوفاة أخينا وصديقنا الكريم،
وولينا الحميم، الأستاذ محمد مهدي بك وكيل مدرسة القضاء الشرعي , والمدرس
في القسم العالي منها، فكانت وفاته زلزالاً عظيمًا، ورزءًا أليمًا، وخطبًا جسيمًا،
شعر بشدة وقعه عارفو فضله من العلماء والأدباء ولا سيما الذين تخرجوا به , أو
تلقوا عنه في المدارس الأميرية الابتدائية فالثانوية فالعالية - وآخرها دار العلوم
والجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي - والذين عاشروه وحظوا بنصيب من
آدابه النفسية واللسانية - فقد كان رحمه الله تعالى نادر المثل , ومنقطع النظير في
مجموعة أخلاقه وفضائله ومعارفه وآدابه. إنني أذكر من ترجمته بعض ما سمعت
ورأيت منه وما رويت عنه بالإيجاز , وأختص ما كان من أمره في حزب الإصلاح
ومريدي الأستاذ الإمام:
هو من عرق ألباني جاور في الأزهر سنين، وتخرج في مدرسة دار العلوم،
وكان ممن تلقوا عن الأستاذ الشيخ حسن الطويل أحد أفراد علماء الأزهر في هذا
العصر , في استقلال الفكر وسعة الاطلاع والجرأة على مخالفة الجماهير في الرأي،
وكان تلاميذه في الدرجة الثانية بعد تلاميذ الأستاذ الإمام الذين دخلوا هذه المدرسة
في أول العهد بتأسيسها، وأعني درجات الاستعداد للإصلاح. ولهذا كانوا أشد
خريجيها رغبة في الاتصال بالإمام في قيامه بالنهضة الأخيرة، وأكثرهم استفادة منه،
ولا غرو! فقد كان الشيخ حسن الطويل صديقًا للشيخ محمد عبده وأستاذاً له في
الأزهر قبل مجيء السيد جمال الدين إلى هذه البلاد، جمع بينهما الميل إلى العلوم
العقلية، والبحث عن غير ما يقرأ في الأزهر، وكانا أول من لقي السيد، وسمع منه
مباحث في تفسير بعض آيات القرآن الحكيم , لم يطرق آذانهما مثلها، جذبت إليه
ثانيهما , فانقطع عن كل شيوخه وانفرد بصحبته وكان الوارث الأكبر له.
كان الجامدون من أهل الأزهر لا يستطيعون فتح أبصارهم في نور حكمة
الأستاذ الإمام وعلمه الاستقلالي وآرائه الإصلاحية , بل كان بعضهم كالأعمى،
وبعضهم كالأعشى تجاه ذلك النور. وكان تلاميذ الطويل يصرفون أبصارهم إليه إذا
صرفت أبصار غيرهم عنه، فربما طرفت عين أحدهم عند النظرة الأولى، ولكنه
لا يلبث أن يعيدها مرة بعد أخرى، حتى تقوى على إدراك ذلك النور وإدراك
الحقائق به، وكذلك وقع للمهدي.
حدثني فقيدنا الكريم بأول عهده بمعرفة الأستاذ قال: ذهبت مع صديق لي إلى
دار سعد بك زغلول في (الظاهر) ليلة , فوجدت عنده الشيخ محمد عبده وقاسم
بك أمين وآخرين، وكانوا يتكلمون في سوء حال المسلمين وما ينتقد عليهم من
أمور دينهم ودنياهم، فرأيت أنهم مخطئون في بعض ما يقولون، وقد أردت أن
أجول معهم فيما رأيته خطأ من أقوالهم وما يقرره الشيخ فيوافقونه عليه , فألفيتني
عاجزًا عن الرد عليهم وضقت بهم ذرعًا، فرأيت من الدهاء أن أورطهم فيما يظهر
به خطأ رأيهم للناس , فقلت للأستاذ بعد جولة قصيرة معه: إذا كان المسلمون
بحيث تذكرون فما بالكم لا تبينون لهم ضلالهم، وتدلونهم على المخرج منه بمقالات
تنشرونها في الجرائد؟ - وكنت أمكر به؛ ليكتب فيتصدى للرد عليه من هم أقدر
مني على ذلك - فقال الأستاذ: قد صدرت هنا جريدة جديدة , لأجل هذه المباحث
فيحسن بك أن تقرأها؟ وذكر (المنار) .
كان هذا القول سبب اشتراك الفقيد في المنار منذ السنة الأولى , وتلا ذلك
تعارفنا وتآلفنا، وكان في أول العهد به يجادلني في بعض مباحث المنار التي يرى
فيها نظرًا أو خطأ، وكانت طريقته في المذاكرة أو المناظرة أنه يحفظ لنفسه خط
الرجعة غالبًا، فلا يظهر رأيه بصيغة الجزم، حتى إذا ظهر له أنه مخطئ لم يشق
عليه أن يعترف بالحق، وكان هذا دأبه طول عمره، وكان يسر بالفلج والإحسان
والإصابة، ويدل به فيبتسم وتبرق أساريره , فإذا جاراه جليسه وشاركه في تبسمه
ضحك، فإذا شاركه فيه أطال وأغرب، وكان يكتئب إذا أخطأ فتراه قد تخاوص
وقطب.
وقد حمد - رحمه الله تعالى - صحبتي وحمدت صحبته، ولما اقترحت على
الأستاذ الإمام عقد مجالس خاصة يتلقى عنه فيها الحكمة العالية بعض خواص
المستنيرين من أساتذة المدارس وغيرهم كان الشيخ مهدي أول من ذكرت له منهم
فقال لي: إن هذا من الجامدين. قلت: لا بل هو مستقل الفكر، حريص على
حقائق العلم. وكان سبب هذا الظن فيه سمره تلك الليلة معهم في دار سعد باشا
زغلول - ثم كان من أحظى الإخوان عند الإمام رحمهما الله تعالى.
كان الفقيد يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر؛ رسالة التوحيد
والتفسير والمنطق والبلاغة، ولما خرجنا من الدرس الأول من دروس كتاب أسرار
البلاغة قال لي: إننا في هذه الليلة قد اكتشفنا معنى علم البيان. وكان يحضر
الدروس أو المجالس العالية الخاصة التي كان الأستاذ يلقيها على فئة مختارة في دار
أحمد بك تيمور (هو أحمد باشا تيمور عضو مجلس الشيوخ) في شارع درب
سعادة، ثم في داره هو بعين شمس - فبهذا كان الفقيد من خواص مريدي الأستاذ
الإمام الذين وردوا حوضه وشربوا نهلاً وعلاً، وأشربوا آراءه الإصلاحية، فنشروها
قولاً وفعلاً، إلا أنه لم يكن يتحرى الدعاية لها، ولم يكن يجهر بنضال الخصوم
دونه ودونها، بل كان يوردها في الأكثر من تلقاء نفسه ويجادل فيها على طريقته
التي بيناها آنفًا.
وكذلك كان شأنه في آراء المنار، كان معجباً بها ومظاهراً لي عليها، وكان
يقول لي: إننا نرى في كل جزء من المنار شيئًا جديدًا ما كنا نعلمه، وكان يحب نشر
ذلك والدفاع عنه بما بينا من أسلوبه وطريقته. فإذا تصدى له بعض خصوم الأستاذ
الإمام أو خصوم المنار منكرًا ومجادلاً تحرى في الدفاع أن يكون محايداً لا ضلع له
معنا، إلا أن يكون المنكر من تلاميذه أو ممن هم كتلاميذه في توقيره واحترام رأيه،
فقد يصرح حينئذ بالانتصار والثناء، وكان يرى أن هذا الأسلوب وهذه الطريقة
أقرب وسائل الإقناع، وهو الذي كان يخبرني بهذا عن نفسه، وكنت أرى أن هذا
من الضعف الناشئ عن تحاميه أسباب الانتقاد عليه والتخطئة له، فإنه لم يكن
يطيق هذا، فكان البون بيننا في هذه الخليقة واسعًا.
وكان بعض إخوانه يتهمه بحب الانفراد ولو تشبعًا. قال لي أستاذ في الذروة
منهم علمًا واستقلالاً وصراحة: فاجأنا أخونا فلان بآراء جديدة ومباحث طريفة،
يلقيها علينا في سامرنا لم نكن نعهدها منه، ونحن أعلم الناس به، فكنا نجادله فيها
ولم نعرف مصدرها , حتى اشتركنا في المنار (وكان اشتراك هذا الأستاذ في أثناء
السنة الثانية) . وعندي من النظر في إطلاق هذه التهمة أن الإنسان إذا اقنع بشيء
وتمكن من نفسه صار رأيًا له ومذهبًا، وصار يتحدث به من عند نفسه، فهي التي
تلقى على لسانه وتملى على قلمه، ما لعله في غفلة عن مصدره، وتكثر هذه الغفلة
إذا طال العهد على تلقي ذلك الشيء ولا سيما إذا كان من المسائل التي تتكرر
بالأساليب المختلفة؛ لأجل الإقناع بها وتعميم نشرها، دع ما كان من توارد
الخواطر، ووقع حافر في إثر حافر.
تلك المباحث الإصلاحية التي كانت جديدة في أول العهد بظهور المنار هي ما
أشرنا إليه في فاتحته، وشرحناه بالتدريج في المقالات المتسلسلة والمتفرقة كمقالات
منكرات الموالد , ومقالات الإصلاح الإسلامي التي أنحينا فيها على رؤساء الدين
والدنيا من الخلفاء والملوك والمتكلمين والفقهاء والمتصوفة، وأهمها مسألة التقليد
وتفرق المذاهب , ولما عزمت على بسط هذا البحث وإقامة الحجج عليه , ووصف
العلاج للتفرق بجمع الكلمة على المجمع عليه في الإسلام , وجعل المسائل الخلافية
في الدين كأمثالها في اللغة والعلوم والفنون البشرية، لا تقتضي تفرقًا ولا عداوة ولا
طعنًا في المخالف - كاشفت الفقيد بذلك فنصح لي بأن لا أصرح بذلك؛ لئلا تقوم
قيامة الشيوخ على المنار، فقلت له: سأكتب ذلك بصفة مناظرة بين مصلح ومقلد -
وأفتح باب الرد عليها لمن شاء. وقد نفذت ذلك في المجلدين الثالث والرابع
وجمعت تلك المقالات في كتاب (محاورات المصلح والمقلد) التي طبعت في كتاب
مستقل كان له في العالم الإسلامي تأثير عظيم , ولقد كنت أرجو عند إنشاء المنار
أن أجد من هؤلاء الداربين في مصر حزبًا كبيرًا يشد أزري في عملي , فلم أجد إلا
أفرادًا , كان الفقيد أبرهم وأوفاهم وأوصلهم - فجزاه الله خير الجزاء - وقد كان من
حبه لي أن سمى نجله الوحيد باسمي، فأسأله أن يجعله خير خلف له.
وجملة القول في نشأة الفقيد الأدبية الإصلاحية: إنه كان من خيرة الذين
تخرجوا في دار العلوم , وأرقاهم تحصيلاً وأحسنهم تعليمًا، ومن وسط المستعدين
للإصلاح، وأوائل الفئة التي اتصلت بالأستاذ الإمام في عهدنا , فأشربت طريقته
المعتدلة في الإصلاح ومذهبه الوسط الجامع بين هداية الدين على منهاج السلف
الصالح وتجديد حضارة الأمة , بما يقتضيه ترقي العلوم الكونية والفنون الحديثة.
ومن أكبر الآيات على ذلك تربيته وتعليمه لكريمته (أسماء) فقد رباها تربية
إسلامية فاضلة , وعلمها تعليمًا عصريًّا راقيًا. وكان من شجاعته الأدبية أن أرسلها
إلى إنكلترا؛ لإتمام تعلمها واثقًا بدينها وأدبها، فحقق الله ظنه فيها، وهي الآن ناظرة
لمدرسة من مدارس البنات الأميرية , تديرها أحسن إدارة.
ومسألة المرأة أهم مسائل تجديد الحضارة في الشرق , والمذاهب فيها ثلاثة:
مذهب ملاحدة المتفرنجين: وهو جعلها كالمرأة الإفرنجية حتى في الخلاعة
والرقص مع الرجال نصف عارية , ومعاقرة الراح معهم وما وراء ذلك من وقاحة
وإباحة. ومذهب الجامدين: وهو أن تكون جاهلة مظلومة مستضعفة. ومذهب حزب
الإصلاح والتجديد المعتدل: وهو أن تربى البنات على التدين والفضيلة والعفاف
والتقوى , وتعلم القراءة والكتابة بلغة أمتها وملتها وأمور الدين، وكل ما تحتاج إليه
للقيام بتكوين الأسرة ونظامها من أمور الصحة , وتربية الأطفال وتدبير المنزل إلخ
وأن لا يحرم المستعدات منهن للعلوم العالية منها ولا سيما الطب , وآكده ما يختص
منه بالنساء، وإدارة مدارس البنات، والملاجئ الخيرية للنساء، وكل ما تمس
إليه حاجة الأمة.
حسبك يا قارئ المنار في الآفاق أن تعرف مما ذكرنا أن الفقيد كان من مريدي
الأستاذ الإمام؛ أي: من الحزب الإسلامي المعتدل , الذي لا يرجى بدونه صلاح حال
المسلمين، وارتقاؤهم المدني والاجتماعي والسياسي , مع بقائهم مسلمين كما
شهد بذلك بعض أقطاب السياسة من الأوربيين أولي العلم والاختبار لأمور الشرق
الذين وصفوه بالحزب الوسط بين جمود السواد الأكبر , وبين غلاة المتفرنجين.
صرح اللورد كرومر بهذا في تأبينه للأستاذ الإمام في تقريره عن مصر سنة 1905 ,
وسبقه إلى ذلك مراسل جريدة الطان الفرنسية بتونس.
بعد هذا أنقل إليك ما كتبه أحد تلاميذ الفقيد من دعاة التفرنج أنصار الجديد
أعداء القديم فيه من هذه الجهة.
***
رأي تلميذ له فيه
كتب الدكتور طه حسين مقالاً فيه نشره في جريدة السياسة , وهو أحد كتابها
ذكر فيه أن الأستاذ المهدي كان له تأثير عظيم في أنفس تلاميذه الكثيرين , وأنهم
كانوا يحبونه حبًّا شديدًا , وأن منهم كثيرًا من كبار المعلمين والقضاة والمحامين من
شيوخ مصر وشبانها ثم قال:
ولقد أريد أن أترك منه في هذه الكلمة صورة قريبة من الصدق، أريد أن
أكون مؤرخًا لا مداحًا ولا راثيًا، وأشعر بأن عمل المؤرخ في مثل هذا المقام ليس
بالشيء السهل.
(لم يكن الشيخ محمد مهدي من أنصار القديم , ولكنه لم يكن من أنصار
الجديد، وإنما كان وسطًا بين هاتين الطائفتين، كان يزدري أنصار القديم ويغلو
بعض الشيء في ازدرائهم، وكان يراهم خطرًا على الرقي العقلي وعلى الحياة
الصالحة، كما أنه لم يكن يحب الغلاة من أنصار الجديد , بل كان يتبرم بهم كثيرًا
ويراهم خطرًا على الحياة الاجتماعية والدينية بنوع خاص , كان شديد الإعجاب
بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وبعض تلاميذه، بل كان إعجابه هذا لا حد له،
وكان سببًا من أسباب قصوره عن إدراك الحياة الجديدة، فكان يخيل إليه أن المثل
الأعلى من الرقي العقلي ومن الحرية العقلية , إنما هو ما وصل إليه الشيخ محمد
عبده، وأن الذين ينحرفون عن طريق الأستاذ الشيخ محمد عبده إلى ناحية الجمود
كالذين ينحرفون عن طريقه إلى ناحية التقدم، خطرون على الحياة الاجتماعية
والدينية والعقلية , أولئك يؤخرونها والتأخر شر، وهؤلاء يثبون بها والوثوب خطر.
ثم كان الأستاذ الشيخ مهدي يمثل جيلاً خاصًّا من الأساتذة والأدباء هو أقرب
الآن إلى أن ينتهي , ويترك مكانه لجيل من الشبان يخالفه المخالفة كلها. كان قد أدرك
ذلك العصر الذي لم تكن فيه حياتنا العقلية والأدبية راقية ولا مرضية، وكان من
الذين ظهر فيهم الرقي الجديد , فكان معجبًا بهذا الرقي مفتونًا به، وحفظ هذا إلى آخر
أيامه، فكان يرى نفسه خيرًا من غيره، وكان لا يتكلف الاحتياط في إخفاء ذلك أو
الاقتصاد فيه، وكان أصدقاؤه وتلاميذه الذين يحبونه ويميلون إليه يسمعون منه ذلك
راضين بل متفكهين، كانوا يبسمون له ويستعيدونه، فإذا انصرف عنهم الأستاذ
أعادوا ما سمعوا منه وضحكوا لا ضحك سخرية وازدراء بل ضحك عطف وحب)
اهـ.
(المنار)
هذا قول صريح من الدكتور طه حسين في رأيه ورأي أمثاله من غلاة التفرنج
في حزب الأستاذ الإمام , الذي بينا أساسه آنفًا. وإذا كان الدكتور طه يعد الفاسق
الخليع أبا نواس من المصلحين في عصره، فلا غرو أن يعد الأستاذ الشيخ محمد
مهدي ممن يضحك منهم في هذا العصر، ومن آرائهم في الإعجاب بالشيخ محمد
عبده ومبادئه في الجمع بين هداية الدين والترقي الدنيوي. وإننا نود من الدكتور
وشبان حزبه أن يبينوا لنا بمثل هذه الصراحة وجه تفضيل جيل الشبان الجديد على
جيل المعتدلين المصلحين , وهل منه أن السيدة أسماء كريمة المهدي التي تربأ
بشرفها ودينها أن تتعلم الرقص مع الرجال الذي شرحته لنا السياسة من عهد قريب؛
تعد من نساء العهد القديم الذين يدعون إلى القضاء عليه؟ أم تعد كأبيها ممن يضحك
منهن ويعطف عليهن؛ لأنهن تعبن في اقتباس العلوم العصرية ولم يقدرن أن يصلن
بها إلى الرقي الجديد، فوجب عليهن أن يتركن مكانهن لبنات الجيل الجديد اللواتي
يرقصن مع الرجال الأجانب , والوطنيين في مصر الجديدة وشارع عماد الدين كما
يرقص أخواتهن التركيات في مراقص غلطه وبيرا مع رجال الروم والإفرنج بإغواء ملاحدة المتفرنجين هنالك؟
إن شأن غلاة التفرنج في مصر لعجيب، وأعجب منه تفضيل مثل الدكتور
طه المدرس في الجامعة المصرية , والمحرر في جريدة السياسة هؤلاء الغلاة على
المعتدلين الذين يرشدون الأمة إلى كل نافع ويزجرونها عن كل ضار من قديم وجديد.
إن هؤلاء الغلاة في التفرنج أشد إفسادًا لأممهم من الجامدين على كل جديد ,
فهم الذين يبددون ثروتها في الفسق والفجور، وهم الذين يفسدون أخلاقها وآدابها
وأعراضها، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من مقوماتها ومشخصاتها، فإن كانوا
على شيء من العقل والفضيلة؛ فليبينه لنا الدكتور طه وأمثاله لنقيم له ميزان
المناظرة، ونحكم فيه مصلحة الأمة.
__________(25/215)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحريم المسلمات على غير المسلمين [*]
النص الأصولي القطعي والنص اللغوي - الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا
على أمة أو أهل ملة , والوصف الذي يطلق بمعنى قيام الحدث بالموصوف ,
والفعل المسند إلى القوم أو الأمة - إنكاح المشركين المؤمنات محرم بالنص القطعي
وإنكاح غيرهم من الكفار محرم بنصوص لغوية لا أصولية قطعية , وبإجماع
المذاهب والقياس.
قد عرض في أثناء إصدارنا لأجزاء المجلد الرابع والعشرين أحداث سياسية
واجتماعية إسلامية شغلتنا عن إتمام عدة أبواب من أبواب المباحث , التي كنا دخلنا
فيها كالرحلتين السورية والأوربية , ومنها ما كتب إلينا من الانتقاد على المنار،
وأهمه ما كتبه إلينا الشيخ محمد عبد الظاهر من خواص إخواننا في الدين , وأولادنا
في العلم انتقادًا على قولنا في مقالة (مدنية القوانين) التي نشرت في ج6م 23 من
أن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ,
وَبِحِلِّ نكاح المحصنات من أهل الكتاب ولم يصرح بتحريم إنكاحهم - وأن
التحقيق أن المشركين والمشركات في آية البقرة خاص بالعرب منهم - أعني قوله
تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) الآية - فهو يرى
أن عنوان (المشركين) فيها وفي غيرها يعم جميع أهل الملل غير المسلمين , ومن
الدلائل على هذا عنده إسناد القرآن الشرك إلى أهل الكتاب في قوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) كما نزه
نفسه عن شرك مشركي العرب بمثل هذه الجملة في سورة المائدة - وأن الوعيد على
الشرك المطلق يشملهم - وأن كونهم صنفًا مستقلاًّ لا ينافي دخولهم في الجنس العام،
وأن ابن جرير ذكر وروى عن قتادة أن لفظ المشركين في آية: {وَلاَ تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ} (البقرة: 221) يشمل أهل الكتاب ولم يذكر مخالفًا (فعدم ذكره
مخالفًا دال على الإجماع) ! !
كان أخونا المذكور كتب إلينا انتقاده هذا مختصرًا , فكتبنا إليه كتابة تبعثه
على المراجعة والبحث في بعض المسائل كمعنى النص الأصولي القطعي المراد،
والفرق بين عنوان المشركين، وإسناد فعل الشرك إلى أهل الكتاب وغير ذلك؛ لأنه
يعنى بعلم الأثر دون علم الأصول وغيره من كتب المعقول - وهذا دأبنا مع إخواننا -
فبحث كثيرًا ثم كتب إلينا مقالاً طويلاً يبلغ 8 صفحات مزج فيه المسائل، وخلط
الدلائل، وشنع على علماء الأصول، وجعل التحاكم إليهم تحاكمًا إلى أهل
الطاغوت، وإبطالاً لكلام الله عز وجل، برأهم الله تعالى من ذلك، ومن جهل شيئًا
عاداه، وكنا نريد أن ننشره , ونتكلم على مسائله وأدلته وما فيها، وإن كان أكثره لا
يفيد جمهور القراء، بل يكرهه أكثرهم؛ لأنه مناقشات لفظية واصطلاحية في شأن
فهم باحث أخطأ في فهمه واستدلاله - ولذلك طال الزمان ولم نجد الفرصة،
وخشينا أن يطول الزمان على ذلك في المستقبل أيضًا، فرجحنا أن نكتب ما
نرى فيه الفائدة العامة في المسألة وهو:
(1) أن النص الأصولي الذي نعنيه هو عند أهله ما يحتمل معنًى واحدًا لا
يحتمل غيره حقيقة ولا مجازًا ولا كناية، وهو إنما يشترط في أصول الدين التي
يطلب فيها القطع , ويعد جاحدها خارجًا من الملة فلا يقبل له عذر بالتأويل، وأما
الأحكام العملية فيكتفى فيها بالنصوص اللغوية من منطوق ظاهر ومفهوم موافق،
وفي المفهوم المخالف الخلاف المشهور في الأصول , وهو أن أبا حنيفة ينفيه،
والجمهور يثبتون ماعدا مفهوم اللقب منه، فاستعظام صاحبنا لنفي نص أصولي
قطعي في حكم شرعي عملي من الأمور الشخصية - استعظام لما ليس بعظيم في
نفسه، فإن أهل السنة يذكرون في العقائد السمعية مسائل ليس فيها نص قطعي بل
يثبتونها بظواهر النصوص اللغوية كميزان الأعمال يوم القيامة , ولا يعدون من
يتأولها خارجًا عن الملة، فالأحكام العملية أولى بذلك؛ إذ لم يشترط القطع العقلي في
إثباتها أحد من المسلمين - فإضاعة الوقت وكثرة الجدال في محاولة إثبات هذه
المسألة بنص قطعي أصولي لا يحتمل التأويل، لا حاجة إليهما. فحسبنا الظواهر
واتفاق المذاهب الإسلامية على هذا الحكم، إلا إذا كان المنتقد يرى أن للمسلمين
مصلحة راجحة في تكفير من يتأول شيئًا من أمثال هذه الظواهر، أو ينكر دلالة مثل
هذا الإجماع متأولاً لا مكابرًا ولا معاندًا. ونحن نحرص على اتقاء الجزم بإخراج
أحد المسلمين من ملة الإسلام ما استطعنا.
(2) الفرق بين الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا على طائفة أو شخص
وبين الوصف أو المصدر أو الفعل الذي يراد به قيام المعنى بالموصوف - ظاهر،
ولكل منهما موقع في الكلام. مثال ذلك: أن الكفر والشرك والفسق والظلم وما
اشتق منها قد أطلقت في الكتاب والسنة بحسب معانيها اللغوية على الكفار إطلاق
المترادفات، وقوبلت بالإيمان والإسلام مقابلة المتضادات، وإطلاقًا يشمل بعض
منافقي المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم , وبعض من صح إيمانهم , ولكن
بمعنى قول العلماء: (كفر دون كفر، وشرك دون شرك) ؛ أي: لا بالمعنى
المقابل للإسلام والإيمان، وقد بين ذلك المفسرون وشراح الصحيحين وغيرهما من
كتب السنة , وسبق لنا الإلمام به مرارًا. آخرها البحث المستفيض الذي نقلناه عن
كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم (ص673ج 9م24) واصطلح علماء الشرع
على تخصيص لفظي الكفر والشرك بما يقابل الإسلام , ولفظي الفسق والظلم بما
يقابل الصلاح والعدل.
والملل المخالفة للإسلام كثيرة ومن المخالفين له من ليس لهم ملة ينتمون إليها
كمنكري الألوهية , فإذا صح أن يسمى كل من ليس بمسلم كافرًا اصطلاحًا , كان
لهذه التسمية وجه في اللغة - وإن كان الاصطلاح الغالب عند أهل هذا العصر أن
لفظ الكافر لا يطلق إلا على المعطل الجاحد لكل الأديان - ولا مشاحة في الاصطلاح -
ولكن لا وجه في اللغة لتسمية كل من ليس بمسلم مشركًا، فإن من غير المسلمين
المعطل الجاحد، ومنهم الموحد الذي توحيده أرسخ وأصح من توحيد الكثير من
طائفة المسلمين الجاهلين بحقائق الإسلام، وما أكثرهم في هذا الزمان.
إن الفلاسفة الإلهيين ومن يعرفون من أهل أوروبة بالعقليين وجملة اليهود
والآريوسيين من النصارى المتقدمين , وأكثر نصارى هذا العصر الذين تعلموا
تعليمًا راقيًا , ولم يمرقوا من الدين - كل هؤلاء وطوائف غيرهم من العلماء
المستقلين في العلم والدين موحدون , ليس في عقولهم شيء من الشرك بالله بالمعنى
المعروف في القرآن. سألت عجوزًا إفرنسية كانت جارة لنا: ما لي أراك لا تذهبين
إلى الكنيسة يوم الأحد؟ ألست متدينة؟ قالت: بلى وإنني أصلي لله في بيتي وما
الكنيسة ورجالها إلا جماعة احتيال على المال والجاه، والله يعلم بصلاتي حيث كنت.
قلت: وما تقولين في السيد المسيح عليه السلام؟ أهو إله أم لا؟ قالت: الإله
واحد والمسيح مثل نبي؛ أي: هو نبي، أو من قبيل الأنبياء. وقالت: إن أكثر
المتدينين المتعلمين عندهم يعتقدون اعتقادها، ومنه أن لا أحد من الأنبياء ولا
القديسين يقدر على نفع أو ضر أو أي عمل مخالف لسنن الكون.
والتوحيد هو أصل دين جميع الرسل عليهم السلام , وما طرأ على أهل
الكتاب من الشرك هو عين الذي طرأ على كثير من المسلمين , الذين لم يتلقوا
التوحيد الخالص تلقيًا صحيحًا عن أهل العلم والبصيرة في الدين، وهو لم يكن
مستغرقًا لجميع أفرادهم , حتى ما أسنده الله تعالى إليهم في القرآن فهو كإسناده إلى
اليهود قتل الأنبياء عليهم السلام بغير حق , وهو إنما وقع من بعضهم. ووجهه في
اللغة معروف مبين في التفسير وقد قال الله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) وقال: {مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ
الفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110) ثم قال بعد ذكر كفرهم وقتلهم الأنبياء: {لَيْسُوا
سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (آل عمران: 113-114) الآيات - قال ابن عباس -
رضي الله عنه - في تفسير أمة قائمة: على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه
الآخرون وضيعوه. اهـ. ولم يقل مثل هذا في المشركين.
لأجل هذا جعل الله تعالى لفظ المشركين لقبًا أو علمًا لمن كان الشرك قاعدة
دينهم والوصف العام لجماعتهم , وجعل العلم لليهود والنصارى (أهل الكتاب) وما
أسنده إليهم أو وصفهم به من الشرك , فلما كان عرضًا طارئًا لم يجعله علمًا ولا لقبًا
ولا وصفًا عامًّا , يطلق عليهم في كل حال أو يميزهم عن غيرهم من أهل الملل ,
بل هو من قبيل ما بيناه في أول هذه المسألة , ومن إطلاق ما صدر من البعض
على الكل كقتل الأنبياء وأكل السحت.
مثال ذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرك بقوله: (أما إنهم لم
يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه , وإذا حرموا عليهم شيئًا
حرموه) . رواه مخرجو التفسير المأثور والترمذي والطبراني وأبو الشيخ والبيهقي
في سننه من حديث عدي بن حاتم. ورواه أكثرهم عن حذيفة أيضًا. وهذا النوع من
الشرك طرأ على المسلمين أيضًا فكثير منهم - إن لم نقل: أكثر المتأخرين منهم.
يستحلون ما أحل لهم رؤساؤهم الدينيون، ومنهم شيوخ الطريق الجاهلون -
ويحرمون ما حرموه عليهم , ولكنه من الشرك الذي لا يعده الفقهاء خروجًا من الملة إلا
إذا كان في أمر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة. وهذه الآية أقوى ما استدل به
المنتقد على كون أهل الكتاب من المشركين - وقد وردت بعد قوله تعالى: {وَقَالَتِ
اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) ومن
المعلوم أن هذا القول قد يطلق عندهم إطلاقًا مجازيًّا لا يعد من الشرك في شيء كقوله
تعالى حكاية عنهم: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة:
18) وقد ورد في التفسير المأثور وغيره: أن من قال من اليهود: عزير ابن الله -
بعضهم. وروي أنه واحد منهم اسمه فنحاص. فهو من باب إسناد ما كان من البعض
إلى الجنس أو القوم وهو كثير كما تقدم آنفًا.
وجملة القول أن أهل الكتاب قد فشا فيهم الشرك وهو ليس من أصل دينهم
ولا عامًّا فيهم , بل جميع أهل الملل القديمة كالمجوس والبوذية كانوا أهل كتاب
وأتباع رسل , ثم طرأ عليهم الشرك والوثنية بالتأويل، ولم يعد يعرف لكتبهم أصل
لطول العهد، وأما اليهود والنصارى فقد دل القرآن على أن كتبهم لم تذهب كلها، بل
أوتوا نصيبًا منها ونسوا آخر- وما بقي لهم طرأ عليه التحريف , فلذلك ميزهم عن
سائر أهل الملل بتسميتهم (أهل الكتاب) . وهو يعطيهم هذا اللقب في مقابلة
المشركين تمييزًا لهم، كما ميزهم بأحكام خاصة من دون مشركي العرب وغيرهم -
والمنتقد يعترف بهذا للآيات الصريحة فيه , ولكنه يجعله كاللغو الذي لا يترتب عليه
حكم ولا يراد به بيان حقيقة , ولا يصح أن يستدل به على أنهم لا يعدون من جنس
المشركين عند إطلاق كلمة المشركين على الجنس المعين من أهل الملل - وهو
مخطئ في هذا.
فعلى هذه التفرقة بين الأمرين نقول في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) الآية -: إما أن يراد بالمشركين
والمشركات فيه معنى اسم الفاعل , وهو من اتصف بالشرك بالفعل وإما أن يراد
أهل الملة الذين أطلق عليهم في كتاب الله لقب المشركين - فإن أريد به الأول فهو
لا يشمل إلا من كان مشركًا بالفعل، ويخرج من مفهومه من لم يكن كذلك من بقايا
الحنفاء الموحدين , الذين كانوا يهزؤون بالأصنام وعبدتها من جاهلية العرب ,
والموحدون من سائر الأمم - وهو ظاهر البطلان ولم يقل به أحد - فتعين أن يراد
به لفظ المشركين علمًا لهم ولقبًا يميزون به من غيرهم , ولذلك جعل غاية النهي
دخولهم في أهل الإيمان المراد بهم المسلمون - والظاهر بناءً على ما تقدم أن
المشركين بهذا المعنى هم أهل الأوثان الذين لا يعرف لدينهم أصلٌ من كتاب منزل
كاليهود والنصارى , ولا شبهة كتاب بحيث يكون لدينهم لقب خاص كالمجوس
على قول الجمهور. (وقال بعضهم: إنهم كانوا أهل كتاب) ؛ ولذلك خصوا
بلقب مميز في مقابلة المشركين وغيرهم بقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: 17) وإنما ذكر المشركون
في هذه الآية دون آية البقرة التي ذكر فيها بقية الأصناف؛ لأن سياق آية الحج لبيان
الحساب والجزاء المطلق، وهو عام، وسياق آية البقرة؛ لبيان أجر من أقام أصول
دينه الصحيحة , وانتفاء الخوف والحزن عنهم يوم القيامة؛ إذ كانت كلها
أصولاً صحيحة , والمشركون لا يشاركون هذه الأصناف فيها، وهي قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) .
وإذا أمكن المراء في أن يكون هذا هو الظاهر المتبادر من لقب المشركين
والمشركات , فلا يمكن المراء في أنه ليس نصًّا أصوليًّا قطعيًّا فيما عدا المسلمين
من أهل الكتاب وغيرهم، والقول باتحاد الحكم وتحريم إنكاح أهل الكتاب لا
يقتضي ذلك؛ لجواز أن يكون قد ثبت بدليل آخر - فهذا الوصف ليس نصًّا لغويًّا
ولا شرعيًّا في ذلك، بدليل ما بيناه من معناه اللغوي ومن استعماله في الكتاب
العزيز، ومثله في كتب السنة كثير، ومنه بعض ما نقله المنتقد من صحيح
البخاري كقوله: (باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية) إلخ فالعطف يقتضي
المغايرة - وهذا هو اصطلاح الشرع في اللقب، وجعله عنوانًا على أهل الملة -
فكيف يقال: إنه نص أصولي قطعي في كل كافر لا يحتمل غير ذلك لغة ولا عرفًا ,
ولو بطريق التجوز وغيره من طرق التأويل؟ هذا لا يمكن أن يقوله أحد يفهم معنى
النص القطعي , ولا يحتاج إليه من ذهب إلى عموم الحكم في آية البقرة , فقد يكون
كلامهم من باب التفسير بالمراد. وما نقل عن ابن عمر من تأوله الآية وتحريمه
للكتابيات لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فهو شاذ , وله نظائر - رضي الله عنهم -
وما هم بمعصومين، وإنما الحجة إجماعهم على أمر ديني، ويقرب منه ما ثبت عن
جمهورهم، ولا عبرة بشذوذ الأفراد كقول ابن مسعود رضي الله عنه: إن المعوذتين
ليستا من القرآن مثلاً.
نعم إننا نعترف بأننا أخطأنا فيما عزوناه إلى قتادة من القول بأنه خص
المشركين والمشركات في آية البقرة بوثيني العرب , فإن الذي روي عنه أنه قال في
المشركات: (يعني: مشركات العرب اللائي ليس لهن كتاب يقرأنه) ولم يقل مثله
في المشركين - ولكن التفرقة بين مدلول (المشركات) ومدلول المشركين في آية
واحدة تحكم. وعدم نقله عنه لا يدل على أنه يقول بالتفرقة - ومسألة الحكم ليست
موضوعنا هنا بل لا خلاف فيها بيننا وبين المنتقد.
ولم يكن قتادة هو الذي قال هذا وحده، ففي الدر المنثور عن سعيد بن جبير في
تفسير: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة: 221) الآية - قال: يعني أهل
الأوثان. وعن مجاهد: نساء أهل مكة من المشركين. وعن حماد قال: سألت
إبراهيم (يعني: النخعي) عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس. قلت:
أليس الله يقول: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) ؟ قال:
إنما ذاك المجوسيات وأهل الأوثان.
وقال أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع في كتابه أحكام
القرآن ما نصه: وقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة:
221) غير موجب لتحريم الكتابيات من وجهين: أحدهما: أن ظاهر لفظ
المشركات يتناول عبدة الأوثان منهم عند الاطلاق , ولا يدخل فيه أهل الكتاب إلا
بدلالة، ألا ترى إلى قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن
يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105) ، وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} (البينة: 1) ففرق بينهم في اللفظ وظاهره
يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه، إلا أن تقوم الدلالة على شمول الاسم
للجميع. اهـ.
وقد قالوا مثل هذا في عهود المشركين , والأمر بعموم قتالهم في أول سورة
براءة , وأنه نزل في مشركي العرب ولا يشمل أهل الكتاب.
وجملة القول أن (لقب المشركين) لا يصح إطلاقه على جميع الكفار لغة
ولا شرعًا , وأن الفرق بين المشركين وأهل الكتاب عظيم جدًّا. أصول الدين
الإلهي الإجمالية ثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر , والعمل الصالح على
الوجه المشروع؛ ابتغاء مرضاة الله وثوابه، كما في آية البقرة , ويدخل في
التفصيل الإيمان بالملائكة والكتب الإلهية والرسل (عليهم السلام) ودار الثواب
ودار العقاب.
وأهل الكتاب يؤمنون بهذه الأصول كلها بالإجمال، وأما المشركون فلا يؤمنون
بشيء من تلك الأصول , ومن آمن منهم بالله أشرك معه غيره من خلقه، فجعل له
أندادًا يزعمون أن من تقرب إليهم يشفعون له عنده , فيقضي لهم حاجتهم لأجلهم ,
وأما ما دخل على كثير من أهل الكتاب من مثل هذا الشرك وغيره مما ينافي هداية
الرسل، فقد دخل على المسلمين مثله , وصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع , حتى لو سلكوا في جحر ضب
لسلكتموه , قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه
الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري وغيره بألفاظ متفقة في المعنى وهذا لفظ
البخاري عنه.
وإنما نفضلهم بأن كتابنا قد حفظ بلفظه ونقل باللسان والكتابة تواترًا , وبأن سنة
نبينا صلى الله عليه وسلم ضبطت ونقلت بالأسانيد المتصلة، فالرجوع إلى أصل
الدين ممكن في كل وقت , والإسلام حجة عليهم فمن كفر به بعد بلوغ الدعوة
بشرطها لا يعتد بإيمانه بغيره، كما إننا نكفر من جحد نبوة موسى وعيسى عليهما
السلام ولا نعتد بإسلامه.
لهذا الفرق العظيم بين أهل الكتاب والمشركين خص الله تعالى على أهل
الكتاب ببعض الأحكام؛ كأكل طعامهم، وصحة ذبائحهم , والتزوج منهم. وفي هذا
وذاك من أسباب المودة معهم ما هو معروف بالبداهة وبالتجربة، وبما بينه الله
تعالى من سنته في الزواج بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وقال في بعض
العاملين بدينهم منهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا
وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) وأقرهم على دينهم حتى إن بعض الصحابة
كانوا قبل الإسلام أعطوا أطفالهم ليهود بني النضير؛ ليربوهم لهم , فلما كتب الله
عليهم الجلاء أرادوا أن يستردوا أولئك الأولاد، وكانوا قد كبروا وتهودوا , فأنزل الله
تعالى في ذلك الوقت {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة:
256) فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيروهم، فمن اختار اليهودية جلا مع
اليهود، ومن اختار الإسلام بقي مع المسلمين. ولم يعامل المشركين بشيء من
هذا، بل قال صلى الله عليه وسلم في بيان العداوة بينهم وبين المسلمين , والبعد
الشاسع الذي لا تستقيم معه معاشرة: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر
المشركين. قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما) رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجه من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه ورجال إسناده
ثقات , ولكنهم صححوا إرساله، ورواه الطبراني موصولاً. وفي معناه أحاديث
أخرى.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) كتب هذا الباب للجزء الأول , ثم اضطررنا إلى تأخيره إلى الثالث.(25/222)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن
مقدماتها وأسبابها ونتيجتها
كان الشريف حسين ولا يزال يمني نفسه بملك عظيم تؤسسه له الدولة
البريطانية؛ جزاء له على ثورته العربية وموالاته لها في قتال الترك , بأن تجعله
خليفة للمسلمين وملكًا على البلاد العربية المؤلفة من جزيرة العرب كلها والعراق
وسورية وفلسطين , وتمده بالمال والسلاح؛ لتوطيد سلطانه في هذه البلاد تحت
حمايتها وبمساعدة رجالها , وكان يعتقد أن حلفها أقوى من الحلف الألماني، ولذلك لم
يقبل ما عرضته عليه الدولة العثمانية من الاستقلال بضمان ألمانية , وكان يهنئها
بكل فتح في البلاد العربية القدس وبغداد ودمشق , ولذلك سمى نفسه ملك العرب.
وبعد احتلال سورية اعتقد أن أحلامه جاء تأويلها، وكان يشتهي أن يزور البلاد
السورية بعد توطيد سلطانه فيها، وتكرر وعده لأناس من أهلها بذلك، وفي جريدته
(القبلة) حتى إنه صرح بأن سيزور كل بلد وقرية فيها؛ أي: ليراه جميع أفراد
رعيته، ويتمتعوا ببهاء جلاله وعزته.
أفلت ملك سورية من قبضة وهمه:
(أولاً) بقرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن فيه استقلال جميع البلاد
السورية دون الحجاز وغيره.
(وثانيًا) بتنفيذ إنكلترة وفرنسة لما كانتا قد اتفقتا عليه من اقتسام بلاد الحضارة
العربية سورية والعراق بينهما، ورأى أن ملكه لم يتجاوز إمارة الحجاز التي كانت
له من قبل الدولة العثمانية , على أنها منقوصة الأطراف غير تامة الحدود على ما
يدعي - فكان المعقول أن يتناسى ذلك الوعد أو الوعود ويتحول عنها.
ولكن الرجل يحيا حياته السياسية بشيئين: (أحدهما) نفسي، وهو الأماني
والأوهام. (وثانيهما) عملي، وهو الدعاية (البوربغندة) التي لم يحذق من شؤون
سياسة هذا العصر غيرها، وهو قد أوتي غريزة الثبات والإصرار , التي هي
أعظم الغرائز مساعدة لصاحبها على النجاح , إذا هو طلب الأمور بأسبابها، وأتاها
من أبوابها.
أصر على تسمية نفسه بملك العرب , وأمكنه بالدعاية أن يحمل بعض
أصحاب الجرائد في سورية وغيرهم أن يتبعوا جريدته (القبلة) في تحليته بهذا
اللقب، وبلقب المنقذ، وإن كان الحق الواقع المشاهد أنه لم ينل بلقب ملك العرب
تصرفًا ولا سيادة على شبر من أرض العرب لم يكن تحت سيادته قبله، وأنه لم
ينقذ بلدًا من بلاد العرب، ولا قرية من سيادة أجنبية ولا مهلكة، فإن كان أحد يسمي
انتقال البلاد السورية والعراقية بمساعدته من سيادة الدولة العثمانية المؤلفة من
الترك والعرب وغيرهم إلى سيادة إنكلترة وفرنسة إنقاذًا , فلا أنقذه الله من الذل في
الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، على أن هذا الإبسال [1] الذي سماه إنقاذًا لم يقع إلا
بترجيح دولة الولايات المتحدة لإحدى كفتي الحرب على الأخرى لا بترجيحه،
ولكن هذه الحقائق لا تمنع الملك حسينًا من التلذذ باللقبين كلما رآهما في جريدته
(القبلة) ، وفي بعض الجرائد المأجورة أو المغرورة.
وهنالك دعوى أخرى ظاهرة البطلان كظهور كذب اللقبين الضخمين الفخمين،
ولكنه فاز بتكرار الدعاية , واصطناع بعض الجرائد من غش كثير من الناس فيها
حتى صاروا يصدقونها كما يصدق الغافلون الإعلانات التجارية التي تنشر في
الجرائد زمنًا طويلاً , ولا يبحثون عن مصدرها؛ ليعلموا أنها شهادة من صاحب
الدعوى لنفسه.
تلك دعوى قيامه بأمر الوحدة العربية بجمع كلمة العرب وتوحيد قواهم وترقية
شؤونهم. والأمر بالضد، فهو هو المفرق لكلمة العرب والمحدث للشقاق بينه
وبينهم، فإنه يتوهم بكونه ملكًا للعرب وثبوت هذا الخيال في مخه، تخيل أيضًا
أن الوحدة العربية إنما تكون أو ستكون بقبول أمراء جزيرة العرب وأئمتها
لسيادته السياسية والعسكرية عليهم طوعًا أو كرهًا , وتحكيمه في شكل إدارة البلاد ونزع ما شاء منها من أيدي من شاء؛ ليولي عليه من شاء، حتى حمله الخيال على
مخاطبتهم بذلك كتابة، فضحكوا ساخرين. وطالما بينا هذا في المنار وفي غيره من
الصحف. ولكن بياننا لم يحل دون تأثير دعايته المتصلة الدائمة , حتى إنه صرح في
جريدته (القبلة) تصريحاً رسميًّا بما صدق أقوالنا الماضية؛ لما سأله رئيس
مؤتمر الجزيرة الذي هو من أبواق دعايته عن مراده بالوحدة، ونشرنا تصريحه في
المنار والأهرام، فقرأه الكثيرون في البلاد السورية، كما قرأه آخرون في الجزء
الذي صدر من جريدة القبلة في 6 ربيع الآخر من هذه السنة، ولم يكن هذا ولا ذاك
بصارف للمخدوعين بالدعاية السابقة من طلاب الوحدة العربية أن يظنوا أنه يسعى
لها، وأن يوجهوا وجوههم إليه فيها.
فهذه الوقائع زادت الملك حسينًا إيمانًا وتسليمًا بأن الدعاية (البوربغندة) تقلب
الحقائق , فتجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا عند الجماهير من الناس، بل هي
كالسحر تخيل إلى المسحور أنه يرى بعينيه ما لا حقيقة له في الخارج.
على أنه خاب مرة في دعايته , ولم يلبث أن تدارك الخيبة وجعلها نسيًا منسيًّا
عند كثير من السوريين وخاصة الفلسطينيين منهم.
ذلك بأن الدولة البريطانية اختارت أن تعقد معه معاهدة تثبت بها اعترافه
بانتدابها على فلسطين وما تريد أن يكون لها من الحقوق في الحجاز , والتصرف في
شؤون الحجاج، وتقطع بها لسانه وألسنة الفلسطينيين دون الاحتجاج عليها بما سبق
لها معه من اتفاق ووعود. وقد طالت المراجعة بينها وبينه في ذلك، حتى إذا ما
أرسل الدكتور ناجي الأصيل الموصلي إلى لندن للبحث معها في صيغة هذه
المعاهدة في العام الماضي , قامت قيامة الدعاية حوله وأمطرت شركة روتر
الإنكليزية على البلاد العربية وغيرها برقيات خادعة فيما ينتظر من الوحدة العربية
واستقلال العرب بسعي الأصيل.
وكانت الجرائد العربية في مصر وسورية والعراق تنشر هذه البرقيات وتعلق
بعضها عليها من الشروح ما يكبر شبح الوهم، وكان بعضها ينشر مقالات مستقلة في
ذلك، ولما عاد الأصيل إلى مكة يحمل نص المعاهدة , كان له من الحفاوة فيها ما
كان، وتلا نص المعاهدة المترجم بالعربية في حفلة رسمية فخمة، وأطلقت المدافع
وصدرت الإرادة الهاشمية بجعل ذلك اليوم عيدًا رسميًّا للأمة العربية بأسرها … ثم
ماذا كان؟ ظهرت الفضيحة للعيان , ورفض أهل فلسطين ما يتعلق بهم منها،
واضطر الملك إلى عدم الإمضاء النهائي عليها.
بعد هذه الفضيحة استأنف الملك دعاية جديدة في المسألة الفلسطينية قدم بين
يديها مساعدة لأهل فلسطين بما جمعه من الإعانة القهرية؛ لعمارة الحرم الأقصى
من أهل الحجاز، والاختيارية من الحجاج، وسمح لوفد منهم بالطعن في وعد بلفور
في الحجاز، فوضعت خطة جديدة؛ لبث الدعاية له في سورية وفلسطين , يقوم بها
نفر ممن كان بمكة من حجاج البلاد مع صنائعه فيها تكون تمهيدًا لزيارته لأطراف
سورية؛ لأجل أن يتقرر في هذه الزيارة مع زعماء البلاد أمر الوحدة العربية وما
يتعلق بها من المسألة الفلسطينية، بل وجد له دعاة من حجاج المصريين يمدحونه
ويدافعون عنه أيضًا.
ولا ندري هل كوشف أحد من الدعاة الذين كانوا في مكة بمسألة المبايعة
بالخلافة أم لا؟ ويجزم بعض أذكياء المصريين أن الإنكليز كانوا قد اتفقوا مع
عصمت باشا على إلغاء الخلاقة التركية، في زمن لا يتأخر عن أول سنة الترك
الجديدة (مارس) , وأحبوا أن تكون زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية قبل ذلك
الوقت، وأن يظل هنالك إلى أن تلغى الخلافة التركية، فيجعل ذلك سببًا لتأسيس
الخلافة العربية - كما إنهم قرروا أن تجتمع جمعية العراق التأسيسية للنظر في
المعاهدة العراقية البريطانية التي أمضاها الملك فيصل والسير برسي كوكس
المندوب البريطاني السامي في العراق , في الوقت الذي يجتمع فيه المؤتمر
البريطاني التركي لحل مشكلة الموصل، ووضع الحدود بين العراق والأناضول؛
ليخوفوا العراقيين بالتفريط بولاية الموصل، إذا هم رفضوا المعاهدة التي تضيع
جميع العراق لا ولاية الموصل وحدها.
مهما يكن من الأمر في هذا وذاك، فالدعاية لتشريف الملك قد بثت قبل مجيئه
وفي أثناء وجوده، حتى وصلت هينمتها في الحالين إلي - وعرضت شبهاتها
وأمانيها علي، واقترح علي أن أكون من الزائرين له، وسئلت عما أشترطه في
ذلك، وقنع أحذق من كلمني في ذلك بأن أسكت عنه، ولو ريثما تظهر نتيجة ما
يرجى منه، وزعموا أنه قد اتعظ واعتبر بأغلاطه السابقة. وقال بعضهم: إن
الإنكليز قد غيروا سياستهم معه، وأنهم سيمنحون البلاد ما يرضيها على يده، إذا
رأوا أن الأمة تؤيده. (قالوا) : فلا تكن من أسباب حرمانها من ذلك. فقلت: إني
سأصبر في هذه المرة كما صبرت فيما قبلها , حين بثت الدعاية لسعي ناجي
الأصيل , وأنا لا أرجو لهذه الأمة خيرًا على يده، ولا آمن عليها من شر عمله،
فتجربة المجرب تحصيل حاصل، بل عبث يتنزه عنه العاقل و (المؤمن لا يلدغ
من جحر مرتين) وإنما أسكت؛ لأقيم الحجة بعد الحجة عليكم، وأعدكم بأن أبذل
جهدي في تأييده إذا كذب ظني وصدق ظنكم، وإن ظل يؤذيني هو وأولاده
وخليفتهم، فأنا أعمل لأمتي لا لهم …
هكذا كانت الدعاية تنشر، وكان من حسن حظ دعاتها أن وقع تنازع بين
فرنسة والترك حمل من في سورية من الفرنسيس على الإغماض عن هؤلاء الدعاة
لإضعاف ما كان قوي من نفوذهم، فنجحوا وأوهموا أكثر أهل البلاد الغافلين بأن
السعادة للعرب ستتم بتشريف ملكهم إلى ضواحي سورية.
تحرك الركاب الهاشمي - كما يقولون - متنقلاً في البلاد الحجازية إلى أن
وصل إلى شرق الأردن، وهو يقابل في كل مكان بالحفاوة والتكريم والدعوات
والخطب والقصائد، وجرائد مسلمي سورية تحلق في فضاء الخيال، وتصور فيه
ما تصور من الأماني لا الآمال، وأرسلت المكاتبين إلى شرقي الأردن؛ ليحصوا
لها ما يكون هنالك من عظمة (ملك العرب ومنقذهم) ، وما يقرره المؤتمر العربي
الذي زعموا أن سيعقده من وفود الأحزاب وزعماء البلاد، تنجيزًا للوعود التي
بشرهم بها الدعاة.
وقد أعد الوجهاء ولجان الأحزاب المختلفة عدتهم للقاء الملك , وعرض
مطالبهم القومية على مسامعه، بناءً على ما صدر به الوعد من أنه يريد أن يعمل
في هذه المرة بالشورى (خلافًا لعادته) وكان أحسن ما قرروه - لو صادف محله -
أن يتفقوا على برنامج عام؛ لمصلحة العرب العامة يكتبونه، ويوقعه مندوبون من كل
حزب، ويرفعونه إليه - وأن يكون ما يعرضه بعضهم من الاقتراحات الموضعية
الخاصة غير معارض لهذه المطالب العامة - وقد فعلوا - ومما اتفقوا على أن
يكاشفوه متفقين بما يشكون من سوء سيرة نجله الأمير عبد الله في أقواله وأفعاله
المنافية للمصالح الوطنية العربية، والمؤيدة للسلطة الأجنبية - وقد فعلوا كما أخبرنا
الرواة عنهم - ثم كان ماذا؟
كان أن شغلت جرائد سورية وفلسطين عدة أشهر بأخبار الوفود , ووصف
الاحتفالات والسمط (أو السماطات) ونشر القصائد والوعود , وحكايات الأقوال
والمفاخر الهاشمية، حتى إذا ازدوجت المخيلات بالواهمات، ولقحت بالأماني
المستعذبات، جاءها المخاض بسقوط الخلافة التركية، فأجهضت فوضعت الخلافة
العربية، فالتقطها (ملك العرب الخيالي) سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل،
معتقدًا أن الدعاية (البوربغندة) تُتِمُّ خلقها، وتنفخ الروح فيها، كما فعلت بمنصب
(ملك البلاد العربية) قبلها , ويكفي في هذه الحياة عنده أن يبث لها دعاية جديدة
بين حجاج الآفاق، ويستعين بها في الجزيرة على بث الشقاق، وأن تقول جريدة
القبلة بمكة، وجريدة الشرق العربي الرسمية في عمان، وجرائد الطبل والزمر
ولسان العرب بفلسطين، وجريدة الحقيقة ببيروت، وأمثالهن من جرائد سورية
والعراق: إن صاحب الجلالة الهاشمية، هو خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين،
وملك العرب أجمعين. بل يقدر الملك حسين ودعاته أن يستأجروا في مصر
وغيرها أمثال هذه الجرائد لذلك.
حمل الرجل اللقب وانقلب إلى بلده مسرورًا، وظل الأمير عبد الله حيث كان
بالرغم من أنوف السكان والجيران، وصارت إمارته شرًّا مما كانت، وأبعد عن
الاستقلال، واشتد ضغط الفرنسيس على المسلمين الذين بايعوه، فاعتقل أفراد من
الوجهاء وأخرج آخرون، وفر دعاته أصحاب جريدة الحقيقة هاربين من بيروت،
وازدادت المسألة العربية بعدًا عن الوحدة بفشل مؤتمر الكويت الذي كان سببه
اقتراحات (منقذ العرب ومؤسس وحدتهم) واقتراحات ولده الأمير عبد الله التي
أملاها الغرور بالاتكال على الإنكليز في تمليكهم لنجد وغيرها من الجزيرة، وما كان
لهذا الشقاق من سبب، إلا الغرور بلقب ملك العرب، فكيف وقد ضم لقب الخليفة
الأعظم وأمير المؤمنين إلى لقب ملك العرب أجمعين؟ دع الغرور بلقب الشريف،
الذي يدعي هو ودعاته أنه هو المؤهل للملك والخلافة، ولكن له ولأولاده دون سائر
شرفاء الأمة.
إننا لنقول والحزن يملأ قلوبنا: إن الترك قد فضحوا العالم الإسلامي بما فعلوا
بخلافتهم شرًّا مما فضح به الملك حسين بمبايعته الأولى والثانية؛ إذ ظهر للإفرنج
أن مبايعة الملايين لرجل بالخلافة ليس إلا كلامًا لغوًا لا يترتب عليه عمل يذكر،
وقد أدرك الإنكليز ذلك قبل غيرهم , فلم يبالوا بمبايعة الجماهير من مسلمي مصر
والهند لخليفة تركي، ولا مبايعة أهل فلسطين لخليفة عربي، وقد عد العقلاء منهم
ومن غيرهم اهتمام فرنسة بمبايعة مسلمي سورية رعونة وخفه من رجالها هنالك،
ولو كانت إنكلترة تعتقد أن هذه البيعات حقيقية، يترتب عليها ما في كتب الشرع
من الأحكام الشرعية؛ لبذلت كل نفوذها في إبطالها، ولما تجرأ الملك حسين حينئذ
على التصدي لها، فإن أول ما يترتب عليها قتاله إياها في فلسطين؛ لإخراجها منها،
وهي الآن ترجو أن تنتفع من الخلافة الحجازية حتى بتوطيد نفوذها فيها، على
أن يكون للخليفة وأولاده شركة في ذلك.
ولما طفقت السلطة الفرنسية في سورية تعارض مسلميها في المبايعة لحسين،
والدعاء له في خطبة الجمعة , احتجوا عليها بأنها تمنعهم من حريتهم الدينية
المحضة، وذلك أنهم عالمون بأنهم لم يكونوا بهذه المبايعة تابعين له في السياسة ولا
الإدارة، ولا الحرب ولا القضاء , ونحن نزيد على ذلك أنهم غير تابعين له في
صلاتهم ولا صيامهم ولا زكاتهم، حتى ما هو من شأن الخليفة من ذلك كتعيين
الأئمة والخطباء للصلاة وأخذ مال الزكاة , وأما الدعاء للخلفاء في خطبة الجمعة
فليس من أركانها ولا من شروط صحتها، فلم يبق لفرنسة عذر في معارضة القوم
في مبايعتهم، ولا في الدعاء له في خطبهم، وما تكرهه من قوة نفوذه الروحي بذلك،
فالمعارضة لهم أشد تأثيرًا في زيادته.
ومما يؤيد قولنا في رأي مسلمي سورية في الخلافة أنها أمر ديني لا علاقة له
بالسياسة - ما يقوله ويكتبه بعض المصريين في ذلك بعد أن كان من مبايعتهم لعبد
المجيد أفندي ما كان، ثم من اقتراح بعضهم دعوته للإقامة بمصر، فأنصاره
يعدون معارضة الحكومة المصرية لهم في الدعوة له اضطهادًا للحرية الدينية، ولو
كانوا يفهمون معناها الشرعي ويريدونه، لعلموا أن عملهم يقتضي إسقاط الحكومة
المصرية , وجعلها تابعة لعبد المجيد أفندي! ! وهل هذا إلا أساس السياسة الذي تبني
عليه جميع أركانها؟
إنني مضطر إلى إظهار الحق عريانًا في هذه المسألة كما فعلت في مسائل
كثيرة، ولم أخف في الله لومة لائم، حتى إن شيخنا الأستاذ الإمام كان أول من
وصفني بهذا وانتقده علي في بعض المسائل , وما أبرزته عريانًا في مسألة إلا بعد
أن عرضته مزينًا بالحلي والحلل، فلم يعرفه ممن عرضته عليهم أحد، فأقول:
إنه لا خوف على سلطة فرنسة في سورية من مبايعة هذا الرجل إلا إذا
استعمله الإنكليز في مقاومتها، وما دام الفرنسيس متكافلين مع الإنكليز فيما اعتدوا
به علينا باسم الانتداب فلا خوف منه، فإن تحرش هو وأولاده بهم، فإنما يفعلون
ذلك لجر مغنم يريدونه منهم، ولا يجهل الفرنسيس أنهم يبيعون العرب والإسلام
بلقب ملك أو سلطان، وقد جربوا فيصلاً من قبل عبد الله في ذلك ورأوا تجربة
الإنكليز من قبلهم. على أننا نحمد الله تعالى أن بَغَّضَ هذا الأسرة التي رزئت بها
الأمة العربية إلى الفرنسيس , فلم يقبلوا إبقاء فيصل في سورية؛ لإخضاعها لهم
وفاء باتفاقه مع كليمنصو بعد إسقاطهم لحكومتها الاستقلالية، وتوطين نفسه على أن
يبقى ملكًا في ظل الانتداب الذي قبله أولاً وآخرًا، ثم لم يقبلوا استخدام أخيه عبد
الله بمثل ذلك , وقد بذل شرفه وكرامته في السعي له، نحمد الله على ذلك؛ لأن
أكثر مسلمي سورية لا يزالون يخدعون بلقب شريف، ولم يطل خداع الشيعة في
العراق به كما طال خداعهم، ولو كان سائر المسلمين كذلك لوجب على عقلاء
طلاب الإصلاح وإعادة مجد الإسلام أن يقرروا حرمان كل من يحمل هذا اللقب من
كل رياسة في هذه الأمة، ولا سيما إذا كان مفتونًا به كشرفاء مكة، أقول هذا وأنا
شريف مقابل.
أما والله لو كنت أعلم أنه يرجى منهم إخراج فرنسة من سورية على أن تكون
مستقلة دون نفوذ أجنبي آخر , ولو تابعة للحجاز - لبذلت كل ما أستطيع في تأييدهم
ومساعدتهم على ذلك بدلاً من مجاهدتهم على تمكين نفوذ الأجانب فيها وفي غيرها،
فإنني أعلم أن ملك الحجاز لا يستطيع أن يستبد في سورية، ولا أن يحول دون
حريتها.
ووالله لو كنت أعلم أنهم يستطيعون جعل جزيرة العرب وغيرها مملكة واحدة
خاضعة لهم وحدهم بدون نفوذ أجنبي - لتمنيت نجاحهم على ما أعلم من ظلمهم
واستبدادهم؛ لاعتقادي أنهم لا يستطيعون الاستبداد بهذه الأمة بعد جمع كلمتها
وتوحيد حكومتها، وأن المصلحة في ذلك أرجح من المفسدة في كثرة الحكومات
المتعادية.
ثم والله لو كنت أعلم أنه يرجى من حسين جمع كلمة المسلمين كلهم أو أكثرهم
أو عدة شعوب منهم باسم الخلافة على الحق والإصلاح - لوددت تقمصه إياها، ولو
نهض بها كما يجب لبذلت وسعي في تأييده، وإن كنت أعلم أنه فاقد لسائر شروطها،
وحسبي هذا منها لو حصل، ولكنني أعتقد أنه يخشى ضره، ولا يرجى
نفعه، وقد بينت هذا بالبراهين الكثيرة , ولم أره أجاب عن شيء منها في جريدته
جوابًا معقولاً ولا غير معقول، ولا أجاب عنها أحد من أنصاره، وإنما سبوني تبعًا
له وشتموني، وادَّعوا أنني ناقضت نفسي بأن مدحته ثم ذممته، وأيدته ثم خذلته،
وأن لي هوًى في ذلك، وليس هذا من الرد على براهيني بشيء. فإن صح قولهم
الأول فما هو من التناقض المنطقي الذي يبطل به الدليل؛ لأن من شروطه
اتحاد الزمان والموضوع وغير ذلك من (الوحدات الثمان) . وإن صح الثاني
فحسابي فيه على الله تعالى , ويبقى عليهم أن يبطلوا براهيني في الطعن في
سياسته , وبيان ضررها وكثر ما قلت لمن كلمني من أنصار ولا أزال أقول:
أقنعوني ببطلان ما أثبته، ولكم علي أن أرجع عنه وأخطئ نفسي. فلم يقدروا، كما
عاهدتهم بأن أنصرهم إذا هم رجعوا إلى الصواب الذي قام عليه البرهان عندي وعند
جميع من أعرفه من العقلاء حتى ممن يرجون الخير منهم أو يدعونه لهم، ولا
أريد على ذلك جزاءً ولا شكورًا.
إننا قرأنا ما فيه العبرة من أحداث التاريخ ولا سيما تاريخ الاستعمار للبلاد
الشرقية عامة والإسلامية خاصة , ورأينا كيف ضرب المستعمرون بعض أمرائها
وملوكها ببعض، وهكذا يفعلون اليوم في جزيرة العرب، وأخشى أن تكون هذه
الخلافة الباطلة من شر آلاتهم في ذلك , فيجب علي أن أنكر هذا المنكر العظيم،
ويحرم علي أن أسكت عنه، لكيلا أكون شريكًا لهم في إثمه.
إن الدولة البريطانية لم تستهن بأمر (الملك حسين) في السنين الأخيرة؛ إلا
لأنها رأت أنه لم يبق له شيء من النفوذ يمكن أن تستفيد منه، وهي الدولة العريقة
في التجارة بالسياسة، وكان أول غرض له من زيارة أطراف سورية وما بذله في
سبيلها أن يريها نفوذه فيها، وستستأنف العمل معه وإرضاءه بعد هذه المبايعة، فإن
الخلافة بضاعة ثمينة , قد طفقت تجرب نفوذ اسمها في الشافعية من أهل تهامة
اليمن وحضرموت بعد أن فشلت فيما كانت تسعى إليه منذ هدنة الحرب العظمى
من عقد اتفاق مع الإمام يحيى حميد الدين يجعل لها من الحقوق والامتيازات في
بلاده المستقلة ما يكون بابًا للتدخل في شؤونها، والعبث باستقلالها، فخاب سعيها،
وعاد مندوبها (الكولونيل جاكوب) من روضة صنعاء بخفي حنين، وسنعود إلى
هذه المسألة بعد تمحيص ما جاءنا من أخبارها.
وغرضنا الآن أن نثبت أن إخواننا في فلسطين وسورية قد استعجلوا في أمر
كانت لهم فيه أناة، ولم يصغوا إلى نصيحة الناصح الأمين انخداعًا بالدعاية
الحجازية، فبايعوا حسينًا بالخلافة بدون أن يقيدوه بقيد ما يصلح به ما أفسده من
قبل، كما ذكرناهم في المقال الذي نشرناه في الأهرام.
بل أعطوه سلاحًا يزيده قوة في عداوة جيرانه أئمة الجزيرة العربية المستقلين
المسلحين، وهي الدعوة إلى الشقاق والفتن باسم أمير المؤمنين. فالحكم الشرعي:
أن من صحت إمامته وجبت طاعته في قتال من شذ عن جماعته , المفروض أنهم
أهل الحل والعقد في الأمة وأولو الأمر منها، فإذا أمكنه بالدعاية والدنانير
الإنكليزية أن يجعل هذا الهزل جدًّا، وهذا الباطل حقَّا، وعجز معشر العلماء الذين
لا تأخذهم في الحق لومة لائم أن يظهروا الحق للناس. أفلا يخشى أن يقضي
بخلافته الباطلة على ما للعرب من هذه القوة الباقية، فيتغلغل الأجانب فيما بقي من
الجزيرة المقدسة , التي أحاطوا بها بمساعدته ومساعدة ولديه عبد الله وفيصل من
الشمال والشرق، كما يحيط بها البحر من الجنوب والغرب؟ فما لإخواننا هؤلاء لا
يتفكرون، ويرون العبر بأبصارهم ولا يعتبرون.
أما كان يجب عليهم أن يترووا في درس هذه المسألة، وأن يقترحوا على
الرجل اقتراحات يجعلون تنفيذها شرطًا مقدمًا على عقد البيعة، إن قنعوا بعد
التروي بترجيح مبايعته؟ بلى وأهم ما كان يجب عليهم أخذ الميثاق عليه فيه
وانتظار تنفيذه - الأمور الآتية:
(1) نبذ الحماية البريطانية التي تقيد بها فيما يسميه مقررات النهضة،
وعدم تقييد البلاد بمعاهدة أخرى تجعل للأجانب نفوذًا في البلاد.
(2) الاعتراف بالحالة الحاضرة في إمارات بلاد العرب , وإلغاء ما صرح
به لرئيس مؤتمر الجزيرة، من عقده العزم على جعل جميع إمارات الجزيرة من نجد
واليمن وتهامة تابعة لحكومة ملك العرب في السياسة الخارجية والعسكرية والإدارة
العامة.. إلخ.
(3) السعي لعقد محالفة بين هذه الإمارات كلها , يتقرر فيها اتفاق الجميع
على الدفاع عن جزيرة العرب , والتعاون فيما بينهم على عمرانها، وعقد مجلس
تحكيم للفصل في كل نزاع يقع بينهم، وتفصيل ذلك باتفاق يوقعه الجميع , وقد
سبق لنا تفصيله.
(4) السعي لجعل بلاد الحجاز قطر سلام وحياد لا يعادي ولا يعادى، ولا
يقاتل ولا يقاتل، وأن تعترف بذلك الدول الإسلامية وغيرها.
(5) وضع نظام للخلافة يعلم كل مطلع عليه أن الخليفة لا يمكنه أن يستبد
في عمل من الأعمال , وأنه يرجى أن ينفذ لعقلاء الأمة وحكمائها ما يطلبون لها من
الإصلاح، وغير ذلك مما ذكرناه، بعضه في كتاب (الخلافة) ولا محل للخوض فيه
هنا.
وإنهم سيقرؤون في باب الفتوى من (ج4) أن مبايعة هذا الرجل بالإمامة
العظمى باطلة شرعًا من بضعة وجوه، وأنها على بطلانها شرعًا، ضارة قطعًا،
وإن أكبر عار وخزي على أمتنا أن توجد فيها كل هذه المهلكات , ولا يتصدى أحد
لإنكارها والتحذير منها.
ولا يحسبن أحد أننا علمنا الأجانب بما كتبنا ما لم يكونوا يعلمون، ويا ليت
الذين يظنون ذلك يعلمون ما يعلمه الأجانب من أحكام الخلافة وأحوال المسلمين فيها،
إننا نعلم أن الإنكليز قد استكتبوا في سنة 1914 كثيرًا من علماء الأقطار
الإسلامية هذه الأحكام , وألفوا لجنة أو لجانًا لدرسها، وقد اطلعت مرة على نصوص
فيها , كتبها لهم بعض كبار علماء الأزهر. ولا أدري من طلب لهم ذلك.
هذا وإننا نطالب من يزعم أن ما كتبناه خطأ من الجهة الشرعية أو الجهة
السياسية الدائرة على مصلحة العرب والمسلمين , أن يبين لنا ذلك بإبطال أدلتنا
وإقامة أدلة أخرى على صحة خلافة الرجل , وعلى فائدتها وكونها غير معارضة
بمفسدة تقدم عليها , فإن فيمن بايعوه أفرادًا من أصدقائنا وغيرهم نجلهم ونحترمهم،
إما لعلمهم وأخلاقهم، وإما لوطنيتهم، ولكننا نقول: إنهم قد أخطؤوا في مبايعة
حسين كما أخطأ أمثالهم من علماء مصر في مبايعة عبد المجيد، أو في القول
بصحة خلافته ووجوب طاعته على أهل مصر وغيرهم، ونحن مستعدون لمناظرة
الفريقين، في موضوع الفتوى التي بينا فيها بطلان البيعتين، (والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل)
__________
(1) أبسله: أسلمه للهلاك ومنه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} (الأنعام: 70) الآية وفيها ما فيها من العبرة.(25/230)
رمضان - 1342هـ
مايو - 1924م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلافة والخليفة
الإمام الحق في هذه الأيام
(س13 - 16) من صاحب الإمضاء في حمص (سورية) .
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الشيخ العلامة محمد رشيد رضا وفقه
الله، وأمتعه بتقواه.
إن ثقتنا بدرجتكم العلمية العالية، واعتقادنا بإحاطتكم الكاملة لقواعد الشريعة
المحمدية، دعتنا أن نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية، آملين الإجابة عليها بسرعة،
دون احتراز من ملامة، أو اكتراث لغاية، بل لإنقاذ المسلمين من الضلالة، وإزالة
الفتن، وتنوير البصائر، وأجركم وحسابكم على الله:
1 - هل للخليفة عبد المجيد اليوم - في هذه الحالة - من بيعة له في أعناق
المسلمين؟ أسباب بقائها أو زوالها مفصلاً؟
2 - هل تصح إمامة المسلمين للملك حسين - وهو والإسلام في هذه الحالة؟
أسباب صحتها أو عدم صحتها مفصلاً؟
3 - من هم اليوم أهل الحل والعقد في جميع الأقطار الإسلامية المستقلة أو
غيرها الذين في استطاعتهم نصرة وإرشاد من أرادوا مبايعته، والذين يعدون
حائزي الشروط لأن يكونوا أولي الأمر.
4 - من هو الإمام للمسلمين (إذا لم تصح الخلافة لعبد المجيد ولحسين)
الذي يجب أن يعرفه كل مسلم - لبينما يجتمع أهل الحل والعقد، أو يعقد مؤتمر
إسلامي للبت في الخلافة - لئلا تموت الناس ميتة جاهلية؟ محمد فوزي القاوقجي
خلافة عبد المجيد التركي:
1 - الجواب عن السؤال الأول هو أن عبد المجيد أفندي المسؤول عنه لم
تنعقد له خلافة فيسأل عن بقائها أو زوالها؛ ذلك بأنه لم يبايعه أهل الحل والعقد من
أهل بلاده بالخلافة الإسلامية التي هي الإمارة العليا ورئاسة الحكومة في أمورها
الدينية والدنيوية من سياسية وحربية وقضائية وإدارية، بل أسسوا حكومة جمهورية
جعلوا لها رئيسًا آخر، وجعلوا هذه الحكومة مدنية غير دينية؛ أي: ليست مقيدة
بأحكام الشرع الإسلامي، ولأمر ما سموا عبد المجيد أفندي المشار إليه خليفة بعد
إقراره إياهم على حكومتهم الجديدة، وصرحوا بأنهم أرجؤوا بيان معنى هذه الخلافة
الجديدة التي ليس لها أدنى علاقة بحكومتهم، وأذيع عنهم أنهم سيشاورون بعض
كبراء الشعوب الإسلامية في ذلك لجعله خليفة للجميع بمعنًى ديني أو روحاني
جديد مبهم؛ أي: كخلفاء طرق المتصوفة. وكان كثير من أهل الرأي يرون أن هذه
التسمية مؤقتة لأمر ما. ثم ظهر السر في ذلك وهو أنه لما تم لهم الأمر ورأوا
أن جمهوريتهم قد توطدت أركانها , ألغوا هذه الخلافة أيضًا وطردوا المسمى
الخليفة من بلادهم مع جميع أهل بيته والأسرة العثمانية بأسرها.
وإذا كان الذين انفردوا بالشوكة فصاروا بها أهل الحل والعقد في الترك لم
يبايعوا عبد المجيد أفندي بالخلافة الشرعية فهو لم يكن خليفة فيهم، ولو بايعوه بها؟
لرضوا أن يكون هو رئيس حكومتهم سواء سميت جمهورية أم لا، وأن تكون
حكومتهم مقيدة بنصوص الشرع القطعية المجمع عليها، والأحكام الاجتهادية التي
ثبتت عند الخليفة وأهل الشورى في حكومته دون غيرها من آراء المجتهدين، ولما
جاز أن يجعلوا حق التشريع فيها للمجلس الوطني بلا شرط ولا قيد. كما نصوا عليه
في قانونها الأساسي.
على أن خلافته تكون فيهم خلافة تغلب , ولا تكون هي الإمامة الحقيقية التي
تجب طاعة صاحبها بأنه خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام الحق لجميع
المسلمين؛ إذ يشترط في الإمام الحق شروط أخرى أجمع عليها أهل السنة كالنسب
القرشي الذي يماري فيه اليوم بعض الجاهلين، وبعض الذين يحكمون أهواء
السياسة في الدين، وعبد المجيد أفندي غير مستجمع لهذه الشروط كالقرشية والعلم
الاجتهادي , والعدالة الشرعية التي ينافيها رضاه بالحكومة اللادينية - وفيهما خلاف لبعض الحنفية - وكذا عنايته بالتصوير والعزف على الآلات الوترية عند جمهور
فقهاء المسلمين. على أنه من أفضل أسرته وغيرها سيرة وسريرة وتدينًا ورغبة في
خدمة المسلمين، كما نقل إلينا الثقات الذين عرفوه. دع كون أهل الحل والعقد في
الترك ليسوا أهل الحل والعقد في سائر الشعوب الإسلامية المستقلة كعرب الجزيرة
وغيرهم، ودع كون بيعتهم مسبوقة ببيعة غيرها أقرب إلى الشرع منها، كما تراه في
الجواب عن السؤال الثاني.
وأما بيعة من بايع عبد المجيد أفندي من مسلمي مصر والهند وأفريقية فهي
باطلة لا يثبت بها شيء؛ لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد في بلادهم الذين يترتب على
بيعتهم نفوذ أحكام من بايعوه فيها، ولم تكن بيعتهم تابعة لبيعة أهل الحل والعقد في
بلاده هو , ولا في غيرها لتكون مؤكدة لها، وإنما تنعقد البيعة شرعًا بمبايعة أهل
الحل والعقد من أهل الاختيار الذين بينا شروطهم , وما يعتبر فيهم في كتابنا
(الخلافة أو الإمامة العظمى) كما بينا فيه شروط الخليفة , وما تنعقد به البيعة، وما
يجب بها على المبايع والمبايعين له.
واعلم أن الحكم الشرعي في خلافة التغلب كالخلافة العثمانية السابقة - أن
الطاعة فيها للخليفة إنما تجب على من هو متغلب عليهم بشوكته دون غيرهم من
المسلمين، وإنما ذلك لدفع الفوضى فهو ضرورة تقدر بقدرها، وأنه إذا وجد في
بلاد أخرى خلافة صحيحة، ودعا الإمام الحق فيها هذا الخليفة المتغلب وقومه لطاعته
وجب عليهم ذلك. فإن أبوا وجب عليه قتالهم إن قدر، ووجب على كل من دعاه
إلى ذلك من المسلمين أن يقاتلهم معه؛ أي: تحت لوائه.
وقد صرح شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث الثاني من كتاب
الأحكام من صحيح البخاري بأن الذين انتحلوا منصب الخلافة من غير قريش
بشوكة التغلب حكمهم حكم البغاة؛ أي: قطاع الطريق الذين يخرجون من طاعة الإمام
الحق.
خلافة حسين العربي المكي:
وأما السؤال الثاني فصحته كما يفهم بالقرينة لضعف عبارته العربية: هل
تصح إمامة الملك حسين للمسلمين؟ أو هل تصح توليتهم إياه إمامًا عليهم؟ وهو
يريد بذلك مبايعة بعض أهل فلسطين وسورية والحجاز والعراق له.
والجواب عنه أن هذه المبايعة لا تجعله إمامًا للمسلمين , فهي بيعة غير
صحيحة وبيان ذلك من وجوه:
(الوجه الأول) أنه يوجد بجوار بلاده إمام آخر قد ولي الإمامة قبله بسنين
كثيرة في اليمن , وهو قرشي علوي مستجمع للشروط الشرعية التي يفقدها هو:
كالعلم والعدالة والشوكة كما يعلم مما يأتي. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر بقتل من يبايع بالخلافة مع وجود إمام آخر بويع قبله. والحديث في ذلك
مشهور رواه مسلم في صحيحه.
فإن قيل: إن إمام اليمن زيدي غير سني. أجيب!
(أولاً) بأنه من أهل العلم الاجتهادي، ولا يبايع علماء الزيدية أنفسهم أحدًا إلا
إذا ثبت عندهم اجتهاده.
(وثانيًا) بأن علماء السنة اشترطوا في الإمام الإسلام، ولم يشترطوا مذهبًا
معينًا، بل اشتراطهم للاجتهاد في الدين ينافي اشتراط المذهب، وأما ما يسمونه
البدع وخاصة ما كان منها محل النظر والاجتهاد - كاختلاف المذاهب - فلا يعدون
مخالفة السنة فيه بالتأول مانعًا من صحة الخلافة , كما في شرح البخاري للحافظ ابن
حجر. واستدل على هذا بأن كبار أئمة السنة كالإمام أحمد لم يقولوا ببطلان خلافة
المأمون والمعتصم اللذين حملا الناس على القول بخلق القرآن، وقد استدل الحافظ
بإمامة اليمانيين على بقاء الإمامة في قريش إلى عصره وكانوا زيدية فيراجع في
شرح حديث (لا يزال هذا الأمر في قريش ... ) من شرح للبخاري.
(وثالثًا) أن حسين بن علي ليس من علماء أهل السنة المجتهدين , ولا
المقلدين لأحد مذاهبهم عملاً وحكمًا كما يعلم مما يأتي، وإن كان قد نشأ في قوم
يسمون سنية وحنفية وشافعية , فذلك لا يقتضي أن يكون ملتزمًا لمذهب الحنفية أو
الإمام الشافعي، وسنبين هذا بالإجمال هنا، وقد بيناه بالتفصيل مرارًا آخرها:
الخطاب الذي نوجهه في شأنه إلى العالم الإسلامي وينشر في المنار تباعًا. ومما
فيه أنه يحكم بين الناس في الحضر برأيه وهواه، وبين البدو بقانون أبي نمي
المخالف لنصوص القرآن وإجماع المسلمين.
فإن قيل: إن إمامة يحيى محصورة في بلاده ولم يعترف بها غير أهلها.
(فالجواب) أن إمامة حسين محصورة كذلك، بل دون ذلك. ففي اليمن من أهل
الحل والعقد ما ليس في الحجاز وهم أكثر عددًا، وأشد بأسًا وشوكة من أهل
الحجاز ومن أهل سورية وفلسطين - إن فرضنا أن لاعترافهم تأثيرًا شرعيًّا -
بدليل أن الدولة العثمانية قاتلتهم عدة قرون ولم تقدر على إزالة إمامتهم. فيحيى
يرجح على حسين من وجوه، وحجته عليه بمبايعته بالإمامة قبله قائمة. (وللكلام
فيها بقية تأتي في جواب السؤال الرابع) . وبهذا يعلم خطأ الذين بايعوا حسينًا بدعوى
أن الخلافة التركية قد سقطت , وأصبح منصب الخلافة معطلاً، وأنه يجب التعجيل
بإقامة إمام للمسلمين؛ لئلا يصدق على من يتأخر عن ذلك حديث: (من مات وليس
في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية) فقد غشوا الناس بهذا القول، كما غشوهم بأنه
لا يوجد أحد مستجمع لشروط الإمام غير هذا الرجل ويعلم هذا بما يأتي:
(الوجه الثاني) : أن الملك حسينًا فاقد للعلم الشرعي اجتهادًا وتقليدًا كما
يعلم بالقطع من مكتوباته الرسمية وغير الرسمية , فإنها مشتملة على الأغلاط
اللغوية الفاحشة في المفردات والجمل والأسلوب. وفهم الكتاب والسنة وكتب أئمة
العقائد والفقه يتوقف على إتقان اللغة العربية. ومشتملة على تحريف فظيع للآيات
والأحاديث، وعلى تفسيرهما بالرأي بل الهوى، وعلى أحكام باطلة لا دليل عليها،
وأحاديث موضوعة لا أصل لها، وقد أوردنا في مواضع متعددة من المنار بعض
ذلك، فإذا وجد من أدعياء العلم المتحيزين إليه من ينكر علينا ذلك؛ فإننا نجمعه في
كتاب نطبعه على حدته ونطالبهم بالرد عليه إن استطاعوا.
(الوجه الثالث) أنه فاقد للعلم بالسياسة العامة وشؤون الدول والأمم التي
صارت تتوقف في هذا الزمان على علم واسع، وهو مع ذلك ينفرد بعقد الاتفاقات
مع الدول، فيقع فيما يضيع به حقوق المسلمين ومصالحهم , كما يعلم بالقطع من
الاتفاق مع الإنكليز على ما يسميه (مقررات النهضة) وفيها التصريح بجعل البلاد
العربية وفي مقدمتها الحرمان الشريفان تحت حماية دولة أجنبية غير مسلمة ,
تجتهد في إزالة ملك الإسلام وشرعه من الأرض. وقد نشرنا هذه المقررات مرارًا
وبيَّنا مفاسدها. ومثلها المعاهدة الأخيرة المبنية على أساسها: التي كان أعلن قبولها
بادئ بدء في أول شوال من السنة الماضية - 1341 - ولكن كان من توفيق الله
تعالى أن علم بجل مضمونها أهل فلسطين وغيرهم , فانتقدوها وصرحوا برفض ما
يتعلق بهم منها، وبينا نحن وغيرنا سائر مفاسدها، فاضطر الملك حسين إلى
الامتناع من إمضائها النهائي بعد أن أمضاها الإمضاء المبدئي وأمر باتخاذ يوم
إعلانها عيدًا رسميًّا للأمة العربية. وقد أرسل قبل سفره إلى شرق الأردن خطابًا
إلى الأمة الإنكليزية اعترف فيه بموالاة حكومتها - خلافًا لنص القرآن - وبأنه
أضاع بذلك استقلال من تبعه في ذلك من الأمة العربية؛ ونشر هذا الخطاب في
الجرائد العربية واشتهر.
(الوجه الرابع) فقده للعدالة من شروط الخلافة , والدلائل على ذلك كثيرة
جدًّا من أهمها: استبداده الذي لا يكابر فيه أحد يعرف حاله، وظلمه الذي نذكر منه
منعه لشرفاء قومه الذين كانوا في الآستانة وغيرهم من الرجوع إلى بلدهم ,
واستيلاؤه على أموالهم من أملاكهم وأوقافهم , وعدم إعطائهم شيئًا منها، وناهيك بما
ذكرناه آنفًا من حكمه بما يخالف كتاب الله وإجماع المسلمين. ومن أشهر أعماله
الاستبدادية! ضربه الضرائب على الحجاج، وظلمه لأهل الحرمين الشريفين
ومنه: حرمانهم من مئات الألوف من الدراهم والغلال التي كانت ترسلها إليهم
الحكومة المصرية في كل عام وقد رأينا ما دافع به عنه بعض المأجورين
والمنافقين في العام الماضي.
وملخصه أنه ملك للحجاز ومالك له وله أن يمنع من دخوله ولو لأداء فريضة
الحج من شاء ويأذن لمن شاء (وقد صرح بهذا ولده الأمير عبد الله ونشر في
الجرائد) وأن يشترط ما شاء على من شاء من الحجاج كمنع ركب الحج المصري من
وضع أدويته وأدواته الصحية في جدة ومكة وغير ذلك، مع أن المعلوم من الدين
بالضرورة أنه ليس لأحد أن يشترط على مؤدي ركن من أركان الإسلام شروطًا أو
يضع عليه ضريبة , ولو جاز هذا في أداء الحج لجاز في أداء الصلاة , فإذًا لا
يجوز له أن يتحكم في حرية الحجاج بشيء إلا إذا ارتكب أحد ذنبًا يعاقب عليه
الشرع، فله أن يحاكمه وينفذ ما يحكم به عليه بالعدل. وأما استصحاب الحجاج
للأطباء وللأدوية والعقاقير , واستخدامهم للمطوفين أو غيرهم من أهل البلاد في
أعمال مشروعة بالتراضي - فليس له أن يمنع أحدًا منها.
(الوجهان الخامس والسادس) فقده للشوكة والقوة المالية والجندية اللتين
يتوقف عليهما حفظ البلاد وحماية الثغور والجهاد المشروع، وجعله البلاد تحت
حماية الدولة البريطانية بنص مقررات النهضة. وقد رفع استقالته المرة بعد المرة
إلى الحكومة الإنكليزية , وطلب منها أن تولي غيره على الحجاز، وتختار له
ولأولاده مكانًا يقيمون فيه. ونشر هذا في جريدته (القبلة) ونقلناه عنها في
المنار مرارًا، ولو لم يكن له إلا هذه الخزية لكفت مانعًا من جواز خلافته، فإن
المراد من الخلافة إعزاز الإسلام والمسلمين بالاستقلال والحرية الشرعية، لا
جعلهم أذلة تحت سلطان دولة غير إسلامية.
(الوجه السابع) أن الذين بايعوه ليسوا أهلاً لأن يبايعوا , كما أنه هو ليس
أهلاً لأن يبايع. أما من حضر الحجاز منهم فهم تحت سيطرته وقهره؟ فليسوا أحرارًا
ولا مختارين، وليس لهم صفة أهل الحل والعقد، كما يعلم مما بيناه مفصلاً في كتاب (الخلافة - أو الإمامة العظمى) وأما من بايعه من أهل سورية وفلسطين
والعراق فهم تحت سيطرة دولتين أجنبيتين قويتين؛ لا يملكون من أمرهم طاعة حاكم
آخر. وإنما المبايعة على السمع والطاعة في الجهاد , وأموال الزكاة وإقامة الحدود
وغير ذلك من الأحكام، فلا الملك حسين يستطيع أن يقيم شيئًا من هذه
الأحكام في هذه البلاد , ولا أهلها قادرون على إعطائه هذه الاستطاعة، ولا على
طاعته إذا هو أمر بشيء منها (والمبايعة في عقد الخلافة كالمبايعة في عقد البيع) بل
هذا هو الأصل وذلك وما في معناه مأخوذ منه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) - إلى أن قال:
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِه} (التوبة: 111) ولا تتحقق المبايعة في هذا
ولا ذاك إلا إذا كان كل من المتبايعين أهلاً للقيام بنصيبه من العقد. كأهلية الخليفة
لإقامة أحكام الله تعالى كما أنزلها بما له من صفتي العلم والعدالة، وأهليته لتنفيذها
بما له من القوة والشوكة، وأهلية المبايعين له لقبول أحكامه وطاعته فيها وإعانته
عليها. ومثال ذلك في بيع الأعيان ملك البائع لما يبيعه وقدرته على تسليمه، وقدرة
المشتري على أداء الثمن. ومن المعلوم بالضرورة لكل من الملك حسين ومن بايعوه
في شونة شرق الأردن - كما بايع سلفهم في هذه البلاد مروان بن الحكم - أن كلاًّ
منهما عاجز عما توجبه عليه البيعة، فمثلهما كمثل من قال لآخر: بعتك هذا
الطائر في الفضاء، بهذا القمر الذي يلوح في السماء. فقال: قبلت.
على أنني أعلم أن أكثرهم لا يعرف معنى الخلافة , ولا معنى المبايعة , ولا
ما توجبه عليهم , وأن من يعرف ذلك منهم لم يقصدوه بمبايعتهم حتى فيما
يستطيعونه منه , كأن ينفروا إلى قتال سلطان نجد أو إمام اليمن إذا استنفرهم
خليفتهم , ولم تمنعهم الدولة المسيطرة على بلادهم من القتال معه. والدليل على
ذلك أن هذه البلاد كلها كانت قد بايعته من قبل , وكان أهل سورية وفلسطين يظنون
عقب احتلال ولده الأمير فيصل للبلاد مع جيوش الحلفاء أنه تنفيذ لما كانوا يعدونهم
به في زمن الحرب، من أن الشريف يحارب لاستقلالهم وأنه هو ملكهم، فلهذا
بايعوه، وخطبوا باسمه في طول البلاد وعرضها. ولما انعقد المؤتمر السوري
لتقرير استقلال البلاد وإعلانه لم يجعل له شيئًا من الأمر فيها لا بلقب الخليفة ولا
غيره، وقد استنجد ولده فيصلاً ملك سورية لحرب النجديين مرة، فقررت وزارة
هاشم بك الأتاسي رفض الطلب , وإنما سمحت بالتطوع لمن شاء من السوريين
باختياره على نفقة الحجاز. ولو كانوا بايعوا على علم وعزم؛ لربطوا سورية
بالحجاز في ذلك العهد، ولكانوا أجدر بالنجاح يومئذ منهم اليوم.
ما بايع القوم لأجل السمع والطاعة. وإنما بايع بعضهم لهوى أو منفعة
شخصية، وبعضهم لنكاية الدولة الأجنبية المسيطرة , ولا سيما الذين صدقوا
قول دعاة الرجل: إنه هو القادر وحده على إنقاذهم من هذه السيطرة. وبايع
بعضهم لتصديق من قال له: إن هذه المبايعة فرض عليه لا يترتب عليها غرم
ولا تخلو من غنم، وإنه إذا امتنع منها ومات من ليلته مات ميتة جاهلية , وكان من
أهل النار. وقد يوجد في هؤلاء العوام المخلصين من إذا دعي مثل هذه الدعوة إلى
القتال مع الخليفة استجاب على غير علم ولا هدى.
وهنالك أناس آخرون بايعوا لغرض سياسي عام أو خاص؛ أما الخاص فهو
غرض من ظن من أهل فلسطين أن تقوية رابطتهم بملك الحجاز بالخلافة يحمله
على مساعدتهم ولو فيما يغضب الدولة البريطانية، أو يمنعه أن يعقد معاهدة معها
يوافقها فيها على الحالة الحاضرة , وهي حالة الانتداب المرتبط بوعد بلفور بجعل
فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود الصهيونيين، وقد كان رضي بالمعاهدة المشتملة على
هذا وأعلنها رسميًّا بمكة في أول شوال من السنة الماضية ثم اضطر إلى طلب
تعديلها كما تقدم آنفًا.
وأما الغرض العام فهو ما أراده أولو العصبية العربية من إعادة الخلافة
الرسمية العامة إلى العرب , وقد ظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم بما فعل الترك.
وأكثر أهل البصيرة والمعرفة والإخلاص من هؤلاء يعلمون أن هذا الرجل ليس
أهلاً للخلافة ولا للملك، ولكنهم يقولون: إن مركزه البارز في الحجاز جعله مرجحًا
على غيره من العرب، وهو شيخ كبير , إذا لم ينتفع العرب بهذا المركز في حال
حياته - لما نعلم من صفاته - فلا يمنع ذلك من انتفاعهم به بعد وفاته، ومهما يطل
أجله الشخصي فهو قصير في جانب أجل الأمة. وقد خاطبني بعضهم بهذا قولاً
وكتابة. ولكن المبايعة لأجل العصبية باطلة، والعصبية محرمة، والأحاديث
فيها معروفة في الصحاح والسنن، وهي تضر العرب بتنفير الأعاجم منهم وهم في
غنى عنها بجعل الشارع الإمامة في قريش، وما على قريش وغيرهم إلا أن يرشحوا
من أفضل رجالات قريش من تقوم الحجة على قدرتهم على النهوض بهذا الأمر , وأما
إلصاقه برجل يمقته أكثر مسلمي الأرض، ويرمونه بأقبح الطعن كخيانة
العرب والإسلام وإضاعة ملكهم - كما اعترف به في خطابه الأخير للشعب
البريطاني - فهو أكبر العقبات في سبيل إعادة هذا الحق إلى أهله.
حفظ هؤلاء السياسيون شيئًا وغابت عنهم أشياء لا محل لبيانها هنا، وإنما
نقول: إن إعطاء لقب الخلافة لهذا الرجل سيكون أضر على الأمة العربية عامة من
إعطائه لقب ملك العرب , ومن جعله زعيمًا للأمة العربية من قبل بما يزيد هذه
الأمة تفرقًا وعداوة وضعفًا في أنفسها، وكراهة واحتقارًا من جميع الشعوب
الإسلامية الذين أرادوا أن يجعلوه إمامًا لها، وخليفة مطاعًا أو محترمًا عندها، ومن
ثم يزيد نفوذ الأجانب قوة فيها، ودسائسهم توغلاً في بلادها. وهو قد بدأ ببث
الدسائس في شافعية اليمن العليا والسفلى لإيقاع الفتن بينهم وبين الإمام يحيى،
وإيقاد نار الحرب؛ إذ بلغهم دعاته بأنه سينقذهم من سلطان هذا الإمام الزيدي،
ويقيم لهم حكامًا شافعيين من أهل مذهبهم يكونون تابعين له ومستمدين للسلطة منه.
وهذا يوافق ما صرح به لرئيس مؤتمر الجزيرة بمكة , ونشر في جريدة (القبلة)
في أوائل ربيع الآخر من هذه السنة - أعني أنه لا بد من إعطاء أهل هذه
البلاد من اليمن ما يطلبون من شكل الحكومة الداخلية التابعة لملك العرب! ! !
وإن من أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن يوجد رجل عربي يحب أمته
ويعمل لها بإخلاص يزيد في غرور هذا الرجل وتجرئته على المضي في سياسته
العربية , بعد أن صرح في جريدته (القبلة) تصريحًا رسميًّا بأنها قائمة على
أساس عداوته لجميع أمراء الجزيرة أصحاب القوة والبأس فيها، مع العلم بأنه
أضعف من كل واحد منهم، وأنه لا اتكال له وله اعتماد في هذه العداوة إلا على
قوة الأجنبي الطامع في استذلال جميع العرب والسيطرة على جميع بلادهم، وأنه
لا وسيلة لهذا الأجنبي إلى غرضه إلا هذا الشقاق الذي يعتمد فيه على هذا الملك
وأولاده، ولذلك جعل واحدًا منهم ملكًا في العراق؛ ليقنع أهله بعقد محالفة
العبودية والاسترقاق لأهله، والتصرف في أرضه. ويطمع الآخرون أن يصيروا
ملوكًا في سورية وفلسطين واليمن ونجد تحت ظل هذا الأجنبي وحمايته، وهذا ما
يبغونه من الوحدة العربية.
أمثل هذا يعطى لقب الخلافة ليتخذه آلة للدعاية المروجة لهذه السياسة؟ أبمثل
هذا تتحد الأمة العربية , وتستعيد مجد الخلافة وتعيد بها مجد العرب؟ ألا إن الأمة
العربية لم تصب بمصيبة أشد ضررًا وأعظم خطرًا من هذا الرجل وأولاده، وإنه
لا أحد من أشياعهم أجدر باللوم على مبايعته وموالاته من إخواننا الفلسطينيين
والسوريين الذين كنت أجل كثيرًا من أذكيائهم وأولي الخبرة والاطلاع منهم أن
يظلوا منقادين بالدعاية الكاذبة الخاطئة إلى هؤلاء الأفراد، بعد أن افتضح أمرهم
فعرفه كل حاضر وباد، ولم أر أحدًا منهم استطاع أن يدافع عنهم بكلمة حق، وكان
يجب على من يظنون منهم أنه يمكن استصلاحهم والانتفاع منهم - وقد خاطبنا
بعضهم بذلك قولاً وكتابة - أن يحتفظوا بمبايعة كبيرهم بالخلافة - التي هي منتهى
أمانيه وأول ما خاطب به أولياءه الإنكليز قبل الاتفاق معهم -؛ ليمهدوا لها بنظام
معقول وضمان يوثق به. فماذا أبقوا بأيديهم، بعد أن أعطوه حق الولاية الشرعية
عليهم، إن كانوا يعدون بيعتهم له صحيحة؟ وسيبث هو الدعاية بأنه لا معنى لها
إلا وجوب طاعته في كل مستطاع يأمر به بلا شرط ولا قيد ولا نظام ولا قانون،
إنا لله وإنا إليه راجعون.
(الوجه الثامن) حرصه على السلطة وتهالكه على لقب خليفة وملك؛ حتى
إنه اعتمد فيه على موالاة دولة غير مسلمة , كما ثبت من المكاتبات الرسمية بينه
وبينها التي انتهت بقبوله لحمايتها , كما أشرنا إليه في هذه الفتوى وفصلناه بالوثائق
الرسمية في عدة أجزاء من المنار.
وما كان يدعيه من التعفف وعدم الرغبة في الخلافة يوجد في قوله وفعله
ومنشوراته وأقواله المطبوعة في جريدته ما يناقضه أو يعارضه. وذلك شأنه في
جميع أقواله وأعماله كالوحدة العربية وغيرها: صرح بأن الخلافة قد ماتت،
وصرح بأنه لا يقبل أن يبايع بها إلا إذا أجمع المسلمون على اختياره لها، وكان
يسعى لها هو وأولاده قبل ذلك وفي أثنائه! ثم قبل المبايعة من بعض أهل فلسطين
وشرقي الأردن وسورية المستعبدين للأجانب بشؤم نهضته، وقد كان أهل هذه
البلاد بايعوه في عهد وجود ولده فيصل في سورية، وصرح أهل مكة في مبايعته
بأنهم قد كانوا بايعوه من قبل وهم يبايعونه الآن تجديدًا وتوكيدًا. وقد نشرت هذا
المعنى جريدته (القبلة) ، فأين الإجماع من المسلمين وما ثم شيء جديد؟!
وأما الدليل على أن طالب الولاية والحريص عليها لا يولى؛ فأحاديث، منها
قوله صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا منه أن يؤمرهما: (إنَّا والله لا نوَلِّي على هذا
العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه) رواه الشيخان في الصحيحين واللفظ
لمسلم، وفي رواية للإمام أحمد (إنَّ أَخْوَنَكُم عِندنا مَنْ يطلُبه) وقد ورد أنه صلى
الله عليه وسلم لم يستعن بأحد من الرجلين حتى مات. وحكمة ذلك ومدركه
أن حب الملك والرياسة هو أكبر أسباب الفتن التي سفكت فيها الدماء أنهارًا ,
ومزقت الأمة شر ممزق , وأفسدت عليها أمر دينها ودنياها أممًا وشعوبًا متعادية،
والله يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) وهي
التي أخضعت أمثال هؤلاء الأمراء للأجانب في الأجيال الأخيرة , وكانوا أولياءً
وأنصارًا لهم على سلب سيادة الإسلام عن بلادهم وغير بلادهم. وقد آن للمسلمين
أن يقيموا شرعهم باختيار أهل الحل والعقد لأئمتهم بنظام تضمن فيه حريتهم
وحرية الأمة، وتلتزم فيه أحكام الشرع وحكمه، وإن لم يكن تنفيذه إلا بعد زمن
طويل، وهذا أهم ما يطلب من المؤتمر الإسلامي المقترح.
3- أهل الحل والعقد
وأما الجواب عن السؤال الثالث وهو تعريف أهل الحل والعقد في هذا العصر
إلخ فنجيب عنه بما يتعلق بالمقام فنقول: إن من عرف المراد من كلمتي الحل
والعقد في اللغة يعرف أهلهما، وكذلك كلمة الأمر. الحل والعقد عبارة عن
التصرف في الأمور العامة. والأمر هو الشأن، والمراد به شأن الأمة العام من
سياستها وإدارة مصالحها ونظام أحكامها، ويؤخذ هذا من تعريف الكلمة بالألف
واللام، وهو المراد من قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران:
159) وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُم} (النساء: 83)
والضمير في قوله: (ردوه) يرجع إلى أمر الأمن والخوف وخاصة في حال
الحرب، فأولو الأمر هم أصحاب الرأي والمكانة الذين تثق بهم الأمة وتعول على
تدبيرهم وتتبعهم فيه. وكانوا موجودين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , وكان
يستشيرهم في كل شيء ليس فيه وحي من الله تعالى , ويعمل برأي من اتضح له
صواب رأيه منهم، كما عمل برأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر لما راجعه في
المكان الذي أمر صلى الله عليه وسلم بنزولهم فيه - ويعمل برأي الأكثرين وإن لم
يره صوابًا , كما وقع في مسألة الخروج من المدينة في غزوة بدر وكان مخالفًا لرأيه
ورأي بعض كبراء الصحابة: كأبي بكر - رضي الله عنه - ولكن الاستشارة
في أحد كانت للأمة لا للزعماء المعبر عنهم بأولي الأمر وأهل الحل والعقد فقط.
والأمة هي الصاحبة الشأن والسلطة في أمرها العام بنص آية الشورى ,
ولما كان من المتعذر أن يقوم جميع أفرادها أو أكثرهم بالأمور العامة من
حربية وسياسية وقضائية وإدارية , كان المشروع المعقول أن ينوب عنها من
يكونون محل ثقتها من الأفراد الممتازين فيها بالعلم والتجارب والاستقامة , فيكونوا
هم أرباب الحل والعقد فيها الذين يختارون لها الرئيس (الخليفة أو الإمام) المنفذ
لشريعتها , ويؤيدونه بالرأي والعمل؛ فيكون منهم أهل الشورى له والوزراء والقواد
والقضاة وغيرهم. وقد بينا ذلك بالتفصيل في المبحث الثالث: (مَن ينصب الإمام
ويعزله؟) ، والمبحث الرابع: (سلطة الأمة ومعنى الجماعة) ، والمبحث
الخامس: (شروط أهل الاختيار للخليفة) من كتابنا (الخلافة أو الإمامة
العظمى) ، ثم عقدنا المبحث التاسع عشر (وطبع 17 غلطًا) لأهل الحل والعقد في
هذا الزمان، وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام. وقد صرحنا فيه بأن أهل الحل
والعقد قلما يوجدون في غير الأمم الحرة إلا أفرادًا , يكون لهم هذا الوصف بالقوة لا
بالفعل.
والقول الفصل في النازلة التي هي موضوع الفتوى , والشغل الشاغل لأكثر
المسلمين اليوم هو أن أهل الحل والعقد بالفعل في العالم الإسلامي الآن هم رؤساء
الحكومات الإسلامية المستقلة , وأركان دولتهم وأصحاب الزعامة الذين يوجدون في
بعضها دون بعض، وتوجد الشروط الشرعية في بعضهم دون بعض، وهم على ما
هم إذا بايعوا رجلاً بالخلافة، وعاهدوه على السمع والطاعة، وكان مستجمعًا
للشروط الشرعية المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة؛ صار هو الإمام الحق
الذي تجب طاعته على كل مسلم في الحق والمعروف. وإن لم يكن كذلك؛ وجبت
طاعته على البلاد التي بايعه أولو الأمر والحل والعقد فيها دون غيرهم.
في مصر الملك فؤاد ووزراؤه وكبار العلماء , وأعضاء مجلسي النواب
والشيوخ , وفي الأفغان الأمير أمان الله خان وأركان دولته، وفي الترك أعضاء
المجلس الوطني الكبير، وفي جزيرة العرب أمراؤها وأئمتها المعروفون: إمام
اليمن، وسلطان نجد، وملك الحجاز، وأمير تهامة. ولدى كل من هؤلاء زعماء
وعلماء إذا لم يوافقوه على البيعة لا تنفذ الأحكام في بلادهم؛ فهم من أهل الحل والعقد
فيها، إلا ملك الحجاز فهو المستبد المطلق الذي ليس لأحد من مدن بلاده معه
أمر ولا رأي. وأما القبائل فأهل الحل والعقد فيهم شيوخهم , وأكثرهم غير
خاضعين له.
4- إمام المسلمين الذي تجب معرفته اليوم
وأما السؤال الرابع وهو تعيين الإمام الذي يجب أن يعرفه كل مسلم مؤقتًا إلخ
فنقول في جوابه:
- أولاً - إن السؤال يشعر بأن السائل يعتقد أنه لا بد من وجود إمام للمسلمين
بالفعل في كل وقت تجب عليهم معرفته والاعتراف بإمامته , وإن لم يكن له فيهم
أمر ولا نهي إلى أن يقوموا بنصب الإمام الحق , باختيار المؤتمر الإسلامي العام
الذي يجب اتباعه على جميع المسلمين , وفي هذا مباحث لا تتسع لبسطها هذه
الفتوى. منها: هل يجوز خلو الأرض من إمام يقيم الحق والعدل في جماعة من
المسلمين؟ في الأحاديث الصحيحة أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على
الحق يقاتلون عليه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله. والظاهر أنهم الإمام
وجماعته، وقيل: إن المعنى أعم مما ذكر. وحديث الصحيحين (لا يزال هذا
الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) وهذا لفظ مسلم - يدل على ذلك إن عُدَّ
خبرًا. والأظهر أنه إنشاء حكم؛ أي: يجب ذلك.
وفي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: (كان
الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير
فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم) قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: (نعم وفيه دخن) قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم
وتنكر) قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دُعاة على أبواب جهنم مَن
أجابهم إليها قذفوه فيها) ، قلت: يا رسول الله صِفهم لنا. قال: (هم من جلدتنا،
ويتكلمون بألسنتنا) . قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) . قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال:
(فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت
على ذلك) [1] وهذا محل الشاهد، واللفظ للبخاري في كتاب الفتن من صحيحه،
وهو يدل على جواز خلو الأرض من الإمام والجماعة، إلا أن يقال: إنه ذكر على
سبيل الفرض والاحتمال العقلي.
أما الشر الأول في هذا الحديث فهو الفتن التي تجمعت في خلافة عثمان
واشتدت في خلافة علي , وأما الخير الذي بعده فهو الرجوع إلى السنة والجماعة ,
ونبذ البدع في خلافة عمر بن عبد العزيز ومن بعده من الأمويين والعباسيين ما كان
المسلمون على إمام واحد. والدخن الذي في هذا العهد ما دخل على بعض الخلفاء من
الفسق وعلى بعضهم البدع الاجتهادية، فكان منهم ما يعرفه الشرع وما ينكره. وأما
الدعاة على أبواب جهنم، فهم الذين فرقوا الكلمة وتعمدوا صدع وحدة الأمة والإمامة
بتعدد السلطة، اتباعًا لعصبيات المذاهب والأجناس، فكان منهم القرامطة وغيرهم
من الباطنية (الزنادقة) الذين يدعون إلى الإيمان بالأئمة المعصومين، ويؤولون
النصوص القطعية حتى في أركان الإسلام وأصول الدين، ومنهم المبتدعة فيما
دون الكفر، ووصفه صلى الله عليه وسلم إياهم بقوله: ( ... من جلدتنا ويتكلمون
بألسنتنا) قيل: معناه من العرب. وقيل: من بني آدم. ويؤيده جمع الألسنة،
وليس للعرب إلا لسان واحد، وهو صريح أو كالصريح في عصبية الأجناس
اللغوية التي سنها الفرس وتبعهم فيها الترك وغيرهم.
- وثانيًا - مذهب أهل السنة والجماعة في الإمامة أنها من أمور الإسلام
العملية لا الاعتقادية , فليس الواجب على كل مسلم في كل زمن أن يعتقد بوجود
إمام وأن يعرفه بالعيان أو بالوصف والاسم , حتى يخرج من الإثم؛ لأنه اعتقاد
مطلوب لذاته , وإنما يجب على المسلمين في جملتهم أن ينصبوا لهم إمامًا يكون
رئيسًا لأولي الأمر وأهل الحل والعقد في إقامة أمور دينهم , ونظام حكومتهم وحفظ
بيضتهم. فإن تعدد الحكام في المسلمين، ووجد الإمام الحق والجماعة أولو الأمر
وجب على المسلم أن يعتزل سائر الفرق وحكوماتها، ويلزم الإمام والجماعة ولو
بالهجرة إليهم. فإن تعددوا وجب الوفاء للأول وقتل من يبايع بعده، كما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم وقيدوه بما إذا لم يندفع إلا بالقتل. وفي صحيح مسلم من
حديث أبي هريرة مرفوعًا: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيُّ
خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (فوا ببيعة الأول فالأول) الحديث , وإن لم يوجد فيهم الإمام الحق والجماعة الذين
يقيمون الحق والعدل بشرع الله , وجب على الفرد اعتزالهم جميعهم إن استطاع، وإلا
أطاع المتغلب على بلاده في غير معصية الله. وعلى مجموع الأمة أن يسعوا
لإيجاده وإلا كانوا آثمين , والمطالب بذلك أهل الحل والعقد منهم، فإن فقدوا وجب
على سواد الأمة السعي لإيجادهم، ويحصل ذلك بوضع نظام كنظام الأحزاب
والجمعيات في هذا العصر؛ يختارون بها زعماء من أمثل أهل العلم والرأي
والاستقامة , ويعضدونهم بشروط يحصل بها المقصود.
- وثالثًا - إذا كان غرض السائل أن يعلم هل يوجد إمام للمسلمين في أي
بقعة من بقاع الأرض؟ ليطمئن قلبه بأن الأمة الإسلامية كلها غير آثمة كلها، وإن
لم يعترف غير أهل بلاده بإمامته - فقد علم أن في اليمن إمامًا، وقد ذكرنا في كتاب
الخلافة أن في نجد إمامًا حنبليًّا، وفي تهامة إمامًا شافعيًّا، وكل من الثلاثة مبايع
قبل حسين الذي في مكة، ولكنه هو أبرع وأحذق منهم في بث الدعاية لنفسه ,
ومقامه في مكة المكرمة يساعده على ذلك، فهو يجتهد في تكثير أفراد مبايعيه من
الحجاج وغيرهم , وينشر ذلك في جريدته (القبلة) وربما يعبر فيها عن مبايعة
فرد أو أفراد من عامة السوقة في بلدة بمبايعة البلدة أو القطر التي هي فيه،
وهذا ضرب من ضروب اللذة والجاه , وهو ما أنشأ جريدة (القبلة) إلا لأجل إطراء
نفسه فيها ووصفه بملك العرب ومنقذهم وإمام المسلمين وخليفتهم. وأكثر ما
ينشر فيها من ذلك فهو الذي يكتبه أو يأمر بكتابته، فخلافته للمسلمين كملكه
للعرب سيظلان حيث هما من الحجاز وجريدة (القبلة) , إلى أن يقوم العرب
مع الرأي الإسلامي العام، بما يجب عليهم لمهد الإسلام، وبلد الله الحرام، وعسى أن
يكون قريبًا.
__________
(1) الدخن - بوزن جبل - الغش والفساد , وأصله لون في الدابة غير لونها يشبه الدخان.(25/257)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانقلاب الديني السياسي
في الجمهورية التركية
(الدسائس الأوربية في الدولة العثمانية، تأثير التعليم الأوربي والمدارس
في حل المسألة الشرقية , طلاب الإصلاح للدولة مقلدون مدحت باشا وعصبته،
جمعية الاتحاد والترقي، الكماليون. إلغاء الخلافة العثمانية وطرد الخليفة الوهمي
وعشيرته من البلاد التركية , واستصفاء أموالهم. إلغاء نظارة الأمور الشرعية،
إلغاء وزارة الأوقاف، إلغاء المدارس الدينية , جعل التعليم بجميع أنواعه لنظارة
المعارف التركية. عَمَهُ المسلمين واضطرابهم) .
تمهيد ومقدمات:
ما زالت الدسائس الأوربية تتغلغل في مدارس الدولة العثمانية , فتفسد الأفكار
الدينية التي خولت هذه الدولة انتحال مقام الخلافة الإسلامية، وتفسد المقومات
الاجتماعية , وتقطع الروابط السياسية التي كانت بها هذه الدولة سلطنة
(إمبراطورية) إسلامية عظيمة , يخضع لها كثير من الشعوب المختلفة في
الأنساب واللغات والأديان والأقاليم - ما زالت كذلك حتى صارت مصداقًا لقول
بعض عقلاء الأوربيين: إن المدارس الثانوية قد عملت في حل المسألة الشرقية ما
عجز عن مثله جميع سفراء الدول في الآستانة.
بدأ ساسة أوربة وأساتذتها ينفثون سم العصبيتين الدينية والجنسية في
الشعوب الأوربية المسيحية العثمانية: كاليونان والصرب والرومان والبلغار حتى
نهضوا بهما إلى طلب استقلال بلادهم وساعدتهم الدول الأوربية على ذلك حتى
نالوه، ثم طفقوا ينفثون هذا السم في أرواح سائر الشعوب العثمانية عامة، وعصبة
الجنس واللغة في شعب الترك خاصة، حتى صار المتعلمون من هؤلاء أشد كراهة
للسلطنة العثمانية من الروم والأرمن فيها، فطفق بعض هؤلاء الترك الذين لقبوا
أنفسهم بالأحرار يسعون لإسقاط هذه الدولة العظيمة؛ ليبنوا من أنقاضها دولة تركية
محضة , يكرهون جميع أهلها على قبول الجنسية التركية , وما تعذر تتريكه منها
يجعلون بلادها مستعمرة للترك، ولم يكتفوا ببقاء السلطنة كلها والرضا بما لهم من
الامتياز فيها بكون لغتهم هي الرسمية لها، وشعبهم هو الشعب الممتاز فيهما بلغته ,
وبحصر الملك والخلافة في بيت من بيوته وبجعل العاصمة في بلاده.
فتن المتفرنجون من الترك بتقليد الأوربيين في نظم حكوماتهم وقوانينها ,
وفي أزيائهم وعاداتهم , في مجامعهم وأكلهم وشربهم ولهوهم ولعبهم , فجروا على
ذلك جيلاً بعد جيل , وهم يزدادون ضعفًا وفقرًا كلما أوغلوا فيه؛ لأن التقليد الأعمى
لا يأتي بخير , وإنما ترتقي الأمم بالعلم الاستقلالي , مع البصيرة والروية في وضع
كل شيء في موضعه بقدر الحاجة إليه , مع مراعاة استعداد الأمة ومقوماتها،
واتقاء ضرر التحول والانقلاب فيها. ومن غريب هذا التقليد أن أنفع ما أخذته
الدولة عن أوربة به وهو النظام العسكري ظلت عالة على الأوربيين فيه إلى هذا
اليوم , فلم تكن مستقلة دونهم بعلم ولا عمل ولا صناعة مما يتعلق به.
وكانوا كلما فشلوا وخابوا في تجربة من تجارب التفرنج يحسبون أن سبب
ذلك من رسوخ الاستبداد في سلاطينهم، المؤيد بتقديس منصب الخلافة لهم
بمقتضى تعاليم دينهم، لا من جهلهم هم في أخذ النافع وترك الضار، وضلالهم في
ظنهم أن الإسلام يؤيد الاستبداد؛ فجزموا بأن التفرنج المطلوب لهم لا يتم إلا بترك
التقيد بالإسلام في حكومتهم، وأن الأسرة السلطانية العثمانية قد رسخت في الإسلام
وما فيه من رياسة الخلافة , حتى صار يتعذر سلها منه والاستعانة بأفرادها على
سل سائر الشعب التركي منه؛ فقرروا إسقاط الدولة، والقضاء على هذه الأسرة.
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:
11) وهذه قاعدة اجتماعية لا يختلف فيها عاقلان، ومن فروعها ما أفاده قوله تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وهي قاعدة
أخرى ولكنها أخص من الأولى التي تشمل النعم والنقم، والرغائب والمصائب.
وهما يطردان في الأمم دون الأفراد , فقد تمس الفرد نعمة أو تصيبه مصيبة بغير
سعي منه ولا كسب لسبب هذه أو تلك، بأن يرث مالاً من قريب، أو يقع عليه ظلم
من معتد أثيم. وأما الأمم فلا تتغير أحوالها من خير أو شر , إلا بعمل منها ناشئ
عن تغير ما في نفس السواد الأعظم من أفرادها من العقائد والأفكار , والملكات
والوجدانات التي هي مصادر أفعالها , سواء كان هذا التغير بالاستقلال أو باتباع
الدهماء للزعماء والكبراء من رؤساء الدنيا والدين.
وقد كان الذين شعروا بحاجة الدولة العثمانية إلى الإصلاح في القرن (الثالث
عشر الهجري) الماضي يجهلون أولاً هذه القاعدة الاجتماعية , فلم يبحثوا عن علل
الضعف وأسباب الفساد كالجهل والخلل والرشوة، وعن علاجها اللائق بها في
أنفس الأمة أولاً وبالذات وفي نظام الدولة ثانيًا وبالتبع لحال الأمة، بل حصروا
وجهة نظرهم في مظاهر قوة الإفرنج الحادثة بعد ضعف، وفي أعراض ضعف
دولتهم الطارئ بعد قوة، فاستنبطوا من هذا النظر في المظاهر والأعراض أن
الدولة تقوى وتعتز بتقليد الإفرنج في قوانين حكوماتهم ونظمها ومظاهر حياتها،
ولكن لم يراعوا ما في ذلك من الموافقة لمقوماتها ومشخصاتها من عقائد وتقاليد
وآداب وأخلاق وعادات موروثة ومكتسبة بالتربية والتعليم، ولم يفطنوا لما بينهم
وبين الإفرنج من الاختلاف والفروق في ذلك، ولا تأملوا في الأطوار التي تنقل
فيها الإفرنج من حال إلى حال، ولا قدروا ما يحيط بدولتهم من الأمور السياسية
وغيرها، وكذلك شأن المقلد، وناهيك بمقلد يسترشد برأي أعدائه من حيث لا يدري.
وكان من معلولات هذا الجهل أن كل مانع يعرض لهؤلاء المتصدين للإصلاح
يظنون أنه من أسباب الفساد , ويحاولون إزالته وإن كان من مقومات الأمة التي لم
تكن هي إياها إلا به - فكان مثلهم كمثل من رأى حلة على امرأة مهفهفة القوام
فاشترى مثلها لامرأته الضخمة فلما تعذر عليها لبسها؛ رأى أن لا سعادة له ولها إلا
بترقيق بدنها , بإذابة لحمه وشحمه ليمكنها لبسها، فإن لم يمكن؛ وجب إلقاء الحلة
عليها وإن لم تلبسها لبسًا.
هذا مثل من كان مخلصًا في محاولة إصلاح هذه الدولة من رجالها , لما له
فيها من عرق راسخ أو دين ثابت، وكأي من متصد لذلك وهو يبغي الإفساد؛ لأنه
دخيل فيها وهو من أعدائها الذين تربوا في مدارسها التقليدية. وكم تخرج في هذه
المدارس من عدو للدولة دسه فيها قومه الأعداء , ثم تعاهدوه وسعوا إلى ترقيته في
المناصب الملكية والعسكرية بالرشوة والشفاعات , حتى صار من كبار رجالها الذين
يسعون في خرابها بما في أيديهم من أزمة أمورها.
مدحت باشا والإنكليز:
كان مدحت باشا من هؤلاء المخلصين المقلدين المخدوعين. قال حكيم الشرق
السيد جمال الدين الأفغاني فيه وفي رجاله من مقال له عنوانه (الشرق
والشرقيون) ضرب فيه الأمثال بجهل حكومات الهند وإيران والأفغان وبخارى
والقوقاس والعثمانيين والمصريين الذي كان سببًا لضرب الإفرنج المستعمرين
بعضهم ببعض للاستيلاء على ممالكهم - ما نصه:
(وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا بعين بصيرتهم إلى أركان سلطنتهم
المتداعية إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت تنهد بما أَلَمَّ
بها من المصائب، وعلموا بتدبرهم أن البلايا تترصدهم من جوانبهم - لما تقحموا
غرورًا وضلالة في خلع السلطان عبد العزيز وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم،
وتغتنم هفواتهم، ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة
الإنكليزية قد جلبوا الهلاك على أمتهم , ويظنون أنهم هم المصلحون) .
وقد كان من رأي مدحت باشا يومئذ الفصل بين الدولة والخلافة , وكلم
الشريف عبد المطلب في جعله خليفة في مكة تابعًا للدولة في السياسة الخارجية
ومحميًّا بقوتها , فأبى واحتج بأن مصلحة الدولة والعرب تأبى ذلك، ولما طفق
يشرح رأيه قال له مدحت باشا: شريف أفندي! نحن جئنا بك لنعرض عليك أمرًا،
لا لنطلب رأيك فيه، وإذ أبيت فتفضل بالرجوع من حيث أتيت.
وكان الشريف عبد المطلب أعقل شرفاء مكة، ولم ينل أحد منهم مثل منزلته
عند رجال الدولة، وهو لم يكاشف السلطان بهذه المسألة، ولكن السلطان عبد
الحميد كان منذ نزل بعمه عبد العزيز ثم بأخيه مراد ما نزل يذكي العيون ,
ويصطنع الجواسيس؛ لإخباره بما يدبر رجال الدولة، وصار أقدر الناس وأحذقهم
في ذلك بعد توليه أمر السلطنة، فعلم أن (الجون ترك) يكيدون له ولأسرته كلها , فلج في مطاردتهم، فكان له من مكابدتهم في الداخل، ومكايدة الدول من الخارج، ما صرفه عن إصلاح الدولة، واضطره إلى الإسراف واتباع الوساوس التي
يثيرها في خياله مرتزقة الجواسيس وصنائع الأعداء منهم، حتى صار كل مخلص
للدولة من أهلها يتمنى زواله، ويعتقد أن جميع أنصاره في بلاد الدولة
منافقون أو مأجورون، وجميع أنصاره من الأقطار الأخرى جاهلون، أو مغلوبون
على أمرهم بين آلام من استذلال الأجنبي لهم، وآمال في الدولة الإسلامية المستقلة ,
يكرهون أن ينغصها البحث في عيوبها عليهم.
مقاصد الإنكليز من الترك والعرب والإسلام:
وكان عطف الدولة البريطانية على (الجون ترك) ومساعدتها لهم من دلائل
استخدامها إياهم في سياستها من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، ولكن
سياستها العثمانية كانت موضع الخلاف ومثار الشبهات، فكان بعض رجال الدولة
يرون هذه الدولة صديقة لدولتهم بما كانت تعارض روسية في محاولة فتح
القسطنطينية والاستيلاء على زقاقي البوسفور والدردنيل، وبما كانت تقاوم محمد
علي باشا الكبير وأحفاده في تأسيس مملكة عربية جديدة في مصر، ثم تبين أن هذه
السياسة كانت مبنية على القواعد الآتية:
(1) يجب أن تكون الدولة العثمانية في الأرض كأهل جهنم: لا تموت فيها
ولا تحيا - لا تموت؛ لئلا تحل الروسية محلها من الآستانة، فهو على حد المثل (لا
حبًّا في علي ولكن بغضًا في معاوية) ، ولا تحيا؛ لئلا يعتز بها المسلمون فيحول ذلك
دون مطامعها في استعباد من بقي منهم، وتتعلق آمال مسلمي الهند بالتحرر من
رقهم. وقد هدمت هذه القاعدة بالاتفاق البريطاني الروسي على التوازن في الشرق ,
والبدء باقتسام إيران بجعلها منطقتي نفوذ لهما، ثم بالاتفاق معها ومع فرنسة سنة
1912 على تقسيم الدولة بينهن.
(2) التوسل بإظهارها المساعدة لهذه الدولة إلى اصطناع كثير من رجالها
والاستعانة بالملاحدة منهم على إفساد أمر الخلافة عليها، وبالمتدينين على جعل
الخليفة عضدًا لها، قبل قضاء الملاحدة عليها. وقد ثبت عندنا أن ساسة الإنكليز
قالوا: إن قوة الإسلام في الشرق لا يمكن القضاء عليها إلا بتولي ملاحدة الترك
لأمور دولتهم. وأنها لهذا كانت تعطف عليهم في كل زمان ومكان، حتى إنها لم
تقطع آمالها منهم بتحيز من تحيز من زعمائهم إلى الألمان، ولكنها بعد الحرب
طفقت تصطنع بعض الرجال المتدينين؛ لأن زعماء المتفرنجين صاروا مع أعدائها
عليها.
(3) التوسل بسيادة هذه الدولة على مصر والحجاز وسائر البلاد العربية
إلى إحباط كل سعي لتأسيس دولة عربية جديدة في مصر أو غيرها.
(4) انتهاز الفرص من وراء كل ما ذكر إلى الاستيلاء على مصر فالعراق
فجزيرة العرب، وقد تم لها جل ما كانت تنويه وتقصد قصده حتى القضاء على
خلافة الترك , فقد تعددت الروايات بأنهم هم الذين أقنعوا الكماليين بالإقدام على
إلغائها.
نقف عند هذا الحد من التمهيد للانقلاب , ونعود إلى بيان جهل الذين تصدوا
لإصلاح الدولة وما فعلوه فنقول:
الطور الاستقلالي للانقلاب التركي:
ما زالت الحال في متفرنجة الترك على ما ذكرناه من التقليد الصوري حتى
نبتت فيهم نابتة تلقوا عن أساتذتهم من الإفرنج ما جهله من قبلهم، وهو أن تغيير
حال الدولة، لا يتم ولا يثبت إلا بتغيير حال الأمة، وإن الواجب عليهم أن يجعلوا
هذه الدولة تركية محضة لا بلغتها فقط، فإن كون لغة الدولة العثمانية هي التركية لم
يجعلها تركية محضة، بل هي بعد بضعة قرون من تكوينها مشتركة بين الترك
والعرب والكرد والألبان والروم والأرمن والجركس وغيرهم، وقد جعل لهم
الدستور من الحقوق فيها ما لم يكن لهم. وإنما تكون الدولة تركية محضة إذا كانت
أمتها تركية محضة، وإنما تكون كذلك إذا كانت سائر مقوماتها تركية، وهي
التشريع والتهذيب والتقاليد التاريخية، وهذه المقومات في الدولة العثمانية عربية
محضة؛ لأنها مستمدة من الدين الإسلامي. فتوجهت وجوه هذه النابتة إلى تكوين
أمة تركية جديدة لا تستمد تشريعها ولا تهذيبها ولا تقاليدها من الإسلام , ولكن لا
بأس عندها باستمداده من الإفرنج، وطفقت تبث الدعاية لذلك في مدارس الدولة
وأكثر طلابها من الترك، وفي الجيش أيضًا. وألفوا في ذلك الكتب ونظموا
القصائد والأناشيد , وكانوا في عهد السلطان عبد الحميد يتحامون الدعوة الصريحة
إلى ترك الإسلام والطعن فيه، إلا فيما ينشرونه في أوروبة أو غيرها من البلاد
حتى إذا زالت دولته، وورثت جمعية الاتحاد والترقي نفوذه؛ ظهرت الدعاية
الصريحة , ودخل الانقلاب في طور عملي عاجل.
جمعية الاتحاد والترقي:
لما ظفر السلطان عبد الحميد بمدحت باشا وكبار حزبه وداس دستوره واستبد
بجميع أمور الدولة , وتفرق طلاب الانقلاب في بلاد أوربة وغيرها؛ انحصر همهم
في إسقاطه وإعادة القانون الأساسي، ولما أديل لهم منه بإعادة الدستور وانتخب
النواب لمجلس المبعوثين , ورأوا كثرة نواب الغرب وغيرهم فيه , ورأوا من
معارضتهم فيه ما أثبت لهم أن الدولة ليست تركية محضة، وأن جعل المجلس آلة في
أيديهم للتصرف فيها كما يشاؤون ليس بالخطب السهل - لما رأوا ذلك عزموا
على تنفيذ مقاصدهم بقوة الجيش التي قضوا بها على سلطة عبد الحميد الراسخة،
وكان من أمرهم ما هو معروف , وقد شرحنا ما يتعلق منه بالإسلام في مجلدات المنار
السابقة.
ألفوا الجمعيات واللجان فنشرت الكتب الطاعنة في الإسلام الداعية إلى
استبدال الرابطة التورانية بالإسلامية، ولكنهم كانوا يخافون عاقبة تنفيذ مقاصدهم
حتى إذا تهوَّكوا في الحرب الأوربية الكبرى مع الحلف الجرماني ولاحت لهم
مخايل النصر في أوائل العهد بالحرب , شرعوا في التنفيذ - أعني أنهم شرعوا
في إذابة بدن هذه العجوز العفضاج الشرقية؛ ليلبسوها ثوب تلك المهفهفة الغربية.
كانت عاقبة إصلاح مدحت باشا ورجاله فقد الدولة لبعض من ممالكها،
وتأليف دول منها في أوربة يهددون بمساعدة بعض الدول الكبرى حياتها.
وكانت عاقبة إصلاح جمعية الاتحاد والترقي فقد الدولة لسائر ممالكها في
أوربة وأفريقية وآسية، بل إلى سقوط هذه السلطنة (الإمبراطورية) العظيمة
وزوالها، وكاد الشعب التركي أن يفقد كل سلطة في عقر داره من الأناضول
والآستانة وما جاورها من بقية الرومللي وهو القطعة المعروفة بتراقية الشرقية،
ولكن الله سلم.
قضت الأقدار الربانية بوقوع الشقاق والتنازع بين دول الحلفاء الذين مزقوا
هذه الدولة (بمعاهدة سيفر) شر ممزق , حتى صار بعضهم يساعد الترك على
اليونان الذين توغلوا في بلاد الأناضول وجاسوا خلالها مخربين مدمرين محرقين
هاتكين للأعراض، تجاه مساعدة الآخرين لليونان. وبما سخر الله دولة الروس
البلشفية لمساعدة الترك أيضًا. وبما ارتفع من الصياح في وجه الدولة البريطانية
المتصدية للإجهاز على الدولة من صياح مسلمي الهند وهندوسها وتهديدها بالخروج
عليها - هذه الأقدار وغيرها مكنت الترك المستبسلين من النصر على اليونان
المتهوكين، ثم من عقد صلح شريف مع دول الأحلاف.
تقرر في معاهدة الصلح بلوزان استقلال ما بقى للترك مما أشرنا إليه، وإلغاء
الامتيازات الأجنبية منه، وكان على رأس هؤلاء الغزاة من الترك قائد باسل حازم
اسمه (مصطفى كمال باشا) , ألف عصبة من الضباط الموافقين له في الرأي
ومن غيرهم من كبراء المجلس الوطني , الذي تولى إدارة البلاد في أثناء
الحرب الدفاعية فأطلق على هؤلاء اسم (الكماليين) .
الكماليون:
الكماليون هم الاتحاديون، لا فرق بينهما في المقصد ولا في الوسائل , وإنما
كانوا ينسبون إلى معنى فصاروا ينسبون إلى جثة أو شخص، وهذه النسبة تنافي ما
يتبجحون به من القضاء على نفوذ الأشخاص وسلطتهم وإحلال سلطة الأمة محلها،
فما تغير شيء إلا التسمية التي صارت ممقوتة عند الأمة بما جنته الجمعية عليها -
وإلا رؤساء الزعماء، وأما العاملون بنفوذ الرؤساء في الانقلاب الديني والاجتماعي
فهم هم، وكون كل عمل يعملونه في الحكومة والأمة بالاعتماد على قوة الجيش فهو
هو. وحل اسم حزب الشعب محل اسم جمعية الاتحاد والترقي، واسم مصطفى
كمال باشا وعصمت باشا وغيرهما محل اسم طلعت باشا وجمال باشا والدكتور
ناظم وغيرهم.
بل أقول: قد كنا نظن أن الكماليين ربما يكونون أقل من الاتحاديين جرأة
على التغيير والتبديل المراد بهذا الشعب الذي أتى من طاعته العمياء لرؤسائه، لما
كان للاتحاديين من سوء الخاتمة، فإذا هم أشد منهم جرأة. وسبب الجرأة في
الفريقين واحدة , وهي القبض على أعنة السلطة بالقوة العسكرية، وقد تم هذا
للاتحاديين في عهد الحرب , وهو آخر العهد بهم، ولكن الكماليين نالوه في أول
العهد بسلطتهم ولا نعلم متى يكون آخرها.
سهل عليهم إسقاط نفوذ السلطان محمد وحيد الدين عقب تحرير البلاد
بالانتصار على اليونان؛ لأنه كان مقاومًا لهم باجتهاد منه أخطأ فيه وأحبطه عليه
ظفرهم وخذلانه، كما أشرنا إليه في تعليقنا على الوثائق الرسمية لهذه المقاومة
وتمثلنا بقول الشاعر.
والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
وكانوا كلما ازدادوا تمكنًا من السلطة ينفذون من برنامجهم شيئًا - أعني برنامج
غلاة المتفرنجين الذي أشرنا إليه في صدر هذا المقال - بعد تمهيد قليل، وإلباس
الباطل ثوبًا يشبه الحق بضرب من التأويل، فكانوا يرون أن الشعب التركي
يرضى ويستكين في الداخل، والعالم الإسلامي يهلل ويكبر في الخارج، فجروا في
الميدان إلى آخر الشوط أو إلى مقربة منه. فإن وراء إبطال تعليم الدين بلغته
ترجمة القرآن المجيد , وإلزام الترك بالتعبد بالقرآن التركي الذي ينشئه بعض
رجالهم، وترك القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى على خاتم رسله محمد
النبي العربي بلسان عربي مبين. وما يتبع ذلك من الكفر والضلال.
كانت الخطوة الأولى لإلغاء الخلافة أن وضعوا قانون الدولة الأساسي في
أول سنة 1321 الميلادية , وصرحوا في المادة الأولى منه بأن (السيادة للشعب
بلا قيد ولا شرط) وفي المادة الثانية (باجتماع القوة التنفيذية والقوة التشريعية
في الجمعية الوطنية الكبرى) فلم يبحث معهم أحد: ألا يجب أن تكون السيادة
والسلطة التشريعية مقيدتين بالشريعة الإسلامية التي يدين بها الشعب صاحب
السلطة ربه، ويعتقد أنها مناط سعادة الدنيا والآخرة؟!
أولاً يجب أن يكون بعض أعضاء الجمعية - على الأقل - عارفين بأصول
هذه الشريعة وفروعها , بتلقيها عن أهلها فيشترط ذلك في قانونها؟؟
ربما يكون الناس قد استغنوا عن هذا السؤال بما في المادة السابعة من أن
تنفيذ الأحكام الشرعية خاص بالجمعية الوطنية كسن القوانين وتعديلها، ومن أن
الأحكام الفقهية والحقوقية الموافقة لمعاملات الناس , وحاجيات الزمان والمكان
والآداب تتخذ أساسًا لوضع القوانين والنظم. وإن كان هذا يحتاج إلى البحث فيه
كالذي سبقه , ولكن هذه السلطة المطاعة للجمعية تقتضي إلغاء الخلافة , وإن لم
تذكر في ذلك القانون ألبتة، فلم لم يسأل عنها أحد؟
وكانت الخطوة الثانية أنهم قبل مضي سنتين على وضع هذا القانون وضعوا
قرارًا في الجمعية الوطنية , ونشروه في أول نوفمبر سنة 1923 من التاريخ
الميلادي , صرحوا فيه بتأييد ذلك القانون , وبأنه قد ترتب عليه أن الشعب التركي
يعتبر أن الحكومة التي في الآستانة المستندة على السيادة الشخصية قد زالت
وانتقلت إلى التاريخ انتقالاً أبديًّا من يوم 16 مارس سنة 1920 , وأن الخلافة في
آل عثمان فتنتخب الجمعية الوطنية لها من آل هذا البيت أرشدهم وأصلحهم علمًا
وأخلاقًا. والدولة التركية سناد مقام الخلافة.
وقد تلقى جماهير المسلمين في البلاد التركية وغيرها هذا العمل بالقبول , ولم
ينتقده إلا أفراد منهم كما بيناه في المنار (ج10 م23) بل زعم بعضهم أنه إحياء
لخلافة الراشدين، وتجديد لمجد الدين (!!!) حتى فسره أعلم الناس بمعناه من
أساطين الكماليين؛ إذ كان هو المقترح الأول له مع جماعة من أصحابه في الجمعية
الوطنية وهو الدكتور رضا نور بك , فإنه بعد أيام من وضع القرار مر بالآستانة
في طريقه إلى لوزان؛ إذ كان عضوًا مع عصمت باشا في مؤتمر الصلح، فسأله أحد
محرري الصحف أسئلة في الموضوع أجاب عنها بصراحة، ومما قاله: (من
الحقائق الثابتة أن الأمة التركية لا تعيش في داخل دائرة امتزج فيها الدين بالدنيا) .
ثم صرحت الحكومة بفصل الدولة من الدين، وجعل الحكومة بمعزل من
الخلافة، وسموا عبد المجيد أفندي بن السلطان عبد العزيز خليفة , ثم أقاموا له
حفلة سموها حفلة المبايعة , بأن مر أمامه الكبراء والوجهاء والعلماء مسلمين،
وذهب إلى صلاة الجمعة باحتفال جميل، ولكن لم يقل له أحد: بايعتك على السمع
والطاعة، ولا على السنة والجماعة؛ إذ لا أمر له فيطاع، بل قرروا التصريح
بجعل حكومتهم جمهورية وبفصل الخلافة منها، فهنأ الخليفة رئيسها مصطفى كمال
باشا بها، مقرًّا له عليها، داعيًا لهم بالتوفيق فيها، ولم يسم خليفة إلا بعد إقراره
ورضاه بإبطال مسمى الخلافة وتحليته بلفظها، وماذا فعل غيره من المسلمين؟
ضجت أكثر البلاد الإسلامية لهذه المبايعة بالتهليل والتكبير والفرح والسرور،
وتجاوبت أسلاك البرق من أقطار العالم الإسلامي بتهنئة (الغازي مصطفى كمال
باشا بطل الإسلام) بإحيائه لسنة الخلفاء الراشدين , في إقامة كل من الدولة
والخلافة على أساس الشورى، وبالمبايعة لعبد المجيد أفندي بالخلافة الكبرى
والإمامة العظمى، وتلقيبه بأمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين،
وبالسلطان الأعظم، وبحامي الحرمين الشريفين. وكان أسرع الناس إلى هذه
التهاني وأشدها مبالغة فيها مسلمو الهند , وفي مقدمتهم أعضاء جمعية الخلافة،
وجمعية العلماء، ومسلمو مصر وجمهور الجماعات الراقية فيها كالعلماء ,
وأساتيذ المدارس , والمحامين الشرعيين , والقانونيين وفي مقدمتهم علماء الدين في
الأزهر والمعاهد الملحقة به في الإسكندرية وطنطا وأسيوط وغيرها، اللهم ماعدا
الرؤساء الرسميين كشيخ الجامع الأزهر رئيس هذه المعاهد كلها، ومفتي الديار
المصرية ومن تبعهم. وربما كان في الساكتين من كان سبب سكوتهم العلم ببطلان
هذه المبايعة , وكونها من العبث والاستهزاء بالإسلام وأهله، ولكن لم نسمع لأحد
منهم صوتًا بذلك، وقد كلمت شيخ الأزهر في الأمر وسألته السعي لمنع العلماء من
هذه المبايعة الباطلة فلم يجب. وأردت مخاطبة الملك بذلك وبسوء عاقبته , فلم
يسمح لي رئيس الأمناء بذلك.
نعم كتب في بعض الجرائد شيء من الإنكار على ذلك، بعضه بقلمنا أو
بإيعاز منا، وهو غير ما كتبنا في المنار ثم في جريدة الأهرام بإمضائنا، وبعضه
بإمضاء مستعار وأقله بإمضاء صريح.
كان الكتاب الذين خاضوا في المسألة أزواجًا أربعة:
(1) الذين يقولون: إن هذه البيعة صحيحة شرعًا، وإن اشتراط الحكومة
التركية على الخليفة أن لا يكون له في الدولة أمر ولا نهي - فاسد، ويجب على تلك
الحكومة طاعته. سمعت هذا القول من بعض الأزهريين وقيل لي: إن الذين بايعوه
يرون ذلك ولأجله بايعوا.
(2) الذين يقولون: إن البيعة صحيحة , وإن الخليفة لا يجب أن يكون
صاحب نفوذ ولا أمر ولا نهي بدليل ما فعله سلف هؤلاء الترك , الذين غلبوا الدولة
العباسية على أمرها، بقوة الجند الذي اعتز به بعض خلفائها، فسلبوا منها السلطة
والنفوذ، وكانوا يكرهون الخليفة على ما يطلبونه، وإذا غضبوا عليه يقتلونه، وقد
بلغ من أمر الخليفة في مصر في بعض الأوقات أن صار يعيش من النذور والهبات.
وأكثر هؤلاء من الجاهلين بأحكام الشرع، ولكن أيدهم الشيخ محمد الخضري بك
المفتش في وزارة المعارف , فزعم أنه يكفي في صحة الخلافة أن يكون الخليفة
إمامًا في صلاة الجماعة، ولم يدر أن عبد المجيد أفندي لم يعط هذه الإمامة
أيضًا.
(3) الذين يقولون: إن ما فعلته الحكومة التركية من الفصل بين الدين
والدولة , هو الصواب الموافق لما جرى عليه أحرار الأوربيين من الفصل بين
الكنيسة والحكومة، ومن هؤلاء من صرحوا بوجوب تصريح تلك الحكومة بأنه لا
دين لها ألبتة.
(4) الذين يقولون: إن هذا العمل باطل، وإن هذه البيعة باطلة، وإن
الخلافة بهذا المعنى كخلافة مشايخ الطرق وهي مبتدعة , ليست من الإسلام في
شيء.
فالفريق الأول أيد حكومة أنقرة وهو لا يدري من أمرها ولا من أمر العالم
شيئًا، وأكثر أفراده لم يكونوا يعرفون أحكام الخلافة الشرعية معرفة تامة وإن كانوا
معممين، ومن عرفها منهم فهو لا يعرف وجه انطباقها على النوازل.
والفريق الثاني أيدها بغير علم أيضًا , وإنما قصارى احتجاجه لها أن سلفها
من الترك جنوا على الخلافة العباسية مثل جنايتها على الخلافة العثمانية، وهي
أولى منهم بذلك، وهذا رأي مصطفى كمال وحزبه , كما يعلم من خطبته التي
جعلها مقدمة لهذا العمل، وعلى هذه القاعدة تباح كل جناية وفاحشة ومنكر في العالم؛
لأنه وجد في المتقدمين من فعله، ولا سيما القتل. فإن أحد أولاد آدم قتل أخاه بغيًا
وعدوانًا، فسن القتل لكل قادر عليه، ولكن الباعث لهؤلاء على هذه الأقوال هو هوى
السياسة الذي يفسد كل شيء دخل فيه.
والفريق الثالث أيدها وهو يعلن كُنه ما عملت ويوافقها عليه؛ لأنه غير متدين
ويكره أن تكون الحكومة مقيدة بدين أو منسوبة إليه، لا يخاف في ذلك عذلاً ولا
إنكارًا.
والفريق الرابع هو الذي خطأها على علم بما فعلت، وعلى علم بأحكام الشرع
ومصلحة المسلمين العامة، ولعله لم يصل إلى حكومة أنقرة إلا أسماء معدودة من
أفراد هذا الفريق لقلة من كتب في الجرائد منهم , ولم يكتب أحد فيه ما كتبنا , فقد
بلغت مقالاتنا في المنار وحده أن صارت مصنفًا حافلاً، فلم ندع للذين على رأينا
مجالاً واسعًا للكتابة فيه، وإلا فهم - ولله الحمد - كثيرون.
إلغاء الخلافة والمصالح الإسلامية الكبرى من الدولة:
لهذا كله اعتقد هؤلاء الكماليون أن العالم الإسلامي يؤيدهم في كل ما يعملون:
إما عن جهل , وإما عن هوى وخضوع لسلطة القوي، وأن الفرصة سانحة لإتمام
تنفيذ برنامجهم باستسلام شعبهم الفقير المنهوك لهم، وتأييد العالم الإسلامي إياهم،
إلا من شذ من الأفراد الذين لا تُحْبِطُ العملَ مُعَارَضَتُهُمْ، بل أقول: إنهم أصبحوا لا
يبالون بالعالم الإسلامي رضي أم سخط , إذا كان رضاه أو سخطه لا يؤثر في
الشعب التركي تأثيرًا يحمله على معارضة الحكومة , وقد صرحوا بعدم مبالاتهم به
مطلقًا.
يقول بعض علماء الاجتماع والباحثين في أخلاق الأمم والشعوب: إن الترك
إذا ظفروا بطروا، وإذا غُلِبوا وخُذِلوا استكانوا واستخذوا، فإذا ربحوا في الحرب
يخسرون في الصلح.
فعلى هذا لا يكثر على الكماليين - وقد ربحوا في هذه المرة في الحرب والصلح
معاً - أن ينتفخوا عجبًا وغرورًا، وأن يطمع زعيمهم أن يفعل في الخلافة الإسلامية
فوق ما فعله نابليون الأول في البابوية، وأن يحدث في الشعب التركي أكبر مما
أحدثه بطرس الأكبر أو لينين وتروتسكي في الأمة الروسية، منتهزًا الفرصة
السانحة باضطراب الشرق والغرب من دوار الحرب، مغترًّا بظهور أفراد تمكنوا
بقوة العزيمة أن يتصرفوا بإرادتهم في أرقى أمم الغرب، آمنًا من كل مقاومة من
الداخل، محتقرًا كل معارضة من الخارج - بعد أن اغتيل أحد أعضاء الجمعية
الوطنية اغتيالاً خفيًّا لإظهاره الإنكار على ما تقرر من فصل الخلافة من الدولة -
وبعد أن قضي على الحركة التي ظهرت في الآستانة تجاه الخلافة الاسمية، بنصب
محاكم الاستقلال الممنوحة حق الحكم بالقتل على كل معارض للجمهورية، فسيق
إليها أكبر أصحاب الصحف ومحرريها وغيرهم من قادة الأفكار كلطفي بك نقيب
المحامين. وبعد أن اتهم أحد أركان الدولة الجديدة ورئيس وزارتها السابق رؤوف
بك بالخيانة لزيارته الخليفة عند إلمامه بالآستانة، فنوقش الحساب لدى إخوانه من
أعضاء الشعب في الجمعية الوطنية، حتى آل أمره إلى مغادرة البلاد إلى أوربة
بصفة اختيارية.
بعد هذا كله جمع حزب الشعب أعوانه وأنصاره للخطوة الثالثة، فأجمعوا
أمرهم وهم يمكرون، ووضعوا قرارهم وهم يأتمرون، وأعلنوا إلغاء الخلافة وطرد
الخليفة وعشيرته من المملكة، وإلغاء المصالح والأركان الكبرى للدين وهي التعليم
الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية.
قد مهَّد مصطفى كمال باشا للفصل بين الحكومة الجمهورية والخلافة الإسلامية
بخطبة كتبها له الأستاذ سيد بك الأزميري , الذي هو وكيل (وزير) العدلية
(الحقانية) في حكومته اليوم، كما مهدوا لإلغاء الخلافة بكتاب (خلافت
وحاكميت مليه) الذي لفقه لهم سيد بك هذا , ونشروه في بلاد الترك وغيرها من
الأقطار الإسلامية على نفقة الحكومة التي طبعته , ولم تكتب عليه اسم المؤلف ,
وتولت توزيعه (إدارة الاستخبارات التركية في أنقرة) .
وسيد بك هذا رجل عليم اللسان جريء الجنان ذكي الذهن , اشتغل أولاً
بالعلوم الدينية , ثم تعلم علم الحقوق وصار محاميًا في المحاكم العدلية , ونزع
العمامة ثم انتخب مبعوثًا، واتفق أن التقيت به في الباخرة (إسماعيلية) من بواخر
الشركة الخديوية عندما جرت بنا من ميناء أزمير في رحلتي إلى الآستانة سنة
1923 , وكنت كلما رأيته في الآستانة يسألني عما تم في مشروع الدعوة والإرشاد
مظهرًا الاهتمام به والرغبة في تنفيذه. ثم بلغني أن الاتحاديين استعملوه في وضع
ما يريدون من الصيغ والتوجيهات , والتأويلات لما يريدون التصرف فيه من أمور
الشرع الإسلامي , وأنه هو الذي وضع لهم (قانون العائلة) كما أنه هو الذي نقحه
للكماليين.
وقد رددت على خطبة مصطفى كمال باشا عند نشرها في أواخر المجلد
الثالث والعشرين (ج10 ص772 - 785) , ثم رددت على كتاب (خلافت
وحاكميت ملية) في المجلد الرابع والعشرين (ص692) , وسأعود إلى رد
شبهات أخرى لهم في الخلافة وفي مسائل التعليم الديني والمحاكم الشرعية والأوقاف.
ليس سيد بك وحده هو الذي يعمل للكماليين ما كان يعمل للاتحاديين , بل أوى
إليهم سائر دعاة الانقلاب الديني ودعاة تحويل الترك عن القواعد الإسلامية إلى
القواعد التورانية والإفرنجية: كضياء كوك آلب صاحب ديوان الشعر الذي سموه
(قرآن الترك) وأحمد أغايف، ويوسف أقشورا، وآغا أوغلي أحمد، وحمد
الله صبحي وكذا جلال نوري، فهم الآن يتولون إدارة رحى الانقلاب الديني
والاجتماعي، ولهم من المكانة والحرية في الطعن في الإسلام والصد عن سبيل الله
وابتغائها عوجًا فوق ما كان لهم في عهد الاتحاديين.
وقلما يعرف لأحد من هؤلاء المفسدين نسب صحيح وعرق راسخ في الترك،
ولكن نعلم أن منهم من قذفته البلاد الروسية إلى عاصمة الترك لأجل هذه الأعمال.
وكل من قال للترك: إنني منكم. يعدونه منهم إذا كان يتكلم بلغتهم. وإنما عني
زعماء الاتحاديين فالكماليين بما أشرنا إليه من عمل هؤلاء لأجل سل الشعب
التركي من الإسلام ليكون الانقلاب بتغيير الأمة ما في أنفسها فيدوم. فإنهم علموا
أن ما وجد بقوة خارجية يزول بقوة مثلها معارضة لها وفاقًا لما بيناه في المقدمة
التمهيدية، وأما مراعاة شعور العالم الإسلامي فلا قيمة لها عند هؤلاء , بل يظهر
لنا أنهم وازنوا بين ما لهم من الفائدة السياسية والمادية من عطف العالم الإسلامي
عليهم مع تقيدهم بالإسلام والخلافة التي تمثل حكومته أو هدايته، وبين فوائد
الانطلاق من هذا القيد , فترجح عندهم هذا الانطلاق، وقد خطأهم في هذا الترجيح
العالم الإسلامي والعالم الأوربي , كما علم مما نقلته البرقيات وصحف الأخبار من
آراء العاملين في إلغاء الخلافة، وإننا ننشر نموذجًا منها للاستدلال والاعتبار.
***
تأثير الانقلاب التركي في العالمين
لقد رجفت في الترك الراجفة، وتبعتها الرادفة، فإذا قلوب أهل الشرق واجفة،
وأبصارهم خاشعة، يقولون أئنا لمردودون في الحافرة؟ ذهبت خلافة النبوة،
فانقطع سلك الجامعة الإسلامية، وستبدها الحكومات الضعيفة أو المحمية بددًا،
ويفرقون بها المسلمين طرائق قددًا….
وإذا عيون أهل العرب شاخصة، وأذهانهم حائرة، يتساءلون عن النبأ العظيم،
متعجبين من تهوك الترك المغرورين، مراقبين لما يكون من أمرهم وأمر المسلمين.
لم تبق جريدة من جرائد الشرق والغرب للمسلمين أو الكتابيين أو الوثنيين إلا
وقد استكبرت هذا الخطب جدًّا، وعدته أمرًا إدًّا، وإن سر أقوامًا وساء آخرين،
ولكن كان أغرب أنبائه أنه أحدث هزة في جميع العالم إلا في البلاد التركية التي
فيها حدث وعنها صدر، وهذا دليل على إحداثه بقوة الجندية، وعلى فقد الحرية
من البلاد التركية، كما بيناه آنفًا، فنسبته إلى الشعب التركي باطلة؛ إذ لا يعقل أن
يتجرد شعب من الشعوب في أيام أو أعوام معدودات مما رسخ في نفسه مدة بضع
قرون من عقائد ونظم وأحكام وحكام، توارثت إجلالها الأجيال بعد الأجيال.
إن زعماء هذا الانقلاب يعترفون بأن أدنى شعوب أوربة أرقى من الشعب
التركي في علوم الحقوق وملكات الحكم الديمقراطي , وفي الحرية بأنواعها , ولذلك
يريدون بكل ما عملوا ويعملون اللحاق بالأوربيين في ذلك وفي ثمراته. ولا يزال
أكثر هذه الشعوب عددًا، وأرقاها أحكامًا ونظمًا، وأرسخها في الديمقراطية قدمًا،
راضية بأن يكون رئيس حكومتها عاهلاً وملكًا، وأن يكون حامي الإيمان ورئيس
الكنيسة فيها كالشعب الإنكليزي وكذا الشعب الألماني , الذي فاقه في العلوم
والفنون، وإنما جمهوريته الحادثة عرض من أعراض الخذلان في الحرب، تحافظ
عليه الدولة الظافرة المسيطرة على هذا الشعب، ولم تكن هذه الدولة ولا تلك
كدولة آل عثمان فيما كان لها من النفوذ الديني والدنيوي، لو كانت ذات أمة تحسن
الانتفاع بهذا النفوذ، وتقيده بما شرعه الإسلام من الشورى وسيطرة أهل الحل
والعقد.
ليس من موضوعنا الإطالة في هذه المسألة , ولا ننكر أن الحكم الإسلامي
أقرب إلى الجمهورية منه إلى الملكية المطلقة، وإنما موضوعنا تأثير الانقلاب
التركي في العالم، وإننا نذكر هنا بعض الشواهد على تأثيره في مصر، ونرجئ
الشواهد على تأثيره وآراء غير المصريين فيه إلى جزء آخر.
***
رأي المصريين في الانقلاب التركي
أرسل أفراد كثيرون وجماعات كثيرة برقيات إلى مصطفى كمال باشا يصفونه
فيها بضد ما كانوا وصفوه عند الصدمة الأولى , التي لم يفقهوا المراد منها، فقد
وصفوه الآن بالكفر والإلحاد، وعداوة الإسلام والظلم والطغيان، وقد نصح له
بعضهم بوجوب الرجوع عن غيه وضلاله، وهدده آخرون بما هو جدير بأن
يضحك منه، وكتب كثيرون مقالات في جميع الصحف نختار منها هنا بعض ما
كتبه أشد كتاب المصريين المشهورين تأييدًا للترك ومبالغة في الدعوة إليهم والدفاع
عنهم: الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش - وقد صار أوسعهم بهم علمًا - والأستاذ
أمين بك الرافعي والأستاذ محمد شاكر.
رأي الشيخ شاويش في كمال والكماليين والاتحاديين:
مما كتبه في جريدة الأخبار ثلاث مقالات عنوانها (القنبلة الكمالية) , افتتح
المقالة الأولى وقد نشرت في عدد الأخبار الذي صدر في 3 رجب الموافق 6 مارس
بوصف ما ناله مصطفى كمال باشا من الشهرة والعظمة الإسلامية والعسكرية
والسياسية , بحيث لو مات أو اعتزل شؤون الدولة بعد ختام مؤتمر الصلح؛ لكان
له مقام لا يبلغه زعيم في التاريخ - وهذا رأي قد شارك الشيخ فيه كثير من
المفكرين ثم قال ما نصه:
(لقد كان يمكن أن يكتفي مصطفى كمال في مسألة الخلافة بالنحو الوسط
الذي كان قائمًا لعهد جلالة الخليفة عبد المجيد , ذلك الحل الذي منع الخليفة من
التدخل والاتصال بأمر الدولة التركية السياسي , والذي لم يحدث من الخليفة ولا من
أسرة البيت العثماني ما يدعو إلى تغييره بله محوه.
خرج الخاقان السابق وحيد الدين على النحو المعروف فكتب الغازي إلى ولي
العهد عبد المجيد خان يقترح بيعته بالخلافة، على شريطة ألا يمس شؤون الدولة
السياسية , فلم يلبث عبد المجيد أن قبل البيعة على هذا الشرط , وظل صادقًا لوعده
موفيًا لعهده. حتى لقد أكد الخليفة لي ذات يوم أنه قطع على نفسه ألا يفكر في شيء
من أمور تركيا وأن كل همه أن ينقطع لخدمة الإسلام. ولقد أعرب لي عن
ضرورة إيجاد مجلس للخلافة , تمثل فيه الشعوب الإسلامية؛ ليتمكن بذلك من
إصلاح شؤون المسلمين وترقيتهم ومحاربة البدع والخرافات والضلالات التي
وجدت سبيلها بينهم، وأذهبت ريحهم.
كان يذكر جلالة الخليفة ذلك وهو مطمئن القلب , لا يحلم بما كمن له وراء
آكام أنقرة , فالخليفة كما أعلم يقينًا لم يدر بخلده أن يكيد للجمهورية , ولا أن
يشخص ببصره إلى التدخل في شيء من أمورها , ولكن أبى الله لحكمة يعلمها إلا
أن يتقدم الغازي بما قرره اليوم فيصيب كبد الإسلام بتلك القنبلة القتالة , ويزلزل
صرح الوحدة الإسلامية ذلك الزلزال الشديد.
لقد طمح الغازي ذات يوم أن يكون الخليفة كما علمت عند هبوطي أنقرة , فلم
يمنعه من ذلك سوى خشيته أن يحدث اضطراب داخلي يهدد المملكة قبل تمام
الصلح , لما يعلمه من فرط تعلق الأمة التركية بالبيت العثماني وبالخلافة الإسلامية
فهل تبدلت اليوم ميول الأمة التركية وعواطفها إزاء خليفتها والبيت الذي أورثها هذا
الملك العظيم؟ إن الغازي يعلم - فيما أعتقد - أن خطوته التي خطاها محفوفة
بالأخطار في الداخل. وهذا يفسر لنا ما نشرته التلغرافات العمومية الخصوصية،
من أنه قرر تكثير محاكم الاستقلال ومنحها حتى الحكم بالقتل , وامتدادها حتى فوق
ضفتي البسفور. ولكن هل يغني حذر من قدر؟! إن الأمة التركية - فيما نعلم -
أمة مسلمة ومحاربة , وإذا اعتمد الغازي على بعض اللادينيين ممن حوله فإن في
الضباط من لا يزالون يعتصمون بالإسلام , وينقشون على (قلابقهم) كلمة
(يا غازي يا شهيد [1] ) .
إن الذين يزينون لمصطفى ما فعل إنما هم فئة التتار التي دستها روسيا
القيصرية بين الترك لا لغرض سوى القضاء عليهم، وإفساد أمرهم وقطع ما
يصلهم بالمسلمين.
ذلك النفر من التتار لم يترب تربية إسلامية قط , ولا أثر للروح الإسلامية في
أفئدتهم , ولكنهم مسلمون منبتًا وروسيون روحًا.
جاء هؤلاء المفسدون إلى الآستانة قبل الدستور العثماني , فزينوا للاتحاديين
مسألة العنصرية والتباعد عن الإسلام.
وسوسوا للاتحاديين أن سبب تألب أوربة على تركية إنما هو الإسلام وقيام
الخلافة فيها , ثم أخذوا يزينون لهم أن تعتبر غير البلاد التركية من الإمبراطورية
العثمانية مستعمرات محكومة، وأن يكون للعنصر التركي وحده حق الحكم غير
مشارك. ساقوهم إلى الطورانية، وزينوا لهم أن ذلك يمكنهم من ضم عشرات
الملايين من الأتراك القاطنين في آذربيجان والتركستان إليهم.
كما استدرجوهم إلى محاربة اللغة العربية بعد إذ صارت نحو 70% من اللغة
العثمانية , وإلى استبدال الحروف اللاطينية بالحروف العربية، مع أن اللغة التركية
لم تكتب - فيما نعلم - بغير الحروف العربية منذ دخل الترك في الإسلام.
لم يقف وسواس تلك الطائفة وإفسادها للأمة العثمانية عند هذا الحد , بل
خاضوا في الشريعة ومسألة المرأة , وجرؤوا الترك على الفساد وإعلان الإلحاد.
ولما لها من سعة الاطلاع والدرس , استطاعت أن تسوق ذوي الرأي من الترك ,
وجلهم قليل التحصيل محدود الدراسة , لم تثقفه التربية , ولم تنضجه التجارب , ولم
تفقهه بأمر الدين أو التاريخ مدرسة ولا كتاب.
ولقد كادت تنجح تلك الفئة الضالة في زمن الاتحاديين لولا وجود المرحومين
البرنس سعيد حليم وأنور باشا , فإن امتلاء قلوب هذين الرجلين بالإسلام ووفرة
محصولهما التاريخي , ويقينهما أن سلامة تركية لا تتحقق إلا بارتباطها بالعالم
الإسلامي , وأن عظمتها لا تقوم إلا على دعائم الخلافة , كل ذلك حمل هذين
الرجلين العظيمين على القيام في وجه أولئك الهادمين ومن حذا حذوهم من الترك
الغافلين، ولكن - ذهب الناس وبقي النسناس - فقد حرمت المملكة العثمانية
المصلحين المفكرين , وخلا الجو لذلك النفر من التتار المارقين، فما لبثوا أن
بطشوا بيد مصطفى بطشتهم بالإسلام وبتركية جميعًا. (ثم قال بعد كلام في تعظيم
وقع الخطب وخطره على المسلمين) .
(أما تركية فقد مادت بها أنقرة ميدًا هدم أركان عظمتها وهبط بها في
الدول السياسية إلى ما دون منزلة بلغاريا. فلقد كانت معدودة من الإمبراطوريات لا
بواقعة سقاريا ولا بخرائب أنقرة , ولكن بقيام مقام الخلافة في ربوعها - ذلك المقام
الذي ملك الترك القلوب والأبصار من ثلاثمائة مليون من المسلمين - ذلك المقام الذي
جعل مسلمي الأرض يدخلون في الإمبراطورية التركية , ويدعون سليمًا وغير سليم
لاستلحاق ممالكهم راغبين، فلم يكن يجد هؤلاء في آسيا وإفريقيا الشمالية ما
يضطرهم إلى امتشاق الحسام وسوق الفيالق , بل كانوا يدعون إلى دخولها كما
يدعى الأخ إلى منزل أخيه، ولولا ما كان لبعض أمراء تلك البلاد من المقاومات
التي لم يؤيدها شعوبهم؛ ما وجد الترك في صدر دولتهم - ببركة الخلافة - عقبة ما
في نشر رواق سلطانهم على تلك الممالك.
فقدت تركية اليوم ذلك المقام (مقام الخلافة) , ففقدت بفقده تلك الرابطة
القدسية التي كانت سياجًا لها في أحرج أوقاتها , فهل تستطيع جمهورية مصطفى
كمال اليوم - وهي ذات خمسة ملايين من النفوس - أن تحمي نفسها أمام
مطامع الطامعين بعد إذ حرمت عطف العالم الإسلامي؟) اهـ.
ثم ختم المقال بتهديد الكماليين بانفصال الكرد عنهم , وتألب العنصر التركي
عليهم , وتهديد تركية بالتردي في الحفرة التي حفرها لها سادتها وكبراؤها.
***
القنبلة
رواية الشيخ شاويش عن مصطفى كمال:
ومما قاله في المقالة الثانية التي نشرت في الأخبار بتاريخ 3 شعبان الموافق
9 مارس:
(هبطت أرض أنقرة في السابع عشر من شهر ديسمبر سنة 1922 , وبعد
بضعة أيام ذهبت مع صديق لي من الوزراء إلى دار المجلس الوطني الكبير؛
لزيارة مصطفى كمال باشا , وقد كنت عاهدت نفسي ألا أتكلم معه في أمر الخلافة ,
لما اتصل بي من نيته تجاه البيت الشاهاني قبل ذلك بأيام؛ أي: يوم هبطت
مدينة أزمير , ولكن لم نكد نأخذ مجلسنا في حضرته حتى استقبلني بهذا السؤال. ما
رأيك يا فلان في أمر الخلافة وفصلها عن سياسة الدولة؟ فاستقلته الجواب معتذرًا بأن
في المجلس الوطني الكبير من العلماء وذوي الرأي ما يغنونه عن رأيي , ولكنه أصر
علي إلا أن أبسط له ما لدي من الرأي , ولقد علمت من بعد أنه ما كان يريد
من استفتائي الوقوف على ما حف به ذلك الأمر الخطير من المحاذير والأخطار ,
أو العلم بما جاء في الشريعة من أحكام الخلافة والخلفاء , ولكن كان كل همه أن
يسبر غوري , ويعرف مجرى فكري , ولذلك ألح في سؤالي وأبى إلا أن أصارحه
برأيي , فلما لم أجد بدًّا من القول أجبته أنه (ليس في الإسلام خلافة بلا قوة ,
كما أنه ليس في الإسلام خلافة مستبدة) أجبته بهذه العجالة الوجيزة وكنت أرجو
أن يجد فيها من المعاني والمغازي ما يصدفه عن الاسترسال في المساءلة ,
ولكنه عاد فسألني: إذن بم تفسر ما فعله عبد الحميد وغيره من الخلفاء العثمانيين؟
وإلام تعزو ما أصابوا به الدولة من النكبات والأرزاء؟ أليس أولئك الخلفاء هم
الذين كانوا مصدر شقائنا وبلائنا؟ أو ليسوا هم الذين ساقونا إلى تلك الحرب
الطاحنة , وضاعفوا مصابنا بما أصدروا من فتوى الجهاد وأمثالها؟ فلما فرغ من
أسئلته هذه قلت: إن الخلفاء الذين قاموا في السنوات الدستورية لم تطلق أيديهم في
تدبير البلاد , ولا كانوا مستبدين بأمرهم , بل كانت تجري الأمور في المملكة لا
يحيطون بها علمًا. وكلنا يعلم كيف تقرر إعلان الجهاد , وكيف كانت حادثة البحر
الأسود التي انتهت بإعلان الحرب , وكيف جرد المرحوم السلطان محمد الخامس
من القوة , حتى لقد رأينا الدكتور ناظم بك أحد أركان الاتحاديين يذهب إلى سراي
الخليفة عام 1916؛ لينقص أعطية من فيها من الرجال والنساء , ويفرض لهم من
الرزق مثل ما كانوا يفرضون للعامة والآفاقيين، على أنه إذا كان لهؤلاء الخلفاء
في زمن الدستور شيء من الامتيازات القانونية، فما ذلك إلا لكون الدستور جعلهم
خلفاء على الأصول الرومانية، لا خلفاء وفق الشريعة الإسلامية.
فلما بلغت هذه العبارة تخلّجتْ عينَا الباشا , وأخذه ما يأخذ المستفسر العجل
من الحركات المضطربة , وسألني متخازرًا: وكيف ذلك؟
قلت: ذلك أن الإسلام أنكر الفروق الطائفية وامتياز الطبقات والأفراد بعضها
على بعض في الأحكام والتكاليف الشرعية , بل أقام سائر العوالم البشرية في
مستوى من تكاليفه تتحاذى فيه الأقدام والرؤوس , فلا يمتاز في أحكام دين الإسلام
رجل عن امرأة , ولا أمير عن سوقة , ولا فقيه عن غيره , بل كلهم خاضعون
للقانون السماوي] ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به. ولا
يجد له [2] من دون الله وليًّا ولا نصيرًا [بذلك سوى الإسلام بين الرعاة والرعايا
في سائر الأحكام والتكاليف , فقضى بمجازاة من يعتدون حدود الله بلا تفرقة ولا
تفاوت، فإذا أصاب أمير أو سلطان أو خليفة أي فرد بأذى؛ كان عليه من الجزاء
مثل ما على غيره من عامة الناس، سواء كان ذلك الأذى عدوانًا على نفس أو
جارحة أو عرض أو مال. فليس في دين الإسلام فوق الشرائع والأحكام أمير ولا
خليفة ولا سلطان، ولكن تركية التي قلدت أوربا اقتبست من القوانين الرومانية
قاعدة أن الخلفاء فوق القانون والشرائع , فأصبح الخلفاء بهذا خلفاء رومانيين لا
خلفاء إسلاميين، ولو عقل رجال النهضة الدستورية إذ ذاك؛ لأدركوا ذلك الفرق
البعيد بين دين يقول: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) ويقول:
{إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ} (الأنعام: 57) ويقول:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وبين شرائع قامت في أقوام , كانت
تعبد الملوك والبراطرة , وتعدهم مصدر الاشتراع والحكم , فرفعتهم إلى مستوى
الإله الحق الذي هو وحده يحكم لا معقب لحكمه.
أوجب دين الإسلام طاعة أولي الأمر ولكن على شريطة ألا يأمروا بما يخالف
أوامر الخالق، ثم أبان لنا أنه إذا وقع تنازع بين الراعي والرعية؛ وجب أن
يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله , فلم يبح لأحد مهما بلغ سلطانه وصولته أن
يحكم الناس بما تهواه نفسه وتستطيعه شهوته , حتى لقد أجاز للناس الخروج على
غير العدول الذين لا يقفون عند حدود الله من السلاطين والأمراء مبيحًا لأولي
الأمر مقاتلتهم، بل وقتلهم , ولقد قتلت طائفة من المسلمين اجتهادًا منهم الخليفة عثمان
ابن عفان ومنزلته من الدين وبلاؤه في نصرة الرسول ما نعلم. وكذلك ألزم الناس
علي بن أبي طالب أن يقبل التحكيم عندما رفعت المصاحف على أسنَّة الرماح ,
وطلب خصومه التحاكم إلى كتاب الله , فلم يسعه - وهو يعلم أن ذلك خدعة
منهم دبروها لبلوغ حاجاتهم - لم يسعه إلا أن ينزل على ما طلبوا من الرجوع إلى
كتاب الله؛ ليفصل فيما شجر بينهم , ولم يغنه أن كان خليفة الرسول , وزوج
ابنته , وصاحب الحق في ذلك المقام.
(وبينا نحن كذلك دخل علينا أحد النواب فقال: يا حضرة الباشا إن أعضاء
المجلس قد اختلفوا أمن قيام يقرأ تلغراف الخليفة الذي أرسله بقبول بيعته أم من
جلوس؟ فسأله الباشا: وكم القائلون بالقيام؟ قال النائب: فوق الثمانين. فما لبث
مصطفى أن أقبل علي وقد قطّب غضبًا يسألني: أحكومة شعب هذه التي تريد
قراءة تلغراف الخليفة من قيام؟ فأجبته: (إنه ليس في الشريعة يا حضرة
الغازي ما يوجب القيام ولا يمنعه , وإنما يرجع في أمثال هذه الحالة إلى ما يجري به
العرف والعادة في الناس. وهنا أحس مصطفى باشا عين ما أحسست أننا لا نتفق
أصلاً. فهَمَّ بالوقوف إيذانًا بالانصراف , فخرجت من عنده وأنا أذكر ما قصه علي
صديق لي في برلين خلال الحرب الكبرى أيام كان مصطفى باشا ياورًا لولي
العهد إذ ذاك وحيد الدين أفندي؛ إذ قال له: إن الاتحاديين دعوني ذات يوم للدفاع عن
جبهة العراق فأجبتهم إلى ذلك وكنت أضمر أن أستقل بالعراق , إذا ما أمكنوني من
السلاح والأموال الكافية. قال: ولكنهم - فيما أظن - شعروا بذلك يوم عرضت
عليهم مطالبي. فإنهم بعد إذ تدبروها أعرضوا عن تعييني في ذلك الميدان ,
واستبدلوا بي غيري. فهم الغازي مما دار بيننا كنه رأيي وفكري , ولكنه لم يكتف
بذلك , فلقد أوعز إلى فرقته في المجلس أن تدعوني ذات يوم للاستفتاء
رسميًّا. فجاءني كتاب من أحد أعضاء هذه الفرقة جلال نوري بك لأكون بمركزها في
يوم 2 يناير سنة 1923 , وهنالك جرى ما سأقصه على العالم الإسلامي فيما
يلي، مما يتبين منه جليًّا أن سبب شقاء الترك وتأخرهم لم يكن دين الإسلام , ولا
قيام الخلافة في ديارهم كما يزين لهم التتار الواغلون ويتوهمه الرهط المارقون،
ولكنها الأمراض الاجتماعية والجهالة الفاشية الفاعلة فيهم ما تعجز عنه الأوبئة
القتالة مما سنأتي بعد على شيء من تفصيله.
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز جاويش
(المنار)
إنما بدأنا بإيراد بعض ما كتبه هذا الأستاذ لثلاث:
(1) إنه كتب عن علم وخبرة؛ لأنه عاشر كبار الاتحاديين , وخدمهم بضع
سنين في عاصمة الدولة خدمة سياسية , ثم خدم الكماليين وأحاط خبرًا بنشأتهم وكنه
حالهم.
(2) إنه غير متهم في انتقاد هؤلاء ولا أولئك؛ لأن كلاًّ منهما أكرم مثواه ,
وقلده أعمالاً عظيمة كان يأخذ عليها راتبًا كبيرًا.
(3) العبرة بما كان من الخلاف بيننا وبينه في الاتحاديين في المسألتين
الإسلامية والجنسية , فإننا قد سبقناه إلى معرفة كنه حالهم وما يكيدون للإسلام , وما
يسيئون به إلى الأمة العربية المشاركة لهم في الجنسية العثمانية السياسية , وكتبنا
في ذلك منتقدين وناصحين , فأنكر ذلك علينا الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش ,
وأساء فينا الظن بقدر ما كان يحسنه في الاتحاديين , ورد علينا وطعن فينا، بل كان
خصمًا لكل العرب المستائين من معاملة الاتحاديين، وعونًا لهؤلاء عليهم. ثم ظهر له
أنهم شر مما كنا نقول فيهم. وأكبر وجوه العبرة في هذه المسألة ما نبهت عليه من
قبل , وهو أننا - معشر العرب أو المسلمين أو الشرقيين - لا نزال بعداء عن
العمل المنظم المشترك؛ إذ لا يكاد أحد منا يهتم بأن يبني عمله في خدمة أمته على
اختبار من سبقه من قومه في تمحيص بعض الأمور، بل يعمل كل متصد
للعمل عملاً مستأنفًا , فإذا دمنا على هذا فلا يمكن أن نتقن عملاً ولا أن نرتقي فيه؛
إذ لا يمكن لكل فرد منا أن يحيط علمًا واختبارًا بكل شيء بنفسه، ولو استفاد
المصريون والهنود من اختبارنا السابق , واختبار الشيخ شاويش اللاحق لما
رأيتهم اليوم يطمعون في تحويل مصطفى كمال عن رأيه في الخلافة والدين والدولة.
***
ما هذه العاصفة الهوجاء
أول مقالة للأستاذ الشيخ محمد شاكر في الانقلاب نشرها في المقطم
خليفة يخلع، وخلافة تلغى، وأموال تصادر، وأوقاف تضم إلى أملاك الدولة
وتعليم ديني يمحى، ومحاكم شرعية تغلق، وأسرة عثمانية تطرد من آفاق البلاد،
وتحرم حتى من جنسيتها التركية، فما هذه العاصفة الهوجاء؟ عاصفة الجنون التي
تهب على العالم في مشارق الأرض ومغاربها , من عاصمة الجمهورية التركية
بقرارات الجمعية الوطنية في أنقرة كما تقول جريدة الجورنال الباريسية.
رحم الله زمانًا كنا نعطف فيه على هذه الفئة إبان تمردها على السلطنة
العثمانية , وهي تجالد مجالدة الأبطال؛ لطرد الأعداء من الأناضول، وزحزحة
الحلفاء عن دار الخلافة. والله يشهد أن الذي حدا بنا إلى العطف على هؤلاء
المتمردين , إنما هو الإشفاق على الخلافة العظمى أن تمتد إليها يد المهانة
والاستذلال. وهي البقية الباقية من مجد الإسلام , وعهد النبوة الأولى , وهي
العزاء الوحيد الذي كنا نتعزى به في نكبات الأيام وصروف الليالي {فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: 22) {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
عاصفة جنون هذه التصرفات التي بها دمر المجلس الوطني في عاصمة
الجمهورية التركية مجد السلطنة العثمانية , حتى جردها من تاج الخلافة العظمى
وقد احتملته رؤوس العظماء من آل عثمان أكثر من أربعة قرون.
عاصفة جنون هذه التصرفات التي ألغى بها المجلس الوطني نظامًا كان ولا
يزال من مقومات العالم الإسلامي في تكوينه الحيوي. وأنى لهؤلاء المتمردين على
النظام الديني أن يقتطعوا من مقومات الحياة الإسلامية نظام الخلافة فيقرروا إلغاءه.
حقًّا إن التمرد إذا انتهى بالبطولة استحال إلى العبث بكل نظام يعترضه في
طريقه. فالأبطال من المتمردين ينقلبون مدمرين , إذا لم تقلم أظفارهم هيمنة الأمم والشعوب بقوتها القاهرة. وسوف يرى هؤلاء المدمرون من المتمردين
كيف تقلم الأمم الإسلامية أظافرهم، وكيف يرتدون على أعقابهم خاسرين
أمام العالم الإسلامي حتى من الشعب التركي نفسه {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: 45-47) . {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ} (الأعراف: 99) .
عجيب أمر هؤلاء الذين تسللوا في جنح الظلام إلى كهوف الأناضول , وظلوا
يهتفون باسم الإسلام , حتى حازوا فخار النصر. كيف ارتدوا على أدبارهم ,
يحاربون الإسلام بأسوأ أداة ملكتها أيديهم في أعز عزيز على العالم الإسلامي وهو
نظام الخلافة؟
ما كانت الخلافة يومًا ما نظامًا قوميًّا , تتقاذفه أيدي المتسلطين في الجمعيات
الوطنية , حتى يتسنى لزعماء الجمهورية التركية أن يقرروا إلغاءه.
إنما الخلافة نظام ديني عام لا يحل لرجل يؤمن بالله ورسوله أن يتخلى عن
الاندماج في دائرته المرنة. كذلك كان نظام الخلافة منذ تولاها أمير المؤمنين أبو
بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم. إلى أن تقلدها بالبيعة العامة أمير المؤمنين عبد المجيد بن عبد العزيز {فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 10) .
ماذا تركته حكومة الجمهورية التركية من التقاليد الإسلامية لم تنقضه رأسًا على
عقب بعد خلع الخليفة وإلغاء الخلافة , وهي تضم أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة
وتقرر إلغاء المحاكم الشرعية , وإغلاق معاهد التعليم الديني , وتضع للنظام العائلي
قانونًا يهدم أصول الشريعة الإسلامية في كثير من أحكامه , ويذهب بتلك الفضائل
والآداب التي أفاضها الإسلام على المستمسكين بعروته الوثقى والمستعصمين في
حرز صيانته الحصين؟! {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياً مُّرْشِدًا} (الكهف: 17) .
عاصفة جنون هذه التي هبت على العالم الإسلامي من عاصمة الجمهورية
التركية في نظامه الدولي، ونظامه الحكومي، ونظامه العائلي. ولكنها ستنقشع
بتوفيق الله , وحكمة عظماء الإسلام وقادته المحنكين في مشارق الأرض ومغاربها
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد شاكر
... ... ... ... ... ... ... ... وكيل الجامع الأزهر سابقًا
***
كلمة الأستاذ أمين بك الرافعي
(من مقالة له في جريدة الأخبار بتاريخ 29 رجب الماضي)
يعمل الكماليون بسرعة على تنفيذ قرارهم الطائش بإلغاء الخلافة وعزل
الخليفة، وقد استعملوا في أقوالهم عبارات تدل على غرورهم وجهلهم بعاقبة ما
ارتكبوه ضد الإسلام والمسلمين. فعصمت باشا يزعم في خطبته التي نقلت إلينا
التلغرافات خلاصتها ونشرناها في باب التلغرافات: أن العالم الإسلامي لم يصادق
تركيا إلا لأنها قوية، لا لأنها دولة الخلافة. فهل بعد ذلك جهل وغرور؟!
وقد ذهبوا إلى جلالة الخليفة في ساعة متأخرة من الليل , وأمروه بالجلوس
فوق العرش , وبعد أن تلوا عليه قرار العزل أنزلوه وساروا به في سيارة إلى
الحدود، ومنها إلى سويسرا. فعلوا به ذلك في جنح الظلام؛ لأنهم يعلمون أنهم
يرتكبون جريمة شنيعة , ومن أجل ذلك تراهم أيضًا يعقدون محاكم التفتيش في
جميع أنحاء البلاد , ويخولونها سلطة الحكم بالإعدام؛ ليملؤوا النفوس إرهابًا حتى
لا تثور على قرارهم.
ولكن هل مثل هذه التدابير الإرهابية تحول دون إظهار الاستياء العام من
فعلتهم القبيحة؟
وبهذه المناسبة لا نرى بُدًّا من توجيه نظر علمائنا الأفاضل إلى ضرورة
قيامهم بواجبهم الديني في هذه الحادثة الخطيرة. فقد سبق لهم أن أعلنوا بيعتهم
لجلالة الخليفة , ولما كانت البيعة قائمة بالرغم من قرار أولئك الملحدين الخارجين
على الإسلام , فيجب على العلماء أن يعلنوا ذلك في اجتماع كبير يعقدونه ,
ويبرقون بقراراته إلى حكومة أنقرة؛ لتعلم أن العالم الإسلامي ساخط على أعمالها
المنكرة.
كما نرجو من علمائنا أن يدعوا جلالة الخليفة للحضور إلى مصر ليعيش
وأسرته في بلد إسلامي , ويكون متصلاً بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛
لأن فكرة إبعاده إلى سويسرا لا يقصد منها سوى الحيلولة بينه وبين المسلمين.
وبالجملة! فإن على علماء المسلمين في الظرف العصيب الذي يجتازه الإسلام
الآن فروضًا مقدمة , يجب عليهم أن يقوموا بها بلا توان ولا تردد لدرء الخطر
الذي يتهدد الإسلام والمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين الرافعي
__________
(1) المنار: يا في التركية كإما العربية، والغازي المجاهد الذي يظفر في القتال في سبيل الله والمعنى: أطلب إما شرف لقب الغازي وإما شرف الشهيد وثوابه، وهذا مأخوذ من أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الكفار بقوله: [هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين] أي: الخصلتين والعاقبتين التين تفضلان كل ما سواهما وهما النصر أو الشهاد - والقلبق كمة توضع على الرأس.
(2) وفي جريدة الأخبار (ولن تجد له) وهو غلط.(25/273)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية
لما أراد ملك الحجاز زيارة شرقي الأردن من أطراف البلاد السورية؛ قدم بين
رحلته هذه الرسالة متوهمًا أن يكون حاملاً للحكومة الإنكليزية على العطف عليه بما
يتقرب به إلى أهل فلسطين وينال موافقتهم على المعاهدة العربية، فجاءت هذه
الرسالة حجة لنا عليه وعلى أنصاره، ولو كانوا منصفين أو مخلصين لقلنا: (أقر
الخصم وارتفع النزاع) ولكن كم أقر الخصم قبل هذا بما كان حجة لنا في سائر ما
انتقدنا عليه , ولم يرتفع النزاع بيننا وبين الغارين والمغرورين من أنصاره , وأما
المخلصون فهم يرجعون إلينا آنا بعد آن (والعاقبة للمتقين) وقد نشرت الرسالة في
جرائد لندن فرد عليها (اللورد رجلان) بمقالة شديدة اللهجة في إهانة ملك الحجاز
وأولاده الملوك والأمراء خلاصتها أنهم كانوا أجراء للدولة البريطانية ووفتهم
أجورهم بأكثر مما يستحقه عملهم؛ إذ جعلت حسينًا ملكًا للحجاز وفيصلاً ملكًا في
العراق وعبد الله أميرًا في شرق الأردن … وإننا ننقل ترجمة الرسالة بالعربية عن
المقطم وهذا نصها:
تلغراف خصوصي للمقطم
لندن الإثنين في 31 ديسمبر الساعة 9 صباحًا
تلقت الصحف الكبرى بلندن نداءً بالإنكليزية من جلالة ملك الحجاز , وجه
فيه الخطاب إلى الأمة البريطانية , وقد أرسلت نسخ منه إلى أعضاء مجلس الأعيان
وغيرهم من الكبراء وأصحاب الكلمة النافذة , فرأيت أن أرسل إليكم صورته كما
تلقيناه وهو:
***
إلى الأمة البريطانية الكريمة
من الحسين بن علي
بناءً على ما اشتهر به الشعب البريطاني الكريم من الثبات والنزاهة وهي
الصفات المعروفة لي شخصيًّا , رأيت أن أعرض على ضميره الصادق , وحكمه
السليم آرائي في الحيف الذي أصاب قومي العرب في بلدانهم المختلفة.
لقد لبيت دعوة حكومة جلالة الملك؛ لأني كنت أعتقد أن في دعوتها منافع
مادية وأدبية متبادلة , وهو اعتقاد أعترف بأن الحكومة البريطانية كانت تشاطرني
إياه.
ولم تكن لتلبيتي لهذه الدعوة تنافر ما مع شيء من العواطف القومية أو الدينية،
بدليل ما جاء في منشوراتي الرسمية العديدة , فنهضت مع شعبي بعد نيل ضمانات
تضمن مصالحهم ومستقبلهم , وخضت معهم غمار القتال جنبًا إلى جنب , وكنت
وطيد الإيقان بأننا نحارب في جانب شرف الأمة البريطانية كلها , لا بجانب أفراد
تفصم العرى التي تربطنا زوالهم، ومثل لعيني شرف الأمة البريطانية وشهامتها
وعظمتها , فأقدمت على خوض القتال وأنا ممتلئ ثقة , في حين كانت فيه كفة
الخصم راجحة في كوت الإمارة والقنال والدردنيل وجميع ساحات الحرب في
أوربا , وواصلت اشتراكي وشعبي إلى النهاية وإلى أن تقشعت السحب السوداء
الملبدة , التي كانت تنذر بحرب دينية في الشرق , تكون بعيدة المدى والعواقب،
وضربت المثل الأعلى للعالم في سعة الصدر والتسامح والدفاع عن المبادئ السامية،
فلبى العرب دعوتي في العراق وفلسطين وسورية.
وكان بيدي وثائق الساسة المسؤولين وتصريحاتهم الرسمية والخصوصية التي
فاهوا بها على رؤوس الأشهاد، وكلها مجمع على أن العرب سيفوزون بوحدتهم
واستقلالهم مكافأة على ولائهم، وأن مصائبهم ومحنهم ستزول. وقد وضعوا أقصى
ثقتهم وآمالهم - بعد الله - في شرف الأمة البريطانية. ومما يشهد بذلك ويثبته أيضًا
أنهم أبوا صلحًا منفردًا , يعقد مع العدو الذي عرض عليهم أن ينيلهم استقلالهم،
وقطع لهم المواثيق الرسمية والضمانات المؤكدة؛ وذلك لأن العدو أخذ يشعر
بتأثير الصدمة الشديدة الأدبي والمادي من جراء قتال العرب في جانب بريطانيا
العظمى وحلفائها.
وكان من نتائج هذا الولاء والوفاء تلغراف رسمي ورد من وزير الخارجية
البريطانية يؤكد به وحدة العرب واستقلالهم , وتصميم الحلفاء على تحقيقهما، وأنه
يستحيل أن يعقدوا صلحًا إلا إذا نص في شروطه الأساسية على حرية شعوبنا
واستقلال بلدانهم، وقد أرسل هذا التلغراف باسم حكومة جلالة الملك البريطانية
وأبلغنيه المعتمد البريطاني في جدة يوم 8 فبراير 1918.
فلهذه الأسباب ألفت نظر الأمة البريطانية إلى ما حل بحلفائها العرب , الذين
لا يزالون يعدون أنفسهم حلفاءها على قلة ما في العالم من الحلفاء الحقيقيين اليوم
فقد مزقت وحدتهم وقطعت أوصالها، وتفككت بلدانهم وصارت محتلة، وأخذ العالم
الإسلامي خاصة والسواد الأعظم من قومي يرميانني بتهمة أني بعت بلدانهم
لبريطانيا العظمى وحلفائها , وهي تهمة تكفي لتلطيخ كرامة بيتي وتسويد تاريخه.
وصمة لا يصبر عليها حتى الذين تجردوا من كل معاني الشرف وكرم الشيم [1] ,
ولا أعرف أن العرب ارتكبوا ما يستحقون أن يعاملوا لأجله هذه المعاملة إلا ثقتهم
المطلقة ببريطانيا العظمى , ووفاؤهم لها إن صح أن يعد هذا جناية حقيقية [2] .
فالعرب المدفوعون بآخر شرارة في جوانحهم من الوفاء لحليفتهم العظيمة،
وبما فطر عليه جنسهم من عرفان الجميل والوفاء بالعهود، يرغبون إليَّ أن أبلغ
الشعب البريطاني أنهم لا يبغون بهذه الأقوال أن يباهوا بفعلهم , أو يمنوا بمساعدتهم
أو ينكروا على بريطانيا العظمى حقها في ضمان مصالح شعبها , أو يعارضوا في
صدق وطنية الأمة البريطانية، ولكنهم يرون من الإنصاف أن لا تنحصر هذه
الصفات فيها بل أن تكون في سواها أيضًا، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف
(حب الوطن من الإيمان) [3] فالعرب - والحالة هذه - حائرون كيف يوفقون
بين وطنيتهم ووفائهم وولائهم لحلفائهم.
ولهذا أرغب في أن أصف في رسالتي هذه دهشتي وحالتهم الحاضرة للشعب
البريطاني الكريم؛ لئلا يقع عليهم لوم ما إذا توسلوا بوسائل أخرى إلى درء هذا
الذل العظيم الذي يسود تاريخهم المجيد , غير مكترثين للعواقب مهما كانت، وإلا
انطبق عليهم بحق المثل القائل: (فر من الموت وفي الموت وقع) وهذه أبسط تهمة
يلصقها بهم أعداؤهم؛ إذ يحق لهم أن يخاطبوهم بقولهم: (لو بقيتم كما كنتم قبلاً
لنجوتم من جميع هذه البلايا والرزايا) .
أما الحجاز فقد كان متمتعًا بامتيازاته واستقلاله في الماضي.
ويستحيل الصبر على موقف الأمة العربية في عيون العالم الإسلامي والشرق
عامة , وفي عيونهم أنفسهم وفي مرآة تاريخهم , وأن ينظر إليهم كخونة ظالمين.
إن هذا الموقف الشائن مما يستحيل قبوله والتسليم به.
ولست في ما أقول منذرًا، ولكنني مذكر، فقد كانت شهرة بريطانيا العظمى
أساس عظمتها في الشرق , وهذه الشهرة أعظم نفوذًا من أساطيلها العظيمة وجيوشها
الجرارة، فهي في حاجة عظيمة إلى تجديد مكانتها. أقول ذلك بصراحة العربي
وإخلاصه , وعلى بريطانيا العظمى أن تبدأ بمعاملة العرب الذين حالفوها ووالوها
إلى يومنا هذا مع كل ما طرأ من الطوارئ من اليوم الذي كانت فيه الحرب حقيقة
بادية للعيان إلى أن صارت خفية مستورة. ولا أطيل الكلام في هذا الصدد ولكني
أرجو أن تشرع الأمة البريطانية في أن تلقي عن عاتقها جميع هذه الأعباء، وأن
تنصف العرب حلفاءها الأوفياء، وخير لها أن يكون لها حليف متحد قوي مستقل،
من أن يكون هذا الحليف ممزقًا مقطع الأوصال ذليلاً كما هي حالة العرب الآن،
ولا يعلم إلا الله إلى أين يسوقهم قنوطهم بعد ما طفح الكيل.
أقول ما تقدم مدفوعًا إليه بعامل الإخلاص والوفاء , لما علي من العهود
والواجبات.
... ... ... ... ... ... ... ... البلاط الهاشمي بمكة
... ... ... ... ... ... ... في24 نوفمبر سنة 1923
(المنار)
إن هذا الخطاب يشرح للناس كنه عقل السيد حسين المكي ومبلغه من العلم
والسياسة , فهو صريح في أنه قد أسس سياسته في نصر الإنكليز على الترك على
شفا جرف هار من تخيل ما يسميه (الحسيات النجيبة البريطانية) , وتوهم أن
الإنكليز يعاملون الناس بمقتضى الحس والشعور بالوفاء والنجدة والكرم والإيثارعلى
أنفسهم , والوفاء بوعودهم وعهودهم مضاعفة. وجميع ذوي الإلمام بشؤون العالم
في الشرق والغرب يعلمون أن السياسة ليس فيها عواطف ولا فضائل ولا تقرب إلى
الله تعالى بإسداء المعروف إلى الناس - وأن الإنكليز خاصة أبعد البشر عن بناء أي
عمل من أعمالهم على الشعور والعواطف، وأنهم تجار ماديون قليلو التأثر والشعور ,
ولذلك لقبوا في كل العالم بأصحاب الدم البارد , وأنهم أبعد خلق الله عن الوفاء فيما
لا يعدونه من مصلحتهم التي يفتدون بها مصالح الخلق كله , ولكنهم لبراعتهم في
الرياء الفريسي - كما يصفهم أهل أوربة - يدعون الوفاء بتأويل ما يقع منهم من الغدر
والإخلاف، كتأويل معاوية وعمرو بن العاص لقتل عمار، وقد قال فيهم إمام
السياسة الأوربية ودهقانها في عصره (البرنس بسمارك)
إن الإنكليز أبرع الأمم في التفصي من المعاهدات بالتأويل. ونقول نحن:
إن هذا شأنهم مع الدول العظمى , وأما الضعفاء فإنهم لا يهتمون بتأويل غدرهم
وإخلافهم معهم.
ولنا من سياستهم في مصر والسودان مئات من الأدلة القطعية على ذلك ,
ولكن هذا الرجل لا يعرف من تاريخ مصر المجاورة له - دع تاريخ الهند وغيرها من
البلاد التي ابتليت بالإنكليز. اعترف الزعيم العربي بهذا الأساس الخيالي لسياسته ,
وأنه لم يبال برمي أمته له بالخيانة لثقته بهذه الخيالات , وأنه مصر على ذلك إلى
الآن، فهل يجوز أن يتخذ مثل هذا زعيمًا لشعب أو أمة , وخليفة للرسول الأعظم
على أمته وهو يخالف كتاب الله وسنته في كل خطوة من خطوات سياسته؟
سيقول الجاهلون بالتاريخ الحديث والسذج الذين لا يتفكرون في عواقب
احتلال الأجانب لأخصب البلاد العربية، والطامعين في الاستيلاء على ما بقي
منها وهو مركز القوة الدفاعية: ما بال صاحب المنار يوالي الطعن في الملك حسين
وأولاده دون غيرهم؟ ونقول لهؤلاء: إن الأمر أعظم مما وصلت إليه عقولكم،
وإن خطر هؤلاء على أمتكم أبعد مما تصورته أفكاركم، فانظروا وتفكروا، ثم
انظروا وتفكروا، ثم انظروا وتفكروا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: حكم الشيخ على نفسه.
(2) لا شك إنها من أقبح الجنايات.
(3) هذا ليس بحديث، قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة: لم أقف عليه ومعناه صحيح.(25/300)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب عام للمسلمين
(3)
وجاء في الرسالة المطولة التي أشرنا إليها من قبل ما يأتي:
الحدود
سمع مولانا المنقذ بأن إمام اليمن يحكم بالشرع المنيف , ويقيم الحدود فعمل
شر المنكر ليذكر. فكل من ساء حظه أمسكه المنقذ بتهمة سرقة, يأمر بقطع يده،
أو يده ورجله اعتباطًا، وبدون محاكمة ولا مراعاة لشروط الحد من حرز أو عدالة
للشهود والأمر بدرء الحدود بالشبهات , وإليك إشارة إلى التنفيذ الفظيع.
***
(التنفيذ)
تأخذ الزبانية هذا التعس , فيضعون العضو المأمور ببتره على خشبة،
ويمسكون المسكين كما يمسك العصفور للذبح , ويقوم على رأسه أحدهم شاهرًا
سيفه ممسكًا له بكلتا يديه , فيهوي به إلى ذلك العضو فإن أصاب مَفْصِلاً أبانه وذلك
من رحمة الله بالمسكين , ولكن الغالب أنه يصيب محلاً آخر فوق المَفْصِل أو دونه ,
فتتهشم العظام ولا ينقطع العضو إلا بعد ضربات عديدة يذوق ذلك المنكود الحظ
منها الموت الزؤام مرارًا عديدة، ولذلك لا يسلم من الموت ممن قطعهم ذلك القاطع
إلا نحو العشر، ولا بد أن يقلقوا بصياحهم أهل الحارة التي يكونون فيها. أفهذا حكم
الشرع المنيف؟ حاشى لله ألف ألف مرة. إن الشرائع كلها السماوية والوضعية تتبرأ
من هذه الوحشية السبعية الإبليسية فإنا لله وإنا إليه راجعون. أي جناية على
الدين؟ وأي ازدراء به شر من هذا؟ إن أكبر أعدائنا لا يقدر أن يذمنا وينفر عن ديننا
بمثل ما يصنعه (سيدنا وسيد الجميع) .
***
(السجن الهاشمي)
أخبرنا الثقات من المكيين أن هذا السجن شر من سجن الحجاج؛ ففيه ضروب
من التعذيب , لم يبق لأقلها وجود في منشوريا ولا غيرها - بل هنالك سجنان:
(أحدهما) سجن المجرمين العاديين , وهو بناء كان مخازن للغلال ذات
رواق فبني الرواق , وجعل له باب أو بابان. وهو مع المخازن لا يسع مائة رجل ,
ولكن له رحبة أو حوشًا تسع مائة أو أكثر، وهو ليس لها سقف يقي هاجرة الحر
المحرقة في الصيف وبرد الليل في الشتاء , والمسجونون فيه خمسمائة أو يزيدون
(وثانيهما) القبو وما أدراك ما القبو؟! وهو سجن الذين ينزل عليهم
الغضب الهاشمي كالأستاذ العلامة الشهير أبو بكر خوقير علامة الحنابلة ومفتيهم
الذي كان يتهمه بأنه وهابي. وهو قبو مظلم تحت دار الإمارة له منفذ ودرج - بل
درك - للنزول إلى أسفله , وأرضه رطبة عفنة كثيرة الحشرات والغازات السامة ,
قلما يعيش أحد فيه عدة أيام , وليس له نوافذ غير مدخله، فلا يدخله نور الشمس
المطهر ولا الهواء المنقي للهواء من الأبخرة السامة , وليس فيه مرحاض ولا مكان
للطهارة.
ومن ضروب الفظاعة المشتملة على عدة محرمات أن زبانيته يسلكون الآحاد
والعشرات من المسجونين في سلسلة واحدة من الحديد آناء الليل والنهار , فكلما
ذهب واحد لقضاء حاجته جرهم كلهم معه , ويؤيد هذا ما كتبه ذلك العالم الفاضل
من جزائر الهند الشرقية في مذكرته المذكورة آنفًا وهو:
(ومما اختصت به مكة - صانها الله تعالى دون سائر الأرض - أن
العقوبات تجري فيها بمنتهى الوحشية استبدادًا , ولو رأى أحد المنصفين السجن
بمكة لبكى الدم حنانًا على من أوقعه نحس الطالع فيه , فإن أكثره لا سقف له يقي
من تلك الشمس المحرقة نهارًا والبرد القارص في أيامه ليلاً , وهو محل قذر للغاية
وضيق لا يتسع لأكثر من 70 شخصًا , وقد حشروا فيه نحو ألف إنسان والحكومة
لا تعطيهم طعامًا , وكثير منهم يموتون جوعًا , وقل أسبوع لا تحدث فيه حوادث
من هذا القبيل , ومن أرسل له أهله قوتًا؛ تخاطفه عليه الجياع، هذا إن سلم من حراس السجن فإن لهم حتمًا أطايبه , ومن مات يبقى بين من هم هناك نحو
يومين حتى تفوح رائحته لشدة الحرارة وكثرة التحلل من الجيفة بسببها , وبذلك
يحصل الإذن من الذات المقدسة بالدفن , وليس لمن في السجن محل للغسل ولا لهم
بيت للراحة إلا محلاًّ واحدًا يؤمه ألف شخص…
ومن رحمة سيدنا المنقذ أنه يطوق بعض رعاياه المحكوم عليهم بالسجن
بأطواق من الحديد , ويعلق فيها من القلل ما تنوء بحمله العصبة أولو القوة , وينظم
الخمسة إلى العشرة في سلسلة واحدة. إلى ما أخاف أن لا يصدقني القارئ إن ذكرته
من الفلكة الهاشمية والقبو , وما ضاهى ذلك مما لم يتفطن له الحجاج ولا نيرون ولا
نمرود، ولا وسوس لهم به إبليس، فليبحث عن هذا من يحب معرفة الحقيقة)
اهـ وفيه خطأ بتقدير ما يسع السجن وعدد المسجونين , والصواب ما قلناه ومسألة
القلل لم تبلغنا عن غيره.
***
(ظلمه للأشراف)
اختارت الدولة العثمانية بطنين من بطون شرفاء مكة لإمارتها تولي واحدًا من
هؤلاء مرة، وواحدًا من الآخرين مرة - فأوقعت به التعادي والتنافس بينهما،
وأغرتهما باحتكار الجاه والرفاهة دون سائر الشرفاء الذين أصبحوا في دركة من
الجهل والفقر، تحول دون كل مطمع في نباهة الذكر. وكان الملك حسين من أشد
من ولي الإمارة بغضًا في البطن الآخر، ولا سيما آل الشريف عبد المطلب الشهير،
فهو يتصرف في أملاكهم وأوقافهم كما يشاء. وقد أشرنا إلى ذلك في الشاهد
العاشر من شواهد المالية في الحجاز.
وقد كان نفر من كبار هؤلاء الشرفاء يقيمون في الآستانة مكرمين منعمين بما
تجريه الدولة العثمانية عليهم من الرواتب الكافية , وقد منعتهم دولة الجمهورية من
ذلك , فأمسوا في أسوأ حال، وتعذر عليهم السكنى في الآستانة وفي غيرها , ولم يعد
يسعهم إلا وطنهم (مكة) ولهم فيه أملاك وأوقاف، ولكن رئيس أسرتهم وملك
العرب ومنقذهم، لا يأذن لهم بالعودة إلى بلدهم، ولا يرسل إليهم شيئًا من حقوقهم،
على أن الذين يعيشون هنالك في أسوأ حال كما أشرنا إلى ذلك في الشاهد العاشر من
شواهد الجناية الثالثة , وهم أحق من سائر العرب بما يدعيه من إنقاذهم وإسعادهم.
ومن لا يصل رحمه ولا يغار على شرف أهله؛ فكيف يصدق بدعوى الغيرة على
غيرهم؟
وقد ختم ذلك العالم الجنوبي مذكرته بوصف حالهم وهذا نص ما كتبه:
(ولو أردت أن أكتب ما عرفته من فضائح جمرك جدة لأضجرت القارئ ,
ولكني أختم مقالي بالإشارة إلى حالة أشراف الحجاز الذي ينتمي إليهم مولانا المنقذ ,
فإنهم في أحط الحالات دينًا ومعاشًا , وكل ذلك سببه الآن أعمال هذا المنقذ، فإن سلفه
قد تعمد وحتم بقاء سائر الأشراف إلا قرابته الأدنين على شر حالات البداوة جهالة،
وقذارة , وغباوة، وبعدًا عن العلم والمعارف؛ لئلا يشاركوه في أمور الإمارة،
وليتسنى له الاختصاص بالظلم ليشبع نفسه الأمارة. وقد زاد (منقذنا) على هذا
بأن عمد إلى مكاسبهم , فوضع عليهم إتاوات ثقيلة , ثم فرض مناصفة ما تنتجه
زروعهم من قصب وحشيش يحملونه ويسلمونه مجانًا للإسطبل الهاشمي , وما بقي
لهم يدفعون عليه إتاوة دخولية تستغرق جل الثمن , وقد كانوا يكسبون من كراء
جمالهم , أما الآن فقد مر بك ما يختص بالجيب أو الجراب العلي الشأن , وذلك
مما يؤخذ من كرى الجمال أكثره , فلا يبقى لصاحب البعير إلا ما يكفي أكل الجمل
بشرط أنه هو وعياله يجوعون أو يقتل الجمل جوعًا؛ ليسد رمقه ورمق عياله ,
ولذلك صار الجمالة يستجدون الحجاج في محلات الأمن وينهبونهم في خارجها؛ إذ
لم يبق لهم إلا تلقيهم بعر الجمال برؤوسهم , إذ يسوقونها والكرى الصافي
(لسيدهم وسيد الجميع) .
ويكفي أن أقول: إن الأشراف عدد عديد وجلهم أمي , ومن يكتب ويقرأ منهم
فكتابتهم ضعيفة كأنها العبرانية، ولا أرى الباحث يجد منهم من يخرجه عن حكم
الأمية إن أنصف، فضلاً عن أن يجد منهم عالمًا أو عارفًا بأحوال الوقت، وقد
عرفت بعض الأشراف , وخضت معه فحاول إرسال أولاده إلى مصر ليتعلموا،
فمنعهم من ذلك (مولانا المنقذ) وقال: إن أعلى مدارس الدنيا تلك الكتاتيب القذرة
التي يقيمها بمكة لذر الرماد (هكذا وهكذا وإلا فلا لا) .
***
الجناية الرابعة
معاملته للحجاج وسلب أموالهم
نحمد الله تعالى أن وفقنا لقول الصدق، والتزام الحق، ومنه أن صرحنا
مرارًا بما ثبت عندنا من عناية الملك حسين بأمر الحجاج ما استطاع , مع مراعاة
غاية الدقة واللطف فيما يناله منهم من المنفعة , وسبب هذا ظاهر، وهو أن جاهه
وكرامته وثروته رهينة بتسهيل الحج وإرضاء الحجاج، ولكن تسمية نفسه بملك
العرب وسعيه الدائم لصدق التسمية اقتضيا منعه أهل نجد من إرسال ركب للحج.
كما أن سخط مسلمي الهند عليه وطعنهم في سياسته البريطانية حملاه على إيذاء
حجاجهم , كما روته مجلة الجامعة الهندية المشهورة وغيرها. وحاجته إلى الدراهم
الكثيرة لجعل الحجاز دولة عسكرية مستعدة لإخضاع الإمارات المجاورة له في
نجد واليمن وتهامة , وجعلها تابعة له (كما علم من كلامه في الوحدة العربية الذي
نقلناه في الوثيقة الخامسة) حملته على زيادة ما يأخذه على نقل الحجاج من مكان
إلى آخر، وعلى فرض ضرائب جديدة لا تحل له شرعًا وهي أنواع:
(الضرائب على الحجاج)
(1) قد فرض على كل حاج ضريبة لا يؤذن له بدخول الحجاز إلا إذا
أداها لعماله , وعند النزول في ثغر جدة أو غيره إلا أن يكون قد دفعها لوكيله في
القطر المصري , ووقع له على جواز السفر باستيفائها منه , وهذه الضريبة جنيه
إنكليزي على من يجيء من الجنوب كأهل الهند وجاوه وغيرهم , ونصف جنيه
على من يجيء من الشمال: كمصر وغيرها أو تزيد فهو يجبي منها مئات الألوف
من الجنيهات في كل سنة.
(2) قد فرض على كل الحجاج ضريبة أخرى برسم الحجر الصحي , ولها
شروط مخصوصة مُدوَّنة بأوراق رسمية.
(3) قد فرض عليهم ضريبة ثالثة , يؤديها كل خارج من جدة قبل خروجه
باسم الشهادة الطبية , وقدرها ريالان مجيديان أو 30 قرشًا مصريًّا صحيحًا،
ويعطى بها ورقة رسمية.
هذه الضرائب تعد في أحكام الشرع من أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه
بنص القرآن، وأخذها من الحجاج يعد من الإلحاد في الحرم بالظلم , وهي أولى
بذلك مما ورد في الأحاديث المرفوعة والموقوفة في تفسير {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ
بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) كالاحتكار وتجارة الأمير , وقد تقدم -
وتعد أيضًا من الصدِّ عن المسجد الحرام , فإن من الفقراء من لا يستطيع دفعها على
أن بعض الفقهاء قالوا: بسقوط الحج عمن تصادر أمواله بسببه.
ولأجل انتفاع الملك من هذه الضرائب أسس محجرًا صحيًّا , يُكْرَه الحجاج
على الدخول فيه ولا يعتد بدخولهم قبله في المحجر المصري , في الطور من جهة
الشمال والمحجر البريطاني في قمران من جهة الجنوب , مع العلم بأنه عاجز عن
إتقان محجره كإتقانهما. هذا إذا فرضنا أنه فوض أمر محجره إلى أطباء ثقات , ولم
يكن له رأي ولا أمر في أعمالهم الفنية المحضة، أما إذا كان المحجر يدار برأيه
فهنالك البلاء المبين، إذ يخشى أن يمنع بعض الأدوية المتفق عليها بين الأطباء ,
ويستبدل بها بعض مجرباته أو ماء زمزم الذي صرح في جريدته (القبلة) بأنه شفاء
من كل داء , وإن كان مشوبًا بقذر المصابين بالهيضة الوبائية , وأمثالها من
الأمراض التي أجمع أطباء هذا العصر من مسلمي جميع الشعوب ومن غيرهم على
أنها معدية، وأن أسباب العدوى فيها ثابتة بالتجربة وبالمشاهدة بالمناظر المكبرة.
ثم إنه لأجل هذه المنافع المالية بينه وبين الدولة البريطانية قد وضعا لها مواد
في مشروع المعاهدة البريطانية الحجازية أو العربية ليتقاسما المنفعة، على ما في
هذا العمل من التضييق على الحجاج وتنفيرهم من الحج، وقد بينا في تعليقنا على
هذه المواد ما فيها من الضرر على الحجاج , والدلالة على كون الحجاز تحت سيادة
الإنكليز.
(أجور نقل الحجاج)
(1) جعل أجرة الجمل بين الحرمين الشريفين أربعة عشر جنيهًا إنكليزيًّا
وريالين مجيديين , يأخذ هو نصفها أو أكثرها والباقي لصاحب الجمل ولسائقه ولمن
يتبعهما في خدمة الحجاج كالمطوف. وهو يساوم أصحاب الجمال , فمن كان منهم
بليدًا جبانًا يأخذ منه أكثر مما يأخذه من الجريء المجادل.
وهو يأخذ على كل جمل ينقل الحجاج من جدة إلى مكة والعكس، ومن مكة إلى
عرفة والعكس نصف جنيه مصري أو أكثر - فهو بهذا يأخذ من كل حاج جنيهين
من هذا الباب وحده , وذلك أنه جعل أجرة الجمل جنيهًا يأخذ صاحبه ربعه في
الغالب والباقي للملك، وإن من الحجاج من يحتاج كل واحد منهم إلى جمل خاص
لأجل حمل زاده ومتاعه , فإن حجاج جاوه يحملون كل ما يحتاجون إليه من الزاد
من بلادهم. ولحجاج جاوه معاملة خاصة؛ وذلك أن لهم بمكة مطوفين يسمون مشايخ
الجاوه , وهم يتولون خدمتهم في مسكنهم وتنقلهم , وكان الشريف أو الملك قد جعل
لهم على كل حاج ثلاثة جنيهات ونصف إنكليزية , يأخذ منها لنفسه جنيهًا واحدًا ,
وقد سمح لهم منذ سنتين بأخذ أربعة جنيهات ونصف من كل حاج على أن يكون له
اثنين منها , وقد بلغ حجاجهم في الموسم الماضي 35 ألفًا.
ولولا مقاسمته لأصحاب الجمال لأمكنه جعل أجور نقل الحجاج رخيصة جدًّا،
ولكن هذه شنشنة قديمة له ولسلفه وما هي بالجديدة.
(الأمن في الحجاز)
هو والحق يقال يعنى بحفظ الأمن في المنطقة التي ينفذ حكمه فيها من جدة
إلى مكة إلى عرفات , ولكن لا نفوذ له ولا سلطان على الأعراب بين الحرمين
الشريفين، وإنما الوسيلة لتأمين الطرق هنالك واحدة , وهي بذل مبالغ معينة من المال
لهم بدلاً مما كانوا يأخذونه من الدولة العثمانية والحكومة المصرية.
وقد كان الشريف وعدهم عند دعوتهم إلى الثورة والخروج معه على الدولة
بأنه يعطيهم تلك المخصصات مضاعفة , وكانت الأموال الإنكليزية في مدة الحرب
تغدق عليه إغداقًا , فكان يفيض عليهم منها ويرضيهم، ثم أعطى قليلاً وأكدى - أي:
منع الباقي - وهم يعلمون أنه أخذ باسم ثورتهم عشرات الملايين من تلك الجنيهات،
وأنه ما زال يأخذ الأموال من الحكومة المصرية، وأنه يأخذ أكثر أجور نقل
الحجاج بغير حق، فلم يجدوا بدًّا من مطالبة الحجاج ببعض نصيبهم من ذلك وبيان
سببه لهم , وقد بلغنا أنهم كانوا في الموسم الأخير (سنة 1341) يعطون الحجاج
سندات بما أخذوا منهم , ويحولونهم به على الملك حسين ليدفعه لهم من الأموال
المستحقة لهم عنده بحسب الاتفاق معه المبني على التعامل السابق، وهم يرون أن
أخذ المال منهم كأخذه منه؛ إذ كان من الواجب عليه المحافظة على أموال الحجاج
وأنفسهم، وضمان ما يؤخذ منهم - وهو قد أعلن في جريدته أنه يعطي ذلك , ولكنه
أوعز إلى المطوفين بأن ينصحوا لمن أخذ منهم المال , بأن يتعففوا عن تكليف
الملك دفعه، فكان نصحهم مقبولاً.
كان الزوار في الموسم الماضي يدفعون لكل قبيلة ما تطلبه منهم , وأقله
ريالان مجيديان , وهو ما كان يأخذه بنو عوف الذين لم يكن لهم مرتبات على الدولة ,
وأما أصحاب المرتبات الرسمية كقبائل الأحامدة فقد كانوا يأخذون من كل حاج
من 20 - 25 ريالاً مجيديًّا , ومن حجاج إيران خاصة ستين ريالاً مجيديًّا , وقد
كان من جملة الزائرات الأميرة الأفغانية زوجة الأمير عبد الرحمن خان جد أمير
الأفغان لهذا العهد، وقد أوقفها الأحامدة في الطريق أيامًا حتى افتداها جلالة الملك
المنقذ حامي الحرمين الشريفين بألفي جنيه وخمسمائة جنيه أرسلها إليهم من مكة ,
ولابد أن تكون الأميرة قد أعادتها إليه مع الهدايا اللائقة.
هذا ما كنا كتبناه منذ بضعة أشهر مما جاءنا عن موسم سنة 1341، وتريثنا في
نشره، وقد حدث في أثناء العام انتحاله لمنصب الخلافة فصار خطره أشد،
والسعي لتلافيه أوجب، ونبين ذلك بالإجمال فنقول:
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(25/305)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحريم المسلمة على الكتابي
(بقية ما في ص 222 من ج3م25)
دين الله على ألسنة رسله واحد , وما الإسلام إلا إصلاح وتكميل للشريعة
الموسوية الشديدة الوطأة , الخاصة بشعب واحد في تاريخ خاص، وتكميل للآداب
المسيحية الشديدة المبالغة في الفضيلة , لما كان عليه الروم واليهود من المبالغة في
الطمع والشهوات، فأجدر بأهل الكتاب إذا عرفوا الإسلام حق المعرفة بمعاملته
إياهم بالعدل والحرية والألفة، أن يعرفوا بفهمهم له أنه هو دين أنبيائهم الذي نسوا
حظًّا منه وحرّفوا شيئًا منه، وأن الله تعالى أكمله لهم بحسب سنته تعالى في الترقي
الإنساني كما بشّروهم به. ففي الإنجيل أن المسيح عليه السلام صرح بأنه لا
يستطيع أن يقول لهم كل شيء لعدم استعدادهم وعدم حرية حكومتهم، ولكن
سيأتي بعده روح الحق الذي يقول لهم كل شيء؛ أي: لظهوره في أمة حرة ولإعداد
الله الأمم كلها لاستقلال الفكر. وكذلك فعل غير المتعصبين الموثقين بالتقليد، وقد
آمن بهذه المعاملة ألوف الألوف من المستقلين الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) الآية , ولو أن
المسلمين يدعون إليه في شعوب الإفرنج دعوة صحيحة تؤيدها أفعالهم وأخلاقهم -
لدخل الناس فيه أفواجًا لشدة الحاجة إلى الدين المعقول الذي يتفق مع العمران في
هذا العصر , بعد ظهور مفاسد التعاليم المادية، ولقوة استقلال أفكار تلك الشعوب
الغربية.
ولو أعطي مشركو العرب هذه الحرية , وعوملوا هذه المعاملة؛ لبقيت عبادة
الأصنام سائدة في جزيرة العرب كلها، وفي مكة نفسها. ونتيجة ما شرحناه أن
التسوية بين المشركين وأهل الكتاب باطلة لا تصح بحال، ويترتب عليه أن ما ورد
في المشركين من النصوص لا يجري على أهل الكتاب بذلك النص بل يحتاج
إجراؤه عليهم إلى دليل آخر.
وما نقل مخالفًا لهذا التحقيق من بعض الآثار أو أقوال العلماء؛ فهو إما خاص
بأناس بأعيانهم، أو تساهل في إطلاق الخاص على العام فيما يرى المطلق له أن
الحكم في العام والخاص واحد، وقد يكون مخطئًا في ذلك وقد يكون مصيبًا.
***
حكم الزوجية مع اختلاف الدار والدين
بقي ادعاء المنتقد أن آية الممتحنة {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ
وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} (الممتحنة: 10) نص أصولي في المسألة , وهي قد نزلت
عقب صلح الحديبية في النساء المؤمنات اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى
دار الإسلام والهجرة , وطلبهن أزواجهن، نهى الله تعالى عن إرجاعهن إلى الكفار
في دار الشرك , عملاً بما اشترطوه في الصلح من إرجاع من يجيء النبي صلى
الله عليه وسلم منهم مسلمًا. تخصيصًا لعموم الشرط بجعله للرجال المحاربين،
وسورة الممتحنة نزلت بعد سورة البقرة التي حرمت المؤمنات على المشركين ,
فهي في واقعة معينة مع المشركين سبق فيها نص قطعي , فبنيت عليه. فالمراد
بالكفار فيها المشركون بدليل نزولها في واقعة معهم , وسبق بيان حكم الله تعالى في
تحريم مناكحتهم , بعد أن كانت مباحة قبل نزول التحريم في المدينة.
والأصل في وقائع الأعيان أنها لا عموم لها , فإن تسامحنا وقلنا بجواز
عمومها، فلا يمكن أن نقول: إنه نص أصولي قطعي , والاحتمال قائم وقد صرح
المفسرون بنزولها في المشركين خاصة , وهو مروي عن مجاهد كما في صحيح
البخاري , وقد اختلف الفقهاء في الموجب لفرقة المرأة من زوجها في مثل هذه
الحالة , هل هو إسلامها أو هجرتها؟ فقال أبو حنيفة ومن وافقه: هو اختلاف
الدارين؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين المرأة التي تسلم وبين
زوجها المشرك في الدار الواحدة كمكة , وقد أطال الإمام الجصاص الحنفي في
ترجيح هذا القول في تفسير الآية من كتابه (أحكام القرآن) , وقال الجمهور: إن
الموجب لذلك الإيمان، قال ابن العربي بعد ذكر هذا الحكم في كتابه أحكام القرآن:
(المسألة التاسعة) {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة: 10) يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن , لما ثبت من تحريم نكاح
المشركة والمعتدة , فعاد جواز النكاح إلى حالة الإيمان ضرورة.
(المسألة العاشرة) قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10)
هذا بيان لامتناع نكاح المشركة من جملة الكوافر , وهو تفسيره والمراد به. قال
أهل التفسير: أمر الله تعالى من كان له زوجة مشركة أن يطلقها , وقد كان الكفار
يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون الكافرات , ثم نسخ الله ذلك في هذه الآية
وغيرها اهـ المراد منه.
فهذا المفسر المحقق القائل بأن علة التحريم إيمان المرأة يقول: إن الآية
خاصة بنكاح المشركة من جملة الكوافر , ومثله قول البيضاوي في تفسير {وَلاَ
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) قال: (والمراد نهي المؤمنين عن
المقام على نكاح المشركات) والأول أصرح في التخصيص , وكل منهما يؤيد قولنا:
إن كلمة الكفار والكوافر لا عموم لها هنا , وإنما هي خاصة بأهل الشرك من الكفار.
فإن ساغ لنا أن نرد هذا القول فلا يمكن أن نعلل الرد بأن العموم فيها نص
أصولي لا يحتمل غير هذا المعنى , ويؤيد هذا ما أقره المنتقد من الروايات في
الاستدلال على تحريم المسلمة على الكتابي بالسنة , فكانت حجة عليه لا له وهي:
(1) ما رواه البخاري عن ابن عمر من تحريم النصرانية وتعليله بأنها
مشركة , وقد تقدم أنه أثر شاذ مخالف لإجماع الصحابة ونص آية المائدة، وقد
صرح بهذا القسطلاني وغيره من شراح البخاري , وذكروا في رده أيضًا أن بعض
السلف قالوا: إن المراد بالمشركات في آية البقرة عبدة الأوثان , وقول من قال من
العلماء: إن الذين قالوا من اليهود والنصارى: العزير ابن الله والمسيح ابن الله
طائفتان منهما لا كلهم. فهل يدخل عند المنتقد في مفهوم السنة رأي شاذ لصحابي
أجمع السلف والخلف من أهل السنة على رفضه وغلطه في تأوله الآية له؟ ؟
(2) ما رواه البخاري في باب: (نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن)
عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين - كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا
يقاتلهم ولا يقاتلونه.. (قال المنتقد) : فلم يذكر ابن عباس قسمًا ثالثًا للمشركين فدل
على أن أهل الكتاب منهم.
ونقول: إن ابن عباس لم يذكر قسمًا ثالثًا؛ لأن أهل الكتاب ليسوا من صنف
المشركين وإلا لجعلهم ثلاثة أقسام , الثالث: أهل الذمة الذين أقرهم صلى الله عليه
وسلم على دينهم , وعقد بينه وبين من يجاوره منهم اتفاقًا معروفًا في كتب الحديث
والسير , فليراجعه في الهدي النبوي؛ ليعلم الفرق بين معاملته لهم ومعاملته
للمشركين.
(3) ما ذكره البخاري عن ابن عباس تعليقًا لا مسندًا , كما توهم المنتقد في
(باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي) وهو حجة عليه
بعطف النصرانية على المشركة , فإن العطف يقتضي المغايرة.
وأما المسألة أو المسائل التي أورد البخاري هذه الآثار فيها فهي ما تقدم آنفًا
في الكلام على آية الممتحنة من الخلاف في المسلمة إذا هاجرت من دار الحرب إلى
دار الإسلام , هل ينقطع نكاحها إذا كانت متزوجة حالاً أو بعد انقضاء العدة , أو
يستمر إلى ما بعد ذلك بحيث إذا أسلم زوجها وهاجر تحل له بالنكاح الأول؟ وهل
الانقطاع باختلاف دار الحرب أم باختلاف الدين؟ ويتبعها ما هو أعم منها وهو
الحكم في إسلام المرأة قبل زوجها ولو في دار الإسلام. ومذهب البخاري في هذا
الباب موافق لما نقله عن عطاء ومجاهد من كون انقطاع النكاح باختلاف الدين ,
وهو قد نقل في هذا الباب عن مجاهد , أن آية الممتحنة نزلت في العهد الذي كان
بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة. ولم ينقل المنتقد هذه الجملة عنه
(! !) , ومن أهم ما ورد في السنة في أصل المسألة ما رواه أحمد وأبو داود
والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي
العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد سنتين , وفي رواية ست سنين من إسلامها ,
ولم يحدث عقدًا جديدًا ولا صداقًا - قيل: إن رواية ست سنين هي ما بين إسلامها
وإسلامه , ورواية سنتين ما بين نزول آية التحريم وإسلامه، ويحتمل أن يكون
مرادهم بآية التحريم آية البقرة , وهي لا تنافي قول أهل السير: إنه أسلم قبل صلح
الحديبية. والتحقيق في حكم المسألة - كما قال ابن القيم - أن الكافرة إذا أسلمت
وبقي زوجها كافرًا , يكون نكاحها موقوفًا إلى انقضاء العدة , فإن انقضت العدة ولم
يسلم كان لها أن تتزوج , فإن أحبت انتظاره وأسلم بعد انقضائها كانت زوجته
بالعقد الأول.
وأما ما ذكر في هذه الآثار من تحريم المسلمة على الكتابي فليس من نصوص
الكتاب ولا من نصوص السنة، فهو ليس من موضوع انتقاده علينا؛ إذ لسنا نحل
المسلمة للكتابي، ولو كان إثبات تحريمها عليه مقصورًا على هذه الآثار لكان في
غاية الضعف.
***
أدلة تحريم المسلمة على الكتابي
قلنا في تفسيرنا لقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) ما نصه:
وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا , وسكت هناك عن
تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا - ورضيه الأستاذ الإمام -: إنه على أصل المنع
وأيدوه بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال: إن الأصل الإباحة في الجميع , فجاء
النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظًا لأمر الشرك، وبحل الكتابيات تألفًا
لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم؛
لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة , فإذا هو أحسن معاملتها كان
ذلك دليلاً على أن ما هو عليه من الدين يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأما
تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر فيه هذه الفائدة؛ لأن المرأة أسيرة الرجل ولا سيما في
ملل ليس للنساء فيها من الحقوق مثل ما أعطاهن الإسلام , فقد يصح أن يكون هذا
هو المراد من النصين في السورتين. وإذا قامت بعد ذلك أدلة - من السنة أو الإجماع
أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك - على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة؛
فلها حكمها، لا عملاً بالأصل أو نص الكتاب , بل عملاً بهذه الأدلة اهـ (ص 355
ج2 تفسير) .
ونقول الآن: أما كونه غير عمل بالأصل، فلأن المسلمين كانوا يتزوجون
بالمشركات قبل نزول الآية، وأما كونه غير عمل بالنص، فالمراد به القطعي وهو
موضع الخلاف , وقد بينا وجهه ودفعنا الشبهات عنه , وأما التعليل الذي قلنا إنه يؤيد
السنة والإجماع في تحريم المسلمة على الكتابي فهو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ} (البقرة: 221) وقد بينا في تفسير الآية أنه يتحقق في تزوج الكتابي
بالمسلمة دون تزوج المسلم بالكتابية، فراجعه في محله (ص359 منه) .
ويجوز أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
المُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (النساء: 141) وهو ليس نصًّا قطعيًّا في المسألة لا ظاهرًا
فيها , ولكنه دليل صحيح يثبت الحكم مع عدم معارضته بنص أقوى منه.
وإذا كان المنتقد لا يرضيه من الأدلة على حظر تزويج المسلمة للكتابي السنة
المتبعة وإجماع الأمة , والقياس الجلي المأخوذ من العلة المنصوصة في القرآن، وإن
شئت قلت: وفحوى القرآن وبعض الظواهر العامة. بل يطلب عليه نصًّا أصوليًّا لا
يحتمل التأويل , فهذا التزام لم يلتزمه أحد من السلف ولا من الخلف في شيء من
أحكام الدين العملية , فهذه هيئة الصلاة التي هي عماد الدين , لم ترد في نصوص
القرآن القطعية ولا غير القطعية , فأين النص فيه على أن الصلوات خمس: واحدة
منها ركعتان , وواحدة ثلاث ركعات , والبواقي رباعيات؟ وأين النص فيه على
توحيد الركوع وتثنية السجود؟ وإنما ثبتت هذه الأركان بالسنة والإجماع. والفقهاء
متفقون على أن أحكام الفروع تثبت بالأدلة الظنية , ومرادهم بالفروع ما يتعلق
بالعمل من عبادات ومعاملات لا ما فهمه المنتقد. وقد زاد هذا الرد على ما قدرنا
فعسى أن يكون مقنًعا له , ووفقنا الله تعالى وإياه لاتباع الحق في كل حال.
__________(25/314)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية
إن كل ما قرر في الجمعية الوطنية للجمهورية التركية من إلغاء الخلافة
والمحاكم الشرعية والتعليم الديني والأوقاف قد حف في أثناء المناقشة بتأويلات
وتمويهات , مما لفقه سيد بك وأمثاله لإقناع المتدينين من أعضائها , أو إلزامهم
الحجة بأنه لا ينقض شيئًا من عرى الإسلام ولا يهدم شيئًا من أركانه , وإنما هو
إصلاح لحال الأمة التركية , إذا لم يوافق نصوص الشرع فإنه يوافق مقاصده.
والظاهر أنهم تحروا في انتخاب الأعضاء أن لا يكون فيهم أحد من علماء الشرع
الأعلام، الجامعين بين قوة الإيمان وطلاقة اللسان وجراءة الجنان؛ إذ لم ينقل إلينا
عن أحد منهم دفاع يدل على ذلك.
ولما كانت هذه التأويلات الخادعة مضلة للمسلم الجاهل، وشبهة للمنافق
الضال، ومزلة للمحب الغال، وجب علينا أن نفندها، ونبين الحق الصراح فيها،
كما فندنا بدعة الخلافة الروحانية التي بدأوا خطتهم بها، ونحن لا نكفر شخصًا
معينًا إلا بكفر بواح بإجماع أهل الحق، وإنما نبين الأحكام، ونترك تطبيقها إلى
القارئ.
ورأينا أنه يجب على العالم الإسلامي أن يزداد عطفًا على الشعب التركي
وعناية بأمره ودفاعاته، وأن لا يقصر في الدفاع عن حكومته أيضًا فيما تختلف فيه
مع الأجانب، ولكن من أكبر الجنايات عليه وعلى الإسلام أن يتأولوا لهذه الحكومة
ويواتوها في أي عمل من الأعمال , التي تضعف الدين أو الشرع في هذه الأمة ,
بل من أكبر المحرمات أن يسكتوا لها عن شيء من ذلك , كما كان يفعل أكثرهم من
قبل في الدفاع عن السلطان عبد الحميد ثم عن الاتحاديين الذين تغلبوا عليه وخلعوه ,
فكانوا شرًّا منه، وقد خلفهم الكماليون , فكان الافتتان بهم أشد منه بمن قبلهم، ولم
يلبثوا أن هتكوا الستر فانقلب العالم الإسلامي كله عليهم، وبعد أن أشبعوهم طعنًا
ولعنًا وتكفيرًا عاد بعضهم إلى نوط الآمال بهم، والتأول لهم والرضى منهم بأسماء
يسمونها ما أنزل الله بها من سلطان.
هذا النوع من المحبة والعطف الذي جرى عليه الكثيرون من مسلمي الهند
ومصر وتونس قد أضر الترك ولم ينفعهم. وهو هو الذي أنطق عصمت باشا بأن
العالم الإسلامي لم يكن يعطف على الدولة التركية ويظاهرها؛ لأنها دولة الخلافة بل
لأنها قوية، وقد أنكر الكثيرون هذه الكلمة وعدوها من الغرور، وهو فيها معذور أي
معذور، فإن العالم الإسلامي لم يكن يشعر بخلافة العثمانيين في وقت من الأوقات كما
يشعر بها في عهد السلطان عبد الحميد، ولم يلقب أحد بالخليفة في الجرائد والقصائد
غيره أو مثله، ثم أسقطته جمعية ماسونية إلحادية , ونصبت بعده آخر لم تجعل له
أمرًا ولا نهيًا، فلم تر من العالم الإسلامي إلا مدحًا وإعجابًا، ثم جاءت شيعة الكمالية
فجعلت الحكومة جمهورية، وأزالت سلطة الخلافة من الدولة، ولكنها سخرت من هذا
العالم الإسلامي بتسمية خليفة أخذت عليه العهود والمواثيق بأن لا يكون خليفة،
فرضي، فصفق لها الجماهير، وقالوا: إن هذه خلافة الراشدين! !
ومن العجيب أن بعض المتحككين بالسياسة من المسلمين لا يزالون يحمدون
كل ما تفعله , بشرط أن تحافظ على بعض الألفاظ الإسلامية محافظة رسمية , كأن
تسمي الحكومة الجمهورية التي تعطي جمعيتها الوطنية حق التشريع والتنفيذ بلا
شرط ولا قيد (حكومة الخلافة) - وتسمي إلغاء المحاكم الشرعية توحيدًا للقضاء،
وإبطال المدارس الدينية تنظيمًا للمعارف … ولا يعقل لهذا سبب إلا الاعتزاز بالقوة
ولو وهميًّا، ومن هؤلاء السياسيين من يفهم الحقائق ولكنهم كانوا قد ألقوا أنفسهم في
ورطة , ثم رأوا أنفسهم عاجزين عن الخروج منها بغير التأويل لمصطفى كمال
وشيعته كل ما يفعل إلا إلغاء كلمة (خلافة) ! ! !
__________(25/319)
ذو القعدة - 1342هـ
يوليو - 1924م(25/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الدعاء للميت في الصلاة
واستغفار المؤمنين لمن سبقهم بالإيمان
واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للتائبين ولنفسه ولغيره من المؤمنين
(س 17 - 20) مِن صاحب الإمضاء في ولتفريدن (جاوه)
حضرة الفاضل السيد محمد رشيد رضا حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أقدم إليكم السؤال الآتي أرجو منكم الجواب ولكم الأجر والثواب.
ما قولكم في الدعاء على الميت (؟) في التكبيرة الثالثة والرابعة من الصلاة
على الميت؟ وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ؟ وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
تَوَّاباً رَّحِيماً} (النساء: 64) ؟
سؤالي مخصوص في استغفار الرسول لهم , وفي قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19) أمر الله عز
وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لنفسه ولأمته , مع أنه مغفور له: أما
ذلك ليستنوا به ويقتدوا به؟
أفتونا مأجورين - والسلام
انشروا الجواب على صفحات مناركم الغراء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاظم وشركاه
الجواب
الدعاء للميت في تكبيرات الصلاة عليه
(ج) أما الدعاء للميت - لا عليه - في التكبيرة الثالثة والرابعة فهو مشروع،
فقد روى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم , أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام , ثم
يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه , ثم يصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم , ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن , ثم
يسلم سرًّا في نفسه. وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر , وأخرجه أيضًا النسائي
وعبد الرازق. قال الحافظ في فتح الباري: وإسناده صحيح , وليس فيه قوله: بعد
التكبيرة الأولى. ولا قوله: ثم يسلم سرًّا في نفسه.
***
الاستغفار للسابقين الأولين
وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} (آل عمران: 147) إلخ. فلم يذكر
السائل وجه السؤال عنه , وهذه الآية قد جاءت مع آيتين في وصف المهاجرين
والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - ويعلم المراد منها بإيرادهما فنذكر الثلاث من
سورة الحشر وهي: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 8-10) .
***
جعل الله تعالى المؤمنين ثلاث درجات: (الأولى) المهاجرون وهم السابقون
إلى الإيمان والنهوض بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر دعوته ومعاداة
أهليهم , وأقوامهم في هذه السبيل سبيل الله عز وجل على ضعفهم وقوة قومهم.
(الثانية) الأنصار الذين أظهر الله تعالى هذا الدين وأيده بهم.
(الثالثة) الذين جاءوا من بعدهم , وهم سائر المؤمنين. وصفهم الله تعالى بهذا
القول الدال على علمهم بفضل السابقين الأولين عليهم , وقدرهم قدرهم وحبهم
والدعاء لهم، وهو يتناول سائر مؤمني ذلك العصر من الصحابة وغيرهم، كمن آمن
في عصره صلى الله عليه وسلم , ولم يره ويشتمل من بعدهم إن شاء الله تعالى
بمشاركته لهم في وصفهم المذكور آنفًا , وقيل: هو خاص بهؤلاء.
روى الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله
تعالى عنه - أنه قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان , وبقيت منزلة ,
فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت , ثم قرأ الآيات
الثلاث.
وروى ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يتناول بعض المهاجرين
فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (الحشر: 8) - الآية - ثم قال: هؤلاء
المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} (الحشر: 9) - الآية - ثم قال: هؤلاء الأنصار: أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ جَاءُوا} (الحشر: 10) - الآية - وقال: من هؤلاء أنت؟
قال أرجو، قال: لا. ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء.
وفي رواية أخرى عنه أنه بلغه أن رجلاً يسب عثمان فدعاه فأقعده بين يديه ,
فقرأ عليه هذه الآيات كما تقدم , فقال الرجل بعد الأخيرة: أرجو أن أكون منهم. فقال
ابن عمر: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم ويكون في قلبه الغل عليهم.
ووصفه تعالى لأهل الدرجة الثالثة من المؤمنين بذلك شهادة لمن كانوا في
عهد نزول الآيات بذلك , وإرشاد لمن بعدهم أو أمر بأن يكونوا كذلك؛ ليدخلوا
في هذه الحظيرة الإيمانية الشريفة. وقد قال الضحاك: أمروا بالاستغفار لهم ,
وقد علم ما أحدثوا - يعني ما أخطأ به بعضهم في عهد الفتنة اهـ. وذلك أن هؤلاء
أحوج إلى الاستغفار لهم، والمؤمن الصادق في الإيمان يحب أن يغفر الله تعالى
لإخوانه المؤمنين إذا أذنبوا , كما يحب أن يغفر له ولأولاده ولإخوته إذا أذنبوا , ولا
ينطوي على الغل والحقد عليهم , ولا يقطع أخوتهم , وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب
السنن ما عدا أبا داود عن أنس رضي الله عنه.
وروي عن بعض السلف ومنهم الإمام مالك أن هذه الآية في التابعين ومن
بعدهم. واستدل بها مالك على أن من سب الصحابة فلا حق له في الفيء , فإن
الآية نزلت في قسمة الفيء. وجملة القول: إن من شأن المؤمنين التحاب والتواد
والرأفة والرحمة {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ومنه نصيحة
من حضر والاستغفار لمن غبر، ومن رأيته يحمل عليهم الغل ويذكرهم بالسوء، فهو
منافق.
***
استغفار الرسول لمن تاب من المنافقين
وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ذكر في الآية , فلم يبين
السائل مراده منه أيضًا، وهو في نفسه ليس محل إشكال فالاستغفار دعاء , وهو
مطلوب شرعًا , ودعاء الرسول فالأمثل من المؤمنين الصالحين أرجى للقبول. ولعل
وجهه المطلوب: بيان حكمة ضم استغفاره صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء التائبين
المشار إليهم في الآية , وكونه لم يكتف في توبتهم باستغفارهم كسائر المذنبين , وقد
سبق لنا بيان هذه النكتة والحكمة في تفسير الآية من سورة النساء , ونمهد له هنا
بأن نقول:
(أولاً) إن الذين نزلت فيهم هذه الآية هم الذين قال تعالى فيهم قبلها:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) إلخ.
(وثانيًا) إن هؤلاء كانوا من المنافقين , وكانت رغبتهم عن التحاكم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم التحاكم إلى الطاغوت إظهارًا للكفر
والعصيان , فكان لا بد في قبول توبتهم من اعتداد الرسول صلى الله عليه وسلم بها
وحكمه بصحتها واستغفاره لهم , بأن يقبلها الله تعالى منهم؛ لتظل أحكام الإسلام
جارية عليهم , وليست كالمعاصي الشخصية التي يكره الشرع إظهارها ويكتفي من
صاحبها بتوبته في خاصة نفسه. وقد كان بعض المنافقين يطلبون استغفار الرسول
صلى الله عليه وسلم في أمثال هذه الذنوب المتعلقة بالمصالح العامة ومنه قوله تعالى:
{سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) وربما دعي بعضهم إلى ذلك إرشادًا
له واختبارًا لإيمانه فأبى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون: 5) .
بعد هذا التمهيد ننقل ما كتبناه في تفسير الآية (من ص 234ج 5 تفسير)
وهو:
وإنما قرن استغفارهم الذي هو عنوان توبتهم باستغفار الرسول صلى الله عليه
وسلم؛ لأن ذنبهم هذا لم يكن ظلمًا لأنفسهم فقط لم يتعد منه شيء إلى الرسول فيكفي
فيه توبتهم , بل تعدى إلى إيذاء الرسول , من حيث إنه رسول، له وحده الحق في
الحكم بين المؤمنين به، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما صدر منهم أن يظهروا
ذلك للرسول؛ ليصفح عنهم فيما اعتدوا به على حقه، ويدعوَ الله تعالى أن يغفر
لهم إعراضهم عن حكمه، ومن هذا البيان تعرف نكتة وضع الاسم الظاهر موضع
الضمير؛ إذ قال: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (النساء: 64) ولم يقل: (واستغفرت
لهم) فإن التوبة عن المعاصي المتعلقة بحقوق الناس لا تكون مقبولة ولا صحيحة
إلا بعد استرضاء صاحب الحق. وجعل بعض المفسرين نكتة وضع الظاهر
موضع الضمير إجلال منصب الرسالة , والإيذان بقبول استغفار صاحب هذا
المنصب الشريف , وعدم رد شفاعته. والظاهر ما قلناه، والمنصب هو هو في شرفه
وعلوه، ولكن الله لا يغفر للمنافقين إذا لم يتوبوا , وإن استغفر لهم الرسول؛ لأن الله
تعالى قال له فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) والآية ناطقة بأن التوبة الصحيحة تكون مقبولة حتمًا إذا كملت شرائطها، وظاهر الآية أن منها أن تكون عقب الذنب كما يدل
الشرط والعطف بالفاء , وهو بمعنى (ثم يتوبون من قريب) وتقدم تفسيره.
وذكر الأستاذ الإمام أنه تعالى سمى ترك طاعة الرسول ظلمًا للأنفس؛ أي:
إفسادًا لمصلحتها؛ لأن الرسول هاد إلى مصلحة الناس في دنياهم وآخرتهم، وهذا
الظلم يشمل الاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار هو
الإقبال على الله وعزم التائب على اجتناب الذنب وعدم العود إليه مع الصدق
والإخلاص لله في ذلك , وأما الاستغفار باللسان عقب الذنب من دون هذا التوجه القلبي
فليس استغفارًا حقيقيًّا.
أقول: يعني أن ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ (أستغفر الله) لا
يعد طلبًا للمغفرة؛ لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب , فلا
بد أن يشعر القلب أولاً بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها،
ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص
والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس والمعصية، وكيف يكون متألمًا من
القذر الحسي من ألفه وعرض بدنه له , إذا طلب غسله باللسان، وهو لا يترك
الالتياث به ولا يدنو من الماء؟ !
وقال في استغفار الرسول: إنكم تعلمون أن مشاركة الناس بعضهم لبعض في
الدعاء مسنونة , وإن من سنته تعالى أن يتقبل من الجماعة بأسرع مما يتقبل من
الواحد، فدعاء الجماعة أرجى للإجابة وإن كان كل داع موعودًا بالاستجابة.
وحقيقة الدعاء إظهار العبودية والخضوع له تعالى، والإجابة التي وعد بها هي
الإثابة وحسن الجزاء , فمتى أخلص الداعي؛ أجاب الله دعاءه، سواء كان
بإعطائه ما طلب أو بغير ذلك من الأجر والثواب، وإنما كانت المشاركة في
الدعاء أرجى للقبول؛ لأن الداعين الكثيرين لشخص يؤدون هذه العبادة بسببه؛ أي:
إن ذنبه يكون هو السبب في شعورهم وإحساسهم كلهم بالحاجة إلى الله تعالى
والخضوع له والاتحاد المرضي عنده , فكأن حاجته حاجتهم كلهم. فإذا كان الرسول
صلى الله عليه وسلم هو الداعي والمستغفر لأولئك التائبين من ظلمهم لأنفسهم مع
استغفارهم فذلك من اشتراك قلبه الشريف مع قلوبهم بالحاجة إلى تطهير الله لهم من
دنس الذنب وطلب النجاة من عقوبته , وناهيك بقرب الرسول صلى الله عليه وسلم
من ربه، والرجاء في استجابة دعائه.
وأما اشتراط ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم فمعناه أن توبتهم لا تتحقق
إلا إذا رضي عنهم رضاءً كاملاً , بحيث يشعر قلبه الرحيم بالمؤمنين بحاجتهم إلى
المغفرة لصحة توبتهم وإخلاصهم , فذنبهم ذلك لا يغفر إلا بضم استغفاره صلى
الله عليه وسلم إلى استغفارهم , وليس كل ذنب كذلك بل يكتفى في سائر الذنوب
بتوبة العبد المذنب حيث كان، والإخلاص لله تعالى اهـ.
***
استغفار الرسول لذنبه
وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لذنبه فللعلماء فيه أقوال: منها ما
ذكر السائل، وسبب الإشكال الذي أثار ذلك أن الأنبياء معصومون من المعاصي
وهي قاعدة قطعية يجب تأويل ما عارضها، وظنوا أن منها أمر الله لخاتم رسله
صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لذنبه , وليس منها في الحقيقة , فإن الذنب أعم من
المعصية كما حققناه في مواضع من التفسير وغيره , فهو عبارة عما تكون له تبعة
أو عاقبة تستوخم أو تضر أو تنافي المصلحة. وقال المحقق الراغب في مفردات
القرآن: والذنب في الأصل الأخذ بِذَنَبِ (بالتحريك) الشيء. يقال: ذنبته - أصبت
ذنبه، ويستعمل في كل فعل تستوخم عقباه اعتبارًا بذنب الشيء ولهذا يسمى الذنب
تبعة اعتبارًا لما يحصل من عاقبته. اهـ
فالذنب , قد يكون قولاً وقد يكون عملاً بدنيًّا أو نفسيًّا , وقد يكون أمرًا سلبيًّا
كترك ما ينبغي، والتقصير فيما يضر التقصير فيه في المعاش أو المعاد، وهو
أعم من المعصية فإنها خاصة بمخالفة ما أمر الله تعالى به أو نهى عنه، وترى جميع
الناطقين بالعربية يستعملون الذنب في هذا المعنى العام , فيقول أحدهم لمن أساء إليه
أو قصر في شيء من حقوقه العرفية كحقوق القرابة والصداقة: إنني مذنب أو
معترف بذنبي فلا تؤاخذني. والأنبياء عليهم السلام معصومون من عصيان الله
تعالى فيما شرعه لهم من أمر ونهي، وليسوا معصومين من كل عمل , أو ترك قد
تكون له عاقبة غير حسنة , إذا لم يعلموا ذلك، بل هذا من الاجتهاد الذي يجوز عليهم
فيه الخطأ بمقتضى الطبيعة البشرية , وإنما قال العلماء: إن الله تعالى يبين لهم هذا
النوع من الخطأ إذا وقع ولا يقرهم عليه.
ويؤيد هذا ما ورد في الكتاب العزيز من معاتبة الله تعالى خاتم رسله على
أمثال هذه الذنوب وأمره بالاستغفار منها كقوله تعالى في سورة النساء: {إنَّا أنزَلْنَا
إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً *
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء: 105-107) الآيات - وسببها قضية
أراد بعض المنافقين فيها أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحكم على يهودي
بريء بالسرقة انتصارًا لبعض المسلمين , وكاد صلى الله عليه وسلم يصدقهم ويحكم
على اليهودي , وكان هذا هو الظاهر من الدعوى ومال قلبه صلى الله عليه وسلم
إليه؛ لأن المسلمين كان يغلب عليهم الصدق، واليهود بالعكس، وكان المنافقون
أكذب الكاذبين، فنزلت الآيات مبينة له الحق في القضية.
ومنها إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض المنافقين في التخلف عن الخروج معه
إلى غزوة تبوك حين استأذنوا في ذلك , وكان وجه اجتهاده صلى الله عليه وآله
وسلم صحيحًا من وجه أيده القرآن بعد ذلك بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ
خَبَالاً} (التوبة: 47) الآية، ولكن كانت المصلحة الراجحة أو أرجح المصلحتين
أن لا يأذن لهم , فعاتبه الله تعالى وبين له ذلك بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) ومثل ذلك اجتهاده
صلى الله عليه وسلم في فداء أسرى بدر الموافق لاجتهاد أبي بكر الصديق - رضي
الله تعالى عنه - وكان العتاب عليه أشد وهو قوله تعالى:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} (الأنفال: 67) إلى
قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:
68) .
وهذا الوجه لا ينافي حكمة اقتداء الأمة به صلى الله عليه وسلم , وأن لا
يدعي أحد مهما تكن درجته في المعرفة والصلاح , أنه لا ذنب له يستغفر الله منه -
ولا قول من خرج المسألة على قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فإن ما عد
من ذنوب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا اجتهادًا في إقامة الدين , بحسب ما
وصل إليه علمه , وعلم الله تعالى فوق كل علوم خلقه. فهو في نفسه حسنة له
عليها أجر الاجتهاد، وباعتبار آخر ذنب لا معصية، وحسبنا هذا هنا فقد تكرر
بسط المسألة في المنار.
***
أسئلة في الهبة والميراث
من صاحب الإمضاء - في كلوغ بنكوك نوى (سيام)
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا للواحد الخلاق، وصلاة وسلامًا على سيدنا محمد أفضل الخلق على
الإطلاق، وعلى آله وصحبه أئمة أعلام الهدى في الأنحاء والآفاق.
وبعد، فيا حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم أرشدنا الله
برشدك، وأسعدك في الدارين، ودمت مصباح النيرين، وعلوت معالي الفرقدين،
آمين آمين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
مولاي إني أتشرف أن أرفع لمسامع فضيلتكم أمرًا أرجو أن تبينوا لي حكم الله
تعالى فيه وهو ما يأتي:
(1) كان حضرة والدي العزيز - رحمه الله تعالى - قبل وفاته إلى رحمة
الله تعالى , وهب من ملكه قطعة الأرض هبة شرعية , بلا عوض وهو صحيح
عقلاً وجسدًا , فذهب معي إلى مصلحة التملك (Department deeds Title)
طلبًا من بعض موظفي هذه المصلحة أن يكتبوا اسمي على صك الملكية (حجة
التملك) لتحويل الملك فيها , وجعلوه مكتوبًا فيها وهم شاهدون على ذلك , وذلك
بإمضاء اسم والدي المرحوم واسمي فيها بتمام الإيجاب والقبول لدى الشهود
الموظفين في تلك المصلحة , وهم متدينون بدين البوذ!
(2) ثم وهب لحضرة والدتي المحترمة (زوجته الأولى) داره المبنية على
قطعة الأرض المذكورة هبة شرعية بلا عوض , وهو سليم العقل والجسم , وذلك
بأن والدي المرحوم كتب لوالدتي العزيزة كتابًا , أمضى فيه اسمه على أنه قد جعل
داره المذكورة مملوكة لوالدتي المحترمة بتمام الرضاء والإيجاب والقبول , ولكن
لا شاهد على ذلك.
(3) وقد اتفق والدي الكريمان على شراء قطعة الأرض من المزارع
(Yards Farm) برأس مالهما الذي قد استعاراه من الغير , ويقضيان بما
يستفيدانه من أجرات هذه المزرعة , فإلى الآن لم يتخلصا بينهما (كذا) .
فلما توفي والدي إلى رحمته تعالى، حكم بعض علماء بلادي بأن قطعة الأرض
والدار الموهوبتين لنفسي ولوالدتي المحترمة لا تصح هبتهما , وأن المزرعة لا
تصح أن تملكها والدتي , ولا يصح أن يقسم نصفها لحضرتها قبل أن تكون واقعة
في الميراث , بل تكون هذه الأشياء الثلاثة (أي: قطعة الأرض والدار والمزرعة)
كلها مما تركه حضرة والدي من ميراثه , فيضمونها إلى تركته؛ ليقسموها لزوجتيه
الأولى والثانية , ولجميع أولاده من جهتهما.
فلذلك - يا سيدي الأستاذ المخلص - أحرر هذا راجيًا من فيض علومكم
وملتمسًا من فضل فضيلتكم أن تشرفوني بالجواب الشافي والبيان الكافي فيما يأتي:
(ا) هل تصح هبة قطعة الأرض والدار اللتين وهبهما لي ولحضرة والدتي
أم لا؟
(ب) هل تصح أن تكون قطعة الأرض ملكًا لي أم لا؟
(ج) هل تصح أن تكون الدار مملوكة لوالدتي أم لا؟
(د) هل تصح أن تكون قطعة الأرض والدار مما تركه والدي أم لا؟
(هـ) هل يصح أن تحصل والدتي على نصف الملك في المزرعة أم لا؟
(و) هل تصح أن يقسم نصفها لحضرتها أم لا؟
(ذ) هل تصح أن تكون المزرعة كلها ميراثًا أم لا؟
فهل تسمحون لي بذلك فلكم مني خالص الشكر , ومن الله جزيل الأجر
والثواب وأستسمحكم العفو عما زل قلمي من الخطأ والنسيان وسوء العبارة , التي
قد تكون في كتابي هذا؛ لأني مع صغري لفي دراستي للغة العرب.
وختامًا أرجو سيدي المفضال أن يتفضل حضرته بقبول عاطر سلامي وفائق
احترامي وإخلاصي. ... ... ... ... ... ... ... ... ولدكم المخلص بالشرق الأقصى ...
... محمد علي الكريمي
(ج) إن السؤال مجمل , ولم يذكر السائل فيه ما بنى عليه بعض علماء بلده
إبطال الهبة والشركة في شراء الأرض المذكورة ليعلم أصواب هو أم خطأ؟ وهل
هو مبني على الدليل أم على أحد المذاهب المتبعة في تلك البلاد؟ - فالهبة للوارث
في حال الصحة صحيحة , وهي تنعقد بالإيجاب والقبول، ولكن يشترط في
الموهوب له أن يكون أهلاً للقبول والقبض بصحة تصرفه , فهل كان السائل كذلك
أم لا؟ ويقول أكثر العلماء: إن الهبة تتم بالقبض فهل قبض كل من السائل
ووالدته ما وهبه لهما والده وتصرفا فيه أم لا؟
وجملة القول أن بيان الحق في هذه المسائل يتوقف على الاطلاع على صورة
الحكم الذي حكم به بعض علماء بلاد السائل والوقوف على أدلته , ولا سيما الأرض
التي اشتراها الزوجان بمال اقترضاه وهما يؤديانه مما يستغلانه من الأرض , وليت
شعري هل يعني بالحكم معناه القضائي أم يريد به الفتوى , وبيان حكم الشرع في
هذه الوقائع؟ وإذا كان هذا حكمًا قضائيًا فمن الذي نصب هذا العالم قاضيًا؟
أحكومة البلاد الوثنية أم المسلمون أنفسهم؟ وما فائدة استفتائه إيانا إن كان حكم ذلك
العالم نافذًا؟ وهل المسلمون هنالك يلتزمون العمل بفتوى علمائهم اختيارًا أم تلزمهم
الحكومة إياها إلزامًا؟ أم لا يعملون إلا بما يعتقدون أنه صواب منها؟ نرجو السائل
أن يبين لنا ذلك، وكل ما يتعلق بهذه المسائل، وإن كان لذلك العالم فتوى مكتوبة فيما
ذكر فليرسل إلينا صورتها بحروفها، هذا إذا كان لبياننا الحكم الصحيح فائدة
له، وإلا فهو مخير. وقد طال العهد عندنا على هذه الأسئلة فمضى على وصولها إلينا
بضعة أشهر ولم نجد فراغًا نكتب إليه فيه بذلك.
__________(25/347)