الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرحلة الأوربية
(4)
أحمد عزت باشا العابد:
لما وصلنا إلى جنيف كان قد جاءها من باريس أحمد عزت باشا العابد من
كبار وجهاء وأغنياء سورية والذي كان الكاتب الثاني عند السلطان عبد الحميد،
فاجتمعنا به زائرين، ودعوناه إلى حضور المؤتمر، فاعتذر بأنه مضطر إلى السفر
إلى باريس لأعمال مالية يضره تأخيرها، وقال: إنه يشرح لنا رأيه فيما ينبغي أن
نطلبه من تخفيف وطأة الوصاية على سورية، وهو ما كان طلبه بنفسه من وزراء
فرنسة. فرددت عليه بأننا نحن طلاب استقلالٍ مطلقٍ من قيود الوصاية لا طلاب
وصاية خفيفة، وأكبر عار على السوريين أن يقبلوا الوصاية، أو يسكتوا عن
رفضها، ويقعدوا عن السعي لدرء نائبتها.
ثم قلت له سرًّا: إنني أعلم أنك تخاف الفرنسيس أن يضروك إذا اتحدت معنا،
وانتظمت في مؤتمرنا، ويمكنك أن تتلافى هذا الضرر بأن تمنَّ عليهم بأنك
حاولت أن تخدمهم بالتوسط بيننا وبينهم، وجعْل دخول المؤتمر وسيلة إلى ذلك،
ويمكنك أن تذكر ذلك لمَن تلقاه منهم في باريس، حتى الرئيس موسيو بريان،
فلعلهم يأذنون لك بالعودة إلى هنا، ومساعدتنا على هذه الخدمة الوطنية، وأنت
بمأمن من الضرر والاعتداء على أملاكك في الشام.
قال: وفي الباطن أكون مع مَن؟ قلت: أنت بالطبع منا ومعنا في خدمة
وطنك، وكُلٌّ يسلك طريقًا، والغاية واحدة، فأعجبه هذا الرأي فيما ظهر لي من
وجهه وقوله؛ إذ قال: إنه يجتهد أن يعود من باريس إذا تمكن من إتمام عمله قبل
انفضاض المؤتمر.
كان هذا الحديث في يوم السبت (20 أغسطس) ، وفي اليوم التالي زارنا
قبل ذهابه إلى المحطة للسفر إلى باريس، فأعدت الحديث معه في وجوب مساعدة
المؤتمر بنفسه وماله، وأتيته بدلائل وآيات، دينيات، وعقليات، وأدبيات، حتى
حلف لي بالطلاق بأنه سيجتهد في العودة إلينا! وإن أدري أيجتهد في إقناع
الحكومة الفرنسية، وإرضائها بذلك، أم في غير ذلك، وأما المساعدة المالية فقال:
إنه مستعد لها، ولكن مثل هذا العمل يجب أن يشترك فيه جميع أغنياء البلاد، ومَن
هو أكبر منهم كالملك حسين. قلت: نعم، إن ذلك واجب على الجميع، وعلى
الملك حسين، وأولاده الذين كانوا من أسباب وقوع البلاء في هذه البلاد، ولكن
تقصير بعض الناس فيما يجب عليهم لا يكون عذرًا لغيرهم، وعلى كل أحد أن
يطالب نفسه بالواجب قبل أن ينظر إلى غيره ... وما أشبه هذا الكلام، الذي قابله
بالتسليم، والاستحسان، ثم سافر إلى باريس، ومنها إلى الآستانة لأجل تعاهد
أملاكه فيها، ومطالبة الدولة بصرف ما يستحقه من المعاش (التقاعد) على ما هي
عليه من الفقر، وما منيت به من المصائب، والنوائب، ومنها فقد البلاد العربية
كلها، على أن معظم ثروته العظيمة من خيرها وفضلها.
زيارة رئيس لجنة الوصايات في جمعية الأمم:
وفي أصيل يوم الأربعاء (24 أغسطس) زُرنا رئيس لجنة الوصايات
لجمعية الأمم موسيو (رابار) ، وهو من علماء سويسرة وأغنيائها، مستقل الفكر،
مهذب الأخلاق، وكان توفيق أفندي اليازجي أخذ لنا موعدًا منه بهذه الزيارة؛ لأنه
عرفه من قبل، وذهب معنا رفيقانا وهبي أفندي العيسى، ويوسف أفندي سالم،
وأما الأمير ميشيل، فكان قد خرج من جنيف لزيارة شقيقته في مصطافها. وبعد
التعارف دار الحديث بيني وبينه في مسألتنا، وكان المترجم بيننا زميلنا وهبي
أفندي العيسى، وشاركه في ذلك الرفيقان الآخران.
بدأت الكلام ببيان نظرية الرئيس ويلسون في مشروع جمعية الأمم التي
اقترحها، ومكيدة الدولتين الاستعماريتين وخداعهما له بإدخال مسألة الوصاية
(الانتداب) في عهدها؛ ليكون منفذًا لهما إلى ما تعاهدتا عليه من استعمار البلاد،
واقتسامها بينهما، وأن هذا منافٍ للغرض الأول منها، وهو السلم الدائم بحرية
الأقوام. ثم انتقلت من ذلك إلى سعي هاتين الدولتين إلى إبطال ثقة الشعوب
المعتدَى عليها، وغيرها بجمعية الأمم، وإقناعهم بأنها آلة في أيدي رجالهما، وأننا
مع ذلك لم نيأس من فائدتها ونفعها، ولا نجزم بأنه يسهل عليهما تسخير هذا العدد
العظيم من مندوبي الدول الكثيرة لتحقيق مطامع دولتين، لولا مطامعهما لما وقعت
أكثر الحروب في أوربة بجعْلهم استعبادهما للأقوام قانونيًّا مؤيدًا من العالم المدني
كله.
ثم انتقلتُ من هذه المقدمات إلى أن آمالنا في جمعية الأمم هي التي حملتنا
على المجيء إلى جنيف؛ لأجل بيان حقيقة الحال في سورية وفلسطين لها، ثم
شرحت له خلاصة تصرُّف الدولتين في سورية وفلسطين، وأنه من قبيل تصرف
المالك في ملكه، على أن وجودهما هنالك بحسب القانون الدولي احتلال مؤقت في
بلاد الأعداء لأجل حفظ النظام إلى أن يتم الصلح بينهما وبين الدولة صاحبة البلاد
(ولا حاجة إلى ذِكْر ما قيل هنا؛ لأنه مما أودع بعد في النداء الذي وضعه المؤتمر،
وقُدِّمَ للعُصبة) .
ومما سألني عنه موسيو رابار في أثناء الحديث: أرأيت إذا خرج الجيش
المحتل من بلادكم، وترك أمرها إليكم، أتقدرون على حفظ الأمن فيها، والقيام
بشئون الإدارة؟ ، قلت: نعم، وأستدل على قولي بالحق الواقع لا بدعاوي تحتمل
المناقشة، ذلك بأن الترك قد جلوا عن سورية، وتركوها لأهلها قبل وصول الحلفاء
إليها، ولم يبقَ فيها أحد من ضباطهم، ولا من رجال الإدارة والقضاء منهم، وقد
قام الأهالي السوريون بحفظ الأمن وسائر أعمال الحكومة عدة أيام، إلى أن احتلها
الجيش العربي المؤلف من السوريين وغيرهم، وكانت جُل الأعمال الإدارية في
أيديهم إلى أن شاركهم الجيشان البريطاني والفرنسي في احتلال البلاد، ولم يقع في
هذين العهدين خلل، ولا تعدٍّ على أحد، كما صار يقع كثيرًا بعد احتلال الحلفاء،
وذلك أن الحكومة كانت في عهد الترك بيد الأهالي، ولم يكن فيها إلا عدد قليل من
موظفيهم يوجد فيها من أهلها مَن هم مثلهم، وأرقى منهم كما يوجد في ولاياتهم من
موظفينا مثلهم، فقال: إن هذا شيء لم نكن نعرفه.. وبعد انتهاء الحديث شكرنا له
عنايته بسماع حديثنا، وحسن لقائه لنا، وودعنا - كما ودعناه - ببشاشة الإخلاص،
وكنا - كلما تلاقينا بعد ذلك - يسلم بعضنا على بعض سلام الأصدقاء.
المؤتمر السوري الفلسطيني:
لم نكد نلقي عصا التسيار في جنيف حتى بحثنا عن مكان لائق لنعقد فيه
المؤتمر الذي دعونا إليه، وجئنا هذا البلد لأجله، فاهتدينا إلى بهوٍ عظيمٍ في دار
كبيرة لبلدية المدينة معدة للاحتفالات، والمراقص، والمقاصف وغير ذلك من
الاجتماعات العامة، فطلبناه، فأُجيب طلبنا، وبادرنا إلى عقد الجلسة الأولى في
الموعد الذي ضربناه لعقده في الدعوة العامة إليه (27 أغسطس) ، ولكن لم نلبث
أن تلقينا برقية من تريستة بإمضاء (رياض الصلح) يُنْبِئ فيها بأنه سيصل إلينا
غدًا حاملاً وثائق التوكيل من بعض الأحزاب السورية لنفسه ولمندوبين آخرين،
وبرقية أخرى من الوفد العربي الفلسطيني المقيم بلندن، يُنْبِئُ فيها بأن شطر الوفد
قد سافر إلى جنيف لمشاركتنا في المؤتمر، وبقي الشطر الآخر في لندن لمتابعة
السعي في المسألة الفلسطينية من الوجهة البريطانية، وكنت قد كتبت إلى الأمير
شكيب أرسلان عقب وصولي إلى جنيف كتابًا إلى برلين أنبئه فيه بوصولنا،
وأسأله عن موعد مجيئه، وكان على علم بالمشروع، وبأنه من المختارين لحضوره،
فجاءني منه كتاب باستعداده للسفر، وموافاتنا على جناح الطائر (وبعد ذلك بأيام
جاءت برقية من طعان بك العماد - مندوب حزب الاستقلال العربي في الأرجنتين-
تنبئ بأنه قادم لحضور المؤتمر، وكان قد وصل إلى إيطالية) .
لأجل ذلك جعلنا الجلسة الأولى بالفعل جلسة تحضيرية، بحثنا فيها في النظام
الإداري التمهيدي للعمل، وقررنا انتظار الوفود الجائية، والنظر فيما تحمله من
أوراق اعتمادها، وانتدابها لحضور المؤتمر من قِبَل أحزابها، ثم تأليف المؤتمر من
جميع المندوبين المعتمدين، وجعل الجلسة الأولى للتعارف، فانتخاب الرئيس،
ونائب الرئيس، والكاتب العام (السكرتير) ومساعديه.
ثم لم تلبث الوفود أن حضرت في المواعيد التي أنبأت بها، وكان وفد
فلسطين مؤلَّفًا من الحاج توفيق حماد وأمين بك التميمي وشبلي أفندي الجمل،
ولما أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا علمنا أن وفدهم يرجح التفاؤل على التشاؤم في
قضيتهم، وأنه يرجو رجاءً قويًّا أن تكون فلسطين أسبق البلاد العربية إلى نيل
الاستقلال، وهذا خلاف ما أعتقد أو نقيضه، وقد كثُر - بعد ذلك - البحث فيه.
استطراد في مكانة فلسطين عند الإنكليز:
ولما صرح لي بعضهم بذلك قلت: إنني أتمنى ذلك إلا أنه لا يعقل أن يقع إلا
بعد وقوع الإنكليز في هوة العجز؛ فإن الدولة البريطانية الطامعة في البلاد العربية
من مصر إلى منتهى ساحل خليج فارس تهتم بأرض البلاد المقدسة (فلسطين) ما
لا تهتم ببقعة أخرى من البلاد العربية لأسباب دينية، وأدبية، وتاريخية، ومالية،
وجغرافية وحربية؛ فإنها مهد المسيحية، وميدان الحروب الصليبية الإسلامية،
وحيث قهر ملكها ريكارد قلب الأسد في حربه مع السلطان صلاح الدين، وبها
استمالت إليها اليهود، وتمتَّعت بالملايين من أموالهم، واجتذبوا بسعيهم الولايات
المتحدة إلى إنقاذها من ألمانية وبكيدهم وقعت الثورة الاشتراكية في الأسطول
الألماني الذي كان مستعدًّا لتدمير الأسطول البريطاني، ثم في العمال الذين ألجئوا
الحكومة الألمانية إلى طلب الصلح، على حين كانت ظافرة في الحرب، وهي مع
ذلك متصلة بمصر وبالبحر الأحمر، فإذا كان لهذه البلاد كل هذه المزايا، وترى
بريطانية العظمى أنها قد فتحتها فتحًا، أخذت به ثأر قلب الأسد والصليب،
واستخدمت في فتحها من المسلمين المحاربين الهنود، ومن العمال المصريين في مد
السكك الحديدية، وأنابيب المياه وسائر الأعمال الحربية أضعاف مَن استخدمت من
البريطانيين المسيحيين، كما أنها استعانت على هذا الفتح بنفوذ شريف مكة وأولاده
وأنصارهم من الحجازيين، والعراقيين، والسوريين، وإذا كانت جميع الكنائس
البريطانية قد احتفلت بهذا الفتح الديني، وافتخرت به، وإذا كان وزير بريطانية
الأكبر قد صرح في مجلس أمتهم الأعظم - بأن هذا الفتح خاتمة الحروب الصليبية،
أي لا يُرجَى أن يكون بعده للمسلمين دولة قوية عزيزة تحارب في هذه البلاد، بل
ولا في غيرها، أرأيت مع هذا كله تسمح بريطانية العظمى مختارة بأن تكون هذه
البلاد مستقلة تابعة لدولة عربية ذات أكثرية إسلامية ساحقة، فتترك هذه المزايا
راغبة عنها، وتغضب النصرانية في بلادها وسائر أوربا وأمريكا، وتنفر اليهود،
وهي في أشد الحاجة إليهم في تعزيز ماليتها، والثقة بها! ، ولماذا تفعل هذا؟ ،
أَلِأَجْلِ فضيلة الوفاء للعرب؟ ، أم لأجل ما يعتمد عليه ملك الحجاز من (الحسيات
النجيبة البريطانية) ؟ !
الإنكليز أقدر مَن خلق الله من الإنس والجن على الخداع، فكيف وقد عززهم
فيه خداع اليهود وكيدهم، ومن العجيب أن قد فضحت عواقب هذه الحرب كيدهم
وخداعهم، ومع هذا نرى أجدر الناس بالحذر من هذا الخداع لا يزال الكثير منهم
مخدوعين!
ومن أساليب الخداع الإنكليزي الخفية ما سبق موقظ الشرق وحكيمه السيد
جمال الدين إلى بيانه منذ عشرات من السنين، إذ قال: لا يظلم الإنكليز قومًا إلا
ويقوم أفراد منهم يرفعون أصواتهم في الصحف، وعلى مقاعد مجلسي النواب
والأعيان باستنكار ذلك الظلم، وعذل حكومتهم عليه، ومطالبتهم إياها برفعه؛
لأجل أن تظل آمال المظلوم معلقة بهم، لا يطلب العدل والرحمة إلا من قبلهم،
ومن آفات هذه الخدعة أنها تصرف المظلومين عن مقاومة الظلم بما آتاهم الله من
القوى الذاتية، وبسائر الوسائل التي تهديهم إليها سنن الله في الاجتماع البشري،
وتدَعهم متَّكلين على خصمهم متوهمين أنهم يجدون من قومه عونًا لهم عليه،
ويحذرون أن يغضبوا ذلك العون الموهوم؛ لئلا يخسروا عطفه، وكل مقاومة
لحكومته لا بد أن تغضبه.
هذا ما كان من رأي السيد الحكيم في انتصار بعض رجال الإنكليز لمَن
تظلمهم حكومتهم، وهو واقع، ولكنه غير مطَّرد، وغرضه منه التحذير من
الانخداع، ولم يبق ذو بصيرة ينخدع بعهودهم ووعودهم الرسمية بعد ما أظهرت
عاقبة هذه الحرب من نكثهم وإخلافهم فيها، فكيف تنخدع بقول بعض الأفراد،
وكُتاب الصحف غير المسئولين، وإن قالوا ما قالوا لمخالفتهم للحكومة في الرأي،
أو انتصارًا لبعض الأحزاب على بعض؟ ! ، ولكن من الناس مَن [لا] تنفتح عين
بصيرته إلا بعد طول التجربة بنفسه، وقد أطلنا في هذا الاستطراد لشدة الحاجة إليه
في هذا الوقت، ولا نحسب إلا أن الوفد العربي الفلسطيني قد انتهى - أو ينتهي -
في جهاده في لندن إلى معرفة كُنه هذا الأمر، وأنه أفاد في إطلاع كثير من خواص
الشعب البريطاني على خطأ حكومته في المسألة الصهيونية.
اختلاف نظريتي الاتحاد السوري والوفد الفلسطيني:
دارت المذكرات بيننا وبين أعضاء الوفد الفلسطيني على مقاصد المؤتمر
وغايته واسمه، فذكَّرناهم بأن دعوة حزب الاتحاد السوري إلى عقد المؤتمر مبنية
على قواعده الأساسية في استقلال البلاد السورية، ووحدتها وشكل حكومتها، وأن
لا مندوحة عن تسميته بالمؤتمر السوري الأول، فقالوا: إن الدول قد فصلت بعض
مناطق البلاد من بعض، ووضعت لكل منها اسمًا، فإذا أُطلق اسم سورية الآن لا
تدخل فلسطين في مسماه، فنقترح أن يسمى (المؤتمر السوري الفلسطيني) ، بل
نشترط ذلك، فقَبِلنا بعد جدال طويل.
وقالوا: إن الوحدة السورية قد تتعارض مع الوحدة العربية التي يطلبها أهل
فلسطين، وإذا استقلت فلسطين دون سورية - أو قبلها كما ينتظر - فإن ارتباطها
بالوحدة السورية يكون ارتباطًا ببلاد غير مستقلة فينا في استقلالها، فلا بد إذًا من
طلب الوحدة العربية، أو طلب الاستقلال لكل من سورية وفلسطين على حِدَتها،
فعزَّ هذا الطلب على الأمير ميشيل لطف الله؛ لأنه رآه هادمًا لأساس حزب الاتحاد
السوري، فلم يقبله، فوقع الخلاف، وطال فيه الجدال، وكان الأمير شكيب في
مقام التوفيق والجمع بين الرأيين، وذكر في هذا المقام مسألة لبنان، وأن من أهله
مَن سبقوا الفلسطينيين في رفض الاتحاد مع سائر سورية، وكنت أنا حريصًا على
إرضاء كل من السوريين واللبنانيين، وجعْل المقصد الأهم جمْع كلمة الجميع على
الحرية، والاستقلال التام الناجز، وتفويض أمر الوحدة إلى الرأي العام في الشعب
بعد أن يصير أمره بيده، وأرى أن هذا ليس ناقضًا لأساس حزب الاتحاد السوري؛
لأن له أن يظل يسعى إلى إقناع الشعب برأيه في وجوب الوحدة، والشعب هو
صاحب الرأي الأخير في شكل حكومته، ووحدة البلاد وعدمها، وأن مطالب
الأحزاب والمؤتمرات لا تقيده بما لا يقتنع به.
وبعد طول البحث والمناقشة اتفقنا على الأساس الذي بنينا عليه أركان مطالب
المؤتمر التي وضعناها بعد ذلك في النداء الذي وجهناه إلى جمعية الأمم، ومنها
رفض الانتداب على كل من سورية، وفلسطين، ولبنان، وما يلزمه من إخراج
الجيوش المحتلة لها منها. وكنا نخشى أن يعارض الفلسطينيون في هذا، لا لأنهم
يقبلون الانتداب، ويرضَوْنه - حاشاهم الله من ذلك بصدق وطنيتهم، وإخلاص
عقيدتهم - وإنما قيل: إن من سياسة وفدهم في أوربة السكوت عن الانتداب،
والحملة على وعد بلفور بالوطن القومي لليهود؛ عسى أن يستميلوا إليهم كثيرًا من
البريطانيين الذين يكرهون أن يكون لليهود نفوذ ممتاز في مهد النصرانية، ولكن
موضع هذه السياسة لندن لا جنيف، وقد رضي أعضاء الوفد كلهم برفض الانتداب،
ولله الحمد.
أقول: (كلهم) تسجيلاً لهذه الفضيلة لكل فرد منهم؛ إذ من المعلوم المعهود أن
ما تقرره الجماعات بالبحث والتشاور لا يكون كله بإجماع منهم، بل بعضه يكون
باتفاق الرأي، وبعضه بترجيح رأي الأكثرين على الأقلين، وإن كان يُنسب إلى
الجميع؛ لأنهم بتضامنهم يُعَدون كالشخص الواحد، وههنا أقول: إن المطالب المدونة
في نداء المؤتمر الآتي كلها متفق عليها بين الأحزاب وأفرادها، وإنما كان الخلاف-
الذي هو ضروري في أمثال هذه المجامع - محصورًا في بعض المسائل الجزئية، أو
في العبارة التي تؤدَّى بها في لغتنا العربية، أو تُنقل بها إلى اللغة الفرنسية،
مثال ذلك في الجزئيات القول بأن لبنانًا كان مستقلاًّ منذ أربعة عشر قرنًا، هو قول
أُخذ من مذكرة زميلنا سليمان بك كنعان عضو مجلس إدارة لبنان، والموكل من قِبَل
ألوف من أهله، وأنا أول منكر لهذه الدعوى على التاريخ، ولكن الأكثرين رأوا
العضو اللبناني - الذي نعده ركنًا من الأركان - متمسكًا بهذه الدعوى، فوافقوه
عليها؛ لأنها لا تنقض شيئًا من مقاصدنا.
الجلسة الأولى للمؤتمر وانتخاب الرئيس:
بعد الاتفاق على أساس مقاصد المؤتمر واسمه عقدنا الجلسة الرسمية الأولى
(في 27 أغسطس) ، وكان في أول ما وُضع من برنامجها في الجلسة التمهيدية أو
التحضيرية انتخاب الرئيس ونائبين له ... إلخ، وكنا قد تحدثنا قبل الجلسة في
مسألة الرياسة، واتفق المسلمون منا على انتخاب الأمير ميشيل لطف الله لعدة
أسباب:
(أهمها) : إثبات التكافل والتضامن الوطني بيننا في المسائل الوطنية العامة،
بحيث يتفق على ذلك جماعة منهم، يكبرونه في السن، منهم الأمير العريق في
مجد الإمارة التليد، المزيّن بمجد البراعة في السياسة والأدب الطريف - كالأمير
شكيب أرسلان - والوجيه الزعيم في وطنه بصفاته الذاتية، ومجد أسرته - كالحاج
توفيق بك حماد - وكذلك إحسان بك الجابري، ومكانته في أسرته من وجهاء حلب،
وفي شخصه ومناصبه معروفة، والعالم الديني ذو النسب النبوي كصاحب المنار.
ومنها أننا كلنا نعترف بأن الأمير ميشيل ليس له من المنافع في استقلال
سوريا مثل ما لنا ولأمثالنا، ممن لهم في البلاد أهل وأملاك وأوقاف، ولا عليه من
المضار في عدم استقلالها مثل الذي علينا وعلى أمثالنا، فكان فضله في إجهاد
النفس، وبذل الوقت، والمال في سبيل استقلالها أكبر من فضل غيره من الساعين
إلى ذلك، وناهيك بأكثر أغنياء البلاد الأشحَّة البخلاء الأنذال، الذين لا يعملون،
ولا يساعدون العاملين ببذل قليل من المال! .
هذا الاتفاق على الرياسة منعنا أن نجعل الانتخاب سريًّا بورق يُكتب، ولما
صرح بعضنا به وافق الآخرون بالإجماع، ثم اقترح بعضهم أن يكون كل من
صاحب المنار، والحاج توفيق بك حماد نائبي رئيس، والأمير شكيب الكاتب العام
(السكرتير) ، فوافق الأعضاء على ذلك بالإجماع، واختير توفيق أفندي اليازجي
مساعدًا للسكرتير، ثم وقف الرئيس، فشكر للأعضاء ثقتهم به، وانتخابهم إياه
بعبارة يزينها ما عُهد فيه من الأدب والتواضع، ثم انعقدت الجلسة، وانتُخِبت
اللجان للعمل، وتوالت بعدها الجلسات.
ولما كان المؤتمر قد قرر أن تدوَّن أعماله في كتاب خاص يُطبع، نكتفي بهذه
الخلاصة من خبر تكوينه، ونقفِّي عليها بنشر النداء الذي وضعه في عدة جلسات،
ووزَّعه على رئيس جميع الأمة وأعضائها، وأرسله إلى وزارات دولها، والدول
غير الممثلة فيها، وإلى جرائد سويسرة، وأشهر جرائد العالم؛ ليحفظ أثرًا تاريخيًّا
في مجلتنا، وهذا نصه:
نص النداء الذي قدمه المؤتمر إلى المجمع الثاني العام لجمعية الأمم:
جنيف في 21 سبتمبر 1921
إلى سعادة هـ. ا. فان كارنبك رئيس المجمع الثاني العام لجمعية الأمم
وإلى حضرات مندوبي الدول في هذا المجمع
يا حضرة الرئيس ويا حضرات الأعضاء
إننا نحن الموقعين أدناه - ممثلي الأحزاب، والفرق السياسية في سورية
ولبنان ومعتمدي أهالي فلسطين من المسلمين، والمسيحيين الناطقين بلسان أهالي
هذه البلاد - نتشرف بأن نلجأ إلى سلطة جمعيتكم العليا باسم المؤتمر السوري
الفلسطيني المنعقد الآن في جنيف في بسط الحالة السيئة التي آلت إليها أمتنا،
واستمداد معونتكم لها بجعْل حقوقها محترمة ومعترفًا بها.
نقرع باب جمعيتكم واثقين بالمبادئ التي كانت أساسًا لبناء جمعية الأمم،
والتي أنعشت في جميع القطار آمالاً مشروعة، ألا وهي احترام القوميات، وحق
الأمم في تقرير مصيرها، وإقامة العدل، ومراعاة الشرف في العلاقات الدولية،
ونبْذ سياسة الفتح، والدقة في رعاية العهود في الصلات المتبادلة بين الشعوب
المنظمة.
نلجأ إلى جمعيتكم عالِمين أنها بموجب الخصائص التي خوَّلها إياها عهد
جمعية الأمم الموقع عليه في فرسايل في 28 يونيو سنة 1919 مرجع لقضيتنا هذه،
ولها فيها حق النظر والحكم وفقًا لروح هذه العهد.
إن سورية وفلسطين ولبنان تسألكم بادئ ذي بدء الالتفات إليها، والاعتراف
بحقها في طلب الاستقلال التام المطلق بمقتضى القواعد العامة لحقوق الشعوب،
والعهود الخاصة المقطوعة لها في السنوات الأخيرة.
إن الحرب الطويلة التي وضعت أوزارها، وأنجبت جمعية الأمم كانت
صراعا بين فكرتين: فكرة القوة والغصب، وفكرة الحق والحرية، فالأمم التي
كانت تقاتل تحت لواء الحق وضعت مبدأ استقلال الشعوب في طليعة مقاصدها من
الحرب، وكان كُبَراء رجال الأمم المتحالفة يعلنون واحدًا بعد آخر - على منابر
مجالسهم النيابية - أن الحرب لن تؤدي إلى فتوحاتٍ جديدةٍ، أو إلى ضم أقطار
جديدة، وإنما يجب أن تسفر عن ظفر الحضارة واستقلال الشعوب.
ولقد سمع الشعب السوري هذه التصريحات؛ فتقبَّلها بثقة تامة، وخاصة ما
يضمن منها للشعوب الخاضعة للسلطة التركية السلامة التامة لحياتها، وحرية
الارتقاء بدون عائق (مواد الرئيس ولسون الأربع عشرة) .
فالشعب السوري المؤيَّد بهذه التصريحات يمتُّ إلى الأمم بتاريخ، ومقومات
تؤهله أن يطالب بالاستفادة من تلك التصريحات، وبالاعتراف بسيادته وفقًا
للمبادئ التي كان لها الفوز.
وإذا كان تعريف الأمة - هو كما قرر كثير من كبار المشترعين - (مجموع
أفراد من عنصر واحد ولغة واحدة وحضارة واحدة أُولي إرث تاريخي شامل عام
وشعور بإرادة تأليف جماعة سياسية واحدة) - فإن سورية إذًا أمة، وإذا كان تحديد
القومية هو الشعور بأخوَّة متينة، واشجة العروق، وحب متوارد لمسقط الرأس،
فالأمة السورية هي ذات شعور قومي.
إن وحدتي السلالة واللغة مؤكَّدتان بكوْن السحنة واحدة في جميع البلاد،
وبكون اللسان العربي لسان الجميع، والغرباء الذين في البلاد لا يتجاوزون واحدًا
في المائة، كما أن الحضارة العربية هي السائدة في البلاد، وهي أحد فروع شجرة
المدنية الذي كان - مع الفرعين اليوناني والروماني - أصل الهيئة الاجتماعية
الحاضرة، وسبب ازدهارها، ثم إنها لم تقف في سيرها؛ فالتعليم العربي منتشر
في جميع البلاد بعشرات من المدارس العليا، ومئات من المدارس الثانوية، وألوف
من المدارس الابتدائية، وهناك مدرستان جامعتان، و620 مدرسة مختلفة الدرجة
من مؤسسات الأجانب، تضم مجهوداتها إلى عمل المدارس الوطنية، وكان نحو
من مائة جريدة تصدر في أنحاء سورية إلى حين انفجار الحرب العامة، ويقدر عدد
القارئين والكاتبين في أكثر المقاطعات بستين في المائة، وأما الطبقة المستنيرة -من
أدباء وشعراء ومؤلفين، وحقوقيين، وأطباء، ومهندسين - فعدد رجالها عظيم،
وكثيرون منهم نالوا شهاداتهم من أوربة، ولهم في البلاد مركز رفيع، كما أن في
البلاد جمًّا غفيرًا من الضباط المتخرجين من مدارس الحربية في الآستانة وفي
أوروبا - قد أثبتوا كفاءتهم في تنظيم مصالح الأمن العام، ولما جلا الترك فجأة عن
البلاد قام أهالي سورية بمهمة تنظيم بلادهم المحررة، وتشكلت في الحال لجان
إدارية في كل ناحية، فوطدت أركان النظام والأمن العام، إلى أن احتلت جنود
الحلفاء البلاد، ولما أُلقيت - بعد ذلك - مقاليد الإدارة في المنطقة الداخلية إلى
حكومة وطنية كان الأمن والنظام فيها أثبت، وأتم منه في المناطق المحتلة، كما
شهد بذلك الأجانب الذين زاروا البلاد في تلك الأثناء.
إن تراث مجد السوريين المشترك لَغنِيّ عن الإشارة إليه، أية مدنية كانت
أبهى وأبهر من حضارة عصر عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وصلاح
الدين الأيوبي، وخلفائهم. ومَن ذا الذي لا يتذكر تألق أنوارها على سواحل بحر
الروم، ولا يشهد تأثيرها العالق بناصية الحمراء، وبقباب كنائس بلرم (صقلية)
إلى اليوم، ولا يمكن إنكار ما في شعبنا من الكفاءة السياسية، والإدراك السياسي،
حتى إن حياتنا الإقليمية وتقاليدنا المحلية ظلت باقية لنا في عهد الحكم التركي نفسه.
وفي سنة 1908 أُعلن الانتخاب العام (في السلطنة العثمانية) ، فتمتع
السوريون بجميع حقوقه، فكان عدد نواب العرب في الندوة العثمانية يتجاوز ثلث
أعضائها، وكان لهم دور مهم في جلساتها وفي لجانها، وكانت سورية قبل الحرب
تقوم بنفقات إدارتها، بل كانت الضرائب التي تدفعها تزيد عنها، فتفيض على
ميزانية السلطنة العامة.
إن شعور سورية القومي لم يزل ينمو منذ أوائل هذا العصر، وكانت الدعوة
إليه تُبَثُّ بنشاط من قِبَل الصحف، والجمعيات الوطنية، وقد جاد فريق كبير من
كبراء البلاد بأرواحهم على مشانق الترك تكفيرًا عن جرم التفكر في استقلال وطنهم.
وإن القومية السورية متجلِّية فيما وراء الحدود والبحار أيضًا، فهناك جاليات
سورية عديدة منتشرة في جميع القارات، ولا سيما في العالم الجديد، ولها صحفها
وجمعياتها وأنديتها.
وعند نشوب الحرب أعلن الملك حسين الأول استقلال العرب بالاتفاق مع
معظم الجمعيات السياسية في سورية، ومنذ سنة 1916 قامت القوات العربية
بمساعدة الإنكليز على هدم السلطنة التركية! ! !
وكان المقاتلة من العرب واثقين بأنهم يسعون لاستقلالهم؛ لأن الحلفاء كانوا
يعلنون أنهم يكافحون دفاعًا عن حقوق الشعوب، ولم تكن آمال هؤلاء المقاتلة مبنية
على تصريحات رجال السياسة فقط، بل على الوعود الصريحة التي قطعها للملك
حسينٍ السر هنري مكماهون العميد البريطاني في مصر باسم إنكلترة، إحدى دول
الحلفاء سنة 1915، وقد ضمنت هذه الوعود الاعتراف باستقلال بلادنا، فكل تلك
الوعود والدماء التي أُهرقت في سبيل الغاية المشتركة كانت تعزز الآمال بإنشاء
دولة سورية قائمة على النظام والحرية والسلام.
ولكن لم يتم لسوء الحظ شيء مما كنا نؤمله، حتى إن لبنانًا - الذي كان
يتمتع باستقلال ذاتي تام تضمنه الدول العظام - قد سُلب منه استقلاله؛ فطفق
الشعب السوري ينظر إلى ماضيه، والخيبة ملء فؤاده!
ولم تمر بضعة شهور على اليوم الذي ضمن فيه السر هنري مكماهون للعرب
استقلالهم السياسي، حتى عُقد اتفاق سري بين مسيو جورج بيكو المندوب الفرنسي،
والسر مارك سايكس ممثل الحكومة البريطانية، ظل أصحابه ينكرونه على ما
كان من تثبيته في 9 مايو سنة 1916 برسائل تُبودِلت بين مسيو بول كامبون
والسير إدوارد غراي، هذا الاتفاق قضى على وحدة سورية وشطرها إلى منطقتي
نفوذ، إحداهما فرنسية والأخرى إنكليزية، وهو يسلب الحكومة العربية حريتها
الاقتصادية؛ بما أعطى للدولتين المتعاقدتين من حق الأولوية في المشروعات،
والقروض، والسكك الحديدية، وشرع لأهم مناطق الساحل إدارات فرنسية
وإنكليزية، تتولى الأمور مباشرة، أو بشكل حماية حقيقية على الأقل.
وفي 2 نوفمبر سنة 1917 صدر تصريح من الحكومة البريطانية بوعد اليهود
في فلسطين بامتيازات لا تتفق مع حقوق أصحاب البلاد.
ثم إنه بعد التوقيع على معاهدة فرسايل وعهد جمعية الأمم في شهر سبتمبر
سنة 1919 - وقع التواطؤ بين المستر لويد جورج والمسيو كليمانصو على ما يؤيد
اتفاق سايكس - بيكو، وعلى قسمة سورية نهائيًّا إلى مناطق، غريب بعضها عن
بعض (انظر الملحق رقم 2) .
وإن الأمور التي جرت على أثر هذا الاتفاق، والتي سنأتي على ذكرها فيما
بعد قد حققت - وللأسف - كل المخاوف التي أحدثها هذا الاتفاق.
على أننا نريد أن نوجه نظركم - قبل كل شيء - إلى كوْن سورية التي هي
أمة حقيقية، وقد وُعدت بالاستقلال تستحق بأن تطالبكم بالاعتراف بسلطانها القومي
واستقلالها.
إن المادة الثامنة والعشرين من عهد جمعية الأمم تنص على: (أن بعض
الجماعات التي كانت من السلطنة العثمانية في ما سبق قد بلغت درجة من الارتقاء
يمكن أن يعترف معها موقتًا بكونها أمة مستقلة، على شرط أن تسترشد إدارتها
بنصائح ومساعدة تستمدها من دولة منتدبة، إلى أن تصير أهلاً للسير وحدها) !
فبهذا النص قد وضع بعض الجماعات تحت الانتداب، وأما الجماعات
الأخرى - كالحجاز وأرمينية مثلاً - فقد اعتُبرت بالغة درجة كافية من الارتقاء،
تُغنيها عن دولة منتدبة.
إلا أن سورية - أيها السادة - تقيم لكم الدليل على رشدها السياسي، وحقها
في السيادة تجنُّبًا للانتداب كأرمينية والحجاز، فهي بما أهرقته من دماء خيرة أبنائها،
وبمظاهر مدنيتها الموروثة خلفًا عن سلف، وبارتقاء تنظيماتها السياسية المحلية
والإيالية، وبانتشار تجارتها وصناعتها - قد أثبتت أنها أمة رشيدة، قد بلغت أشُدَّها،
وأهليتها للحرية، فنطلب منكم أن تعلنوا في جمعيتكم - بمقتضى الحق الذي لا
يمكن أن يماريكم فيه أحد - تحرير أمة حقيقية من انتداب لا فائدة منه.
***
(2)
نوجه إليكم هذه العريضة بأصدق عزيمةٍ، وأرسخ إيمان بأنكم سترون من
الوقائع التي نبسطها لكم ما يجعلكم تعرفون إلى أي حد قضى الانتداب - الذي
ينفذون حكمه فينا - على استقلالنا، وكيف أصبح يهوي بنا إلى دركة مستعمرة من
مستعمرات المنتدبين علينا.
جاء في الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين التي تعين حدود الانتداب
المختص بالجماعات العثمانية ما يأتي:
(1) أن هذه الجماعات قد بلغت درجة من الارتقاء يصح معها الاعتراف
بكونها أمة مستقلة.
(2) أن مهمة المنتدب قاصرة على المساعدة والنصح.
(3) أن رغائب الجماعات يجب أن توضع أولاً موضع الاعتبار عند
اختيار الدولة المنتدبة.
وسترون - كما نرى - أن هذه القيود المعينة في الانتداب لم يُحترم شيء
منها، وأن استقلالنا ليس سوى لغو من القول.
لقد قسمت بلادنا إلى مناطق كما ذكر آنفًا عملاً بمعاهدة سايكس - بيكو المؤيدة
باتفاق لويد جورج، وكليمانسو في سنة 1919، فأخذ الإنكليز فلسطين، والساحل
الفلسطيني، وأخذ الفرنسيس ساحل سورية الشمالية، واحتفظ الأمير فيصل
بالمنطقة الداخلية؛ فأسفرت هذه الوقائع عن إحراج صدور الأهلين، والْتَأَمَ في
دمشق مؤتمر سوري عام في شكل مجلس مؤسس، يتألف من مندوبين انتخبوا من
المناطق الثلاث، وقد عَقَدَ هذا المؤتمر برغبة الرأي العام الشديدة جلسة عامة،
وأعلن بالاتفاق مع الزعماء السياسيين، والرؤساء الروحيين من جميع الملل
والنِّحَل - في 8 مارس سنة 1920 - استقلال سورية التام بحدودها الطبيعية
أي مع فلسطين، ولبنان، ونادى بالأمير فيصل ملكًا دستوريًّا على البلاد،
وانصرف إلى سنّ القوانين، وتنظيم الحكومة الوطنية التي كان لديها ممثلون
للحكومات الأجنبية، على أن هذه السيادة على المنطقة الداخلية ما لبثت أن
انتُزِعت في صيف سنة 1920 كما تعلمون.
بعث الجنرال غورو بإنذار نهائي إلى الملك فيصل في 14 يوليه سنة
1920، طلب منه فيه حل جيشه، وقبول سلطته بلا قيد، ولا شرط، فلرغبة
الملك في اجتناب سفك الدماء قَبِل شروط الإنذار على شدة المعارضة من المؤتمر
والشعب، ولكن الجنرال غورو انتحل لنفسه حجة تافهة للزحف بجيوشه على
دمشق، واحتلالها، ففعل، ولم يلبث أن عقد محاكم عسكرية حكمت حكمًا غيابيًّا
بالإعدام على ستة وثلاثين شخصًا من الوطنيين بدعوى التواطؤ مع العدو، وفرض
على البلد غرامة حربية تُدفع ذهبًا، وطفق يتصرف في البلاد - بعد ذلك -
تصرف الفاتح.
وفي 10 يوليه سنة 1920 اعتقلت السلطة العسكرية الفرنسية أعضاء مجلس
لبنان الإداري المنتخب من الشعب اللبناني، ودفعتهم إلى مجلس حربي فرنساوي،
حكم عليهم بالنفي بسبب قرار أصدره ذلك المجلس اللبناني في 9 يوليه سنة 1920،
طلب فيه المحافظة على استقلال لبنان، وحياده العسكري، وضمان الدول له،
وعلاوة على ذلك أصدرت السلطة الفرنسية أمرها بإلغاء هذا المجلس؛ فقضت بذلك
على نظام التمثيل النيابي في جبل لبنان.
وقد قُسم الشعب السوري الآن إلى قسمين تحت سلطة سيدين مختلفين، تتولاه
إدارة عسكرية أشد وطأة من أية إدارة في أي بلاد مغلوبة في الحرب، وقد زال كل
ما كان يتمتع به الأهلون من الحرية في الولايات والألوية في زمن الترك.
مُنع العلم السوري، ورُفع على الأبنية الرسمية علم وضعته السلطة الفرنسية
لكل من الدول التي أحدثتها، ونقشت فيه العلم المثلث الألوان، ورفع العلم
البريطاني في فلسطين، واشتدت وطأة القسوة والإرهاب عقابًا على أبسط الأحداث،
وترون في الملحقات المربوطة بهذا مثالاً من المعاملات الجائرة التي يُعامَل بها
أهالي بلادنا.
يُخيَّل إلى الإنسان أنه في حُلم عندما يسمع الجنرال غورو يصرح بأنه يوطد
الوصاية بالدم، وعندما يرى ست قرى و17 مزرعة تُدمَّر بسبب اعتداء شخصي
(انظر الملحق الأول) .
وأما ما كان في الأمور التجارية والمالية فخيرات البلاد تُستنزف بدون وازع،
وثمة جيش من الموظفين يغلب في رجاله أنهم أقل كفاءة ودراية من سكان البلاد،
يسومون الأهالي أنواع الخسف (انظر الملحق الثالث) ، والمندوب السامي كحاكم
بأمره، بيده أوسع سلطة، والذي أرادوا القدوم إلى أوروبا من أهل وطننا - طلبًا
للعدل - حُرِموا حرية السفر.
نذكر لكم بمنتهى الحزن هذه الوقائع التي أنتجها إرخاء العِنَان لإدارة عسكرية
مطلقة اليد، ونغتنم هذه الفرصة لتوجيه نظر مندوبي الدولتين المحتلتين إليها.
إن لنا من عظيم الثقة بالشعبين الفرنسي والإنكليزي - اللذين دافعا عن حرية
الشعوب في اليونان، وإيطاليا، وبلجيكا، والبلقان - ما لا يجعل لنا سبيلاً إلى
الظن بأن الرأي العام فيهما لا يعطف علينا نفس ذلك العطف، عندما يقف على
الحقيقة.
نبسط هذه الوقائع لعصبة الأمم؛ فهي تُقترف باسمها، ولا شك أنكم تأبون -
أيها السادة المندوبون - أن يُستعبَد شعب بأَسْره باسم مقاصدكم السامية، وباسم
أوطانكم وباسم انتدابكم، العهد ناطق بأن مهمة المنتدب قاصرة على المساعدة
والمشورة، ولم يكن في التصور أن يدخل في معناه إكراه أمة مستقلة على الخضوع
لمثل نظام المفوضية السامية المطلقة في التصرف بسلطةٍ مماثلةٍ لسلطة حاكم في
مستعمرة.
إن أحد المؤلفين - المرتابين في عاقبة عملكم - قد عرَّف الانتداب في كتاب
حديث وضعه في حقوق الدول (مارسل موان - سراي - باريز 1921، صفحة
72) ، فقال: (هو مظهر من أخاديع السياسة الدولية يُقصَد به التلبيس في
الاستيلاء على مستعمرة مشتهاة) ! .
ولكن في نفوسنا من الاحترام لسمو الغاية - التي تتوخاها جمعية الأمم - ما
لا يفسح لنا مجالاً للاعتقاد بأنكم لا تفندون هذا التعريف المعيب، الذي طالما تشدَّق
به شر خصوم جمعية الأمم.
إن السلطة التي تستمدونها - من المواد 3 و 11 و 22 من عصبة الأمم -
تخولكم أن تأخذوا قضية بلادنا هذه في أيديكم، وتسيروا بها في سبيل الحق.
نتشرف بأن نلجأ إلى سلطتكم العليا؛ لنطلب منكم أن تجعلوا الدفاع عن حقوق
لبنان، واستقلاله تحت حمايتكم؛ فهو مهدد بنظام الوصايات المذكور في المادة
الثانية والعشرين من عهد جمعية الأمم، ومهدد أيضًا بالأسلوب الجائر الذي تفسر به
الدولة المنتدَبة نصوص الانتداب.
لقد كان لبنان - منذ 14 قرنًا - ذا وحدة سياسية مستقلة، متمتعًا بسيادته
التامة، وكانت الحكومة العثمانية كلما حاولت تحديد حقوقه تبوء بالفشل المبين.
ففي سنة 1842 جربت تركيا وضع عمر باشا مندوبًا ساميًا، فاضطر إلى
الرجوع بعد قدومه ببضعة أشهر، وهو الموظف الوحيد الذي رآه لبنان حتى سنة
1861.
وتجنُّبًا لانفراد إحدى الدول العظمى في التحكم في لبنان وضع المجمع
الأوربي الدولي سنة 1861 نظامًا أساسيًّا له، تقرر فيه مبدأ سيادته وحكمه الذاتي،
وهذا النظام مؤسَّس على النقط الآتية:
(أ) الاستقلال الإداري والاقتصادي.
(ب) الحياد السياسي.
(ج) ضمان الدول له.
(د) سيادة تركيا الاسمية.
ثم إن سيادة تركيا زالت بعد الحرب، فلم يبق بُدٌّ من أن تكون للبنان سيادته
التامة مؤسسة على المبادئ الثلاثة الأولى المذكورة آنفًا، ولكن لم يكن شيءٌ من
هذا القبيل ويا للأسف، إن استقلال لبنان قد خُرق باحتلال الجنود الفرنسية البلاد
احتلالاً عسكريًّا، وخرق بتحكم الإدارة الفرنسية في جميع شئون البلاد، وهذان
الخرقان من الأعمال القاضية على نظم لبنان الأساسية المحترمة من جميع الدول
إلى هذا العهد.
***
(3)
ثم إننا نوجه نظركم إلى إعطاء الحكومة البريطانية عهدًا لليهود في 2 نوفمبر
سنة 1917 بمنحهم وطنًا قوميًّا في فلسطين، وهذا العهد قد تكرر في المادة 95 من
معاهدة سيفر المعقودة في 10 أغسطس سنة 1921.
إن هذا العهد مخالف لحقوق الأمم، ولا يتفق مع الوعود التي نالها الشعب
العربي من السير هنري مكماهون المندوب البريطاني باسم الحلفاء.
كان الشعب السوري مستعدًّا دائما لمقابلة الأجانب بحسن الوفادة، ولكن لا
يجوز إكراه العرب أصحاب البلاد منذ أجيال على إعطاء اليهود وطنًا قوميًّا في
فلسطين (انظر الملحق الثالث) .
كان اليهود - قبل عشرين قرنًا - قد ملكوا بين غيرهم من الشعوب قِسمًا من
فلسطين، فمهما يكن قدر ما نالته الحضارة من اليهود فليس ثمَّت مشترع ضليع
يجرؤ على الادعاء أن تملُّكًا زال منذ عهد الإمبراطور تيطس يخول سلائل أصحابه
الأقدمين حقوقًا ضد الوطنيين أصحاب البلاد الشرعيين الآن، فإذا فُتح الباب لمثل
هذه الدعوى، فإلى أين المنتهى؟ ألا يجب عندئذ أن يسمح للعرب باسترجاع
الأندلس ولليونان باستعادة سيراقوسه المدينة اليونانية في عهد أرخميدس.
***
(4)
فالمؤتمر السوري الفلسطيني يطلب إذًا منكم - أيها الرئيس والأعضاء الكرام-
ما يأتي:
(1) الاعتراف بالاستقلال، والسلطان القومي لسورية وللبنان ولفلسطين.
(2) الاعتراف بحق هذه البلاد في أن تتَّحد معًا بحكومة مدنية مسئولة أمام
مجلس نيابي ينتخبه الشعب، وأن تتحد مع باقي البلاد العربية المستقلة في شكل
ولايات متحدة (فيدراسيون) .
(3) إعلان إلغاء الانتداب حالاً.
(4) جلاء الجنود الفرنسية والإنجليزية عن سورية ولبنان وفلسطين.
(5) إلغاء تصريح بلفور المتعلق بوطن قومي لليهود في فلسطين.
فإذا لم يكن لدى عصبة الأمم الاستنارة الكافية، وأرادت أن توقن أن ما
بسطناه هو رغائب الشعب الحقيقية، فنحن نرجوها أن ترسل إلى سورية، ولبنان،
وفلسطين لجنة تحقيق ذات سلطة كافية؛ لتتمكن من إجراء تحقيق نزيه، وأن
يُعطَى أهالي سورية من جمعية الأمم ضمانًا بأن يكونوا آمنين من انتقام المحتلين،
واضطهادهم إذا أبدوا آراءهم بحرية، وذلك بأن تأمر بجلاء الجنود التي تضغط
على الأهالي، وتفضلوا - أيها السادة - الرئيس والأعضاء بقبول فائق احترامنا.
الأمير ميشيل لطف الله (رئيس) ... رئيس اللجنة المركزية لحزب
... ... ... ... ... الاتحاد السوري.
السيد رشيد رضا (نائب رئيس) ... رئيس المؤتمر السوري العام في دمشق، ...
... ... ... ... ونائب رئيس الاتحاد السوري ومندوبه
الحاج توفيق حماد (نائب رئيس) ... مبعوث سابق - رئيس الجمعية ... ... ... ...
... ... ... ... ... الإسلامية المسيحية في نابلس (فلسطين) ، ... ... ...
... ... ... ... ... مندوب المؤتمرالفلسطيني الممثل للأهالي ... ...
... ... ... ... ... ... ... المسلمين والمسيحيين.
الأمير شكيب أرسلان (سكرتير عام) مبعوث سورية سابقًا، مندوب حزب ...
... ... ... ... ... ... ... ... الاستقلال العربي.
سليمان كنعان ... ... (عضو) عضو مجلس لبنان الإداري.
إحسان الجابري (عضو) سكرتير سابق لسلطان تركية - رئيس ... ... ... ... ...
... ... ... سابق لبلدية حلب ولتشريفات البلاط السوري - مندوب ...
... ... ... ... ... ... حزب الاستقلال العربي.
أمين التميمي ... (عضو) في الوفد العربي الفلسطيني ومندوبه-
... ... ... ... مستشار رئيس الوزارة في دمشق سابقًا-مفتش ...
... ... ... ... ... ... ملكي في السلطنة العثمانية سابقًا.
وهبة العيسى ... ... ... (عضو) رئيس اللجنة الفلسطينية بمصر ومندوبها.
شبلي الجمل ... ... ... (عضو) مندوب الوفد العربي الفلسطيني وسكرتيره
... ... ... ... ... ... وأحد أعضائه.
رياض الصلح ... ... (عضو) مندوب حزب الاستقلال العربي.
نجيب شقير ... ... ... (عضو) مندوب حزب الاستقلال العربي.
صلاح عز الدين ... ... (عضو) مندوب الجمعية السورية الوطنية في
... ... ... ... ... ... ... بوسطن.
طعان العماد ... ... (عضو) مندوب الحزب الوطني في الأرجنتين.
جورج يوسف سالم ... ... (عضو) مندوب حزب تحرير سورية في
... ... ... ... ... ... ... نيويورك.
توفيق اليازجي ... ... ... (عضو) مندوب حزب استقلال سورية ووحدتها
... ... ... ... ... ... في سانتياغو (شيلي) .
(المنار)
صرفنا النظر عن نشر ملحقات هذا النداء في الرحلة، وقد طُبعت معه على
حدة، ووُزِّعَتْ مجانًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(23/441)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
كوارث سورية في سنوات الحرب
من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي
مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان
(7)
ولنَعُدْ الآن إلى إكمال حديث المجاعة، لا يسعني أن أحصي المساعي التي
سعيناها لأجل جلْب الأقوات اللازمة من الداخل إلى لبنان والساحل، وفي هذا
المعنى لا بد أن تكون برقياتي أيضًا مسجلة في دفاتر التلغراف.
ثم لما جاء بطريرك الموارنة إلى صوفر للسلام على جمال باشا، وهذا أبدى
له مزيد الحفاوة، وكان معه المطران بولس عواد ورهط من أعوانه، تكلمت مع
جمال أمامهم بما يتهدد البلاد من الجوع، وكان الشيء على أوله، وكان كلامي
بصراحة تامة، فشكر لي البطريرك - فيما بعد - هذه الهمة كثيرًا، ثم إنني لما
رأيت علي منيف بك متصرف لبنان قد أسس في الجبل عدة ملاجئ لطعام الأولاد،
وهيأ لها لوازمها، وكانت كلها في كسروان والمتن - طلبت منه المساعدة في
تأسيس مثلها في الشوف، وأسست ملجأً في عين عنوب، وآخر في مغوايا بقرب
شرتون، وآخر في بريح، وجمعت لها جميع الثياب، والأغطية، والأكسية
اللازمة من بيوت أرباب الحمية من ذوي اليسار، وأجرى عليها المتصرف
الأرزاق الكافية من إدارة الإعاشة، وعاش بها مئات من الأحداث ممن لا ملجأ لهم،
وكان نحو 90 في المائة من الأولاد - الذين عاشوا في هذه الملاجئ - مسيحيين،
مع أن الألبسة والمفروشات جِيءَ بأكثرها من بيوت الدروز، ولكن لم نكن نشعر
بهذا الفرق أصلاً، ولا سيما أيام الحرب، ثم لما وجدنا الأمر اشتد عن ذي قبل،
وأنه لا مناص من شر هذه المسغبة إلا بالاتفاق مع الحلفاء على الإذن بتسريب
الإعانات من طريق البحر - راجعنا متصرف لبنان ووالي بيروت، وهما راجعا
الباب العالي، وجرت مساعٍ من الباب العالي؛ لكي يُغاث أهل سورية كما أُغيث
أهل بلجيكا، وغيرها بواسطة الحلفاء، فذهبت جميع مساعي الباب العالي سُدًى،
وإذا بأميركا قد أرسلت باخرة، وقيل باخرتين مشحونتين أقواتًا وألبسة بناءً على
إلحاح السوريين في أميركا، ووصلت هاتان إلى ميناء الإسكندرية، وذلك في
أواخر سنة 1916، وانعقدت الآمال بهما، لا بل نزلت أسعار الدقيق قليلاً في
بيروت بمجرد إشاعة وصولهما إلى ثغر الإسكندرية.
وتألَّفت في بيروت لجنة من مسلمين ومسيحيين؛ لأجل استقبال هذه الأرزاق،
وتوزيعها على المعوزين من جميع الطوائف، وبات الناس يرقبون وصولها،
والأعناق مُشرئبَّة، والعيون محدقة نحو البحر، وهذه الأرزاق لا تصل، وكان
مجلس النواب العثماني قد افتتح، وتأخرتُ عن ميعاد الافتتاح نحو شهر بسبب
اشتغالي بتأسيس الملاجئ، ثم ذهبت إلى الآستانة، فأول شيء عملته - وقبل أن
أرى أحدًا من رجال الدولة - هو أنني قابلت سفير الولايات المتحدة، وسألته عن
سبب تأخر هذه الأرزاق في الإسكندرية، فأجابني بكوْن حكومته تأبى تسليم هذه
الأرزاق إلا على شريطة توزيعها بمعرفة قنصل أميركا في بيروت، والحكومة
العثمانية تستنكف من ذلك، فصدقت كلامه، ولكنني قلت له: إن كان مرادكم عمل
الخير، وإجابة طلب السوريين الذين في أميركا - فلا يجوز أن تتوقفوا بعلل كهذه،
ثم ذهبت إلى طلعت باشا أعاتبه على مثل هذه التصعيبات، والعلات التي لا
طائل تحتها عند ما يكون الناس يموتون جوعًا، فأجابني: هذا طلب كنا طلبناه في
الأول، ثم بناءً على إلحاح سفارة أميركا رجعنا عنه، وها أنا ذا أفوِّض إليك أن
تتفق مع سفير أمريكا على الشرط الذي يريده، وأنا أنفذه، فذهبت إلى السفير،
وأخبرته بما جرى، فقال: إنه يريد مكاتبة بذلك من نظارة الخارجية، فذهبت إلى
أحمد نسيمي بك ناظر الخارجية، وهو أخ حميم لي، فاستكتبته الذي أراده السفير،
ثم عدت إلى السفير، وقلت له: هل بقي شيء الآن؟ ! ، فقد أجبناك إلى طلبك،
فلم يبق إلا أن تأمر بإرسال البواخر إلى بيروت فقال: لكن أمامنا عقبة ثانية! ،
قلت: ما هي؟ قال: نخاف من أن غواصات الألمان المنتشرة في البحر
المتوسط تُغرق السفن المذكورة، قلت: نأتي بأمر من ألمانيا إلى الغواصات،
فذهبت إلى سفير ألمانيا فون كولمان، وحكيت له القصة، فأخذني بنفسه إلى
الملحق البحري بالسفارة فون هومان (وهو الآن المحرر السياسي الأول في جريدة
دوتش الغماين تسايتونغ) ، وقال له: اكتب له ما يشاء، فأخبرته بطلب سفير
أميركا، واستكتبته الإنهاء المعجل بعدم تعرض الغواصات للبواخر المحمّلة أرزاقًا
لسورية، وبعد أيام ذهبت أسال عن الجواب، فتأخر الجواب نحو 20 يومًا؛ لأن
البرقيات اللاسلكية إذا أُرسلت إلى الغواصات - وهي في البحر جائلة - قد يقع فيها
غلط، فلا بد من انتظارها حتى ترفأ إلى مراسيها، فلما ورد الجواب أبلغته السفارة
الألمانية إلى السفارة الأميركية، وجئت أنا أستنجز سفير أميركا وعده، فبدلاً من
أن يفرح بانحلال العقدة رأيته ضجر وتبرَّم! ، وقال: لكن بقيت الغواصات
النمساوية! ، فقلت له: لا يوجد للنمسا غواصات إلا في بحر الإدرياتيك لحماية
أسطولها، ولم يبق ثمة من خطر، فقال: لا بد من الأمر لها أيضًا، فحصلنا على
الأمر من النمسا بواسطة سفارة ألمانيا، ورجعنا إليه، ولكن كنت بدأت أصدق ما
كان قاله لي طلعت من كون المانع الحقيقي ليس من الدولة العثمانية، بل من
الإنكليز! ، فلما أخبرناه بأن العقدة الأخيرة هذه قد انحلت، قال: لكننا أصبحنا لا
نقدر على إرسال هذه البواخر؛ لأن الولايات المتحدة قررت إعلان الحرب على
ألمانيا، فقلنا له: هذه مسألة سبقت إعلان الحرب بأشهر، على أن الحرب لما تُعلنْ
فيمكنك أن تأمر بإرسال البواخر من الإسكندرية إلى بيروت، وكل ذلك يتم في
يومين قبل شهر الحرب منكم على الألمان، فلم يقتنع، فقلنا له: أنتم ستعلنون
الحرب على ألمانيا لا على تركيا، فلا معنى لحبس هذه الأرزاق عنا بهذه العلة،
ونحن من المملكة العثمانية لا من ألمانيا، فبقي يراوغ، فقلت له: حوِّلوا هذه
المسألة إلى دولة متحايدة كأسبانيا، أو هولاندا؛ فإنها مسألة إنسانية، لا مدخل لها
في السياسة، فلم يجاوب بالإيجاب، وعندها صرحت له بقولي: قد تحققت كون
طلعت باشا هو الذي قال الحقيقة، وأن تركيا ليست هي المانعة لوصول الأرزاق،
بل أنتم لا تريدون إيصالها، وتحبون أن تعتذروا للسوريين - الذين في أميركا -
بكونكم عملتم الذي عليكم، وإنما تركيا وقفت سدًّا في وجه هذا الخير! ولكن
الحقيقة لن تخفى، وكنت في جميع هذه المساعي وحدي من المبعوثين السوريين،
لم يشاركني أحد من زملائي لا لنقص في حميتهم ومروءتهم، بل لاعتمادهم عليَّ،
واعتقادهم بنفاذ كلامي، ثم لما قطعنا الأمل من جهة أميركا، حولناه نحو أسبانيا،
وأشرنا على ناظر الخارجية بمفاتحة سفير هذه الدولة، فلم يمكن عمل شيء، ثم
دفعت أنور باشا أن يراجع البابا بواسطة القاصد البابوي في الآستانة، فاستدعاه،
وقال له: إن قلة الأقوات في البلاد - بسبب تطاول الحرب - قد أعجزتنا عن ميرة
جيشنا والأهالي معًا، وقد بدأ الجوع في سورية لا سيما في لبنان، وغدًا إذا مات
جماعات من المسيحيين تجعلون اللائمة علينا، فها نحن أولاء نخبركم بالواقع، ولا
يصعب على الحضرة البابوية أن تنال من الحلفاء الإذن بإرسال باخرة مشحونة
أرزاقًا كل شهر مرة؛ لأجل نصارى سورية، ولا سيما لبنان، وإن احتج الحلفاء
بكون المقصود هو توزيع أكثرها على المسلمين - فنحن نتعهد بترك التوزيع إلى
قاصد البابا في بيروت، وإلى البطاركة، ولا ندخل في هذه المسألة أصلاً! ، وإن
ظهر من أول بعثة تأتي أننا مددنا يدنا إلى شيء منها فعليكم أن لا تعيدوا التجرِبة،
ثم إن كان البابا لا يريد - أو لا يقدر - أن يؤدي ثمن هذه الأرزاق فأنا أؤديها إليك
أيها القاصد من صندوق الحربية، فشكره القاصد كثيرًا، وذهب، وكتب إلى
الفاتيكان، فلم يَرِدْ شيء، فراجعت أنور، فقال لي: إنه فاوض القاصد، ولا يزال
منتظرًا الجواب، ثم استدعاه ثانية، فقال له القاصد: قد بلغت مرجعي كل ما
ذكرتم، ولكن إلى اليوم ما جاءني جوابٌ، وسترون - فيما يأتي - السبب في عدم
الجواب.
عندما ذهبت إلى ألمانيا سنة 1917 دعتني الحكومة الألمانية أن أعمل سياحة
في عواصمها الشهيرة مثل هامبورغ، وفرانكفورت، وكولونيه، ولايبسيغ،
ومونيخ وغيرها، وأرسلتْ معي رفيقًا خاصًّا من نظارة الخارجية، وأبرقوا إلى كل
الأماكن بالاحتفاء بنا، كما يعملون للضيوف الأعزاء، ولما وصلنا إلى مونيخ أدبت
لنا البلدية مأدبة عظيمة، حضرها نحو 30 رجلاً من وزراء الحكومة البافارية،
ورجال السيف والقلم، ثم طلب منا المسيو كمريخ قنصل تركيا، وهو من أعيان
مونيخ أن نلقي محاضرة بحضور ملك البافيار، وجمع من أعيانها، وذلك في الليلة
الثانية، فألقينا محاضرة في فندق (بايريشرهوف) ، حضرها الملك، وكثير من
رجال تلك الدولة، ومن الوجوه وأرباب الأقلام، وكان موضوعها (سورية في
أثناء الحرب) ، وقد اخترت أنا هذا الموضوع قصدًا؛ لأذكر ما جرى فيها من
أهوال المجاعة، بحيث ذكرت الجرائد ثاني يوم أن الملك رَقَّ جدًّا لسماع هذه
المحاضرة، ثم جاءني المسيو كمريخ فيما بعد، وقال لي: إنه قد حادث قاصد البابا
في مونيخ - وهو من مشهوري الكرادلة - وقص عليه ما ذكرته من كون الحكومة
العثمانية سعت بواسطة بعض الدول المتحايدة لدى الحلفاء في جلب أقوات من
طريق البحر إلى سواحل سورية، وكون أنور باشا استدعى القاصد البابوي في
الآستانة، وكلفه أن يعرض الأمر إلى حضرة البابا، وأنه إلى هذه الساعة لم
تحصل أدنى نتيجة، فطلب قاصد مونيخ من المسيو كمريخ تقريرًا بذلك، فجاءني،
وأعطيته التقرير اللازم مفصلاً بإمضائي، وذكرت فيه أنني أتعهد بالنيابة عن
الحكومة العثمانية أنه مهما ورد من الأرزاق بواسطة الحاضرة البابوية إلى سورية-
فلا تتعرض له الدولة لا في قليل، ولا في كثير، ولا يتناول منه أحد من
المسلمين حبة واحدة! ! !
نعم، لنا - من ذلك - فائدتان: الأولى: وقاية إخواننا وأبناء وطننا
المسيحيين من المجاعة، والثانية: كون القليل الوارد إلينا من الداخل - والذي
نتقاسمه وإياهم الآن، ولا يسد حاجتنا ولا حاجتهم - يصير فيه كفاية نوعًا، ثم
ذكرت في هذا التقرير جملة مؤثرة، وهي أن الحضرة البابوية إن لم تُغِثْ نصارى
الشرق في أزمة كهذه الأزمة فمتى يرجون إذًا مساعدتها؟ !
وبعد نحو 15 يومًا من كتابة هذا التقرير - بينما أنا في فندق آدلون الشهير
في برلين - إذ جاءني تلغراف من المسيو كمريخ ينبئ فيه بورود جواب الفاتيكان،
وأن مآله سيرد عليَّ في كتاب مضمون، ثم لم يلبث أن ورد الكتاب، وهو من
المسيو كمريخ نفسه، يذكر فيه ملخص ما ورد من الفاتيكان على قاصد مونيخ من
الجواب على تقريري، حتى إنه يضع بعض العبارات بين قوسين إشارة إلى أنها
هي الواردة بعينها من الكرسي البابوي، ومآل الكتاب أن البابا سعى من قبل مرارًا،
وكرر السعي هذه المرة، ولكن دولة ... - وأشار إلى إحدى دول الحلفاء - لا
تزال تعارض في إرسال هذه الأقوات إلى سورية؛ لذلك ( ... فؤاد الأب الأقدس
مجروح من خطة هذه الدولة) ! ، ثم يقول: ( ... وسيعلم مسيحيو الشرق - فيما
بعد - أن الحَبْر الأعظم لم يهملهم في أزمتهم هذه، ولكن ... ) إلخ.
ولقد اطَّلع بعض صحافيي الألمان على هذا الكتاب، فأحبوا أن ينشروه، فلم
أُجِبْهم إلى ذلك؛ خشية أن أثير مسألة، وأجعل قيلاً وقالاً بين البابا وتلك الدولة،
ولكن هذا الكتاب لا يزال عندي، والمسيو كمريخ لا يزال حيًّا، وبعد إيابي إلى
الآستانة حررت الخبر إلى لبنان، وأتذكر أنني كتبته إلى الشيخ بان الخازن من
وجوه الموارنة، وكلفته أن يُطْلع عليه غبطة البطريرك.
وبالاختصار، إن المسئولية الحقيقية تقع في مجاعة سورية على أولئك الذين
أبَوْا إدخال الإعانات إلى سورية، وهم معروفون ... ، وكان جُلّ مقصدهم بذلك أن
يبغِّضوا الدولة العثمانية إلى الأهالي، ويجعلوهم منتظرين زوالها، ومجيئهم هم،
وأن يقتلوا الناس جوعًا؛ ليقولوا: إن الأتراك هم الذين قتلوهم! ، وأغرب من عملهم
هذا أن أناسًا يعتذرون عنهم بأعذار واهية [1] ، ويزعمون أنهم لم يكونوا يقدرون
على إغاثة جياع سورية، وقد لقيت - منذ سنتين في برن - رجلاً سوريًّا مقيمًا
بالقطر المصري، يقول: إن سبب عدم إرسال الأرزاق إلى سورية هو كوْن
البواخر لا تقدر أن ترفأ إلى سواحل سورية من الألغام ... ! ، فليسمع الإنسان هذه
الأضاحيك، وليتأمل، وأغرب من هذا الأغرب أن أناسًا يعرفون الحقيقة،
ويكتمونها، ويستمرون على نغْمة أن الأتراك هم سبب المجاعة، وأن الحلفاء
أرادوا رفْد سورية، والأتراك رفضوا! ، وقد بلغ الأمر من تضييق الحصر
البحري على سورية أن بعض السوريين بمصر جمعوا إعانات نقدية لإرسالها إلى
سورية، وحِيلَ بينهم وبين مشروعهم، وهذا أيضًا معروف بمصر ... مع أنها نقود
لا حبوب. ويقال: إن الفرنسيس كانوا يرسلون دراهم خفية إلى الموارنة من
جزيرة أرواد، ولكن الذي كان يعوزهم هو القوت بعينه لا الدرهم؛ فإن الدولة
كانت تتعهد بدفع أثمان جميع الأقوات بشرط وجودها، فكان على الفرنسيس أن
يفرغوا باخرة مشحونة طعامًا؛ ذلك خير من إرسال حجارة رنانة لا تؤكل!
هذا ما عندنا من الأدلة والبراهين على كون المجاعة هي ناشئة عن الحالة
الحربية، وعلى كون استمرارها نشأ عن الحصر البحري، ورفض بعض الدول
إيصال شيء من القوت إلى الجياع، فإن كان عند غيرنا أدلة على العكس فليأتوا
بها، بدلاً من أن يتشدَّقوا بالأقوال الفارغة، إن كانوا يقدرون أن يثبتوا أن الدولة
كان عندها في الحرب الأرزاق الكافية، وأن المجاعة لم تشتد إلا في لبنان فقط،
وأنه لم يمُت مسلمون من الجوع كما مات من النصارى، بل أكثر، وأن مئات
ألوف من أتراك الأناضول لم يموتوا، فليدلوا على ذلك بحجتهم.
إن كانوا يقدرون أن ينكروا كون العسكر العثماني نفسه قَلَّ في الآخر غذاؤه،
وصار الجنود يفرون بالألوف من قلة الطعام مع الجهد والقتال؛ مما لا يبقى معه
محل للشك بكون المجاعة مجاعة لا تجويعًا، فليأتوا ببرهانهم.
إن كانوا يقدرون أن يجحدوا كون الأرزاق - التي أُرسلت من أميركا لأجل
سورية - وقفت في الإسكندرية، ولم يكن السبب في وقفها هناك الترك، بل
غيرهم، وكذلك النقود التي جُمعت بمصر - لأجل الفقراء من السوريين - لم
يرخص في إرسالها إلى سورية، فليعطونا على ذلك بينة واحدة.
إن كانوا في شك مما ذكرناه من مساعي أنور باشا مع قاصد البابا في الآستانة
ومساعينا مع قاصده في مونيخ لأجل إغاثة مسيحيي لبنان خاصة، وكيف فشلت،
وبسبب مَن فشلت تلك المساعي؟ ! - فليسألوا الفاتيكان نفسه.
نحن عملنا الذي عملناه - أثناء الحرب من خدمة وطننا ومعاونة أبناء وطننا-
قيامًا بواجب الإنسانية والوطنية، لا نريد من أحد جزاءً ولا شُكورًا، ولم نكن
نتصور أن نُساق في يوم من الأيام إلى التلويح أو الإلماع بخدماتنا هذه؛ لأنه لا
يوجد شيء أسمج من عمل الخير والمنّ به، ولكن أبى حسد الحُسَّاد، وبُغض الذين
في قلوبهم مرض إلا أن يحملونا بافترائهم ومباهتاتهم على نشر حقائق، كنا نود لو
بقيت مطوية، ولقد حررنا منها ما اقتضاه المقام الآن، وسنستوفي الباقي في كتاب
عن ذكريات الحرب، وإننا نراهن - ونخاطر كل أحد يقصد الإنكار - أن يأتي
بدليل واحد على كوننا اشتركنا أثناء الحرب بأذى أقل مخلوق من أبناء وطننا أيًّا
كان، في أي موضوع كان، بل نراهن ونخاطر - كل مَن شاء - أن يأتي بحجة
تبطل دَعوانا بما بذلناه من المساعدات، وقدمنا من الخدمات {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
برلين في 4 يناير سنة 1922.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أنى له عن دمي المسفوك معتذرٌ ... أقول حمَّلته في سفكه تعبًا.(23/459)
الكاتب: محيي الدين آزاد
__________
الخلافة الإسلامية
ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
فصل
إذا بويع الخليفتان فاقتلوا آخرهما
أي إذا قامت خلافة خليفة، وتمكنت حكومته في الأرض - فلا يجوز لأحد
الخروج عليه، ومَن يخرج يجب قتله؛ لأنه غادر، وفتنة، ومَهلكة للهيئة
الاجتماعية، يريد أن يفرق بين المسلمين، ويهدم النظام القائم {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ
الْقَتْلِ} (البقرة: 191) [1] .
وعن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: (مَن أتاكم وأمركم جميعٌ على رجل واحد - يريد أن يشق عصاكم، أو
يفرق جماعتكم - فاقتلوه) (أحمد ومسلم) .
ولذا اتفقت كلمة المسلمين [2] أن الخليفة - سواء كان أهلاً أو غير أهل - إذا
قامت خلافته - لا يخرج عليه، ومَن يخرج يُقتل بعد إتمام الحجة عليه، والدعوة
إلى الصلح {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي} (الحجرات: 9) .
وفي نيل الأوطار: قد حكى في البحر عن العترة جميعًا أن جهادهم أفضل من
جهاد الكفار في ديارهم؛ إذ فِعْلهم في دار الإسلام كفعل الفاحشة في المسجد (ج7،
ص80) .
وحكمة هذا الحكم ظاهرة؛ لأنه لو لم يسد باب الخروج بتاتًا لا تسلم الحكومة
الإسلامية من الخارجين والثائرين مهما كانت صالحة وحسنة، ومهما كان صاحبها
أهلاً وجامعًا للشروط؛ إذ كل ذي عصبية يدَّعي لنفسه الحق والفضيلة أكثر منه،
والناس لا يستطيعون التفاضل بينهما، فيتفرقون حزبين، حزب مع هذا، وحزب
مع ذاك، ثم يخوضون غمار حروب لا تنتهي أبدًا، فوجب أن يُمنع الخروج منعًا
تامًّا، ويُعاقب الخارج عقابًا شديدًا؛ ليكون عبرةً لغيره، فقتْل نفس واحدة خيرٌ من
قتل الألوف، وقد أُشير على هذه الحكمة في الحديث: (يريد أن يشق عصاكم) .
وقد وردت في هذا الباب أحاديث كثيرة مَن يرد الاطلاع عليها فليراجع كتب
الصحاح.
***
فصل
إجماع الأمة وجمهور الفقهاء
قد قامت حكومة أمراء بني أمية على القهر والاستبداد في زمنٍ كان أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأئمة أهل بيته موجودين فيه بكثرة زائدة، ثم تلتها
الخلافة العباسية، وظلت خمسة قرون، وفي عصرها دُوِّنت العلوم الشرعية،
وأُلفت الكتب الدينية، ووجدت أئمة المذاهب، بَيْد أنه لم يختلف طوَل هذا الزمن
أحد من الصحابة والعترة، والأئمة والفقهاء في هذه المسألة، بل كلهم أجمعوا على
قول واحد، وعمل واحد، ولعله لا يوجد بعد العقائد الأساسية وأركان الإسلام
الأربعة إجماع على شيءٍ غير هذا.
فعمل الصحابة معلوم ومشهور، كان مروان بن الحكم واليًا على المدينة،
وأبو هريرة صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذّنًا في المسجد النبوي،
وكان مروان يستعجل في الصلاة إلى درجة لا يقول (التأمين) استثقالاً، ولا يقف
بعد الفاتحة وقفة ليقوله المأمومون، بل يُسرع ويبدأ - بعد أم الكتاب - بسورة
أخرى، مع أن فضل التأمين ثابت في السنة، كما في حديث: (فمَن وافق تأمينُهُ
تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) (بخاري) ، ولكن مع هذا لم يتخلف أبو
هريرة عن الصلاة وراءه، ولم يخرج من طاعته، إلا أنه كان يأخذ عليه العهد
فيقول: (لا تفتني بآمين) [3] .
وكذلك كان الناس في عهد بني أمية يكرهون سماع خُطبهم الخرافية، فكانوا
يتفرقون بعد صلاة العيد، ولا ينتظرون الخطبة، فأراد مروان أن يخطب قبل
الصلاة؛ ليضطر الناس إلى سماعها - فقام رجل في وجهه، وأنكر عليه عمله،
فروى إذ ذاك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حديث: (مَن رأى منكم منكرًا
فليغيره ... ) إلخ [4] .
وهكذا كان أمراء بني أمية يخالفون صريح السنة كل يوم، وينكر عليهم
الصحابة بكل جرأة وشجاعة، ولا يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولكن مع كل هذا لا ينزعون اليد عن طاعتهم، ولا يخرجون عليهم، ولا ينكرون
خلافتهم لأجل أن خالفوا النظام الشرعي، وتسلطوا على الخلافة بغير حق، وحادوا
على الصراط السويّ.
وكان سيد التابعين سعيد بن المسيب يقول في بني مروان: (يُجيعون الناس،
ويُشبعون الكلاب) (تذكرة الحفاظ للذهبي ج1، ص47) ، ويُعاقَبُ بأنواع من
العذاب، ولكن يطيعهم، ولا ينكر خلافتهم (؟) .
وقد قامت فتنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، والمعتصم، وابتُلِيَ بها
علماء السنة ابتلاءً شديدًا، فجُلد الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ثمانين
جلدة، وحُبس في السجن سنين عديدة، ولكن لا داهن المأمون والمعتصم في
بدعتهما، ولا خرج عن طاعتهما، بل كتب في وصيته: (والدعاء لأئمة المسلمين
بالصلاح، ولا تخرج عليهم بالسيف، ولا تقاتلهم في الفتنة) ، كذا نقل عنه ابن
الجوزي في سيرته.
وقد نقل ابن حجر العسقلاني قولاً لابن التين يخالف ما قلناه من الإجماع،
فقال: (وقد أجمعوا أنه - أي الخليفة - إذا دعا إلى كفر، أو بدعة أنه يقام عليه) ،
ثم رد عليه قائلاً: ما ادعاه من الإجماع على القيام - فيما إذا دعا إلى البدعة -
مردود، إلا إذا حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر، وإلا فقد دعا المأمون،
والمعتصم، والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها
بالقتل، والضرب، والحبس، وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج
عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة، حتى ولي المتوكل الخلافة،
فأبطل المحنة. (فتح، ج 13: 103) .
والحقيقة التي لا مراء فيها أن كل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر
به من طاعة الخلفاء، وما ينبغي أن يُعامَلوا به - فسَّره السلف الصالح بعملهم الحق،
وقد علمت في الفصول الماضية الأحاديث التي تبين أدوار الخلافة الإسلامية،
وما لكل دور من الأحكام، فدور الخلافة الراشدة كان دور رحمة واسعة للأمة، وأما
دور الملك العَضوض فكانت خصائصه المتضادة، وأحواله المتناقضة - ابتلاءً
عظيمًا لها، فكان ذا وجهين مختلفين، اجتمع فيه البياض والسواد، والنور والظلمة،
والحق والباطل، ويستلزم الحب والبغض، والترك والطلب، والقطع والوصل،
والطاعة والخلاف، وطُولِبت الأمة بالقيام بكل منهما في وقته ومحله، فتطيع
هؤلاء الملوك، وتسمع لهم؛ لأنهم أولياء الأمور والقائمون بالحكومة الإسلامية،
فلا تخرج عليهم، ولا تقوم في وجههم، ونُهيت من جهة أخرى أن تتبعهم، وتقتدي
بهم؛ لأن أعمالهم لا تكون مرضية، فتطيعهم، ولكن لا تستنُّ بسُنَّتهم، وإن دعوا
إلى المنكر ردت دعوتهم، وخالفتهم في ذلك باليد، واللسان، والقلب، ولا تزيغ
عن الحق ابتغاءً لمرضاتهم.
فما أصعب هذا المقام! ، ولعمري، إن الإنسان ليزلُّ قدمه دون أن يبلغ هذا،
فكيف السبيل إلى القيام فيه؟ ! ؛ لأن الإنسان طوع عواطفه، فلا يستطيع أن يجمع
بين عاطفتين متناقضتين، فإنه إما أن يحب ويطيع، وإما أن يبغض ويعصي،
فمَن يحسبه أهلاً لحبه وطاعته يحلو منه كل شيءٍ في عينه، فيطيعه بكل قلبه، ولا
يعصي له أمرًا، ومَن يبغضه يبغضه بكل قلبه فلا يطيعه ألبتة، نعم، لا سبيل إلى
النجاح إلا أن يدركه الله بتوفيقه، فيجعل كل عاطفة في محلها، ولا يدع بعضها
يغلب بعضها الآخر، فيهلك، ويضل ضلالاً بعيدًا؛ لأنه لو تجاوز الحد في الطاعة
دخل في الاقتداء، والتأسِّي الذي يجرُّ إلى الغلو في الباطل، والانحراف عن الحق،
ثم إنه لو تصلَّب في المخالفة، وغلا في الأمر بالمعروف خُشي عليه الخروج من
الطاعة، ومن ثَمَّ الولوج في الحروب، وقتل النفوس، والفوضى، وهذه هي علة
تلك الفتن التي لا تزال تنزل بهذه الأمة من ثلاثة عشر قرنًا؛ لأن الناس لا
يستطيعون التوازن بين العواطف، فكم من أُناس غلوا في التمسك بالحق، والأمر
بالمعروف - فخرجوا على السلاطين والخلفاء، وأضعفوا بعملهم هذا الخلافة والأمة
معًا، وكم مثلهم مَن غلوا في الطاعة - فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقًّا، مداراةً
للأمراء والملوك؛ فأفسدوا بذلك نظام الأمة!
ولقد ابيضَّت عين الدهر، ولم ترَ أمة سارت على مثل هذا الطريق
الاجتماعي المحفوف بالمصائب والمصاعب سالمة آمنة إلا الأمة الإسلامية؛ فإنها -
ولا شك - سارت عليه بكل فوز ونجاح وسلامة، مراعيةً كل جوانبه، متجنِّبةً
جميع مزالقه، فعملت في آنٍ واحدٍ عملين متناقضين، فأطاعت الخليفة وخالفته،
أطاعت فيما تجب فيه طاعته، وخالفت فيما تجب فيه مخالفته، وقد شرحت بعملها
مسألة (الاقتداء والطاعة) ، والفرق بينهما بكل وضاحة، تحير منها علماء
الأخلاق؛ إذ لم يكونوا وُفِّقوا إلى حلها من قبل.
وأي طاعة للحكومة القومية تكون أكمل من طاعة الصحابة والتابعين للأمراء
الجائرين المستبدين من بني أمية، ثم من بعدهم من طاعة علماء السلف لدعاة
البدعة من الخلفاء العباسيين؟ ! ، فقد عُذِّبوا بأنواع من الظلم والعسف، وحُبسوا
في السجون، وقُتلوا، وأُوذُوا بكل ما كان يمكن أن يؤذوا به، ولكنهم تحملوا كل
ذلك، ولم يخرجوا عن الطاعة قيد شبر، بل إذا حرضهم أحد على العصيان
قالوا: (يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة، ونحن بايعناهم) .
هكذا كانت حالهم في الطاعة، أما التمسُّك بالحق، والأمر بالمعروف،
والعمل بالسنة - فكانوا فيه كالجبال راسخين، فلم يهابوا سيف عبد الملك ولا قهر
الحجاج، ولا تنمُّر المأمون والمعتصم، فإذا نطقوا نطقوا بالحق، وإذا عملوا عملوا
بالحق، ولم يكن في قلبهم سعة لشيء إلا لكتاب الله، وسنة رسول الله، فهم عملوا
بكل دقة على أمر: (تسمع وتطيع، وإن ضُرب ظهرك، وأُخذ مالك فاسمع وأَطِعْ)
(مسلم) ، وعلى أمر: ( ... فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ، وأمر:
(مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه،
وذلك أضعف الإيمان) (مسلم) .
وحسبنا محنة الإمام أحمد بن حنبل عبرة، فقد كان يجلد ظهره تسعة رجال،
والمعتصم واقف على رأسه، ينظر إلى دمه الطاهر الذي يفور من جسمه فورًا،
ويأمره بأن يقول كلمة في القرآن، ما قالها الله ولا رسوله، ولا أمر بها، فكان
يتحمَّل كل هذا العقاب الشديد، ولكن لا يفوه بشيءٍ إلا قوله: (أعطوني شيئًا من
كتاب الله وسُنة رسوله حتى أقول) [5] .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: الفتنة المرادة من الآية هي ما كان من إكراه المشركين للمسلمين على الرجوع عن الإسلام بالتعذيب والنفي من الوطن؛ فاللام فيها للعهد لا الجنس.
(2) المسألة خلافية فيما ذكره، وهو أعم مما ورد في الحديث.
(3) استدل على دعوى الإجماع بسكوت الأفراد وسكونهم، ومن الضروري أن الفرد لا يقاوم الدولة لعجزه، وقد روى البخاري وغيره أن أبا هريرة كان يكنِّي ويُعرِّض بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في إفساد أُغَيلمة من قريش لأمر هذه الأمة - وهم هم - ويقول إنه لو صرح لقُطع بلعومه، ولا شك في أنه لو كان له قوة من الأمة لأسقط بها إمارتهم، كما فعل المسلمون بعد ذلك عندما أسسوا العصبية، والمراد أن المسلمين لم يجمعوا على الخضوع لأهل الجور والباطل، وتقدم نقل الخلاف في حاشية سابقة.
(4) المنار: تتمة الحديث: (بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .
(5) المنار: قد سدد الكاتب في آخر هذا الفصل وقارب، ولا شك في أن عمل علماء الصدر الأول من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار - كالإمام أحمد - خير قدوة في كل محنة، ولا شك في أن أفراد الأمة لا يجوز لهم الخروج على أمرائهم، وإن ظلموا، ولا يجوز لهم طاعتهم في معصية الله إلا مَن أُكره بالتعذيب أو القتل على الشيء، وحكمه وشروطه معروفة، وأما جماعة أهل الحل والعقد من زعماء الأمة - الذين لا تنعقد الخلافة إلا ببيعتهم، ويتقيد الخليفة بمشورتهم - فحكمهم غير حكم الأفراد، هؤلاء هم الجماعة [الذين] يمثلون الأمة صاحبة السلطة في الإجماع الواجب الاتباع، الذي عناهم الخليفة الأول بقوله في خُطبته الأولى بعد البيعة: (فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زُغت فقوِّمُوني) ، فعليهم أن يقوِّموا الخليفة، فإن لم يستقم بتقويمهم خلعوه، وولوا غيره، فإذا غلبهم المستبد المتغلب على أمرهم، أو فقدوا من الأمة شدة الجور والقهر - فقد زالت الجماعة، وصار أمر الأفراد أمر ضرورة، والضرورة تقدَّر بقدرها، ويجب السعي الدائم لإزالتها.(23/466)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة ثواب القراءة للموتى
أرسل إلينا صديقنا الرحَّالة الجليل السيد محمد بن عقيل من (المكلا) ما يأتي
بغير إمضاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب في المنار في الصحيفة 81 وما بعدها - من ج 2 م 23 لسنة 1340 -
مقالة مطولة في عدم وصول ثواب قراءة أحد من الناس إلى شخص آخر مطلقًا،
وكثير مما نقله غير صحيح فيما نرى.
وقد عَنَّ لنا أن نرقم شيئًا خطر بالبال عند قراءة ما جاء في المنار، فنقول:
أولاً - إن الأعمال ما لم تكن خالصة لله تعالى - لا تُقبَل، وما لا يُقبَل فلا
ثواب فيه، فقراءة المستأجر أو صاحب الوقف إنما هي من باب طلب الدنيا بعمل
الآخرة، وهو مذموم، فأي ثواب يهبه هذا المغرور؟ !
ثانيًا - بعض أعمال المكلف لا يمكن أن ينفك عنه ثوابها، ولا يمكنه أن
ينتفع بأمر آخر بدونها، وذلك الإيمان، وأعني به المقدار الذي لا يخلد في النار مَن
اتصف به، وقريب من هذا ما تنصبغ به النفوس من آثار الأعمال.
ثالثًا - يدور كلام المنار في منع الإهداء للثواب على شبهتين:
(أولاهما) ما فهموه غلطًا من الحصر في نحو قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ
لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، ومن الأحاديث الواردة في هذا المعنى، وهذا الحصرُ إنما معناه
قصر الاستحقاق على سبيل الوجوب فيما ذُكر طبق العدل الإلهي، والأمر في الدنيا
هكذا أيضًا، لكل مكلف ربحُ عمله، وعليه تبعتُهُ، ولكن ليس في شيء من الأدلة
ما يمنع أن يتكرَّم الله سبحانه وتعالى بجود منه، وفضل على عبد من عبيده ابتداءً.
منه طولاً ورحمة، لا بسابق عمل ولا سعي، وهذا غير التضعيف الذي نواتُهُ
صالح الأعمال، كما أنه ليس فيها ما يمنع أن يفوز المؤمن بشفاعة مَن يأذن له
بالشفاعة ثوابًا ودرجات، وأن ينال بسبب دعاء مَن يقبل الله دعاءه - ما لم يسعَ فيه،
أو يخطر له ببال، وكذلك ليس فيها أنه لا يصل إليه من الثواب ما يهديه إليه
إخوانه من عمل صالح مقبول.
والشبهة الثانية أن أعمال المكلف ليست من ممتلكاته كعروض التجارة ... إلخ،
والجواب عليها أننا نعلم أن ثواب الأعمال الصالحة لا يجري مجرى عروض
التجارة، ولكنه مع ذلك قابل للانتقال من شخص إلى آخر، فينتفع به غير عامله -
أي ما خلا ما استثنيناه آنفًا - كما ورد من أخْذ حسنات الظالم، وإعطائها للمظلوم،
وأخذ سيئات المظلوم، ووضْعها على الظالم، وهل هذا إلا من التصرف؟ ! ، وأما
دليلنا - فيما استثنيناه - فهو أننا لم نطلع على نص يفيد سلب إيمان أحد ليُعطَى
لآخر، فيدخل هذا في النار، وذاك في الجنة بخلاف ثواب الأعمال وعقابها، وأما
مطلق المنع فعليه - فيما أفهم - شمة من قول الوعيدية.
ويوضح ما رجحناه - من جواز الهبة وانتفاع المكلف بعمل غيره - آية
الإلحاق {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور: 21) ، والأحاديث الواردة في ذلك
المعنى، وفي بعضها: (كنت أعمل لي ولهم) ، وإذا صح أن ينتفع الشخص بعمل
قريبه - من أصل أو فرع - صح أن ينتفع بما وُهب له، فذاك كالميراث، وهذا
هو الهدية أو الهبة أو الصدقة أو الصلة أو ما شئت.
جعلنا الله ممن غمره جود جوده في الدنيا والآخرة بِمَنِّه وكرمه، وصلاته
وسلامه على سيدنا محمد وآله. اهـ.
(المنار)
إننا بسطنا أدلة ما قررناه في هذه المسألة، وبيَّنَّا بالبراهين الصريحة من
القرآن أن من أصول دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) ، وأن أصل الأديان
الوثنية التي سرت عدواها إلى كثير من أهل الكتب السماوية - هي أن المجرمين
إنما ينجون بعمل الصالحين أو بجاههم، لا بأعمال أنفسهم، وبينا أن الله تعالى
ألحق بالمؤمنين ذريتهم، وأنه شرع للمؤمنين أن يدعو بعضهم لبعض، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم أذن لبعض الأولاد - بناءً على إلحاق الله إياهم بوالديهم - أن
يقضوا عنهم بعض حقوقه تعالى عليهم ... إلخ، فما قررناه مبني على الأخذ
بصريح النصوص الثابتة في الكتاب والسنة، مع مراعاة القاعدة المعروفة وهي:
أن أمور الآخرة لا تُعلم إلا من كلام الله وكلام رسوله، وأنه ليس للآراء العقلية حُكم
فيها، ولا هي مما يعلم بالأقيسة الاجتهادية كمسائل البيع والإجارة، فظنون
المجتهدين لا مجال لها في عالم الغيب، ولا في شيء من مسائل العقائد.
وصاحب هذه الرسالة قد زعم أن كثيرًا - مما قلناه وما نقلناه - غير صحيح،
فأما النقل فلم يستطع إثبات زعمه في شيء منه ألبتة، وأما غيره فقد وافقنا فيه في
أمور، وانفرد بمسائل ليست من موضوع البحث كقوله: ليس في النصوص ما
يمنع أن يتكرم الله على عبد من عبيده ... إلخ، وهل يمكن لعبد أن يحجر على ربه
أن يتكرم؟ ! ، لا، وليس لعبد أن يفتات على ربه بمحض رأيه أيضًا، فيخبر عنه
بما لم يخبر سبحانه به عن نفسه في كتابه ولا على لسان رسوله، أو يقيد ما أطلقه،
وهو يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) ، ويقول - في
بيان أصول الجرائم والكفر -: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة:
169) .
وهو قد حصر - ما زعمه من تخطئة المنار - في شبهتين:
إحداهما: الأخذ بما فهمه المحققون من العلماء - كالإمام الشافعي رحمه الله
تعالى - من الحصر في آيه النجم، وما في معناها من الآيات والأحاديث، وزعم
أن هذا الفهم غلط، قال: وإنما معناه قصر الاستحقاق على سبيل الوجوب ... إلخ،
وهو تقييد لحصر مطلق لا دليل له عليه، ولا سلف له فيه، وهو في آيات كثيرة
وردت في بيان الجزاء الذي يجب الإيمان به، كقوله: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} (الطور: 16) ، لا في بيان ما يجب عليه تعالى منه، وما لا يجب،
والحق أنه تعالى لا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه على نفسه، أي أثبته، وأكده في
وَحيه بمشيئته التي لا تتعارض مع حكمته، ومسألة الوجوب على الله تعالى عقلاً يقول
بها المعتزلة، وينكرها أهل السنة.
والشبهة الثانية - التي زعمها -: مسألة جعْل عبادات المؤمن كعروض
التجارة يتصرف فيها وفي ثوابها المجهول في الآخرة، فهو قد ادعى أن ثوابها قابل
للانتقال، وللعامل أن يتصرف فيه قبل أن يملكه بأن يهبه وهو في الدنيا، أو
يتصدق به، واستدل عليه بأخْذ الله تعالى من حسنات الظالم للمظلوم دون أخذ إيمانه،
وجعْله لغيره، وهو استدلال باطل؛ لأنه قاس فيه تصرف العبد في الدنيا بما لم
يملكه - ولا يعلمه من أمر الغيب - على تصرف الرب في الآخرة: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) ، كما قاس عمل كل عامل
على عمل الوالدين للأولاد الذين ألحقهم الله بهم، وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم
عملهم من عملهم؛ لأنه سبب وجودهم، وما تبعه من أعمالهم، وكلاهما من القياس
مع الفارق، والفرق مثل الصبح ظاهر، ولو صح أن القصاص يوم القيامة
معارض للآية لم يكن حجة علينا؛ لأنه خارج عن محل النزاع؛ ولأننا نحن
نستثني من عموم النصوص ما خصصها من كتاب أو سُنَّة صحيحة بالشروط الثابتة
في تخصيص العام من الأصول لا بالرأي وهوى النفس، ولولا الشرع لكنَّا نهوى
أن نقدر على نفع أمواتنا، وأن يقدر أحياؤنا على نفعنا بعد موتنا، وهل عمم هذه
البدعة إلا كونها موافقة للأهواء؟ ! ، والصواب أنه لا تعارُض، وأن المقاصة في
الآخرة كحكم الشرع في الغرامات في الدنيا، فهو لا ينافي أن لكل إنسان ملكه، ولا
حق له في ملك غيره، وأنه لا يملك إلا ما جعله الشرع مالكًا له، ولا يؤخذ منه
باختياره وبغير اختياره إلا ما أذن به الشرع، قال الإمام المازري - في حديث
مسلم في المقاصة بالحسنات والسيئات الذي نقلناه في تفسير هذا الجزء -: (وزعم
بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} (الأنعام: 164) ، وهذا الاعتراض غلط منه وجهالة بيِّنة؛ لأنه إنما
عُوقب بفعله ووزره وظلمه، فتوجَّهت عليه حقوق لغُرمائه، فدفعت إليهم من
حسناته، فلما فرغت، وبقيت بقية - قُوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى
في خلقه وعدله في عباده، فأخذ قدرها من سيئات خصومه، فعوقب به في النار،
فحقيقة العقوبة إنما هي بسبب ظلمه، ولم يعاقَب بغير جناية، وظلم منه، وهذا كله
مذهب أهل السنة) ، والله أعلم. اهـ من شرح النووي على صحيح مسلم.
***
انتقاد آخر في الموضوع
من صاحب الإمضاء الرمزي في بيتن زورغ (جاوه) في 22 شوال 1340
حضرة الفاضل المحترم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله.
بعد السلام والتحية والإكرام
إني اطلعت على ما ذكرتم في عدد 81 من المنار في مسألة انتفاع أموات
المسلمين بما يُهدَى لهم من ثواب قراءة أو ذكر، وذكرتم أن جواب ابن القيم عن
هذه الحجة ضعيف جدًّا، وأطلتم الكلام في ذلك، وهذا الشيء معمول به في سائر
الأقطار الإسلامية، بل يُؤَجِّرون على ذلك لمَن يقرأ القرآن على الختمة شيء
معلوم (كذا) ، وعلى التهليل مَن جاب 70 ألف مرة فله كذا وكذا، ويهدي ذلك إلى
أرواح الأموات، ولا أحد يعترض عليهم في ذلك؛ لأن وصول ثوابه إلى الأموات -
وعدم وصوله وقبوله عند الله تعالى - من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله،
وأنتم تقولون: إنه لا يصل إليهم ثواب القراءة والذكر، فمَن أطلعكم على ذلك،
وفضل الله واسع، والظن بالله جميل؟ !
ومع ذلك أنكم خطَّأتم ابن القيم، وأكثرتم الأدلة والتأويلات في هذه المسألة،
ولو فرضنا أنها بدعة - كما ذكرتم - فهي من البدع الحسنة، وليس يأثم مَن قرأ
القرآن والذكر، وأهدى ثوابه للأموات، بل يُثَاب، وليس هي من البدع المضرَّة
في الدين، وقد ورد في الخبر: (مَن سَنَّ سنة حسنة فله أجرها، وأجر مَن عمل
بها إلى يوم القيامة، ومَن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم
القيامة) ، أو ما هذا معناه.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: البدع بدعتان، بدعة محمودة وبدعة مذمومة،
وتنقسم البدع إلى خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، وهذه
المسألة ترجع إلى أي قسم من هذه الأقسام.
أفيدوني، وأجركم على الله، وأرجو أن تنشروا جوابكم في المنار على ما
ذكر.
أ. ح. ب. ر
(المنار)
اعلم - أيها الأخ المستفهم - أن أصول دين الله تعالى وفروعه مبنية على
أساسين: (أحدهما) أن لا يُعبد إلا الله تعالى، (ثانيهما) أن لا يُعبد إلا بما شرعه،
ونحن قد بنينا على هذا الأصل، ولم نتجرأ على عالم الغيب، وإنما وقفنا عند
النصوص، فعبادات الدين لا تثبت إلا بنص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يزيد فيها برأيه شيئًا؛ فإن الله تعالى قد أكمل
دينه على لسان رسوله بنص الآية المشهورة، وكل بدعة في الدين فهي ضلالة
بنص الحديث الصحيح، وإجماع علماء الأمة، وأما البدعة التي قالوا: إنها تكون
حسنة وسيئة المشار إليها بحديث: (مَن سن سُنَّة حسنة ... ) - فهي في
المستحدثات الدنيوية، فالحسن منها هو النافع كبناء القناطر والمدارس والمستشفيات
وتدوين العلوم والصناعات والحرف، والقبيح منها هو الضار في الدين أو الدنيا،
والحسن يكون واجبًا أو مستحبًّا، والقبيح يكون حرامًا أو مكروهًا، وما ليس من
هذا ولا ذاك فهو المباح، كمستحدثات الزينة غير المحرمة والطيبات من الرزق،
وهذه إنما تسمى بدعًا في اللغة، لا في عرف الشرع، وممن صرح بأن البدعة
اللغوية هي التي تعتريها الأحكام الخمسة، والبدعة اللغوية لا تكون إلا ضلالة: ابن
حجر المكي الهيتمي (في ص 206 من الفتاوى الحديثية المطبوعة بمصر) ، ولو
أبيح للناس أن يزيدوا في العبادات لضاع الإسلام، كما ضاعت أديان الرسل
السابقين بتصرف أتباعهم فيها، وكل هذه المسائل مبينة في مواضع كثيرة من
المنار بدلائلها التفصيلية، ويمكنكم مراجعتها مستدلين عليها بالفهارس.
ثم اعلم - أيها الأخ - أن عمل الناس بغير المشروع، وسكوتهم على إنكار
المنكر لا يغير حكم الله في ذلك، ولعلكم رأيتم ما حققه في هذه المسألة السيد محمد
إسماعيل الأمير في رسالته (تطهير الاعتقاد) ، التي نشرناها في الأجزاء الأخيرة،
وهو أن الناس يعملون منكراتٍ كثيرةً مجمعًا على تحريمها، وقد صارت فاشية
في جميع بلاد الإسلام، ولكن الأمة لا تُجمِع على السكوت على المنكر؛ ولهذا
تجدون في كل عصر مَن ينكر كل بدعة تحدث، وقد نقلنا عن العلماء إنكار هذه
البدعة، ومَن لم ينكرها اجتهادًا فهو معذور.
__________(23/472)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعزيتان
جاءتنا كتب وبرقيات كثيرة في التعزية عن شقيقنا السيد صالح من هذا القطر،
ومن أقطار أخرى؛ فرأينا أن ننشر كتابين منها لكاتبين في الذروة من خواص
أدبائنا، والصفوة من أصدقائنا؛ لما فيهما من رثاء فقيدنا، وبيان بعض مكانته
عندهم وعندنا، الأول من ملك دولة البيان، الأمير شكيب أرسلان، والثاني من
أبي حنيفة العصر، ورب النظم والنثر، الأستاذ الشيخ إسماعيل الحافظ الطرابُلسي
وهو أعز أخلاء الفقيد.
***
(الكتاب الأول)
روما 11 يونيو 1922
سيدي الأخ الأستاذ
أنت تعلم أن أقل حادث يسوؤك، ويكدر صفو خاطرك - يسوؤني جدًّا،
ويحملني إدًّا، فكيف إذا كان رُزءًا عظيمًا كالذي رُزئتَه، وخَطْبًا فادحًا كالذي
تحملت وِقْره، وكانت الفجيعة بالأخ الخطير، والصِّنْو الجليل، والركن الذي كان
يعتمد عليه البيت الرِّضَوِي الأصيل، لا جرم أنني أشاطرك بأوفر سهمٍ من وقْع ذلك
السهم الأليم، وأكرع معك مرارة تلك الكأس، وما يكرع معك الحميمَ إلا الحميمُ،
لقد كنت منذ مدة أعجب لانقطاع كتبك عني، ولا أقدر لذلك سببًا سوى عدواء
الأشغال، فإذا به عدوان الدهر، ومصائب الأيام، وإذا بي أقرأ خبرًا عرفت منه
سبب انقطاع أخبارك، واحتباس آثارك، ألا وهو انتقال المرحوم السيد صالح إلى
جوار ربه، فنزل عليَّ ذلك النعي الفجائي نزول الصواعق، وإن كنت أعلم أن
الدنيا كلها إن هي إلا مجال لغراب البَيْن الناعق، وتخيلت لهذا حزنك، وارتماضك
لهذا المصاب، بما أنت عليه من رقة الشعور وفرط الحنان، وشفوف شغاف
الجنان، وبمكان الأخ الراحل بذاته من الفضل والنبل، وإنه الذي يؤسف على مثله
لذاته وصفاته، قبل علاقاته ومضافاته، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه
راجعون.
ليس لنا إلا التأمل في زوال الدنيا، وإنها دار قلعة، وإن هذا اليوم لا بد منه
إن لم يكن اليوم فغدًا، فالخلائق كلها موتى منذ الآن، مَن ليس بميت فعلاً فهو ميت
حكمًا، وقافلة واحدة، منها واصل، ومنها مَنْ هو على أهبة الوصول، وكلاهما
بالغ أمده جزمًا، إذًا ليس للمتخلف منا أن تذهب نفسه حسرات على أمر كلنا بالغه،
وفراق كلنا وارده، بل قد يكون السابق منا أسعد حالاً بمغادرة حياة هي أشبه
بالممات، وبغمض عين هو عين اليقظة، وإن كان يظن أنه سبات، فضلاً عما
هناك من فضيلة الصبر التي مثل الأستاذ السيد مَن تحلى بحليتها، واشتمل بحلتها،
لا بل مَن حث تلاميذه الكثيرين ومريديه العديدين على التمسك بسُنَّتها.
نسأل الله أن يحسن مثوى العزيز الراحل، ويكرم نُزُله، ويبلغه من سعادة
المنقلب أمله، وأن يجعل في السيد الرشيد العزاء، ويطيل عمره لهذه الأمة،
ويجزل ثوابه، ومني واجب التعزية لحضرة السيدة الوالدة، أجزل الله أجرها،
وجبر قلبها، وإلى حضرة السيد عاصم، والسيد محيي الدين، وأطال المولى
بقاءكم جميعًا.
***
(الكتاب الثاني)
سيدي الأخ الرشيد.. أعظم له ولي الأجر، وألهمني وإياه الصبر، على
فواجع الدهر.
بلغني الخبر الذي صدَّع القلبَ وقعُهُ، وأصم الآذان سمعه، وضاعف الأحزان،
التي ما زالت تلدها أحداث هذا الزمان، ولو وصل إلى يقينه دفعة لأصماني الكمد،
ولما بقي لي هذا الذماء القلل من الجلد، ولكنني سمعته لأول الأمر ممن لا يَتَثَبَّتُ
في حديثه، فرجحت أنه غلط عن المرض الحنجري، الذي كان ألمَّ بالفقيد العزيز،
عوَّضه الله الجنة، أو طاب لنفس أن ترجح ذلك ضنًّا منها بتلك الحياة الثمينة،
وبقيت في حالة الشك مدة، لقيت فيها السيد إبراهيم أدهم غير مرة، وسألته عن
ورود كتاب من قِبَلكم، ولم أستطع أن أخرج في السؤال عن هذا الحد؛ خشية أن
أسمع من الجواب ما ينقلني من أعراف الشك إلى جحيم ذلك اليقين، وهو - حرسه
الله - لم يشأ أن يزيدني مما عنده إشفاقًا عليَّ، وتفاديًا من مبادهتي بوقوع ذلك
الخطب الجليل، ولكن لم يلبث ذلك الشك - والَهَفَ نفسي! - أن صار يقينًا محرقًا،
أو سهمًا مصميًا.
الشك أبرد للحشى من مثله ... يا ليت شكي فيه دام وطالا
وهنالك عالجت من الأحزان الفادحة ما لو كان بالروض الأريض لأذواه، أو
بالصخر الأصم لأبلاه، وعلمت كيف يسطو الكمد على الأكباد، فيذيبها، وكيف
يحيط الجزع بالأنفس، فيحُول بينها وبين الصبر؛ حتى لا نهتدي إليه سبيلاً، ولا
نجد عليه دليلاً، ولعمري إن الرزء بالفقيد العزيز فقيد الفضيلة والأدب،
فقيد الشرف والحسب، فقيد الصدق والوفاء، فقيد الشمم والإباء - ليس مما
يُستطاع الصبر عليه، أو يتسرب السلوان إليه، وليس مما تخفف الأيام آلامه
عندي، أو تكاد تُعَفِّي آثاره من نفسي، بل هو ألم الدهر، وحزن الأبد، وكيف أجد
سلوا عمن لا أجد الفضائل اجتمعت في شخصٍ اجتماعها فيه؟ ! بل كيف أجد
سلوا عمن لو نُعيت له لقضى عمره حسرات، وأفاض من شئونه عَبَرات وأي
عبرات؟ ! فوالهف نفسٍ ولهف الوفاء والمروءة عليه، ويا طول حزني وحزن
الكرم، ومحاسن الشيم، ويا ما أحوجني عند هذه الملمَّة الفادحة أن تعيرني - أيها
السيد الكريم - جانبًا من ثباتك، وذروًا من صبرك وأَنَاتك، وأن ترفدني بحكمتك
العالية.
أحسن الله إليك العزاء، وأحسن ذلك لسيدتي والدتكم المحترمة، ولنجل الفقيد
النجيب السيد محيي الدين حرسه الله تعالى، وأورثه فضائل والده، وأحسن ذلك
لشقيقه السيد حسن ولشقيقته الفاضلة السيدة حفصة، ولكافة الأسرة الكريمة،
وألهمنا جميعًا الصبر على فراقه، وأسكنه فراديس الجنان، بين رَوْح وريحان،
وجنات ذات أفنان، وأطال الله تعالى بقاءكم، والسلام عليكم، وعلى مَن إليكم،
ورحمة الله وبركاته.
__________(23/477)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحوال العالم الإسلامي
العراق ومصر
إن بين مصر والعراق شبهًا في مطالب أهلهما، وفيما تبغيه السياسة
البريطانية منهما، فأما الأهالي في القطرين فيطلبون لأنفسهما الحرية القومية،
والاستقلال السياسي، والاقتصادي، والإداري، ولا يأبون - في حال مواتاة الدولة
البريطانية لهم على ذلك - أن يتخذوها صديقة، ويفضلونها وشعبها على سائر
الدول والشعوب بمنافع عظيمة مضمونة، وكل منهما قد ثار على السلطة البريطانية
بحسب حاله، فثورة مصر كانت سياسية اجتماعية، وثورة العراق كانت حربية،
وقد قاومت السلطة البريطانية العسكرية كلاًّ منهما بغاية القسوة، والشدة؛ فكانت
الخاسرة.
ثم اضطرت بعد ذلك إلى سلوك سبيل اللين بأن تسمح لكل من القطرين بأن
يكون ذا دولة مستقلة في المظهر، لها ملك ووزارة مسئولة ومجلس شورى منتخب
ودستور بشرط أن تقرر هذه الهيئات كلها وتضمن للدولة البريطانية كل ما تطلبه
من الحقوق والمنافع في البلاد، وتكون تحت رحمة جيش بريطاني محش في قلب
البلاد، أو بعض أطرافها، يمكنه في كل وقتٍ تنفيذ ما عسى أن تأمر به دولته من
التغيير، والتبديل، ومن سلب السلطة الوطنية ما ترى سلبه منها بالحجج التي
تقيمها هي على أن لها الحق في ذلك، وهذه الحجج قد صارت معروفة الأنواع
كدعوى ظهور عجز الأهالي عن القيام بشؤون بلادهم بغير مساعدة أجنبي،
ودعوى ظلمهم للأقليات الدينية والجنسية.
وهذه التجربة لم تنجح في العراق، فقد عُلم أن الرأي العام فيها كاره للانتداب،
رافض له، وكثر الحديث في عقد معاهدة بين الحكومتين، لا يُذكر فيها الانتداب،
يضمن فيها للدولة البريطانية كل ما تبغيه باسمه من سلطة ومنفعة، وقد قيل
مرارًا إن المعاهدة قد وُضعت، وإن الحكومة العراقية المؤقتة لم تقبلها، فلم تتفق
مع المندوب البريطاني السامي على انتخاب الجمعية الوطنية، التي يشترط أن
تقررها، وهو لا يسمح بانتخابها إلا بعد الاتفاق مع الملك فيصل، ووزرائه على
المعاهدة، وعلى كفالة إيجاد جمعية وطنية ترضاها، وتقررها، ولم تضمن له
الحكومة ذلك.
وقد ظهر بهذا أن الرأي العراقي العام - وكذا الخاص - لا يهتم بالألفاظ
والمظاهر دون الحقائق كما يزعم الإنجليز في الشرقيين؛ إذ قالوا في المصريين:
إنهم ينفرون من كلمة الحماية لا من معناها، والأمر المهم الذي نريد أن نذكِّر
إخواننا العراقيين به - هو أن الحقوق التي تعطيها العراق للإنكليز إذا كانت مخلة
بالاستقلال التام المطلق؛ فتقييدها بالانتداب أقل خطرًا عليها من جعْلها مطلقة، لا
يحاسب الإنكليز عليها محاسب، ولا ينازعهم فيها منازع.
__________(23/479)
ذو القعدة - 1340هـ
يوليو - 1922م(23/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من بيروت
(س 26 - 31) من صاحب الإمضاء
حضرة العالم العلامة والجهبذ الفهامة مولانا الأستاذ السيد محمد أفندي رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الغراء - حفظه الله -.
(1) ما حكم الله تعالى ورسوله في رجل يُمضي وقتًا كل يوم في قهوة
عمومية، بها مسكرات، ولعب ميسر، ولعب بليارد، وغير ذلك، مع أنه لا
يتعاطى شيئًا من ذلك كله، وينكر ذلك بقلبه، بل قصده تمضية وقت، فهل يجوز
له الجلوس أم لا؟
(2) وهل سماع الأدوار الغنائية من الرجال، وضرْب النساء على البيانو
والعود حرام أم لا؟
(3) وهل الخمر نجسة، وما الأحاديث الصحيحة الواردة في نجاستها؟
(4) وهل الإسبيرتو والبنزين نجسان أم لا؟
(5) وهل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة، أم سنة، أم مستحبة؟ وهل
ورد في ذلك أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
(6) وهل يجوز المسح على الخف المقطع وعلى الجوارب؟ (ما يسمونها
العامة بالشرابات) الصوف والقطن أم لا؟
تفضلوا ببيان ما جاءت به الشريعة المطهرة، والله يتولى مثوبتكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ط. ل
الجواب عن مسألة القعود مع مرتكبي كبائر المعاصي ومشاهدتهم:
قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 68-70) ...
إلخ، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (النساء: 140)
الآية.
هذا حكم الله فيمن يرى الباطل والمنكر، أو يسمعه من غيره، وهو أنه منهي
عن القعود مع أهله؛ لأن أقل ما في قعوده إقرار ما يرى، ويسمع، واحترام أهله،
والاستئناس به، وهو نوع من المشاركة فيه، وراجع تفسير الآيات في ص 463
من جزء التفسير الخامس، وص 503 من الجزء السادس، أو في المنار.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه
مسلم وغيره من حديث أبي مسعود البدري (رضي الله عنه) ، وقال صلى الله
عليه وسلم: (إياكم والجلوسَ بالطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بُدٌّ من
مجالسنا، نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا:
وما حقه؟ ، قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر) رواه البخاري ومسلم. والأحاديث في هذا كثيرة، وهي
واضحة المعنى، وقلما واظب أحد على مجالسة أهل المعاصي، والأنس بهم إلا
وشاركهم في معاصيهم، ولو بعد حين، وما يجده أولاً من إنكار القلب وتوبيخ
الضمير - الذي هو أضعف الإيمان - يزول بالتدريج، فليتقِ العاقل ربه، ولا
يَغْشَ مجالس المنكرات، ويجالس أهلها إلا لضرورة، وبقدر الضرورة إن وُجدت،
وتقطيع الوقت ليس بضرورة ولا حاجة صحيحة، بل الوقت أثمن ما يملك العاقل،
فعليه أن يصرفه فيما ينفعه في دينه أو دنياه، لا فيما يُعَدُّ وسيلة إلى إضاعتهما
جميعًا.
الجواب عن مسألة سماع الغناء وآلات الطرب:
مسألة السماع فيها تفصيل، وخلاف عريض طويل، وأكثر فقهاء المذاهب
المشهورة يكرهون سماع الغناء أو كثرته، ويحرمون معازف المزامير والأوتار،
والتحقيق أن الأصل فيها الإباحة، وأنها تعرض لها أحوال تكون بها فتنة، وذرائع
لمفاسد تكون بها محرمة أو مكروهة، وقد فصلنا القول فيها بذِكر أدلة الحاظرين
والمبيحين، وتمييز صحيحها من سقيمها، ووزن رواياتها بميزان الجرح والتعديل
في الجزئين الأول والثاني من مجلد المنار التاسع (من ص 35 - 51 و4 -147
وفي الصفحة الأخيرة منها خلاصة الفتوى في عشر مسائل، وله تتمة) ، وكشف
شبهات معترض في (ص 185) من المجلد السابع عشر.
الجواب عن مسألتي نجاسة الخمر والسبيرتو:
أكثر الفقهاء قالوا بنجاسة الخمر، وقال بعضهم بطهارتها، ومنهم ربيعة شيخ
الإمام مالك من علماء السلف، والقاضي الشوكاني، والسيد حسن صديق من فقهاء
الحديث المتأخرين، ولا يوجد حديث صحيح، ولا حسن مصرح بنجاستها، وقد
فصلنا القول فيها من قبل في المجلد الرابع (ص 500 و821، وفي غيره، ومنه
ص 184، م 17) ، والسبيرتو لم يكن في عصر أئمة هذه المذاهب، ولكن
فقهاءها يقولون بنجاسته بناءً على أنه نوع منها أو مستخرج منها، وفي ذلك مباحث
طويلة فيما أشرنا إليه من فتوى المجلد الرابع، وما تبعها، ولدينا الآن فتوى من
الهند بنجاسة كل من الخمر والكحول (السبيرتو) سُئلنا عنها، ونجيب في جزء
تالٍ إن شاء الله.
صلاة الظهر بعد الجمعة:
(ج) صلاة الظهر بعد الجمعة بدعة، لم يرد فيها حديث صحيح، ولا
ضعيف، بل هي مسألة اجتهادية في مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وقد
فصلنا القول فيها مرارًا (راجع فهارس المجلد السابع وما بعده) .
المسح على الخف المقطع والجوارب:
(ج) إذا تقطع الخف فلم يعد ساترًا للرجلين فلا يختلف الفقهاء في عدم
جواز المسح عليه؛ لأن علته سترهما مع مشقة نزعهما، وحكمته أنهما بالستر
يظلان طاهرتين نظيفتين، وكلتاهما تزول بهذا التقطع، والمسح على الجوارب
الساترة جائز، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه أحمد وأصحاب
السنن من حديث المغيرة بن شعبة، وصححه الترمذي، ويجد السائل هذا البحث -
وما يتعلق به - مفصلاً في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة، وهو في الجزء
السادس من التفسير (ص5) ، والمجلد السادس عشر من المنار (ص 657 -
665) .
***
استذلال مشايخ الطرق لأتباعهم
وتحكُّمهم في دينهم ودنياهم
(س 36) من صاحب الإمضاء بالإسكندرية
حضرة صاحب الفضيلة العلامة السيد محمد رشيد رضا - حفظه الله -
بعد تقديم واجبات الاحترام لمقام فضيلتكم السامي
لا يخفى على مسلم اشتغالكم بالعلوم والمعارف، سيما ما هو خاص منها
بالشريعة الإسلامية السمحة، وما جبلتم عليه من كرم الأخلاق وطهارة النفس؛ ولذا
جئت إليكم بالسؤال الآتي - لا زلتم ملجأً لكل قاصد، ودليلاً لكل حائر، آمين -
وإني أستحلفكم بالدين الحنيف السمح إجابتي على هذا السؤال على صفحات أول
عدد يصدر من مجلتكم الغراء وهو:
(1) هل ورد نصٌّ شرعيٌّ يبيح لمشايخ الطرق أن يكلفوا المريدين أن
يقبِّلوا رِجْل شيخهم باطنًا وظاهرًا؟ !
(2) وهل يجوز لشيخ أن ينهى أولاده أو دراويشه أن يتعلموا العلم؛ لأن
العلم - على زعمه - يوجد الكبر في النفس؟ ! ، وأن يمنع أحدهم أن يشتغل إلا
بمهنة واحدة، بمعنى أن النجار مثلاً لا يجوز له أن يشتغل بالحدادة، ولا للحداد أن
يمارس النجارة؛ لأن ذلك يحرم على زعمه، وأن هذا الشيخ حَتَّمَ على أولاده بأن
يذكروا الله ببعض أسماء الله الحسنى، مع ترك باقي أسمائه تعالى، وإذا سئل عن
تفسير آية أو حديث يفسر ما سئل عنه، وهو يدخن سيجارته مادًّا إحدى رِجليه، أو
كلتيهما معًا، وأن هذا الشيخ جمع له جمعًا عظيمًا من البسطاء وذوي القلوب
الضعيفة، وعمل له طريقًا، وهو يتجول من بلد إلى أخرى لتقويته، فهل هذا
الطريق شرعي؟
هذا هو السؤال وضحته لفضيلتكم ملتمسًا الإجابة عليه كما ذكرت، مع الشكر
والثناء؛ لأني في الحقيقة عامل مشتغل بالصناعة، ويهمني كثيرًا أمر ديني،
وفاتني أن أذكر لكم أن هذا الشيخ يزعم أن هذا الذكر مطابق للشرع، وأن الرسول-
صلى الله عليه وسلم - جمع جمعًا من أصحابه - رضوان الله عليهم - وذكر بهم
هذا الذكر. اهـ.
وختامًا تفضلوا بقبول مزيد احترامي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبده منصور قنديل
(الجواب) :
إن من المصائب والنوائب أن يصل الجهل بضروريات الإسلام في مثل هذه
البلاد المصرية - إلى أن يحتاج بعض الناس إلى السؤال عن هذه الضلالات
والجهالات هل ورد فيها نص شرعي، وإن كان الغرض منه جعْله وسيلة إلى
إنكارها - كما نظن - عسى أن يهتدي بما يُنشر فيها من الإنكار بعض أولئك العوام
المساكين، الذين يصدقون كل مَن يتظاهر بالصلاح في كل ما يدَّعيه، ويسلمون له
كل ما يعزوه إلى الشريعة، ويحكيه عن الله تعالى وعن رسوله - صلى الله عليه
وسلم -، وهو يكذب في ذلك، ويختلق بغير علمٍ، ولا حياء من الله، ولا خوف
من مسلم يعرف ضروريات الدين أن ينكر عليه كذبه على الله ورسوله، وإفساده
على العامة دينهم، كالشيخ المشار إليه بهذا السؤال.
والعلماء الرسميون - الذين احتكروا رئاسة الدين بقوانين الحكومة - قلما
يُعنَى أحد منهم أقل عناية بأمر العامة ببحث أو سؤال، أو هدي وإرشاد، وأمر
بمعروف، ونهي عن منكر، وهم يعلمون ما عليه الناس، فإن ذُكر على مسمعهم
ما فشا في الناس من البدع المكفرة، والمفسقة حوقلوا، وتبرموا، وقالوا: آخر
زمان! ولكن إذا تصدى أحد لإرشاد العامة، وبيان حقيقة دينها لها، وقال: هذا
إيمان، وذاك كفر، وهذه سنة، وتلك بدعة، ورأوا له تأثيرًا في العامة - لا يعدم
من أكبرهم عمائم، وأطولهم لِحًى مَن يقوم في وجهه، وينتصر للعامة عليه! ، فإذا
ذكر بدع القبوريين ومنكراتهم - التي تعد بالعشرات والمئات - صاحوا في وجهه:
إنك تنكر زيارة القبور، وكرامات الأولياء! وإذا أنكر خرافات مشايخ الطريق التي
قلبوا بها الدين رأسًا على عقب- هاجوا عليه العامة: هذا مبتدع، أو معتزلي، أو
وهابي؛ ينكر كرامات الأولياء!! فبحماية استحباب زيارة القبور للرجال لأجل
تذكُّر الموت والآخرة - التي لم ينكرها وهابي ولا غيره - يبيحون للملايين من
النساء والرجال مئات من المعاصي المجمع على تحريمها، والتي تقوم الأدلة على
كون بعضها ردة عن الإسلام، وخروجًا عن الملة، ويا وَيْحَ مَن يصرح بهذا،
وبحماية كرامات الأولياء التي توسعوا فيها توسعًا تأباه سنن الله في خلقه وشرعه
لهداية عباده، يبيحون لأهل الطرق ولغيرهم من الدجالين والمعتوهين - مئات من
الخرافات المنفرة عن الدين، المشوهة لوجهه الجميل، وإن بعض هؤلاء المعممين
الرسميين لَيحتمون لهذه البدع والخرافات، ويغارون عليها غيرة لو بذلوا بعضها
للكتاب والسنة لما عم الجهل بهما، والإعراض عنهما العباد والبلاد، حتى إنهم
ليؤذون العالم التابع لرئاستهم، ويستعينون على أذاه بالحكومة، إذا هو دعا الناس
إلى السنة، وأنكر تلك البدع عليهم، كما فعلوا في دمياط غير مرة!
ذلك ما جرَّأ بعض دجاجلة العوام على انتحال مشيخة الطريق، والتصدر
لإرشاد الناس، بل على إغوائهم وإضلالهم بما يعجز عنه كل شيطان مريد، وماذا
عسى أن نقول في مثل هذا الدجال الصغير وإفساده إذا قسناه بكبار الدجالين، الذين
يعد أتباعهم بالملايين، ويقدسهم الألوف من العلماء المؤلفين، والشعراء الغاوين،
كالشيخ أحمد التيجاني الذي تُستباح بالانتماء إليه جميع الفواحش والمنكرات؛
لدعواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمن لكل مَن يدخل في طريقته الجنة،
وهو ما سنبينه في جزءٍ آخر.
وحسبنا في جواب هذا السؤال أن نقول بالإجمال: إن ما يدعيه هذا الدجال
كذب معلوم بالضرورة، وما يحمل عليه أتباعه إفساد لدينهم ودنياهم، فالدين لم
يشرع فيه تقبيل رجل أحد ولا يده، وفي تقبيل رجل أي إنسان ذل، تأباه عزة
الإيمان التي أثبتها الله لعباده المؤمنين، وتقبيل اليد ليس فيها لذاتها هذا المعنى من
الذل، ولكن لا يجوز أن يُفعل على أنه من الدين، ولكل أحد أن يشتغل بكل حرفة،
وكل صناعة، يرى له فيها ربحًا حلالاً، وليس لأحد أن يحظر عليه ذلك حظرًا
دينيًّا، ولا يقبل قول أحد في عبادة من ذكر أو غيره إلا بدليل يستند فيه إلى كتاب
الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والسلف والمجتهدون معذورون فيما
اتبعوه بالاجتهاد من ذلك، ولا يعذر فيه مثل الرجل المسئول عنه، وكيف يُقبل قول
مَن بلغ منه الجهل والضلال أن ينهى أتباعه عن طلب العلم، الذي لا يصح بدونه
عبادة، وما ذلك إلا أن العلم هو الذي يفضحه، ويُظهر جهله وكذبه على الله
ورسوله مع سوء أدبه عند الكلام فيهما مادًّا رجليه، نافخًا دخانه، ولم يبين السائل
الذكر الذي حمل أتباعه على التزامه؛ لنعلم هل له أصل ما في السنة أم لا، ولكننا
نقطع بأنه لم يرد في السنة شيءٌ في التزام ذكر معين، والاستغناء به [عن] كل ما
سواه.
***
تزوج المسلمين بالكتابيات
(س 37) من وكيل المنار في الأرجنتين السيد عبد الكريم عكره:
كتب إلينا وكيلنا المذكور يشكو من تزوج بعض المسلمين السوريين ببعض
نساء البلاد، ورغب إلينا أن نكتب في المنار تحذيرًا لهم من ذلك، لاعتقاده أنه غير
جائز شرعًا.
ونجيب عن هذا بأن نساء تلك البلاد كتابيات، ونكاح المُحْصَنَات (العفيفات)
منهمن جائز بنص سورة المائدة المحكمة، وعليه جمهور السلف والخلف، إلا أنه
نُقل عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - مَنْعه وَحِلّه، وعلى المنع الشيعة
الإمامية، وقيده بعض الفقهاء بمَن كُنَّ من سلائل أهل الكتاب قبل تحريف كتبهم،
وهذا من تدقيق بعض الشافعية، ونحن نعتقد أنه جائز بالنص، وأنه لا يحرم إلا
لسبب آخر يدخل في باب سد الذرائع، كأن يستلزم شيئًا من المفاسد المحرمة،
وأشدها أن يتبع الأولاد كلهم أو بعضهم الأم في دينها، إما بحكم قوانين تلك البلاد،
وإما لكون المرأة أرقى من زوجها علمًا، وعقلاً، وتأثيرًا، بحيث تغلبه على أولاده،
فتربيهم على دينها، وتعلّمهم عقائده، وعباداته، فيشبّون عليه، وإن من حكم حل
هذا النكاح أن ترى المرأة غير المسلمة ما عليه زوجها من الدين المعقول الموافق
للفطرة بعقائده، وعباداته، وآدابه، وأحكامه - فيجذبها ذلك إلى الإسلام، وإن
أكثر المسلمين في تلك البلاد من العوام، ولعلهم يرغبون في نساء شعبها؛ لأنهم
يرونهن فوقهم مكانة، ولا أدري كيف يكون حالهم معهن، فإذا كن يحترمنهم كما
يحترمن الرجل من أبناء بلادهن، وكانت عيشتهم معهن حسنة بالإحصان أي المنع
من الفسق، والاقتصاد، وتربية الأولاد مع جعْلهم تابعين لآبائهم في الدين - فيكون
هذا التزوُّج بهن حسنًا مفيدًا، وإلا فلا.
__________(23/495)
الكاتب: محمود شكري الآلوسي
__________
الهجر الجميل والصفح
والصبر الجميل [1]
محمود شكري الآلوسي
بسم الله الرحمن الرحيم
سُئل الشيخ الإمام، العالم العامل، الحبر الكامل، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام
تقي الدين بن تيمية - أيده الله، وزاده من فضله - العظيم عن الصبر الجميل،
والصفح الجميل، والهجر الجميل، وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس.
فأجاب - رحمه الله -:
الحمد لله، أما بعد:
فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل،
فالهجر الجميل هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا عتاب، والصبر الجميل
صبر بلا شكوى، قال يعقوب - عليه الصلاة والسلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 86) .
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل، ويُروى عن موسى - عليه الصلاة
والسلام - أنه كان يقول: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكَى، وأنت المستعان، وبك
المستغاث، وعليك التكلان، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم
إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب
المستضعفين، وأنت ربي، اللهم إلى مَن تكلني؟ ، أَإِلى بعيدٍ يتجهَّمني، أم إلى
عدو ملَّكتَه أمري؟ ، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي
أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت الظلمات له، وصلح عليه أمر الدنيا
والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل عليَّ غضبك، لك العُتْبَى حتى
ترضى) ، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرأ في صلاة الفجر:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 86) ، ويبكي حتى يُسمع نشيجُهُ من
آخر الصفوف، بخلاف الشكوى إلى المخلوق، قرئ على الإمام أحمد في مرض
موته أن طاووسًا كره أنين المريض، وقال: إنه شكوى، فما أَنَّ حتى مات، وذلك
أن المشتكي طالبٌ بلسان الحال، إما إزالة ما يضره، أو حصول ما ينفعه، والعبد
مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى
رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح: 7-8) .
وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت
فاستعن بالله) .
ولا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره
على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر، قال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ... } (آل
عمران: 118) إلى قوله: { ... وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120) ، وقال تعالى: { ... بَلَى إِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125) وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) ، وقد قال يوسف:
{قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ
وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) .
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة
كلامهم بهذين الأصلين: المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور،
والصبر والرضا بالأمر المقدور؛ وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة،
بل ومن السالكين، فمنهم مَن يشهد القدر فقط، ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية،
فيرى أن الله خالق كل شيءٍ وربه، ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما
يسخطه ويبغضه، وإن قدَّره وقضاه، ولا يميز بين توحيد الألوهية، وبين توحيد
الربوبية، فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات - سعيدها وشقيّها -
مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق،
والمتنبي الكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، والملائكة
المقربون والمردة الشياطين، فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع، وهذه
الحقيقة الكونية، وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم، لا رب لهم غيره، ولا يشهد
الفرق الذي فرَّق الله بين أوليائه وأعدائه، وبين المؤمنين والكافرين، والأبرار
والفجار، وأهل الجنة والنار، وهو توحيد الألوهية، وهو عبادته وحده، لا شريك
له، وطاعته وطاعة رسوله، وفعل ما يحبه ويرضاه، وهو ما أمر به ورسوله،
أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وترك ما نهى الله عنه ورسوله وموالاة أوليائه،
ومعاداة أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين
بالقلب واليد واللسان، فمَن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء،
ويكون مع أهل الحقيقة الدينية، وإلا فهو من جنس المشركين، وهو شر من اليهود
والنصارى؛ فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية؛ إذ هم يقرون بأن الله رب كل
شيء، كما قال تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) ، وقال تعالى:] قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [2] قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [؛ ولهذا قال سبحان
(المؤمنون: 84-89) هـ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف:
106) ، قال بعض السلف: تسألهم مَن خلق السموات والأرض؟ ، فيقولون الله،
وهم مع هذا يعبدون غيره!
مَن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود
والنصارى، فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاءوا بالأمر والنهي
الشرعيين، لكن آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقاًّ} (النساء: 150-151) .
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية، وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن
العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ويسلك هذه الحقيقة، فلا يفرق بين المؤمنين
والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله، وبين مَن عصى الله ورسوله
من الكفار والفجار - فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى [3] ، لكن من الناس مَن قد
لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا
يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار، وبين بعض الفجار، ولا
يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه، وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوّى
بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما
فرّق به بين أوليائه وأعدائه.
ومَن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية
كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة - فهؤلاء يشبهون المجوس،
وأولئك يشبهون المشركين، الذين هم شر من المجوس، ومَن أقر بهما، وجعل
الرب متناقضًا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه، وخاصمه
كما نُقل ذلك عنه.
فهذا التقسيم من القول والاعتقاد - وكذلك هم في الأحوال والأفعال -
فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتَّقي الله فيفعل المأمور، ويترك المحظور،
ويصبر على ما يصيبه من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة، ويستعين
بالله على ذلك، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ،
وإذا أذنب استغفر، وتاب، لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى
للمخلوق حجة على رب الكائنات، بل يؤمن بالقدر، ولا يحتج به، كما في الحديث
الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت،
خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما
صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفرْ لي؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا
أنت) ، فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات، ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى،
ويقر بذنوبه من السيئات، ويتوب منها، كما قال بعضهم: (أطعتك بفضلك،
والمنَّة لك، وعصيتك بعلمك، والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك عليَّ، وانقطاع
حجتي - إلا ما غفرت لي) . وفي الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي، إنما
هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومَن وجد
غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه) [4] ، وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع.
وآخرون قد يشهدون الأمر فقط، فتجدهم يجتهدون في الطاعة، حسب
الاستطاعة، لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة
والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط، فيكون عندهم من الاستعانة
والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك، لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله، واتباع
شريعته، وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين، فهؤلاء يستعينون بالله، ولا
يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه، ولا يستعينوه، والمؤمن يعبده،
ويستعينه.
والقسم الرابع - شر الأقسام - وهو مَن لا يعبده، ولا يستعينه، فلا هو مع
الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني، وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون
قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك، وما يكون بعده من صبر ورضاء
ونحو ذلك، فهم في التقوى، وهي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه
من القدر الكوني، أربعة أقسام:
(أحدها) أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة
في الدنيا والآخرة.
(والثاني) الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم
من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أُصيب أحدهم في بدنه بمرض
ونحوه أو في ماله أو في عرضه، أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه، وظهر
هلعه.
(والثالث) قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون
على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقُطَّاع الذين يصبرون على الآلام في
مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكُتاب وأهل الديوان الذين يصبرون
على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب
الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر
عليها أكثر الناس.
وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في
مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام، وهؤلاء هم الذين
يريدون علوًّا في الأرض، أو فسادًا من طلاب الرياسة، والعلو على الخلق، ومن
طلاب الأموال بالبغي والعدوان، والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة
وغير ذلك، يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه
من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من
المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.
(وأما القسم الرابع) فهو شر الأقسام: لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون
إذا ابتُلوا، بل هم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 19-21) ، فهؤلاء تجدهم من
أظلم الناس، وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم
ذلوا لك، ونافقوك، وحبوك، واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من
أنواع الكذب والذل وتعظيم المسئول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم
قلبًا، وأقلهم رحمةً، وإحسانًا وعفوًا، كما قد جربه المسلمون في كل مَن كان عن
حقائق الإيمان أبعد، مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومَن يشبههم في كثير من
أمورهم، وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزُهَّادهم وتجارهم
وصُنَّاعهم، فالاعتبار بالحقائق، (فإن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم،
وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ، فمَن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار
وأعمالهم - كان شبيهًا لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام، أو ما يُظهره
منه بمنزلة ما معهم من الإسلام، وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار
المقاتلين من المظهرين للإسلام مَن هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية، وأبعد
عن الأخلاق الإسلامية - من التتار.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبته:
(خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدثاتها، وكل
بدعة ضلالة) ، وإذا كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد فكل مَن
كان إلى ذلك أقرب، وهو به أشبه - كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومَن
كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف - كان عن الكمال أبعد، وبالباطل أحق، والكامل
هو مَن كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبعَ لما يأمر الله به
ورسوله، وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبرًا على ما قدره وقضاه -
كان أكمل وأفضل، وكل مَن نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك.
وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه، وبيَّن
أنه ينتصر العبد على عدوه [5] من الكفار المحاربين المعاهدين والمنافقين، وعلى
مَن ظلمه من المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى: {بَلَى إِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125) ، وقال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) ، وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ
تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 118-
120) ، وقال إخوة يوسف: {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) ،
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا، فقال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا
يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يونس: 109) .
وفي اتباع ما أُوحي إليه التقوى كلها تصديقًا لخبر الله وطاعة لأمره، وقال
تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (هود: 114-
115) ، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (غافر: 55) ، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} (طه: 130) ،
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) ، وقال تعالى: {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) ، فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر.
وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) ، وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة
وغيرها؛ فإن القسمة أيضًا رباعية؛ إذ من الناس مَن يصبر، ولا يرحم كأهل
القوة والقسوة، ومنهم مَن يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من
النساء ومَن يشبههن، ومنهم مَن لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع،
والمحمود هو الذي يصبر ويرحم، كما قال الفقهاء في المتولي ينبغي أن يكون قويًّا
من غير عنف، لينًا من غير ضعف، فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر
يُنصر العبد؛ فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى، كما قال النبي-
صلى الله عليه وسلم -: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) ، وقال: (مَن لا
يَرحم لا يُرحم) ، وقال: (لا تُنزع الرحمةُ إلا من شقي) ، (والراحمون يرحمهم
الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمْكم مَن في السماء) ، والله أعلم، انتهى.
__________
(1) هذه الفتوى أو الرسالة أرسلها إلينا - مع كثير من أمثالها - صديقنا علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي - أثابه الله - وسننشرها، ثم نجمعها في كتاب خاص إن شاء الله تعالى.
(2) هذه قراءة أبي عمرو ويعقوب في الآية، وما بعدها، وقرأ الباقون (لله) ، وهي المشهورة
عندنا.
(3) الاصطلاح الشرعي أن الكفر إذا أُطلق انصرف إلى ما يقابل الإسلام، ويضاده، فالمراد هنا أن من المسلمين جنسيةً أو ادعاءً مَن هم أبعد عن الإسلام من أهل الكتاب، ويطلق الكفر أحيانًا بالمعنى اللغوي، وإذا أطلق في عرف هذا العصر فالمراد به الإلحاد والتعطيل المطلق، ولا يدخل فيه أهل الكتاب، كما هو ظاهر.
(4) حديث قدسي رواه مسلم في صحيحه.
(5) المنار: كذا في الأصل، والمعنى الذي يقتضيه المقام: أنه ينصر العبد الصابر على عدوه إلخ، وقوله بعده: (المحاربين المعاهدين) غير ظاهر؛ فإن المعاهد غير المحارب ولعله: المعاندين.(23/501)
الكاتب: محيي الدين آزاد
__________
الخلافة الإسلامية
ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
فصل
إجماع أهل السنة والشيعة
ومثل الصحابة والتابعين كانت سيرة أئمة العترة - عليهم السلام - مع خلفاء
بني أمية، وبني العباس، وإن كانوا يرون أنفسهم أحق بالخلافة منهم، ولكن مع
ذلك لم يخرج عليهم أحد منهم، ولا انحرف عن طاعتهم، بل ظلوا تحت أمرهم
طائعين؛ لأن حكومتهم كانت قد تمكَّنت، ولما خرج من أهل البيت زيد، أنكر
عليه الإمام جعفر الصادق عمله لنفس هذه العلة، ولأجلها قَبِلَ الإمام علي الرضا
عهد المأمون بالخلافة إليه؛ لأنه لو لم يكن من المُسَلِّمين لخلافته لما قَبِلَ العهد، بل
لردَّه، واجتنبه منه، ولكنه لما لم يفعل ذلك ثبت أنه كان يرى خلافة المأمون
صحيحة وشرعية.
ولا يُؤثْر عن هؤلاء الأئمة الأطهار شيءٌ يثبت أنهم منعوا أحدًا من طاعة
خلفاء بني أمية، أو بني العباس، بل في كتب الحديث للإمامية - مثل أصول
الكافي وغيره - ما يُثْبِتُ أنهم مع إظهار استحقاقهم للخلافة، وشكوى الغصب
والتعدي عليهم - منعوا الناس من الخروج والغدر.
وأقطع برهان على ذلك عمل أمير المؤمنين علي - عليه السلام - نفسه،
الذي تدَّعي الإمامية أن خلافته كانت منصوصة، وأنه لم تكن الخلافة جائزة لغيره
في حياته، ولكن مع ذلك معلوم لكل الناس أنه عليه السلام لم يخرج على الخلفاء
الثلاثة الذين مَضَوْا قبله، ولا تخلَّف عن بيعتهم، ولا تنحَّى عنهم، بل ظل عشرين
سنة على طاعتهم، ومؤازرتهم، ومناصحتهم، حتى لحقوا بربهم، وآلت الخلافة
إليه، فأثبت بعمله هذا أن الأمة إذا اجتمعت على رجل فلا تجوز مخالفته وعصيانه،
والخروج عليه، بل على كل الناس أن يطيعوه، ويسمعوا له، فإذا كان هذا غير
جائز للخليفة المنصوص على خلافته فكيف يجوز لعامة الناس؟ !
فأهل السنة والإمامية كلاهما متفقان في هذه المسألة، وأما الخلاف المشهور
بينهما فإنما هو في الخلافة الجمهورية، أي إذا قدرت الأمة على نصب الخليفة فمَن
تنصب؟ فالشيعة تشترط أن يكون من أهل البيت فقط، وأهل السنة ينكرون هذا
الشرط، ولكن إذا لم يبق هذا النظام، ولم تقدر الأمة على الانتخاب لتغلُّب
المتغلِّبين على الخلافة، فإن قويت شوكتهم، وانقادت لهم الأمور انقيادًا - فكل من
الشيعة وأهل السنة يقول قولاً واحدًا، وهو أنه يجب طاعته، وإلى هذا ذهبت
الزيدية، وغيرها من الفرق الإسلامية.
***
فصل
الشواهد من كتب العقائد والفقه
وإِنَّا لنورد ههنا بعض مقالات كتب العقائد والفقه التي يتدارسها المسلمون في
مدارسهم ومساجدهم من قرون عديدة؛ ليسهل على الناس مراجعتها:
ففي شرح المقاصد: (وأما إذا لم يوجد مَن يصلح لذلك، أو لم يقدر على
نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلال - فلا كلام في جواز
تقليد القضاء، وتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي
شوكة) ، ثم بعد بيان شروط الإمامة - يقول: (نعم، إذا لم يقدر على اعتبار
الشرائط جاز ابتناء الأحكام المتعلقة بالإمامة على كل ذي شوكة يقتدر، تغلب أو
استولى) ، وفيه أيضًا: (فإن لم يوجد من قريش مَن يجمع الصفات المعتبرة وُلِّيَ
كناني، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يوجد فرجل من العجم) .
وفي المرقاة شرح المشكاة: (وأما الخروج عليهم، وقتالهم فمحرم، وإن
كانوا فسقة ظالمين) ، ويكتب في شرح حديث: (مَن أتاكم وأمرُكُمْ جميعٌ على
رجلٍ واحدٍ ... ) -: (أي له أهلية الخلافة أو التسلُّط والغَلَبَة) .
وفي الشامي: (ويثبت عقد الإمامة إما باستخلاف الخليفة إياه كما فعل أبو
بكر، وأما ببيعة جماعة من العلماء، أو من أهل الرأي) .
وفي المسامرة: (والمتغلب تصح منه هذه الأمور - أي ولاية القضاء
والإمارة والحكم بالاستفتاء ونحوها - للضرورة، وصار الحال عند التغلب كما لو
لم يوجد قرشي عدل، أو وُجد ولم يقدر - أي لم توجد قدرة على توليته لغلبة
الجَوَرَة -، إذ يُحكم في كل من الصورتين بصحة ولاية مَن ليس بقرشي، ومَن
ليس بعدل للضرورة) .
وفي شرح المواقف - بعد بيان شروط الإمامة -: (ولكن للأمة أن ينصبوا
فاقدها؛ دفعًا للمفاسد التي تندفع بنصبه) (634) .
وقد أعطى البحث حقه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، حيث
يقول: (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأن
طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم
يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح - فلا تجوز طاعته في ذلك،
بل تجب مجاهدته لمَن قدر عليها كما في الحديث) (ج 13: 7) ، ويكتب في
شرح حديث حذيفة: ( ... فاعتزل الفرقَ كلها) ... إلخ، (قال ابن بطال: فيه
حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة
الجور؛ لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم دعاة على أبواب جهنم، ومع ذلك أمر
بلزوم الجماعة) (كتاب الفتن، ج 13، صفحة 31) .
ويشرح حديث: (اسمعوا، وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي) -
بقوله: (وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة فإن طاعته تجب إخمادًا للفتنة)
(فتح، 13: 109) .
وقال النواوي في شرح مسلم: (وهذه الأحاديث في الحث على السمع
والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين؛ فإن الخلاف سبب
لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم، وقوله: صلى الله عليه وسلم: (وإن كان عبدًا
مجدع الأطراف) ، يعني مقطوعها، والمراد أخس العبيد، أي اسمع وأطع للأمير،
وإن كان دنيء النسب ... ويتصور إمارة العبد إذا ولاه بعض الأئمة، أو تغلب
على البلاد بشوكته) .. إلخ (ج2: 125) .
وقال الشوكاني في الدرر البهية: (وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله،
ولا يجوز الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة) (شرح الدرر: 414) .
وفي حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي: (إن الخليفة إذا انعقدت خلافته
ثم خرج آخر ينازعه حل قتله) .
وقال رضي الله عنه في كتابه (إزالة الخفاء) بالفارسية ما ترجمته - وقد
بحث في هذا الكتاب مسألة الخلافة بحثًا مفصلاً وجامعًا لم يبحث مثله أحد قبله -
(والخروج على السلطان الفاقد للشروط أيضًا حرام بعد اجتماع المسلمين
عليه، إلا أن يُظهر كفرًا بواحًا، وقد تواتر هذا معنى) (ج 1، ص 132) .
وحاصل هذه الشواهد ما مر بك من قبل، وهو أنه يجب أن يكون للأمة إمام
وخليفة ذو شوكة ومَنَعَة في كل زمان، فإن استطاعت الأمة نصبه فعليها أن تراعي
الشروط التي شرطتها الشريعة في الخليفة، وإن استولى على الخلافة رجل مسلم
بقوته وعصبيته، وانعقدت حكومته - فيجب على كل الناس طاعته، وقبول
خلافته، سواء أكان قرشيًّا أو غير قرشي، عادلاً أو ظالمًا، عالي النسب أو دانيه،
حتى وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدع الأطراف، فيجب طاعته، ومناصرته على
أعدائه، إلا أن يُرَى منه كفرٌ ظاهرٌ، فلا طاعة في هذه الحالة، ولا سمع ولا بيعة،
بل يجب الخروج عليه ومقاتلته، ومَن لم يستطع ذلك يهاجر من بلده، قال
العسقلاني في الفتح: (فمَن قام على ذلك فله الثواب، ومَن داهن فعليه الإثم، ومَن
عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) (109: 13) .
وعلم من هذا أيضًا أن الكفار إذا استولوا على بلد إسلامي يجب على أهله
الخروج عليهم، ومقاتلتهم، ولا يحل لهم أن يداهنوهم، ويداروهم، ومَن عجز
فعليه الهجرة من ذلك البلد؛ لأنه لا يجوز لمسلمٍ البقاء تحت حكم الكفار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(23/509)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام
مقدمة
لقد كان مما أصاب شيخنا الأستاذ الإمام - من وراثة العلماء للأنبياء عليهم
الصلاة والسلام - أن حياته كانت خيرًا للناس؛ بما كان ينفعهم فيها بعلمه وعمله،
وسيرته وهدْيه؛ إذ كانت كل أوقاته مصروفة لمنفعة الأمة في جملتها، أو للعفاة
وطلاب الحاجات من أفرادها، وقلما كان يعمل لخاصة نفسه أو لبيته شيئًا، فلما
مات كان في مماته خير للناس بما شعروا به من الحاجة إلى الإصلاح الذي كان
يقوم به، وإلى الإمام الذي يهدي السبيل، والأستاذ الذي ينير الدليل، والطبيب
الذي يشفي العليل، والزعيم الذي يسير بالأمة من حنادس الشبهات، ودياجير
المشكلات إلى نور الحق المبين، فيما ينبغي أن تكون عليه في أمري الدنيا والدين،
فمازال أهل البصيرة منها والرأي يذكرونه كلما حزبهم أمر، وفي الليلة الظلماء
يُفتقد البدر، حتى إذا ما تطورت الأطوار، وانسلخ من الليل النهار، واضطربت
في المصلحة العامة الأفكار - توجهت العقول البحَّاثة، والقلوب الحساسة إلى
الاحتفال بإحياء ذِكْره، وتجديد البحث في تعليمه وهدْيه، اشترك في ذلك الشيخ
الضعيف القُوَى، والكهل الحصيف الذي بلغ أشُدَّه واستوى، والأستاذ المعلم،
والتلميذ المتعلم، حتى كان السابق إلى اقتراح ذلك في الصحف اليومية - طالب من
طلبة المدارس الثانوية، لم يدرك عهد الإمام، ولكنه أدرك قيمة ما ترك للأمة من
الصُّوَى والأعلام.
تشاور بعض تلاميذ الإمام ومريديه في الاحتفال بإحياء ذكره، وعرض
خلاصة من سيرته على الأمة، مع شيءٍ من نتائج فكره، فألفوا لذلك لجنة من
إخوانهم، واختاروا أن يرأس لجنتهم أحد أكابر علماء الأزهر الأعلام، الواقفين
على نشأة الأستاذ الإمام، وعرضوا ذلك على فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت،
الذي كان زميله في طلب العلم، وخلفه في إفتاء ديار مصر، ورجحوه بمجموعة
من المزايا، لا توجد في غيره، فحبَّذ رأيهم، وقبِل اقتراحهم، ثم اختاروا بعد
التشاور أن يكون الاحتفال في دار الجامعة المصرية، واجتمعوا فيها المرة بعد
المرة، فوضعوا النظام له، وجمعوا من أنفسهم ما قدروه له من النفقة، وقرروا أن
يفتتح الجلسة الرئيس بخطبة مناسبة للمقام، ويتلوه الأستاذ أحمد لطفي بك السيد
بكلمة يقولها باسم الجامعة المصرية، وأن يقفِّي عليه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد
الرازق بإلقاء ترجمة للإمام مفصَّلة، وأن يُلقي بعد الدكتور منصور فهمي كلمة يعبر
بها عن رأي النابتة العصرية في الإمام، وما له في قلوب أحرار الفكر من المقام،
وأن ينشد بعده محمد حافظ بك إبراهيم قصيدته، ثم يختم الحفلة صاحب المنار، بما
عساه يتسع له الوقت من الكلام.
ثم إنهم بعد ذلك نشروا في الجرائد ما يأتي:
(إحياء ذكرى الأستاذ الإمام)
فكر جماعة من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في الاحتفال بإحياء
ذكراه، وتألفت لجنة منهم برئاسة زميله حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد بخيت، وقررت أن تكون الحفلة بدار الجامعة المصرية، الساعة الخامسة من
مساء يوم الثلاثاء 16 ذي القعدة سنة 1340 الموافق 11 يوليو سنة 1922 (وهو
يوم وفاته بالحساب الشمسي) .
ووضعت اللجنة نظام الحفلة، وعينت خطباءها مراعية ما يتسع له الوقت،
وما يناسب الغرض من الاحتفال بإمام مصلح.
وستطبع اللجنة ما يُلْقَى في الحفلة في كراسة خاصة، مع ما يرد إليها من
الخطب والقصائد المختارة.
وهذه أسماء حضرات أعضاء اللجنة:
(1) الشيخ محمد بخيت - رئيس.
(2) الشيخ عبد الحميد البكري.
(3) السيد محمد رشيد رضا.
(4) الشيخ محمد مصطفى المراغي.
(5) الشيخ محمد هلالي الإبياري
(6) الشيخ عبد المجيد سليم.
(7) الشيخ مصطفى عبد الرازق.
(8) الشيخ علي سرور الزنكلوني.
(9) أحمد زكي باشا.
(10) حسن عبد الرازق باشا.
(11) السيد عبد الرحيم باشا الدمرداش.
(12) أحمد بك لطفي السيد.
(13) حنا بك باخوم.
(14) الدكتور طه حسين.
(15) الدكتور منصور فهمي - السكرتير.
ولما جاء اليوم الموعود كانت اللجنة قد أتمَّت الاستعداد للاحتفال في رحبة دار
الجامعة المصرية بعد إذن مجلس إدارة الجامعة لها بذلك، ففرشت أرضها بالرمل
الأصفر، ونصبت في صدر المكان منبر الخطابة، وفرشت أرضه بالطنافس
العجمية النفيسة، ووضعت عليها الأرائك والمقاعد الوثيرة، وصفّت من ورائه
كراسي الخيزران، بعدد ما وزعت من رقاع الدعوة على العلماء وخواص الأمة من
جميع الطبقات.
وما جاءت الساعة المعينة للبدء في الاحتفال إلا وكانت المقاعد كلها قد شُغلت
بالمدعوين، وفي مقدمتهم حضرة صاحب المعالي محمد شكري باشا وزير الزراعة
جاء من الإسكندرية؛ لأجل حضور الحفلة بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن هيئة
الوزارة.
وزاد أناس تجددوا، فأذن لهم، فاضطر كثير منهم إلى الوقوف وراء
الصفوف، فكان المجموع زهاء ألف وثلاثمائة نسمة، وقد بدئ الاحتفال بقراءة
بعض الحَفَظَة آياتٍ من القرآن الحكيم، وبعد فراغه ابتدر المنبر الأستاذ الشيخ
محمد بخيت رئيس لجنة الاحتفال، وتلا خطبته الافتتاحية، وتلاه سائر الخطباء
على الترتيب المتقدم.
***
(الخطبة الافتتاحية لفضيلة رئيس لجنة الاحتفال)
أيها السادة النجباء الأذكياء
إني أشكر لكم على تلبيتكم الدعوة، وتشريفكم هذه الحفلة، وإني أعتقد أن كلنا
سواء في إجابة هذه الدعوة؛ لأنها على الحقيقة دعوة صادرة من تلك الروح
الطاهرة روح الإمام الذي نحتفل اليوم بذكراه، فإنها هي التي دعتنا جميعًا،
وجذبت قلوبنا إلى حضور هذه الحفلة المباركة، فهي الآن ترفرف فوق رؤوسكم؛
لتتولى شكركم بنفسها على احتفالكم بذكراها، وتُثنِي عليكم ثناءً جميلاً؛ حيث
ذكرتموها بلسان صدق في الآخرين.
هذه الروح هي روح الإمام الخطير، والأستاذ الكبير، والمحقق الشهير،
والفيلسوف القدير، المغفور له (الشيخ محمد عبده) ، ولقد صاحبناه - طيَّب الله
ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه - وزاملناه زمن تلقِّي الدروس بالأزهر من الصغر
إلى أن تخرجنا منه، ولازمنا معًا كبار شيوخ الأزهر في تلقي العلوم الشرعية من
فقه وغيره، وتلقي العلوم العربية من نحو وبلاغة وغيرهما، ومن العلوم العقلية
المنطق والفلسفة، ومن العلوم الطبيعية وغير ذلك كالهيئة بقسميها، وممن لازمناهم
معًا في العلوم العقلية المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني، والمغفور له الشيخ
حسن الطويل.
وبعد أن تخرجنا من الأزهر لازم الأستاذ المشار إليه السيد جمال الدين -
رحمه الله -.
فكان الأستاذ فيلسوفًا في العلوم الشرعية، عارفًا بروح الشرع، وحكمة
التشريع أصولاً وفروعًا، فيلسوفًا في العلوم العقلية، عارفًا بحقائق الموجودات
علويّها وسفليّها على حسب الطاقة البشرية، فكان إذا غاصت روحه في بحار
التحقيق استخرجت درر المعاني ولآلئها؛ فنظمتها في سلوك المباني الذهبية،
وجعلتها قلائد تتحلى بها أعناق ذوي الفضل والهمم العالية، وإذا صعدت إلى سماء
التدقيق تخيرت من دراري الحقائق أعلاها وأغلاها، ونثرتها شموسًا تشرق في أفق
قلوب ذوي العناية بالعلوم، فيشاهدون بعين البصائر من الحقائق العلوية فوق ما
يشاهدونه بالأبصار، والشمس في رابعة النهار.
كان فيلسوفًا في العلوم العربية، كملت فيه مَلَكَة الفصاحة، حتى إذا تكلم
أدهش الفصحاء، كما كملت فيه ملكة البلاغة، فإذا خطب حيَّر البلغاء، فكانت
عباراته شفاءً لأُولِي الألباب، وإشاراته نجاةً للطلاب، فهو معيار العلوم، ومشكاة
المنطوق منها والمفهوم؛ ولذلك لما انتقل في مثل هذا اليوم من دار الفناء إلى دار
البقاء، وترك في هذه الدار فراغًا كان يشغله وحده، ولم يستطع أحد أن يشغله بعده،
ذابت أسفًا عليه أكبادُ عارفي فضله، فسالت من العين سيل العين دمعًا بغير
عين، فكان حقيقًا بأن نقول فيه:
إننا لا نبكي على كل ميت ... غير أَنَّا نبكي الذي هو أمة
إن يعشْ كان للبلاد حياةً ... أو يَمُتْ كان موتُهُ موتَ أمة
جعله الله من الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
وحسن أولئك رفيقًا، آمين.
... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية سابقًا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بخيت
***
(كلمة الترحيب باسم الجامعة المصرية)
لحضرة الأستاذ أحمد لطفي بك السيد أحد أعضاء مجلس إدارتها
أيها السادة
اسمحوا لي أن أقدم لكم باسم الجامعة المصرية تحياتها وترحيبها بكم، بالغرض
الشريف الذي يجمعكم اليوم للاحتفال بذكرى الإمام الشيخ محمد عبده.
لم يكن غرض اجتماعنا تأبين المرحوم الإمام من جديد، بل غرض الاجتماع
في هذا اليوم الموافق يوم وفاته - رضي الله عنه - أن نستمع لخطيب الحفلة الشيخ
مصطفى عبد الرازق الذي سيدرسه درسًا تفصيليًّا على قدر الإمكان في هذا المقام،
وما ظننا أن هناك شروطًا يجب اجتماعها، ومناسبات ينبغي تحيُّنها لدرس رجل
من أئمة العلم والإصلاح، أكثر الحاضرين هنا إما تلميذ له أو تلميذ لتلاميذه، بل
ذلك واجب علينا، وإن أقل قدر من المناسبة يجعل القيام بهذا الواجب سائغًا إن كان
الواجب هو أيضًا يحتاج القيام به إلى المناسبات.
أيها السادة
إن لنا نحن المصريين - من جهة كَوْننا أمة متمدنة - حقًّا نقتضيه من
الإنسانية جمعاء، وهو مساواتنا بكل أمة متمدنة في الحقوق الدولية، وإن علينا
مقابل هذا الحق واجبًا يلزمنا أداؤه، وهو احتمال نصيب من المسئولية عن الارتقاء
العام للإنسانية في مدارج الكمال من جميع جهاته، فكل عصر يجب أن يؤدي
حسابًا عما عمل لخير الإنسانية، وكل أمة يجب عليها أن تحمل نصيبها من
المسئولية عن هذا العمل بقدر استعدادها، ومن الخطأ أن يظن بأن نصيبنا من هذه
المسئولية ضئيل القدر خفيف الحمل، بل الأمر على ضد ذلك، نصيبنا من
المسئولية يجب عدلاً أن يربو على نصيب كثير من الأمم، ربما عدّ غيرنا هذا
القول غلوًّا في تقدير قيمة أمتنا ومنافيًا للتواضع المحمود، ولكن هل أستطيع الحيد
عن صيغة نتيجة منطقية يسلم كل العلماء بمقدماتها؟ الإجماع واقع على أن
نظرية الانتقال الوراثي صحيحة، والإجماع واقع على أننا سلالة معلمي الإنسانية
والهادين إلى طرائق كمالها من جهة العلوم والآداب، ومن جهة أنظمة الحكم
ومختلف الصناعات … إلخ؛ فيجب أن يقع الإجماع أيضًا على أننا من أشد الأمم
استعدادًا لاحتمال المسئولية عن الارتقاء الإنساني العام، ولا ينقصنا في ذلك إلا
زوال الموانع الخارجية التي حالت منذ بضعة قرون بيننا وبين الظهور باحتمال هذه
المسئولية، والمشاطرة في المجد العلمي العام.
على هذا الاعتبار يجب علينا أن نتخذ نهضتنا العلمية الحاضرة بشير الرجوع
إلى مضمار المسابقة العلمية العامة، وأن نوطد أنفسنا على العمل بجد للاستعداد إلى
هذه المسابقة.
ومن صنوف العُدَّة أن نتبيَّن حقيقة مركزنا العلمي، وليس مركزنا العلمي شيئًا
آخر إلا تقدير ما أنتجت بلادنا من النوابغ الذين هم أركان نهضتنا الحاضرة، أولئك
هم مصابيح الماضي تنبعث منها أنوار الهداية الساطعة، فتكشف للحال طريقه إلى
الأمام في ظلمات الاستقبال.
وأكبر هؤلاء النبغاء هو أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده، الذي سيتفضَّل
خطيب الحفلة فيفصل الكلام عليه تفصيلاً.
وإني في الختام يسرني أن أعلن إليكم أن حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس
الوزراء، وحضرات أصحاب المعالي زملاءه أرادوا أن يشاطروكم الاحتفال بذكرى
المرحوم الإمام، فأنابوا عنهم أحدهم حضرة صاحب المعالي محمد شكري باشا
وزير الزراعة، وهي مِنَّة تُذكر للحكومة بالثناء على جميل صُنعها.
وأعلن أيضًا أن حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد السيد عبد الرحيم باشا
الدمرداش قد تبرع للجامعة بما يؤتيها غلة سنوية قدرها 200 جنيه مصري لإنشاء
كرسي لعلم الأخلاق؛ تخليدًا لذكرى المرحوم الإمام، جزاه الله عن العلم خير
الجزاء.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(23/513)
الكاتب: مصطفى عبد الرازق
__________
ترجمة الأستاذ الإمام
لحضرة الأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى عبد الرازق
(المنار)
لما كان معظم ما كتبه هذا الأستاذ البليغ من ترجمة أستاذنا - ملخَّصًا من
ترجمتنا التي نشرناها في المنار عقب وفاته - رأينا أن نكتفي بنقل شذرات منها
لاشتمالها على فوائد من الاستنتاج والاستنباط، على النحو الذي جرينا عليه في
الجزء الأول من تاريخه، فمن ذلك قوله في تأثير التصوف في نفسه - بعد اتصاله
بالشيخ درويش -:
وليس عندنا بيان عن هذا الشيخ الصوفي، نستطيع أن نفهم به أحواله النفسية
والعقلية، ونتبين كيفية سلطانه على نفس مريده، تلك النفس القوية الحرة النافرة،
التي راض الشيخ درويش جماحها في خمسة عشر يومًا، غير أن الذي رواه الأستاذ
من حال شيخه - يدل على أنه كان رجلاً ساذجًا، نيِّر البصيرة، طيب القلب،
سَمحًا، سهلاً، مؤمنًا، يغذي إيمانه بتفهُّم القرآن، وبضروب سهلة من العبادة
والرياضة.
وأمثال هذا الصوفي يوجدون شُذَّاذًا بين الأعداد الكثيرة من رجال الطرق،
ويكون لهم أثر روحي في المستعدين من مريديهم، بما في نفوسهم من صفاء، وما
في إيمانهم من قوة، ليست مستمدة من ناحية علمية.
ولا يُنكر أثر الشيخ درويش خضر بتربيته الصوفية في نفس أستاذنا؛ فإن
ذلك الشيخ الصوفي الذي أخذ بزمام الجانب الروحي من تلميذه الفتى في عنفوان
ثورة نفسية - قد وجه عواطف الشباب وخيالاته إلى معانٍ من اللذائذ القدسية.
وإذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تهذيب الذوق بفنون الجمال فإن التربية
الصوفية تدعو إلى تلطيف السر بأنواع من الرياضة، كالعبادة المشفوعة بالفكرة،
والألحان المستخدمة لقوى النفس، الموقعة لما لحن فيها من الكلام موقع القبول من
الأوهام، ويعين على تلطيف السر - كما يقول ابن سينا في الإشارات - الفكر
اللطيف، والعشق العفيف، الذي تأمر فيه شمائل المعشوق، لا سلطان الشهوة.
قال ابن سينا - في وصف العارفين -: (العارف هَشّ بَشّ بسَّام، وكيف لا
يهش، وهو فرحان بالحق، وبكل شيء؛ فإنه يرى فيه الحق، العارف شجاع،
وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت، وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة
الباطل، وصفَّاح وكيف لا ونفسه أكبر من أن تحرجها زلة بشر، ونَسَّاء للأحقاد
وكيف لا وذِكْره مشغول بالحق) .
هذه التعاليم من شأنها أن تربي الوجدان، وتلطف السر، وتكمل النفس
وتزينها، ولا جرم كان الشيخ محمد عبده صوفي الأخلاق.
قضى شيخنا نحو أربع سنين في بداية تكوينه الفكري بالجامع الأحمدي بطنطا،
ولا ينبغي أن نغفل أن مسجد طنطا، هو جامع سيدي أحمد البدوي، فيه مقامه،
ومخلَّفاته، وفيه آثار مقدسة عند العامة، وكثير من الخاصة، وفيه مقابر لغير
السيد من الأولياء.
والسيد البدوي هو أشهر أولياء القطر المصري، وصِيته وكراماته ذائعة في
وادي النيل، ولزائريه من صور التوسل والزلفى ما لا يخلو من شطط، ومسجد
السيد مورد الدراويش، ومجتمع المجاذيب، الذين يظن كثير من الناس أن لهم في
صفحة الغيب لمحات!
هذه السنين الأربع في هذه البيئة نبهت عقل الشيخ محمد عبده إلى البدع
الدينية وعملها في العقول والأخلاق، ولكنها أيضًا مسَّت بعض الجوانب من نفس
الفتى، فتركت في منازعها المتسامية إلى الكمال والفهم موطن تأثُّر.
قال الأستاذ - فيما كتبه من تاريخ حياته -:
(وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة - سنة 1282 هـ - كنت أطالع
بين الطلبة، وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصًا يُشْبِهُ أن يكون
من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب، فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه:
ما أحلى حلواء مصر البيضاء!
فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ !
فقال: سبحان الله! ، مَن جَدَّ وجد.
ثم انصرف، فعددت ذلك القول إلهامًا ساقه الله إليَّ! ؛ ليحملني على طلب
العلم في مصر دون طنطا) .
(ومنها قوله في حال الأزهر وأهله عند أستاذنا للعلم فيه) .
ذهب المجاور الشيخ محمد عبده بتصوفه إلى الأزهر في شوال سنة 1282
هـ - فبراير 1866 م في عهد إسماعيل الذي جلس على عرش مصر سنة 1279
هـ - 1863م.
كان إسماعيل يعرف قيمة العلم لحُسن تربيته، فعُني بنشر المعارف، وإرسال
البعثات العلمية إلى أوروبا، وهو أول مَن أوجد حركة تجديد في الأزهر، وفي
زمنه وضع الشيخ المهدي العباسي شيخ الأزهر أول قانون للتدريس، صدرت
بتنفيذه إرادة سنية سنة 1289 هـ - 1872 م.
في ذلك العهد، كان انتشر التعليم النظامي في القطر، وأحس الأزهر وأهله
بذلك، وكانت البعثة العلمية التي اختارها محمد علي من بين نجباء الطلبة في
الأزهر، وأوفدها إلى باريس سنة 1242 هـ - 1826 م - قد حولت عددًا كبيرًا
من الأذكياء عن التعليم القديم الموروث إلى طريق جديد، فاعتبرت في المرتبة
الأولى علوم كانت في المرتبة الأخيرة - في نظر الأزهريين - كالرياضة الطبيعة
والتاريخ والجغرافيا، وصارت بابًا للتوظف والكرامة!
وساعدت هذه البعثة على إظهار ما في مناهج التعليم الأزهري من العيوب.
أراد الجيل العلمي الجديد أن يعرِّب كتبًا أوروبية مكتوبة في الغالب بلسان
فرنسي، ولم يجد في المصطلحات القديمة متسعًا، فوضع عبارات محدثة، وأوجد
أسلوبًا جديدًا لم يرضَ عنه الأزهريون، ومنذ يومئذ دخل إلى الأزهر التنازع بين
القديم والجديد.
أما الروح السائدة في التعليم الأزهري فكانت على ما وصفها بعض علماء
الفرنجة في قوله: (ولئن كانت أنماط التعليم والبحث في الأزهر تختلف عما هو
مستعمل في الغرب للآن اختلافًا أساسيًّا - فهي لا تختلف في شيء عن الأنماط التي
كانت عندنا قديمًا.
أثر العلوم النقلية في قهر العقول - الذي أخذ في التلاشي عندنا منذ قرون -
لا يزال في عنفوان سطوته في الجامعات الإسلامية.
ليس الغرض من العلم عند أهل الأزهر هو البحث للتحقيق والمقارنة
والتمحيص، ولكنه النقل الصحيح لما ترك الأقدمون.
والمفروض أن الأجيال متراجعة إلى الانحطاط، والأجيال الحاضرة والمقبلة
تتصل بعصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق هابط من أعلى إلى أسفل،
والأئمة المجتهدون بُعداء في عصور ذاهبة في أعماق الماضي، لا يستطيع
الحاضر أن يدرك غبارها) .
ونسارع إلى بيان أن أستاذنا صرح - في تفسير سورة (العصر) - بفساد ما
عليه الناس من ذم عصورهم، ونسبة ما شاءوا من الخير إلى ما كان قبلهم من
العصور، كما صرح في كثير من أقواله وكتاباته بعيب التعليم الأزهري ومناهجه.
هذا، وكان في الأزهر نفسه تدافُع بين الشرعيين والصوفية، فأولئك كانوا
يرون الخروج عن العلوم النقلية المتداولة في الأزهر تمردًا على الدين، وهؤلاء
كانوا يطمحون إلى أنواع من المعارف التي لها مساس بالتصوف.
ويدل على هذا التدافع ما ذكره الصوفي الأزهري الشيخ حسن رضوان
(المتوفى سنة 1310هـ - 1892م) - في منظومته المسماة (روض القلوب
المستطاب) .
وقد كان للشيخ حسن رضوان مريدون بين علماء الأزهر وطلابه، منهم
الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمود البسيوني، وهما من أساتذة الشيخ محمد عبده،
ومنهم الشيخ محمد عبده نفسه، وجماعة من إخوانه.
وبذلك يظهر أن شيخنا - حينما جاء إلى الأزهر - انضم إلى حزب التصوف،
وهو أقل الحزبين جمودًا، وأقلهما نفرة من الجديد [1] .
كان الأستاذ متصوفًا في الأزهر مدة الدراسة، مع شيوخه وزملائه، متصوفًا
في أيام المسامحات، مع خال أبيه الشيخ درويش خضر، حتى انطبع تفكيره بنوع
من الخيال الصوفي، الذاهب في الروحانيات إلى ما يجاوز مدى الفهم أحيانًا.
انساق الأستاذ الشيخ حسن الطويل إلى دراسة الفلسفة الإسلامية، بحكم
نزوعه إلى التصوف، والتصوف الإسلامي متأثر بمذاهب الفلسفة، خصوصًا
مذهب أرسطو، الذي يُعتبَر إمامًا لفلاسفة العرب!
وانساق بعض الأساتذة - كالشيخ محمد البسيوني - إلى مدارسة الأدب
باعتباره من الفنون الجميلة التي أحيا ذوقها في مصر إسماعيل.
وقد كان الشيخ الطويل والشيخ البسيوني من أساتذة الشيخ محمد عبده، فهو
كان متصلاً بالحركة الصوفية المخلوطة بالفلسفة، وكان متصلاً بالحركة الأدبية،
على أنه لم يبعد كل البُعد عن المحافظين على القديم، فحضر دروس زعمائهم
المشهورين كالشيخ عليش، والشيخ الرفاعي، والشيخ الجيزاوي، والشيخ
الطرابلسي والشيخ البحراوي.
اتصاله بالسيد الأفغاني وتخرجه به:
وفي سنة 1288هـ - 1871م، حضر إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني،
فصاحَبَه الأستاذ الشيخ محمد عبده، يحضر دروسه، ويلازم مجالسه، التي كانت
مجالس حكمة وعلم.
كان الشيخ محمد عبده يومئذٍ فتًى، متأثرة كل عواطف قلبه الفَتِيّ بمنازع
التصوف، ورياضاته ومَوَاجِده، وكان يتلقى علوم الأزهر على أنماطها المعروفة
شاعرًا بأن وراءها كمالاً علميًّا لا يجده فيما حوله.
كان السيد الأفغاني وحده قادرًا على تخليص الشيخ محمد عبده من خموله
الصوفي، وتخليصه من الحيرة في التماس الكمال العلمي.
هذا الرجل الكبير بمواهبه الفطرية، الكبير بسعة علمه وحُسن نظام فكره،
الكبير بمطامحه، الكبير بنفسه العالية القوية المشتعلة حياةً وعزمًا، الكبير بتاريخه
المملوء بالحوادث الجلى والآلام، هو السيد جمال الدين الأفغاني الذي صحبه الشيخ
محمد عبده تلميذًا وصديقًا منذ سنة 1288 إلى 1296هـ (1871-1879) م.
وبعد سنتين من صحبة الشيخ محمد عبده للسيد جمال الدين الأفغاني، ظهر
لنا ذلك الشاب المتصوف - الذي كان ينطلق في القول على وَجَل، إذا سأله العامة
عن شيءٍ من أمر دينهم، في تلك المجامع التي كان يقوده إليها خال أبيه درويش -
مؤلفًا جريئًا يكتب في رسالة (الواردات) سنة 1290هـ -1873م من المذاهب
الفلسفية والصوفية، ما قد تكون بعض أوساطنا العلمية لم تستعد بعدُ لسماعه، وقد
مضى خمسون عامًا.
هذه الرسالة - التي هي أول ما وصل إلينا من آثار أستاذنا - لا تخلو في
أسلوبها من نفحة الأدب العتيق، أدب السجع والتكلُّف، الذي كان عالقًا بالمؤلف
لقُرب عهده به، ولكنها في تأليفها ذات نظام حسن، وطريقة في سَوْق البراهين
معقولة، هي رسالة صغيرة في العقائد على منزع يغلب تصوفه ما فيه من فلسفة.
وفي سنة 1292هـ - 1875م ألف شيخنا حاشيته على شرح الجلال الدواني
للعقائد العضدية.
وهذه الحاشية ترينا الشيخ محمد عبده في السادسة والعشرين من عمره،
محيطًا بمذاهب المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، إحاطةَ فهم ونقد، يكاد يجهر
بآرائه في تلك الموضوعات الخطيرة، ويكاد يكظم صوته الفتيّ القوي شبحُ عصا
الشيخ عليش، قائمًا على رأس مجاور، بينه وبين التقدم لامتحان العالِمية سنتان.
في هذه الحاشية توضيح للمذاهب في الإلهيات، والنبوات، ومقارنة بينها
ونقد متين.
جملة القول: إن الشيخ محمد عبده كان ما بين 1290-1292هـ (1873-
1875م) صوفيًّا متفلسفًا.
ويظهر أن السيد جمال الدين خلعه من التصوف بمعنى الدروشة،
والانصراف للتحنُّث والرياضة إلى معنى للتصوف جديد.
ويُرْوَى أن السيد الأفغاني - يرحمه الله - كان يقول: (الفيلسوف إن لبِس
الخشن، وأطال المسبحة، ولزم المسجد فهو صوفي) .
(وإن جلس في قهوة (متاتيا) ، وشرب الشيشة فهو فيلسوف) .
ولعل الشيخ محمد عبده لما كتب حاشية العقائد كان ألمَّ بقهوة متاتيا إلمامًا.
طور العمل والتصدي للإصلاح:
لم تُطْبَعْ رسالة الواردات إلا بعد وفاة الأستاذ [2] وحاشية العقائد العضدية
طُبعت قبل وفاته بقليل، وأول ما نُشر على الناس من آثاره هو ما كتبه في جريدة
الأهرام لبداية نشأتها سنة 1293هـ - 1876م، وهي فصول على ما قد يكون في
تحريرها من الضعف تهتف بما يجيش في نفس ذلك المجاور الصغير من كبار
الآمال المنبعثة عن مذاهب في الإصلاح، وتطلُّع إلى النهوض.
ومنذ ذلك العهد، توجَّهت نفس الأستاذ إلى الإصلاح، بعد أن كانت منصرفة
إلى تلمُّس الحقائق، والبحث العلمي.
وقد كان ذلك - من غير شك - بتأثير السيد جمال الدين الأفغاني وهدايته.
شرع المجاور الشيخ محمد عبده يكتب في جريدة الأهرام فصولاً متتابعة،
سامية المنزع، مشتملة على أصول الدعوة الإصلاحية التي صرف حياته في سبيلها.
وقد استرعت تلك الفصول نظر الناس إلى ذلك الفتى الناهض إلى السابعة
والعشرين من عمره - نهضة المصلحين الكبار عاقلاً جريئًا.
وصل صدى تلك المقالات إلى أسماع الجامدين من الشيوخ، والتقى فيها
بحديث ملازمة كاتبها للسيد جمال الدين، واشتغاله بالفلسفة، وترجيحه لبعض
مذاهب المعتزلة [3] ، ونَهْيه عن التقليد، ودعوته إلى الاشتغال بالعلوم الحديثة،
وتحبيذه لعلوم الفرنجة، وإطالة شعره أيضًا.
دخل الشيخ محمد عبده إلى مجلس الامتحان سنة 1294هـ - 1877م، وكل
ذلك ينتظره في صدور أعضائه، ما عدا الرجل المنصف الشيخ محمد المهدي
العباسي، شيخ الأزهر لذلك العهد، ورئيس لجنة الامتحان.
ولولا قوة الشيخ محمد عبده في علمه وفي نفسه قوة باهرة، وترفُّع الشيخ
المهدي عن الظلم لقضى مجلس الامتحان - المؤلف من كبار الشيوخ - بأن ذلك
المجاور المضطهَد لا يستحق نجاحًا!
نال الأستاذ شهادة العالمية من الدرجة الثانية، وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة،
فشعر - لأول مرة - بأنه انتصر على خصومه الجامدين، أعداء الإصلاح، برغم
جاههم وكثرتهم [4] ، وزاده ذلك نشاطًا، فجمع كل ما في نفسه من قوة الشباب،
وقوة العلم، وقوة الرغبة في الإصلاح، ووجه جميع ذلك إلى العمل في الأزهر،
لاعتقاده أن صلاح الأزهر صلاح للبلاد وأهلها، وللمسلمين في أقطار الأرض.
أخذ يدرِّس كتب المنطق والكلام المشوب بالفلسفة في الجامع الأزهر،
ويدرس في داره لبعض المجاورين كتاب تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، وكتاب
التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوروبية، تأليف الوزير فرانسوا جيزو،
وتعريب الخواجة نعمة الله خوري.
وفي أواخر سنة 1295هـ -1878م عُيّن مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار
العلوم ومدرسًا للعلوم العربية في مدرسة الإدارة والألسن الخديوية.
وفي سنة 1296هـ - 1879م نُفي من مصر - بمساعي الإنجليز - السيد جمال الدين الأفغاني، الذي كان عمله السياسي شجى في حلق ممثل إنجلترا،
بمقدار ما كان تجديده لدرس الفلسفيات غيظًا للجامدين من أهل الأزهر، وعُزِل
الشيخ محمد عبده من مدرسة دار العلوم ومدرسة الألسن، وأُمر بأن يقيم في قرية محلة نصر، لا يفارقها إلى بلد آخر.
ويظهر أن رياض باشا كان خارج القطر عند حصول هذه الحادثة في أوائل
حكم الخديوي توفيق باشا.
ورياض هو الذي كان زيَّن للسيد جمال الدين المقام في مصر، وأمده بالمعونة؛
ليستعين به على تربية شباب مصلح.
وإذا كان الوزير الكبير عجز عن رد ما فات من نفي السيد الأفغاني - فما
كان ليفوته أن ينتفع بتلاميذه، وما كان ليترك خليفة السيد جمال الدين منفيًّا في
قرية من قرى مديرية البحيرة محرَّمًا عليه أن يخرج منها، فاستصدر له عفوًا من
الخديوي 1297هـ (1880م) ، وعينه محررًا في الجريدة الرسمية، ثم جعله في
آخر هذه السنة رئيسًا لتحريرها.
عند ذلك نهض الشيخ محمد عبده بحركة إصلاح، هيأت له مساعدة رياض
باشا وسائلها، وأعانه عليها خيرة تلاميذ السيد جمال الدين، الذين كانوا يشتغلون
معه في تحرير الجريدة الرسمية.
وقد انقطعت يومئذ صلة الأستاذ بالأزهر، فلم يعد معلمًا يريد أن يصلح طرق
التعليم فيه، ويرشد أهله إلى العلوم الجديدة، ولكنه أصبح صحافيًّا يحاول الإصلاح
الاجتماعي والسياسي على مبادئ الحرية والعدالة والشورى.
ألمَّ الشيخ محمد عبده رئيس تحرير الجرنال الرسمي (الوقائع المصرية) في
فصوله الكبيرة الفائدة، القوية الروح - بوجوه الإصلاح التي كانت تنبعث عزيمته
إليها، فدعا إلى التعاون على الخير، وحبَّذ فكرة الحرية، ورفع المظالم
عن الأهالي، وعاب على الشعب كسله، ونادى بإصلاح التعليم، والتربية في
المدارس، وحمل على الرشوة وأهلها، وبيَّن أن الحق للقانون لا للقوة، وذم
إسراف الأهالي، وتمسُّكهم بظواهر المدنية مع الغفلة عن وسائل المدنية الصحيحة،
وعالج إصلاح منتدياتنا وإصلاح بيوتنا،وذكر رأيه في خطأ العقلاء الذين يريدون
الرقي طفرة ووثبًا، ثم تعرض الأستاذ لنوع من الإصلاح الديني، شغف به في أدوار
حياته الإصلاحية كلها، ذلك هو تطهير الإسلام من البدع التي شوَّهت شعائره،
وجنت عليه.
وهذه المقالات تجمع مبادئه الوطنية، ومذاهبه في الحرية، وطريقه في
الإصلاح، كان الشيخ وطنيًّا يرى (أن خير أوجه الوحدة الوطنُ لامتناع الخلاف
والنزاع فيه) [5] ، على أنه نصير للمبادئ التي تدعو إلى المحافظة العامة على
دعائم السلام، والراحة، والإخاء بين الناس، وهو داعٍ إلى الحرية، حرية العمل،
ورفْع سوط القسوة غير القانونية، بحيث لا يسخر أحد في عمل من الأعمال إلا
فيما يعود بالمنفعة العامة على البلاد، أما القول والكتابة فلم يكن الأستاذ - فيما
يظهر - من أنصار حريتهما إلا بمقدار؛ لذلك كان يلتمس سنَّ القوانين للرقابة على
المطبوعات، بل هو قد سعى لذلك، وأفلح فيه، وكان يرجع إلى سلطانه أمر هذه
المراقبة في عهد رياسته لتحرير الجريدة الرسمية؛ ذلك بأنه كان يخشى انتشار
الكتب الضارة بالدين، المشيعة للخرافات بين العامة، ويخشى انتشار اللهجات
السخيفة، والموضوعات المؤذية للأخلاق.
أما سبيل الأستاذ في الإصلاح فهي سبيل التدريج، يريد أن يحفظ للأمة
عوائدها الكلية، المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد
عنها بالمرة، فإذا اعتادوا طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن
طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطَّة إلى ما هو أرقى، من حيث لا
يشعرون.
طريق الأستاذ في الإصلاح يرجع إلى العناية بالتربية، ونشر العلم، وأول
مبدأ يجب أن يكون أساسًا لتحلية العقول بالمعلومات اللطيفة، والنفوس بالصفات
الكريمة - هو التعاليم الدينية الصحيحة، يعني ترغيب القلوب بما يُرضِي الخالق،
وإرهابها مما يُغضبه.
أما الإصلاح الديني - بتخليص الإسلام من شوائب الأزمان والأجيال، وردّه
إلى سذاجته الأولى؛ ليصافح العلم والمدنية، ويتسع لحرية العقل، تلك الدعوة التي
كان أستاذنا حامل لوائها - فلم تكن في عهد تحريره للجريدة الرسمية إلا نبتًا لم
يتكامل نموه.
تأثر الشيخ محمد عبده بمبادئ أستاذه السيد جمال الدين، ومع ذلك كان
لمذاهبه الإصلاحية استقلال يجعل لها شخصية وحدها، ولقد كان حين تولِّيه تحرير
الجريدة الرسمية حديث عهد بصحبة أستاذه، حديث عهد بالتخرج على يديه،
وكانت له على هذا سبيل في الإصلاح ليست من كل وجه سبيل السيد جمال الدين.
كان السيد مشتعل الحماس، يريد أن يلهب النفوس، فيؤجِّج نارها، ثم
يصوغ من ضعفها قوة، ومن ذلها عزًّا، كان يرى أن الثورات هي سبيل للإصلاح
الاجتماعي والسياسي.
أما شيخنا - أيام تحرير الجريدة الرسمية - فكان معلمًا مصلحًا، يطلب الأناة
في دفع الأمم إلى الرقي؛ ليعلمها ويهذبها أولاً، ثم يسوقها برفق إلى ما علمت.
هبت أعاصير الثورة العرابية، وأستاذنا رئيس لتحرير الجريدة الرسمية، له
يد عاملة في حركة الأفكار، ولم يكن الأستاذ ممن يدعون إلى الإصلاح من طريق
الثورة، ولكنه لما رأى الثورة قائمة لنُصرة أغراض هي مبادئه، ومبادئ أستاذه -
اتصل بها، وألقى في نارها حطبًا [6] ، وقد حُوكم مع زعمائها، وحُكم عليه بالنفي
ثلاث سنين وثلاثة أشهر [7] .
__________
(1) هذا مما اهتدى إليه الكاتب لهذه الترجمة دوننا؛ فلم نذكر في ترجمة المنار ولا في التاريخ أنه كان في الأزهر حزب صوفي؛ إذ لم نكن نعلم ذلك.
(2) طُبِعت في منشآت الإمام التي هي الجزء الثاني من تاريخه.
(3) اتهم الأستاذ بهذا مَن وشى به إلى الشيخ عليش، والصواب أنه رجح مذهب السلف.
(4) كان بعض الشيوخ قد تقاسموا لا يدعنَّه ينال شهادة العالِمية، فعارضهم شيخ الأزهر عندما اقترحوا ذلك، وحلف أنه ما رأى مثله، وأنه يستحق الدرجة الأولى، فحلف بعضهم بالطلاق أنه لا يعطى الأولى، فسايرهم الشيخ المهدي بإعطائه الثانية!
(5) المنار: للشيخ ما هو مشهور من المقالات البليغة في أن المسلمين ليس لهم جنسية ولا وحدة إلا في دينهم، ولكنه كان يرى أن الوحدة الوطنية لا تعارض الإسلام، وتعليل الوحدة الوطنية بامتناع الخلاف والنزاع فيها منقوض بالوقائع، وأظهرها في هذه الأيام ما هو متواتر عن أرلندة.
(6) المنار: الصواب أن الأستاذ كان خَصمًا للثورة العرابية إلى أن تصدى الإنكليز لها، فحينئذ نصرها.
(7) انتهى ما اخترناه من خطبة الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق.(23/520)
الكاتب: حسني عبد الهادي
__________
من الخرافات إلى الحقيقة
(6)
تابع لمقالة الطور الأول للإسلام
في الجزئين الثاني والرابع
(38) الصفح عن الهفوات، وإقالة العثرات، وغضّ النظر عن الزلات،
كانت قاعدتهم المثلى في المعاملات، قال - صلى الله عليه وسلم -: (أقيلوا ذوي
الهيئات عثراتهم إلا الحدود) [1] .
(39) كانوا ينفرون من القيل والقال، ويحتقرون الخصام والجدال؛ لأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن ساء خلقه عذب نفسه، ومَن كثر همه
سقم بدنه، ومَن لاحى الرجال ذهبت كرامته، وسقطت مروءته) [2] ، وكان الناس
في تلك الأيام السعيدة لا ينحرفون قيد شعرة عن أوامره الجليلة.
(40) كانوا يرشدون الجاهلين، ويمقتون الفاسقين، ويصدقون صابرين
مُصابرين، ويعدون هذا من الجهاد في الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
(الجهاد أربع: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في مواطن الصبر،
وشنآن الفاسق) [3] .
فيظهر من هذا أن عمل الخير، واجتناب الشر، والثبات على الحق، لا يتم
إلا ببُغض أهل الشر والفسق.
(41) الاعتدال كان محور المعاملات، حتى في العبادات؛ لأنه جاء في
الحديث: (أيها الناس! عليكم بالقصد، عليكم بالقصد؛ فإن الله تعالى لا يملّ
حتى تملوا) [4] .
(42) لم يكن من سيرة السلف الصالح في أعمالهم ولا أقوالهم ما يبعث ظنًّا
لجاهل، أو شبهةً لعاقل، على أن في القرآن وأحكامه حرجًا أو عسرًا لا يدخل
في وسع المهتدي به، بل كانت أعمالهم وأقوالهم متجهةً نحو إفهام الناس أن القرآن
الكريم كتاب أُنزل لإفهام الناس الحقائق، وتأمين سعادتهم من أقصر الطرق وأسهلها،
وقد جاء في الكتاب القديم: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن
يَخْشَى} (طه: 2-3) .
(43) مَن يتأمل في أعمالهم يجد غايتها تزكية النفس بالفضائل ومكارم
الأخلاق وسعادة الأمة، لا مجرد التلبُّس بأعمالها البدنية في صلاة المصلين،
وصيام الصائمين، ويرون أن المصرّين على إتيان المنكرات والفواحش وسائر
الجرائم التي تنافي المقاصد الإسلامية، الدينية والاجتماعية، لم ينتفعوا من صلاتهم
ولا من صيامهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامه
السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) [5] .
(44) كانوا يتحامون الغلو في الدين؛ لأن الله تعالى حذر منه بقوله: {لاَ
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) ، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه بقوله:
(إن هذا الدين متين؛ فأَوْغِلُوا فيه برفق) [6] .
(45) كانوا يرجحون السعي للربح، والكسب الحلال؛ لينفع الرجل عياله
وأمته على خطة أولئك الكسالى الذين ينكمشون في زوايا المساجد بدعوى العبادة؛
لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (رُبَّ طاعمٍ شاكرٍ أعظمُ أجرًا من صابرٍ
صائمٍ) [7] .
ليتأمل هذا الحديث وأمثاله أبناء قومنا لعلهم يدركون معنى الدين الذي طالما
ضربناه الضربات المؤلمات، من حيث لا نشعر، ونحن نظن بأننا ننصره،
ونمتثل أوامره.
(46) التجارة مع الصدق والأمانة كانت في نظرهم من أسمى المواقع؛ فقد
جاء في الحديث: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) [8] .
فهل من صراحة أقوى من هذه الصراحة التي تفقأ عين كل مَن يزعم أن
الدين الإسلامي لا يأمر بالسعي، وتكذب القائلين بأن الدنيا ليست للمسلمين؟ ،
وهل يوجد أفصح من هذا الهَدْي النبوي الكريم المكذب لزعم الزاعمين أن الدنيا
والآخرة لا تجتمعان في قلب مؤمن؟ ، إن هؤلاء الكسالى الذين يسترون العجز،
والبله والعته بأمثال هذه الأكاذيب على الدين لأضر على الإسلام من أعدائه،
وحبذا لو أن الجمعيات كتبت هذا الحديث الشريف على ألواح تضعها على مفترقات
الطرق التي يكثر مرور الناس فيها؛ ليعلم الضالون والمضلون أن الدين الحنيف
ليس كما يعرفون، لكن أولئك الكسالى وبعض المتعممين - الذين عشش ميكروب
الكسل في أدمغتهم - يكتمون أمثال هذه الأحاديث عن العوام، ويحببون إليهم الفقر
والذلة والمسكنة، يكذبون على الله ورسوله ودينه بتبغيض العوام - جنود الإسلام
وساعده المفتول - في الدنيا، ويعلمونهم الحسرة للموت، وكأني بهم يمدون بهذه
الأعمال خطوط الحديد لتسير عليها قُطُر أهل الملل الأخرى في بلادهم، ولا يشك
عاقل في أن هؤلاء أضر بالإسلام والمسلمين مما لدى أعدائهم من جيوش،
وطيارات، ودبابات وأساطيل، وذهب وحديد، فأين مَن يُسكت هؤلاء؟ ، وأين
شجعان العلماء؟
إيه أيها الغافلون المغفلون! الدنيا لنا، وهكذا أمر ديننا الذي جعل التاجر
في زمرة الأنبياء [9] كفى تضليلاً وتمويهًا، إن كنتم تحبون الموت ولا تريدون
الدنيا فدَعوها لغيركم من المسلمين، أما خطتكم فغايتها إلقاء أَزِمَّة الدنيا لغير
المسلمين، لو كنتم تفقهون نتائج ما تعملون.
أيها الشبان المحمديون، رفع نبينا منزلة التاجر إلى مجاورة الأنبياء، فتأملوا
قدر ترغيبه في الاتِّجار، والعمل للدنيا لتقوية الملة والأمة.
أيها العقلاء! إن تضييع الدنيا هو تضييع للآخرة، هل ضاع دين مسلمي
الأندلس قبل ضياع دنياهم - أي حكومتهم - أم بعده؟ ! تأملوا واحكموا.
(47) كانوا لا يتمنَّوْن الموت كما يفعل بعض أهل هذا الزمان العجز؛ لأنه -
صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك؛ إذ قال: (لا تتمنوا الموت) [10] .
(48) كان أقبح الأشياء عند المسلمين غضّ النظر عن عواقب حفظ
الصحة والابتلاء بكثرة الأكل، ثم كثرة النوم المفضية إلى الاستكانة والكسل،
وضعف اليقين والميل إلى التقليد لقوله صلى الله عليه وسلم: (أخشى ما خشيت
على أمتي كبر البطن، ومداومة النوم، والكسل، وضعف اليقين) [11] .
(49) إضلال الناس وسَوْقهم إلى الطرق المظلمة كان من أقبح الأعمال،
سواء كان هذا الإضلال في السياسة أو الدين أو الاجتماع، وقد جاء في الحديث:
(أيُّما راعٍ غش رعيته فهو في النار) [12] .
(50) الطاعة؛ إذ قال: (إنما الطاعة في المعروف) [13] ؛ لأن نصيب
كل أمة تطيع رؤساءها طاعة عمياء، وتصدق كل ما تسمع -الانقراض، أي محو
اسمها من خريطة العالم، أوَّاه! متى ينتبه المسلمون؟ !
(51) كان الواحد دائمًا طموحًا بنظره إلى العلاء للاستفادة ممن كان فوقه؛
لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (جَالِسُوا الكُبَراء، وسائِلوا العلماء، وخالِطوا
الحكماء) [14] أين هذا الأمر من القناعة التي يتشدَّقون بها بدون أن يفهموا معناها؟
إن الدين يأمر بالإكثار دائمًا من كل حسن.
(52) كانوا ينظرون دائمًا إلى غايات الأمور ومقاصدها، ولا يُثنيهم عنها
صعوبة وسائلها، وبُعد طرقها، ولا سيما العلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
(اطلبوا العلم ولو بالصين) [15] فلو صح أن قصد الوسيلة غير الشريفة عن
المقصد الشريف لما أمر بأخْذ العلم من مشركي الصين، وهذا الحديث الشريف من
جملة أسباب احتقارهم للصعوبات في سبيل نيل المرام من الكمال.
(53) للتعليم مَزِيَّة كبرى في دين محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه
قال: (أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علمًا، ثم يعلِّمه أخاه المسلم) [16]
لأن تربية الدماغ التربية الصالحة ترقِّي شؤون الإنسان المعنوية.
(54) كان المسلمون يحترمون أنفسهم فلا يعملون إلا بما تطمئن إليه قلوبهم،
وترتاح إليه ضمائرهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا حاك نفسك
شيء فدَعْهُ) [17] فكانوا يعلّمون دينهم ومصالحهم بالإقناع، فلا يُساقون إليها،
ولا يُكرهون عليها.
(55) كانوا يعتقدون أن أصدق مفتٍ للإنسان وجدانه؛ لأنه صلى الله عليه
وسلم قال: (استفتِ نفسك، وإن أفتاك المفتون) [18] ، وبما أن صحة حكم
الوجدان متوقّفة على كون ذلك الوجدان نُقي وطُهر بصابون التربية، وماء العلم،
وتحلى بحلى الأخلاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإسلام حسن الخلق) .
(56) كان المسلمون يتجنَّبون كل عمل بالسر، إن كان يكرهه الناس
بالعَلَن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما كرهت أن يراه الناس منك، فلا
تفعلْه بنفسك خلوة) [19] .
(57) بما أن صحة إفتاء النفس تتوقَّف على تهذيب العقل، وصحة العقل
منوطة بسلامة الجسد - كانوا يعتنون كل الاعتناء بقواعد حفظ الصحة؛ لأن من
وصايا النبي صلى الله عليه وسلم بها قوله: (تخللوا؛ فإنه نظافة، والنظافة تدعو
إلى الإيمان) [20] .
(58) نظافة اليدين والفم كانت من أهم أعمالهم اليومية؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (مَن بات وفي يده غمر- فإن أصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه [21] .
أين الذين يعترضون على قواعد حفظ الصحة، ويقولون: المرض من الله،
ولا دَخْلَ للعبد فيه؟ أين هم؟ ! أين هم؟ !
(59) كانوا لا يخرجون من بيوتهم إلا بألبِسة لطيفة ومنشطة؛ لأنه -
صلى الله عليه وسلم - هذَّبهم بقوله: (أصلحوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم حتى
تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس) ، وما قول الذين يخرجون إلى السوق بلا جبة وبلا
جوارب أو بلا طربوش؟ ، إن الأوروبي يصوّر أمثال هؤلاء، ويضع صورهم في
معرض الصور المتحركة؛ ليقول لقومه: ها هم أولاء المسلمون! ، ومَن لي بمَن
يُفهِم الأوروبيين أن هؤلاء مسلمون اسمًا لا فعلاً.
(60) لم تكن النظافة التي أمر بها الإسلام خاصة بالأجسام، بل كانت
تشمل باب البيت وساحة الدار أيضًا، جاء في الحديث أن: (طَيِّبُوا ساحاتكم [22] ) .
(61) ومن جملة أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون مدن المسلمين
مزينة بالأبنية العالية، وبالمساجد العامرة؛ لأنه قال: (ابنوا مساجدكم جمًّا، وابنوا
مدائنكم مشرفة) [23] .
إيه! يا أيها الذين يسكنون تحت الأرض! والذين يدعون غيرهم لهذا
العمل ما قولكم بهذا الحديث؟ !
(62) نظافة الطرق وتوسيعها مما كان يوصي به صلى الله عليه وسلم
كقوله: (اعزل الأذى عن طريق المسلمين) [24] .
إن الإنسان عندما يرى هذه الأحاديث النبوية - المبنية على أدق الأسس
الاجتماعية - يكاد يذوب ألمًا، عندما يرى مدن المسلمين اليوم وطرقهم وبيوتهم.
(63) شدَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تنظيف الطرقات، حتى
قال: (مَن آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم) [25] .
ومع كل هذه الصراحة فإن أكثر طرقات المسلمين كأنها مستودع لقاذورات
البيوت التي يلقونها على الطريق، كأن ذلك أمر عادي، فهل لنا بعد هذه المخالفات
لأوامر نبينا أن ندَّعي الإسلام؟ ، قال سيدنا عيسى - عليه السلام - لأمته: (مَن
ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له الخد الأيسر، وأعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ،
ومع ذلك ترى كل عيسوي يبذل جهده؛ لأن يكون هو القيصر، ولأن يعمر ملكه
وملك غيره، بينما نرى سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أمر بما تقدم آنفًا
ترى المسلمين ينكمشون، ولا يتوسعون على سطح الأرض، بيوتهم صغيرة،
بلادهم غير منظمة، يعطون ما لقيصر لقيصر، ويضيفون على ذلك ما لهم الخاص
أيضًا، ويعطونه لقيصر، يفتخرون بالذل، عجبًا! ، هل من علاقة بين أوامر نبي
المسلمين وحالهم الحاضر؟ ، لا، ثم لا، ذكرنا آنفًا ستين حديثًا ونيِّفًا عن نبينا -
صلى الله عليه وسلم - نرى مدلولها عند أمة عيسى فعلاً، ولفظها في كتبنا فقط،
أأقول إنهم مسلمون فعلاً، ونحن مسلمون اسمًا؟ ! لنقايس حال أجدادنا بحالنا، لعلنا
نعتبر أو نخجل أن نكون أولاد أولئك الليوث؛ لأننا أصبحنا عارًا على الإسلامية
الحقيقية.
(64) قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا يحبهم ربك عز
وجل: رجل نزل بيتًا خربًا، ورجل نزل على طريق السبيل، ورجل أرسل دابته،
ثم جعل يدعو الله أن يحبسها) [26] .
فما قول ساداتنا الذين يظنون أن الدعاء وحده سبب الانتصار في الحروب
العسكرية، والسياسية، والاقتصادية.
(65) كانوا يعملون، ثم يتوكلون؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (قيد
وتوكل) [27] ، أما اليوم فبحجة التوكل ترى المسلمين فرشوا فراش الراحة،
وناموا ينتظرون أن يعمل الناس لهم؛ ليأكلوا، وإن احتاجوا شيئًا طفقوا يدعون،
ولا قيمة للعمل عندهم، وقد فاتهم أنه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق حمل
المجرفة بيده الشريفة، واشتغل مع العَمَلَة بحفر الخندق حول المدينة لأجل دفع
العدو، فعمله هذا دليل على أن للمجرفة وللخندق في الحروب تأثيرًا لا يغني عنه
الدعاء، ولو كان للدعاء ذلك التأثير - كما يزعم المسلمون اسمًا - لاكتفى صلى الله
عليه وسلم بالدعاء، ولما أتعب نفسه بحمل المجرفة وحفر الخندق، ولكن أين مَن
يدقق في التاريخ، وأين مَن إذا درس استطاع أن يستنتج؟ .
(66) عَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين يشتغلون لإعاشة عيالهم
بالصناعات أو التجارة أو الزراعة أفضل الأمة بقوله: (أَحَبُّ العباد إلى الله تعالى
أنفعهم لعياله) [28] .
(67) كانوا يتبايعون، ويتقاضون الحقوق بكل بشاشة وسماحة، وكلام
حلو؛ ليصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين رجل سمح البيع،
سمح الشراء، سمح القضاء) [29] .
ونحن اليوم بين حالتين: إما بائع وجد قوت يومه؛ فبغى، وطغى، وعامل
المشتري معاملة الآمر المستبد، وإما طمَّاع كذوب محتال مداهن، فأين نحن من
السماحة التي أمرنا بها سيدنا؟ !
(68) كانوا يعدون التضييق على العيال من أشد الأمور كراهةً، وشرّها
معاملةً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (شر الناس المضيِّق على أهله) [30] .
واليوم ترى بعض مَن يدعي الإسلام يعد الكسل تديُّنًا، والفقر وضيق المعيشة
سببًا للفوز والنجاة، والاشتغال بالكسب مانعًا للعبادة، فيالله ما أبعد هؤلاء عن دين
محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(69) السياحة في أقطار الأرض كانت أمرًا محبوبًا؛ لأنها توسع دائرة
المعارف، وتزيد الثروة، وتقوي البنية، وتعلم الإنسان المقايسة؛ لذلك أمر صلى
الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) [31] ، (السائحون هم
الصائمون) [32] ، و (وسافروا تصحوا وترزقوا) [33] .
على هذه الأسس بُنيت المدنية الإسلامية، أما مسلمو اليوم فهم منكمشون في
بيوتهم حتى لا يعرفون أطراف مدينتهم، فهل المسلم مَن يخالف أوامر نبي
الإسلام؟ ! .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود عن عائشة وحسنوه.
(2) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة.
(3) أبو نعيم في حلية الأولياء عن علي وحسنوه.
(4) ابن ماجه وأبو يَعْلَى وابن حبان من حديث جابر بسند صحيح، وفسروا (لا يملَّ حتى تملُّوا) في هذا الحديث وغيره أنه تعالى لا يترك إثابتكم حتى تتركوا العمل الصالح، وهو من باب المشاكلة.
(5) الطبراني من حديث ابن عمر وأحمد والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وثَمَّ أحاديث أصرح منه في المسألة.
(6) رواه أحمد من حديث أنس يسند صحيح.
(7) رواه القضاعي عن أبي هريرة بسند ضعيف، وهناك شواهد صحيحة أصرح منه.
(8) الترمذي والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري بسند حسن، وفي معناه حديث صحيح عن ابن
عمر: (قد اتَّجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر وأكثر المهاجرين من الصحابة تُجارًا) .
(9) إن في الكتاب والسنة نصوصًا في كوْن الأصل في سيادة الدنيا وطيباتها أن تكون للمسلمين أصح وأصرح من هذا الحديث في التجارة، وحسبك منها قوله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة] (الأعراف:
32) ، وطالما نوهنا بهذا في المنار.
(10) رواه ابن ماجه من حديث خباب بسند صحيح، ويا ليت شعري أين هؤلاء الذين ينكر عليهم الكاتب تمني الموت؟ ! ، وما أراه إلا واهمًا.
(11) الدارقطني في الأفراد عن جابر.
(12) ابن عساكر عن معقل بن يسار بسند حسن.
(13) رواه البخاري وغيره.
(14) الطبراني في معجمه الكبير من حديث أبي جحيفة بسند صحيح.
(15) ابن عبد البر من حديث أنس، وفيه زيادة: (فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع) .
(16) ابن ماجه من حديث أبي هريرة.
(17) أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي أمامة.
(18) رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن، وحديث (الإسلام حسن الخلق) في مسند الفردوس للديلمي.
(19) لفظ الحديث في الجامع الصغير الذي نقل عنه الكاتب (إذا خلوت) بدل (خلوة) رواه ابن حبان والترمذي عن ابن شريك بسند صحيح.
(20) تتمته: (والإيمان مع صاحبه في الجنة) رواه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود، عظَّم عليه السلام أمر تنظيف الأسنان بهذا الحديث، والناس يتهاونون بها حتى يأكلها السوس، فيقاسون
آلامها، ثم يُحرمون منها، فيسوء هضمهم، ويُحرمون لذة الطعام، أو يضطرون إلى وضع أسنان صناعية غالية الثمن، وهي دونها.
(21) البخاري في التاريخ والترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنوه، والغمر فيه بالتحريك، وهو ريح اللحم، فهو حثّ على تنظيم الأيدي بعد الطعام، ولا سيما الدسم كاللحم والدهن.
(22) تتمته: (فإن أنتن الساحات ساحات اليهود) رواه الطبراني في الأوسط عن سعد وحسنوه، ومن العجيب أن هذا الأمر لا يزال معروفًا في بيوت فقراء اليهود الذين لم يتربوا تربية إفرنجية.
(23) ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
(24) مسلم في صحيحه وابن ماجه عن أبي برزة.
(25) الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد، وحسنوه.
(26) الطبراني في الكبير عن عبد الرحمن بن عائذ الثمالي بسند حسن.
(27) البيهقي في شُعب الإيمان عن عبد الله بن عمرو بسند صحيح.
(28) عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن الحسن البصري مرسلاً، والنفع فيه أعم مما ذكره المؤلف؛ فكل من الدليل والمدلول ضعيف.
(29) رواه الطبراني في الكبير عن أبي سعيد.
(30) رواه في الأوسط عن أبي أمامة، وهو حسن.
(31) أبو داود والحاكم والبيهقي عنه.
(32) الحاكم عن أبي هريرة، وصححوه.
(33) رواه كثيرون بألفاظ متقاربة.(23/531)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية القوانين
أو سعي المتفرنجين إلى نبذ بقية الشريعة الإسلامية
(2)
السعي لإلغاء المحاكم الشرعية
تمهيد
الإفرنج الطامعون في استعباد المسلمين وأعوانهم من المتفرنجين قد يشتركان
في عملٍ واحدٍ، ونيتهما فيه مختلفة اختلاف التضاد، فكلاهما يحاربان الشريعة
الإسلامية، ويحاولان القضاء عليها، ومنع الحكم بها، والتقاضي إلى رجالها،
فنية الفريق الأول وغرضه من ذلك حل رابطة من أقوى روابط هذه الأمة، وإزالة
فصل من أقوى الفصول المنطقية المقوّمة لهذه الملة، والفاصلة بينها وبين الملل
الأخرى؛ لأجل إضعافها، وتمهيد السبيل لإدغامها في غيرها، أو جعْلها غذاءً له،
ونية الفريق الآخر إما إرضاء الفريق الأول لتحصيل قوتهم وغير ذلك بأن يكون
اقتنع أن البلاد صارت له، ولا يرتقي أحد في حكومتها إلا إذا واتاه ووافقه في
سياستها وإدارتها، وإما مساعدته على عمل يظن أنه يخدم وطنه به لاقتناعه
بشبهاته التي يتوسل بها إليه، كتوحيد القضاء أو الفصل بين الحكومة والدين،
والاقتصاد في نفقات المحاكم، أو جمود هذه الشريعة، وخلوّها من المرونة التي
تليق بالقرن العشرين، وإما إرضاء الأقليات غير المسلمة، ولا سيما النصارى،
وإما كسر قيد الدين، والخروج من حكم سلطانه تقليد الملاحدة الإفرنج، أو لأنه
يحُول دون التمتع باللذات، أو لاعتقادهم أن الأمة والحكومة لا يمكن أن ترتقي مع
التزام أحكام الشرع، وأن القوانين الإفرنجية خير لهما منه.
فالمتفرنجون ليسوا على رأي واحد ولا نية واحدة في حربهم للشريعة، ولكن
أكثرهم يتبع هوى نفسه ومنفعة شخصه، وأقلهم يقصد خدمة أمته ووطنه، ولكنه
حفظ شيئًا وغابت عنه أشياءُ، وسيأتي بيان ذلك.
على أثر هجرتي إلى هذه البلاد - من زهاء ربعِ قرنٍ - أخبرني الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى يومًا، وهو يتنفَّس الصعداء أن المستشار القضائي لوزارة
الحقانية (مستر سكوت) اقترح على الحكومة إلغاء المحاكم الشرعية، وجعْل
التقاضي في الأحوال الشخصية من اختصاص المحاكم الأهلية؛ بناء ذلك على أن
المحاكم الشرعية مختلة النظام، قد كثرت شكوى الناس منها، ومطالبة الحكومة
بإصلاحها، وأن قضاة المحاكم الأهلية -المتخرجون في مدرسة الحقوق الخديوية -
قد تعلموا فيها أحكام الأحوال الشخصية، فيمكن أن يجعل في هذه المحاكم جلسات
للقضايا الشخصية خاصة، كما أن للقضايا المدنية جلسات خاصة، وللقضايا
الجنائية كذلك، وبذلك يتوحَّد القضاء، وينتظم، ويتوفَّر للحكومة المال الكثير الذي
تنفقه على المحاكم الشرعية المختلة المعتلة!
سألت الأستاذ: هل المحاكم الشرعية مختلة النظام معتلة الأحكام كما يزعم
المستشار الإنكليزي، أم دعواه هذه كما نعهد من دعاوي السياسة، التي تجعل الحق
باطلاً، والباطل حقًا؟ ! ، قال: إن هذه الدعوى (كلمة حق أُريد بها باطل) ؛
فالمحاكم مختلة، وفيها عيوب كثيرة، كما أن في غيرها من مصالح الحكومة خللاً
وعيوبًا، والباعث الحقيقي على هذا الاقتراح إزالة أهم ما بقي للمسلمين في هذه
الحكومة من الحقوق أو المشخّصات المِلِّيَّة، ومن عجيب أمر هؤلاء الشيوخ،
شيوخ الأزهر - أن هذا الاقتراح لم يستثِرْ غيرتهم، ولم يبعثهم على ما يجب من
الإجماع على إنكاره، والاحتجاج عليه، وهو يمس رزقهم وجاههم!
وقد تعبت في إقناع شيخ الجامع بتأليف وفد من كبار العلماء للاحتجاج عليه
مع بذل جهدي في مقاومته، ومحاولة إقناع المستشار بضرره، وسوء مغبَّته،
وقلت للشيخ: لا يكفي أن أسعى وحدي لإبطال هذا، وأنا من رجال القضاء الأهلي
وأنتم ساكنون، ولكن الخديو اهتم به يومئذ، وكذلك قاضي مصر التركي؛ لأن
النفوذ في المحاكم الشرعية كان لهما وحدهما، وإبطال هذا النفوذ كان من المقاصد
أيضًا.
ولما لم يمكن قبول هذا المشروع اخترعت وزارة الحقانية وسيلة أخرى لما
كانت تدَّعيه من الاهتمام بإصلاح المحاكم الشرعية - اقترحها بطرس غالي باشا،
فقررت أن يبدأ بتعيين قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، يحضران
الدعاوي المهمة في المحكمة الشرعية الكبرى، بل العليا، فقُوبل هذا المشروع
بالسخط العام من المسلمين، واندفع الكُتَّاب ينشرون المقالات الضافية في جريدة
المؤيد في انتقاده، ومنهم بعض الأزهريين، وكان للشيخ علي يوسف رحمه الله
جولة، وأي جولة في هذا الميدان، وقد ساعدته على ذلك ببعض المقالات التي لم
أوقّعها باسمي الصريح، ولا بحَرْفَيْ (م. ر.) ، كما كنت أوقع أكثر ما أكتب في
المؤيد، ثم فشلت الحكومة في هذا الاقتراح برفض مجلس شورى القوانين له
مستندًا إلى فتوى شرعية صدرت من قاضي القضاة ومفتي الديار المصرية شيخ
الجامع الأزهر في ذلك العهد (هو الشيخ حسونة النواوي) ، وكان رأي الأستاذ
الإمام في هذا المشروع أن الغرض الخفي منه للإنكليز وأعوانهم - أن يتعوَّد
المسلمون حكم لابِسي الزي الإفرنجي في القضايا الشرعية؛ فيكون ممهِّدًا للعودة
إلى المشروع الأول.
هذه النازلة حملتنا يومئذ على كتابة مقال في جزء المنار الذي صدر في
أواخر ذي الحجة سنة 1316 عنوانه (التعليم القضائي) ، اقترحنا فيه على شيخ
الجامع الأزهر، ومجلس إدارته إنشاء قسم في الأزهر، يعلِّم الشريعة تعليمًا قضائيًّا
عمليًّا، يعدون فيه خرِّيجيه لمنصب القضاء الشرعي، ومما اقترحناه فيه أن تؤلف
من طلابه هيئة للمحاكمات كهيئة المحكمة، وبينَّا فيه عيوب كتب الفقه التي تدرس
في الأزهر، وبحثنا في تطبيق الأحكام على حاجات الناس في كل عصر، وبينا
فيه تقصير العلماء في هذا وذاك، واضطرار الأمراء والحكام إلى مجاراة العصر
في تطوُّراته العامة، مع ما يجب على العلماء في ذلك.
وعلى إِثْرِ هذه النازلة عزل الخديو الشيخ حسونة من مشيخة الأزهر وإفتاء
الديار المصرية ملجأً لا مختارًا، وولى الأستاذ الإمام منصب الإفتاء، وتوسل إليه
بأكرم أصدقائه ليقبله، فقبل، وكلفته الحكومة تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع
تقرير فيما يراه مِن وسائل إصلاحها، فأجمعت الأمة على استحسان ذلك، كما
نوَّهت به الجرائد.
وقد قام - رحمه الله تعالى - بالأمر خير قيام، ووضع تقريره الذي سارت
بذِكْره الرُّكبان، فشخَّص فيه الداء، ووصف الدواء، ولكن الحكومة لم تنفذه حق
التنفيذ، وكان مما بيَّنه فيه - من خلل هذه المحاكم - ما يعود الذنب فيه على
الحكومة وحدها، وقد نشرناه في المجلد الثاني من المنار، ثم في كتاب على حدته،
ووضعنا له مقدمة بيَّنا فيها الأصول التي يدور عليها الإصلاح بالدليل الواضح،
ولو قدر علماء الأزهر ذلك التقرير قدره، وعملوا بما أرشدهم إليه - لضعفت أو
دُحضت حجة الطاعنين في أحكام الشريعة، الذين يطلبون نسخها بالقوانين
الوضعية، على أن هذه المحاكم قد انتظم سيرها بعض الانتظام منذ ذلك العهد على
تقصير العلماء والحكومة جميعًا في تنفيذ ما اقترح من الإصلاح فيها، ولكن تعليم
الفقه في الأزهر بقي مختلاً، فوضع الأستاذ مشروع مدرسة القضاء الشرعي
للاستغناء بها عنه.
***
قانون الأحوال الشخصية
ثم إن الحكومة المصرية قد جاءت - في عهد الحماية البريطانية - بمشروع
جديد، وهو وضْع قانون للأحوال الشخصية الخاصة بأحكام الزواج، وما يتعلق به
(كالطلاق والفسخ والعدة والنفقة) ، وألفت لذلك لجنة يرأسها وزير الحقانية، ومن
أعضائها مفتي الديار المصرية السابق (الشيخ محمد بخيت) ، وبعض المدرسين
في مدرستي القضاء الشرعي والحقوق، على أن تُستمد مواد هذا القانون من كتاب
قدري باشا المشهور، مع أخذ بعض مواده المناسبة لمصلحة هذا العصر من فقه
المذاهب الأربعة المشهورة، وأن لا تتقيد بمذهب الحنفية في كل حكم، وإن اتخذته
أصلاً؛ لأن ارتباط الحكومة بالدولة العثمانية - التي قيدت القضاء بهذا المذهب -
قد زال.
وهذا الإطلاق ركن من أركان الإصلاح الذي طالما فكر فيه وتمناه عقلاء
العلماء وغيرهم من طلاب الإصلاح، وهو مما اشتمل عليه تقرير الأستاذ الإمام في
إصلاح المحاكم الشرعية، وبينا في مقدمة طبعهِ مُسْتَنَدَهُ من أقوال الفقهاء، ولكن
هذا الشكل لتنفيذه منتقَد من وجوه، كنت قد بينتها في مقال طويل لم يمكن نشره في
أيام ظهور المشروع، وقد كان وزير الحقانية أرسل إليَّ الجزء الأول الذي تم منه؛
لأجل بيان رأيي فيه، كما أرسله إلى كثير من علماء الشرع والقضاة والمحامين،
فانتقده بعضهم، ولم أكتب للوزير فيه شيئًا؛ لأنني لست مقرًّا له، وقد كاشفته
يومئذ بذلك، وإبداء الرأي في مواده يتضمن الرضا بأصله.
ثم إنني بينت أهم ما انتقدته على جعْل الأحكام الشرعية قانونًا في المقالة
الثانية من المقالات التي عنوانها (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ، وسيأتي
بيان سببها وموضوعها، وهو جعْل الأحكام الشرعية قانونًا، فإن القانون إذا أُطلق
في هذا المقام يختص معناه بما يقابل الشرع الإلهي من الأحكام، وما يترتب على
ذلك من توقف الحكم به على إقرار مجلس الوزراء له، وصدور أمر الحاكم العام
بتنفيذه، وكوْنه تشريعًا من هذه الحكومة الواقعة تحت سيادة غير إسلامية، وكون
المنفِّذ له وزيرًا من وزرائها، لا يشترط أن يكون مسلمًا، وكون القضاة يحكمون
بما يفهمون من نصوصه، وإن لم تدل لضعفها وركاكتها - على ما قصدته اللجنة،
وكونه سيشرح على أنه قانون، فلا يتقيد الشارحون له بمآخذ أحكامه من الشرع،
وربما لا يعرفونها، وقد يفضي ذلك إلى مخالفة نصوص الشارع، وإجماع الأمة،
وكونه سيُدمج بعد ذلك في القانون المدني، وتزول منه كل صبغة، وكل صيغة تدل
على استمداده من الشرع الإسلامي، كما صرح بذلك بعض المجاهرين بالإلحاد من
هؤلاء المتفرنجين.
وجملة القول: إنني رأيت هذا الوضع أدنى إلى إزالة ما بقي للمسلمين من
المقوّمات والمشخّصات في هذه الحكومة الإسلامية بكل معنى تسمى به حكومة
إسلامية أو مسيحية وزيادة، ولكنني لم أسمع ولم أقرأ لأحدٍ من علماء الأزهر -كلمة
قِيلت، ولا كُتبت في إنكاره، فهل كان سبب ذلك أنهم لا يرون مانعًا من جعْل
أحكام الشرع - في مثل النكاح والطلاق - قانونًا، وهي من قبيل العبادات؛ في
أنها يدان بها الله تعالى بما أحل وحرم في أغلظ ما نزلت فيه من النصوص من
الحقوق البشرية، من استحلال الأبضاع، وثبوت الأنساب، وتكوين بناء البيوت
(العائلات) ، إن كان هذا سبب إقرارهم لهذا القانون فقد قربت المسافة بينهم وبين
غلاة المتفرنجين في إزالة كل صبغة أو مسحة إسلامية من الحكومة؛ لأن أكثر
الأحكام المدنية، وأحكام العقوبات والسياسة في الفقه من اجتهاد العلماء التي لم يرد
فيها نص في القرآن، ولا سُنة من قضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم أو فتاواه،
والمدار فيها على حفظ المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة العدل، لا على التعبد
كما نبينه بعد.
وقد كنت راجعت في المسألة الأستاذ الشيخ محمد بخيت - وهو أكبر الفقهاء
مقامًا في اللجنة - ورغبت إليه أن يعترض على تسمية ما يجمعونه من هذه الأحكام
قانونًا، ويقترح تسميتها (المجلة الشرعية في الأحكام الشخصية) ، فقال: وأي
مانع يمنع من تسميتها قانونًا؟ ! ، والقانون هو القاعدة الكلية المنطبقة على
جزئياتها، وهو يصدق على هذه الأحكام، قلت: هذا عُرف ذكروه في تفسير قول
مَن عرَّف المنطق بأنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) ،
وهو - في عرف أهل الموسيقى - (اسم لآلة من آلات الطرب) ، ولكنه إذا أُطلق
- في عُرف الحقوق والحكومات - ينصرف إلى ما يضعه البشر من الأحكام التي
تجري عليها الحكومة، ويكون مقابلاً للشريعة التي هي وضع إلهي لا بشري،
حتى إن ما يستنبطه البشر بآرائهم الاجتهادية من هذه الأحكام ينسبونه إلى الوضع
الإلهي؛ لأن الأصل في الصحيح منه أن يكون راجعًا إلى نص من الكتاب أو السنة
(وإن كان الكثير منها ليس كذلك، بل بعضها مخالف للنصوص) ، وذكرت له
بعض ما ظهر لي من لوازم هذه التسمية، وظننت أنه سيفعل شيئًا، ولم يفعل!
ومن نوادر الاتفاق أن حكومة الترك الاتحادية قد فعلت في أثناء الحرب
الأخيرة - على انهماكها فيها، وجعْلها أكبر همهًا - نحوًا مما شرعت فيه الحكومة
المصرية، ولكن توسعوا في مخالفة مذهب الحنفية، ما لم يتوسع المصريون،
على أنهم هم حماته، ومقيدو القضاء به، ولولاهم لما انتشر في مصر؛ وذلك أن
الاتحاديين أجرأ مَن تولى زمام الأحكام في بلاد إسلامية - على التغيير والتبديل
بغير مبالاة بالمخالفين، وسيأتي البحث فيما وضعوه، وأصدروا به إرادة سلطانية.
افترص المتفرنجون إقدام الحكومة على وضع هذا المشروع، فاقترح بعضهم
على وزير الحقانية أن يدمج فيه إبطال تعدد الزوجات، وتقييد أحكام الطلاق،
وحرية المتعاقدين - الرجل والمرأة - في عقد النكاح، وتساويهما فيما يلزم العقد،
وجعْل العقدين رسميين، بل صرح بعضهم بوجوب عدم تناقض أحكام النكاح مع
الحرية الشخصية المقررة في قانون العقوبات، أي المتضمنة لإباحة الزنا.
فظهر لنا مما قرأنا لهم، وسمعنا منهم أنهم يعدون هذا المشروع أقرب الوسائل
إلى نبذ الشريعة الإسلامية بجملتها، لا إلى إلغاء المحاكم الشرعية، وما يلزمه من
القضاء على المعاهد الدينية فقط، وهذا أكبر مما انتقدناه منه بادي الرأي.
***
دعوة المتفرنجين إلى هدم أصول الشريعة كلها
تهوَّك أحد وكلاء النيابة - من رجال القضاء الأهلي - فكتب رسالةً في هذا
المشروع، دعا فيها إلى جعْل هذا القانون مطابقًا لآراء مَن يسمون أنفسهم الفئة
الراقية أو المتنوِّرة في البلاد - وهم هؤلاء المتفرنجون؛ إذ لا يكون الإصلاح
عندهم إلا بذلك - ولكنه خرج فيه عن موضوع الإصلاح الخاص بالأحكام الزوجية
إلى القول بهدْم أصول الشريعة الأربعة المشهورة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس، فأباح باسم الإسلام عدم التقيُّد بنصوص القرآن في الأحكام، ولكنه سمح
بأن تُراعَى في محرماته مرماها والغرض منها، وفي واجباته الحكمة المقصودة بها،
وأما ما جوَّزه وأحله فلكل حاكم عنده أن يحرمه! ، وأما السنة فكل ما ثبت فيها
من أحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقضاياه ومن حلال وحرام - فلا يجب
اتباع شيء منه على مَن بعده! ، خلافًا لقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) ، وإنما يجب على المسلمين عنده أن يتبعوا في كل زمان ومكان
مَن يتولى أمر حكومتهم فيما يسنّه لهم، ويحله ويحرمه عليهم، وإن خالف صريح
سُنة نبيهم، ورسول ربهم إليهم - مخالفة صريحة! ، وكذا إن خالف نصوص
القرآن فيما تدل عليه عباراتها؛ إذ لا يجب عليهم عنده إلا مراعاة ما يفهمون من
حكمتها ومغزاها، فإذا أمكن مراعاة هذه الحكمة وموافقة هذا المغزى من طريق
آخر غير اتباع منطوق الآيات فلا بأس، أو كما قال: (فلا حرج في أن نصل إلى
الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) ، ومثَّل له بإغناء جعْل العقد رسميًّا
عن الإشهاد على عقد الزواج، وبإغناء مرور أكثر مدة الحمل على الطلاق عن
العدة المنصوصة! ، أي ومثل هذا بالأولى ما إذا علمنا بالاطلاع على باطن الرحم
بأشعة (رونتجن) أنه لا حمل فيه، فحينئذ نبيح للمرأة أن تتزوج في اليوم الذي
تطلق فيه، وللمطلق أن يمنع النفقة عنها، وإن لم تتزوج، وبهذه القاعدة لا يبقى
محرم إلا ويباح ارتكابه لمَن يدَّعي أنه يمكنه مراعاة مغزى القرآن من تحريمه
كشرب الخمر وتحريم نكاح البنت والأخت وغير ذلك.
وأما الإجماع والقياس فقد صار مجاله واسعًا في هدمهما، وجعل إجماع أمثاله
وأقيستهم أوْلى بالاعتبار والاتباع من إجماع الصحابة والتابعين، وأقيسة الأئمة
المجتهدين! فمَن يقول في القرآن ما قال ويصرح على أثره بقوله: (وبذلك
ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية القانونية الواردة في القرآن) .
ومَن يجعل قضاء الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وأحكامه في
زمانه كأقضية الإفرنج والمتفرنجين بقوانينهم، والأحكام التي يضعها لهذه البلاد
المستشارون القضائيون من الإنكليز في زماننا، بل يجعل هذه ناسخة لها، وواجبة
الاتباع من دونها، هل يحترم إجماع سلف الأمة الصالح ومجتهديها؟ ، كيف،
وهؤلاء المستشارون ومقلِّدتهم المتفرنجون من أبناء القرن العشرين؟ ! ، وأولئك
كانوا في زمن القرون الوسطى المسيحية التي يسميها أساتذته الإفرنج (القرون
المظلمة) ، وإن سماها قومه المسلمون غير المتنوِّرين بعصر النور أو عصر
السعادة، كما يقول إخواننا الترك؟ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:
65) .
هذا ما كتبه وخطب به مصري من طائفة المسلمين الجغرافيين باسم الإسلام
ونشر رأيه هذا في طول البلاد وعرضها، ودعا إليه باسم الإسلام، فوضع به
للمسلمين دينًا جديدًا وشرعًا محدثًا لم يتجرأ على مثله أحد من فرق الباطنية الذين
تعبوا في محاولة إبطال دين الإسلام بالتأويل، فضلُّوا كثيرًا، وأضلوا عن سواء
السبيل، ولكن الإسلام بقي ثابتًا، وظل حكمه نافذًا، حتى جنى عليه المقلِّدون
الجامدون، ما لم يجنِ عليه الملاحدة والمرتدون، وأجرأ منه أناس من هؤلاء
المتفرنجين، يصرحون اليوم بأن حكومتهم يجب أن تكون غير مقيدة بدين، وأن
تكون جميع قوانينها مدنية لا شائبة للدين فيها، فهذا ينبذ الشرع بشبهة السياسة
المدنية، وذاك ينبذه بشبهة النظريات القانونية.
أما هذا السياسي فهو محمود أفندي عزمي أحد محرري جريدة (الاستقلال) ،
وأما ذلك القانوني فهو (أحمد أفندي صفوت) الذي كان وكيل نيابة (الدلنجات) ،
فاستخدمته السلطة البريطانية بما ظهر من جرأته على الشريعة لإصلاح القضاء في
بلاد فلسطين بعد هدنة الحرب، وكان ألقى ما كتبه على جمهور كبير بقاعة
المحامين في الإسكندرية (في 15 أكتوبر سنة 1917) تحت رئاسة المحامي
أنطون بك سلامة، وطبعه ووزعه على الناس في هذا القطر كله، ولم يصمد أحد
من علماء الأزهر، ولا غيره من المعاهد العلمية - وفي مقدمتها معهد الإسكندرية -
للرد عليه، حتى أطلعنا عليه أحد قضاة المحاكم الأهلية، فرددنا عليه بأربع مقالات
نُشرت في المجلدين العشرين والحادي والعشرين من المنار.
مهما يكن من سبب سكوت علماء المعاهد الدينية في ذلك الوقت، فهاهم أولاء
يتصدون في هذا الوقت للرد على مقترح جعْل القوانين كلها مدنية، وإذا رُفعت
الأحكام العرفية - عند الشروع في انتخاب أعضاء المجلس النيابي - فسيكون مجال
النزاع والخصام في هذه المسالة أقوى، ولكل من الخَصمين أنصار، فالسواد
الأعظم من الأمة المصرية يخالف رأي هؤلاء الغلاة من المتفرنجين، ولا سيما إذا
صرحوا بمقاصدهم، كما يصرح مقترح مدنية القوانين، وهؤلاء المتفرنجون ليسوا
بالقليلين، وتؤيدهم الأقليات غير المسلمة، ونفوذ الإنكليز والإفرنج كافة، ولا يخلو
التصادم بين الفريقين في عهد تكوين الحكومة النيابية، وفي أوائل العهد بها من
خطر عليها، فليس من مصلحة مصر في هذا الوقت أن تثار فيها هذه النزعات
المهيجة التي طرق بابها بعض المتفرنجين، فقابلهم بعض علماء الشرع بمطالبة
الحكومة وواضعي القانون الأساسي بما يفيد وجوب تطبيق جميع مواده على الشرع
الإسلامي، الذي يجب أن تلتزمه الحكومة من حيث هو دينها الرسمي، حتى في
علاقتها بحكومة الخلافة أو بالخليفة.
وهذا المقام يحتاج إلى بسط من وجوه أهمها: ما لا يسع المسلم قبوله
لمنافاته للإسلام، وما هو في سعة منه، وما يضر ذِكْره دون السكوت عنه، وما
تتعارض فيه المصالح ودرء المفاسد، ومن المهم الآن اجتناب الغلو من الجانبين؛
فقد علمنا ما جنى الخلاف والشقاق على أشبه البلاد ببلادنا، وهي (أرلندة) .
وإذا فُتح هذا الباب فلا بد لنا من بيان نظريات الأزهريين، ونظريات
المتفرنجين في الشريعة والقوانين، وما يراه حزب الإصلاح، وهو الوسط الجامع
بين هداية الدين النقية، والترقي في معارج المدنية الصحيحة، وهو حزب
الأستاذ الإمام الذي افتقدته البلاد في ظل مشكلات هذا العصر، كما يفتقد في
الليلة الظلماء مطلع البدر، فاتفق رجال الدين ورجال المدنية على الاحتفال
بإحياء ذكره، والرجوع إلى تعاليمه وهدْيه.
فإذا نظم حزب الإمام عمله، وجمع كلمته، وتعارف أفراده الكثيرون من
الأزهريين وغيرهم - فيوشك أن يؤدي لهذا القطر أفضل خدمة كان من شأن
الإمام - رحمه الله تعالى - أن يؤديها له في هذا الطور المخيف، طور الانتقال
من سيطرة الحكومة الفردية إلى بحبوحة حكومة الأمة النيابية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(23/539)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كوارث سورية في سنوات الحرب
تعليق المنار على مقالات الأمير شكيب
الأمير شكيب كاتب سياسي بارع ومؤرخ، وقد كتب هذه المقالات للتاريخ،
فأثبت فيها ما رأى بعينيه، وما سمع بأذنيه، وما سعى إليه فأصابه، وما سعى
إليه ولم يُصبه، وليس الأمير بالرجل الظَّنون، وما هو على سياسة الاتحاديين
بظَنين، بل كان متهمًا بمشايعتهم؛ لأنه كان في السياسة الخارجية من شيعتهم.
كل مَن قرأ مقاله بإنصاف يجزم معنا أن الحكومة التركية لم تكن تريد في تلك
السنوات إماتة السوريين بالجوع، ولا اللبنانيين منهم، ولم تفضل المسلمين على
النصارى في التموين ولا في غيره من المعاملات، بل كانت وطأتها عليهم أشد،
ولم تبطل امتياز لبنان كما أبطلت الامتيازات الأجنبية كلها، ولكن هذه المقالات
أيدت الآراء المهمة التي كنا نعتقدها، ونصرح بها، قولاً وكتابةً، وإن حكمت
المراقبة على الصحف بمنْعنا من بعض ما كنا نكتب:
1- كنا نعتقد أن جمعية الاتحاد والترقي قد افترصت ما أعطتها الحرب من
التصرف في سلطنة آل عثمان بالحكم العرفي العسكري للقضاء على الشعب العربي
فيها، وجعْل سورية والعراق ولايات تركية، وأن النهضة العلمية والوطنية لما كانت
في سورية أقوى منها في العراق - عجل جمال باشا بتتريكها بالقوة القاهرة، متوسلاً
إلى ذلك بتعريض الضباط والجنود منها للقتل في المعارك الخطرة، وبتقتيل رجال
النهضة الفكرية والقلمية، وبنفي البيوت ذات الثروة والمُلك الواسع إلى الأناضول؛
لأجل إدغامهم في الشعب التركي هنالك، ثم بالإتيان ببيوت تركية تَخلُفهم في بيوتهم، وأملاكهم في سورية، فجمال باشا كان منفذًا لقرار جمعيته الاتحادية الطورانية، لا
مبتكر لهذا الفساد.
راجع قول جمال باشا للأمير شكيب معاتبًا له على التوسل إليه بطلعت باشا
أن يكف عن القتل والصلب: أتظن أنني أفعل ما أفعل بدون مشاورة رفقائي؟ !
(آخر ص 130) ، ثم ما بعد هذا من خيبة الأمل بالتوسل بأنور باشا، ثم راجع
كلامه في (ص 202) ، وما بعدها عن إجلاء السوريين عن وطنهم الذي وُضع له
اسم (التهجير) ، ثم راجع في (ص 292) مسألة محاولة جعْل سورية تركية
بمشروع قانون وُضع لذلك، كانوا يريدون تقريره في مجلس المبعوثين.
2- كنا نعتقد أن محاكمة جمال باشا - لمَن يريد قتْلهم - محاكمة صورية لا
يُراد بها إحقاق الحق ليُتَّبَع، ولا تمييز ما يشوبه من الباطل ليُجتَنَب، وإنما هو
رياء السياسة العصرية المعهود من سائر الدول في معاملة مَن يعده أهلها عدوًّا لهم،
يحاكمونه لأجل إدانته، والحكم عليه، ولا يعدمون ما يُثْبتون به التهمة من الإفك
والتأويل، وليس لإحكامهم معقِّب من استئناف أو نقض وإبرام، فيفند ما يأفكون!
راجع قول الكاتب عن جمال باشا: إنه لما صمم على شنق الجماعة (استدعى
إليه شكري بك رئيس الديوان العرفي في عاليه إلى الشام، وأعطاه - على ما
علمت من شكري بك نفسه - أسماء أربعين شخصًا يجب أن يحكم عليهم بالموت! ،
فراوده شكري بك كثيرًا، ودافع كثيرًا، فتهدده بالقتل! إلخ (آخر ص 131،
وأول ص 132) .
3- كنا نعتقد أن هذه الخطة خطة جهل وغرور؛ لأنها تكون سببًا طبيعيًّا
ليأس العرب من هذه الدولة، وحمْلهم على الخروج عليها، في الوقت الذي يجب
فيه من توثيق روابط الإخاء والولاء - ما لا يجب مثله في غيره؛ لأنه أرجى
الأسباب لانتصارها، ففوته من أعظم الأسباب لانكسارها، وعندما بلغتنا أنباء
فعائِله، بل فظائعه - قلت لبعض إخواننا: إنني أتمنى لو أمكنني أن أصل إلى
جمال باشا؛ لأبين له خطأه، والخطر على الدولة منه، فكانوا يقولون لي: إذًا يبدأ
بقتلك، وصلبك، ولا يرجع عن ضلاله!
وقد ظهر أن الحق كان معهم؛ فإن الكاتب بذل له هذا النصح فلم يسمع له،
بل لولا صداقته لأنور وطلعت لفتك به؛ فإن هؤلاء المغرورين كانوا يظنون أن
البلاد العربية - التي جندوا منها خمسمائة ألف مقاتل - تظل خاضعة لهم، حتى
بعد اليأس من إمكان حفظ لغة شعبها ودينها، والأمن على وطنها في ظل دولتهم! ،
وأن الخضوع بقوة الإرهاب خير من الخضوع بوازع الإخلاص! وكانت الحرب
خير الفرص لاستمالة مَن نفرهم الاتحاديون من الدولة، وأيأسوهم من حفظ حقوقهم
أو حياتهم معها، فعند الشدائد تذهب الأحقاد، ولكنهم زادوهم نفورًا، وتأمل كيف
كانت إنكلترة تبالغ في مدح أهل الهند ومصر، وفرنسة تبالغ في مدح أهل تونس
والجزائر.
راجع (في ص 203) قول الكاتب في رئيس (قومسيون التهجير) نوري
بك المفسد: إنه كان يكره في الباطن جمالاً وطلعت، وكل رجال جمعية الاتحاد
والترقي، ولكنه كان يغري جمالاً بالنفي والتغريب انتقامًا منهم؛ لعلمه أن هذه
الأعمال ليس وراءها إلا الخراب وقيام الأهالي، وقد نبهنا جمالاً إلى هذا الأمر،
وحذرناه من نوري وأحزابه، ومن أقوال الجواسيس إلخ.
4- كنا نعتقد أن ثورة الحجاز توقف بغي جمال عند حد، وأنه هو الذي
جعلها ضربة لازِب لا مناص منها ولا مفر، وذلك أن الفارّين من بغي جمال باشا
هم الذين جرّؤوا الشريف حسينًا على ما كان يهواه من الثورة، وهم الذين قاموا مع
الضباط العراقيين بأثقل أعبائها.
وقد كان الأمر كذلك كما بيَّنه الأمير شكيب في فصل خاص من مقاله،
فراجِعْه في (ص207) وما بعدها، فقد صرح في أوله بأن جمالاً خاف العواقب،
فعدل عن المخاشنة إلى المحاسنة، وبأنه استدعاه هو وبعض زعماء العشائر -
وسماهم - وتكلم معهم في اتحاد العرب والترك، وفي مقاصد الدولة العلية الحقيقية،
(قال) وأفاض بكلام بعضه صحيح، وبعضه سياسة، والتمس منا السهر على
الأمانة للدولة، وأنا - وإن كنت لم أصدق كلامه في البراءة من السياسة الطورانية -
لم أخالفه في الطعن بسياسة الشريف من جهة محالفته لإنكلترة، وتصديقه
لمعاهداتها إلخ.
ثم ذكر أن توفيق بك - الذي جعله جمال باشا وكيلاً لولاية الشام - اجتهد في
إقناعه بوجود مؤامرة على قتله، وخلع طاعة الدولة، وأنه مع ذلك اضطر إلى
الاكتفاء بالحبس، ولم يتجاوزه إلى القتل، أي بعد أن كان يقتل بغير ذنب، وذكر
ما قيل من أن الآستانة أنذرته في هذه الكَرَّة إنذارًا شديدًا بأن يعدل عن خطته
المعهودة؛ لأنه قد طفح الكيل إلخ.
وقد كنت صرحت بما يُرجَى من هذا التأثير في مقالة (المسألة العربية)
التاريخية التي نُشرت في الجزء الأول في المجلد الأول من المجلد العشرين - الذي
صدر في شوال سنة 1335 (يوليو سنة 1917) - بعد أن حذفت المراقبة
البريطانية منها ما حذفت، وكانت كُتبت في السنة التي قبل هذه السنة، ثم صرحت
في الفصل السابع من الرحلة الحجازية: (بأن الثورة الحجازية قد أدت وظيفتها،
وأفادت ما رجوناه منها، فأنقذت الحجاز، وأوقفت بغي البغاة) ، ولكن خاب
سعيي في إيقافها عند هذا الحد؛ حتى لا تكون من أسباب انكسار الدولة في الحرب،
كما بينته في مواضع متعددة بالتلميح عند العجز عن التصريح، ثم بالتصريح
عقب زوال المراقبة.
5- كنت أعتقد أن المصلحة العامة للبشر عامة - وللشعوب المستضعفة
خاصة - أن تنتهي الحرب الكبرى بهدّ قوى الحلفين القائمين بها جميعًا، وعَوْد
التوازن بين دولهما في عهد الضعف إلى ما كان عليه في عهد القوة، وإلا فبانتصار
الحلف الذي فيه الدولة العثمانية، وكان يخالفني في هذا بعض مَن أكاشفهم به،
حتى من المسلمين، قائلين إن الاتحاديين إذا انتصروا لا يقف بغيهم عند حد، فهم
سيقضون على الأمة العربية قضاءً مبرمًا، ويستعبدونها استعبادًا لا تقوم لها بعدها
قائمة، وسيقضون أيضًا على الدين الإسلامي متممين ما بدؤوا به، وكنت أجيب
بأنني أعلم من سوء نية زعماء الاتحاديين فوق ما تعلمون، ولكنني أعتقد أن
الألمان لا يمكِّنونهم من مثل هذا الإفساد، الذي يضطرون إلى السكوت لهم عليه في
زمن الحرب اتقاءً للفشل فيها، وأنه لا بد أن يقدر الألمان من قدر الأمة العربية ما
لا يقدره هؤلاء الاتحاديون المتطرفون، وأن الشعب التركي -الذي يغلب عليه
التدين بالإسلام - سيكون عونًا لنا وللألمان عليهم.
وقد ذكر الأمير شكيب في مقالته ما يؤيد هذا الرأي، ما سبق له في هذه
السبيل من السعي، وهو ما ذكره في (ص 132) من سعيه لدى قنصل ألمانية في
الشام؛ ليتوسل بنفوذ حكومته لدى حليفتها بمنع فظائع جمال باشا؛ لأن الضرر
يعود عليها من ذلك، وقوله: (إن قتل هؤلاء الجماعة سيُحدث بين العرب والترك
فنتة لا نهاية لها، فتكونون زدتم الدولة الائتلافية قوة أمة جديدة هي الأمة العربية) ،
وقول القنصل - بعد إخباره إياه بعجز سفارتهم في الآستانة عن عمل شيء في
هذا الباب -: (إن الأتراك سيندمون على هذا العمل) ، ثم ما ذكره في (ص
133) من سعيه لدى فون كولمان - الذي كان سفير الدوة الألمانية في الآستانة -
لجعْل الترك والعرب كالنمسة والمجر ثم لدى خلَفه الكونت برنستورف، الذي
كان يصرح بأنه على هذا الرأي إلخ.
فثبت بهذا أن آراءنا كانت صحيحة؛ لأنها مبنية على الروية والتدقيق في
البحث عن الحق، ولكنني لم أكن آمنًا من عاقبة غرور الاتحاديين وتهورهم إذا
انتصروا، ولا يائسًا من رحمة الله بهذه الأمة إذا انكسرت الدولة بسوء تصرفهم،
ولا محل لشرح هذا هنا.
هذا، وإننا سنعود إلى شيء من هذا البحث في الرحلة الأوروبية، ونبين فيها
ما كان من شدة نفور السواد الأعظم من الترك من أعمال الاتحاديين، وإضمارهم
للثورة عليهم بعد الحرب، ومن منع الغازي مصطفى كمال باشا لزعمائهم من
دخول الأناضول مدة الحرب لكراهة الأمة لهم، وحذرًا من وقوع الشقاق بوجودهم،
وما علمناه مما لقينا من الاتحاديين أنفسهم من اعترافهم بخطئهم في المسألتين
العربية والإسلامية، ومن سعيهم الآن لتكوين الجامعة الإسلامية، مع عدم الرجوع
عن الجنسية الطورانية، وقد تولى جمال باشا أفضل عمل يمكن عمله للجامعة
الإسلامية، وهو تنظيم الجيش الأفغاني الباسل، ولكن وردت الأنباء بأن بعض
أشقياء الأرمن قد اغتاله في القوقاس منصرفًا من أوربة إلى الأفغان، ولا شك أن
فقده الآن خسارة كبيرة؛ لأنه كان قائمًا بعمل عظيم، ولكن رجال الثورات قلما
يموتون حتف أنوفهم.
__________(23/548)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرحلة الأوربية
(5)
حديثنا مع أعضاء جمعية الأمم:
كان مما قرره أعضاء المؤتمر السوري الفلسطيني - قبل انفضاضه - أن
يسعى بعض أعضائه إلى مقابلة بعض أعضاء جمعية الأمم، الذي يُرجى أن
يعطفوا على قضيتنا إذا عرفوا كنهها، والذين يرجى أن نستفيد من الحديث معهم
فائدة تزيدنا بصيرة في أمرنا، فكتب الأمير شكيب إلى كثير منهم مكتوبات خاصة،
يطلب فيها تعيين وقت خاص لمقابلة وفد من أعضاء مؤتمرنا، ويخبرونه به، من
حيث إنه هو (السكرتير) للمؤتمر، فأجاب كثير منهم الطلب، وأبى المندوبان
الفرنسيان، واستكبرا أن يجيبا، كأنهما لا يعترفان بأن مؤتمرًا عُقد، على أن
حكومتهما قد كانت أشد اهتمامًا بأمر المؤتمر من زميلتها إنكلترة، فحملت صنائعها
في سورية على توقيع عرائض ينكرون فيها أن يكون المؤتمر ممثلاً لهم، ومعبرًا
عن إرادتهم، فأجابها إلى ذلك أيهم أشد نفاقًا من المستخدمين، وقليل من الجبناء
الطامعين، وستفصل أخبارهم في هذا مع غيرها في كتاب المؤتمر، الذي سيكون
تاريخًا دقيقًا لهذا العمل، وكذلك مندوب الهند، وأمره ليس بيده، بل بيد سكرتيره
الإنكليزي، وإنما مراد إنكلترة من وجوده كثرة أنصارها في الجمعية!
وكان ممن أجاب الطلب رئيس مجلس جمعية الأمم، وهو مندوب الصين،
ورئيس الجمعية العامة، وهو مندوب هولندة ومن الأعضاء البرنس أرفع الدولة
مندوب إيران، واللورد روبرت سيسل البريطاني الشهير مندوب حكومة الترانسفال،
والمستر فيشر مندوب الدولة البريطانية نفسها، وكذا مندوبو إيطالية، وإسبانية،
والبرازيل، والأرجنتين وغيرهم، وكنا نبسط لكل منهم قضيتنا، وكان أشدهم
عطفًا عليها، وتمنِّيًا لمساعدتنا مندوبا إيران والصين؛ لما بيننا وبين شعوبهما من
الجامعة الشرقية، ويليهما مندوبو البرازيل والأرجنتين، فمندوبا أسبانية وهولندة.
كان بسطنا للقضية لدى هؤلاء متشابهًا وكان الأمير ميشيل يتكلم معهم باللين
والاعتدال، ولا سيما مع الأوروبيين منهم، وكنت أنا - والأمير شكيب - نتكلم
بشدة في رفض الانتداب، وسوء الاعتقاد بالدولتين المتصديتين له، ووصف
سيرتهما، وكان سليمان بك كنعان، يزيد علينا بيانًا في قضية لبنان، ومثله توفيق
بك حماد، وشكري أفندي الجمل في الشكوى من الوطن القومي لليهود في فلسطين،
ولا فائدة في استقصاء ما دار بيننا وبينهم كلهم في ذلك، ولا بد من بيان نموذج
منه.
مناقشتنا للورد سيسل:
قابلنا اللورد روبرت سيسل في عصر يوم الجمعة (30 سبتمبر) ، ومكثنا
معه ساعة وربع ساعة، وقد أفاض في الكلام معنا بطلاقة، وحرية غريبة، وهو
جالس على كرسي بين الجالس والمستلقي، كما أجلس أنا في عامة الأوقات، إلا
أنني أتحامي هذه الجلسة إذا كنت مع بعض المتكلفين المحافظين على الرسوم،
فأترك راحتي مراعاة لهم، والظاهر أن الرأي العام في أوربة لا ينتقد مثل هذه
العادة، ولا يعدّها مخلة بآداب المجلس، وإلا كان اللورد قليل الاحترام لنا، وكبراء
الإنكليز شديدو المحافظة على الآداب العامة على كبريائهم وإعجابهم بأنفسهم!
بسطنا قضيتنا للورد وبيَّنا له رأي أمتنا في الانتداب، وخصصنا بالذكر
مسألتي فلسطين ولبنان، فقال: إن البلاد السورية لا تزال - بحسب القانون الدولي-
من بلاد العدو المحتلة، صاحبتها الدولة التركية، وهي في حالة حرب مع دول
الأحلاف؛ لأنها لم تصدق على معاهدة سيفر التي أمضاها مندوبوها؛ فلهذا لم تَرَ
جمعية الأمم أن لها حقًّا في النظر في صكوك الانتداب للبلاد المرموز لها بحرف
(أ) ، المقدمة لها من إنكلترة وفرنسة، وقد اقترحت أنا النظر فيها فلم يقبل
اقتراحي.
(هذا نص كلامه، وقد كانت الجرائد ذكرت أن كلاًّ من الدولتين وضعت
صكًّا لانتدابها، ونشرت صك الانتداب للعراق - وهو سيئ جدًّا - ولم يُنشر صك
الانتداب لسورية؛ لأنه أسوأ، والظاهر أنهما استرجعتا الصكين، ثم استبدلنا
غيرهما بهما في هذا العام، وقد أقرهما مجلس عصبة الأمم، وإن لم يكن له حق
في ذلك بشهادة اللورد) .
ثم قال اللورد: إن الغرض من الانتداب أن تكون البلاد المفروض عليها
مستقلة في إدارتها، وتساعدها الدولة المنتدبة حتى تستعد للاستقلال التام!
قلنا، نعم هذا ما نص في عهد جمعية الأمم، ولكنه خداع كشفته سيرة
الدولتين المستوليتين على البلاد، قبل أن يتم لهما أمر الانتداب، ومما ذُكر في عهد
الجمعية أن لأهل البلاد الحق الأول في اختيار الدولة المنتدبة، ونشرت الدولتان
بلاغًا رسميًّا وعدتا فيه بالعمل برغبة الأهالي، ثم أخلفتا الوعد، ولم تعتد برأي
الأهالي في شيء.
قال: نعم، ولكن الدولتين احتاطتا لذلك، فجعلتا الاتفاق بينهما حائلاً دون
انتفاع أهل البلاد بهذا النص، وهو أن لا تقبل فرنسة الانتداب لفلسطين ولا للعراق
ولا تقبل بريطانيا الانتداب لسورية، كما أنهما لا تمكِّنان دولة أخرى من التصدي
لهذا الانتداب.
وقال جوابًا عن كلام يتعلق بعدم تمكينهما جمعية الأمم من جعْل الانتداب
موافقًا لروح عهدها ونصوصه: إن للجمعية أن تفعل ذلك بأن تطبق الانتداب على
مبدئها وروح عهدها فلا تقبل ما يخالف ذلك!
ثم قال: إن حكومة العراق الجديدة موافقة لروح جمعية الأمم، وإن إنكلترة
تنوي مساعدة هذه الحكومة بإخلاص، وإن سورية تستحق حكومة مثلها، لكنه
اعترف بأن مسألة فلسطين مشكلة ودقيقة (أي غير متفقة مع نصوص جمعية الأمم
ولا مع روحها) وقال: إن إنكلترة مضطرة إلى الوفاء لليهود بوعد بلفور، وإلى
إرضاء العرب، وحفظ حقوقهم! وهي ستجتهد في اختراع وسيلة لإرضاء الفريقين
مع موافقة روح جمعية الأمم في الانتداب.
هكذا قال اللورد، ولكن صك الانتداب الذي ظهر أخيرًا لم يُرضِ إلا اليهود
الصهيونيين وحدهم، وقد أغضب العرب، وخفر عهود إنكلترة لهم، وأخلف
الوعود التي منَّتهم بها، ولم يوافق روح عصبة الأمم ولا نص موادها، فمَن نصدق،
وبقول مَن نثق؟ ! إلا أننا لم نصدق قول اللورد، ولكن كان يصدق مثله ومَن
دونه كثير من الفلسطينيين، حتى أتاهم اليقين!
ولما صرحنا للورد بأننا لا نقبل هذا الانتداب بحال من الأحوال، ولا نصدق
الوعود والأقوال - نصح لنا بأن لا نعرقل مسألة الانتداب، بل بأن نقبله، ونطالب
بجعْله موافقًا لروح جمعية الأمم؛ فإنه ضربة لازب (قال) ومعاهدة سيفر وإن
كانت ستعدَّل فبلاد العرب لن تعود إلى الحكومة التركية، فليس أمامنا مَن نتكل
عليه لإنصافنا - من سوء التصرف في الانتداب - إلا جمعية الأمم نفسها؛ لأنها
هي صاحبة الحق في المراقبة على الدول المنتدبة، ومحاسبتها على أعمالها.
قال هذا جوابًا عما أطال به الأمير ميشيل من سوء التصرف في البلاد باسم
الانتداب، فكأن اللورد توهم أنه يمكن أن نقبله إذا حسن التصرف فيه، وقد
صرحت أنا - والأمير شكيب - بأننا لا يمكن أن نقبله كما تقدم، وأننا إنما نذكر
سوء التصرف فيه لإقامة الحجة من الآن على سوء النية لا للانتصاف.
وكان ملخص كلامي له أنه ليس في استطاعتنا أن نحج الدولتين، ويكون
لنا الفلج عليهما في دائرة قانون هما الواضعتان له، والحاكمتان به، والمنفذتان له
بالقوة، وإنما نشكو إلى عصبة الأمم مذ الآن هذا الأمر، ونبين لها أنه مخالف
لمبدئها وغايتها، ولا نخاطبه به بصفته البريطانية، بل بكونه من كبار أعضاء
العصبة الذين تشبعوا بروحها كما نسمع عنه، ونرى أن مثله ينبغي أن يعرف
الروح السائدة في الشرق الآن، ولا سيما سورية وفلسطين وسائر بلاد العرب،
وأن الحرب الأخيرة قد علَّمتهم أن الحياة يجب أن تكون رخيصة في سبيل الحرية،
فهم لا يبالون ببذل دمائهم في سبيلها، وأنه قد ثبت عندهم أن هذا الانتداب استعمار
واستعباد، لا مساعدة لأجل استقلالهم، ولو كان مساعدة لما قاوموه كل هذه المقاومة،
وقد أجاب عن أول هذا الكلام، ولم يُجب عن الجملة الأخيرة، بل قام على أثرها!
كلامي مع المندوب البريطاني:
وأذكر مما قلته لمستر فيشر المندوب البريطاني- في أثناء حديث وفدنا معه -:
إن أهل الشرق كنوا يثقون بالبريطانيين ما لا يثقون بغيرهم من الغربيين، ولا
الشرقيين، ويضربون المثل بصدقهم ووفائهم، فإذا أراد أحد أن يقول قولاً فصلاً
صادقًا لا رجوع فيه، قال: (كلمة إنكليزية) ، وقد انقلب هذا الاعتقاد بعد الهدنة
من الحرب العامة إلى ضده، فلم يعد أحد يثق بقول إنكليزي، ولا غيره من
الأوروبيين، بل خسرت أوربة كل ما كان من نفوذها الأدبي.
ذلكم بأنكم في أثناء هذه الحرب قد ألقيتم على جميع الأمم والشعوب في الشرق
والغرب درسًا واحدًا، كان يتكرر كل يوم مدة أربع سنين، وهو أن الغرض من
هذه الحرب - بين حلفكم والحلف الجرماني - هو نصر سلطان الحق وحرية الأمم
والشعوب على سلطان القوة، والاعتداء على الضعفاء، وإخضاعهم بالسلاح
العسكري، ووعدتمونا - معشر العرب خاصة - بأننا سنكون بانتصاركم أحرارًا
مستقلين، وقد امتزجت هذه الوعود بدمائنا وأعصابنا، كما صدقت الشعوب كلها
تلك الدروس التي كانت تلقيها عليها برقيات روتر، وهافاس كل يوم، وتشرحها
وتفصلها جرائدكم، وجرائد أحلافكم.
وما كان إلا أن وضعت الحرب أوزارها بخضوع أعدائكم لكم، ونزولهم على
شروطكم في الهدنة والصلح، حتى نثلت الكنائن، وظهرت الدفائن، فعلم أنكم إنما
خشيتم أن تشارككم الدولة الألمانية بقوتها في استعبادكم للشعوب، واستعماركم
لبلادها، فأردتم القضاء على قوتها؛ لتنفردوا بذلك، وكان أسوأ الناس خيبة مَن
اتخذتموهم، واتخذوكم أصدقاء من مخدوعي الأمة العربية، فإنكم انتزعتم منها خير
بلادها وأخصبها، ومواطن مدنيتها، وهي سورية والعراق، فقسمتوها بينكم وبين
حليفتكم فرنسة اقتسام الغنائم، وقهرتموها على الخضوع لحُكمكم بالدبابات
والطيارات والبنادق والمدافع.
وإننا نرى أنكم إنما أسستم إمبراطوريتكم العظيمة بالقوة المعنوية والأدبية
كالدهاء والحكمة واللين، وأنكم ستكونون - باستبدال القوة العسكرية الوحشية بها -
من الخاسرين، وإنني قد كتبت في إثبات هذه القضية مذكرة أرسلتها إلى وزيركم
الأكبر لويد جورج في العام الماضي أثبت فيها أنه يمكن لكم أن تربحوا من الشعوب
العربية، والتركية، والفارسية وغيرها من أمم الشرق بالصداقة وحسن المعاملة
معها - إذا تركتم لها استقلالها - أضعاف ما تتصورون من الربح منها باستعبادها
واستذلالها، والخداع بالأقوال - كتسمية الاستعمار بالانتداب - لم يبقَ له رواجٍ عند
أحد من الناس.
وقد انسلَّ المندوب البريطاني من المناقشة في هذا الموضوع بأنه الآن عضو
في جمعية الأمم لا في الوزارة البريطانية، وأن الانتداب مقرر في عهد الجمعية،
وليس موكولاً إلى أعضائها؛ ليقرروه، أو يتركوه، وإنما يطالبون بجعْله مطابقًا
للمبادئ والأحكام الموضوعة له!
ومما أضحكنا من كلام المندوب البريطاني أنني لما غمزت الحلفاء باقتسام
بلادنا باسم الانتداب قال: إننا نحن لم نأخذ شيئًا!
مندوب الصين:
ومما قلته لمندوب الصين - وهو رئيس مجلس العصبة بالانتخاب، ويا له
من رجل عالم عاقل حليم! -: لا يعزب عن علم سعادتكم أن الدول الغربية
الطامعة تعد الشرق كله مباحًا لها، وترى أنه ليس لشعوبه حق في الحرية القومية
واستقلال الحكم، إلا مَن أثبت ذلك لنفسه بالقوة الحربية القاهرة كاليابان، وما
يمنعهم من العدوان على شعب شرقي ضعيف في عقر داره لسلب حريته،
واستغلال بلاده بيده - وأيديهم من فوقها - لا التنازع فيما بينهم عليه، وقد بدؤوا
بعد هذه الحرب الوحشية باقتسام بلاد الشرق الأدنى، فإذا فرغوا منها لا يبقى
أمامهم إلا الشرق الأقصى، فأنتم بدفاعكم عن قضيتنا تدافعون عن أنفسكم:
مَن حلقت لحية جار له ... فليسكب الماء على لحيته
فاعترف بصحة هذا القول وبوجوب تكافل الشرقيين، وتعاونهم على جعْل
آسية للآسيويين، وقد عني بنا أكثر من غيره.
مندوب إيران:
ومما قلته لمندوب إيران (البرنس أرفع الدولة) أن خصم المسلمين الأكبر
في الشرق بل خصم الشرق كله - هو الدولة البريطانية، وهي مع المسلمين اليوم
على طرفين متقابلين، وإن كانا يشتركان في أن كلاًّ منهما أقوى ما كان وأضعف ما
كان في كل تاريخ حياته!
فأما الدولة البريطانية فقد خرجت من هذه الحرب، وهي سيدة أوربة كلها -
دع الشرق - فإنها استراحت من خطر الأسطول الألماني، الذي كان يهدد سيادتها
البحرية بالزوال، وأضافت إلى مستعمراتها بلادًا واسعة غنية، ودكت صروح
الدولة العثمانية، وجعلت أختها الدولة الإيرانية تحت حمايتها، وأحاطت بجزيرة
العرب من أطرافها، بعد أن أعلنت الحماية على مصر واحتلت العراق وفلسطين
(البلاد المقدسة) ، وانفردت بالسلطان في البحر المتوسط، فصار كل دُوَله وراءها
كالخدم وراء المخدوم، ولكن هذه العظمة والرفعة هي منتهى ما يمكن أن تصل إليه،
ولا يطيق النوع البشري احتمال عظمة فوق هذه، فهي قد بلغت القمة، ولما كان
الوقوف والسكون في عالم الأحياء مُحالاً لم يبق إلا أن تنحدر وتتدهور، وقد بدت
آيات الانحدار والسقوط، فقد ثارت عليها أرلندة ومصر والعراق ثورات دموية،
وثارت فلسطين ثورة سياسية، والهند ثورة اجتماعية، ونجم نبت الشقاق بينها
وبين جارتها وأقوى حليفاتها الدولة الفرنسية، ورفضت إيران معاهدتها الاستعبادية،
وصارت جارتها أفغانستان دولة مستقلة حربية، واستعادت الأمة التركية قوتها
الحربية، ووراء ذلك كله الروسية البلشفية، كل هذه المعضلات قد فاجأتها، وهي
في هذا الأوج من مجدها، فعجزت عن معالجة أدنى معضلة منها.
وأما المسلمون فقد انتهت هذه الحرب بالقضاء على ما بقي من دولهم المستقلة،
واقتسام ما بقي من بلادهم بين الدول الظافرة، فبلغوا الحضيض الأسفل من الذلة
والمسكنة، ولما كان الوقوف والسكون محالاً لم يبق إلا أن يصعدوا ويرتقوا، وقد
ظهرت طلائع الارتقاء - بما أشرنا إليه - من ثورات شعوبهم، ونهوض حكوماتهم ,
فإذا كانوا قد اعتبروا بما كان من جناياتهم على أنفسهم، وتابوا - كما نرجو -
من ذنوبهم، وتعاونت شعوبهم مع سائر شعوب الشرق على دفع الضيم والعدوان
عنهم - فلا ريب في نظر الله إليهم، ونصره إياهم، والمسلم لا ييأس من رَوْحِ الله
مهما تكن الخطوب، والكوارث التي تساوره؛ لأن اليأس لا يجتمع مع الإيمان
بقدرة الله وعنايته وفضله في قلب واحد، وهذه آيات الله قد ظهرت للمسلمين
بتسخير الأمة الروسية لدولتي الإسلام - العثمانية والإيرانية - تنصرهما، وتشد
من أزرهما، وتساعدهما على درء الخطر البريطاني عنهما، بعدما كانت هي
الخطر الأكبر عليهما، الساعية إلى ثل عروشهما، وكانت الدولة البريطانية هي
التي تقاومها في هذا، لا حبًّا فيهما، بل خوفًا أن تنازعها سلطانها البحري
بالاستيلاء على الآستانة، وتزحف على الهند من طريق إيران، أو كما قال المثل:
(لا حبًّا في علي، ولكن بغضًا في معاوية) .
ثم نوَّهنا بنهضة الغازي مصطفى كمال باشا العسكرية والسياسية، ولا سيما
عنايته بجمْع الكلمة بين الشعوب الإسلامية والشرقية، فقال البرنس: لولا مصطفى
كمال باشا لكان كل مسلم في الدنيا ذليلاً الآن.
وبهذه المناسبة أذكر أنني قلت لأكثر مَن تكلمت معهم من أعضاء جمعية الأمم
بالاشتراك مع بعض إخواني من وفد المؤتمر أو منفردًا ولرئيس الجمعية خاصة -
وهو آخر مَن تكلم معه الوفد - ما ملخَّصه:
بعض كلامي لرئيس جمعية الأمم:
إن هذه الجمعية التي اقترح الرئيس ويلسون تأليفها من جميع أمم الحضارة
لخير جميع البشر لا يليق بشرفها وشرف أممها وحكوماتها وشرف المبدأ، والغاية
الموضوعين لعملها أن تكون آلة لدولتين استعماريتين، تكفل لهما استعباد مَن
استوليتا عليه من الشعوب قبل الحرب، ومَن تريدان الاستيلاء عليهم بعدها باسم
الانتداب منها، ولا سيما بلادنا العربية التي هي قلب الأرض، ومهد الأديان
الكبرى في العالم، وموضوع التنازع في النفوذ بين الدول الكبرى؛ فإن هاتين
الدولتين قد قلبتا الموضوع، فحولتا الغاية المقصودة من الجمعية إلى ضدها، وقد
عَزَّ عليها أن تحتمل تبعة الاستيلاء على البلاد المقدسة ومهد الأديان السماوية
الكبرى، فجعلت تبعته على عاتق هذه الجمعية، وكلفتاها أن تكفل لهما هذه الغنيمة،
وما قبلها من غنائم الاستعمار الذي كان التنازع عليه علة هذه الحرب المخربة،
ويُخشى أن يفضي إلى حرب شر منها هولاً، وشر مآلاً، ولا يصح منها أن تسفه
نفسها وتحقرها بأن تعتذر عن هذه الجريمة بأنها مقيدة بقانون وضعه لها هؤلاء
الطامعون؛ فإن قانونها يجب أن يكون من وَضْعها، وأن يقرر بأصوات الأكثرين
من أعضاء جمعيتها العامة، فإما أن تقبل الدول الطامعة ذلك، وإما أن يُفتضَح
رياؤها، وتُلقى عليها وحدها تبعة ما ستجنيه على البشر مطامعها.
إذا كان البلقان هو مسعِّر نيران الفتن والحرب في الغرب فإن سورية
وفلسطين وسائر بلاد العرب - ستكون مسعر نيران الفتن والحروب في الغرب
والشرق جميعًا، وإذا كانت إنكلترة وفرنسة قد فقدتا في عاقبة هذه الحرب كل ما
كان لهما من النفوذ الأدبي في الشرق، فستكون جمعية الأمم هي القاضية على نفوذ
أوربة الأدبي في العالم كله إذا رضيت أن تكون آلة لهما فيما ذكرنا.
وإذا أصبحت أوربة لا تبالي بالنفوذ الأدبي لاستحواذ الأفكار المادية عليها -
كما قال فيلسوفها الأكبر هربرت سبنسر - فلتعلم أن النفوذ المادي سيتبع النفوذ
الأدبي؛ فإن الشرق قد استيقظ، وعرف نفسه، ولن يرضى بعد اليوم أن تكون
شعوبه عبيدًا أذلاء للطامعين المستعمرين، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص:
88) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(23/553)
ذو الحجة - 1340هـ
أكتوبر - 1922م(23/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من مدينة بنكوك (سيام)
(س38-45) من صاحب الإمضاء:
(1) يقع اختلاف وشقاق في كل عام بين أئمة المساجد في إثبات هلال
رمضان، فمنهم مَن يعتمد ويعمل بمثل جدول الشهور والأيام للشيخ القزويني،
ومنهم مَن يعمل بما قال في عجائب المخلوقات بعد ذكر الجدول، وهو ما نصه:
قال جعفر الصادق - رضي الله عنه -: إذا أشكل عليك أول شهر رمضان فعد
الخامس من الشهر الذي صمته في العام الماضي؛ فإنه أول يوم شهر رمضان الذي
في العام المقبل، وقد امتحنوا ذلك 50 سنة، فوجدوه صحيحًا. اهـ.
ومنهم مَن لا يعمل إلا بما قال الشيخ البجيرمي في حاشيته على شرح فتح
الوَهَّاب: قال سيدي علي وفا المصري في فتاويه لا يستتر القمر أكثر من ليلتين
آخر الشهر أبدًا، ويستتر ليلتين إن كان كاملاً وليلة إن كان ناقصًا، والمراد
بالاستتار في الليلتين أن لا يظهر القمر فيهما، ويظهر بعد طلوع الفجر، وفي
عبارة بعضهم: وإذا استتر ليلتين، والسماء مصحية فيهما فالليلة الثالثة أول الشهر
بلا ريب، والتفطُّن لذلك ينبغي لكل مسلم، فإن مَن تفطن له يغنيه عن التطلع من
(؟) رؤية هلال رمضان، ولم يفُته يوم أن كان كاملاً، وحديث: (صوموا
لرؤيته ... ) إلخ في حق مَن لم يتفطن لذلك، ولو علم الناس عظم منزلة رمضان
عند الله وعند الملائكة وعند الأنبياء - لاحتاطوا له بصوم أيام قبله؛ حتى لا يفوته
صوم يوم منه! اهـ، (قال) وهو كلام نفيس فاحفظْه، والبقية يصومون
بالرؤية، ويفطرون بالرؤية عملاً بالحديث الشريف؛ فصار كل مسجد يصوم بما
رأى إمامه.
وكذلك يختلفون في إثبات هلالَيْ شوال والأضحى كاختلافهم في إثبات هلال
رمضان، بل العاملون بالرؤية يختلفون في قبول شهادة عدل واحد في هلالي شوال
والأضحى، (ولم تتوفر لأحد في سيام شروط العدالة المشروحة في كتب الإمام
الشافعي) ، فمنهم مَن يقبل، ومنهم مَن يرفض، فاعتماد الأول على ما ذكر
البجيرمي في حاشيته على الإقناع في كتاب الصيام أنه هو المعتمد، والثاني على
ما قال الشافعي في الأم، والنووي في شرح مسلم. فالرجاء ملء صدورنا أن
تبينوا لنا الحق في هذه مع الرد الصريح على مَن اهتدى بغير السنة النبوية.
(2) ما حكم شراء أوراق اليانصيب؟ ، فإن الحكومة السياسية الآن تريد
جمْع المال لشراء الأسلحة النارية والطيارات الهوائية من أرباح اليانصيب
لإعراض الجمهور عن التبرع لها، وما الفرق بينهما وبين الميسر الجاهلي؟ ، فإن
قيل بالمنع، فما يفعل بالجائزة لو ربحت النمرة التي اشتراها مسلم قبل تيقُّن الحرمة؟
(3) فشا بيننا اليوم: (1) التداوي بالأدوية المركبة من الكحول، (2)
واستعمال الروائح العطرية والإفرنجية، (3) تعاطي البيرة، (4) ووضْع
خلاصة الفواكه (Essence) في عمل الحلاويات والمربات، (5)
والاستصباح بزيت البترول (6) ، والانتفاع بالغازات، فكل هذه مستحدثة يصعب
علينا معرفة أحكامها شرعًا، فنلتمس من فضيلتكم بيانًا شافيًا مفصلاً عن حكم كل
منهما، وعن أصلها، وعن الفرق بين كل واحدة منها إن وجد، ولا تحيلونا على
ما لم يكن بيدنا من فتاوى سبقت لكم في المنار أو غيره، أفيدونا أثابكم الله،
والسلام.
بنكوك نوى ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم ناظر مدرسة البداية
... ... ... ... عبد الله بن محمد المسعودي
(جواب المنار)
إثبات هلال رمضان والعيدين
قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ، وقد أجمع العلماء على أن الرد إلى
الله تحكيم كتابه، والعمل به، والرد إلى الرسول بعد وفاته تحكيم سُنَّته، والعمل
بها، وقد قال تعالى - في كتابه -: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة:
185) ، وناط رسوله - صلى الله عليه وسلم - إثبات الشهر برؤية الهلال، وإلا
أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا، ولا حاجة إلى سرد شيءٍ في تفسير الآية، ولا
نصوص الأحاديث في ذلك، فهي معلومة لديكم، ومن عجائب ضلالات التقليد أن
يترك السنة الصحيحة الصريحة عارفها، ويأخذ بقول زيد وعمرو من الناس الذين
ليست أقوالهم دينًا ولا حجة في الدين، ولو لم تكن مخالفة للكتاب والسنة فكيف إذا
خالفتها، ولا هم من العلماء المجتهدين، على أن المسألة ليست اجتهادية لوجود
النص الصريح فيها، وقد قال الإمام الشافعي - في أول باب الإجماع من رسالته
الشهيرة في أصول الفقه -: (وقامت الحجة بما قلت بأن لا يحل لمسلم علم كتابًا
ولا سنة أن يقول بخلافِ واحدٍ منهما) ، فمادامت رؤية الهلال ممكنة فلا يجوز
العمل بالحساب، ولا بمثل ما ذُكر من الضوابط المبنية عليه، ولكن قد يحتاج إلى
الضوابط إذا تعذَّر العمل بالسنة كأن تطبق الغيوم في قطر كبير عدة أشهر، ويتعذر
عليهم الوقوف على إثبات صحيح للشهر برؤية الهلال في مكان قريب منهم مثلاً،
أو إذا كان الصيام في المنطقة القطبية، وما يقرب منها حيث لا شهور، فههنا
يجتهد في تقدير الأوقات للصلاة والصيام.
وقد بيَّنا هذه المسائل من قبل، والغرض هنا بيان أن المصيب من المختلفين
في المسألة في بلاد السائل هو الفريق الذي يثبت الشهر برؤية الهلال، وإلا
فبإكمال عدة شعبان 30 يومًا إذا غم الهلال على الناس، وينبغي أن يكثر المستهلون
لتثبت الرؤية بالتواتر، فإن لم يتفق ذلك، وشهد برؤيته مَن لا يعد عدلاً في مذهب
الشافعي - رحمه الله تعالى - فلا بأس بأن يعد عدلاً في مذهب غيره، والعبرة
بتصديق الناس له، فإذا كنا نعلم أن زيدًا يتحرى الصدق، ويتنزه عن الكذب،
ولكنه لا يرى بأسًا ببعض ما يعد في المذهب مسقطًا للمروءة، ولا سيما إذا كان لا
يعد مسقطًا لها في هذا العصر، أو لا يسقط مروءة مثله لمجموع مزاياه الأخرى،
فلا مانع من قبول شهادته، والعمدة في ذلك أن يُعتقد صدقه، فإن بعض ما
اشترطوه في العدالة مبني على العرف لا النص: كخرم المروءة، والعرف يختلف
باختلاف الزمان والمكان، ويكفي في إثبات رمضان شهادة واحد، ثبت ذلك في
السنة، وجرى عليه الجمهور.
وأما العيدان فالأدلة في إثباتهما بشهادة عدل أو عدلين متعارضة، والمهم أن
يتفقوا على أحد القولين تفاديًا من الاختلاف الذي يبغضه الله، ويبغض أهله.
بعد هذا نقول كلمة في تلك الأقوال التي نقلها السائل عن بعض المصنفين:
فأما ما نقلوه عن جدنا جعفر الصادق رضي الله عنه فهو صحيح في نفسه، وإنما
يطَّرد بموافقة إثبات الشهر بالحساب الذي تقتضيه قواعد الفلك، ولكنه قد يخطئ إذا
جرى الإثبات على قاعدة الشرع بالرؤية، وما يظن أن الإمام قال بترك الإثبات
بما أمر به جده - عليه الصلاة والسلام - والعمل بالحساب، وإلا فإن العارف
بالحساب لا يحتاج إلى ذلك الضابط، بل يعرف أول كل شهر معرفة قطعية لا شك
فيها، وإنما تختلف أقوال مؤلفي التقاويم أحيانًا؛ لأن بعضهم يجري في ذلك على
قاعدة تولد القمر، وبعضهم يجري على قاعدة توافق الشرع، من حيث يجعل أول
الشهر الليلة التي يمكن أن يرى فيها الهلال إذا انتفت الموانع كالغيوم وما في معناها،
وقد بيَّنَّا غير مرة أن الحكمة في جعْل مواقيت الصلاة والصيام منوطة بما تسهل
معرفته على جميع المسلمين من بدو وحضر، أميين ومتعلمين - هي أن لا تكون
أمورهم الدينية بأيدي أفراد من علماء فن مخصوص كالفلك، لا يوجدون في كل
مكان، وقد يعبثون بأمور الأمة في دينها، كما فعل رؤساء الأديان الأخرى، ونجد
أهل الأمصار الإسلامية الآهِلة بالعلماء - من جميع المذاهب - لا يعملون في إثبات
هلال رمضان والأعياد وغيرها إلا بالرؤية، أو إكمال العدة على كثرة الحاسبين
المدققين فيها، ثم إنهم يُثْبتون الرؤية إثباتًا شرعيًّا بحكم في دعوى صورية؛ لأجل
إعلام الناس كافة به بصفة يرتفع فيها الخلاف ليسلم المسلمون من الفوضى،
والخلاف في عبادتهم في كل قطر، فما يفعله أهل (سيام) عندكم مخالف لهدي
الشارع ولحكمة الشرع ولعمل المسلمين سلفًا وخلفًا في جميع الأقطار الإسلامية.
وأما ما نقله البجيرمي من أن حديث: (صوموا لرؤيته) خاص بمَن لم
يتفطن لتلك القاعدة الحسابية، ومن أنه ينبغي الاحتياط لرمضان بصوم قبله حتى
لا يفوته صوم يوم منه! فهو باطل بشقِّيه، ويستغرب قوله فيه: إنه نفيس،
ويترتَّب على قوله الأول أن نقبل قول كل مَن جاءنا بقاعدة أو طريقة يمكن أن
يحصل بها مقصد الشرع في عمل من الأعمال من غير الطريقة أو القاعدة الثابتة
بنص الكتاب والسنة؛ وحينئذٍ يكون كل واحد من هؤلاء شارعًا لغير ما شرعه الله
تعالى، وناسخًا لما شرعه، ولو في الوسائل، وهو شرك بالله تعالى، كما قال
تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى:
21) ، وقد بينا هذا المعنى في مواضع من التفسير والفتاوى القريبة العهد،
وسيرى القراء شيئًا منه في الجزء الآتي من المنار في باب الفتوى، إن شاء الله
تعالى، وبمثل هذه الآراء أضاع مَن قبلنا أصول دينهم وفروعه.
وأما الرأي الثاني فيقال فيه: إن الصيام لا يعد من رمضان إلا إذا ثبت الشهر،
وكان الصيام بنية رمضان، وإلا فقد ورد في السنة النهي عن صوم يوم الشك،
وعن استقبال رمضان بيوم أو يومين.
وجملة القول أن الواجب على أهل بلدكم أن يعملوا في إثبات رمضانٍ
والعيدين بما يعمل به سائر المسلمين من الاستهلال، فإن رُؤيَ الهلال فذاك، وإلا
أكملوا عدة شعبان، وأن يجتمع أئمة المساجد والعلماء ليلة الثلاثين من رمضان،
فإن ثبت الشهر أعلموا به الناس، وصاموا جميعًا، وإلا أفطروا جميعًا، {وَلاَ
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) .
شراء أوراق اليانصيب ورِبْحها:
(اليانصيب) ضرب من ضروب المَيْسِر التي كثرت في هذا الزمان، كما
كثرت أنواع أخته الخمر، فلا خلاف في تحريمه بين علماء المذاهب الإسلامية كلها،
وأما ربحه من حكومة غير إسلامية في دار الكفر التي لا تنفذ فيها شريعة الإسلام
فمباح؛ إذ لا يمكن التزام أحكامها، واشتراط عقودها في تلك الدار، بل يكفي في
حِل أموال أهلها وحكوماتها رضاؤهم، وعدم كوْنه سرقة، أو خيانة لهم، ولا حاجة
إلى بيان الفرق بين هذا الميسر والميسر الجاهلي؛ فإن كل ميسر حرام، كما أن
كل خمر حرام.
وإن أكثر أنواع الخمر والميسر المستحدثة في هذا الزمان شر مما كان منهما
في عصر نزول الشرع، وإن كان بعض الفقهاء يقول: إن حرمة الخمر المتخذة من
عصير العنب أشد وأغلظ من سائر الخمور، فهؤلاء بَنَوْا قولهم على دعوى لفظية
مرجوحة، والحق الذي بيناه في التفسير أن كل شراب مسكر فهو خمر لغةً وشرعًا،
وأن شر الخمور أشدها ضررًا في العقل والبدن كالتي يسمونها الأشربة الروحية،
ولا سيما المستحدثة بالطرق الأوربية، وكذلك الميسر شر أنواعه ما استحدثه
الأوربيون في هذا الزمان.
الأدوية والأعطار الكحولية:
إذا كان في الأدوية التي يدخلها الكحول أشربة مسكرة، فلا شك في تحريم
شربها وعدم إباحتها إلا في حال الاضطرار التي تبيح المحظور لقوله تعالى: {إِلاَّ
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) قيل: وما دون الاضطرار من التداوي الذي
يكون بتجرِبة صحيحة، أو برأي طبيب عدل يصدقه المريض بأن هذا دواء له،
ولا يوجد غيره يقوم مقامه، وقد فصلنا هذا البحث بأدلته من قبل، ولكن يوجد كثير
من الأدوية الجامدة والمائعة التي يدخلها الكحول للتطهير، وإماتة جراثيم الفساد،
ولغير ذلك من حفظ المواد أو تحليلها أوتركيبها، وهي ليست أشربة مسكرة، فهذه
لا وجه للامتناع من التداوي بها، ومثلها الأعطار الإفرنجية المعدة للتعطر،
وللتطهير الطبي، فلا وجه لتحريمها إلا عند مَن يعتقد أنها خمر نجسة، وقد بينا
بطلان هذا القول في المجلد الرابع من المنار وفي غيره، كالمناظرة فيه بيننا
وبين بعض كبراء علماء الأزهر.
وقد جاءتنا في هذه الأيام فتوى من الهند بتحريم تزيين المساجد بالطلاء الذي
يدخله (الإسبيرتو) ؛ بناءً على القول بأنه خمر نجس، وقد سئلنا عن رأينا فيها،
فأجبنا جوابًا طويلاً ضاق عنه هذا الجزء، وسترونه فيما بعده إن شاء الله تعالى،
وتعلمون منه أن هذه الأدوية والأعطار لا يحرم منها شيء، وإنما يحرم الشراب
المسكر فقط.
البيرة:
(البيرة) شراب مسكر يسمى في اللغة العربية (الجعة) ، فهو محرم قطعًا،
وإن كان القليل منه لا يسكر؛ فإن القليل ذريعة إلى الكثير.
خلاصة الفواكه:
إن أنواع الحلوى والمربى التي توضع فيها خلاصة الفواكه - كالموز،
والتفاح - كثيرة في مصر وغيرها من بلاد الإسلام، يأكلها المسلمون من العلماء
وغيرهم، ولم يبلغنا أن أحدًا جعلها موضوع خلاف يحتاج فيه إلى الاستفتاء، ولا
نعلم أن منها خمرًا، على أن الخمر إذا دخلت في مواد، وطُبخت هذه المواد -
خرجت عن كونها خمرًا مسكرة، وطهرت على القول بأنها كانت نجسة، وهذا
مذهب الحنفية الراجح المختار عندنا فيها، كما بيناه في الرد على الفتوى الهندية
المشار إليها آنفًا.
الاستصباح بزيت البترول:
قد استغربنا سؤالكم عن الاستصباح بزيت البترول، وقولكم: إنه من
المستحدثات في بلاد سيام، فنحن منذ عرفنا الدنيا رأيناه يُستصبح به في الدور
والمساجد، ولا وجه لجعْله مما يُسأل عن حله وحرمته؛ فإن الأصل في جميع
الأشياء النافعة الحل، وإذا وُجد شيء جديد ضار - أو فيه ضرر من جهة ونفع من
أخرى - فهو الذي يُسأل عن حكمه.
الانتفاع بالغازات: ما قيل في زيت البترول يقال في الغازات، والمستعمل
عندنا في الاستصباح منها غاز الفحم الحجري، وهو كثير في مساجدنا، ومنها
الجامع الأزهر. والله تعالى أعلم.
***
استفتاء آخر
في إسلام أهل سيام المشوب بالأعمال والشعائر الوثنية البوذية
(س46) من صاحب الإمضاء:
ما قولكم، دام فضلكم:
في مسلمين نساؤهم متبرجات تبرجًا دونه تبرج الجاهلية الأولى، لا يرين
في أنفسهن عورة سوى السوأتين، يتعاطين أشغال الحياة خارج البيت أكثر من
داخله، ويختلطن مع الرجال الأجانب، ويزاحمنهم في الأسواق والحفلات والولائم
وكل الأشغال، يقلن: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويصلين الخمس، ويصُمن
رمضان ... إلخ، ويحضرن أسواقًا خيرية، وحفلات بوذية، يقيمها البوذيون في
معابدهم، ويشتركن معهم فيها في الملهى والميسر في مكان مزدحم، ولا يوجد
أدنى فرق بينهن وبين البوذيات في الزي والهيئة، هذه أوصاف بناتهم ونسائهم،
فهم لم يعرفوا، ولم يعترفوا أن للحياء معنى، وللغيرة مغزى، يهينون مَن لم
يتزيَّى بزيهم، ويعيرون مَن لم يتخلق بأخلاقهم، ويقلدون البوذيين في آدابهم،
وفي الملبس والمسكن والوساخة، وفي بعض الأمور الدينية، وللوثنيين ملبس
خاص قبيح المنظر جدًّا، ما يستر غير السوأتين، ومسكن عجيب فيه غرفة أو
غرفتان هي قاعة الاستقبال، وقاعة النوم، والأكل معًا - أول ما يرى الزائر عند
دخوله المطبخ وما فيه، والمرقد وما حواليه، كما أن وساختهم ليس لها حد،
ولقد صدق القائل: لا عتاب بعد الكفر، ولهم معابد كثيرة قلما يخلو شارع من
معبد أو معبدين، وأقل مساحة كل معبد في بنكوك 600 متر مربع، كذلك تجد
مساجد المسلمين في كل حارة نزلوا فيها من مسجد إلى أربعة يكثرونها بدون أقل
حاجة، يقيمون في كل منها الجمعة، ويتبعونها بالظهر، وكل مسجد معارض
ومعادٍ للآخر، وكُلٌّ معجب بما عنده، فجُمعتهم تفرق وحدتهم، وتبعث التنافر
والتقاطع والتنابذ بينهم، وعلى ما ظهر تُنزِل غضب الله عليهم! ، ومع كثرة هذه
المساجد - وفي عاصمة بنكوك فقط فوق عشرين مسجدًا جامعًا - تجد عدد
مُصلي الجمعة في كل مسجد لا يتجاوز العشرين رجلاً! ، إلا في مسجدين أحدهما
في (بنكوك نوى) ، والآخر في (وسكيت) ، وهذه المساجد معظمها مقفلة
الأبواب في كل يوم، ولا تُفتَح إلا في أيام الجُمَع وليالي رمضان، وعند حضور
الجنازات، كما أن معابد الوثنيين لا يفتحونها إلا في أيام معلومة، وصلاة
الجماعة مفقودة في غير مسجدين أو ثلاثة، كأن لم يكن لهم علم بأنها من شعائر
الإسلام والمسلمين.
والمتوظفون في هذه المساجد والمتدينون عندهم محلقو الرؤوس شُعث غُبر
متقشفون، تاركو التجارة والصناعة، والحياة الشريفة لأهل الدنيا، فمَن يحلق
رأسه، أو ينظف أسنانه، أو يصلح زيه - يُعد عندهم مارقًا! ، فمعاشهم يأتيهم
رغدًا من ثمار ترغيب القوم وترهيبهم في فدية الصلاة والصوم وصلاة الجنائز،
ولا يحضر أحد لصلاة الجنازة إلا بدعوة من المصاب، فأموات الفقراء يعد
المصلون عليهم بالأصابع، وأما الأغنياء فلا تَسَلْ، ومن الولائم وإهداء ثواب
الذكر والقرآن، بل بيعه لأموات الأغنياء والمُثرين، ومن استنزاف ما بأيدي
الناس من الصدقات بالترغيب في وضْعها في أيدي العلماء والصالحين، والترهيب
من أن تقع صدقة في يد الجهلاء والطالحين، فكم من مسلم فقير عضَّه الدهر
بأنيابه لم ينظر إليه أخوه المسلم، وكم، وكم؛ لأن هذا في عينهم ليس من
المستحقين للبر لفقره، أو لأنه غير محلوق الشعر!
وكل فقيه من فقهائهم أو إمام من أئمتهم - عدا أهل بنكوك نوى - يشحذ،
والشحاذة شعار علمائهم والمتدينين منهم، فإذا خرج فقيه إلى القرى يشحذ، وحصل
كثيرًا - صار كبيرًا مقدمًا يفوق أقرانه! وكثير من أئمتهم وعلمائهم مَن يملك
أموالاً طائلة من الذهب والفضة والأطيان، ولكن لا يزكُّونها؛ إذ هم عند قرب
حلول الحول يهبونها لأولادهم ونسائهم، فيصبحون فقراء يستحقون الصدقات،
فيجولون من بادية إلى بادية، ومن بيت إلى بيت يشحذون، فبعد انصرام موسم
الحصاد، وانقضاء الحاجة يستردون الأموال من أولادهم ونسائهم، ويقرضون
المعوزين، ويأخذون منهم خمسة في المئة شهريًّا، ويستحلونها بطرق يستنبطونها
من قواعد فقههم، أو يعطونهم ورقة بنكنوت قيمتها 10،00 تيكلس مثلاً، بشرط أن
يؤدوها بخسمة عشر تيكلسًا فضة، وهم لا يرون زكاة في أوراق البنكنوت، فتُفتح
لهم الأبواب، يدخلون فيها زُمرًا فرحين مستبشرين بما أوحى إليهم كبار علمائهم.
والخلاصة أنهم - في دينهم ودنياهم - على غير المألوف في المسلمين في
أقطار العالم، وما من مسلم فاضل ينزل عندهم إلا ولسان حاله يقول:
بُليت بقوم لا أريد ودادَهم ... فأكرههم جدًّا مع البُعد والقربِ
ولكنني أصطاد رزقي بأرضهم ... ولا بد للصياد من صحبة الكلب
فالمرجو أن تبينوا لنا حكم هؤلاء، هل هم فسقة تسقط عدالتهم أمام الشرع
الحنيف أم لا؟ ، فهذا الذي ذكرت قليل من كثير مما هم عليه من الخزي والضلال
وما راءٍ كمَن سمع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد عبد الوهاب
(المنار)
إن إطلاق لقب الفسق وسقوط العدالة بالمعنى المعروف أقل ما يقال في هؤلاء
الناس، وكنت أود لو أعرف شيئًا عن تاريخ دخولهم في الإسلام، وكيف يتعلمه
الذكور والإناث في هذه الأيام، وهل يعرف عوامهم العربية، وماذا يوجد عندهم
من كتب العقائد والفقه، وما يحسن أن يُرسل إليهم منها - ولو بغير ثمن - إن
كانوا يقرؤون.
إن ما ذكر السائل عنهم - وقال إنه قليل من ضلالاتهم الكثيرة - يشمل
عشرات من المعاصي المجمع على تحريمها، دَعْ ما فيه خلاف منها، هل هو فسق
أو كفر، أو هل هو من الكبائر أو الصغائر، ولعلنا نفصلها في مقال خاص.
إن بعض هذه الفواحش والمنكرات مما يُكَفِّرُ جميعُ علماء المذاهب الإسلامية
مَن يستحله؛ لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا سيما مشاركة الوثنيين في
عبادتهم وأكل الربا ومنع الزكاة وإظهار عورات النساء للرجال على الوجه المبين
في السؤال، ولا يُعذر مرتكبو أمثال هذه الكبائر إلا إذا كانوا حديثي عهد بالإسلام،
بحيث لم تبلغهم أحكامه في هذه المسائل، وظاهر ما ذكرتم من أمرهم أن منهم فقهاء
على مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، ولعل بلاءهم من فقهاءهم كأكثر
عوام المسلمين الذين لا يهتم فقهاؤهم بنشر الدين فيهم، ويكرهون كل مَن يرشدهم
إليه، ويصدونهم عنه، أو ليسوا هم الذين كتبتم إلينا أنهم يصدون عن (المنار) ،
ويعادون قُراءه (ويرمونهم بألسنة حِدَاد، ويجعلونهم من المفسدين لآثار الآباء
والأجداد) ، فما الحيلة في هداية عامتهم إذا كانت هذه حالة علمائهم؟ ! :
يا معشر القراء يا مِلح البلد ... ما يُصلح الملح إذا الملح فسد
مَن غُصَّ داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يفعل مَن قد غص بالماء
والذي نراه أنه إذا أمكن إطْلاع هؤلاء الناس على حكم الله فيما هم فيه -
وكانوا في جملتهم مذعنين لأصل الدين - فلا بد أن يهتدي كثير منهم، وإذا كانوا
يعرفون العربية فيحسن إطلاعهم على كتاب (الزواجر) للفقيه ابن حجر المكي
الشافعي، ونحن مستعدون لما نُكَلَّفَهُ من السعي لهدايتهم.
وأما إذا كانوا لا يذعنون لما يعلمون من دين الله قطعًا - فلا يعتد بإسلامهم،
ولا يُعبأ بصلاتهم ولا بصيامهم؛ لأن شرط صحة الإسلام أن يذعن المؤمن لكل ما
علم أنه منه، ولا يستحل مخالفة شيء منه، ولا يقول نؤمن ببعض، ونكفر ببعض،
وإلا كان متبعًا لهواه، لا لما شرعه الله.
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} (الفرقان: 43) .
__________(23/584)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام
(2)
كلمة الأستاذ منصور فهمي
أيها السادة:
منذ أكثر من عشرين عامًا - ونحن صبية في أيام الدراسة الأولى - أذكر
أنني كنت مع رفيق لي في شارع الدواوين.
قيد أبصارنا على مقربة من باب إحدى تلك الدواوين مرأى شيخ معمَّم أشيب،
ربع القامة، مهيب الطلعة، لطيف المشية.
نظرنا إلى الشيخ نظرة المتفرج المتعجِّب، حتى دخل الديوان، وتوارى عن
أبصارنا، قال صاحبي ذلك هو الشيخ عبده، فقلت: كان ينبغي أن نحييه،
وعاتبت رفيقي على أنه لم يبدأ بالتحية، فأتبعه، وعاتبني إذ لم أكن البادئ،
فيتَّبعني، ثم حمل كل معنا رفيقه إثم ذلك التقصير، وانتحل كل منا لنفسه ما
استطاع أن يدفع به عن نفسه من المعاذير.
سرنا في سبيلنا، واستبقى خيالي صورة ذلك الشيخ الذي كنت رأيته للمرة
الأولى، وأخذت تمر أمام نفسي تلك الأقوال التي كانت تقذف حول اسم ذلك الرجل
الجليل.
أخذت أتصوَّر معنى الإصلاح؛ لأني كنت أسمع أنه من المصلحين، ومعنى
العلم؛ لأني كنت أسمع أنه من أكبر العلماء، ومعنى الخروج عن المألوف؛ لأني
كنت أسمع أنه من الذين خرجوا عن المألوف الذي لا يعتمد على حق، ولا على
عقل، ومعنى العظمة؛ لأني كنت أسمع أنه كان عظيمًا.
أخذت المعاني المختلفة تتوالى على ذهني الضعيف الغضّ؛ لأن الأحاديث
التي كانت تدور حول اسم الشيخ كانت مختلفة الألوان أيضًا.
ما كنت أستطيع وقتئذٍ أن أدرك حق الإدراك معنى العلم، ولا معنى الخروج
عن المألوف، ولا معنى العظمة، ولا معنى الإصلاح، كنت لا أدرك ذلك، زميلي
مثلي لا يدرك تلك المعاني أيضًا، ولكننا كنا نشعر بشيءٍ واحدٍ - هو رغبتنا
الصادقة في أن نؤدي لذلك الرجل تحيتنا إكبارًا له وإجلالاً.
كنا نرغب في ذلك أيها السادة، كان في نفوس الصغار والسذج حسًّا يدركون به
معنى العظمة وشعورًا خاصًّا يتبيَّنون به مَيْزَة الرجل العظيم، رغم ما يسترها من
أقوال المتقوِّلين، وذم الحاسدين، وثائرة الجاهلين.
قضى القضاء - أيها السادة - أن تكون تلك المرة التي رأيت فيها الشيخ هي
الأولى والآخرة، ولكن الله يريد أن أقف اليوم لأحيي الشيخ تلك التحية التي كنت
أريد أن أقدمها إليه منذ عشرين عامًا.
نعم، أيها السادة كنت أريد أن أحيي ذلك الرجل، وأنا صبي في بداية العمر
وبداية العلم، واليوم أتقدم لتحيته، وأنا أخدم العلم الذي كان الشيخ يخدمه،
وأحصل ثمارًا كان الشيخ يعمل على إنضاجها، وأعين على تغذية أذهان طالما أراد
الشيخ أن تشبع علمًا.
كنت أريد أن أحيي الشيخ من عشرين عامًا؛ لأني كنت أشعر أنه عظيم
وممتاز، والآن أتقدم لتحيته، وقد أصبحت أدرك شيئًا من معاني العظمة والامتياز.
العظمة - أيها السادة - واسعة، واسعة تتضاءل أمام سعتها وهَيبتها كل
المعاني.
العظمة من المعاني التي إذا مست الكون ينعدم عندئذ الفاسد، ويتلاشى الحقير،
ويظهر الصالح، ويعلو الكبير.
العظمة متحركة لا تعرف القرار والسكون، وتمتد كاللهب المستعر في كل
جهة، وتعمل - فيما يصيبه - عملها النافع.
لا تعرف القرار؛ لأنها تجري وراء الكمال وأمام الكمال ...
على ذلك يكون الرجل العظيم هو الذي يريد أن يعوض الناقص بالكامل،
ويعتمد على نفسه الملتهبة الحارة، لا يريد أن يقف حيثما يقف الناس؛ لأنه يرى
الحياة سائرة، والكمال سائرًا، وهو يسير أينما سارا، لا تكون نفسيته حيث تكون
نفسيات الناس؛ لأنها كبيرة تمتد في الوجود اللانهائي، ونفسيات عامة الناس
صغيرة متضائلة لا تسد في الوجود إلا فراغًا يسيرًا.
تلك هي بعض صفات العظيم، فهل كان الرجل الذي نذكره اليوم على شيء
من هذه الصفات؟ !
إن مَن يطلع على حياة الشيخ يتبين القوة العظيمة التي كانت تقوم عليها نفسه
الكبيرة، وأدلّ دليل على ذلك أن الأعمال - التي اتصلت بها جهوده - وقع فيها
حرب بين أسلوب القديم وأسلوب الجديد، وكان هو حامل لواء الثاني، وكان في
جهاده مظفرًا منصورًا.
أليس هو الذي عند اتصاله بصناعة الصحافة والتحرير - أدخل في التحرير
أسلوبًا أصح، ووجه الكتابة العربية وجهة الدقة والطلاوة.
أليس هو الذي أدخل الأساليب الحديثة في التعليم الديني عن اتصاله بإدارته؟
أليس هو الذي أجهد نفسه؛ ليربط العلوم الإسلامية بالينابيع الصحيحة
الواسعة، ويوجهها وجهة الطرق العلمية الصحيحة؟
أليس هو الذي كان صوته عاليًا في محاربة الاستبداد والجمود أينما تكون؟
أليس هو الذي أكبر شأن الإفتاء عن اتصاله بذلك المنصب الكبير، وأخذ
يفتي في أقطار الإسلام المختلفة بمسائل دقيقة، فتح بها للإفتاء الشرعي مسلكًا جديدًا؟
أليس هو الذي كان يوفق بين روح المحافظة وروح التجديد وروح الدين
وروح العلم حتى يُستفاد من حسناتها جميعا؟
أليس هو من أصحاب الفضل في المناداة بحرية الفكر، واحترام استقلال
الرأي؟
إن الجيل الناشيء مدين للشيخ عبده بتعوُّد التسامُح، وتقدير فوائد الاستقلال
الفكري، وقد جهر الشيخ بفضل ذلك في خطبة ألقاها بتونس؛ إذ يقول:
(أقول قولي هذا، ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله، وإلا خالفت ما أدعو إليه
من استقلال الفكر وحرية الرأي ... ) .
إن الجيل الحاضر يقدر له بلاءه الحسن في احترام الرأي القائم على التفكير،
ويجب أن يقدر له المشغلون بالعلم صيحته الصارخة بوجوب تعديل التعليم، بحيث
يخرِّج العلماء المشتغلين بالأبحاث العقلية المحضة.
قال بذلك في وصيته السياسية التي كتبها بالفرنسية إلى الكونت دي جريفيل،
فنشرها في مؤلَّفه (مصر الحديثة) في 6 يونيو سنة 905، أي قبل موته بنيِّف
وثلاثين يومًا، وسينشر أخونا الدكتور طه حسين تعريب هذه الوصية قريبًا.
قال الشيخ - في هذه الوصية -:
(إذا نظرنا إلى التعليم الذي تنشره الحكومة من حيث قيمته، فنحن
مضطرون إلى أن نلاحظ أنه لا يكاد يقدر إلا على تكوين رجل محترف بحرفة،
يكتسب بها الحياة، ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو
فيلسوف، فضلاً عن تكوين نابغة، وكل ما لدينا من المدارس التي تمثل التعليم
العالي في مصر إنما هي مدرسة الحقوق والطب والهندسة، وأما بقية الفروع التي
يتكوَّن منها العلم الإنساني فقد ينال منها المصري أحيانًا صورًا سطحيةً في المدارس
الإعدادية، ويكاد يكون من المستحيل أن يتقن منها شيئًا، وهو - في الغالب -
مُكره على أن يجهلها جهلاً تامًّا، وذلك شأن العلم الاجتماعي وفروعه التاريخية
والخلقية والاقتصادية، ذلك شأن الفلسفة القديمة والحديثة والآداب العربية والأوروبية
والفنون الجميلة أيضًا، كل ذلك مجهول لا يدرس في مدرسة مصرية، والنتيجة أن
في مصر قضاة ومحامين وأطباء ومهندسين، تختلف كفاءتهم قوةً وضعفًا في احترام
حرفهم، ولكنك لا ترى في الطبقة المتعلمة الرجل الباحث، ولا المفكر، ولا
الفيلسوف، ولا العالم، لا ترى الرجل ذا العقل الواسع، والنفس العالية، والشعور
الكريم، ذلك الذي يرى حياته كلها في مثل أعلى يطمع فيه، ويسمو إليه) .
يتبيَّن لكم مما تقدم - أيها السادة - أن الشيخ كان مبشرًا بدار العلوم العقلية
العالية، ولم يمضِ قليل من الزمن حتى أُنشئت الجامعة المصرية صدى لأمنيته
الكبيرة العالية.
لا نزال إلى اليوم نحتاج إلى مثل هذه الصيحة، تنبِّهنا إلى أننا نريد علومًا
توجِد فينا رجالاً واسعي العقول.
نريد علومًا تُكَوِّنُ فينا أخلاقنا ومداركنا، وتُحَبِّبُ إلينا الحياة، أو تُبَيِّنُ لنا ما
يمكن أن يكون في العيش من جمال وسُمُوٍّ.
نريد ذلك الآن، وقد أراده الشيخ من قبل، وجهر به، وأوصى، فلا غرابة
وقد أخذت أمانيه تسير في سبيل التحقيق أن يقوم في الجامعة المصرية أحد أساتذتها
يذكر الشيخ بالحمد والتحية والإجلال.
أيها السادة:
إن الوقت الذي قُدِّرَ لي لأقف بينكم - ذاكرًا الشيخَ - لا يتسع لتعديد حسناته
في حياتنا الاجتماعية، ولكن حسبه من العظمة أنه كان من زعماء الدين ومن
زعماء الدنيا معًا.
توجه إلى شؤون التصوف والتُّقَى وفقه الدين، ولكنه لم يهمل شؤون الإصلاح
والعمران. فؤاد تولاه نور السماء، ولكنه وسع مسائل الأرض.
ذهن وفَّق بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
رجل وصل بين الأرض والسماء بسبب.
إنه لرجلٌ عظيمٌ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... منصورفهمي
... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ بالجامعة المصرية
***
قصيدة حافظ إبراهيم بك
آذنت شمس حياتي بمغيب ... ودنا المنهل يا نفس فطيبي
إن مَن سار إليه سيرنا ... ورد الراحة من بعد اللغوب
قد مضى (حفني) وهذا يومنا ... يتدانى فاستثيبي وأنيبي
وارْقُبيه كل يوم إنما ... نحن في قبضة علام الغيوب
اذكري الموت لدى النوم ولا ... تُغفلي ذكرته عند الهبوب
واذكري الوحشة في القبر فلا ... مؤنس فيها سوى تقوى القلوب
قدِّمي الخير احتسابًا فكفى ... بعض ما قدمت من تلك الذنوب
راعني فَقْد شبابي وأنا ... لا أراع اليوم مَن فقد مشيبي
حَنَّ جنباي إلى برد الثرى ... حيث أنسى من عدو وحبيب
مضجع لا يشتكي صاحبه ... شدة الدهر ولا شدّ الخطوب
لا ولا يُسئمه ذاك الذي ... يسئم الأحياء من عيش رتيب [1]
قد وقفنا ستة [2] نبكي على ... عالِم المشرق في يوم عصيب
وقف الخمسة قبلي فمضوا ... هكذا قبلي وإني عن قريب
وردوا الحوض تباعًا فقضَوْا ... باتفاق في مناياهم عجيب
أنا مُذْ بانوا وولى عهدهم ... حاضرُ اللوعة موصول النحيب
هدأت نيران حزني هدأة ... وانطوى (حفني) فعادت للشبوب
فتذكرت به يوم انطوى ... صادق العزمة كشاف الكروب
يوم كفَّناه في آمالنا ... وذكرنا عنده قول (حبيب)
(عرفوا مَن غيَّبوه وكذا ... تُعرف الأقمار من بعد المغيب)
وفُجعنا بإمام مصلح ... عامر القلب وأوَّاب منيب
كم له من باقيات في الهدى ... والندى بين شروق وغروب
يبذل المعروف في السر كما ... يرقب العاشق إغفاء الرقيب
يحسن الظن به أعداؤه ... حين لا يُحسَن ظنٌّ بقريب
تنزل الأضياف منه والمنى ... والخلال الغرُّ في مرعى خصيب
قد مضت عشر وسبع والنهى ... في ذبول والأماني في نضوب
نرقب الأفق فلا يبدو به ... لامع من نور هادٍ مستثيب
وننادي كل مأمول وما ... غير أصداء المنادي من مجيب
دويَ الجرح ولم يقدر له ... بعد ثاوي (عين شمس) من طبيب
أجدب العلم وأمسى بعده ... رائدُ العرفان في وادٍ جديب
رحمة الدين عليه كلما ... خرج التفسير عن طوق الأريب
رحمة الرأي عليه كلما ... طاش سهم الرأي في كف المصيب
رحمة الفهم عليه كلما ... دقت الأشياء عن ذهن اللبيب
رحمة الحلم عليه كلما ... ضاق بالحدثان ذو الصدر الرحيب
ليس في ميدان مصر فارس ... يركب الأخطار في يوم الركوب
كلما شارفه منا فتى ... غاله المقدار من قبل الوثوب
ما ترى كيف تولى (قاسم) ... وهو في الميعة والبرد القشيب
أنسي الأحياء ذكرى (عبده) ... وهي للمستاف من مسك وطيب
إنهم لو أنصفوها لبنوا ... معهدًا تعتاده كف الوهوب
معهدًا للدين يُسقَى غرسُهُ ... من نمير فاض من ذاك القليب
ونسينا ذكرَ حفني بعده ... ودفنَّا فضله دفن الغريب
لم تَسِلْ منا عليه دمعة ... وهو أوْلى الناس بالدمع الصبيب
سكنت أنفاس حفني بعد ما ... طيبت في الشرق أنفاس الأديب
عاش خصبَ العمر موفورَ الحِجَى ... صادقَ العشرة مأمونَ المغيب
***
كلمة صاحب المنار [3]
أيها السادة:
إن إخواني أعضاء لجنة هذا الاحتفال قد حدَّدوا وقته، وخصّوني بالكلمة
الختامية؛ لأنه مهما يَقُلْ مَن قبلي فإنه يسهل عليَّ أن آتيَ بشيء جديد؛ لسعة
وقوفي على تاريخ شيخنا الإمام الذي نحتفل بذِكْراه، ومعرفتي بشؤونه، وأن أجعله
على قدر ما بقي من الوقت؛ إذ لا أكون ملتزمًا لإلقاء كلام معين مرتبط بعضه
ببعض.
أيها السادة:
إن أخص صفات أستاذنا - الذي اجتمعنا لإحياء ذكراه - هو أنه إمام مصلح،
فهو في كل طور من أطوار حياته العملية كان يعمل لخدمة الناس وإصلاح شؤون
الأمة، ولم يكن يعمل لنفسه ولا لبيته شيئًا يُذكر، فلو أجملتُ تاريخ حياته في كلمة
مفردة لكانت تلك الكلمة هي (المصلح) .
طرق جميع أبواب الإصلاح، بل دخل فيها عالمًا عاملاً، مجيدًا متقنًا، حتى
تعلقت به آمال وطنه وأمته، بل آمال الشرق كله وأكبره العلماء والعقلاء والأذكياء
من كل أمة وشعب على اختلاف أديانهم ومشاربهم.
قال المشير أحمد مختار باشا الغازي علاَّمة الترك الشهير ورب السيف والقلم
في إكبار علمه وعقله: إنني أعتقد أن دماغ هذا الرجل أعظم دماغ عُرف، وإنه لو
وُزن لرجح بكل دماغ من أدمغة الرجال العظام الذين عرف الإفرنج وزن أدمغتهم
(كالبرنس بسمارك) ، ولما قرأت في الجرائد نبأ وفاته - وكان الغازي يومئذ في
أوربة - ضاق عليَّ المكان الذي كنت فيه؛ لأن الخسارة به لا عوض لها.
وأبَّنه الدكتور عبد الله جودت أحد كُتَّاب الترك المشهورين وأحد مؤسسي
جمعية الاتحاد والترقي في مجلته (اجتهاد) ، التي كانت تصدر في مصر باللغتين
التركية والفرنسية مرتين في العددين التاسع والحادي عشر من السنة الأولى، فجعل
عنوان الترجمة (الأموات الذين لا يموتون) ، فقال - في الأول منهما ما ترجمته
الحرفية -:
كان الشيخ محمد عبده - بلا خلاف - أحد النابغين الذين لا يدخلون في
طبقات الرجال، وإنما اللانهاية هي الحد الوحيد الذي ينتهي إليه عِلمُهم.
ثم قال: كان الشيخ محمد عبده مسلمًا حقيقيًّا على قدم النبي - صلى الله عليه
وسلم -. وقال - في العدد الآخر -: كان الشيخ محمد عبده مسيحًا ثانيًا مُنِحَ
للعالَم الإسلامي الذي كان دويّ سقوطه فيه يصخُّ مسامع ذوي الوجدان، ويمزق
أحشاء أصحاب الإيمان.
وكتب الدكتور إدوارد براون - العلامة الإنكليزي المدرس في جامعة كمبردج-
كتاب تعزية، قال فيه: (ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله) .
وقال إبراهيم باشا نجيب المصري: (إن الناس لا يعرفون قيمة الشيخ محمد
عبده إلا بعد ثمانين سنة، أي بعد انتهاء جيلين في التربية الاجتماعية) .
وقال الدكتور يعقوب صروف صاحب المقتطف - لما أكثر المؤبِّنون في حفلة
الأربعين من وصف الأستاذ بكلمة فقيد الإسلام وفقيد مصر -: (إننا لا نرضى بأن
يكون فقيدكم وحدكم، بل نقول إنه أكبر من ذلك، إنه فقيد الشرق كله) .
وأزيد هنا كلمة مما ضاق الوقت عن ذِكْره هنالك، وهي أن السيد محمد
توفيق البكري سمع نبأ وفاة الأستاذ الإمام، وهو في أوربة، فلم يصدق الخبر،
فلما عاد إلى مصر أخبرنا بأنه لم يصدق الخبر إلا بعد عودته إلى مصر، وعلل
ذلك بأنه كان يخال أن الموت لا يتجرأ على الشيخ محمد عبده! ، وقال: لقد ترك
الشيخ فراغًا لا يسده أحد؛ فإنه كان كما قال المتنبي:
... ... ... ... ... مِلء السهل والجبل
ولو ترك مناصب الحكومة وعمل مستقلاً لأحدث انقلابًا عظيمًا.
أشار بعض الخطباء إلى ما كان من تحامل بعض الشيوخ عليه منذ أشرق نور
عبقريته بعد اتصاله بالسيد جمال الدين، حتى سعى بعضهم فيه إلى شيخ الأزهر
الشيخ المهدي العباسي عند امتحانه لشهادة العالِمية ليسقطوه فيه، وكانوا تقاسموا
بالله ليحرمنَّه من هذه الشهادة، ولكن الشيخ المهدي كان رجلاً كبيرًا لا يلتفت إلى
هذه السفاسف، فلما حضر امتحانه، ورأى ما رأى من نبوغه - على ما كان من
إعنات بعض مشيخة الامتحان له، وكيدهم لإيقاعه في الأغلوطات - حلف أنه ما
رأى مثله، وأنه أحق مَن يأخذ الدرجة الأولى بها، فقنع حينئذ أيهم أشد على الرجل
عِتيًّا بأن يأخذ الدرجة الثانية، وحلف بالطلاق أن لا يعدوها إلى الأولى، فبرَّ شيخ
الأزهر قَسَمه - مع اعترافه بأنه ظلم للممتحن - إطفاءً للفتنة.
كان أكثر تحامل مَن تحامل عليه من الشيوخ بغيًا منهم سببه في الأكثر الحسد،
وفي الأقل سوء الظن في رجل مستقل الفكر في العلم، يستدل فيحكم بالنفي أو
الإثبات، وقد قرأ الفلسفة، ولازم السيد جمال الدين، وإذا لم يكن العالِم العاقل،
المُدلي بالحجة فيما يأخذ ويترك، ظِنينًا في دينه، متهمًا في عقيدته، مهما يكن من
صلاحه واستقامته، فإلى مَن توجه التهم من هؤلاء الجامدين الذين لا استقلال
لعقولهم في علم ولا عمل؟
لكن الرجل على ما أُوذي في الله من أول ظهور فضله إلى يوم لقاء ربه - لم
ينل أحد بعض ما نال من الاحترام عند أمم الشرق والغرب، وعند جميع الطبقات
من قومه، في حياته وبعد مماته، فقد كان طلاب الإصلاح العلمي الديني وطلاب
الإصلاح المدني، وطلاب إصلاح الحكومة على مذاهب فيها، وكل منهم يعده إمامًا
وزعيمًا للأمة فيما يرجوه، ويطلبه لها، وقد صرح بهذا أصحاب المقتطف والمقطم
في ترجمتهم له عند وفاته، فهو قد وصل بإجماع الطبقات والفئات المفكّرة على
علمه وفضله إلى مقام الزعامة الذي كان يُرجى أن يزيل به الخلاف بين الدين
وأهله، وبين العلم العصري والمدنية ورجالهما، ففقدته مصر وسائر بلاد الشرق
في أشد أوقات حاجتها إليه، ولكنها إنما فقدت شخصه، ولم تفقد رأيه وهَدْيه، ولقد
كانت إلى عهد وفاته لم يكمل استعدادها للنهوض معه؛ ولذلك كان يقول: (ويح
الرجل الذي ليس له أمة) .
حقًّا، إن اتفاق كلمة الأحزاب المختلفة من طلاب الإصلاح الديني والمدني
على زعامة هذا الإمام - جدير بأن يُعَدَّ من خوارق العادات، فهو على ما كان
معروفًا به من قوة التديُّن والغيرة على الإسلام، والاجتهاد في الإصلاح الذي يرتفع
به شأنه - كان محل رجاء غير المسلمين من علماء الشرق، ورجاء مَن لا يشغل
الدين محلاً من قلوبهم، بأنه هو الرجل الذي يمكن أن يقود نهضة الشرق - كما قال
الدكتور صروف، وكذا غيره من أدباء النصارى - (كما يعلم من أقوال بعضهم
في تأبينه ورثائه التي نشرناها في الجزء الثالث من تاريخه) .
وإنني أبيِّن هنا بالكتابة ما ضاق الوقت عن بيانه في الحفلة من سبب ذلك،
وهو أن أكثر أهل الشرق الأدنى مسلمون معروفون بشدة الاستمساك بدينهم، وقد
حال سوء فهمهم للإسلام دون مجاراتهم للشعوب العزيزة القوية في مضمار العلوم
والفنون والترقي والحضارة، حتى ساء ظن بعض المفكرين فيه، وظنوا أنه هو
المانع من الترقي، من حيث هو باعث عليه، ويتعذَّر إنهاض الشرق بدونهم،
وإنهاضهم بدون إصلاح ديني يتفق به الدين مع العلم والحضارة، ويُعلم به أن
العقيدة الإسلامية لا تنافي الوحدة الوطنية؛ لذلك شهد لورد كرومر بأن الحزب
الإسلامي الذي كان زعيمه الشيخ محمد عبده هو الحزب الوسط بين الحزب
المحافظ على التقاليد العتيقة، الذي يحارب المدنية وينبذها، وبين حزب
المتفرنجين المارقين من الدين، وأنه هو الحزب الذي يُرجَى أن تنهض به البلاد.
وقد سئل اللورد عن الشيخ هل كان متساهلاً في الإسلام؟ ! ، فقال: بل هو
متعصب له أو فيه، ولكن بعقل!
ذكر خطيبنا الأستاذ الشيخ مصطفى ما توجهت إليه همة الأستاذ الإمام أخيرًا
من بناء قواعد الإصلاح كلها على التعليم وتربية الأمة، وأزيد عليه أن أهم أركان
التربية عنده (تربية الإرادة) التي يتوقف عليها كل إصلاح وكل نهوض،
وأكتفي في هذا الوقت الضيق بكلمة واحدة له فيها.
قال لي مرة: والله لو أن في مصر مئة رجل لما استطاع الإنكليز أن يقيموا
فيها، أو لما استطاعوا أن يعملوا فيها عملاً، إن عندنا مئين وألوفًا كثيرة من
المتعلمين الذين يستطيعون القيام بالأعمال المختلفة في جميع الوظائف، ولكن
أكثرهم ضعفاء الإرادة، لا يُرجى منهم شيء.
(وههُنا ناشد الخطيبَ صديقُهُ الشيخ علي سرور الزنكلوني بأن يختصر،
ويَدَعَ له وقتًا يقول فيه كلمة، فختم كلامه بالتنبيه إلى إحياء مبادئ الأستاذ الإمام) .
***
كلمة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني
أحد علماء الأزهر
أيها السادة:
إن اللجنة المحترمة لم تتح لي - في ضمن قراراتها - القول مع القائلين في
هذه الحفلة المباركة لضيق الوقت، وكثرة الخطباء، ولكن أبى الله إلا أن يتسع لي
الوقت، فأقول كلمتي في إمامٍ لي شرفُ الانتساب إليه، وقد أرى مِن الغبن أن
أُحرَم الحديث عنه في مثل هذا اليوم، وقد أذنت لي اللجنة الآن، وأنا على غير
عدَّة، فأشكرها على هذا التساهل العظيم.
أيها السادة:
إن الأستاذ الإمام الشيخ محمدًا عبده كان آية من آيات الله تعالى، فقد مضى
على مفارقته لهذه الحياة سبعة عشر عامًا تقريبًا، والأمة لم تحتفل بإحياء ذكره،
وليس من المعقول أن تبرز الفكرة في هذا اليوم واضحة جلية، والأمة منها في
شوق، ولها على استعداد تام - كما ترون - ولا يكون المحتفَل به آية من آيات الله.
إن آيات الله تعالى الثابتة في الكون مهما طال عليها العهد لا بد أن ترجع إليها
العقول المتحيِّرة؛ لتستنير بها في المستقبل؛ لأنها لم تُخلق خلقًا عاديًّا، يتناسى
بمجرد مفارقته للحياة الأولى، ولكنها تبرز للوجود في إمداد خاص، فينتفع بها
الآخرون، كما انتفع بها الأولون.
أيها السادة:
إن إحياء ذكرى الأستاذ الإمام - بعد مُضيّ هذه المدة - يُعد فألاً حسنًا في حياة
مصر، وبشرى يترقب من ورائها النصر والظفر؛ إذ الأمة التي تستطلع آيات
الماضي في أوقاتها العصيبة؛ لتسترشد بها في حياتها المستقبلة - لهي الأمة التي
قويت عقليتها، ونمت حياتها، وإذًا لا ضَيْرَ عليها ولا خوف، مهما تلوَّن فيها
العذاب، واشتدت بها الخطوب.
إن الأستاذ الإمام لا بد أن يكشف المستقبلُ القريبُ للأمة عن حقيقته الواقعة
والواضحة في نفوس أصدقائه وطلابه.
إن الأستاذ الإمام قد أجمع أصدقاؤه وأعداؤه معًا على أنه نابغة من نوابغ
عصره، وإن اختلفت أنظار الفريقين في مَدرك جهة النبوغ، وعندي أنه مع نبوغه
وتفوُّقه على أقرانه في كثير من مسائل الوجود المعروضة على البحث، هو عبقري
من كبار العبقريين في نظرياته الدينية، التي ليست لها صورة واضحة في دين
الإسلام [4] ، وخصوصًا فيما يتعلق بالعلم ونظام التعليم.
أيها السادة:
إن أكبر آية تدل على عظمة الأستاذ في نفوس الأمة ازياد تعلُّق القلوب به بلا
سبب عادي يحال عليه ذلك التعلق وراء الفضيلة المجردة والنبوغ والعبقرية؛ لأنه
وإن كان رجلاً سياسيًّا ومدنيًّا، إلا أن السياسة لم تكن من مظاهره الواضحة، بل
كان مظهره الحقيقي والرسمي أنه رجل ديني من كبار علماء الدين، وليس الدين
في مصر عوامل قوية نحيل عليها تفكير الناس في إحياء ذكره، بل الدين - كما
ترون - ذابل في جو الفساد المنتشر الذي ينتزع الحق والفضيلة انتزاعًا، ولو أن
الأستاذ الإمام كان مظهره سياسيًّا لما بلغ منا العجب مبلغه، إذا فكرت الأمة بعد هذا
الزمن الطويل في إحياء ذكره؛ لأن الحياة السياسية فتيَّة في العالم، ونامية ملتهبة،
متمشِّية مع العواطف، ومتغلغلة في نفوس الخاصة، والجماهير ترتكز على أقل
الأسباب.
أيها السادة:
إن الأستاذ الإمام قد كان محبوبًا عند الخاصة، وكانوا في زمنه قليلين، وكان
مُصادَرًا من الجماهير تبعًا لمصادرة رجال الدين له، وقد افترق العقلاء في كل
فكرة تصادفها المعارضة على فرقتين: هل الحق مع الأقلية أو الأكثرية؟ .
وعندي أن المسألة واضحة لا تحتاج إلى احتدام الجدل وتشعب الآراء، إن
الحق يكون مع الأقلية دائمًا إذا كانت الأمة سائرة في حياة تقليدية، مضى على
العمل بها زمان طويل، فتحكَّمت في النفوس، سواء أكانت الحياة دينية أم مدنية،
والأمة في دور جهالتها، ثم جاءها رجل من أبنائها - أو من غير أبنائها - وله
عقلية راجحة، وشخصية واضحة، فدعاها إلى الإصلاح بالحجة والبرهان، ولفتها
إلى دلائل الحياة الصحيحة ونماذجها، فصادمته، ولم تذعن له بادئ ذي بدء، اللهم
إلا النزر القليل؛ لأن عقولها محصورة في دائرة حياتها الموروثة، ومن الصعب
أن تتخطَّى تلك الدائرة بسهولة، قبل أن يصادفها شيء من التهذيب بالتجرِبة
والتعليم، ففي هذه الحالة يكون الحق دائمًا مع الأقلية، وعلى هذا النحو كانت حياة
الأنبياء وكبار المصلحين، وقد كانت معارضة الأستاذ الإمام من هذا القبيل.
وأما إذا نزل بالأمة حادث ديني أو مدني، فاصطدمت به العقول، واحتدم فيه
الجدل، وانقسم المفكرون إلى قسمين، تبع الجمهور فيه أحد الفريقين، فالحق في
تلك الحالة - بلا ريب - مع الأكثرية، خصوصًا إذا كانت الأقلية بجانبيها القوة
المجردة؛ لأن الجمهور لا يسير إلا في طريق الأمارات الظاهرة، والدلائل
الواضحة، البعيدة عن المخارف، والبريئة من الظنون والشكوك، وليس الجمهور
في تلك الحالة سائرًا بعقليته الساذجة، وإنما هو تابع من جهة لطائفة من المفكرين،
قد أناروا له الطريق، ومنساق من جهة أخرى بما أودعه الله في فطرته السليمة من
الاستعداد لقبول الحق بسرعة، وهي الفطرة القوية التي نصر الله بها الأنبياء
والمرسلين.
أيها السادة:
إن تبعة إهمال ذكرى الأستاذ الإمام - في هذه المدة الطويلة - لا يجوز أن
تُلْقَى على عاتق المعاهد الدينية؛ فإن هذا النوع من الحفاوة لم يكن معروفًا لهم، ولا
مألوفًا عندهم، وقد أدوا للأستاذ الإمام أكبر ما يعرفون من الحفاوة والذكرى بالترحُّم
عليه كلما ذكروا الاستدلال بأقواله إذا أظلم عليهم الأمر، والتمسك بمبادئه،
والنهوض في سبيل تعليمه وإرشاداته، حتى إن مذهبه لَيزداد انتشارًا في كل يوم،
خصوصًا بين الطلاب، وإن المعاهد الدينية - بفضل إرشاداته - سائرة في طريق
الرقي والإصلاح الذي كان ينشده - رحمه الله تعالى - فالحمد لله على نعمة التوفيق،
والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني ...
... ... ... ... ... ... ... ... من علماء الأزهر
بهذه الكلمة انتهى ما قيل في الحفلة، وانفضَّ على أثرها الاجتماع.
***
بعض ما أُرسل إلى اللجنة من منظوم ومنثور
قصيدة قديمة
لصاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية / عبد الرحمن قراعة
لما ولي الأستاذ الإمام إفتاء الديار المصرية نظم الأستاذ الفاضل الأديب عبد
الرحمن قُرَّاعة (مفتي الديار المصرية) لهذا العهد قصيدة بليغة هنَّأه بها، وهذا
الأستاذ يفتخر بأن الإمام قد أجاز قوله له مرة: إنه أصغر إخوانه، وأكبر أولاده،
ذلك بأنه حضر معه دروس بعض شيوخه، ومنهم السيد جمال الدين، وحضر عليه
بعض ما قرأه من الكتب، وقد نشرت تلك القصيدة في المجلد الثاني من المنار،
وقد نسخها الأستاذ أحمد زكي باشا؛ لتُقرأ في الحفلة لقوة المناسبة التي لا يغفل عنها
الباشا، وهي أن هذا الاحتفال لإحياء ذكرى مفتي الديار المصرية، ويرأسها خَلَفه
في إفتاء الديار المصرية، فناسب أن تُتلَى فيه قصيدة لخلفه في إفتاء الديار
المصرية، ولكن الوقت لم يتسع لإنشادها، ولإبداع أحمد زكي باشا في شرح هذه
المناسبة لها، فاقترح على اللجنة أن تنشرها فيما تطبعه من بيان احتفالها، وهي:
بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي ... ومن فيض هذا الفضل نجدى ونجتدي
سمت بك للعلياء نفسٌ أبيَّة ... وعزمة ماضٍ كالحسام المجرَّد
ورأي رشيد في الخطوب وحُنكة ... وتجرِبة في مشهد بعد مشهد
وعلم كنور الشمس لم يكُ خافيًا ... على أحد إلا على عين أرمد
فضائل شتى في الأفاضل فرقت ... ولكنها حلت بساحة مفرد
ولو جاز تعدادي لها لعددتها ... ولكنها جازت مقام التعدد
ففِيمَ أطيل القول والشعر قاصر ... وماذا يفي قولي ويغني تزيُّدي
أمولاي يا مولاي دعوة مخلص ... تقول فيصغى أو تؤم فيقتدي
لكل زمان من بنيه مجدد ... لما أبلت الأهواء من دين أحمد
وقد علم الأقوام أن محمدًا ... مجدد هذا الدين في اليوم والغد
يمينًا بمَن بالفضل خصص (عبده ... محمدًا) الداعي لهدْي محمد
وقلده عِقدَ الفتاوى فأصبحت ... تتيه به الفُتيا بخير مقلد
لتخترقنَّ الحجب بالرشد لا الهوى ... وتبني منارَ الحق بالفكر واليد
فتوضح من إشكاله كل غامض ... وتفتح من أبوابه كل موصد
إليك أزفّ المدح شعرًا مقصدًا ... على بُعد عهدي بالقريض المقصد
لأبلغ نفسي بامتداحك سُؤلها ... وأقضي حقًّا لم يمكن بمجدد
فجاء على قدري ولكن شافعي ... لدى قدرك السامي نبالة مقصدي
وهنّأتُ نفسي ثم هنّأت معشري ... وهنأت أوطاني بما نال سيدي
وقلت لمصر هنِّئيه وأرخي ... (بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي)
سنة 1317 ... ... ... ... ... 41 90 527 13941 569
لقد سبق التاريخ عشرًا فلم أجد ... من الياء بُدًّا بعد طول تردد
فزِدت كما أبغي ومَن يُلف مخلَصًا ... من النقص يطلب للكمال ويزدد
فلا زلت يا مولاي فينا محسدًا ... وحاسدك المغبون غير محسَّد
(نُشرت في مجلة (المنار) الإسلامية، عدد 24 سنة 1899)
***
محمد عبده
للشاب النجيب محمود أفندي كامل [5]
(نجل الأستاذ العالم العامل محمد علي بك كامل المحامي الشهير)
في مثل هذا الشهر من سبعة عشر عامًا مضت، رشق الدهر قلب مصر بسهم
أدماه، وهبت عواصفه على أهل الكنانة، فأثارت لوعتهم، وتركت في كل دار
مأتمًا، لم يشفق، أجل لم يشفق ذلك الدهر الغلاب على أبناء مصر، فأخذهم على
غِرَّةٍ.
اختطف من بين أحضانهم أباهم الحنون - وهم فرحون بالنظر إليه، جذلون
لقربهم منه - فقلب أفراحهم أتراحًا، وبِشْرهم عبوسًا، اختطف أمهم الرؤوم التي
كانت ترضعهم من ثديها أفاويق رنقها الكمال، واكتنفها الجلال.
اختطف قائدهم الذي كان يرفع - وهو في مقدمتهم - نبراس الحق؛ ليُنير لهم
الصراط المستقيم، فلا يضلوه.
اختطف الحكيم الوقور، الفيلسوف القدير، الشهم الهمام، الأستاذ الإمام الشيخ
(محمد عبده) .
إن لموت العظيم - خصوصًا إذا كان كفقيدنا، وفي ظروف فقيدنا - من الأثر
في نفوس قومه ما يقف قلم أقدر الكُتاب عن أن يسطر وصفه، ويعجز أفصح
الخطباء عن إيفائه حقَّه، حزن شامل يعم الأمة، ويضع غشاوة كثيفة تحجب عن
الأبصار الأفراح، وتنهُّدات تخرج من أعماق نفوس مكتومة، وحسرات تختلج في
قلوب دامية، وأكباد حرَّى، وأفكار سوداء صامتة، تتخيَّلها الأفئدة المكلومة،
ونظر إلى العالم كأنه ضاق على رحبه، وشعور بالوحدة، وحاجة إلى العُزْلة، هذا
ما كان يشعر به أولئك الشجعان الذين حضروا موت عظيمنا، أجل أسميهم شجعانًا،
ولا أكون مغاليًا؛ لأنهم صبروا على تحمُّل تلك الكارثة العظمى، والمصيبة
الكبرى، وهذا ما نشعر به نحن الآن، وقد قمنا لإحياء ذكرى ذلك الراحل الكريم
الذي خرج من صَدَفَة مصر؛ فصار درة يتيمة في تاج الشرق، تخطف الأبصار،
وتُلْقِي الهيبة في القلوب.
ليتني كنت في أيامه أقتفي آثاره، وأترسَّم خطواته، أرتشف من منهل علمه
العذب، وفضله الفياض، أتخذ من أعماله عظة وعبرة، تكون لي درسًا في حالي
واستقبالي، أنصت إلى عظاته البليغة، فتكون على نفسي بردًا وسلامًا، أقصده إذا
التبس عليَّ أمر، فيستبدل شكِّي باليقين، أجتهد أن أشابهه، فأسمو نفسًا وعلمًا
وخلقًا.
إننا نُجِلُّهُ ونُجِلُّ فيه كل شيء، نُجِلُّ أنفته ونفسه العالية، نُجِلُّ إقدامه وصبره
وجَلَده، نجل كماله وورعه وتقواه، نجل غيرته وهمته الشمَّاء، نجل أمانته
ونزاهته وشهامته، نجل قيامه بالواجب على الوجه الأكمل، نجل عبقريته التي
تطأطئ لها هامات أكابر العلماء الأفذاذ، نجل وطنيته الحرة، تلك الوطنية التي
كانت تعمل، وهي صامتة.
(إن فناءً في الحق لَهو عين البقاء) كلمة مأثورة خرجت من فم ذلك العظيم،
فكانت من جوامع الكلم، كلمة انطبقت على نفسه الكريمة تمام الانطباق، كلمة
(يا حبذا) لو عرف معناها الدنيويون، وتشرَّبت بها نفوسهم.
نعم، قمنا بعد سبعة عشر عامًا ننشر للملأ آية سافرة من إخلاص، وولاء
ذلك الرجل لوطنه ودينه، ومثلاً حيًّا للعبقرية الشرقية والنبوغ المصري، وخير
مثال للعظمة يحتذي مثالَه طلابُها، ويتخذه قدوةً عشاقُها.
فسلامٌ على تلك الهمة الوثابة التي كتم القبر أنفاسها، وكبح الثرى جماحها.
سلام على تلك السجايا التي تأصلت جذورها في نفسه، فلم يقدر على
اقتلاعها إلا الموت.
سلام على تلك الروح الطاهرة التي ترفرف الآن في سماء الخلود.
سلام على تلك العبقرية التي ظهرت ظهور الشمس تبدد فلول الظلام.
سلام على تلك الهبة الكتابية، والميزة الصحفية التي وقفها على تقويم
اعوجاج أمته، والأخذ بيدها.
سلام على تلك الهيبة والمكانة الرفيعة التي لم تُحدث في نفسه أي إعجاب أو
كبرياء.
سلام على ذلك الشعاع الوهَّاج الذي كان يؤثر في القلوب، ويكبل الإرادة
فحجبت ظلمة القبر لمعانه.
سلام على ذلك المجد الطريف، والسؤدد المنيف، والعزة والوقار.
سلام على ذلك الإيمان الراسخ، والعقيدة الثابتة والصلاح والورع.
سلام على ذلك الضمير الحي الذي عرف الواجب فأداه، والجميل فأولاه.
سلام على ذلك الوجدان الراقي الذي كان ينبض لبؤس الناس، ويفرح لفرحهم.
سلام على مَن كان للإسلام علمًا فانطوى، وللوطنية نصيرًا فانزوى.
سلام على سعادة زائلة ذاق حلوها بعضنا، ثم ذهبت فأصبحت أثرًا بعد عين.
سلام عليه ما دام فينا عرق ينبض، ونفس تشعر.
__________
(1) أي على وتيرة واحدة.
(2) يشير إلى يوم تأبين المرحوم الأستاذ الإمام فقد كان المؤبِّنون يومئذ ستة، أولهم الأستاذ الشيخ أحمد أبو خطوة والثاني حسن عاصم باشا، والثالث حسن عبد الرازق باشا، والرابع قاسم أمين بك، والخامس حفني ناصف بك، والسادس حافظ إبراهيم بك، وقد مات المؤبنون على ترتيب وقوفهم في الخطابة واحدًا بعد واحد، ولم يبقَ غير حافظ - أطال الله بقاءه - وقد نظم ذلك المرحوم حفني بك ناصف بأبيات، بعث بها إلى الشاعر منها:
أتذكر إذ كنا على القبر ستة ... نعدِّد آثار الإمام ونندب
وقفنا بترتيب وقد دَبَّ بيننا ... ممات على وفق النظام مرتَّب
أبو خطوة ولى وقفَّاه عاصم ... وجاء لعبد الرازق الموت يطلب
فلبَّى وغابت بعده شمس قاسم ... وعما قريب نجم محياي يغرب.
(3) كانت الكلمة ارتجالية، وكُتبت بعد القائها بزمن طوبل في الجملة، فلا بد أن ينقص المكتوب فيها جملاً، ويزيد أخرى، ولو بسطًا وإيضاحًا، أو يختلف ترتيبًا.
(4) هذه الكلمة مجملة مبهمة، يجلي ما بعدها بعض ما فيها من الإجمال.
(5) لهذا الشاب الفضل الأول في القيام بالاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام؛ لأنه أول مَن ذكَّر به، ودعا إليه على صفحات الجرائد.(23/593)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التسمية باسم الأستاذ الإمام
في المغرب الأقصى
جرت عادة البشر في جميع الأمم بأن يسمّوا أولادهم بأسماء عظماء الرجال حبًّا
بذِكْرهم، وتفاؤلاً باقتداء هؤلاء الأولاد بهم، وقد قرأنا بجريدة السعادة في العدد الذي
صدر منها في رباط الفتح من بلاد المغرب الأقصى بتاريخ 27 ذي الحجة الماضي
تحت عنوان محمد عبده الثاني ما نصه:
(بُشر صديقنا العضو الرئيسي بالمحكمة العليا الفقيه السيد عبد الحفيظ الفاسي
بولدٍ ذكرٍ، سماه على بركة الله (محمد عبده) تذكارًا لاسم الشيخ محمد عبده المصري
عظيم علماء الإسلام، فنِعم الولد، ونعم التذكار لذلك الرجل العظيم {وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) .
__________(23/611)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوثائق الرسمية للمسألة العربية
عود على بدء
المكاتبات بين أمير مكة بالأمس وملك الحجاز اليوم
وبين نائب ملك الإنكليز بمصر
لا يزال جمهور المشتغلين بالسياسة من عرب الأقطار السورية والعراقية
ومصر يجهلون أسباب الثورة التي قام بها أمير مكة بمساعدة بعض السوريين
والعراقيين؛ لأنه كان يكتم ما دار بينه وبين معتمد الدولة البريطانية في مصر،
وما اتفقا عليه، حتى عن أولاده قواد جيوشه، وإنما كان يمنِّيهم بأن الذي تقرر،
واتفق عليه الفريقان هو استقلال جميع البلاد العربية العثمانية، وجعْلها مملكة
عربية حرة له! ، وقد ظهر بعد ذلك أن ما عرضه على إنكلترة، فقبلت بعضه
بقيود، وشروط - يجعل البلاد تحت حمايتها في الداخل والخارج!
وقد كان جميع أنصاره وأنصار أولاده الأمراء موالين للدولة البريطانية إلى
أن انكشف الغطاء، وظهر ما كان مِن اتفاقها مع فرنسة على قسمة الولايات العربية
بينهما من حدود مصر، والبحر الأحمر إلى خليج فارس، واحتل كل منهما
حصته، وتصرف فيها تصرف المالك فيما ورثه عن آبائه وأجداده من الأرض،
فعند هذا رجع بعضهم عن موالاتها، وتعليق الآمال بها دون بعض.
ثم نشر الأمير فيصل في دمشق نص المعاهدة التي أخذها من والده؛ ليحتج
بها على الحكومة البريطانية، وظهر منها أنها تتضمن حمايتها لجميع البلاد العربية
التي طلب استقلالها؛ ليكون ملكها، فخابت آمال أناس آخرين، وسكتوا عن
التبجُّح أو الاحتجاج بذلك العهد أو الوعد، ولكن لا يزال لهم أنصار يتولونهم،
ويتولونها، وأنصار يتولونها من دونهم، وآخرون يتولونهم من دونها، ولا يزال
فيهم مَن يطالب الدولة البريطانية بما تطالبها به جريدة (القبلة) بالأقوال الرسمية
وغير الرسمية بأن تفي بعهدها، وتنجز وعدها لملك الحجاز، بل ملك العرب كلها،
ومن العجائب أن يكون كثير من أهل فلسطين من هؤلاء الأولياء الذين يسمون
ملك الحجاز (بالمنقذ) ، وإنما أنقذهم من حكم الدولة العثمانية الإسلامية،
الرحيمة المساوية بينهم وبين الترك في كل الحقوق، ووضعهم بثورته تحت حكم
سيطرة الدولة البريطانية، والشيعة اليهودية الصهيونية، ولا يزال يوجد فيهم مَن
يظن أن وفاء الدولة البريطانية بوعدها ينيلهم الاستقلال، كما يظن أولياؤه في
سورية الشمالية أنه ينقذهم من فرنسة، ولو بجعلهم تحت انتداب إنكلترة أو حمايتها،
وإن كانوا لا يجهلون أن انتدابها كان شرًّا على فلسطين من انتداب فرنسة على
سائر سورية؛ فإن كان الضغط على العراقين دون الضغط عليهم، فسببه أن حال
العراقيين كانت خيرًا من حالهم، وإنما تنال الشعوب باستعدادها وأعمالها، لا
بأمانيها وأقوالها.
ندع هؤلاء الأغرار يتخبَّطون في غرارتهم وغرورهم إلى أن يعلم الزمان مَن
كان قابلاً للعلم، ويربي مَن كان قابلاً للتربية، ونساعد الزمان على ذلك ببيان ما
تمحَّص من الحقائق، ونشر ما نعلم من البينات والوثائق؛ لتكون عبرة للمعتبرين،
وحجة على الجاهلين والمكابرين.
كلما دخلت مسائل الشرق في طور جديد ترى المتَّكلين على صاحب الحجاز
وأولاده من السوريين - ولا سيما الفلسطينيين منهم - عادوا إلى نغمة المعاهدة بين
الملك حسين والإنكليز يطالبون بها، ويزعمون أن الملك حسينًا وضعها،
وأمضاها باسم الأمة العربية لا باسمه وحده، ونسأله تعالى أن يكفي هذه الأمة
العربية شر تلك المعاهدة التي يريدون استعباد الأمة العربية بها.
ألا أيها النائمون أفيقوا، ويا أيها المخدوعون بأقوال العائشين من فضلات
آكِلِي أثمان أمتكم وبلادكم تنبَّهوا، قد آن لكم أن تعلموا أن تلك القصاصة من الورق
التي يسميها الملك حسين (مقررات النهضة) ، ويسميها النافخون ببوقه المعاهدة
الإنكليزية العربية، هي وثيقة من الملك حسين بجعْل البلاد العربية كلها، حتى
الحجاز تحت حماية الحكومة البريطانية في داخلها وخارجها، وتنص على إعطائها
الحق باحتلال ولاية البصرة لتأمين السيطرة على العراق، فيجب على كل عربي
مخلص لأمته وبلاده أن يرفضها، وينكر أن يكون لواضعها أدنى حق في وضعها،
والافتيات على حقوق مسلمي الأرض في الحجاز، وحقوق زعماء الأمة العربية في
الجزيرة وسورية والعراق بوضْعه هذه الوثيقة الموجبة لاستعبادهم، وتصرف
الإنكليز في بلادهم.
هذه المقررات هي التي نشرها الأمير فيصل قائد الجيش الشرقي لدول الحلفاء-
يوم نشرها - وملك العراق اليوم في جريدة المفيد، ونشرناها في المنار نقلاً
عنها، وإننا نعيد اليوم نشرها مع الوثائق الأخرى المتعلقة بها، التي أشار الملك
فيصل إلى أن الإنكليز اعترفوا بها، ولم يعترفوا بوجود معاهدة، وهذا نصها
بالمعنى الصحيح الذي كتبه والده:
صورة ما تقرر مع بريطانيا العظمى
بشأن النهضة العربية
(1) تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني
الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس،
ومن الغرب بحر القلزم، والحدود المصرية، والبحر الأبيض وشمالاً حدود ولاية
حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات، ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في
بحر فارس، ما عدا مستعمرة عدن، فإنها خارجة عن هذه الحدود! ، وتتعهد هذه
الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص
كان من العرب في داخل هذه الحدود - بأنها تحل في محلها في رعايته وصيانة تلك
الحقوق وتلك الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد.
(2) تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي
مداخلة كانت بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من
أي تعدٍّ بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء، أو من
حسد بعض الأمراء فيه، تساعد الحكومة المذكورة مادةً ومعنًى على دفع ذلك القيام
لحين اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة،
أي لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية.
(3) تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة
الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود
يُراعَى فيه حالة احتياج الحكومة العربية، التي هي حكمها قاصرة في حِضن
بريطانيا، وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال.
(4) تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية
من الأسلحة، ومهماتها، والذخائر، والنقود مدة الحرب.
(5) تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين، أو ما هو مناسب من
النقط من تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد لعدم استعدادها (انتهى) .
(المنار)
هذا ما كتبه الملك حسين بن علي إذ كان أمير الحجاز من قِبَل الدولة العثمانية
إلى السر هنري مكماهون؛ ليعرضه على دولته، ويقنعها بأن ترضى بجعْله
الأساس الذي تُبنَى عليه ثورة أمير مكة على دولته! ، وملخصها أن إنكلترة هي
التي تؤسس الحكومة العربية، وهي التي تتولى حمايتها، وحفظ حدودها، وحفظ
الأمن فيها للاعتراف بأنها قاصرة في حجر إنكلترة القيِّمة عليها! ، ولكن دولته لم
ترضَ بجعْل هذه القواعد معاهدة بينها وبين أمير مكة، بل طفق مندوبها السامي
بمصر يناقشه فيها، ويلهيه عن المهم منها، وكلما اعترف لهم بشيء اتخذوه حجة
عليه، يحفظونها إلى وقت الحاجة، وأعظم حُججهم عليه جعْل جميع البلاد العربية
تحت حمايتهم.
وقد نشر الملك فيصل بعض ما جاء في أحد كتب السر هنري مكماهون إلى
والده بشأن الحدود، وقد آن لنا نحن أن ننشر النصوص التي يهمنا أمرها من تلك
الكتب؛ لأن ما نُشر لم يكفِ لإزالة اللبس، وكشف القناع عن الغش، وما لنا لا
ننشرها وقد تداولتها الأيدي في الشرق والغرب؟ !
أُرسلت تلك (المقررات) من مكة إلى مصر في ضمن كتاب للسر هنري
مكماهون في 27 شعبان سنة 1333، وهاك ما أجابه في أول كتاب بعدها:
***
الكتاب الأول
(من نائب ملك الإنكليز بمصر إلى أمير مكة في شأن الثورة الحجازية)
(في 19 شوال سنة 1333 الموافق 30 أغسطس سنة 1915)
كتاب من السر آرثر مكماهون نائب ملك الإنكليز بمصر
في 19 شوال سنة 1333 - 30 أغسطس سنة 1915
إلى السيد الحسيب النسيب، سلالة الأشراف، وتاج الفخار، وفرع الشجرة
المحمدية، والدوحة القرشية الأحمدية، صاحب المقام الرفيع، والمكانة السامية
السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الجليل المبجل دولتلو الشريف
حسين، سيد الجميع، أمير مكة المكرمة، قبلة العالمين، ومحط رحال المؤمنين
الطائعين، عمت بركته الناس أجمعين! .
بعد رفع رسوم وافر التحيات العاطرة، والتسليمات القلبية الخالصة من كل
شائبة - نعرض أن لنا الشرف بتقديم واجب الشكر لإظهاركم عاطفة الإخلاص
وشريف الشعور والإحساسات نحو الإنكليز، وقد يسرنا علاوة على ذلك أن نعلم أن
سيادتكم ورجالكم على رأي واحد، وأن مصالح العرب هي نفس مصالح الإنكليز،
والعكس بالعكس؛ ولهذه النية، فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد كتشنر التي
وصلت إلى سيادتكم عن يد علي أفندي وهي التي كان موضحًا بها رغبتنا في
استقلال بلاد العرب وسكانها، مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها، وإننا
نصرح هنا - مرة أخرى - أن جلالة ملك بريطانيا العظمى رحب باسترداد الخلافة
إلى عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة.
وأما من خصوص مسألة الحدود والتخوم فالمفاوضة فيها تُظهر أنها سابقة
لأوانها، وتصرف الأوقات سُدى في مثل هذه التفاصيل؛ في حالة أن الحرب دائرة
رحاها؛ ولأن الأتراك لا يزالون محتلين لأغلب تلك الجهات احتلالاً فعليًّا، وعلى
الأخص ما علمناه - وهو مما يدهش ويحزن - أن فريقًا من العرب القاطنين بتلك
الجهات نفسها قد غفل وأهمل هذه الفرصة الثمينة التي ليس أعظم منها، وبدل إقدام
ذلك الفريق على مساعدتنا نراه قد مد يد المساعدة إلى الألمان والأتراك!
نعم، مد يد المساعدة لذلك السلاب النهَّاب الجديد وهو الألمان، وذلك الظالم
العَسوف وهو الأتراك، ومع ذلك فإنَّا على كمال الاستعداد لأن نرسل إلى ساحة
دولة السيد الجليل ما للبلاد العربية المقدسة، والعرب الكرام - من الحبوب
والصداقات المقررة من البلاد المصرية، وستصل بمجرد إشارة سيادتكم، وفي
المكان الذي تعينونه، وقد عملنا الترتيبات اللازمة لمساعدة رسولكم في جميع
سفراته إلينا، ونحن على الدوام معكم قلبًا وقالبًا، مستنشقين رائحة مودتكم الذكية،
ومستوثقين بعُرى محبتكم الخالصة، سائلين الله سبحانه وتعالى دوام حسن العلائق
بيننا.
وفي الختام أرفع إلى تلك السدّة العليا كامل تحياتي وسلامي، وفائق احترامي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... السير
... ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر مكماهون
... ... ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك
وقد أجاب الشريف حسين على هذه الكتاب بكتاب مؤرخ في 29 شوال يُلِحُّ
فيه بقبول تلك الحدود المعينة فيما سماه (مقررات النهضة) ، فأجابه بالكتاب التالي:
***
كتاب ثانٍ
(من نائب الملك آرثر مكماهون إلى الشريف حسين)
(في 15 ذي الحجة سنة 1333)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فروع الدوحة المحمدية، وسلالة النسب النبوي، الحسيب النسيب، دولة
صاحب المقام الرفيع، الأمير المعظم، السيد الشريف ابن الشريف، أمير مكة
المكرمة، صاحب السدة العليا، جعله الله حِرْزًا منيعًا للإسلام والمسلمين، بعونه
تعالى، آمين، وهو دولة الأمير الجليل الشريف حسين بن علي أعلى الله مقامه.
قد تلقيت بيد الاحتفاء والسرور رقيمكم الكريم المؤرخ بتاريخ 29 شوال سنة
1333، وبه من عباراتكم الودية المحضة وإخلاصكم ما أورثني رضاءً، وحبورًا.
إني متأسف أنكم استنتجتم من عبارة كتابي السابق أن قابلت مسألة الحدود
والتخوم بالتردد والفتور؛ فإن ذلك لم يكن القصد من كتابي قط، ولكني رأيت حينئذٍ
أن الفرصة لم تكن قد حانت بعد للبحث في ذلك الموضوع بصورة نهائية، ومع
ذلك فقد أدركت من كتابكم الأخير أنكم تعتبرون هذه المسألة من المسائل الهامة
الحيوية المستعجلة؛ فلذلك فإني قد أسرعت في إبلاغ حكومة بريطانيا العظمى
مضمون كتابكم، وإني بكمال السرور أبلِّغكم بالنيابة عنها التصريحات الآتية التي لا
شك في أنكم تُنزلونها منزلة الرضى والقبول:
إن ولايتي مرسين وإسكندرونة، وأجزاءً من بلاد الشام الواقعة في الجهة
الغربية لولايات دمشق الشام، وحمص، وحماة، وحلب - لا يمكن أن يقال: إنها
عربية محضة، وعليه يجب أن تُستثنَى من الحدود المطلوبة.
وأما من خصوص الأقاليم التي تضمها تلك الحدود - حيث بريطانيا العظمى
مطلقة التصرف (؟) بدون أن تمس مصلحة حليفتها فرنسا (؟) - فإني مفوَّض
من قِبَل حكومة بريطانيا العظمى أن أقدم المواثيق الآتية، وأجيب على كتابكم بما
يأتي:
(1) أنه مع مراعاة التعديلات المذكورة أعلاه، فبريطانيا العظمى مستعدة
بأن تعترف باستقلال العرب، وتؤيد ذلك الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في
الحدود التي يطلبها دولة شريف مكة.
(2) أن بريطانيا العظمى تضمن الأماكن المقدسة من كل اعتداء خارجي،
وتعترف بوجوب منْع التعدي عليها.
(3) وعندما تسمح الظروف تمد بريطانيا العظمى العرب بنصائحها،
وتساعدهم على إيجاد هيئات حاكمة ملائمة لتلك الأقاليم.
(4) هذا، وإن المفهوم أن العرب قد قرروا طلب نصائح وإرشادات
بريطانيا العظمى وحدها، وأن المستشارين والموظفين الأورباويين لتشكيل هيئة
إدارة قوية، يكونون من الإنكليز.
(5) أما من خصوص ولايتي بغداد والبصرة فإن العرب تعترف أن مركز
ومصالح بريطانيا العظمى الموطدة هناك - تستلزم اتخاذ تدابير إدارية مخصوصة
لوقاية هذه الأقاليم من الاعتداء الأجنبي، وزيادة خير سكانها، وحماية مصالحنا
الاقتصادية المتبادلة.
وإني متيِّقن بأن هذ التصريح يؤكد لدولتكم - بدون أقل ارتياب - ميل
بريطانيا العظمى نحو رغائب أصحابها العرب، وتنتهي بعقد محالفة (؟) دائمية
ثابتة معهم، ويكون من نتائجها المستعجلة طرد الأتراك من بلاد العرب، وتحرير
الشعوب العربية من نَيْرِ الأتراك، الذي أثقل كاهلهم السنين الطوال.
ولقد اقتصرتُ في كتابي هذا على المسائل الحيوية ذات الأهمية الكبرى، وإن
كان هناك مسائل في خطاباتكم لم تُذكر هنا، فنعود إلى البحث فيها في وقت مناسب
في المستقبل!
ولقد تلقيت بمزيد السرور والرضى خبر وصول الكسوة الشريفة وما معها من
الصدقات بالسلامة، وأنها بفضل إرشاداتكم السامية - قد أُنزلت إلى البر بلا تعب
ولا ضرر، رغمًا من الأخطار والمصاعب التي سبَّبتها هذه الحرب المحزنة،
ونرجو الحق سبحانه وتعالى أن يعجل بالصلح الدائم والحرية لأهل العالم!
إني لمرسل خطابي هذا مع رسولكم النبيل الأمين الشيخ محمد بن عارف بن
عريفان، وسيعرض على مسامعكم بعض المسائل المفيدة التي هي في الدرجة
الثانية من الأهمية، ولم أذكرها في كتابي هذا.
وفي الختام أبث دولة الشريف، ذا الحسب المنيف، والأمير الجليل - كامل
تحيتي، وخالص مودتي، وأعرب عن محبتي له ولجميع أفراد أسرته الكريمة،
راجيًا من ذي الجلال أن يوفقنا جميعًا لما فيه خير العالم، وصالح الشعوب، إن
بيده مفاتيح الأمر والغيب، يحركها كيف شاء، ونسأله تعالى حسن الختام والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك السير
... ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر مكماهون
(المنار)
رد الشريف على هذا الكتاب بجواب يعترف فيه بأن ولايتي مرسين وأدنه
ليستا داخلتين في حدود البلاد العربية التي يطلبها، ويقبل تأجيل البحث في ولايتي
حلب وبيروت إلى ما بعد الحرب، ويقر المعاهدات المجهولة التي بين بريطانيا،
وبعض رؤساء العرب، حتى مَن كانوا منهم في المملكة العربية التي هي موضوع
المساومة بينه وبينها، وقد اعترف لها بالانفراد بالنفوذ فيها.
فأجابه نائب الملك بالكتاب الآتي:
***
كتاب ثالث
(من نائب ملك الإنكليز بمصر إلى الشريف حسين أمير مكة)
(في 8 صفر سنة 1334)
إلى صاحب الأصالة والرفعة وشرف المحتد سلالة بيت النبوة، والحسب
الطاهر، والنسب الفاخر، دولة الشريف المعظم السيد حسين بن علي أمير مكة
المكرمة، قبلة الإسلام والمسلمين، أدامه الله في رفعة وعلاء.
وبعد: فقد وصلني كتابكم الكريم بتاريخ 24 ذي الحجة سنة 1333 هـ،
وسرني ما رأيت فيه من قبولكم إخراج ولايتي مرسين وأضنه من حدود البلاد
العربية، وقد تلقيت أيضًا بمزيد السرور والرضى تأكيداتكم أن العرب عازمون
على السير بموجب تعاليم الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -
وغيره من السادة الخلفاء الأولين - التعاليم التي تضمن حقوق كل الأديان
وامتيازاتها على السواء، هذا؛ وفي قولكم: إن العرب مستعدون أن يحترموا،
ويعترفوا بجميع معاهداتنا مع رؤساء العرب الآخرين - يُعلم منه طبعًا أن هذا
يشمل البلاد الداخلة في حدود المملكة العربية؛ لأن حكومة بريطانيا العظمى لا
تستطيع أن تنقض اتفاقات قد أُبرمت بينها وبين أولئك الرؤساء!
أما بشأن ولاتي حلب وبيروت فحكومة بريطانيا العظمى قد فهمت كل ما
ذكرتم بشأنهما، ودونت ذلك عندها بعناية تامة، ولكن لما كانت مصالح حليفتها
فرنسا داخلة فيهما فالمسألة تحتاج إلى نظر دقيق، وسنخابركم بهذا الشأن مرة
أخرى في الوقت المناسب.
إن حكومة بريطانيا العظمى كما سبقت فأخبرتكم مستعدة لأن تعطي كل
الضمانات والمساعدات التي في وسعها إلى المملكة العربية، ولكن مصالحها في
ولاية بغداد تتطلب إدارة ودية ثابتة، وإننا نستصوب تمامًا رغبتكم في اتخاذ الحذر،
ولسنا نريد أن ندفعكم إلى عمل سريع ربما يعرقل نجاح أغراضكم، ولكنَّا في
الوقت نفسه نرى من الضروري جدًّا أن تبذلوا كل مجهوداتكم في جمع كلمة
الشعوب العربية إلى غايتنا المشتركة، وأن تحثُّوهم على أن لا يمدوا يد المساعدة
لأعدائنا بأي وجه كان، فإنه على نجاح هذه المجهودات وعلى التدابير الفعلية التي
يمكن للعرب أن يتخذوها لإسعاف غرضنا عندما يجيء وقت العمل - تتوقف قوة
الاتفاق بيننا وثباته، وفي هذه الأحوال فإن حكومة بريطانيا العظمى قد فوضت لي
أن أبلغ دولتكم أن تكونوا على ثقة من أن بريطانيا العظمى لا تنوي إبرام أي صلح
كان إلا إذا كان من ضمن شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية وخلاصها من
سلطة الألمان والأتراك!
هذا، وعربونًا على صدق نيتنا، ولأجل مساعدتكم في مجهوداتكم في غايتنا
المشتركة فإني مرسل مع رسولكم الأمين مبلغ عشرين ألف جنيه.
وأقدم في الختام عاطر التحيات القلبية، وخالص التسليمات الودية، مع
مراسم الإجلال والتعظيم المشموليْن بروابط الألفة والمحبة الصرفة لمقام دولتكم
السامي ولأفراد أسرتكم المكرمة مع فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك بمصر السير
... ... ... ... ... ... ... ... آرثر هنري مكماهون
(المنار)
رد الشريف على هذا الكتاب حامدًا شاكرًا راضيًا واعدًا بالقيام بجمع كلمة
العرب على قتال الترك، طالبًا بعضَ الأسلحة والذخائر والأقوات.
فأجابه نائب الملك بالكتاب الآتي:
***
كتاب رابع
(من نائب ملك الإنكليز بمصر إلى الشريف حسين أمير مكة)
(في جُمادَى الأولى سنة 1334 يوافق 10 مارس سنة 1916)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى ساحة ذلك المقام الرفيع ذي الحسب الطاهر والنسب الفاخر، قبلة الإسلام
والمسلمين، معدِن الشرف، وطيب المحتد، سلالة مهبط الوحي المحمدي الشريف
ابن الشريف، صاحب الدولة السيد الشريف حسين بن علي أمير مكة المعظمة،
زاده الله رفعة وعلاءً، آمين.
بعد ما يليق بمقام الأمير الخطير من التجلَّة والاحتشام، وتقديم خالص التحية
والسلام، وشرح عوامل الألفة وحسن التفاهم والمودة الممزوجة بالمحبة القلبية -
أرفع إلى دولة الأمير المعظم أننا تلقينا رقيمكم المؤرخ 14 ربيع الآخر من يد
رسولكم الأمين، وقد سُرِرنا لوقوفنا على التدابير الفعلية التي تنوونها وإنها لَموافِقة
في الأحوال الحاضرة، وإن حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى تصادق عليها،
وقد سرَّني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك صادقت على جميع مطالبكم [1] ،
وأن كل شيء رغبتم الإسراع فيه وفي إرساله - فهو مرسل مع رسولكم حامل هذا،
والأشياء الباقية ستحضر بكل سرعة ممكنة، وتبقى في بورت سودان تحت
أمركم لحين ابتداء الحركة، وإبلاغنا إياها بصورة رسمية كما ذكرتم، وبالمواقع
التي يقتضى سوقها إليها، والوسائط التي سيكونون حاملين الوثائق بتسليمها إياهم.
إن كل التعليمات التي وردت في محرركم قد أعلمنا بها محافظ بورت سودان،
وهو سيجريها حسب رغبتكم، وقد عملت جميع التسهيلات اللازمة لإرسال
رسولكم حامل خطابكم الأخيرة إلى جيزان، حتى يؤدي مأموريته، التي نسأل الله
أن يكللها بالنجاح وحسن النتائج، وسيعود إلى بورت سودان، وبعدها يصلكم
بحراسة الله؛ ليقص على مسامع دولتكم نتيجة عمله.
وننتهز الفرصة لنوضح لدولتكم - في خطابنا هذا - ما ربما لم يكن واضحًا
لديكم، أو ما عساه أن يُنتج سوء تفاهم، ألا وهو يوجد في بعض المراكز أو النقط
المعسكرة فيها بعض العساكر التركية على سواحل بلاد العرب [2] ، يقال إنهم
يجاهرون بالعداء لنا، والذين هم يعملون على ضرر مصالحنا الحربية البحرية في
البحر الأحمر، وعليه نرى أنه من الضروري أن نأخذ التدابير الفعالة ضدهم،
ولكننا قد أصدرنا الأوامر القطعية أنه يجب على جميع بوارجنا أن تفرق بين
عساكر الأتراك الذين يبدأون بالعداء، وبين العرب الأبرياء الذين يسكنون تلك
الجهات؛ لأنَّا لا نقدم للعرب أجمع إلا كل عاطفة ودية! ، وقد أبلغنا دولتكم ذلك؛
حتى تكونوا على بينة من الأمر إذا بُلِّغتم خبرًا مكذوبًا عن الأسباب التي تضطرنا
إلى عمل من هذا القبيل.
وقد بلغنا إشاعات مؤداها أن أعداءنا الألداء باذلون جهدهم في أعمال السفن
ليبثوا بها الألغام في البحر الأحمر، ولإلحاق الأضرار بمصالحنا في ذلك البحر،
وإنَّا نرجوكم سرعة إخبارنا إذا تحقق لديكم ذلك.
وقد بلغنا أن ابن الرشيد قد باع للأتراك عددًا عظيمًا من الجِمَال، وقد أُرسلت
إلى دمشق الشام، ونأمل أن تستعملوا كل ما لكم من التأثير عليه؛ حتى يكف عن
ذلك، وإذا هو صمم على ما هو عليه أمكنكم عمل الترتيب مع العربان الساكنين
بينه وبين سوريا - أن يقبضوا على الجمال حال سيرها، ولا شك أن في ذلك
صالحًا لمصلحتنا المتبادلة.
وقد يسرني أن أبلغ دولتكم أن العربان - الذين ضلوا السبيل تحت قيادة السيد
أحمد السنوسي، وهم الذين أصبحوا ضحية دسائس الألمان والأتراك - قد ابتدءوا
يعرفون خطأهم، وهم يأتون إلينا وحدانًا وجماعات، يطلبون العفو عنهم والتودد
إليهم، وقد - والحمد لله - هزمنا القوات التي جمعها هؤلاء الدساسون ضدنا، وقد
أخذت العرب تبصر الغش والخديعة التي حاقت بهم! ، وإن لسقوط أرضروم من
يد الأتراك، وكثرة انهزاماتهم في بلاد القوقاس تأثيرًا عظيمًا (؟) ، وهو في
مصلحتنا المتبادلة، وخطوة عظيمة في سبيل الأمر الذي نعمل له وإياكم، ونسأل
الله عز وجل أن يكلل مساعيكم بتاج النجاح والفلاح، وأن يمهد لكم في كامل
أعمالكم أحسن السبل والمناهج.
وفي الختام أقدم لدولتكم ولكامل أفراد أسرتكم الشريفة عظيم الاحترامات،
وكامل ضروب المودة والإخلاص، مع المحبة التي لا يزعزعها كَرُّ العصور،
ومرور الأيام.
... ... ... ... ... ... ... ... كتبه المخلص السير
... ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر مكماهون
... ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك بمصر
(المنار)
نلخص هذه الكتب، ونرتب ما تقرر فيها بالمسائل الآتية:
(1) أن الحكومة البريطانية تستثني من بلاد العرب - بالنص - معظم
سورية وهو سواحل ولايات كليكية وحلب والشام وبيروت، فتكون سورية العربية
محصورة في المدن الأربع دمشق وحمص وحماة وحلب وملحقاتهن، ولا منفذ
لشيء منها إلى البحر إلا فلسطين المسكوت عنها.
(2) أنها تزعم أنها مطلقة التصرف في الأقاليم التي تضمها تلك الحدود من بلاد العرب بدون أن تمس مصلحة حليفتها فرنسة، أي فيما تقرر بينهما من
حصتها في سورية، والمعنى أنها بما لها من حق التصرف في غير حصة فرنسة من
البلاد التي حددها الشريف تقرر ما ذكرت من الحقوق لها وله، ولا ندري من
أين لها هذا التصرف المطلق في هذه البلاد؟ وبأي حق اعترف لها الشريف به؟
(3) تزعم أن العرب يعترفون بأن مركز بريطانية ومصالحها موطدة في
ولايتي البصرة وبغداد، ويستلزم ذلك أن تكون إدارتها بيد إنكلترة وتحت حمايتها.
(4) تضمن حماية الأماكن المقدسة من كل اعتداء، وهي تفسر البلاد
المقدسة بالحرمين والقدس وكربلاء والنجف، وتفسر حمايتها لها بما تشاء من
الوسائل، ومنها إيجاد قُوًى عسكرية من سلاح الطيران وغيره.
(5) تزعم أن العرب قد قرروا أن يكون المستشارون والموظفون - الذين
يؤلفون الهيئة الإدارية في بلادهم - من الإنكليز؛ لأن الشريف رضي بذلك.
(6) تشترط عدم التعرض في هذا الاتفاق المطلوب للمعاهدات المعقودة بين
الإنكليز وبعض رؤساء العرب، يعنون أكثر بلاد الجزيرة كلحج وحضرموت
ونجد وعسير وبعض قبائل العراق.
(7) تقول: إنها مستعدة مع مراعاة هذه التعديلات التي تسجلها على شريف
مكة، ومَن يمثلهم من العرب بدعواهما؛ لأن تعترف باستقلال العرب، وتؤيد هذا
الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في الحدود التي يطلبها شريف مكة، أي إنها -
بعد هذه التعديلات التي معناها أن جميع بلاد العرب في قبضة تصرفها - مستعدة
للاعتراف باستقلال مبهم في مكان مبهم! ، والاستعداد للاعتراف بالشيء لا يقتضي
الاعتراف به بالفعل، والاستقلال المجمل لا ينافي الحماية، ولا الوصاية، ولا ما
يسمونه الانتداب كما صرحوا به رسميًّا.
(8) تقول: إن هذا التصريح يؤكد ميل بريطانية لرغائب أصحابها العرب -
أي لاستعبادهم - وينتهي بعقد محالفة يكون أول نتائجها طرد الأتراك من بلاد
العرب، وتحرير العرب من نيرهم، أي لوضْعهم تحت نير الإنكليز الذي يفوقه في
الثقل، كما يفوق الجبل الجمل.
(9) تعد بأنها عند ما تسمح لها الظروف تساعد العرب على إيجاد هيئات
حاكمة ملائمة لتلك الأقاليم المختلفة من بلاد العرب، وهي الحجاز وفلسطين،
ويتعهدون بحمايتها، وطرد الترك منها، وليس في شيء من كل هذه الوعود حجة
عليها للشريف إلا في مسألة فلسطين؛ إذ جعلت البلاد وطنًا لليهود.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المراد بهذه المطالب الأسلحة وعتاد الحرب.
(2) لعله سقط من هنا ذكر مَن وُصفوا بأنهم يجاهرون بالعداء للإنكليز.(23/612)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدنية القوانين
وسعي المتفرنجين
لنبذ بقية الشريعة وهدم الدين
(3)
سبب حرب متفرنجة المسلمين للإسلام
إن خُوَّاص الأمم وقادتها هم أهل العلم الذين يتبعهم السواد الأعظم من العوام
في أمور دينهم ودنياهم كالتعليم والإرشاد، وشؤون الحكومة من سياسة، وإدارة
وقضاء، وحفظ للأمن، ودفاع عن الوطن، وكل ما تحتاج إليه الأمة في حفظ
مصالحها الدينية والدنيوية من علم، وعمل - فحكم الإسلام فيه أنه واجب شرعًا،
ولم يكن للدول الإسلامية التي أسسها خلفاء الإسلام في جزيرة العرب، والشام،
والعراق، ومصر وغيرها من آسية، وإفريقية، وأوربة (كالأندلس) - علم
يستمدون منه أحكام الإدارة والسياسة والقضاء والحرب إلا الفقه الإسلامي المبني
على قواعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الخلفاء
الراشدين وهدي السلف الصالحين، وكان كافيًا لذلك في عصورهم، ولا يزال كذلك،
ولن يزال إذا سلك المسلمون فيه طريق الاجتهاد الذي سار عليه سلفهم.
ثم ضعفت الحضارة الإسلامية بضعف دولها بضعف هداية الإسلام فيها، ثم
قويت حضارة أوربة، واعتزت دولها، وارتقت علومها وفنونها، ونظمها وقوانينها،
فمكَّنتها هذه القوى من السيادة على أكثر ممالك الإسلام، وكانت هذه السيادة
ضروبًا، لها أسماء ورسوم يمتاز بها بعضها عن بعض، وانتشر بعض علومها
وقوانينها في هذه الممالك تابعًا لتلك السيادة في بعض البلاد، ومتبوعًا أو ممهدًا لها
في بعض، وكثرت المدارس الأجنبية فيها من قِبَل دعاة النصرانية الأوربيين،
والأميريكيين لنشر تلك العلوم والقوانين مع الدعوة الدينية، وقلدتها بعض
الحكومات الإسلامية المستقلة بالاسم وبالفعل في مناهج التعليم ومواده، وتلا ذلك
اقتباس قوانينها، والتشبه بها في عاداتها وأزيائها وغير ذلك، فعظمت سيطرة
هؤلاء الأجانب على العقول والقلوب بتصرفهم في تربية النشء وتعليمه - تصرفًا
قصد به قطع جميع روابطه الملِّية والقومية، وجعله عالة عليهم في كل شيء.
إذا كان هؤلاء الإفرنج قد عجزوا عن تنصير المسلمين بمدارس جمعياتهم
الدينية - فإنهم لم يعجزوا عن إبطال ثقة الكثيرين منهم بدينهم، الذي هو مستمد
فضائلهم وآدابهم النفسية والاجتماعية؛ لتصبح الأمة المكوَّنة منهم لا فضيلة لها في
نفسها ولا آداب، وإبطال ثقتهم بشرعهم العادل الذي هو أساس حضارتهم ومجدهم،
والمكوّن لدولهم التي هي مناط شرفهم التاريخي؛ لتكون الأمة المكوَّنة منهم لا
مَجْدَ لها، ولا تشريع ولا تاريخ، وإبطال ثقتهم بلغتهم، الحافظة لشرعهم وآدابهم
وتاريخهم وحضارتهم، لعدم شعورهم بالحاجة إليها بفقد الشعور بالحاجة إلى ما
تحفظه من ذلك، وتوجه هِممهم إلى استبدال شرائع أساتذتهم وآدابهم وحضارتهم
ولغتهم بما كان لسلفهم من ذلك، أي ليخرجوا عن كونهم أمة ذات مقومات
ومشخصات مستقلة؛ فيفقدوا أعظم أركان الاستقلال القومي، ويكونا كاللقيط الذي
يجهل أهله ونسبه، ولا يستطيع أن يتصل بأسرة يلتحق بها؛ فيكون أبتر في الناس،
فهذا سبب التفرنج الذي نشكو بعض آثاره في الملة، ولو كان أمر التربية وتعليم
العلوم والفنون الدنيوية في يد زعماء الملة وعلمائها - لما ازدادت الأمة بها إلا قوةً
واتحادًا كما سبق لسلفها.
كان خلفاء المسلمين وأمراؤهم وعلماؤهم - في عصور حضارتهم - يرون
أنفسهم أَوْلى من كل البشر بكل علم وكل فن ينفع الناس في معايشهم أو عقولهم أو
أبدانهم، حتى أحيوا العلوم الميتة والفنون الدارسة، وكانت هذه العلوم والفنون تُقرأ
مع علوم الدين في مساجد المسلمين ومدارسهم، وما وجدوا شيئًا منها مخالفًا لشيءٍ
من نصوص الدين إلا وحكموا فيه بأحد أمرين إما كونه باطلاً، فلا يُؤبَه لمخالفته
الدين، وإما كون مخالفته صورية لا حقيقية لإمكان الجمع بين ما ثبت منه وبين
النص.
ثم صرنا إلى عصور ضعف فيها العلم بالدين وبلغة الدين وبسائر العلوم
والفنون التي كان المسلمون منفردين بها في العالم، وكان لذلك أسباب: أهمها
إيجاب تقليد المصنفين الميتين، وتحريم العلم الاستقلالي على الأحياء أجمعين،
بدعوى أنه من الاجتهاد المتعذر على المتأخرين، وإهمال التربية الملية التي
تصحح النية في طلب العلوم والفنون، وتوجهها إلى ما به ترتقي الأمة وتعتز.
ولكن الإفرنج - الذين اقتبسوا استقلال الفكر والعلم الاستدلالي من المسلمين،
فكانا سببَيْ ارتقائهم - قد ردوهما إلى المسلمين؛ ليستعينوا بهما على إقناعهم بكل
ما يريدون من السوء بهم، من حيث لا يشعرون بردهما إليهم، وبإمكان استفادتهم
منهما في دينهم ودنياهم، بعد أن حال دونها رجال الدين الإسلامي، بما أقفلوا في
وجوههم من باب الاستقلال بطلب علم الدين بالدليل، وقد تربوا على أن لا يقبلوا
شيئًا بدون دليل؛ فكثر مروقهم من الدين، ثم اقتنع كثير منهم بأن الدين عقبة في
طريق ترقِّيهم؛ فصاروا يحاربونه بالعلم والعمل!
رجال الدين ورجال الدنيا
بهذا دخل عوامّ المسلمين في باب التنازع بين عاملي زعماء الدين وزعماء
الدنيا، كل منهما يجذب العوام إليه، وإننا نرى أن زعماء الدنيا أقدر على جذبهم
إلى مدارسهم وإلى تقليدهم؛ فطلابها وطالباتها يزدادون سنة بعد سنة، ويبذلون
المال لها، وطلاب علوم الدين في نقصان، على كون تعليمها بالمجان، وقلما يُقبل
عليه إلا الفقراء، الذين يعتصمون به من الخدمة العسكرية أو بدلها المالي، وقد
أصبحت مناصب الحكومة وأعمالها، وهي تكاد تكون محصورة في خريجي
مدارس الدنيا، وهم يكيدون لما بقي لرجال الدين منها، وهو القضاء الشرعي
المحدود الذي هو موضوع بحثنا في هذه المقالات: إما بإبطاله، وجعْل جميع
الأحكام قانونية وضعية حتى الأحكام الشخصية، وإما بالتوسل إلى إلغاء القضاء
الشرعي بجعْل الأحكام الشخصية الشرعية قانونًا، وإبطال كونها دينًا.
يعمل هؤلاء المتفرنجون كثيرًا، ورجال الدين لا يعلمون شيئًا، للمتفرنجين
أحزاب وجمعيات كثيرة سياسية واجتماعية واشتراكية. وليس لرجال الدين حزب
ولا جمعية ذات نظام، المتفرنجون هم الأقلون، ولكنهم يزيدون ولا ينقصون،
والدينيون لا يزالون هم الأكثرين، ولكن كثرتهم إلى قلة، ورابطتهم إلى انحلال!
كان طلاب المدارس المدنية هم الجند العامل في انقلاب سياسي، فلما شاركهم
طلاب الأزهر بمصر في ذلك اتحدت الحكومة مع السلطة الأجنبية على كبح
جماحهم، والحجر عليهم وحدهم، ووافقتها مشيخة الأزهر على ذلك لضعف إرادة
رؤسائها، وحرصهم على ما بيد الحكومة من رزقهم، وهذا الحجر مبني على
القاعدة الإفرنجية، المؤسسة لإزالة السلطة والسيادة الإسلامية، وهي (فصل
السياسة من الدين) ، والذي يقتضي أن لا يشترك علماء الدين ولا طلابه في شيء
من أعمال السياسة ولا شؤون الحكومة.
ما كل متعلم في المدارس المدنية متفرنجًا، وما كل متفرنج ملحدًا، وما كل
ملحد خادمًا للإفرنج، أو مشايعًا لهم، بل جُل ما في البلاد الإسلامية من سعي
لاستقلالها، ومقاومة سلطة الأجانب فيها، فهؤلاء المتفرنجون هم جل القائمين به،
وقد بينا في المقالة الثانية من هذ المقالات أن لهؤلاء المتفرنجين مقاصد، ونيات
مختلفة في محاربتهم لهذه الشريعة التي يجهلونها، ويجهلون مكانها من تكوين أمتهم
وحياتها، وأن منهم مَن يعتقد أنه يخدم أمته ووطنه باستبدال القضاء عليها بالقضاء
بها، ونقول الآن: إن إثم هؤلاء وغيرهم ممن يظن بالشريعة ظنهم - وإن لم يكن له
مثل نيتهم - على عاتق الطائفة التي ليس لها رزق ولا مال، ولا احترام ولا جاه،
إلا من وقف حياتهم على الاشتغال بعلوم هذه الشريعة ووسائلها تعليمًا وتصنيفًا،
وإفتاءً وقضاءً، أعني طائفة علماء الدين، الذين صاروا حجة على الدين، وفتنة
للمؤمنين والكافرين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الممتحنة: 5) .
من الواجب على هذه الطائفة - بما أخذ الله عليها من الميثاق - أن تبين
للناس ما نزل إليهم تبيينًا يثبت لهم بالآيات البينات أن فيه سعادتهم في معاشهم
ومعادهم، وأنه كله حق وخير وعدل وصلاح، وأنه خالٍ من كل باطل وشر وظلم
وفساد، وأن أحكامه الدنيوية موافِقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان، وأن
سلطته ليست شخصية، ولا مما يسمونه (الأتوقراطية) ، بل هي حكومة شورى
شعبية، وأكمل مثال لما يسمونه (الديمقراطية) ، وأن ولي الأمر فيها مسئول غير
مقدس، ومقيد بمشاورة أهل الحل والعقد، الممثلين لسلطة الشعب، وأن تسهل
سبيل فهمه وتعلُّمه لكل طبقات الأمة، بما يليق بها من المصنفات بالطرق المعروفة
في فن التعليم والتربية، بأن يوضع بعضها للأطفال، وبعضها للعوام لمَن فوقهم من
طلاب العلم، وبعضها للقضاة والمتقاضين.
وكان مما ينبغي للأخصائيين منهم بهذا النوع الأخير - أن يطَّلعوا على كتب
القوانين الوضعية بأنواعها، ويعرفوا ما فيها من حَسن وقبيح، وعدل وظلم؛
ليزدادوا بصيرة في محاسن شريعتهم وطرق خدمتها، وينظروا ما في كتبها الفقهية
المتداولة من تقصير أو تعقيد أو نقص سببه ما حدث للناس من المعاملات التي لم
تكن في عهد مصنفيها، فيتداركوا ذلك كله، ويثبتوا لكل ناظر - فيما يضعونه من
الكتب الحديثة - أن هذا الشريعة كاملة لا يمكن لأهلها الاستغناء بها عن سواها،
مع العمل بما ورد من أن (الحكمة ضالة المؤمن؛ فحيث وجدها فهو أحق بها) .
كما ينبغي للأخصائيين في علم العقائد أن يكون لهم إلمام كافٍ بالعلوم
العصرية والفلسفة الحديثة، وأصول الأديان المشهورة، وتواريخ الملل الكبيرة؛
ليعرفوا نسبتها إلى الإسلام، وما بينها وبينه من المشاركات والمباينات، وما في
ذلك من الشبهات، وللأخصائيين في علم الإرشاد العام والتربية أن يكون لهم إلمام
بسيرة الجمعيات الدينية عند الإفرنج، ومقلديهم من نصارى الشرق في مدارسهم
ومصنفاتهم، وسيرة قسوسهم ورهبانهم وراهباتهم؛ ليعلموا كيف يحوطون كل طبقة
من طبقات أهل ملتهم بما يليق بها من تلقين الدين، والترغيب فيه، والدفاع عنه،
وغير ذلك.
وكان مما يجب عليهم أن يكونوا خير قدوة للأمة، وحجة للملة، بعلومهم
وهَدْيهم، وإفتائهم وقضائهم، وأخلاقهم وآدابهم، وإحياء السنن، ومحاربة البدع،
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتتبُّع شبهات الملاحدة والمبتدعة والرد
عليها، ووقاية العامة من شرها ... إلخ.
كل ذلك لم يكن، بل جُل حظهم من العلم أن طالب العلم - في مثل الأزهر
وملحقاته بمصر، والفاتح والسليمانية بالآستانة، وجامع الزيتونة بتونس،
والنجف بالعراق، وديوبند بالهند - يناطح كتبًا معينة بضع عشرة سنة أو أكثر:
مناقشة في مفرداتها وجملها، وأساليبها الركيكة في الأكثر؛ ليؤهل نفسه بذلك
لامتحانٍ يكون بفوزه فيه إمامًا أو خطيبًا في مسجد، أو مدرسًا في هذه المعاهد
الدينية، أو قاضيًا في المحاكم الشرعية، فيكون له بذلك رزق مضمون، ومقام
معلوم، وهو لا يستفيد من هذه الكتب - التي يقتلها مناقشةً وجدلاً في ألفاظها -
غيرة على الدين، ولا اهتمامًا بأمر المسلمين، ولا استعدادًا لنشْره في العوام، ولا
لرفْع شأنه في الخواص؛ وذلك بأنهم - كما قال الأستاذ الإمام -: (يتعلمون كتبًا
لا علمًا) ! .
نعم، إن بين هذه المدارس وأهلها تفاوتًا في العلم والعمل، والاستفادة من علم
الشرع؛ فعلماء (ديوبند) أبعد علماء المسلمين عن الدنيا ومناصب الحكومة،
ولعلماء النجف من الجاه فوق ما لغيرهم من أمثالهم، وعلماء الترك لا يزال لهم
مقام رفيع، وتأثير في الحكومة والأمة، وإنما علماء مصر هم أقل علماء الإسلام
حظًّا في الدنيا على رغبتهم فيها؛ إذ هم - فيما نعلم - أشدهم تقصيرًا!
احتاجت الحكومة المصرية إلى تعليم العربية في مدارسها، فأنشأت مدرسة
دار العلوم لتخريج أساتذة لها؛ إذ لم تجد في الأزهر غناءً، ثم لما ضجَّت الأمة من
فساد المحاكم الشرعية، واضطرت إلى إصلاحها لم تجد بُدًّا من إنشاء مدرسة
خاصة للقضاء الشرعي؛ لأن الأزهر قد عجز عن تخريج قضاة ترضاهم الحكومة
والأمة!
وكل مَن له من هذه الطائفة مزيَّة مما تجب لأهلها فإنما سببها استعداد خاص
فيه، وتوفيق اتفاقي أُتيح له، لا طريقة التعليم المطَّردة، كالأستاذ الإمام الذي
عرف قيمة علمه وعقله وفضله الغربُ والشرقُ، والإنس والجن، وجهله أكثر
علماء الأزهر، الذين قضى أفضل سِنِي عمره في الجهاد لإصلاح حالهم، وجعْلهم
أئمة لهذه الأمة، التي اعترفت له كلها بالإمامة، وساعده المنار في جهاده هذا،
فقاومه كبراء الشيوخ بكل ما أُوتوه من حول وقوة، ومن بقية المكانة الرسمية لدى
الأمراء والحكام، والوهمية أو الخيالية عند العوام!
لقد مات الأستاذ الإمام، فأنشأوا يعرفون من فضله - بالتدريج - أكثر مما
كانوا يعرفون، ويقرُّون بما كانوا يجحدون، وهم مع هذا لا يزالون لإصلاحه
يقاومون، فقد كان من طريقه الإصلاحي أن يذكر في التفسير بعض التأويل لما
يشتبه على أهل العصر من الآيات، التي يظنون أنها لا تتفق مع بعض العلوم أو
المكتشفات، مع تقريره لترجيح ما كان عليه السلف الصالح على كل ما خالفه،
وكان مما ذكر من دفع بعض الشبهات مسألة خلق البشر من نفس واحدة، فذكر أنه
ليس في القرآن نص قطعي أصولي على أن هذه النفس هي آدم، كما نعتقد نحن
وأهل الكتاب، وقد تصدى بعض علماء الأزهر - أيهم يقال عنه إنهم أعرف بحاجة
العصر من غيرهم - إلى تكفيرنا من عهد قريب؛ لأننا نشرنا رد هذه الشبهة في
المنار، وكتب في ذلك مقالات في بعض الجرائد، ومن العجيب أن يرشح صاحب
هذا التكفير بعض تلاميذه لأن يكون خليفة الأستاذ الإمام! ! ، وقد اطَّلعت في هذه
الأيام على كتاب طُبع بمصر لشيخ مغربي يوزَّع بغير ثمن، وموضوعه تجهيل
الأستاذ الإمام وصاحب المنار، وتكفيرهما بمقاومتهما للبدع، وترغيبهما في علوم
الكفار كالفلك وتقويم البلدان ... إلخ!
كل ذلك لم يكن، وكل هذا قد كان، فكان من جرَّائه أن بقيت حقائق الدين
مجهولة، ومحاسن الشريعة مدفونة، وطرق العلم بها حالكة الظلام، مشتبهة
الأعلام، والبدع في ازدياد، تمهد السبيل لفشوِّ الإلحاد؛ فإن هؤلاء المتفرنجين -
الذين نشكو من محاربتهم للشريعة كالإفرنج - لا يعرف أكثرهم من الإسلام إلا أنه
ما عليه جمهور المسلمين من الشعائر والعقائد، والأذكار والموالد، الممزوجة بالبدع
والخرافات، والتقاليد الباطلة والعادات؛ فإنهم يرون كبراء العلماء يتصدَّرون
تلك الاحتفالات، ويشاهدون طواف الألوف من النساء والرجال بالقبور المشيدة
المنسوبة إلى آل البيت والأولياء المجلَّلة بالكشمير، كطواف الحجاج ببيت الله
خاشعين داعين مستغيثين بصاحب القبر.
بل كثيرًا ما يقف هؤلاء المتفرنجون على وقائع اضطهاد بعض هؤلاء العلماء
الأعلام لكل عالمٍ أو طالبِ علمٍ ينكر هذه البدع، ويجاهر بالدعوة إلى اتباع السلف
كاضطهادهم للشيخ محمد الرمال الدمياطي، وإخراجه من دمياط، وللشيخ مصطفى
الشريف في طنطا، ونقله من المسجد الأحمدي إلى معهد أسيوط، وللشيخ محمد
عبد الظاهر في الإسكندرية، وقد حرضوا العامة عليه هذه الأيام، فضربوه ضربًا
مبرِّحًا، ولكنهم إذا لقوا مَن يعتقدون فسوقهم ومروقهم من الدين - من رجال
الحكومة أو كبار الأغنياء - يتملَّقون لهم بالتعظيم والمبالغة في الدعاء.
هذا شأنهم في اضطهاد مَن تحت رئاستهم، ولا يملكون أكثر منه، وقد تجرأ
أحد قضاتهم الشرعيين على الحكم برِدَّة الشيخ محمد أبي زيد - أحد تلاميذ مدرسة
دار الدعوة والإرشاد - والتفريق بينه وبين زوجه؛ إذ احتسب أحد علماء الأزهر
بإبلاغ ذلك القاضي أنه قد ارتد عن الإسلام؛ إذ قال: إن الدليل على رسالة آدم
غير قطعي، وهو معارَض بحديث الصحيحين وغيرهما الناطق بأن نوحًا أول
رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ولكن قاضي الاستئناف كان أعلم وأحكم من
هذا القاضي، فنقض حكمه.
وغاية دفاعهم عن الدين أن يطلبوا من الحكومة إبطال بعض الصحف عندما
تنشر شيئًا مخالفًا للدين، أو للمذاهب المشهورة فيه، وقد بلغنا أنهم طلبوا منها
أخيرًا أن تأمر بمنع مجلة (القضاء الشرعي) ، التي أنشأها بعض أساتذة هذه
المدرسة وطلابها النجباء؛ لأنه نُشر فيها بحث في إمضاء عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - الطلاق الثلاث باللفظ الواحد، خلافًا لما جرى عليه العمل في
عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد خلافة أبي بكر رضي الله عنه،
وسنتين من خلافته.
ويعتقد هؤلاء المتفرنجون أنه لو كان لهؤلاء العلماء نفوذ في الحكومة لمنعوا
بقوتها حرية العلم والاعتقاد والعمل في كل ما يخالف معارفهم التقليدية في الدين،
بل لتحكَّموا في حرمان مَن شاؤوا من الدين، وعقابه حتى بالقتل! ، كما كان يفعل
غيرهم من النصارى؛ إذ كان رؤساؤهم في الدين مثلهم في معارفهم.
ما ذكرناه أولاً وآخرًا هو علة العلل لما فشا في المسلمين من الإلحاد في الدين،
والإعراض عن الشريعة، وتفضيل بعض المتفرنجين القوانينَ الوضعيةَ عليها في
مصر والآستانة وكل قطر دخل فيه التعليم الأوربي، وأصر فيه جمهور علماء
المسلمين على جعْل الشرع محصورًا فيما قال مصنفو كتب مخصوصة إنه المعتمد
أو المفتَى به في المذهب، وإن خالف ظواهر القرآن والأحاديث الصحيحة ومصلحة
الأمة والدولة.
ومن هذا الجمود التقليدي أن شيوخ الإسلام في الآستانة يحظرون الفتوى بما
في مجلة (الأحكام العدلية) ؛ لأن بعض موادها مخالف للمعتمد في مذهب الحنفية،
ولقد قلت لشيخ الإسلام موسى كاظم أفندي - بمناسبة حديث بيننا -: إنني مستعد
أن أستخرج لكم من الشريعة الغرَّاء كل ما تمس إليه حاجة العصر في غير الربا
القطعي إذا كنتم تنفذونه، قال: أنا أعلم أن هذا سهل وأتمناه، ولكن ماذا نفعل في
مشايخ الفتوى خانه؟ !
يعلم الله تعالى أننا نود لو يكون علماء الشرع فينا هم قادة هذه الأمة في دينها
ودنياها، إننا لم نلقِ ما ألقيناه - منذ إنشاء المنار - من التبعة عليهم في تقصيرهم
إلا لأجل حفز هممهم لتلافي ذلك التقصير، وأول ما يجب أن يعرفوه من حال
العصر وأهله في هذه السبيل - أن حرية العلم والرأي واستقلال الفكر مقدَّسان عند
جميع المتعلمين في غير المدارس الدينية، وكذا عند بعض المتعلمين فيها،
والأولون هم أولو الأمر والنهي في الحكومتين التركية والمصرية، فإذا لم يقدر
العلماء هذه الحرية والاستقلال قدرهما، ويرجعوا عن إصرارهم على التقليد الأصم
الأبكم الأعمى - فإن هؤلاء يغلبونهم على عامة الأمة، ويتركون ما بقي من صلة
الحكومة بالدين والشريعة، عملاً بقاعدة (فصل الدين عن السياسة) ، بالمعنى
الذي يفهمونه، ويدعو إليه بعضهم اليوم، لا بالمعنى المعروف عند علماء الشرع
في مثل قولهم: يصح كذا قضاءً لا ديانةً، أو ديانةً لا قضاءً.
ويُعلم من قول شيخ الإسلام - الذي ذكرناه آنفًا - أنه يوجد في علماء الترك
أفراد من المستقلين في علم الدين، العارفين بحال العصر، وما ينبغي من الإصلاح
فيه، ويوجد مثلهم في مصر وتونس والهند، ولكنهم مغلوبون على أمرهم، حتى
إن الذي يصل منهم إلى مقام المشيخة الإسلامية في الآستانة، وإلى مقام إفتاء الديار
المصرية في القاهرة - يبقى مغلوبًا على ما يريد من الإصلاح بجمود السواد
الأعظم من هؤلاء المقلِّدة.
فإذا تيسَّر أن يكون لهؤلاء المستقلين من العلماء حزب قوي منظم، وعرفوا
الطريق المستقيم لحفظ الدين والشريعة وسلكوه، فإنهم يجدون من هؤلاء المتفرنجين
أنصارًا، حتى يكون الشاذ منهم قليلاً وضعيفًا، لا تُخشَى عاقبة شذوذه، وسنذكر في
المقال الآتي ما ينبغي الأخْذ به في هذا الطريق، وبالله التوفيق.
__________(23/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة
تلخيص مكتوبات
نائب ملك الإنكليز لأمير مكة
(تابع ص624)
(10) استصوابها - أي الحكومة البريطانية - انتحال الشريف حسين
للخلافة الإسلامية، وإغراؤه بإعلانها، والتصريح بأن ملك الإنكليز نفسه (رحَّب
باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع الدوحة النبوية المباركة) (؟)
(11) الوعد المتعلق بمسألة الصلح - ونصه كما في ص 621 -: (فإن
حكومة بريطانيا العظمى قد فوضت لي أن أبلغ دولتكم أن تكونوا على ثقة من أن
بريطانيا العظمى لا تنوي إبرام أي صلح كان، إلا إذا كان من شروطه الأساسية
حرية الشعوب العربية، وخلاصها من سلطة الألمان والترك) .
هذه جملة العهود والوعود أو المقاولات الابتدائية بين الإنكليز وأمير مكة،
وهي قسمان:
(أحدهما) ما طلبه هو من الحكومة الإنكليزية، وسماه (مقررات النهضة) ،
وهذا كله شر، واستعباد للعرب، وقضاء على حريتهم، ولا يلزم أحدًا من
العرب به شيء؛ لأنه لم يكن موكلاً من أحد منهم بأن يساوم الإنكليز، ويعطيهم
حق الحماية للبلاد العربية، وتأسيس حكومات فيها يتولون إدارتها وحفظها.
(ثانيهما) وعود الإنكليز المطلقة للعرب بما كتبوه له، وقالوا مثله لنا
ولغيرنا، ونشروه على العرب في جريدة عربية سموها (الكوكب) ، كانوا
ينشرونها بطرق النشر العسكرية في جميع الأقطار العربية، وهو أن العرب
سيكونون بانتصار الدولة البريطانية أحرارًا مستقلين في بلادهم، فهذه الوعود حجج
يجب أن نعيّر بها الإنكليز، ونشهرهم بالكذب والخداع والغش، إلى أن يتركوا لنا
استقلال بلادنا كلها.
نعم، إنهم يسمون الحجاز والعراق وشرق الأردن بلادًا مستقلة، ويصدقهم
في ذلك مَن وضعوهم ملوكًا وأمراء فيها؛ لأنهم هم أعوانهم على استعباد الأمة
العربية، كأن الاستقلال عبارة عن تولية هؤلاء الثلاثة هذه المناصب،
فمصر إذًا مستقلة من قبل تصريح 28 نوفمبر، الذي تقرر به الاستقلال الاسمي
لها، حتى في مجلس العموم الإنكليزي، وزنجبار مستقلة؛ لأن فيها سلطانًا
وطنيًّا، ومسقط بالأوْلى، بل في الهند بلاد مستقلة كثيرة كحيدر آباد الدكن،
وبهوبال، وكشمير و ... و ... !
فإلى متى يسخر هؤلاء الساسة الأشرار بالأمم والشعوب؟ ! وإلى متى
يجدون متى يجدون من الخونة في هذه الأمم مَن يساعدهم على ذلك؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(23/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرحلة الأوربية
(6)
السعي للتوفيق بين الشرق والغرب:
كان مما أقصد إليه في رحلتي هذه أن ألتقيَ ببعض أحرار أوربة المستقلِّي
الرأي؛ فأستفيد من آرائهم، وأفيدهم ما أحب أن يعرفوه عن بلاد الشرق عامة،
وبلادنا العربية خاصة، وأن أقترح عليهم السعي لإصلاح ذات بين الشرق والغرب
بالعدل والإنصاف ومبادلة المنافع، وعدول الدول المستعمِرة عن مطامعها، وعن
إصرارها على استعباد الشعوب الشرقية، واغتصاب خيرات بلادها بالقوة
العسكرية القاهرة، وأبيِّن لهم ما تجدَّد بهذه الحرب من يقظة هذه الشعوب وتعارُفها،
وتوجهها إلى التعاون على دفْع عدوان العادين عليها، وما يؤول إليه أمر هذه
الأطماع الاستعمارية من الفتن والحروب، بما تغرسه في قلوب المظلومين
المقهورين من العداء، وما تورثه من الأحقاد، وأن خير الوسائل لتلافي هذه
الشرور أن يُعنَى أحرار أوربة بإقناع رجال الدول المستعمرة، أو إكراههم بقوة
شعوبهم الأدبية ومجالسهم النيابية، على قاعدة حرية الشعوب، وسيادتها القومية،
ومساعدتها على ما تطلبه باختيارها من وسائل تعمير بلادها بالفنون العملية والآلات
الصناعية، في مقابلة الانتفاع منها بما في بلادها من فضل الأغذية ومواد الصناعة
الأوَّلية.
***
آراء أحرار أوربة في تنازع الشرق والغرب:
لقيت أفرادًا من هؤلاء الأحرار في (جنيف) وغيرها، وتحدثت معهم في
هذا المقصد، فألفيتهم يعتقدون أن هذه الحرب لم تزدْ رجال السياسة في الدول
الكبرى إلا رسوخًا في الطمع المردي والدسائس، وتماديًا في إثارة الفتن والشرور،
وضراوة بسفك الدماء، ويعرفون كُنه فساد ساسة هذه الدول، ويتشاءمون بسوء
عاقبتها، ولا يصدقون ما يدَّعيه هؤلاء الأفَّاكون من الطعن في الشرقيين، ولا سيما
المسلمين والرغبة في إصلاح حالهم، ووقاية نصارى الشرق من تعصُّبهم، بل
وقاية أوربة نفسها من سوء تأثير حريتهم واستقلالهم.
ذكرت في الفصل - الذي قبل هذا - أن آخر مَن لقينا من رجال جمعية الأمم
في جنيف رئيسها العام في هذا العام (1921) ، أو في هذا الاجتماع، وذكرت
بعض حديثنا معه، وأذكر هنا أن سكرتيره الخاص (موسيو شولر) - كان قد
تعشَّى، وسهر معنا في الليلة التي قابلنا الرئيس في نهارها (ليلة غرة صفر سنة
1340) ، وقد دار السمر بيننا في الموضوع - الذي بيَّنه آنفًا - فأعجبنا إنصاف
هذا الشاب، واطِّلاعه على كثير من حقائق السياسة الأوربية المتعلقة بالشرق، ولا
سيما الترك، ونذكر مجملاً من كلامه.
قال: كنت أصدق ما كانت تذيعه السياسة في أوربة عن توحُّش الترك
وظلمهم للمسيحيين عامة، والأرمن خاصة، إلى أن أتيح لي أن أذهب إلى الآستانة
وأختبر الحال بنفسي، وحينئذٍ علمت أن أوربة - على عدم تمسُّكها بالدين - هي
المتعصبة على المسلمين، والكاذبة بما بثَّته من الدعوة بأنهم أعداء المسيحيين، فقد
مكثت في الآستانة زمنًا طويلاً، عاشرت فيه المسلمين، ورأيت من حُسن أخلاقهم
وآدابهم - ما وقفت به على درجة التحامل عليهم، وأعترف بأن الحلفاء جعلوا
مسألة الانتداب على البلاد العربية ذريعة إلى ما ذكرتموه من طمعهم في استعمارها،
واستعباد أهلها، وذكر لنا واقعة مما شاهده بنفسه في الآستانة من معاملة مسلمي
الترك للأرمن.
قال: كان في الآستانة لجنة أميريكية تسعى لتحرير الأرمن من رق الترك
بزعمها، وقد بلغها أن أحد الباشوات قد اغتصب فتاة أرمنية، وأكرهها على
الإسلام، فسألوه عنها، فاعترف بأن عنده بنتًا فقيرة يتيمة، آواها، ورباها،
وأحسن معاملتها، وهي تقيم في داره برضاها واختيارها، فطلبوا منه - بكل غلظة
وفظاظة - أن يأتيهم بها، ففعل، فسألوها عن قصتها، فكان كلامها مصدقًا لما قاله
الباشا على أكمل وجه وعلموا منها أنها في سعادة وغبطة في عيشتها الراضية عنده،
وأنها غير مُكرَهة على شيءٍ، ولا كارهة لشيء، ولا ممنوعة من الذهاب إلى
حيث تشاء، فسألوها عن إكراهه إياها على الإسلام، فقالت: إنه لم يدْعُها أحد إلى
الإسلام، لا بالإكراه ولا بالاختيار، ولكنها ألِفتْ الإسلام من تلقاء نفسها، وصارت
تذهب مع سيدات الدار (الهوانم) أحيانًا إلى المسجد إذا ذهبن إليه، فلا يمنعْنها إذا
ذهبت، ولا يسألنها الذهاب إذا قعدت! ، فطلبوا منها أن تترك بيت الباشا،
وتتبعهم؛ لأنه يجب أن تعود إلى دينها، وتتزوج برجل من أبناء جنسها، فامتنعت،
فأكرهوها، وأخذوها، فوضعوها في مشغل كانوا يضعون فيه أمثالها لأجل
تحصيل رزقهن بعملهن، فكانت كارهة لنقلها عن نعيم مقيم إلى بؤس أليم.
وبعد أيام قليلة من تركها للدار جاء المكان الذي كانت فيه سيدة أو سيدتان من
حرم الباشا - ومعهما عبد من الأغوات - يحمل بُقجًا من الحرير المزركش، فيها
حُلَل من الثياب النفيسة، وعُلب فيها حُلي من الذهب والجواهر، وقدمها للبنت
الأرمنية، وقالت سيدته للبنت - ولمَن حولها - إن هذه الحلي والحلل هي التي
كانت هي وبناتها يتبرعن بها للفتاة في الأعياد والمواسم، ويحفظْنها لها؛ لأجل
تجهيزها بها عند زواجها، فهي قد صارت ملكها، ولا تطيب أنفسهن لحرمانها منها!!
فهذا مثال الاسترقاق والظلم الذي كان يسومه باشاوات الترك وحَرَمهم
للأرمنيات، وأما الأرمن - الذي خدعهم الإنكليز والروس بالخروج على دولتهم
بالسلاح والكيد لها، والتحيز إلى أعدائها وقت الحرب - فلا يُعقل أن يغفر لهم
الترك ذلك.
وكان رئيس مؤتمرنا قد دعا مدير جريدة (تريبون دي جنيف) ، وسكرتيريه
إلى العشاء مع أعضاء المؤتمر في الفندق، فأجابوا الدعوة، وقد رغب إليَّ سكرتير
قلم التحرير (موسيو ماتيل) أن أجلس بجنبه على المائدة؛ لأجل الحديث معه،
فأجبت مرتاحًا، ودار بيننا حديث طويل أتممناه في سمرنا بعد العشاء.
بدأت الحديث بأن بيَّنت له خلاصة علاقة الشرق بالغرب، وما يود اقتباسه
من علومه وفنونه، وما يكره من أفكاره وشؤونه، وما ينكر من مدنيته المادية،
ومطامعه الاستعمارية، التي كان التنازع عليها موقدًا لنار الحرب الأخيرة، وينتظر
أن يوقد نار حرب أخرى شر منها، إلا أن يتلافى عقلاء أوربة الأحرار هذا الخطر
بمقاومة هذه السياسة، وإرجاع الدول المستعمرة عن التمادي في هذه المطامع،
وإقناعها بالاستفادة من بلادنا، وإفادتها، مع ترْك أمر الحكم فيها لأهلها.
قال: إن مدنيتكم مدنية آداب وفضائل، فحافظوا عليها، فهي خير لكم من
مدنية الغرب المادية الفاسدة التي هي - كما ترى - مظاهر رياء وزينة وشهوات.
قلت: إننا راضون بآدابنا وفضائلنا، ولا نريد أن نستبدل بها غيرها، ولا
سيما هذه الآداب والتقاليد والعادات المبنية على الأفكار المادية، والشهوات النفسية،
التي تبيح السُّكْر والزنا والقِمَار، وسلب الأقوياء لحقوق الضعفاء، وإنما نريد أن
نقتبس بعض الفنون والصناعات المساعدة على العمران.
قال: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا أممًا صناعية مثلنا؛ فإن الشرق غير
مستعد لذلك كالغرب، ثم إن هذه الصناعات من مفسدات الأخلاق أيضًا، فإذا أنشئ
في الشرق معامل كمعامل أوربة فإنه يدخل فيها النظام المالي الأوربي، والأحوال
الاجتماعية الغربية المبنية على الطمع والنهب والمزاحمة وسائر المفاسد، أي
كمسألة العمال، واختلاط النساء والرجال، ومفاسدهما كثيرة معلومة.
قلت - وقد ظننت أنه مخادع؛ لأنه سياسي -: إن الشرق قد سبق الغرب
إلى الصناعات العظيمة الباقية آثارها مِن ألوف السنين في مصر وغيرها، بل
جميع أصناف البشر مستعدون لكل علم وصناعة، والشعوب التي سبقت لها مدنية
صناعية يكون استعدادها أقوى بسبب تأثير الوراثة، وهذه أمة اليابان شرقية،
وهي من الجنس الأصفر الذي كان يظن أنه أقل استعدادًا من الأبيض الذي نحن منه
مثلكم، وقد ساوت أوربة في كل علم وصناعة.
قال: إنني أعني بأنكم لا تستطيعون أن تكونوا أممًا صناعية لعدم الداعية لا
لضعف في الاستعداد الفطري، والداعية هي الحاجة التي تولِّدها كثرة السكان،
وعدم كفاية الأرض لمعيشتهم، والشرقيون الأقدمون الذين ترقوا في الصناعة
كالمصريين والأشوريين كانوا ممن ضاقت بهم بلادهم.
قلت - وأنا أريد اختصار البحث الاجتماعي، والانتقال إلى البحث السياسي-:
إننا لا نحاول الآن أن نشيد معامل تُغنينا عن كل صناعات أوربة، وأميريكة؛
فإن لهذه موانع اقتصادية عندنا تحُول دون ربحنا منها، وفوزنا على مصنوعات
الغرب التي تزاحمنا فيها، وإنما نحن محتاجون أشد الاحتياج إلى بعض الفنون
والصناعات الضرورية لترقية زراعتنا واستغلال أرضنا فبها يتضاعف ريعها،
ونحن أعرف بما نحتاجه، وما نحن مضطرون إليه منها، وإنما نريد أن نستفيد من
أمثالكم الأحرار ما يجب السعي إليه منا ومنكم في علاقة بلادنا ببلادكم؛ فإن
حكوماتكم الاستعمارية لا تتركنا أحرارًا في شؤون حياتنا، حتى نختار لأنفسنا ما
نحافظ به على مدنيتنا، ونقتبس ما نشاء من شعوبها، وندَع ما نشاء، وقد كنا
جاهلين بكُنه مطامعها وخفايا سياستها فعرفنا، ونائمين فاستيقظنا.
إنني مغتبط بك؛ لأنني رأيتك على رأينا في المدنية المادية ومفاسدها،
والظاهر أن أصحاب هذا الرأي في أوربة قليلون، وهو رأي شيخ فلاسفتها
هربرت سبنسر، فقد حدثنا عنه أستاذنا الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده المصري
الشهير، أنه لما زاره في آخر سياحة له في أوربة (وكان ذلك في مصطافه بمدينة
بريتن في 10 أغسطس سنة 1903) ، سأل الفيلسوف الإمام: هل زرت إنكلترة
قبل هذه المرة؟ قال: نعم زرتها منذ 19 سنة عقب الاحتلال البريطاني لأمور
تتعلق بالاحتلال ومالية مصر ومسألة السودان، قال: هل رأيت في هذه المرة
تغيُّرًا في الأفكار؟ وما ترى من الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين
سنة؟ قال: لم ألاقِ كثيرًا من الناس هذه المرة؛ لأنني حديث عهد، ومثل هذا
التغير يؤخذ العلم به عنكم، قال الفيلسوف: (الحق عند أوربة للقوة) .
الإمام: هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملتهم على تقليد
الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعه.
الفيلسوف: مُحي الحق من عقول أهل أوربة، واستحوذت عليها الأفكار
المادية، فذهبت بالفضيلة، وهذه الأفكار المادية ظهرت في اللاتين أولاً، فأفسدت
الأخلاق، وأضعفت الفضيلة، ثم سَرَتْ عَدْواها منهم إلى الإنكليز، فهم الآن
يرجعون القهقرى بذلك، وسترى هذه الأمم يختبط بعضها ببعض، وتنتهي إلى
حرب طامة؛ ليتبين أيها الأقوى، فيكون سلطان العالم.
الإمام: إني آمُل أن يحُول دون ذلك همم الفلاسفة واجتهادهم في تقرير مبادئ
الحق والعدل ونصر الفضيلة.
الفيلسوف: وأما أنا فليس عندي مثل هذا الأمل فإن هذا التيار المادي لا بد أن
يبلغ مده غاية حده.
(موسيو راسيل) : إنني أنا أعتقد مثل هذا الاعتقاد، ولست كالفيلسوف
سبنسر، وكثير من العقلاء يعتقدونه، وهو لا يحتاج إلى كل علم سبنسر وفلسفته؛
فإن الترف واتباع الشهوات - الذي هو أثر طبيعي للثروة وسعة الحضارة - هو
أهلك الأمم السابقة، وأزال حضارتها في الشرق والغرب كأممكم العربية والمصرية،
وأممنا اليونانية والرومانية، وهو الذي لا بد أن يقضي على مدنيتنا الحاضرة؛
فإن سُنَّة الاجتماع في كل الأمم واحدة لا تتغير.
قلت: نحن نعتقد هذا مَن يعرف منا علم الاجتماع، ومَن لا يعرفه؛ لأنه
منصوص في القرآن في آيات، منها قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) ، وفي
آيات أخرى أن لله سُننًا في الأمم، كقوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) ، وأن هذه السنن لا تبديل لها ولا
تحويل، ولكن الأمم الأوربية تعلم من هذه السنن ما لم يكن يعلمه من قبلها، حتى المسلمون الذين أرشدهم كتابهم إليها، وشرع بعض حكمائهم في جعْلها علمًا مدوَّنًا،
كابن خلدون الفيلسوف العربي المشهور، ولكنهم ظلوا مقصرين في ذلك، حتى
وسع نطاق هذا العلم مثل الفيلسوف سبنسر وغيره، فهم - بإرشاد هذا العلم -
يجتهدون في اتِّقاء الهلاك اجتهادًا، ربما يكون سببًا في تأخيره، فنحن في هذه
الفرصة يجب أن نتقي شر اعتدائهم علينا؛ ليطول أمد السلام فيكم وفينا.
قال: إن التأخير ليس بمُسْتطاع، وقد حكيت عن الفيلسوف سبنسر أنه
كان يائسًا من تلافي مفاسد الأفكار المادية، ونصر الحق والفضيلة عليها، وأنا
أخبرك بأنه يوجد كثير من عقلاء أوربة يعتقدون أن خرابها سيكون قريبًا، وأنه
ربما يكون هذا الجيل آخر جيل فيها، وحجتهم عليها هذه الحرب الأخيرة.
قلت: ألا ترى أن من الممكن التوسُّل بأمثال هؤلاء العقلاء إلى بثّ الدعوة
في الشعوب الأوربية بإلزام حكوماتها ترْك العدوان على حريتنا واستقلالنا، اكتفاءً
بمبادلة المنافع بينهم وبيننا، وتلافيًا لما تولِّده المطامع في بلادنا من التنازع بين
الدول الطامعة فيها، الذي يفضي إلى الحرب الآتية، وهي التي إذا وقعت ستكون
القاضية.
قال: لا إمكان؛ فهؤلاء السياسيون لا يحولهم عما تربوا، ومرنوا عليه من
المطامع والدسائس إلا القوة القاهرة.
قلت: وبِمَ تنصح لنا إذن؟
قال: اجمعوا كلمتكم، وحافظوا على دينكم، وآدابكم وفضائلكم، واستعدوا
للاستفادة من الحرب الآتية، فإذا كانت شعوبكم تتبع رأي الزعماء العقلاء مثلكم
فإنكم تستفيدون من فرصة الحرب الآتية ما فاتكم مثله في الحرب الماضية، وإلا
فلستم الآن بأهل للاستقلال ولا للحرية، بل تحتاجون إلى تربية طويلة.
هذا ملخَّص حديثنا السياسي على المائدة وفي السمر بعدها، بل كان من
حريته التامة أن صرح بما لا يجوز لي أن أنقله عنه إلا بإذنه، وهو يعتقد أن
ساسة الغرب يكذبون فيما يرموننا به من العيوب؛ ليحتجُّوا به على إقناع مجالسهم،
وأحرار شعوبهم بالاعتداء علينا، ومن مجاملته الأدبية لي قوله: إنني أعتقد بتناسُخ
الأرواح، وقد رأيت روحي قريبة من روحك، ولكنها لم تبلغ درجتها في الارتقاء،
وإنني أرجو أن تدركها بعد موت وحياة أخرى، فنلتقي في الحياة الثالثة تلاقي
الاتحاد والمساواة، فأجبته بمجاملة تليق بالمقام، وأثنيت على ما أفادنا، وما نصح
به لنا، مغتبطًا باتفاقنا في الأفكار والآراء.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(23/635)
ربيع الأول - 1341هـ
نوفمبر - 1922م(23/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم استعمال
الإسبرتو - الكحول
أفتى بعض فقهاء الهند بتحريم استعمال الكحول في الأصباغ، والأدهان،
والعطور، ولا سيما تزيين المساجد بالأصباغ التي يدخل فيها، وعللوا ذلك بكَوْنه
خمرًا نجسة، وقد أرسل إلينا بعض فضلاء المسلمين هنالك نص الفتوى في ذلك،
وسألونا هل هي صواب أو خطأ، وأن نبين ذلك بما عندنا من الدلائل في أقرب
وقتٍ؛ لأن الناس مضطربون فيه، وقد اكتفينا بتلخيص سؤالهم، ونذكر بعده ما
أُرسل من ترجمة الفتوى بالعربية على ضعفها وغلطها، ونقّفي عليها بالجواب،
ومن الله تعالى نستمد الصواب، ونسأله أن يؤتينا الحكمة وفصل الخطاب.
***
نص الفتوى الهندية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله سبحانه وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فهذه صورة ما أجبنا به عن الأسئلة الواردة علينا من أمر المسجد والشراب -
بتوفيقه تعالى، وهو يهدي للحق والصواب.
(سؤال) : هل يجوز استعمال الإسبريت (الإسبيرتو يعني روح الخمر)
على أبواب المسجد والحيطان، مخلوطًا ببعض الألوان والأدهان؟
(الجواب) : لا يجوز أبدًا؛ لأن الخمر حرام ونجاسة مغلظة وملعون (؟)
في الشريعة الإسلامية.
(س) : بعض الناس يقول إنه كما يجوز استعمال الخمر في معالجة
المرضى - يجوز في هذا أيضًا؟
(ج) : لا يجوز أبدًا؛ لأنه حرام ونجس، إلا إذا بلغ المريض حد اليأس،
ولم يوجد له دواء غير الخمر، ورأى طبيب حاذق مسلم أنها تنفعه، فحينئذٍ يسوغ
بعض العلماء استعماله بقدر الضرورة، فإن سلم فشتَّان بين المريض المعذور
والمسجد المعمور.
(س) : هل الخمر نجس، وحرام استعمالها بعد خلطها مع بعض الأشياء
وذهاب رائحتها أيضًا؟
(ج) : نعم، ولو خُلطت ببعض العطريات، فإنها نجس وحرام.
(س) : يظنون أن الإسبيرتو ليس بخمر؟ !
(ج) : هذا ظن فاسد منهم، والحق أنه خمر حاد مسكر جدًّا على التحقيق،
وأنه أخبث من البول، وأما تبديل اسمها، وتغيير رائحتها، وتقليل جرمها فلا
يُجدي نفعًا، وقد ورد الخبر عن النبي الصادق الأبرّ ذمّ مستحلِّي الخمر بتبديل
اسمها.
(س) : ماذا عليهم إذا استعملوا الإسبيرتو على جدران المسجد وأخشابه
دون موضع الصلاة؟
(ج) : لا يجوز لهم هذا حتى على خارج جدار المسجد حتى تقذيره بطاهر
أيضًا؛ لأن الشريعة الغراء أكدت في تطهير المساجد وتعظيمها تأكيدًا بليغًا.
(س) : إن الإسبيرتو ضروري لهذه الألوان والأدهان؟
(ج) : لا هو ضروري للألوان، ولا هي ضرورية للمساجد، ودعوى
عموم البلوى فيه ضلال ومكابرة وجدال من كل معاند.
(س) : إذًا تُستحقَر مساجدنا في مقابلة معابد الكفار؟
(ج) : إن العزة الحقيقية أن نكون مؤمنين صادقين، ونصلي الخمس
مجتمعين خاشعين، لا في زخرفة المساجد وتشييدها للمُباهاة ومقابلة معابد الأديان،
بل كرهها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المروية عنه، فاعلم.
(س) : لا بد من تحرير هذه الأسئلة والأجوبة؛ ليستهدي بها المؤمنون،
وليبلغها الغائبين الحاضرون.
(ج) : يا أسفا على جهلنا وضلالنا هذا، حتى إنا احتجنا إلى بيان حرمة
الخمر ونجاستها، وتحرير أدلتها، وهي بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة
رجس من عمل الشيطان، مشهور متواتر من عهد الصحابة عليهم الرضوان، فإذا
يكون الحال على هذا المنوال من عدم التمييز بين الحرام والحلال، وترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فوالله ما ندري كم من إخواننا الجاهلين وقعوا
في مهاوي الضلال والسعير، وارتكاب المعاصي والبدع وأنواع الفواحش
والمنكرات، فواويلاه، ثم واويلاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا، وهذه خلاصة النصوص من الكتاب والسنة الصريحة، وأقوال علماء
المذاهب الأربعة الصحيحة، فتمسكوا بها، وتذكَّروا، وبلِّغوها، واشكروا، وليعلم
أن تعلُّم الحلال والحرام، وسائر فرائض الإسلام، والإذعان بها، والتسليم لها -
فرض على المكلفين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - أي عن الشرك
والبدعة والكفر والمعصية - من خصائص المؤمنين؛ ولهذا أرسل الله تعالى رسوله
الأعظم، سيدنا محمدًا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - بالكتاب والحكمة، فبلَّغ
الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الغمة، وجلا الظُّلمة، وجاهد في
الله، وعبَده حتى أتاه اليقين، وقد أمر الأمة بحفظ تلك الأمانة - أي الكتاب والسنة
- وأدائها إلى مَن يستحقها إلى يوم الدين، وليعلم أن إنكار فرض من فرائض
الإسلام، أو حكم ضروري من الأحكام - كفر وعدوان، وأن الإصرار على خلافها
معصية كبيرة مستلزمة للكفر واللعنة والخسران.
أما الآيات:
(1) {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} (البقرة: 125)
الآية.
(2) {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36)
الآية.
(3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ
مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90) .
وأما الأحاديث:
(1) (أمر ببناء المساجد، وأن تنظَّف وتطيَّب) رواه الترمذي وأبو داود.
(2) (مَن أكل هذه الشجرة المنتنة فلا يقربنَّ مسجدنا) رواه الشيخان.
(3) (لعن الله الخمر وشاربها وساقيَها وصانعها وبائعها وشاربها) الحديث
رواه أبو داود.
(4) سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر يُجعل في الدواء،
فقال: (إنها داء، ليست بدواء) .
(5) (إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) رواه أبو داود
والترمذي.
(6) (لا تداووا بالمحرَّم) أبو داود.
(فائدة) :
إذا تحقق أنه - صلى الله عليه وسلم - منعنا عن التداوي بالمحرم، وأخبر
أن الله لم يجعل شفاءنا فيه، وأن الخمر داء، ليست بدواء، وهو ما ينطق عن
الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وقال تعالى - فيه صلى الله عليه وسلم -:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) فهل يجوز لمسلم
بعد ذلك أن يعتقد شفاءً في الخمر، وهو من المؤمنين؟ ! ، لا والله، لا يجوز له
ذلك، كيف وفيه تكذيب للنبي الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله
وصحبه إلى يوم الدين.
وأما الفقه (فقد) أجمعت الأئمة والأمة على أن الخمر نجاسة مغلظة، وحرام
قطعي، قليلها وكثيرها، ولا يجوز استعمالها، والانتفاع بها كيف ما كان، وهذا
هو المذهب المفتَى به للعلماء الحنفية عليهم الرحمة والرضوان، وفي هذا القدر
كفاية، والله يعصمنا من الغباوة والغواية، وله الحمد في البداية والنهاية.
في 16 ذي القعدة سنة 1340
... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره عبده المذنب
... ... ... ... ... ... ... ... أبو عتيق محمد شفيق ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... نزيل بمبي غُفر له
تحقيق القول
قال الدكتور الحكيم غلام جيلاني شمس الأطباء في كتابه المعتبر المشهور
المسمى بمخزن الحكمة - وقد وثقه، وصدَّقه جمهور الدكاتير، والأطباء المشاهير
في الهند -:
(الخمر - باعتبار استخراجها - على ثلاثة أنواع: أولها (بير) ، وركنه
الأكبر الشعير وغيره، والثاني (واين) وركنه الأعلى العنب وغيره، والثالث
(سبريت) أي إسبيرتو، وهو يتخذ من الشرابين المذكورين بعمل التصعيد
والتقطير، وهو أكثر حدة وقوة لزيادة (الكُحُل) ، وهو الجزء المسكر فيه)
اهـ من صحيفة 146.
وقال: مقدر الكحل - وهو الجزء الفعال في الخمور - بالنسبة المئوية هكذا:
2-4 في المائة في البيرا، و11 في المائة في الشمبانية، و23 في المائة في بوت،
و53 في المائة في البراندي، و54 في المائة في الوسكي والروم، و86 في
المائة في السبيرتو اهـ من صحيفة 149، وذلك في الطبعة الثانية من الكتاب
المذكور، فالذين يقولون: عن الإسبرتو ليس بخمر مشروبة بل دواء أكَّال أو سُمٍّ
قتَّال - ضالون مضلون؛ لأنه معلوم أن الإسبرتو يُخلط لإكثار الإسكار ببعض
الخمور الخفيفة أو الأشربة العادية، ويُجعل في كثير من الأدوية الأورباوية؛
فتصير الأدوية رجسًا من عمل الشيطان، نعم، شُرْبه صرفًا يضر بالإنسان لحدَّته،
وشدة إسكاره، ولو فرضنا أنه لا يُشرب، أو أنه دواء أكَّال - فهو ما لم تتغيَّر
حقيقته بصَيْرورته خَلاً رجس على كل حال.
الجواب صحيح ... أبو عتيق محمد شفيق - المدعو بشفيق الرحمن
... ... ... ... ... ... ... كتبه أحقر العباد
... ... ... ... ... ... ... محمد عبد المنعم
... ... ... ... ... ... ... ... بأعكظه
... ... ... ... ... ... خطيب مسجد الجامع ببمبي
لقد أجاد مَن أفاد خادم العلماء محمد عبد الغفور المدرس الأول في المدرسة
الهاشمية ببمبي.
***
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمَن وفق أُولِي الدراية للحكم والعمل بمقتضى الرواية، وصلاةً وسلامًا
يتوَّجان بتاج القبول، على سيدنا محمد الحبيب المقبول، وبعد:
فقد سخَّر الله برحمته حضرة النبيل الشيخ شفيق الرحمن - عامله الله معاملة
ذوي الإحسان - لتحقيق حقيقة (الإسبرتو) لما سأله بعض الإخوان، عن استعمال
ذلك في الحيطان، وتعيَّن أنه روح الخمر بعد الاطِّلاع على كتاب (مخزن الحكمة)
المترجم من الإنكليزي إلى (الأردو) لأحد الدكاتر المسلمين المحققين، وحيث إن
الفتوى على قول الإمام محمد - رحمه الله تعالى - في النجاسة وحرمة التناول،
واتفاق الأئمة الثلاثة - لزم تجنُّبه وبُعْده، ولا سيما من المساجد التي أذن الله أن
تُرفع، ويُذكَر فيها اسمه، فجزاه الله عن مناضلته عن الدين، ورزقنا والمسلمين
حُسن اليقين، ولقد أصاب فيما أجاب، والعهدة على المترجم، وبالله التوفيق.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره الفقير
... ... ... ... ... ... ... أحمد يوسف الفارسي المدني
... ... ... ... ... ... ... خطيب مسجد إسماعيل حبيب
ما كتب المجيب في الجواب فهو الحق وعين الصواب
... ... ... ... ... ... الراقم قاضي غلام أحمد تليائي
... ... ... ... ... المدرس الأول في المدرسة المحمدية بمبي
***
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده:
قد تأملت في هذه الفتوى فوجدتها مُحكَمة المباني، مُتقَنة المعاني، قضاياها
موافقة لما عليه المُعَوَّل، من نصوص القرآن والحديث التي عليها العمل، كيف لا،
ومحرر هذا الشيخ الفاضل المولوي شفيق الرحمن، سلمه الله المنَّان، فوالله
دعوت لمحررها بحسن المثوبة، ودوام التوفيق، وما أجاب هذا الفاضل بتعيين
المصير إليه، وغيره لا يُعوَّل عليه، والله أعلم.
... ... ... ... ... ... أبو السعود محمد سعد الله المكي ...
... ... ... ... ... الخطيب والإمام في ممسجد زكريا بمبي
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مُجيب الدعوات، والصلاة والسلام على سيد السادات، وعلى آله
الغُرّ المحجَّلين، وصحبه والتابعين، وبعد:
فيقول العبد البائس: إني اطَّلعت على هذه الفتوى - وفي الأصل هذا السؤال-
فوجدتها مشحونة بالأدلة الواضحة، والنقول المعتمدة في الدين، وضوحًا لا غبار
عليه، فيجب - والحالة هذه - على كل مَن اطَّلع على هذه الأدلة العمل بمقتضاها.
وفقني الله - وإياكم - لما فيه صلاح الأولى والأخرى.
... ... ... ... ... ... ... ... البائس
سليمان عبد العزيز ميرداد
الجواب صحيح والله الموفق، أحقر العباد
محمد فضل كريم الدهلوي ... الخطيب الإمام في مسجد رنكاري محله
... ... ... ... ... ... الخطيب الإمام بمسجد المنار في بمبئ
الجواب صحيح
محمد شرف الدين ... ... ... مهتمم اليتيم خانة الإسلامية بمبئ
... ... ... ... ... ... (مدير دار الأيتام الإسلامية)
الجواب صحيح
عبد السميع ... ... ... مدرس اليتيم خانة الإسلامية بمبئ
***
جواب المنار
الحمد لمُلهِم الصواب قد جاء في محكم القرآن أن الخمر رجس من عمل
الشيطان، من شأنها أن تُوقِعَ العداوة والبغضاء بين الناس، وتصدّهم عن ذكر الله وعن الصلاة، فلا نزاع في هذا، ولا في كونها محرمة في كتاب الله وسُنة رسوله
تحريمًا باتًّا، لا هوادة فيه، وقد بيَّنَّا من مضار الخمر، ومفاسدها في تفسير الآيات
الواردة فيها - ما لا يوجد أقله في تفسير آخر، ولا في كتاب فقهي، ولا خلاف
في وجوب صيانة المساجد عن النجاسات والأقذار أيضًا.
وأما مسألة كون السبيرتو أو الكحول خمرًا وكون كل ما وُجد أو دخل فيه
أحدهما نجسًا نجاسة حسية يجب تطهير ما يصيبه منها، وإن كان عطرًا - فهي
مسألة اجتهادية، ليس فيها نص قطعي، ولا راجح في الكتاب ولا السنة، ولا هي
من المسائل الإجماعية كما ادعى أخونا الفاضل مولوي محمد شفيق، ومَن أجاز
فتواه من علماء الهند الكرام، كما يعلم مما نبينه في المسائل الآتية، وإن سبق بيانه
في المنار من قبل.
وإننا قبل تحقيق الحق في هذا المقام نذكِّر أولئك العلماء الكرام - الذين
نخالفهم في اجتهادهم - بمسائل كثيرًا ما يغفل عنها العلماء عند الفتوى في مسائل
الحلال والحرام، التي يوجبون العمل بها على الأمة الإسلامية:
(المسألة الأولى) أن التحريم الديني المحض - كمسألتنا - هو حق الرب
تعالى وحده؛ ولذلك عرَّفه علماء الأصول بأنه (خطاب الله المقتضي للترك اقتضاءً
جازمًا) ، فالقول بأن كذا حرام بغير دليل صريح من الكتاب العزيز أو السنة
الصحيحة - يعد من القول على الله بغير علم، ومن الافتراء عليه تعالى، وشرعًا
لم يأذن به، وذلك منتهى الخطر على الدين، فيجب الاحتياط في ذلك؛ لأن فاعله
يكون قد اتخذ نفسه شريكًا لله تعالى، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم
مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .
ولسنا نريد بالتذكير بهذه المسألة القطعية تعريضًا ما بأولئك المفتين، فيما
نرى أنهم أخطئوا فيه؛ فإن للمجتهد المخطئ أجرًا على اجتهاده، وهو معذور في
خطئه إذا بذل جهده في طلب الحق فيه بإخلاص، وآية ذلك رجوعه عما أخطأ فيه
إذا ظهر له ذلك.
(الثانية) أن مَن يتبع رأي أحد من الناس في التحريم الديني، وما في معناه
من العبادات من غير أن تظهر له الحجة فيه عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه
وسلم - فقد اتخذه ربًّا وشريكًا لله تعالى، كما يُعلم من الآية المذكورة في المسألة
الأولى، ومما ورد في الحديث المرفوع تفسيرًا لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم
لعدي بن حاتم: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا
استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه) رواه أكثر مخرجي التفسير المأثور،
والترمذي في جامعه، وحسَّنه، والبيهقي في سُنَنه.
وخرج بالتحريم الديني ما يحظره الأمراء وقواد الجيوش على أتباعهم
لمصلحة راجحة، أو دفع مفسدة في أمور الدنيا أو الحرب، فلا يُشترط في طاعتهم
فيها أن تكون منصوصة في الكتاب والسنة، بل يدخل هذا في عموم ما ورد من
الأمر بطاعتهم في المعروف، ويكفي أن لا يكون معصية لله تعالى.
(الثالثة) نطقت الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة الفصيحة بأن هذا
الدين يُسر لا حرج فيه، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) ، وقوله - في أجمع آيات الطهارة بعد الأمر بالوضوء والغُسل
والتيمم -: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة:
6) الآية، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220) ، أي ولكنه لم
يشأ إعناتنا، وهو إيقاعنا فيما فيه مشقة، والأحاديث في هذا المعنى معروفة في
الصحاح والسنن؛ ولأجله سُميت هذه الملة بالحنيفية السمحة.
(الرابعة) من الأمور المعلومة من شؤون البشر بالضرورة أن بعض الناس
يتحمل من التكاليف بسهولة ما لا يتحمَّله غيره إلا بمشقة، وأن منهم المَيَّال بطبعه
إلى الغلو في الدين، أو التزام العزائم، ومنهم المعتدل المتوسط، ومنهم مَن يثقل
عليه أن يزيد على فعل الواجب، وترْك الحرام، ومنهم مَن يقصر في هذا أيضًا،
قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم
مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (فاطر: 32) ، ولأجل هذه الحقيقة
الثابتة في سنن الفطرة كان من حكمة الدين أن يوجد في الكتاب والسنة ما دلالته
صريحة قطعية، أو راجحة جلية، كالذي أجمع عليه أو عمل به جمهور السلف،
وما دلالته خفية؛ ليأخذ أهل العزائم من الصدِّيقين المقربين - وهم السابقون في
الآية - بما لا يمكن أخْذ الأبرار به - وهم المقتصدون فيها - فضلاً عن الظالمي
أنفسهم، والتحريم العام الذي يُخاطَب به جميع أفراد الأمة هو ما كان قطعي الدلالة،
ولا مجال فيه للتأويل والاجتهاد، والاجتهادي يعمل فيه كل أحد بما أداه إليه
اجتهاده، ولا تُحْمل الأمة كلها على ظن مجتهد.
وقد قال الفقهاء: إن أول ما يجب على إمام المسلمين الأعظم وخليفة رسولهم
صلى الله عليه وسلم: (حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف
الأمة) [1] ، ولولا هذا لأبطل كل خليفة اجتهاد غيره في العلم، وأجبر الأمة على
اتباعه واتباع مذهب إمامه.
ومن الشواهد - أو الدلائل المتعلقة بموضوع بحثنا في ذلك - أن آية سورة
البقرة في الخمر تدل على تحريمها دلالة راجحة، ولكنها غير قطعية؛ لأنه قال
فيها، وفي الميسر: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) أي أن
مفسدتهما راجحة على منفعتهما، ودرء المفاسد مقدَّم - عند الفقهاء - على المصالح
المساوية، فكيف إذا كانت المفسدة هي الراجحة؟ ! ومع هذا لم يعدها عمر
رضي الله تعالى عنه البيان الشافي في الخمر، وظل يدعو أن يُنزِل الله تعالى فيها
بيانًا شافيًا، ولكن بعض الصحابة تركوا شرب الخمر لهذه الآية عند نزولها، ولم
يتركها كلهم، بل لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركها، وبإهراق ما كان
لديهم منها إلا عند نزول آية المائدة التي صرح فيها بقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ ... } (المائدة: 90) - إلى قوله - { ... فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) ، فلما
قُرئ ذلك على عمر قال: انتهينا، انتهينا.
(الخامسة) النجاسة في اللغة: القذارة والخبث، وهي حسية ومعنوية:
فالحسية: ما تعافه الطباع السليمة لنتنه كالبول والعذرة.
والمعنوية: ما يُعلم خبثه وقبحه بالشرع أو العقل، قال تعالى: {إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: 28) .
والطهارة: النظافة والتنزُّه عن الأقذار، والمطلوب منها في الشرع: إزالة
النجس وما دونه كقلح الأسنان والوضوء والغسل وبدلهما، وهو التيمم، وفي
الوضوء والغسل والتيمم معنى التعبد؛ ولذلك اشترط فيه أكثر أئمة الفقه النية، ولم
يشترطوه في الأول، وإن كان مطلوبًا شرعًا.
ومجموع ما ورد في الكتاب والسنة في إزالة النجاسة يدل على أن مراد
الشرع من المسلم أن يكون نظيفًا بقدر الاستطاعة بدنًا وثوبًا ومسجدًا، وكل ذلك
معقول المعنى، ليس فيه شيء ظن بعض العلماء أنه للتعبد إلا غسل الإناء الذي
ولغ فيه الكلب سبع مرات، إحداهن بالتراب؛ للحديث الذي ورد فيه، وفي رواية:
(وعفروه الثامنة بالتراب) ، والحنفية والعترة لا يأخذون بهذا الحديث،
والشافعي، وأحمد يقولان: إن سببه نجاسة الكلب أو لعابه، وجعله بعضهم للتعبد،
وزعم بعض الصوفية أن سببه كوْن سؤر الكلب يورث قساوة القلب، واكتشفت
الأطباء ما يصح أن يكون سببًا له، كون لعابه سببًا للإصابة بالدودة الوحيدة أو
الدودة الشريطية، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في المنار من قبل، وليس
مقصودًا هنا.
(السادسة) قال العلامة ابن رشد - في (بداية المجتهد) -: (وأما أنواع
النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: على ميتة الحيوان ذي الدم،
الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخِنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم
نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي، انفصل من الحي أو الميت، إذا كان مسفوحًا،
أعني كثيرًا، وعلى بول ابن آدم، ورجيعه، وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي
ذلك خلاف عن بعض المحدثين اهـ، وسنذكر في المقصد بعض مَن صرَّحوا
بطهارتها.
(السابعة) اختلف العلماء في إزالة النجاسة، هل هي فرض أو سنة؟
واختلفت مداركهم الاجتهادية في التطهير، هل المراد به إزالة عين النجاسة
وصفاتها من اللون والطعم والرائحة، أم إضعافها وإزالة صورتها المستقذَرة؟
بالغ بعض أهل المدرك الأول - ولا سيما الشافعية منهم - فكان من اجتهادهم ما لا
يعقل له معنى، وما فيه حرج شديد وعنت كان سببًا لابتلاء الكثيرين بالوسواس،
ومنه ما يُشْبه تطهير الأطباء للأجسام والجروح والأشياء كاشتراطهم أن يكون الماء
القليل - وهو ما دون القلتين - واردًا على النجاسة لا مورودًا، وهذا ما لا يتيسَّر
إلا للخواص الواجدين، وما ورد في السنة الصحيحة من الاستنجاء بالحجر،
وصفة تطهير الثوب من دم الحيض والمني، وتطهير النعل بدلْكها بالأرض،
وأشباه ذلك - يدل على أن الواجب هو الثاني، والأول كمال فيه، واختلفوا أيضًا
في كون طهارة البدن والثوب والمكان شرطًا لصحة الصلاة أم لا.
(الثامنة) للعلماء مذاهب في إزالة النجاسة وزوالها، يؤخذ من مجموعها
على اختلاف أصحابها ما قلنا في المسألة الخامسة: إنه مدلول النصوص، وهو أن
الغرض الشرعي من الطهارة هو أن يكون المسلم نظيفًا، لا تنفر منه الطباع
السليمة، ولا يُشترط في ذلك أن لا يكون على بدنه ولا ثوبه ذرة من أعيان النجاسة
يدركها الطرف المعتدل، يُعلم من أحاديث مسح النعل المتنجِّس بالأرض، وفرك
المني، وحتّه، وإماطته بإذخرة، وغير ذلك، ومن المطهرات الدباغ، وتخلُّل
الخمرة عند مَن يقولون بنجاستها، وإزالة عين النجاسة عن المصقول، وقالت
الحنفية: إن الأرض إذا تنجَّست تطهر بالجفاف، سواء كان بالشمس أو الهواء أو
النار، مع أن الجفاف لا يزيل من المادة النجسة إلا ما يتبخَّر منها، وقد تبقى
رائحتها، واستدلوا على ذلك بأن المسجد النبوي كانت الكلاب تدخله، وتبول فيه،
وما كانوا يطهرونها، والغرض من هذا بيان مدرك هؤلاء الفقهاء الذين يتبعهم
ملايين كثيرة من المسلمين في يسر الشريعة.
ويحسن أن نذكر هنا حديث بول الأعرابي في المسجد الذي رَدَّ به الجمهور
عليهم، وإن لم يكن البحث لتحقيق الراجح في هذه المسائل: روى الجماعة - أي
أحمد والشيخان، وأصحاب السنن - من حديث أبي هريرة، وأنس بن مالك
رضي الله عنه أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقال الصحابة له: مَه مَه - وهي كلمة
زجر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترزموه - أي لا تقطعوا عليه
بوله - دَعوه) ، فتركوه حتى بال، هذا سياق أنس، وقال أبو هريرة: فقام إليه
الناس ليقعوا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، وأريقوا على بوله
سَجلاً أو ذَنوبًا من ماء؛ فإنما بُعثتم ميسرين، ولم تُبعثوا معسرين) ، وتتمة سياق
أنس: ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( ... إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا
البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) ، قال: ثم
أمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه - والسجل والذنوب بفتح
أولهما: الدلو الواسعة الملأى، وقال ابن السكيت في الثانية: فيها قريب من الملء،
ولا يُطلق هذان اللفظان على الدلو الفارغة.
ومن المطهرات عند الحنفية النار وانقلاب العين كالزيت النجس الذي يدخل
في عمل الصابون، ومذهبهم فيه قوي جدًّا يدل على فقه الشرع وفهم كُنْه الطهارة
التي طُولب الناس بها، وهي النظافة والتنزُّه عن الأقذار، لا الإعنات وتكليف ما
لا يعقل تعبُّدًا محضًا، فهذا المذهب لا يحتاج إلى دليل من النص بعينه، ومما يدل
عليه إجماع الأمة على عدم وجوب النية ولا اشتراطها في إزالة النجاسة، ولهم أن
يستدلوا عليه بحديث أبي الدرداء في (المري) الذي يُصنع من الخمر، والسمك،
والمِلح، ويوضع في الشمس، وقد أكله أبو الدرداء وغيره من الصحابة كما سيأتي،
ونحن نستدل به على طهارة الخمر، ولكنهم قالوا: لو جُعل الخمر في مرقة لا
تؤكل لتنجُّسها بها، ولا حدّ ما لم يسكر منه - أي الآكِل - لأنه أصابه الطبخ،
ويكره أكل خبز عجين عجنه بالخمر لقيام أجزاء الخمر فيه (اهـ من الهداية) .
الموضوع
بعد هذا التمهيد نقول: (أولاً) إن الخمر ليست بنجسة نجاسة حسية،
(وثانيًا) إن دعوى إثبات نجاستها بالكتاب، والسنة، والإجماع ممنوعة، (وثالثًا)
إن الكحول (السبيرتو) ليس بخمر، بل ولا ينحصر وجوده في الخمر، بل يوجد
في أنواع النبات وغيرها، ويكثر في المختمرات من العجين وغيره، وأكثر ما
يكون استحضاره من الخشب والقصب، وهو أقوى طهورية من الماء، (ورابعًا)
إن سلمنا أنه خمر، وأن الخمر نجسة؛ فإن ما يدخل فيه من الأدهان وأنواع الطلاء
والأدوية والأعطار - ينبغي أن يكون طاهرًا كالخل والمري والخبز والصابون الذي
يدخله الزيت النجس وأمثالها.
الخمر طاهرة حسًّا وشرعًا:
أما كوْن الخمر طاهرة غير نجسة نجاسة حسية، فهو أمر حسّي لا يمكن
المِرَاء فيه، وأما كونها طاهرة شرعًا من الجهة الحسية - وإن كانت أم الخبائث
والرجس المعنوي - فلأن الأصل في الأشياء الطهارة، وليس في الشرع ما يخالف
الحس، وما ورد في الشرع من الحث على الطهارة والنظافة الحسية - فلا يُفهَم منه
إلا التنزُّه عن الأقذار، كما ورد في حديث تطهير المسجد من بول الأعرابي،
وإزالة ما أصاب البدن أو الثوب أو المكان بإذهاب عينه، أو إذهاب قذارته، بحيث
لا تنفر الطباع السليمة مما أصابه، وإنما كان يصح إلحاق الشرع الخمر بالنجاسات
الحسية لورود الأمر الصريح بغسل ما أصابه شيء من الخمر، ولم يرد، وقد كانوا
يشربونها إلى آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم تحرم قطعيًّا إلا في سورة
المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن، ولا شك في أن الشاربين لها لا يسلمون
من إصابة أيديهم وثيابهم بشيء منها، ولو كانت من النجاسات والأقذار في الواقع
ونفس الأمر، أو في حكم الله تعالى لأمروا بالتنزه عنها قبل تحريمها، وكان يكون
ذلك من المنفّرات عنها، الممهّدات لتخفيف وقْع تحريمها على نفوسهم، كالذي ذكره
المفسرون من التنفير عنها بآيتي البقرة والنساء، ولما أخّر بيان نجاستها إلى الوقت
نزول القطع بتحريمها، ولا يقال: إنها إنما صارت نجسة بالتحريم؛ لأن الكلام في
النجاسة الحسية، وهذا لا يختلف باختلاف الحكم، فهي ما زالت كما كانت قبل
التحريم، وربما طيّبها الناس بعد ذلك، فكانت أبعد عن القذارة مما كانت، وسيأتي
ما يؤيد هذا.
تحقيق القول فيما استدل به على نجاسة الخمر:
استدل المفتي الهندي - ومَن وافقه - بدعوى الإجماع، وهي دعوى ممنوعة،
فقد نقل العلماء الخلاف بين فقهاء السلف في نجاستها، كما رأيت في عبارة ابن
رشد في (بداية المجتهد) ، وممن قال بطهارتها منهم فقيه المدينة الإمام ربيعة شيخ
الإمام مالك، كما في شرح المهذب للنووي، وغيره، وفي كتاب (رفع الإلباس في
وهم الوسواس) لأحمد بن العماد الفقيه الشافعي ما نصه:
(ومنه الخمر، وهي نجسة خلافًا لربيعة شيخ الإمام مالك، وداود (إمام
الظاهرية) ، فإنهما قالا بطهارتها كالسم الذي هو نبات، والحشيش المسكر،
وحكى الغزالي وجهًا في المحترمة، ووجهًا في أن باطن حبات العنب المستحيلة
خمرًا - طاهر، وحكى الشيخ تقي الدين - رحمه الله - في شرح الموطأ طهارة
المحترمة، والمحترمة هي التي اعتُصرت بقصد أن تُتخذ خلاًّ اهـ، ثم ذكر القول
بأن ما اعتصره أهل الكتاب - من المحترمة أي بناءً على عدم تكليفهم بفروع
الشريعة - فجميع خمور أهل الكتاب أو غير المسلمين طاهرة على الوجه، ويفهم
منه أن القول بنجاستها تغليظ على المسلمين؛ لأجل المبالغة في اجتنابها، بالتباعد
عن أسبابها، ولكن هذا لا يصح أن يُجعل دليلاً شرعيًّا على النجاسة الحسية، وما
يترتب عليها من الأحكام الكثيرة التي تُنسب إلى دين الله، وتُجعل مما خاطب الناس
بتحريمه عليهم.
وممن قال بطهارة الخمر من فقهاء الحديث المتأخرين الإمام الشوكاني في
(السيل الجَرَّار) وغيره، والسيد حسن صديق خان في (الروضة الندية) .
وأما الاستدلال على نجاستها بالكتاب العزيز - فهو محصور في تسميتها
رجسًا في آية المائدة، وهو مردود من وجوه:
(أحدها) أن الرجس في اللغة هو الخبيث القذر حسًّا أو معنًى، فالحسي ما
تُدرك قذارته بالحس، ونفور الطباع السليمة، ويتنزه عنه الناس كالبول والعذرة،
والمعنوي ما تدرك قذارته بالعقل أو الشرع أو بهما معًا كالكفر والنفاق، قال
الراغب - بعد ما ذكر ما هو بمعنى هذا -: (والرجس من جهة الشرع الخمر
والميسر) اهـ.
وأقول: إن الرجس قد ذُكر في القرآن في تسع آيات، لا يحتمل إرادة
النجاسة الحسية منها إلا في واحدة فقط، وهي قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام: 145) ، والراجح أن الضمير - في قوله:] فَإِنَّهُ [-
راجع إلى الثلاثة بتأويل ما ذُكر، كما بيناه في تفسير الآية مؤيَّدًا بالشواهد من
التنزيل ومن كلام العرب، أما الأولان فاستقذار الطباع لهما معروف، وأما الثالث،
فمعنى كوْنه رجسًا أنه ملازم للأقذار كثير التغذّي منها، وإنك لتجد ذكر إزالة
الرجس عن أهل البيت النبوي، قد قرن بأن المراد به تطهيرهم، وأكد ذلك
بالمصدر، ولم يقل أحد من المفسرين أن المراد بالرجس في الآية النجاسة الحسية،
وبالتطهير إزالتها، على أن بعض العلماء قالوا: إن تأكيد الفعل بالمصدر يُخرجه
عن كونه مجازًا، ويحتِّم كونه حقيقة، وهذه الآية حجة عليهم إلا أن يقولوا: إن
التطهير حقيقة في إزالة الأقذار الحسية والمعنوية، والتنزيه عن كل منهما، أو أن
الرجس حقيقة في الخبث المعنوي؛ لأنه هو الأكثر في استعمال القرآن وغيره.
(ثانيها) أن لفظ الرجس فيها خبر عن الخمر، والميسر، والأنصاب،
والأزلام كما قال جمهور المفسرين، ولا شيء من ذلك بقذر في الحس، ولا نفور
الطبع، فتعين أن يكون كله من الرجس المعنوي، وجعله خبرًا عن الخمر، وخبر
ما عُطف عليها محذوفًا تكلُّف مخالف للمتبادر من العبارة لغة، وإنما جِيء به لتأييد
القول بنجاستها، وإلا فالأصل في خبر المبتدأ - وما عُطف عليه - أن يكون خبرًا
عنها جميعًا، ولو كان خبرًا عن الخمر لقال فاجتنبوها؛ لأن الخمر مؤنثة اللفظ،
قال الأصمعي: ولا يجوز تذكيرها، فإن قيل جوزه غيره، قلنا: هو الفصيح الذي لا
خلاف فيه، ولغة القرآن أفصح اللغات، ويؤيد كوْن الأنصاب والأزلام رجسًا قوله
تعالى - في آية أخرى -: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج: 30) .
(ثالثها) ووصف الرجس بأنه من عمل الشيطان، ثم بيان عمل الشيطان
في الخمر والميسر خاصة بأنه إيقاع العداوة، والبغضاء بين السكارى، والمقامرين،
وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ولو لم يكن قوله: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90) راجعًا إلى الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام
جميعًا - لما صرح بذِكْر الخمر والميسر في هذا البيان.
(رابعها) أن الصحابة - رضي الله عنهم - أراقوا كل ما كان عندهم من
الخمر عند نزول هذه الآية، حتى كانت تجري في شوارع المدينة، ولو كانت
الخمر نجسًا حسيًّا يجب تطهير ما تصيبه بمنطوق الآية - لتوفرت الدواعي على
نقل عنايتهم بتطهير أوانيهم، وما أصاب أبدانهم وثيابهم منها عند إراقتها فإنه من
الضروريات، ولم يرد شيء من ذلك كما تقدم.
وأما الاستدلال على نجاستها بالسنة فقد أعجز المدعين لذلك رواية خبر
صحيح صريح في ذلك، وإنما استدل بعضهم بحديث أبي ثعلبة عند أحمد، وأبي
داود؛ إذ قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أرضنا أرض أهل كتاب، وإنهم
يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ ، قال:
(إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء، واطبخوا فيها، واشربوا) ، وهذه واقعة
حال ذُكرت في الصحيحين بدون ذكر الخنزير والخمر فيها، وغسلها من احتمال
طبخ الخنزير وشرب الخمر فيها ضرب من النظافة لا يتعين أن يكون سببه نجاسة
ما كان فيها وهو مجهول، والأصل في الأشياء الطهارة، وأبو ثعلبة هذا هو
الخشني، أسلم عام خيبر أو قبله، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أواني أهل
الكتاب، وعن الصيد ما يحل منه؟ ، وذلك قبل نزول آية حل طعام أهل الكتاب،
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر من غسل أوانيهم مبالغةً في النظافة التي
كان يميل إليها، والتباعد عن الأنس بهم قبل تمكُّن الإسلام، وإلا فهو معارَض
بالأحاديث الكثيرة، والروايات عن الصحابة في أكل طعامهم في أوانيهم، وجُبنهم،
والتوضُّؤ والشرب من أوانيهم أيضًا، ولا سيما في أيام فتح بلادهم، ولو كان
الصحابة - ومَن بعدهم من السلف - يتَوَقّون أوانيهم، فلا يأكلون، ولا يشربون
فيها إلا بعد غسلها لَتواتر ذلك عنهم، بل ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة، وتوضأ عمر من جرة نصرانية، والتغليظ
في معاملة المشركين أشد منه في معاملة أهل الكتاب.
وثبت أكل الصحابة - رضي الله عنه - للمري المصنوع من الخمر والسمك،
ففي كتاب الصيد من صحيح البخاري أن أبا الدرداء قال في المري: ذبح الخمرَ
النينانُ والشمسُ، والمري من التوابل المثيرة لشهوة الطعام، وهو بضم الميم
وسكون الراء، وضبط في النهاية - تبعًا للصحاح - بتشديد الراء نسبة إلى المرّ،
وهو الطعم المعروف، والنينان جمع نون وهو الحوت، وإسناد ذبح الخمر إلى
السمك والشمس مجازي، معناه: أنهما ذهبا بطعم الخمر وإسكارها، كما كانوا
يعبرون عن تأثير مزْجها بالماء إذا كثر بالقتل، كما قال حسان:
إن التي عاطيتني فشربتها ... قتلت قتلتَ فهاتها لم تقتل
قال الحافظ في الفتح: وهذا الأثر سقط من رواية النسفي، وقد وصله إبراهيم
الحربي في غريب الحديث له، من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي
الدرداء، فذكره سواء، قال الحربي: هذا (مري) يعمل بالشام، يؤخذ الخمر،
فيُجعل فيه المِلح والسمك، ويوضع في الشمس، فيتغير عن طعم الخمر، وذكر
الحافظ طرقًا أخرى له، عن أبي الدرداء للطحاوي وعبد الرزاق، ثم قال:
ورويناه في جزء إسحق بن الفيض من طريق عطاء الخراساني، قال: سئل أبو
الدرداء عن أكل المري فقال: ذبحت الشمس سكر الخمر، فنحن نأكل لا نرى به
بأسًا، قال أبو موسى: عبر عن قوة الملح والشمس، وغلبتها على الخمر وإزالتها
طعمها ورائحتها بالذبح ... إلخ، (ثم قال) قال: وكان أهل الريف من الشام
يعجنون المري بالخمر، وربما يجعلون فيه أيضًا السمك الذي يربى بالملح،
والإبزار مما يسمونه الصحناء، والقصد من المري هضم الطعام، فيضيفون إليه
كل ثقيف أو حرِّيف؛ ليزيد في جلاء المعدة، واستدعاء الطعام بحرافته، وكان أبو
الدرداء - وجماعة من الصحابة - يأكلون هذا المري المعمول بالخمر اهـ المراد
مما أورده الحافظ، ومما ذكره عن بعضهم تعليل الحل بتخلل الخمر، ولا يصح إلا
على التشبيه، وإلا فإن الخل مائع لا طعام.
هذا الأثر يدل على أن أولئك الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يعتقدون
طهارة الخمر، ولو كانت نجسة لتنجس السمك والملح والإناء بها قبل أن تذبحها
الشمس، ومتى تنجس السمك تعذَّر تطهيره عند جماهير الفقهاء إلا مَن يقول: إن
استحالة العين، وزوال نتن النجاسة مطهر، وهذا القول يقتضي حل جميع الأدهان
والأدوية التي تدخلها نجاسة إذا زال نتنها، بحيث لا يعد ذلك الشيء قذرًا لغةً، ولا
عرفًا.
وهذا هو مدرك الحنفية، وهو مدرك صحيح، ولكن خرجوا عنه في بعض
المسائل، ومن العجيب أن إخواننا علماء الهند الذين شددوا في واقعة الفتوى من
فقهاء الحنفية فيما يظهر، ولكنهم لما اجتهدوا في المسألة كان اجتهادهم بعيدًا عن
مدرك المذهب الذين تفقَّهوا فيه، ومثل هذا كثير.
حقيقة الخمر والكحول:
الخمر كل شراب مسكر، هذا هو المختار عندنا على ما حققناه في التفسير،
ولكن الفقهاء واللغويين اختلفوا فيه، فذهب بعضهم إلى أن الخمر ما كان من عصير
العنب إذا اشتد وغلا - زاد بعضهم: وقذف بالزبد - وعليه الحنفية الذين يقلدهم
أكثر مسلمي الهند، وهذه الخمرة العنبية هي المحرمة عندهم بالنص قطعًا، ما قَلَّ
منها وما كثر، وهي التي يعدونها نجسة نجاسةً مغلظةً، وأما سائر المسكرات فلهم
فيها أقوال، ثالثها أنها طاهرة، وما عداها من المسكرات فأصل المذهب أن المحرم
منها هو القدر المسكر، بل لهم فلسفة دقيقة في تحقيق كون الكأس الأخيرة أو
الجرعة الأخيرة - التي حصل بها الإسكار - هي المحرمة دون ما قبلها! ،
والجمهور يخالفهم في هذا بحقٍّ، رجحه بعضهم، ولكنه مذهب اجتهادي عل كل
حال.
والتحقيق الصناعي أن الخمر نوعان:
(أحدهما) ما يُصنع بالتخمير، وهو وضْع الفاكهة الرطبة كالعنب والبسر،
أو الجافة كالتمر والزبيب، أو الحب كالقمح والشعير - في الماء حتى يختمر،
وكذا العسل، وخمره تسمى في اللغة البتع، ولهم في ذلك صناعة، بعضها بالنار،
وبعضها بدونها، ويسمون هذا النوع في زماننا بالنبيذ، وهو أصناف كثيرة، ومنها
ما له اسم آخر كالبيرا المتخذة من الشعير، واسمها العربي الجعة، والنبيذ بالعربية
هو النقوع والنقيع، وهو الشراب الذي يكون مِنْ نَبَذَ؛ نَحْو زبيب أو تمر أو تين
جاف في الماء أي طرحه فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يشربونه
قبل أن يشتد، ويصير مسكرًا؛ فإنه يكون حينئذ خمرًا، وكان النبي - صلى الله
عليه وسلم - يشرب منه مدة ثلاثة أيام في الغالب، فإذا شعر بحموضته أذن بأن
يشربه الخدم، وترك شربه احتياطًا، وقد فصلنا القول في ذلك في تفسير آية المائدة.
وأما الكحول - السبيرتو - فهو سائل قابل للاحتراق، سريع التبخُّر أو
الطيران، يُستخرَج غالبًا من الخشب وجذور القصب وأليافه، وهو يوجد في جميع
أنواع النباتات، ولا سيما الفاكهة، ويكثر جدًّا في قشر البرتقال والليمون، وفي كل
ما يختمر من الأشياء كالعجين، ولا يُستخرج من الخمور لغلائها ورخصه، وهو
أقوى المطهرات؛ فإنه يزيل النجاسات والأقذار التي تعسر إزالتها بالماء، وإنما
يُستخرج لاستعماله في التطهير الطبي، وتحضير كثير من الأدوية، وحفظ بعض
الأشياء من الفساد، وفي الأعطار والأصباغ والوقود والاستصباح وغير ذلك، وقد
كلفنا بعض علماء الكيمياء والطب من ثقات المسلمين ببيان علمي فني، سننشره فيه
في ذيل هذه الفتوى، فهو ليس بشراب، ولا يمكن شربه؛ لأنه سُمٌّ قاتل.
نعم، إن هذا الكحول أو الغول هو المادة المؤثرة في الخمور التي لولاها لم
تكن مسكرة، وأنه إذا وُضع في شراب غير مسكر بنسبة مخصوصة يصير مسكرًا،
ولكن هذا لا يقتضي أن يسمى هو خمرًا لغةً، ولا شرعًا، ولا عُرفًا، كما أن
المادة المؤثرة في قهوة البن - التي يسميها الكيماويون (كافيين) ، والمادة المؤثرة
في الشاي التي يسمونها (شايين) والمادة المؤثرة في التبغ (الدخان) التي يسمونها
(نيكوتين) - إذا وُضعت في شراب آخر، أو في طعام، يصير له مثل تأثير
القهوة والشاي والتبغ، ولا يسمى بأسمائها، وكل ما يترتب على ذلك من الحكم
الشرعي أن الشراب - الذي يُوضَع فيه من الكحول ما يجعله مسكرًا - يحرم شربه
لإسكاره، ويدخل عندنا في عموم الخمر، وإن وُضع له اسم آخر، خلافًا للحنفية،
ومَنْ على رأيهم من اللغويين وغيرهم - فلا يعدونه منها لغةً ولا حُكمًا من كل وجه.
والقائلون بنجاسة الخمر لم يعللوا حكمهم بأن فيها مادة نجسة هي علة نجاستها،
ولم يكونوا يعلمون بوجود هذه المادة فيها، حتى نفرِّع على قولهم: إن كل ما توجد
فيه يكون نجسًا، وإن كان في الواقع ونفس الأمر طيبًا وطهورًا، بل أقوى مزيل
للنجاسات ومطهر للأشياء؛ فإن هذا قلب للحقائق، وإنما أرادوا - فيما يظهر -
المبالغة في اجتنابها، والبُعد عن مظانّ استعمالها في غير الشرب؛ لئلا يكون
ذريعة له.
ألا ترى أن الحنفية جعلوا مسألة النجاسة فيها تابعة لقوة الدليل على تحريم
شربها، فقالوا: إن نجاسة خمر العنب مغلظة؛ لأنها هي المحرمة عندهم بالنص
القطعي، وأما سائر المسكرات، فقيل طاهرة، وقيل نجسة نجاسة مغلظة، وقيل
مخففة، والمعروف - بالقطع الآن - أن الكحول في الأشربة التي تسمى الروحية
(كالعرقي والكونياك والوسكي) أكثر منه في خمرة العنب المسماة بالنبيذ، ولو كانت
النجاسة تابعة لمقدار الكحول لوجب أن تكون نجاسة المسكرات المقطرة المسماة
بالروحية أغلظ من نجاسة خمر العنب، ثم ألا ترى أن الشافعية ذكروا قولاً بطهارة
الخمر المحترمة، وهم أشد الفقهاء تدقيقًا وتشديدًا في مسائل النجاسة!
ثم إن جعْل مادة الكحول هي النجسة بنفسها، والعلة لنجاسة ما توجد أو تكثر
فيه - يقتضي الحكم بنجاسة العجين المختمر، ونقيع التمر والزبيب، ولا سيما إذا
أتى عليه يومان أو ثلاثة، وكان ذلك في بلاد حارة كالحجاز، وهو كالعجين
المختمر طاهر بالإجماع، وكذا كل ما يوجد فيه من فاكهة ونبات، ولوجب تطهير
اليد والسِّكِّين إذا قُشر بها الليمون والبرتقال.
فعُلم من هذا، ومن الملحق الفني الذي سنؤيده به، أن ما ذُكر في الفتوى
الهندية في بيان حقيقة الخمر والكحول مترجمًا عن الإنكليزية -قاصر.
وخلاصة القول أن الكحول مادة طاهرة مطهرة، وركن من أركان الصيدلة
والعلاج الطبي والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يُحصى من الأدوية، وإن
تحريم استعمالها على المسلمين يَحُول دون إتقانهم لعلوم وفنون وأعمال كثيرة، هي
من أعظم أسباب تفوق الإفرنج عليهم كالكيمياء والصيدلة والطب والعلاج
والصناعة، وإن تحريم استعمالها في ذلك قد يكون سببًا لموت كثير من المرضى
والمجروحين، أو لطول مرضهم وزيادة آلامهم في أحوال كثيرة، ولا سيما حال
الحرب.
وإنني أذكر مادة واحدة من مستحضرات الكحول منبِّهًا إلى بعض منافعها؛
ليقاس عليها غيرها، وهي (صبغة اليود) ، فلهذه الصبغة من المنافع الكثيرة -
التي لا تشوبها أدنى مضرة - ما يكفي لعدِّ تحريم استعمالها من أعظم الجنايات على
المسلمين، فهي على كونها من المطهرات الطبية للجروح المانعة من عروض
الفساد لها، الذي ربما يفضي إلى قطعها - تُستعمل علاجًا وإسعافًا في أمراض
متعددة، وقد كانت والدتي أُصيبت برثية حادة (روماتزم) ، عجزت بها عن
المشي والصلاة واقفة، فعالجها الدكتور شرف الدين بك الطبيب التركي المشهور
بصبغة اليود دهنًا وشربًا، بوضع خمس نقط في نصف كوب من الماء تشربه قبل
الطعام، وأذن لها أن تزيد عدد النقط إلى عشر، فشُفيت، حتى تمكنت من أداء
فريضة الحج بغير مشقة، وعالج به غلامًا عندنا أُصيب بالحمى التيفوثية؛ فشُفي
بإذن الله.
وكثيرًا ما يسعل الأطفال عندنا في الليل حتى يحرمونا النوم، فإذا دهنَّا صدر
الطفل بصبغة اليود مخففة بالكحول أو بعض أعطاره كالكولونيا - سكن السعال في
الحال.
فمَن ذا الذي يقول: إن دين الفطرة والحنيفية السمحة - الذي من أهم أصوله
القطعية بالنص اليسر ورفع الحرج - يحرم على المسلمين جميع منافع هذه المادة
الكثيرة؛ بدعوى مكابِرة للحس، هي جعْلها نجسة، وتسمية طيبها قذرًا، ودهانها
للخشب المانع من امتصاصه للوساخة، والجاعل له في منتهى الجمال والنظافة -
رجسًا تُنزَّه عنه المساجد كالبول! ، أبهذا يصدُق علينا قول نبينا - صلى الله عليه
وسلم - إننا بُعثنا ميسرين، ونكون ممتثلين لأمره: (يسروا ولا تعسروا) ؟ !
إنني لو ذهبت أعدّ ما أعلم من منافع الكحول في الطب والصناعة
لعددت عشرات منها، وإن ما أعلمه من ذلك دون ما يعلمه الأطباء والكيماويون،
فتحريم هذه المنافع الكثيرة على المسلمين بمثابة أن يقول محرموها في كل منها إن
الله تعالى خاطبنا بما يقتضي تركه اقتضاءً جازمًا، وإنه مما يعذب الله المسلمين
على فعله، ويُثيبهم على تركه! ، والشبهة على ذلك أن فيه مادة أداهم اجتهادهم إلى
أنها من الأقذار التي يجب التنزه عنها لأجل أن يكون المسلم طاهرًا نظيفًا! ، وإن
كانوا يرون بأعينهم أنها طهور مزيل للنجاسة، على أنها تتبخر - أو تطير كما
يقول العامة عندنا - إذا عُرضت للهواء، فلا تبقى في نحو الثوب والإناء؛ وذلك
أنها مركبة من عنصري الماء (الأكسجين والأدروجين) وغاز الكربون، فعينها
تزول ألبتة دون النجاسات التي يقول الحنفية: إن ما تنجس بها يطهر بالهواء
والشمس!
فيا أيها المفتون بنجاسة الكحول، وتحريم استعمال كل ما يدخل فيه من أدوية
وأصباغ وأدهان وأعطار، وقد اشتدت حاجة البشر إليها في هذه الأعصار، إنكم
تحرمون منافع ثبت ثبوتًا قطعيًّا أن بعضها صار من الضروريات، وسائرها من
الحاجيات أو من الكماليات، بحيث يجزم العالِم بأصول الشرع أنها - في جملتها -
من فرائض الكفايات، وقد عمت بها النعمى، ولا أقول عمت بها البلوى، وإن
مثلكم - في القول بإمكان الاستغناء عنها كلها في هذا العصر بدليل الاستغناء عنها
فيما قبله - كمثل مَن يقول بإمكان استغناء المسلمين عن أسلحة هذا العصر في
الدفاع عن حقيقتهم، كما استغنى عنها مَن قبلهم!
فاتقوا الله، واعلموا أن هذه التشديدات - التي ما أنزل الله بها من سلطان،
المخالفة للحقائق الثابتة بالحس والعقل والوجدان - قد نفَّرت الكثيرين من أهل هذا
العصر عن الإسلام، وجعلته من أشد الحرج والإعنات، حتى صار بعض حكامهم
يرون أنهم مضطرون إلى ترك شريعته، واتباع قوانين الإفرنج؛ لتكون لهم دولة
عزيزة، وأمة راقية محترمة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) .
فإذا ظهر لكم - بما شرحناه - أن فتواكم كانت غلطًا، فإن مما يُعلِي قدركم
عند الله وعند الناس أن تصرحوا بذلك، وترجعوا إلى الحق، وتعلنوه للناس، كما
كان يفعل سلفنا الصالحون - رضي الله عنهم - فقد صرح أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب على المنبر بأن ما كان عزم عليه من تحديد مهور النساء خطأ، وأن المرأة
التي راجعته فيه هي التي أصابت، وإن ظهر لكم أنه خطأ فردوا ما أدلينا به من
الحجج، وانشروا فتوانا على الناس كما نشرنا فتواكم؛ ليحكم سائر المسلمين بيننا
وبينكم، ونحن مستعدون لرد ما نراه خطأً، واتباع ما نراه صوابًا {فَبِشِّرْ عِبَادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
***
(تنبيه) : أخَّرنا طبع هذه الكراسة أكثر من شهر، حتى طُبع كل ما بعدها
انتظارًا للملحق الفني الذي أشرنا إليه فيها، فتأخر مَن وعدَنا بكتابته لنا، حتى
اضطررنا إلى إرجائه إلى الجزء التالي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي.(23/658)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المعاهدة العراقية البريطانية
كتبنا في آخر الجزء السادس كلمة عن العراق، ومصر، وتشابه السياسة
البريطانية فيهما، ذكرنا فيها ما كثر الحديث فيه من وضع الإنكليز مشروع معاهدة
تعقدها مع حكومة العراق، لا يُذكر فيها الانتداب الذي صار لفظه ممقوتًا عند
العراقيين كلفظ الحماية عند المصريين وغيرهما، ولكنها تضمن لهم كل ما يبغونه
في العراق من سلطة ومنفعة، وذكرنا أن العراقيين لا يُخدعون بالألفاظ والمظاهر
دون الحقائق، وذكَّرناهم بأن ما يعطونه للإنكليز بالمعاهدة إذا كان مخلاً بالاستقلال
المطلق من كل قيد - فتقييده بالانتداب أقل خطرًا من جعْل الإنكليز مطلقي
التصرف فيه.
وقد أُعلنت بعد ذلك هذه المعاهدة مؤلفة من 18 مادة موقعًا عليها من المندوب
البريطاني، ومن رئيس وزارة العراق عن حكومتهما، بل ملكيهما، فإذا هي صك
لاستعباد الدولة البريطانية للعراق، فالمادة الأولى منها نص في تعهد ملك الإنكليز
لملك العراق - بناءً على طلبه - بما يقتضي لدولته من المشورة والمساعدة بدون
أن يمس ذلك بسياستها الوطنية! ، وقد عرفنا معنى المشورة في مصر فإذا هي
سلب السلطة كلها من الحكومة الوطنية، وجعْلها كالآلة، وعرفنا معنى المساعدة في
السودان، فدفع الإنكليز 800 ألف جنيه مساعدةً على فتحه، يدَّعون بها الآن
امتلاك السودان كله إلى الأبد.
والمادة الثانية هذا نصها: (يتعهد جلالة ملك العراق بأن لا يعين مدة المعاهدة
موظفًا ما في العراق من تابعية غير عراقية في الوظائف التي تقتضي إدارة ملكية
بدون موافقة جلالة ملك بريطانيا، وستُعقد اتفاقية منفردة لضبط عدد الموظفين
البريطانيين، وشروط استخدامهم على هذا الوجه في الحكومة العراقية) .
وهذه المادة أظهر المواد في إثبات سوء نية الإنكليز، وكون الاستقلال لفظيًّا
مجردًا من كل معنى، وإلا فلماذا يمنع ملك الإنكليز ملك العراق أن يوظف مَن شاء
وشاءت حكومته من سوري أو مصري أو غيرهما من الشعوب العربية في هذه
البلاد العربية بدون موافقتهم؟ !
والمادة الثالثة فيما يفترض على حكومة العراق في قانونها الأساسي في اعتبار
(حقوق ورغائب ومصالح جميع السكان في العراق، ويكفل لهم حرية الوجدان
التامة، وحرية ممارسة جميع أشكال العبادة، وأن لا يكون أدنى تمييز لبعضهم
على بعض بسبب الجنس أو الدين أو اللغة ... ) إلخ.
والمعنى أن لا يكون للوطنيين أدنى امتياز في شيء ما من أمور الوطن
والحكومة على أي أجنبي شرقي أو غربي في حق ولا مصلحة ولا رغبة ... (؟) ،
وسيعلم العراقيون ما وراء هذه الدسائس من الصَّغار والهوان لهم في وطنهم إذا
خانت الجمعية الوطنية بلدها، فصدقت على هذه المعاهدة!
والمادة الرابعة في التزام ملك العراق قبولَ ما يقدمه له ملك الإنكليز من
المشورة بواسطة المعتمد السامي في جميع الشؤون المهمة المتعلقة بالتعهدات
والمصالح الدولية والمالية للثاني، وأن يستشير المعتمد السامي الاستشارة التامة في
كل ما يتعلق بالأمور المالية والسياسية، والمعنى أنه غير مستقل في شيء من ذلك!
والمادة الخامسة في حق ملك العراق في التمثيل السياسي في لندن وغيرها
مقيدًا (بما يتم عليه الاتفاق بين الفريقين الساميين المتعاقدين) ، بأن يكون
العراقيون تحت حماية ملك بريطانية في كل مكان لا ممثل لملكهم فيه؟ !
والمادة السادسة في تعهد ملك بريطانية بإدخال العراق في جمعية الأمم، وهذه
المادة هي التي يظن بعض الجاهلين أنها المِنَّة الوحيدة على العراق، وليس كذلك.
والمادة الثامنة في الحظر على حكومة العراق أن تبيع أو تهب أو تؤجر شيئًا
من أرض العراق إلى دولة أجنبية! ، وهذه المادة أهم المواد عند الإنكليز؛ فإنهم لم
يعطوا العراق الاستقلال اللفظي إلا لأجل أن يمنعوا الدول القوية - كالولايات
المتحدة - أن تشاركهم في بترول البلاد، أو غيره من مواردها.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(23/679)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عطوف آل رضا
أنعم الله تعالى على صاحب هذه المجلة ببنت كاملة الخلق، وُلدت له قبل فجر
29، من هذا الشهر، سمَّاها عطوفًا، فنسأله تعالى أن يجعلها قرة عين.
__________(23/679)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
الشفاعة الشرعية
والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
تابع لما قبله
وسُئل أيضًا - رحمه الله تعالى - هل يجوز للإنسان أن يتشفَّع بالنبي صلى
الله عليه وسلم في طلب حاجة أم لا؟
(فأجاب) :
الحمد لله، أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق
يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.
ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة، واستفاضت به
السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضًا لعموم الخلق.
وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين
خاصة في رفْع الدرجات، ومنهم مَنْ أنكر الشفاعة مطلقًا.
وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته، ويتوسلون
بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس: (أن عمر بن الخطاب كان إذا
قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل
إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون) .
وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ربما ذكرت قول الشاعر،
وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يَستسقي، فما ينزل حتى يجيش
كل ميزاب:
وأبيضَ يُستسقَى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فالاستسقاء هو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة،
ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا، وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما
أجدب الناس في الشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه،
وقال: اللهم إِنَّا نستشفع، ونتوسَّل إليك بخيارنا، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع
(يديه) ، ودعا الناس حتى سقوا؛ ولهذا قال العلماء يُستحب أن يُستسقََى بأهل الدين
والصلاح، وإذا كانوا بهذه المثابة - وهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم - كان أحسن، وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلاً قال: (إنا نستشفع بك
على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رُئِيَ
ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله؟ ! ، إن الله لا يُستشفع به
على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك) ، فأنكر عليه قوله: (إِنَّا نستشفع بالله
عليك) ، ولم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله) ؛ لأن الشفيع يسأل
المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحدًا من عباده أن
يقضي حوائج خلقه، وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله في مثل قوله:
شفيعي إليك الله لا رب غيره ... وليس إلى رد الشفيع سبيل
فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالِم، وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله
إلى رسوله، وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي {يَسْأَلُهُ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرحمن: 29) ، والرسول صلى الله عليه وسلم
يُستشفع به إلى الله، أي يُطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الخلق أن يقضي الله
بينهم، وفي أن يدخلهم الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض
مَن يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها [1] أن يخرج منها، ولا نزاع
بين جماهير الأمة أن يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، وعند
الخوارج والمعتزلة أنه لا يشفع لأهل الكبائر؛ لأن الكبائر عندهم لا تغفر، ولا
يخرجون من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها، ومذهب أهل السنة
والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، ولا يُخلَّد أحد في النار من أهل الإيمان، بل
يخرج من النار مَن في قلبه حبة من إيمان أو مثقال ذرة.
والاستشفاع به وبغيره هو طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله،
والسؤال بذاته بحضوره، فأما في مغيبه أو بعد موته - فالإقسام به على الله
والسؤال بذاته لم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين [2] ، بل عمر بن الخطاب
ومعاوية ومَن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمَن كان
حيًّا كالعباس وكيزيد بن الأسود - رضي الله عنهما - ولم يُنقل عنهم أنهم في هذه
الحالة استشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ولا غيره، فلم يقسموا
بالمخلوق على الله عز وجل، ولا سألوه بمخلوقٍ، نبيٍّ ولا غيره، بل عدلوا إلى
خيارهم كالعباس وكيزيد بن الأسود، وكانوا يصلون عليه في دعائهم، روي عن
عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا، فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك
لما تعذر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.
وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، ويقولوا [3] في دعائهم في
الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيك أو بجاههم ونحو ذلك , ولا نُقل
عنهم [4] أنهم تشفَّعوا عند قبره، ولا في دعائهم في الصحراء، وقد قال صلى الله
عليه وسلم: (اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا، اشتد غضبُ اللهِ على قوم اتخذوا قبورَ
أنبيائهِم مساجدَ) رواه الإمام مالك في الموطأ وغيره، وفي سنن أبي داود أنه قال:
(لا تتخذوا قبري عيدًا) ، وقال: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ،
قال ذلك في مرض موته يحذر ما فعلوا، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى
عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله.
وقد روى الترمذي حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم
رجلاً أن يدعو، فيقول: (اللهم إني أسالك، وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة،
يا محمد، يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي؛ لتُقضَى لي، اللهم
فشفِّعْهُ فِيَّ) ، وروى النسائي نحو هذا الدعاء. وفي الترمذي وابن ماجه عن
عثمان بن حنيف رضي الله عنه: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: ادعُ الله أن يعافيَني، فقال: (إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ
صبرتَ؛ فهو خير لك) ، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، فيُحْسن الوضوء،
ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسالك، وأتوجه بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله
إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفعه فيَّ) قال الترمذي:
حديث حسن صحيح [5] ، ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال:
يا رسول الله، ادعُ الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلقْ، فتوضأْ،
ثم صَلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري،
اللهم فشفعه فيّ، قال: فدعا، وقد كشف الله عن بصره، فهذا الحديث فيه التوسل
إلى الله به في الدعاء.
ومن الناس مَن يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقًا حيًّا وميتًا،
ومنهم مَن يقول: هذه قضية عين، وليس فيها إلا التوسل بدعائه وشفاعته، لا
التوسل بذاته، كما ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم
إنهم - بعد موته - إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلاً عنه، فلو كان التوسل به
(حيًّا وميتًا) مشروعًا لم يميلوا عنه، وهو أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه، إلى
غيره ممن ليس مثله، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم
أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء، وما ينفع،
وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة
يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث، بكل طريق - دليل على
أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه؛ ولهذا ذكر الفقهاء - في كتبهم في الاستسقاء-
ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًّا هو الطلب لدعائه وشفاعته،
وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون يسألونه أن يدعو لهم في حياته،
وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه ذلك، لا عند قبره ولا عند غيره، كما
يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين [6] ، وإن كان قد روي في ذلك حكايات
مكذوبة عن بعض المتأخرين، بل طلب الدعاء مشروع لكل مؤمن من كل مؤمن،
فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب - لما استأذنه في العمرة -:
(لا تنسَنَا - يا أخي - من دعائك) ، حتى إنه أمر عمر أن يطلب من أويس
القرني أن يستغفر له، مع أن عمر رضي الله عنه أفضل من أويس بكثير، وقد
أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة، وأن يصلُّوا عليه.
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو
لأخيه في ظهر الغيب بدعوة إلا وكَّل الله به ملكًا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الموكَّل
به: آمين، ولك مثل ذلك) [7] ، فالطالب للدعاء من غيره نوعان: أحدهما أن
يكون سؤاله على وجه الحاجة إليه، فهذا بمنزلة أن يسال الناس قضاء حوائجه،
والثاني أنه يطلب منه الدعاء؛ لينتفع الداعي بدعائه له، وينتفع هو، فينفع الله هذا
وهذا بذلك الدعاء، كمَن يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر
على دعاء الله ومسألته، فطلَبُ الدعاء منه جائز، كمن يطلب منه الإعانة بما يقدر
(عليه) ، فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يُطلب إلا من الله، لا من
الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقول لغير الله: اغفر
لي، واسقنا الغيث، ونحو ذلك؛ ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصدِّيق رضي الله عنه:
قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاؤوا إليه،
فقال: (إنه لا يُستغاث بي، إنما يُستغاث بالله) ، وهذا في الاستعانة مثل ذلك.
فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) ، وفي دعاء موسى عليه الصلاة
والسلام: وبك المُستغاث، وقال أبو يزيد البسطامي: (استغاثة المخلوق بالمخلوق
كاستغاثة المسجون بالمسجون) ، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن
دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (الإسراء: 56) ، وقال تعالى:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... } (آل عمران: 79) [8]
الآية، فبيَّن أن مَن اتخذ النبيين أو الملائكة أو غيرهم أربابًا فهو كافر، وقال تعالى:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي
الأَرْضِ ... } (سبأ: 22) إلى قوله: { ... وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ} (سبأ: 23) ، وقال: { ... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة:
255) ، وقال تعالى: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَليٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} (السجدة: 4) ،
وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) الآية، وقال تعالى - عن صاحب ياسين -:
{وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ
الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ} (يس: 22-23) الآية،
وقال تعالى: { ... وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23) ، وقال
تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه:
109) ، وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28) .
فالشفاعة نوعان:
أحدهما: الشفاعة التي أثبتها المشركون، ومَن ضاهاهم من جُهال هذه الأمة
وضُلالهم، وهي شرك.
والثانية أن يشفع الشفيع بأن المشفِّع الله التي أثبتها الله [9] لعباده الصالحين؛
ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي، ويسجد
تحت العرش، قال: ( ... فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليَّ، لا أحسنها الآن، فيقال:
أيْ محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطه، واشفعْ تُشفَّع) ، فإذا أذن الله
في الشفاعة شفع لمَن أراد الله أن يشفع فيه، قال أصحاب هذا القول فلا يجوز أن
يشرع ذلك في مغيبه وبعد موته، وهو معنى الإقسام به على الله، والسؤال بذاته؛
فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فرقوا بين الأمرين، فإن في حياته صلى الله عليه
وسلم ليس في ذلك محذور ولا مفسدة؛ فإن أحدًا من الأنبياء لم يُعبد في حياته
بحضوره، فإنه ينهى أن يشرك به، ولو كان شركًا أصغر، كما أن مَن سجد له
نهاه عن السجود له، وكما قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا:
ما شاء الله ثم شاء محمد) وأمثال ذلك.
وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به، كما أُشرك بالمسيح والعزير
وغيرهما؛ ولهذا كانت الصلاة في حياته مشروعة عند قبره منهيًّا عنها، والصلاة
خلفه في المسجد مشروعة، إن لم يكن المصلي ملاقاته، والصلاة إلى قبره منهيًّا
عنها [10] .
فمَعَنَا أصلان عظيمان: (أحدهما) أنه لا يُعبد إلا الله، (والثاني) أن لا
يُعبد إلا بما شرع، لا بعبادة مبتدَعة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل
لأحدٍ فيه شيئًا.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) ، فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما
مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف
الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه؛ {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) ، ولا تقُل على الله ما لا تعلمه.
وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله، ولو حلف بالكعبة أو
بالملائكة أو بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام - لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك،
بل يُنهى عنه إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه؛ فإن للعلماء في ذلك قولين،
والصحيح أنه نهي تحريم؛ ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَن
كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمتْ) ، وفي الترمذي عنه أنه قال: (مَن حلف
بغير الله فقد أشرك) .
ولم يقل أحد من العلماء إنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام؛ فإن عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتين، لكن
الذي عليه الجمهور - كمالك والشافعي وأبي حنيفة - أنه لا ينعقد اليمين به
كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح، ولا يُستعاذ أيضًا بالمخلوقات، بل
إنما يُستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته؛ ولهذا احتج على أن كلام الله غير
مخلوق بقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ؛
فقد استعاذ بها، والمخلوق لا يستعاذ به، وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (لا بأس بالرقى ما لم يكن شركًا) ، كالتي فيها استعانة بالجن، كما
قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوَهُمْ رَهَقاً} (الجن: 6) ، وهذا مثل العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن، وقد نهى عن
كل قسم وعزيمة لا يُعرف معناهما، بحيث أن يكون فيهما ما لا يجوز من سؤال
غيره.
فسائلُ الله بغير الله إما أن يكون مقسمًا عليه، وإما أن يكون طالبًا بذلك
السبب، كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء
والصالحين، فإن كان إقسامًا على الله بغيره فهذا لا يجوز، وإن كان طالبًا من الله
بذلك السبب - كالطلب منه بدعاء الصالحين والأعمال الصالحة - فهذا يصح؛ لأن
دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة
سبب لثواب الله لنا، فإذا توسلنا بذلك كنا متوسلين إليه بوسيلة تبقى عنده، وأما إذا
لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة ... [11] ، ولا ريب أن لهم عند الله من
المنازل أمرًا يعود نفعُهُ عليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم، ومحبتنا لهم،
وبدعائهم لنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته ونحو
ذلك - فهذا من أعظم الوسائل، وأما نفس ذاته مع عدم الإيمان به، و (عدم)
طاعته وعدم دعائه لنا - فلا يجوز، فالمتوسل إذا لم يتوسل لا بما من المتوسَّل به
ولا بما منه، ولا بما من الله فبأي شيء يتوسل؟ ! [12] ، والإنسان إذا توسل إلى
غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي
الرجل أو صديقه أو مَن يكرم عليه: اشفعْ لنا عند فلان، (وإما) أن يسأل - كما
يقال -: بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك.
وقد عُلم أن الإقسام على الله بغير الله لا يجوز، بل لا يجوز أن يقسم بمخلوق
على الله أصلاً، وأما حديث الأعمى فإنه طلب من النبي أن يدعو له، كما طلب
الصحابة رضي الله عنهم الاستسقاء منه صلى الله عليه وسلم، وقوله: (أتوجه
إليك بنبيك محمد) أي بدعائه وشفاعته لي؛ ولهذا في تمام الحديث: (فشفعه فيّ) ،
فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو ما نحن فيه، وقد قال تعالى:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (النساء: 1) ، فعلى قراءة الجمهور [13] ،
إنما يتساءلون بالله وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله متضمن إقسام بعضهم على
بعض بالله وتعاهدهم بالله، وأما على قراءة الخفض فقد قالت طائفة من السلف:
هو قولك: أسال بالله وبالرحم، فمعنى قولك: أسألك بالرحم - ليس إقسامًا عليك
بالرحم؛ فإن القسم بها لا يشرع، لكن بسبب الرحم، أي أن الرحم توجب
لأصحابها - بعضهم على بعض - حقوقًا كسؤال (أصحاب الغار) الثلاثة لله عز
وجل بأعمالهم الصالحة.
ومن هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة: (اللهم إني أسالك
بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً
ولا سمعةً، ولكن خرجت اتقاءَ سخطك، وابتغاءَ مرضاتك - أن تنقذني من النار،
وأن تدخلني الجنة) ، فهذا الحديث (عن) عطية العوفي، وفيه ضعف [14] ؛ فإن
كان هذا كلام النبي الله عليه سلم فهو من هذا الباب لوجهين: أحدهما أن فيه السؤال
لله بحق السائلين عليه، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم،
وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أحقه على نفسه سبحانه، وتفضل به، وليس
للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئًا، ومنه قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54) ، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) ،
{وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} (التوبة: 111) ، وفي
الصحيح - من حديث معاذ -: (حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به
شيئًا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبَهم) ، فحق السائلين، والعابدين له هو
الإثابة والإجابة، فذلك سؤال له في أفعاله كالاستعاذة، وقوله: (أعوذ برضاك من
سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك) ، فالاستعاذة بالمعافاة - التي هي فعله-
كالسؤال بإثابته التي هي فعله، وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: (يا عبادي، إنما هي أربع: واحدة لي،
وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي هي لي:
تعبدني، لا تشرك بي شيئًا، والتي هي لك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي
بيني وبينك - منك الدعاء، وعليَّ الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فأتِ إلى الناس
ما تحب أن يأتوه إليك) .
وتقسيمه في الحديث إلى قوله: (واحدة لي، وواحدة لك) - هو مثل تقسيمه
في حديث الفاتحة، بحيث يقول الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل) ، والعبد يعود عليه
نفع النصفين، والله تعالى يحب النصفين، لكن هو سبحانه يحب أن يُعبد، وما
يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك؛ فإنما يحبه لكونه طريقًا إلى
عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولاً، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة،
والهداية إلى الصراط المستقيم؛ وبذلك يصل إلى العبادة، إلى غير ذلك مما يطول
الكلام فيما يتعلق بذلك، وليس هذا موضعه، وإن كنا خرجنا عن المراد.
(للفتوى بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أي من المؤمنين.
(2) عبارته في كتابه (التوسل والوسيلة) - الذي اختصرت منه هذه الفتوى - هكذا: (فأما التوسل بذاته في حضوره أو في مغيبه أو بعد موته (مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم - فليس هذا مشهورًا عند الصحابة والتابعين) .
(3) كذا في النسخة التي طبعنا عنها، ولعل الأصل: (أو يقولوا) إلخ، أي في حال البُعد عن القبر.
(4) هكذا ذُكر النفي هنا (بلا) معطوفًا، وهو يقتضي المقابل، ولعل الأصل: (ولكن لم يُنقل عنهم أنهم توسلوا بذاته، ولا نُقل عنهم) إلخ، وهذا الواقع الذي صرح به في عدة مواضع من كتبه ورسائله.
(5) هو حديث غريب كما صرح الترمذي، انفرد به أبو جعفر، قال: هو غير الخطمي، وظاهر صنيع (تهذيب التهذيب) - تبعًا لأصله - أنه مجهول؛ فإنه وضع له عددًا خاصًّا، ولم يزد على ما قاله فيه الترمذي إنه غير الخطمي، وإلا فهو عيسى بن الرازي التيمي، ولكن هذا ضعيف، حتى قال ابن حبان: ينفرد عن المشاهير بالمناكير، أو محمد بن إبراهيم المؤذن وليس بالقوي، وللترمذي تساهل في التصحيح، ومتن الحديث شاذ أيضًا، إلا أن يفسر التوجه به بدعائه، وهو متعين كما يُعلم مما فصَّله المؤلف.
(6) يزعم بعض الناس في زماننا أنه لا فرق في طلب الدعاء والشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بين حالي الحياة والممات؛ لأنه حي في قبره، وكأنهم يدَّعون أنهم أعلم من الصحابة وسائر أئمة السلف بذلك؛ فالصحابة - رضي الله عنهم - فرقوا بين الحالين، وإن شئت قلت (بين الحياتين) ، والأمور التعبدية لا تُشرع بالعقل ولا بالقياس.
(7) الحديث في صحيح مسلم بمعنى ما ذُكر من حديث أبي الدرداء بثلاثة ألفاظ، ليس هذا منها، فهو مذكور بالمعنى، ورواه أبو داود أيضًا.
(8) بل هما آيتان، والشاهد في الثانية أظهر، وهو قوله تعالى: [وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ] (آل عمران: 80) .
(9) لعل أصل العبارة: (والثانية أن يشفع الشفيع بإذن المشفِّع (بكسر الفاء) ، وهو الله تعالى، وهي الشفاعة التي أثبتها الله) إلخ.
(10) هذه العبارة كلها قد حرفها الناسخ، ولم نجد لها أصلاً في كتاب (التوسل والوسيلة) نصححها عليه، والذي يعلم من القرائن - بمعونة الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في القبور وإليها، والنهي عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد، واتخاذه عيدًا - أن الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم، أو بالقرب منه في حياته، لم يكن يخشى أن يقصد بها تعظيمه بها، فتكون إشراكًا؛ لأنها غير خالصة لله
تعالى، وأما الصلاة إلى قبره وتعظيمه بعد وفاته واتخاذه عيدًا - فيخشى منه ذلك؛ ولذلك نهى عنه.
(11) سقط من هذا الموضع جواب (أما) من نسختنا مع شيء من شرطها، والمعنى ظاهر، ومثله في كتبه الأخرى، ولعل الأصل: وأما إذا لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة التي نفعلها اقتداءً بهم، بل توسلنا إليه، وسألناه بذواتهم أو جاههم عنده - كنا متوسلين إليه بأمر أجنبي، ليس سببًا لإجابة سؤالنا إلخ.
(12) أي إذا لم يتوسل بما هو من المتوسل به كدعائه له، ولا بما هو منه هو كعمله الصالح وإيمانه، ولا بما هو من الله تعالى كسؤاله بفضله ورحمته، وما أوجبه على نفسه، فبأي شيء يتوسل، والوسيلة - وهي القُربة إلى الله - محصورة في هذه الثلاث، التي هي أسباب إجابة السؤال والعطاء دون ذوات الأنبياء والصالحين وصفاتهم وجاههم؛ إذ هي ليست من أعمالنا، ولا من أعمالهم لنا.
(13) هي نصب (الأرحام) .
(14) بل قال - في مجمع الزوائد -: (إن إسناده مسلسل بالضعفاء، لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق؛ فهو صحيح عنده.(23/681)
الكاتب: محيي الدين آزاد
__________
الخلافة الإسلامية
ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
فصل
واقعة الإمام الحسين عليه السلام
ولمعترضٍ أن يقول: لو كانت طاعة الخليفة واجبة في كل حالة - كما ذكرتَ-
لما خرج الإمام الحسين على خلافة يزيد بن معاوية، ولما عدته الأمة محقًّا
وشهيدًا مظلومًا!
والجواب على هذا أن الإمام لم يحارب أهل الشام في ذلك الحين الذين كان
يدَّعي الإمامة لنفسه، ولطلب الخلافة دون يزيد، والذي يعتقد غير هذا فكأنه لم
يطَّلع على واقعة كربلاء كما ينبغي، ويجب أن يفرق الناس بين الحالتين: حالة
خروجه من المدينة، وحالة قتله بكربلاء؛ فإنهما مختلفتان اختلافًا كليًّا، ولهما
حكمان مختلفان في الشريعة.
فالحالة - التي كانت عند خروجه من المدينة - أن حكومة يزيد لم تكن
تمكَّنت بعد، ولم تتم بيعته بالخلافة في المراكز الإسلامية المهمة والعواصم
والقصبات، ولا اجتمع عليه أهل الحل والعقد من المسلمين؛ لأن صوت أهل
المدينة كان من الأول أقوى الأصوات في مسألة الخلافة؛ لكونهم كانوا في العاصمة
الإسلامية، وفيهم أهل الحل العقد، ثم لما انتقلت العاصمة في زمن علي عليه
السلام إلى الكوفة - أصبح للكوفة شأن عظيم في السياسة، فلما خرج الإمام كانت
المدينة غير متفقة على يزيد، أما الكوفة فجميع أهلها كانوا ضده، وكانوا يلحون
على الإمام أن يقوم للخلافة، ويأخذ بيعتهم عليها، فالحسين عليه السلام لا حرص
على الخلافة، ولا خرج على الإمام، بل قام في الحين الذي تُوفي خليفة المسلمين
فيه، وخلا محله، ولم يتمكن أحد في مقامه تمام التمكن، مجيبًا لطلب الجم الغفير
من المسلمين الذين كانوا في المراكز المهمة - مثل أهل الكوفة والعراق - ولا
ريب أنه كان يراعي في قيامه مصلحة كبيرة أخرى أيضًا، وهي صَوْنُ الأمة من
مثل يزيد وخلافته.
وإن قيل: إن معاوية كان عهد بالولاية إليه، فما كان يجوز للإمام أن يخرج
عليه؟ ، فجوابه أن الشريعة لا تعتبر عهد الأب إلى ابنه بالخلافة شيئًا؛ ولذلك لما
ألح معاوية على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بأن يبايع يزيد - قال: (لا
أبايع لأميرين) (رواه ابن حبان ونقله في الفتح) .
وإن سلمنا جدلاً أن هذا العهد معتبر وصحيح فلا يُعتد به ما لم تتمكن الحكومة؛
إذ الشرط الجوهري للخلافة - كما علمت - انعقاد الحكومة، فمَن انعقدت حكومته
فقد صحَّت خلافته، وإلا فلا.
فهذه الحالة كانت عند خروجه من المدينة، ولكن تغيَّرت عند وصوله الكوفة؛
لأن أهلها بايعوا يزيد على يد ابن زياد، وقلبوا للإمام ظهر المِجن، كما فعلوا مع
أبيه من قبل، فلما رأى - عليه السلام - أن الناس دخلوا في طاعة يزيد، وتمكنت
حكومته - أقلع عن المطالبة بالخلافة، وعزم على أن يعود إلى المدينة، إلا أن ابن
سعد وجيشه لم يسمح له بذلك، بل حاصره، وحاول أسره وأهلَه وحرمَه، فقال لهم
الإمام: (خلُّوا سبيلي؛ لأذهب إلى دمشق، فأخاطب يزيد في شأني) ، ولكن
الظالمين أَبَوْا إلا أسره.
فلم يكن للإمام حينئذٍ إلا طريقان: إما أن يسلِّم نفسه وأهله إلى هؤلاء الطغاة،
وإما أن يستشهد بطلاً مِغْوارًا، والشريعة لم تجبر أحدًا على أن لا يدافع عن نفسه،
ويدَعها أكلة للآكلين، فاختار - عليه السلام - الطريق الثاني بالشجاعة الهاشمية،
وكمال العزيمة، واستشهد مظلومًا!
فتأمل في هذه الحالة؛ فإنها غير ما كانت عند خروجه من المدينة؛ فإنه إذ
ذاك كان مطالِبًا بالخلافة، أما في كربلاء فلم يكن مدَّعيًا لها، ولا محاربًا لأجلها،
بل كان معصومًا، طاهرًا زكيًّا، وقع في مخالب الظلمة الأشقياء، الذين لا يعرفون
الحق ولا الإنسانية، فأبت نفسه الأبيَّة أن تخضع لهم، وتذل أمامهم، فقام وجهًا
لوجه يدافع عن شرفه وناموسه؛ فقُتل ظلمًا وعدوانًا وبغير حق، ومن العجيب أن
الناس من قرون يُخْطئون في فهم هذه الواقعة، مع أنها واضحة، ومَن أراد التوسع
فعليه (بمنهاج السنة، ج 2) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
***
فصل
شرط القرشية
قد علمت - مما مَرَّ - أن الخليفة إذا انتُخب فله شروط، وقد ظل العلماء إلى
زمن طويل يحسبون منها القرشية أيضًا، أي إن الخليفة مع سائر الشروط يجب أن
يكون قرشيًّا، وإلا لا تصح خلافته، هذا في صورة الانتخاب، أما إذا استولى
عليها مستولٍ فلا يُنظر فيه إلى شرطٍ ما إلا الإسلام وانعقاد حكومته، ولا خلاف في
أنه لم توجد بعد الخلافة الراشدة خلافة جامعة لسائر الشروط؛ فخلافة بني أمية
وبني العباس إن كانت قرشية فقد كانت فاقدة لشروط أخرى كثيرة، سيما الشرط
الأساسي لها، وهو أن تكون بانتخاب الأمة، لا بالسيف والدم، وهذا الشرط لم
يوجد في أي خلافة بعد الخلافة الراشدة [1] ، ثم بعد هذا الشرط يُشترط أن يكون
الخليفة عادلاً، غير مستبد، يحكم برأيه بالشورى، ويسير على كتاب الله وسنة
رسول الله وسنة الخلفاء الراشدين، ومعلوم أنه لم يكن أحد من الخلفاء هكذا غير
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه [2] ، وقد استولى الأعاجم على الحكومة بعد
العباسيين، ثم انتقلت الخلافة من العباسيين - الذين كانوا بمصر - إلى الترك
والعثمانيين، فهي فيهم من ذلك الحين إلى الآن بلا نزاع، وقد أجمعت الأمة
الإسلامية على طاعة هذه الخلافة العثمانية [3] ، وتحسب السلاطين العثمانيين خلفاء
من قرون عديدة، فإن كان خلفاء بني أمية وبني العباس فاقدين لخمسة شروط مثلاً،
فنفرض الخلفاء العثمانيين فاقدين لسبعة شروط، فإذا لم يضر بالأولين فقدان هذه
الشروط فكيف يضر بالآخرين؟ ! ، فإن كان العثمانيون ليسوا من العرب، ولا
قريش فلا يقدح به في خلافتهم؛ لأن المسألة هنا ليست مسألة انتخاب الخليفة حتى
يُنظر في شروطه، وإنما الذي يهم في هذه الصورة هو أن يقوم قائم بالخلافة
والحكومة الإسلامية؛ لئلا يضطرب أمر الأمة، ويصبح فوضى؛ فلذا لا أهمية
لشروط الخلافة ههنا، وُجدت أو لم تُوجَد.
ومن شروط الخلافة المتفق عليها (الحرية) ، أي يجب في الخليفة أن يكون
حرًّا لا عبدًا، ولكن العبد إذا تغلب بشوكته وقوته، وقامت حكومته - فلا خلاف
في أن طاعته واجبة، ولا يوجد مثال في تاريخ الأمم بأسرها إلا في الأمة الإسلامية-
أن العبيد صاروا فيها أئمةً وملوكًا وقوادًا! وخضع لهم المسلمون من العرب
والعجم بلا عذر ولا إنكار، والأحاديث النبوية أكبر شاهد على ذلك؛ فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأن
رأسه زبيبة، وفي رواية مسلم عن أبي ذر: وإن كان عبدًا مجدع الأطراف) ،
وفي رواية ابن حصين: (ولو استعمل عليكم عبد - يقودكم بكتاب الله - اسمعوا
وأطيعوا له) ، والنواوي يقول في شرحه: والمراد أخس العبيد، اسمع وأطع،
وإن كان دنيء النسب، حتى لو كان عبدًا أسود مقطوع الأطراف، فطاعته واجبة،
ويتصور إمارة العبد إذا ولاه بعض الأئمة، أو تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه،
ولا يجوز ابتداء عقد الولاية له مع الاختيار، بل شرطها الحرية (ج2: 125) ،
وفي فتح الباري: (لو تغلب حقيقةً - بطريق الشوكة - فإن طاعته تجب إخمادًا
للفتنة) (13: 109) .
فمادام هذا النواوي - الذي هو من أكبر أنصار القرشية - يقول بنص هذا
الحديث: إن إمارة العبد مهما كان دنيء النسب خسيس الحال - صحيحة في
صورة الاستيلاء والغلبة، فكيف يُعترض على الخليفة العثماني القائم المتمكن بكونه
ليس من قريش؟ ! ، إن سلمنا أن القرشية شرط ضروري للخلافة [4] .
والحقيقة أن البحث في شروط الخلافة لا علاقة له بالمسألة التي نحن بصددها،
إلا أننا لا نرى بأسًا في أن نتكلم على شرط القرشية؛ إذ هو مزلَّة لأقدام كثير من
الناس.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا مبالغة، والواقع أن بدء خلافتهما كان بالقوة، لا خلافة كل فرد منهما.
(2) هذا الحصر غير صحيح على إطلاقه.
(3) دعوى الإجماع ممنوعة.
(4) لا شك في أن صديقنا - مؤلف هذه الرسالة - لا غرض له من تأليفها إلا تأييد الخليفة العثماني التركي، وإثبات صحة خلافته، ووجوب طاعته شرعًا، وهذا الغرض لم يوضع موضع خلاف جديد لأجل القرشية، فيحتاج في تأييده إلى التحريف والإيهام، الذي ارتكبه في نقل نصوص العلماء، والتصرف فيها، وهو غافل عن الحقائق الواقعة في هذا العصر، وأهمها أن الخليفة العثماني في حكم الأسير المحجور عليه من سلطة أجنبية غير إسلامية، وأن القوة المتغلبة في الأمة التركية خصم له، وإنما يمثلها مصطفى كمال باشا؛ فهو الذي تجب طاعته إذا أمر أو نهى بحسب القاعدة التي ذكرها، وإن لم يتحلَّ بلقب الخلافة! ! ! ، وهذا اللقب ليس بواجب شرعًا، وبمقتضى هذه القاعدة يجب طاعة كل متغلب بالقوة أينما كان، ومهما يكن لقبه، وإن تعدد، وعليه الحكومات الإسلامية في الشرق كالفرس والأفغان، وفي الجنوب كاليمن ونجد، وفي الغرب كمصر ومراكش، فالخليفة العثماني غير متغلب عليها، ولا أمر له فيها ولا نهي فيُطاع أو يُعصَى، سواء منها ما سيطرت عليه دولة أجنبية، وما لا سيطرة عليه لأحد، والمعترف بهذه الخلافة وغيره والعمل بهذه القاعدة هو الذي أضاع الخلافة الصحيحة المستوفاة الشروط؛ إذ وُجد في كل عصر مَن يؤيد كل متغلب مهما تكن
حاله، وجعلوا الضرورة العارضة أمرًا شرعيًّا ثابتًا، والذنب الأكبر في هذه السُّنَّّّّّة السيئة على معاوية الذي سَنَّها؛ فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة على أن أكثر خلفاء بني أمية وبني عباس كانوا قائمين بأهم واجبات الخلافة: من نشر الإسلام، وحماية دعوته، والجهاد في سبيلها، وإقامة الحدود، والحكم بالشرع في كل شيء وإنما كان أكثر ظلمهم في التصرف في أموال الأمة، وفي التنكيل بمَن يتصدون لنزع السلطة منهم، وأقله في أمور اجتهادية أخطأوا فيها، كحمْل الناس على القول بخلق القرآن وإذا مارى المؤلف في الإجماع على شرط القرشية فهل يماري في الإجماع على الحرية، وهل يجهل أن المتغلِّبين (حكمهم حكم البغاة وقُطَّاع الطرق؛ فلا يعتد بهم) كما صرح به الحافظ ابن حجر في شرح حديث ابن عمر: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) من شرحه للبخاري؟ ! ، إنه لا يجهل ذلك وإنا ندعو كل مسلم يستطيع أن ينصر الترك - على أعدائهم المعتدين على ملكهم، أو يساعدهم عليهم ولو بالمال - أن يفعل؛ لأنهم مسلمون معتدًى عليهم، وإذلالهم إذلال للإسلام، لا لأجل وجود الخليفة فيهم، وإلا فإن هذا الخليفة حكم - بفتوى من شيخ الإسلام عنده - بأن الكماليين خارجون عليه يجب قتالهم، فأنكر السواد الأعظم من المسلمين عليه ذلك، وكان عطفهم على الكماليين عامًّا، ومساعدتهم لهم بالمال ترد من كل قطر، وقد كان لانتصارهم على اليونان من السرور والابتهاج في الشرق والغرب ما لم يسبق لمثله نظير، ولو أطاعوا هذا الخليفة - كما يوجب عليهم المؤلف - لاستأصلوا الكماليين؛ ذلك بأن قاعدة السياسة العامة هي ترجيح المصلحة العامة، ولا نحتاج فيها إلى الخروج عن الأحكام الشرعية الإجماعية، أو القريبة من الإجماعية بقوة أدلتها، وضعف الخلاف فيها.(23/691)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرحلة الأوربية
(7)
بيَّنت في الفصل السابق أنه كان مِمَّا أرجو أن أخدم به أمتنا وبلادنا الشرقية
في أوربة إبلاغ مَن ألقى من أحرار الأوربيين حقيقة حال الشرق، وموقفه اليوم
أمام الغرب، والاستعانة بهم على إصلاح ذات البين، وأنه جرى لي أحاديث مع
بعض مَن لقيت منهم، ذكرت بعضها، وكنت - قبل ذلك - كتبت مقالة في
الموضوع، أردت أن تكون بلاغًا عامًّا لهم، فلم يتيسر لي نشرها، فإنني لما كلفت
صاحبنا الشيخ علي الغاياتي ترجمتها قرأها، وأعادها إليَّ قائلاً: إنه لا يوجد جريدة
في جنيف تقبل أن تنشرها لشدة حكمها على إنكلترة، وفرنسة، وهذا نصها:
نداء الشرق لأحرار الغرب
هذه صيحة حقّ - من جانب الشرق - يتموَّج بها الهواء في بُهْرة الغرب [1]
مدينة جنيف الحرة، التي هي كالمنار في هذه البهرة، حيث جمعية الأمم، ومثابة [2]
كل شعب مظلوم يشكو ممن ظلم، فعسى أن تخترق مسامع أعضاء هذه الجمعية،
فتنفذ إلى عقول حكيمة، وقلوب رحيمة، وعسى أن تردد صداها صحف هذه
المدينة، فتصل إلى أحرار جميع الشعوب الأوربية الكريمة، فتكون حجة لمحكمة
الأمم إذا أرادت أن تحكم بالحق فيما اختلف فيه الغرب مع الشرق، وذلك يتوقف
على سماع أقوال الخَصْمين، والنظر في مستندات الفريقين، وحجة عليها إذا هي
حكمت للقوي القاهر، بمجرد دعواه على المقهور العاجز، يشهد بها عليها أولئك
الأحرار العُدُول، ويسجلها عليها التاريخ الصحيح، حين ترى عاقبةَ هذا الحكم،
وتؤاخذ بسوء مغبَّته، يوم تعود الحرب جذعة [3] بهذه السياسة الخدعة، الخبأة
الطلعة [4] ، التي يسلك أخراتها [5] ، ومضايقها المغرورون بقوتهم، المسرفون في
مطامعهم، المتلذذون بعظمة استرقاق الشعوب، المتنعِّمون بما يسلبون فيها من
الخزائن والجيوب، بل نرجو من هؤلاء الأحرار المنصفين أن يجاهدوا هؤلاء
الساسة الماكرين، ويؤلِّبوا عليهم هذه الشعوب التي أرهقوها بالجندية، وفوادح
الضرائب المالية، فيتعاون العلماء والكُتاب، والصُّنَّاع والزُّرَّاع - على قلب سياسة
المطامع، المعزّزة بالبنادق، والمدافع المفضية إلى حرب بعد حرب، لا تنتهي إلا
بخراب الأرض، وإهلاك الحرث والنسل.
أصيخوا أصيخوا - أيها الأحرار - إلى ما يلقيه عليكم شرقي خبير بشؤون
الشرق، وما يجب أن يتبدَّل من علاقته بالغرب، بما أحدثت هذه الحرب من
الانقلاب الاجتماعي فيه، وأنتم أنتم الذي يمكنكم بهذا الانقلاب أن تكفروا سيئات
هذه الحرب وفظائعها عن مدنيتكم وشرف شعوبكم، وتأخذوا على أيدي دهاة سياسة
الطمع والكبرياء أن يرهقوكم، ويرهقوا العالم كله بحرب شر منها، إذا ظلوا
متحكِّمين في أموالكم، وجنودكم وعُمَّالكم، وظللتم مخدوعين بفصاحة خُطبهم
الخلابة، ومستعذبين لحلاوة أمانيّهم الجذَّابة.
أيها الأحرار المتفكِّرون، إنه ليقُل فيكم مَن كان له علم أو إلمام بدخائل هذه
السياسة الأفَّاكة [6] المُرَائية، أو سبْر لغَوْر مكرها وتلبيسها، وقد كنتم معذورين في
الزمن الماضي بتصديقهم في زعمهم أن الاستعداد للحرب، هو الذي يمنع الحرب،
وأن التنافس في الاستعمار الذي هو علة عِلَلها، ليس إلا مسابقة في خدمة الإنسانية
بتحضير الشعوب الهمجية، ومباراة في العمران الذي يرفِّه معيشتكم ومعيشة هذه
الشعوب جميعًا؛ ليُعلم العلم والعمران، ويعيش البشر كلهم في رَغَد السلام.
أما الآن، فلم يبقَ لكم عذر إذا استمررتم مخدوعين بخلابتهم، مستسلمين
لكيدهم، فقد فضحتهم هذه الحرب شر فضيحة، وكذبت دعواهم أن الاستعداد
للحرب أنفى للحرب، ورأيتم كيف كان التزاحم على الاستعمار والتنافس في حب
السيادة سببًا للمباراة في الاستعداد لها، وكيف كان هذا الاستعداد لها مُضرمًا لنارها،
وسببًا لإزهاق أرواح الملايين من البشر، ولخراب ما عمروه في العشرات، بل
المئات من السنين، ولضياع ما ربح المستعمرون بظلم الشعوب المستعبَدة من
الأموال، ثم لتشويه مدنيَّة هذا العصر وسوء سمعتها.
ألا إن تبعة هذه المصائب يجب أن تُلْقَى على أكتاد [7] رجال هذه السياسة
السوأى، وإن لم يثبت على أحد منهم بعينه إلقاء جذوة النار الأولى، فإنني على
رأي الفيلسوف الاجتماعي موسيو غوستاف لوبون في تبرئة كل دولة من دولها،
وكل رجل من هذه الدول، ملوكها ووزرائها، من تعمد بدء الحرب حتى ألمانية،
وعاهلها، وروسية وقيصرها، وفي أن سببها الحق مجموع أعمالهم السياسية التي
كانت كنقط ماء تقع في كأس، لم تلبث أن طفحت، ففاضت كما قال، أو كتجميع
القوى الضاغطة يوجب الانفجار، أو كوضْع البارود بجوار النار، لا يؤمن عليه
الاحتراق، فإذا لم تؤاخذوا هؤلاء الساسة بما جنتْه سياستهم على البشر لعُذْركم إياهم
بخطأ الاجتهاد، فلماذا تقرونهم على الإصرار على هذا الخطأ، والاستمرار على
هذه السياسة، وأنتم تعلمون أن المعلولات تتكرر بتكرار عللها، والمسببات تدوم
بدوام أسبابها؟ ، فكيف وقد تجدد لهذه المصائب والدواهي أسباب جديدة أحدثتها
الحرب، ثم معاهدات الصلح، وهذه الأسباب نوعان: يقظة الشرق، وتأريث
الحقد والانتقام بين أمم الغرب.
ما تعلمه الشرق من الحرب والصلح
أيها الأحرار، اعلموا أن حرب المدنية المادية الأوربية وهُدنتها، ومعاهدات
الصلح ونتائجها قد علَّمت عوامّ شعوب الشرق ما لم يكن يعلمه إلا بعض
خواصّهم من سوء مقاصد الدول المستعمِرة، حتى ساء الاعتقاد بالأمم الأوربية
أنفسها، فهدمت - في خمس سنين - ما بَنَى في العقول والقلوب من فضل هذه
المدنية، وعظمة أهلها في مدة قرن كامل، وعلَّمتها وجوب الاتِّحاد والتعاون بينها
- على اختلاف أديانها ومذاهبها وأجناسها - على دفْع عادية المستعمرين القساة
المتكبِّرين الظالمين المُرائين، علَّمتها الاقتداء بهم في بذل النفس والنفيس، وعدم
المبالاة بالموت في سبيل الحرية والاستقلال، علمتها أنهم لا يعرفون للحق، ولا
للعدل، ولا للفضيلة ولا للإنسانية معنًى، وأن الشرف والمجد استبداد القوي
بالضعيف، واستعباده، وتسخيره لعظمته وشهواته، علمتها أنهم كذَّابون مراؤون
أفَّاكون، يسمون الأشياء بأسماء أضدادها، يحسِّنون بذلك سيئاتهم، ويقبِّحون
حسنات غيرهم.
كان الشرقي إذا أراد أن يؤكد صدق قوله، أو الوفاء بوعده يقول: (كلمة
إفرنجية أو إنكليزية) ، وقد صاروا يطلقون هذا الوصف النسبي على ضد ما كانوا
يطلقونه عليه تعميمًا وتخصيصًا، ويعتقدون بحق أن الترك أصدق وأبرّ وأعدل
وأرحم من الإفرنج عامة، ومن الإنكليز والفرنسيس خاصة، وكيف لا، وقد
وعدهم هؤلاء بالتحرير والاستقلال وعودًا عامة وخاصة، بما أمطرت شركاتهم
البرقية، وجرائدهم الخافقين (الغرب والشرق) ، من وصف مبادئهم ومقاصدهم
من الحرب، وبما كانت طياراتهم تُلْقيه في البلاد العربية من المنشورات والجرائد
العربية الشارحة لهذه الوعود الموجزة، والمفصلة لمقاصد تلك المبادئ المجملة،
وأهم تلك المنشورات ما كان باسم أمير مكة بالأمس، وملكها اليوم، والأمير فيصل
أحد قواد الحلفاء بالأمس، وملك العراق من قبل بريطانية اليوم، وجريدة (القبلة)
التي أنشأتها حكومة الحجاز بعد الثورة العربية، وجريدة (الكوكب) التي كانت
تُصدرها السلطة البريطانية بمصر، فكان هذا وذاك وعودًا وعهودًا رسمية من
الحلفاء، تصدر من لدُن ملوكهم وقوادهم، وتنشرها بُرُدهم العسكرية وطيَّاراتهم،
فلا يمكن أن تكون من غيرهم.
ثم كانت عقابتها احتلالاً عسكريًا قاهرًا في سورية والعراق، ومعززًا بجميع
آلات الحرب الحديثة، مع بيع وطن فلسطين العربي لليهود، واستعبادًا واستذلالاً
للعرب من قِبَل المحررين المنقذين لهم! ، والمنتدَبين باسم جمعية الأمم؛ لمساعدتهم
على النهوض بأمر استقلالهم، بعد ما أصابهم من نوائب الحرب، ولكن هذه
المساعدة اضطرت هؤلاء الأصدقاء المخدوعين إلى ثورات، ومقاومات دمرت
مئات من المزارع والقرى، وقتلت عشرات الألوف في العراق وسورية!
جهل جمعية الأمم بمكر الحلفاء بها
أيها الأحرار المنصفون، إننا نعلم أنه لا يعزُب عن علمكم أن التنافس في
القوة المادية، والتزاحم على المطامع الاستعمارية - هما اللذان أوقدا نار الحرب
العامة، وأن معاهدات الصلح السوءى في فرسايل وسان ريمو وسيفر - هي التي
نقضت تلك المبادئ، وجعلت الظفر فتحًا وانتقامًا واستعمارًا، سيعيد الحرب جذعة،
ولكن الذي يرتاب فيه كثير من الناس في الشرق والغرب هو علم محبِّي الحق
والعدل من أعضاء جمعية الأمم، الذين ليس لدولهم هوًى، ولا لأفرادهم ضلع مع
أحد من الدول الظافرة القاهرة، بما يكيد لهم دهاة ساسة هذه الدول بمجلس الجمعية،
وما يلقون على عواتقهم من المهمة الثقيلة تجاه العالم الإنساني: تبعة حكم جمعية
الأمم لهم، وإقرارها إياهم على قهرهم للشعوب المغلوبة في الغرب، واستخدامهم
إياها لمنافعهم باسم التعويضات، وعلى استعباد شعوب الشرق كلها باسم الانتداب،
هذا الاسم الذي ابتدعوه؛ ليكون مخرجًا لهم من تلك الوعود والعهود، ودعوى أن
الحرب كانت بين مبدأين (المبدأ الجرماني الذي يبغي الاستعلاء على الأمم بالقوة،
ومبدأ الحلفاء الذين يبغون حرية الأمم) ، وعلى جعْل بناء السلم العام الدائم قائمًا
على اختصاص هؤلاء القاهرين الجائرين بالقوى الحربية، بأنواعها البرية
والبحرية والجوية؛ ليدوم لهم القهر والاستعباد للمحرومين منها، والعاجزين عنها،
أو يكفل لذات القوة الكبرى أن يدوم لها الرجحان والكلمة العليا، ألا وهي بريطانية
العظمى - التي شرعت في تأسيس إمبراطوريتين جديدتين - كانت تحلم بهما من
عهد بعيد، فجعلت حرب المبدأين وسيلة لتأسيسهما بقوة الجند والسلاح، وقوة الكيد
والخداع، الأولى منهما الشطر الشرقي من إفريقية، والثانية الشطر الغربي من
آسية، ويدخل في هذه السيادة جميع المعاهد المقدسة للأديان السماوية، كما أن لها
السيادة في الهند والتبت على أقدم معاهد الديانات الوثنية.
إنما يرتاب مَن أشرنا إليهم من الناس في علم من وصفنا من أعضاء جمعية
الأمم - وهم الأكثرون - بما ذكرنا من كيد ساسة الدول الظافرة لها، ومكرهم بها؛
لأنهم يظنون أن الجمعية بجملتها راضية بنظامها، مُلقية بقيادها إلى مجلسها، كما
تنقاد الرعية الجاهلة إلى ملكها المستبد بها، ذلك المجلس الذي يفصل باسمها في
أعظم المسائل تبعة وأسوأها عاقبة، كمسألة الوصايات الانتدابية، أفيصدقون أنها
مساعدة، وهم يرون ما بينهم من المساومة والمنازعة، والمصارعة والمقارعة [8] ،
ويقرؤون بعض ما تجود به برقياتهم وصحفهم من أنباء المظاهرات والثورات على
سلطتهم العسكرية القاسية، في البلاد المرزوءة بالوصاية؛ بدعوى العطف عليها،
والرحمة بها، ومساعدتها على النهوض بأعباء حريتها واستقلالها، وما يعترفون به
أحيانًا من مقاومة ذلك بتدمير القرى والمزارع، بأكساف الطيارات وقذائف المدافع،
التي تقتل العجزة والنساء والأطفال، وقلما تصيب المتظاهرين، أو الثائرين من
الرجال، وبفرض الغرامات الثقيلة على أهلها الوادعين الساكنين، وغير ذلك من
ضروب القهر والاستعباد، الذي شرحه تقرير المؤتمر السوري الفلسطيني، وما
ألحق به.
قواعد السلم بين الشرق والغرب
إنني - بعد بيان هذه الحقائق - ألخص لجمعية الأمم، ولجميع أحرار
الشعوب الأوربية آراء شعوب الشرق، وآمالهم في أحرار شعوب الغرب، وهي:
(1) أن زعماء شعوب الشرق - من علماء الحقوق والشرائع والخطباء
والكُتَّاب والضباط الذين هم قادة الأفكار وجنودهم من النابتة الجديدة المتعلمة - قد
أجمعوا على أن يكونوا أحرارًا في بلادهم، مستقلين بأمر حكوماتهم، لا سيد عليهم
من سوى أنفسهم، بل لا سيد إلا شرائع البلاد وقوانينها، والمساواة في العدل بين
المقيمين فيها، سواء كانوا من أهلها أو من المهاجرين إليها.
(2) يرى هؤلاء الزعماء أن التعاون الإنساني بين الشرق والغرب يجب
أن ينحصر في استعانة الشرقيين بأهل الفنون الغربية على عمران بلادهم،
واستخراج كنوز الثروة منها بإصلاح الري، وترقية الزراعة، واستخراج المعادن،
وزيت البترول، وغيره، وبما يتوسل به إلى ذلك من العلوم والفنون، وللغربيين
في مقابلة ذلك ما يأخذه هؤلاء الفنيون من الأجور العظيمة، وما يجلبون من الأغذية
لبلادهم، والمواد الأولية لمعاملهم، وما يربحون من بيع مصنوعاتهم الكثيرة؛ بهذا
دون غيره تكمل الروابط الإنسانية بين الأمم والشعوب، ويعم العمران، ويستغنى
عن سفك الدماء، وتأريث العداوة والبغضاء، بل يحل محلهما الحب والإخاء.
(3) إذا وُجد في أحرار الغرب مَن يساعد زعماء الشرق على هذا
الإصلاح الإنساني - الذي هو أقوى ذرائع السلام في الأرض - فأول ما يجب أن
يبدؤوا به إقناع دولتي إنكلترة وفرنسة بتعديل معاهدات الصلح المتعلقة بالشرق
بالحق والعدل، أو نَسْخها بخير منها، واستقلال الأقوام التي لا يمكن أن ترضى
بأن يكون السلطان في بلادها لأجنبي عنها، كعرب الجزيرة، والسوريين،
والعراقيين، والمصريين والترك والفرس والأفغانيين، بأن ترفع الاحتلال
العسكري من مصر، وفلسطين، وسورية، ولبنان، والعراق، وتترك لأهل هذه
البلاد الحرية التامة في شكل حكوماتها برأي مجالس نيابية منتخَبة من أهلها.
(4) أن تكف الحكومة البريطانية عن الدسائس التي تبثُّها في اليمن وسائر
جزيرة العرب لإيقاع الشقاق والفتن بين أمرائها، وإغراء بعضهم ببعض،
ومخادعتهم بعقد اتفاقات بينها وبينهم، تتوسل بها إلى العبث باستقلالهم عند سنوح
الفرص.
(5) إذا أعرض أحرار أوربة عن هذه الدعوة، أو عجزوا عن إصلاح
ذات بين الشرق والغرب، ورأى زعماء الشعوب الشرقية أن جمعية الأمم رضيت
لنفسها بأن تكون شر آلة وُجدت في الأرض لهدم قواعد الحق والعدل، بكفالتها
للقوي بالمال والسلاح كل ما يطمع فيه من الأضعف - فستكون عاقبة ذلك خراب
أوربة بحرب أخرى، أو بلشفية أضر من البلشفية الروسية وأضرى، واتحاد
جميع شعوب الشرق على الانتقام من جميع أمم الغرب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
_______________________
(1) البُهرة - بوزن الغرفة -: الوسط، والمراد أنها أوسط أوربة.
(2) المثابة: مجتمع الناس الذين يختلفون إليه بدءًا وعَودًا، وهو من: ثاب يثوب، بمعنى عاد ورجع.
(3) الجذعة بالتحريك: الشابة الفتيَّة، وهي مؤنث الجذع، وأصل استعماله في بهيمة الأنعام.
(4) الخُدَعة: الكثيرة الخداع، والخُبَأة: الكثيرة الاختباء والاستتار، والطُّلَعة: الكثيرة الطلوع، فهذه صيغ مبالَغة معروفة، وهي بضم ففتح كهمزة لمزة، ويستوي فيها المذكر والمؤنث والجمع بين الضدين، الخبأة والطلعة إنما يكون بالتعاقُب والتناوُب، أي أنها تختبئ تارة، وتظهر أخرى كسلاحف البحر، فالاختباء من الخوف، والطلوع لأجل الاستطلاع.
(5) الأخرات: المضايق، واحدها (خُرْت) ، فهي كقُفْل أقفال.
(6) الأفاكة - بالتشديد -: صيغة مبالَغة من الإفك، وهو صرف الشيء عن وجهه الحق بالكذب أو التلبيس والتمويه، أو المغالطة والتأويل.
(7) الكتد ما بين الكتفين.
(8) للمقارعة معنيان: ضرب كُلٍّ للآخر، وضرب القرعة بينهما على ما يختلفان له في قسمته.(23/696)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانقلاب التركي الجديد
وثائق تاريخية
إسقاط الدولة العثمانية، وتأسيس دولة تركية، وجعْل سلطة الخلافة
العثمانية روحية بحرمان الخليفة من السلطتين التشريعية والتنفيذية، عملاً بقاعدة
الديمقراطية الأوربية.
بَيْنَا كان صديقنا الزعيم الهندي الكبير (مولانا أبو الكلام) يُجهد قريحته في
استنباط الدلائل لإقناع العالم الإسلامي بوجوب طاعة الخليفة العثماني السلطان محمد
وحيد الدين، والخضوع لخلافته، وإن أساء وظلم، وفعل ما فعل ما لم يكن كفرًا
بواحًا، وارتدادًا عن الإسلام صراحًا -كان هذا الخليفة يستفتي شيخ الإسلام في
دولته في اعتبار حماة الدولة من أبطال الأناضول الكماليين - بُغاة خارجين على
الإمام (الخليفة) ، يجب قتالهم شرعًا، ويعد المقاتل لهم بأمر الخليفة غازيًا مأجورًا،
والمقتول بأيديهم شهيدًا مغفورًا، وكان هؤلاء الكماليون قد ألفوا حكومة تركية
محضة، لها السلطان كله على الأمة باسم الأمة، ولا سلطان عليها لملك ولا خليفة،
وما يتبع ذلك من ثل عرش آل عثمان!
وضع هؤلاء الغزاة المستبسلون ميثاقًا وطنيًّا لإنقاذ بلادهم من السلطة الأجنبية
التي فرضتها عليهم معاهدة الصلح مع الحلفاء، وقَبِلها السلطان وحيد الدين،
وحكومته، ثم وضعوا لحكومتهم الوطنية قانونًا أساسيًا نسخوا به قانون حكومة آل
عثمان، وأسقطوا دولتهم.
وإننا ننشر الآن هذا الميثاق، وهذا القانون مترجمَيْن بالعربية، ونقِّفي عليهما
بنشر ترجمة الخط السلطاني بتأليف وزارة الداماد فريد باشا المتضمن لأمره بقتال
الكماليين، وترجمة فتاوى شيخ الإسلام بذلك، وبلوغ الصدارة العظمى في تنفيذ
أمر الخليفة المؤيَّد بهذه الفتاوى، ونجعل هذا أصلاً، وتمهيدًا لبيان ما ترتَّب عليه
من الانقلاب بالفعل.
ترجمة الميثاق القومي التركي بالعربية
(وهو الذي تأسست الحكومة الكمالية في الأناضول لأجل تنفيذه)
المادة الأولى: أن الأقطار العثمانية - التي أكثر سكانها من العرب، والتي
تحتلها جيوش الأعداء منذ عقد الهدنة في أكتوبر سنة 1918 - يجب أن يقرَّر
مصيرها طبقًا لإرادة أهليها، على أن يمكَّنوا من الإعراب عن إرادتهم بملء الحرية.
وأما الأقطار العثمانية - الواقعة أمام خط الهدنة ووراءه، التي أكثر سكانها
من المسلمين العثمانيين الذين تجمعهم وحدة الدين، والمذهب، والغاية الوطنية -
فهي حريصة على حقوقها القومية، ومزاياها الاجتماعية، فلا تقبل التجزئة،
والتقسيم على أي حالٍ ولا بأي شرط.
المادة الثانية: أن ألوية قارص وأردهان وباطوم - التي أثبت أهلوها منذ
تحريرهم بصورة علنية صريحة إرادتهم الرجوعَ إلى حمى أمِّهم التركية - فلا يرى
الموقعون على هذا اليثاق بأسًا بأخْذ رأي سكانها مرة أخرى في مصيرها بتمام
الحرية.
المادة الثالثة: أن النظام القانوني لتراقية الغربية - الذي كان تقريره معلقًا
على عقد الصلح مع تركيا - يجب أن يؤسَّس طبقًا لإرادة الأهالي على أن يعربوا
عنها بحرية تامة.
المادة الرابعة: تكون سلامة الآستانة (عاصمة الدولة، ومقر الخلافة)
وبحر مرمرة - مصونة كل الصيانة، وفي مأمن من كل اعتداء.
إذا قُبل هذا المبدأ فإن الموقعين على هذا مستعدون لقبول أي قرار يؤخذ
باتفاق الرأي بين الحكومة السلطانية والدول صاحبات الشأن لضمان حرية المضايق
للتجارة العالمية والمواصلات الدولية.
المادة الخامسة: أن الموقعين على هذا الميثاق يقبلون القواعد الخاصة بحقوق
الأقليات التابعة للبلاد الأجنبية، كما تقررت في المعاهدات الخاصة المعقودة بين
دول الحلفاء وبين أعدائهم وبعض الدول المشتركة معهم.
ومقابل ذلك يجب أن تتمتع الأقليات الإسلامية النازلة في الممالك المجاورة
بنفس هذا الضمان لحقوقها.
المادة السادسة: أن الموقعين على هذا يعتبرون الاستقلال التام، والحرية
المطلقة شرطًا لا بد منه لحياتهم الوطنية، ولترقية بلادهم الاقتصادية والقومية،
ولتأسيس حكومة الدولة وإدارتها على أساس ثابت جديد.
ولهذه الأسباب صحت عزيمة موقِّعي هذا الميثاق على مقاومة كل قيد تشريعي
أو مالي من شأنه الحيلولة دون الارتقاء القومي.
ويجب على كل حال أن تكون شروط القيام بما سيُفرض على تركيا من
الواجبات غير مخالفة للقواعد المقررة في هذا الميثاق.
الآستانة في 28 يناير سنة 1920
***
القانون الأساسي
للدولة التركية الجديدة (أو قانون التشكيلات الأساسيَّة)
المواد الأساسية
المادة 1: السيادة للشعب بلا قيدٍ ولا شرطٍ، وأصول الإدارة مستندة إلى قيام
الشعب - بالذات وبالفعل - بإدارة شئونه.
المادة 2: تجتمع القوة التنفيذية والقوة التشريعية في الجمعية الوطنية الكبرى،
التي تمثل الشعب وحدها تمثيلاً حقيقيًّا.
المادة 3: تقوم الجمعية الوطنية الكبرى بإدارة الدولة التركية، وتُدْعَى
حكومتها (حكومة الجمعية الوطنية الكبرى) .
المادة 4: تتألف الجمعية الوطنية الكبرى من أعضاء ينتخبهم أهل الولايات.
المادة 5: تُنتخب الجمعية الوطنية الكبرى مرة كل عامين، والمدة الانتخابية
لكل عضوٍ هي عامان، ويجوز أن يُنتخب العضو كَرَّة أخرى، وتستمر الجمعية في
عقد اجتماعاتها إلى حين انتخاب الجمعية التي تخلُفها، فإذا تعذَّر الانتخاب يُمَدُّ أجل
الجمعية سنة أخرى، وكل عضوٍ من أعضاء الجمعية ينوب عن الشعب جميعه، لا
عن الأهالي الذين انتخبوه فقط.
المادة 6: تجتمع الهيئة العامة للجمعية الوطنية الكبرى في أول نوفمبر من
كل عام بغير دعوة.
المادة 7: تنفيذ الأحكام الشرعية، وسَنُّ جميع القوانين أو تعديلها أو إلغاؤها،
وعقد الصلح والمعاهدات، وإعلان الدفاع الوطني، وما يشابهها من الحقوق
الأساسية - خاصة بالجمعية الوطنية الكبرى، وتتخذ الأحكام الفقهية والحقوقية
الموافِقة لمعاملات الناس، وحاجيات الزمان والآداب والمعاملات أساسًا لوضع
القوانين والنظم، وتعين واجبات الوزراء ومسؤولياتهم بقانون مخصوص.
المادة 8: يقوم بإدارة دوائر الحكومة مَن تنتخبهم الجمعية الوطنية الكبرى
لذلك وفاق القانون المخصوص، وتعيّن الجمعية للوزراء وجهة الإدارة فيما يختص
بالتنفيذ، وتستبدل بهؤلاء الوزراء غيرهم عند الحاجة.
المادة 9: الرئيس - الذي تنتخبه الهيئة العامة للجمعية الوطنية الكبرى -
يرأس الجمعية مدة عقدها، وللرئيس أن يضع توقيعه باسم الجمعية، وأن يصدق
على قرارات الوزارة، ورئيس الجمعية هو الرئيس الطبيعي للوزارة.
الإدارة
المادة 10: تنقسم الإدارة التركية - باعتبار أحوالها الجغرافية والاقتصادية -
إلى ولايات، وتنقسم الولايات إلى أقضية، وتتألف الأقضية من نواحٍ.
الولاية
المادة 11: الولاية ذات شخصية معنوية، وهي حائزة لاستقلالها الداخلي
(Autonomie) في أمورها المحلية، وللمجالس الشورية في كل ولاية أن تقوم
بإدارة أوقافها ومعاهدها الدينية ومعارفها وصحتها واقتصادياتها وزراعتها وأشغالها
والمعاونة الاجتماعية بموجب القوانين التي تضعها الجمعية الوطنية الكبرى،
وتُستثنى من ذلك السياسة الداخلية والخارجية، والأمور الشرعية والعدلية
والعسكرية والعلاقات الاقتصادية الدولية، وتكاليف الحكومة العامة، وما يشمل
منافعه أكثر من ولاية واحدة.
المادة 12: يتألف مجلس شورى الولايات من أعضاء ينتخبهم أهالي الولايات،
ومدة اجتماع هذه المجالس عامان، وتجتمع في كل عام شهرين.
المادة 13: ينتخب مجلس شورى الولاية من بين أعضائه رئيسًا للقيام بوظيفة
الإجراء (التنفيذ) مع هيئة إدارة من بين الأعضاء، تُنتخب لإدارة شُعَب الإدارة،
بحيث تكون وظيفة الإجراء في يد هذه الهيئة الدائمة.
المادة 14: للجمعية الوطنية الكبرى والٍ يمثلها في كل ولاية، تعينه حكومة
الجمعية الوطنية، ووظيفته القيام بالواجبات العامة المشتركة للدولة، ولا يتداخل
الوالي - في غير ذلك - إلا عند وقوع تعارض بين واجبات الدولة والواجبات
المحلية.
الأقضية
المادة 15: القضاء جزء إداري، ليست له شخصية معنوية، يقوم بإدارته
(قائمقام) معين من قِبَل حكومة الجمعية الوطنية الكبرى، ويكون تحت أمر الوالي.
الناحية
المادة 16: الناحية: شخصية معنوية حائزة لاستقلال ذاتي في حياتها
الخاصة.
المادة 17: لكل ناحية مجلس شورى وهيئة إدارة ومدير.
المادة 18: مجلس شورى الناحية ينتخبه أهل الناحية مباشرة.
المادة 19: ينتخب مجلس شورى الناحية هيئة إدارتها ومديرها.
المادة 20: لمجلس شورى الناحية وهيئة إدارتها قوةٌ قضائية اقتصادية
ومالية، تعين القوانين المخصوصة درجاتها.
المادة 21: تتألف الناحية من قرية أو عدة قرى.
التفتيش
المادة 22: تعين مناطق التفتيش العام بتوحيد الولايات باعتبار علاقاتها
الاقتصادية والاجتماعية.
المادة 23: يتكفل المفتش العام بالأمن العام في منطقته وتفتيش المعاملات في
الدوائر، وتنظيم الأمور المشتركة بين الولايات التي في منطقته، ويراقب المفتش
العام وظائف الدولة العامة والوظائف الخاصة بالإدارات المحلية مراقبة دائمة.
مادة منفردة
المادة المنفردة: هذا القانون مرعيّ من يوم نشره، لكن الجمعية الوطنية
الكبرى الحالية لاجتماعها على الدوام إلى حين تحقيق غاياتها - كما هو مصرح في
المادة الأولى من قانون (نصاب المذاكرة) المؤرخ 5 سبتمبر 1920 - لا تنفذ
المواد الرابعة والخامسة والسادسة من هذا القانون (قانون التشكيلات الأساسية) ،
إلا إذا قررت الجمعية ذلك بأكثرية ثلثيها بعد تحقُّق تلك الغايات.
10 جُمادَى الأولى سنة 1339 - 30 يناير سنة 1921
(المنار)
قد عُلم من هذا القانون أن الترك قد أزالوا به السلطة الملكية العثمانية،
والخلافة الإسلامية معًا؛ فليس لغير الجمعية الكبرى في بلادهم أمر، ولا نهي،
وهذه أمنية لحزب (التركية الفتاة) منذ عشرات السنين، سنحت الفرصة الآن
لنيْلها بسهولة كما سنفصله بعد.
***
ثلاث وثائق تاريخية
(في مناهضة دولة السلطنة والخلافة العثمانية
للنهضة الكمالية)
الوثيقة الأولى
الخط السلطاني الصادر بمنصبَيْ الصدارة ومشيخة الإسلام، وبإقرار وزارة
الداماد فريد باشا المتضمن للأمر بالقضاء على نهضة الأناضول الوطنية.
محمد وحيد الدين
وزيري سمير المعالي فريد باشا..
بناءً على استقالة سلفكم صالح باشا وجّه مسند الصدارة إلى عهدتكم لما هو
مشهود من درايتكم وأهليتكم، وأحليت المشيخة الإسلامية أيضًا إلى عهدة دري زاده
عبد الله أفندي، وقد اقترنت بإقرارنا هيئة الوكلاء الجديدة، التي ألفتموها طبقًا
للمادة السابعة والعشرين من القانون الأساسي.
إن موقفنا السياسي - الذي بدأ منذ عقد الهدنة يقترب تدريجًا من الإصلاح -
أصبح في حالة وخيمة بسبب الاضطرابات التي وقعت تحت اسم القومية (في
الأصل الملِّية) ، وظلت التدابير الإصلاحية التي اتُّخِذت حتى الآن لصدِّها عقيمة.
وقد أظهرت الوقائع الأخيرة أنه إذا استمر - معاذ الله تعالى - هذا العصيان
فسيكون مصدرًا لأحوال وخيمة؛ فلذلك نطلب إنفاذ الأحكام القانونية بحق مُثيري
هذه الاضطرابات المعروفين والداعين إليها، وإعلان العفو العام عن الذين انضموا
إليها، واشتركوا فيها بسائق الغفلة، واتخاذ التدابير النهائية لإعادة الأمن والانتظام،
وتأييده في ممالكنا الشاهانية بسرعة تامة وإكمالها، وتوطيد ارتباط رعايانا
الصادقين بمقام الخلافة والسلطنة المحقق الذي لا يتغير، وإنشاء الروابط الصميمة
الاطمئنانية مع الدول المتحالفة العظمى، والاهتمام بالدفاع عن منافع الدولة والأمة
استنادا على أساس الحق والعدل؛ لتكون شروط الصلح معتدلة، وبذل الجهد لعقد
الصلح بأسرع ما يمكن، وريثما يتم ذلك يجب التوسل بأنواع التدابير المالية
والاقتصادية لتخفيف العسرة العامة بقدر الإمكان، وأسأل جناب الحق أن يجعلكم
مظهرًا لتوفيقاته الإلهية) .
***
الوثيقة الثانية
فتاوى شيخ الإسلام بأن الكماليين بُغَاة يجب قتالهم
ما قول مولانا شيخ الإسلام ومفتي الأنام في بعض أشخاص شرِّيرين، اتحدوا
واتفقوا في البلاد الإسلامية الواقعة تحت ولاية قطب نظام العالم خليفة المسلمين -
أدام الله تعالى خلافته إلى يوم القيامة - وانتخبوا رؤساء لهم، وأخذوا يحتالون على
الرعية الشاهانية الصادقة، ويغفلونهم، ويضلونهم بالتزوير، ويجمعون الجنود بلا
أمر عالٍ، ويفرضون أنواع الغرامات والضرائب خلافًا للشرع الشريف، ومغايرةً
للأمر المنيف؛ زاعمين في الظاهر أن ذلك لتجهيز الجيش، والحقيقة أنه لمحض
الرغبة في جمع المال، ويستعملون أنواع التضييق، ويأخذون أموال الناس
وأشياءهم غصبًا بعد تعذيبهم، فعوَّدهم ذلك ظلم عباد الله، وجرَّأهم على ارتكاب
الجرائم، فهجموا على بعض القرى والبلاد من الممالك المحروسة، فخربوها،
وجعلوا عاليها سافلها، وقتلوا عددًا من الأبرياء، وسفكوا دماءً طاهرة، وعزلوا
بعض الموظفين العلميين والملكيين والعسكريين المنصوبين من قِبَل أمير المؤمنين،
ونصبوا غيرهم أُناسًا من رهطهم، وقطعوا وسائط المواصلات والنقل بين مقر
الخلافة والممالك المحروسة، ومنعوا إنفاذ الأوامر الصادرة من جانب الدولة
قاصدين - بتجريدهم مقر الخلافة عن الأقطار الأخرى - كسرَ شوكة الخلافة،
وتوهينها، وإهانة مقام الإمامة المعلَّى بخروجهم عن طاعة الإمام، ونشرهم
الأراجيف والإشاعات الكاذبة للإخلال بالنظام والانتظام، والأمن العام في بلاد
الدولة العلية، وسَوْق الناس إلى الفتنة، والسعي بالفساد، كما هو ظاهر ومحقق، فإذا
أصر الرؤساء المذكورون وأعوانهم وأتباعهم من الباغين على عنادهم وفسادهم، ولم
يتفرقوا - بعد الأمر العالي الصادر إليهم بالتفرق - فهل يجب قتلهم وقتالهم، وتخليص
العباد من مضرتهم، وتطهير البلاد من شرهم وخباثتهم؟ وهل يكون ذلك فرضًا
مشروعًا طبقًا لما نصت عليه الآية الكريمة: {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات: 9) أم لا؟ نرجو الجواب.
الجواب: نعم، والله تعالى أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه الفقير ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... دري زاده السيد عبد الله ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عُفِيَ عنهما
وفي هذه الصورة: أيكون [1] من الواجب على المسلمين - القاطنين في الممالك
المحروسة، والقادرين على الحرب والضرب - إجابة دعوة الإمام العادل خليفتنا
السلطان محمد وحيد الدين، والالتفاف حوله لقتال البغاة المذكورين أم لا؟ نرجو
الجواب.
الجواب: نعم، والله تعالى أعلم.
وفي هذه الصورة: هل يكون امتناع الجنود - الذين يجرِّدهم الخليفة المشار
إليه لقتال البغاة المذكورين - عن قتالهم وفرارهم منه كبيرة أم لا؟ وهل يكونون
آثمين يستحقون في الدنيا التعزير الشديد، وفي العُقبى العذاب الأليم أم لا؟ نرجو
الجواب.
الجواب: نعم، والله تعالى أعلم.
وفي هذه الصورة: هل يكون الذين يقتلون البغاة من جنود الخليفة - غزاة،
أم لا؟ ويكون الذين يقتلهم البغاة من الجند شهداء، ومن التوابين أم لا؟ نرجو
الجواب.
الجواب: نعم، والله تعالى أعلم.
وفي هذه الصورة: هل يكون المسلمون - الذين لا يطيعون الأمر السلطاني
الصادر بقتال هؤلاء البغاة - آثمين، ومستحقين للتعزير الشرعي أم لا؟ نرجو
الجواب.
الجواب: نعم، والله تعالى أعلم.
***
الوثيقة الثالثة
(بلاغ الصدارة لإنفاذ الخط السلطاني
بعقاب الترك الكماليين)
(تجتاز الدولة العثمانية اليوم أزمة حرجة لا عهد لها بمثلها من قبل،
فالوطن في خطر حقيقي.
لقد كان الواجب على هذه الأمة أن تسلك سبيل السلامة والعقل بعد ما لاقته
من عِبَر الحرب العظمى، التي سِيقت إليها بدون علمها ورضائها، والتي استنفدت
أموالها ودماءها، وانجلت عن انكسارها، الذي انتهى باستسلامها إلى الدول حين
عقد الهدنة، فتتعظ بهذه النتائج، وتعود إلى رشدها وصوابها.
بَيْدَ أن بعض الأشخاص الذين لم يدركوا هذه الحقيقة - كما يجب - قاموا
بدافع الأنانية والنفع الذاتي يسعون للفتنة والفساد، متسترين باسم الأنظمة الوطنية،
فأحرج ذلك موقفنا السياسي، وجعله في أشد الأخطار، ونكأ من جهة ثانية جروح
هذا الوطن المقدس، الذي أثقلتْه تكاليف الحرب، وجرحته أنواع الجنايات، وسوء
الاستعمالات التي ارتُكِبت في سِنِي الحرب - جراحًا بالغات.
وقد أنتجت بعض الحوادث المؤسفة - التي وقعت - إثارة الرأي العام في
أوربة وأميركا علينا؛ فكان من أثره تشديد شروط الصلح فوق شدتها، واحتلال
الدول العظمى للآستانة احتلالاً عسكريًّا مؤقتًا طبق أحكام الهدنة، فقام - على أثر
ذلك - العصاةُ يسعون لقطع المواصلات بين الأناضول والعاصمة، وإن ذلك
لأعظم خيانة وطنية.
إن هذه الحركة الباغية - المتستِّرة بستار الوطنية - جعلت الأناضول عُرضة
لاحتلال مخيف من جهة، وتكاد تورد الدولة موارد جديدة من الأخطار والمصائب،
إن أعظم أعداء الأمة العثمانية اليوم هؤلاء الذين يضحُّون الأمة والوطن تجاه
مطامعهم الشخصية متسترين بدعوى الوطنية الكاذبة، وإن هؤلاء يهيئون سلسلة
ثقيلة من الجنايات للعاقبة التي يعملون لأجلها، فقد داسوا على الدستور وعلى
قوانين الدولة بأرجلهم، وأخذوا يرتكبون الفضائح المتوالية، ويجمعون الدراهم من
الأهالي بالإكراه، ويجنِّدونهم بالقوة، ويوصلون أنواع الأذى إليهم، ويقتلون مَن لا
يقدم لهم الدراهم، ولا يدخل في جيشهم، ويباغتون القرى، وينهبونها، ويحرقون
القصبات، هذه الأفعال منافية للأمر الإلهي، ومردودة في نظر الشرع الشريف،
كما هو مبين في الفتوى الشريفة المنشورة أعلاه، وإن الحكومة الحاضرة تعد
الاحتفاظ بحياة كل فرد من الأمور الواجبة في هذه الأوقات، أكثر منها في كل
زمان للمساعدة على إنهاض هذا الوطن العثماني، الذي أُصيب بأنواع المصائب،
وتعميره، وتلافي خَسارته في النفوس والقوة.
إن هذه الحكومة - التي تفضل إدراك آمالها من خير وصلاح بغير سفك دماء-
لا تتردد في تأديب هؤلاء الذين حادوا عن الطريق المستقيم امتثالاً لإرادة حضرة
صاحب الخلافة السنية المبلّغة بموجب الخط الهمايوني، ووفقًا للشرع الشريف
والخط المنيف؛ وذلك لإنقاذ حياة الدولة والأمة، وسلامتها من خطر محقق.
بناءً عليه نعلن:
أولاً - أن الذين اشتركوا في حركات العصيان - مخدوعين بأقوال القائمين
بهذه الحركات، أو متأثرين بتهديدهم، وهم يجهلون ما تجرُّه من النتائج الوخيمة -
إذا عادوا نادمين، وعرضوا صداقتهم وإخلاصهم لجلالة مولانا (أفندينا) في مدى
أسبوع؛ يكونون محلاً للعفو العالي.
ثانيًا - أن الحكومة ستؤدب القائمين بالعصيان، والداعين إليه، والمشتركين
فيه من المصرِّين على عنادهم، كما يقضي بذلك الشرع والقانون، ولما كانت
الحكومة لا تتسامح في أي جهة من جهات المملكة باعتداء الأهالي المسلمين على
مواطنيهم من غير المسلمين - فكل مَن يرتكب مثل هذه الأعمال، أو يتغافل،
ويتسامح في إيقاعها شخصيًّا يكون عرضة لأشد العقاب) انتهى.
***
(المنار)
لو كان ذلك الخط السلطاني والفتاوى الشرعية وهذا الأمر الوزاري صدرت
في حالة عادية، والحكومة متمتعة باستقلالها في شأن فئة من رعيتها بغت عليها،
وخرجت عن طاعتها - لم يكن عليها غبار، ولكن هذه الحكومة كانت واقعة في
أَسْرِ الأعداء المحتلين لعاصمتها، والمسيطرين عليها بالقهر والدسائس جميعًا، وقد
قَبِلت معاهدة الصلح المخزية السالبة لاستقلالها، بعد سلخ ما سلخت من بلادها،
وكان الكماليون هم الذين أبوا قبول هذا الخزي باختيارهم، وقاوموه بسلاحهم؛
فكان ضلع العالم الإسلامي كله معهم، وتم ذلك بنصر الله تعالى لهم.
والناس مَن يلقَ خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم (المخطئ) الهبل
__________
(1) في الأصل: بهذه الصورة ألا يكون إلخ، ولا يصح العطف بالنفي على السؤال المنفي بقوله في آخر السؤال: أم لا، ثم الجواب عنهما بنعم، ومثله ما بعده، فجعلنا الاستفهام الأول إيجابيًا.(23/703)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ظفر الترك باليونان
وثلهم عرش دولة آل عثمان
وجعْلهم الخلافة الإسلامية سلطة روحانية أدبية
{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} (آل
عمران: 140-141) .
إذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى
أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) .
استخفَّ الظفر في الحرب الدولة البريطانية، فخانها حُلمها الراسخ، ورويَّتها
وأناتها في الأمور، فأظهرت ما كانت تكتم من التعصب الديني، وعداوة الإسلام،
وحاولت القضاء على ما بقي من السلطة الإسلامية الضعيفة، والاستقلال
المضطرب في بلاد الترك والعرب، فتقسمت هذه البلاد بينها وبين حلفائها قسمة
ضِئْزَى، وكان مما اصطفته لنفسها مصر، وسائر ما بقي من بلاد العرب - إلا
مِفْحَص قَطَاة في سورية لحليفتها فرنسة - والقسطنطينية العظمى مع زقاقيها
العظيمي الشأن (الدردنيل، والبوسفور) ، على ثقة منها بأن مملكتي إيران،
والأفغان في قبضة يمينها، وبلاد القوقاس، وتركستان في قبضة شمالها، وصرح
كبير وزرائها لويد جورج بأن هذه الحرب آخر حرب صليبية في الأرض، أي لم
يبقَ فيها شعب إسلامي مستقل يمكنه أن يذود على حوضه بسلاحه؛ فإن الدولة
العثمانية - آخر دولة حربية إسلامية - قد سقطت تحت السيطرة الأوربية المسيحية.
فلما رأت أن أُسُود الترك في الأناضول قد جمعوا فلول جيوشهم، وأبَوْا
الخضوع لما فُرض عليهم في معاهدات الصلح الجائرة - من إلقاء سلاحهم لأعدائهم،
والخنوع لما أوجبوا عليهم في أنفسهم وأموالهم وإدارة بلادهم - أغرت بهم
الدولة اليونانية، عدوتهم التاريخية، وقد زاد بفضلها عليها عددُها، وتضاعف
بمساعدتها لها مددُها، فجاست خلال الديار، وسامتها الخَسَف والتَّبَار، وحكمت
فيها السيف والنار، وقتلت الكبار والصغار، والوزير البريطاني الأكبر (لويد
جورج) يمدها في غَيِّها، وينصرها في بغيها، فعزَّ على ليوث العرين، وشم
العرانين، أن تلج الثعالب أغيالها، وتغتال فيها أشبالها، فبطشوا بزحوف اليونان
البطشة الصغرى، فوقفوا لا يتقدمون، ولا يتأخرون، ثم صاح بهم العدل الإلهي:
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} (الدخان: 16) .
هجمت الليوث التركية الكمالية تلك الهجمة الصادقة على جيوشهم، فولَّوْا
مدبرين {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: 45) ،
فطردتهم في مدة أسبوعين، مما تبوَّؤه في مدى سنتين، فقتل منهم عشرات الألوف،
وأَسْر عشرات الألوف، وفر الباقون من مصارع الحتوف، تعبث في أقفيتهم
الحراب والسيوف، وما زال يطاردهم سيف النصر، حتى ألقى مَن سلم منهم عند
سيف البحر، حيث تنتظر السفن كل شريد وطريد، فيما كانوا يحتلون من ثغرَيْ
أزمير، وإزَميد، وغنم الترك ما لا يُحصَى من سلاحهم وعتادهم، ومتاعهم
وزادهم، وناهيك بأسر مَن أخطأه الرَّصَاص من كبار قوادهم، وفشل تدبير لويد
جورج، وفنزيلوس بتجديد القيصرية (الإمبراطورية) البيزنطية، وحُلم الملك
قسطنطين الثاني بلبس تاج قسطنطين الأول في محراب جامع (أيا صوفية) ،
وخاب كيد الإنكليز لإجلاء مسلمي الترك من شرقي أوربة بهمجية اليونان، كما
أُجْلِيَ مسلمو العرب من غربيِّها - الأندلس - بهمجية الأسبان.
لو كان كل ما في هذا النصر العزيز أنه سحْق جيش تركي مهاجم، لجيش
يوناني مدافع، يفوقه في العدد والمدافع - لما كان بِدْعًا من النصر، ولا مما يعده
الترك من موجبات الفخر، ولكنه كان أثرًا لهجوم عسكري لم يسبق له نظير في
أعظم المعارك بتدبيره وإحكامه ونِظامه، واستيفائه لجميع الشرائط الفنية، وسرعة
تأثيره في ميادين مختلفة، وكان على هذا عقب سلسلة حروب مع البلقانيين في
البلقان، ومع إيطالية في طرابلس الغرب، ومع إنكلترة في فلسطين، والعراق،
ومع روسية في الأناضول، ومع الإنكليز والفرنسيس جميعًا في غاليبولي، ثم مع
فرنسا في كليكية، ومع الأرمن في القوقاس، وكان على هذا وذاك بعد انكسار
الدولة، وطلبها الهدنة، والخضوع لشروطها القاهرة، ثم قبول حكومة السلطان في
الآستانة لشروط الصلح القاضية بتقسيم بلاد الدولة بين الأحلاف، وسيطرتهم على
الإمارة التركية الصغيرة التي أبقَوْها باسم سلطان الترك وخليفة الإسلام في ماليتها
وعسكريتها وأحكامها القضائية، وكان على هذا كله بعد إلقاء الإنكليز المحتلين
لعاصمة الدولة الفساد بين السلطان وحكومته، وبين أبطال الأناضول المدافعين عما
بقي من بلادهم، قبل أن يعمَّها الاحتلال الأجنبي المذل بل المميت، والمطالِبين
باستقلال ما رُزئ بالاحتلال منها، حتى حملوه على الحكم بعصيانهم، وإباحة
إهراق دمائهم، بخروجهم على سلطانهم وخليفتهم، لكسر قوتهم المعنوية، بفتوى
من شيخ الإسلام، تطبق عليهم حكم البغاة الخارجين على الإمام، المحاربين لله
ورسوله، والساعين في الأرض بالفساد، ولو أنه أمر بهذا وهو حر في تصرفه،
مستقل في حكومته - لما اكترثوا لأمره، فكيف وهم يعتقدون أنه واقع تحت أسر
أعداء الإسلام، ومسيَّر بنفوذهم، فعصيانه واجب، وإسقاط حكومته ضربة لازب،
ثم إنه كان على هذا كله ظفرًا بدولة بريطانية العظمى، وقضاءً على ما كان من
نفوذها الأسمى، وإحباطًا لسعيها المعلوم، وهو إزالة ملك الإسلام من الشرق،
والاستيلاء على جميع دول الغرب؛ ولذلك كان ضلع حليفتها فرنسة مع الترك
الكماليين؛ مقاومة لمساعدتها هي لليونانيين.
أصبح الترك الكماليون بهذا النصر أمام عدوتهم إنكلترة وجهًا لوجه بزوال تلك
الواسطة التي كانت تحاربهم بها ومن ورائها، فطفقت تحشر أساطيلها أمام الدردنيل
ووراءه، وتسوق جيوشها إلى (غاليبولي وشناق قلعه) ، وأهابت بحليفتيها
المحتلين معها للآستانة أن تستعدا لقتال الترك، فَأَبَيَتا ذلك عليها، فصاح لويد
جورج يستنجد الإمبراطورية كلها؛ لتحفظ له ثمرة النصر في الشرق؛ فكان جواب
أكثرها خافتًا، فهبَّت الأحزاب البريطانية المعارضة تفضحه بأنه يريد إثارة حرب
صليبية أخرى تنفرد بريطانية العظمى بها دون أوربة، وتوسطت فرنسة -
بصداقتها للكماليين - فأقنعتهم بعقد الهدنة، وترْك الزحف على تراقية والآستانة،
فعُقدت الهدنة في ثغر (مدانية) ، وهو ثغر تركي صغير، كان لهم بعقدها فيه
شرف كبير، وضمن لهم الحلفاء فيه الحدود التي قرروها في ميثاقهم القومي.
وكان هذا فشلاً لسياسة الوزير لويد جورج أدى إلى سقوط وزارته، وعرف
العالم كله أن الذي أسقطها هو الغازي كمال باشا بقوته، وقد أصبح الترك - بعد
ذلك الذل والنَّكَال - يخاطبون بريطانية العظمى مخاطبة الأنداد والأقتال، وهذا ما
كانوا فقدوه منذ قرون وأجيال، فسبحان مَن يعز مَن يشاء، ويذل مَن يشاء.
أذاع البرق أنباء هذا النصر في العالم، فاهتز لها الشرق، وشخصت أبصار
دول الغرب، وكادت تصعق الدولة البريطانية خيبةً وخِزْيًا، كما صعقت اليونانية
قهرًا وعجزًا.
لله در الكهرباء فثغرها الـ ... بسام كم يبدو ويبشر بالجدا
ولربما التهبت فكان وميضها ... نارًا فأحرق من بغى وتمرَّدا
احتفل المسلمون بهذا النصر المبين في كل قطر من الأقطار، بقدر ما لأهله
من الحرية ووسائل الاجتماع وإظهار السرور، وكان قصب السبق في ذلك لمصر
والهند، ويليهما سورية والعراق على كراهة ملكها لذلك، ويليهما تونس،
والجزائر فمراكش، وكان العهد ببلاد المغرب الأقصى أنها أقل بلاد الإسلام اهتمامًا
بالدولة العثمانية، وما يجري فيها، فصارت - بسبب الحماية الفرنسية - كأمثالها
أو قريبًا منها واتفق أن ضلع الدولة الحامية لها في هذه المرة مع الترك، حتى إن
سلطان المغرب هنأ الحكومة الفرنسية - لا الحكومة الكمالية - بهذا النصر (!)
وقد قرأنا في جريدة (السعادة) المغربية عدة قصائد لأدباء المغرب في الابتهاج به،
وأنهم يعدونه نصرًا للإسلام على أعدى أعدائه، وقد كتب إلينا من اليمن أن كلاًّ
من الإمام يحيى، والسيد الإدريسي قد احتفلا في بلادهما بهذا النصر، وأمر السيد
الإدريسي بإطلاق واحد وعشرين مِدفعًا من المواقع العسكرية إيذانًا بالاحتفال، وقد
يظن أن بلاد الحجاز هي التي شذَّت وحدها، وإنما الذي شذ وحزن لهذا النصر هو
ملكها، وأما أهل الحجاز - ولا سيما البلدين المكرمين - فهم أشدُّ حبًا للترك
ودولتهم من غيرهم، ولكنهم تحت ضغط حكم قاهر لا يملكون من حريتهم شيئًا لا
يُرضي مالك أمرهم.
هذا العطف الإسلامي العام، والمكانة السامية أمام دول الحلفاء - التي لا تُنال
عندهن إلا بسفك الدماء - قد جرَّآ الكماليين على القبض على أعنَّة الإدارة في
الآستانة المحتلة، والشروع في إنفاذ خطتهم في إسقاط الدولة، ومحاكمة رؤسائها،
حتى السلطان المتحلِّي بلقب الخلافة، وقد أوعز إليه بأن يستقيل، فأبى، وظن أنه
يستطيع أن يُحْدِثَ بقوة الإنكليز حدثًا، فلما رأى أن السواد الأعظم من أهل الآستانة
عليه معهم، لا معه عليهم - اتفق مع السلطة البريطانية على الفرار من العاصمة
بنفسه، ففعل، وقد نقلوه مع غلام له وبعض حاشيته على بارجة إنكليزية إلى
مالطة، وشاع أنهم يريدون أخْذه إلى الهند رجاءَ أن يفرقوا به كلمة المسلمين فيها،
وقد دعاه ملك الحجاز إلى مكة بلسان البرق بإيعاز من الإنكليز - كما يقال - لتدبير
كيد في الخلافة يوقع في العالم الإسلامي الشقاق، أو ينفِّره من الترك الكماليين،
فيكون عونًا لهم عليهم، وإلا فإن جريدة (القبلة) - لسان ملك الحجاز - لم يطُل
العهد على تكفيرها لهذا الخليفة، فهل كان إظهاره العداوة لقومه، وإهانته لنفسه
ولمنصبه بالالتجاء إلى عدوه رجوعًا عن الكفر إلى الإيمان، ومدعاة إلى التعاون
على إقامة الإسلام؟ ! أم ثَمًّ كيد ككيد صواحب يوسف يريد به الإنكليز ضرب
المسلمين بعضهم ببعض، ويريد صاحب الحجاز من أسير الإنكليز في مكة، مثل
ما كان من أسير السلطان سليم في الآستانة؛ ليقول {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} (يوسف: 65) ؟ ! إذن ينبغي أن يكون له قوة حجازية، كقوة سليم العثمانية،
وأما قوة الدولة البريطانية - الموجهة إلى إماتة السلطة الإسلامية - فلن تكون
مُحيية للخلافة النبوية، وإن تركت حكومة الترك الجديدة باب الفتنة مفتوحًا بما
اخترعت من الخلافة الروحية، وحصرت السلطة كلها في جمعيتها الوطنية.
اضطرب العالم الإسلامي لنبأة ابتداع خلافة ذات سلطة روحية، مجردة من
كل سلطة حكومية، وهي بدعة جديدة من الجهتين الإيجابية والسلبية، لم يرمِ إلى
مثلها أحد من مبتدعة المسلمين إلا الباطنية، فهم الذين جعلوا لإمامهم المعصوم
سلطانًا روحيًّا، وأوجبوا اتباعه في كل ما يفسر به النصوص، وإن كانت قطعية،
وفسرها بما يخالف معناها القطعي، ولكنهم لما قدروا على تأسيس دولة جعلوا الإمام
الروحي هو السلطان السياسي والحاكم الشرعي، وليس في الإسلام سلطة روحية
بالمعنى الذي ابتدعته الباطنية - والترك لا يريدونه - ولا المعروف عند النصارى،
وهو نحو منه، حتى نهرب من الجمع بين السلطتين، ونقلد بعض النصارى في
التفريق بينهما، وإنما سلطة الخليفة في الإسلام حكومة محضة، وهو مسئول عن
عمله كغيره، وإن كان رئيسًا دينيًّا ودنيويًّا، فمعنى رياسته الدينية أنه هو صاحب
الأوَّلية، والأولوية في مثل إمامة الصلاة، والخطبة من العبادات الاجتماعية،
ولكن لا يكلَّف مسلم أن يتبعه في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات الشخصية،
وإنما تجب طاعته فيما يأمر به، أو ينهى عنه، من حيث هو حاكم إذا لم يكن
معصية، وقد أمر بعض خلفاء العباسيين بالقول بخلق القرآن، فخالفهم أعظم أئمة
أهل السنة كالشافعي، وأحمد، ولم يكونوا يخالفونهم فيما يحكمون به، أو يأمرون
من الأمور السياسية والمدنية الموافِقة للشريعة، وسنبين أحكام الخلافة في مقال آخر.
إننا نرى أن أهم مصالح المسلمين السياسية الآن أن يؤيدوا الترك الكماليين في
موقفهم أمام دولة أوربة الطامعة في اغتصاب ما بقي للمسلمين من مِلْك ومُلْك، وهو
دون ما اغتصبته من قبل، وأن لا نجعل خطأهم - في مسألة الخلافة - سببًا
لإضعافهم في هذا الموقف، بل ندَعه إلى أن يتم الصلح، ويحق لهم الاستقلال
الصحيح المطلق من قيود النفوذ الأوربي، فحينئذ ندلي إليهم بما لدينا من الحجج
الشرعية والسياسية، على ما يجب أن يكون عليه مقام الخلافة الشرعية من سلطان
ونفوذ، ومنه إثبات أن سلطة الخليفة مقيدة بالشرع والشورى، وأنه هو الممثل
لسلطة الأمة ووحدتها، لا صاحب سلطة فردية مستبدة، وأن الاشتراط عليه عند
المبايعة من سنن الراشدين، التي جرى عليها الصحابة؛ فإن عبد الرحمن بن
عوف لما فوض إليه رجال الشورى الأمر، وأراد مبايعة علي، أو عثمان -
اشترط على مَن ولاه اتباع سيرة مَن قبله، فقَبِل، والسلطة الحقيقية في الحكومة
الإسلامية لجماعة أهل الحل والعقد، الذين لا يكون الخليفة خليفة إلا بمبايعتهم، كما
فصلناه في تفسير قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، وسنلخصه في مقالة الخلافة التي وعدنا بها آنفًا.
إن أُولِي الأمر وأهل الحل والعقد في الدولة التركية في هذا الوقت - هم
الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة، وهم الذين إذا نجحوا تنجو الدولة، وإذا خذلوا
وخابوا - لا سمح الله - تهلك الدولة! ، ولم يكن الخليفة - الذي ناوءهم وناوؤه -
هو الإمام الحق المتحلي بشروط الإمامة والقائم بحقوقها حتى يجب نصره عليهم،
بل كان جماهير المسلمين يقرون له بمنصب الخلافة لأجل تقوية الدولة والأمة بهذا
المنصب أمام الأعداء، فإذا انقلب الأمر، وانعكس الوضع، وصار أعداء الملة هم
الذين يستعينون بمنصبه على سلب سلطتها، والاستيلاء على بلادها - فهل يقول
مَن له أدنى مسكة من الدين أو العقل بنصر أعداء الإسلام على المسلمين؛ لأجل
مَن سَلَّحُوهُ بهذا اللقب؛ ليكون قوة للمسلمين على أعدائهم؟ !
لعل الإنكليز يظنون أن المسلمين قد سفهوا أنفسهم، حتى انحدروا إلى هذا
الدرك الأسفل من الجهل بدينهم ومصالحهم، وأنه يمكنهم أن يتخذوا محمد وحيد
الدين فتنة للمسلمين، ولا سيما إذا وضعوه في مكة، واتحد مع صنيعتهم الأول ملك
الحجاز على إثارة هذه الفتنة في البلاد المقدسة، وهو على كونه قد حكم عليه
بالمروق من الإسلام - لم يخرج عن سياسته بدعوته الآن إلى الإقامة عنده في
المسجد الحرام، الذي حرم الله أن يقربه المشركون والكفار - فإن تكفيره أولاً خدمة
للإنكليز، ونصر لهم على الدولة التركية، ودعوته الآن إلى مكة خدمة لهم كذلك،
ولكنها خدمة خاسرة، في الأولى والآخرة.
لو عرف جماهير المسلمين في الأقطار المختلفة الحقيقة - التي بينَّاها آنفًا -
لما أكثروا الخوض في مسألة الخليفة الذي والى أعداء أمته وملته، ولا في مسألة
خلَفه، ولا في تخطئة حكومة الجمعية الوطنية، أو تأييدها في أمره، ولحصروا
تأييد هذه الحكومة بما يقوي مركزها أمام أعدائها، ونصحوا لها بأن ترجئ البت في
مسألة الخلافة إلى الوقت المناسب لها، ولكن إقناع غير المحصورين بذلك متعذر،
والظاهر لي أن الجمهور الأعظم على الرأي الذي ظهر لنا أنه الصواب، وإن جهر
بعضهم بما يخالف في السلب أو الإيجاب، ومن المضحكات أن مسلمي سورية
عظم عليهم أمر سلب السلطة من الخلافة، حتى انتقم بعضهم من صورة مصطفى
كمال باشا التي كانوا يرفعونها تكريمًا لها!
وأما الجرائد فقد جاءتنا بالنقائض، فمن الكُتاب فيها مَن أنكر ما حصل إنكارًا
شرعيًّا، ومنهم مَن حاول جعْله شرعيًّا بالتأويل، ومنهم مَن بحث عن شواذ التاريخ،
واعتداء الخارجين على الخلفاء، فأراد أن يجعله أمرًا مشروعًا يُحتذَى، ومنهم
مَن أظهر سروره بإزالة سلطة الخلافة، بالفصل بين السياسة والحكومة، وبين
الدين والشريعة! وهؤلاء من غلاة المتفرنجين الملحدين، الذي نرد عليهم في
مقالات (مدنية القوانين) ، ونحن ندعو المسلمين إلى العطف على الدولة التركية
الجديدة، وتأييدها بأشد ما كنا نؤيد به الدولة العثمانية التليدة، ولا نرى أننا
محتاجون في سبيل ذلك إلى الانحراف عن شيء من أحكام ديننا، ولا إلى الإقرار
بأن كل ما عملته هذه الدولة، أو تعمله صوابًا، فإنما نحن نؤيدها في مقاومة
المعتدين عليها وعلينا، ولا نشترط لذلك أن تكون معصومة في أعمالها، لا في
مسألة الخلافة ولا في غيرها، وقد ترجمت لنا الجرائد خطبًا وأقوالاً في هذا
الموضوع لزعماء الكماليين، أهمها خطبة للغازي مصطفى كمال باشا نفسه،
وسننشرها في الجزء التالي إن شاء الله تعالى.
وجملة القول إن آخر ما جاء من أنباء هذا الانقلاب إلى سلخ هذا الشهر - بعد
كتابة ما تقدم - أن الكماليين قد أمضوا أمر محو الدولة العثمانية من لوح الوجود،
وجعْلها من قصص ألواح التاريخ، وأنهم انتخبوا عبد المجيد بن السلطان عبد
العزيز خليفة على شرطهم، لا أمر له ولا نهي في حكومتهم، ولعلهم يستفيدون
بذلك تخفيف ضغط الإنكليز عليهم، وشدة تأييد الروس لهم؛ فإنهما أشد الدول خوفًا
من عاقبة سلطة الخلافة الدينية، الأولى تخاف على مستعمراتها الإسلامية، والثانية
تخاف على دعوتها البلشفية، ولا ضرر على الإسلام فيما وقع؛ فالخلافة العثمانية
كانت اسمية، فائدتها انتفاع الدولة العثمانية بنفوذها السياسي، فلتنتفع الدولة التركية
الآن بإعلان التخلي عنه، إلى أن تقتنع ثانية بالانتفاع به، وليس من البعيد أن
تقتنع في زمن قريب بوجوب إقامتها على حقها، وقيامها بكل ما يمكن من وظائفها:
كإحياء الدعوة إلى الإسلام، ومقاومة تيار الإلحاد والابتداع، وإقامة الحدود،
وتنفيذ الأحكام، وجباية الزكاة، وتوزيع الصدقات، وتلافي ضرر التفرق باختلاف
المذاهب، والاجتهاد بجمع الكلمة على قواعد الإجماع، ووضع نظام للتعليم الديني
والوعظ والإرشاد؛ حتى تعترف جميع الحكومات الإسلامية بها، وتأخذ التفويض
بإقامة الدين، وتنفيذ الشرع من ممثلها، وطالما خطر في بالنا أنه يجب أن يكون
لها ديوان خاص، مؤلَّف من عقلاء العلماء وأُولِي الاختصاص، المختارين من
جميع المذاهب الإسلامية في الأقطار المتفرقة، ومن ممثلي حكوماتها المختلفة، وقد
كاشفنا بهذا الرأي، مَن يعدون أَوْلَى أولي الأمر وأرباب الشأن، ولله الأمر من قبل
ومن بعد.
__________(23/713)
ربيع الآخر - 1341هـ
ديسمبر - 1922م(23/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأحكام الشرعية
المتعلقة بالخلافة الإسلامية
لقد كانت الخلافة والسلطنة فتنة للناس في المسلمين كما كانت حكومة الملوك
فتنة لهم في سائر الأمم والملل، وكانت هذه المسألة نائمة، فأيقظتها الأحداث
الطارئة في هذه الأيام، إذ أسقط الترك دولة آل عثمان، وأسسوا من أنقاضها فيهم
دولة جمهورية بشكلٍ جديدٍ، من أصوله أنهم لا يقبلون أن يكون في حكومتهم
الجديدة سلطة لفردٍ من الأفراد لا باسم خليفة، ولا باسم سلطان، وأنهم قد فصلوا
بين الدين والسياسة فصلاً تامًّا، ولكنهم سموا أحد أفراد أسرة السلاطين السابقين،
خليفة روحيًّا لجميع المسلمين وحصروا هذه الخلافة في هذه الأسرة كما بينَّا ذلك
بالتفصيل في هذا الجزء وما قبله من المنار، لذلك كثر خوض الجرائد في مسألة
الخلافة وأحكامها، فكثر الخلط والخبط فيها، ولبس الحق بالباطل، فرأينا من
الواجب علينا أن نبين أحكام شريعتنا فيها بالتفصيل الذي يقتضيه المقام؛ ليعرف
الحق من الباطل، وأن نُقَفِّي على ذلك بمقال آخر في مكان نظام الخلافة من نظم
الحكومات الأخرى، وسيرة المسلمين فيه، وما ينبغي لهم في هذا الزمان، وأن
تأييدنا للحكومة التركية الجديدة لمما يوجب علينا هذا البيان والنصيحة، ونحن إنما
نؤيدها لمكان الدين، ومصلحة المسلمين، وما أضعف ديننا وأهله إلا محاباتهم
للأقوياء، فيه فكانت محاباة العلماء للملوك والخلفاء وبالاً عليهم وعلى الناس، وقد
أخذ الله الميثاق على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) ،
{وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 42) ومن الله
نستمد الصواب، ونسأله الحكمة وفصل الخطاب:
(1) التعريف بالخلافة:
الخلافة، والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين ثلاث كلمات معناها واحد وهو
رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا.
1- قال العلامة الأصولي المحقق السعد التفتازاني في متن مقاصد الطالبين،
في علم أصول عقائد الدين [1] : (الفصل الرابع أي من العقائد السمعية في الإمامة
وهي رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
2- وقال العلامة الفقيه أبو الحسن علي بن محمد الماوردي في كتابه الأحكام
السلطانية [2] : الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وكلام سائر علماء العقائد والفقهاء من جميع مذاهب أهل السنة لا يخرج عن
هذا المعنى، إلا أن الإمام الرازي زاد قيدًا في التعريف فقال: هي رئاسة عامة في
الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا
عزلوا الإمام لفسقه، قال السعد في شرح المقاصد بعد ذكر هذا القيد في التعريف
وما علله به: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد، واعتبر رئاستهم على من
عداهم أو على كل من آحاد الأمة اهـ.
(2) حكم الإمامة أو نصب الخليفة:
أجمع سلف الأمة وأهل السنة وجمهور الطوائف الأخرى على أن نصب
الإمام أي توليته على الأمة واجبة على المسلمين شرعًا لا عقلاً فقط كما قال بعض
المعتزلة، واستدلوا بأمور لخصها السعد في متن المقاصد بقوله: لنا وجوه (الأول)
الإجماع، وبيّن في الشرح أن المراد إجماع الصحابة قال: وهو العمدة حتى
قدموه على دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الثاني) أنه لا يتم إلا به ما وجب
من إقامة الحدود وسد الثغور ونحو ذلك مما يتعلق بحفظ النظام (الثالث) أن فيه
جلب منافع ودفع مضار لا تحصى وذلك واجب إجماعًا (الرابع) وجوب طاعته
ومعرفته بالكتاب والسنة، وهو يقتضي وجوب حصوله وذلك بنصبه. اهـ،
ومعنى الأخير أن ما أجمعوا عليه من وجوب طاعته في المعروف شرعًا ووجوب
معرفته بالكتاب والسنة وكونها من أهم شروطه يقتضي أن نصبه واجب شرعًا،
وقد أطال السعد في شرح المقاصد في بيان هذه الوجوه وما اعترض به بعض
المبتدعة المخالفون عليها والجواب عنها.
وقد غفل هو وأمثاله عن الاستدلال على نصب الإمام بالأحاديث الصحيحة
الواردة في التزام جماعة المسلمين وإمامهم، وفي بعضها التصريح بأن (من مات
وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم من حديث لابن عمر مرفوعًا،
وسيأتي حديث حذيفة المتفق عليه، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - له: (تلزم
جماعة المسلمين وإمامهم) .
(3) مَن يُنَصِّب الخليفة ويَعزله:
اتفق أهل السنة على أن نصب الخليفة فرض كفاية، وأن المطالب به أهل
الحِل والعقد في الأمة، ووافقهم المعتزلة، والخوارج على أن الإمامة تنعقد ببيعة
أهل الحل والعقد. ولكن اضطرب كلام بعض العلماء في أهل الحل والعقد من هم؟
وهل تشترط مبايعتهم كلهم أم يكتفى بعدد معين منهم؟ أم لا يشترط العدد؟ وكان
ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم، إذ المتبادر منه
أنهم زعماء الأمة، وأولو المكانة وموضع الثقة من سوادها الأعظم بحيث تتبعهم في
طاعة من يولونه عليها فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها
عليه، قال السعد في شرح المقاصد كغيره من المتكلمين والفقهاء: هم العلماء
والرؤساء ووجوه الناس [3] ، زاد في المنهاج للنووي الذين يتيسر اجتماعهم، وعلله
شارحه الرملي بقوله: لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس. وهذا التعليل هو
غاية التحقيق منطوقًا ومفهومًا، فإذا لم يكن المبايعون بحيث تتبعهم الأمة فلا تنعقد
الإمامة بمبايعتهم.
وهذا هو المأخوذ من عمل الصحابة - رضي الله عنهم - في تولية الخلفاء
الراشدين فإن عمر عدَّ البدء في بيعة أبي بكر فلتة؛ لأنه وقع قبل أن يتم التشاور بين
جميع أهل الحِل والعقد؛ إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد من بني هاشم وهم في
ذروتهم، وتضافرت الروايات بأن أبا بكر رضي الله عنه أطال التشاور مع
كبراء الصحابة في ترشيح عمر، فلم يُعبه أحد له بشيء إلا شدته، وإن كانوا
يعترفون أنها في الحق، فكان يجيبهم بأنه يراه يلين فيشتد هو وهو وزيره
ليعتدل الأمر، وإن الأمر إذا آل إليه يلين في موضع اللين ويشتد في موضع الشدة -
حتى إذا رأى أنه أقنع جمهور الزعماء - وفي مقدمتهم علي كرَّم الله وجهه -
صرَّح باستخلافه فقبلوا ولم يشذ منهم أحد، ولمَّا طعن عمر رأى حصر الشورى
الواجبة في الستة الزعماء الذين مات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم
راضٍ؛ لعلمه أنه لا يتقدم عليهم أحد ولا يخالفهم فيما يتفقون عليه أحد؛ لأنهم هم
المرشحون للإمامة دون سواهم (وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد ابن أبي
وقاص، وعبد الرحمن بن عوف) ، ولما أخرج نفسه عبد الرحمن بن عوف منهم
وجعلوا له الاختيار بقي ثلاثًا لا تكتحل عينه بكثير نوم وهو يشاور كبراء
المهاجرين والأنصار، ولما رجّح عثمان دعا المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد،
فلما اجتمعوا عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الفجر
صرّح لهم باختياره وبايعه هؤلاء كلهم، رواه البخاري في صحيحه وغيره.
والمراد بأمراء الأجناد ولاة الأقطار الكبرى مصر، والشام وحمص والكوفة
والبصرة، وكانوا قد حجّوا مع عمر في ذلك العام وحضروا معه المدينة، ولما
شذّ أحد هؤلاء الولاة وهو معاوية فلم يبايع عليًّا كرَّم الله وجهه - مع إجماع
سائر المسلمين على مبايعته كان من الفتنة وتفرُّق الكلمة ما كان، وإنما تصح
المبايعة باتفاقهم، أو اتفاق الأكثرين الذين يتبعهم غيرهم، ومن لم يتبعهم بالاختيار،
سهل عليهم إكراهه بقوة الأمة على الطاعة والانقياد، ومن رؤسائهم في هذا
العصر قوّاد الجيش، كوزير الحربية وأركان الحرب، ومتى تمت البيعة في
العاصمة وجب أن تتبعها الولايات بمبايعة ولاتها إذا كانوا يتبعون فيها، وإلا وجب
أن ينضم إليهم زعماء أهلها من العلماء والقوّاد وغيرهم.
وغلط بعض المعتزلة والفقهاء فقالوا: إن البيعة تنعقد دائمًا بخمسة ممن
يصلح للإمامة، بدليل ما أشار به عمر؛ إذ حصر الشورى في الستة المرشحين،
وقبل جميع الصحابة منه ذلك فكان إجماعًا، نعم كان إجماعًا في تلك الواقعة، لا
إجماعًا على ذلك العدد في كل مبايعة، وقالوا: إن مذهب الأشعري أنها تنعقد بعقد
واحد منهم إذا كان بمشهد من الشهود وهو غلط أوضح. وقد ذكر هذا القول الفقهاء
مقيدًا بما إذا انحصر الحل والعقد فيه [4] بأن وثق زعماء الأمة به وفوَّضوا أمرهم
إليه، وهذا لم يقع ويندر أن يقع.
وإمامة عثمان لم تكن بمبايعة عبد الرحمن بن عوف وحده، بل كانت عامة
لا خاصة به، وكذلك مبايعة عمر لأبي بكر، فإن الإمامة لم تنعقد بمبايعته وحده بل
بمتابعة الجماعة له، وقد صحَّ أن عمر أنكر على من زعم أن البيعة تنعقد بواحد من
غير مشاورة الجماعة وكان بلغه هذا القول في أثناء حجِّه فعزم على بيان حقيقة أمر
المبايعة وما يشترط فيها من الشورى على جماهير الحجاج، فذكره بعضهم بأن
الموسم يجمع أخلاط الناس ومن لا يفهمون المقال، فيطيرون به كل مطار، وأنه
يجب أن يرجئ هذا البيان إلى أن يعود إلى المدينة فيلقيه على أهل العلم والرأي
ففعل.
قال على منبر رسول - صلى الله عليه وسلم -: بلغني أن قائلاً منكم يقول:
والله لو مات عمر لبايعتُ فلانًا فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة
فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع إليه
الأعناق [5] مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع
هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. ثم ساق خبر بيعة أبي بكر وما كان يخشى من
وقوع الفتنة بين المهاجرين والأنصار لولا تلك المبادرة بمبايعته للثقة بقبول سائر
المسلمين. رواه البخاري وقد أقرت جماعة الصحابة عمر على ذلك فكان إجماعًا.
فتحرر بهذا أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين
واختيار أهل الحِل والعقد ولا تعتبر مبايعة غيرهم إلا أن تكون تبعًا لهم، وأن عمل
عمر (رضي الله عنه) خالف هذا الأصل القطعي فكان فلتة لمقتضيات خاصة لا
أصلاً شرعيًّا يعمل به، ومَن تصدّى لمثله فبايع أحدًا فلا يصح أن يكون هو ولا من
بايعه أهلاً للمبايعة، بل يكون ذلك تغريرًا قد يفضي إلى قتلهما إذا أحدث في الأمة
شقاقًَا يوجبه.
(4) سلطة الأمة ومعنى الجماعة:
قال الله تعالى في وصف المؤمنين {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى:
38) ، والقرآن يخاطب جماعة المؤمنين بالأحكام التي يشرعها حتى أحكام القتال
ونحوها من الأمور العامة التي لا تتعلق بالأفراد كما بيَّناه في التفسير، وقد أمر
بطاعة أولي الأمر وهم جماعة لأولي الأمر، وذلك أن ولي الأمر إنما يُطاع بتأييد
جماعة المسلمين الذين بايعوه له وثقتهم به، ويدل على هذا المعنى ما ورد من
الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة وكون طاعة الأمير تابعة لطاعتهم واجتماع
الكلمة بسلطتهم كحديث ابن عباس في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم-
قال: (مَن رأى من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبرًا
فمات مات ميتة جاهلية) ولما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن
اليمان بما يكون في الأمة من الفتن في الحديث الصحيح المشهور: قال: (فما
تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: تلزم جماعة المسلمين
وإمامهم، قال: قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق
كلها) إلخ.
قال الطبري بعد ذكر الخلاف في الجماعة، ومنه حصر بعضهم إياه في
الصحابة: والصواب لزوم الجماعة الذين في طاعة مَن اجتمعوا على تأميره، فمن
نكث بيعته خرج عن الجماعة (قال) وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام
فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك
خشية من الوقوع في الشر. اهـ نقله عنه الحافظ في شرح البخاري وأقره.
هؤلاء الجماعة هم أولو الأمر من المسلمين وأهل الحل والعقد ومنهم أولو
الشورى لدى الإمام، ومتى خوطب المؤمنون في الكتاب والسنة وآثار الصحابة في
أمر من الأمور العامة، فهم المعنيون المطالبون بتنفيذ الأمر، ومن الآثار الدالة
على الإجماع في ذلك قول أبي بكر - رضي الله عنه - في خطبته الأولى بعد
المبايعة: أما بعد فقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا
زغت فقوموني وروي نحوه عن عمر وعثمان: وهم الذين فرضوا له راتب الخلافة
كرجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ولا أدناهم.
وقد تقدم في التعريف بالخلافة قول الرازي أن الرئاسة العامة هي حق الأمة
التي لها أن تعزل الإمام (الخليفة) إذا رأت موجبًا لعزله، وقد فسّر السعد معنى
هذه الرئاسة لئلا تستشكل فيقال: إذا كانت الرئاسة للأمة فمَن المرؤوس؟ فقال إنه
يريد بالأمة أهل الحل والعقد، أي الذين يمثلون الأمة بما لهم فيها من الزعامة
والمكانة، ورئاستهم تكون على من عداهم أو على جميع أفراد الأمة، والثاني هو
الصحيح ويؤيد هذا تفسير الرازي لأولي الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) فقد حقق
أن المراد بأولي الأمر أهل الحِل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة. وقد تابعه على
هذا النيسابوري، واختاره الأستاذ الإمام، ووضحناه في التفسير مستدلين عليه بقوله
تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ومن المعلوم
بالضرورة أن أولي الأمر الذين كانوا مع الرسول يرد إليهم معه أمر الأمن والخوف
وما أشبههما من المصالح العامة ليسوا علماء الفقه، ولا الأمراء والحكام بل أهل
الشورى من زعماء المسلمين [6] .
(5) شروط أهل الاختيار للخليفة:
اشترط العلماء في جماعة المسلمين أهل الحل والعقد شروطًا بيَّنها الماوردي
في الأحكام السلطانية بقوله:
(فصل) فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب
العلم [7] ، ??فإذا قام بها مَن هو أهلها سقط فرضها عن الكافة وإن لم يقم بها أحد
خرج من الناس فريقان: (أحدهما) أهل الاختيار حتى يختاروا إمامًا للأمة.
(والثاني) أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة.
فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة: (أحدهما) العدالة الجامعة
لشروطها (والثاني) العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على
الشروط المعتبرة فيها (والثالث) الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو
للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف. وليس لمن كان في بلد الإمام على
غيره من أهل البلاد فضل مزية يقدم بها عليه، وإنما صار من يحضر ببلد الإمام
متولِّيًا لعقد الإمامة عرفًا وشرعًا، لسبوق علمهم بموته؛ ولأن من يصلح للإمامة في
الأغلب موجودون في بلده اهـ (فتح الباري) .
أقول: لهذه الشروط مأخذ من هدي السلف، فقد قال الطبري: لم يكن في أهل
الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة
بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم اهـ.
أما العدالة التي هي الشرط الأول فهي عند الفقهاء عبارة عن التحلي
بالفرائض والفضائل، والتخلي عن المعاصي والرذائل، وعما يُخل بالمروءة أيضًا،
واشترط بعضهم فيها أن تكون ملكة لا تكلفًا، ولكن التكلف إذا الْتُزِمَ صار خُلُقًا.
وأما العلم فيعنون به علم الدين، وإذا أطلقوه كان المراد به العلم الاستقلالي
المعبّر عنه بالاجتهاد، ويفهم من كلام بعضهم أن الاجتهاد في الشرع شرط في
مجموعهم لا في كل فرد منهم، فقد قال في الروضة وأصلها أنه يشترط أن يكون
فيهم مجتهد.
وتقييده شرط العلم بما قيده به يدل على أنه يختلف باختلاف الزمان، فإن
استحقاق الإمامة في هذا العصر يتوقف على علوم لم يكن يتوقف عليها في العصور
القديمة، وقد ذكر بعض العلماء أن من مرجحات اختيار الصحابة لأبي بكر -
رضي الله عنه - أنه كان أعلمهم بأنساب العرب وبأحوالهم وقواتهم، ولأجل هذا لم
يهب من قتال أهل الردة ما هابه عمر، ولا بد الآن للإمام وجماعة الشورى (أهل
الحِل والعقد) الذين هم قوام إمامته وأركان حكومته من العلم بالقوانين الدولية
والمعاهدات العامة، وبأحوال الأمم والدول المجاورة لبلاد الإسلام وذات العلاقات
السياسية والتجارية بها من حيث سياستها وقوتها وما يخاف ويُرجى منها وما يحتاج
إليه لاتقاء ضرها والانتفاع بها..
ومن الآثار في ذلك قول الحافظ في الكلام على مبايعة عثمان من (الفتح) :
والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمِّرهم في البلاد أنه كان لا
يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما
يخالف الشرع فيها، فلأجل ذلك استخلف (أي أمَّر) معاوية، والمغيرة بن شعبة
وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم كأبي الدرداء
في الشام، وابن مسعود في الكوفة اهـ.
وسيرة أبي بكر وعمر في الخلافة يُقتدى بها، ولا سيما في الأمور العامة
الكلية التي تسمى سنة، بدليل اشتراط عبد الرحمن إياها مع سنة الرسول على علي
وامتناعه عن ترجيحه لعدم جزمه في الجواب أو تقييده بالاستطاعة وترجيحه لعثمان
لجزمه بغير قيد؛ لأن سنتهما نالت الإجماع ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:
(اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفة
وصححوه، وبالغ فقهاء المذاهب المدونة فعدوا أعمالها قواعد في الجزئيات كالخراج
ومعاملة أهل الذمة، وهي أعمال اجتهادية تتبع المصلحة.
وهذا العلم هو المادة لما ذكر في الشرط الثالث من الحكمة وجودة الرأي. ولم
يشترط قوة العصبية فيهم؛ لأن المفروض أنهم أهل الحل والعقد الذين تعتمد عليهم
الأمة في أمورها العامة، وأن أحكام الشرع فيها هي الحاكمة والنافذة، وأن
المسلمين لا يدينون إلا بها، ولا يخضعون إلا لمن ينفذها، وأما التغلب بعصبية
الجنس فليس من هدي الإسلام في شيءٍ، بل هو خروج عن هدايته، وحكمه فيه
سيُذكر بعد.
فعلم مما تقدم أن لقب أهل الحِل والعقد مراد به معنى المصدرين فيه بالقوة
وبالفعل، وهم الرؤساء الذين تتبعهم الأمة في أمورها العامة، وأهمها نصب الإمام
الأعظم، وكذا عزله إذا ثبت عندهم وجوب ذلك، ومن يملك التولية يملك العزل،
كما تقدم بيانه في مسألة سلطة الأمة، قال إمام الحرمين في الإمام الذي (جار
وظهر ظلمه وغشمه، ولَمْ يَرْعَوِ لزاجر عن سوء صنيعه: فلأهل الحل والعقد
التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب) [8] ومن ظن أن كل من
يوصف بالعلم والوجاهة تنعقد ببيعتهم الإمامة ويجب على الأمة اتباعهم فيها فقد
جهل معنى الحل والعقد ومعنى الجماعة والإجماع، وما تقدم من الأخبار والآثار،
ومن كلام المحققين في المسألة ولا سيما شروط أهل الاختيار:
(6) الشروط المعتبرة في الخليفة:
قال السعد: وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لا بد للأمة من إمام يحيي الدين،
ويقيم السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها. ويشترط
أن يكون مكلفًا مسلمًا عدلاً حرًّا ذكرًا مجتهدًا شجاعًا ذا رأي، وكفاية سمعيًا بصيرًا
ناطقًا قريشيًّا، فإن لم يوجد في قريش من يستجمع الصفات المعتبرة ولي كناني،
فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يوجد فرجل من العجم اهـ[9] .
والمراد بقوله: مجتهدًا: الاجتهاد في الأحكام الشرعية بالعلم بأدلتها
التفصيلية والتفصيل الأخير في حال فقد القرشي للشافعية وقيل: إنه من فرض ما
لا يقع، وكل ما قبله متفق عليه عند أهل السنة إلا الحنفية فقد أجاز بعضهم تولية
غير العالم المجتهد؛ لأنه يستعين بالمفتين المجتهدين كالقضاء، وقد قال الشيخ قاسم
بن قلطوبغا في حاشيته على المسايرة لشيخه الكمال بن الهمام [10] : إن الشروط التي لا تنعقد الخلافة بدونها عند الحنفية هي الإسلام والذكورة والحرية والعقل وأصل الشجاعة وأن يكون قرشيًّا اهـ , أي: وما عدا هذه فشروط تقديم في
الاختيار لا شروط انعقاد، ووضح الماوردي هذه الشروط بقوله [11] :
وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة:
(أحدها) العدالة على شروطها الجامعة.
(والثاني) العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
(والثالث) سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة
ما يدرك بها.
(والرابع) سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة
النهوض.
(والخامس) الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
(والسادس) الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.
(والسابع) النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه، وانعقاد
الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شذ , فجوزها في جميع الناس؛ لأن أبا
بكر الصديق - رضي الله عنه - احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن
الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها (أي أرادوا مبايعته) بقول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: (الأئمة من قريش) فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن
المشاركة فيها حين قالوا: منا أمير، ومنكم أمير؛ تسليمًا لروايته؛ وتصديقًا لخبره،
ورضوا بقوله: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، وقال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (قدموا قريشًا ولا تقدموها) أي: لا تتقدموها - وليس مع هذا النص
المسلم شبهة لمنازع فيه، ولا قول لمخالف له اهـ.
أقول: قد تقدم الكلام في العدالة والعلم المشترطين في أهل الاختيار، ويأتي
مثله هنا بالأولى، أما الإجماع على اشتراط القرشية فقد ثبت بالنقل والفعل، رواه
ثقاة المحدثين، واستدل به المتكلمون وفقهاء مذاهب السنة كلهم، وجرى عليه العمل
بتسليم الأنصار وإذعانهم لبني قريش، ثم إذعان السواد الأعظم من الأمة عدة قرون
حتى إن الترك الذين تغلَّبوا على العباسيين، وسلبوهم السلطة بالفعل لم يتجرأ أحد
منهم على ادعاء الخلافة ولا التصدي لانتحالها حتى بالتغلب الذي يجيء الكلام فيه
بعد، وما ذلك إلا لأن الأمة كلها مجمعة على ما ذكر معتقدة له دينًا بل كانوا يدعون
النيابة عنهم.
وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة مستفيضة في جميع كتب السنة وقد أخرجوها
في كتب الأحكام وأبواب الخلافة أو الإمارة والمناقب وغيرها، ولم يقع خلاف في
مضمون مجموعها بين أهل السنة من عرب ولا عجم، ولم يتصد أحد من علماء
الترك لتأويلها، وقد طبع بعض الكتب المثبتة لها في الآستانة بإذن نظارة المعارف
حتى في زمن السلطان عبد الحميد الذي لم يهتم بلقب الخليفة أحد مثله، ومنها شرح
المقاصد الذي نقلنا عنه ما نقلنا، وكذا المواقف مع شرحه وحواشيه، وحديث:
(قدموا قريشًا ولا تقدموها) الذي ذكره الماوردي رواه الشافعي والبيهقي في المعرفة
بلاغًا، وابن عدي في الكامل من حديث أبي هريرة والبزار في مسنده من حديث
علي كرم الله وجهه والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن السائب بأسانيدها
صحيحة، وفي معناه حديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين: (الناس تبع
لقريش في هذا الشأن) ، ولا نريد ذكر بقية الأحاديث وإنما خرجنا الحديث الذي
اعتمده الماوردي وذكرنا ما يقرب منه في لفظه؛ لأنه لم يخرجه.
وحسبنا من قوة حديث: (الأئمة من قريش) من حيث الرواية قول الحافظ
ابن حجر في فتح الباري عند ذكره في المناقب من صحيح البخاري ما نصه: قد
جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابيًّا لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه
لم يرو إلا عن أبي بكر الصديق اهـ , وذكر الحافظ أن لفظ أبي بكر لسعد بن
عبادة في السقيفة في مسند أحمد: والله لقد علمت يا سعد أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -قال وأنت قاعد: (قريش ولاة هذا الأمر) فقال له سعد: صدقت.
فمن علم هذا لا يلتفت إلى ما يذكره بعض أهل هذا العصر من تأويل تلك
الأحاديث والبحث في أسانيد بعض، أو من أن شرط القرشية من الشروط الخلافية
وإن قال هذا بعض كبار المتكلمين فإن هؤلاء يذكرون أمثال هذه الخلافات الشاذة
عن بعض المبتدعة لأجل الرد عليها لا لأنها كالخلاف بين أئمة الحق في المسائل
الاجتهادية، وغرض من يماري أو يكتم شرط القرشية في هذا العصر تصحيح خلافة
سلاطين بني عثمان، وهذا ما لا سبيل إليه عند أهل السنة المشترطين للقرشية
بإجماع مذاهبهم إلا بقاعدة التغلب؛ وأما عند الخوارج فلا سبيل إليه ألبتة؛ لأنهم
إنما أنكروا شرط القرشية منعًا لحصر الإمامة في بيت معين، وماذا يضر العثمانيين
أن تكون خلافتهم بالتغلب، وقد قال بعض الفقهاء في بني أمية وبني العباس كلهم
أو جلهم مثل ذلك.
وأما حكمة حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخلافة الشرعية فيهم أو
سببه فقد ذكر المتكلمون والفقهاء فيه ما روي من قول أبي بكر الصديق فيه
للأنصار في سقيفة بني ساعدة: من أنهم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وأعزهم أحسابًا،
وزاد بعضهم ما كان الصديق في غنى عنه في ذلك الوقت , وأجمع كلام لهم في
هذا ما ذكره الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) [12] وفي
بعضه نظر قال:
(والسبب المفضي لهذا أن الحق الذي أظهره الله على لسان نبيه - صلى الله
عليه وسلم - إنما جاء بلسان قريش وفي عاداتهم، وكان أكثر ما تعين من المقادير
والحدود ما هو عندهم، وكان المعد لكثير من الأحكام ما هو فيهم، فهم أقوم به،
وأكثر الناس تمسكًا بذلك، وأيضا فإن قريشًا قوم النبي - صلى الله عليه وسلم -
وحزبه ولا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى الله عليه وسلم - وقد اجتمع فيهم
حمية دينية، وحمية نسبية، فكانوا مظنة القيام بالشرائع والتمسك بها، وأيضًا فإنه
يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس من طاعته لجلالة نسبه وحسبه، فإن
من لا نسب له يراه الناس حقيرًا ذليلاً، وأن يكون ممن عرف منهم الرئاسات
والشرف، ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال، وأن يكون قومه أقوياء
يحمونه وينصرونه ويبذلون دونه الأنفس، ولم تجتمع هذه الأمور إلا في قريش ولا
سيما بعدما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبُه به أمر قريش، وقد أشار أبو
بكر الصديق رضي الله عنه - إلى هذه فقال: ولن يعرف هذا الأمر إلا لقريش هم
أوسط العرب دارً إلخ) .
وإنما لم يشترط كونه هاشميًّا مثلاً لوجهين:
(أحدهما) أن لا يقع الناس في الشك فيقولوا: إنما أراد ملك أهل بيته
كسائر الملوك فيكون سببًا للارتداد ولهذه العلة لم يُعطِ النبي - صلى الله عليه وسلم-
المفتاح , أي: مفتاح الكعبة للعباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -.
(والثاني) أن المهم في الخلافة رضاء الناس به واجتماعهم عليه وتوقيرهم
إياه وأن يقيم الحدود ويناضل دون الملة وينفذ الأحكام، واجتماع هذه الأمور لا
يكون إلا في واحد بعد واحد، وفي اشتراط أن يكون من قبيلة خاصة تضييق
وحرج فربما لم يكن في هذه القبيلة من تجتمع فيه الشروط وكان في غيرها اهـ.
وأقول: إن الله تعالى ختم دينه وأتمه وأكمله بكتابه الحكيم الذي أنزله {قُرْآناً
عَرَبِيًّا} (يوسف: 2) [13] , و {حُكْماً عَرَبِياّ} (الرعد: 37) على خاتم
رسله العربي القرشي، واقتضت حكمته أن يكون نشره في مشارق الأرض
ومغاربها بدعوة قريش وزعامتهم، وقوة العرب وحماية هذه الدعوة بسيوفهم، وكل
من دخل في الإسلام من الأعاجم، وكان له عمل صالح فيه كان تابعًا لهم متلقيًا
عنهم، على مساواة الشرع في أحكامه بينهم، ونبوغ كثير من مواليهم الذين
استعربوا بالتبع لهم، وكانت قريش في جملة بطونها أكمل العرب خلقًا وأخلاقًا
وفصاحةً وذكاءً وفهمًا وقوة عارضة كما كانت أصرح نسبًا في سلالة إسماعيل
وأشرف تاريخًا في العرب بفضائلها وفواضلها، وخدمتها لبيت الله - تعالى - فكان
مجموع هذه المزايا التي كملت بالإسلام مؤهلاً لها لاجتماع كلمة العرب عليها، ثم
كلمة من يدخل في الإسلام من شعوب العجم بالأولى، ولا سيما بعد النص من
الرسول - صلى الله عليه وسلم -بذلك وإجماع أصحابه عليه فحكمة جعله - صلوات
الله عليه وسلامه عليه - خلافة نبوته فيها وسببه أمران:
(الأول) كثرة المزايا التي تنتشر بها الدعوة، وتكون بحسب طباع البشر
سببًا لجمع الكلمة، ومنع المعارضة والمزاحمة أو ضعفها - وكذلك كان، فإن
الناس أذعنوا لهم على تنازعهم، وكثرة من لم يقم بأعباء الخلافة منهم ولا أخذها
بحقها، فلم يكونوا يبتغون بديلاً من فرد أو بيت منهم إلا إلى آخر منهم، وكان
افتئات بعض الأعاجم على بعض العباسيين فسقًا عن الشرع كسائر أنواع التعدي
على الأموال والأعراض.
(والثاني) أن تكون إقامة الإسلام متسلسلة في سلائل أول من تلقاها ودعا
إليها ونشرها حتى لا ينقطع اتصال سيرها المعنوي والتاريخي فإن الملل والأمم
وليدة التاريخ وربيبته.
ألم تروا أن سيرة الخلفاء الراشدين تعد هي المثل الأعلى لأحكام الكتاب
والسنة النبوية وهديهما، وأن سيرة الخلفاء المدنيين من الأمويين والعباسيين الذين
نشروا العلوم والفنون ورقوا الحضارة في الشرق والغرب تعد أصل المدنية
الإسلامية وسندها , أو لم تروا أن صلة العالم الإسلامي بمهد الإسلام الموضعي
(الحجاز) تعد في الدرجة الثانية لصلته بكتابه وسنته، حتى أن الخليفة الذي نصبته
الدولة التركية الجديدة في الآستانة قد لقّب نفسه بخادم الحرمين الشريفين كالسلاطين
الذين كان الحجاز خاضعًا لهم.
ألم تعلموا أن الإسلام على حريته وسماحته قد خصّ الحجاز أو جزيرة العرب
بأن لا يبقى فيها دينان، وأوصى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر
حياته.
ألم يبلغكم أن بعض المؤرخين من غير المسلمين قال: لو أن الجيش الذي
فتح جنوب فرنسة بعد فتح الأندلس كان كله أو أكثره عربيًا لملَك أوروبا كلها ودان
له أهلها، وإنما انتقض الإفرنج عليه؛ لأن أكثره كان من البربر الذين لم يفهموا
الإسلام ولم يلتزموا أحكامه في حفظ العهود والعدل وعدم الاعتداء على الأموال
والأعراض كالعرب، أفرأيتم لو جعل الإسلام خلافة النبوة مشاعًا وتغلب عليها
العجم من القرون الأولى أكان يُحْفَظُ الإسلامُ ولُغَتُهُ كما حُفِظَ بنشر خلفاء قريش له
من بَرِّهم وفاجرهم؟ ! وهذا بحث يتسع المجال لشرحه ولكن في غير هذا المقال
الذي نريد أن يكون بقدر الحاجة الطارئة.
وقد أورد بعض فضلاء العصر شبهة على جعل الخلافة في قريش بأنها
تعارض ما جاء به الإسلام من المساواة ومن نزع العصبية، وتسوُّد طائفة معينة على
سائر المسلمين بل جعلها كالشبهة التي أوردها بعض العلماء على الشيعة الذين
يحصرونها في العلويين من أنها تفتح باب الطعن في الإسلام لغير المؤمنين بزعمهم
أن النبي - صلى الله عليه وسلم -إنما أسس ملكًا لأهل بيته، وكل ذلك ظاهر
البطلان كما بيّناه في موضع آخر من المنار، فإن قريشًا بطون كثيرة متفرقة وكان
بينها من التعادي في الجاهلية ما بين غيرها من قبائل العرب وبطونها ومنه عداوة
بني عبد شمس لبني هاشم التي خفيت بعد فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة
وتأليفه لأبي سفيان كبير بني أمية، وفي خلافة أبي بكر وعمر، وبدأ الاستعداد
لإظهارها في خلافة عثمان وأظهرها معاوية بعده، ولم يتجدد لقريش شأن في زمن
الراشدين لم يكن لها ولا في زمن الأمويين والعباسيين إلا أن الأمويين كانت عندهم
عصبية لأهل بيتهم ثم للعربية؛ فمقتهم العالم الإسلامي وقلبهم قبل أن يستكمل
ملكهم قرنًا واحدًا.
ولم يكن لبني تيم في خلافة أبي بكر ولا لبني عدي في خلافة عمر أدنى
امتياز على أحد من أقرانهم، ونزوان بني أمية على مصالح الأمة في زمان عثمان
كان بسبب ضعفه، لا بنعرة عصبية منه، ولم يغفر له الرأي الإسلامي العام هذا،
بل هاج الناس عليه حتى كان ذلك تمهيدًا لتمكن أصحاب الدسائس الخفية في
الإسلام من قتله، أعني دسائس حزب عبد الله بن سبأ اليهودي، والمجوس مثيري
الفتن في الإسلام.
وقد روي أن الإمام العادل العاقل عمر حذّر عثمان وعليًّا وعبد الرحمن من
مثل هذا الإيثار للأقارب المنافي لهدي الإسلام والمفضي إلى فساد الأمر، فقال لهم
لمّا جعل الأمر في الستة: إن الناس لن يعدوكم أيها الثلاثة، فإن كنت يا عثمان في
شيء من أمر الناس فاتق الله ولا تحملنّ بني أمية وبني أبي معيط على رقاب
الناس، وإن كنت ياعلي فاتق الله ولا تحملن بني هاشم على رقاب الناس، وقال
لعبد الرحمن مثل ذلك، ذكره الحافظ في شرح البخاري، وقوله: (إن الناس لن
يعدوكم) مبني على القاعدة التي قررناها وهي أن أمر الخلافة للأمة لا للستة
الزعماء الذين أراد عمر جمع كلمة الأمة بجمع كلمتهم لعلوّ مكانتهم فيها بمناقبهم.
على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوعد قريشًا في بعض الأحاديث
بانتقام الله منهم إذا لم يقيموا الحق والعدل والرحمة كما شرعها، والأحاديث في ذلك
متعددة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر
ما لم تحدثوا، فإذا غيّرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب) رواه أحمد
وأبو يعلى عن ابن مسعود بسند رجاله ثقات وله طريق آخر بلفظ آخر وشواهد،
ومنها: (الأمراء من قريش ما عملوا فيكم بثلاث: ما رحموا إذا اسْتُرْحِمُوا،
وأقسطوا إذا قسموا، وعدلوا إذا حكموا) رواه الحاكم عن أنس بسند حسن.
هذا وإن العباسيين لم يحملوا بني هاشم على رقاب الناس، بل كانوا أشد من
بني أمية وطأة على العلويين الذين هم خيارهم وفضّلوا الفرس ثم الترك على العرب،
وأما العلويون فكانوا أزهد الناس في الدنيا وملكها، ولولا ذلك لسعوا لها سعيها،
ومن صحّ منه الهوى أُرْشِدَ للحيل، ولم يتولّ أحد منهم الإمامة بعد أن نزل عنها
الإمام الحسن السبط عليه السلام إلا أئمة الزيدية في اليمن، فكانوا وما زالوا أفضل
وأعدل أهل بيت تولّوها بعد الراشدين، وأما أدارسة المغرب فيلقبون بالسلاطين،
وأما العُبيديون فكانوا أدعياء في النسب وفي الإسلام أيضًا.
وجملة القول أن الشعوبية أوردوا شبهات كثيرة على العرب وعلى قريش
وأجاب عنها العلماء كابن قتيبة وغيره، ولكل قوم محامد ومساوئ، ودين الله فوق
كل شيء وما صحّ دليله وأجمعت عليه الأمة أو سوادها الأعظم في خير القرون لا
نقبل رأيًا ولا بحثًا في نقضه وإلا لم يبق لنا شيء من ديننا، وما كانت أهواء
العصبية والمحاباة في الدين إلا فتنة لنا، وضارة بعربنا وعجمنا، وإن جهل ذلك
الكثيرون منّا، وأن حكمة الشارع - صلى الله عليه وسلم - في جعل خلافة نبوته
في قريش منزهة عن العصبية الجاهلية التي حرمها، ولبابها مكان قريش من هذا
الدين ولغته وأهلها؛ إذ لم تقم له قائمة إلا بهم وبها، ثم لم يخدمه أحد من الأعاجم
إلا من أتقنها، فخدمه أولاً مَن استعرب من الفرس، ثم جدد قوة دولته العثمانيون
من الترك بعد أن مزّق شمله وأضعفه سلفهم، وسنبين بعد ما يجب له علينا وعليهم.
(7) صيغة المبايعة:
الإمامة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الحِل والعقد لمن اختاروه إمامًا للأمة بعد
التشاور بينهم، والأصل في البيعة أن تكون على الكتاب والسنة وإقامة الحق
والعدل من قِبله، وعلى السمع والطاعة في المعروف من قِبلهم، ففي الصحيح: أن
عبد الرحمن بن عوف قال في مبايعته لعثمان: أبايعك على سنة الله ورسوله
والخليفتين من بعده، وبايعه الناس على ذلك، وأن الناس لما اجتمعوا على عبد
الملك بن مروان بعد قتل عبد الله بن الزبير بايعه عبد الله بن عمر - رضي الله
عنه - بعد أن كان امتنع عن مبايعتهما معًا؛ لأجل الخلاف والتفرقة، فكتب إليه:
إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة
رسوله فيما استطعت وأن بنيّ قد أقروا بذلك.
وكان الصحابة يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة
في المنشط والمكره وقول الحق والقيام به فيما استطاعوا وعدم عصيانه في معروف
كما قال تعالى في مبايعة النساء له: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة:
12) ، وقد صحّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يلقنهم قيد
الاستطاعة عند المبايعة [14] وقد بايعوه أيضًا على الإسلام وعلى الهجرة وعلى
الجهاد والصبر وعدم الفرار من القتال، وعلى بيعة النساء المنصوصة في القرآن،
والأحاديث في هذا معروفة في الصحيحين والسنن، نخص بالذكر منها حديث عبادة
بن الصامت المتفق عليه ولفظه كما في كتاب الفتن من البخاري: (دعانا النبي -
صلى الله عليه وسلم -، فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة
في مَنشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا
أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) ، ولفظه في باب المبايعة من كتاب
الأحكام: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على السمع والطاعة في
المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا
لا نخاف في الله لومة لائم) ، قال الحافظ في شرح حديث البخاري في المبايعة على
السمع والطاعة الذي تقدم في الأصل عند قوله فيه من كتاب الفتن: (وأن لا ننازع
الأمر أهله) أي: الملك والإمارة.
وجملة القول أن العلماء اتفقوا على وجوب الخروج على الإمام بالكفر،
واختلفوا في الظلم والفسق لتعارض الأدلة ومنها سد ذريعة الفتنة، والتحقيق
المختار أن على الأفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطهما دون الخروج
على ولي الأمر بالقوة، وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم ما يرون فيه المصلحة
الراجحة حتى القتال، وقد تقدم النقل في هذا في مسألة سلطة الأمة وسنعود إليه في
بحث ما يخرج به الإمام من الخلافة.
(8) ما يجب على الأمة بالمبايعة:
ومتى تمت المبايعة وجب بها على المبايعين وسائر الأمة بالتبع لهم الطاعة
للإمام في غير معصية الله والنصرة له، وقتال مَن بغى عليه أو استبد بالأمر دونه،
وسيأتي الكلام على دار العدل والجماعة، وما يتعلق بها كحكم الهجرة.
وأهم ما يجب التذكير به من طاعة الإمام الحق على كل مسلم، وكذا إمام
الضرورة أو التغلب على كل من بايعه بالذات، ومن لزمته بيعة أهل الحل والعقد
أداء زكاة المال والأنعام والزرع والتجارة - والجهاد الواجب وجوبًا كفائيًّا على
مجموع الأمة، والواجب وجوبًا عينيًّا على أفرادها رجالاً ونساءً على ما هو مبين
في كتب الفقه، كما يجب عليهم طاعة من ولاهم أمر البلاد من الولاة السياسيين
والقضاة وقواد الجيوش دون غيرهم، ويجب على هؤلاء الخضوع له فيما يقيد به
سلطتهم وفي عزله إياهم إذا عزلهم، والشرط العام في الطاعة أن لا تكون في
معصية الله تعالى والأحاديث الصحيحة في هذا معروفة ومُجمع على معناها.
ومن الأخبار والآثار التي يحسن إيرادها هنا ما رواه مسلم في صحيحه عن
عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: (دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن
العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال:
كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح
حباءه ومنا من ينتضل ومنا من هو في جشره [15] إذ نادى منادي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: (الصلاة جامعة) فاجتمعنا إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فقال: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير
ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها
وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضًا [16]
وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه
هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله
واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه
صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق
الآخر، فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله أأنت سمعت هذا من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي،
فقلت له هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا
والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً
عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) ، قال
فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله اهـ.
وقد أعز الله البشر بالإسلام ومقتضى الكتاب والسنة أنه لا طاعة ولا خضوع
فيه إلا لله تعالى، وطاعة الرسول من طاعته لقوله: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ} (النساء: 80) ، وطاعة أولي الأمر كذلك لقوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، ولذلك اشترط فيها أن تكون في تنفيذ أصول شرعه أو فروعه.
وقد قال بعض أمراء بني أمية لبعض علماء التابعين: أليس الله قد أمركم بأن
تطيعونا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) فقال له: أليست قد
نزعت عنكم يعني الطاعة إذ خالفتم الحق بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) نقله
الحافظ في الفتح، قال: ومن بديع الجواب وذكره، على أن أولي الأمر هنا الجماعة
أي: الأمة كما تقدم.
(9) ما يجب على الإمام للملة والأمة:
يجب على الإمام نشر دعوة الحق وإقامة ميزان العدل، وحماية الدين من
الاعتداء والبدع، والمشاورة في كل ما ليس فيه نص، وهو مسؤول عن عمله
يراجعه كل أحد من الأمة فيما يراه أخطأ فيه، ويحاسبه عليه أهل الحِل والعقد،
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن
رعيته) رواه الشيخان من حديث لابن عمر وغيرهما. وقد بيّن المارودي ما يجب
عليه في عشر قواعد كلية لم يذكر منها مسألة المشاورة على كثرة النصوص
فيها، واستفاضة آثار الراشدين في الجري عليها، اتباعًا لما صحّ من عمل النبي -
صلى الله عليه وسلم - بها، قال:
والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
(أحدها) حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن
نَجَمَ مبتدع أو زَاغَ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبيّن له الصواب، وأخذه بما
يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من
زلل. (الثاني) تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين،
حتى تعم النَّصَفَة فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. (الثالث) حماية
البيضة [17] والذبّ عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار
آمنين من تغرير بنفس أو مال. (والرابع) إقامة الحدود لتُصان محارم الله تعالى
عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. (والخامس) تحصين
الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا
أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد [18] دمًا. (والسادس) جهاد من عاند الإسلام
بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على
الدين كله. (والسابع) جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا
من غير خوف ولا عسف. (والثامن) تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال
من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. (التاسع)
استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من أعمال ويكله إليهم من الأموال
لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة. (العاشر) أن
يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة
ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح،
وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: 26) ، فلم يقتصر الله
سبحانه على التفويض دون المباشرة، ولا عذره في اتباع الهوى حتى وصفه
بالضلال. وهذا وإن كان مستحقًا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة فهو من حقوق
السياسة لكل مسترع، قال النبي عليه السلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن
رعيته) ولقد أصاب الشاعر فيما وصف به الزعيم المدبر حيث يقول (البسيط) :
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفًا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خسعا
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا [19]
مازال يحلب در الدهر أشطره ... يكون متبعًا يومًا ومتبعا
حتى استمر على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا فخما ولا ضرعا [20]
(أقول) عبارته في الواجب الأول في منتهى التحقيق وهو المحافظة على
ما أجمع عليه السلف الصالح من الدين وإطلاق الحرية للأمة فيما سواه من المسائل
الاجتهادية من حيث العلم وعمل الأفراد في العبادات، وأما ما يتعلق بالسياسة
والقضاء المنوط بالحكومة فله أن يرجح بعض الأحكام الاجتهادية على بعض
باستشارة العلماء من أهل الحل والعقد، ولا سيما إذا لم يكن هو من أهل الاجتهاد
في الشرع، ولقد كان أئمة الدين يطيعون الخلفاء فيما يخالف اجتهادهم من أمور
الحكومة إذا لم يخالف النص القطعي من الكتاب والسنة، ولكنهم لم يطيعوهم في
القول بخلق القرآن؛ لأنه من أمور العقائد التي خالفوا فيها السلف.
والجهاد الذي ذكره في الواجب السادس أراد به القتال العيني والكفائي وإنما
يجب على كل مكلف إذا استولى العدو على بعض بلاد المسلمين وتوقف دفعه على
ذلك وإلا اكتفى بمن يستنفرهم الإمام بحسب الحاجة، والجهاد قد يكون بالمال
واللسان ومنه الدعوة إلى الإسلام بالبرهان، وتجب طاعة الإمام في التعليم
العسكري بنظام القرعة وغيره، وعليه أن يعد للأعداء ما يستطيع من قوة ليقاتلهم
بما يقاتلوننا به أو يفوقهم، ومنه إنشاء البوارج والغواصات والطيارات الحربية
وأنواع الأسلحة إلخ وتجب طاعته في ذلك كله بالمال والنفس بنص قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ، والخطاب للأمة وإنما
الرئيس هو الذي يوحد النظام فيها، وعلى هذا تكون العلوم والفنون الطبيعية
والكيماوية والآلية كلها من الواجبات الكفائية، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو
واجب، وليس في الإسلام جهاد يجب به قتال كل مخالف وإن كان معاهدًا أو ذميًّا.
(10) الشورى في الإسلام:
(أقول) : وأهم ما يجب على الإمام المشاورة في كل ما لا نص فيه عن الله
ورسوله، ولا إجماع صحيحًا يحتج به، أو ما فيه نص اجتهادي غير قطعي، ولا
سيما أمور السياسة والحرب المبنية على أساس المصلحة العامة، وكذا طرق تنفيذ
النصوص في هذه الأمور إذ هي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهو ليس حاكمًا
مطلقًا كما يتوهم الكثيرون بل مقيد بأدلة الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين
العامة وبالمشاورة، ولو لم يرد فيها إلا وصف المؤمنين بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله لرسوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: 159) لكفى، فكيف وقد ثبتت في الأخبار والآثار قولاً وعملاً، وسبب
هذا الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم -بالمشاورة في أمر الأمة، جعله قاعدةً
شرعيةً لمصالحها العامة، فإن هذه المصالح كثيرة الشعب والفروع لا يمكن تحديدها،
وتختلف باختلاف الزمان والمكان فلا يمكن تقييدها وقد ذهب بعض علماء السلف
إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان غنيًّا عن المشاورة فلولا إرادة جعلها
قاعدةً شرعيةً لما أمره الله بها. روي عن الحسن البصري في تفسير قوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) أنه قال: قد علم الله أنه ما به إليهم
من حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده , وروي في المرفوع ما يؤيده فقد خَرَّجَ
ابن عدي والبيهقي بسند حسن عن ابن عباس أن الآية لما نزلت قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمةً
لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غيًّا) , أي: شرعها الله
تعالى لتحقيق الرشد في المصالح ومنع المفاسد فإن الغي هو الفساد والضلال.
ولكن الأحاديث الصحيحة ناطقة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن
مستغنيًا عن غيره من الناس إلا فيما ينزل عليه فيه الوحي وقال: (أنتم أعلم بأمر
دنياكم) رواه مسلم عن عائشة وأنس وقال: (ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان
من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد وفي حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم
أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم -قال: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من
أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وهذا هو الموافق لقوله
تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) فهو ممتاز على
البشر بالوحي إليه ولكنه فيما عداه وعدا ما يستلزمه بشر تجوز عليه الأعراض
البشرية، ويحتاج إلى غيره في الأمور الكسبية، وكونه أكمل البشر لا يقتضي أن
يحيط بكل شيء علمًا ويقدر على كل عمل فإن هذا لله وحده {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ
عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) ولذلك
كانوا إذا راجعوه في أمر أمر به ورأوا المصلحة في غيره سألوه: أقاله أو
فعله بوحي من الله أم من رأيه؟ فإذا قال: إنه من رأيه ذكروا رأيهم وقد يعمل به
ويرجحه على رأيه كما فعل في يوم بدر فقد جاء - صلى الله عليه وسلم -أدنى
ماء فنزل عنده فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلاً
أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أما هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) فقال يا رسول الله: ليس هذا بمنزل
فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه إلخ , فقال له
النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد أشرت بالرأي، وعمل برأيه) , وفي
رواية ابن عباس عند ابن سعد أن جبريل نزل فقال للنبي - صلى الله عليه
وسلم -: الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر.
وقد استشار - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -
في أسرى بدر فاختلف رأيهما فقال (لو اجتمعتما ما عصيتكما وكان رأيه موافقًا
لرأي أبي بكر فأنفذه ثم نزل الوحي بما يؤيد رأي عمر وهو قوله تعالى {مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: 67) الآيتين فقال -
صلى الله عليه وسلم -لعمر (كاد يصيبنا في خلافك شر) , والروايات في هذه
المسألة كثيرة، وكل هذا كان قبل أمر الله تعالى إياه بمشاورتهم فإنه نزل في غزوة
أحد وفيها رجح رأي الأكثرين على رأيه - صلى الله عليه وسلم -ورأي كثير
من كبراء الصحابة رضي الله عنهم وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه
قال: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العزم، أي قوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159) :
فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) .
وقد حقننا مسألة الشورى في الحكومة الإسلامية بالتفصيل في تفسير هذه
الآية من سورة آل عمران وتفسير: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: 59) من سورة النساء , وبينا في الأول الحكمة في ترك
الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظام الشورى للأمة وعدم وضع أحكام لها،
وملخصه أن النظام يختلف باختلاف أحوال الأمة في كثرتها وقلتها وشؤونها
الاجتماعية ومصالحها العامة في الأزمنة المختلفة فلا يمكن أن تكون له أحكام معينة
توافق جميع الأحوال في كل زمان ومكان، ولو وضع لها أحكامًا مؤقتةً لخشي أن
يتخذ الناس ما يضعه لذلك العصر وحده دينًا متَّبَعًا في كل حال وزمان وإن خالف
المصلحة، كما فعلوا في الأخذ بظواهر مبايعة أبي بكر وعثمان واستخلاف عمر،
فاكتفى بشرع الله للمشاورة، وتربيته - صلى الله عليه وسلم -الأمة عليها بالعمل.
على أن أولي العصبية خالفوا ما شرعه الله باتباع أهوائهم ومطامعهم لتقصير أولي
الأمر في وضع هذا النظام لكل زمان بما يناسبه، كما ضبط عمر رضي الله عنه
الأمر في زمنه بما يناسبه، بل عني علماؤنا بمسائل النجاسة والحيض والبيوع أشد
من عنايتهم بهذه المسألة حتى قال إمام كبير مثل الأشعري: إن بيعة رجل واحد من
أهل الحل والعقد تلزم الأمة إذا أشهد عليها، فأَنَّى يستقيم أمر أمة تعمل بهذا القول
في رياستها العامة؟
وأما الآثار عن الراشدين في المشاورة فكثيرة (منها) ما رواه الدارمي
والبيهقي عن ميمون بن مهران أن أبا بكر كان يسأل عامة المسلمين عما لا يجد
فيه نصًّا من الكتاب ولا سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -هل يعلمون عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئًا؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا نعم قضى
فيه بكذا فيأخذ به ويحمد الله تعالى (قال) وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين
وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وأن عمر بن الخطاب
كان يفعل ذلك - وزاد أنه كان بعد النظر في الكتاب والسنة ينظر فيما قضى به
أبو بكر أيضًا؛ لأنه كان لا يقضي إلا بنص أو مشاورة , وانظر إلى الفرق بين
سؤال عامة المسلمين عن الرواية واختصاص الرؤساء والعلماء بالمشاورة - ذلك
بأنهم هم جماعة أولي الأمر وأهل الحل والعقد الذين أمر الكتاب بطاعتهم بعد طاعة
الله ورسوله وقال في إحالة أمر الأمة إليهم {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) .
(تنبيه)
لهذه المقالة بقية تأتي من أهم مباحثها مسائل الاستخلاف والعهد وخلافة
الضرورة والتغلب وما يخرج به الخليفة من الإمامة وعزله والخروج عليه ودار
العدل والجور، وتعدد الخلفاء في وقت واحد، وحال المسلمين فيه اليوم وحكوماتهم
المستقلة: وتعارض المانع والمقتضي في توحيد مقام الخلافة، أو ما يجب على
المسلمين ويحظر عليهم في ذلك.
وقد علم مما نُشر - ويزداد وضوحًا فيما سينشر - أن خلع حكومة الجمعية
الوطنية في أنقره لمحمد وحيد الدين نافذ شرعًا، وأنه ليس الآن خليفةً ولا
سلطانًا، ولا يتوقف تصحيح خلعه على تكفيره كما ادعى بعض من كتب في
المسألة فقال: إننا رأينا منه كفرًا بواحًا أي ظاهرًا لا يحتمل التأويل، وإنما يؤخذ
الحكم مما ذكرناه في مسألة المبايعة ومسألة سلطة الأمة ويوضحه ما سيأتي.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) توفي سعد الدين سنة 791 وطبع شرحه للمقاصد في الآستانة سنة 1305 وهو عمدة علماء الكلام من العرب والترك وغيرهم.
(2) توفى سنة 450 وكتابه هذا فريد في بابه وهو مطبوع بمصر سنة 1228 ومترجم بعدة لغات.
(3) قال الشبراملسي في قولهم: ووجوه الناس من عطف العام على الخاص فإن وجوه الناس: عظماؤهم بإمارة أو علم أو غيرهما اهـ ص 120 ج7.
(4) الرملي في شرح المنهاج ص 120 ج7.
(5) أي: أعناق المطي في الرحلة إليه.
(6) راجع تفسير [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) في آخر تفسير المجلد 13 وأول 14 من المنار أو الجزء الخامس من التفسير ص 180 - 222.
(7) المراد بطلب العلم هنا: تحصيل ما فوق الفروض العينية من علوم اللغة والشرع وفنون المعيشة والطب والقتال.
(8) شرح المقاصد (272ج2) .
(9) ص 271ج2 أيضًا.
(10) توفي الكمال سنة 861 وهو من أجل علماء الحنفية قيل إنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق , وتوفي الشيخ قاسم المذكور سنة 878 والظاهر أنه من علماء الترك، والمسايرة مطبوعة مع شرحها للكمال بن أبي شريف الشافعي المتوفى سنة 905 وحاشية الشيخ قاسم بالمطبعة الأميرية سنة 1316.
(11) ص (5,4) من الأحكام السلطانية.
(12) ولد سنة 1101 وتوفى سنة 1176 وهو مجدد علوم الدين في الهند في القرن الثاني عشر وكتابه هذا في حكمة التشريع طبع في الهند ومصر مرارًا.
(13) هذا اللفظ في سورة يوسف والزمر وفصلت والشورى والأحقاف.
(14) بياض بالأصل.
(15) انتضلوا وتناضلوا: تباروا في الرمي بالسهام ومثلها الرصاص. والجشر بالتحريك: الدواب تجعل في مكان ترعى فيه وتبيت، وهو ما يسمونه الآن التربيع.
(16) يرقق الفتن بعضها بعضًا: يجعله رقيقًا أي ضعيفًا وإنما ذلك بمجيء متأخرها أشد مما قبله، فيعد المتقدم رقيقًا بالإضافة إلى ما بعده.
(17) البيضة في اللغة: الواحدة من بيض الطير وبيضة الحديد، وحوزة كل شيء وهي المراد هنا أي يحمي حوزة الأمة، وهو ما يسمونه اليوم بالأمن العام.
(18) المعاهد هنا يشمل أهل الذمة ومَن بيننا وبينهم معاهدات من الأجانب.
(19) هذا البيت لم يذكره الماوردي لئلا يتوهم أنه ينبغي أن يكون ولي الأمر أبتر معدمًا وإن كان النفي للمال والولد باعتبار ما وصفا به وهو الشغل بهما عن مصلحة الأمة.
(20) المرير والمريرة: الحبل والشزر: الفتل من جهة اليسار وهي أشده، أي حتى ثبت واطرد عزمه وقوته على طريقة واحدة لا تردد فيها ولا ضعف كالحبل المفتول أشد الفتل، والفخم الضخم البطيء الحركة والضرع بالتحريك: الضعيف والجبان.(23/729)
الكاتب: محيي الدين آزاد
__________
الخلافة الإسلامية
ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
باب الأئمة من قريش
فصل
تحقيق إمارة قريش واشتراط القرشية
إذا تتبعت الكتاب والسنة والآثار والدلائل الشرعية والعقلية - لا تجد فيها
نصًّا قطعيًّا على تخصيص الخلافة، والإمامة بقريشٍ، نعم، نجزم بصحة
الأحاديث التي وردت في هذا الباب، وكذلك خطبة أبي بكر الصديق في سقيفة بني
ساعدة على مسمع من الصحابة، وعدم إنكارهم عليها، وشهرة هذا الأمر فيهم،
ومَن بعدهم إلى انقراض الدولة العباسية أيضًا صحيحة، ولكن الحقيقة مع ذلك كله
على خلاف ما يفهمه الناس؛ لأنه كما لا يُنكر ما ذكرناه آنفًا - لا ينكر أن الشريعة
الغراء لم تحصر الخلافة قط في قومٍ دون قومٍ، وقبيلة دون أخرى، قل ما شئت
عن هذه الشريعة، ولكن لا يسعك أن نقول هذا؛ لأنها إنما جاءت لتحرير الإنسانية
من القيود، والأغلال التي كانت عليها، ولإعلاء شأنها، ورفع معالمها، وإعلان
ناموس العمل، وهدم أوثان العصبية، والامتيازات القومية الباطلة، فهل ترجع بعد
هذا القهقرى، وتشيد بأيديها هيكلاً جديدًا لتلك الأوثان المجذوذة؟ ! [1]
لسنا في حاجة إلى الإطناب والتفصيل؛ إذ كل مَن له أدنى معرفة بالشريعة
يعلم حق العلم أنها من أول نشأتها انقضَّت على قصور الامتيازات القومية الفخمة،
ودكَّتها دكة واحدة، حتى جعلتها أثرًا بعد عين، ماذا كان حال العرب قبل الإسلام؟ ،
كانوا في غاية من العصبية، مبالغين في اعتبار النسب، غير مبالين بمَن سواهم،
لا يرون لأحدٍ شرفًا ولا فضلاً، حتى الرعاة منهم كانوا يشمخون أمام الملوك
والعظماء، ويعدون القياصرة والأكاسرة مَهينين أمام عزِّهم القوي وشرفهم النَّسبي،
ليست العرب وحدها، بل الدنيا كلها كانت سائرة على هذا المنهج، عاكفة على هذه
الأوثان، موثقة بهذه القيود والأصفاد، ظهر الإسلام، فهاجم قبل كل شيء هذه
الأصنام، ونادى مناديه - بأعلى صوته -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:
13) ، فجعل أساس الشرف والفضل العمل وحده، فمَن علا به عمله فهو شريف
فاضل، ومَن سقط به عمله فهو ساقط مهين، مهما كان كريم النسب عالي الحسب،
وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ
سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 38-40) ، وكان صاحب لوائه صلى الله عليه وسلم
يصيح بين الأنام: (ليس منا مَن دعا إلى عصبية، ليس منا مَن قاتل على عصبية،
وليس منا مَن مات على عصبية) ، وأوصى أمته - في آخر حياته يوم الحج
الأكبر - قائلاً: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، كلكم
أبناء آدم) (الشيخان) ، وقال: (ليس لأحد فضل على أحد إلا بدين وتقوى،
الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب) (رواه الجماعة) ، فظهور الإسلام وقيامه
ضمان للمساواة في النوع الإنساني، فلا فضل بعده لعربي على عجمي، ولا
لعجمي على عربي، الناس كلهم إخوان، أبوهم آدم، وأمهم حواء، وإنما الأفضل
أحسنهم عملاً، وأقومهم طريقةً، وأتقاهم لربهم.
أما عمله صلى الله عليه وسلم فشاهد على ذلك؛ فإنه لما بعث آخر بعث في
حياته أَمَّرَ أسامة بن مولاه زيد، فأنكر عليه هذا بعض السذج فقال صلى الله عليه
وسلم: (لقد طعنتم في إمارة أبيه، وكان أهلاً لها، وإن أسامة لها أهل) ، فتأمل
في قوله عليه السلام كيف كرر كلمة (الأهل) ؛ ليُعلم أن الإمارة والرئاسة تتوقف
على الأهلية لا غير [2] ، وقول عائشة رضي الله عنها في زيد مشهور، حيث قالت:
(لو كان زيد حيًّا ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره) [3] ،
وسرية أسامة - التي نحن بصددها - كانت مشتملة على سادات من المهاجرين
والأنصار وفحول من العرب العرباء، وقريش أصحاب المجد الباذخ، وكان فيها
أبو بكر الصديق الذي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار بعد بضعة أيام
أميرًا للمؤمنين، ورئيسًا للمسلمين [4] .
وهكذا أمرُ بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي معلوم
مشهور، حتى إن عمر الفاروق القرشي كان يقول في بلال: سيدنا ومولانا، وإذا
رأى صهيبًا يقول: (نِعم العبد صهيب لو لم يَخَفِ الله لم يعصِهِ) ، وأوصى عند
وفاته أن يصلي عليه صهيب، وأمير المؤمنين علي - عليه السلام - القرشي
الهاشمي كان يقول في سلمان: (سلمان منا أهل البيت) [5] ، فكان من أمر العرب
بعد الإسلام أن انحلت عصبيتهم النسبية في خلال قرن، وسبقهم العجم في مضمار
المحاسن والفضائل، وخضعت العرب أما علمهم وعملهم، كما كانت تخضع أمام
قريش، وبني هاشم، حتى اضطر الخليفة القرشي هشام بن عبد الملك أن يقول
للإمام الزهري: (والله ليسودنَّ الموالي العربَ، ويُخطَب لهم على المنابر،
والعرب تحتهم) (العِقد الفريد) [6]
فهل يتصور بعد هذا أن داعي الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي دعا النوع
الإنساني إلى نبذ العصبية وغرور النسب وإقامة المساواة العامة - يرجع القهقرَى؟!
فيتبع الهوى؟ ويحصر الحكومة والسلطنة والخلافة في قومه وقبيلته إلى
آخر الدهر؟ ويقول لسائر الناس لا فضل ولا شرف ولا حق إلا بالعمل والأهلية،
ثم ينسى هذا، ويترك العمل وراء ظهره، ويقول لنفسه: النسب، القبيلة،
الوطن، ويسلط قومه على العالم كله؟ ! لعَمْر أبيك إن هذا لشيء عُجاب! [7]
نعم، إنه من عجب العجب، ولكن ما كنا لنبالي به لو نطق به كتاب الله
وسنة رسوله؛ لأن ميزان الحق عندنا الكتاب والسنة، فإذا ثبت فيهما شيء فهو
حق، سواء فهمناه أو لم نفهمه؛ ولذا لم نستبعده بمجرد فهمنا وعقلنا، بل استبعدناه
لأنَّا ما وجدناه فيهما، وقلنا إنه لا يليق بهذا الدين، دين الفطرة، دين المساواة،
دين العمل.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يا لَلْعجب! ، اعترف الكاتب بصحَّة الأحاديث وإجماع الصحابة، ومَن بعدهم قولاً وعملاً على كوْن الخلافة في قريش، ثم شرع ينفي هذا الإثبات بنظرية ظاهرة البطلان، وهي كون ذلك يعارض تحريرها للإنسانية! إلخ، ثم يبني على ذلك تأويل الأحاديث وإنكار الإجماع بما سيأتي من الروايات الشاذة، والآراء التي سنبين بطلانها في مواضعها، ثم نعرضها على القراء؛ ليميِّزوا راجحها من مرجوحها.
(2) هذا لا يعارض الأحاديث التي هي أصح منه، والإجماع في الإمامة العظمى، وهو في إمارة سَرِية من الجيش، ولو عارضها لكانت هي أولى بالترجيح.
(3) رأي عائشة هذا شاذ، وقد ثبت بطلانه بنصوص الأحاديث في إمامة قريش، حتى ما كان منها إخبارًا عن المستقبل؛ إذ كيف نستخلفه، وقد أعلمه الله بأن الخلافة ستكون في قريش عدة قرون، وبما ظهر من حكمة الشرع في عدم استخلاف شخص بعينه.
(4) سبحان الله! ، كيف نذكر المسلمين اليوم أن الأنساب والأحساب - التي يفتخرون بها، ويعدّونها موازين الشرف بينهم - كانت منبوذة من ذلك الزمن المبارك، فلم يكن يُنظر إذ ذاك إلا في العمل والتقوى، فأتقاهم وأقربهم إلى الله وإلى رسوله كان أشرف وأكبر من غيره، وهذا أسامة - مع تأخُّره في النسب - كان يُقدَّم في العطاء على شرفاء قريش، وقد اعترض مرة عبد الله بن عمر على تقديم أسامة عليه، فقال له أبوه عمر بن الخطاب أمير المؤمنين: (كان أبوه أحبَّ إلى رسول الله من أبيك، وكان أحب إلى رسول الله منك) ! ، فما أعجب هذا الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في أولئك الذين كانوا يحتقرون سائر الناس، ويعدون كافة البشر أدنى وأحط منهم، حتى إنهم أَنِفُوا يوم بدر من منازلة كماة يثرب، فردُّوهم بلا قتال، ولكنهم - بعد الإسلام - يخضعون لإمارة العبيد وأبناء العبيد، ولا يستنكفون منها، يُقدَّم ابن العبد على ابن السلطان، فيظل ساكنًا، ولا يفوه بكلمة! اهـ من حاشية الأصل.
(5) بل هذا حديث مرفوع رواه الطبراني في الكبير، والحاكم عن عمرو بن عوف.
(6) القول في سبق العجم للعرب باطل كما يعلمه كل منصف يعرف التاريخ، نعم ساهموهم، ولكن ما فاقوهم في شيء، وقد قصدوا إذلال العرب، ولم تقصد العرب إلا عزهم، ومساواتهم بهم في
الإسلام.
(7) كل ما ذكره شعريات وخطابيات متكلَّفة تعود على ما أراده من جعْل الخلافة في بني عثمان
المحصورين بالنقض، وأما جعْلها في قريش فلا يقتضي ذلك، ولا عدم المساواة بين الناس في الدين والفضل والحقوق والجزاء في الآخرة، من أدلته أنه لم يمنع من ارتفاع شأن الموالي والأعاجم حتى في أزمنة الخلفاء الجائرين من قريش، وقد كان أكثر ولاة بني العباس وقوادهم من الأعاجم في النسب، ولولا ذلك لسادوا قريشًا وغيرها، وأفسدوا أمر الإسلام، حتى بالغلو في تعظيم آل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد زلَّ قلمه زلة فاحشة، بل زلت قدمه بما قاله في حيز هذا الاستفهام، مما لا يليق التفوُّه به في حق خير الأنام، وإن كان الاستفهام إنكاريَّا، ولو يكن كذلك لكان كفرًا صريحًا وقذفًا فظيعًا، وإنما نشرناه أداءً لأمانة النقل، ونستغفر الله تعالى منه لنا وله، ومن لوازمه أن جميع أهل السنة القائلين بحصره صلى الله عليه وسلم للإمامة في قريش - يرمونه صلى الله عليه وسلم بما برَّأه الله منه من اتباع الهوى، وهو تكفير لهم غير مقصود للكاتب، ولازم المذهب غير مذهب في الأغلب.(23/753)
الكاتب: حسني عبد الهادي
__________
من الخرافات إلى الحقيقة
(7)
(70) اعتنى المسلمون قديمًا بالرياضة البدنية اعتناءً رائدًا؛ لأن العمل
الصحيح لا يكون إلا في الجسم الصحيح؛ ولذلك كانوا يعلِّمون الشبان فن الفروسية
والرماية والسباحة اتباعًا للحديث الشريف القائل: (علموا أولادكم السباحة
والرماية) [1] (وعليكم بالرمي؛ فإنه خير لهوكم) [2] (والرمي خير ما لهوتم
به) [3]
ليتأمل العاقل نتيجة دين يأمر بتوسيع دائرة المعارف، وتزييد أسباب الثروة
وتقوية البدن! (وفن الحرب) ، وهذه الأركان الثلاثة متصل بعضها ببعض، كما
لصقت محاسن الأخلاق بالتحابّ والتوادّ، هل يقف أمام قوم هذا منهاجهم مهما قل
عددهم وعديدهم - أعظم إمبراطورية؟ !
(71) الرحمة للصغير، واحترام الكبير كان خُلقًا راسخًا؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) [4]
(72) الاقتصاد كان أساسًا ثابتًا ومحترمًا، لأنه جاء في الحديث: (ما
عال مَن اقتصد) [5]
(73) وأما الشح فكان مذمومًا جدًّا؛ جاء في الحديث الشريف: (ما محق
الإسلام محق الشح شيء) [6]
(74) السخاء كان أمرًا ممدوحًا جدًّا؛ قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا
السخي زَلَّته؛ فإن الله آخذ بيده كلما عثر) [7]
مَن لا يعرف أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما سمحا بثروتهما لأجل
استكمال وسائل الحرب؟
(75) وأما البُخل فكان في أقصى درجات المعيبات والمذمومات؛
لقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء
الخلق) [8]
(76) حرية الوجدان وحرية المساكن وصيانة الملك بأنواعه، ولا سيما
الكتب والرسائل وأمثالها من الحريات السياسية التي طالما افتخر بها الأوربيون -
كانت من جملة ما جاءنا به نبينا قبل ألف سنة وكسور، قال الله تعالى: {لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) ، وقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:
256) ، وقال رسوله: (مَن اطَّلع في بيت بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا
عينه) [9] ، وقال الله: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى
أَهْلِهَا} (النور: 27) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن اطلع في كتاب أخيه
بغير أمره فكأنما اطلع في النار) [10] ، وقصارى القول لو اعتنى علماؤنا
باستخراج أمثال هذه الأحاديث لوجدوا فيها من الوثائق ما هو كافٍ لإبطال كل
دعوى اتُّهِمَ بها الدين الحنيف.
ومما يوجب الأسف أن المصائب التي حلت بالمسلمين كأنها لم تكفِ لفتح
عيونهم لتحرِّي أوامر هذا الدين المبين، الذي يقتضي أن يكون متبعوه في طليعة
العلماء والأغنياء والأقوياء والأمراء، واعجباه!
(77) إن التهيُّؤ للخَصْم ومقابلة قوته بالقوة من أسس الإسلام؛ لذلك قال
الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ، فهل للمسلمين -
بعد هذا - أن يكلوا الأمور لمشيئة الله تعالى، ويعطلوا قوائم وأوامر القرآن،
ويعدوا ذلك من الإسلام؟
(78) أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حسن اختيار الموظفين بقوله: (لكل
شيء آفة تفسده، وآفة هذا الدين ولاة السوء) [11] ، فهل يحل بعد هذا أن يقبل
الوالي المسلم الشفاعات لأجل توسيد الأمور العامة لغير أهلها؟ ! .
(79) كانوا يعتنون بكل ما يزيد الثروة العمومية، ولا سيما تربية الغنم؛
لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذِ الغنم؛ فإنها بركة) [12] ، وغير خافٍ على
أحد أهمية ما للغنم من المكانة الاقتصادية في عصرنا.
ليتنبه الكسالى! .
(80) كانوا يضعون الشيء في محله، ويتباعدون عن الإسراف والتبذير
استرشادًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدنانير دينارٌ ينفقه الرجل على
عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على
أصحابه في سبيل الله عز وجل) [13] .
وهذا يدل على أنه لم يكن من المعروف في عصره صلى الله عليه وسلم
تخصيص الثروة بأناس كسالى، ينامون على ظهورهم، تاركين العمل وعادِّين هذا
عبادة.
(81) كان العمل والجد ممدوحًا، والكسل مذمومًا؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم: (مَن بات كالاًّ من طلب الحلال بات مغفورًا له) [14] .
(82) أشد ما اعتنت به الديانة الأحمدية الصناعة والتجارة؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (أطيب الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) [15] .
(83) كان الفقر مكروهًا مُستعاذًا منه، وإنما يطلب الصبر عليه، وكان
صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بالله من الفقر والعَيْلَة، ومن أن تَظلموا أو
تُظلموا) [16] و (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن
أَظلم أو أُظلم) [17] ، وإن أبا بكر كان تاجرًا غنيًّا، وكذلك ذو النورين، واكتسب
طلحة، والزبير ثروة هائلة من التجارة.
(84) ما كان في أوائل الإسلام أحد ينكمش في زاوية أو تكية؛ ليأكل،
ويشرب من ثمرة جد غيره باسم الدين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (استغنوا
عن الناس ولو بشوص السواك) [18] .
لذلك كان كل واحد يشتغل بعمل من الأعمال حسب قدرته العقلية والبدنية.
(85) الحراثة كانت محترمة جدًّا، وقد أمرنا بها سيدنا صلى الله عليه
وسلم بقوله: (احرثوا؛ فإن الحرث مبارك، وأكثِرُوا فيه من الحجاجم) [19] .
(86) الحياة الاستقلالية كانت أساس أمل كل فرد؛ لأنه صلى الله عليه
وسلم قال: (خيركم مَن لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلاًّ
على الناس) [20] .
لذلك كان كُلٌّ يسعى لئلا يكون حملاً ثقيلاً على المسلمين شأن البَطَّالين
والكسالى اليوم.
(87) الاتِّجار في الأقطار، وجلْب ما يحتاجه الناس - كان من الأمور
الممدوحة، والاحتكار كان من الأمور المذمومة، جاء في الحديث: (الجالب إلى
سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله) [21] .
هنا أدعو القارئ الكريم لأن يطالع بحث التجارة الخارجية، وبحث الاحتكار
في كتب الاقتصاد السياسي؛ ليرى علو معنى هذا الحديث.
(88) التبذير وعمل الأشياء التي لا فائدة منها - كانت مجهولة عندهم؛
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين
عليها المساجد والسُّرُج) [22] .
من هنا يُفهم أن إنشاء التُّرَب وزيارتها ليس من الإسلامية في شيءٍ، وقد
انتقلت هذه الخرافة لديننا الصافي النقي من أساطير الهنود القديمة.
إذًا إتلاف شيء من الثروة وإيقاد الشموع على القبور موجب للعنة، فأين
المتأملون؟ !
(89) في القرون الوسطى كان للنصارى - في محلات مختلفة - صَوامع
ينقطعون للعبادة فيها، فنهانا نبينا عن ذلك: (لا رهبانية في الإسلام) ؛ لأن الله
أمرنا بالعمل؛ إذ قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة:
41)
(90) إن ذبح القربان على القبور ممنوع في دين الإسلام؛ لأنه جاء في
الحديث: (لا عقر في الإسلام) [23]
(91) النذر: (لا وفاء لنذر في معصية الله) [24]
(92) تعليق بعض الأشياء على الأولاد وغيرهم؛ لدفع النظر، أو
استكتاب النسخ؛ لأجل محبة الأزواج لزوجاتهن من أمور الشرك - نعوذ بالله -
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) [25] . ليتنبه
الغافلون المبذرون!
(93) نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَن ربط القلب بالمشعوذين،
وقال: (مَن تعلق شيئًا وُكِّلَ له) [26] والنتيجة الحرمان.
(94) كذلك نهى عن مراجعة العرَّافين، الذي يبتزون أموال الناس بدعوى
الإخبار عن الغيب، قال: (مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيء فصدَّقه - لم تُقْبَلْ له
صلاةٌ أربعين يومًا) [27] ولأن الله تعالى قال - في كتابه الكريم آمِرًا نبيَّه أن يبلِّغ
الأمة: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50)
فما قول خفاف العقول - الذين يطلبون علم الغيب من العرافين - بعد ما جاء
في هذه الآية الكريمة من الصراحة؟ !
(95) نهى صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم من الاسم أو من صوت الطير
وضرب الرمل، وَعَدَّ ذلك وثنيَّةً، فقال: (العِيَافَةُ والطِّيَرَةُ والطَّرْقُ مِن
الجِبْتِ) [28]
(96) وكذلك عَدَّ التطير شركًا، فقال: (الطيرة شرك) [29]
(97) كانوا لا يتشاءمون من طير الطائر، ولا يعتمدون على أقوال الكهنة
والسحرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخرج مَن يفعل ذلك من الجمعية الإسلامية؛ إذ
قال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيَّرَ لَهُ، وتَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ) [30]
(98) الحسد والنميمة والكهانة كانت بمنزلة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث
الشريف: (ليس مني ذو حسد، ولا نميمة، ولا كهانة، ولا أنا منه) [31] .
أين مَن يعتبر؟ !
(99) لا واسطة بين العبد والمعبود في دين أحمد، وكل فرد مسؤول عن
عمله؛ لأن الله تعالى قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ،
أما ما يعمله - أو يتخذه - بعض الجهلة من الوسطاء لله تعالى، فهو مأخوذ من
الأمم السابقة، وتقليد (للأغراء) من النصارى و (للبراهمة) عند الهنود القدماء
و (لمونية) عند الزردشتيين و (للكاهن) عند الكلدان، وما لهذا مكان في
دين الإسلام.
(100) إن الله غني عن أية واسطة بينه وبين عبده؛ لأنه قال - في كتابه
الكريم-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16) .
وأما بناء القبور الفخمة المزيَّنة، واتخاذها ملجأً لقضاء الحاجيات، فهو ليس
من الإسلام في شيء، ولكنه تقليد للنصارى والهنود والإيرانيين، كما سيجيء
تفصيل دخول هذه الخرافات في تعاليم الإسلام.
(101) الغيبة كانت مستكرهة جدًّا؛ لأن الله قال: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم
بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) .
ليتنبَّه الأغبياء الذين يقضون أوقاتهم باغتياب الناس، والسبحة في أيديهم.
(102) لم يَعْتَنِ الدين الإسلامي بشيءٍ كما اعتنى بالعلم، وقد جاء في
الحديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة، وطلب العلم يومًا خير من صيام
ثلاثة أشهر) [32] ، وقال أيضًا: (العلم أفضل من العبادة ومَلاك الدين
الورع) [33] ، و (فضل العلم أحبُّ إليَّ من فضل العبادة) [34] ، و (أفلح مَن رزق
علمًا) [35] .
(103) الحرية الشخصية والاستقلال الذاتي من أهم قواعد الدين الحنيف،
وحفظًا لكرامة الضرر، جاء في القرآن الكريم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) .
فإن كان - جل جلاله - ينهى نبيه عن السيطرة، فهل يكون هناك دين يكفل
الحرية أزيد من دين الإسلام؟ ، وسنبحث في مقابلة الإسلام بغيره في هذه المسألة
بحثًا خاصًّا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) ابن منده في المعرفة، والديلمي في مسند الفردوس بسند حسن.
(2) الطبراني في الأوسط عن سعد بسند صحيح.
(3) الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر.
(4) أحمد والترمذي والحاكم عن عبد الله بن عمرو بسند صحيح.
(5) أحمد عن ابن مسعود بسند حسن.
(6) أبو يعلى عن أنس بإسناد حسن.
(7) الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس بإسناد صحيح.
(8) البخاري في الأدب المفرد، والترمذي بسند صحيح.
(9) أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة.
(10) الطبراني في الكبير عن ابن عباس.
(11) رواه الحارث من حديث ابن مسعود وصححوه.
(12) الطبراني والخطيب عن أم هانئ، وابن ماجه بلفظ: (اتخذي) .
(13) أحمد ومسلم وأصحاب السنن ماعدا أبا داود عن ثوبان.
(14) ابن عساكر عن أنس بسند صحيح.
(15) أحمد والطبراني والحاكم عن رافع بن خديج، والطبراني عن ابن عمر، وهو حديث صحيح.
(16) الحاكم في المستدرك بلفظ: (تعوَّذوا بالله - وآخره - أن تظلم أو تظلم) .
(17) أبو داود والنسائي وابن ماجه.
(18) البزار والطبراني والبيهقي عن ابن عباس، وهو صحيح.
(19) أبو داود في مراسيله عن علي بن الحسين مرسلاً.
(20) الخطيب عن أنس بسند صحيح.
(21) الحاكم عن اليسع بن المغيرة مرسلاً.
(22) أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس بسند صحيح، وليس سبب اللعن التبذير، بل إن هذا العمل من العبادات الوثنية.
(23) أبو داود عن أنس.
(24) رواه أحمد عن جابر بسند حسن، والنذور للموتى منها ما هو من أعمال الشرك، ولا فائدة في شيء من هذه النذور، وإنما يستخرج بها من مال البخيل، كما ورد في حديث آخر.
(25) أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود، وهو صحيح.
(26) أحمد والترمذي الحاكم، وحسَّنوه.
(27) أحمد ومسلم عن بعض أمهات المؤمنين.
(28) أبو داود عن قبيصة، وهو صحيح.
(29) أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن عن ابن مسعود.
(30) الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين، وهو حسن.
(31) رواه أيضًا عن عبد الله بن بسر.
(32) الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس.
(33) الخطيب وابن عبد البر في كتاب العلم.
(34) الطبراني في الأوسط، والحاكم عن حذيفة، والثاني عن سعد وتتمته: (خير دينكم الورع) ، وهو صحيح.
(35) البخاري في التاريخ، والبيهقي في الشعب بلفظ: (أفلح مَن رُزق لُبًّا) أي عقلاً.(23/757)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طائفة الشيعة في سورية
وحاجتها إلى الإصلاح
كان لطائفة الشيعة المشهورة باسم (المتأولة) شأن عظيم في جبل عامل،
وجبل لبنان من سورية، ونواحي بعلبك في سعة الأملاك والوجاهة والثروة وفي
العلم والأدب، ولما كان ما كان من نهضة النصارى الأخيرة في لبنان - انكمش
الشيعة وتضاءلوا وفاقهم النصارى في كل شيء، حتى غلبوهم على أملاكهم
الواسعة، فلم يبقَ لهم فيه شيء يُذكر، وقد كان من أسباب ذلك السخاء العربي
البالغ منتهى حد الإسراف وحب الفخفخة والعظمة، ولو بالباطل، والثناء والتعظيم،
وإن كان كذبًا، حتى إن كثيرًا من أملاك شيوخهم وكبرائهم قد آلت إلى مَن كان
عندهم من الفلاحين والخدم من النصارى، الذين كانوا يستغلون هذا الضعف منهم
بغاية الحذق كحفظ امتيازهم لهم بلبس الحذاء الأحمر المسمى بالجزمة، ومن أغرب
ما حُكي عنهم في ذلك أن أحد الفلاحين أهدى إلى شيخ بلدة منهم جزمة حمراء،
فأنعم عليه الشيخ بحقل أو كرم عظيم - يسمى عودة - كان هو في أشد الحاجة إليه.
لم تشارك الشيعة النصارى في شيء من تلقِّي العلوم والفنون الحديثة في
القرن الماضي، وكذلك كان أهل السنة الذين هم أكثر سكان مدن سورية الكبرى،
وأوْلى بالإسراع إلى كل ما يتجدد من أسباب الحضارة، ولكن هؤلاء عُنوا في هذا
القرن بعض العناية في العلوم والفنون العصرية، وفي التجارة وترقية الزراعة
أيضًا، وظل جيرانهم من الشيعة على خمولهم راضين من العلم والأدب بما يتلقاه
بعض رجال الدين منهم في مدرسة النجف الكبرى، أو على المتخرِّجين فيها من
فنون العربية والعلوم الشرعية.
وقد قرأنا في الشهر الماضي مقالتين في جريدة (الاتفاق) الأسبوعية - التي
تصدر في مدينة صيدا - عنوانهما: (تأخُّر الطائفة الشيعية وكيفية تقدُّمها) ، كانت
هي الداعية، بل الداعَّة لنا إلى كتابة هذا؛ إذ راعنا منها وصف كاتب المقالة
(المخلص) الغيور لقرى الشيعة في جبل عامل وبعلبك بأنها مهدَّمة المساجد، خالية
من المدارس، وقوله: إن الأميين منهم يتجاوز عددهم 95 في المئة، وإن هذا
الجهل أكبر أسباب حرمان الطائفة من تمثيلها في الحكومة الحاضرة كما يجب، وإن
بعضهم سعى في العام الماضي إلى تعيين عضو شيعي في محكمة التمييز (النقض
والإبرام) ، التي أُنشئتْ في بيروت (غير أنهم خجلوا لما علموا أن الطائفة ليس
لديها سوى ثلاثة شبان من خريجي مدارس الحقوق) ! ، والحكومة غير راضية
عنهم (كذا قال أفليس في قوله مبالغة) .
ثم قال الكاتب: يتفرَّع عن الجهل فروع عديدة، أهمها التعصب الديني
الأعمى الذي جعلنا أن نتسكَّع في مهاوي الشقاء، ونرتطم في حمأة التخلف لاهين
في تكفير زيد، وتشريك عمرو، وسِوَانا دائب في ترقية نفسه وإعلاء شأنه إلخ،
ثم ذكر فرعًا آخر من فروع الجهل، وهو الخمول أو الجمود في العقول، والفتور
في الهِمَم.
ثم ذكر من أسباب هذا التأخر تفرق كلمة الرؤساء وتحاسد الزعماء، ومقاومة
كل منهم للآخر بدلاً من التعاون على رفع شأن الطائفة، وقفَّى عليه بتدخُّل علمائهم
في كل الأمور السياسية، وعدَّه من أهم عِلَل تأخر الطائفة معللاً له، أو مستدلاً
عليه بأن: (الدين واللغة شيء، والسياسة شيء آخر لم يتفقا، ولن يتفقا) ، وبأن
الرؤساء الروحيين الغربيين لا يتدخلون في السياسة ألبتة، واقترح على علماء
الطائفة ومجتهديها التفرغ لتوثيق الرابطة الدينية، وتوطيدها على أسس القومية
الحق، وتهذيب أخلاق الأمة.
هذا ملخص المقالة الأولى، وأما ملخص الثانية فاقتراح تأليف جمعية من
خيرة العلماء والزعماء لترقية شأن الطائفة بالعلوم والفنون العصرية، ومساعدة
جريدة راقية تمثل الطائفة، وضرب اليهود والأرمن مثلاً للطائفة الصغيرة التي
ليس لها حكومة، ويجب عليها أن تنهض بنفسها وهمَّتها وإقدامها.
قال: (والطائفة الشيعية هي كالأرمن واليهود من كل وجه إلا وجه واحد،
وهو التقدم والتفوق) ، ولكنه ذكر في سبب الفروق بينهما أن اليهود والأرمن غير
متعصبين كالشيعة، وهذا غلطٌ، فهُم أشدّ خلق الله تعصُّبًا لأنفسهم على غيرهم،
ولكن بعلم وعقل ودهاء وحذق.
ثم ذكر من نشاط الأرمن في خدمة الجيش الإنكليزي ومساعدتهم له في حربه
لدولتهم العثمانية - التي كانت تفضلهم على قوم نبيّها العرب وعلى سائر العثمانيين
في الوظائف وسائر المعاملات - أن نساءهم ورجالهم كانوا يتجسسون لهم،
ويدخلون المعسكرات التركية والبلاد، ويجمعون الأموال حتى من المسلمين
للعصابات المسلحة؛ لتستعين بها على قتال الترك، وقال: (إنهم بهذه الطريقة
كانوا يصحبون معهم ضباطًا من الجيش الإنكليزي الذي كان يحارب في جهات
الموصل، فيقف هؤلاء على جمع حركات الألمان والأتراك العسكرية، وهذا ما
جرى مع (الكبتن ولور) الضابط الإنكليزي الذي دخل هو ورفيق له مرة مع تاجر
أرمني متنكِّرين إلى مدينة (باكو) ، وكان بصحبتهم أحد تجار المدينة المثرين
المسمى ناصر علي خان - أي الذي هو خان - ادّعى أنهن زوجاته الثلاث،
فقضوا في باكو بضعة أيام حيث جمعوا مبلغًا من المال، ودوَّنوا في حقائبهم جميع
ما عرفوه من الحقائق عن الجيش الألماني التركي، وذكر أن ذلك الضابط الإنكليزي
كافأ الأرمن بكتابة مقالة عنهم قال فيه: (حرام أن يحكم الترك ويسيطروا على
الشعب الأرمني النشيط الذي هو كفء لتنظيم أمور دولة عظيمة، لذلك نرى أرمينية
اليوم إرلندة ثانية في تركية.
ونعلق على هذه الكلمة أن الإنكليز - الذين يسخِّرون الشعوب لخدمتهم من
حيث لا تشعر - قد جعلوا الأرمن الأذكياء جدًّا في دائرة ضيقة جدًّا من أشقى أهل
الأرض، فجنوا عليهم أقبح جناية، كما جنوا أخيرًا على اليونان الذين يُشْبِهون
الأرمن في نشاطهم وغرورهم بأنفسهم، وعلى العرب الأغرار من قبلهم، ولا يزال
الإنكليز كالسيل يقذف جُلمودًا بجلمود، ومن العجائب استمرار انخداع الشعوب -
بله الأفراد - بتغريرهم، ولعل الأحداث الحاضرة تنتهي بمعرفة جميع الشعوب
حقيقة أمرهم، وأن مثلهم: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر: 16) ، وأما الأفراد فلا
يزالون يجدون فيهم أغبياء وخونة إلى أن يجيء اليوم الذي يعاقب فيه كل شعب مَن
يخونه ويغشه بحمْله على قبول النفوذ الأجنبي في بلاده، وعسى أن يكون ذلك اليوم
الموعود قريبًا.
ثم نعود إلى الكلام في إصلاح طائفة الشيعة الذي يهمنا جدًّا، فنقول: (إننا
كنا عزمنا أن نزور النجف في رحلتنا الهندية العراقية، فحال دون عزمنا ما عزانا
من الحُمَّى في البصرة، ثم في بغداد، والاضطرار عقب النقه إلى السفر، كنا
عزمنا على هذه الزيارة لأجل البحث مع مُحبِّي الإصلاح من العلماء، ولا سيما
السادة الشرفاء منهم في هذا الإصلاح، وقد جاء وفدٌ إلى بغداد لزيارتنا، ودعوتنا
إلى النجف الأشرف، وقد قال لنا رئيسه - وهو سيد عالم شهير -: إننا نَعُدُّكَ
إمامًا مصلحًا لجميع المسلمين، فلماذا تخص أهل السنة بإرشادك ونقدك لما حدث
من البدع والخرافات، وعندنا أضعاف أضعافها، أنت ساكت عنها؟ !) .
فأجبته: حقًّا، إنني على ضعفي وعجزي حريص على الإصلاح الإسلامي
على إطلاقه وعمومه، لا أخص به أهل مذهب دون غيره، وإنني لست سُنِّيًّا
بمعنى التعصب أو التقليد لمذهب من المذاهب التي تنتمي إلى السنة كالأشعرية أو
الحنفية والشافعية، بل أنا سُني بمعنى أنني مستمسك بما صح من سنة النبي صلى
الله عليه وسلم، لا أُوثِرُ عليه تقليد أحد، وأما سبب سكوتي عن إنكار بعض البدع
والخرافات الفاشية في الشيعة - فلأن قراء المنار من الشيعة قليلون ولا يحتاجون
إلى النص في المنار على إنكار بعض البدع الخاصة بهم كنقل جثث الموتى من
البلاد البعيدة - ومنها منتنة - إلى قرب مدافن آل البيت عليهم السلام في العراق
لدفنها في مساجدهم، أو بالقرب منها (مثلاً) ، ولو فعلت هذا لجاء بضد ما نريد
من الإصلاح بإنكاره؛ إذ يكون سببًا لحمْل بعض متعصبي العلماء الجامدين على
الطعن في المنار وصاحبه، بأنه متعصب لأهل السنة على الشيعة، بل عدو لهم،
كما فعل بعضهم في سورية؛ إذ ألَّف رسالة عنوانها (الشيعة والمنار) لما رأى
بعض قرَّاء المنار - من طلبة العلم والأدباء - قد استحسنوا طريقة المنار
الاستقلالية في فهم الدين وحرية العلم والرأي، وإنما أدع هذا لكم، ثم تكلمنا فيما
ينبغي من طرق الإصلاح العام والخاص، ورأيي فيهما.
ومما قلته: إن الشيعة أشد تعصُّبًا من سائر المسلمين في دينهم ومذهبهم، وأشد
احترامًا للعلماء والسادة وطاعة لهم، وهذا مما يُعين على الإصلاح، وإن كان سببًا
لكثير من الفساد، فيجب على العلماء - ولا سيما السادة منهم - أن ينهضوا بأمر
الإصلاح قبل أن يغير الزمان الشعب عليهم، فهذه الحال لا يمكن دوامها، وقد
رأيتم أن البابية والبهائية دعوا الشيعة إلى دين وثني جديد، قد ظهر فساد مثله من
ضلال الباطنية وفرقها المعلومة؛ فاستجاب لهما ألوف منهم، فإذا أنتم دعوتموه إلى
الإصلاح الحق الذي يجمع كلمة المسلمين ويزيل الأحقاد التي كان سببها السياسة
وعداوة الباطنية للإسلام نفسه ورجعتم بالإسلام إلى أصوله من الكتاب وصحيح
الأثر وسيرة السلف الصالح من أئمة آل البيت وغيرهم مع بيان كفالة الحنيفية
السمحة لما يُرقي المسلمين في هذا العصر من علوم وفنون وأعمال - فإنكم
تنجحون نجاحًا عظيمًا.
قال: إن هذا حسن، ولكن المستعدِّين له من كُبراء العلماء المجتهدين قليلون؛
لأن معظم أوقات حياتهم مصروفة فيما يَحُولُ بينهم وبين العلم بالحاجة إليه،
وذكر لي كلمة عن كبير منهم رأيته في الهند، وأثنيت له على علمه وفضله
قال: إن من المسائل التي اهتمّ بتحقيقها وإطالة البحث فيها - مسألة بول البراق
الذي عرج عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء هل هو طاهر أم
نجس؟ ! ، (قال) : ولكن كثيرًا من النابتة الجديدة في النجف الأشرف مستعدون
لهذا الإصلاح، وهم يتمنّون لو يرونكم لو اجتمعوا بكم لاستفادوا كثيرًا، فقلت:
إنكم أنتم تبلغونهم رأيي، وإنما الإنسان بعلمه ورأيه، لا بصورته وبدنه.
بعد هذه الكلمة التي أقصد بها إثبات اهتمامي بإصلاح حال الطائفة الشيعة
خاصة، أقول: إنني أجيز اقتراح الكاتب (مخلص) تأليف جمعية من العلماء
والزعماء لرفع شأن الطائفة بالعلم والعمل والثروة، وأنكر عليه قوله: إن الشيعة
كاليهود والأرمن، فينبغي لهم أن يتأسوا بهم في نهضتهم: اليهود شعب له مقوِّمات
الشعوب المستقلة بجنسيتها في نسبه ودينه ولغته، والأرمن مثله في كل شيء إلا
الدين، ولكن لهم رياسة دينية خاصة، والشيعة ليست كذلك؛ فلا هي مستقلة بدين
ولا لغة ولا نسب، بل دينها الإسلام، وهي مؤلَّفة من شعوب كثيرة ذات لغات
وأنساب مختلفة، وإنما شيعة سورية عرب في اللغة والنسب، فلم يبقَ بينها وبين
الأرمن شَبَهٌ إلا في اختلاف المذهب، وهو لا يقتضي في الإسلام التفرقة،
فالصواب أن يكونوا في الإصلاح القومي مع أبناء جنسهم من العرب في كل ما
يرقي الأمة العربية، وفي الإصلاح الديني مع سائر إخوانهم المسلمين فيما يطهِّرهم
من البدع والخرافات ويُزكيهم بهدي الإسلام، والتعاون مع سائر المسلمين على كل
ما يرفع شأنه، ويعز أهله ويمنع أن يكون الخلاف في بعض المسائل المذهبية سببًا
للتفرُّق والشقاق الذي حظره كتاب الله وتبرأ الرسول من أهله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) .
الشيعة ليسوا أقلية في سورية؛ فإنهم مسلمون ولا ينبغي لهم أن يفترقوا عن
سائر المسلمين في شيء إلا إذا كانت المصلحة في تمثيلهم في الحكومة أريح لهم
ولسائر المسلمين، ما دامت هذه الفتنة التي صفع بها أرباب المطامع في لبنان
الصغير أولاً، فلبنان الكبير ثانيًا - قائمة على عروشها، وهي جعْل وظائف
وأعمال الحكومة قسمةً دينيةً مذهبيةً، وقد كنا ننتقد في أنفسنا على رصيفنا وصديقنا
الفاضل صاحب مجلة (العرفان) الغرّاء نزعتها المشابهة لنزعة مجلة (المشرق)
الجزويتية في التنوية بشعراء الشيعة ومصنفي الشيعة، وما أشبه ذلك مما يقوي
الشعور بنزعة المذهب، ولا ننكر أنه على رأينا في حب الاتفاق، وأنه لا يقصد ما
يترتب على عمله من تقوية الشعور بالافتراق، والشيعة كانت - قبل بدعة المذاهب
الدينية في الإسلام - حزبًا سياسيًّا، ثم أُصيبوا ببدعة المذاهب كغيرهم، ولا يصلح
شأن المسلمين صلاحًا تامًّا ماداموا شيعًا وأحزابًا تتعصب كل شيعة وكل حزب
لمذهب ديني معين.
وإنما الإصلاح الديني الذي يحيا به الإسلام وأهله هو ما فصَّلناه من قبل في
المنار على قاعدة جمْع الكلمة على ما أجمع عليه المسلمون قبل تدوين المذاهب من
كتاب الله والسنن، ولا سيما العملية المتواترة وأركان الإسلام وتحريم الفواحش ما
ظهر وما بطن إلخ، وجعل مسائل المذاهب الخلافية حرةً كمسائل العلوم والفنون
الأخرى، يعمل فيها العالم بما يراه أرجح عنده، ويستفتي فيها العامي مَن يثق بعلمه
ودينه من العلماء فيما يجهله؛ فبهذا يزول المانع من تعاون جميع المسلمين على ما
يرقيهم في أمور دنياهم مع حفظ دينهم، ويكون لهم شأن عظيم بين الأمم.
ليس في هدْي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل من الأصول
التي شرعها الله لحياة أهل دينه وعزّهم وملكهم، مثل أصل الوحدة والاعتصام الذي
يكون به المسلمون كالجسد الواحد، ولا محظور فيهما على المسلمين أشدّ ولا أغلظ
من التفرق والانفصام، ولولا فتنة الخلافة لما بلغ ضرر تفرُّق المذاهب في الإسلام
هذا الحد، فوالله إنني أكتب هذا وأنا في ألمٍ لا يعرفه إلا مَن ذاقه، أتنفَّس الصعداء
أن أرى فئة من المسلمين ترى نفسها بين فئة منهم أكبر منها كاليهود بين نصارى
روسية، أو الأرمن بين مسلمي الترك، ويدعوها طُلاب إصلاحها إلى أن تحذو
حذو هذين الشعبين.
لئن كنتم - أيها الإخوة - فئة قليلة في إخوانكم مسلمي سورية، فليست شيعة
العراق بقليل فيه، بل هم الأكثرون، وهم مقصرون فيما يطلب الناصح (المخلص)
تشميركم فيه من وسائل الترقِّي الدنيوي، ثم إن دولة الشيعة الإيرانية هي مقصرة
عن شَأْوِ جارتها التركية المنسوبة إلى السُنَّة، وإن نهضة جارتها الأخرى، وهي
الدولة الأفغانية - على حداثتها - خير من نهضتها في السياسة والعمران، وإن لما
أشار الناصح (المخلص) من إلقاء حمل كبير من أوزار التبعة على علماء الطائفة
ومجتهديها وجهًا وجيهًا، ليس هو اشتغالهم بالسياسة كما قال تصريحًا، بل هو
جهلهم بها كما لمّح إليه في قوله: (إن الدين واللغة شيء، والسياسة شيء آخر) ،
ولكن السياسة في الإسلام من الدين، ومن الخطأ المبين تقليد بعض المتفرنجين منَّا
لبعض متفرنجة النصارى وأساتذتهم في الفصل بين الدين والدولة، على أن أكثر
المتدينين من النصارى - ولا سيما الكاثوليك - ينكرون عليهم ذلك، وفي هذا المقام
تفصيل لا محل له هنا، وإنما الغرض أن نبين غلط المتفرنجين منَّا في مسألة
السياسة، وأن نذكِّر كاتب المقال بأن السبب الذي جعله يشعر بأن الشيعة في سورية
كاليهود والأرمن - هو السياسة، وأن علاجه لا يأتي إلا من قِبَل العلماء الذين
يفهمون السياسة، وقد اتفقتُ مع صديقي العلامة السيد عبد الحسين العاملي على أن
الذي فرقَّنا هو السياسة، وأن الذي يجمعنا هو السياسة، فنعوذ بالله من شر السياسة،
ونسأله خيرها.
تذكرت أنني قلت - في أيام طلبي للعلم - كلمة في هذا المعنى كان لها تأثير
لولاه نسيتها، ولما كنت أصدق أنها مما كان يخطر ببالي في ذلك العهد.
كان عندنا في طرابلس الشام - أيام طلبي للعلم فيها - متصرِّف له إلمام واسع
بالعلوم الدينية والفنون العربية [1] شافعي المذهب كأهل بلدنا القلمون، وكان كثيرًا
ما يزورنا في أيام الجُمَع مع بعض العلماء والوجهاء، ويحب أن يصلي الجمعة
عندنا - وقلّما يوجد مكان تُقام فيه الجمعة مستوفاة الشروط على مذهب الشافعي كما
تقام عندنا - وكان كثير البحث في المسائل الشرعية والاجتماعية، وقد جرى
الحديث مرة عندنا على المائدة في ضعف المسلمين وحكوماتهم، فقلت: (إن رأس
أسباب ذلك جهل رجال الدين بالسياسة، وجهل رجال السياسة بالدين) ، فامتعض
الباشا وقال: أَوَ رجال السياسة والدولة جاهلون بالدين؟ ! ، قلت: إن وجود مثل
سعادتكم فيهم نادر، ولا شك أن الأكثرين كذلك، وأردت أن أفصِّل فغيَّر والدي
رحمه الله تعالى موضوع الكلام، واستكبر الحاضرون هذا القول للباشا مني على
بدايتي في العلم وحداثة سِنِّي، وكان منهم الشيخ علي رشيد الميقاتي من وجهاء
شيوخ طرابلس، وابن أخيه صالح أفندي من موظفي الحكومة، فطفق هذا يذيع
هذه الكلمة وينوه بها، وهي قد أغرت الباشا بكثرة البحث معي، وكان يعجبه
جوابي؛ لأنني لا أجيب إلا بما تحضرني فيه حُجَّةٌ.
وأذكر - على سبيل الاستطراد - مسألة في موضوعنا هذا، وهي قوله لي:
(إن الدولة مخطئة في استثنائكم - يا معشرَ طلابِ العلومِ الشرعيةِ وعلمائها - من
الخدمة العسكرية؛ فأنتم أَوْلَى من غيركم بها، وهذا الاستثناء لا أصل له في الشرع؛
فقد كان علماء الصحابة كلهم يجاهدون مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
فحضرني الجواب بالبداهة، ولم يكن هذا البحث خَطر ببالي من قبل، فقلت: بل
لهذا أصل في مُحكم القرآن! ، فجحظت عيناه وقال: في محكم القرآن؟ ! ، قلت:
نعم، قال تعالى - في سورة التوبة، وهي من آخر ما نزل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) ، فتخاوصت عيناه عند الجواب وسجيتا بعده،
وأثنى بما أثنى، ولما التقينا في الآستانة - في سنة 1329 - كان يذكِّرني بهذه
المجالس، وينوِّه بها.
ونعود إلى موضوعنا، فنقول:
إن طائفة الشيعة ما زالت أكثر طوائف أهل السُنة احترامًا وطاعةً لعلمائها،
ولا سيما السادة العلويين منهم، ولا تزال أنباء العراق تأتينا بما يدل على أن لأولئك
العلماء الأعلام اليد الطولى في الحركة الوطنية الاستقلالية، ومقاومة الدسائس
الأجنبية التي تسعى لجعْل استعباد الأجنبي لأهل العراق وغيرهم من مسلمي الشرق
قانونيًّا مؤيَّدًا بمعاهدة خادعة. وما المعاهدات إلا حُجة القوي على الضعيف،
كما قال أعظم ساسة أوربة، ولكنهم لقلَّة تمرُّسهم بالسياسة يُخْشَى عليهم أن يُخدعوا
اليوم كما خُدعوا في مؤتمر كربلاء من قبل؛ فقد بلَغَنا الآن أن الدسائس تعمل
للتفرقة بين علماء العرب منهم وعلماء إيران، فالواجب عليهم أن يُتقنوا السياسة،
وكل ما يتوقَّف عليه الاستقلال في هذا العصر، كما يتقنها البابا ورجاله ورهبانه.
فإذا ظلُّوا على جمودهم وإعراضهم عن البحث فيما يحتاج إليه المسلمون في
هذا العصر من العلوم والفنون والصناعات والنظام المالي، وسياسة الأمة التي
تجمع بين هداية الدين وقوة الأمة بالمال والقوة، والسعي في إنهاضها، وجمع
كلمتها، فإن اليوم الذي تنبذهم فيه الأمة سيكون قريبًا، وحينئذ يكون التحامل عليهم
شديدًا على سُنة رد الفعل الطبيعية، فعلماء الشيعة لا يزالون أصحاب الزعامة في
طائفتهم، على حين نُزعت الزعامة من علماء أهل السُنَّة، وصار نفوذ المتفرنجين-
حتى الملاحدة منهم في العامة المتدينة - أقوى من نفوذهم، كما هو مشاهَد في
بلاد الترك وبلاد مصر، وقد سبق متفرنجو الاتحاديين في الترك إلى سلب سلطة
شيخ الإسلام على المحاكم الشرعية، فجعلوها تابعة للمحاكم الأهلية القانونية [2] ،
فليفكر في ذلك علماء الشيعة.
وإننا نحيلهم في هذا المقام على مقالات (مدنية القوانين) التي ننشرها في
المنار، ونرجو من صديقنا العلامة السيد عبد الحسين، ومن سَمِيِّهِ العلامة الشيخ
عبد الحسين - وهما أشهر علماء جبل عامل - أن يُبيِّنا لنا رأيهما فيها، وفي هذه
المقالة كتابةً، وإذا سمحا لنا بنشر آرائهما في المنار فإننا نرجو أن نستفيد بها ونفيد،
على أننا ننشر ما يتفضَّل به غيرهما من علماء الشيعة وغيرهم من تأييد أو نقد
في هذا المقام يفيدنا فيما نسعى إليه من الإصلاح: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
__________
(1) هو مصطفى ذهني باشا آل بابان من أمراء الكرد، والد أحمد نعيم بك العالِم المشهور، وعضو مجلس المعارف الكبير في الآستانة، والمرحوم إسماعيل باشا بابان الذي كان ناظرًا للمعارف فيها.
(2) بعد كتابة هذه المقالة للجزء الثامن - وتعذُّر نشرها فيه وفي التاسع - جاءنا نبأ سلب الترك للسلطتين التشريعية والتنفيذية من خليفتهم، كما بينَّاه في محله.(23/763)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة الغازي
مصطفى كمال باشا
(التي ألقاها في مجلس الجمعية الوطنية الكبيرة بأنقرة في جلسة 12 ربيع
الأول - أول نوفمبر - التي أعلنوا فيها إسقاط الدولة العثمانية للإقناع بكوْن سلب
المجلس السلطةَ من الخليفة موافقًا للشرع الإسلامي، وكان ذلك على إثْر إرسال
توفيق باشا الصدر الأعظم برقيات إليه بطلب أعضاء من حكومة أنقرة ينضمون
إلى الأعضاء الذي يختارهم الباب العالي لمؤتمر الصلح الدولي) .
ماهية الباب العالي:
أيها الزملاء:
إن توفيق باشا - الذي يضيف إلى اسمه في الآستانة صفة غير شرعية - قد
راجع القيادة العليا لجيوشكم ببرقية خصوصية سرية، ثم أردفها ببرقية صريحة
تُفشي سر الأولى، وإذا ما فحصتم البرقية ألفيتموها ترمي إلى تهويش الرأي العام
الإسلامي، وإضعاف حكومتنا الوطنية التي فازت في الدفاع عن قضيتنا المقدسة
فوزًا فعليًّا وقانونيًّا إزاء الأعداء الذين كانوا يرومون محق استقلالنا، وقد اقتضت
تلك البرقية العارية عن المعنى والمنطق تكرار حقيقة مؤيدة بوجود مجلسكم العالي،
لا شك أن الحقيقة المندمجة في شكل إدارتنا هي أخْذ الشعب التركي بزمام أموره،
وقيامه بمهام سلطنته الشعبية منذ ثلاثة أعوام، ودفاعه عن قضيته المقدسة، وقد
أدى ظهور هذه الحقيقة إلى زوال باطل هو اجتماع سيادة الشعب وسلطنته في يد
شخصٍ واحدٍ، أكرر هذه الحقيقة التي أقرها الشعب، وأقرتها الهيئة الجليلة المؤلَّفة
مِن وكلائه تبعًا لإرادة الأمة مِرَارًا، وأرجوكم أن تتفضلوا بالإصغاء إليَّ بضع
دقائق.
حضرات الزملاء:
لعلكم توافقونني على إلقاء نظرة سريعة قصيرة في التاريخ التركي والتاريخ
الإسلامي توضيحًا للحقيقة.
خلاصة تاريخية سياسية للتركية والإسلامية:
إن في هذا العالم الإنساني أمة تركية عظيمة، يزيد عددها على مائة مليون
على أقل تقدير، ولهذه الأمة مكان فسيح في التاريخ يضاهي مكانها على وجه
الأرض، وإذا ما شئتم - أيها السادة - أمكننا أن نقيس هذا التاريخ بمقياسين:
الأول خاص بالعهد الذي يتقدم التاريخ المدون، ومنه نعلم أن أول تركي ابن
يافث بن نوح - عليه السلام - وليس لنا إلا أن نتسامح مع أول العهود التاريخية،
التي كانت تتسامح في جمع الوثائق، إنما يمكننا أن نقول مستندين إلى أقطع الدلائل
التاريخية المادية الجلية: إن الأتراك أسسوا دولاً عظمى في قلب آسيا منذ خمسة
عشر قرنًا، وكانوا من العناصر التي تجلَّت فيها جميع أنواع القابليات الإنسانية،
وقد قام بتأسيس تلك الدول التركية أجدادنا، الذين كانوا يرسلون سفراءهم إلى
(الصين) ، ويتقبلون سفراء (بيزنطة) في عواصمهم.
كذلك من المعلوم - أيها الزملاء - أن في العالم كتلة عربية، يتكون من
قسمها الآسيوي كتلة متكاتفة، وقد ظهر من هذه الأمة العربية فخر العالم، والرسول
الأعظم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أيها السادة:
إن الله واحد أحد عظيم، ونستطيع أن نقول - ناظرين إلى تجلِّيَات السنن
الإلهية -: إن الناس يصح فحصهم، وهم في حالين، وفي عهدين: العهد الأول
عهد الصبا والشباب البشري، والعهد الثاني عهد الرشد والكمال الإنساني،
والإنسانية في عهدها الأول كالطفل وكالشاب تبتغي أن تشتغل بنفسها بالوسائل
القريبة المادية، وقد اقتضت إرادة الله أن يبعث في الناس مَن يرشدهم إلى أن يتم
وصولهم إلى الكمال؛ ولذلك أرسل فيهم من عهد آدم - عليه السلام - أنبياءَ ورسلاً
لا يمكن عدّهم أو إحصاؤهم، إلى أن قام نبينا الأعظم بتبليغ آخر الحقائق الدينية
والمدنية، فلم تبقَ حاجة إلى الاتصال بالناس بواسطة رسل؛ حيث قد وصلت
درجة كمال النوع البشري إلى حد يصله بالإلهامات الإلهية رأسًا؛ ولهذا كان
الرسول المجتبى خاتم الأنبياء، وكان كتابه أكمل الكتب السماوية [1] .
وُلد - عليه الصلاة والسلام - قبل ألف وثلاثمائة وواحد وأربعين عامًا في
يوم الاثنين من شهر أبريل - ربيع الأول قبل طلوع النهار، وقد شَبَّ، واكتهل
قبل أن يُرسل، وكان وجهه نورانيًّا، وكلامه روحانيًّا، لا يفوقه أحد في رشده
ورويَّته، بل يفوق الكل في صدقه وحِلْمه ومروءته، وقد امتاز محمد المصطفى
بأمثال هذه الصفات الجليلة قبل بعثته، فاشتهر في قبيلته بلقب محمد (الأمين) ،
وكان محبوبًا محترمًا موثوقًا به لدى الجميع قبل بعثته.
بُعث محمد - عليه الصلاة والسلام - في سن الأربعين، وأُرسل في سن
الثالثة والأربعين، فظل سيدنا فخر العالم يسعى عشرين عامًا، متكبِّدًا أعظم المشاقّ،
محوطًا بأشد الأخطار، وقد ارتقى إلى أعلى عِلِّيين بعد أن بلغ الرسالة، وأتم
تأسيس الإسلام، وها نحن أولاء في يومنا هذا - 12 ربيع الأول - ندرك ذِكرى
ذلك اليوم؛ فقد ارتحل الرسول الأعظم إلى دار البقاء في مثل هذا اليوم بالتاريخ
العربي، فلما ارتقى الرسول إلى الرفيق الأعلى اجتمع المسلمون الذين أرشدهم إلى
الحق - وعلى الأخص أصحابه الكرام - وبكوا لفقده مُرَّ البكاء، وإنما أدرك أرباب
الفطنة أن لا فائدة في هذا الحزن الذي تقضي به البشرية، فاجتمعوا للتشاور في
اتخاذ التدابير التي يتسنى بها رؤية مصالح الأمة وإدارتها بعد ارتحال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، اجتمعوا لينتخبوا أميرًا يخلف رسول الله، وقد كانوا يرون
النبي الأعظم يحب أبا بكر حبًّا جمًّا، وأنه أشار في آخر أيامه بما أفاد أنه يبتغي أن
يخلفه أبو بكر.
آراء الصحابة في الخلافة:
فكان المنتظر إزاء ذلك عقد اجتماع لانتخاب أبي بكر الصديق انتخابًا رسميًّا،
ولكن الانتخاب لم يكن سهلاً إلى هذه الدرجة؛ حيث قامت المناقشات والمفاوضات
الكثيرة، وحدثت الاختلافات العظيمة، وظهرت ثلاث وجهات نظر مهمة في أمر
الانتخاب [2] .
الأولى: أن يكون الاستحقاق لمقام الخلافة بالكفاءة، والقدرة على إدارة
مصالح الأمة؛ وعليه ينبغي أن تكون الخلافة في أقوى الأقوام - أو قال: القبائل -
نفوذًا ورشدًا، وهذا رأي جمهور الصحابة [3] .
الثانية: أن يكون مَن نصروا الإسلام - إلى ذلك اليوم - أهلاً للخلافة، وهذا
رأي الأنصار.
الثالثة: التزام قوة القرابة، وهذا رأي الهاشميين.
لم يتسنَّ ترجيح وجهة نظر من هذه الوجهات باتفاق الآراء لانتخاب الخليفة،
فقام سيدنا عمر، وبايع أبا بكر الصديق منعًا لتشتت الآراء، فبويع له، ومن ذلك
يتبين أن التأثيرات الشخصية هي التي أنتجت انتخاب الخليفة الأول لائتلاف الميول
العامة تألفًا طبيعيًّا حول نقطة واحدة [4] .
والحق - أيها السادة - لا يصح لنا أن نظن أن هذه المناقشات الخاصة
بالخلافة لا محل لها؛ فإن أمر الخلافة في الحقيقة أعظم مصلحة إسلامية، والخلافة
النبوية إمارة تربط أهل الإسلام أجمعين، وتكفل اجتماعهم على كلمة الاتحاد.
وقد قضت الحكمة الإلهية أن لا تنعقد إلا على السطوة والقوة [5] ؛ إذ المقصد
الأصلي منها دفع الفساد، وتوطيد أمان البلاد، وتنظيم أمور الجهاد، وتعهُّد
المصالح العامة، وهذا كله منوط بالسطوة والقوة، تلك سُنَّةٌ الله في خلقه.
من أجل ذلك كانت وجهة النظر الأولى التي عرضتها عليكم فيما سلف،
والتي تجعل الخلافة في الأمة - ذات الحَوْل والطَّوْل - أرجح وأغلب وجهة [6] ،
وكان من الصواب أن يتقلد أبو بكر الصديق الخلافة بالتأثير.
تأسست - بعد عهد السيادة النبوية - إمارة إسلامية باسم الخلافة على هذا
المنوال، وقد حدثت الردة وبعض الحركات الرجعية بعد وفاة الرسول، فأخمدها
أبو بكر، ووطد دعائم السلام، ثم توسَّل إلى توسيع حدود الإمارة الإسلامية، ولما
أحس بدُنُوٍّ أجله تذكَّر ما وقع من المشاكل في أمر انتخابه، وانتخب عمر الفاروق
بنفسه لمقام الخلافة، وعهد إليه بها، وقدمه للأمة.
اتسعت البلاد في عهد (الفاروق) اتِّساعًا عظيمًا، وكثرت الثروة، ونمت
نموًّا كان من شأنه - كما هي العادة - حدوث الأغراض الدنيوية بين الناس،
وظهور الثورة والفتنة، حتى لقد كانت هذه النقطة تُزعج الفاروق، الذي كان يتذكَّر
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد قال لخواصّ أصحابه: إن أمته
سيظهر أمرها، وتهزم أعداءها، وتفتح اليمن والقدس والشام، وتقتسم خزائن
الأكاسرة والقياصرة، وإنها ستشبُّ بينها الفتنة بعد ذلك، فتضل، وتغوى، وتسير
سير الملوك السافلين، حتى لقد سأل الفاروق يومًا حذيفة بن اليمان - رضي الله
عنه - عن الفتنة التي تموج موج البحر، فأجابه أنه لا بأس عليه منها، وأن بينه
وبينها بابًا مغلقًا، فسأله عمر: هل يُفتح هذا الباب أم يُكسر؟ ، قال له حذيفة: بل
يُكسر، فقال عمر: إذن لا يُغلق بعدها أبدًا، وتأسَّف، والحق أن الباب كان يوشك
أن يُحطَّم؛ إذ قد اتسعت البلاد الإسلامية، وكثرت الأعمال، وكان من العسير
تعميم العدل الكامل في كل مكان بمثل تلك الإدارة، كان سيدنا عمر يفكر في ذلك،
ويتدبر في نتائجه، ويضرع إلى الله أن يقبض روحه، ولقد سأله سائل - وهو
يبكي يومًا - عن سبب بكائه، فأجابه: كيف لا أبكي، وأنا أخشى لو ضاعت شاة
على نهر الفرات أن أُسأل عنها؟ !
أجل، إن الفاروق - رضي الله عنه - كان قد فهم حق الفهم أن الإمارة
الموسومة باسم الخلافة غير كافية لإدارة دولة، وأن الفرد الواحد مهما اعتمد على
فضيلته وقدرته ومهابته لا يستطيع إدارة دولة بأجمعها [7] ؛ ولهذا السبب كان عمر
لا يفكر في خليفة بعده [8] ، حتى لقد قال لمَن أشاروا عليه بتولية ولده بأنه تكفي
ضحية واحدة من بيت واحد، وخاطبه (عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه -
إذ قال له: سأوليك الخلافة من بعدي - قائلاً: أَوَ تنصحني بقبولها؟ ! ، فأجابه:
لا، فقال عبد الرحمن: والله لا أقبلها أصلاً.
وقد كانت النتيجة أن توصَّل عمر إلى أحسن حل؛ إذ أحال إمارة الدولة
ومصلحة الأمة إلى مجلس شورى [9] ، فاجتمع أصحاب الشورى والشعب في
المسجد، وهنالك قَرَّ رأيهم على تفويض الإدارة إلى خليفة انتخبوه.
تولى سيدنا عثمان الخلافة، ولكن كان قد تحطَّم الباب الذي قضى عليه
بالتحطم، وبدأ القيل والقال، وظهرت أمارات عدم ارتياح في أكثر الممالك
الإسلامية.
وقد وقف سيدنا عثمان موقف الضعف والعجز، حتى لقد دعاه (معاوية) -
عامله على الشام - لصيانة حياته، فرفض (عثمان) ذلك، وأمر (معاوية) أن
يرسل إليه جنودًا للمحافظة عليه، ولكن لم يتَّسع المجال لاتخاذ هذه التدابير، حيث
قامت المناطق التي أعلن أهلها العصيان، وتقدَّمت المدينة، وحاصرت (عثمان)
في بيته، ثم أراقت دمه، وهو بجانب زوجته.
تولى الخلافة بعد ذلك سيدنا (علي) - كرم الله وجهه - بين ضوضاء
عظيمة، ووقائع دموية، وقد تحطم الباب، والحق أن العراق واليمن وسورية
والقطر الحجازي كانت بلادًا مختلفة، وإن كان يسكنها شعب واحد، وقد اضطر
الخليفة في الحجاز أن يقف وجهًا لوجه إزاء والٍ يستند إلى القوة، حيث كان
(معاوية) لا يعترف بخلافة (علي) - كرم الله وجهه - بل يتهمه بدم عثمان [10] ،
فكان مما فعله الخليفة - المأمور بتنفيذ الأحكام القرآنية - قطع الحرب إزاء
الجيوش الأموية، التي علقت القرآن على رؤوس رماحها، وتعهَّد الطرفان بقبول
ما يقضي به الحَكَمان، كان سيدنا (علي) حاضرًا؛ إذ اجتمع مندوبه (أبو موسى
الأشعري) مع (عمرو بن العاص) مندوب معاوية لتنظيم أمر التحكيم، فاعترض
مندوب (معاوية) على ما خطَّه أبو موسى الأشعري من أن هذا تحكيم بين أمير
المؤمنين علي ومعاوية، وطلب إلغاء عبارة (أمير المؤمنين) قائلاً: إنه لا يعترف
بإمارته إلا مَن هم تحت أمره، فلا يعترف به أهل الشام، فوافق سيدنا علي على
ذلك، والكل يعلم تلك الحيلة الدنيئة التي وقعت بعد ذلك بين مندوبي الطرفين،
وهنالك بشَّر عمرو معاوية بالخلافة؛ إذ نجح في حيلته، كما أن عليًّا استمر يقوم
بالخلافة، بعد أن تردد قليلاً فيما إذا كان يجب عليه أن يراعي حُكْم الحَكَم أم لا.
يتبين من هذا أن اثنين من كبار المسلمين لم يترددا في التنازع باسم الخلافة،
والتحارب من أجلها، وإراقة دماء شعب يتشيع لكل واحد منهما؛ رغمًا مِن أن الكل
على دين واحد، والكل من أمة واحدة!
تمكَّن الناجح في حيلته من هزيمة النزيه [11] ، وإرهاق آله وعياله، وهنالك
تحولت الخلافة إلى سلطنة إسلامية باسم الخلافة.
فتحت الدولة الأموية فتوحات عظيمة، ولكنها لم تحي إلا تسعين عامًا طافحة
بالوقائع الدموية من أولها إلى آخرها، وقد أسقطت الأمة العربية دولة بني أمية في
عام 132، وأسست مكانها دولة أخرى هي الدولة العباسية، التي كان يلقب
رؤساؤها بألقاب الخلافة، وكان هناك في الأندلس كذلك ملوك ظلوا يلقَّبون بألقاب
الخلافة قرونًا، بالرغم من وجود الخلافة العباسية في العراق!
أسلفت - فيما سبق - أنه كانت قد تأسست في أواسط آسية دولة تركية قبل
خمسة عشر قرنًا، أي قبل هجرة الرسول الأعظم بقرنين ونصف، وقد اعتنق
الأتراك - الذين أسسوا هذه الدولة - الدين الإسلامي قبل ألف سنة، ووسعوا
بلادهم في اتجاه الشرق حتى الصين، وأقبلوا حتى سورية والعراق في عهد الدولة
العباسية بصفتهم جنودًا، وقوَّوا نفوذهم في هذه البلاد التي تحت حكم الخلفاء
العباسيين، وارتقوا إلى أسمى المقامات، وتولَّوْا قيادة الجيوش.
وقد تأسست في القرن الرابع الهجري دولة تركية عظيمة باسم الدولة
السلجوقية، فكان الأتراك - الذين يعملون باسم هذه الدولة - ينتشرون في بلاد
القافقاس من جهة وبلاد إيران والعراق وسورية من جهة الجنوب، وبلاد
الأناضول من جهة الغرب، حتى دخلت دولة الخلفاء العباسيين المقيمة في بغداد في
دائرة نفوذ هذه الدولة، والحق أن هذه الدولة التركية مدَّت سلطانها إلى ما وراء
النهر وخوارزم والشام ومصر وأكثر الأناضول في أواسط القرن الخامس الهجري،
ووسعت حدودها حتى كاشغر ونهر سيحون إلى البحر الأبيض، والبحر الأحمر،
وبحر عُمَان، بحيث كان الخلفاء العباسيون في بغداد تحت نفوذهم وإدارتهم،
وقد جلس (ملكشاه) - الذي يمثل السيادة التركية - بجانب الخليفة المقتدي بالله،
وتصاهرا [12] .
أريد أن أحلل هذا المنظر وهذا الموقف قليلاً، لقد كان (الخاقان) التركي -
الذي يمثل دولة تركية عظيمة - لا يرى بأسًا في المحافظة على مقام الخلافة وحدها،
ولو رأى بأسًا في ذلك لكان في مقدوره أن ينزع تلك الصفة من الخليفة، وأن
يضيفها إلى نفسه، أي أنه لو أراد (ملكشاه) لفعل في بغداد ما فعله السلطان سليم
في مصر بعد خمسة قرون [13] ، بل إننا نرى (ملكشاه) لم يفكر إلا في أن يخلف
المقتدي بالله مَن هو أصدق للدولة التركية، وأليق بمقام الخلافة، وقد ضغط على
الخليفة المقتدي بالله لعزل ولده من ولاية العهد، وإقامة حفيده مكانه.
والآن - أيها السادة - مقام الخلافة محفوظ، وبجانبه مقام السيادة والسلطنة
الوطنية، أي الجمعية الوطنية التركية الكبرى، ولا شك أن هذين المقامين يقفان
جنبًا إلى جنب وقفة أعلى وأسمى من وقفة الخلافة العاجزة الضعيفة إزاء ملكشاه؛
لأن تركيا الحديثة تمثلها الجمعية الوطنية الكبرى؛ ولأن الشعب التركي يتعهَّد
ويتكفل بأن يكون سندًا لذلك المقام بجميع قُواه، من حيث هو واجب وجداني
ديني [14] .
لنتقدَّم في ملاحظتنا التاريخية بضع خطوات أخرى؛ حتى تتَّضح لنا ضرورة
إدارتنا الحالية، ومقدار نفْعها للإسلام.
أيها السادة:
إن الأتراك الذي أسسوا في أواسط آسية دولاً على دول -قاموا بتأسيس
دولتين عظيمتين، بلغتا أوج المدنية في غرب ذلك، هما الدولة السلجوقية الإيرانية
والدولة السلجوقية الأناضولية، ومن المعلوم أن قونية كانت حاضرة الدولة
السلجوقية الأناضولية، وأن هذه الدولة قد حافظت على حياتها حتى عام 699،
وبينما هذه الدول الإسلامية التركية المعروفة تسعى وتعمل - ظهر الفاتح جنكيز
خان، وخرج من قارة قوروم سنة 599، ووسع حدوده حتى بحر الصين وبحر
البلطيق والبحر الأسود، وقد استولى حفيده هُلاكو خان سنة 656 على بغداد،
وقتل الخليفة العباسي المستعصم؛ وبذلك رفع الخلافة من وجه الأرض فعلاً.
لقد رأى سيدنا عمر في حياته بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا
يُستطاع وقفُ تموجات الهيئة الاجتماعية، وفارق الحياة الدنيا مضطرب الروح!
وأما سيدنا عثمان فقد سال دمه على صحف القرآن وسط الهجمات المقدرة، ولم
يتمكن الإمام علي - كرم الله وجهه - من تقرير الخلافة في عهدته، ولا من
المحافظة على حقوق آل بيت الرسول، والأمويون لم يستطيعوا المحافظة على
الخلافة أكثر من تسعين عامًا، وقد اضطر الخلفاء العباسيون إلى قصر نفوذ الخلافة
بين أسوار بغداد، وقد ذهب المستعصم آخرهم ضحية لهلاكو مع أولاده وعياله
وثمان مائة ألف من المسلمين.
وأما خلفاء الأندلس - الذين لم يتجاوز نفوذ خلافتهم قصر الحمراء بعد ضعف
الخلافة العباسية - فكلنا يعلم عاقبة فاجعتهم في أوائل القرن الخامس الهجري، وقد
أدت الوقعة الخطيرة التي قام بها (هلاكو) إلى إعدام الخليفة، ومقام الخلافة [15] .
ولكن لم تمضِ ثلاثة أعوام على ذلك حتى التجأ إلى الحكومة المصرية
(المستقر بالله) من آل عباس سنة 659 هجرية، فاعترف ملك مصر بخلافته، وقد
جاء من بعده 17 خليفة لم يكن لأحدٍ أدنى نفوذ أو تأثير رأسي، بل كان يُستخلف
بعضهم بعضًا تحت حماية الحكومة المصرية، فلما تشتتت الإدارة السلجوقية أسست
الأمة التركية الدولة العثمانية مكان الدولة السلجوقية عام 699 هجرية، وقد وجد
السلطان سليم عند دخوله مصر عام 924 مَن يلقَّب بالخليفة عدا مَن قتلهم من ملوك
مصر، فلم يتردد ذرة في أن بقاء صفة الخلافة في شخص عاجز يشين العالم
الإسلامي، فاتخذها لنفسه على أن يجعل قوة الدولة التركية سندًا لها.
أيها السادة:
تأسست الدولة العثمانية عام 699 هجرية، وتقلدت الخلافة عام 924، فلم
يمضِ على ذلك التاريخ خمسون سنة، حتى أتمت ثلاثة قرون من حياتها تدعى
عهد الاعتلاء والانتصارات المتوالية، أما بعد ذلك فقد بدأ عهد الانحطاط، فصارت
الحدود التركية تضيق كل يوم، وتنقص قوات الشعب التركي مادةً ومعنًى كل يوم،
وتنزل الضربات الموجعة على رأس الاستقلال التركي، وتمحق أراضي المملكة
وثروتها ونفوسها وكرامتها بسرعة مدهشة [16] .
كانت البلاد منتبهة مستعدة لمعالجة أسباب مصائبها منذ قرون في لحظة واحدة؛
إذ كان التاريخ واضحًا للغاية، وكان الشعب قد بلغ أشدَّه وكماله؛ ليعمل لملافاة
نتائج غفلته المؤلمة، التي أنسته نفسه من جراء اتخاذ واسطة وقوة لترويج أطماع
الأشخاص الذي يريدون أن يتحكموا، وأن يتسلطنوا، وأن يستولوا، وأن ينتفعوا،
وأن يستريحوا، وأن يتوغلوا في السرف والترف وأنواع الرذائل، وغير ذلك من
المقاصد الدنيئة، هنالك لم يتردد الشعب في الحكم بأنه قد حان الوقت الذي يستعمل
قوته ونفوذه المعقول والمشروع والإنساني.
ولهذا هَبَّ الشعب التركي - الذي أسس دولة جنكيزية ودولة سلجوقية، ودولة
عثمانية، وجرب جميع هذه الدول بالحوادث - فأسس في هذه المرة دولة
باسمه وعنوانه، ووقف بإزاء المصائب التي بلي بها بقدرته وقوته التي فُطر عليها،
فسلم الشعب جميع أموره وجمع السلطة الشعبية لا في شخص واحد، بل في
مجلس عالٍ مؤلَّف من وكلائه الذين ينتخبهم جميع أفراده، وهذا المجلس مجلسكم
الموقر، أي الجمعية الوطنية التركية الكبرى، التي تُدعَى حكومتها (حكومة
الجمعية الوطنية التركية الكبرى) ، وليس هناك مقام سلطنة أو هيئة حكومة أخرى
في البلاد.
والآن قد يدور بالخلد سؤال عما يصير إليه أمر الخلافة بعد انهدام المقام
الشخصي الذي يضيف لنفسه تلك الصفة؟ !
أيها السادة:
لقد رأينا مقام الخلافة في بغداد في عهد الخلفاء العباسيين وفي مصر يعيش
قرونًا بجانب السلطنة، مع انفراده عنها، وإن من الطبيعي جدًّا أن يكون مقام
الخلافة بجانب مقام السلطنة الشعبية، مع فرق هو أنه كان على رأس السلطنة في
بغداد ومصر شخص، وأما في تركيا فيجلس في ذلك المقام شعب، ثم لا يكون مقام
الخلافة ضعيفًا عاجزًا ملتجئًا، كما كان في بغداد ومصر، بل سيتربَّع فيه شخص
عالٍ، يستند على الدولة التركية [17] .
وعلى هذا النحو سيزداد الشعب التركي قوة كل يوم بصفته دولة عصرية
مدنية، وستتضاعف سعادته ورفاهيته وفهمه لإنسانيته ونفسه، كما أنه سيظهر في
مظهر العزة والرفعة التي تشرح قلوب المسلمين أجمعين، ويجعله النقطة التي
يجتمع حولها العالم الإسلامي بروحه ووجدانه وإيمانه.
أيها السادة:
لا نرى حاجة لإيضاح ما تعده الدولة التركية والجمعية الوطنية الكبرى
وحكومتها من القوة والبركة والنجاة والسعادة للشعب التركي؛ فإن تجارب ثلاثة
أعوام - وثمار تلك التجارب - كافية لإيضاح ذلك على ما أعتقد، وأما الفوائد التي
تجنيها تركيا، ويجنيها العالم الإسلامي من مقام الخلافة بعد ذلك - فسيبرهن عليها
المستقبل بكل وضوح.
إن الدولة التركية الإسلامية ستكون أسعد دولة في العالم لكوْنها منبعًا ومنشأً
لتجلِّي السعادتين!
والآن أختم كلامي قائلاً إني أرى جميع الزملاء متحدين ومتفقين تمام الاتفاق
في أساس المسألة التي نتباحث فيها، وتلك حال سارة توجب شكر الأمة وتبريك
الجمعية المبجلة، لقد تُلي علينا تقرير مفصل من قبل، ولدينا تقرير آخر قُدم الآن،
وكلاهما متحد في الأساس، فليس لدينا إلا أن نحرر ما ورد فيهما في شكل
أصرح وألطف، ثم نحيلهما على رأي الجمعية الوطنية المبجلة، ونعلنهما بعد
الحصول على رأيها، وبذلك نَحُول دون جميع الدسائس التي يدسها علينا أعداؤنا
(انتهت الخطبة) .
***
(المنار)
إن المراد من هذه الخطبة السياسية جعْلها حجةً للجمعية الوطنية التركية في
إسقاط الدولة العثمانية، وتأليف دولة تركية محضة بشكل جمهوري جديد، وإقامة
هذه الدولة خلافة روحية للمسلمين بمعنى جديد لم يُعرف من شكله إلا أنها محصورة
في بني عثمان، وأن الدولة التركية هي التي تنتخب خليفة تركيًّا عثمانيًّا، وتؤيده
بقوتها، وتجعله - على حرمانه من سلطة الحكومة - أجلّ وأكرم من الخليفة
العباسي الذي تغلب عليه سلاطين الترك في بغداد، والذي تغلب عليه سلاطين
مصر، ولكن هذه التنظيرات التاريخية على ما فيها ليست حججًا شرعية على ما
كان، وعلى ما يُراد الآن، وإنما هي مبنيَّة على قاعدة (الحق للقوة) ، ولا تحتاج
الدولة التركية الجديدة إلى حجة غيرها، وليس السلجوقيون ولا الجراكسة، ولا
غيرهما أولى بها منها، وهذه القاعدة هي التي تجرى عليها سياسة هذا العصر،
وجميع الشعوب الإسلامية التي تعطف على الترك وتؤيدهم - فإنما تؤيدهم لأجل
قوتهم الحربية، والتلذُّذ بأن شعبًا إسلاميًّا يقاتل الإفرنج المستذلين لهم قتال الأَكْفَاء،
ويضطرهم بقوته إلى احترامه، والاعتراف بحقوق لدولته، لا لأجل الخلافة
والخليفة، والبرهان القاطع على ذلك أنهم كانوا إلبًا واحدًا على محمد وحيد الدين
لما ناوأ الكماليين، ولا تأثير في ذلك لما يقال من تنازُل الأسير العباسي للسلطان
سليم آسره على الخلافة، التي لم يكن يملك منها إلا دون ما يملك وحيد الدين منها
ومن السلطنة عندما فر إلى مالطة، فإن فقد الشعب التركي المسلم هذه القوة الحربية
الممتازة - لا سمح الله بذلك - لم يعد أحد من المسلمين يبالي بأمره، أوجد فيه
خليفة أم لا، فعليه إذن أن يوجد خلافة صحيحة أو يدَع.
أقول هذا وأنا لهذه القوة ناصح أمين، ومؤيد لها في مكافحة أعداء المسلمين،
وكنت أول مَن قاوم السعي لجعْل شريف مكة - الذي خرج على الدولة، ووالى
أعداءها - خليفة للمسلمين، ونوَّهت بأعمال الكماليين، وفضَّلتهم عليه وعلى أولاده،
ولكني لا أقول إلا ما أعتقد أنه الحق، ومنه أن الغازي مصطفى كمال باشا
مخطئ فيما رمى إليه في خطبته من محاولة إثبات أن نظام الخلافة الشرعي غير
صالح، ولا موافق لمصلحة الأمة، وأن سيدنا عمر علم بذلك، ومهد السبيل لنظام
غيرها، بأمره بالشورى في انتخاب الخليفة بعده، ومخطئ في استدلاله على ذلك
بعجز الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين عن إقامة تلك الخلافة، كما أخطأ في
دعواه أن جمهور الصحابة جعلوا الخلافة تابعة لقوة العصبية الجنسية، ونتيجة هذا
أنه مخطئ في حكمه المقصود بالذات من أن الحق أو الصواب ما فعله المتغلِّبون
على الخلفاء الأولين من سلب سلطتهم، وجعْلهم آلهة للتبرُّك بلقبهم، وأن ذلك حجة
لاقتداء الحكومة التركية الوطنية بهم، كل ذلك باطل واعتداء على الشرع نُفِّذَ بالقوة،
ويمكن الآن أن ينفذ مثله بالقوة، ولكن لم يكن ذلك، ولن يكون هذا حقًّا، ولا
خيرًا لمَن فعله، بل صدق على الجميع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في
الإمارة، والحرص عليها بغير حقها، (نِعم المرضعة، وبِئست الفاطمة) رواه
البخاري، وقد بيَّنَّا الحق في المسألة في مقالتنا التي نشرناها في هذا الجزء، وقد
كتبنا إلى الغازي مصطفى كمال كتابًا، أشرنا فيه إلى الخطة المُثلى في إحياء مقام
الخلافة، والانتفاع به، وذلك قبل وقوع هذا الحدث الأخير، الذي نرجو أن
يصححوا خطأهم فيه بعد الصلح واستشارة علماء الإسلام الأعلام من جميع الأقطار.
هذا، وإننا نتم السياق التاريخي - الذي بدأنا به - فنقول:
التقرير الذي اعتُمِد وقرار الحكومة:
ألقى الغازي مصطفى كمال باشا خطبته هذه في جلسة الجمعية الوطنية
الكبرى التي عُقدت لإعلان إسقاط دولة آل عثمان، وحكومة الباب العالي بمناسبة
برقيات الصدر الأعظم توفيق باشا، التي أرسلها إليه يطلب فيها إرسال مندوبين
لمؤتمر الصلح يشتركون مع مندوبي الباب العالي، وأما التقريرات التي أشار إليها
في الخطبة فقد اعتمد منها تقرير الدكتور رضا نور الموقَّع من 68 نائبًا، وبُنِيَ
عليه قرار الجمعية الآتي:
وهذا نص التقرير:
تقرير الدكتور رضا نور الموقع من 68 نائبًا:
(إن الدولة والأمة العثمانية قد نزلت بها أعظم المصائب من جهل السراي،
والباب العالي، وإسرافهما منذ قرون، وقد كانت نتيجة ذلك أن تدهورت البلاد في
مهاوي الانقراض.
لكن الشعب التركي - المؤسس للإمبراطورية العثمانية، والمالك الحقيقي
للبلاد - هَبَّ دفعة واحدة في الأناضول، ووقف في وجه أعدائه الخارجين، كما
جاهد السراي والباب العالي اللذين اشتركا مع الأعداء في معاداته، وأسس الجمعية
الوطنية الكبرى في أنقرة، كما ألَّف جيوشها، وحارب أعداءه الخارجين والسراي
والباب العالي في أحرج الظروف؛ حتى وصل إلى يوم النجاة.
أسس الشعب التركي قانون التشكيلات الأساسية؛ إذ رأى خيانة السراي
والباب العالي، وأخذ السيادة من السلطان لنفسه بالمادة الأولى من ذلك القانون، كما
أعطى الأمة جميع القوات التنفيذية والتشريعية بالمادة الثانية منه، وجمع كل
الحقوق الملوكية في نفسه من إعلان حرب وعقد صلح وغير ذلك، بالمادة السابعة
منه، فبناءً عليه قد انهدمت الإمبراطورية العثمانية القديمة منذ ذلك الحين،
وتأسست مكانها دولة تركية وطنية، كما زال السلطان منذ ذلك اليوم، وتولى مكانه
الشعب، فليس للهيئة الموجودة في الآستانة سناد شرعي غير أجنبي يمكنها أن
تستند إليه، بل هي ظل زائل.
أسست الأمة حكومة شعبية تحمي حقوق الشعب والفلاح، وتتكفَّل بسعادته
مكان الحكومة الشخصية المؤسَّسة على تحكُّم جماعة النزق والترف؛ فلهذا نحار
أشد حيرة؛ إذ نرى في الآستانة أولئك - الذين شاركوا العدو في معاداته للشعب
التركي - لا ينفكُّون يتحدثون بحقوق الخلافة والسلطنة، وحقوق البيت الملكي، بل
إنه يندر في التاريخ وجود وثيقة كبرقية توفيق باشا، من جهة غرابتها، ومخالفتها
للواقع، وعليه فإننا نطلب اتخاذ القرارات الآتية:
1- قد انقرضت الإمبراطورية العثمانية مع مبدأ الأوتوقراطية.
2- تأسست حكومة فَتِيَّة قوية وطنية باسم الدولة التركية مبنية على قواعد
الحكومة الشعبية.
3- الحكومة التركية الجديدة تقوم مقام الإمبراطورية العثمانية، وترثها -
وحدها - في داخل حدودها الوطنية.
4- حيث إن الأمة قد تولت السيادة بنفسها - بموجب قانون التشكيلات
الأساسية - فالسلطة التي في الآستانة صارت إلى العدم، وانتقلت إلى التاريخ.
5- ليس في الآستانة حكومة مشروعة، بل إن الآستانة - وما حولها - عائد
للجمعية الوطنية الكبرى؛ ولهذا يجب تعيين الموظفين لها من قِبَل حكومة الجمعية
الوطنية.
6- الحكومة التركية تنقذ مقام الخلافة - الذي هو حقها المشروع - من أيدي
الأجانب الذين وقعت الخلافة أسيرة في أيديهم ... ) .
***
قرار الجمعية الوطنية
وفي جلسة أول نوفمبر نشرت الجمعية الوطنية منشورًا وقرارًا باتفاق الآراء
محصورًا في مادتين، هذه ترجمتهما:
1- إن الشعب التركي قد فوَّض للجمعية الوطنية الكبرى - التي تمثله تمثيلاً
حقيقيًّا - جميع حقوق سيادته وحاكميَّته بمقتضى قانون التشكيلات الأساسية، بحيث
تجتمع تلك السيادة والحاكمية في الشخصية المعنوية للجمعية - اجتماعًا لا يقبل تركًا،
ولا تجزئة، ولا نقلاً إلى غيرها، كما فوض إليها استعمال تلك السيادة، وعدم
الاعتراف بأي قوة أو هيئة لا تستند على الإدارة الوطنية؛ فلهذا لا يعترف بشكل
أي حكومة في داخل حدود الميثاق الوطني إلا حكومة الجمعية الوطنية الكبرى
لتركيا، من أجل ذلك يعتبر الشعب التركي شكل الحكومة التي في الآستانة -
والمستندة على السيادة الشخصية - منتقلة إلى التاريخ انتقالاً أبديًّا، ابتداءً من يوم
16 مارس سنة 1920.
2- الخلافة في آل عثمان، بحيث تنتخب الجمعية الوطنية الكبرى لها من آل
ذلك البيت أرشدهم وأصلحهم علمًا وأخلاقًا، والدولة التركية سناد مقام الخلافة.
1 نوفمبر سنة 1922.
كلمة الدكتور رضا نور بك في الخلافة والسلطنة [18]
لما وصل إلى الآستانة الدكتور رضا نور بك وزير الصحة والتعاون
الاجتماعي في أنقرة، وأحد مندوبي الترك لمؤتمر لوزان في طريقه إلى أوربة -
اجتمع به أحد الصحافيين، وسأله عن رأيه في الانقلاب الأخير، وعن نتائجه،
فأجابه الدكتور بما نعربِّه هنا، وفيه القول الفصل؛ لأن الدكتور من زعماء هذه
الحركة، وهو الذي قدم - بالاشتراك مع حسين عوني بك مبعوث أرضروم -
تقريرًا إلى المجلس الكبير بفصل الخلافة عن السلطنة، فجرت المناقشة في
مضمونه، ووافق عليه المجلس.
قال الدكتور:
(هذا هو التاريخ ماثل أمامنا، يحدثنا أنه كان في العصر العباسي خلفاء، ما
تدخَّلوا في الشؤون الزمنية مطلقًا، ولا أكتمك أن الدول - التي يجمع خلفاؤها بين
السلطتين الدينية والمدنية في أشخاصهم - تصير دائمًا إلى الفناء والانقراض [19] ،
إذا فكرت في هذا الأمر - ضمن دائرة العلم والأصول الإدارية - يظهر لك أن
القرار الذي أصدرناه بفصل الخلافة عن السلطنة منطبق على أحدث الأصول [20] ،
وسيقابل العالم المتمدِّن والعالم الإسلامي كله عملنا بالارتياح، وستظل الأمة والدولة
التركية حامية لمقام الخلافة المُعَلَّى، وتتولى جيوش تركيا وحرابها الدفاع عنه.
ولا يخفى أن الخلافة تكون دائمًا في الدول والأمم القوية القادرة على الدفاع
عن بَيْضتها، وإعلاء كلمتها، فإذا ما استند الخليفة إلى حراب الترك يصبح ذا
تأثير معنوي في العالمين الإسلامي والمدني) .
المحرر: هل صدر قرار بفصل وكالة الشرعية - المشيخة الإسلامية - عن
الوزارة، على أن تكون مرتبطة بمقام الخلافة أم لا؟ ، وهل يُنتظَر حدوث شيء
مثل هذا؟ .
الدكتور: لم يصدر شيء حتى الآن، وقد تُرك البحث في هذه الفروع مؤقتًا،
على أن يُعاد إليها في فرصة ثانية، فيُفصل في أمرها.
لقد أحدثنا انقلابًا تامًّا الآن، فهذا الانقلاب - الذي هو انقلاب الانقلابات -
من أعظم الانقلابات التي عرفها التاريخ، فجاء عصريًّا تامًّا، ولم يبقَ لنا وقت
نعالج فيه المسائل الثانوية.
المحرر: ألا ترون أنه كان الأفضل تأجيل إصدار هذا القرار ريثما يُعقَد
الصلح؟ .
الدكتور: لقد وقع الانقلاب في الزمن الملائم، ولا يغرب عن البال أن هذا
الأمر داخلي بحت لا علاقة له بالصلح الخارجي.
ويلوح لي أن أهل الآستانة لم يدركوا تمامًا مزايا هذا الفصل، ولكنهم
سيعلمون في المستقبل القريب أن فيه سعادة الإسلام وحياة تركيا.
من الحقائق الثابتة أن الأمة التركية لا تعيش داخل إدارة امتزج فيها الدين
بالدنيا [21] ، وليعلم أهل الآستانة أن الأمة التركية - ولا سيما قرويي الأناضول
منها - لا يخضعون لسلطنة الأشخاص؛ فقد سئموا ذلك، ومَلّوه [22] .
اسمعوا خفقان قلب الأناضول، وأنصِتُوا إلى روحه التي تقول: إن الإنسان
ليس متاعًا تجاريًّا يُقايَضُ عليه، وما هو بمملوك فيضحَّى لنيل الفخار وإرضاء
الشهوات والمطامع، كنا نظن أن أهل الأناضول على شيء من الجهل والغباوة،
ولكننا لما اضطررنا إلى التغلغل في أحشاء الأناضول، والتنقُّل في ربوعه،
والاختلاط بأهله عن كثب - أدركنا أننا كنا على خطأ، وأن الأناضوليين يفكرون
احسن منا، وينظرون إلى المسألة من أصلها.
وبعد: فإنني أرجو أن أسألكم - بوجدانكم وعلمكم -: لماذا لا توافقون على
الفصل بين الخلافة والسلطنة؟ ! ؛ فإننا لو رحنا نقلِّب صحف التاريخ العثماني
لوجدنا أنه كان بين السلاطين مَن كانت له لحية مزخرفة يطلقها، ثم يحاول السير
بين صفوف الأمة، وإجراء الحكم باسم الخلافة [23] .
المحرر: متى يكون انتخاب الخليفة؟
الدكتور: لا أعلم متى يكون ذلك، ومن المقرر أنه سيُختار الأرشد والأصلح
من أبناء عثمان.
المحرر: لا يخفى عليكم أن بين المسلمين دولاً وجماعات أُولي قوة وبأس،
فإذا قامت إحدى هذه الدول غدًا، وقالت إنها ستختار الخليفة، فماذا نقول لها؟ !
الدكتور: يصعب جدًّا على هاتيك الجماعات الإسلامية انتزاع الخلافة من
أيدينا؛ لأن الخلافة قائمة على القوة؛ ولأن فصلنا بين الخلافة والسلطنة موافق
أيضا لأحكام الشرع الشريف [24] ، وزِدْ على ذلك أننا لو نظرنا فيما له علاقة
بالتاريخ الإسلامي من شؤون الخلافة - نجد أنه من الضروري لبقاء الخلافة في آل
عثمان نيل موافقة العالم الإسلامي والهنود وسواهم من الأمم الإسلامية الأخرى على
اتفاق في الرأي بهذا الأمر [25] .
ولما كانت الخلافة قائمة على القوة، وليس من المستطاع بقاء الخلافات
الضعيفة فستظل الخلافة بأيدينا أبديًّا؛ لأننا نبذل دماءنا في سبيلها منذ عصور،
والترك هم الذين أوصلوها إلى الهند والصين، وقاتلوا الأمم الأخرى دونها (؟ ؟)
المحرر: مَنْ هو الأرشد والأصلح بين أبناء عثمان؟
الدكتور: يوجد على كل حال بينهم رجل يصلح للقيام بهذا الأمر.
المحرر: ماذا سيكون لقراركم من التأثير في العالم الإسلامي؟
الدكتور: لا أظن أنه سيكون له أثر سيئ؛ فإن غايتنا - كما قلت آنفًا - هي
سعادة المسلمين؛ ولأنه موافق لأحكام الشرع الشريف.
المحرر: هل تفكرون في نشر بلاغ على العالم الإسلامي بما تم؟
الدكتور: لا أدري، ويجب أن تعلموا أن المسلمين كلهم متحدون معنا فكرًا،
وقد ثبت ذلك في مواقف كثيرة، ولما قمت برحلتي الأخيرة في روسيا كان مسلموها
يقولون لي: (إن الأناضول صار كعبة المسلمين) !
المحرر: هل حددتم أعمال الخليفة ووظائفه؟
الدكتور: لم يتم شيء من ذلك، ومن الممكن أن الخليفة سيقوم بالاشتراك مع
وكيل الشرعية - شيخ الإسلام - بإدارة الأمور الدينية، على أنه بعيدًا عن ذلك
فإن للخليفة في العالم أعمالاً كثيرة أخرى!
المحرر: هل أبلغتم الخليفة الحالي شيئًا مما تم؟
الدكتور: لا أعرف! ، والذي أستطيع قوله هو أنه إذا لم يسأل مجلس أنقرة
عما تم بشأنه فلا يبلغه المجلس شيئًا الآن اهـ.
***
(المنار)
لا شك في أن الدكتور رضا نور بك صاحب هذه التصريحات من أركان
الجمعية الوطنية لحكومة أنقرة، وأن قراره التاريخي كان بترجيح رأيه، ورأي مَن
سبق فأقنعهم به، ولكن حكمه على العالم الإسلامي عامةً - وعلى مسلمي الأناضول
خاصةً - هو كأقواله في الشرع الإسلامي ليس مبنيًّا على شيء من العلم الصحيح.
إن العالم الإسلامي يعطف على حكومة أنقرة في شيء واحد، وهو مقاومتها
لسلطة الأجانب المعتدين عليها وعلى غيرها من الشعوب الإسلامية.
وأما مسألة الخلافة وما قرروه بشأنها فمن المسلمين المصرح بالإنكار عليه
والساكت المنتظر انجلاء الغمة، وما يكون بعد الصلح والمهنئ للخليفة الجديد
المبايع له على أنه خليفة المسلمين وحاكمهم وصاحب السلطان عليهم، وإن سلب
حكومة أنقرة لسلطته باطل؛ فهو غير نافذ شرعًا، ولم يشذ عن هذه الفرق إلا أفراد
من المتفرنجين الذين يودون الانسلال من الحكومة الدينية، ومن كل ما هو من
الدين، ولا قيمة لهم بين المسلمين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .
هذا، وإننا كنا قد رأينا برقية لشركة روتر فيما كان من الخلاف والمعارضة
لتقرير هذا الدكتور في الجمعية الوطنية، ولا سيما مسألة الخلافة، فلم نحفل بها،
ولكننا رأينا اليوم - 29 ربيع الآخر - قبل طبع هذه الكراسة من المنار تفصيلاً لما
كانت أثبتته تلك البرقية، نشرته جريدة الأهرام، فرجحنا نشره إتمامًا للوثائق
التاريخية وهو:
***
انفصال السلطنة عن الخلافة
كيف وضعه مجلس أنقرة الوطني؟ !
حضرة الفاضل صاحب جريدة الأهرام ...
نشرتم في جريدتكم مقالات مختلفة لأنصار فصل السلطنة عن الخلافة
ولمعارضيها، فلا شأن لي في الزيادة على ما قيل؛ لأن فيه كفاية للمسلمين،
ولكنني أريد أن أذكر في هذه الرسالة بعض ما اطَّلعت عليه عن الكيفية التي وُضع
بها القرار، الذي قضى بفصل الخلافة عن السلطنة، مُستقيًا معلوماتي عن نشرتين،
نَشر الأولى منهما لطفي فكري بك أحد المندوبين في المجلس الوطني الكبير،
والمحامي الصحافي المعروف، ونشر الأخرى العالِم المشهور الشيخ بشير في نيكده،
وهذه خلاصة ما ورد فيهما، أعرضه على طلاب الفائدة لمقارنته بما يعارضه،
واستخراج حقيقة الواقع.
وُضعت الفتوى بفصل السلطنة عن الخلافة بناءً على اقتراح قدمه الدكتور
رضا نور بك - أحد مندوبي الترك في لوزان الآن - في 30 أكتوبر الماضي إلى
المجلس الوطني الكبير، ووقع عليه ستة وسبعون من زملائه، فجرى فيه بعض
التعديل، وأُحيل إلى لجنة الأمور الشرعية في أول نوفمبر الماضي، وهذا المجلس
عقد جلسة دامت ساعتين، وأسفرت عن وضْع قرار معارض له من جميع الوجوه.
على أنه عندما طُرح الاقتراح على المجلس لقي معارضة شديدة، وكلما
حاول أنصاره عَرْضه للتصويت - لإقراره بالأكثرية - كان المعارضون ينسحبون
من الجلسة، فتعطَّل لعدم وجود العدد القانوني لإبداء الآراء، ولم يكن عدد
الموجودين في المجلس يزيد على 22 مبعوثًا، فأرسل الغازي مصطفي كمال باشا
يستدعي أنصاره المتغيِّبين لأسباب مختلفة.
ولكن المعارضة أخذت بالاشتداد، وكانت تتألف من حزبين قويين: أحدهما
حزب الاتحاد والترقِّي، وعدد أعضائه خمسة وأربعون، والآخر حزب آخر تألف
لهذه الغاية من أنصار قره واصف بك المشهور، وعدد أعضائه خمسة وتسعون.
أما الاتحاديون فعارضوه؛ لأنهم وجدوا هذا الاقتراح فرصة سانحة للإيقاع
بحزب الحكومة والحلول محله، وأما أنصار (قره واصف بك) فكانت معارضتهم
مبنية على أسباب دينية وسياسية، لا محل لإيرادها هنا، فلما أعيا حزب الحكومة
الأمر، ورأى أن المعارضين يكثر عددهم، وينسحبون كلما طُرح الاقتراح
للتصويت، تصرف - كما تقول النشرتان المذكورتان آنفًا - تصرف حزب الاتحاد
والترقي في مجلس المبعوثان قبل الحرب، وذلك بأن طرح الاقتراع للتصويت،
وطلب أن يبدي الموافقون آراءهم برفع الأيدي، فرفع الموافقون أيديهم، وقام
ضجيج هائل في المجلس، إلى أن أعلن الرئيس أن الأكثرية قد حصلت! ، وأعلن
انفضاض الجلسة، ولما عرف هذا الأمر استقال عبد الله عزمي بك وزير الشؤون
الدينية، ولكن صدر إليه الأمر بأن يبقى في منصبه ريثما يتعين خلف له.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (مُطالِع)
(المنار)
هذا التفصيل مؤيد لما ورد في بعض الأنباء الخاصة من أن الأكثرية في
الجمعية العمومية كانوا معارضين للدكتور رضا نور زعيم الغلاة في هذه الفكرة
التي يعتقدون أن وجوده في موسكو هو الذي قوى عزيمته عليها، ولولا أن الرئيس
مصطفى كمال باشا أيده أخيرًا لرُفض اقتراحه نهائيًّا؛ وبهذا ظهر لنا سر ادعاء
الرئيس في خطبته أن بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - حصلت بتأثير عمر
الشخصي، لا برأي الأمة، وقد بينا غلطه - وإن شئت قلت مغالطته في هذا - في
تعليقنا على الخطبة، ولكن لم يظهر لنا غرضه من هذه المغالطة إلا بعد وقوفنا
على هذا الخبر.
ونختم هذا الموضوع هنا بأن حكومة أنقرَهَ مؤيَّدة الآن بأعظم قوة عسكرية
بلغتها طاقة البلاد، لها في عنقها مِنَّة الإنقاذ، فهي في حالة غير عادية، ولا يظهر
شكل حكومة الشعب فيها كما هي إلا بعد إلقاء السلاح، وعوْد الجند إلى أعماله،
وانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية انتخابًا سلميًّا اختياريًّا، وإلا بعد التروي والتشاور
في مسألة الخلافة، ولا سيما مشاورة علماء الأقطار الإسلامية غير التركية فيها،
وينبغي أن يُراعَى في هذا التشاور مَن يصلح له والله الموفق.
__________
(1) المنار: هذه الجملة في الرسل وحكمة إكمال الدين بخاتمهم مقتبَسة من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام بالاختصار، وهي في الرسالة منتهى البلاغة في البيان.
(2) التحقيق أن الخلاف لم يَطُلْ، وإنما كان بين المهاجرين والأنصار؛ إذ ظن بعض هؤلاء أنهم أحق بالحكم؛ لأن العاصمة (المدينة) دارهم، والقوة التي نصرت الإسلام فيها قوتهم، ولم يكن المهاجرون إلا ضيوفًا عندهم، وأما المهاجرون وسائر الأنصار فكانت حُجتهم - التي أدلى بها أبو بكر - أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نص على أن الخلافة في قريش، وأن العرب لا تَدين إلا لهم لمزاياهم المسلَّمة بينهم، أي احتجوا بنص الشارع وبالمصلحة العامة التي هي من أصول الشرع ومقاصده، لا بقوة عصبية أبي بكر؛ فإن الإسلام أمات العصبية الجنسية، وإنما أحياها بنو أمية، فجنوا على الإسلام أكبر الجنايات، وأما بنو هاشم فكانوا يزيدون على سائر قريش بقُربهم من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وذلك مرجَّح لهم، فليس بينهم وبين نظرية الجمهور تعارض، ولكن عمر (رضي الله عنه) خاف أن يسبق الأنصار إلى مبايعة رجل كبير منهم كسعد بن عبادة، فيقع الشقاق بينهم وبين المهاجرين، وتكون فتنة، فبادر إلى مبايعة أبي بكر لاعتقاده أنه هو الرجل الوحيد الذي يتبعه السواد الأعظم في مبايعته لكثرة مزاياه، وترشيح النبي (صلى الله عليه وسلم) له بإمامة الصلاة في آخر حياته، وكذلك كان.
(3) هذا خطأ محض، فلم يكن أحد من الصحابة يجيز أن يجعل الخلافة بقوة العصبية لتكون محل تنازع الأقوياء كما حصل بعد.
(4) في هذا التعبير نظر، والحق ما بيَّناه آنِفًا، وقد صرح عمر على المِنبر بأن بيعة أبى بكر كانت فلتة، أي أمرًا استثنائيًّا عارضًا لا يجوز القياس عليه، وإن الله وقى المسلمين شرها بسبب أنه لا يوجد في الأمة أحد تُقطع أعناق الإبل في الرحلة إليه، والاتفاق على فضله مثل أبي بكر.
(5) نعم، ولكن قوة الإسلام المتحدة - لا قوة شعب ولا قبيلة - تحتكر السيادة، وكوْن الخليفة من قريش الكثيرة البطون لا يقتضي هذا الاحتكار، ولم يفعله أحد لقريش، ولكن ابتدعه الأمويون
لأنفسهم، فسنُّوا سُنَّةً سيئةً، كما قلنا من قبل.
(6) نص عبارة أن رأي الجمهور كان أرجح بالنظرية التي ذكرها، وهي جعْل الخلافة فيمن قومه أقوى من قوم الفريقين الآخرين، وقد بينا أن هذا خطأ محض، وضد الواقع، بل كانت قوة الإسلام واحدة، وإلا فإن قوم أبي بكر هم بنو تَيْم، وليسوا بأقوى ولا أرشد من بني هاشم، ولا من الأنصار، فهذا التعليل غلط أو مغالطة.
(7) هذا غلط آخر أو مغالطة أخرى أراد الخطيب أن يجعلها حجة لما أراده من شكل حكومتهم الجديدة، وسبب ذلك أنه يظن أن الخلافة سلطة شخصية مطلقة، والصواب أنهم سلطة شورى مقيدة، وأنها أقرب إلى شكل حكومة الجمعية الوطنية منها إلى شكل حكومة سلاطينهم، الذين كانوا يسمونهم خلفاء كوحيد الدين وعبد الحميد، ألا أنها خير منها، ولم يكن شكل الإدارة علة لما حصل من الأحداث والفتن، بل طبيعة الاجتماع - التي ترتَّبت على سيادة دين جديد ولغة جديدة وشعب جديد - في أمم كثيرة ذات مِلَل متعددة في أقطار واسعة في أقل من ربع قرن مع صعوبة المواصلات.
(8) الصواب أنه كان في يفكر، والروايات فيه كثيرة.
(9) ليس عمر هو الواضع للشورى، بل رب عمر، في قوله تعالى: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم] (الشورى: 38) وقوله - لرسوله -: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر] .
(آل عمران: 159) ، وعمل النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك، حتى كان يرجع عن رأيه إلى رأيهم، كما فعل في غزوتي بدر وأحد.
(10) التحقيق أنه عَلَّقَ المبايعة لعلي على تسليمه قتلةَ عثمانَ، لا أنه اتهمه بدمه.
(11) الظاهر الموافق للواقع أن المراد الهزيمة المعنوية لا الهزيمة في القتال، فعلي كان هو المنصور، والحسن صَالَحَ معاوية، وهو أقوى منه حقنًا للدماء.
(12) في مسألة كوْن الدولة السلجوقية تركية والأيوبية كردية - بحث تاريخي واجتماعي لا محل له الآن، كما أنه لا محل لذكر شيء من عمل الترك في الدولة العباسية، التي اعتمدت عليهم، ورفعت مكانتهم على العرب والعجم.
(13) هذه مسألة فيها نظر من وجوه نرجئ بيانها إلى وقت آخر لا يلابس الحقيقة فيه غيرها، وإنما نذكِّر الخطيب وقراء الخطبة بمسائل تأثير الاعتقاد والرأي العام وظروف الأحوال وصروف الزمان؛ فقد كان نفوذ الجون ترك في عهد الاتحاديين أقوى من نفوذ السلطان وآل عثمان، ولكنهم لم يقدروا على نزع الملك منهم، كما قدروا عليه في عهد الكماليين.
(14) الخلافة ليست مقامًا وجدانيًّا حقه الاحترام في القلب فقط، بل هي عبارة عن رياسة الحكومة الإسلامية، فرئيس هذه الحكومة - التي تقيم الإسلام بإحياء دعوته، والدفاع عنها، وتنفذ أحكامه - هو خليفة الرسول، وإن لم يُسَمَّ خليفة؛ فإن هذا اللقب لم يُطلق على غير الأول من الخلفاء الراشدين، وقانون الجمعية الوطنية قد حصر السلطة كلها فيه، وليس في ذكر للخليفة، وقد نصَّت خليفة روحيًّا في الآستانة، وإننا ننتظر ما ننوط به من الأعمال.
(15) يريد بكل ما تقدم أن حكومة الخلافة الإسلامية بالمعنى المعروف في الإسلام لم تنجح، ولم تثبت لعلة ذاتية فيها، تقتضي أنها لا تصلح للمسلمين، وهذا خطأ محض، والصواب ما أشرنا إليه في حاشية قبل هذه، وإن خروج المسلمين عن أحكام الإسلام في الخلافة كان من أسباب تفاقم تلك الأحداث والفتن وسقوط الدول.
(16) يُفهم من قوله بمعونة ما سبقه أن منصب الخلافة - الذي أدخله السلطان سليم في الدولة - هو الذي كان سبب سرعة انحطاطها! ، وقد صرح الدكتور رضا نور بمثل هذا في حديثه الآتي، فيا ليت شعري! ، أي عمل عمله سليم - ومَن بعده - باسم الخلافة فكان سبب ضعفها؟ ! ، أما والله لو قاموا بوظائف الخلافة لملكوا الشرق كله.
(17) كان سبب وجود شبح يسمى خليفة في جانب السلطان التركي ببغداد، والجركسي بمصر - هو اعتقاد أولئك الترك والجراكسة أن الخليفة الحق يجب أن يكون قرشيًّا، ومنه تُستمد السلطة لتكون شرعية، ولا محل لاعتقاد الحكومة التركية مثل هذا الاعتقاد في بني عثمان الذين سلبتهم المُلك؛ لأنها لا تراهم أهلاً له، بل تراه ضررًا على الأمة، على أن عمل أولئك السلاطين لم يكن شرعيًّا في الحقيقة، بل في الصورة، فما الفائدة في محاكاتهم فيه؟ ! ، ومَن لم يكن أهلاً للسلطنة لا يكون أهلاً للخلافة بالأوْلَى؛ لأنها سلطنة وزيادة، سلطنة وخلافة ونبوة.
(18) المقطم في 2 ربيع الآخر.
(19) أكثر متفرنجي الترك على هذا الرأي، وهم مخطئون في جعْل الجمع بين السلطتين سبب الفناء؛ فإن الدول التركية التي نوَّه بها مصطفى كمال باشا - وقال إنها أبت انتحال الخلافة وأمثالها من الدول التي لم تكن جامعة بين السلطتين - قد انقرضت أيضًا، وهي كثيرة، وقد أشرنا إلى أسباب ذلك في موضع آخر، وهذه حكومة اليمن جامعة بين السلطتين منذ أكثر من ألف سنة ونيِّف، وقد حاولت الدولة العثمانية القضاء عليها منذ أربعة قرون فعجزت، ولا تزال باقية، وبيت الإمامة فيها أقدم بيت ذي حكومة في الأرض.
(20) نعود فنقول: إن فصل الخلافة عن السلطنة يُخرجها عن معناها الشرعي إلى معنى أحدث الأصول المخالفة لأصول الإسلام القديمة، أي يُخرجها عن كوْنها الخلافة الإسلامية، ويجعلها كخلافة مشايخ الطريق، وهي حينئذ لا تحتاج إلى حراب ولا مدافع.
(21) هذا تصريح آخر أن الحكومة غير دينية، وهذا أخصُّ من جعْلها غير مرؤوسة لخليفة ديني، فحكومة الأفغان دينية، ورئيسها ليس خليفة الإسلام الشرعي.
(22) لا نثق بنقل الدكتور عن فلاحي الأناضول؛ فإن اعتقاده ليس كاعتقادهم قطعًا.
(23) هذا عبث بمنصب الخلافة، سببه الجهل بها، وبالإسلام الذي شرعها، وذلك السلطان المدَّعي لها دجال مبطل، وأنصاره أضل منه وأجهل، فهل يصح أن يحكم على ضرر الخلافة وفسادها بفساد أمثال أولئك السلاطين المدَّعين لها بالباطل؟ ! .
(24) كلا، إنه مخالف للشرع، وإن أصل الشرع أن تكون القوة للحق، لا الحق للقوة، وكل ما خالف ذلك فغير شرعي.
(25) فستبصر ويبصرون.(23/772)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مؤتمر لوزان
للصلح في الشرق
انعقد مؤتمر الصلح في لوزان، وبرز في ميدانه قائده العام لورد كيرزون
وزير الخارجية البريطاني يقاتل الوفد التركي بسيفين: سيف الاتحاد الأوربي في
يمينه، وسيف الاتحاد البلقاني في شماله، ومن ورائهما العالم المسيحي في أوربة،
وأميريكة، يظاهره على تأليف أوطانٍ خاصةٍ للأقليات المسيحية في الوطن التركي
الصغير - الأرمن، والروم، والآشوريون، والكلدانيون - كلهم مسيحيون يجب
أن يكون لهم أوطانٌ في قلب البلاد الإسلامية، ولا سيما الدولة التركية، يمتازون
فيها بلغاتهم وتقاليدهم الدينية والمدنية، التي كانوا بها حربًا لدولتهم العثمانية، وسببًا
من أسباب سقوطها، كما ظَاهَرَ دولته هذا العالم كله على تأسيس وطنٍ لليهود في
قلب البلاد العربية (فلسطين، أو سورية الجنوبية) .
إذا قال الترك: إننا نريد أن نعيش أحرارًا مستقلين في عقر دارنا، وهو
جزء صغير من سلطنتنا (إمبراطوريتنا) الواسعة التي سلبتموها منا، فالعدل
والحق أن نكون فيها مثلكم في بلادكم، وديننا وقوانينا توجب علينا أن يكون
للمخالفين لنا في الدين من المشمولين بسيادتنا مثل ما لنا من الحقوق، وعليهم ما
علينا، وماضينا يشهد لنا بتسامحنا - قالت الدول الأوربية القوية: كلا، إنكم قوم
متعصبون تريدون ظلم المسيحيين! ، فإذا قال الترك لهم: إذا كان ما تتهمونا به
من الظلم قبيحًا ومحرمًا، فلماذا تظلمون المسلمين؟ ! ، وقد بحَّت أصواتهم،
وحفيت أقدامهم، وأقلامهم من تكرار التظلُّم، والاستغاثة، ولا منصف، ولا مغيث-
قالوا: إن المسلمين متعصبون يستغيثون من العدل والرحمة المسيحية التي
نعاملهم بها، فلا يقبلونها! ، وأما المسيحيون عندكم فهم يشكون من ظلم حقيقي
إسلامي! ، مثال ذلك - وهو قليل من كثير - أننا رحمنا عرب فلسطين المسلمين
فأعطينا وطنهم لليهود، وجعلنا حكومتهم يهودية في ظل عدالة الدولة البريطانية؛
لأجل أن يعمروا هذا الوطن، ويرقوا فيه الحضارة، وينمُّوا الثروة، فيعيش العرب
في ظلنا وظلهم ناعمين متمتعين بالحضارة واللذات! ، فحملهم التعصب والجهل
على الشكوى من هذه الرحمة بدلاً من الشكر على هذه النعمة، وهكذا نريد أن نرحم
الأرمن في الأناضول، والآشوريين في العراق! ! !
قد حذقت دول الاستعمار الأوربية هذه السياسة، ومَرَدت عليها، وكادت
تقضي على الشرق كله بها، ولولا الاختلاف بينهم على تقسيم بلاده لما بقي لهذا
الذماء من الاستقلال الضعيف المهدد فيه عين ولا أثر، والفضل الأكبر للنهضة
التركية الجديدة أن قادتها قاؤوا ما أوجرتهم سياسة أوربة من سم اليأس، وكشفوا ما
وضعته على أبصارهم من غشاوة الوهم، واحتقروا الموت في سبيل حريتهم، فهم
قد أجمعوا أمرهم على سد منافذ السيطرة الأوربية السابقة عليهم وشرها ما تمتعوا به
من الامتيازات، وما استغلوه من حماية المسيحيين، وحقوق الأقليات، ودسائس
المدارس والجمعيات، وتصرف المصارف والشركات.
ولكن الترك قد عرفوا من أوربة ما لم يعرف عرب الحجاز وسورية،
والعراق، الذين يبيعوهم زعماؤهم للأجانب، ويمُنُّون عليهم معهم بالتحرير من
الاسترقاق؛ زاعيمن أن المشتري الجديد خير من الشريك التليد! ، وأنهم سيقنعونه
بالكلام على جعْلهم شركاء له في الأحكام وجعْل الرق وسيلة للحرية، والانتداب
ذريعة للاستقلال التام.
عرف الترك أن هذه الدول لا تعرف حقًّا إلا للحسام، ولا مستحقًّا للحرية إلا
المحتقِر للموت الزؤام، وسيرى اتحاد دول الحلفاء الكبرى ودول البلقان الأخرى
أنهم لا يرهبون اتحادهم، ولا يرجعهم التهديد والوعيد عن إصرارهم على تحرير
بلادهم، فإما أن يضطر الاتحادان العظيمان إلى احترام ميثاقهم، والاعتراف لهم
بمساواة أعظم دولهم، وإلا أعادوها إليهم - أي الحرب - جذعة، وذلك ما تأباه
أُمَمهم، فإنها ملَّت القتال، وبذل الأموال، وسيكون الفوز للترك أعداء الحلفاء،
والخسار والعار على مَن محضوهم الود والولاء.
يعلم الحلفاء علم اليقين أن الترك في أشد الحاجة، بل الاضطرار إلى الصلح؛
لأن شعوب أوربة حاربت أربع سنين؛ فأنهكتهم الحرب، وأفنت ثرواتهم العظيمة،
والترك حاربوا عشر سنين - على قلتهم وفقرهم - فهم أحوج إلى الراحة،
وسلامة مَن بقي من رجالهم، والانصراف إلى عمارة ما خربت الحرب من بلادهم.
ويعلم الترك علم اليقين أن شعوب أوربة كلها سئمت الحرب وخسارتها، فلا
يسمح شعب منهم لدولته بتجديدها لأجل الإجهاز على الترك، بل لا ترغب دولة من
دولهم بالقضاء الأبدي على دولة الترك إلا إنكلترة، وليس من مصلحتها الانفراد
بحربهم لمكانتهم من العالم الإسلامي المضطرب، ومن الروسية البولشفية، وما
يستطيعان من التأثير في الشرق الأدنى كله، حيث حياة إنكلترة وعظمتها، ولكنها
لو علمت أن الترك غير مستعدين للحرب لاستطاعت أن تحرمهم من ثمرة النصر،
وتراوغهم إلى أن تُخضعهم الحاجة والفقر، فلا مندوحة لهم إذًا عن التهديد بالحرب
إذا تعذر أن ينالوا حريتهم المطلقة بالسِّلم.
فإن قيل - بل قيل - كيف يحاربون في عدة ميادين للحلفاء والبلقانيين؟ -
فنقول: إن فرنسة وإيطالية لا تحاربان الترك وروسية تساعدهم على البلقانيين
والإنكليز، وهم قادرون على أخْذ العراق بفرقة واحدة من جيشهم؛ لأن أهلها لا
يحاربونهم لأجل الدولة البريطانية، وهم يعلمون أن معاهدتها مع الملك فيصل
خديعة استعمارية، ومن أدلتها أنها لم تسمح لهم بجيش عربي عراقي؛ ليظلوا عالة
عليها، وقد خلقت لهم أقليات مسيحية، جعلت لها جندًا خاصًّا؛ لأجل منْع الوحدة
الوطنية، فهل يسمح مجلس العموم الإنكليزي للورد كرزون المتعصب عدو الإسلام
بمئات الملايين من الذهب، ومئات الألوف من الجند؛ ليقاتل به الترك في الموصل،
ويحتفظ بالعراق؟ ، المعقول: لا، وعلم الغيب لله تعالى.
__________(23/794)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المعاهدة العراقية البريطانية
(تابع ما قبله)
والمادة التاسعة تسلب الحكومة العراقية حريتها القضائية بهذا النص: (يتعهد
جلالة ملك العراق بقبول اللائحة التي يشير بها جلالة ملك بريطانية، ويكفل تنفيذها
في أمور العدلية لتأمين مصالح الأجانب بسبب إلغاء الامتيازات) إلخ، وقد
كافح المصريون أشد الكفاح في رفض ما هو أقل من هذا القيد مما عُرض عليهم،
ويكافح الترك في لوزان الآن مثل ذلك، فيما هو دونه أيضًا، فيا حسرةً على
العراق!
والمادة العاشرة في عقد اتفاقات منفردة لتأمين تنفيذ المعاهدات، والاتفاقات،
أو التعهدات التي تعهد ملك الإنكليز بتنفيذها في العراق! ، ووراء هذا من الغوائل
ما هو سالب لكل استقلالٍ.
والحادية عشرة في مساواة الرعايا البريطانيين في العراق لغيرهم من دول
عصبة الأمم، والقصد فيها إلى إرضائهم مع امتياز الدولة البريطانية بالسيادة الفعلية.
والثانية عشرة نص في أن: (لا تتخذ وسيلة ما لمنْع أعمال التبشير أو
التدخل فيها) ، وهذا حَجْرٌ شديدٌ على حكومة العراق يَحُولُ دون محافظتها على
كرامة دينها من تكذيب القرآن الحكيم، وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -
والطعن فيهما، والتنفير عن الإسلام من قِبَل مبشري النصارى، وتأويل النصوص
بالباطل من البهائية أنصار الدولة البريطانية السائدة، ويمنعها من مراقبة أعمالهم،
ومطبوعاتهم الضارة كما نراه في مصر، وستُحدِث هذه المادة من الفتن والفساد ما
لا يعلم عاقبتَه إلا اللهُ؛ لأن العراق لم يألف احتمال مثل هذا كمصر، ولولا سوء
نية الإنكليز - في هذه المادة - لاكتفوا بحرية الأديان، حتى في الدعوة إليها،
بشرط أن لا يطعن واحد في دين الآخر، ولا يشوه نصوصه، فإن قيل: إنه قد
اشترط فيها: (أن لا تخل الأعمال بالنظام العام وحسن إدارة الحكومة) - قلنا: هذا
الشرط سيكون حجة على الحكومة لا لها، إذا فرضنا أنها تجرأت على التصدي
لمنع شيء مما أشرنا إليه.
والثالثة عشرة في التزام ملك العراق تنفيذ ما تقرره جمعية الأمم لمنع
الأمراض.
والرابعة عشرة في سَنِّ قانون للآثار القديمة.
والخامسة عشرة في عقد اتفاق مالي بين الطرفين، يُنص فيه على ما يعطي
ملك الإنكليز لحكومة العراق من المرافق العامة، وعلى مساعدة حكومته لهم بالمال
حسب الحاجة، وعلى تصفية ديون العراق، وهذا الاتفاق سيكون مثار آفات
وغوائل كبيرة إن لم تقُم به حكومة عليمة بدقائق الفنون المالية، والمكايد السياسية،
ومسلحة بالشجاعة الأدبية، فالإنكليز استباحوا سلب السودان من مصر؛ بحجة أنهم
ساعدوها على فتحه، بعد أن أجبروها على تقرير تركه، ثم على فتحه برجالها
ومالها، وإنما ساعدوها بمبلغٍ حقيرٍ، لا يوازي ما استفاده بعض رجالهم منها.
السادسة عشرة في تعهد ملك الإنكليز بقدر ما تسمح له التعهدات الدولية -
المجهولة لدى العراق - بأن لا يضع عقبة في سبيل ارتباط العراق مع الدول
العربية المجاورة بمقاصد جمركية أو غيرها، وفحواها أن حكومة العراق غير
مستقلة ولا حرة في مثل هذا الارتباط بنفسها.
والسابعة عشرة في تحكيم محكمة العدل بجمعية الأمم في الخلاف الذي يمكن
أن يقع بين الطرفين في هذه المعاهدة، على أن يكون الاعتماد على النص
الإنكليزي (؟ !)
والثامنة عشرة - وهي الأخيرة - في كوْن مدة هذه المعاهدة عشرين سنة،
وليس فيها نص في شكل حكومة العراق بعدها إذا قررت وجوب إلغائها، تكون
حرة مستقلة بعد تكوين الإنكليز إياها كما يشاؤون، وتقييدها بالقيود المالية وغيرها
كما يهوون، أم يقرون ما شاؤوا في أمرها بدعوى أنهم هم الذين أوجدوها، وما لهم
من المصالح فيها، والديون عليها؟ ، نعم، هكذا يفعلون، وإذا لم يستقل العراق
في فرصة ارتباك العالم الحاضر فستكون كَرَّتهم خاسرة.
وإننا ننصح لأعضاء الجمعية التأسيسية المنتخَبة بأن يطَّلعوا على جميع ما
كتبه المصريون في قضيتهم الحاضرة، أو المطبوع منه خاصة؛ ليكونوا على
بصيرة من هذه المعاهدة التي ستكون حجة القوي على الضعيف، كما قال
(بسمارك) في المعاهدات المنطبقة على القانون الدولي مع الدول العظمى، فما
القول في العراق الذي جعلوه تحت وصايتهم، وأقرتهم دول عصبة لصوص الأمم
على ذلك؛ لأنها آلة في أيديهم؟ !
__________(23/796)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البهائية
بعد موت زعيمهم عباس أفندي
مات في أثناء هذا العام زعيم البهائية عباس أفندي بن بهاء الله إلههم
ومشترعهم، وكان يلقب نفسه، ويلقبونه بعبد البهاء اعترافًا بألوهية والده، وقد
وقع الشقاق بينهم فيمن يخلفه فيهم، فإنه قد أوصى لرجل غير الذي أوصى له والده،
ولكل من الخليفتين حزب يتبعه، ويؤيده، ويخذل الآخر، ويفنِّده، وذلك صدع
لوحدتهم، وقد كان مثارًا للعجب أن يوصي العبد بما يخالف أمر الرب، وإذا ظهر
السبب بطل العجب!
هذا الدين الجديد طور عصري لضلال الباطنية القديم، وكان عباس أفندي
أدهى مؤسسيه وناشريه، حتى إنه حظر إلى اليوم إظهار كتابهم الذي يسمونه
(الكتاب الأقدس) ؛ لأنه إذا تناولته الأيدي يتعذَّر نشر الدعوة في كل شعب وقطر بما
يناسب أفكار أهله وعقائدهم ومشاربهم؛ فإن أهل الحضارة في هذا العصر يكثر
فيهم المستقلون في الفكر، فلا يسهل أن تُنشر فيهم دعوة إلى دين له أصل معروف:
كتاب يدَّعون أنه مقدس معصوم - إلا ويكون الحكم في هذه الدعوة لنصوص من
هذا الكتاب دون ما تزيِّنه الدعاة من الدعاوي، وتزوِّره من الاختلاب، تستميل به
المستعدِّين، وتكتفي أمر المعارضين والمستَعْدِين، وقد كان عباس جذيلهم المحكك،
وعذيقهم المرجب، وإنما كان والده البهاء شخصًا يشغلون به الخيال، وينزِّهونه
عن القول والقيل والقال، فلا يسمح للناس برؤيته ولا بمراجعته ومرادته؛ لئلا
تعرفه الحواس والعقول، وتحكم له أو عليه بما يفعل ويقول، وكان عباس يخبر
عنه كل مَن اضطر إلى ذكره له، بما يرجو بفراسته أن يستحسنه، ويقبله شأنه
في الإخبار عن نِحلتهم، والحكاية عن مذهبهم، أو طريقته، وقد سبق لنا ذِكر
الشواهد على هذا.
قد خدع كثير من عقلاء المسلمين وأذكيائهم بنفاقهم ودهاء عباس أفندي، الذي
كان يدَّعي أنه من المسلمين المصلحين، فلا غرابة إذا انخدع غيرهم لهم، وإن
علموا كثيرًا من أصول دينهم، وإذا كانوا من غير المسلمين العارفين بحقيقة الإسلام،
وأما مَن يعرف حقيقة التوحيد فيستحيل أن يقبل عقيدة وثنية، ومَن يعرف ما كرم
الله به البشر، ورفع من شأن حريتهم بالإسلام فلا يعقل أن يرضى لنفسه بأن يكون
عبدًا لبشر مثله كالزعيم الملقب بالبهاء.
وقد بلغني في هذه الأيام أن منهم أحمد أفندي صفوت صاحب الخطبة الذي
اقترح بها على المسلمين هدْم نصوص القرآن والسنة والإجماع، والقياس، والأخْذ
بمقاصد القرآن دون دلالة لفظه في الأحكام، وهي التي رددت عليها من قبل في
المنار، فظهر لي الآن سر ما فيها من النفاق والمراء غير المعهود من صحيح
العقيدة، ولا فاسدها من رجال القضاء، وسر اعتماد الإنكليز على صاحبها وندبهم
له لإصلاح القضاء في فلسطين، وأنه من كيدهم الخفي لهذا الدين، والبهائية
صنائعهم في كل مكان، ولا سيما العراق، وإيران، وقد كان لروحي أفندي من
بطانة الوكالة البريطانية في جدة دسائس كثيرة في الحجاز.
ومنهم (م. خ) الذي كتب مقالة جهلية في الخلافة، ووصف نفسه في
إمضائها بأنه من علماء الإسلام، وأنه وكيل جمعية حفظ الخلافة، فتصدى كثير من
العلماء للرد عليه، وأنكر بعضهم كونه عالمًا أزهريًّا مصريًّا، والحق أنه مصري
أزهري، ولكنه مضطرب، غير عالم، ولا مسلم، بل هو بهائي، وحسبنا - في
الرد عليه - أنه بهائي.
كانت الدولة العثمانية مشترطة على البابية - البهائية والأزلية - جميعًا أن لا
يدْعوا إلى دينهم في بلادها، وإلا أخرجتهم منها، فلم يكونوا يبثُّون دعوتهم إلا في
مصر، وبطريق المناظرة والمغالطة دون الجهر، وقد أصابت لجنة الدستور بعدم
إصغائها إلى طلبهم الاعترافَ بدينهم كما طلبوا، فإن نص في الدستور المصري
على حرية كل دين، وإباحة كل دعوة فسترى مصر فتنًا عظيمةً من البهائية؛ لأنهم
يدعون العامة إلى دين جديد باسم الإسلام ممن يلبَسون لباس علماء المسلمين،
ويدعون الإسلام، ولو صرحوا بدينهم، ودعوا إليه، ولم يحرفوا القرآن والسنة له
لهان أمرهم، وسنعود إلى الكلام في شأنهم، إن شاء الله تعالى.
__________(23/798)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد الثالث والعشرين
باسم الله، وبحمده نختتم هذا المجلد من المنار كما افتتحناه بهما، ونسأله
تعالى أن يجعل كل أعمالنا صالحة له وباسمه، وأن يوفقنا دائمًا إلى التسبيح بحمده،
ويجعلنا من عبيد نعمته وشكره.
ومن فضله ونعمته أن أقدرنا على الاستمرار على إصدار المنار، على فقْد
الأعوان والأنصار، ومطل أكثر المشتركين في جميع الأقطار، بعد أن كان جُلّ
شكوانا من أبناء هذه الديار، ولا سيما الأغنياء الكبار، فليس سبب ذلك القلة، بل
ما يعرفه المتفكِّرون في أنفسهم، وما قصر فيه المسلمون عن شأن غيرهم، فإن
المنار تخصَّص بإصلاح شؤونهم في دينهم ودنياهم، فشأنهم معه - كما قال الأستاذ
الإمام - رحمه الله تعالى في كلمته المأثورة.
ومما لدينا من المواد للمجلد الرابع والعشرين فتاوى ورسائل مهمة لشيخ
الإسلام ابن تيمية لم تنشر بعد، وبقايا ما ننشر مسلسلاً ككتاب (من الخرافات) ،
ورحلة أوربة، وتتمة كتاب (الخلافة الإسلامية) للزعيم الهندي الكبير الشيخ أبو
الكلام أحمد، وتتمة ما بدأنا به من المقال في هذه المسألة التي صارت اليوم أم
المسائل الإسلامية، وأهمها وأحوجها إلى تعاون أهل العلم والرأي في بيان حقيقتها،
ووسائل إقامتها، ومما يناسب هذا تتمة مقالات (مدنية القوانين) ؛ فإن الخلافة
عداوة المتفرنجين، ولدينا ترجمة خطاب ذلك الزعيم الهندي، الذي قدَّمه إلى
المحكمة الإنكليزية، عندما أرادت محاكمته على بعض خُطبه المحرِّضة على
حكومة الهند، وهو خطاب غريب في بابه، لا يتجرَّأ على مثله، إلا مَن كان مثل
موقظ الشرق، وواضع أساس الإصلاح الإسلامي المرحوم السيد جمال الدين
الأفغاني، وسيرى قُرَّاؤه أن خطب زعيم مصر - سعد باشا زغلول - تُعَدُّ في غاية
اللين والاحتراس بالنسبة إلى خطب زعيم الهند، وله مقدمة لمُترجِمه تلميذنا الشيخ
عبد الرزَّاق المليحي في وصف الثورة الهندية السلمية، وخلاصة أعمالها، لا
تستغني بلادنا المصرية وأمثالها عن الإحاطة بها، ولدينا رسالة تاريخية غريبة في
بابها أيضًا، عنوانها (انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى) للأمير
شكيب أرسلان الشهير، ووعدنا بترجمة ما هو أهم منها عند جميع المسلمين.
وسنعود - إن شاء الله تعالى - إلى تقريظ المطبوعات الحديثة، وكنا كتبنا
في ذلك شيئًا للأجزاء الأخيرة، فاضطرتنا إلى إرجائه مباحثُ الخلافة.
فعسى أن نجد من القراء ما يشدُّ أزرنا، ويكون عونًا لنا على جهادنا من أداء
الحق، والتواصي بالحق والصبر، ولله الحمد من قبل، ومن بعد، وصلى الله
على خاتم الرسل، وهادي الخلق وآله وصحبه وسلم.
__________(23/799)
المجلد رقم (24)(24/)
جمادى الأولى - 1341هـ
يناير - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الرابع والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ
وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) .
نحمده بما حمد به نفسه، وأنى للعبد العاجز أن يحصي الثناء على ربه،
ونسأله الفضيلة والوسيلة، والدرجة العالية الرفيعة، والمقام المحمود الذي وعده
لصفوة خلقه وخاتم رسله، الذي بعثه من عرب مُضر للأبيض والأحمر،
والأسود والأصفر، ليصلح ما فسد من أمر البشر، ويزيل من بينهم فوارق التقاليد
والغِبَر، ويجعلهم أمة واحدة بعقيدة صحيحة مطهرة للعقل، وآداب عالية مزكية
للنفس، وعبادة خالصة مصفية للروح، ولغة فصيحة مرقية للشعور والعلم، وإلا
فبشريعة عادلة تساوي في أحكامها بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء،
والسوقة والملوك، لا تحابي رئيسًا على مرءوس، ولا صاحب منصب في دنيا أو
دين، أقامه حجة على جميع البشر، وجعل أمته شهداء على الأمم، وجعله هو
الشهيد على أمته، إذا انحرفت عن هدايته، أو قصرت في إقامة شريعته {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً
* وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ
أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (الأحزاب: 45-48)
وقد بَلَّغَ - بأبي هو وأمي - الدعوة وأقام الحجة وبيَّن المحجة، فكان
المثل الأعلى في الحق والعدل، والرحمة والفضل، عانده الجبارون المتكبرون،
واستجاب له الفقراء المستضعفون، فنصر الله الفقر على الغنى والثروة، والضعف
على الشدة والقوة، بل نصر غنى النفس على غنى المال، وقوة الحق على قوة
الباطل، وجعل الفوز لجهاد القرآن، على جهاد السيف والسنان، فانتظم عصره
في سلك دينه ما كان مبعثرًا من قبائل العرب، ودان لخلفائه من بعده أعظم شعوب
العجم، وعم النور جميع الأمم، فأحيا الإسلامُ العلومَ والفنون، وابتكر حضارة
طريفة لم تر مثلها عيون القرون، جمعت بين العلم والدين، وألفت بين لذة الجسد
والنفس، ولذة الروح والعقل، وأقامت ميزان العدل بين المختلفين في الدين
والجنس والصفات، وألغت ما كان من التفاضل والامتياز بين الناس في الأنساب
والطبقات، وحصرت الفضل في الإيمان والتقوى وعمل الصالحات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56)
أما بعد، فإن المنار يُذَكِّر قراءه في فاتحة مجلده الرابع والعشرين، بمثل سُنته
في فواتح ما غبر من السنين من العبرة بشئون الاجتماع والعمران، وتنازع
عوامل الصلاح والفساد في الإنسان، وما يناسب ذلك من هداية القرآن حجة الله
البالغة بما فيه من آيات العلم والتبيان المناسبة لكل زمان ومكان، وصفة من هو كل
يوم في شأن، ذلك بأن المنار إنما أنشئ لإيقاظ الشرق وتجديد الإسلام بإعادة
تكوين الأمة وحياة الملة والدولة، لا لفروع الفقه وأصول الكلام، ولا لجدليات
المذاهب الدينية، ولا تأييد العصبيات الجنسية، ولا لنشر ما يجدد في قضايا العلوم
ونظريات الفلسفة، أو مخترعات الفنون وعجائب الصناعة، ولا لقصص التاريخ
ونوادر الفكاهات، ولا لجوائب الحوادث وأخاديع السياسات، بل كل ما يذكر فيه
مما يدخل من هذه الأبواب، فإنما يولي وجهه شطر ذلك المحراب؛ لأن الأمة إذا
حيت أحيت من العلوم ما كان ميتًا، وأنشرت من الفنون ما كان رميمًا، وإذا ماتت
أماتت معها ما كان حيًّا، ودرست ما كان مدروسًا مرويًّا، وإن الغذاء اللطيف قد
يزيد الممعود الدوي دوى، والغذاء الخشن يزيد المتمعدد القوي قوى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ
تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان: 50-52) .
ما كل من أعرض عن آيات الله في القرآن، يستطيع أن يعرض عما يصدقه
من آياته في الأكوان، ومن آياته الماثلة أمام الناظرين، فضيحة هذه المدنية المادية
التي فتنت أوربة بها المسلمين، فقد ظهر لهم ما كان خفيًّا من فسادها، وذهب
بهيبتها ما كان من الفظائع في حربها. ومن آياته أن ثَلَّ عروش دولها المقهورة،
وزلزل أركان دولها المنصورة، وضعضع ثروتها، وأوقع الاضطراب في
معيشتها. ومن آياته أن نقض غزل عهودها أنكاثا. واجتث شجرة وحدتها اجتثاثًا.
فبدت خبايا نبائثهم، وفضحت خفايا خبائثهم. ومن آياته أن أذل جبروت أعظم
دولة قاهرة بفئة من أضعف دولة مقهورة. فوطئ بها شم معاطسهم، وطأطأ من
إقماح أرؤسهم، وطأمن من إفراط تغطرسهم. حتى جنحت تلك الدولة العاتية
المتكبرة إلى مصالحة تلك الفئة التي كانت تسميها المشردة المتمردة. واضطرت
إلى الرضى بمساواتها في مؤتمر السلم، بعد أن كانت تستكبر أن توقفها موقف
المجرم لسماع الحكم. ومن آياته أن سخر ما بقي من قوة الأمة الروسية لحفظ ما
بقي من استقلال الدولة التركية بعد أن كانت هي الخطر على استقلالها، والمُجدَّة في
تقطيع أوصالها. ومن آياته أن أبطر الأمم الغالبة بمظهر غلبتها، وإن لم تكن
بمحض قوتها، فأصرت على غيها، واستمرأت مرعى بغيها، لتحق عليها
كلمة الانتقام من الظالمين، وتدمير فسقة المسرفين {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ
وَعَتَوْا عُتُواًّ كَبِيراً} (الفرقان: 21) ? {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا
فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .
عسى أن يكون الباغون قد بلغوا أوج العلو ولم يبق إلا الهويّ، وأن يكون ما
بلغناه هو منتهى الحدور وما ثم إلا الرقيّ، فإن الوقوف في عالم الحياة محال،
وإنا وإياهم لفي انتقال وإنا كُلاًّ منا لعرضة للغرور فيه والضلال، وإن الغرور
لمحبطة للعمل، وإن الضلال لمدرجة للزلل، وإنا ليعوزنا من القوة والبصيرة في
بطء الصعود، فوق ما يعوزهم من الحكمة والروية في سرعة الهبوط، وإنهم
لأعلم منا بسنن الله في البشر، وبأيديهم ما ليس بأيدينا من وسائل الحذر، وأسباب
اتقاء الخطر، وإنا لا ينبغي لنا أن نغتر بما نرى من تفرق قوتهم، مع ما نعلم
ويعلمون من عدم اجتماع قوتنا، ولا بما انفصم من عروة وحدتهم، ولمَّا نوثق
عروة وحدتنا. فإن عطف بعضهم على بعضنا عطفًا سياسيًّا سلبيًّا، فإن منا مَن
يواليهم على أمته ولاءً إيجابيًّا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ
بَصِيراً} (الفرقان: 20) {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ
وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44) .
قد كان لنا جامعتان سَعِدَ سلفُنَا بالاعتصام بهما، وشقي خلفُنا بالتفرق
والاختلاف فيهما: جامعة علمية روحية وهي كتاب الله وما بيَّنه من سنة خاتم
النبيين، وجامعة سياسية عملية وهي الإمامة العظمى وما بيَّنها من سيرة خلفائه
الراشدين، وهدي السلف الصالحين، وهذه متممة للأولى ومنفذة لها، وإن الله
يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، تفرقنا في القرآن بالتأويل فذهبنا مذاهب جعلت
الملة الواحدة مللاً، وتفرقنا في الإمامة بالعصبيات فصارت الأمة أممًا والدولة دولاً،
ثم أعرضنا عن كل من الجامعتين كلتيهما، وبطل الاقتداء بالإمامين مع احترام
اسميهما أو كلمتيهما، فجمد بعضنا على ظواهر بعض الكتب التقليدية، وفتن
بعضنا بالقوانين والنظم الأوربية، وروابط شعوبها الجنسية والوطنية، وآدابها
وعاداتها الشخصية والاجتماعية، ومرت القرون وتعاقبت الأجيال ونحن على هذا
الضعف والانحلال، والمدَّعون للإمامة العظمى فينا بين معتزل في شاهق جبل قد
ضاقت به الحيل، لا يعرف مِن أمر مَن وراءه من المسلمين عرفًا ولا نكرًا، أو لا
يعرفون من أمره نهيًا ولا أمرًا. وبين ناعم في قصور جنانه بين قنانيه وقيانه،
مستبد في سلطانه، عاصٍ لربه مطيع لشيطانه، مفقر لرعيته ملن لأخدانه، مستغنٍ
بمدح كَذَبَة الجرائد، وخطباء الفتنة في المساجد، يتلُون بين يديه في كل جمعة {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)
غشًّا للأمة وتضليلاً، ويسكتون عن قوله تعالى بعده: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ولسان حال الرعايا يجيبهم بقوله عز وجل: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً
كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) .
كنت كتبت في فاتحة السنة الأولى للمنار، أن من أصول خطته: بيان حق
الإمام على الأمة، وحقوق الأمة على الإمام: فلما قرأتها على الناصح الأمين
مستشيرًا بها، اقترح ترميج هذه الكلمة منها. وقال: إن المسلمين لم يبق لهم
إمام إلا القرآن وإن البحث في الخلافة وما يجب على السلطان فتنة للناس، فواتيته
على حذف الكلمة، ولكن لم يسعني ترك البحث في المسألة بل نشرت في المجلد
الأول بضع مقالات في فساد حال المسلمين واضمحلالهم بإفساد أمرائهم وعلمائهم
ومرشديهم، بينت فيها مثار فساد الدنيا والدين بخروج الخلافة عن الأساس الذي
أقامها عليه الإسلام في عهد الراشدين، وكتبت بعد ذلك مقالات في الإصلاح الديني
المقترح على مقام الخلافة الإسلامية، على العلم بأنها لم تكن إلا اسميَّة أو وهميَّة،
فكان جزاء المنار على أمثال هذه المباحث الإصلاحية: تحريمه على البلاد
العثمانية، وتعذيب آل بيتنا في ديار الشام، وفاقًا لما نصح لنا به الأستاذ الإمام،
بل هي التي صدت الكثيرين عن المنار، الذين كانوا يقدسون السلطان عبد الحميد
في هذه الديار، وفي سائر ما استعبد الأجانب من الأقطار، على حين يعده جميع
مسلمي العثمانيين أفضل الجهاد لإحياء الدولة والدين، ولولا الإخلاص لَعَدَوْنَا ذلك
النَّصَب إلى ذُرى المناصب، والمتْرَبة إلى علو المراتب والرواتب، ولقد دعينا
إليها فأبيناها، وسئلنا الفتنة فما آتيناها، ولقد سئلها كثيرون فآتوها {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا
إِلاَّ يَسِيراً} (الأحزاب: 14) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً
مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .
ونحمد الله أن كان من آثار ما أحدثت الحرب العامة من التطور العام أن
وضعت هذه المسألة موضع البحث في هذه الأيام، بعد أن دك أحرار الترك هيكل
تلك الأوهام التي كانت تشبه معابد الأصنام، فكان أهم ما يعنى به المنار من خدمة
الإسلام، أن يوفيها حقها من تحقيق أحكامها الشرعية، وبيان وسائلها العملية،
وموانعها السياسية والاجتماعية، ليكون الساعون إلى إقامتها على بصيرة من أمرهم
فيها، مهتدين بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم {إِنَّ
هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
ألا إن إقامة الإمامة هي التي تحيي هذه الأمة، ولكن أمرها لا يزال عمة ليس
وراءها غمة، وإنها لترهق محاولها صعودًا وتقتحم به كؤدًا وتجشمه منالاً بعيدًا،
يركب فيه الشبهة ويخبط في ديجوره العشوة، وإن أسعد الناس بها لأزهدهم
فيها، وإن أطمعهم فيها لأعجزهم عنها، وإن أقربهم منها لأبعدهم عنها، فلا الوسيلة
ممهدة، ولا السبيل معبدة، وإنما كل الفرصة السانحة أن مسكتي الألسنة قد أنطقوها
وحاظري إجالة الرأي فيها قد أباحوها، أهل الحرص عليها يتخبطون فيها، فوجب
على أهل الحقيقة أن يقولوها وعلى عارفي الطريقة أن يسلكوها، وعلى حاملي
الأمانة أن يؤدوها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب: 70-72) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني الحسني
__________(24/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة إلى انتقاد المنار
ندعو كل من يطلع على المنار أن يكتب إلينا بما يرى فيه من خطأ أو خطل
مبينًا ذلك بالدليل، من غير استطراد ولا تطويل، فإنه من الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله تعالى به في كتابه، ونحن نعد
بأن ننشر ذلك بشرطه، ونعترف لكل ذي حق بحقه، وليس لنا فيما ننشر هوى
فنُصِر عليه ولا منفعة مادية فنحرص على استبقائها، ولا جاه ولا عصبية فنخشى
إضاعتها، بل لا نزال مستهدفين لخسارة المال، وإسخاط جميع مصادر الجاه،
ولكن في سبيل الله {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .
__________(24/8)
الكاتب: أحمد بك عيسى
__________
الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحول
في ج9 (م23)
بقلم الطبيب العالم أحمد بك عيسى
الكؤول alcohol كلمة عربية الأصل، أصلها (كحول) وهي المادة الدقيقة
اللطيفة التي يتكحل بها، وقد اقتبسها الإفرنج من اللغة العربية في العصور الوسطى
وأطلقوها مجازًا على المادة اللطيفة المعروفة، ولم يتوصل الباحثون في كيمياء
العرب إلى الآن إلى معرفة الزمن الذي اقتبست فيه، ولا الكتاب الذي اقتبست منه
وأطلقت على هذه المادة، ولا أول من اقتبسها، وقد كتب في ذلك العالم الكيموي
الشهير (بريتلوا) في كتابه المُعَنْوَن (كيمياء العصور الوسطى) والسبب في تسميتها
(اسبرتو) هو أن الكحول كانت في الابتداء تستخرج من النبيذ؛ ولذلك كانت
تسمى روح النبيذ uin aie Espit فأخذت الكلمة الأولى، وعربت (اسبرتو)
بمعنى روح، والكحول هذه مائع شفاف لا لون له طعمه حامز قارص، عطري
الرائحة ساطع، يلتهب ويغلي على درجة 78 مئوية ووزنه النوعي 0.79
وتستخرج الكحول من تقطير الموائع السكرية والمخمرة، ومن المواد السكرية
والنشوية على وجه العموم، وإذا التهب الكحول استحال إلى ماء وكربون، وإذا
خلط بالأحماض الجاويك والكبريتيك والأزوتيك والفسفوريك تولد من خلطها موائع
أخرى تسمى الأثيرات (جمع إثير) .
وللكحول أنواع عديدة بحسب عدد جواهر الكربون والأيدروجين الموجودة فيه
وتستعمل الكحول مذيبة لكثير من المحضرات الإفرباذينية كالأصباغ مثل صبغة
اليود وغيرها كثيرًا جدًّا، وتستعمل كذلك في الأطلية والدهون وفي العطور، وهي
مطهرة من الظاهر مانعة للعفونة وقابضة تقطع الأنزفة، ولها استعمالات أخرى
كثيرة لا يستغنى عنها.
* * *
ملحق آخر
للصيدلي محمد علي بك نصوحي
الكؤول سائل يشبه الماء، شفاف خفيف قابل للالتهاب بسرعة سريع التبخر
يستحصل عليه بواسطة الأنبيق (التقطير) من بعد اختمار العنب، والقصب
والبلح، والخشب والبنجر، وجميع الأثمار المعروفة في العالم.
نستعمل هذه المادة - أي الكؤول - في أكثر السوائل بل جميعها تقريبًا؛ لأن
الصفات والخلاصات المستعملة في فن الطب لا يمكن استحضارها إلا بواسطة
الكؤول.
ويستعمل في دهانات اللوسز، أي على الأخشاب، وفي غالب الروخات
الطبية التي تستعمل للتدليك وللدهان، وله منافع عديدة في فن الطب، والإفرباذين
وكذا الأعطار التي من نوع الكلونيا المعروفة عند القريب والبعيد المتداولة في العالم.
__________(24/18)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استعمال الذهب والفضة
(س) من صاحب الإمضاء ببيروت:
حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد
أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال
الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني
عظيم الشكر: جاء في الشرب في آنية الذهب بالجزء الثامن من صحيح الإمام
البخاري رضي الله تعالى عنه من حديث ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بن اليمان
بالمدائن فأتاه دهقان بقدح من فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم
ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية
الذهب والفضة. وفي باب آنية الفضة التالي للباب المذكور من حديث ابن أبي
ليلى بطريق غير الطريق الأول قال: خرجنا مع حذيفة، وذكر النبي صلى الله
عليه وسلم قال (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) وفي حديث أم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم من الباب المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي حديث البراء
ابن عازب التالي لهذا الحديث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، إلى
أن قال: ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية
الفضة. وهو والمنصوص في مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم
الفضة مطلقًا على الرجال إلا ما استثني من نحو الخاتم، وعلى النساء مطلقًا إلا
للتحلي. وفي الجزء الأول من كتاب الترغيب والترهيب للإمام الحافظ زكي الدين
ابن عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (صحيفة 144 طبعة أولى سنة1324هـ
بالمطبعة الشرفية) ما نصه: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُحَلِّق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة
من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن
أحب أن يُسَوِّر حبيبه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة
فالعبوا بها) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقد نقل صاحب الكتاب المذكور
عن (المحلى) الجواب عن الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على تحلي النساء
بالذهب قبل هذا الحديث، ولم يُجِبْ عن هذا الحديث المفيد بظاهره إباحة الفضة
مطلقًا للرجال ولو في غير الخاتم، وللنساء ولو في غير الحلي فتفضلوا - حفظكم
الله - ببيان الجمع بين الأحاديث المذكورة، وحديث أبي داود المذكور على فرض
مساواته لأحاديث البخاري وببيان دليل تحريم غير الشرب من أنواع الاستعمال وبيان
وجه تحريم غير الآنية كساعة الجيب وساعة اليد وأسورتها والأزرار والأنواط ويد
العصا والختم، ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ولفضيلتكم الأجر.
... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي - الشافعي مذهبًا - ببيروت
(ج) مذهب الظاهرية نفاة القياس كالإمامين داود وابن حزم وكثير من
فقهاء الحديث الذين يثبتون القياس أن التحريم الديني لا يثبت بالقياس، ولهم في
ذلك أدلة بسطناها في التفسير وفي مواضع أخرى من المنار، منها حديث (وسكت
عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) فهؤلاء كلهم يبيحون استعمال
الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، وما ورد من حلية الرجال دون غيرها
بقاعدة البراءة الأصلية وأصل إباحة الزينة الثابت بنص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) الآية،
واستعمال الفضة خاصة بما ذكر من حديث أبي موسى الأشعري وبحديث (ولكن
عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) رواه أحمد وكذا أبو داود من حديث أبي هريرة كما
تقدم في السؤال، وليس عند الشافعية وغيرهم دليل على تحريم كل استعمال للذهب
والفضة في غير حلية النساء وخاتم الفضة للرجل والضبة بشروطها إلا القياس،
والقياس حجة مختلف فيها بين علماء السلف والخلف، وقد بسطنا أدلة المثبتين
والنافين وحقَّقنا المسألة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية، فليراجعها السائل إذا أحب أن
يكون على بصيرة في دينه في أمثال هذه المسألة [1] .
وليراجع أيضًا تفسير {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وكلاهما في
سورة المائدة [2] ولعل قلبه يطمئن حينئذ بأن عقائد الدين وعباداته والمحرمات
الدينية إنما تثبت بالنص أو فحواه بشرطه دون القياس، وناهيك بقياس معارَض
بالأصول القطعية ونصوص الكتاب والسنة كتحريم الزينة والطيبات بغير نص
يصلح مخصصًا لعموم الزينة في آية الأعراف. وإنما القياس والاجتهاد في الأمور
القضائية ونحوها من المعاملات التي لا تحصر جزئياتها وتختلف باختلاف
العرف والزمان والمكان ولا سيما السياسي منها.
ومن التعليلات التي يذكرها بعضهم للتحريم: كسر قلوب الفقراء، ومقتضاها
أن الغني يجب أن يكون طعامه ولباسه ومسكنه كالفقير، وهذا أمر مردود بنصوص
الكتاب والسنة ومخالف لكلامهم في النفقات، ويفضي العمل به إلى فساد العمران
فراجع تفسير {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) في المجلد 23 المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تراجع علاوة على تفسير الآية ص 138 - 201 ج 7 تفسير.
(2) ص 154 - 167 ج 6 تفسير.(24/20)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتب ابن تيمية وابن القيم
والشوكاني والسيد حسن صديق
(س2) ومنه: ما قولكم - رضي الله تعالى عنكم - في مؤلفات وفتاوى
الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي، والشيخ شمس الدين أبي عبد الله
محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي، والشيخ محمد بن علي
الشوكاني اليماني، والعلامة السيد أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله
الحسيني القنوجي البخاري: هل هي من الكتب المعتمدة المتلقاة كغيرها بالقبول أم
هي من الكتب المطروحة التي لا يُعَوَّل عليها، ولا يجوز النقل عنها والإفتاء بما
فيها؟ تفضلوا حقِّقُوا لنا ذلك، فإن المطلوب النقل منها وهي موجودة لدينا، فقال
بعض أهل العصر: هذه الكتب لا يعول عليها ولا يلتفت إليها، بل هي من الكتب
غير المعتمدة. تفضلوا أفيدونا، ولفضليتكم من الله تعالى جزيل الأجر ومنا عظيم
الشكر.
(ج) قد سئلنا من عهد قريب عن كتب الشيخين الأولين وأجبنا عنه، ونقول
الآن: إن كتب هؤلاء العلماء الأعلام من أفضل ما اطلعنا عليه من كتب علماء
الإسلام، من حيث إنهم جمعوا بين العلم بالكتاب والسنة رواية ودراية وبين الاطلاع
على كتب مذاهب علماء الأمصار الذين يقلدهم الناس وغيرهم، ولم يلتزموا التعصب
لإمام معين ولا لأهل مذهب، بل محَّصوا الأدلة ورجَّحوا ما كان دليله أقوى. فكتبهم
أحق بالاستفادة من كتب المقلدين لمذهب معين يتمسكون بأقوال أهله وإن خالفت
النصوص الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأكثرها خلو من الأدلة مطلقًا أو أدلة
المخالف.
وقد طبعت هذه الكتب وقرَّظها بعض كبار العلماء، ولا يزل أهل العلم
الصحيح وطلابه يتنافسون فيها، وسوقها أروج من غيرها ومنها ما تكرر طبعه.
وقد كان (نيل الأوطار) يباع بجنيهين وهو يساوي الآن بضعة جنيهات، وقلما يوجد.
وإنما ينهى بعض المقلدين للمذاهب المشهورة عنها كما ينهون عن العمل والفتوى
بمذاهب الصحابة والتابعين بغير حجة إلا ما نذكره قريبًا من الاعتذار عن ذلك.
ولو خرج أحد الأئمة الأربعة من قبره ورأى هذه الكتب لفضَّلها على جميع
كتب المقلدين له؛ لأنها قلَّمَا تخالف غيرها إلا بترجيح حديث صحيح على ضعيف
أو على قياس، وهذا أصل مذاهبهم كلهم رضي الله عنهم، ولكن المنتمين إلى
مذاهبهم اتخذوا أقوالهم وأقوال كبار أصحابهم أصولاً في التشريع ودلائل على حكم
الله، ويوجبون تقليدهم في كل ما روي عنهم، وإن خالفت نصوصُ الشارع أصولَهم
التي بنوا عليها مذاهبهم، وكلهم يتبرأ من ذلك، وهذا كتاب مختصر المزني
صاحب الإمام الشافعي قد افتتحه بعد البسملة بقوله: (اختصرت هذا الكتاب من
علم محمد بن إدريس الشافعي لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده
وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) لمثل هذا النظر والاحتياط استنبطوا
وألفوا، وهو ما نقتدي بهم فيه عند النظر في الكتب المسئول عنها فلا نتبع
أصحابها في فهمهم تقليدًا بل نستعين بها ككتب الأئمة الآخرين على معرفة الراجح
في مسائل الخلاف.
وقد اعتذر بعض علماء التقليد عن هذا التحكم بحصر العمل والفتوى في
مذاهب الأئمة الأربعة عند أهل السنة بأن مذاهبهم هي التي دونت واستمر العمل
عليها، ووسعت مباحث الفروع فيها فاستغني بها عن غيرها من المذاهب المندرسة
مع الاعتراف بالاجتهاد لأهلها.
وأجبنا عن هذا: (أولاً) بأن السنة وآثار الصحابة قد نقلت نقلاً أصح
من نقل المذاهب بالأسانيد التي وضعت لها كتب الجرح والتعديل وعلل الحديث
وشروحه، وهي أصل هذه المذاهب كلها بعد القرآن، فلماذا لا يكون العمل بها هو
المقدم على كتب الفقه التي تكثر فيها أدلة الأقيسة والرأي التي اختلف علماء
السلف في الاحتجاج بها، ولا سيما قياس الشَّبه، وما فيه من مسالك العلة التي
يتعذر إثبات شرعيتها. وثمة مذاهب أخرى منقولة مدونة ويعمل بها ملايين من
المسلمين كمذاهب آل البيت النبوي.
(وثانيًا) بأنهم قالوا: إن اختلاف العلماء رحمة للأمة، فلماذا نضيق باب هذه
الرحمة عليها بحصر الاستفادة بواحد تحرم الاستفادة من غيره بتسميته تلفيقًا،
ونخالف السلف الصالح الذين كان عوامهم يستفتون كل عالم يوثق بعلمه.
مثال ذلك أن الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى كانا شديدي الورع، وكانت
حضارة الإسلام قد اتسعت في زمانهما، ولا سيما في بغداد ومصر مصدر علمهما،
فكان لهذين الأمرين تأثير عظيم في اجتهادهما في مسائل الطهارة والنجاسة، على
سعة علمهما بالسنة وبما كان عليه الصحابة في عصر التشريع من الضيق وقلة الماء،
حتى إن مقلديهما يكثر فيهم الحرج والوسواس في الطهارة، فلماذا تحجر على
الأمة أن تطلع على فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال بعض العلماء في
استحضاره لنصوص الكتاب والسنة عند بحثه في كل مسألة: كأنها قد كتبت في
كفه؟ وأن تأخذ بما أثبته بعد بيان أدلة المذاهب الأربعة وغيرها من طهارة كل ماء
ومائع لم يتغير بالنجاسة التي تصيبه وهو قول طائفة من كبار علماء الصحابة
والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي
ثور والظاهرية، وهو يميل إلى مذهب الإمام مالك في مسائل النجاسات ككثير من
محققي المذاهب الأخرى ومنهم الغزالي من الشافعية، ومالك لم يأخذ علمه في أمثال
هذه المسائل العملية من الاستنباطات اللفظية فقط، بل كان مرشده فيها عمل أهل
المدينة من التابعين الذين تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وما من مجتهد إلا
وقد انفرد بمسائل ردها عليه غيره، وما زال العلماء المنصفون يعذر بعضهم بعضًا
في المسائل الخلافية التي لم يجمع عليها أهل الصدر الأول، وأولى الجميع بأن
يُرَجَّح كلامه مَن لا يقول إلا بدليل، ولا يكلف أحدًا أن يعمل إلا بما يظهر له صحة
دليله كأصحاب الكتب المسئول عنها، والله قد أرشدنا إلى اتباع الأحسن، وهو لا
يُعلم إلا بالنظر في الأدلة.
__________(24/22)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجامعتان الإسلامية والشرقية
دعوة السيد الأفغاني إليهما، تأثير دعوته بعد جيل كامل في الشعوب
الأعجمية، جمود جزيرة العرب واضطراب العراق وسورية، الإنكليز مثيرو الفتنة
وعليهم تقع تبعتها.
كانت فكرة الجامعة الإسلامية خيالاً لاح في أذهان بعض رجال السياسة في
أوروبا فطفقوا يبحثون فيه، ويصورون لأقوامهم قوادمه وخوافيه، حتى صار
الكثيرون منهم يحسبون أنه حق لا ريب فيه.
أثار هذا الخيالَ في تلك الأدمغة كثرةُ التفكر في تاريخ الشعوب الإسلامية التي
أسرعت أوروبا في ثَلِّ عروشها، واستعباد أمرائها وملوكها، والتمتع بخيرات
بلادها، فإن المطَّلع على ذلك التاريخ الفيَّاض بما كان لها من العزة والبأس في
الحرب، والعلم والحكمة وإقامة العدل جدير بأن يحسب لانتقاضها على المستذلِين
لها ألف حساب، وإن استحوذ عليها الجهل، وحرقتْ نسيجَ وحدتها العداوات
الجنسية والمذهبية، فصار بأسها بينها شديدًا، وقيادها للأجانب لينًا سلسًا، ولئن
نبهت مباحث أولئك السياسيين بعضَ الأذكياء إلى هذا الأمر العظيم، فلم يكن في
استطاعتها أن تحفز همة أحد من أمرائهم ولا من كبراء الهمم والعقول فيهم إلى
السعي له والدعوة إليه، ولئن وُجد أفراد - منهم السلطان عبد الحميد - أحبوا أن
يستفيدوا من حذر الأوروبيين منه بإيهامهم إياهم أنهم يعدون له عدته، ويتخذون له
أهبته، فقد كان من تأثير هذا الإيهام مبادرة أولئك الحازمين إلى قطع طرقه،
والإسراع بالقضاء على ما بقي لتلك الشعوب من ماء الاستقلال ورمقه.
إي وربي ! إن الشعوب الإسلامية لم تنجب من بعد الحروب الصليبية رجلاً
عظيمًا عالي الهمة، يسعى إلى جمع كلمة المسلمين وتوحيد قواهم المتفرقة، لدفع
عوادي الذل والاستعباد عنهم، لا بدعوة علمية اجتماعية، ولا بتأليف قوة عسكرية
عصرية، إلا (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) حكيم الشرق، وحافزه
لتحرير نفسه من الرق، فهو الذي اهتدى بذكائه ونظره البعيد وفكره الوقاد إلى
تدارك الإسلام وإنقاذ الشرق من الاستعباد، بالسعي إلى هذا الاتحاد، فطاف
لأجله البلاد، ونادى به على رءوس الأشهاد؛ فلم تكن دعوته في عصره صرخة في
واد، أو نفخة في رماد، بل كان في خلل الرماد وميض نار طار شرارها كل مطار،
حتى عم بعده الأقطار.
ألقى بذور دعوته الأولى بمصر وكانت عنايته فيها موجهة إلى إحياء الشعب
المصري لتكون مصر مركز الدعوة العامة، وتكون دولة وادي النيل هي الدولة
القوية التي تعتز بها الأمة، وتكون النواة لتنفيذ مذهبه السياسي في إعزاز الإسلام
وتقليص ظل الدولة البريطانية عن رءوس المسلين.
وبعد أن نُفي بتأثير الدسائس الإنكليزية من مصر، ومن أجل بث الدعوة ألَّف
جمعية العروة الوثقى، وأنشأ جريدتها في باريس للدعوة العامة إلى الوحدة تحت لواء
الخلافة الإسلامية، وكان جُل سعيه وعمله فيما وراء الغاية العامة الدفاع عن مسألة
مصر عقب الاحتلال، وقد عني عناية خاصة بجمع الكلمة والتأليف بين الشعبين
المتجاورين اللذين نشأ هو وكثير من آبائه وأجداده في بلادهما، أعني الشعب الأفغاني
والشعب الإيراني، وقد بيَّنتْ جريدة العروة الوثقى التي كانت تتجلى بها آراؤه بقلم
مريده وصديقه شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) الغاية، وأشرعت السبيل
وبينت الوسائل، وأرشدت إلى إزالة الموانع، وكان من رأيه أن تكون مكة المكرمة
هي مركز الدعوة.
كان لهذه الدعوة تأثير عظيم في العالم الإسلامي حتى كان العقلاء وأهل الرأي
من قرائها في الأقطار المختلفة يعتقدون أنها لا تلبث أن تحدث انقلابًا عظيمًا في
الشرق. سمعنا هذا من شيخنا الشيخ حسين الجسر الشهير في طرابلس، ورواه لنا
محمد علي بك المؤيد عن الزعيم الكبير السيد سلمان الكيلاني نقيب بغداد في ذلك
العهد، بيد أن مصادرة الدولة البريطانية للجريدة، ومنعها من مصر والهند
وغيرهما من أقطار المشرق كانت سببًا لترك الاستمرار على إصدارها، فكان كل ما
صدر منها 18 عددًا، ولكنه لم يترك الدعوة والسعي إلى الغاية، بل بثها في البلاد
الفارسية ثم في القسطنطينية، ثم قضى السيد وما قضى منها وطرًا، ولم يقم بعده
أحد بالدعوة والسعي لها بمثل تلك القوة، بل ضعفت الرابطة الإسلامية، بما
تغلب عليها من العصبية الجنسية، ولا سيما في الشعوب الأعجمية، بيد أن القوي
في الضار قد يكون قويًّا في النافع، فهذه الشعوب التي كانت في غاية التعادي
الجنسي، وكانت قبل ذلك فيما هو أشد منه من التعادي المذهبي: هذا سُني وهذا
شيعي - ثابَتْ الآن إلى رُشدها، وعلمت كل منها أن الوحدة هي التي تحفظ جنسها
ودينها ومذهبها، فمد كل منها يده إلى الآخر يصافحه مصافحة الأخ لأخيه،
ويعاهده معاهدة الولي لوليه.
تعاقد الترك والفرس والأفغان، وشدوا معاقد حلفهم ببخارى وخيوة وأذريبجان،
وبنوا دعاية الولاية والبراءة في سائر الشعوب الإسلامية في الشرق، يؤيدها بالمال
والرجال مسلمو الهند، بل شدوا أواخيّ الجامعة الشرقية بوثنيي الهند ونصارى
الروسية البلشفية التي سخرها الله لجهاد تأليه الثروة والعظمة الأوروبية،
والغرض العام لهذه الأمم كلها تحرير الشرق من رق الجزيرة البريطانية، التي
طمحت باستعبادها له إلى منازعة الربوبية، وما يتلو ذلك من تحرير سائر الشعوب
المستضعفة.
كل هذا والشعب العربي الذي ضعفت رابطته الجنسية بتعاليم الإسلام،
ووحدته الدينية باختلاف المذاهب وتنازع الحكام مُصِرٌّ على تَفَرُّقِهِ غافلٌ عما يُرَاد
به، حتى في مهد الإسلام من جزيرته، وقد رأى سوء عاقبة ذلك في سلب الأجانب
لاستقلال أخصب بلاده، ومحاولة إنشاب براثنه في باقيها، والإحاطة بها من
أطرافها، وهو مع ذلك في غمة من أمره لا يدري كيف يخرج منها، وإنما الذنب
في ذلك على ملوكهم وأمرائهم الجاهلين بكُنْهِ تأثير دسائس أعدائهم، وتسخيرهم
لمنع الجامعات الإسلامية والشرقية والعربية جميعًا من حيث لا يشعرون، ولكن هذه
السياسة الخبيثة ستنتهي بالخيبة، ولن ينقذ الإنكليز من سوء عاقبة عداوتها للإسلام،
اصطناع بضعة رهط من زعماء العرب بعضهم لبعض عدو، وودهم كله سيبلى،
وهم عاجزون عن إقناع شعوبهم بصداقة الإنكليز لهم، مع احتلالها لأخصب
بلادهم وإلقائها للفتن بينهم، ولا هم قانعون بذلك فيقنعوا غيرهم، بل كل واحد منهم
يكابر نفسه ويتأول لها، ويخفي مودته ويتعذر عما ظهر منها، وإنما تنقذ الإنكليز
سياسة أخرى عَمُوا عنها وصَمُّوا وقد نُصحوا وأُنذروا، لا أقول سياسة الصدق
والوفاء للعرب ! بل التحول عن محاولة استعبادهم من حدود برقة إلى العراق
وعمان، وقتل الإسلام في مشرق نوره ومواطن حضارته، مع القضاء على بلاد
الترك أمنع حصونه وأمضى أسلحته، فإن كان الترك قد أفلتوا من الشرَك الذي وقع
فيه وحيد الدين، فسيفلت العرب مما وقع فيه أمثاله المخدوعين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: 88) .
* * *
] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[*]
من مقالات العورة الوثقى في الحث على الجامعة الإسلامية نشر منذ 40
سنة [1] .
إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون
بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض.
ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم
كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم
أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي
في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من
بقاع الأرض - عالمًا كان أو جاهلاً - أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر،
ومن أي جنس صبأ عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف
يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به،
بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ
وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين، لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من
الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدِّث عن غريب أو
يحكي عن عجيب.
المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة
على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم
وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على
كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام.
وحفظ الولاية: بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل
خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية
خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم
إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار
حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية، يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها
تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به
الشريعة وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه،
ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض
الآخر، ولا يألمون لما يا لم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون حركات
الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش ولم تكن لهم نعرة
على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا
يتململون. وإن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا تقتل
وتفتك ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري مائهم، بل
السامعين لخريرها من حلاقيمهم الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم
وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
تمسُّكُ المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة
التي هم عليها مما يقضي بالعجب، ويدعو إلى الحيرة ويسوق إلى بيان السبب،
فخذ مجملا منه:
إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية، وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات
النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال، وعن حُكمها تصدر بتقدير العزيز العليم
- لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها، حتى يصير
ما يعبر عنه بالمَلَكَة والخُلُق وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من
مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل
فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر،
ولا ينقطع العقل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد،
وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب
والالتحام لولا ما تبعث به الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، من تعاون الأنسباء
والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على
المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل،
ويكون انبساط النفس لعَوْن القريب وغضاضة القلب لما يصيبه من ضَيْم أو نكبة
جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش، والري والشبع،
بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها
والعلم بها، ولم تدع ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكن تلك الصلة
ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه، أو ألجأته ضرورة
إلى ذلك، ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري
مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة
النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها
أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض. إن لم يصحب العقد
الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه
ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلا ًمن أشكالها - فلن يكون
منشأ لآثاره، وإنما بعد في الصور العقلية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه
كما قدمنا.
بعد تدبر هذه الأصول البينة، والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب
في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن
نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين
المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع
التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل. فالعلماء وهم القائمون
على حفظ العقائد وهداية الناس إليها لا تواصُل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في
غيبة عن حال العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن
شئون العالم الأفغاني، وهكذا بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا
صلة تجمعهم إلا ما يكون بين أفراد العامة لدوعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين
أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر
إلى نفسه ولا يتجاوزها، كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك
والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش
ولا لمراكش عند العثمانيين؟ ! أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات
صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟!
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح
أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم، ولا بلد وبلد، إلا طفيف من الإحساس بأن
بعض الشعوب على دينهم، ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع
أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعض ببعض في موسم الحجيج العام. وهذا النوع من
الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم
على يد أجنبي عن ملته. لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته.
كانت الصلة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج فنزل به من العوارض ما
أضعف الالتئام بين أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على
حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة
العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا
شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون
رضي الله عنهم، كثرت بذلك المذاهب، وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث
من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة
فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية
في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها، وانحطت رتبة
الخلافة إلى وظيفة الملك فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان
يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،
وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم
فتفرق الشمل بالكلية وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد
كل بشأنه وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا كل
فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى
الوحدة وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية
تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من
المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل
المصائب ببعض المسلمين بعد أن ينفذ القضاء، ويبلغ الخبر إلى المسامع على
طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت كما يكون على الأموات
من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء - قيامًا بحق الوراثة التي شُرِّفُوا بها على لسان
الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك
بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم
ومدارسهم، حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير
كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف
الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم
ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم،
ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف
الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة - وأشرفها معهد بيت الله
الحرام - حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام
بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من
شأنها ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن
إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع
أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس
بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها، واقتدارها على
دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين
إلى هذه الوسيلة وهي أقرب الوسائل، وإن التفتت إليها في هذه الأيام طائفة من
أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن
يؤيدوا هذه الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم
التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد
عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما
يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل
الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة وإلى الله المصير.
__________
(*) آل عمران: 103.
(1) نشرت في العدد الخامس الذي صدر بباريس في 14 جمادى الآخرة سنة 1301 هـ.(24/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*]
(2)
تتمة الكلام في الشورى في الإسلام:
(ومنها) ما رواه الطبراني في الأوسط وأبو سعيد في القضاء عن علي، قال:
قلت: يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل قضاء في أمره ولا سنة كيف
تأمرني؟ قال: (تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقضِ فيه
برأيك خاصة) .
(ومنها) ما في صحيح البخاري عن ابن عباس: وكان القراء أصحاب
مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبابًا، وذكر واقعة في رجوع عمر إلى قول
من يذكِّره بالقرآن، وقال: وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل.
وما في الصحيحين وغيرهما من استشارة عمر في مسألة الوباء لما خرج إلى
الشام وأخبروه إذ كان في (سرغ) أن الوباء وقع في الشام، فاستشار المهاجرين
الأولين ثم الأنصار فاختلفا، ثم طلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة
الفتح، فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخول على الوباء، فنادى عمر بالناس: إني
مصبح على ظَهر (أي مسافر، والظهر: الراحلة) فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة:
أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نَفِرُّ من قدر الله
إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان: إحداها خصبة
والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة
رعيتها بقدر الله؟ ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق
لرأي شيوخ قريش.
* * *
9- التولية بالاستخلاف والعهد:
اتفق الفقهاء على صحة استخلاف الإمام الحق، والعهد منه بالخلافة إلى من
يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه [1] أي في الإمام الحق، فالعهد والاستخلاف
لا يصح إلا من إمام مستجمع لجميع شروط الإمامة لمن هو مثله في ذلك، هذا
شرط العهد إلى الفرد، واستدلوا على ذلك باستخلاف أبي بكر لعمر، وأما العهد
إلى الجمع وجعله شورى في عدد محصور من أهل الحل والعقد، فاشترطوا
فيه أن تكون الإمامة متعينة لأحدهم، بحيث لا مجال لمنازعة أحد لمن يتفقون عليه
منهم، وهو الموافق لجعل عمر إياها شورى في الستة - رضي الله عنهم - قال
الماوردي: وانعقد الإجماع عليها أصلاً في انعقاد الإمامة بالعهد، وفي انعقاد البيعة
بعدد يتعين فيه الإمامة لأحدهم باختيار أهل الحل والعقد ا. هـ (آخر ص11) .
وقد تمسك بهذا أئمة الجور وخلفاء التغلُّب والمطامع ولم يراعوا فيه ما راعاه
من احتجوا بعمله من استشارة أهل الحل والعقد والعلم برضاهم أولاً، وإقناع من
كان توقف فيه، والروايات في هذا معروفة في كتب الحديث، ومِن أجمعِها (كنز
العمال) وكتب التاريخ والمناقب. وأي عالم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر
في تحري الحق والعدل والمصلحة بعد الاستشارة فيه ورضاء أهل الحل والعقد به
على عهد معاوية واستخلافه ليزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب من جهة ورشوة
الزعماء من أخرى؟ ثم ما تلاه واتبعت فيه سنته السيئة [2] من احتكار أهل الجور
والطمع للسطان، وجعله إرثا لأولادهم أو لأوليائهم كما يورث المال والمتاع؟ ألا
إن هذه هي أعمال عصبية القوة القاهرة المخالفة لهدي القرآن وسنة الإسلام.
ذكر الفقيه ابن حجر في (التحفة) اختصاص الاستخلاف بقسميه (الفردي
والجمعي) بالإمام الحق واعتماده، ثم قال: وقد يشكل عليه ما في التواريخ
والطبقات من تنفيذ العلماء وغيرهم لعهود بني العباس مع عدم استجماعهم للشروط،
بل نفذ السلف عهود بني أمية مع أنهم كذلك، إلا أن يقال: هذه وقائع محتملة أنهم
إنما نفذوا ذلك للشوكة وخشية الفتنة لا للعهد، بل هو الظاهر. اهـ
وقال الماوردي في العهد المشار إليه في أول هذه المسألة: ويعتبر شروط
الإمام في المُوَلَّى من وقت العهد إليه. وإن كان صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا
عدلاً عند موت المُوَلِّي، لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته اهـ.
ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث (عُبادة) في المبايعة وقد تقدم: إنه لا
يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، وإن الخلاف في الخروج على الفاسق فيما إذا كان
عادلاً وإمامته صحيحة ثم أحدث جورًا. اهـ.
وقد علم مما أسلفنا أن العهد والاستخلاف بشروطه متوقف على إقرار أهل
الحل والعقد له، واستدلالهم يقتضيه، وإن لم يصرحوا، وأما المتغلبون بقوة
العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وليس حقًّا شرعيًّا لازمًا لذاته، بل يجب
نبذه، كما تجب إزالتها واستبدال إمامة شرعية بها عند الإمكان والأمان من فتنة
أشد ضررًا على الأمة منها، وإذا زالت بتغلب آخر فلا يجب على المسلمين القتال
لإعادتها.
***
10- طالب الولاية لا يُوَلَّى:
من هدي الإسلام أن طالب الولاية والإمارة لأجل الجاه والثروة لا يولى. فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا أن يؤمرهما: (لن نستعمل على عملنا
من أراده) وفي رواية (إننا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه) رواه
الشيخان: البخاري بهذا اللفظ، ومسلم بلفظ: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا
سأله ولا أحدًا حرص عليه) وفي رواية للإمام أحمد: (إن أَخْوَنَكم عندنا من يطلبه)
فلم يستعن بهما في شيء حتى مات. وسبب هذا المنع القطعي المؤكد بالقسم أن
طلاب الولايات - ولا سيما أعلاها وهي الإمامة - والحريصون عليها هم محبو
السلطة للعظمة والتمتع والتحكم في الناس، وقد ظهر أنهم هم الذين أفسدوا أمر هذه
الأمة، وأولهم من الجماعات بنو أمية، وإن كان فيهم أفراد، بل منهم رجل الرجال
وواحد الآحاد عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين، ولكنه لم يكن حريصًا على
الإمامة ولو أمكنه لأعادها إلى العلويين.
وذكر الحافظ في شرح الحديث المذكور آنفًا كلمة حق في معناه عن المهلب
قال: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء
واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك. وهنالك أحاديث
أخرى.
ولو حافظ المسلمون على أصل الشرع الذي قُرر في عهد الراشدين في أمر
الخلافة، لَمَا وقعت تلك الفتن والمفاسد، ولعم الإسلام الأرض كلها. وقد قال عالم
ألماني لشريف حجازي في الآستانة: إنه كان ينبغي لنا أن نضع لمعاوية تمثالاً من
الذهب في عواصمنا؛ لأنه لو لم يحول سلطة الخلافة عما وضعها عليه الشرع
وجرى عليه الراشدون، لَمَلَكَ العرب بلادنا كلها وصيروها إسلامية عربية.
***
11- إمامة الضرورة والتغلُّب بالقوة:
اتفق محققو العلماء على أنه لا يجوز أن يبايَع بالخلافة إلا مَن كان مستجمعًا
لما ذكروه من شرائطها، وخاصة العدالة والكفاءة والقرشية، فإذا تعذر وجود بعض
الشروط تدخل المسألة في حكم الضرورات، والضرورات تقدر بقدرها، فيكون
الواجب حينئذ مبايعة مَن كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي
لاستجماعها كلها،قال الكمال بن الهمام في المسايرة: والمتغلب تصح منه هذه الأمور
للضرورة كما لو لم يوجد قرشي عدل أو وجد ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة
ا. هـ. [3] قال هذا ردًّا على جماعة الحنفية في استدلالهم على عدم اشتراط العدالة
في الأئمة بقبول بعض الصحابة للولاية والقضاء من ظلمة بني أمية كمروان
وصلاتهم معهم، فمراده بالأمور: القضاء والإمارة والحكم، كما قاله شارح المسايرة.
وقال السعد في شرح المقاصد: وههنا بحث، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على
شرائطه وبايع طائفة من أهل الحل والعقد قرشيًّا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ
لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد
ويقتدر على النصب والعزل لمن أراد - هل يكون ذلك إتيانًا بالواجب؟ وهل يجب
على ذوي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والعدل
والإنصاف، أن يفوضوا إليه الأمر بالكلية، ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد
يُتَمَسك بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: 59) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام
زمانه مات ميتة جاهلية) فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول [4] . اهـ.
وإنما فرض أن المبايعين في هذه الصورة بعض أهل الحل والعقد؛ لأنه إذا
بايعه جميعهم ومنهم الملوك الذين ذكرهم تمت شوكته ونفذ حكمه قطعًا، وهذه
الصورة تصدق على بعض خلفاء بني أمية وبني العباس الذين كانت تنقصهم العدالة
أو العلم الاجتهادي، وكان الجمهور يوجبون طاعتهم، ويصححون للضرورة
إمامتهم إذا لم تتيسر بيعة أمثل منهم، وإن كان موجودًا والمعتمد عند الحنفية أن
إمامتهم صحيحة مطلقًا لأن العلم والعدالة عندهم ليست من شروط الانعقاد كما تقدم
في محله. قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية في (المسايرة) تبعًا للغزالي:
(الأصل العاشر) لو تعذر وجود العلم والعدالة، فمن تصدى للإمامة بأن تغلَّبَ عليها
جاهل بالأحكام أو فاسق وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق - حكمنا بانعقاد إمامته كي
لا نكون كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وإذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغي في بلادهم
التي غلبوا عليها لمسيس الحاجة، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند لزوم الضرر
العام بتقدير عدمها. وإذا تغلب آخر على ذلك المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول وصار
الثاني إمامًا. اهـ.
وقال السعد في شرح (المقاصد) بعد ذكر شروط الإمامة، وآخرها النسب
القرشي ما نصه: وأما إذا لم يوجد في قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على
نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة - فلا كلام في جواز تقلد
القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوك، كما
إذا كان الإمام القرشي فاسقًا أو جائرًا أو جاهلاً، فضلاً عن أن يكون مجتهدًا.
وبالجملة مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار، وأما عند العجز
والاضطرار، واستيلاء الظلمة والكفار والفجار، وتسلط الجبابرة الأشرار، فقد
صارت الرئاسة الدنيوية تغلبية، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام
ضرورة، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط، والضرورات تبيح
المحظورات، وإلى الله المشتكى في النائبات، وهو المرتجى لكشف الملمات ا. هـ
بحروفه [5] .
والفرق بين هذه الخلافة وما قبلها بعد كون كل منهما جائزًا للضرورة أن
الأولى صدرت من أهل الحل والعقد باختيارهم لمن هو أمثل الفاقدين لبعض الشرائط،
ولذلك فَرَضَه المحقق التفتازاني قرشيًّا؛ إذ القرشيون كثيرون دائمًا، وأما الثانية
فصاحبها هو المعتدي على الخلافة بقوة العصبية لا باختيار أهل الحل والعقد له؛
لعدم وجود من هو أجمع للشرائط منه، فذاك يطاع اختيارًا، وهذا يطاع اضطرارًا.
ومعنى هذا أن سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة، تنفذ
بالقهر وتكون أدنى من الفوضى. ومقتضاه أنه يجب السعي دائما لإزالتها عند
الإمكان، ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكُرة بين
المتغلبين يتقاذفونها، كما فعلت الأمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها
بقوتها الكامنة فيها، وكون قوة ملوكها وأمرائها منها، ألم تر إلى من استناروا بالعلم
الاجتماعي منا كيف هبت لإسقاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين، وكان آخر
من فعل ذلك الشعب التركي، ولكنه أسقط نوعًا من التغلب بنوع آخر عسى أن
يكون خيرًا منه، وإنما فعله تقليدًا لتلك الأمم الأبية؛ إذ كان جماهير علماء الترك
والهند ومصر وغيرها من الأقطار، يوجبون عليهم طاعة سلاطين بني عثمان، ما
داموا لا يظهرون الكفر والردة عن الإسلام، مهما يكن في طاعتهم من الظلم والفساد
وخراب البلاد وإرهاق العباد، عملاً بالمعتمد عند الفقهاء بغير نظر ولا اجتهاد،
وهذا أهم أسباب اعتقاد الكثير منهم أن سلطة الخلافة الشرعية تحول دون حفظ
الملك والحياة الاستقلالية، وسنفصل الكلام في هذا بعد، وفيما يجب لجعل الحكم
شرعيًّا إسلاميًّا.
***
12 - ما يخرج به الخليفة من الإمامة:
قال الماوردي بعد بيان ما يجب على الإمام، وقد تقدم: وإذا قام الإمام بما
ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم
حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله.
(والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جَرح في
عدالته، والثاني نقص في بدنه، فأما الجرح في عدالته فهو على ضربين (أحدهما)
ما تابع فيه الشهوة (والثاني) ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق
بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات، تحكيمًا
للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا
طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة، لم يعد إلى الإمامة
إلا بعقد جديد.
وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بشبهة تَعرض فيتأول لها خلاف
الحق - فقد اختلف العلماء فيها: فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة
ومن استدامتها، ويخرج بحدوثه منها.. إلخ (ص16) .
(المنار: وبعد تفصيل الخلاف في هذه المسألة - وهي الابتداع بالتأول -
ذكر القسم الثاني مما يمنع من الخلافة وهو نقص البدن فجعله ثلاثة أقسام: نقص
الحواس ونقص الأعضاء ونقص التصرف. وقسمها أيضًا إلى أقسام، وأطال في بيان
أحكامها والذي تقتضي الحال نقله منه نقص التصرف، وقد عقد له فصلاً خاصًّا قال
فيه ما نصه) :
(وأما نقص التصرف فضربان: حَجْر، وقهر، فأما الحَجْر فهو أن يستولي
عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية، ولا مجاهرة
بمشاقة، فلا يمنع ذلك من إمامته، ولا يقدح في صحة ولايته، ولكن ينظر في
أفعال من استولى على أموره، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل
جاز إقراره عليها، تنفيذًا لها، وإمضاء لأحكامها؛ لئلا يقف من الأمور الدينية ما
يعود بفساد على الأمة. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل لم
يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه) .
(وأما القهر فهو أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص
منه فيمنع ذلك من عقد الإمامة له؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء
كان العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا، وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة،
وإن أُسِرَ بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من
نصرته، وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك، إما بقتال أو فداء.
(فإن وقع الإياس منه لم يخلُ حال مَن أسره مِن أن يكونوا مشركين أو بغاة
المسلمين، فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه، واستأنف
أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة) .
وهنا ذكر مسألة عهده بالإمامة إلى غيره، وما يصح منها وما لا يصح،
ثم قال:
(وإن كان مأسورًا مع بغاة المسلمين: فإن كان مرجو الخلاص فهو على
إمامته ويكون العهد في ولي العهد ثابتًا وإن لم يصر إمامًا، وإن لم يرج خلاصه لم
يخل حال البغاة من أحد أمرين: إما أن يكونوا نصبوا لأنفسهم إمامًا أو لم ينصبوا،
فإن كانوا فوضى لا إمام لهم فالإمام المأسور على إمامته؛ لأن بيعته لهم لازمة،
وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل، إذا صار تحت الحَجْر،
وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن
قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم. فإن خلع المأسور نفسه أو مات لم
يصر المستناب إمامًا لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده.
وإن كان أهل البغي قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته وانقادوا
لطاعته، فالإمام المأسور في أيديهم خارج عن الإمامة بالإياس من خلاصه؛ لأنهم
قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة، وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل
العدل بهم نصرة، ولا للمأمسور معهم قدرة، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن
يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه لها، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة بخروجه
منها) (ص19، 20) .
ومن المعلوم أن كل هذا التفصيل في الإمام الحق المستجمع للشروط القائم
بالوجبات، وأما إمامة التغلب فكلها تجري على قاعدة الاضطرار المتقدمة (رقم
11) .
وما ذكره من انعزال الإمام بالفسق قد اختُلف فيه، والمشهور الذي حققه
الجمهور أنه لا يجوز تولية الفاسق، ولكن طروء الفسق بعد التولية لا تبطل به
الإمامة مطلقًا وبعضهم فصَّل: قال السعد في شرح المقاصد: وإذا ثبت الإمام بالقهر
والغلبة ثم جاء آخر فقهره انعزل وصار القاهر إمامًا، ولا يجوز خلع الإمام بلا
سبب، ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه، فإن كان يعجز عن القيام بالأمر انعزل
وإلا فلا، ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء وينعزل بالجنون وبالعمى والصم
والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم. (ص272 ج2) .
وقد استدل من قال يخلع بالكفر دون المعصية بحديث عبادة بن الصامت في
المبايعة عند الشيخين قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ
علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة
علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) .
وقد ذكر الحافظ في شرح قوله (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) روايات أخرى
بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، ثم قال: وفي رواية إسماعيل بن عبد الله عند أحمد
والطبراني والحاكم من روايته عن أبي عبادة (سيلي أموركم من بعدي رجال
يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون. فلا طاعة لمن عصى الله)
وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه:
(سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك
عليكم طاعة) .
وقال في شرح قوله: (عندكم من الله فيه برهان) أي من نص آية، أو
خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم
يحتمل التأويل. قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا
تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا
تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأَنْكِرُوا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم ا
هـ وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعترض على السلطان إلا إذا
وقع في الكفر الظاهر. والذي يظهر: حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة
في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية
المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه
في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل
ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم.
ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إذا قدر
على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب , وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم: لا يجوز
عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز
الخروج عليه، والصحيح: المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه. اهـ.
وقد تقدم التحقيق في المسألة ونصوص المحققين فيها، وملخصه أن أهل
الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل، وإزالة
سلطانهم الجائر، ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة
والمفسدة هي المرجوحة، ومنه إزالة شكل السلطة الشخصية الاستبدادية، كإزالة
الترك لسلطة آل عثمان منهم، فقد كانوا على ادعائهم الخلافة الإسلامية جائرين
جارين في أكثر أحكامهم على ما يسمى في عرف أهل هذا العصر بالملكية المطلقة،
فلذلك بدأ الترك بتقييدهم بالقانون الأساسي تقليدًا لأمم أوروبا، وسبب ذلك جهل
الذين قاموا بهذا الأمر بأحكام الشرع الإسلامي (كمدحت باشا وإخوانه) ثم قام
الكماليون أخيرًا بإسقاط هذه الدولة، ورفض السلطة الشخصية بجملتها وتفصيلها.
***
13- دار العدل ودار الجور والتغلب:
دار الإسلام وما يقابلها من دار الحرب معروفان، ولهما أحكام كثيرة. وقد
تكرر فيما نقلناه عن العلماء من أحكام الخلافة ذكر دار العدل، وهي دار الإسلام
التي نصب فيها الإمام الحق، الذي يقيم ميزان العدل، تُسمى بذلك إذا قوبلت بدار
البغي والجور، وهي ما كان الحكم فيها بتغلب قوة أهل العصبية من المسلمين،
وعدم مراعاة أحكام الإمامة الشرعية وشروطها، وأهل دار العدل هم الذين يسمَّون
الجماعة، وهم الذين يجب على جميع المسلمين اتباعهم واتباع إمامهم اختيارًا،
وعدم اتباع من يخالفهم إلا اضطرارًا، وهذان الداران قد توجدان معًا في وقت واحد،
وقد توجد إحداهما دون الأخرى، ولكل منهما أحكام.
أما دار العدل فطاعة الإمام فيها في المعروف واجبة شرعًا ظاهرًا وباطنًا،
ولا تجوز مخالفته إلا إذا أمر بمعصية لله تعالى ثابتة بنص صريح من الكتاب
والسنة دون الاجتهاد والتقليد، ويجب قتال من خرج عليه من المسلمين أو بغى في
بلاده الفساد بالقوة، كغيره من القتال الواجب شرعًا، وتجب الهجرة من دار الحرب
ومن دار البغي إلى هذه الدار على من استضعف فيهما فظلم أو منع من إقامة دينه،
وعلى من تحتاج إليهم دار العدل لحفظها ومنعها من الكفار أو البغاة، ولغير ذلك من
المصالح الواجبة لإعزاز الملة، إذا توقف هذا الواجب على هذه الهجرة. وأما دار
البغي والجور فالطاعة فيها ليست قربة واجبة شرعًا لذاتها، بل هي ضرورة تقدر
بقدرها، وتقدم تفصيل القول فيها.
ومن الظلم الموجب للهجرة منها على من قَدَرَ إلى دار العدل - إن وُجدت -
حمل المتغلبين من يخضع لهم على القتال لتأييد عصبيتهم والاستيلاء على بعض بلاد
المسلمين، فمن قدر على التفصي من ذلك وجب عليه، فأمرها دائمًا دائر على قاعدة
ارتكاب أخف الضررين، والظاهر أن يفرق بين قتالهم لأهل العدل فلا تباح الطاعة
فيه بحال، وبين قتال غيرهم كأمثالهم من المتغلبين، وفيه تفصيل لا محل لبيانه هنا.
وأما الجهاد الشرعي فيجب مع أئمة الجور؛ ومنه دفاعهم عن بلادهم إذا اعتدى عليها
الكفار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة
فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى
عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقِتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها
وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست
منه. وفي رواية: يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي) رواه مسلم
والنسائي من حديث أبي هريرة. والعمية بضم العين وكسرها (لغتان) وتشديد الميم
وفسروها بالكبر والضلال، والمراد بها عظمة القوة والبطش، والتغلب الذي لا
يراد به الحق، ولذلك بينه بأنه يغضب للعصبة، وهي بالتحريك: قوم الرجل
الذين يعصبونه ويعتصب بهم، أي يقوى ويشتد، وفي رواية (العصبية) وهي نسبة إلى العصبة.
وأنت تعلم أن المتغلبين ما قاموا ولا يقومون إلا بالعصبية، المراد بها عظمة
الملك العمية، لا يقصدون بقتالهم إعلاء كلمة الله، ولا إقامة ميزان الحق والعدل
بين جميع الناس، وما أفسد على هذه الأمة أمرها، وأضاع عليها ملكها إلا جعل
طاعة هؤلاء الجبارين الباغين واجبة شرعًا على الإطلاق، وجعل التغلب أمرًا
شرعيًّا كمبايعة أهل الاختيار من أولي الأمر وأهل الحل والعقد للإمام الحق،
وجعل عهد كل متغلبِ باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته لأجل حصر السلطان
والجبروت في أسرته - حقًّا شرعيًّا وأصلاً مرعيًّا لذاته، وعدم التفرقة بين
استخلاف معاوية لولده يزيد الفاسق الفاجر بالرغم من أنوف المسلمين، وبين عهد
الصديق الأكبر للإمام العادل عمر بن الخطاب ذي المناقب العظيمة بعد مشاورة أهل
الحل والعقد فيه وإقناعهم به، والعلم بتلقيهم له بالقبول.
***
14- كيف سُن التغلب على الخلافة:
كان سبب تغلُّب بني أمية على أهل الحل والعقد من الأمة أن قوة الأمة
الإسلامية الكبرى في عهدهم كانت تفرقت في الأقطار التي فتحها المسلمون وانتشر
فيها الإسلام بسرعة غريبة وهي مصر وسورية والعراق، وكان أهل هذه البلاد
قد تربوا بمرور الأجيال على الخضوع لحكامهم المستعمرين من الروم والفرس،
فلما صارت أزمَّة أمورهم بيد حكامهم من العرب استخدمهم معاوية الذي سن سنة
التغلب السيئة في الإسلام على الخضوع له بجعل الولاة فيهم من صنائعه الذين
يؤثرون المال والجاه على هداية الإسلام وإقامة ما جاء به من العدل والمساواة،
وصار أكثر أهل الحل والعقد الحائزين للشروط الشرعية محصورين في البلدين
المكرمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) وهم ضعفاء بالنسبة إلى أهل تلك
الأقطار الكبيرة الغنية التي تعول الحجاز وتغذيه.
أخذ معاوية البيعة لابنه الفاسق يزيد بالقوة والرشوة، ولم يلق مقاومة تذكر
بالقول أو الفعل إلا في الحجاز، فقد روى البخاري والنسائي وابن أبي حاتم في
تفسيره - واللفظ له - من طرق أن مروان خطب بالمدينة وهو على الحجاز من قِبَل
معاوية فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيًا حسنًا، وإن يستخلفه فقد
استخلف أبو بكر وعمر وفي لفظ: سنة أبي بكر وعمر - فقال عبد الرحمن بن أبي
بكر: سنة هرقل وقيصر! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده إلخ. وفي
رواية: سنة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما. ثم حج
معاوية ليوطئ لبيعة يزيد في الحجاز، فكلم كبار أهل الحل والعقد أبناء أبي بكر وعمر
والزبير فخالفوه وهددوه إن لم يردها شورى في المسلمين، ولكنه صعد المنبر وزعم
أنهم سمعوا وأطاعوا وبايعوا يزيد، وهدد من يكذبه منهم بالقتل.
وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن زمانة أن معاوية لما حضره
الموت قال ليزيد: قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا
أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت
نصيحته. قال: فلما كان من خلافهم عليه ما كان، دعاه فوجهه فأباحها ثلاثًا، دعاهم
إلى بيعة يزيد وأنهم أعبُدٌ له وقِنٌّ في طاعة الله ومعصيته.
وأخرج أبو بكر بن خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ
في المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل
المدينة يومًا فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته إلخ. ذكره
الحافظ في الفتح. أباح عدو الله مدينة الرسول ثلاثة أيام فاستحق هو وجنده اللعنة
العامة في قوله صلى الله عليه وسلم عند تحريمها كمكة (من أحدث فيها حدثًا أو آوى
مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا
عَدْلاً) أي فرضًا ولا نفلاً. متفق عليه. فكيف بمن استباح فيها الدماء والأعراض
والأموال؟
وكان الحسن البصري يقول: أفسد أمرَ الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم
أشار على معاوية برفع المصاحف - وذكر مفسدة التحكيم - والمغيرة بن شعبة. وذكر
قصته إذ عزله معاوية عن الكوفة فرشاه بالتمهيد لاستخلاف يزيد فأعاده. قال الحسن:
فمن أجل هذا بايع هؤلاء الناس لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة
اهـ. ملخصا من تاريخ الخلفاء.
وهذا الذي قاله الحسن البصري - من أئمة التابعين - موافق لما قاله ذلك
السياسي الألماني لأحد شرفاء الحجاز من أنه لولا معاوية لظلت حكومة الإسلام على
أصلها، ولساد الإسلام أوروبا كلها، وقد تقدم.
وقد اضطرب أهل الأهواء ومن لا علم لهم بشيء من حقيقة الإسلام ونشأته
إلا من أخبار المؤرخين وهي أمشاج لم يكن يميز صحيحها من ضعيفها وحقها من
باطلها إلا الحفاظ من المحدثين، فنجد من هؤلاء من يميل إلى النواصب أو
الخوارج ومن يرجح جانب غلاة الشيعة , وكان أستاذنا الشيخ حسين الجسر ينشد:
من طالع التاريخ مع أنه ... لم يتمسك باعتقاد سليم
أصبح شيعيًّا وإلا فقُل: يخرج عن نهج الهدى المستقيم
ولذلك نجد في المصريين وغيرهم من المنتمين إلى مذاهب السنة - على غلو
دهمائهم في تعظيم آل البيت - مَن هو ناصبي يفضل بني أمية على العلويين، ويزعم
أنهم أعزوا الإسلام وأقاموا الدين، والتحقيق أن فتح الإسلام لكثير من البلاد في
أيامهم الذي هو حسنتهم العظيمة كان أمرًا اقتضته طبيعة الإسلام والإصلاح الذي
جاء به لإنقاذ البشر، ولم يكن لغير عمر بن عبد العزيز منهم عمل انفرد به في
إقامة الدين نفسه، ولم يكن لهم عمل في ذلك مختص بدولتهم بحيث يقال: إنه
لولاهم لرجع الإسلام القهقرى في العلم والعمل أو الفتح، وما كان لهم من عمل
حسن في هذه الأمور، فقد كان لمن بعدهم من العباسيين مثله، وكلاهما تابع في
الدين للخلفاء الراشدين لا متبوع. وأما الأمور المدنية التي استتبعت الفتح الإسلامي
فلكل من الفريقين فيها عمل، وإنما سيئة الأمويين التي لا تغفر ما سنوه في قاعدة
حكومة الإسلام، فهي انتخابية شورى في أولي الاختيار من أهل الحل والعقد، وقد
نسخوها بالقاعدة المادية: القوة تغلب الحق، فهم الذين هدموها، وتبعهم من بعدهم
فيها.
ومن اطلع على كتب السنة يعلم أن الله تعالى قد أطلع رسوله صلى الله عليه
وسلم على مستقبل أمته، وأن ما وقع كان مما تقتضيه طباع البشر بحسب قدر الله
وسنته، وقد أخبر بذلك بعض أصحابه بالتلميح تارة وبالتصريح أخرى، ومنهم أبو
هريرة الذي روى عنه في الصحاح والسنن والمسانيد عدة أحاديث وآثار في ذلك،
وأنه كان يستعيذ بالله من إمارة الصبيان ومن رأس الستين، وهي السنة التي ولي
فيها يزيد (وقد مات قبلها) وكان يقول: لو قلت لكم: إنكم ستحرقون بيت ربكم
وتقتلون ابن نبيكم لقلتم: لا أَكذَبَ من أبي هريرة. يعني قتل الحسين وقد وقع بعده.
وأخرج البخاري وغيره من طريق عمر بن يحيى بن سعيد بن العاص الأموي قال:
أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
ومعنا مروان (هو ابن الحكم بن أبي العاص وكان أمير المدينة لمعاوية) قال أبو
هريرة: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: (هلكة أمتي على
أيدي غلمة من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو
شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان
حين ملكوا الشام فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا:
أنت أعلم اهـ. وإنما أهلكوا الأمة بإفساد حكومتها الشرعية الإصلاحية، وإلا فقد
وسعوا ملكها بتغلب العصبية.
قال الحافظ في شرح الحديث: قال ابن بطال: وفي هذا الحديث حجة لما تقدم
من ترك القيام على السلطان ولو جار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة
بأسماء هؤلاء ولم يأمرهم بالخروج عليهم، مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم،
لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف
المفسدتين، وأيسر الأمرين اهـ.
ونقول: ما ذكر من القاعدة صواب، وما قبله من تطبيق النازلة عليها لا
يصح، فقد قاوم أهل الحجاز فغُلبوا على أمرهم، والصواب ما بيناه من قبل من تفرق
جماعة الإسلام العالمة العادلة في الممالك، وكون من بقي منهم بالحجاز ضعفاء بالنسبة
إلى المملكة الإسلامية الجديدة، فلم يكن أمر الخروج ممكنًا إلا بعصبية كعصبيتهم كما
فعل بنو العباس، وقد مهَّد أكثر العلماء السبيل للاستبداد والظلم بمثل هذا الإطلاق في
الخضوع لأهلهما، وقد تكرر بيان التحقيق فيه.
ثم قال الحافظ: يُتعَجَّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم
من ولده، فكأن الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة لعلهم يتعظون.
وقد وردت أحاديث في لعن الحَكَم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره
غالبها فيه مقال وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك
اهـ. وقوله: (من ولده) يصدق على الأكثر وإلا فإن يزيد بن معاوية أول من
كان يعني أبو هريرة بالغلمة والصبيان.
وجملة القول: أن مرادنا من هذا البحث بيان مفسدة إخراج الخلافة الإسلامية
عما وضعها عليه الإسلام، وجعلها تابعة لقوة العصبية والتغلب، فهذه المفسدة هي
أصل المفاسد والرزايا التي أصابت المسلمين في دينهم ودنياهم. وقد كررنا ذكرها
لتحفظ ولا تنسى.
ومن أغرب الغرائب أن قصّر المسلمون عن غيرهم من أهل الملل التي كانوا
قد فاقوها في العلم والعمل، بأن لم يقم أحد منهم بعمل منظم لإعادة حكم الإسلام كما
بدأ، بل رضوا بالتفرق والانقسام والظلم والاستذلال مِن كل مَن تولى الأمر في
قطر من أقطارهم، حتى سهل عليهم مثل ذلك من غيرهم، فكانوا كما قلنا في
المقصورة:
من ساسه الظلم بسوط بأسه ... هان عليه الذل من حيث أتى
ومن يهن هان عليه قومه ... وماله ودينه الذي ارتضى
أفلم يأتهم نبأ ما فعل البابوات من تنظيم الجمعيات وجمع القناطير من الدنانير
لأجل إعادة سلطانهم الديني؟ ألا إننا قلدنا غيرنا فيما يضر، ولم نقلد ولا استقللنا فيما
ينفع في هذا الأمر، ولا يزال فينا من يجدّ في نبذ ما بقي من قشور سلطان الخلافة
الإسلامية بعد ذهاب لبابها، ويظنون أن وجودها هو الذي أضعف ملكنا وإنما أضعفه
ذهابها. فإن ما لا نزال ندعيه منها للمستبدين كذب على الإسلام، ولو استمسكنا
بعروتها الوثقى لكنا سادة العالمين، وقد عرف هذا كثير من علماء الأجانب ولم يعرفه
أحد من زعمائنا السياسيين.
***
15- وحدة الخليفة وتعدده:
أصل الشرع أن يكون رئيس الحكومة - وهو الإمام - واحدًا، وهذا أمر
إجماعي
عند جميع الأمم كالمسلمين، وسببه معروف وهو أن أمر الحكومة أولى من كل أمر
عام له شُعب كثيرة بأن تكون له جهة واحدة يُضبط بها النظام وتُتقى الفوضى. قال
الكمالان في (المسايرة) وشرحها [6] (ولا يولى) الإمامة (أكثر من واحد) لقوله
صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) رواه مسلم من
حديث أبي سعيد الخدري، والأمر بقتله محمول كما صرح به العلماء على ما إذا لم
يندفع إلا بالقتل، فإذا أصر على الخلاف كان باغيًا، فإذا لم يندفع إلا بالقتل قتل،
والمعنى في امتناع تعدد الإمام أنه منافٍ لمقصود الإمامة من اتحاد كلمة أهل الإسلام
واندفاع الفتن، وأن التعدد يقتضي لزوم امتثال أحكم متضادة (قال الحجة - حجة
الإسلام الغزالي: فإن ولي عدد موصوف بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من
الأكثر، والمخالف باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق وكلام غيره من أهل السنة
اعتبار السبق فقط فالثاني يجب رده) ا. هـ ودليل الجمهور نص الحديث.
وقال الماوردي (في ص7) : (وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم
تنعقد إمامتهما؛ لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم
فجوزوه) اهـ. وأقول: إنما جوَّزه من جوَّزه في حال تعذر الوحدة، وهذا هو
الخلاف الذي نقله العضد في المواقف، إذ قال: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع
متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد)
قال شارحه السيد الجرجاني: لوقوع الخلاف.
واعتمد الجواز مُحشّيه الفناري وهو من أشهر علماء الروم أو الترك. وأما
في حال إمكان الوحدة فلا نعلم أن أحدًا من العلماء الذين لعلمهم قيمة قال بجواز
التعدد، وقول من قال بالتعدد للضرورة أقوى من قول الجمهور بإمامة المتغلب
للضرورة، إذا كان كل من الإمامين أو الأئمة مستجمعًا للشروط مقيمًا للعدل، فإن
كان في هذه تفرق فهو في غير عدوان ولا عداوة، وفي تلك بغي وجور ربما يفسد
الدين والدنيا معًا، بل أفسدهما بالفعل.
وقد بسط ترجيح هذا القول السيد صديق خان بهادر في آخر كتابه الروضة
الندية [7] قال:
(وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به
كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم - فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد
ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كلَّ واحد منهما
جماعةٌ في وقت واحد، فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل
والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما. فإن استمرا على
التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا
تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك) .
(وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار
في كل قطر من أقطار [8] الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار
كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى
ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة
على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا
قام من ينازعه في القطر الذي ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل
إذا لم يتب [9] ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته
لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يُدرى
مَن قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا
معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا
يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا
العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا
العكس. فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة،
ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في
أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر ذلك فهو مباهت
لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان) اهـ.
هذا أوجه تفصيل قيل في جواز التعدد للضرورة، وهو اجتهاد وجيه،
ويشبهه عند بعض الأئمة تعدد الجمعة في البلد الواحد، فالأصل في الشرع أن
يجتمع أهل البلد كلهم في مسجد واحد؛ لأن للشارع حكمة جلية في الاجتماع، فإن
تعددت فالجمعة للسابق، والمتأخر لا يعتد بجمعته، فمتى علم أنها أقيمت في مسجد لم
يجز أن تقام ثانية فيه ولا في غيره من ذلك البلد، ومن أقامها كانت صلاتهم باطلة
وكانوا آثمين ولا تسقط عنهم صلاة الظهر، وجوَّز التعدد للضرورة بقدرها أشد
المانعين حظرًا له في حال الاختيار.
وظاهر كلام الجمهور الذين أطلقوا منع تعدد الإمام الحق، أن المسلمين الذين
لا يستطيعون اتباع جماعة المسلمين في دار العدل لبعد الشقة وتعذر المواصلة،
يعذرون في تأليف حكومة خاصة بقطرهم، ويكون حكمهم فيها حكم من أسلموا
وتعذرت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام لنصرة الإمام، ولا تكون دارهم مساوية لدار
العدل وجماعة الإمامة الذين أقاموا الشرع قبلهم، بل يجب عليهم اتخاذ الوسائل
للالتحاق بها، وجمع الكلمة ولو باستمداد السلطة منها، ونصرة إمامها وجماعتها
بقتال من يقاتلهم عند الإمكان، كما يجب على الجماعة مثل ذلك لهم في حال
الاعتداء عليهم، وإذا صح أن يكون حكمهم كحكم من لم يهاجروا إلى دار الإسلام،
فالحكم في نصرهم يدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن
وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) على القول المختار بأن هذه الآية في
الولاية العامة، لا فيما كان من ولاية التوارث خاصة.
وجملة القول: أن جمهور المسلمين على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز،
ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتُعذر في ترك اتباع
الجماعة هي حكومة ضرورة تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية
للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي
عدوه شاذًّا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد
الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة،
ولهذه المسائل أحكام كثيرة لا محل هنا للبحث فيها.
ولكن لا بد من البحث في ثبوت هذه الضرورة، فإن بُعْدَ الشقة بين البلاد،
وتعذر المواصلات التي يتوقف عليها تنفيذ الأحكام، مما يختلف باختلاف الزمان
والمكان، فلا يصح أن يجعل عذرًا دائمًا لصدع وحدة الإسلام، وقد تقارب الزمان
في عهدنا هذا مصداقًا لما ورد في بعض الأحاديث المنبئة بالأحداث المستترة في
ضمائر الغيب، فاتصلت الأقطار النائية بعضها ببعض، في البر والبحر،
بالبواخر والسكك الحديدية، ثم بالمراكب الهوائية (الطيارات والمناطيد) التي
صارت تنقل البرد والناس مسافة مئات وألوف من الأميال في ساعة أو ساعات،
دع نقل الأخبار بقوة الكهرباء من أول الدنيا إلى آخرها في دقائق معدودات، ولو
كانت هذه الوسائل في عصر سلفنا لملكوا العالم كله (هو ما يطمع به بعض الأمم
اليوم، وهذه شعوب الشمال في أوروبا قد سادت معظم شعوب الجنوب والشرق،
وبين الفريقين منتهى أبعاد العمران من الأرض) .
ولكن المسلمين قصروا في هذه الوسائل، فبعض بلادهم محرومة منها كلها،
وما يوجد في بعضها فهم عالة فيه على الإفرنج، وإن شرعهم يفرضها عليهم فرضًا
دينيًّا من وجوه: أهمها أن كثيرًا من الفرائض والواجبات تتوقف عليها أو لا تتم إلا
بها، كحفظ المملكة والدفاع عنها، والإعداد لأعدائها ما نستطيع من قوة كما أمرنا
كتابنا، وقد صار هذا من الفرائض العينية علينا؛ لاستيلائهم على أكثر بلادنا،
ويتحقق الوجوب العيني على الرجال والنساء باستيلاء الأعداء على قرية صغيرة
منها، دع توقف وحدة السلطة عليه بالخضوع لإمام واحد يقيم الحق والعدل فينا،
منفذًا به أحكام شرعنا.
فأمام وحدة الإمام الواجبة واجبات كثيرة قد فرط فيها المسلمون من قبل،
بقبولهم أحكام التغلب التي أضاعت جل ما جاء به الإسلام لإصلاح البشر في شكل
حكومتهم وصفاتها وغير ذلك، فأي واجب منها أقاموا حتى يطالبوا بهذا الواجب.
***
16- وحدة الإمامة بوحدة الأمة:
وحدة الإمامة تتبع وحدة الأمة، وقد مزقت العصبية الجنسية الشعوب
الإسلامية بعد توحيد الإسلام إياها برب واحد وإله واحد وكتاب واحد، وشرع
واحد، ولسان واحد، فأنى يكون لها إمام واحد، وهي ليست أمة واحدة؟
لا أقول: هذا محال في نفسه، وإنما أقول: إنني لا أعرف شعبًا من شعوب
المسلمين ولا جماعة من جماعاتهم المنظمة تقدره قدره، وتسعى إليه من طريقه،
فهم في دركة من الجهل والتخاذل والتفرق المذهبي والتعصب الجنسي وضعف
الهمة تقعد بهم عن التسامي إلى مثل هذا المثل الأعلى في الكمال الديني
والاجتماعي. وحمل البلاد الإسلامية ذات الحكومات المستقلة على الخضوع لرئيس
واحد بالقوة العسكرية مما لا سبيل إليه في هذا الزمان، ولا سبيل أيضًا إلى إقناع
حكومات هذه البلاد باتباع واحد منهم بالرضا والاختيار.
والحكومات المستقلة الآن هي حكومات الترك والفرس والأفغان ونجد واليمن
العليا - وهي النجود وما يتبعها - واليمن السفلى والحجاز، وقد استقلت بعض
الأقطار الإسلامية التي كانت تابعة لروسية القياصرة كبخارى وخيوة، ولكن استقلالها
لم يستقر بعد، على أنه قد اعترف به في المعاهدة التركية الأفغانية، ومثلهما أذريبجان
ودونهما كردستان، وهذه الحكومات الصغيرة تجزم الدولة التركية بأنها ستسودهن
وتدغهن في جامعتها الطورانية. وكذا سائر شعوب القوقاس الإسلامية، ولا توجد
حكومة منهم يمكن أن تدعي الخلافة الدينية، فبقي الكلام في الحكومات العربية،
والدول الثلاث الأعجمية.
فأما أهل اليمن العليا فيعتقدون أن الإمامة الشرعية الصحيحة محصورة فيهم
منذ ألف سنة ونيف لأن أئمتهم ينتخبون انتخابًا شرعيًّا تُرَاعى فيه جميع الشروط
الشرعية التي يشترطها أهل السنة مع زيادة مراعاة مذهبهم الزيدي، وأن هذه
الزيادة لا تعارض مذهب أهل السنة، وأنهم يحكمون بالشرع ويقيمون الحدود.
ومذهبهم في الفروع قلما يخالف مذاهب السنة الأربعة، ولا سيما مذهب
الحنفية، فلا مطمع في إقناعهم باتباع غيرهم، وقد قاتلهم الترك عدة قرون ولم
يستطيعوا إزالة إمامتهم، ولكن جيرانهم من العرب وسائر المسلمين لا يعتدون
بإماماتهم، وهم لا يدعون إليها ولا يستعدون لتعميمها، وقد اعترف بصحتها إمام
حفاظ السنة، وقاضي قضاة مصر وشيخ مشايخ الإسلام في أزهرها لعهده: الحافظ
أحمد بن حجر العسقلاني في شرحه لحديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي
اثنان) من صحيح البخاري.
وأما السيد الإدريسي فهو على كونه حاكمًا مستقلاًّ. وسيدًا علويًّا وفقيهًا
أزهريًّا، ومرشدًا صوفيًّا، لم يدَّع منصب الخلافة فيما نعلم، ولم يدْع رؤساء
إمارته إلى مبايعته بها، ولكن أهل بيته وجماعته يعتقدون أنه أحق بها من شرفاء
الحجاز، ويلقبونه بالسيد الإمام، ولقبه بعضهم بصاحب الجلالة الهاشمية، وقد نقل
لنا الثقات أن الملك حسينًا اجتهد في استمالته للاعتراف بالتبعية للحجاز في السياسة
الخارجية أو بالاسم فقط - فلم يفلح كما أنه لم يفلح سعيه لدى الإمام يحيى كذلك،
وقد استغرب كل منهما هذا السعي. وبلغنا أن السيد الإدريسي كان يفضل
الاعتراف بسيادة الترك السياسية على بلاده في الأمور الخارجية هربًا من دسائس
الإفرنج وتقوية للروابط الإسلامية. وأما حكومة الحجاز فهي جديدة ولا يُعرف لها
نظام ثابت، وإنما ملك الحجاز هو هنالك الحكومة وكل شيء، وقد بايعه أهل
مكة على أنه ملك العرب ثم بايعه آخرون من سورية وغيرها بالخلافة وإمارة
المؤمنين على عهد وجود ولده فيصل فيها قبل إعلان استقلال دمشق، وذلك كما
يبايع أمثالهم في سورية ومصر الخليفة في الآستانة، ويظهر أن ولده فيصل ملك
العراق وولده عبد الله أمير شرق الأردن مُصرَّان على بذل نفوذهما لجعله هو
الخليفة، وأخذ المبايعة له من سورية والعراق عند سُنُوح الفرصة، وقد نشر في
جريدة القبلة مقالات قديمة وحديثة في بطلان خلافة خلفاء الترك في الآستانة
وتكفيرهم وتكفير حكومتهم. وقد كان في عمان مسجد متداع فأمر الأمير عبد الله
بتجديد بنائه فوضع له قاضيه الشيخ سعيد الكرمي تاريخًا في أبيات من الشعر
نقشت على لوح من الرخام وضع فوق بابه، قال في أولها:
حسين بن عون من بنى مجد عدنان ... فصار أمير المؤمنين بلا ثاني
أعاد له حق الخلافة بعد ما ... ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان
وقد جعل هذا القاضي بناء حسين لما سماه مجد عدنان سببًا لصيرورته أمير
المؤمنين الذي لا ثاني له في بلاد الإسلام، وهو لم يبن لعدنان مجدًا، ومجد عدنان
ليس سببًا للخلافة، وإنما يرضي الناظمُ بذلك أميرَه الذي كان ولا يزال يسعى
لتحقيق جعل والده خليفة، ولكنه طعن في إمامة يحيى حميد الدين الذي يخطب
أميره ووالد أميره الملك وده، لا في خلافة أعدائه الترك فقط، ولا يستطيع أحد أن
يقرن به أحدًا من شرفاء الحجاز وأمثالهم ممن يرون أنفسهم أهلاً للإمامة بأنسابهم
فقط، فإنه على تواتر نسبه الهاشمي العلوي، وصراحته بخلوه من شوائب الرق
غير الشرعي: عالم مجتهد، شجاع مدبر، ذو شوكة ومنعة يقدر بهما على حفظ
استقلاله، وقد بويع بالإمامة منذ عشرات من السنين، والمعترفون بإمامته يزيدون
على عدد أهل الحجاز، وكذا على أهل سورية كلها والعراق.
ليس من غرضنا هنا مناقشة هؤلاء ولا غيرهم في دعاويهم ولا أغراضهم، بل
بيان الواقع في البلاد الإسلامية المستقلة، وهو أن ملك الحجاز وأولاده يعتقدون أن
الخلافة حقهم بنسبهم ومركزهم في الحجاز، وأنهم ينالونه بمساعدة الدولة اللبنانية
لهم، وقد قال أحدهم - عبد الله أمير شرق الأردن في الإسكندرية: إن الخلافة لنا.
ونقلت الجرائد المصرية هذا عنه ورُدَّ عليه في بعضها.
وأما أهل نجد فحنابلة سلفيون وهم يسمون أميرهم إمامًا، ولا يسمونه خليفة
ولم يبلغني أنه يدعي الخلافة العامة، ولكنهم يعتقدون أنه لا يوجد أمير مسلم يقيم
دين الله كما أنزله غيره، وأن بلادهم دار العدل وجماعة المسلمين والهجرة إليها
واجبة بشروطها. فلا مطمع في اتباعهم لغيرهم. وقد اتهموا بانتحال مذهب جديد
نَفَّرَ منهم غيرَهم، وهم لا يبالون ما يقال فيهم، ولا يدعون أحدًا إلى اتباعهم، إلا
البدو المجاورين لهم، الذين لا يعرفون من الإسلام عقيدة ولا عملا، فيدعونهم إلى
التدين وترك البداوة واتباع حكومتهم الإسلامية التي تقيم شرع الله وحدوده على
مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل.
فهذا ملخص ما نعلم من حال البلاد العربية المستقلة، وتركنا ذكر حكومة
عمان الإباضية؛ لأن نفوذ الإنكليز فيها كبير فأهلها لا يهتدون سبيلاً إلى الارتباط
بغيرهم، ومذهب أكثرهم إباضي، فهم من الخوارج الذين لا يقيدهم مذهبهم بشرط
القرشية، وقد علمت من سلطان مسقط السابق أنه كان يتمنى الارتباط بالدولة
العثمانية.
وأما الدول الأعجمية المستقلة: فالإيرانية منها شيعة إمامية، والإمامة عندهم
للإمام محمد المهدي المنتظر، فلا تعترف بإمامة أخرى لغيره وإنما ترتبط بغيرها من
الدول الإسلامية بنوع المخالفات السياسية.
والأفغانية سنية، وقد اعترفت في المحالفة التي عقدت بينها وبين الحكومة
التركية الجديدة في أنقرة بأن الدولة التركية دولة الخلافة، ولكن لم تعترف لها
بسيادة ما عليها. بل كانت محالفتها محالفة الند للند.
وقد كان نص المادة الثالثة من هذه المحالفة التي وضعت في (أنقرة) قد
جعل الدولة الأفغانية في مكان التابع من الدولة التركية، وهذه ترجمته التي نشرت
في جريدة الأخبار المصرية لمراسلها في (كابل - عاصمة الأفغان) .
(تصدق الدولة الأفغانية بهذه المناسبة على أنها تقتدي بتركيا التي تخدم
خدمات جليلة وتحمل علم الخلافة الإسلامية) أي تقر وتعترف بهذه القدوة.
وذكر المراسل أن أمير الأفغان لم يقبل هذا النص بل غيَّرَه (بأن الدولة
الأفغانية لا تقتدي بالدولة العلية التركية، وإنما عليها أن تعترف بأنها دولة الخلافة)
وقد كان هذا قبل الانقلاب التركي الأخير، وذكر في بعض الجرائد أن الأفغان
أنكروا منه جعل الخلافة روحية لا شأن لها في السياسة والأحكام، وإذا آل الأمر إلى
اعترافهم بصحة الخلافة العثمانية التركية شرعًا فلا مندوحة لهم عن اتباع الخليفة
لأنهم قوم مسلمون مستمسكون بدينهم استمساكًا عظيمًا.
ولكن الظاهر أن جميع الذين يعترفون للعثمانيين من الترك بالخلافة ولا
يتبعون حكومتهم فإنما يعترفون لهم بلقب من ألقاب الشرف، لصاحبه نفوذ معنوي
لدى الدول. وإلا فلا معنى لكون الرجل خليفة المسلمين إلا أنه إمام دينهم ورئيس
حكومتهم الذي تجب طاعته عليهم. وتباح دماؤهم في الخروج عليه والاستقلال
بالحكم دونه. وأما المتغلب الذي لا يطاع إلا بالقهر فلا يجوز لغير من قهرهم
الاعتراف له بالخلافة، وإن من العبث بالإسلام أن تجعل إمامته الكبرى مجرد لقب
من ألقاب المدح والشرف.
هذا، وأما البلاد الإسلامية الرازحة تحت أثقال السيطرة الأجنبية كمصر وسائر
أقطار أفريقية الشمالية وسورية والعراق - فليس لها من أمر حكمها أو حكومة دينها
شيء، وليس فيها جماعة تتصرف في ذلك بحل ولا عقد، فلو أن رؤساء الحكومة
والشعب في قطر منها - وهم الذين كانوا لولا السلطة الأجنبية أهل الحل والعقد فيها -
أرادوا أن يبايعوا خليفة في بلاد الترك أو العرب مثلاً مبايعة صحيحة، وهي ما
توجب عليهم أن يكونوا خاضعين لسلطانه، مطيعين في أمورهم العامة لأمره ونهيه،
ناصرين له على من يقاتله أو يبغي عليه - لما استطاعوا أن يمضوا ذلك
وينفذوه بدون إذن الدولة الأجنبية المسيطرة عليهم، وهي لن تأذن وإن كانت تدعي
أنها لا تعارض المسلمين في أمور دينهم، وأنها تاركة أمر الخلافة إليهم.
وأما الأفراد والجماعات الذين ليس لهم رئاسة ولا نفوذ في قيادة الشعب، ولا
يستطيعون أن يطيعوا إذا بايعوا، كأن ينفروا إذا استنفروا، وينصروا إذا
استنصروا - فقد يسمح لهم في بعض هذه الأقطار أن يقولوا ماشاءوا، وفي بعضها
لا يسمح لهم بذلك. ورأي السواد الأعظم من المسلمين في كل قطر من هذه الأقطار
مخالف لرأي الدولة المسيطرة عليه، ومن ذلك مبايعة بعض الأفراد والجماعات
المصرية والهندية للخليفة التركي الجديد، ولو أراد مثل ذلك أهل تونس والجزائر
لما أبيح لهم مع عِلم فرنسة المسيطرة عليهم أن هذه المبايعة لا يترتب عليها اتباعهم
لحكومته التركية. وأن هذه الحكومة نفسها غير تابعة لخليفتها، بل هو تابع لها
وموظف عندهم وهي التي تحدد عمله ووظيفته.
وصفوة القول أن الشعوب الإسلامية المقهورة بحكم الأجانب ليس لها من
أمرها إلا ما يجود به عليها الأجانب القاهرون لها. ولا يمكنها أن تساعد على وحدة
الأمة التي تتوقف عليها وحدة الإمامة، إلا من طريق بث الدعوة وبذل المال، وأن
الشعوب المستقلة لا مطمع الآن بجمع كلمتها بترك التعصب لمذاهبها ولجنسيتها،
وإيجاد خلافة صحيحة قوية توحد حكومتها. وأقرب منه عقد موالاة ودية أو
محالفات سياسية عسكرية بينها، وقد بدأ بذلك الأعاجم منها. وأما العربية فقد عز
إلى اليوم التأليف بينها، فإذا يسره الله تيسر اتفاقها مع غيرها، وكان ذلك تمهيدًا
للإمامة العامة التي تجمع كلمتها كلها.
ومن ذا الذي يطالب بإعادة تكوين الأمة الإسلامية المنحلة العُقَد المفككة
المفاصل، وبإعادة منصب الخلافة إلى الموضع الذي وضعه الشارع فيه؟ أهل
الحل والعقد - أهل الحل والعقد. ومن وأين هم اليوم؟
***
(استدراك أو تصحيح)
كنا عند كتابة ما تقدم تركنا الكلام على الخلافة العثمانية التركية؛ لأن أصل
السياق فيها، والبحث موجه إلى بيان حالة المسلمين وحكومتهم المستقلة التي لا
يمكن تعميم الخلافة بكفالة الترك لها إلا باتفاقهن عليها، ثم بدا لنا أن نكتب كلمة
فيها ليكون بحثنا تامًّا جامعًا لكل ما تنجلي به المسألة من الجهة الشرعية ومن جهة
المصلحة العملية. وهذا نص الكلمة ومحلها في السطر الثالث من ص 55:
(وأما الدول الأعجمية المستقلة فأولها التركية، وكان المشهور أن الخلافة
انتقلت إلى سلاطينها بنرول آخر خلفاء العباسيين عنها للسلطان سليم الذي أسره
بمصر وحمله إلى الآستانة وتسلسل ذلك فيهم بعد ذلك بالعهد والاستخلاف، حتى
كان من أمرهم في هذه الأيام ما كان، ويقال: إن السلطان محمد وحيد الدين
المخلوع ما زال يدعي الخلافة التي آلت إليه بنظام الوراثة، والحق ما بيَّناه من قبل،
وأن الخليفة العباسي الذي أسره السلطان سليم لم يكن يملك الخلافة ولا النزول
عنها ولو لأهلها، ولو كان يملكهما لاشتُرط في نزوله الحرية والاختيار، ولم يكن
يملكها، ومثله السلطان وحيد الدين الآن، فلذلك لا يُعتد بما توقعه بعضهم من نزوله
عنها لملك الحجاز، وإذا كانت خلافة الترك العثمانيين بالتغلب فلا فرق بين اختيار
الأمير عبد المجيد الآن بعد انقطاع سلسلة العهد والاستخلاف بخلع محمد وحيد الدين
أو قبله، وبين اختيار من قبله عملاً بذلك النظام، هذا إذ جعلته حكومة أنقرة خليفة
بالمعنى الشرعي المعروف، ولكنها اخترعت نوعًا جديدًا من الحكومة ونوعًا آخر
من الخلافة، ووضعت للأولى قانونًا أساسيًّا عرفناه، ولمَّا تضع للثانية قانونًا لنعلم
منه كنهها، فإن كانت خلافة روحية لا سلطان لها في سياسة الأمة وحكومتها فهي
غير الإمامة التي بيَّنا أحكامها، على أن ما يضعونه لها من النظام إن كان موافقًا
للشرع حمدناه، وإن كان مخالفًا له أنكرناه، ولا يضرنا تسمية هذا العمل خلافة
فمثله معهود عند أهل الطريق ولا مشاحَّة في الاصطلاح، وسنبين في كل وقت ما
يجب علينا وعليها للإسلام.
***
17- أهل الحل والعقد في هذا الزمان وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام:
فرغنا مما قصدنا إلى بيانه من أحكام الإمامة العظمى في الإسلام، ونُقفي عليه
ببيان ما يجب من السعي للعمل بهذه الأحكام، بإعادة تكوين الأمة ووحدتها،
ونصب الإمام الحق لها. الذي بينا في المسألة الثانية أنه واجب عليها شرعًا، تأثم
كلها بتركه، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع فقده، فالأمة كلها مطالبة به، وهي
صاحبة الأمر والشأن فيه كما بيَّنَاه في المسألة الرابعة، وإنما يقوم به ممثلوها من
أهل الحل والعقد كما حرَّرْناه في المسألة الثالثة، فأهل الحل والعقد هم المطالبون
بجميع مصالح الأمة العامة، ومسألة السلطة العليا خاصة.
قلنا: إن أهل الحل والعقد هم سراة الأمة وزعماؤها ورؤساؤها، الذين تثق
بهم في العلوم والأعمال والمصالح التي بها قيام حياتها، وتتبعهم فيما يقررونه بالشأن
الديني والدنيوي منها، وهذا أمر من ضروريات الاجتماع في جميع شعوب البشر،
تتوقف عليه الحياة الاجتماعية المنظمة، قال شاعرنا العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وإذا صلحت هذه الفئة من الأمة صلح حالها وحال حكامها، وإذا فسدت فسدا،
ولذلك كان مقتضى الإصلاح الإسلامي أن يكون أهل الحل والعقد في الإسلام من
أهل العلم الاستقلالي بشريعة الأمة ومصالحها السياسية والاجتماعية والقضائية
والإدارية والمالية، ومن أهل العدالة والرأي والحكمة، كما بيناه في المسألة الرابعة،
وهي ما يشترط في أهل الاختيار للخليفة.
فذكر أهل الحل والعقد قد تكرر في مسائل أحكام الخلافة ولم نجعله عنوانًا إلا
لهذه المسالة التي عقدت للكلام فيهم أنفسهم وأين يوجدون اليوم، وما يجب عليهم
لأمتهم في هذا العصر، فإن الحكومات غير الشرعية من أجنبية ووطنية تُعنى بإفساد
زعماء الشعوب التي تستبد في أمرها، ليكونوا أعوانًا لها على استبدادها، ومن
تعجز عن إفساده على قومه بالترغيب ثم بالترهيب تكيد له أو تبطش به، فأهل
الحل والعقد من قِبَل الأمة قلما يوجدون إلا في الأمم الحرة، وأكثر الرؤساء في
الأمم المقهورة يكونون من قِبَل حكامها، وهم الذين توليهم رئاسة بعض الأعمال
والمصالح فيها، فيكون ما بيدهم من الحل والعقد مستأجرًا، وقد تُغَش الأمة ببعض
رجاله، وقد يكونون في نظرها من الخونة المستحقين للعقاب، وقد يوجد فيهم من
يكون أهلاً للثقة، وتعرف له الأمة ذلك أو تجهله، وإذا سكتت عن إظهار احتقارها
لصنائع المستبدين فيها؛ لتفرقها في وقت الانقياد والدعة، فإنها تظهره في وقت
الاجتماع بالاضطراب والثورة، وقد أظهرت لنا الثورة المصرية في هذه السنين،
كراهة الأمة واحتقارها لأفراد من رؤساء مصالح الدنيا والدين، وترئيس أفرادًا
آخرين عليها، وآية هذه الزعامة المصنوعة المستأجرة للحكومة أن صاحبها إذا
خرج من منصبه، تجد جمهور الأمة لا يحفل به، ولا يعده زعيمًا له، وربما
أظهر له الاحتقار والإهانة، وقد رأينا الأجانب الغاصبين لبعض بلادنا في هذه
السنوات النحسات يقودون بعض هؤلاء الزعماء الذين أفسدوهم على الأمة أو
رأسوهم عليها إلى عواصم بلادهم ويتواطؤن معهم على توطيد سلطتهم فيها (أي
الأمة) ويستخدمون بعضهم في البلاد للاستعانة بهم على استعمارها، وكذلك كان
يفعل السلاطين والأمراء في استمالة العلماء والوجهاء بالرتب والأوسمة والهبات، ثم
هب الترك والمصريون يطلبون سلطة الأمة بمجالس النواب، وهذه المجالس بمعنى
جماعة أهل الحل والعقد في الإسلام، لا أن الإسلام يشترط فيهم من العلم والفضل،
ما لا يشترطه الإفرنج ومقلدتهم في هذا العصر.
وقد صار أهل الجمعية الوطنية في أنقرة أصحاب الحل والعقد بالفعل،
وبالرغم من السلطان الذي ناصبهم فباء بالخزي والعزل، وحلوا محل مجلس
المبعوثين ومجلس الوزراء وشخص السلطان جميعًا، وقد ذكرني هذا ما قاله لي
الغازي أحمد مختار باشا في الآستانة لما سألته عن رأيه في الحكومة الدستورية،
قال: عندنا مجلس وليس عندنا سلطان، ولابد من الكفتين في وجود الميزان.
وأما البلاد المقهورة بالاحتلال الأجنبي كمصر والهند، فلا مجال فيها لمثل ما
فعل الترك، وإنما يظهر فيها فرد بعد فرد، إلى أن تبلغ الأمة سن الرشد.
ولقد وصل الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلى مقام الزعامة في هذه الأمة
ومرتبة أهل الحل والعقد في الأمور الدينية والدنيوية من سياسية وغيرها، بل
قارب أن يكون زعيم الأمة الإسلامية كلها، ولكن بالقوة لا بالفعل؛ لأن الأمة لم
تكن قد تكونت تكونًا يؤهلها للسير في الخطة التي يختطها لها ولذلك كان يقول: يا
ويح الرجل الذي ليس له أمة وقد كان أمير بلاده ينهى عنه وينأى عنه، على أنه
كان يرجع في المهمات وحل المشكلات إليه.
وقد بلغ ربيبه سعد باشا زغلول مقام الزعامة السياسية في هذه السنين التي
تكون فيها قومه، فلما تصدى للعمل بقوة الشعب، كان جزاؤه النفي بعد النفي،
ويوجد في الهند رجال من المسلمين والهنود رفعتهم أحداث الزمان إلى مقام الزعامة
في الأمة بإظهارها ما هم عليه من الكفاءة وعلو الهمة، وهم الآن في غيابات
السجون، ومنهم (غاندي) عند الهندوس وأبو الكلام ومحمد علي وشوكت علي
عند المسلمين، ويلي هؤلاء جماعاتهم كالوفد المصري عندنا، وجمعية الخلافة
عندهم.
وأما الجماعات القديمة، فإن هيئة كبار العلماء في الأزهر بمصر وفى جامع
الفاتح والسليمانية من الآستانة وجامع الزيتونة بتونس ومدرسة ديونبد بالهند - فإن
جمهور الأمة يثق بأن حكم الله ما قالوا، ولكن أكثر المتفرنجين - ومنهم أكثر
الحكام والقواد والأحزاب السياسية - قلما يقيمون لأحد منهم وزنًا إلا من كان ذا
منصب أو ثروة أصاب بها بعض الوجاهة، ولا يوجد في علماء أهل السنة
مجتمعين ولا منفردين من يبلغ في الزعامة واتباع الشعب له مبلغ مجتهدي علماء
الشيعة، ولا سيما متخرجي النجف منهم، فأولئك هم الزعماء لأهل مذهبهم حقًّا،
ويقال: إنهم أفتوا في هذه الآونة بتحريم انتخاب الجمعية الوطنية، التي أمرت بها
حكومة الملك فيصل لإقرار المعاهدة بين العراق والدولة البريطانية، فأطاعها البدو
والحضر من الشيعة، وقد كان ميرزا حسن الشيرازي - رحمه الله تعالى - أصدر
فتوى في تحريم التنباك فخضع لها الشعب الإيراني كله، وتركوا استعمال التنباك
وزرعه، وهو بالنسبة إلى صادرات بلادهم كالقطن في القطر المصري، وكان الذي
حمله على إصدار هذه الفتوى موقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله روحه
بسبب إعطاء حكومة إيران امتيازًا بالتنباك لشركة إنكليزية، فاضطرت الحكومة
لفسخ الامتياز في مقابلة تعويض للشركة قدره خمسمائة ألف جنيه إنكليزي، ولو لم
تفسخ هذه الشركة لفعلت في إيران ما فعلت شركة الجلود الإنكليزية في الهند، أي
لملكت أمتها تلك البلاد وضمتها إلى إمبراطورية الهند.
قلت: إن الحكومات المستبدة تجتهد في إفساد من يظهر من الزعماء في
الشعوب التي تتولى أمرها. على أنها تعنى قبل ذلك بالأسباب التي تمنع وجود
الزعامة فيها بإفساد التعليم ومراقبته، وقد أبعدوا علماء الدين عن السياسة وعن
الحكومة، فصار أكثر أهلها وأنصارها من الجاهلين بالشريعة، وتولى هؤلاء أمر
التعليم وإعداد عمال الحكومة له، وانكمش العلماء وأرِزوا إلى زوايا مساجدهم، أو
جحور بيوتهم، ولم يطالبوا بحقوقهم، ولا استعدوا لذلك بما تقتضيه حال الزمان،
وطبيعة العمران، ولا عرفوا كيف يحفظون مكانتهم من زعامة الأمة بتعريفها
بحقوقها، وقيادتها للمطالبة بها، فأضاعوا حقهم من الحل والعقد فيها، وتركوها
لرؤساء الحكام وللأحزاب والجمعيات السياسية التي يتولى أمرها في الغالب من لا
حظ لهم من علوم الدين، ولا من تربيته التي لا نظام لما بقي منها عند بعض
المسلمين.
فإذا أريد السعي - والحال هذه - لما وحب في الشرع من إمامة الحق والعدل
العامة، فلا بد قبل ذلك من السعي لوجود جماعة أهل الحل والعقد المُتحلِّين
بالصفات التي اشتُرطت فيهم كما تقدم في المسألة الخامسة، فإنهم هم أصحاب الحق
في نصبه بنيابتهم عن الأمة، وبتأييده في حمل الأمة على طاعته، والمطلوب قبل
نصب الإمام العام للأمة كلها، أو للبلاد المستقلة منها أن تتحد شعوب هذه البلاد،
وترجع عن جعل اختلاف المذاهب والأجناس واللغات، موانع للوحدة والاتفاق.
وإنا نتساءل هنا: هل يوجد في البلاد الإسلامة من أهل الحل والعقد من يقدر
على النهوض بهذا الأمر؟ وإذا لم يكن فيها من لهم هذا النفوذ بالفعل أفلا يوجد من
له ذلك بالقوة؟ ثم ألا يمكن للمسلمين وضع نظام لجعل النفوذ بالقوة نفوذًا بالفعل؟
بلى إنه ممكن عسر، وقوة العزيمة تجعل العسر يسرًا، وقوة العزيمة تتبع قوة
الداعية، ومن ذا الذي يُرْجَى أن يضع النظام ويشرع في العمل؟ ألا إنه حزب
الإصلاح الإسلامي المعتدل.
***
18 - حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل:
قد علم مما تقدم أن العمل لوحدة الأمة الإسلامية بقدر الإمكان ينحصر اليوم
في الشعبين الكبيرين - العربي جرثومة الإسلام. والتركي سيفه الصمصام - وأن
أمر البلاد العربية المستقلة بيد أئمتها وأمرائها، فالتأليف بينهم مقدم على كل شيء
فيها، ونقول هنا:
إن المتصدرين للزعامة السياسية ومقام الحل والعقد في غير جزيرة العرب
من البلاد الإسلامية أزواج ثلاثة: مقلدة الكتب الفقهية المختلفة - ومقلدة القوانين
والنظم الأوربية - وحزب الإصلاح الجامع بين الاستقلال في فهم فقه الدين وحكم
الشرع الإسلامي وكنه الحضارة الأروبية، وهذا الحزب هو الذي يمكنه إزالة
الشقاق من الأمة على ما يجب عمله في إحياء منصب الإمامة، إذا اشتد أزره وكثر
ماله ورجاله، فإن موقفه في الوسط يمكِّنه من جذب المستعدين لتجديد الأمة من
الطرفين. وهو الحزب الذي سميناه في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين)
بحزب الأستاذ الإمام؛ إذ كان المنار يمهد السبيل لجعل الأستاذ زعيم الإصلاح في
جميع بلاد الإسلام، وإنا نعرف أفرادًا من هؤلاء المصلحين المعتدلين في الأقطار
المختلفة، ولا سيما العربية والتركية والهندية، ونشهد أن مسلمي الهند في جملتهم
أرجى لشد أزر هذا الحزب بالمال والرجال، ولكنهم لا يستطيعون العمل إلا باتحاد
عقلائهم مع عقلاء سائر الأقطار لتكوين جماعة أهل الحل والعقد بما يتفقون عليه
من النظام لأجل قيادة الرأي العام، ولتكوين مؤتمر عاجل لأجل تقرير ما يتخذ من
الوسائل الآن، فإن مسألة الخلافة كانت مسكوتًا عنها، فجعلها الانقلاب التركي
الجديد أهم المسائل التي يبحث فيها، ولولا كثرة التخبط وتضليل الرأي العام بأكثر
ما كتب فيها لآثرنا السكوت على القول مع السعي إلى ما نرى من المصلحة فيها
بالعمل، ولكن وجب التمهيد له ببيان الحقائق، وإن جعلت موضع البحث والمراء
باختلاف الآراء والأهواء، وحسبنا أن نذكر حزب الإصلاح بما يعتنُّ له من
العقبات من حزبي التقاليد والعصبيات، وبما يجب أن يعد للعمل من القواعد
والبينات.
***
19 - حزب المتفرنجين:
بيَّنَّا في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين) مرادنا من التفرنج وأهله
وأن منهم المرتدين المجاهرين بالكفر والمُسرِّين به، ومداركهم في حكومة الإسلام
وشريعته. ونقول هنا أيضا:
إن ملاحدة المتفرنجين يعتقدون أن الدين لا يتفق في هذا العصر مع السياسة
والعلم والحضارة، وأن الدولة التي تتقيد بالدين تقيدًا فعليًّا لا يمكن أن تعز وتقوى
وتساوي الدول العزيزة. وهؤلاء كثيرون جدًّا في المتعلمين في أوربة وفي المدارس
التي تدرس فيها اللغات الأوربية والعلوم العصرية، ورأي أكثرهم أنه يجب أن تكون
الحكومة غير دينية، وحزبهم قوي ومنظم في الترك وغير منظم في مصر، وضعيف
في مثل سورية والعراق والهند، ورأيه أنه يجب إلغاء منصب الخلافة الإسلامية من
الدولة، وإضعاف الدين الإسلامي في الأمة، واتخاذ جميع الوسائل لا ستبدال الرابطة
الجنسية أو الوطنية، بالرابطة الدينية الإسلامية، والترك من هؤلاء أشد خصوم إقامة
الإمامة الصحيحة في الدولة التركية.
وقد بثت جمعياتهم الدعوة في الأناضول - مهد النعرة الإسلامية - إلى العصبية
العمية بالأساليب التي لا يشعر الجمهور بالغرض منها، وقد أشرنا من قبل إلى
بعضها، فكان لها التأثير المطلوب: كان التركي هنالك إذا سئل عن جنسه قال:
مسلم والحمد لله. وبذلك يمتاز من الرومي والأرمني. وأما الآن فصار يجيب بأنه
تركي. وكان لا يفهم من وجوب الخدمة العسكرية إلا طاعة خليفته وسلطانه في
الجهاد في سبيل الله، فبثت فيه فكرة القتال في سبيل الترك ووطن الترك لمجد
الترك، وقد اطلعنا في هذه الأيام على قصة (قميص من نار) للكاتبة الإسرائيلية
النسب التركية السياسة والمذهب، خالدة أديب وزيرة المعارف في حكومة أنقرة،
وقد أنشأتها لبيان كُنْه الحركة الوطنية في الأناضول التي أنشئت لمقاومة سلطة
الآستانة وإخراج اليونان من البلاد وتأمين استقلالها، فألفيناها مصوِّرة لما ذكرنا، لم
نر فيها كلمة واحدة تدل على فكرة الجهاد الإسلامي ولا الروح الديني الذي كنا نعهد.
على أن فريقًا من هؤلاء المتفرنجين يرى أن وجود منصب الخلافة في الترك
يمكن الانتفاع به من بعض الوجوه السياسية والأدبية وغيرهما إذا كانت الخلافة
صورية أو روحانية لا سلطان لها في التشريع ولا في التنفيذ، بل ينحصر نفوذها
في الدعاية السياسية للدولة من طريق الدين، كسلطة البابا والبطارنة وجمعيات
التبشير، وأكثر هؤلاء من أصحاب العصبية الطورانية، الذين يتفقون من بعض
الوجوه مع طلاب الجامعة الإسلامية، فإنهم يطمعون في تأليف أمة كبيرة من
شعوب الشرق الأعجمية المسلمة بجعهلهم كلهم تركًا؛ لأنه ليس لأحد منهم لغة
علمية مدونة إلا الفرس الإيرانيون والأفغانيون، وكذا لغة الأوردو في مسلمي
الهند، على أن اللغة التركية فاشية في أكثر بلاد إيران، ومن لم يمكن إدغامه في
الأمة التركية باسم الوحدة الطورانية ورابطة اللغة التركية، فإن من الممكن إدغامه
فيها بالتبع للخلافة الإسلامية، ثم يكون أولاد هؤلاء تركًا بالتعليم والتربية تبعًا
للحكومة. وحزب العصبية التركية المحضة معارض لحرب العصبية الطورانية
العامة؛ إذ يخاف أن يضيع الترك فيها كما ضاعوا في الجامعة العثمانية أو الإسلامية
بزعمه. وليس من غرضنا هنا تحقيق هذه المسائل ولا انتقادها، بل التذكير بما فيها
من معارضة الإمامة الإسلامية بأوجز عبارة، ولا نيأس من إقناع الكثيرين منهم
بالجمع بين الجنسية والإسلامية.
وهنالك فريق من المتفرنجين - ومنهم بعض المتدينين أكثر من غيرهم -
يرون أن إقامة الخلافة الإسلامية وجعل رئيس الدولة هو الإمام الحق الذي يقيم الإسلام
،متعذر في هذا الزمان في دولة مدنية، فإما أن تكون الخلافة في الدولة التركية اسمية
كما كانت في الدولة العثمانية يُنتفع بها بقدر الإمكان ويُتقى شر استبداد الخليفة وتكون
الحكومة مطلقة من قيد التزام الشرع في الأحكام التي لا يمكن العمل بها في هذا
العصر؛ وإما أن يُستغنى عنها ألبتة، واستمالة حزب الاصلاح لهؤلاء أيسر من
استمالته لغيرهم.
***
20- حزب حشوية الفقهاء الجامدين:
إن جميع علماء الدين وأكثر العامة المقلدين لهم يتمنون أن تكون حكومتهم
إسلامية محضة، والترك يُحَتِّمُونَ أن تكون تابعة لفقه المذهب الحنفي، ومنهم من
لا يرى مانعًا من الأخذ في بعض الأحكام بفقه غير الحنفية من مذاهب أهل السنة،
ولا يبالون بما خالف ذلك من مدنية العصر، ولكن هؤلاء العلماء يعجزون عن جعل
قوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الفقه التقليدي ويأبون القول بالاجتهاد
المطلق في كل المعاملات الدنيوية، ولو فوض إليهم أمر الحكومة على أن ينهضوا
بها لعجزوا قطعًا، ولما استطاعوا حربًا ولا صلحًا.
طالما بينا في المنار أن تقصير علماء المسلمين في بيان حقيقة الإسلام والدفاع
عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر هو أكبر أسباب ارتداد كثير من متفرنجة المسلمين
عنه، وأنهم لو بيَّنوه كما يجب لدخل فيه من الإفرنج أنفسهم أضعاف من يخرج منه
بفتنتهم. وإن سبب ذلك أو أهم أسبابه أنه ليس للمسلمين إمام ولا جماعة تقيم ذلك
بنظام ومال كما يفعل إمام الكاثوليك (البابا) وجمعيات التبشير في بلاد النصرانية،
على أن السلاطين والأمراء وأتباعهم قد أفسدوا العلماء وأبطلوا عليهم زعامتهم
للأمة إلا فيما يؤيد ظلمهم واستبدادهم كما ذكرنا آنفًا.
ولو كان للمسلمين خليفة قائم بأعباء الإمامة العظمى لما أهمل أمر الدفاع عن
الإسلام والدعوة إليه حتى كثر الارتداد عنه، وغلب على الدولة العثمانية من لا علم
لهم به. أليس من الغريب أنني لما وضعت مشروع الدعوة والإرشاد للقيام بهذه
الفرائض التي هي أول ما يجب على إمام المسلمين وجماعتهم - لم يوجد في وزراء
الدولة ولا رؤسائها من تجرأ على إجازة هذا الاسم؟ وأن الذين استحسنوا المشروع
اتفقوا على تسمية جمعيته بجماعة العلم والإرشاد؟ ! نعم إن مستشار الصدارة قال
لحقي باشا الصدر الأعظم أمامي: إذا نفذنا هذا المشروع ألا نلقى مقاومة من الدول
العظمى؟ فأجابه: إن لدولة البلغار مدرسة عندنا لتخريج الدعاة إلى النصرانية،
أفتكون دولة الخلافة في عاصمتها دون دولة البلغار حرية في دينها؟ ولكن هذا
الصدر الأعظم لم ينفذ المشروع ولم يساعدنا فيه أدنى مساعدة، وإنما اغتنمنا فرصة
سفره إلى إيطالية وسفر طلعت بك وزير الداخلية وزعيم الاتحادية إلى أدرنة لتقرير
المشروع رسميًّا، وأعانني على ذلك انعقاد مجلس الوكلاء برئاسة شيخ الإسلام
موسى كاظم أفندي أحد أنصاره، فما زلت ألح عليه حتى أصدر - رحمه الله - قرارًا
من المجلس بتنفيذه، ثم جاء طلعت بك فأفسد الأمر.
وكان الذي يسمونه السلطان و (الخليفة) في قفصه، مغلوبًا على أمره، لا
يكاد يصحو من سكره، ولا ترجو المشيخة الإسلامية منه قولاً ولا عملاً في هذا
الأمر ولا غيره، ولماذا كان نفوذ مثل طلعت وناظم أغلب عليه من نفوذ شيخ
الإسلام وشيوخ دار الفتوى؟ أليس لعجز هؤلاء الشيوخ وأعوانهم عن إدارة أمور
الدولة وعن إظهار كفاية الشريعة، وعن إثبات أصول الاعتقاد والعمل بها بالحجة،
ودفع كل ما يرد عليها من شبهة؟ أليس لأنهم غير متصفين بما اشترطه أئمة
الشرع في أهل الحل والعقد، من العلم والسياسة والكفاية والكفاءة؟
على أن نفوذ علماء الدين في بلاد الترك أقوى منه في مثل سورية ومصر،
ولكن خصومهم من المتفرنجين أقوى منهم، وكل من الفريقين يعد الآخر سبب
ضعف الدولة وتقهقر الأمة، والحق أن الذنب مشترك بينهما، وأن نصب الإمام
الحق وجعل الدولة التركية كافلة لمنصب الخلافة، لا يتم إلا بجمع حزب الإصلاح
لكلمة المسلمين المتفرقة، بجذب أكثر أصحاب النفوذ إليه، حتى تنحصر صفات
أهل الحل والعقد فيه، وإنما يكون ذلك بتحويل العلماء منهم عن جمود التقليد
وعصيبة المذاهب، وكشف شبهات المتفرنجين على الدين والشرع، وبيان الخطأ
في عصبية الجنس، فإن كان إقناع السواد الأعظم بذلك غير مستطاع الآن، فحسب
هذا الحزب من النجاح الرجحان على سائر الأحزاب، واستعداده لذلك بما سنبينه
من الأسباب.
إن الإسلام هداية روحية ورابطة اجتماعية سياسية، فالكامل فيه من كملتا له،
والناقص فيه من ضعفت فيه إحداهما أو كلتاهما، وقد فقدهما معًا الملاحدة من
غلاة العصبية الجنسية، فهؤلاء لا علاج لهم، لا عند أنصار الخلافة ولا عند
غيرهم، لكن بيان حقيقة الإسلام وما فيه من الحِكَم والأحكام الكاملة لأرقى معارج
المدنية والعمران، مع الخلو من كل ما في المدنية المادية من الشر والفساد، على
الوجه الذي سنشير إليه في أبحاثنا هذه - يفل من حدهم، ويقفهم عند حدهم، بل يهدي
من لم يختم على قلبه من أفرادهم، وهو بهداية الكثير من غيرهم أقوم، ونجاح الدعوة
فيهم أرجى.
حسبنا هذه الإشارة إلى ما يجب من السعي لهذا العمل في الترك، وأما الشعب
العربي الذي هو أصل الإسلام وأرومته، ولا حياة إلا بلغته، ولا تتم أركانه إلا
بفريضة الحج التي تؤدى في بلاده، وهو الركن الاجتماعي الوحيد الجامع بين
شعوبه، ولا يمكن أن تكون الإمامة الصحيحة العامة بمعزل عنه - فهو شعب كله
متدين، ليس في جزيرته إلحاد ولا تفرنج، وإنما آفته الجهل بطرق إدارة البلاد
وعمرانها وبالعلوم والفنون التي يتوقف حفظ الاستقلال وعزة الملة عليها، وتعادي
الأمراء، ودسائس الأعداء، فكل ما يجب له على حزب الإصلاح إقناع أمرائه بما
يجب من الاتحاد، ومساعدتهم على ما يجب من إعداد وسائل القوة والعمران، وها
نحن أولاء نذكره بما يجوز نشره من برامج الأعمال وأساليب الاستدلال.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما في الجزء العاشر م23.
(1) آخر ص 9 من الأحكام السلطانية.
(2) سنذكر بعض الروايات في استخلاف يزيد بن معاوية.
(3) ص 278 و 279.
(4) ص 275 ج2.
(5) ص 277 منه.
(6) ص 280 وتقدم أن (المسايرة) للكمال بن الهمام الحنفي، وأما شرحها المسمى (بالمسامرة) فهو للكمال بن أبي شريف الشافعي.
(7) ص 413 من النسخة المطبوعة بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1296.
(8) كان ينبغي حذف هذا الجمع هنا وفيما بعده.
(9) يأتي هنا التفصيل السابق في الإمام الحق، وإمام الضرورة والمتغلبين، وداري العدل والجور.(24/33)
الكاتب: أبو الكلام
__________
خطاب أحد زعماء النهضة الإسلامية الهندية
الذي قدَّمه عند محاكمته للمحكمة الإنكليزية
ومقدمة مترجمه في وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]
المقدمة:
إن الجهاد العظيم الذي قامت به الهند المستعبدة منذ خمس سنوات متواليات
لصون الخلافة الإسلامية، وحرية البلاد العربية - يكاد يكون فذًّا في تاريخ العالم، لا
لأنه جهاد بلاد استعبدت استعبادًا شديدًا، وحكمت بالنار والحديد أجيالاً، وصبت
على رأسها المصائب تلو المصائب، ودهمتها الدواهي - بل لأن أصوله جديدة،
وطرق عمله عجيبة، ومظاهراته سلمية، وروحه العاملة فيه خالية من كل حقد
وشدة، وليس فيه إلا الإيثار وهضم النفس وكظم الغيظ وتقديم المُهج، وتحمل
الشدائد. القائمون به يُقْتَلُون ولا يَقْتُلُون، يُضرون ولا يَضرون [1] ، يصابون ولا
يصيبون، يقاومون القوة لا بالشدة والبطش، بل بالصبر والحلم والسلم، ويحاربون
الاستبداد لا بالسيف والرمح، بل بالإيمان واليقين والثقة بالله ربهم، فهو جهاد
سلمي حقًّا، وحرب روحانية مدنية، لا شائبة فيها من القوة والغلظة، بل هو في
الحقيقة صحيفة عِبر، وكتاب بصائر لسائر الأمم المستضعفة يبين لها أن الفوز
والنصر لا يتوقف على بسطة الجسم والقوة المادية، بل منبعه الحقيقي من القوة
المعنوية وروحانية القلوب التي في الصدور، وهو أول مثال للمقابلة السلمية
للقوات المتسلحة القتالة، وإنه ليهب سلاحًا ماضيًا صائبًا من الإيمان والصدق
للشرق المسكين، ليحارب به الغرب الجائر المتسلح بالقوات المادية، فهل يقبله
الشرق وينجو به من الخزي والعار؟
ألا لا يتهمني أحد بأني أبالغ في هذا الجهاد، أو أهيم بوصفه في وديان
الخيال، أو أتخيل كالشعراء في المحال. بل أُبين كُنه الحال، وأتكلم عن حقيقة
وبرهان، فإنه جهاد زعزع أساس الدولة البريطانية في البلاد، وتركها في حيرة
وارتباك، فظلت طول هذه المدة مغلولة الأيدي مع ما تملك من القوة والسلاح، ولم
تستطع قهره ومقارعته بما أوتيت من البطش والجلاد، ولكن هل سمعت سيفًا يقتل
روحًا، وأن صُرَعة يصرع قلبًا، نعم قهرت بريطانية عدوتها ألمانية؛ لأنها كانت
أقوى منها وأدهى [2] ، ولكنها ما كان لها أن تقهر هذا الجهاد السلمي؛ لأنه ليس
أمامها قوة مادية مثلها فتكسرها، ولا يد فتاكة فتجذمها، وإنما كل ما هنالك عنق
للقتل وقلب للحياة، وجسم للصلب، وروح للبقاء، فما أعجب هذا الجهاد، وما
أسلم هذا العراك!
ولقد كان من نتائج هذا الجهاد أن اضطرت بريطانيا على رغم أنفها أن تخفف
وطأتها عن الإسلام، ولا تصر على إظهار العداوة للخلافة الإسلامية، والتمادي في
حماية ربيبتها الدولة اليونانية، فإن الحكومة الهندية الإنكليزية لما أرسلت بلاغها
الرسمي الشهير في فبراير سنة 1922 إلى الحكومة المركزية في لندن تؤكد فيه
المطالب الهندية في مسألة الخلافة، وتحذرها من سياستها الخرقاء في معاداة الدولة
العثمانية والبلاد الإسلامية، تأثر به الرأي العام الإنكليزي أيَّمَا تأثر، حتى
تدحرجت وزارة المستر لويد جورج القاهر لألمانيا، وسقطت سقوطًا مخزيًا،
وكانت قد امتازت بعداوة الأتراك والمسلمين واستعمار البلاد الإسلامية المحتلة باسم
الوصاية.
نعم قد تم هذا، ولكن الأيام حبلى ولا ندري ما يكون وراء مؤتمر الصلح،
ومهما يكن من الأمر، فسيظل هذا الجهاد حتى تتحرر البلاد الإسلامية، ويغادر كل
جندي محتل أرض الشام وفلسطين والعراق ومصر والقسطنطينية، فتصبح كلها
حرة مطلقة من قيودها تحكم نفسها بنفسها كيف تشاء.
وإن مما يُحزن القلب، ويُبكي العين أن هذه البلاد الإسلامية التي تلتهب الهندُ
غيرة عليها، وتتفانى في حبها، وترخص كل غال وثمين لأجلها - لا تعلم عن هذا
الجهاد إلا شيئًا لا يُذْكَر، مع أن سيل المصائب الذي غمر العالم الإسلامي قاطبة
كان يجب أن يعرّف به المسلمون بعضهم بعضًا، ويتعاونوا ويتناصروا ويبحثوا
عن خطة مشتركة للنجاة من هذه الورطة، وللفوز والفلاح والحياة في المستقبل.
وهذا الذي دعاني إلى أن أقدم إلى مسلمي مصر والشام والعراق وسائر البلاد
العربية والإسلامية، الخطاب الجليل الذي خاطب به المحكمةَ الإنكليزية زعيمُ الهند
الحلاحل الهمام (الشيخ أبو الكلام أحمد) عندما حوكم فيها؛ لأنه فوق ما فيه من
البصائر والعبر، يبين مقاصد ذلك الجهاد، وطرق السير فيه بأحسن بيان غير أنه
لا بد لإيضاح كُنْه هذا الخطاب من بيان وجيز لحركة اللاتعاون السلمي التي سببته
هذه الواقعة.
***
(حركة اللاتعاون السلمي في الهند)
قامت حركة هذا الجهاد بعد هدنة الحرب الكبرى مباشرة، فظلت زمنًا
محصورة في قيام المظاهرات وحشد المحافل واجتماع المؤتمرات، وإرسال الوفود
إلى إنكلترا وأوروبا، وغيرها من الطرق السياسية المعهودة، ولما لم تنتج هذه
الأعمال شيئًا، تشاورت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى في وضع خطة
للعمل، ثم أعلنتا في أغسطس سنة 1920 (اللاتعاون السلمي) الذي هو داخل تحت
الأوامر الشرعية؛ لأنه قسم من أقسام ترك الولاء للمحاربين، والذي يسمى بالإنكليزية
OPERATION - EA - NON MONUIOLENT ومعنى (كوابريشن)
المساعدة والمشاركة في العمل، فكان الغرض منه أن تقطع عن بريطانيا جميع تلك
العلائق التي تساعدها في حكمها واستبدادها وقيامها في البلاد؛ لأن الهند ليس في
وسعها أن تقوم بحركة مسلحة؛ ولأنها تريد أن تقدم مثالاً عمليًّا لمقاومة القوة بالطرق
السلمية، فلذا جعل عنوان هذه الحركة أن تكون سلمية بالمرة، فلا تقابل القوة المادية
بقوة مثلها، بل بالحلم والتضحية والثبات على الحق، تتعب القوة من الظلم والعسف،
ولا يتعب أصحاب الحق من الصبر والتضحية وكانت لائحة عملها كما يلي:
(1) تُرد إلى الحكومة جميع مناصبها وألقاب شرفها وأوسمتها.
(2) تقاطع جميع مدارسها وكلياتها، وتؤسس للصبيان المدارس الوطنية،
والشبان يشتغلون بنشر الحركة وترويجها.
(3) تقاطع جميع المحاكم العدلية، فلا يذهب إليها المحامون ولا أصحاب
الدعاوى، بل تؤسس المحاكم الوطنية فتفصل فيها الدعاوى على الطرق البسيطة.
(4) تقاطع إصلاحات الحكومة التي تمن بها على البلاد، فلا يرشح
أحد نفسه للمجالس النيابية، ولا ينتخب لها أحد.
(5) تقاطع البضائع الإنكليزية، ولا سيما القماش منها، ويجب على
الوطنيين أن يغزلوا القطن بأيديهم، فينسج منه القماش، وهو الذي يستعمله
الناس.
(6) يجب ترك الخدمة العسكرية لأن الدولة البريطانية تستعمل الجيش
الهندي لاستعباد هذه البلاد وغيرها من البلاد الحرة.
(7) يجب أخيرًا أن يمنع كل ما يدفع إلى الحكومة من أموال الضرائب
وغيرها فلا يؤدى إليها فلس واحد، وإن سجنت وعذبت.
لا يخفى خطر هذه اللائحة، فإنها لم تكن إلا دعوة إلى الإيثار وهضم النفس
وتحمل الخسائر، والتعرض للنوائب؛ إذ لا يلبيها أحد إلا وينفض يده من وسائل
معيشته، فيذر نفسه وأهله للضنك والفقر والفاقة، ثم يعرض عن كل ما عند
الحكومة من الرتب والمنافع والشرف والفخار، وبعد ذلك يعرض نفسه للحبس
والتعذيب، وقد يلقى إلى القتل والصلب، إلا أن البلاد رحبت بها وتقبلتها بقبول
حسن، فأخذت جماعات تاركي التعاون تظهر من كل جهة وتعلن هذه الأمور وتعمل
بها، والحكومة تراها بعينها ولا تعرف كيف تصد تيارها.
(مقاطعة ولي العهد)
ولما رأت الحكومة أن الحركة لا تزال تتقوى وتنتشر، وأنها لا تقدر على
قهرها لجأت إلى الحيل السياسية، فدبر الوالي العام الجديد اللورد ريدنج الداهية
الشهير، سياحة لولي عهد إنكلترا في البلاد الهندية، ظنًّا منه أن البلاد لا تأبى
استقباله والترحيب بضيفها لأن العائلة الملكية تعتبر عندهم فوق المنازعات
السياسية، فتضعف الحركة وتعود المياه إلى مجاريها.
ولكن سرعان ما خاب أمله، فإن الأمة ما سمعت بهذه السياحة إلا وقررت
مقاطعتها، وأعلنت جمعية الخلافة وجمعية العلماء أن هذه السياحة تنوب (عن)
الإمبراطورية البريطانية، التي تحارب الخلافة والبلاد الإسلامية، وتريد استعبادها
واستعمارها، فلذا لا يجوز لأحد من المسلمين أن يشترك في استقبال ولي العهد،
ولا في الاحتفالات التي تقيمها الحكومة له.
ولقد قامت المنازعات الشديدة في البلاد بعد هذا الإعلان، فكانت الحكومة
في جهة تجدُّ وتكدُّ بجميع وسائلها الكثيرة ومواردها العظيمة لإنجاح هذه السياحة،
وفي جهة أخرى كان زعماء البلاد الذين لا حول لهم ولا قوة إلا قوة الأمة مصرين
على مقاطعتها، وكانت النتيجة مدهشة جدًّا، كانت هزيمة شنيعة تسجل في التاريخ
على أقوى دول الأرض أمام الرأي العام لبلاد ضعيفة الجسم، قوية الروح، فلقد
رأى نجل إمبراطور العالم بعيني رأسه منظرًا مدهشًا، لم يُشَاهد مثله من قبل، وربما
لم يخطر في باله، فإنه ما دخل مدينة إلا وجد الأسواق فيها معطلة والدكاكين مقفلة،
والأبواب موصدة، والشوارع مهجورة، المدينة كلها في سكون كسكون المقابر،
كأنه لم يغن فيها أحد بالأمس! وقد شاهد ما شاهد عم أبيه (الدوق أوف كوت) مثل
ذلك في سياحته التي تقدمت سياحته بسنة، وصفه أحد مكاتبي الجرائد في باريس
قائلا: (إن الهند اليوم مثل ما كانت باريس عند دخول الجيوش الألمانية إياها في
حرب السبعين) .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) صاحب الخطاب هو الزعيم الهمام، الأستاذ العلامة الكاتب الخطيب الشيخ أبو الكلام، والمترجم صاحب المقدمة هو الشاب النجيب، وغصن دوحة الإصلاح الرطيب: الشيخ عبد الرزاق المليحي الهندي تلميذ دار الدعوة والإرشاد بمصر.
(1) فيه احتباك، أي: يُضَرُّون ولا يَضُرون من يضرهم، ويُضربون ولا يَضربون ضاربهم.
(2) إنما غلبتها بالدهاء الذي سخرت به أكثر أمم الأرض لمساعدتها وآخرهن الولايات المتحدة الأميركية التي كانت أقوال رئيسها سبب الثورة الألمانية.(24/67)
الكاتب: معروف الرصافي
__________
وصف استقلال العراق
بقلم شاعره معروف أفندي الرصافي
لنا (ملك) وليس له (رعايا) ... و (أوطان) وليس لها (حدود)
(وأجناد) وليس لهم (سلاح) ... و (مملكة) وليس لها (نقود)
ويكفينا من الدولات أنا ... تُعلَّق في الديار لنا البنود
و (أنا) بعد ذلك في (افتقار) ... إلى ما (الأجنبي) به (يجود)
تسود سياسة (الهندي) فينا ... وأما ابن البلاد فلا (يسود)
إذًا (فالهند) أشرف من (بلادي) ... و (أشرف) من بني قومي (الهنود)
وكم عند الحكومة من (رجال) ... نراهم (سادة) وهم (العبيد)
وليس (الإنجليز) (بمنقذينا) ... وإن (كُتبتْ) لنا منهم (عهود)
متى شفق (القوي) على (ضعيف) ... وكيف (يعاهد) الخرفانَ (أسيد)
ولكن نحن في يدهم (أسارى) ... وما كتبوه من عهدٍ (قيود)
أما والله (لو كنا قرودًا) ... لما رضيت بعيشتنا (القرود)
__________(24/72)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر،
أرجو نشر ما يأتي في المنار بيانًا للحقيقة التي أخفاها المحترم صاحب مجلة الإسعاد
وصاحبه الأستاذ المحترم الشيخ تاج الدين في حادثة الرمل؛ إذ كتب الثاني رسالة
أسماها (الرسالة الرملية في الرد على مروجي بعض العقائد الوهابية في ثغر
الإسكندرية) ونشرها صاحب المجلة المذكورة وأسماها (الرسالة الجليلة) وعقَّبَها
بخبر غير صحيح لم يعزه إلى مصدره الحقيقي بل عزاه إلى نفسه ليوهم أنه كان
حاضرًا ويُلَبِّس على القراء.
وقد نُشرت الرسالة المذكورة في عدد 5 من المجلد 3 من مجلة الإسعاد وكتبنا
ردًّا عليها فأبى نشره وطلب غيره خوفًا على كرامة الأستاذ المؤلف كما يقول. فكتبنا
غيره وأردفناه بمؤاخذته على الخبر الذي نشره غير معزو إلى صاحبه طالبين
منه نشره ظانين أنه كأصحاب المجلات الحرة التي تنشر ما لها وما عليها وترد بالحق
كالمنار الذي يطلب كل حين من قرائه أن يوافوه بكل ما يرونه منتقدًا معززًا بالأدلة
والبراهين. وقد نشر بعضه مبتورًا أوله، ورد عليه بالباطل الذي طالما لغط به
المقلدون وفنده المهتدون، إسعادًا لصاحب الرسالة علينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أما ملخص الحادثة الرملية: فهو أن أئمة المساجد منعوني من إلقاء المواعظ
والدروس في المساجد التي احتكروها بالوظائف والمرتبات، فاتخذنا مسجدًا آخر
بنيناه بأيدينا في ملك بعض مريدينا، وصرنا نصلي فيه ونقرأ الدرس بعد العشاء
لمن يحضر من الإخوان فاجتمع عندنا خلق كثير، وهداهم الله حتى تابوا عن
الكبائر التي كانوا منغمسين فيها ليلاً ونهارًا. فحقد أولئك الأئمة وصاروا يفترون
علينا الكذب وينبزوننا بالألقاب ويشيعون بين الناس أننا ننكر الوسيلة والشفاعة
ونَسُبُّ الأئمة وننكر الوحي ويخطبون في مساجدهم بهذا، ويقسمون بالله جهد
أيمانهم ليصدقهم العوام. ثم كتبوا لمشيخة الإسكندرية شكوى عَزَوْا إلينا فيها كل هذه
المفتريات وختَّموا كثيرًا من العوام عليها زورًا، وطلبوا من المشيخة إرسال وفد
يخطب معهم في الإغراء بنا وتنفير الناس عنا، ولكن المشيخة - وفقها الله - لم تُرِد
ذلك لِما بلغها أننا براء من كل ما نسبوه إلينا بشهادة بعض الكبراء وبعض العلماء الذين
يعرفوننا حق المعرفة. ولما أكثروا من الشكوى، وأرسلوا وفودهم إلى المشيخة تترى
كلفت بعضهم بتحقيق المسألة، وكان المنتظر من ذلك الوفد المؤلف من ثلاثة علمائهم
أن يحضروا إلى محل الحادثة ويجمعوا الأئمة الشاكين والمشكو منهم في بيت بعضهم
بعيدًا عن العامة، وفي حفلة خاصة بهم ولكنهم - أرشدهم الله - لم يفعلوا وجاءوا بعد
شهر ألفوا فيه رسالة ردًّا على شخص لا وجود له إلا في خيالهم ينكر الوسيلة والشفاعة
وكرامات الأولياء وما استحسنوه من البدع، وجاءوا يوم جمعة في ربيع الأول من سنة
1340 هـ في بعض مساجد الظاهرية وبعد صلاة الجمعة قعد القوم واحتشدوا حتى
ملاأوا ما هو له من الفضاء والطرقات وقعد أحد الثلاثة الموفدين وهو الأستاذ الشيخ
تاج الدين وأخرج رسالته بعد أن نَوَّهَ الخطباءُ بفضل الوفد وعلمه وعناية المشيخة
بإيفاده، وأن قوله هو القول الفصل والدين العدل، واسترعَوْا الأسماع لقراءة الرئيس
رسالته فقرأها وأنا حاضر في المسجد لا أقدر أبدي ولا أعيد من كثرة الصياح،
وارتفاع الأصوات، وتحرش العوام، وكلما هممت برد الباطل أسكتني العوام من
حولي، ولما قرأ الأستاذ مسألة الشفاعة وأثبتها على الوجه الذي نعتقده استطعت أن
أرفع صوتي بالموافقة في بعض المواضع التي لا خلاف فيها، ثم انتهى الشيخ ولم يكد
حتى قام ثاني الوفد الشيخ شريف وخطب وخصني بالكلام تحاملاً إذ قال: يا فلان اتق
الله (يكررها) ولا تفرق الناس، ونحو ذلك، ثم قام آخر وارتقى المنبر بغير دعوة
وصار يحرض الناس ويثير الفتنة يسب ويشتم تصريحًا وتلويحًا والعلماء حاضرون
وأكثر العوام والخصوم، فقمت من بينهم بعد أن أشهدتهم ورددت عليه، وقلت: والله
إنا كنا على الحق ولا زلنا على الحق والله لأنصرن السنة ما دمت حيًّا إن شاء الله،
وما كدت أخرج من باب المسجد حتى ابتدرني العوام ضربًا ولكمًا ولم ينقذني من بينهم
إلا رجال الشرطة وبعض الإخوان.
وأما الرسالة فقد احتوت على إثبات الشفاعة التي لم ينكرها أحد؛ ليقال: إنه
رد على من ينكرها، وليدخل أو يلصق بها ما يسمونه اليوم بالتوسل، والمراد دعاء
الموتى وسؤالهم قضاء الحاجات، وقد بنى إثبات هذه الوسيلة على حياة الأموات في
قبورهم وسماعهم مَن يخاطبهم واستجابة دعائه، وردهم عليه السلام، واستدل ببعض
الأحاديث الضعيفة وبالآية الواردة في حياة الشهداء وحديثين من أحاديث الصحيح
في سؤال القبر والزيارة وهي حجة عليهم لا لهم لو كانوا منصفين، ثم قاس على
حياة الشهداء - التي أثبتها القرآن لشهداء الصحابة في بعض الغزوات - حياة جميع
من يسمونهم الأولياء، وبنى على هذا جواز دعائهم والاستغاثة بهم في تفريج الكروب
وقضاء الحاجات؛ لأنه لا فرق عندهم بين رد الميت السلام على من سلم عليه
وبين استجابته الدعاء وإجابة سؤال من توجه إليه، ولا سيما إذا قدم له هدية من
صدقة وقرآن (كذا قال الشيخ تاج الدين) في رسالته وذكر واقعة حال جرت بينه
وبين وليه أبي العباس وكفى بها مصورًا لعقائد أمثاله، وهذا نصها نقلا عن مجلة
الإسعاد وهو:
(كم من منح ونفحات، ونوال وإغاثات، شوهدت بسبب الزيارات
والتوسلات، بأصحاب هذه المقامات: فمما وقع للفقير جامع هذه الكلمات أني
اضطررت (تأمل) وقتًا إلى الانتقال من مسكن إلى آخر بمدينة الإسكندرية وكاد
الحصول على المطلوب يتعسر أو يتعذر (تأمل) لضيق الجهة التي أريد السكنى
بها بسكانها، فتوجهت (تأمل) لزيارة سيدي أحمد المرسي أبي العباس رضي الله
عنه، فبعد أن سلمت ووهبت لروحه الكريمة (تأمل) ما تيسر من القرآن، توسلت
به إلى الله تعالى في ذلك المطلوب (تأمل) وشكوت له هذه الضائقة (تأمل) كأني
أكلم حيًّا أشاهده (تأمل) وأخاطبه، وكان من كلامي له رضي الله عنه هذه العبارة:
(إن كان لكم كرامات فَلِمَ لَمْ تكن لأمثالنا وقد جئنا لتعليم العلم) ثم خرجت فاعترضني
بجوار ضريحه أحد كناسي البلدية فسألته عن مسكن فأشار إلى دار بهذه الجهة تدعى
بدار الحاج علي الخولانى وقرع بابها فنزل صاحبها المذكور باسِمَ الوجه تُرى عليه
لوائح الاستبشار بالطارق وأدخلنا ما أعده للإيجار من هذه الدار فقدرت أجرته في
نفسي بما يقرب من ضعف ما خصصه لأجرة السكنى فأردت التخلص لذلك، ولما
ظهر لذلك الرجل حقيقة الأمر لم يسعه إلا القبول بما أستطيع فأوقعني تساهله هذا في
ريب وحذر من أن يكون بالمسكن عيب خفي عليَّ فاستأجرته مشاهرة بدل المسانهة
التي هي العادة الغالبة بالمدينة فقبل أيضًا وبعد تمام الاتفاق والتوقيع من الجانبين على
الأوراق قال: إن سبب هذا الإكرام أني ساعة قرعكم الباب كنت نائمًا فرأيت أبا
العباس واقفًا على سطح مقامه يناديني بـ (يا علي إني مرسل إليك من يسكن بدارك
فأكرمه) فأيقظني قرع الباب فأحببت أن أقابل هذا الطارق بنفسي، لعله المرسل من
قبل السيد المرسي، فتحققت ما رجوت لأني رأيتك كثيرًا بمسجده (تأمل) وعزمت
على إكرامك بكل ما يمكنني إجابة لهذا الولي الذي لم أره في منامي مدة حياتي غير
هذه المرة) قال الشيخ: فشكرته إلخ.
هذه الحكاية تمثل لنا عقيدة الشيخ الذي يرد على الوهابية، وتمثل لنا أيضًا
عقيدة صاحب مجلة الإسعاد الذي نصب نفسه لإفتاء الناس وكتب على مجلته عنوان:
أكبر المجلات الإسلامية الإصلاحية …
ثم هو يصف هذه الرسالة القبورية بالجليلة راضيًا بما فيها ويرد على من قام
يدفع عن نفسه تهمة الكذب التي ألصقها به الجاهلون، فالإصلاح عند هؤلاء
المصلحين تضليل من يهتدي بهدي السلف الصالح، وإقناعه بالنظريات والتأويلات
لاتباع خرافات القبوريين وأصحاب الموالد إلخ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر
(المنار)
قد تكرر تقنيدنا لخرافات (الجبت) الوثنية، فنكتفي هنا بتذكير طلاب الحق
بالمسائل الآتية المفصلة في المنار من قبل، وهي:
(1) أن ما ورد من النصوص في عالم الغيب كحياة الشهداء وسماع أرواح
المؤمنين والكفار كلام أهل الدنيا - يجب الإيمان بما صح منه كما ورد بلا زيادة ولا
نقصان ولا يجري فيه القياس، بل هو مبني على السماع. وهذه مسألة لا خلاف
فيها ولكن أدعياء العلم عندنا يدرسون بعض كتب الكلام والأصول لأجل المناقشة
في عباراتها استعدادًا للامتحان ولا يعقلون منها شيئًا.
(2) أن هذه مسألة اعتقادية لا تقوم الحجة عليها إلا بالأدلة القطعية ولو كان
الصالحون يقضون حاجات الناس بعد موتهم وكان طلب ذلك مشروعًا لبيَّنه الله في
كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيانًا لا شبهة فيه ولتواتر فعله
عن الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) ولكن لم يرد فيه نص قطعي ولا خبر
صحيح ظني.
(3) أن الرؤى والأحلام لا يثبت بها حكم من أحكام الفروع الشرعية التي
يكتفون فيها بالأدلة الظنية، فضلاً عن العقائد وأصول الإيمان التي يترتب عليها
السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، فرجل مشغول الخيال بأمر من الأمور تخيله في
نومه واقعًا على ما يحب في صورة مطابقة لعقيدته في ميت وافق تخيله الواقع،
هل يثبت بهذا أصل من عقائد الدين أو أي شيء يعتد به شرعًا؟ ! أو يعد من
خوارق العادات؟ كلا إن مثل هذا يقع كثيرًا لأهل كل ملة، ولا سيما الوثنيين،
والروايات عن المتقدمين والمتأخرين فيها كثيرة، ولكن أدعياء العلم عندنا لا
يعرفون من أمر العالم ولا من تاريخه شيئًا يعتد به. وإن علماء النفس المتأخرين قد
أثبتوا أن بعض الناس يشعرون في المنام أو اليقظة ببعض ما تتوجه إليه أنفسهم من
الأمور وينقلون وقائع كثيرة في ذلك. فلا يبعد على هذا أن تكون نفس صاحب
الدار قد شعرت وهو نائم بأن رجلاً في مسجد المرسي سيطلب منه أن يسكن في
داره فصور له الخيال أن المرسي هو الذي أرسله ويطلب إكرامه. فهل نرتب
على هذا المنام الذي تكثر أمثاله في كل أمة وملة أن المرسي سمع دعاء الشيخ
اللاجئ إليه واستجاب له وتمثل لصاحب الدار في منامه وأخبره بما أخبره وأمره بما
أمره، ثم نجعل هذا دليلاً على شرعية الذهاب إلى القبور التي اتخذت مساجد،
فاستحق متخذوها لعنة الله على لسان خاتم رسله في آخر حياته وندعوهم بأن يقضوا
حاجاتنا، خلافًا لكتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة سلفنا الصالح: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران: 8) {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(24/73)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم أخبار العالم
إن أنباء مؤتمر الصلح بين الشرق والغرب في لوزان ما زالت تشيل وتهبط بها
كفة الميزان، ولن تعتدل حتى يعتدل الفريقان، والظاهر أن السياسة البريطانية قد
فازت في هذا الطور على السياسة الفرنسية، فإذا تم للورد كرزون استمالة الترك
فالويل للعرب عامة، ولمصر خاصة، ولن يتم ذلك إن شاء الله، وإنما نرجو أن يتم
الصلح على قاعدة الاعتراف بحرية الأمم واستقلالها، وإلا فلا سلام في الأرض حتى
ينتقم الله من الباغين انتقامًا آخر يتوبون به إليه من استعباد خلقه.
__________(24/77)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - قد اختص نفسه بتقريظ
المطبوعات الجديدة في السنين الأخيرة، فكان يأخذ أكثر ما يُهدَى منها إلى المنار
ويضعه في مكتبه ويتخير للتقريظ ما شاء منها متى شاء ويحيل علينا أقله أحيانًا. ولم
يتيسر لنا بعد وفاته أن نحصي ما ترك تقريظه وإنما جمعنا بعضه فننوه به من غير
مراعاة للتأريخ، ولا لمكانة هذه الكتب والصحف في التقديم والتأخير.
(مسند الإمام زيد المسمى بالمجموع الفقهي)
قد طبع هذا الكتاب المسمى بهذا الاسم في العام الماضي بمصر سنة
1340 هـ.
الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب هو أحد
أئمة أهل البيت الأعلام، عليهم التحية والسلام، وهو الذي ينتمي إليه الزيدية،
روى الحديث عن أبيه وأخيه محمد الباقر وأبان بن عثمان بن عفان وعروة بن
الزبير وعبد الله بن أبي رافع، وروى عنه ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جدنا
جعفر الصادق والزهري والأعمش وشعبة وكثيرون منهم أبو خالد عمرو بن خالد
الواسطي الذي روى هذا الكتاب الموسوم بالمجموع الفقهي الذي يسمونه مسند الإمام
زيد أيضًا، وهذه التسمية ليست على اصطلاح المحدثين، فإنما الكتاب مجموع
أخبار وآثار مرتبة على أبواب الفقه ككتب السنن، والأخبار المرفوعة فيه على
كثرتها قد رواها بصيغة: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا. ولديهم مجموع آخر
يسمى المجموع الحديثي من رواية أبي خالد أيضًا.
فأما الإمام زيد فلا خلاف بين علماء الحديث وغيرهم في توثيقه وعلمه
وفضله وصلاحه، وهو الذي رفضه غلاة الشيعة لتوليه أبا بكر وعمر رضي الله
عنهما؛ إذ قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: لا أتبرأ منهما،
فقالوا: إذن نرفضك، قال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فلزمهم هذا اللقب. وأما أبو
خالد الواسطي فقد جرحه في الرواية الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو داود
والحاكم، ويجيب بعض علماء الزيدية عن ذلك بأنه من قبيل طعن أهل كل مذهب في
كل مخالف لمذهبهم. ولا يصدق هذا على أمثال هؤلاء الأئمة فإنهم لم يكونوا
يحاربون أحدًا ولا يتعصبون لمذاهب معينة ولا يتحاملون على أحد في الجرح
والتعديل، وقد رووا عن كثير من مخالفيهم في بعض المسائل لما ثبت عندهم
عدالتهم، على أن المذهب الذي قيل أنهم يجرحونه لأجله هو مذهب الإمام زيد، وهم
متفقون على عدالته وفضله. وللحاكم منهم نزعة تشيع معروفة. وكان أقرب من هذا
العذر أن يقولوا: إنه انفرد برواية أحاديث لم يروها أحد منهم فظنوا فيه أنه هو
الذي وضعها، أو وجدها مكتوبة ولم يسمعها، وقد احتاط البخاري في ذلك فوصفه
بأنه يروي المناكير، وهم لم يطعنوا فيه بشيء آخر غير هذه الأحاديث التي لم
تعرف عن أحد غيره من رجال طرقهم، وقد أشار بعضهم إلى أن جرحه من قبيل
أقوال بعض المعاصرين بعضهم في بعض، وما قلنا أقرب إلى ذهن المستقل؛ لأنه
لم يكن ممن يظهر فيهم أنه من أقران من تكلموا فيه.
هذا وإن أكثر أحاديث الكتاب مخرَّجَة في غيره من كتب الحديث المشهورة،
ومذهب الزيدية أو العترة ليس مبنيًّا عليه وحده، بل هو مبني على الاجتهاد
الصحيح، وقد أنبتت أرض اليمن في القرون الأخيرة التي مات فيها العلم الاستقلالي
في أكثر بلاد الإسلام أئمة لا يستطيع أحد رأى كتبهم أن يماري في اجتهادهم أو أن
يفضل عليهم قرينًا من علماء سائر المذاهب في أمصار الإسلام سواء المذاهب
المنسوبة إلى السنة والمنسوبة إلى الشيعة الإمامية، ومن يماري في اجتهاد ابن
المرتضى وابن الوزير والمقبلي والشوكاني؟ دع الذين جمعوا بين إمامة العلم وإمامة
الحكم كالهادي والناصر ويحيى والمتوكل، وهم يشترطون في الإمام الأعظم (خليفة
المسلمين) ما يشترط أهل السنة من الاجتهاد في الدين ولذلك بقي الاجتهاد فيهم،
وسيبقى إن شاء الله تعالى وإن ضعف العلم في هذا الزمان.
وقد طبق الحافظ ابن حجر على أئمتهم حديث (سيبقى هذا الأمر في قريش ما
بقي من الناس اثنان) وهو يدل على اعترافه بصحة إمامتهم، وتبعه في ذلك غيره
كالقسطلاني فذكره في شرحه للبخاري من غير عزو، ولو أنهم كانوا يُعنون بالدعوة
إلى الإسلام وإلى إقامته في البلاد والقبائل التي درست رسومه فيها من جزيرة
العرب وغيرها كما فعل الشيخ محمد عبد الوهاب وخلائفه في نجد وما حولها -
لأحيوا الإسلام وعمت إمامتهم جزيرة العرب كلها، مهما يكن من مقاومة الدولة لهم
فيها.
***
(القصائد والصحائف)
كتابان في مجلد واحد لداعية العصبية العربية أبي الفضل الوليد بن طعمة
الشهير، وقف هذا العربي الأبي الكاتب الشاعر حياته على إحياء العصبية العربية
وتجديد مجد العرب وملكهم، فأنشأ أولاً جريدة سماها (الحمراء) تذكيرًا بمجد العرب
في الأندلس ثم كان يكتب في جريدة النهضة العربية (وكلتاهما صدرتا في
الأرجنتين) ولم تكن الصحيفتان قبل احتجابهما تتسعان لمخدرات أفكاره، فكان
ينشر شعره ونثره في دواوين خاصة، وقد طبع ديوانه الأول الطبعة الثالثة في
(سان باولو - البرازيل) سنة 1915 وكان في سن الحادية والعشرين ثم طبع في
سنة 1916 مجموعة مقالات أدبية سماها (نفحة الورد) ختمها بمقالة في الدعوة
العربية التي تتجلى في مقالات كثيرة منها، وكان يدعو إلى اتحاد النصارى مع
المسلمين في القومية العربية على القاعدة التي يدعو إليها السياسيون المتدينون،
وهي أن الدين لا يمنع من اتفاق المختلفين فيه على مصالحهم الدنيوية المشتركة،
بل قال: إن كانت الوحدة العربية تتوقف على توحيد الدين فهو يدعو أهل ملته
النصارى إلى الإسلام لأجل تحقيق تلك الوحدة.
وأما هذه القصائد والصحائف التي كانت آخر ما نشره من نظمه ونثره فهي
إسلامية عربية يدعو فيها إلى تجديد مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام، فقد
كتب على طرتها أنه (طبعها بنفقته وعنايته لخدمة الدين والأمة والوطن) وأنه
ألفها في سنتي 1337 و 1338 هـ وطبعها في سنة 1339 هـ وقد صرح فيها
بإسلامه وافتتحها بالبسملة، ولكنه بنى دعوته على شفا جرف هارٍ، بنى عليه
قصورًا من الخيال، دونها الحمراء والزهراء، في البهجة والجمال، وحصونًا من
الأماني دونها الأبلق الغرد، بل جزيرة (هيلو جلند) ذلك بأنه اغتر بثورة الحجاز
والمملكة العربية فيه فطفق يدعو سائر العرب والمسلمين إلى مبايعة ملكه، وهو لا
يدري أنه قد قيد نفسه بوصاية دولة إذا مرت ببلد أو أكلت أو شربت فيه أو دفن أحد
من بنيها في أرضه تزعم أنه صار ملكًا لها وزال كل حق لأهله منه إلا ما تمنحه
هي لمن تستخدمهم في استعباده. وهو لا يدري كنه استعداد الحجاز وأهله للحكم
والملك، ولا ولا … إنما هو أديب مخلص، وشاعر مؤثر، وغيور على أمته،
ولكنه أضاع جهاده بوضعه في غير موضعه نتمنى أن لا تثنيه خيبة الأمل من هذا
الطريق على سلوك غيره في جهاده ونصائحه.
__________(24/78)
جمادى الآخرة - 1341هـ
فبراير - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عقود ضمان الحياة والمال من التلف والمكوس
وقراءةالعامي للحديث
(س3-5) من صاحب الإمضاء في بيروت:
حضرة الأستاذ الفاضل واللوذعي الكامل مولانا السيد محمد رشيد أفندي
رضا صاحب مجلة المنار الغراء، لا زال منارًا للإسلام، وكهفًا للأنام، أتقدم إلى
موائد علمكم الشريف بالأسئلة الآتية:
رجل ضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان
(السيكورتاه) على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل
يجوز له شرعًا مطالبة شركة الضمان بهذا المبلغ، ويكون حلالاً له أم لا؟ وهل كل
أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟
وهل الرسوم الجمركية التي تؤخذ على البضائع التجارية هي من المكوس
المحرمة التي لا يجوز أخذها؟
وإذا كانت حراما أيجوز للإنسان دفعها ولا يأثم على ذلك أم لا؟ وهل يجوز
للعامل الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا أن يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع اللحن فيه أم لا؟
تفضلوا بيِّنوا لنا ذلك، والله يجازيكم على نشر أحكام شرعه أحسن الجزاء.
... ... ... ... ... ... السائل محمد طاهر اللادقي ببيروت
(ج) 1- كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة
في الإسلام، فلم يرد بها نص من الشارع ولم يقررها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما
هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر. ومن التزمها في
غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون
ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم
فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي لا يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب
نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه، وليس له أن يخون الحكومة
غير الإسلامية بدارها في المكوس المقررة عندها في نظامها، وأما إذا استطاع
إسقاطها أو تخفيها بغير السرقة والخيانة فلا بأس.
2- وأما المكوس في دار الإسلام فقد ورد في السنة ما يدل على تحريمها،
وهو معروف، وجماهير الفقهاء يحصرون مال الحكومة الإسلامية بما يذكرونه في
كتب الفقه: كالغنائم والخراج وزكاة أموال المسلمين وجزية الذميين، وما يستخرج
من الأرض من الدفائن والمعادن، ولكن بعض المحققين بيَّنوا أنه يجوز للإمام
العادل استحداث ضرائب جديدة إذا توقف عليها القيام بأمر الملك وحاجة الجند.
قال الإمام الشاطبي في المثال الخامس للمصالح المرسلة من كتابه الاعتصام
(ص95 ج2) ما نصه: (إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد
الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند
إلى ما لا يكفيهم (أي بيت المال) فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما
يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر [1] مال بيت المال. ثم إليه النظر في توظيف
ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك … (قال) : وإنما لم ينقل ذلك عن الأولين
لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه
المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت
ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين
يحذرون من الدواهي أو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها،
فضلاً عن اليسير منها) إلخ.
ونقول: إن حاجة الجند في زمن المؤلف رحمه الله، وهو من علماء الأندلس
في القرن الثامن لا تذكر بالنسبة إلى حاجتهم في زماننا هذا الذي تنفق الدول فيه
أكثر أموالها في الجندية وحاجتها، فقد صارت العلوم والفنون والأسلحة البرية
والبحرية والجوية فيها أوسع علوم البشر وأعمالها، ويتعذر إقامة حكومة إسلامية
صحيحة تلتزم أحكام فقه لا تكون مراعاة المصالح المرسلة من قواعده. ولا يكون
إمامها (الخليفة) وأهل الشوى لديه أو بعضهم من العلماء المجتهدين في أحكام
الشرع.
3- يجوز للعامي أن يطالع كتب السنة للاستفادة منها، فإن عوام العرب
يفهمون كثيرًا منها فهمًا صحيحًا، وإذا أراد أن يحفظ حديثًا ليرويه ويفيد الناس به
فعليه أن يعتمد على بعض أهل العلم في ضبط ألفاظه وفهم معناه، ودرجته في
الصحة وما يقابلها.
__________
(1) لعله: يكثر.(24/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التصوير واتخاذ الصور والتماثيل
(س6) ومنه:
الفاضل الهمام مفتي الأنام، مقتفي أثر سيد الأقوام، السيد محمد رشيد أفندي
رضا، دام بسلام.
قال بعض أهل العلم: إن الصورة إذا كانت غير كاملة - أعني مشتملة على
النصف الأعلى للإنسان - لا بأس بها، ولم أعثر على دليل يُجَوِّزُ ذلك من الكتاب
ولا من السنة، بل الأحاديث الصحيحة الموجودة تحرم ذلك قطعًا، وقد ورد عن
الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صور صورة في الدنيا كلف أن
ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) رواه البخاري ومسلم. وقد ورد في
الصحيح: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) أو ما معناه، وفي كتاب
الترغيب والترهيب للشيخ الإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي
المنذري المتوفى سنة 656 هـ ما نصه: (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:
دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة فسألته ما له؟ فقال: لم
يأتني جبريل منذ ثلاث، فإذا جرو كلب بين بيوته فأمر به فقتل فبدا له جبريل
عليه السلام فهش إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك لم تأتني فقال:
(إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير) رواه أحمد ورواته مُحْتَجٌّ بهم في الصحيح،
ورواه الطبراني في الكبير بنحوه اهـ.
فيؤخذ من ذلك تحريم التصوير مطلقًا، سواء كان باليد أو بالآلة الفوتغرافية،
وأيضًا التماثيل النحاسية والجبسية وغيرها، وقد رأينا للأستاذ الإمام مفتي الديار
المصرية سابقًا المرحوم الشيخ محمد عبده رسمًا فوتغرافيًّا لهيئته الكريمة على ما
نعلمه من طول باعه وكثرة بحثه واطلاعه وغيرته على الدين القويم وسلوكه
الطريق المستقيم وتمسكه بالكتاب والسنة وإزالته للشبه والبدع، فلعل فضيلة الأستاذ
الإمام قد اطلع على ما غمض عن الأفهام بجواز حل ذلك، وليس بِخَافٍ أن
الأحاديث لم تقيَّد بزمن مخصوص بل هي عامة في جميع الأزمان، فألتمس من
فضيلتكم الجواب بتفصيل ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد طاهر اللاذقي
(ج) تكرر بيان حكم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل في مجلدات المنار،
ويجد السائل اختلاف أقوال الفقهاء في المجلدين الرابع عشر والخامس عشر،
وفي مجلدات أخرى، وأما توفية المسألة حقها، وتحرير القول في أدلتها والتحقيق
فيها فيجده في ج5، 6 من المجلد العشرين، ولا يمكن إعادة نشره لطوله.
__________(24/95)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
بيع الغائب وما ليس بمملوك
(س7) ومنه: إذا اشترى تاجر بضاعة غير حاضرة من تاجر آخر أو
قومسيونجي ودفع له الثمن أو عربونًا على أن يسلمه إياها بعد شهرين حتى تحضر
من محل موردها، فباعها المشتري قبل حضورها واستلامها لتاجر آخر، وهكذا
بيعت لأشخاص كثيرين قبل حضورها، فهل هذا البيع مباح شرعي أم لا؟ وهل
يجوز لمن اشترى أن يبيعها بثمنها الأصلي أو بربح أو بخسارة للتاجر أو
للقومسيونجي الأول أم لا؟ تفضلوا ببيان ذلك لا زلتم هادين مهديين وللحق
ناصرين.
(ج) بيع البضاعة المملوكة الغائبة جائز شرعًا، وكذا بيع ما هو غير
مملوك إلى أجل إذا عينه بالوصف والقدر المانع للغش وهو الذي يعرف في الشرع
بالسَّلَم، وله شروط يسأل العلماء عنها من لا يعرفها إذا احتاج إليها، ولكن ورد في
حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعًا (من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله) وفي
رواية (حتى يقبضه) وأخرى (حتى يستوفيه) وفي حديث عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده مرفوعًا (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم
يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه
الترمذي منهم وكذا ابن خزيمة، وفي الاحتجاج بحديث عمرو هذا خلاف، ولكن
هذا الحديث عنه قد صرح فيه بالسماع وبذكر جده الأعلى عبد الله بن عمرو
فالخلاف فيه ضعيف. والمراد (بالسَّلف) فيه القرض، إذا بايعه عليه لأجل النقص
من الثمن. قال النووي في شرح حديث مسلم المذكور آنفًا وما في معناه: وفي هذه
الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع، واختلف العلماء في ذلك فقال
الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولاً أو نقدًا
أو غيره، وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع، وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل
شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في المكيل والموزون، ويجوز فيما سواه
ووافقه كثيرون، وقال آخرون: يجوز في المكيل والموزون، ولا يجوز فيما سواهما،
ثم ذكر أن قول عثمان البتي شاذ.
وأقول: إن مذهب الشافعي ومالك هو الوسط المعتدل في المسألة إذا اقتصر
على منطوق الحديث، فإن نوطه هذا الحكم بالطعام ليس عبثًا، فإن قوت الأمة لا
يصح أن تعبث به الحيل التجارية ولا أن يكون من ذرائع الربا الذي حرمه الله فيه
وفي النقدين بالإجماع. والله أعلم وأحكم.
***
قتل الرجل امرأته
(س6) من صاحب الإمضاء في الكويت:
إلى أستاذنا صاحب المنار، أدامه الله:
قتل رجلٌ زوجَه بلا مسوغ، وله بنت قاصر منها، أفتونا برأيكم في
القاتل، وما يكون الحكم عليه في مذهب الشافعي لا زلتم منارًا يُسْتَضَاءُ بكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن النقيب
(ج) جاءنا هذا السؤال فلم نعلم المراد منه، فإن المتبادر منه أن القتل كان
عمدًا، وحكم القاتل المتعمد معلوم من الشرع بالضرورة بشروطه إذا ثبت شرعًا،
فعسى أن يوضح السائل سؤاله، ويصرِّح بالأمر الذي يطلب بيان حكمه.
__________(24/96)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية
(3)
21- مقاصد الناس في الخلافة وما يجب على حزب الإصلاح:
الأمور بمقاصدها، ومقاصد الناس في الخلافة مختلفة، وقلما يقصد أحد منهم
إقامة الخلافة الصحيحة الشرعية التي بيَّنا حقيقتها وأحكامها، ذلك بأن أكثرهم لا
يعقلها، ومن يعقلها من غير الأكثرين يظنون إقامتها متعذرة، وأنه لا مندوحة عن
الرضا بخلافة الضرورة، التي لا تراعى فيها جميع الشروط الشرعية، ولا جميع
ما يجب على الخليفة والجماعة، ثم هم يختلفون في حد هذه الضرورة لاتّساع مجال
الرأي والهوى فيه حتى لا يبقى بينهم وبين من لا يعرفون حقيقة هذا المنصب
ومنافعه كبير فرق، ولو عرفها السواد الأعظم لتمنوها، ولو وضع نظام لإقامتها
ودُعوا إليه لأجابوا، وبذلوا في سبيله ما استطاعوا.
باحثت كثيرًا من خواص المصريين المعممين وغير المعممين في هذه
المسألة فألفيتهم متفقين على أن القصد من تأييد الخلافة الجديدة التي ابتدعتها حكومة
أنقرة الجمهورية في الآستانة - خذلان الدولة البريطانية في دسائسها التي ترمي بها
إلى جعل هذا المنصب الإسلامي الرفيع آلة في يدها فيما كانت تسعى إليه من
اصطناع الملك حسين في مكة والسلطان وحيد الدين في الآستانة وما آل إليه سعيها
من الجمع بينهما بعد تهريبها الثاني إلى مالطة، ولم يقصد أحد من المصريين بتأييد
الخليفة الجديد بالتهنئة ولا المبايعة أن يكون له على بلادهم حق إمام المسلمين
الأعظم على الأمة من كون حكومتهم تابعة له وخاضعة لسلطانه فيما يرى فيه
المصلحة من نصب أمرائها وحكامها وعزلهم وجباية المال وأخذ الجند للجهاد، ولا
غير ذلك من وظائف الخلافة التي ذكرها علماء الإسلام؛ وهذا كما ترى غرض
سياسي فائدته سلبية والباعث عليه الشعور الإسلامي العام الذي ولَّده الضغط
الأجنبي ومحاولة هذه الدولة لاستعباد الشعوب الإسلامية التي بقي لها بقية من
الاستقلال، ولا سيما الترك والعرب، وهو لا يتوقف على وجود الخلافة الصحيحة
ولا الإمام الحق والجماعة، بل هو من قبيل المظاهرة السياسية للزعيم السياسي
سعد باشا زغلول بل دونها قوة، لأجل هذا لا يبالون ما كانت شروط هذه الخلافة
وأعمالها، ومَثَلهم في ذلك سائر مسلمي أفريقية وأمثالهم من المستَذَلين للأجانب،
على أن هؤلاء يتمنون لو يكونون تابعين للدولة التركية ويعلمون أن ذلك متعذر،
ولكن ساسة المصريين لا يتمنى أحد منهم ذلك.
ومسلمو الهند أشد عناية من سائر مسلمي الأرض بهذا الأمر، ونصرهم
للخلافة التركية إيجابي وسلبي لا سلبي فقط، ولا يرضون أن تكون خلافة روحانية
لا حكم لها ولا سلطان، فإذا تساهلوا في بعض شروطها التي يوجبها مذهبهم الذي
يتعصبون له أشد التعصب بشبهة الضرورة، فلا يتساهلون في أصل موضوعها
والمقصد الذي شرعت لأجله، وهو إقامة أحكام الشرع الإسلامي في العبادات
والمعاملات المدنية والسياسية وغيرها - فهم يُحَتِّمون أن يكون الخليفة - وإن متغلبًا -
رئيس الحكومة الإسلامية الأعلى، ثم لا يسألون بعد ذلك أقام أحكام الشرع أم لا،
بدليل ما كان من تعصبهم لعبد الحميد الذي جعل نفسه فوق الشرع والقانون -
فكان مستبدًّا في كل شيء - ثم لمحمد رشاد الذي لم يكن بيده من الأمر شيء وكذا
للاتحاديين الذين سلبوه كل شيء، ثم لوحيد الدين إلى أن فر مع الأجانب مغاضبًا
لقومه ولسائر المسلمين.
فإذا ظل هذا منتهى شوطهم، فلا حياة للخلافة الصحيحة بسعيهم، ولا حاجة
إلى تأليف حزب أو جمعية غير ما عندهم، ويمكن على هذا إرضاؤهم بالخلافة
الروحية بحيلة لفظية، كأن تشترط الحكومة الفعلية على من تسميه خليفة أن يفوض
إليها أمر الأحكام كلها أو ما يسمونه الآن في عرف القوانين بالسلطتين التشريعية
والتنفيذية. وان كان يعلم هو وسائر الناس أن التفويض الصحيح في الشيء إنما
يكون ممن يملكه ويكون مختارًا فيه، وأنه لا يسلبه حق مراقبة المفوض إليه
ومؤاخذته ولو بالعزل، إذا خالف نصوص الشرع أو خرج عن جادة العدل، بل
هذه المراقبة على الوزراء والأمراء والقواد والقضاة واجبة على إمام المسلمين وهو
مقيد فيها، وفيما يترتب عليها بنصوص الشرع وبمشاورة أهل الحل والعقد، لا
مستبد في الأمر.
إذا ظل المسلمون على هذه الحالة فلا إمامة ولا إمام، وقد أني لهم أن
يفقهوا أن جعل ما سموه أحكام الضرورة في خلافة التغلب أصلاً ثابتًا دائمًا هو
الذي هدم بناء الإمامة، وذهب بسلطة الأمة المُعَبَّر عنها بالجماعة، وترتب
عليه تفرق الكلمة، وضعف الدين والدولة، وظهور البدع على السنة. وقد انقلب
الوضع وعم الجهل، حتى صار الألوف من كبراء حكام المسلمين وقوادهم وزعمائهم
في دنياهم يظنون في هذا العصر أن منصب الخلافة وغيره من أحكام الإسلام هي
سبب ضعف المسلمين وأنه لا تقوم لهم بها قائمة، ولا يكونون مع التزامها أمة
عزيزة غنية! والأمر بالضد.
والعلاج الشافي من هذا الداء، والدواء المستأصل لهذا الوباء، هو إحياء
منصب الإمامة، بإعادة سلطة أهل الحل والعقد المعبر عنهم بالجماعة لإقامة
الحكومة الإسلامية الصحيحة، التي هي خير حكومة يصلح بها أمر المسلمين بل
أمر سائر البشر، بجمعها بين العدل والمساواة وحفظ المصالح ومنع المفاسد والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وكفالة القاصرين والعاجزين، وكفاية الفقراء
والمساكين من صدقات المسلمين، ففيها علاج لجميع المفاسد الاجتماعية، في
حكومات المدنية المادية، التي ألجأت الجماعات الكثيرة إلى البلشفية والفوضوية.
فإذا أقيم بناء حكومة منظمة على هذه الأسس والقواعد لا تلبث بعد ظهور
أمرها أن تكون قدوة للأمم الحرة التي أمرها بيدها، ولا يستطيع أكابر مجرميها
أن يمكروا بعد ذلك فيها، ليصدوها عنها ويغووها. وحينئذ ينجز الله وعده لنا، كما
أنجزه لمن قبلنا، في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) .
فالواجب على حزب الإصلاح الذي نقترحه أن يوجه كل قصده وهمه أولاً إلى
بيان شكل لحكومة الخلافة الإسلامية الأعلى بالنظام اللائق بهذا العصر الذي امتاز
بالنظام على سائر العصور، ثم يحاول إقناع أصحاب النفوذ في البلاد الإسلامية
المرجوة لتنفيذه بما فيه من المصالح والمنافع والسعادة، وبتفضيله على جميع أنواع
الحكومات في العالم كله، وبإمكان تنفيذه، ودفع كل ما للمتفرنجين واليائسين من
الشبهات على ذلك، وكل ذلك سهل كما جربنا بأنفسنا.
22 - علاقة الخلافة بالعرب والترك:
ثم ليعلم هذا الحزب أن الفوز في هذا يتوقف على التأليف والتوحيد بين
العرب والترك واتفاقهما عليه - ولو بالجملة - ومراعاة ما قوي في هذا العصر من
العصبية الجنسية مع اتقاء ضررها بقدر الاستطاعة، وكذا عصبية المذهب عند
طائفة الزيدية؛ لا لأن جمع الكلمة ووحدة الأمة من أهم ما يجب من أعمال الخليفة
فقط؛ بل لأن النجاح المطلوب في هذا الأمر يتوقف على تعاون الشعبين عليه.
ذلك أن إحياء منصب الخلافة الصحيحة يتوقف على إحياء الدين والشريعة،
وإنما يكون هذا بالعلم الاستقلالي في الدين المعبر عنه بالاجتهاد المطلق، وهو
يتوقف على إتقان اللغة العربية لأجل فهم الكتاب والسنة، فعلاقة هذا المنصب بلغة
العرب وبتاريخ العرب وببلاد العرب جلي ظاهر، فثم مهبط الوحي، ومظهر
الإسلام الحق، حيث قِبلته ومشاعر دينه، وموضع إقامة الركن الاجتماعي العام من
أركانه، ولا يمكن أن يماري في هذا من يماري في اشتراط النسب القرشي فيها
خلافًا لمذاهب السنة كلها أو العلوي الفاطمي خلافًا لمذاهب الشيعة وخاصة الزيدية.
العرب قوة عظيمة للخلافة، ولكنها غير منظمة ولا متحدة كقوة الترك،
والعمل بالشريعة في حكومات جزيرة العرب المستقلة وأهلها أتم وأكمل منه في بلاد
الترك، ولكن هذه الحكومات غير قادرة الآن على إظهار حضارة الإسلام، ولا على
نشر دعوته الصحيحة على الوجه الذي يحرك إلى النظر كما اشترط بعض علماء
الكلام. والترك أقدر منهم على الأول وأعظم عوناً على الثاني إذا قنعوا بإقامة الإمامة
الحق على صراطها المستقيم. فكل من هذين الشعبين يمكن أن يكمل ما ينقص الآخر
في ذلك مع استقلال كل منهما في إدارة بلاده وسياستها والسيادة فيها وارتباط كل
حكومة مستقلة فيهما - وكذا في غيرهما - بمقام الخلافة مباشرة بالرضا والاختيار،
خضوعًا لحكم الشرع من جهة وانتفاعًا بما يمكن من الوحدة الإسلامية في كل وقت بما
يناسبه من جهة أخرى.
لو اتفق رؤساء حكومة جزيرة العرب على جعل واحد منهم خليفة للمسلمين
وبايعوه مع علماء بلادهم وقضاتها وقوادها لما كان للترك أدنى وجه لمعارضتهم
بخليفة ينصبونه في الآستانة وإن أعطوه حقوق الإمامة الشرعية، وما هم بفاعلين.
بل لو اتفق أهل الحجاز وتهامة ونجد أو أكثرهم على مبايعة إمام اليمن المشهود
له بالعلم والعدالة والكفاية، وأعلن هذا أنه يجري على قواعد الاجتهاد في إمامته
ويقر أهل كل مذهب على مذهبهم - لما استطاع أحد من علماء المسلمين، لا العرب
ولا العجم، أن يطعن في خلافته أو يرجح عليها خلافة أخرى، إلا أن يتبع أحد هواه
فلا يكون لقوله قيمة، ولا سيما إذا قام هذا الإمام بالإصلاح الديني في الحجاز
وسائر بلاد العرب ونظم قوى الإمامة التنظيم الذي تقتضيه حالة العصر، وما هو
بعسير، وإذا فات هذه الإمامة اعتراف بعض الأقطار الإسلامية بها اليوم، فلا
يفوتها ذلك غداً بعد بث الدعوة، ولو في موسم الحج وحده، والدين عون لهم وظهير،
ولكن أكبر مصائب العرب التفرق وحب الرياسة.
ومكانة مصر تلي مكانة جزيرة العرب في هذا الأمر لو كانت مستقلة وأرادت
إقامة الخلافة الشرعية الصحيحة ولكن المتفرنجين فيها كالمتفرنجين في الترك يأبى
أكثرهم ذلك ويجهل قيمته، والدولة البريطانية عدوة الخلافة والعرب تعارض هذا
وذلك بكل قواها، وقد كان نصرها الترك على محمد علي خوفًا من تجدد شباب
الإسلام بدولة عربية، وهي تعتقد أن الترك لا يجددون حياة الخلافة الصحيحة أبدًا،
ولا ينشرون دعوة الإسلام، وكان هذا أحد أسباب تأييدها لهم ولخلافتهم في الجملة،
وكل ما قيل من أن الإنجليز كانوا يسعون لإقامة خلافة عربية في مصر أو الحجاز
قبل الحرب الكبرى فهو كذب محض، ولو فعلت ذلك مصر لاتبعها الحجاز حتمًا،
وكذا سورية إذا استطاعتا بل تتمنى هذه الأقطار اتباعها، ولو بدون إقامة الخلافة
فيها، ولعل أهل السنة وكثير من الشيعة في العراق لا يأبون هذه الوحدة العربية.
يظن بعض الناس أنه ينقص البلاد العربية شيء أهم من هذا الأمر السلبي،
وهو الضعف وفقد الشوكة التي يحمون بها الخلافة ومقام الخلافة، بله القدرة
على ما يقدر عليه الترك من الجهاد والفتح. وهذا الظن باطل، فإن اليمن وحدها قد
حفظت استقلالها ومنصب الإمامة فيها أكثر من ألف سنة، وإن الترك قاتلوا أئمة
اليمن زهاء أربعة قرون وما استطاعوا القضاء على إمامتهم ولا الاستيلاء على
جميع بلادهم، مع كثرة من ظاهر الترك من أهل البلاد بسبب اختلاف المذهب.
ولولا قوة اليمن لاستولى عليها الإنجليز من عهد بعيد كما صرح بذلك أحد ولاة عدن
منهم أمام زعيم عربي حضرمي، قال: لولا هذا الإمام الذي عنده نصف مليون مقاتل
لو قال لهم: ألقوا أنفسكم في النار، أطاعوه - لاستولينا على جميع جزيرة العرب
بغير قتال يذكر.
هذا وإن جزيرة العرب لا يخشى عليها من غير الإنجليز، وهؤلاء لا
يحاولون فتحها بالسيف والنار لموانع كثيرة- منها أنهم لا يقاتلون شعباً قويًّا حربيًّا
بالطبع في بلاد وعرة كثيرة الجبال والأودية خالية من سكك الحديد، وسائر أنواع
المواصلات، ومنها أن قتال أهل هذه البلاد كثير النفقات قليل الربح بل لا ربح فيه
إلا إذا تيسر أخذ البلاد وأُنفق على الإصلاح فيها ملايين كثيرة نقدًا لأجل الربح
نسيئة، وإنما يطمعون في الاستيلاء عليها باصطناع أمرائها وكبرائها بالدسائس
والدراهم، والتدخل فيها بحيل التجارة والامتيازات الاقتصادية بالتدريج، وقد بذلوا
في هذا السبيل أموالاً عظيمة، ولا يزالون يبذلون ولم يستفيدوا به شيئًا ثابتًا يوازيه
ولا قدروا أن يصطنعوا به أحدًا من أولئك الأمراء إلا ملك الحجاز وأولاده، ولن
يستطيع هؤلاء بعد اليوم أن يعملوا لهم شيئًا؛ لأن الأمة العربية قد عرفت كُنْهَ
جنايتهم عليها، فدوام استمساك الدولة البريطانية بهم لا يزيدها ويزيدهم إلا مقتًا عند
العرب وعند سائر المسلمين.
بل نقول: إنه ليس من أصول السياسة البريطانية الفتح بالقوة العسكرية مطلقًا،
ولم تكن الدولة العثمانية هي المانعة للإنجليز من فتح هذه البلاد قبل اليوم، فإن
الدولة لم تكن تستطيع إرسال جيش إليها إلا من طريق البحر، ومتى كان لها
أسطول يقارب أحد الأساطيل البريطانية فيتمكن من إرسال الجند والذخيرة إلى
اليمن وحماية سواحلها وسائر سواحل الدولة من الإنجليز إذا وقعت الحرب بينهما؟
ولماذا لم تَحْمِ مصر أو تُخرجهم منها؟
وأما كون أهل جزيرة العرب لا يستطيعون الجهاد بقصد الفتح كالترك وهو ما
فضَّل به الترك بعض الباحثين معنا في المسألة فيقال فيه: إن من فضل الله على
جزيرة العرب أنه ليس فيها شعوب أجنبية مختلفة في الجنس أو الدين يتحاكون
بالعرب فيغرونها بفتح بلادهم، وأن الترك لا يرون شيئًا أسلم لهم في بلادهم من
إخراج الشعوب المخالفة لهم في الجنس والدين ليستريحوا من هذا التحاك وغوائله،
ولن يقدموا على قتال أحد من جيرانهم لأجل فتح بلاده- وقد كانت حروبهم في
القرون الأخيرة كلها دفاعًا للمعتدين أو مقاومة للثائرين، ولم يكن شيء منها لأجل
سعة الملك ولا لأجل نشر الدين، وهم أحوج الناس إلى الاستراحة من القتال
والانصراف إلى عمران بلادهم وما يتوقف عليه من العلوم والفنون، والطامعون
في سعة الملك منهم إنما يطمعون في ضم الشعوب الإسلامية الشرقية إليهم التي
يمكنهم أن يجنسوها بجنسيتهم اللغوية كالكرد والجركس والتتار وسائر شعوب
الجنس الطوراني. وأما الدعوة إلى الإسلام من غير قتال فالعرب أقدر عليها من
الترك وهم دعاة بالطبع، وقد أسلم الملايين من سكان إفريقيا وجزائر المحيط
الجنوبي بدعوة تجار العرب والدراويش السائحين منهم، وحرية الاعتقاد في أكثر
حكومات هذا العصر تغني خليفة المسلمين عن القتال لحماية الدعوة وحرية الدين
كما كان عليه خلفاء العرب من الأولين.
إننا على علمنا بما ذُكر كله نود أن يتعاون الترك والعرب على إحياء منصب
الخلافة، وسنذكر ما يمتاز به الترك على العرب في هذا المقام؛ ليُعلم أن كلاًّ من
الشعبين عاجز بانفراده قوي بأخيه على النهوض بأعباء هذا الإصلاح العظيم،
الجدير بأن يغير نظام العالم وينقذ الشرق والغرب من الهلاك. وما نقترحه من
وسائل التعاون والاتفاق خاصة بما سيتقرر من الخلافة الصحيحة الدائمة مع
السكوت عن التعدد المعروف في الحال الحاضرة في الشعبين، وذلك بأن يكون
الذين يُعلَّمون ويُرَبَّون ليُرَشَّحُوا للانتخاب الشرعي بالشورى من بيوتات شرفاء
قريش وسادتها، وأن تكفل الدولة التركية هذا الاستعداد وتشرف على جميع شئونه
حتى لا يكون للتنافس فيه بين الشعبين أدنى مجال، بل حتى يكون إحياء هذا المنصب
من أكبر أسباب الاتحاد والتعاون بينهما، وإذا شاء الترك حينئذ أن يكون مقام الخليفة
في بلادهم، فعلى حزب الإصلاح أن يقنع العرب بذلك، وإن كنا نرى أن الأجدر
بالقبول الآن أن يكون في منطقة وسطى بين بلاد الشعبين، على ما سنفصله بعد.
والقسمة في مسألة مقام الخليفة ثلاثية، وهي إما أن يكون في بلاد العرب،
أو الحجاز خاصة، وإما في بلاد الترك أو الآستانة خاصة، وإما في منطقة وسطى
مشتركة.
23- جعل مركز الخلافة في الحجاز وموانعه:
قد علمنا مما تقدم أن بلاد العرب بل جزيرتهم بل الحجاز منها هو أولى بلاد
الإسلام بأن يكون موطن الخلافة الإسلامية، ويزداد هذا ظهورًا ببيان الإصلاح
الديني الذي يجب على الخليفة في هذا العصر، ولكن في الحجاز موانع تحول اليوم
دون إمكان وجود الخلافة الصحيحة التي يرجوها المسلمون فيه حتى في حاله
الحاضرة التي لا يرضى أهل قطر إسلامي آخر معها أن يكون تابعًا له، فكيف إذا
أريد أن يسوس بلاد العرب كلها أو يدير شئون غيرها من البلاد الإسلامية - فكيف
إذا أريد أن يكون المثل الأعلى لأفضل حكومة لا يُرجى إصلاح حال البشر بدونها؟
وإننا نذكر المهم منها - والحال هذه - وهو:
(1) أن الملك المتغلب على الحجاز لهذا العهد يعتمد في تأييد ملكه على
دولة غير إسلامية مستعبده لكثير من شعوب المسلمين وطامعة في استعباد غيرهم
ولاسيما العرب، وقد أوثق نفسه معها بعقود بل قيود اعترف لها فيها بأن الأمة
العربية منها بمنزلة القاصر من الوصي، وأن لها حق تربيتها وحمايتها من الداخل
والخارج حتى حق دخول بلاده بالقوة العسكرية لكبح الثورات الداخلية، ومن شاء
فليراجع نص هذه الوثائق في المجلد الثالث والعشرين من المنار (ص 612-
624) .
(2) أن هذا الملك قد لقب نفسه بملك العرب، وهو يسعى لأن يُعترف له
بأنه هو الزعيم الأكبر للأمة العربية والممثل لجميع حكوماتها المستقلة لتكون كلها
موبقة وموثقة ومرهقة بتلك العهود السالبة لاستقلالها على أن كل حكومة من
الحكومات العربية المجاورة له أقوى وأصلح من حكومته من كل وجه وغير مقيدة
نفسها بعهود سالبة للاستقلال
(3) أنه قد رضي أن يجعل ولديه رئيسين في بعض البلاد العربية التي
استولت عليها الدولة الأجنبية المذكورة تابعين لوزارة الاستعمار في تلك الدولة
كالكثير من مستعمراتها التي لها رؤساء وطنيون، فكانوا بذلك أول من دان وأعان
دولة أجنبية غير مسلمة على استعمار بلاد العرب.
(4) أن حكومته استبدادية شخصية غير مقيدة بشيء فهو يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد، مثال ذلك ما نسمعه وما نراه في جريدتها المسماة بالقبلة من أخبار
المصادرات المالية والغرامات الرسمية، وغير ذلك مما لا نعرف له أصلاً في
الشرع الإسلامي. وأما القوانين الوضعية فهو يحرمها ويكفر العاملين بها! !
(5) أن هذه الحكومة خصم لكل عِلم يُعين على الإصلاح الديني والدنيوي
فهي على كراهيتها للعلوم والفنون العصرية حتى تقويم البلدان تمنع كثيرًا من الكتب
الشرعية ككتب شيخي الإسلام المصلحين الكبيرين ابن تيمية وابن القيم وغيرهما
من الحجاز.
(6) ما ثبت بالدلائل المختلفة من حرص أهل هذا البيت على الخلافة
والإمارة والملك، ولو في ظل الإمارة الأجنبية غير الإسلامية، وقد سبق في
المسألة العاشرة من هذه المباحث أن طالب الولاية لا يُولَّى.
(7) أن أهل هذا البيت فاقدون لأهم شروط الخلافة ولا سيما العلم الشرعي
بدليل ما نقرأه في منشورات الملك الرسمية وبلاغات حكومته من الأغلاط اللغوية
والآيات القرآنية المحرفة والأحاديث الموضوعة على الرسول صلى الله عليه وسلم
والتفاسير المخالفة للغة ولإجماع المفسرين وغير المفسرين، مع الإصرار على ذلك
وعدم تصحيحه الدال على أنه لا يوجد عالم في الحجاز كله يتجرأ على تصحيح آية
أو حديث أو حكم شرعي ينشر في جريدتهم التي هي عنوان الجهل. ونسكت عما
نعلمه باختبارنا ورواية الصادقين المختبرين أيضًا.
(8) أن معظم العالم الإسلامي يمقت حكومة الحجاز الحاضرة، وإننا نرى
الطعن فيها في صحف مصر وتونس والجزائر وجاوه والترك والهند وغيرها
على أن أكثر أصحاب هذه الصحف والكاتبين فيها لا يعلمون كل ما نعلم من سوء
حالها.
(9) أن الذين يسعون لإحياء منصب الخلافة في الإسلام يرمون به إلى
ثلاثة أغراض:
(أحدها) إقامة حكومة الشورى الإسلامية كما شرعها الله لتكون حجة على
البشر أجمعين كما تقدم.
(ثانيها) إعادة مدنية الإسلام بالعلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار
القوة والعمران، تلك المدنية الجامعة بين نعم الدنيا المادية، وبين الفضائل الدينية
الروحية، التي تحل عقد جميع المشكلات الاجتماعية.
(ثالثها) الإصلاح الديني بإزالة الخرافات والبدع وإحياء السنن وجمع الكلمة
وشد أواخيّ الأُخوة الإسلامية وسائر الفضائل الإنسانية، وليس في حكومة الحجاز
استعداد لهذه المقاصد العالية، ولا يرجى أن يرضى البيت الحاكم بالوسائل العلمية
والعملية التي يتوقف عليها هذا الإصلاح العظيم.
(10) أن الحجاز فاقد لما تتوقف عليه إقامة الخلافة من الشوكة والثروة
فهو لا قوام له بنفسه، فكيف يقوم بأعباء هذا المنصب العظيم؟ ولا يرضى أحد من
مسلمي العرب المجاورين له أن يتبعوا حكومته الاستبدادية الضعيفة، فكيف يرضى
بذلك غيرهم؟ .
24- إقامة الخلافة في بلاد الترك وموانعها ومرجحاتها:
لجعل الخلافة الصحيحة في بلاد الترك موانع ترجع إلى أمرين كليين:
(أحدهما) وهو أهمهما ما يُخشى من امتناع أكثر الزعماء العسكريين
والسياسيين منه لما فيه من توحيد السلطة العامة في شخص الخليفة، وما تتوقف
عليه الخلافة من إحياء اللغة العربية في بلاد الترك، وفروع ذلك وأسبابه معروفه.
(وثانيهما) معارضة الأمة العربية ولا سيما في الجزيرة وما يتبعها، ولكن
المعارضة لا تكون مؤثرة وثابتة إلا إذا جُعلت الخلافة صورية كما كانت. أو
روحية كما هي الآن. ولعلهم لولا إرادة جعلها مصلحة دعاية (بوربغندة) للدولة
التركية لما اختاروا لها الآستانة، مدينة الفخفخة الباطلة والعظمة الزائلة التي
صارت طرفًا في البلاد الإسلامية ومهددة بحرًا وبَرًّا. فإذا كانت لا تصلح أن تكون
عاصمة للدولة التركية فلن تصلح للخلافة الإسلامية بالأولى.
وأما إذا قبل أولو الأمر من الترك أن يحيوا منصب الخلافة الحق فالرجاء في
تحقيق أغراضها ومقاصدها الثلاثة يكون أتم وأسرع وتقوم بها الحجة على العرب
إلا إذا اجتمعت كلمة أمراء الجزيرة على مبايعة واحد منهم؛ وذلك غير منتظر لما
تقدم بسطه فيكون الرجحان لمن يؤيده الترك بالأسباب الآتية:
(1) أن الترك الآن في موقف وسط بين جمود التقاليد وطموح التفرنج:
جمود عرب الجزيرة الذي جعل الدين مانعًا من العلوم والفنون التي ترقى بها
حضارة الأمة وثروتها، وعزة الدولة وقوتها. وطموح التفرنج الذي يراد به انتزاع
مقومات الأمة الإسلامية الدينية والتاريخية ومشخصاتها، واستبدال مقومات أمة
أخرى ومشخصاتها بها. وحضارة الإسلام وحكومة الخلافة هي وسط بين الجمود
وبين حضارة الإفرنج المادية التي تفتك بها ميكروبات الفساد وأوبئة الهلاك، فهي
عرضة للزوال، فكيف حال من يقلدها تقليدًا تأباه طبيعة أمته وعقائدها.
(2) أن ما ظهر من عزم الحكومة التركية الجديدة وحزمها وشجاعتها وعلو
همتها وإقدامها - يضمن بفضل الله تعالى نجاحها في إقامة هذا الإصلاح الإسلامي بل
الإنساني الأعظم بإقامة حكومة الخلافة الجامعة بين القوة المادية والفضائل الإنسانية
المغنية للبشر عن خطر البلشفية والفوضوية؛ لأنها كافلة لكل ما تطلبه الاشتراكية
المعتدلة من الإنصاف والانتصاف من أثرة أرباب رءوس الأموال. وهي بهذه
الصفات أقدر على اتقاء كيد أعداء الإسلام الذين يقاومون الخلافة جهد طاقتهم.
(3) أن الدولة التركية الجديدة هي الدولة الإسلامية التي برعت في فنون
الحرب الحديثة، ويرجى إذا نجحت فيما تعنى به من الأخذ بوسائل الثروة
والعمران أن تمكنها مواردها من الاستغناء عن جلب الأسلحة وغيرها من أدوات
الحرب بصنعها في بلادها فتزداد قوة على حفظ حكومتها وبلادها، وتكون قدوة
لجيرانها وأستاذًا لهم.
(4) أن جعل مقام الخليفة في بلاد الترك أو كفالتهم له يقوي هداية الدين
في هذا الشعب الإسلامي الكبير ويحول دون نجاح ملاحدة المتفرنجين وغلاة
العصبية الجنسية في إبانته من جسم الجامعة الإسلامية. فيظل سياجًا للإسلام
وعضوًا رئيسيًّا في جامعته الفضلى.
(5) لئن كان جهل العرب والترك في الزمن الماضي بمعنى الخلافة
ووظائفها - ولا سيما جمعها لكلمة المسلمين - سببًا من أسباب تقاطعهما وتدابرهما
التي انتهت بسقوط السلطنة العثمانية وباستيلاء الأجانب على قسم كبير من بلاد
العرب والتمهيد للاستيلاء على الباقي فإن ما نسعى إليه الآن سيكون إن شاء الله
تعالى أقوى الأسباب لجمع الكلمة والتعاون على إحياء علوم الإسلام ومدنيته مع
استقلال كل فريق بإدارة بلاده مستمدًّا السلطة من الخليفة الإمام المجتهد في علوم
الشرع الإسلامي المنتخَب بالشورى من أهل الحل والعقد من العرب والترك
وغيرهما من الشعوب الإسلامية بمقتضى النظام الذي يوضع لذلك.
25- إقامة الخلافة في منطقة وسطى:
إنني ضعيف الأمل في كل من العرب والترك، لا أرى أحدًا منهما قد ارتقى
إلى هذه الدرجة بنفسه، ولا أرى آية بينة على استعدادهما لما اقترحت من تعاونهما
عليه. ولست ممن يدع لليأس مسربًا يسرب فيه إلى قلبه. لهذا أقترح على حزب
الإصلاح أن يسعى لإقناع الترك أولاً بجعل الخلافة في مركز الدولة، فإن لم
يستجيبوا فليساعدوا على جعلها في منطقة وسطى من البلاد التي يكثر فيها العرب
والترك والكرد، كالموصل المتنازَع عليها بين العراق والأناضول وسورية، ويضم
إليها مثلها من البلاد المتنازع فيها بين سورية والأناضول وتجعل شقة حياد ورابطة
وصل معنوي في مظهر فصل جغرافي، فتكون الموصل اسمًا وافق المسمى.
ألا فليجربوا إن كانوا مرتابين في عاقبة هذا الأمر العظيم وليفوضوا إلى حزب
الإصلاح وضع النظام لإقامة الإمامة العظمى في هذه المنطقة وتنفيذ أحكامها
ومناهجها الإصلاحية الإسلامية فيها، ثم لا يتبعها أحد من البلاد التي حولها إلا بطوعه
واختياره، فإذا رضيت الدولة التركية بذلك على أن تكون كافلة له وذائدة عنه فالمرجو
أن يرضى العرب والكرد به في هذه المنطقة وما يجاورها، على أن يتفق الجميع من
حولهم على احترامها فلا تَعتدِي ولا يُعتدَى عليها. وإلا وجب السعي لرد الأمر إلى
معدنه، وإقراره في مقره، بعد إزالة الموانع وتهيئة الوسائل. فإن بدأ ناقصًا ضعيفًا،
فسيكمل ويكون قويًّا، وقد (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) و (يأرز بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) (ولا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة بأمر الله
لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون) كما ثبت في
الأحاديث الصحيحة.
26- نموذج من النظم الواجب وضعها للخلافة
أول ما يجب على الحزب الذي يولي وجهه شطر هذا الإصلاح العظيم أن
يضع نظامًا أساسيًّا لحكومة الخلافة على أتم الوجوه التي تقتضيها حال العصر في
حراسة الدين وسياسة الدولة أو الدول الإسلامية وإصلاح الأمة، وبرنامجًا لتنفيذ
هذا النظام بالتدريج السريع الذي يدخل في الطاقة، وكتابًا في الأصول الشرعية
للقوانين الإسلامية، تقوم به الحجة على كل من يزعم عدم صلاحية الشريعة
للحضارة والعمران في هذا العصر.
وبعد وضع النظام التام لإقامة الإمامة على أساسها، وقيامها بوظائفها وأعمالها،
يوضع نظام مؤقت لإمامة الضرورة، ويشرع في تنفيذ النظامين معاً.
مثال تفصيلي من هذا الإجمال: تنشأ مدرسة عالية لتخريج المرشحين للإمامة
العظمى وللاجتهاد في الشرع الذين ينتخب منهم رجال ديوان الخلافة الخاص، وأهل
القضاء والإفتاء وواضعو القوانين العامة ونظم الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه،
وإزالة البدع والخرافات اللاصقة بأهله. ومما يُدَرَّس في هذه المدرسة أصول
القوانين الدولية وعلم الملل والنحل، وخلاصة تاريخ الأمم، وسنن الاجتماع،
ونظم الهيئات الدينية كالفاتيكان والبطاركة والأساقفة وجمعياتهم الدينية وأعمالها-
فمتى يُخَرَّجُ من هذه المدرسة في الزمن المعين أفراد مستجمعون لشرائط الخلافة،
ومن أهمها العلم الاستقلالي الاجتهادي والعدالة - تزول ضرورة جعل الخليفة جاهلاً
أو فاسقًا.
فإذا انتُخب أحد المتخرجين في هذه المدرسة انتخابا حرًّا من قِبَل أهل
الاختيار، الذين يُتَحرى فيهم أن يكونوا من جميع الأقطار الإسلامية ولا سيما
المستقلة منها بموجب رضا أهل الحل والعقد، ثم بايعه من سائر أهل الحل والعقد
من يحصل بهم الثقة التامة للأمة كافة - قامت الحجة على كل فرد وجماعة أو شعب
بأنه هو الإمام الحق النائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين
وسياسة الدنيا، وأن طاعته فرض شرعي في كل ما هو غير معصية قطعية ثابتة
بنص الكتاب أو السنة الصحيحة من المصالح العامة، ولا تجوز مخالفته في شيء
من ذلك باجتهاد يعارض اجتهاده ولا تقليد مجتهد آخر، فإن اجتهاده في المصالح
العامة مرجح على اجتهاد غيره متى كان من أهل الاجتهاد كما هو الواجب. وإنما
يتبع كل امرئ اجتهاد نفسه أو فتوى قلبه وراحة وجدانه فيما يختلف فيه اجتهاد
العلماء من الأمور الشخصية الخاصة به ككون هذا المال حلالاً أو حرامًا.
ويجوز لكل مسلم مراجعة الخليفة فيما يخالف فيه النص، ولأهل الحل والعقد
مراجعته في رأيه واجتهاده المرجو للمصلحة العامة. ومَثَل ما يُرجِّح اجتهادَه فيما
ذُكر كَمَثَل حُكم الحاكم، فإنه يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية، ولكن من علم أنه
قضي له بغير حقه لا يحل له ديانة أن يأخذه؛ لأن علمه بالواقع أرجح من ظن
القاضي الذي هو اجتهاده في الحكم أو في تطبيقه على قضية الدعوى كما ورد في
الحديث الصحيح، على أن الحنفية يقولون بنفوذ حكم الحاكم في الظاهر والباطن
فيحل عندهم ديانة أن تأكل ما حكم لك به القاضي الشرعي؛ وإن كنت تعلم أن
المال ليس لك.
بعد هذا أذكر الحزب بأهم البرامج والنظم التي يتوقف عليها العمل وهي:
(1) برنامج المدرسة العليا التي يخرج فيها الخلفاء والمجتهدون.
(2) برنامج انتخاب الخليفة.
(3) برنامج ديوان الخلافة الإداري والمالي، ومجالسه:
(أ) مجلس الشورى العامة.
(ب) مجلس الإفتاء والتصنيفات الدينية والشرعية والنظر في المؤلفات.
(ج) مجلس التقليد والتفويض لرؤساء الحكومات والقضاة والمفتين.
(د) مجلس المراقبة العامة على الحكومة.
(هـ) مجلس الدعوة إلى الإسلام والدعاة.
(و) مجلس خطابة المساجد والوعظ والإرشاد والحسبة.
(ز) مجلس الزكاة الشرعية ومصارفها.
(ح) مجلس إمارة الحج وخدمة الحرمين الشريفين.
(ط) مجلس قلم الرسائل.
27- نهضة المسلمين وتوقفها على الاجتهاد في الشرع:
لا أرى من المصلحة أن أنشر كل ما عندي من العلم والرأي التفصيلي في
وسائل تجديد الإمامة الإسلامية العظمى ومقاصده ومنافعه؛ لأنني أخشى أن يستفيد
منه أعداء الإسلام ما يكونون أقدر به على قطع الطريق علينا من حيث لا ننتفع
نحن به كما يجب. فإن استعدادنا لهذا الإصلاح لا يزال ضعيفاً جدًّا: رئم المسلمون
للضيم، ورزئوا بالضعف، ورضوا بالخسف، ولم يبق لشعب منهم همة في خير
ولا شر، حتى كان هذا التطور الجديد في بعض شعوبهم في هذا العصر، وقد كان
جل سببه شدة ضغط الأجانب عليهم، لا رجوعهم إلى هداية دينهم، ولا العلم بأنهم
فقدوا بتركها ما كانوا قد أصابوه بهديها، وأنهم لو أقاموا شرعه وامتثلوا أمر الله في
قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) لما سبقهم أحد إلى صنع
المدافع والقذائف وسائر أنواع السلاح. ولا إلى بناء الجواري المنشآت في البحر
كالأعلام، والعلوم والفنون التي تتوقف عليها هذه الأعمال، ولما فاقهم أحد في فنون
الحضارة، وزينة الدنيا وطيبات المعيشة، وهم يقرءون في محكم كتابهم المنزل:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) ولو جاءت هذه النهضة
بهداية الإسلام - وهو أهل لما هو أرقى منها - لكانوا في المَدَنِيَّةِ أسرع سيرًا، وأبعد
شوطًا، ولما احتاج إحياء منصب الخلافة إلى سعي ودأب، ولا لتأليف حزب، على
أن الشعور الإسلامي من أقوى الوسائل المعنوية للنهضة، وإن كان بعض العاملين فيها
ليس لهم حظ منه؛ بل هم حرب له، بيد أن أكثرهم يعلم أنهم لا بد لهم من مراعاته
ومداراة أهله؛ لأنهم سواد الأمة الأعظم إلى أن يربوا جيلاً جديدًا يغرسون في أنفس
نشئه الشعور الجنسي المحض؛ ويكون هو صاحب الرأي العام في الشعب.
هذا ما نعلمه بالخبر من أمر النهضة في مصر والترك، بل قيل لنا: إن
نهضة الأفغان الجديدة تغلب عليها صبغة المدنية لا الصبغة الدينية، وهم أشد
الشعوب الإسلامية الناهضة تدينًا، وأضعفهم تفرنجًا، وقد يصح أن يقال: إنهم
ليسوا من التفرنج في شيء، فإننا نعني به الافتتان بتقليد الإفرنج في مظاهر حياتهم
وعاداتهم وشكل حكوماتهم، لا العلوم والفنون والصناعات والنظم التي راجت
سوقها في هذا العصر عندهم، بعد أن كنا نحن أحق بها وأهلها، في قرون طويلة
كانوا فيها محرومين منها. وخير ما بلغنا عن الأفغان في نهضتهم هذه أنهم يعنون
باقتباس الفنون الزراعية والصناعية من أوروبا دون الفنون الأدبية والعلوم القانونية،
فإن لهم في آداب الإسلام وشريعته غنًى عن ذلك، ولا سيما إذا سلكوا فيها مسلك
العلم الاستقلالي المعبر عنه بالاجتهاد. فالترقي الإسلامي يتوقف عليه في تجديده
مثلما توقف عليه في مبدئه. كما أبدأنا وأعدنا مرارًا ولا بد من التكرار الكثير في
مثل هذا. ولو كان الأفغان متصلين بجزيرة العرب وجعلوا العربية لغتهم الرسمية
لكانوا أجدر الشعوب الإسلامية بالسبق إلى إحياء منصب الخلافة، على أن الرجاء
في تجديدهم مدنية الإسلام في الشرق عظيم، ولا غرو فموقظ الشرق وقائده في هذا
العصر قد خرج من بلادهم.
لا يمكن للمسلمين أن يجمعوا بين هداية الإسلام وحضارته من حيث هو دين
سيادة وسلطان إلا بالاجتهاد في شرعه الواسع المرن، فترك الاجتهاد هو الذي رد
بعضهم إلى البداوة التي قضى عليها أو إلى ما يقرب منها، وطوح ببعضهم إلى
التفرنج والإلحاد والسعي إلى التفصي من الدين.
مثال ذلك: أن الترك نصبوا خليفة متقنًا لصناعتي التصوير والموسيقى
وللعزف بالآلات الوترية، وكل من هذين العملين محرم ومسقط للعدالة في المذاهب
الأربعة، ومن أشدها فيه مذهب الحنفية الذي ينتمي إليه الشعب التركي، وقد ردت
المحكمة الشرعية بمصر شهادة أستاذ موسيقى (موسيقار) من عهد قريب. ولكن
لكل من المسألتين تخريجًا في الاجتهاد كما سنشير إليه في هذا البحث. وقد سئل
الغازي مصطفى كمال باشا في أثناء سياحته الأخيرة في الأناضول عن صنع
التماثيل ونصبها في البلاد أليس محرمًا شرعًا؟ - وقد روي أنهم سينصبون له
تمثالاً في أنقرة - فأفتى بأنه غير محرم اليوم كما كان محرمًا في أول الإسلام
وقرب العهد بالوثنية وجزم بأنه لا بد للأمة التركية من الاشتغال بنحت التماثيل؛
لأنه من فنون حضارة العصر الضرورية، واستشهد أو استدل على حله بما رأى
في مصر من التماثيل.
وقد أفتى لنفسه وللحكومة في مسألة اختلاط النساء بالرجال، ومشاركتهم لهم
في الأعمال، بل سن فيها سنة جديدة إذ عقد له في أزمير على فتاة متفرنجة
حضرت مجلس العقد بنفسها ووقفت تجاهه فيه وسألها القاضي عن رضاها به بعلاً
فأجابت، وسجل زواجهما وطفقت بعد تسافر معه بزي الفرسان، وتقابل معه من
يلقى من الرجال، وقد صرح في مسألة النساء وما سَيَكُنَّ عليه في الأمة التركية
الجديدة بما لا يرضاه كله رجال الدين والمتدينون، ولا يزال يسئل عن المشكلات
المتعلقة بشئون الأمة الدينية فيفتي برأيه فيخطئ ويصيب. ولا بد في أمثال هذه
المسائل من الموقف الوسط بين التقحم الجديد والجمود التليد، وإنما يكون بالاجتهاد
دون التقليد.
مصطفى كمال باشا ذكي فصيح، ولكنه غير أصولي ولا فقيه، وهو يفتي في
أمثال هذه المسائل الدينية، بما أوتي من الجرأة العسكرية، والإدلال بزعامته
السياسية. فيقبل منه العوام، ولا يتجرأ عليه الفقهاء. ولكن سير حكومته على هذه
السبيل - وهي شعبية إسلامية لا يمكن أن تدوم بتأثير سلطة شخصية، فلا بد لها
من إحدى ثلاث: إما اتباع فقهائهم الحنفية بالجري على الراجح في كتب الفتوى-
وهذا ما لا يرضاه أحد من طلاب المدنية العصرية الغلاة ولا المعتدلين- وإما أن
يرفضوا كون الحكومة إسلامية بحجة الفصل بين الدين والسلطنة، وهذا ما يتمناه
ملاحدة المتفرنجين، ولكن لا سبيل إليه فإن سواد الأمة الأعظم مسلمون وهم
أصحاب السلطة وسيكون لهم الرأي الغالب في الجمعية الوطنية، فلم يبق إلا الثالثة،
وهي سبيل العلم الاستقلالي الاجتهادي الذي نَوَّهْنَا به فهو الذي يثبت لهذه الحكومة
وللعالم كله أن الشريعة الإسلامية أوسع الشرائع وأكملها، وإن من أصولها حظر كل
ما ثبت ضرره، وإباحة ما ثبت نفعه، وإيجاب ما لا بد منه، وأن المحرم فيها
بالنص يباح للضرورة، والمحرم لسد ذريعة الفساد يباح للمصلحة الراجحة.
28- أمثلة لحاجة الترك إلى الاجتهاد في الشرع:
وهاهنا تأتي مسألة التصوير فهو قد حرم لعلة معروفة، وهي سد ذريعة
الوثنية، ومضاهاة خلق الله، فإذا احتيج إليه لمصلحة راجحة في العلم كتصوير
الأبدان المساعد على إتقان علوم الطب والجراحة، أو تحقيق المسميات اللغوية من
الطير والحيوان لمجرد ضبط اللغة، ولما يترتب عليها من المسائل الشرعية
كمعرفة ما يؤكل وما لا يؤكل عند من يحرمون أكل السباع المفترسة منها، أو
المسائل العلمية الكثيرة - لمصالح عسكرية أو إدارية كتصوير الجواسيس والجناة -
فكل ذلك يباح شرعًا حيث لا شبهة عبادة، ولا قصد إلى مضاهاة خلق الله، وقد
بيَّنَّا ذلك بالتفصيل في فتاوى المنار [1] ، وهو مما لمحه مصطفى كمال باشا لمحًا،
فأفتى بالجواز المطلق طردًا وعكسًا، وهو ما لا يتم مطلقًا، واستدلاله على جواز
نصب التماثيل لكبراء الرجال بعمل الحكومة المصرية يشبه استدلاله على صحة
سلب السلطة من الخليفة الآن بسلبها من الخلفاء العباسيين- ليس من الدين في شيء،
فإن الحكومة المصرية غير مقيدة بالشرع في جميع أعمالها، ولم يكن نصبها
لشيء من هذه التماثيل بفتوى من علماء الأزهر ولا غيرهم، ولو استفتتهم لما أفتوا،
لا لأن نصب التماثيل محرم في الإسلام فقط، بل لأن فيه إضاعة كثير من مال
الأمة في غير مصلحة أيضًا، وهم لا يقبلون شبهة من يدعون أن نصب التماثيل
للرجال العظام ينفخ في روح الأمة الرغبة في التشبه بهم، والقيام بمثل أعمالهم،
لأنهم يجزمون بأنه لم يخطر في بال مصري قط أن يكون كمحمد علي باشا أو
إبراهيم باشا أو سليمان باشا الفرنسي ذوي التماثيل المنصوبة بمصر والإسكندرية.
وبأن التماثيل قد تنصب لمن يكون قدوة سيئة أيضًا، وبأنها من تقليد الإفرنج في
أمر من أمور زينة مدنيتهم التي تقتضي نفقات عظيمة لا تقدم عليها إلا الأمم الغنية
ذات الثروة الواسعة، فلو كان مباحًا مطلقًا في شرعنا لكان الأولى بنا تركه لأمرين
يرجحان به:
(أحدهما) الاقتصاد في المال ونحن لا نزال شعوباً فقيرة.
(وثانيهما) تحامي التقليد لهم فيما هو من مشخصات حضارتهم التي فُتِنَّا بها
فكانت من أسباب استكبارنا لهم واحتقارنا لأنفسنا، وقد نهانا نبينا صلى الله عليه
وسلم عن التشبه بغيرنا لنكون مستقلين دونهم بل قدوة لهم. وهذه مسألة اجتماعية
مهمة فصلنا القول في مضارها مرارًا.
وقول مصطفى كمال باشا: إن الأمة لا بد لها من إتقان صناعة نحت التماثيل.
يجاب عنه بأن الأمة تاركة لصناعات كثيرة واجبة شرعًا، وهي كل ما تتوقف
عليه المعيشة والقيام بالواجبات الذاتية كالملابس والأسلحة والطيارات والبوارج
الحربية وغير ذلك. فلا يصح لتارك الضروريات والحاجيات القانع بأن يكون فيهما
عالة على الأجانب أن يهتم بأمر الزينة المحضة، ولو لم تكن ضارة في دين ولا
دنيا!
وأما مسألة الموسيقى فليس لمحرميها من النصوص الصحيحة مثل أحاديث
تحريم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل، بل هي مسألة خلافية. وقد فصلنا في
المنار القول في أدلة الذين حظروا سماع الغناء والمعازف (آلات الطرب) من
جهة الرواية، ومن جهة الدراية والاستنباط، وحقَّقْنا أن الأصل في المسألة الإباحة،
وأن المحرم منه ما كان ذريعة إلى معصية أخرى كمن يغريه السماع بشرب
الخمر أو غيره من الفسق وأن الإسراف فيه مكروه [2] .
وأما مسألة النساء فأحكام الإسلام أعلى الأحكام وأعدلها وأفضلها فيها، وأكثر
ما يستنكره العقلاء الفضلاء من مسلمات المدن المحجبات فهو من العادات، فإذا
كان طلاب تغيير هذه العادات يحكمون الدليل في ترك ما هو ضار منها والأخذ بما
هو نافع من غيرها فسيرون الشرع الإسلامي أقوى نصير لهم فيه، وليس الفصل
بين الضار والنافع في هذا وأمثاله بالأمر السهل، بل هو يحتاج إلى تدقيق وبحث
لاختلاف الآراء فيه باختلاف الأهواء والتربية كما يُعلم من المثل الآتي: -
تصدى أحد أساتذة المدارس الأميرية في هذه البلاد لامرأة متزوجة يتصباها
وكان من تصبيه لها أن قال لها وهي مارة في الطريق ما معناه: إن جمالها قد حرم
عليه نوم الليل، فقاضاه زوجها إلى المحكمة الأهلية طالبًا عقابه على تصبي زوجته
ومحاولة إفسادها عليه- فحكم قاضي المحكمة الابتدائية ببراءة الأستاذ معللاً عمله
بأنه من حب الجمال الذي هو من الغرائز المحمودة والأذواق الصحيحة، فكيف يعد
ذنبًا يعاقب عليه القانون؟ ولكن قاضي الاستئناف عد عمله ذنبًا وحكم عليه بعقوبة.
إن تربية مسلمي مصر والترك- وأمثالهما- مذبذبة مضطربة في هذا العصر،
والتفاوت فيها كبير فمنهم غلاة التفرنج الذين يستحلون الفواحش ويميلون إلى
الإباحة وهم الأقلون، ومنهم الجامدون على جميع التقاليد العتيقة خيرها وشرها.
ولا سيما إذا كانت منسوبة إلى الدين - وإن خطأ، وبين هؤلاء وأولئك أهل القصد
والاعتدال من علماء الدين وعلماء الدنيا- فيجب أن يحال كل ما يراد من التغيير
في عادات الأمة على لجان من هؤلاء المعتدلين يبحثون في منافعه ومضاره من كل
وجه ويضعون النظام لما يقررون تغييره مراعين فيه سنن الاجتماع باتقاء ضرر
الاستعجال والطفرة، وما يحدثان من الفوضى في الأمة والتفاوت العظيم بين
أفرادها وجماعاتها، فإن الجيل الحاضر وليد الجيل الماضي ووارثه في غرائزه
وأفعاله وانفعالاته وعاداته، بل ينزع به العرق إلى الأجيال التي قبله، فإذا حُمل
على ترك شيء مما كان عليه من الأفعال والعادات فإنما يسهل عليه من ذلك ما
يوافق الهوى واللذة دون ما يوافق العقل والمصلحة، ثم إنه لا بد أن يلقى معارضة
من فريق كبير من الأمة بمقتضى سنن الغريزة، فإن كلاًّ من حب التجديد وحب
المحافظة على القديم غريزي في البشر فيظهر هذا في أناس وذاك في آخرين،
بتقدير العليم الحكيم، وإلا لكانوا على غرار واحد لا يتغير كالنمل والنحل، أو
لكانوا كل يوم في جديد لا يثبتون عليه ولا يكون لجيل منهم شبه بجيل آخر.
فمن يظن أنه يمكنه أن يميت أمة من الأمم بإبطال مقوماتها من العقائد
والغرائز والأخلاق ومشخصاتها من الآداب والعادات ثم يبعثها خلقًا جديدًا في جيل
واحد بتغيير في قوانينها وشكل حكومتها، وإقناعها بذلك بالخطب والشعر والجرائد
فهو مغرور، والحمل عليه بالقوة القاهرة لا يأتي إلا بحكومة شخصية قاهرة.
نعم إن التغيير ممكن وواقع، وطريقه معروف، وهو ما أرشدنا الله تعالى
إليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11)
وتغيير ما بالأنفس إنما يكون منظمًا بتعميم التربية والتعليم، وقد حقَّق علماء
الاجتماع أن التأثير في تغيير حال الشعب لا يتم إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد
والمحاكاه، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال، وبتمامه يتم تكوين الملكة. ومثل
هذا في الشعوب كمثل التعليم الابتدائي والثانوي والعالي للأفراد. وقد يشذ بعض
الشعوب في بعض الملكات كما يشذ بعض الأفراد بذكاء نادر فيبلغ من إحكامها في
بدايته ما يعجز عن مثله البليد في نهايته. وقد حقَّق الفيلسوف الاجتماعي
(غوستاف لوبون) المشهور في كتابه (تطور الأمم) أن ملكة الفنون لم تستحكم
لأمة من أمم الأرض في أقل من الثلاثة الأجيال المقررة إلا للعرب فهم وحدهم
الذين تربت هذه الملكة فيهم فصار لهم مذهب خاص فيها منذ الجيل الأول من
مدنيتهم الإسلامية، فإذًا لا بد من جعل كل تغيير يُراد في الأمة إلى لجان من أهل
الإخصاء فيه تدرسه وتمحصه وتقرر فيه ما فيه مصلحتها وموافقة شريعتها.
وليس بيان هذا من مقصدنا هنا، ولكنه استطرادٌ غرضنا منه رد مسألة النساء
وأمثالها إلى أصل علمي معقول، فإن الفوضى فيها ضاربة أطنابها في بلادنا كالبلاد
التركية، فما يراه بعض الناس ضارًّا قطعًا يراه آخرون هو النافع الذي لا بد منه،
ومقلدة الإفرنج فيه كالجامدين على القديم ليسوا على هدى ولا بصيرة، فإن أعقل
حكماء الإفرنج وأكبر علمائهم غير راضين عن حال النساء عندهم، وقد حكي لنا
عن عاهل ألمانية عندما زار الآستانة في أيام الحرب أنه لما اطلع على تهتك النساء
التركيات وبروزهن للرجال متبرجات كنساء الإفرنج عذل طلعت باشا الصدر
الأعظم الاتحادي على ذلك قائلاً: إنه كان لكم من دينكم وازع للنساء عما نشكو
نحن من غوائله الأدبية والاقتصادية ونعجز عن تلافيه، فكيف تتفصون منه
باختياركم؟ إنكم إذًا لمخطئون.
ومما يحسن التذكير به من المسائل التي يتمسك جماهير متفقهة المسلمين فيها
بما ينافي ضروريات الحضارة الحاضرة والمصالح العامة: زعمهم أن السائل
المسمى بالكحول والسبيرتو نجس يحرم استعماله في كل ما يستعمله فيه الأطباء
والصيادلة وسائر الصناع الذين يعدونه ضروريًّا في صناعتهم، وقد أفتى جماعة
من فقهاء الهند بذلك منذ أشهر ورددنا عليه ردًّا طويلاً أثبتنا فيه أن هذا السائل
طاهر ومطهر طبي، وأنه من الضروريات التي يجب الانتفاع بها في كثير من
الأعمال، وأنه مما عمت البلوى به، ولكن الأصل في فتاوى أفراد العلماء أن يعمل
بها من يقتنع بصحة أدلتها إذا كانت الفتوى مُؤَيَّدَة بالدليل على طريقة السلف التي
نجري عليها في المنار، ومن يثق بعلم صاحبها أو بكونه على المذهب الذي ينتمي
إليه في المقلدين- فهي لا تحل المشكلات العامة بل تبقي الأمة مضطربة باختلاف
الفتاوى وأقوال العلماء، وإنما يحل المشكلات العامة ويجمع كلمة الأمة فيها الإمام
الأعظم (الخليفة) إذا كان مجتهدًا كما تقدم.
29- توقف الاجتهاد في الشرع على اللغة العربية:
قد ثبت بما تقدم أن الجمع بين حضارة العصر وفنونه وبين المحافظة على
الإسلام لا يتم إلا بالاجتهاد في الشرع فكذلك لا يكون الخليفة هو الإمام الحق الذي
تجب طاعته، ويمكنه نشر دعوة الدين والمحافظة عليه ومقاومة البدع وإزالة
الخلاف بين الأمة في المسائل الاجتماعية والمدنية العامة إلا إذا كان مجتهدًا -
والاجتهاد يتوقف على إتقان اللغة العربية وفهم أساليبها وخواص تراكيبها والملكة
الراسخة في فنونها؛ للتمكن من فهم نصوص الكتاب والسنة، وهما في الذروة
العليا من هذه اللغة، وقد عدَّ علماء الأصول من جميع المذاهب معرفة اللغة العربية
شرطًا مستقلاًّ للاجتهاد مع اشتراط العلم بالكتاب والسنة، بل صرح بعض أئمة
العلماء بأن معرفة هذه اللغة فرض على كل مسلم وإن مقلدًّا! ولولا أن جميع سلف
الأمة كان على هذا الاعتقاد لما انتشرت العربية في خير القرون في كل قطر انتشر
فيه الإسلام من غير مدارس منظمة تديرها الحكومات والجمعيات، وهل لذلك من
سبب غير الاعتقاد بالوجوب الديني، ومن الآيات على ذلك إجماع العلماء في كل
زمان ومكان على أداء جميع العبادات اللسانية بهذه اللغة كتلاوة القرآن في الصلاة
وغيرها وأذكار الصلاة والحج وغيرها حتى إنهم لا يزالون يؤدون بها الوعظ من
خطبة الجمعة لا الحمدلة والشهادتين والتلاوة والدعاء فقط، ولكن منهم من يترجمها
بعد الصلاة ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أننا متعبدون بتدبر القرآن والاعتبار
والاتعاظ بآياته وبفهم تلاوة الصلاة وأذكارها، وكل ذلك يتوقف على معرفة اللغة
العربية، وتقصير بعض المسلمين في هذا الواجب كتقصيرهم في الواجبات الكثيرة
التي أضاعت عليهم دينهم ودنياهم.
ليس من غرضنا هنا أن ندعو أعاجم المسلمين إلى تعلم اللغة العربية وإنما أن
نذكر حزب الإصلاح بما لا يجهله أكثر رجاله من العلاقة القوية بين منصب الخلافة
وبين اللغة العربية فإنه سيجد في اللغة معارضة شديدة، ولكن حجته قوية وهي
تعذر حياة الإسلام نفسه والاجتهاد في أحكامه بدونها- وتعذر تعارف المسلمين وجمع
كلمتهم بالقدر المستطاع بدونها، ففي كل قطر يسكنه المسلمون وكل مدينة منه لا
يزال الإسلام فيها حيًّا يوجد من أهل العلم بالعربية من يمكن التعارف معهم ونشر ما
يتقرر لخدمة الدين بسعيهم.
إن اللغة رابطة من روابط الجنس، وقد حرم الإسلام التعصب للجنس؛ لأنه
مُفَرِّق للأمة ذاهب بالاعتصام والوحدة واضع للعداوة موضع الألفة وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن العصبية العمية الجاهلية، وتبرأ ممن يدعو إليها أو يقاتل
عليها، وقد كان من إصلاح الإسلام الديني والاجتماعي توحيد اللغة بجعل لغة هذا
الدين لغة لجميع الأجناس التي تهتدي به، فهو قد حفظ بها وهي قد حفظت به، فلولاه
لتغيرت كما تغير غيرها من اللغات، وكما كان يعروها التغيير من قبله، ولولاها
لتباعدت الأفهام في فهمه، ولصار أديانًا يُكَفِّر أهلها بعضهم بعضًا، ولا يجدون أصلاً
جامعًا يتحاكمون إليه إذا رجعوا إلى الحق وتركوا الهوى- فاللغة العربية ليست خاصة
بجيل العرب سلائل يعرب بن قحطان بل هي لغة المسلمين كافة، ولغة شعوب أخرى
من غير العرب، وطوائف من العرب غير المسلمين، وما خدم الإسلام أحد من غير
العرب إلا بقدر حظهم من لغته، ولم يكن أحد من العرب في النسب يفرق بين سيبويه
الفارسي النسب وأستاذه الخليل العربي في فضلهما واجتهادهما في خدمة اللغة، ولا
بين البخاري الفارسي وأستاذه أحمد بن حنبل العربي في خدمة السنة، بل لم يخطر
في بال أحد من سلف الأمة ولا خلفها قبل هذا العصر أن يأبى تفضيل كثير من
الأعاجم في النسب على بعض أقرانهم وأساتذتهم من العرب فيما امتازوا به من خدمة
هذا الدين ولغته، ولولا أن ظل علماء الدين في جميع الشعوب الإسلامية مجمعين على
التعبد بقراءة القرآن المعجز للبشر بأسلوبه العربي وأذكار الصلاة وغيرها بالعربية
ومدارسة التفسير والحديث بالعربية لضاع الإسلام منها.
ولو أن الدولة العثمانية أحيت اللغة العربية فيما فتحته من أوروبا لانتشر فيها
الإسلام ثم فيما جاورها انتشارًا عامًّا ولقامت فيها مدنية إسلامية كمدنية العرب في
الأندلس وكان رسوخها فيها عظيمًا، ولكنها لم تفعل ذلك ولم تجعل لغتها التركية لغة
علم وفنون بل اعتمدت في حكمها على قوة السيف وحده فكان من غوائل ذلك-
وهي كثيرة - أن جميع الشعوب التي خضعت لسيادتها وسلطانها ظلت محافظة
على لغاتها حتى المسلمين منهم. فلما تجددت في هذا العصر عصبية اللغة وجعل
الترك العثمانيون لغتهم لغة علم أرادوا أن يُكرهوا الشعوب الإسلامية في سلطنتهم
على ترك لغاتهم إلى لغة الدولة فامتنع الجميع عليهم، وهبّ أصحاب اللغات غير
العلمية المدونة كالألبانيين والكرد والجركس إلى تدوين لغاتهم وجعلها لغة علم
وفنون كما فعل الترك، وقد حاربت الدولة الألبانيين وهم أعظم حصونها في أوروبا
لأجل اللغة فاختاروا حربها والخروج من سلطنتها على ترك لغتهم، ولو رضيت
لنفسها لغة الإسلام ودعتهم إليها لما أبوا، وهذه المسألة هي التي فرقت بين الترك
والعرب ذلك التفريق الذي أشرنا إلى زواياه في هذا البحث مرارًا، وسعينا لتلافيه
قبل تفاقم خَطْبه فما أفادنا السعي فلاحًا، وكيف يعقل أن يرضى العرب استبدال
التركية بالعربية التي شرَّفها الله على جميع اللغات بكتابه المعجز للبشر وحجته
عليهم إلى يوم القيامة على ما لها من المزايا الأخرى- ونحن نرى التتار إخوة
الترك في العِرْق الطوراني لا يرضون بترك لغتهم واستبدال التركية بها وهي أرق
منها؟
فنحن الآن تجاه أمر واقع، ما له من دافع، وكل ما نطمع فيه أن نتقي
ضرره، ونوفق بين الجامعة الإسلامية والجامعة الجنسية اللغوية بما فصلناه من
تعاون العرب والترك على إقامة الخلافة الإسلامية الحق، فإذا وفق الله لإتمام هذا
فهو الذي تيم به الوحدة وما يترتب عليها من سعادة الدنيا والآخرة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) راجع ص 220 - 235 و 270 - 276 م 20.
(2) يراجع ص 35 - 51 و 141 - 147 من المجلد التاسع.(24/98)
الكاتب: أبو الكلام
__________
وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]
(2)
نبذ القوانين الجائرة
قد غاظت هذه الهزيمة الحكومة، فعزمت على قتل الحركة بالقوة والشدة
ناسية أو جاهلة أنها لا تقتلها بها، بل إنما تقويها وتشد أزرها.
إن جمعية الخلافة وفروعها كانت نظمت المتطوعين الذين كانوا على
محافظتهم على نظام المجلس والمجامع العامة يقومون بخدمات كثيرة للأمة فكأنهم
كانوا جيشًا غير متسلح لها، فأعلنت الحكومة أن جماعتهم هذه غير قانونية فيجب
إلغاؤها، ثم منعت انعقاد المجالس فحرمت الأمة من حرية الاجتماع وحرية اللسان،
وهي من الحقوق الفطرية الطبيعية لكل إنسان، غير أن الحكومة لم تُبَال بسوء
عملها بل حَذَتْ حذو من تقدمها من الحكومات المستبدة المنقرضة؛ لأن التاريخ يعيد
نفسه.
وقد بدأت الحكومة بتنفيذ هذه القوانين الجائرة (بكلكتا) قبل غيرها من المدن؛
لأن قدوم البرنس إليها كان قريبًا؛ ولأنها من أعظم المدن الشرقية، وتكاد أن
تكون أوروبية لكثرة الأوروبيين فيها، فكانت مقاطعة البرنس فيها ثقيلة جدًّا على
الحكومة، فبادرت بإعلان هذه القوانين فيه، ولكن نشر صاحب هذا الخطاب في
الوقت نفسه إعلانًا ضد الحكومة، قال فيه: إنه يجب على الأمة نبذ هذه القوانين
نبذًا، والإقدام من أجلها على السجون أفواجًا، وقرر الأمور الآتية:
(1) أن الخضوع لمثل هذه الأحكام الجائرة، معناه النزول عن الحقوق
المدنية والإنسانية، وليس للحكومة أن تمنع المجامع السلمية، والأعمال الوطنية
الجائزة، فإننا إن نخضع لها خوفًا من الحبس والمهانة، نكون مجرمين أمام
ضمائرنا وأمام الإنسانية، فليس على محبي الحرية والحق إلا أن يعصوها،
ويوطنوا أنفسهم على جميع المصائب التي تصبها الحكومة على رءوسهم دون أن
يخضعوا لها طرفة عين.
(2) يجب أن يوسع نطاق التطوع، وأن ينبعث المتطوعون في كل شارع
وزقاق معلنين للمقاطعة الملكية التي تريد الحكومة أن تجانبها، وإذا منعتهم السلطة
لا يطيعونها، بل يسلمون نفسهم للاعتقال بدون أدنى كره ولا مقاومة.
(3) تعقد المجالس والمحافل في جميع المجتمعات العامة، وكل مَن يذهب
إليها يسلم نفسه للسلطة إذا أرادت القبض عليه.
(4) كل مَن يقبض عليه، يقاطع المحاكم مقاطعة تامة في القول والعمل؛
لأن الحكومة التي تنوب عنها المحاكم جائرة ومقاطعتها واجبة، فلا معنى للاعتراف
بمحاكمها والسعي للدفاع فيها، فإنها لا تستطيع أن تخالفها وتنصف في حكمها.
(5) تتوقف هزيمة الحكومة على العدد الذي يدخل منا السجن؛ فلنهرول
إلى السجون زرافات زرافات، حتى تتعب الحكومة من حبسنا ولا نتعب نحن من
الإقدام عليه.
وقد لبت الأمة الدعوة، فابتدأت الأعمال الجدية بكل قوة، وسارع الناس
أفواجًا إلى إدارات التطوع، وبدأت الاجتماعات العامة، وأخذ الخطباء يخطبون
ويقبِّحون الحكومة وظلمها وعسفها، فدهشت الحكومة وظلت في حيرتها أيامًا لا
تدري ما تعمل؛ لأنها كانت قد وقعت في نفس ذلك الشراك الذي بسطته يدها. فلا
هي تقدر على أسر جميع النابذين لأوامرها - لأن الناس كلهم نبذوها - ولا هي
تستطيع غض النظر عنهم؛ لأن هذا يُظْهِر عجزَها في تنفيذ قوانينها، غير أنها
عزمت أخيرًا على الاعتقال والتسجين ظانة أن الناس سيخافون من صولتها،
ويعودون إلى طاعتها؛ فأخذت تعتقل في (كلكتا) وحدها ألفًا من المتطوعين كل
يوم، وقد كان المنظر مؤثراً للغاية، فإن عصابات المتطوعين كانت تترى، فكلما
اعتقلت واحدة حلت محلها أخرى، وهكذا إلى الليل.
ثم أعلنت هذه القوانين القاسية في طول البلاد وعرضها، فحذت الأمة في كل
مكان حذو (كلكتا) في مقاومتها. فأخذ الوطنيون يظهرون في كل محل ويعصون
القوانين، وأخذت السلطة تقبض عليهم وتسجنهم، فأصبح السجن ألعوبة والرجال
أطفالاً يلعبون بها، وإن القلم ليعجز عن وصف تلك الحمية والغيرة والحماسة التي
كانت تشاهد في كل زقاق وشارع وبلد من القطر الهندي العظيم، فكان الناس
يتنافسون في التصدي للاعتقال والسجن والذين كانوا لا يعتقلون لسبب ما كانوا
يتحسرون على أنفسهم حتى الصبيان كانوا يبكون شوقًا إليه ويلحون على الشرطة
أن تعتقلهم! فكم من مئات منهم دخلوا السجون بإلحاح شديد وودعتهم أمهاتهم بدموع
الفرح ولم يكن المتطوعون وحدهم يقدمون أنفسهم للاعتقال بل كان الألوف من
المارة والسوقة إذا رأوهم على هذه الحالة يتحمسون فيتزاحمون ويقولون للشرطة:
نحن أيضًا منهم فاقبضوا علينا، فكان يقبض عليهم ويرسلون إلى السجون.
ولم يمض على هذه الحالة أسبوع إلا بدت علائم الملل والفتور والهزيمة على
وجه الحكومة؛ لأن السجون على كثرتها وسعتها كانت قد امتلأت؛ وكذلك جميع
تلك الأبنية التي استخدمت لهذا الغرض، واختل النظام والضبط في السجون
وعجزت الحكومة على تهيئة الطعام والشراب للمسجونين الوطنيين، فاضطرت
إلى أن تخلي سبيل ألوف منهم، فباب السجن كان يفتح وينادي المنادي فيهم (من
كان منكم يريد الذهاب فليذهب) ولكنهم كانوا يأبون الذهاب، فيحملون على
الأكتاف ويلقون وراء الباب، فيذهبون إلى الأسواق فيعصون الأوامر فيؤسرون
فيرجعون إلى السجن حيث كانوا قبل ساعات. فلما رأت الحكومة ذلك امتنعت من
إرسالهم إلى السجون فكانت تعتقلهم نهارًا وتطلقهم ليلاً من مراكز الشرطة غير أنهم
بمجرد خروجهم يعودون إلى عملهم القديم.
ضجرت الحكومة من هذه الحالة ضجرًا شديدًا، وأيقنت أن النار لا تخمد ما
دام الزعماء على حريتهم، فمدت يدها إليهم، وهم قد كانوا مستعدين لإجابة دعاتها
من أول يوم، معتقدين أنه لا بد لتقوية الحركة وتكميل العمل من سجنهم أنفسهم،
فألقي القبض على صاحب الخطاب في 10 ديسمبر سنة 1921 فذهب إلى السجن
بوجه ضاحك، وثغر باسم.
وقد كان - حفظه الله - أعلن قبل أسره بساعات في بلاغ إلى الأمة أنه
سيقبض عليه، ففي تلك الساعة يبتلي عزمها وثباتها، وقد جاءت تلك الساعة
ورأت الحكومة أن تلك الحركة أصبحت أقوى وأشد من قبل، حتى بلغ عدد
المسجونين خمسين ألفًا.
ولم يمض على أسره أسبوعان إلا وقد وجدت الحكومة نفسها عاجزة ومنهزمة
أمام هذه الحركة، فاضطرت إلى أن تجنح للسلم، فأعلن الوالي العام في (كلكته)
لوفد من حزب الاعتدال أن الحكومة ترغب في الصلح، وترحب بهدنة تعقد له،
فهي تمسك يدها عن القبض والأسر وتطلق سراح جميع المسجونين، ويمسك
الزعماء عن أعمالهم، بدون أن يعترف أحد من الفريقين بالغلبة والانكسار،
فيجتمعان في مؤتمر، وفي هذا الوقت نفسه أعلن أن الحكومة الهندية لا تألو جهدًا
في تقديم مطالب الهند في مسألة الخلافة إلى الحكومة المركزية. وهي مستعدة أيضًا
لكل عمل مُسْتَطَاع في المستقبل (وقد أرسلت الحكومة بعد هذا الإعلان بلاغها
الشهير بإمضاء الوالي العام وجميع ولاة المقاطعات إلى إنجلترا وهو الذي وقع
الخلاف في نشره بين اللورد كرزن والمستر ماتنغو القائم بأعمال الوزارة الهندية إذ
ذاك، فاضطر الثاني إلى أن يستعفي من خدمته) .
فلما دعيت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى إلى هذه الدعوة قبلتها
وأعلنت الهدنة، وقدمت الشروط الأساسية للمؤتمر المقترح، وكان الشرط الأول
منها أن تقبل حكومة لندرة المركزية كل ما يقرره المؤتمر غير أن الحكومة لم تقبل
هذا الشرط فعاد الحال كما كان.
(صاحب الخطاب)
أما صاحب الخطاب العالم العلامة الشيخ أبو الكلام أحمد فمن المؤسسين
للنهضة الجديدة الإسلامية في الهند - أقول من المؤسسين؛ لأنه لا يرضيه أن يقال
هو المؤسس لها- فإنه إلى سنة 1912 لم تكن في مسلمي الهند أي حركة عامة نافذة
قوية للإصلاح الديني ولا السياسي، فكانوا في الدين على جمود وتقليد ومحدثات،
وأما السياسة فلم يكن لهم فيها شأن فكانوا يجتنبونها ويخافون منها كأنها حية تنهشهم،
معتقدين أن الاستقلال يضر بهم، ويُمَكِّنُ الهندوس منهم، فبينما هم في الظلمات
إذ قام فيهم تلك السنة صاحب الخطاب فصاح بأعلى صوته {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ
الرَّشَادِ} (غافر: 38) فأما الدين فقد دعا فيه إلى التوحيد الخالص والتمسك
بالكتاب والسنة ونبذ التقليد والبدع والخرافات، وتطهير الأعمال والعقائد من
المحدثات. قال: إن الدين ما كان عليه الرسول وأصحابه والسلف الصالح من أمته
لا ما قاله فلان وفلان، وإن القرآن مهيمن على الكتب السماوية والعلوم البشرية فلا
تشوهوا وجهه باليونانيات ولا بتخريفات المتفرنجين. ففتح باب الاجتهاد وفسر
القرآن بأسلوب بديع ونزهه عن كل التُّرَّهات. واستنبط منه ومن سنة الرسول كل
ما يحتاجه المسلمون في دينهم ودنياهم.
وأما السياسة فقد دعا فيها إلى الحرية التامة واستقلال البلاد والاتحاد مع أبناء
الوطن ومقاومة الأجانب المسيطرين بغير حق. فقامت عليه القيامة من كل جهة
وصوَّب المعارضون إليه نبالهم وبسطت الحكومة له شَرَكَها، ولكن لم توقفه
العراقيل في طريقه، ولا صدَّتْه الموانع عن عمله، فما زال يلقي الخطب الرنانة
ويحبر المقالات الحماسية ويقرع أسماعهم ببلاغته الشهيرة، ويوقظ قلوبهم بمواعظه
البالغة وينفخ في أجسادهم الميتة روح الدين والحرية حتى انتبهوا من رقدتهم وهبوا
من نومهم، وهرعوا إلى الداعي ملبين ومجيبين نداءه، وكل هذا في خلال بضع
سنوات المدة التي لا تكاد أن تصدق، وكانت لسان دعوته مجلة (الهلال)
الأسبوعية خالدة الذكر.
ويمكن تلخيص بعض مهمات دعوة الهلال الاجتماعية والسياسية في المواد
الآتية:
(1) أن العبودية سواء كانت للأجانب أو الغاصبين من الأمة نفسها لا
تجتمع مع الإسلام، وأن السعي للحرية والاستقلال وتحمُّل الشدائد والمصائب
والاغتباط بالموت في سبيله- كل ذلك واجب على المسلمين ووراثة ملية ورثوها
عن أجدادهم العظام فهم إما أن يعيشوا أحرارًا أو يموتوا كرامًا، وليس بين هذا
وذاك من سبيل في الإسلام؛ لأن شريعته ما دامت لا تبيح استبداد الولاة من
المسلمين أنفسهم فكيف تبيح لهم أن يعيشوا خاضعين لظلم الأجانب واستبدادهم؟
والمسلم الذي يقنع ويرضى بهذه المعيشة لا ريب في حرمانه من روح الحياة
الإسلامية.
(2) على مسلمي الهند واجبان: إسلامي، ووطني. فالواجب الإسلامي
يطالبهم أن لا يحصروا نظرهم في حدود أرضهم؛ فإن جنسية الإسلام مطلقة من قيود
الوطن والنسل وشاملة لجميع المصطبغين بالصبغة الإسلامية حيثما وجدوا، ومن
أي أمة كانوا فيجب عليهم أن يعينوا إخوانهم المسلمين خارج الهند وينصروهم
ويخففوا مصائبهم عنهم، وأما الواجب الوطني فهو أن يتحدوا مع أبناء وطنهم
ويرخصوا نفوسهم في جهاد الحرية والاستقلال لبلادهم.
(3) أن الدول الغربية لا تهدد الإسلام والمسلمين فقط بل الشرق بأسره
فيجب على الأمم الشرقية أن تتحد وتتفق لصون حريتها وحياتها من الغرب.
(4) أن الدولة العثمانية هي البقية الباقية من الدول الإسلامية فيجب على
مسلمي العالم كلهم أن يساعدوها وينصروها ويرجحوا حقها وصيانتها على مقاصدهم
الوطنية؛ لأنها المركز المالي والسياسي لهم، ولا حياة للفروع بدون أصل.
(5) اللغة العربية هي اللغة الملية للمسلمين كافة والوسيلة الوحيدة للتعارف
والاتحاد بينهم، وإن من العلل الجوهرية للانحطاط الاجتماعي والديني: انقراض
الخلافة العربية وهجران اللغة العربية وشيوع العجمية والفلسفة اليونانية بينهم
فيجب عليهم إحياء اللغة العربية الصحيحة وتعلمها حتى تصبح عامة بينهم.
(وإني أريد أن أقول هاهنا كلمة في (المسألة العربية) فإن كثيرًا من
إخواننا العرب يعتقدون أن مسلمي الهند يرجحون الترك عليهم ويكرهون استقلالهم
مع أن الأمر ليس كذلك، فهذا زعيم مسلمي الهند وقائدهم الأكبر ما زال يلح على
الدولة أن تمنح الولايات العربية الحكم الإداري، فقد صرح به في جميع مذكراته التي
بعثها إلى المرحوم طلعت بك وزير الداخلية إذ ذاك، والتي ناولها أحمد رضا بك
الشهير، ثم الدكتور عدنان بك مندوب حكومة أنقرة في الآستانة الآن عند قدومهما
إلى الهند، نعم إن مسلمي الهند ما كانوا يحبون أن يفترق الترك والعرب خوفًا من
انحلال الدولة الإسلامية وسقوط العرب في يد المستعمرين من الأجانب وقد وقع ما
كانوا يخشونه فثار الشريف و … فإلى الله المشتكى!) .
ولما ابتدأت الحرب الكبرى أصبحت الهند في حالة تشبه حالة الأحكام العرفية
وأخذت الحكومة تسجن وتعتقل كل من ارتابت فيه، غير أن صاحبنا ظل على حريته
وثباته يقول ما كان يقوله ويقبِّح الظلم والاستبداد كعادته لم يُخِفْه عفريت الحرب ولم
ترعبه السلطة العسكرية، ثم لما بدأ الخلاف بين الدولة العليا والخلفاء وحجزت
بريطانيا البارجتين العثمانية (رشادية وعثمان أول) وخشي نشوب الحرب بينهما
قام في ذلك الوقت العصيب أيضًا بكل جرأة وشجاعة يُظهر أفكاره وآراءه في
مقالاته وخطبه، وقد نبَّه رجال الحكومة شفهيًّا أن الحرب مع الدولة العثمانية (يؤلب
المسلمين على بريطانيا) ويقع مسلمو الهند في موقف حرج فلا يكون أمامهم إلا أن
يكونوا مع الإسلام أو مع بريطانيا فيجب عليها أن تسلم بمطالب تركيا ولا تذرها
تنضم إلى ألمانيا فإذا فعلت ذلك يبذل مسلمو الهند جهدهم في منع الدولة من أن
تكون مع ألمانيا، فإما أن تبقى على الحياد وإما أن تكون بجانب الحلفاء، غير أن
الحكومة لم تُصْغِ إلى نصحه ونشبت الحرب بين الدولة والاتحاديين فنشرت
الحكومة البريطانية في أول أكتوبر سنة 1914 إعلانًا في الهند قالت فيه: إن
الدولة البريطانية وحلفاءها قد اضطروا إلى دفع الهجوم العثماني، ولكن ليثق
مسلمو الهند أننا لا نهاجم تركيا ولا نقوم بعمل عدائي ضد البلاد الإسلامية المقدسة.
وقد نشر حفظه الله مقالة شهيرة بعنوان (القارعة) فصَّل فيها ما كان يراه
مسلمو الهند أحسن تفصيل ثم تحادث مع اللورد كار ماركل والي بنغالة الأسبق في
نفس هذا الموضوع، وكانت خلاصة حديثه معه وما كتبه في مقالته كما يلي:
(1) أن من المصائب علينا أن تقع الحرب بين الدولتين البريطانية
والعثمانية التي يعدها جميع مسلمي العالم صاحبة الخلافة الإسلامية وآخر دولهم،
وأن مسلمي الهند يجب عليهم شرعًا أن يكونوا مع الخلافة ويطيعوا أوامرها ويبذلوا
وسعهم لنصرها وحمايتها، فيجب على الحكومة أن تعلم هذه الحقيقة ولا تنخدع
بأقوال المنافقين الذين يخدعونها ويتملقون لها.
(2) أن أكثر ما يستطيع مسلمو الهند أن يفعلوه لبريطانيا هو أن يبقوا على
الحياد ولا يتخذوا خطة عدائية لها، ولكن هذا إنما يكون إذا:
(أ) تركتهم بريطانيا على هذه الحالة فلم تطالبهم بمساعدة مادية ولا معنوية.
(ب) لا يُكره جندي مسلم على أن يذهب إلى ميادين القتال.
(ج) لا يهاجم الحلفاء البلاد الإسلامية بل يعلنون إعلانًا مؤكدًا بأن الحرب
لا تغير الحدود الحالية للدولة الإسلامية ويضمنون استقلال الدولة العثمانية.
(3) وإن لم تقبل الحكومة البريطانية هذا فمسلمو الهند يضطرون إلى
فرضهم الديني فيفعلون كل ما في وسعهم لحفظ الخلافة والبلاد الإسلامية؛ لأن
هجوم الأجانب عليها يوجد حالة النفير العام فيجب على جميع مسلمي العالم شرقًا
وغربًا أن يهبوا للدفاع عنها.
فلما رأت الحكومة أن حضرته متصلب في أفكاره ومُصِرٌّ على أعماله وأنها لا
تستطيع استمالته إليها بالترغيبات ولا تخويفه بالتهديدات كما فعلت بالآخرين أقفلت
أولاً جريدته ثم نفته من مقاطعة كلكتا مستقره ثم بعد ستة أشهر سجنته في معتقله
ولم تخل سبيله إلا بعد الهدنة في يناير سنة 1920.
ولكنه بمجرد خروجه من معتقله انهمك في إنهاض هذه الحركة الجديدة للخلافة
والدعوة إليها ولم يسترح يومًا واحدًا - وها نحن أولاء نراه بعد سنتين قد سلم نفسه
إلى السجن ثانية فهو الآن بين جدرانه المربعة ثاويًا، وفي حجرة ضيقة منه قانعًا،
فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما في الجزء الأول.(24/121)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
الشفاعة الشرعية
والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [*]
(الوجه الثاني) [1] الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو
كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته. وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون
إقسامًا به أو تسببًا به، فإن قوله: (بحق الصالحين) إن كان إقسامًا عليه فلا يقسم
على الله إلا بصفاته. وإن كان تسببًا فهو تسبب لما جعله سبحانه سببًا وهو دعاؤه
وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضًا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا
عمل صالح منا. فإذا قال القائل: أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن
كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول: وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين،
ولا يقول لغيره: أقسمت عليك بحق هؤلاء، فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم،
فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب
حصول مقصوده، لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة، أو منهم
كدعائهم لنا، لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول
أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله.
وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك
إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه (يا داود أي حق لآبائك عليَّ؟) وهذا
وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يُطْلَب منه الدعاء كما يُطْلَب
منه سائر ما يقدر عليه. وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء.
وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه و (به) لفظ فيه إجمال
واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء
والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم
الوسائل عند الله. وأما في لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك،
والله تعالى لا يُقْسَم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال:
أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ونحو ذلك. بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته.
فيقال (أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا
الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم
يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) الحديث كما
جاءت به السنة. وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين
الإسلام.
وقوله [2] : (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من
كتابك، وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة) مع أن في جواز الدعاء به قولين
للعلماء فجوَّزه أبو يوسف وغيره ومنع منه أبو حنيفة، وأمثال ذلك [3]- فينبغي
للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في
فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقًا، وهو أجمع وأنفع، وأسلم
وأقرب إلى الإجابة.
وأما ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لكم إلى
الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) فهذا الحديث لم يروه أحد
من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث. والمشروع: الصلاة عليه في كل
دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه،
ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من
العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق
فدعاء غير الله كفر، بخلاف قول القائل: إني أسألك بجاه فلان الصالح. فإن هذا لم
يبلغنا من أحد من السلف إنه كان يدعو به.
ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في
حق غير النبي صلى الله عليه وسلم [4] ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف
وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء.
ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا قد يخرج
على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به [5] .
وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله
عليه عشرًا) وفي المسند: أن رجلاً قال: يا رسول الله أجعل عليك ثلث
صلواتي؟ قال (يكفيك الله ثلث أمرك) فقال: أجعل عليك نصف صلواتي؟ قال:
(إذًا يكفيك الله ثلثي أمرك) فقال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال (إذًا يكفيك الله ما
أهمك من أمور دنياك وآخرتك) وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة،
وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي اتباع ذلك.
والمراتب في هذا الباب ثلاث: (إحداها) الدعاء لغير الله سواء كان المدعو
حيًّا أو ميتًا، وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال: يا سيدي فلان
أغثني، وأنا مستجير بك، ونحو ذلك. فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات
قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به
فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لمَّا أشرك بالله
كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك. ومثل هذا واقع كثيرًا
في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري
وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن
ذلك من بركة الاستغاثة (بي) أو بغيري، وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا
هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون
الماضية كما ثبت، فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك.
(الثانية) أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي
وادع لنا ربك، ونحو ذلك. فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع
التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزًا
ومخاطبتهم جائزة، كما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن
يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)
وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل
يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) .
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل
مسلم سلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام) .
لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئًا. وفي الإمام مالك [6] أن
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله،
السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه، ثم ينصرف. وكذلك أنس بن مالك
وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نُقِلَ عنهم السلامُ على النبي صلى الله عليه
وسلم، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلو
القبر الشريف.
وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة
ممن لا اعتبار بهم، فإنه لم يَذهب إلى ذلك إمامٌ متبَع في قوله ولا مَن له في الإمامة
لسان صدق. بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال
أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويستدبر القبر. وقال مالك والشافعي: بل يستقبل القبر،
وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر، ويجعل القبر عن يساره أو يمينه،
وهو الصحيح؛ إذ لا محذور في ذلك.
(الثالثة) أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته، ونحو ذلك. فهو
الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي صلى الله عليه
وسلم [7] . وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من
الأنبياء فكيف بغيرهم. وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأهل القبور) أو
قال (فاستغيثوا بأهل القبور) فهذا الحديث كذبٌ مفترًى على رسول الله صلى الله
عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من
كتب الحديث المعتمدة.
وقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان:
58) الآية، وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع. وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد،
ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيرًا من الفتنة باليهود؛ فإن ذلك هو أصل عبادة
الأصنام أيضًا، فإن ودًّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين في قوم
نوح عليه الصلاة والسلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على
صورهم، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء [8] فمن فهم معنى قوله:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة
المطلقة إلا الله وحده.
وقد يُسْتَغَاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله
والتوكل لا يكون إلا على الله. وما النصر إلا من عند الله. فالنصر المطلق وهو
خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا هو سبحانه. وفي هذا القدر كفاية لمن هداه
الله تعالى والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
كثيرًا. انتهى [**] .
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء التاسع ص 681م23.
(1) أي من وجهيْ ترجيح المعنى الذي حمل عليه حديث دعاء الخارج إلى الصلاة.
(2) في كتاب (الوسيلة) وكذلك قوله إلخ. عطفًا على الدعاء الذي قبله، وليس فيه العبارة المقحمة هنا بين الدعاءين.
(3) أي من الأدعية.
(4) في كتاب التوسل والوسيلة تقييد هذا بقوله: إن صح حديث الأعمى.
(5) من قوله (ثم رأيت عن أبي حنيفة) إلى هنا ليس في سياق كتاب الوسيلة.
(6) كذا بالأصل ولعلها (وفي موطأ الإمام مالك إلخ) .
(7) أي مُعلقًا له على صحة حديث الأعمى.
(8) الأثر في صحيح البخاري.
(**) ملحوظة: نشرنا هذه الرسالة أو الفتوى عن مجموعة مخطوطة جاءتنا من بغداد وفي أثناء الطبع وجدنا فيها مواضع محرفة فراجعنا (كتاب التوسل والوسيلة) الذي سبق لنا نشره فوجدناها فيه بعبارة أوسع وأوضح سالمة من التحريف فتراجع فيه (ص 103) .(24/129)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى
طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير
(1)
يظهر أنه من جملة الممالك الأوروبية التي انبسطت إليها يد الاستيلاء العربي
وخفق فوق ربوعها علم الفتح الإسلامي في القرون الوسطى هي بلاد سويسرا، هذه
البقعة الجميلة النضيرة التي تراها جنة خضراء صيفًا وشتاء، والتي هي من
أوروبا بمثابة الكبد من الجسد.
كنت أعلم أن العرب بعد أن فتحوا أسبانيا استولوا على جنوبي فرنسا وتمكنوا
من أواسطها ونزلوا بر إيطاليا واكتسحوا روما فضلاً عن استيلائهم على صقلية
وسردانية وغيرهما من الجزر، ولكن إلى سنة 1919 تاريخ ورودي سويسرا لم
أكن أعلم شيئًا عن وصول العرب إلى نفس سويسرا مع بقائهم فيها مستقلين بعدة من
القلاع والبقاع نحوًا من مائة سنة، وبلوغهم بحيرة كونستانز الشهيرة من جنوبي
ألمانيا.
وأول من نبَّه فكري إلى هذا الحادث العظيم من مجريات الفتح العربي
الأوروبي هو الأستاذ هس المستشرق السويسري الذي أقام مدة بمصر وعرف
كثيرين من كبراء المصريين والذي يَمُتُّ إلينا بحبل صداقة أكيدة كانت بينه وبين
أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده - برَّد الله ثراه - فأول اجتماعي مع
المستشرق المشار إليه أطلعني على تاريخ وجود العرب بسويسرا محررًا باللغة
الألمانية بقلم مؤلف اسمه (فرديناند كار) مطبوعًا في مدينة زوريخ سنة 1856
وبعد ذلك استقريت هذا الموضوع فوقع في يدي كتاب ممتع جليل عنوانه تاريخ
غارات المسلمين على فرنسا وسافواي وبيامون وسويسرا للمسيو (رينو)
الفرنساوي، وكتب أخرى ظهر من إجماعها ومن آثار العرب الباقية ومن الأسماء
العربية التي تركوها في البلاد ومن المسكوكات العربية التي لا تزال محفوظة - أنه
كان للعرب دولة وصولة في بلاد سويسرا وأنهم لبثوا فيها حُقْبًا (الحُقب بضم
فسكون نحو ثمانين سنة أو أكثر) كان حافلاً بالوقائع والنوادر، شأنهم في كل محل
دخلوه أيام كان العرب عربًا والناس ناسًا ….
وملخص هذه التواريخ وهو من أغرب ما جاء في حوادث الدهر أن عشرين
عربيًّا كانوا راكبين في سفينة من سواحل أسبانيا ضلت بهم الطريق وما زالت
تتقاذفهم الأمواج حتى رمت بهم على شاطئ خليج (سان تروبس) في جهات جينوة
فخرجوا إلى البر وتوغلوا بين القرى يقتلون ويأسرون واتخذوا لهم حصنًا في أدغال
جبل (موروس) وصاروا يشنون الغارات ويأوون إليه بالغنائم.
وقيل: بل ركب 20 عربيًّا من لصوص البحر من ساحل الأندلس قاصدين
سواحل بروفانس (جنوبي فرنسا) فأخذتهم الريح إلى خليج غريمو أو خليج سان
تروبس فخرجوا ولم يشعر بهم أحد ورأوا حول ذلك الخليج غابة ملتفة أشبة، حولها
سلسلة جبال فأغاروا على أقرب قرية من محل نزولهم وقتلوا أهلها وانتشروا في
الناحية وألقوا الرعب في القلوب وكان الموقع مساعدًا لهم بطبيعة الأرض من
الإشراف على البحر ثم من الغاب المشتبك ثم الجبال الشامخة فتحكموا في تلك الجهات
واستولوا على طرقها وقبضوا على مضايقها، وألقت هي إليهم بمقاليدها. وكان هذا
الحادث نحو سنة 891 مسيحية.
ولا يجب أن نأخذ كلام مؤرخي الإفرنج هذا على علاته من جهة كون غَزَاة
هؤلاء العشرين عربيًّا هي لصوصية صرفة وعيثانًا بحتًا، وأنهم إنما جاءوا للنهب
والغصب فهذه شنشنة مؤرخي أوروبا بإزاء حوادث كثيرة في تاريخ الإسلام، مع أن
الواقع قد يكون خلاف ذلك، وقد دلت الآثار وقامت الأدلة ونهضت البراهين على
أن أكثر أغراض العرب في مغازيهم في صدر الإسلام إنما كان إعلاء كلمة الله
ونشر عقيدة التوحيد وأنهم كانوا يرون أنفسهم هُدَاة لا جُبَاة، وكانوا يستبسلون في
الحروب استبسالاً ويبيعون أنفسهم من الله ابتغاء الجنة فقط، ويجدون ذلك فرضًا
عليهم على حين أن الغبي أو الغريب الجاهل للحقائق البعيد عن اكتناه أسرار هذه
المغازي وما كان يجيش في صدور أهلها - كان يتوهم أنها بأجمعها فتوحات دنيوية
لأجل السلب والكسب والنهي والأمر، وليس التوهم بعبرة، فقد يكون هؤلاء
العشرون غازيًّا الذين أبحروا من ساحل أسبانيا إلى ساحل إيطاليا هم ممن نصبوا
أنفسهم للجهاد في سبيل الله ورفع راية التوحيد ونشر كلمته بين أهالي هاتيك
الأرضين راكبين لذلك لُجَج البحار، ومتوقلين عقاب الأوعار. استزادة من ثواب
الله، ورغبة في الشهادة في سبيل الله، وربما كان بين هؤلاء العشرين مجاهدًا
العالم الفاضل، والفقيه المحدث، والشاعر المترسل، والسائس المحنك، والقائد
البصير المجرب.
وبرهان ذلك واضح كالشمس من كون 20 رجلاً لا يقتحمون مثل هذه الغمرة،
ولا يلقون بأنفسهم في بر لا آخر له، وهم عصبة كهذه قليلة، إن لم يكونوا من
ذوي النفوس العالية، والطباع الزاكية، ولم تكن بين جنوبهم أرواح تتطالّ إلى ما
هو أعلى من حطام الدنيا الفانية- وليست قصة اللصوصية هذه التي تجدها في أكثر
تواريخ الإفرنج، حاشا النقاد المدققين الذين ابتدأوا ينبهون الأفكار في هذه الأيام -
بدليل على كون هؤلاء العشرين غازيًّا إنما جاءوا عابثين مفسدين قاصدين الغنيمة
المادية، ولا سيما وأنك تراهم من جهة أخرى يعترفون بأنهم ما استقرت قدمهم في
ذلك الساحل حتى شادوا الحصون، واستنبطوا العيون، وامتهدوا الحزون، ونحتوا
الصخور، وأثروا آثار عمارة أثيلة لا تزال منها بقايا ناطقة بفضلهم إلى يومنا هذا،
مما يوافقنا كل عاقل منصف أنها ليست أعمال لصوص ولا حكايات دعَّار، وإنما
هي آثار أمجاد أنجاد، وقروم أجواد، من أعاظم الرجال، وخيرة الأبطال.
وقد يكونون علموا بما كان عليه أهل تلك الديار يومئذ من الجهل والخمول
والانحطاط في المعارف والأخلاق (فانتدبوا) لإصلاح أمورهم و (للأخذ بيدهم في
معترك الحياة) كما هي لغة الاستعمار؛ لأن مما هو ثابت فعلاً بكون شرذمة كهذه
أصلها 20 رجلاً لا تتمكن من نواصي تلك الديار، ولا تسود أولئك الأقوام من
البحر المتوسط إلى بحيرة (كونستز) التي على كبد أوروبا - إلا وهي أرقى جدًّا
من أهلها. ولولا الفرق البعيد في درجات المدنية ما ساد هذا القليل على ذلك الكثير،
لا بل لم تظهر هذه النقطة على ذلك الغدير.
قالوا: ولما رأى هؤلاء العشرون رجلاً ما أصابوا من الغُنم في هذه الغزاة
أرسلوا إلى أسبانيا فوافاهم 100 رجل آخرون من ذؤبان الرجال، وممن يعتمد
عليهم في مثل هذا الأحوال، فاشتدت بعد ذلك وطأتهم وصالوا على جميع هاتيك
الجهات يثخنون في أهلها ويضربون عليهم الجزية ويقتادون ما يشاءون منهم بخزام
الذلة والصغار وساعدهم على ذلك ما كان فيه أهل تلك الأنحاء من اختلاف الكلمة
وتفرق الأجواء، فكان بعضهم يستعين بهم على بعض فعصفت ريحهم في هاتيك
الآفاق، وصاروا يُنصَرون بالرعب، وأصبح الفرد الواحد منهم لا يبالي أن يلاقي
ألفًا. فما مضت بضع سنوات حتى صار لهم عدد من الأبراج والقلاع أهمها في
الجبال المسماة فراكسين توم Fraxinatum أو فراكسينه ولا تزال من بقايا آثارهم
فيها أبنية ماثلة وبيوت منحوتة في الجبال، وآبار محفورة في الصخور.
قال المؤرخ (رينو) السابق الذكر: وكان ذلك في أواخر القرن التاسع للمسيح،
ثم وصلوا إلى سلسلة جبال الألب الشهيرة، وسنة 906 أجازوا مضايق دوفينه وجبل
سينس واستولوا على نوفالس في حدود البيامون ونهبوا الأديرة التي هناك
وشردوا الرهبان وأثخنوا في الأهلين فاجتمع هؤلاء عليهم وأحاطوا بهم وأخذوهم
أسارى وشدوا أوثقتهم ووضعوهم في دير ماراندراوس فحطم هؤلاء الأسرى القيود
وأفلتوا وانقضوا على أعدائهم فهزموهم وأحرقوا الدير وقسمًا من المدينة وما زالوا
يعيثون ويشنون الغارات حتى انقطعت الطرق بين فرنسا وإيطاليا.
ثم يقول رينو: إن العرب استولوا على مقاطعة فالي وزحفوا إلى قلب بلاد
المريزون وصاقبوا بحيرة جنيف وتقدموا إلى بلاد الجورة في سويسرا Garu
وكانت سويسرا حينئذ من مملكة بورغنيه ففرت أم الملك كوبراد إلى برج منفرد في
نيوشاتل (إحدى ولايات سويسرا اليوم) ولما ضاق ذرع الأهالي جميعًا بهؤلاء العرب
لا سيما أهل بروفنس وسويسرا وإيطاليا ثار هوغ كونت بروفانس وعزم أن يتولى كبر
هذه المسألة ويطرد العرب من تلك الديار ويستولي على معقلهم الأشم في فراكسينه
والمرسى الذي لهم في خليجها فاستنجد هوغ صهره صاحب القسطنطينية ليمده
بالأسطول وبالنار الإغريقية فحضر الأسطول وهاجم العرب من البحر بينما الأهالي
يهاجمونه من البر وضاق بالعرب الخناق فاعتصموا بالجبال وأعيا أمرهم هوغ فلم
يلبث أن صالحهم ولا سيما بعد أن رأى خصمه برانجر قام ينازعه الملك فاستقر أمر
هؤلاء وجعلوا يحرثون الأرض ويبنون ويغرسون وتزوجوا بنساء من البلاد ولبثوا
قابضين على بلاد الألب لا سيما ممر (سان برنار) (الشهير إلى الآن) وأقامت
منهم فئة بمدينة نيس وفيها حارة باسمهم إلى هذا اليوم.
وفي سنة 960 تمكن الأهالي من طرد العرب من سان برنار بعد معركة
شديدة وسنة 965 أجلوا عن (غرنوبل) وعن وادي (غريزي فودان) وبعد ذلك
اجتمعت عليهم جيوش عظيمة من كل صوب وهزموهم وقتلوا أكثرهم وتنصر
بعضهم ويظن أن فلهم فر إلى إفريقيا وأسبانيا وقد بقيت لهم قرى تنصر أهلها ومن
أبى منهم النصرانية صاروا عبيدًا يشتلون في أراضي الأديرة وكان سقوط حصن
فراكسينة سنة 975 بعد أن أقاموا به أكثر من 80 سنة وسمعت من بعض من
يعرف أمور سويسرا أنه يوجد إلى اليوم قريتان في مقاطعة فالي Valee يركب
أهلها الخيول بسروج عربية ولهم عادات كثيرة خاصة بهم، وهم لا يتزوجون من
سائر الأهالي ولا يصاهرونهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لا ندري ما يريد الكاتب من اكتساح رومية أحقيقة هو أم مجاز؟ فالعرب لم يفتحوها ولا سلبوها وهو أوسع منا اطلاعًا على التاريخ.
(2) المنار: وهكذا تفعل العرب اليوم، كان المائة بعد العشرة يحتلون قلب أوروبا ويعيشون فيها أعزة وتستعين بهم أمم الفرنجة بعضها على بعض وهم اليوم مائة مليون ولكنهم أذلة في بلادهم ويستعين بعضهم على بعض بالأجانب كما يفعل ملك الحجاز وأولاده.
(3) والعرب يقولون لوند.(24/134)
الكاتب: حسني عبد الهادي
__________
من الخرافات إلى الحقيقة
(7)
(70) اعتنى المسلمون قديمًا بالرياضة البدنية اعتناء شديدًا زائدًا؛ لأن
العقل الصحيح لا يكون إلا في الجسم الصحيح، ولذلك كانوا يعلمون الشبان فن
الفروسية والرماية والسباحة اتباعًا للحديث الشريف القائل: علموا أولادكم السباحة
والرماية [1] (وعليكم بالرمي فإنه خير لهوكم) [2] و (الرمي خير ما لهوتم به) [3] .
ليتأمل العاقل نتيجة دين أمر بتوسيع دائرة المعارف وتزييد أسباب الثروة
وتقوية البدن وفن (الحرب) وهذه الأركان الثلاثة متصل بعضها ببعض كما
لصقت محاسن الأخلاق بالتحاب والتواد، هل يقف أمام قوم هذا منهاجهم مهما قل
عددهم وعديدهم أعظم إمبراطورية؟
(71) الرحمة للصغير واحترام الكبير كان خلقًا راسخًا؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) [4] .
(72) الاقتصاد كان أساسًا للمعاملات المالية، وفي الحديث الشريف: (ما
عال من اقتصد) [5] .
(73) الشح وكان مذمومًا جدًّا، وجاء في الحديث الشريف: (ما محق
الإسلام محق الشح شيء) [6] .
(74) السخاء كان أمرًا ممدوحًا جدًّا، قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا
السخي زلته فإن الله آخذ بيده كلما عثر [7] ) .
من لا يعرف أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما سمحا بثروتهما لأجل
استكمال وسائل الحرب؟
(75) أما البخل فكان في أقصى درجات المعيبات والمذمومات؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم فيه: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق) [8] .
(76) حرية الوجدان وحرية المساكن وصيانة الملك بأنواعه ولا سيما
الكتب والرسائل وأمثالها من الحريات السياسية التي طالما افتخر بها الأوروبيون
وقد كانت من جملة ما جاءنا به نبينا من قبل ألف سنة وكسور. قال الله تعالى:
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .
وقال رسوله: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه) [9]
وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) وقال صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في كتاب
أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار) [10] .
قصارى القول: لو اعتنى علماؤنا باستخراج أمثال هذه الأحاديث لوجدوا فيها
من الوثائق ما هو كاف لإبطال كل دعوى اتُّهِم بها الدين الحنيف.
ومما يوجب الأسف أن المصائب التي حلت بالمسلمين كأنها لم تكف لفتح
عيونهم لتحري أوامر هذا الدين المبين التي تقتضي أن يكون متبعوه في طليعة
العلماء والأغنياء والأقوياء والأمراء. واعجباه!
(77) إن التهيؤ للخصم ومقابلة قوته بالقوة من أسس الإسلام لذلك قال الله
تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) فهل للمسلمين بعد
هذا أن يكلوا الأمور لمشيئة الله تعالى ويعطلوا قواهم وأوامر القرآن ويعدوا ذلك من
الإسلام؟ .
(78) أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حسن اختيار الموظفين بقوله: (لكل
شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء) [11] فهل يحل بعد هذا أن يقبل الوالي
المسلم الشفاعات لأجل توسيد الأمور العامة لغير أهلها.
(79) كانوا يعتنون بكل ما يزيد الثروة العمومية، ولا سيما تربية الغنم؛
لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذ الغنم فإنها بركة) [12] وغير خافٍ على أحد
ما للغنم من المكانة الاقتصادية في عصرنا. ليتنبه الكسالى.
(80) كانوا يضعون الشيء في محله ويتباعدون عن الإسراف والتبذير
استرشادًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على
عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على
أصحابه في سبيل الله عز وجل) [13] وهذا يدل على أنه لم يكن من المعروف في
عصره صلى الله عليه وسلم تخصيص الثروة لأناس كسالى ينامون على ظهورهم
تاركين العمل وعادِّين هذا عبادة.
(81) كان العمل والجد ممدوحًا والكسل مذمومًا لقوله صلى الله عليه وسلم:
(من بات كالاًّ من عمله بات مغفورًا له) [14] .
(82) أشد ما اعتنت به الديانة الأحمدية: الصناعة والتجارة؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم قال: (أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) [15] .
(83) كان الفقر مكروهًا مستعاذًا منه، وإنما يُطلب الصبر عليه، وكان
صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بالله من الفقر والعيلة ومن أن تظلموا أو
تظلموا) [16] و (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن
أظلم أو أظلم) [17] إن أبا بكر كان تاجرًا غنيًّا. وكذلك ذو النورين. واكتسب
طلحة والزبير ثروة هائلة من التجارة.
(84) ما كان أحد في أوائل الإسلام ينكمش في زاوية أو تكية ليأكل
ويشرب من ثمرة جد غيره باسم العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (استغنوا
عن الناس ولو بشوص السواك) [18] . لذلك كان كل واحد يشتغل بعمل من
الأعمال حسب قدرته العقلية والبدنية.
(85) الحراثة كانت محترمة جدًّا وقد أمرنا بها سيدنا صلى الله عليه وسلم
بقوله: (احرثوا فإن الحرث مبارك وأكثروا فيه من الجماجم [19] ) .
(86) الحياة الاستقلالية كانت أساس عمل كل فرد؛ لأنه صلى الله عليه
وسلم قال: (خيركم من لم يترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته ولم يكن كلاًّ على
الناس) [20] لذلك كان كل يسعى لئلا يكون حملاً ثقيلاً على المسلمين، شأن
البطالين والكسالى اليوم.
(87) الاتجار في الأقطار وجلب ما يحتاجه الناس كان من الأمور الممدوحة.
والاحتكار كان من الأمور المذمومة جاء في الحديث: (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد
في سبيل الله والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله [21] ) .
هنا أدعو القارئ الكريم لأن يطالع بحث التجارة الخارجية وبحث الاحتكار في
كتب الاقتصاد السياسي ليرى علو معنى هذا الحديث.
(88) التبذير وعمل الأشياء التي لا فائدة منها كانت مجهولة عندهم؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد
والسرج) [22] .
من هنا يفهم أن انتشار الترب وزيارتها ليس من الإسلامية في شيء. وقد
انتقلت هذه الخرافة لديننا الصافي النقي من أساطير الهنود القديمة.
إذًا إتلاف شيء من الزاد وإيقاد الشموع على القبور موجب للَّعنة فأين
المتأملون؟
(90) إن ذبح القرابين والضحايا على القبور ممنوع في دين الإسلام؛
لأنه جاء في الحديث: (لا عقر في الإسلام) [23] .
(91) النذر لغير الله ليس مشروعًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وفاء
لنذر في معصية الله) [24] .
(92) تعليق بعض الأشياء على الأولاد وغيرهم لدفع النظرة، أو استكتاب
النسخ لأجل محبة الأزواج لزوجاتهم - من أمور الشرك، نعوذ بالله. لقوله صلى الله
عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) [25] ليتنبه الغافلون المبذرون.
(93) نهى النبي صلى الله عليه وسلم لمن ربط القلب بالمشعوذين وقال:
(من تعلق شيئًا وكل له) [26] والنتيجة الحرمان.
(94) نهى كذلك عن مراجعة العرافين الذين يبتزون أموال الناس بدعوى
الإخبار عن الغيب، قال: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة
أربعين يومًا) [27] ولأن الله تعالى قال في كتابه الكريم آمرًا نبيه أن يبلغ الأمة:
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) . فما قول خفاف العقول الذين يطلبون علم الغيب من العرافين
بعد ما جاء في هذه الآية الكريمة ما نرى من الصراحة؟
(95) نهى صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم من الاسم أو من صوت الطير
وعن الرمل، وَعَدَّ ذلك وثنية فقال: (العيافة والطير والطرق من الجبت) [28] .
(96) وكذلك عَدَّ التطير شركًا فقال (الطيرة شرك) [29] .
(97) كانوا لا يتشاءمون من طير الطائر ولا يعتمدون على أقوال الكهنة
والسحرة؛ لأنه أخرج من يفعل ذلك من الجمعية الإسلامية إذ قال: (ليس منا من
تطير ولا من تُطُيِّرُ له أو تكهن أو تُكُهِّنَ له أو تسحر أو سُحِرَ) [30]
(98) الحسد والنميمة والكهانة كانت بمنزلة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث
الشريف: (ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه) [31] أين من يعتبر؟
(99) لا واسطة بين العبد والمعبود في دين أحمد، وكل فرد مسئول عن
عمله؛ لأن الله تعالى قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) أما
ما يعمله أو يتخذه بعض الجهلة من الوسطاء لله تعالى فهو مأخوذ من الأمم السابقة
وتقليد (للإغراء) من النصارى و (للبراهمة) عند الهنود القدماء، و (لمونيه)
عند الزردشتيين وللكاهن عند الكلدان. وما لهذا مكان في دين الإسلام.
(100) إن الله غني عن أية واسطة بينه وبين عبده؛ لأنه قال في كتابه
الكريم: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) .
وأما بناء القبور الفخمة والمزينة واتخاذها ملجأ لقضاء الحاجات فهو ليس من
الإسلام في شيء. ولكنه تقليد للنصارى والهنود والإيرانيين كما سيجيء تفصيل
دخول هذه الخرافات في تعاليم الإسلام.
(101) الغيبة كانت مستكرهة جدًّا؛ لأن الله قال: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم
بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) والأحاديث في
تحريمها كثيرة.
ليتنبه الأغنياء الذين يقضون أوقاتهم باغتياب الناس والسبحة في أيديهم.
(102) لم يعتن الدين الإسلامي بشيء كما اعتنى بالعلم. وقد جاء في
الحديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة، وطلب العلم يومًا خير من صيام
ثلاثة أشهر) [32] وقال أيضًا: (العلم أفضل من العبادة، ومِلاك الدين الورع) [33]
و (فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة) [34] و (أفلح من رزق علمًا) [35]
(103) الحرية الشخصية والاستقلال الذاتي من أهم قواعد الدين الحنيف
وحفظاً لكرامة الضرر جاء في القرآن الكريم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) .
فإن كان جل جلاله ينهى نبيه عن السيطرة، فهل يكون هناك دين يكفل
الحرية أزيد من دين الإسلام؟ وسنبحث في مقابلة الإسلام بغيره في هذه المسألة
بحثًا خاصًّا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه ابن منده في المعرفة والديلمي في مسند الفردوس بسند حسن.
(2) الطبراني في الأوسط عن سعد بسند صحيح.
(3) الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر.
(4) أحمد والترمذي والحاكم عن عبد الله بن عمر بسند صحيح.
(5) أحمد عن ابن مسعود بسند حسن.
(6) أبو يعلى عن أنس بإسناد حسن.
(7) الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس بإسناد صحيح.
(8) البخاري في الأدب المفرد والترمذي بسند صحيح.
(9) أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة.
(10) الطبراني في الكبير عن ابن عباس.
(11) رواه الحارث من حديث ابن مسعود وصححه.
(12) الطبراني والخطيب عن أم هانئ وابن ماجه بلفظ (اتخذي) .
(13) أحمد ومسلم وأصحاب السنن - ما عدا أبا داود - عن ثوبان.
(14) ابن عساكر عن أنس بسند صحيح.
(15) أحمد والطبراني والحاكم عن رافع بن خديج والطبراني عن ابن عمر وهو حديث صحيح.
(16) الحاكم في المستدرك بلفظ (تعوذوا بالله، وآخره: وأن تظلم أو تظلم) .
(17) أبو داود والنسائي وابن ماجه.
(18) البزار والطبراني والبيهقي عن ابن عباس وهو صحيح.
(19) أبو داود في مراسيله عن علي بن الحسين مرسلاً.
(20) الخطيب عن أنس بسند صحيح.
(21) الحاكم عن اليسع بن المغيرة مرسلاً.
(22) أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن ابن عباس بسند صحيح وليس سبب اللعن التبذير بل أن هذا العمل من العبادات الوثنية.
(23) رواه أبو داود عن أنس.
(24) أحمد عن جابر بسند حسن، والنذور للموتى منها ما هو من أعمال الشرك ولا فائدة في شيء من هذه النذور وإنما يستخرج بها من مال البخيل، كما ورد في حديث آخر.
(25) أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود، وهو صحيح.
(26) أحمد والترمذي والحاكم وحسَّنوه.
(27) أحمد ومسلم عن بعض أمهات المؤمنين.
(28) أبو داود عن قبيصة وهو صحيح.
(29) أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن عن ابن مسعود.
(30) الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين وهو حسن.
(31) رواه أيضًا عن عبد الله بن بسر.
(32) الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس.
(33) الخطيب وابن عبد البر في كتاب العلم.
(34) الطبراني في الأوسط والحاكم عن حذيفة والثاني عن سعد وتتمته (وخير دينكم الورع) وهو صحيح.
(35) البخاري في التاريخ والبيهقي في الشُّعب بلفظ (أفلح من رزق لُبًّا) أي عقلاً.(24/139)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحوال العالم الإسلامي
مؤتمر الصلح
بين الترك وأوروبا في لوزان
عرف الترك كيف يعاملون أوروبا في هذا المؤتمر معاملة الأمثال، ويدلون
إدلال المنتصر في القتال، وعرف مَن لم يكن يعرف من العالم أن أوروبا المادية لا
تحترم إلا القوة، ولا تذل إلا للقوة، ولا تعترف بحق غير القوة، وقد جلبت الدول
الكبرى إلى لوزان أممًا كثيرة من الشرق والغرب جعلتها عونًا لها على الترك،
فالأرمن طلبوا وطنًا قوميًّا في بلاد الأناضول، كالوطن الذي تؤسسه إنجلترا لليهود
في فلسطين من بلاد العرب، وشرذمة من بقايا الآشوريين والكلدانيين يطلبون وطنًا
قوميًّا في العراق، وأوروبا هي التي تؤيد هؤلاء وأولئك - لأنهم نصارى - بالمساومة
بينهم، ونصارى الشرق مازالوا شر آلة في يد دول الاستعمار المادية تستعملها
للتفريق بين سكان البلاد التي تطمع فيها، تُلقي بينهم وبين الأكثرين من أبناء وطنهم
العداوة والبغضاء باسم المسيحية التي تأمر بمحبة الأعداء (! !) وتُمَنِّيهم بالسعادة
والملك إذا خانوا أوطانهم في خدمتها، وهم أهون عليها من نعالها، ودماؤهم
أرخص لديها من غُسَالة أرجلها، وإلا فليؤسسوا الوطن القومي الذي وعدوا الأرمن
ومَنُّوهم به حتى حملوهم بالتغرير والتضليل على خيانة دولتهم العثمانية التي كانوا
أنعم وأعز فيها من جميع شعوبها حتى اضطرت إلى البطش بهم، عرف العالم كله
كُنْه مسيحية دول الاستعمار وغيرتها على المسيحيين بعد تبرؤهم من الأرمن كما
تبرأ الشيطان ممن أغراه بالكفر. وكان القبط أعقل نصارى الشرق فاتفقوا مع
المسلمين ولم يقعوا في الفخ الذي كان يُرَاد به تضحيتهم- فمتى يعقل من يَدَّعُونَ
أنهم أذكى البشر وأحذقهم وأدهاهم ويفيقون من سكر تعصبهم؟
كان الوفد التركي في لوزان أدهى الوفود وأحزمها، فما زال يخضخض وفود
الدول العظمى ويمخضها حتى لم يترك لاتحادها عليه مع البلقان قيمة واضطرها
إلى تساهل لم يسبق له نظير في معاملتها للترك في المؤتمرات السابقة منذ عُدُّوا
دولة أوروبية، وداس في لوزان كل ما كان من عظمة هذه الدول وجبروتها
وكبريائها في فرسايل، وسيفر، وسان ريمو ثم إنه لم يقبل المعاهدة التي حررت،
وقيل: إنها منتهى ما يمكن من التساهل والسخاء الحاتمي مع الترك، بل حملها
إلى المجلس الوطني في أنقرة ليرى رأيه فيها، وقد غلب الدهاء البريطاني الذكاء
الفرنسي في هذا المؤتمر فتحول الترك بعده عن فرنسا وتقربوا من بريطانيا،
وطفقت جرائدهم- وقد سكتت عن الطعن في الإنجليز- تطعن في فرنسا وتعدها
أكبر خصومهم فجعلت تبجح فرنسا بصداقة الإسلام مدة سنتين هباء منثورًا.
الوفود العربية في المؤتمر
كان للجنة المؤتمر السوري الفلسطيني وفد في جنيف عند اجتماع جمعية الأمم
فيها ثم انتقل إلى جنوى عند انعقاد المؤتمر الاقتصادي فيها- فكان هذا الوفد أسبق
الوفود القومية غير الدولية إلى لوزان عند الشروع في عقد مؤتمر الصلح فيه،
وكان رئيس هذا الوفد الأمير شكيب أرسلان وهو لحسن الحظ صديق للترك قديم
يعرفه كبراؤهم وخواصهم، ثم ذهب وفد من فلسطين واتحد بهذا الوفد، وذهب
وفدان من مصر واتحدا هنالك أيضًا. واجتهد السوريون والمصريون في استمالة
الترك ومطالبة وفدهم بالاعتراف باستقلال القطرين وسائر البلاد العربية عملاً
بالميثاق الوطني التركي. وكان الغرض أن يقترح جعل ذلك في معاهدة الصلح،
وبأن يتوسل إلى مؤتمر الصلح بقبول عرض مطالبهما له رسميًّا فلم ينجحا في هذا
ولا ذاك. وكل ما كان أن عصمت باشا رئيس الوفد التركي صرَّح بالاعتراف بأن
الترك قد تركوا لمصر والولايات العربية العثمانية أمر تقرير مصيرها واستقلالها
وكانت فائدة ذلك أمام الدولتين المختلفتين لهذه البلاد أنهما تحولتا عن طمعهما بأن
ينص في معاهدة الصلح على تقرير الحالة الحاضرة في مصر والانتداب في سوريا
وفلسطين وقنعتا بأن تحدد بلاد الدولة التركية تحديدًا يخرج منها سوريا والعراق،
بله إفريقيا العثمانية، وفائدة هذا سلبية محضة.
وهاهنا وقع الخلاف في ولاية الموصل فالترك يعدونها من بلادهم التي
حددوها في الميثاق الوطني، وقد ناقشهم الوفد البريطاني في ذلك باسم دولته
الوصية (المنتدبة) على العراق وأقرَّها على ذلك الملك فيصل ووالده الملك حسين
وإنما جعلتهما ملكين لمثل هذا التأييد الذي هو لازم الحماية التابعية.
هذا وإن كلاًّ منهما قد أرسل مندوبًا إلى لندن ولوزان، فكانا في لوزان تحت
تصرف لورد كرزون قولاً وعملاً، ولما اعترف عصمت باشا باستقلال البلاد
العربية، وذكر منها الحجاز بسعي الأمير شكيب أرسلان، بادر مندوب الملك
حسين بتطيير النبأ إلى مولاه بالبرق ليوهمه أن هذا كان بعض ثمرات سعيه.
ثم بلغ شركة روتر أن عصمت باشا ذكر في ضمن اعترافه أن الملك حسينًا
رئيسُ الأمة العربية وأكبر زعمائها الممثل لها، فطيرت هذه الفرية في الأقطار؛
لتكون توطئة وتمهيدًا لتنفيذ المشروع الذي تعده وزارة المستعمرات البريطانية للبلاد
العربية. وإن عقل عصمت باشا ليربأ به أن يفتات على الأمة العربية بالصدق
فكيف يفْتَات بالكذب.
كيد السياسة البريطانية للبلاد العربية
لم تنجح وزارة المستعمرات البريطانية النجاح التام بإقناع دافعي الضرائب
من البريطانيين وممثليهم في مجلس النواب بأن نَصْبَهم الأمير فيصلاً ملكًا على
العراق والأمير عبد الله على شرق الأردن - يضمن للدولة البريطانية استعمار
فلسطين والعراق بدون نفقة كثيرة ترهق دافعي الضرائب عسرًا، ويؤسس لدولتهم
إمبراطورية عربية جديدة تفيض على الخزينة تبرًا، وعلى المستعمر السكسوني
عسلاً وخمرًا، ورأت هذه الوزارة في عهد المحافظين- الذين هم أشد قومهم جشعًا
وحرصًا على الاستعمار، وضراوة باستعباد الأحرار- أن الترك مُصِرُّونَ على
انتزاع الموصل من ملك العراق، وأن استيلائهم على الموصل يُمَكِّنُهم من الاستيلاء
على بغداد في كل وقت بكل سهولة، وأن عرب العراق كغيرهم يفضلو الترك على
البريطانيين بعد أن بلوهم وعرفوا إفكهم وخداعهم، وذاقوا مرارة جبروتهم وظلمهم،
فلا يمكن أن يحاربوا الترك معهم أو تحت قيادتهم لأجل أن تكون العراق مستعمرة
هندية لهم. ومن البديهي أن بريطانيا لا تستطيع قتال الترك في العراق وحدها،
وضلع العرب معهم عليها، ولو تصدت لذلك لقامت عليها الأحزاب البريطانية
بأسرها، وخشي أن يمتنعوا من بذل مئات الملايين من الذهب والرجال، في هذه
المقامرة التي تجر وراءها الخزي والنكال، وشدة وطأة المقاطعة في الهند، وشبوب
نيران الثورة في فلسطين ومصر، ورأت هذه الوزارة أيضًا أن بعض الجرائد
والأحزاب وكبار الساسة من الإنجليز يطالبون الحكومة بالجلاء عن العراق
وفلسطين من قبل الاستهداف لهذه الأخطار، ورأت أن جعل فلسطين مملكة يهودية
فاصلة بين مصر وسائر بلاد العرب ليست من الهنات والهينات، وأنها قد صارت
من المسائل الإسلامية العامة. فالهند قد وضعت استقلال فلسطين وسائر البلاد
العربية في برنامجها، وإمام اليمن على عزلته قد احتج بها عليها، وكاد أهل اليمن
يُجْلُونَ اليهود من بلادهم لأجلها، حتى إن حكومة عدن البريطانية أجابت اليمن بأن
مسألة احتلال فلسطين عرضية مؤقتة وأنهم سيتركونها لأهلها بعد بضع سنين ريثما
تستقر الأحوال! وهذا الجواب من أسلوب الحكيم فإنهم إنما يعنون باستقرار
الأحوال حل مشكلات الكون الكبرى وتوطيد سلطانهم حيث وضعوا أقدامهم.
رأت وزارة المستعمرات كل هذا وأكثر منه مما نعلم ومما لا نعلم فرجَّحت
إحداث تغيير جديد في شكل إدارة البلاد العربية وتجديد الضغائن والبغضاء بين
العرب والترك قطعًا لطريق الجامعة الإسلامية، قبل أن يستيقظ جمهور الشعب
العربي من رقاده، ويثوب الجمهور المخدوع منه إلى رشاده، ويدوس الزعماء
المتجرين به وببلاده، وهي مراقبة لما حدث من تحول العراق عن فيصل وعدم
انخداعه بالمعاهدة، وفلسطين عن عبد الله، وأنه لما عاد من زيارتهم في أوروبا لم
يزره ولا هنأه من أهلها أحد، على ما بثه - ويبثه - أُجَرَاؤُهُ من الدعاية
(البوربغندة) في شأن رحلته وفوائدها المنتظرة (؟) كما أنها عالمة بما كان من
فشل حسين في محاولة استمالة الإمامين يحيى والإدريسي، وليس لهم أحد
يعتمدون عليه من كبراء الأمة العربية غير أهل هذا البيت الذي هو رئيسه - لا
رئيس العرب- يطالبها باسم العرب - لا باسمه - بإنجاز ما وعدته من تأليف مملكة
عربية بقوتها وتحت وصايتها وحمايتها، بشرط أن يكون هو رئيسها، تمتد من
البحر الأحمر إلى حدود الأناضول تحتل هي ولاية البصرة منها لسائر الولايات
المستشارين والموظفين الذين يديرون شؤونها.
* * *
مشروع الشكل الجديد لاستعمار البلاد العربية
فالمشروع الذي تدرسه وزارة المستعمرات مبنيٌّ على التوفيق بين مقاصد
معاهدة سايكس بيكو ووعود (السر هنري مكماهون) للملك حسين في أثناء ما دار
بينهما من المكاتبات التي عرفها قراء المنار في المجلد السابق منه (م 13) . ولما
كان هذا التوفيق لا يتم إلا بتوقيف فرنسا عليه، وإقناعها بجعل داخلية سورية داخلة
في المملكة العربية الشريفية، والقناعة المؤقتة بجعلها منطقة نفوذ فرنسية، وحصر
الانتداب المباشر المؤيد بالاحتلال العسكري في المنطقة الساحلية كما تقنع إنجلترا
بجعل العراق منطقة نفوذ بريطانية وحصر الحكم الاحتلالي المباشر في ولاية
البصرة - لما كان الأمر كذلك كاشفت وزارة الخارجية البريطانية حكومة
الجمهورية الفرنسية بعزمها معتمدة في إقناعها على التخويف من استيلاء الترك
على سوريا والعراق والقيام بحركة الجامعة الإسلامية التي يمتد خطرها إلى شمال
أفريقيا الفرنسي فيفسده على ولية أمره كما يفسد الهند ومصر على الدولة البريطانية
- وكانوا قد مهدوا السبيل لذلك بتدريب الأمير عبد الله على استمالة فرنسا إلى
شخصه قبل سفره إلى لندن وفي أثناء وجوده في أوروبا.
ومن حججهم التي قويت بعد إعراض الترك عن فرنسا في أواخر العهد بمؤتمر
لوزان أن أسرة الملك حسين هي الأسرة الوحيدة التي أشربت دون غيرها من البيوتات
العربية بغض الترك والحقد عليهم. وكان الغرض من هذا السعي أن يجعل الأمير
عبد الله ملكًا على شرقي الأردن وولاية دمشق وحلب ما عدا سواحل حلب وما ألحق
من ولاية دمشق بلبنان الكبير، وبذلك يسهل حمل أهل هذه البلاد وأهل العراق على
مبايعة الملك حسين بالخلافة، فينشق العالم الإسلامي فيها وتستحكم العداوة بين الترك
والعرب ويتيسر للدولتين ضرب أحدهما بالآخر عند الحاجة إلى ذلك، وتدوم لهما
السيطرة على البلاد العربية.
وقد درست وزارة خارجية فرنسا هذا المشروع فترجح عندها عدم الثقة
بهؤلاء الحجازيين صنائع الإنجليز الذين لا تأمن فرنسا إغراءهم بإخراجها من
سوريا عند سنوح الفرصة وإرادة الإنجليز ذلك، وقيل: إنها كانت تدرس معه
مشروعًا آخر مضادًّا له، وهو جعل هذه البلاد تحت سيادة الترك إذا رضوا بأن
تكون مناطق نفوذ لهم وللإنجليز وبذلك يقضون على النهضة العربية ويكتفون
أخطارها ولكنها لما تقرر هذا ولا ذاك.
ولما شعر الناس في سوريا بهذه المفاوضات والمباحث، انبرى أصحاب
الأطماع يتزلفون إلى حيث يتخذ كل منهم له يدًا يستغلها عند تنفيذ المشروع المنتظر
ولهجت بذلك جرائد سوريا ومصر منذ بضعة أشهر فكانت شقشقة هدرت وتلتها
أخرى ثم قرتا في سوريا وكذبتهما الحكومة المحتلة، وإن لم يصدق كل الناس
تكذيبها في وقتها.
وأما الدولة البريطانية فلا تزال تدرس المشروع وقد توسل أعوانها في العراق
بطلب الترك للموصل إلى تنفير العراقيين منهم من حيث أظهرت هي الميل إلى
إنجاز الوعد باستقلالهم والاستعداد للجلاء عن بغداد لولا أن قام الملك فيصل
يستغيث بها أن لا تفعل وشهد وفده لديهم أو صنيعتهم عنده (جعفر باشا العسكري)
بأن خروجهم من العراق نكبة ما بعدها نكبة (!) وهل هذه الشهادة إلا شهادة عليه
وعلى مولاه الملك فيصل بما يفهمه كل أحد (؟) وهل يخفى على الأكمه أن هذه
الدولة إذا لم تخرج في مثل هذه الفرصة من العراق فلن تخرج منه بعد ذهابها إلا
بانقلاب جديد في العلم تزلزل به الأرض زلزالها، وتخرج أثقالها، ويتقوض
صرح الإمبراطورية البريطانية كلها. ولن يكون هذا بعمل العراق بل لن يكون
للعراق عمل في الوجود بعد استقرار السيطرة البريطانية عليه إلا زرع القطن
للمعامل الإنجليزية واستخراج البترول لها وما أشبه ذلك، وماذا يهم فيصل وآل
فيصل إذا شقي العراق واستعبد وهو متمتع فيه بلقب الملك وأبهته ونعمته وفخفخته؟
ألم يكن يسعى لمثل ذلك في سوريا وكان كل الخلاف بينه وبين الوطنيين عليه؟
بلى وقد ظهروا عليه حين أعلنوا الاستقلال واضطروا إلى اكتفاء شر سعيه للوصاية
الأجنبية بجعله ملكًا عليهم حتى إذا ما ألح عليه الجنرال غورو بإعلان الوصاية
الفرنسية أجاب بالقبول، قبل أن يوجه إليه الجنرال الإنذار المعلوم، وهذا أمر لم
نعلمه إلا من عهد قريب. ولذلك لا نستبعد الآن أن يكون الإنذار عن تواطؤ بينهما؛
ليتخذه فيصل ذريعة إلى إقناع المؤتمر السوري العام وسائر زعماء البلاد بقبول
الوصاية التي بذل جهده قبل ذلك في إقناعهم بها فأبوا- ويؤيد هذا انتظاره الاحتلال
الفرنسي في ضواحي دمشق حتى إذا ما تم عاد إلى قصره؛ ليقوم بأمر الملك تحت
وصايته وظله (؟ ؟) ولو رضي الفرنسيس أن يبقى فيصل في دمشق لرضي هو
بمحاولة إسلاس للبلاد لهم بدون نفقة تذكر كما فعل أخوه للإنجليز في شرق الأردن،
ولكان هذا شرًّا للبلاد لا خيرًا لها، ولو أن الإنجليز جعلوه هذا ملكًا على فلسطين
كلها لكان تنفيذ الوصاية والوطن القومي لليهود أقرب مثالاً وأقل نفقة، ولكن الله
نجَّى فلسطين من هذه النكبة؛ لأنه أراد أن ينفخ فيها روح القومية والوحدة
الصحيحة، فلولا هذا الاتحاد بين عرب فلسطين المسلمين والمسيحيين لحكمنا على
هذه البلاد حكمًا محزنًا مخزيًّا، وقد كان من فوائد هذا الاتحاد واليقظة أن علم الشعب
الفلسطيني كله ما كان خفيًا إلا على أفراد منه وهو أن الأمير عبد الله الحجازي
صنيعة الإنجليز كأبيه وأنهم موطنون أنفسهم على أن يكونوا ملوكًا في دائرة
الإمبراطورية البريطانية المرنة كسلطان زنجبار ونظام حيدر آباد وراجا كشمير
وأمثالهم، أما وقد عرفت حقيقتهم فقد صاروا عاجزين (عن تسليم البضاعة) .
نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبأنه لا يمكن أن يتفق الإنجليز مع هؤلاء
الملوك الحجازيين إلا على استعمار البلاد العربية واستعمار الشعب العربي، وأن
كل تغيير يجددانه في البلاد العربية تجارب بريطانية كالتجارب التي نراها في
مصر، فيجب على الأمة العربية أن لا تثق بشيء يجري بين الفريقين، عملاً
بالحديث الصحيح: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) .
__________(24/145)
الكاتب: مراسل جريدة الأخبار المصرية في الأستانة
__________
نبأ عن النهضة الأفغانية
وكونها دينية مدنية
ألم مراسل جريدة الأخبار المصرية في الآستانة بمدينة (رومية) عاصمة
الدولة الإيطالية في طريقه إلى (لوزان) وزار فيها السردار عظيم الله خان سفير
الدولة الأفغانية فيها فوجده في دار السفارة يقرأ القرآن العظيم، وبعد أن تعارفا دار
بينهما الحديث الآتي وكان المراسل سائلاً والسفير مجيبًا.
(الأفغان وإيطاليا)
س - هل أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) مقابل
السفارة الأفغانية التي تأسست في (روما) ؟
ج - أجل لقد أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) وعينت
الماركيز (بيترنو) سفيرًا لها لدى جلالة أمير الأفغان. وقد تم الاتفاق بين شركة
أفغانية وشركة إيطالية على مد خط أوتوموبيل بين (كابل) و (بشاور) إلى مدة
12 سنة بحيث يكون 60 في المائة من رأس المال إيطاليًّا و 40 في المائة أفغانيًّا.
س - هل عقدت أو تتفاوض الحكومة الأفغانية لعقد معاهدات أو اتفاقات
سياسية أو اقتصادية مع إيطاليا؟
ج - إنني لم أصل إلى عاصمة إيطاليا إلا منذ أيام قلائل، بيد أننا سنسعى
لعقد معاهدات تجارية مع إيطاليا؛ لأن لدينا مواد كثيرة يمكننا تصديرها إلى البلاد
الإيطالية، ومن هذه المواد الصوف وجلود استراخان، والسجاجيد والفواكه الجافة
وبعض المعادن كالذهب والفضة والحديد و (الزنك) والنحاس والكبريت وبعض
الأحجار الكريمة كالزمرد والياقوت والماس وغير ذلك.
وهنا دعا دولة السفير تابعه وأمره أن يحضر نماذج المعادن الأفغانية فأطاع
التابع، وأحضر عددًا من العلب فتحها السفير وألقى ما فيها على جريدة فرشها على
المكتب وأرانا أنواع الحديد والرصاص والزنك والنحاس والذهب والفضة.
وقد كان من بينها ما هو خام وما هو نقي. ثم إنه فتح العلب التي تحتوي
على الأحجار الكريمة وأرانا أنواع الياقوت والزمرد والماس والزبرجد مقدمًا لنا
بعض التفصيلات عن المناجم التي تحتوي هذه المعادن، قائلاً: إن من بينها ما لا
يستطيع العالم بأسره أن يستنفذه. وقد قضينا نحو نصف ساعة في فحص هذه
المعادن والأحجار ولما انتهينا من فحصها عدنا إلى حديثنا فسألنا دولته:
(السياسة الأفغانية في الغرب والشرق)
س - ما أساس السياسة الغربية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟
ج - الصلح والمسالمة. لقد كانت بلاد الأفغان موصدة الأبواب إلى حين
إعلان استقلالها، والآن تتعارف الأفغان مع جميع الدول وستزداد بهم تعرفًا كل يوم.
لا تريد الأفغان أن تنازع أحدًا وإنما تريد ترقية بلادها.
وقد كان المعنى الذي استخرجناه من أقوال دولة السفير أن أساس السياسة
الغربية التي تتبعها الأفغان هي المسالمة الرامية إلى الاستفادة من الغرب في استثمار
المنابع الطبيعية الأفغانية وإعلاء شأن البلاد الأفغانية عرفانًا واقتصادًا.
س- إذن ما قواعد السياسة الشرقية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟
ج- الإخاء ! وقد كان من أحدث مظاهر هذا الإخاء تلك البرقية التي أرسلها
جلالة أمير الأفغان إلى ملك إنجلترا طالبًا فيها معاملة تركيا في دائرة الحق والعدل.
وقد أرسلت الحكومة الأفغانية برقيات في هذا المعنى لحكومتي فرنسا وإيطاليا.
س- ما رأيكم في مؤتمر لوزان؟
ج- إننا لا ننتظر إلا صلحًا عادلاً مرضيًا.
س- فإذا لم تقبل الدول تحقيق الميثاق الوطني التركي واضطرت تركيا إلى
مواصلة جهادها، فماذا يكون موقف البلاد الأفغانية نحو تركيا؟
ج- موقف البلاد الأفغانية إزاء هذه الحالة مُصَرَّحٌ به في المعاهدة التركية
الأفغانية.
س- لماذا لا تتأسس العلاقات السياسية بين مصر والأفغان؟
ج- نحن نريد أن نؤسس مع مصر كل علاقة. وقد مر (الجناب الأعلى
محمود طرزي بك) سفير الدولة الأفغانية في باريس بمصر خلال سيره إلى مقر
وظيفته وقابل الكثيرين من رجال مصر فأكرموا وفادته ولبث هنالك مدة.
وإذا قبلت مصر فنحن مستعدون في الحال لتأسيس جميع العلاقات السياسية.
س - كيف شعور الأفغانيين نحو إخوانهم المصريين؟
ج - لا فرق بين الأتراك والمصريين في نظرنا، نحب كليهما حبًّا جمًّا.
ونحن نتلقى أخبار مصر دائمًا ونتتبعها بكل شوق. وبُغيتنا تأسيس جميع
الروابط مع جميع الشعوب الإسلامية وعلى الأخص الشعب المصري.
(مبادئ التربية في بلاد الأفغان)
س- اسمح لي يا دولة السفير أن أسألكم بعض أسئلة ليست سياسية.
هل تتكرمون عليَّ ببيان مبادئ التربية التي تقبلتموها لتربية أبنائكم؟
ج- هي مبادئ التربية الإسلامية الصحيحة. وهل هناك مبادئ أشرف وأعلى
من مبادئ التربية الإسلامية؟ إن الدين الإسلامي دين الفطرة، دين الفضيلة، دين
العزة، دين المدنية، دين الحق والحقيقة. فكيف لا تكون مبادئه أساس التربية في
البلاد الإسلامية؟ نحن على أتم يقين أن كل نجاح وكل فلاح نفوز به في معترك
الحياة، إنما نفوز به بفضل اعتصامنا بمبادئ ديننا المبين. فإذا ما أرخينا حبل
الاعتصام أخذنا في التقهقر، والانحطاط والاضمحلال, تلك حياة المسلمين أعدل
شاهد على أنهم قد ارتفع شأنهم كما رفعوا شأن العالم معهم لما كانوا متعصمين بالدين
الإسلامي. لكنهم لما أهملوا دينهم اجتمعت عليهم المصائب ولم يستطيعوا مقاومتها.
فكيف يكون الأمر على هذا المنوال ولا نتخذ مبادئ التربية الإسلامية أساسًا لتربيتنا.
أزيد على ذلك أننا نهتم في بلادنا بترقية معارفنا على هذا الأساس، أكثر من
اهتمامنا بأي شيء. والجميع من جلالة الأمير إلى أصغر صغير يبذلون كل جهد
لترقية المعارف.
ويعقب ذلك في الأهمية: الحربية ثم الداخلية. وقد أرسلنا إلى أوروبا بأعداد
من الطلاب كما تعلمون، ونحن نبذل قصارى الجهد لأن يكونوا متمسكين بمبادئ
الدين الحنيف معتصمين بحبل الله، حتى يتمكنوا من خدمة شعبهم أعظم الخدم.
(التشريع والآداب في الأفغان)
س- ما منابع التشريع في بلاد الأفغان؟
ج- منبع التشريع هو الشريعة الغراء، نستمد جميع قوانيننا منها. وكلنا
يراعي هذه القوانين. وليس جلالة الأمير غير مسئول. بل هو مسئول ويُدْعَى
إلى المحاكمة إذا حدث خلاف بينه وبين أحد رعاياه. فالكل تحت حكم القانون
المستمَد من الشريعة السمحة بلا استثناء. حكومتنا حكومة شرعية، قانونها
الأساسي أحكام الشرع.
س- هل تطبق المبادئ الاجتماعية في الحياة الأفغانية؟
ج- تُطَبَّقُ تمام التطبيق. ومن آثار ذلك أن الأشربة الكحولية لا تدخل في
بلادنا أصلاً، أجل، لا تدخل الآفات العصرية في بلادنا. وسياجنا الحصين الذي
يمنع دخولها في بلادنا هو إيماننا قبل كل شيء، ولن تجد امرأة عاهرة واحدة بين
نساء الأفغان. بلادنا والحمد لله طاهرة مطهرة، بلاد إسلامية بكل معنى الكلمة،
وكل من يجرؤ على خرق هذه المبادئ يلاقي عقابه الصارم في الحال.
(جلالة أمير الأفغان)
س- نسمع عن جلالة أمير الأفغان كثيرًا من المناقب التي تتلقاها بكل احترام
وفخار. فهل لدولتكم أن تزيدونا بيانًا؟
ج- أشرح لكم كيف يقضي جلالة الأمير يومه: ينتبه جلالة الأمير من نومه
مبكرًا ويكون على رأس عمله قبل نُظَّارِهِ وقبل موظفي حكومته. ويشتغل مع نظاره
إلى الظهر حيث يتناول غذاءه معهم ثم يعود بعد برهة إلى العمل حتى المساء،
وهنالك يتريض نحو ساعتين بركوب الخيل أو المشي أو غير ذلك، ثم يتناول
عشاءه ويعود إلى عمله حتى بعد منتصف الليل. ولهذا يلوح على جلالته آثار
التعب دائمًا. هكذا يقضي جلالته أيام أسبوعه ولا يستريح إلا أيام الجمعة. لا
يتناول جلالته أي مرتب من خزانة الشعب بل يعيش من دخله الخاص معيشة
بسيطة لا تفترق عن معيشة أفقر رعاياه. ولا شك أن مثل هذه الحياة تكون خالية
من جميع مظاهر الأبهة والعظمة الخاوية. وجلالته رجل عمل لا رجل مظاهر.
وقد كان أحسن أسوة لأمته للسعي والكد في سبيل ترقية البلاد ا. هـ الحديث.
قال المراسل: الحق أن دولة عظيم الله خان رجل كبير من كل وجهة. فهو -
عدا كونه رجل عمل ورجل دولة - رجل إسلام يشعر بعزة دينه أسمى شعور؛
ولذلك تراه في عاصمة إيطاليا يرتدي ملابسه التي يرتديها في عاصمة دولته ولا
يستبدل بطربوشه قبعة، أي إنه رجل يمثل دينه ودولته على السواء اهـ.
(المنار)
قد نشرت الصحف العامة مقالات أخرى عن الأفغان وأميرهم متعددة
المصادر متفقة المعنى مصدقة لما قلناه في هذه الأمة مرارًا آخرها ما في بحث
الخلافة المستفيض وهو أن هذا الشعب هو الجامع بين صلابة الدين التي في بلاد نجد
وبين الأخذ بأساليب المدنية والعمران السالمة من أخطار ومفاسد المدنية المادية
الإفرنجية السارية في مصر وبلاد الترك وأمثالها. ولا نرى في كلام السفير الأفغاني
في إيطاليا مبالغة إلا في قوله: (إن معيشة الأمير لا تفترق عن معيشة أفقر
رعاياه) .
__________(24/152)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(الفطرة) جريدة عربية أسبوعية تصدر في (بوينس أيرس) عاصمة
(الأرجنتين) صاحبها الكاتب الفاضل العاقل السيّ محمود محمد سلوم، وغايتها:
إرشاد قرائها إلى الوحدة والمدنية الراقية بسنن الله تعالى في الفطرة، ويدخل
فيها هداية دين الفطرة (الإسلام) ولذلك نرى مقالاتها الإرشادية متوجة بآيات
الذكر الحكيم وممزوجة بها أيضًا على المنهاج الذي أشرعه أستاذانا حكيمَا الإسلام
وموقظَا الشرق في العروة الوثقى وسلكنا جادته بالمنار، وقد خلفت في ذلك جريدة
الأرجنتين التي ساءنا احتجابها. وأهم ما ننتقده منها ما انتقدنا من تلك وهو كثرة
الغلط في الآيات القرآنية والأحاديث، وتلافيه أن يراجع الكاتب أو المصحح تلك
الآيات في المصحف الشريف قبل طبعها، وأن يستعين على ذلك بمفاتحه ككتاب
(فتح الرحمن) أو كتاب (مفتاح كنوز القرآن) ويراجع الأحاديث في معاجمها
وأشهرها كتاب الجامع الصغير وكنوز الحقائق المطبوع على حواشيه.
ونضرب لذلك مثلاً مقالاً [1] عقدته الجريدة في عددها 12 بعنوان: (انصر
أخاك ظالمًا أو مظلومًا) لإنكار كون هذه الجملة حديثًا نبويًّا؛ صيانة لمقام النبوة
المعصوم من الأمر بنصر الظالم. وقد أخطأ كاتب المقالة في إنكار الحديث كما
أخطأ في أكثر الآيات التي أوردها في المقالة.
بنى إنكاره للحديث على قاعدة صحيحة وهي أن من علامة الحديث الموضوع
مخالفته للقطعي كالقرآن وغيره من أصول الدين وفروعه القطعية، ومنها تحريم
الظلم وإزالته لا إقراره ومساعدة أهله عليه، ولكن تحكيم هذه القاعدة في الحديث
كتحكيمها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} (النساء:
43) بإنكار أن يكون من القرآن للقطع بأن القرآن يأمر بالصلاة، ولا يمكن الجمع
بين الأمر بالشيء والنهي عنه. ومن علم أن هذا النهي مقيد بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ
سُكَارَى} (النساء: 43) لا ينكره. كما أن العالم بأن النبي صلى الله عليه وسلم
فسَّر في هذا الحديث نصر الظالم بحجزه عن الظلم، كما رواه أحمد والبخاري
والترمذي عن أنس، وبرده عن ظلمه، كما رواه الدارمي وابن عساكر عن جابر
ابن عبد الله - لا ينكره، وقد ظن الكاتب أن هذا تأويل من بعض العلماء، والصواب
أنه تتمة الحديث، وفي رواية عن عائشة: (إن كان مظلومًا فخذ له بحقه. وإن
كان ظالمًا فخذ له من نفسه) .
ومن الغلط في الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) إلخ جعل فيها (إذ) مكان (إن) ومنها قوله تعالى:
{وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ
تُنصَرُونَ} (هود: 113) حذف من وسطها {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} (هود: 113) ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) زاد فيها كلمة
(بالحق) ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: 6) . أورده هكذا: (وإن استجارك أحد من
المشركين فأجره حتى يبلغ مأمنه.
وفيها من الخطأ في الحديث - متنه وتصحيحه - قول الكاتب: ورد في الحديث
الصحيح قول الرسول الأمين: (خذوا كلامي فاعرضوه على القرآن فما كان منه
وفقًا فهو شرع والا فهو رد) وهو مروي بلفظ آخر وغير صحيح السند ومعارض
بالصحاح، قال عبد الرحمن بن مهدي أحد أقران الإمام مالك: الزنادقة والخوارج
وضعوا حديث: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا
قلته وإن خالف فلم أقله) وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء
صغير ولا كبير. وزعم بعضهم أنهم عرضوه على مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) فخالفه. والصواب أن ليس
كل ما روي من الحديث موافقًا لكتاب الله فهو صحيح، فمن الأحاديث الموافقة للقرآن
ما لا يصح سنده بل ما هو موضوع. وأما ما خالف القرآن مخالفة صحيحة
فيستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
وقد علمنا أن صاحب هذه الجريدة من طائفة العلويين المعروفين بالنُّصَيْرِيَّة
فَسَرَّنَا ذلك أضعاف ما كان يسرنا لو كان من طائفة أخرى؛ لأن هذه الطائفة أشد
الفرق الإسلامية تقصيرًا في العلم ولم أر أحدًا من أفرادها في بلادنا متعلمًا بصيرًا
بأمور العصر إلا شابين أحدهما كان عضوًا معنا في المؤتمر السوري العام بدمشق
والثاني أديب شاعر له على حداثة سنه ذوق في الشعر وأسلوب جيد سيكون بهما
من أشهر شعراء الوطن، وأرجو أن يكون فيها كثيرون خيرًا منهما. وإنني أرى
في هذه الجريدة أن بعض الجالية في الأرجنتين يهدونها إلى بعض القارئين في
الوطن فعسى أن تكون خير وسيلة إلى إصلاح حال الطائفة وترغيبها في العلم
والوحدة الملية من جهة والوطنية من جهة أخرى. فإن الدسائس الأجنبية تدب
عقاربها في القوم والوساوس الشيطانية تفعل في أذهانها فعلها، تقول لهم: إنكم لستم
مسلمين بل أنتم أصحاب دين مستقل يجب أن تكون لكم دولة مستقلة … ولكن
قصارى هذا الاستقلال التفريق والضعف الذي يذهب باستقلال الوطن كله.
وأما مسألة الدين الإسلامي ومكانهم منه فسيجليهما العلم لمن لا يعرفهما فتعلم
هذه البطون العربية العريقة أن مجوس الفرس هم الذين أسسوا الجمعيات الباطنية
للقضاء على مُلك العرب بتفريقهم في الدين الذي جمع كلمتهم وآتاهم ذلك المُلك
العظيم لأجل إنقاذ وطنهم وإعادة ملك كسرى ودين (زرادشت) وقد كانت دسائسهم
من أسباب إضعاف العرب وإذهاب ملكهم، ولكن الإسلام ظل هو الحاكم لبلاد
الأكاسرة إلى اليوم.
* * *
(محاضرات الفلسفة العامة وتاريخها والفلسفة العربية وعلم الأخلاق)
في الجامعة المصرية
قد طبع منذ عامين أو أكثر ما ألقاه الأستاذ (الكونت دي جلارزا) الأسباني من
هذه المحاضرات في الجامعة المصرية في ثلاثة أجزاء، جُمعت في كتاب واحد نافت
صفحاته على 250 وجعل ثمنه ثمانون قرشًا، فمن يقرأه من طلاب الفلسفة كان كأنه
واظب على تلك الدروس في تلك السنة، وكان هذا الكتاب مما ادخرت لأقرأه فأكتب
عنه بعد القراءة فحالت الضروريات دون ذلك بل ضاق الوقت عنها.
* * *
(أسرار المراهقة في الفتى)
وهي محاورات دارت بين أب طبيب وابنه، تبحث في شئون دور البلوغ في
الفتى، وفي أهمية وظائف أعضاء التناسل وكيفية الاحتفاظ بها سليمة ونصائح قيمة
عليها تتوقف صحة الأبدان ونضارة العمران، تأليف الدكتور شخاشيري الطبيب
والجراح في المستشفى الإنجليزي بمصر القديمة.
جرى العرف العام على عَدِّ كل ما يتعلق بشئون داعية التناسل من بدء الاستعداد
الطبيعي لها إلى غاية حصول ثمرتها من الأمور السرية التي يخل إظهارها والتحدث
عنها بالآداب، ويُرمى صاحبه بالمجون والخلاعة، فقلما يسمع الفتى كلمة من أهله أو
أصحابه عن معنى بلوغ الحلم إلا ما يتلقاه طالب علم الفقه الإسلامي من أحكام غسل
الجنابة، وبناء على هذا العرف سمي هذا الكتاب الذي بين مؤلفه موضوعه (بأسرار
المراهقة) وجرى فيه على تعريف المراهقين بما سيجدونه في أنفسهم من شئون هذا
الطور الجديد بأسلوب علمي طبي نزيه، ولكن تلك الآداب قد طوي بساطها في هذا
العصر عند أكثر أهل هذه البلاد وأمثالها فصار أعمق الأسرار فيها جهرًا، قلما يجهله
فتى أو فتاة إلا في بيوت قليلة. والكتاب يفيد هؤلاء وغيرهم؛ لأن الذين يعرفون
أسرار المراهقة والبلوغ يعرفونها من المُجَّان والفُسَّاق المقاربين لهم في السن أعني
أنهم يعرفون منها ما تضر معرفته، والكتاب يرشدهم إلى ما يتقون به هذا الضرر فلا
يستغنى عن مثله منهم أحد، وقد طبع على ورق جيد في 68 صفحة من القطع
الصغير وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر وثمنه خمسة قروش، وأجرة
البريد قرش واحد.
* * *
(القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد)
للإمام المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني قال في أوله: (طلب مني
بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثًا يشتمل على تحقيق الحق في التقليد
أجائز هو أم لا؟ على وجه لا يبقى بعده شك، ولا يقبل عنده تشكيك. ولما كان هذا
السائل من العلماء المبرزين كان جوابه على نمط علم المناظرة) وقد طبع هذا
الكتاب في العام الماضي فبلغت صفحاته زهاء الستين من قطع المنار، وصححه
وعلق عليه بعض الفوائد صديقنا الشيخ محمد منير السلفي من علماء الأزهر. ولكن
بقي فيه غلط كثير لعل سببه رداءة النسخة التي طبع عنها، وهذا لا يمنع الاستفادة
من الكتاب فنحث جميع المشتغلين بعلم الدين الصحيح بالنية الشرعية الصحيحة أن
يطالعوه، وسننقل نبذة منه في جزء آخر إن شاء الله تعالى، وثمن النسخة منه
ثلاثة قروش وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.
__________
(1) كُتب هذا التقريظ منذ أشهر عقب وصول العدد 12 من الجريدة.(24/157)
رجب - 1341هـ
مارس - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الإكراه على الطلاق معلقًا عقب عقد النكاح
(س9) من صاحب الإمضاء في (سمبس - جاوه) .
حضرة العلامة الأكبر، الذي هو حجة الإسلام في هذا العصر، مولاي
الأستاذ (السيد محمد رشيد رضا) صاحب مجلة المنار الأغر، حفظه الله تعالى.
السلام عليكم تحية مباركة طيبة. وبعد فإني أرجو كل الرجاء أن تتفضلوا
عليَّ بالجواب عما يأتي:
قد جرت عادة بلدنا، وفي سائر بلاد جاوه وملايو من زمن بعيد إلى اليوم
أن كل عاقد للنكاح من قاضٍ أو حاكم يلقن كل زوج عقد له النكاح عقبه تعليق
الطلاق بما إذا غاب عنها ولم يترك لها نفقة ولم ينفق عليها في غيبته مدة ستة أشهر
مثلاً، وهي غير ناشز، فإذا لم ترض بذلك واشتكت أمرها إلى الحاكم، وثبتت
دعواها ببينة وقبلها طلقت طلقة واحدة.
وغير ذلك من التعاليق التي تناسب حال كل بلد من هذه البلاد، والتعليق الذي
جرينا عليه في بلدنا وطالبنا كل زوج عقدنا له بالتلفظ به هو بأمر ملكنا (السلطان)
وكذا في سائر تلك البلاد بأمر أولياء أمورهم.
ثم إني رأيت في هذه الأيام أن لا حاجة لنا إلى هذا التعليق؛ فإن في مذهب
الشافعي رحمه الله بابًا واسعًا في فسخ النكاح. والغرض من التعليق هو التفريق بين
المرء وزوجه بموجب تعليقه. وقبل كتابة هذا الكتاب سألت نفرًا من المشتغلين بعقد
الأنكحة عن التعليق: هل هو سنة أو مكروه أو … أو … وما فائدته؟ فلم أجد في
أجوبتهم إلا استحسان التعليق، حتى غلا بعضهم فيه، وقال: يجب على الأمة أن
تطيع أمر السلطان به وأنه يصح ولو مع الإكراه عليه؛ لأنه إكراه بحق.
قلت: لا يصح التعليق مع الإكراه؛ فإنه إكراه بغير حق، وإنما تجب طاعة
السلطان في المعروف كما ورد في الحديث: (إنما الطاعة في المعروف) ولا
يكون الشيء واجبًا إلا إذا كان له مستند من الأدلة الشرعية وهي الكتاب والسنة
والإجماع والقياس، يبين كونه واجبًا، وهل لهذا التعليق مستند من هذه الأدلة؟ بل
قلتَ: إن مثل التعليق الذي جرينا عليه بدعة مكروهة، إن لم أقل: إنها حرام؛ فإن
الإسلام لم يأمرنا بتحليف الزوج بالطلاق بأي شيء كان. فقد قال في شرح الروض
(تعليقه جائز) نعم إني قرأت في هذه الأيام في كتاب باللغة الملاوية للسيد عثمان بن
عقيل اسمه (القوانين الشرعية) قوله فيه ما تعريبه: (إنما يستحسن تعليق الطلاق
بعد عقد النكاح لتذكير الزوج بالمحافظة على حق زوجته من المعاشرة بالمعروف
كما أمر الله به في كتابه {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) اهـ وها أنا ذا
أنقل التعليق المستعمل في (بتاوى) بنصه العربي من الكتاب المذكور وهو:
(أما بعد عقد النكاح فأقول في تعليق طلاق زوجتي فلانة بنت فلان بأحد هذه
الأفعال الثلاثة الآتية: حالة كوني أحث على نفسي (؟) أن لا أفعل شيئًا منها وهي:
كلما لم أنفق على زوجتي فلانة بنت فلان النفقة الواجبة عليَّ شرعًا مدة شهر واحد ولم
ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بوكيلها عنها وكالة شرعية إلى (؟) عند رادا كام
(المحكمة الشرعية) وأثبتت هي أو وكيلها دعواها بذلك عند (رادا كام) وطلبت
طلاقها بنفسها أو بواسطة وكيلها فهي طالقة من عقدي (؟) طلقة واحدة. - كلما
غبت عن زوجتي فلانة بنت فلان في سفر البر أو في البلد ستة أشهر، أو في سفر
البحر سنة واحدة، ولم ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بواسطة وكيلها وكالة
شرعية إلى (؟) عند راداكام، وأثبتت هي أو وكيلها دعواها بذلك دعواها بذلك عند
(رادا كام) وطلبت طلاقها بنفسها أو بواسطة وكيلها منها فهي طالقة من عقدي طلقة
واحدة كلما ضربت زوجتي فلانة بنت فلان ضربًا موجعًا غير لائق في الشرع ولم
ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بواسطة وكيلها عنها وكالة شرعية إلى عند (رادا
كام) وأثبتت هي أو وكيلها دعواها عند (رادا كام) وطلبت هي طلاقها بنفسها، أو
بواسطة وكيلها منها، فهي طالقة من عقدي طلقة واحدة. اهـ بالحروف.
ما تقولون في هذا التعليق، فهل يُسْتَحْسَن شرعًا أم لا؟ إنني أقول: إنما
استحسنوا التعليق وأغلقوا باب الفسخ؛ لأنهم اضطربوا في فهم أقوال العلماء
المختلفة فيه كقول بعضهم: لا يجوز فسخ عقد من غاب غيبة منقطعة وجهل حاله
يسارًا وإعسارًا، وبعضهم قال بجوازه. فهم لا يجرؤون على ترجيح قول على آخر
من تلك الأقوال؛ لأنهم قالوا: إنهم ليسوا من أهل الترجيح. هذا والمرجو أن تبينوا
لنا سريعًا الحق في ذلك فيكون جوابكم هو الفصل بين الحق والباطل.
... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... سمبس 8 جمادى الآخر سنة 1341
(ج) إكراه الناس على تطليق أزواجهم عقب العقد عليهن طلاقًا معلقًا على
ما ذكر أو غيره - بدعة قبيحة لم ينقل عن حكومة من حكومات السلف ولا الخلف،
ولم يبلغنا عن غير مسلمي جاوه، ولا ندري متى ابتدعتها ومَن زيَّنَها لها. فلعل
السائل يبين لنا هذا إن كان يعلمه. وهل عثمان بن عقيل أول من وضع لها هذه
الصيغ الدالة على ما كان عليه من الجهل بالشرع وباللغة العربية التي لا يمكن فهم
الشرع بدون إتقانها كما هو عهدنا بكل ما اطلعنا عليه من كتبه أم كانت قبل ذلك؟
ومن الغريب أن يحجم علماؤهم وحكامهم المسلمون عن ترجيح قول للفقهاء على
آخر كل منهما صحيح عنهم. وأن لا يروا بأسًا في ابتداع أمر لم يقل به أحد منهم.
فإن قولهم بجواز تعليق الطلاق أمر غير إكراه كل أحد عليه، وما يقصدون به من
القيام بحقوق الزوجة قد يفضي إلى كثرة التفرقة بين الزوجين وتخريب البيوت.
ويمكننا أن نستغني عن محاولة إقناعهم بما هو الغرض الصحيح الذي يريدونه
من هذه البدعة، وهو رفع الضرر عن الزوجة بما قررته الدولة العثمانية من أحكام
فسخ النكاح والتفريق بين الزوجين على مخالفته لمذهب الحنفية الذي هو المذهب
الرسمي لها، وهو:
مواد فسخ النكاح في محاكم الدولة العثمانية:
المادة 122 - إذا اطلعت الزوجة بعد النكاح على وجود علة في الزوج من
العلل التي لا يمكن المقام معها بلا ضرر أو حدثت به أخيرًا هكذا علة - فللزوجة أن
تراجع الحاكم وتطلب فسخ نكاحها منه. فإن كان يؤمل زوال تلك العلة يؤجل الحاكم
الفسخ سنة فإذا لم تزُل العلة في خلال هذه المدة وكان الزوج غير راضٍ بالطلاق
والزوجة مُصِرَّة على طلبه يحكم الحاكم بالفسخ. أما وجود عيب كالعمى والعرج في
الزوج فلا يوجب التفريق.
المادة 123 - إذا جُنَّ الزوج بعد عقد النكاح وراجعت الزوجة الحاكم طالبة
تفريقها يؤجل التفريق لمدة سنة. فإذا لم تزُل الجِنَّة في هذه المدة وكانت الزوجة
مصرة يحكم الحاكم بالتفريق.
المادة 124 - خيار الزوجة غير فوري في الأحوال التي لها بها الخيار،
فلها [1] أن تؤخر الدعوى أو تتركها بعد مدة بعد إقامتها.
المادة 125 - إذا جدَّد الطرفان العقد بعد التفريق وفقًا للمواد السابقة فليس
للزوجة حق الخيار في الزواج الثاني.
المادة 126 - إذا اختفى الزوج أو سافر إلى محل يبعد مدة السفر أو أقل منها
ثم غاب وانقطعت أخباره وأصبح تحصيل النفقة منه متعذرًا وطلبت الزوجة التفريق -
يحكم الحاكم بالتفريق بينهما بعد بذل الجهد في البحث والتحري.
المادة 127 - إذا راجعت الزوجة التي غاب زوجها وكان زوجها ترك لها
مالاً من جنس النفقة وطلبت منه التفريق، يُجري الحاكم التحقيقات بحق ذلك
الشخص، فإذا يئس من الوقوف على خبر حياته أو مماته يؤجل الأمر أربع سنوات
اعتبارًا من تاريخ اليأس؛ فإذا لم يقف على خبر عن الزوج المفقود وكانت الزوجة
مصرّة على طلبها - يفرق الحاكم بينهما. وإذا كان الزوج غائبًا في دار الحرب يفرق
الحاكم بينهما بعد مرور سنة اعتبارًا من رجوع الفريقين المتحاربين وأسراهم إلى
بلادهم، وعلى كلتا الحالتين فالزوجة تعتد عدة الوفاة اعتبارًا من تاريخ الحكم.
المادة 128 - إذا تزوجت المرأة التي حُكم بتفريقها وفقًا للمواد السابقة
بشخص آخر ثم ظهر الزوج الأول - فلا يفسخ النكاح الأخير.
المادة 129 - إذا تزوجت الزوجة التي حُكم بوفاة زوجها ثم تحققت حياة
الزوج الأول - لا يُفسخ النكاح الثاني.
المادة 130 - إذا ظهر بين الزوجين نزاع وشقاق وراجع أحدهما الحاكم،
يعين حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة، وإذا لم يجد حكمًا من أهلهما أو
وجد ولكن لم تتوفر فيهما الأوصاف اللازمة، يعين من غير أهلهما من يراه مناسبًا.
فالمجلس العائلي الذي يتألف على هذه الصورة يُصْغِي إلى شكاوي الطرفين ومدافعتهم
ويدقق فيها ويبذل جهده لإصلاح ذات بينهما، فإذا لم يمكن الإصلاح وكان الذنب على
الزوج يفرق بينهما، وإذا كان على الزوجة يخالعها [2] على كامل المهر أو على قسم
منه. فإذا لم يتفق الحكمان يعين الحاكم (هيئة حكمية) أخرى من أهليهما حائزة
للأوصاف اللازمة أو حكمًا ثالثًا من غير أهليهما ويكون حكم هؤلاء قطعيًّا وغير قابل
للاعتراض. اهـ.
التهويش على المصلي
وهل منه الخطبة وتكبير العيد
(س10) من صاحب الإمضاء في دمياط
فضيلة الأستاذ الإمام الرشيد صاحب المنار:
السلام عليكم يا فضيلة الأستاذ ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة
طيبة وبعد:
(1) أثبتت السنة الصحيحة سنية التكبير دبر كل صلاة في أيام الأعياد، كما
أنه ثبت بها عدم التشويش على المصلي سواء كان هذا التشويش بالصلاة أو بالذكر
أو بالدعاء أو بقراءة القرآن.
فما قول فضيلتكم في هذا التكبير عند إتمام صلاة رجل مسبوق تخلف عن
الجماعة بركعة أو أكثر هل يُعَدُّ التكبير إذًا تشويشًا على المصلي أم لا؟ أفتونا
مأجورين، جعلك الله حجة للإسلام والمسلمين، آمين.
وما قولكم - يا فضيلة الأستاذ - في خطبته صلى الله عليه وسلم وقد أمر من
جلس قبل أن يصلي ركعتين تحية المسجد بأن يصلي ركعتين خفيفتين، فهلا كانت
الخطبة إذًا تُعَدُّ تشويشًا عليه؟ ونرجو أن لا تحرمونا من الرد بوجه السرعة سواء
بالمنار المضيء أو بخطاب خصوصي باسمنا، هدانا الله بكم إليه.
حسن محمد فايد ... ... ...
... ... ... ... ... وكيل جمعية الاعتصام بهدي الإسلام بدمياط
(ج) لم يثبت بالسنة الصحيحة سنية التكبير دبر كل صلاة في يومي العيد
وأيام التشريق، ولكنه مأثور عن بعض الصحابة وزاد فيه الناس: الله أكبر كبيرًا،
والحمد لله كثيرًا، إلى آخر ما هو معروف.. .
وأما إيذاء المصلي برفع الصوت عنده ولو بذكر غير متعين، ففي السنة ما يدل
عليه وهو متفق عليه عند العلماء. ولا يدخل فيه رفع الصوت المتعين شرعًا
كصوت الخطيب والمؤذن بين يديه يوم الجمعة إذا اتفق وجود من يصلي بالقرب
منهما كواقعة السؤال الثابتة في حديث الصحيحين والسنن؛ لأنه لا يعد إيذاء
للمصلي ولا شاغلاً له عن الله تعالى. أو يقال: إنه يرجح إذا عُدَّ الأمران
متعارضين؛ لأنه الأصل والشعار المطلوب لذاته في وقت أدائه وفائدته عامة
لجماعة المسلمين والصلاة وقتئذ مصلحة خاصة بفرد أو أفراد من المقصرين وهي
خلاف الأصل حتى قال بعض العلماء بأن حديث: أمر النبي صلى الله عليه وسلم
من دخل المسجد وهو يخطب بأن يصلي ركعتين، خاص بذلك الرجل لا عام، ومن
ذهب أنه عام على الأصل، قالوا: يخفف فيهما بالاقتصار على الواجبات التي لا
تصح الصلاة بدونها ليسمع الخطبة، والصواب أنه عام؛ إذ ورد الأمر به في
حديث الصحيحين وبتخفيف الركعتين.
ولمن أثبت التكبير برفع الصوت عقب الصلوات في العيدين وأيام التشريق
أن يقول فيه مثل ذلك أي أنه شعار الوقت، والمتأخر في الصلاة مقصر فلا يرجح
ترك التهويش عليه بمنع الشعار أن يؤدى في وقته كالخطبة والأذان بين يدي
الخطيب قبلها.
__________
(1) لها ذلك بشرط أن لا تظهر منها أمارة من أمارات الرضا بالعيب كما مر في المادة (120) اهـ من حاشية الأصل.
(2) الخلع هو تطليق الزوج زوجته بمقابل شيء من المال. اهـ من حاشية الأصل.(24/179)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلافة الإسلامية
(4)
30 - الاشتراع الإسلامي والخلافة
نريد بالاشتراع ما يعبر عنه عندنا بالاستنباط والاجتهاد، وفي عرف هذا
العصر بالتشريع، وهو وضع الأحكام التي تحتاج إليها الحكومة؛ لإقامة العدل بين
الناس وحفظ الأمن والنظام وصيانة البلاد ومصالح الأمة وسد ذرائع الفساد فيها.
وهذه الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الناس الدينية والمدنية كما
قال الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية
بحسب ما أحدثوا من الفجور) أي وغيره من المفاسد والمصالح والمضار والمنافع.
فالأحكام تختلف وإن كان الغرض منها واحدًا وهو ما ذكرنا آنفًا من إقامة العدل
إلخ.
لا يقوم أمر حكومة مدنية بدون اشتراع، ولا ترتقي أمة في معارج العمران
بدون حكومة يكفل نظامها اشتراع عادل يناسب حالتها التي وضعها فيها تاريخها
الماضي، ويسلك لها السبل والفجاج للعمران الراقي، ولا يصلح لأمة من الأمم
شرع أمة أخرى مخالفة لها في مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها، إلا إذا أرادت أمة
أن تندغم في أمة أخرى وتتحد بها فتكونا أمة واحدة كما اتحدت شعوب كثيرة
بالإسلام فكانت أمة واحدة ذات شريعة واحدة، وأما الشعوب التي تقتبس شرائع
شعوب أخرى بغير تصرف ولا اجتهاد فيها تحوله به إلى ما يلائم عقائدها وآدابها
ومصالحها التي كان الشعب بها شعبًا مستقلاًّ بنفسه - فإنها لا تلبث أن تزداد فسادًا
واضطرابًا، ويضعف فيها التماسك والاستقلال الشعبي فيكون مانعًا من الاستقلال
السياسي وما يتبعه. فشرع الأمة عنوان مجدها وشرفها وروح حياتها ونمائها،
وأعجب ما مُنِيَ به بعض الشعوب الإسلامية أن ترك شريعة له ذات أصل ثابت في
الحق وقواعد كافلة للعدل والمساواة واستبدل بها قوانين شعوب أخرى هي دونها
فأصبحوا ولا إمام لهم في حياتهم الاشتراعية من أنفسهم بل هم يقتدون فيها بأفراد
من الأعاجم يقلدونهم بما خسروا به أهم مقومات أمتهم وأعظم مظهر من مظاهر
شرفهم، وهو الاشتراع.
لا تتسع هذه الخلاصة التي نكتبها في هذا البحث لبيان أنواع الحكومات
الغابرة والحاضرة وشأنها في الاشتراع ومكان المسلمين فيه، وإنما نقول: إن
صحفنا العربية تصرِّح في هذا العهد آنًا بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه
حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون هذا وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا
الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمَدة
من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه قليلة محددة - ومن السنة والزيادة فيها
على ما في القرآن قليلة ومناسبة لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة
ولا سيما زماننا هذا- وأن الإجماع والاجتهاد على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد
انقطعا، وأقفلت أبوابها باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية.
وأن هذا هو السبب في تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية،
واضطرار الحكومتين المدنيتين الوحيدتين - التركية والمصرية - إلى استبدال
بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا.
ذلك ظن الذين يجهلون أصول الشريعة الإسلامية وأساس الاشتراع فيها الذين
لا يفرقون بين الإصلاح الفقهي والاصطلاح المصري في التشريع فيعمي عليهم
الحقيقةَ اختلافُ الاصطلاح: ذلك بأن اسم الدين والشرع قد يستعملان استعمال
المترادف وإن كان بينهما عموم وخصوص، فإنهم كثيرًا ما يخصون الشرع
بالأحكام القضائية أو العملية دون أصول العقائد والحِكَم والآداب التي هي قواعد
الدين المتعلقة بصلاح المعاش والمعاد، ولذلك جعلوا الفقه قسمين: عبادات
ومعاملات، والفقهاء يفرقون فيها بين الديانة والقضاء. يقولون: يجوز هذا قضاء
لا ديانة. وتسمى الأحكام العملية دينًا باعتبار أنها يُدَان بها الله تعالى فتتبعُ إذعانًا
لأمره ونهيه. وبهذا الاعتبار تطلق كلمة (الشارع) على الله تعالى، وأطلقت على
النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مبلغ الشرع ومبينه، ومن العلماء من قال: إن الله
تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أنه مبلغ ومبين لما نزل عليه من
الوحي وأن الوحي أعم من القرآن.
والتحقيق أن هذا كله خاص بأمر الدين وهو ما شرع ليتقرب به إلى الله تعالى
من العبادات، وترك الفواحش والمنكرات ومراعاة الحق والعدل في المعاملات
تزكية للنفس وإعدادًا لها لحياة الآخرة. ومنها ما في المعاملات من معنى الدين
كاحترام أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم والنصح لهم وترك الإثم والبغي والعدوان
والغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل. وأما ما عدا ذلك من نظام الإدارة
والقضاء والسياسة والجباية وتدبير الحرب مما لا دخل للتعبد والزلفى إلى الله في
فروعه إلا بعد حسن النية فيه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمنه
مشترعًا فيه باجتهاده مأمورًا من الله بمشاورة الأمة فيه، ولا سيما أولي الأمر من
أفرادها الذين هم محل ثقتها في مصالحها العامة وممثلو إرادتها من العلماء والزعماء
والقواد، وهو كذلك مُفَوِّض مَن بعدَه إلى هؤلاء أنفسهم، ويخلفه لتمثيل الوحدة مَن
يختارونه إمامًا لهم وخليفة له.
والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) الآية، وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:
83) ومن السنة ما صح عنه من أن أمته لا تجتمع على ضلالة، وما كان يجعله
صلى الله عليه وسلم موضع الشورى من أمور الحرب وغيرها من المصالح الدنيوية
- وما أذن فيه من الاجتهاد والرأي عند فقد النص من الكتاب وعدم السنة المتبعة،
والحديث فيه مشهور- ومن آثار الخلفاء الراشدين المهديين ما كانوا يستشيرون فيه
أهل العلم والرأي من أمور الإدارة والقضاء والحرب أيضًا وما وضعوه من الدواوين
والخراج وغير ذلك مما لم يرد به نص في الكتاب والسنة - ومن أصول الفقه حجية
إجماع الأمة، واجتهاد الأئمة- فكل هذا مما يسمى في عرف علم الحقوق والقانون
تشريعًا - وهو ميدان المجتهدين الواسع، وجرى عليه العمل في خير القرون.
فثبت بهذا أن للإسلام اشتراعًا مأذونًا به من الله تعالى وأنه مُفَوَّض إلى الأمة
يقره أهل العلم والرأي والزعامة فيها بالشورى بينهم. وأن السلطة في الحقيقة للأمة
فإذا أمكن استفتاؤها في أمر وأجمعت عليه فلا مندوحة عنه. وليس للخليفة- دع مَن
دونه مِن الحكام- أن ينقض إجماعها ولا أن يخالفه، ولا أن يخالف نوابها وممثليها
من أهل الحل والعقد أيضًا. واتفاق هؤلاء إذا كانوا محصورين يسمى إجماعًا عند
علماء الأصول بشرط أن يكونوا من أهل العلم الاجتهادي. وأما إذا اختلفوا فالواجب
رد ما تنازعوا فيه إلى الأصليين الأساسيين وهما الكتاب والسنة والعمل بما يؤيده
الدليل منهما أو من أحدهما؛ لقوله تعالى بعد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول
وأولي الأمر: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي أحسن عاقبة
ومآلاً مما عداه، ومنه العمل برأي الأكثر في تشريع قوانين أوروبا ومقلديها، فشرعنا
مخالف لها في هذه المسألة.
ومن وجوه كونه خيرًا من غيره وأحسن عاقبة أن النزاع بين الأمة يزول
بتحكيم الكتاب والسنة فيه، وتطيب نفوس جميع نواب الأمة بما ظهر رجحانه
بالدليل، ولا يبقى للأضغان والنزاع مجال بينهم، وقد تقدم إثبات سلطة الأمة وتمثيل
أهل الحل والعقد في هذا وذاك، فيراجع فيه تفسير: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) في الجزء الخامس من تفسير المنار.
الاشتراع - أو التشريع أو الاستنباط - ضرورة من ضروريات الاجتماع
البشري، ومن قواعد الشرع الإسلامي أن الضرورة لها أحكام، منها: أنها تبيح ما
حرَّمَه الله تعالى بإذنه في قوله بعد بيان محرمات الطعام: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ومنها: نفي الحرج والعسر من الدين، وانتفاؤهما من قسم
المعاملات أولى من انتفائهما من قسم العبادات التي يعقل أن يكون فيها ضرب من
المشقة لتربية النفس وتزكيتها؛ إذ لا تكمل تربية بدون احتمال مشقة وجهد. ويسهل
هذا الاحتمال نية القربة وابتغاء المثوبة فيه، وليس في المعاملات شيء من معنى
التدين إلا ما ذكرنا آنفًا، والغرض منه حفظ الأنفس والأموال والأعراض أن يُعْتَدَى
عليها بغير حق، فمن لم يردعه عن ذلك خوف عقوبة الحكام في الدنيا يردعه خوف
عذاب الله في الآخرة إن كان مؤمنًا به وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل كثيرة،
منها قواعد الضروريات ونفي ومنع الضرر والضرار، فلو لم ينص في القرآن
على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة أولي الأمر بالتبع
لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه الأمور إليهم ويفوض
إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا على
الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا التي لا نص عليها في كتاب الله،
ولم تمض فيها سنة من رسوله [1]- لو لم يرد هذا كله وما في معناه لكفت الضرورة
أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا العصر بالتشريع. ووراء هذا
وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام وخير القرون وكذا ما بعدها من القرون الوسطى
التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا؛
لتلازمهما.
الخلافة مناط الوحدة ومصدر الاشتراع وسلك النظام وكفالة تنفيذ الأحكام،
وأركانها أهل الحق والعقد رجال الشورى، ورئيسهم الإمام الأعظم، ويشترط
فيهم كلهم أن يكونوا أهلاً للاشتراع، المُعَبَّر عنه في أصولنا بالاجتهاد والاستنباط،
وقد كان أول فساد طرأ على نظام الخلافة وصدع في أركانها جعلها وراثية في أهل
الغلب والعصبية، وأول تقصير رُزِئَ به المسلمون عدم وضع نظام ينضبط به
قيامها بما يجب من أمر الأمة، على القواعد التي هدى إليها الكتاب والسنة، وأول
خلل نشأ عن هذا وذاك تفلُّت الخلفاء من سيطرة أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة
واعتمادهم على أهل عصبية القوة، التي كان من أهم إصلاح الإسلام لأمور البشر
إزالتها، فصار صلاح الأمة وفسادها تابعًا بذلك لصلاح الخليفة وأعوانه أهل
عصبيته، لا لممثلي الأمة ومحل ثقتها من أهل العلم والرأي فيها، والغيرة والحدب
عليها.
ثم ترتب على ذلك شعور الخلفاء بالاستغناء عن العلم أو عدم شعورهم
بالحاجة إليه وترك التمتع باللذات اشتغالاً به لتحصيل رتبة الاجتهاد به، ورأوا أنه
يمكنهم الاستعانة بالعلماء الذين يتقلدون مناصب الوزارة والقضاء والإفتاء وغيرها
من الأعمال التي يحتاج فيها إلى استنباط الأحكام- فتركوا العلم ثم جهلوا قيمة
العلماء فصاروا يقلدون الجاهلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من يفتي بعدم
اشتراط العلم الاستقلالي (الاجتهاد) في إمام المسلمين ولا في القاضي لإمكان
استعانتهما بالمفتي الذي لا يكون إلا مجتهدًا، ثم عم الجهل فصاروا يستفتون
الجاهلين (أي غير المجتهدين) أمثالهم، ثم أذاع هؤلاء الجاهلون الذين احتكروا
مناصب الدولة وأموالها أن الاجتهاد قد أقفل بابه وتعذر تحصيله، وأوجبوا على
أنفسهم وعلى الأمة تقليد أفراد معينين من العلماء والانتساب إليهم، ثم صاروا
يقلدون كل من ينتمي إليهم مع الإجماع على امتناع تقليد المقلد- فضاع علم الأحكام،
وفقدت ملكة الاشتراع والاستنباط بالتدريج، واختل نظام الأمة وانحل أمرها
وتضعضع ملكها، وقع كل ذلك بترك أصول الإسلام وفروعه والجاهلون يحسبون
أنه وقع باتباع تعاليمه! !
قال القاضي أبو علي محسن التنوخي [2] في كتابه (جامع التواريخ) حدثني
أبو الحسين ابن عباس قال: كان أول ما انحل من سياسة الملك فيما شاهدنا من أيام
بني العباس: القضاء. فإن ابن الفرات (الوزير المشهور) وضع منه وأدخل فيه
قومًا بالزمانات [3] لا علم لهم ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات حتى ابتدأت تتضع
ويتقلدها كل من ليس لها بأهل حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلاث مائة إلى أن
تقلد وزارةَ المتقي أبو العباس الأصفهاني الكاتب، وكان في غاية سقوط المروءة
والرقاعة (إلى أن قال) وتلا سقوط الوزارة اتضاع الخلافة وبلغ صيورها إلى ما
نشاهد، فانحلت دولة بني العباس بانحلال القضاء، وكان أول ما وضع ابن الفرات
من القضاء تقليده إياه أبا أمية الأخوص الفلاني البصري. وذُكر أنه إنما قلَّده
لموعدة وعدها إياه؛ إذ أوى إليه واختفى عنده في أيام محنته.
وأقول: إن ابن الفرات كان من أقدر الوزراء وأعلمهم بشئون الملك والسياسة،
وكان حسن السيرة وإنما جرَّأه على مثل هذا جهل الخليفة وانصرافه إلى اللهو
واللعب ثم التلذذ بالإسراف في اللذات، فإنه ولي وله ثلاث عشرة سنة. قال الحافظ
الذهبي: اختل أمر النظام كثيرًا في أيام المقتدر بصغره. يعني أن الخلل قد طرأ
قبله من أيام المتوكل بن المعتصم إذ كان قد اشتد عيث الترك الذين استكثر منهم
المعتصم وجعلهم عُدَّة الخلافة وسياجها فكانوا هم الذين دكوا بنيانها وهدموا أركانها،
والعلة الأولى لهذا كله بدعة ولاية العهد التي استدلوا عليها باستخلاف أبي بكر لعمر
رضي الله عنهما، فجعلتها القوة حقًّا لكل خليفة وإن كان متغلبًا لا يعد من أئمة الحق،
ولم يراع ما راعاه أبو بكر من استشارة أهل الحل والعقد. وقد بيَّنا بطلان هذا في
المسألة التاسعة من هذا البحث.
فعُلم بهذا القول الوجيز أن التساهل في بعض شروط الخلافة التي عليها
مدارها - وهي العلم الاستقلالي والعدالة والشورى في نصب الإمام وفي تصرفه - قد
كان معلولاً للتغلب وعلة لفقد الاشتراع - الاستنباط - الذي لا يقوم أمر الدولة ولا
يَطَّرِد ارتقاؤها ولا حفظها بدونه. فكان هذا علة لضعف الدولة، وكان ضعف الدولة
علة لضعف الأمة، إذ صارت تابعة للدولة لا متبوعة، وكان فساد أمرهما معًا علة
لتغيرات كثيرة في الأحوال الاجتماعية وشئون المعيشة تقتضي أحكامًا شرعية
أخرى غير التي كان الأمر عليها قبلها، أو تعود الإمامة الحق إلى أصلها.
ونحمد الله أن ظهر لأركان الدولة التركية التي تنحل منصب الخلافة أن الدولة
العثمانية كانت فاسدة وأنها لم تكن بعد دعوى الخلافة خيرًا من قبلها، بل لم تلبث
أن دَبَّ إليها الخلل والضعف بالتدريج في كل أمور الدين والدنيا حتى صار كثير من
نابتتنا المتفرنجين يصرحون بأن الإسلام هو الذي جنى عليها وأن حكم الخلافة هو
الفاسد الذي لا يمكن صلاح حالها معه، فتسنى لنا أن نبين لها وللعالم الإسلامي
الذي كان أكثره مفتونًا بها أنها لم تكن قائمة على أصول الشريعة في الخلافة، وأن
نبين حقيقة الخلافة وشكل الحكومة الإسلامية الحق وخطأ جمهور أعضاء المجلس
الوطني الكبير في رأيهم وعملهم فيها، ونثبت بالدلائل أن أصول الحكومة الإسلامية
أرقى من أصول سائر حكومات الأمم، بجمعهما بين دفع المفاسد وحفظ المصالح
المادية، وبين الحق والعدل والفضائل التي يتهذب بها البشر وتكمل الإنسانية، وأن
ندعو هذه الأمة التركية الإسلامية إلى إقامة حكومة الإسلام كما أمر الله ورسوله
وخلفاؤه الراشدون خير أمة أخرجت للناس ولو كره المتفرنجون {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) .
* * *
31- ما بين الاشتراع وحال الأمة من تباين وتوافق
وضع الإسلام قواعد عامة لأنواع المعاملات الدنيوية راعى فيها هداية الدين
وتقييد حكومته بالتزام الفضائل واجتناب الرذائل، فلم يجعل ما فوض إلى أولي
الأمر من الاستنباط - الاشتراع - مطلقًا من كل قيد لئلا يجنوا على آداب الأمة خطأ
في الاجتهاد، أو اتباعاً للهوى إذا غلب عليهم الفساد، فحرم الربا الذي كان فاشيًا
في الجاهلية؛ لما فيه من القسوة والبخل والطمع الذي يحمل على استغلال ضرورة
المحتاج، كما حرم الغش والخيانة، وجعل الأمة متكافلة بما أوجب من النفقة على
القريب والزكاة لإزالة ضرورة الفقير والمسكين، ولغير ذلك من المصالح العامة،
وجعل لكل امرأة كافلاً يقوم بأمرها من زوج أو قريب؛ وإلا فالإمام الأعظم أو نائبه؛
لئلا تضطر إلى ما يشق عليها القيام به من الكسب مع قيامها بوظائفها الخاصة بها
من الحمل والوضع والرضاعة وتربية الأطفال - فيكون اضطرارها إلى الحياة
الاستقلالية سببًا لقلة النسل ولغير ذلك من المفاسد.
وقد كان من تأثير ضعف الدين في الشعوب الإسلامية وحكوماتها أن ترك كل
منهما مراعاة ما يجب عليه من تلك القواعد والتزام أحكامها، فترتب على ذلك احتياج
كل منهما إلى ارتكاب بعض المحظورات كالربا إما اضطرارًا وإما اختيارًا ترجح
فيه المصلحة على المفسدة رجحانًا ظاهرًا.
هذا الاحتياج الذي يدفع صاحبه إلى ارتكاب المحرم إذا لم يجد له مخرجًا لا
يعرض في الإقراض كما يعرض في الاقتراض، فكان من أثره أن المسلمين لم
يجدوا من يقرضهم إلا من غيرهم، إما من أهل ذمتهم وإما من الأجانب عنهم،
كالمعاهدين الذين يكونون في بعض الأحيان حربيين، وهذه مفسدة أخرى، هي
ذهاب ثروة المسلمين إلى غيرهم، وناهيك بذهابها إلى أعدائهم، وحاجتهم إليهم في
أهم مصالحهم.
ثم إن توسع الفقهاء في مسائل الربا وإدخالهم فيها ما لم يكن معروفاً في عصر
الوحي- وتضييق أكثرهم في أحكام العقود المالية- واستحداث الأمم التي يتعاملون
معها لأنواع كثيرة من العقود والمعاملات- وترقي العلوم الاقتصادية والأعمال
المالية إلى درجة قضت بتفوق متبعي قواعدها ونظمها على غيرهم في الثروة والقوة
والسيادة- كل أولئك كان دافعًا في صدور المسلمين ورافعًا لغيرهم عليهم حتى في
ديارهم، بل هو أظهر العلل لسلب جُلّ ملكهم منهم، والسيطرة عليهم فيما بقي لهم
شيء من السيادة فيه، ولاعتقاد أكثر الذين يعرفون أحوال هذه الأمة العزيزة في
علومها وأعمالها ويجهلون أصول الإسلام- أن الإسلام نفسه علة ضعف المسلمين
بما في شرعه من الجمود على أحكام عتيقة مالية واجتماعية توجب فقر ملتزميها،
وكل ما يجره الفقر في الأمم من الذل والضعف وفقد الملك.
بدأت بضرب المسألة المالية مثلاً لِما طرأ على كثير من البلاد الإسلامية من
تأثير ترك العمل بأحكام الشريعة الغراء، إذ كان المال قوام حياة الأمم والدول في
كل زمان، وصار له من الشأن في هذا الزمان ما لم يكن له من قبل ولا سيما
عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت فيه الأمة قليلة الحاجات، وغير
مرتبطة في حياتها بمعاملات الأمم الأخرى، ولكن عالم الغيب والشهادة العزيز
الحكيم قد أنزل في ذلك العصر قوله: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) فأرشدنا به إلى مكانة المال من حياة الأمم ونظام أمرها
وكونها لا تقوم إلا به، وحثنا على المحافظة عليه، وعدم تمكين السفهاء من
التصرف فيما هو ملك لهم منه، كما أمرنا في آيات أخرى بالاقتصاد ونهانا عن
الإسراف والتبذير، وذمه كما ذم القمار غول الثروة بما أفاد تحريمها وتحريم القمار
بأنواعه في الدين؛ فهل يمكن أن يقال: إن مقتضى شرع هذا الدين أن يكون أهله
فقراء؟ وأن يكون ما به قيام معاشهم وعزة أمتهم ودولتهم في أيدي الطامعين فيهم
من الأمم الأخرى؟ وإذا كان هذا مخالفًا لهدي هذا الدين فما بال المشتغلين بعلم
الشرع فيه أجهل أهل بلادهم بالفنون المالية، وبما يرتبط بها من الأمور السياسية،
ولا يجعلون هذه الفنون عما يتدارسونه في مدارسهم الدينية؟ ! السبب لهذا أنه ليس لهم
حكومة إسلامية تطلبه منهم لتكون أحكامها وميزانيتها موافقة لحكم الشرع.
وأضرب لهم مثلاً آخر: ميل بعض المسلمين في مصر والترك إلى التعاليم
الاشتراكية بل قيامهم بتأليف الأحزاب لها والدعوة إليها، وسواء كان ذلك افتتانًا
بتقليد الفرنجة أو شعورًا بما يشعر به الاشتراكيون في أوروبا من تأثير أثرة أرباب
الأموال على العمال وغيرهم من أهل الإملاق- فلو كانت الشريعة الإسلامية نافذة
الأحكام، والهداية التي يتبعها الخواص والعوام، لما شعر بالحاجة إلى التعاليم
الاشتراكية أحد من أهلها، بل لرأى الاشتراكيون من الأمم الأخرى أنه يجب حل
المسألة الاجتماعية بها، ولكان ذلك سببًا لاهتداء كثير منهم إلى الإسلام ودعوتهم
إليه.
وما لي لا أذكر من المثل في هذا المقام دعوة كثير من النساء والرجال في
مثل هذه البلاد إلى تربية المرأة تربية استقلالية تساوي بها الرجل في كل شيء
حتى لا يكون قَيِّمًا عليها في شيء. سبق الإسلام جميع الملل إلى المساواة بين
الرجال والنساء في الشئون الزوجية إلا هذه الدرجة، بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) وهي الرياسة التي
بيَّنَها في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) فجعل سببها تفضيلهم عليهن بالقوة على
الكسب والحماية والدفاع، وما فرض لهن عليهم من المهر والنفقة.
أفرأيت لو أن أفراد المسلمين وحكامهم أقاموا هذه الشريعة، فساوى الرجال
النساء بأنفسهم في كل شيء ما عدا رياسة المنزل وكذا الرياسة العامة كالإمامة العظمى
وإمامة الصلاة، وكرَّمَوهن كما أوصاهن الرسول صلى الله عليه وسلم - أكانت النساء
تشعر بالحاجة إلى إعداد أنفسهن للكسب وغيره من أعمال الرجال الشاقة؟ أم يفضلن
أن يعشن في هناء وراحة يتمتعن من كسب الرجال في ظل كفايتهم، وكفالة الشريعة
التي تنفذها حكومتهم بما لا يتمتع به الرجال أنفسهم؟ فإن المرأة تأكل من كسب الرجل
ما يأكل وهي المدبرة لأمر مأكله، ولكنها تفضله بما تلبس من الحلل وما تتزين به من
الحلي، فإن كان ثم غبن فالرجل هو المغبون.
وجملة القول في هذا المقال: أن ترك العمل والحكم بالشريعة في بعض
المسائل يُفْضِي إلى ترك بعضًا آخر منها أو يفضي إلى جعله متعذرًا؛ إذ يصير مفسدة
بعد أن كان في الأصل عين المصلحة، ثم يؤثر ذلك في أفكار الأمة وأخلاقها
وعاداتها، حتى تنقلب بتغيير عظيم في مقوماتها ومشخصاتها. فالشر والخير
والباطل والحق كل منهما يقوي جنسه ويؤيده، وقد فقدت الأمة الإسلامية ما يصونها
من ذلك التدهور والهويّ، وينصب لها معارج الرقي، ويستنبط لها من الأحكام في
كل زمن ما يليق بحالها، مبنيًّا على قواعد الشريعة الهادية لهم إلى كمالها.
ذلك بأن الاستنباط (الاشتراع) الذي أُذن به لأولي الأمر من المسلمين قد فُقِدَ
بفَقْدِ جماعتهم وزوال الإمامة الحق المنفذة لاستنباطهم، كما علم ذلك من المسائل
3 و4 و5 و17 من هذا البحث، ومن بقي يشتغل بعلم الأحكام الشرعية
الإسلامية فقصارى أمر جمهورهم مدارسة الكتب التي أُلفت للأزمنة الماضية التي
كانت دار الإسلام فيها ذات استقلال ومنعة وبيت مال غني كافٍ لكفالة المعوزين
والغارمين وغير ذلك من النفقات الشرعية - فهؤلاء لا يستطيعون أن يفتوا بما
يخرج عن قواعد مصنفي تلك الكتب لتلك الأزمنة ولحكوماتها، التي كانت تلتزم
العمل بها، بل قرروا فيما وضعوه من الشروط للإفتاء أن يلتزموا فروع كتب معينة
لا يتعدونها؛ لأن تعديها ضرب من الاجتهاد ولو في المذهب، وقد قرروا منعه
كالاجتهاد المطلق.
ومنتهى ما يُرْجَى من توسعتهم على الحكومة التي تريد العمل بأحكام الشريعة
أن يستخرجوا لها بعض الفروع الموافقة للمصلحة العامة في هذا الزمان من كتب
المذاهب المعتمدة. فإن الذين حرموا عليهم الاجتهاد والاستنباط من أصول الشريعة
والاقتباس من مصباحها مباشرة قد أوجبوا عليهم تقليد مذاهب معينة كما قال صاحب
جوهرة التوحيد:
* فواجب تقليد حبر منهم *
يعني الأئمة المشهورين في الفقه. فاعتمدوا هذا التحريم والتحليل ممن ليس
بأهله. وإنما أباحوا تقليد غير الأربعة من المجتهدين للعالِم بذلك في خاصة نفسه،
دون الإفتاء به لغيره، كما قال بعضهم.
وجائز تقليد غير الأربعة ... في غير إفتاء وفي هذا سعة
مثال هذه التوسعة في أصول المعاملات أن القاعدة عند أكثر الفقهاء
المشهورين أن الأصل في العقود البطلان، فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على
صحته، وذهب آخرون إلى أن الأصل فيها الصحة إلا ما دل الكتاب أو السنة على
بطلانه؛ لقوله تعالى في أول سورة المائدة وهي آخر ما نزل من السور: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) والعقود ما يتعاقد الناس عليه، فهذا
المذهب أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً، بما فيه من التوسعة على الناس
وهو الذي رجََّحه المحققون من الحنابلة.
ألم تر أنه لما شاءت الحكومتان العثمانية والمصرية أن تخرجا من مذهب
الحنفية في بعض أحكام النكاح والطلاق وفسخ النكاح في بعض الأحوال وتأخذا فيها
بما تقرر في المذاهب الأخرى - لَبَّاهُمَا شيوخ الفقه ووضعوا لهما قوانين في هذه
الأبواب مقتبسًا بعضها من المذاهب الثلاثة الأخرى؟ ولعلهما لو شاءتا الأخذ في
بعض الأحكام بأقوال غير علماء المذاهب الأربعة من الصحابة والتابعين وأئمة
العترة لما أبوا مُوَاتَاتهما، فإن الجمود على مذهب معين لم يكن إلا تحقيقًا لرغبة
الأمراء والسلاطين، والاسترزاق من الأوقاف التي زمامها بأيديهم، فالذنب فيه
مشترك بينهم وبين الفقهاء الذين رأوا فيه منفعة لهم. وأما الذي لا يجرؤ عليه هؤلاء
المتفقهة فهو الاستنباط من الكتاب والسنة وقواعدهما العامة، ككون الضروريات
تبيح المحظورات، وكون ما حرم لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة. وإن نص
أئمتهم على هذه القواعد؛ لأن هذا عندهم من الاجتهاد الممنوع.
والحق أن العلم الاستقلالي (الاجتهاد) لم ينقطع ولن ينقطع من هذه الأمة
المحمدية، وإلا لبطلت حجة الله على الخلق بفقد حملتها والدعاة إليها والذابين عنها؛
ولِما صح من خبر المعصوم من عدم اجتماعها على ضلالة، ومن أنه لا يزال فيها
طائفة ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، ولكن هؤلاء العلماء المستقلين كانوا
ينتسبون في كل عصر من أعصار غلبة الجهل إلى المذاهب التي نشأوا عليها قبل
الاجتهاد لسببين: (أحدهما) أنهم لم يكونوا يجدون رزقًا يتمكنون به من الانقطاع
للعلم إلا من الأوقاف المحبوسة على المشتغلين بهذه المذاهب فيضطرون إلى تدريس
كتبها والتصنيف فيها؛ ليحل لهم الأكل مما وقف على أهلها. (وثانيهما) أن
الملوك والحكام وأعوانهم من المقلدين كانوا وما زالوا حربًا للعلم الاجتهادي الذي
يفتضحون به، ويظهر جهلهم وضلالهم بظهوره، فإذا وجدت حكومة إسلامية
جريئة كالحكومة التركية الحاضرة تحيي العلم الاجتهادي - فإنها تجد منذ الآن سدادًا
من عوز لما تحتاج إليه من الأحكام وللتعليم في المدرسة الاجتهادية التي اقترحنا
إنشاءها في المسألة (رقم 26) على أن مقلدة المذاهب لا تكاد تطلب الحكومة منهم
شيئًا إلا وتجد فيهم من يفتيها ولو بالتأويل والخروج عن صحيح المذهب.
إذًا لا يمكن خروج الأمة الإسلامية من جحر الضب الذي دخلت فيه إلا
باجتهاد ووجود المجتهدين وما يلزمه من وجود الإجماع الأصولي الذي هو إحدى
الحجج عند الجمهور، وإن شئت قلت هو ركن الاشتراع الركين الذي لا يمكن أن
ترتقي أمة ولا ينتظم أمر حكومة بدونه كما قلنا في صدر هذه المسألة، بل وجود
الإمامة الحق يتوقف على هذا الاجتهاد كما علم مما تقدم. وأن اجتماع المجتهدين في
هذا العصر ممهد السبيل موطأ الأكناف لإمكان العلم بهم ودعوتهم إلى الاجتماع في
مكان واحد أو عرض المسائل عليهم أينما وجدوا، وهذا لم يكن ممكنًا في عصر
أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومَن بعدهم ولذلك قال بعض المحققين: إن العلم
بالإجماع - إن وُجد - غير ممكن.
* * *
32- تأثير الإمامة في إصلاح العالم الإسلامي
العالم الإسلامي في غمة من أمر دينه وأحكام شريعته، تتنازعه أهواء حكامه
المختلفي الأديان والمآرب، وآراء علمائه ومرشديه المختلفي المذاهب والمشارب،
ومساورة أعدائه في دينه ودنياه، وليس له مصدر هداية عامة متفق عليه فيرجع
إليه فيما عمي عليه، وكلما ظهر فيه مُصْلِح هَبَّ أهل الأهواء المفسدون يصدون
عنه، ويطعنون في دينه وعلمه، ولا علاج لهذه المفاسد والضلالات إلا إحياء
منصب الإمامة، وإقامة الإمام الحق المستجمع للشروط الشرعية، الذي يقوم مع
أهل الحل والعقد بأعباء الخلافة النبوية، فإنه هو الذي يذعن كل مسلم لوجوب
طاعته فيما يصدر عنه من أمور الإصلاح العامة بقدر الاستطاعة، ويرجح إرشاده
على إرشاد غيره في الأمور الخاصة؛ إذ يكون أجدر ببيانها بالحجة الواضحة، فإذا
لم تكن الإمامة كذلك كان حكم الشرع فيها أنها سلطة تَغَلُّب، ولا تجب طاعة
المتغلب شرعًا ولو فيما وافق الشرع إلا على مَن هو متغلب عليهم، فقد كان
السلطان عبد الحميد يدعي الخلافة؛ ولما لم يكن مستجمعًا لشروطها ولا قائمًا
بواجباتها لم يكن مسلمو الأفغان واليمن ونجد والمغرب الأقصى يؤمنون بصحة
خلافته، ولا يعتقدون وجوب طاعته، فيجعلوا حكوماتهم تابعة لدولته. بل لم يكن
أهل مصر الذين كانوا تحت سيادته السياسية معترفين بخلافته يقبلون أن يكون له
عليهم أمر ولا نهي، وإنما كان اعترافهم أمرًا صوريًّا معنويًّا، يتوكأون عليه في
مقاومة السيطرة البريطانية عليهم، كما هو شأنهم وشأن أمثالهم في الاعتراف
بالخلافة الاسمية الحديثة في الآستانة على ما بيَّنَّاه في موضعه من هذا البحث،
وهذه الخلافة الحديثة لا تبلغ درجة التغلب فإن الذين ابتدعوها لم يجعلوها ذات أمر
ولا نهي في حكومتهم.
وأما إذا نُفِّذَ ما اقترحناه وبينا طريقه من إقامة الإمامة الحق، ولو في بقعة
صغيرة من الأرض، فإن جميع العالم الإسلامي يذعن لها إذعانًا نفسيًّا منشؤه العقيدة
الدينية، ولا تجد حكومة من الحكومات الإسلامية مجالاً للطعن فيها، ولا يكون
لأحد من المصطنَعين للأجانب سبيل لإنكارها، وحينئذ يسعى كل شعب إسلامي
للاعتصام بها، فالشعب الذي لا يستطيع أن يتبع حكومة الإمام الحق لقهر دولة قوية
له يجتهد ويتحرى أن يتبع جماعة المسلمين وإمامهم كما أمره الله ورسوله فيما لا
سيطرة لحكومته عليه فيه من نظام التربية الدينية والتعليم الإسلامي والأحكام
الشخصية، بل قد تضطر كل حكومة مسيطرة على شعب إسلامي أو تستميله بقدر
ما ترى فيه من الوحدة والرأي العالم بموادة خليفة نبيه والسماح له بأن يتلقى
الإرشاد الديني من قِبله كما هو شأن الكاثوليك مع البابا.
ولعل هذا بعض ما يقصد إليه الترك من إيجاد خليفة روحاني كالبابا
والبطاركة عند النصارى، ولكن المسألة دينية شرعية يجب فيها الاتباع، ولا يمكن
أن تنجح بالمواضعة والابتداع، وإن كان يود ذلك الكثيرون ممن يقدمون السياسة
على الدين، وقد جهل هذا بعض الذين أظهروا استحسان عمل الترك، وتجاهله
بعض آخر أو غفل عنه، وظن كل منهم أن هذا كافٍ في حصول ما يرغبون فيه
من نكاية أعداء الإسلام وغيظهم، وشد أزر الشعب التركي ومؤازرته عليهم، وذلك
ظن الجاهلين بشئون العالم وسياسة الدول ودرجة اختبارها، كما نبينه في المسألة
التالية.
لعلنا من أدرى الناس بما يترتب على إقامة الإمامة الحق من الإصلاح في
العالم الإسلامي بما لنا من الاختبار، وكثرة ما يرد علينا من الرسائل والمسائل من
الأقطار، ومن أحدثها سؤال ورد من قطر إسلامي عن أقل ما يكون به الإنسان
الجاهل الأعجمي مسلمًا؛ لأن أهله أجهل وأضل من مسلمي (بنكوك - سيام) الذي
وصف لنا سوء حالهم من سألنا عن صحة إسلامهم ونشرناه في المنار من قبل. وقد
بقي عند كل منهما بقية ممن يدعي العلم يحفظون من مذهب الإمام الشافعي (رضي
الله عنه) أحكامًا اجتهادية يُحتِّمون على الناس العمل بها في صلاة الجمعة وغيرها
فأدى ذلك إلى ترك صلاة الجمعة فترك صلاة الجماعة من بعضهم، بل إلى ترك
الصلاة ممن يعسر عليهم حفظ الفاتحة وتجويدها بإخراج الحروف من مخارجها
وتشديد المشدد منها ولا سيما الياء في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
فإن تخفيف المشدَّد فيها مبطل للصلاة عند الشافعية.
ومن أحدثها سؤال بعض أهل العلم في جاوه عن حكم ما جروا عليه بأمر
حكامهم المسلمين من إلزام كل من يتزوج بأن يطلق المرأة التي يعقد عليها عقب
العقد طلاقًا معلقًا على التقصير في النفقة عليها أو ضربها أو على الغيبة عنها
وتركها بغير نفقة بالصفة التي يرى القارئ بيانها في باب الفتوى من المنار.
إن كثيرًا من أهل العلم الساعين لإصلاح حال المسلمين في الأقطار المختلفة
يعملون بما ننشر في المنار من الحقائق الدينية بالأدلة التفصيلية، ويسألنا بعضهم
عما يعرض عليه مما لم ير حكمه فيه، ويجد هؤلاء وأمثالهم معارضين في بعض
البلاد من مقلدة بعض المذاهب لما يخالف مذهبهم، ولكنهم لا يعنون بنشر مذاهبهم
وحمل الناس عليها، بل يتركونهم فوضى في أمر دينهم لا يبالون بتركهم للفرائض
ولا باقترافهم لكبائر المعاصي، وإنما يهتمون بمعارضة بعض المسائل التي تخالف
مذهبهم كصلاة الجمعة بما دون أربعين رجلاً حرًّا بالغًا مقيمًا في داخل سور البلد لا
يظعن عنها، وإن أدت هذه المعارضة إلى ترك الجمعة ألبتة، فإذا صار للمسلمين
إمام وجماعة من أهل العلم الاجتهادي والعدالة يستمد منهما دعاة الإصلاح العلم
والإرشاد، فإنه لا يلبث أن يعم ذلك مسلمي جميع البلاد.
وقد سبق لنا أن اقترحنا في المجلد الأول من المنار ضروبًا من الإصلاح على
مقام الخلافة الإسلامية الرسمي - وإن كانت خلافة تغلب - لأن بلادنا كانت خاضعة
لحكمه، ونود أن يقوم بالحق بقدر طاقته، فكان جزاؤنا على مثل هذا الاقتراح منع
المنار أن يدخل البلاد العثمانية، وإيذاء أهلنا وأصدقائنا في الديار السورية.
ولا غرو فذلك الخليفة نفسه كان جاهلاً بأصول الدين وفروعه وبما يصلح به
حال المسلمين ويفسد، وأعوانه جهلاء وأصحاب أهواء، فهم لا يبلغونه أمثال تلك
الاقتراحات، وإذا ذكروها له شوهوها، وجعلوا حقها باطلاً، وصلاحها فسادًا،
وهو يصدقهم، ولا يطمئن لخبر غيرهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وجملة القول أن الجهل الغالب على أكثر المسلمين والتعصب المذهبي المفرِّق
للكلمة بين المتعلمين للدين منهم - لا يمكن تلافي ضررهما في زمن قصير إلا بإقامة
خلافة النبوة على وجهها الذي لا يسهل على أحد أن يماري فيه مراءً ظاهرًا،
ويكفي أن يعتقد صحتها السواد الأعظم من المسلمين لموافقتها لمذاهبهم وهم
المنتمون إلى مذاهب أهل السنة، والزيدية من الشيعة، والإباضية من بقايا الخوارج،
وهؤلاء إذا كانوا لا يشترطون في الإمام ما يشترطه أهل السنة والزيدية من
النسب فهم لا يشترطون عدمه، وما لنا لا نتحرى فيه المذهب الذي يستلزم غيره
كاستلزام مذهب الزيدية لمذهب السنة والخوارج استلزام الأخص للأعم والمقيد
للمطلق؟
إن هذا لهو القول الحق الذي تقوم به المصلحة الإسلامية العامة وما عداه مما
يقبله أتباع كل ناعق بباعث السياسة الحاضرة فهو غثاء، وسيذهب جفاء، ومنه
يُعلم أن ما قررته حكومة أنقرة باطل في نفسه، ولا يفيد العالم الإسلامي أقل فائدة،
بل قد كان سببًا منذ الآن لشقاق في الشعب التركي الذي يرجح جمهوره الهداية
الإسلامية على نظريات القوانين والتقاليد الإفرنجية، فإن في مجلس الجمعية
الوطنية حزبًا كبيرًا يرى أن المصلحة تقضي بوضع الخليفة في الموضع الذي
وضعته فيه الشريعة بأن يكون هو رئيس الحكومة والمنفذ للأحكام. نعم إن حزب
الغازي مصطفى كمال باشا المُصِرُّ على رفض كل سلطة شخصية في الحكومة
التركية العليا سواء كانت باسم الخلافة أو غيرها - هو صاحب القلب في المجلس
الحاضر، ولكن سبب ذلك تأثير هذا الرجل وحزبه من قواد الجيش في الأنفس مما
لهم من المنة في إنقاذ الدولة من الخطر - لا أن هذا هو رأي الأمة التركية، ولو
استُفتيت الأمة استفتاء حرًّا لخالفت هذا الحزب في هذه المسألة. هذا هو الحق.
وسيعلم العالم الإسلامي أننا قد قمنا بهذا البيان بما أمرنا الله تعالى به من
التواصي بالحق والتواصي بالصبر، بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم، فيرجع إلى رأينا من يخالفه اليوم كما رجعوا إلى رأينا في السلطان عبد
الحميد ثم في جمعية الاتحاد والترقي، والعاقبة للمتقين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(24/185)
الكاتب: أبو الكلام
__________
وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية*
(3)
وإنه لتقل أمثلة تلك الجرأة والشهامة والشجاعة التي أبداها طول هذه المدة،
فإنه مازال قبل سجنه يدعو الحكومة إلى القبض عليه بمخالفتها ونبذ طاعتها فما
حذرت عملاً من الأعمال الوطنية إلا وبادر إلى إعادته صائحًا (إن كان هذا العمل
جناية وذنبًا عند الحكومة، فها أنا ذا فاعله، فلتعاقبني!) ولكنها ما زالت تغض
الطرف عنه وتهاب جانبه؛ لأنها تعلم أن الأمة كلها معه، وأن التعدي عليه يزيد
الطين بلة. غير أنها اضطرت أن تسجنه أخيرًا للائحة سنتها وليس في وسعها
سحب قوانينها المعلنة ولا أن تسكت عن نابذيها.
المحاكمة والخطاب
إن خطاب هذا الزعيم سيسجل في تاريخ الحرية والجهاد للأمم، إذ هو آية
عظيمة من آيات الصدع بالحق وتشنيع الباطل وتقبيح الاستبداد، ومَثَلٌ عالٍ للجرأة
والشجاعة والثبات علي الحق كالجبال الراسيات، ولا سيما الأمور الآتية منها،
التي تستحق الاعتبار والتدبر فيها، وهي:
(1) أن تاريخ الجهاد الوطني في كل البلاد يروي لنا أن الناس كانوا بادئ
ذي بدء يجاهرون بمقاومة القوات المستبدة والحكومات الجائرة بكل جرأة
وشجاعة، حتى إذا أخذتهم الحكومة وأرادت معاقبتهم، يجتهدون في تبرئة أنفسهم،
فإما أن يقولوا عن أعمالهم: إنها كانت قانونية، لاجئين إلى تلك القوانين التي
شهدوا بجَوْرِها، وإما أن يؤولوا أعمالهم بتأويلات تخفف جنايتهم في نظر
المعاقبين، والناس عامة لا يرون في ذلك بأسًا، فيجوزونها قائلين إن هذه سياسة
وخدعة و (الحرب خدعة) فلا بأس أن يحافظ الإنسان على نفسه، ويدفع عنها
شر الأعداء بكل ما أمكن. ولكن صاحب الخطاب سلك مسلكًا آخر، فصرَّح في
خطابه بأنه ليس من الحق والصدق أن ينكر الإنسان أمرًا صحيحًا وحقيقة ظاهرة،
فإن الحكومة كانت oأخذت عليه أنه ينفر الناس عنها ويقول في خطبه: إنها
ظالمة جائرة، ويحرِّضهم على مقاومتها ومحاربتها، فلم ينكر شيئًا من هذا، بل
اعترف به جميعًا بكل جرأة وصراحة، بل قال أكثر مما نسب إليه.
(2) قال في خطابه: إن النزاع قد قام بين الحق والباطل، وإن الباطل
سيفعل ما كان يفعله أمس بالحق وأصحابه، فيجب على أولئك الذين رفعوا أصواتهم
في حماية الحق مع علمهم بقوة الباطل وشدة شكيمته أن يتحملوا بدون أدنى وجل
ولا اضطراب تلك النتائج التي لا مناص منها في هذه السبيل، وإن كانوا يشكون
ويتململون فليس لهم أن يدخلوا في هذه المعمعة الخطرة.
(3) قد صرح أمام القضاة بكل ما كان يصرح به أمام الأمة بدون أدنى
خشية ولا وهن، في ساعة كانت حياته بيدهم وكل كلمة من أفواههم كانت كافية
للقضاء عليه، غير أنه لصلابته في إيمانه ورسوخه في التوكل على الله وحده، لم
يبال بهذا الخطر العظيم المحدق به، بل احتقره وآثر الحق على نفسه وحياته!
(4) إن العبرة الكبيرة التي أُوجِّه نظر المطالعين إليها هي أن الأمة
والجماعة تتأثر من الأسوة العملية أكثر من الخطب والمواعظ، فإنها عندما ترى
أمام أعينها الأمثلة الصادقة للشجاعة والحرية والاستقامة وعدم الخوف، يتجدد فيها
هذا الروح، فعلى زعماء الأمم وأبطالها أن يقدموا أمثلة لإيثارهم وثباتهم كهذا المثل
وإلا فلا طائل تحت بلاغة الخطابة وإعادة الدعاوى والألفاظ.
***
إلى إخواننا
في الشام والعراق ومصر وسائر البلاد الإسلامية
إخواني: إن هذه نبذة يسيرة من تلك المساعي التي تبذلها الهند لصون الخلافة
الإسلامية واستقلال بلادكم الإسلامية والعربية، على معارضة الموانع الآتية:
(1) إن الهند تبعد عن هاتيكم البلاد بعدًا شاسعًا وتحول بينهما البحار
الزاخرات.
(2) إن أهل الهند لا يضرهم احتلال هاتيكم البلدان واستعمارها ضررًا
ماديًّا، ولا ينفعهم استقلالها نفعًا شخصيًّا، بل إن مصالحهم المحلية ومقاصدهم
الوطنية تقتضي الإعراض عن غيرهم، والسعي لاستقلالهم أنفسهم.
(3) إنهم فوق هذا يئنون تحت نير الاستعباد، ويقاسون الشدائد بيد
الاستبداد، وإن الدولة التي تملكهم نفس تلك الدولة التي حاربت بلادكم وتريد
الاستيلاء عليها، فسعيهم ضدها محفوف بالأخطار، ومجلبة للأهوال. بيد أنهم
لمجرد واجبهم الإنساني والشرقي - وأكبر منهما واجب الأخوة الإسلامية وحماية
المظلوم - لم يستطيعوا القرار في راحتهم وبيوتهم، بل اضطروا إلى منازلة أقوى
دول الأرض لأجلكم ولحرية بلادكم!
أفليس في هذا عبرة وموعظة لكم، أهل البلاد الإسلامية والعربية؟ البلاد
التي:
(1) حريتها واستقلالها وحياتها وشرفها القومي والوطني في معرض
الهلاك.
(2) لم تكن مستعبدة لأوربا، بل كانت لها حكومة إسلامية شرقية،
ومهما تكن سيئاتها كثيرة، فهي على كل حال كانت حكومة قومية وإسلامية،
وظلمها وغدرها وميلها كان أحسن وأولى من عبودية الأجانب.
(3) هي نفسها كانت في الحرب فريقًا محاربًا، وكان الشرع والعقل يوجبا
عليها أن تغض النظر عن مصائبها الداخلية وتحارب العدو الخارجي وتدفع شره،
ولكنها ماذا فعلت؟
إن التاريخ سيقص قصتها بكل خجل وحياء!! فإنها لم تكتف بالقعود عن أداء
فرضها الديني والوطني والإنساني، بل واسوأتاه! كثير من أبنائها انضموا إلى
العدو، فساعدوه علي مطامعه وكانوا سببًا لانكسار آخر الدول الإسلامية وانقراضها،
حتى إن رجلاً قرشيًّا هاشميًّا قاد جيوش الحلفاء إلى (بيت المقدس) فنزعه من
إخوان دينه وسلمه إلى أعدائه!
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في قلب إسلام وإيمان!
أفلم يأت إلى الآن وقت قمع المطامع الشخصية والأهواء الباطلة؟ أفليس هذا
أوان الرجوع إلى الله، ورتق ما فتق، وسد ثُلْمَة الإسلام، واتحاد الكلمة، والذود
عن البلاد الإسلامية والعربية؟ أفلم يأن للمسلمين أن يعودوا إلى رشدهم، ويصلحوا
ما أفسدته أيديهم؟ {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ
وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126)
إن مسلمي الهند ليسوا بمجانين حتى يرغبوا في أن يكون أهل بلاد العرب
والشام عبيدًا للأتراك، ولكن ليس معنى التحرير من ربقة الترك، العبودية
لبريطانية وفرنسة باسم الوِصَاية أو الحماية، فيجب على إخواننا أن يغنموا هذه
الحقيقة.
إنه لا يمكن لأمة أن تصون حريتها ما لم تكن وراءها قوة عسكرية، والأتراك
مهما تكن سيئاتهم وذنوبهم، فالحقيقة التاريخية أن قوتهم العسكرية هي التي حافظت
إلى الآن على الأجزاء الباقية من البلاد الإسلامية وردت عنها كيد الأعداء، وإن
العراق والشام إن نالتا اليوم الحرية التامة، لا تستطيعان المحافظة عليها لفقدان قوة
عسكرية منظمة منهما، فإذًا لا مناص لهما ولغيرهما من البلدان الإسلامية من أن
تتحد وتتفق وترتبط بقوة مركزية، مع حفظ حريتها المحلية واستقلالها الداخلي،
وإلا فلا نجاة لها من الحلفاء.
إن الحرية الوطنية إنما تصونها وتضمنها القوة، لا الوعود والعهود
والمعاهدات والمؤتمرات، فإن الغرب لا يبالي بشيء منها بل إنما يهاب القوة،
والقوة وحدها تجعله يحترمها - فعلى أهل البلاد الإسلامية أن يتحدوا ويتعاونوا
ويتناصروا ويرتبطوا بالقوة المركزية الإسلامية، ثم ليعملوا لطرد الأعداء من
أوطانهم - إن أحبوا - بلائحة (اللاتعاون السلمي) الهندية بعد أن يجعلوها ملائمة
لحالتهم الاجتماعية والسياسية [1] .
***
مجلة المنار الغراء
خصصتُ مجلة (المنار) الغراء بنشر هذا الخطاب؛ لأنها الخليقة بمثله
لأياديها البيضاء في الإصلاح الديني وقَدَحِها المُعَلَّى في النهضة الإسلامية الحديثة،
فإنها لا تزال تجاهد جهادًا عظيمًا منذ ربع قرن لإحياء المسلمين، وتقاوم الاستبداد
والقهر والجمود والتقليد من زمن بعيد، بل إنها أول صوت ارتفع على بعد أجيال
كثيرة لإعلاء كلمة الحق، وأعظم منار رفع للهداية إلى الصراط السوي، فإنها هي
التي قد مزقت ظلمات التقليد التي كانت محيطة بالمسلمين، وبصرتهم سبيل الإسلام
ودين الحق التي كانت عميت عليهم، ولم يكن هديها محصورًا في البلاد العربية،
بل شمل العالم الإسلامي كله، فإنه كثيرًا ما استفاد منها وتنور بأفكارها، وإن
صاحب هذا الخطاب - الذي وضعنا له هذه المقدمة - لا يزال يعترف لها ويعدها
أصح دعوة إصلاحية ظهرت بين المسلمين في القرون الأخيرة. اهـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد الرزاق)
__________
(*) تابع لما في الجزء الأول.
(1) إن ما ذكره الكاتب في هذه المسألة مبني على النظريات العامة المجملة التي يهتم بها كل مسلم بقدر غيرته الإسلامية ويتمنى ما يقترحه مسلمو الهند من توحيد القوة الإسلامية بقدر رسوخ التوحيد بالله في قلبه، ولكن بين النظريات والعمل عقبات لا عقبة واحدة، أهمها: أن المانع من اتحاد العرب مع الترك مشترك بين الفريقين، والعرب أقرب إلى الترك منهم إليهم، مع أن المجاورين لهم منهم ليس أمرهم في أيديهم، وأن سبب هذه العقبات كلها وعلة عللها العصبية الجنسية التي استحدثها الترك لجعل السلطة التشريعية والتنفيذية تركية لا إسلامية، ويعبرون عنها (بالحاكمية الملية) ويعنون بالملية النسبة إلى ملة الترك ويشترطون أن تكون لغة التابع لدولتهم هي التركية دون سواها، وكان من أصول برنامجهم إسقاط دولة آل عثمان وإزالة سلطة الخلافة من الدولة لتحقيق الحاكمية الملية التركية وقد فعلوا عندما تمهدت السبيل فالعرب لا يأبون الاتحاد بالترك عند الإمكان على قواعد الشريعة الإسلامية العربية مع محافظة العرب على لغة الشريعة والقرآن وحرية الترك في لغتهم، فعلى إخواننا الهنود وغيرهم من أهل الغيرة أن يضعوا لهذه الوحدة النظام الذي نساعدهم عليه بمقالنا الحافل في الخلافة الإسلامية ونحن نعتقد أن السواد الأعظم من العرب يوافقون عليه ويسبقون الترك إلى تنفيذه بالرغم من دسائس الأجانب وأعوانهم من الحجازيين.(24/201)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى
طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير
(2)
أما المؤرخ (يود براند) الذي نقل عنه (فرديناند كار) الألماني فقد جاءت
رواياته مطابقة لروايات المسيو رينو، وقد وصف خوارق شجاعة تلك الشرذمة
العربية وما بلغوه من الفتح والاستيلاء والتبسط في البلاد وكيف كانوا يجوبونها
طولاً وعرضًا ويوقعون بكل من ناوأهم أو وقف في وجههم وينهبون الأديار
والكنائس وقصور الأمراء. ومن رأيه أن هؤلاء الغزاة من العرب لم يكن غرضهم
في تلك النواحي التوسع في الملك ولا استعباد الأهالي بل الاجتهاد في جمع الذهب
والنفائس ووضعها في حصن (فراكسينه) حتى إذا ضاق بهم الأمر أو أدبر بهم
طالع الحرب خلصوا بها إلى سفنهم التي كانت دائمًا راسية في مرفأ (سان تروبس)
وقصدوا أسبانية. ومن رأيه ورأي غيره أن الخليفة في أسبانية لم يكن عنده علم
بغزو هؤلاء الصعاليك ولا بما اعتزموه من الاستيلاء على جبال الألب والإيغال في
إيطالية وسويسرة وأنها غزاة قام بها هؤلاء الذؤبان من أنفسهم.
ثم إنه يوجد في دير (نوفالس) تحت جبل (سنيس) .
تاريخ جولة هؤلاء العرب في سنة 906 ويقال: إنه قبل هذه السنة انصبت
بلايا ورزايا على مقاطعات (بور غوند) و (سميلكة) وجبال الألب الإيطالية لأن
العرب المذكورين تسلقوا جبل (سنيس) وانفتحت أمامهم (سافواي) وسويسرة
وكان دير (نوفالس) من أغنى الأديار وأعظمها، فلما سمع الرهبان بقدوم العرب
جمعوا كل ما عندهم من الأموال والنفائس والكتب وحملوها إلى (تورينو) لتكون
في حرز حريز، فقبل أن ساروا بها وصل العرب واستولوا عليها واقتحموا الدير
ووضعوا النار في الكنيسة وأسروا بعض الرهابين. قال: وفي تلك الآونة كانت
جميع البلاد الممتدة من نهر (البو) PO إلى الرون RHONE (والبروفانس)
Pruvence و (البيامون) Piemont و (الدوفينه) Rdaufhine
(ومونتفرات) Montgerra و (ترانتازه) Tarntaisa مجالاً لغارات العرب
ومشهدًا الوقائع غزوهم واجتياحهم.
وكان الأشراف والأساقفة إذا أرادوا المرور من هناك إلى رومية مضطرين أن
يؤدوا فدية عن أنفسهم بأشياء ذات قيمة من ذخائر الأديار.
وزعم هذا المؤرخ أن العرب لم يقتصروا على نهب المال الصامت والصائت
بل تجاوزوه إلى سبي الأهالي رجالاً ونساء واسترقاقهم (كما كان الإفرنج أنفسهم
يفعلون مع العرب) وكان إذا قتل أحد الأهالي واحدًا من العرب أفحشوا الانتقام من
قوم القاتل وأضرموا النار في جميع البلد (على طريقة الدول المتمدنة...... اليوم
برمي القنابر من الطيارات على القرى وقتل أي من صادفت فيها من رجال ونساء
وأطفال عقابًا لمقاوم من أهالي تلك القرى أو عابر سبيل فيها، هذا لعمرك نظير
ذاك حذو القذة بالقذة إلا أن عمل أولئك الصعاليك من العرب وهو أصغر يسمونه
عيثًا وتخريبًا وعمل الدول المتمدنة هذه.... مع كونه أفظع وأكبر يسمونه
إصلاحًا وتمدينًا…) .
وكان السكان يهيمون زرافات ووحدانًا ويأوون إلى الكهوف والغابات
ويعتصمون بالجبال لأجل النجاة بأرواحهم من عادية العرب وطالما سعى أناس في
جمع كلمة الملوك والأمراء على قتال هؤلاء ففشلت مساعيهم بما كان من اختلاف
الكلمة. بل كنت ترى أحيانًا بعض الرؤساء يستظهرون بالعرب على أبناء جلدتهم.
أخبر فلود وارد Floduord في تاريخه أن العرب سنة 921 قتلوا قافلة من
الإنكليز كانوا حاجين إلى رومة بإلقاء الصخور عليهم من أعالي الجبال، وبعد
سنتين من ذلك التاريخ أهلكوا قافلة أخرى في جبال الألب، وفي سنة 929 اضطر
الحج إلى الرجوع أدراجه. قالوا: ولا يعلمون تمامًا في أي مضايق الألب وقعت
هذه الحوادث، هل في ممار الألب بين سويسرة وإيطالية أو في مماره بين فرنسة
وإيطالية؟ ولكن يرجح أن الإنكليز الذين كانوا يحجون رومة كانوا يختارون ممر
سان برنار , ثم لم يتفق المؤرخون على تعيين الزمن الذي وقعت فيه سان برنار في
قبضة العرب، وإنما محقق وجود هذا الحادث في القرن العاشر، ويرجح بعضهم
أنه في نحو سنة 940 تسلق العرب سان برنار من جهة وادي الرون حيث يوجد
هناك في كهف عظيم دير (أغونوم) Ogaunaum المؤسس على اسم القديس
موريسيوس. ففي ذلك العالم سطا العرب على ذلك الدير ونهبو ما فيه من الأمتعة
والذخائر وأحرقوه فجاء القديس ألريك أسقف أوغسبرغ عن طريق (بيورغوند)
لأخذ عظام الشهداء ونقلها إلى أوغسبرج فلم يجد شيئًا، وذكر (فلو داورد) أن جماعة
من حجاج الإنكليز والفرنسيين كانوا قاصدين رومة سنة 940 فصادفوا العرب
فرجعوا بعد أن فقدوا كثيرًا من رفاقهم. وأن راهبًا اسمه رودلف من رهبان سان
موريتز وجّه خطابًا إلى الملك لودفيك الرابع يذكره فيه بالأعمال العظيمة التي قام بها
سلاطين جرمانية في المحافظة على هذه الجهات ويستعديه على العرب ويستمده
لإماطة معرتهم وترميم ما خربوه من قبور القديسين.
وبعد أن غزا العرب نواحي بحيرة جنيف ظهروا في مضايق جبال الألب
الشرقية وملكوها ويقول (فلود وارد) أنهم غزوا ألمانيا وقطعوا الطرق على حجاج
الألمان واجتاحوا وادي الرين ونواحي شور وأن الوثائق التي تثبت وصول العرب
إلى وادي الرين تنبئ بأن الدوق الألماني هرمان المسمى كونت شورفالسن
Chuvallechen Grafuon التمس من عاهل ألمانيا يومئذ عام 940 أن يعوض
أسقف شور مما نهبه العرب من ديار أسقفيته فأهدى القيصر ذلك الأسقف كنيستين
هما كنيسة بلوندنز وكنيسة سان مارتين على شرط أنه بعد وفاة الأسقف يعود ريع
أوقاف الأولى على أساقفة شور وريع الثانية على دير الراهبات في رازيس.
وإن مما يحير العقول كيف اقتحمت عصابة قليلة من صعاليك العرب الأخطار
وصعدت تلك الجبال - جبال الألب - وعبرت شاطئ بحيرة لانغ وكومر إلى أن
ظهرت على حدود ألمانية؟ فقد ثبت أنهم مع قلة عددهم كانوا أوتوا جرأة خارقة
للعادة، وكان الخوف منهم قد تمكن من القلوب جميعها، ولقد تحقق كونهم جاسوا
خلال أودية منابع الرين وجهات الشور وكانت مغاور الجبال مكامن لهم وكانوا
يقعدون للمسافرين بالمراصد من المهاوي العميقة ويتخذون لأنفسهم أبراجًا يعتصمون
بها في الشدائد.
ثم ورد في تاريخ كلر خبر قيام هوغ صاحب بروفانس لحرب العرب
المذكورين وعزمه على فتح حصنهم في فراكسينة وذلك أنه بعد عقد الصلح مع
ألبريكوس خصمه الذي كان ينازعه على مملكة لومباردية استنجد ملك الروم
بالقسطنطينية ليبعث له بالأسطول فبعث به وأحرق مراكب العرب في خليج سان
تروييس بينما كان هوغ يهاجم حصونهم في جبل فراكسينة وكان مقصد (هوغ) أن
يمحو وجود تلك الديار ويخلص من شرهم ولكن فاجأه ما لم يكن في حسبانه وهو أن
بيرانجر Perengar المطالب بعرش لومباردية ثار على هوغ وجاذبه الحبل
فغضب هوغ وأصر على قهره وأخذه أسيرًا وقتله أو سمل عينه ففر (بيرانجر)
من لومباردية إلى (هرمان) أمير (شفابن) فأجاره وقدمه إلى (أوتو) قيصر
ألمانية فأكرم هذا مثواه ووعده خيرًا، فلما علم (هوغ) بذلك سقط في يده وأرسل
إلى القيصر بالألطاف والهدايا ليصرفه عن مساعدة (بيرانجر) ثم صالح العرب
وسرح الأسطول اليوناني وأطلق للعرب حريتهم وأمنهم بشرط أن يجعلوا سكناهم
في الجبال الفاصلة بين إيطاليا (وشفابن Chavvaben) وأن يحجزوا بين
عساكر (بيرانجر) وجبال الألب. وظاهر جلي أن العرب نالوا بهذه المعاهدة حق
احتلال جميع معابر الألب وشعابها وجلاء نفس (هوغ) عن بقعتهم أو منطقة
احتلالهم، ولكن هذا غير صريح. وقد اتخذ العرب هذه المعاهدة سلاحًا وانتفعوا بها
أعظم الانتفاع وقاموا بتنفيذها بتمامها حتى أن بيرانجر في عودته إلى إيطالية لم
يجرؤ أن يمر بجبال الألب بل جاء من طريق جبال التيرول فتعرض من جراء
جبنه هذه إلى هجاء الشاعر المؤرخ (يود براند) الذي كان في عصره.
ومنذ عقد العرب هذا الوفاق شعروا أنهم أصبحوا السادة المالكين لمعابر الألب
وضربوا رسومًا على القوافل المارة، فكل من لم يؤد لهم الرسم أوثقوه أسيرًا إلى أن
يدفع.
ثم امتد غزو العرب إلى نواحي (سار غاز Sargans) وتورغنبورغ
Toggenburg وأبنزل، وقد ذكر ذلك مؤرخ اسمه إيكيهارد في كتاب وجد في
دير القديس غالن، فقال:
إن طبيعة العرب وطور معيشتهم البرية كانا مما جعل التغلب عليهم في غاية
الصعوبة، ولقد تمادت جرأتهم إلى أيام فالتا Valta وبينما كان الأهالي يومئذٍ
محتفلين بعيد ديني رافعين الصلبان طائفين بها إذ أقبل العرب من جهة بارينيغ
Parenegg ورموا الجماهير بالمقاليع، ولكن الشهم الهمام فالتا لم يترك هذا
الجرم بدون جزاء بل جمع جموعه، ودهم قطاع الطرق بجيشه المكون من العبيد
والعملة وغيرهم وكلهم مسلحون بالحراب والمناجل والفؤوس وقد كبس على العرب
بياتًا وهم نائمون فقتل بعضًا وأسر بعضًا، وفر الباقون إلى الجبال لا يلوون على
شيء وسيق الأسرى إلى الدير فأبوا أن يأكلوا ويشربوا حتى ماتوا جوعًا (إذًا ليس
الإيرلانديون هم الذين اخترعوا هذا النوع من الانتحار) [1] ولم تعرف مدة إقامة
العرب بشرقي سويسرا إلا أنه ثبت كونهم وجدوا هناك في القرن العاشر، وفي سنة
954 التي انكسر فيها العرب في دير القديس (غالن) هذا انكسر لهم جيش آخر
في حرب (المجار) وذلك بفضل شجاعة الملك (كونرادفون بورغوند) فإنه استأصل
منهم طائفة عظيمة لكنهم بقوا قابضين على معابر الألب الغربية.
قال المؤرخ إيكيهارد من رهبان دير القديس غالن: إن العرب تمكنوا تمامًا
في داخل جنوبي أوروبا، وكان من جملة الخطط التي رسموها لأنفسهم أن يتزوجوا
من بنات أهل البلاد وأن يتوطنوا بها على شرط أن لا يؤدوا مالاً كثيرًا لملك القطر
الذي يكونون فيه، وأما الوادي الذي انتجعوه لتأسيس هذه المستعمرة العربية التي
قصدوا أن يتعاطوا فيها الفلاحة ويستقروا هادئين، فلا يُعلم هل هو وادي فاليس
Vallis أو وادي فال من سافوا أم غيرهما.
وسنة 954 كانت سنة نحس على سويسرا الشرقية؛ لأن (المجار) من جهة
الشمال، والعرب من الجنوب كانوا قد اكتسحوا البلاد.
وفي 22 يوليو 973 كان القديس (ماجلوس) من (كلوني) عائدًا من (بافيا)
إلى (بورغوند) ومعه قافلة عظيمة؛ لأن الناس الذين كانوا يريدون العبور ظنوا
أن التحاقهم به قد يحميهم من غارة العرب فوصلوا إلى قرية في جبل سان برنار
وإذا العرب انقضوا عليهم وأوثقوهم ولم ينج القديس نفسه من الوثاق بل صفدوه
بالحديد ثم أحضروا له طعامًا على عادة العرب لحمًا وخبزًا يابسًا فأبى أن يطعم شيئًا،
وقال لهم: إنني لم أتعود أكل هذا الخبز، فقام أحدهم وغسل يديه وعجن دقيقًا
وخبزه وقدمه للقديس بكل احترام، فرضي هذا من عمله وصلى وأكل.
ومما يروي أولئك المؤرخون أيضًا أن أحد العرب أراد أن يقطع غصن شجرة
ليتخذ منه محجنًا فلما أراد أن يتطاول إلى الشجرة كان تحتها إنجيل شريف من
أمتعة القافلة فأراد أن يدوس عليه فانتهره أصحابه وصاحوا به: ويل لك كيف تطأ
برجلك كتاب نبي مقدس؟ وذلك أن العرب يحترمون الأنبياء ويقولون: إن محمدًا
صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي وعد بمجيئه المسيح صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد أذن العرب للقديس ماجلوس أن يكتب إلى بلدته كلوني بطلب فدية
يفك بها نفسه ورفاقه، فلما ورد الصريخ قامت قيامتهم وأضجوا وأعولوا، وعلا
نحيبهم فجمعوا وعفَّشوا (جمعوا ومنه قول العامة العفش للأمتعة) من ذخائر الأديار
والكنائس كل ما قدروا وأرسلوا به لفداء القديس ورفاقه فبلغ مجموع الفدية ألف رطل
من الفضة أصاب كل واحد من العرب رطلاً. إلا أن هذه الحادثة هاجت عليهم البلدان
بأسرها وصمم الأكثرون على التخلص من معرتهم واشتهر في ذلك زعيم اسمه
(بربو) من أهل (سيسترون Sistron) فتألب الأهالي عليهم بزعامة هذا الرجل
وأجلوهم عن تلك الناحية إلى (دوفينه Daufhine) ومنها إلى بروفانس وهناك
غزاهم غليوم أحد أمراء بروفانس بجيش كبير إلى مقرهم الأصلي فراكسينه، وبعد
حصار شديد افتتح الحصن عنوة، وفر العرب منه لائذين بالحراج والجبال فمنهم من
وقع في اليد فقتل، ومنهم من تنصر لينجو برقبته وتقاسم جيش بروفانس أسلابهم،
وهكذا انتهت من هناك دولتهم وشالت نعامتهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
... ... (له تتمة في آثار العرب بسويسرا)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار هؤلاء مسبوقون أيضًا كما في أخبار سنة 293 من كتاب تجارب الأمم.(24/206)
الكاتب: أنطون زكري
__________
أقدم كتاب في العالم
أثر مصري منذ 5500 سنة
نشر أولاً في جريدة الأهرام.
عثر أحد الفلاحين على أوراق بردية وهو يحفر مقبرة بناحية ذراع أبي النجا
بطيبة فباعها للعالم الأثري الفرنسي دافين الذي أذاعها سنة 1847 ثم قدمها هدية
لدار الكتب الأهلية بباريس، ولذلك اشتهرت بورقة باريس البردية، وهي أقدم كتاب
في العالم؛ لأنها كتبت منذ 5500 سنة، وقد كانت كتب الأولين كلها من هذا النوع،
وهي تشتمل على 18 صحيفة مكتوبة بالخط الهراطيقي بالحبر الأحمر والأسود
متضمنة نصائح ومواعظ وحكم وضعها رجلان: الأول يدعى (قاقمنه) وهو وزير
الملك (حوني) من الأسرة الثالثة والثاني يدعى (فتاح حتب) وهو وزير الملك
(آسي) من الأسرة الخامسة، كتبها وله من العمر 110 سنوات اقتبسها من السلف،
وجعلها موعظة للخلف، ولذا قال لابنه: إذا سمعت هذه الحكم السامية عمرت طويلاً،
وبلغت أوج الكمال، وتدرجت إلى معالي العلا والمجد.
ثم اعتنى بترجمتها من اللغة المصرية القديمة إلى الفرنسية العالمان (شاباس
دفيري) وباللاتنية العالم (لوث) وبالألمانية العلامة (بروكش باشا) وبالإنكليزية
الأثري المستر (جن) ومن هؤلاء نقلتها إلى العربية.
وقد وجدت هذه النصائح مكرَّرة وغير مرتبة فلخصتها واقتصرت فيها على
فرائد الفوائد.
ولأهمية هذه النصائح الدَّرية اعتنى بها الإنكليز اعتناء عظيمًا حتى قرروها
في برنامج الدراسة للأطفال فأكسبتهم المبادئ الشريفة التي أشربتها قلوبهم في
الصغر فسادوا العالم وقادوا الأمم وذلك بفضل اتباعهم مناهج أجدادنا العظام التي
دونوها لنا، وكنزوها لأجلنا، فكان نفعها لغيرنا، ويا حبذا لو اهتدينا إليها واقتدينا
بها فنحن أحق بها.
نصائح قا قمنا
الحكيم المصري القديم
(1) اسلك طريق الاستقامة لئلا ينزل عليك غضب الله.
(2) احذر أن تكون عنيدًا في الخصام فتستوجب عقاب الله.
(3) الابن الذي ينكر الجميل يُحزن والديه.
(4) متى كان الإنسان خبيرًا بأحوال الدنيا سهل عليه قيادة ذريته.
(5) إن قليل الأدب لبليد ومذموم.
(6) إذا دعيت إلى وليمة وقدم لك من أطايب الطعام الذي تشتهيه فلا تبادر
إلى تناوله؛ لئلا يعتبرك الناس شَرِهًا، واعلم أن جرعة ماء تروي الظمأ ولقمة
خبز تغذي الجسم.
(7) احفظ هذه النصائح واعمل بها تكن سعيدا ًومحمودًا بين الناس.
***
أمثال فتاح حتب
الحكيم المصري القديم
(1) إن التعرف بأعاظم الناس نفحة من نفحات الله.
(2) لا توقع الفزع في قلوب البشر؛ لئلا يضربك الرب بعصا انتقامه.
(3) إذا شئت أن تعيش من مال الظلم أو تغتني منه، نزع الرب نعمته منك
وجعلك فقيرًا.
(4) إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء؛ لأن بيده مقاليد الأمور، فمن العبث
التعرض لإرادته تعالى.
(5) إذا كنت عاقلاً فربِّ ابنك حسبما يرضي الله تعالى، وإذا شب على مثالك
وجدَّ في عمله فأحسِن معاملته واعتنِ به، أما إذا طاش وساء سلوكه فهذب أخلاقه
وأبعده عن الأشرار؛ لئلا يستخف بأمرك.
(6) إن تدبير الخلق بيد الله الذي يحب خلقه.
(7) إذا نلت الرفعة بعد الضعة وحزت الثروة بعد الفاقة فلا تدخر الأموال
بمنع الحقوق عن أهلها؛ فإنك أمين على نعم الله والأمين يؤدي أمانته، واعلم أن
جميع ما وصل إليك سينتقل منك إلى غيرك ولا يبقى فيه لك إلا الذكر.
(8) ما أعظم الإنسان الذي يهتدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
(9) من خالف الشرائع والقوانين نال شر الجزاء.
(10) لا ينجو الأثيم من النار في الحياة الآخرة.
(11) ألا إن حدود العدالة لثابتة وغير قابلة للتغيير.
(12) إذا دعاك كبير إلى الطعام فاقبل ما يقدمه لك ولا تطل نظرك إليه
ولا تبادره بالحديث قبل أن يسألك لأنك تجهل ما يخالف مشربه؛ بل تكلم عندما
يسألك فحينئذٍ يعجبه كلامك.
(13) إذا كلفك كبير حاجة فأنجزها له حسب رغبته.
(14) إذا تعرفت برجل رفيع المقام فلا تتعاظم عليه بل احترمه لمركزه.
(15) إذا جلست في مجلس رئيسك فعليك بالكمال والصمت ولا تتفوق في
الكلام؛ لئلا يعارضك من هو أكبر منك نفوذًا وأكثر منك خبرة، واعلم أن
من الجهل أن تتكلم في مواضيع شتى في آن واحد.
(16) لا تَعُق كبيرًا عن عمله متى رأيته مشغولاً؛ فإنه عدو لمن يعوق أعماله.
(17) لا تخن من ائتمنك تزدد شرفًا ويعمر بيتك.
(18) من الحمق أن يتشاجر المرءوس مع رئيسه؛ فإن الإنسان لا يعيش
عيشة راضية إلا إذا كان مهذبًا لطيفًا ظريفًا.
(19) إذا دخلت بيت غيرك فاحذر من الميل إلى نسائه، فكم أناس تهافتوا
على هذه اللذة القصيرة التي تمر كالحلم فأودت بهم إلى المخاطر والمهالك. واعلم
أن بيت الزاني للخراب، والزاني نفسه فاقد الرشد وهالك وممقوت عند الله
والناس، ومخالف للشرائع والنواميس [1] .
(20) إذا كنت عاقلاً فدَبِّر منزلك وأحب زوجتك التي هي شريكتك في حياتك،
وقم لها بالمؤونة لتحسن لك المعونة وأحضر لها الطيب، وأدخل عليها السرور،
ولا تكن شديدًا معها إذ باللين تملك قلبها وقم بمطالبها الحق (أو بالمعروف) ليدوم
معها صفاؤك ويستمر هناؤك.
(21) لا تعجب بعلمك؛ لأن العلم بحر لا يصل إلى آخره متبحرٌ مهما
خاض فيه وسبح، واعلم أن الحكمة أغلى من الزمرد لأن الزمرد تجده الفَعَلَة في
الصخور بخلاف الحكمة فإنها نادرة الوجود.
(22) لا تترك التحلي بحلية العلم ودماثة الأخلاق.
(23) إذا كنت زعيم قوم فنفذ سلطتك المخولة لك، وكن كاملاً في جميع
أعمالك ليذكرك الخلف. ولا تسرف في المواهب والنعم التي تقود إلى الكبرياء
وتؤدي إلى الكسل.
(24) إذا كنت قاضيًا فكن لين الجانب مع المتقاضين ولا تجعل أحدهم
يتردد في كلامه ولا تنهره ودعه يتكلم بحرية لكي يعبر عن مظلمته بصراحة؛ وإذا
لم تنصفه يكون سببًا لسوء سمعتك، فحسن الإصغاء أفضل طريقة لكشف الحقيقة.
(25) ليكن أمرك ونهيك لحسن الإدارة، لا لإظهار الرياسة والإمارة.
(26) لا تستبد لئلا تضل.
(27) لا تكن يابسًا فتكسر ولا لينًا فتعصر.
(28) إذا شئت أن تطاع، فسل ما يُسْتَطَاع.
(29) إذا حكمت بين الناس فاسلك طريق العدل ولا تتحيز لفريق دون
آخر وإلا نسبوك للجور والعسف.
(30) إذا عفوت عمن أساء إليك فاجتنبه واجعله ينسى إساءته إليك حتى
لا يذكرها مرة ثانية.
(31) بقدر الكد تُكتسَب الثروة فمن جَدَّ في طلبها أنجح الله مسعاه.
(32) اجتهد دائمًا في عملك ولا تترك فرصة اليوم للغد، فمن جد وجد.
(33) إذا كنت منتظمًا في حياتك صرت غنيًّا وحسنت سمعتك، وتحسنت
صحتك، وطار صيتك، وملكت حاجتك، أما الذي ينقاد لشهواته فإنه يصير
ذميمًا سمجًا وعدوًّا لنفسه.
(34) إذا وقفت أمام الحاكم فاخفض جناحك واحن رأسك ولا تعارضه
وجاوبه بوداعة لينجذب قلبه إليك.
(35) إذا فاه أخوك بالشر فازجره لتكون خيرًا منه.
(36) اصغ لكلام غيرك فإن السكوت من ذهب.
(37) لا تحتقر فقيرًا، وإذا زارك فلا تتركه سدى لئلا تخذله، ولا
تغضبه ولا تحتقر رأيه فإن هذا ليس من شيم الكرام.
(38) احذر من تحريف الحقيقة بين الناس؛ لئلا تزرع الشقاق بينهم.
(39) لا تخبر أحدًا بما صرَّح به لك غيرك لئلا يبغضك الناس.
(40) من ساءت سيرته ضل الصراط المستقيم.
(41) إذا كنت في مجتمع فاسلك دائمًا حسب قوانينه.
(42) إذا عاشرت قومًا فاجذب قلوبهم إليك.
(43) ليكن كلامك دائمًا سديدًا مفيدًا.
(44) إياك والطمع فإنه داء دفين لا دواء له، والمتصف به قليل الحظ
لأن الطمع مجلبة الشحناء والشقاق بين الأهل والأقارب وهو سبب كل الشرور
والرذائل. أما القناعة فهي أساس النجاح والفلاح ومصدر الخير والبر.
(45) لا تُفرط في الكلام ولا تُصغِ إلى البذاءة؛ لأنها صادرة عن التهيج
والغيظ، وإذا أسرف أحد أمامك في الكلام فأطرق رأسك إلى الأرض لترشده بذلك
إلى طريق الحكمة.
(46) من يلقي بنفسه في متاعب الدنيا ويستغرق فيها كل أوقاته لا يجد لذة
في حياته.
(47) من يعكف طول نهاره على شهواته ضاعت مصالح بيته.
(48) إذا شئت أن تعرف طباع صديقك فلا تسأل عنه أحد بل استنتج
ذلك بانفرادك معه في المحادثة المرة بعد المرة، ولا تغضبه، ومتى أخبرك عن
أصل ماضيه عرفت جميع أخلاقه، وإذا فاتحك الحديث فسايره ولا تدعه يحترس
في حديثه، وإياك أن تقاطعه في الحديث أو تزدريه، وبهذا يمكنك أن تستطلع
جميع أحواله.
(49) كن بشوشًا ما دمت حيًّا.
(50) من زرع الشقاق بين الناس عاش حزينًا لا يصحبه أحد.
(51) من طابت سريرته، حمدت سيرته.
(52) متى كبر الإنسان في السن عادت إليه حالة صغره؛ فيعمش بصره [2]
وينقص سمعه ويصمت فمه ويسخف كلامه ويظلم عقله وتضعف ذاكرته وتخور
قواه وتقف حركة قلبه وترق عظامه ويهزل جسمه ويفقد ذوقه وشمه، حقًّا إن
الشيخوخة آفة الإنسانية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أنطون زكري
... ... ... ... ... ... ... ... بالمتحف المصري
__________
(1) هذا موافق لقوله تعالى: [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] (الإسراء: 32) .
(2) العمش: توصف به العين، ومعناه كثرة تحلل الدمع منها، ويلزمه ضعف البصر الذي هو العشى، ويقال عشي الرجل (كرضي) وعمشت عينه فهو أعمش أعشى.(24/212)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوى فيهم
لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس سره
بسم الله الرحمن الرحيم
(مسألة) ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم - في أهل
الصفة كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به؟
وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة، أو كان منهم من يقعد
بالصفة، ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم: هل يعملون بأبدانهم أم
يشحذون بالزنبيل؟
وما قول العلماء - وفقهم الله تعالى - فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين
مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي رضي الله عنهم، ومن الستة الباقين من العشرة، وأفضل من جميع الصحابة؟
وهل كان فيهم أحد من العشرة؟ وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة؟
وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حادٍ ينشد لهم أشعارًا ويتحركون عليها
بالتصدية ويتواجدون؟
وما قول العلماء في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) هل هي عامة أم مخصوصة بأهل
الصفة رضي الله عنهم؟ وهل هذا الحديث الذي يرويه كثير من العوام ويقولون:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله
لا الناس تعرفه ولا الولي يعرف أنه ولي) وهل تخفى حالة الأولياء أو طرقهم على
أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي وليًّا؟ وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء
إلى الجنة، والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله
وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سننه؟ هل هم الذين لا يملكون كفايتهم
أهل الفاقة والحاجة أم لا؟ والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع؟
وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة
يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في
جماعة ويغيب جسده؟
وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تَسَمَّى بها أقوام من المنسوبين
إلى الدين والفضيلة ويقولون: هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا
قطب العالم، وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء؟
وأيضًا فما قول العلماء في هؤلاء (القلندرية) الذي يحلقون ذقونهم ما هم؟
ومن أي الطوائف يحسبون؟ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أطعم شيخهم قلندر عنبًا وكلَّمَه بلسان العجم؟ وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى
أن يدور في الأسواق والقرى ويقول: من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره؟ وهل يأثم
من يساعده أم لا؟ وما تقولون فيمن يقول: إن (الست نفيسة) هي باب الحوائج إلى
الله تعالى وأنها خفيرة مصر؟ وما تقولون فيمن يقول: إن بعض المشايخ إذا قام
لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل
الملائكة ترقص معهم أو عليهم، وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحضر معهم؟ وماذا يجب على مَن يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما صفة رجال الغيب وما
معنى قول من يقول: إنه من خفراء التتار؟ وهل يكون للتتار خفراء أم لا؟ وإذا
كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه
وسلم.
وهل هذه المشاهِد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله
عنهما صحيحة أم مكذوبة؟ وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله؟
والمسئول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوى والأحوال
كشفًا شافيًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحالة هذه أفتونا مأجورين
أثابكم الله.
أجاب رضي الله عنه وأرضاه، آمين:
الحمد لله رب العالمين: أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في
شمال المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل
ولا مكان يأوي إليه. وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن
يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس
والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومَنَعَة - جعل
المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها
صنفين: المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة
وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون
كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا
مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم، وكل هذه الأصناف مذكورة في
القرآن وحكمهم باقٍ إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم، قال الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا
وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن
شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن
فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 72-
74) فهذا في السابقين ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ
بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ} (التوبة: 100) الآية، وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين
من أهل المدينة وممن حولها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً} (النساء: 97-99) .
فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على
الأنصار بأهله أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان
في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على مَن ينزل منهم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم. ثم صار
المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس
يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه
فيسلم خلق تارة ظاهرًا وباطنًا، وتارة ظاهرًا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من
الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب، فكان مَن لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي
إلى تلك الصفة التي في المسجد. ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت
واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس
وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون. فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون
عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين.
وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد قيل: كانوا نحو أربعمائة من
الصحابة، وقد قيل: كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن
السلمي ولم يُعرِّف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة [1] وكان معتنيًا بجمع
أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم، وجمع
أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا.
والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة [2] وجمع أيضًا في الأبواب مثل حقائق
التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد
والمعرفة والمحبة ومسألة السماع، وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب.
وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين
والصلاح والفضل. وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي
أحيانًا آثارًا ضعيفة بل موضوعة يُعلم أنها كذب.
وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه، وكان البيهقي إذا روى عنه يقول:
حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه. وما يُظَنُّ به وبأمثاله - إن شاء الله تعالى -
تعمُّدُ الكذب [3] لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النساك
والعباد منهم مَن هو متقن في الحديث مثل ثابت البناني والفضيل بن عياض
وأمثالهم ومنهم مَن قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد
السنجي ونحوهما.
وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر
له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحيانًا من الخطأ
أشياء، وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ. بعضه باطل قطعًا مصدره - مثل ما ذكر
في حقائق التفسير - قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة
وذكر عن بعض طائفة أنواعًا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات
مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو، والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في
تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يُسْتَفَاد منه فوائد جليلة
ويجتنب ما فيه من الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد
والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء
كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحيانًا
عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له من الأمة
لسان صدق عام بحيث يُثْنَى عليه ويُحْمَد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة
الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد
الاجتهاد التي يُعْذَرُونَ بها وهم الذي يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل
والظلم وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس.
***
(فصل)
وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين (الذين) لم يكونوا في
الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه
حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء. فقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا
هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: 271) إلى قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ
لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (البقرة: 273) وقال في أهل الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ
المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8) .
وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب
الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب، وأما إذا أحصروا في
سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله.
وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما
يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة، لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما
يحتاجون إليه من الرزق.
وأما المسألة فكانوا فيها كما أدَّبهم النبي صلى الله عليه وسلم: حرمها على
المستغني عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن
يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج
إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا حتى كان السوط يسقط من يد
أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه. وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل، وكلام للعلماء
لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
(ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل له ولا مشرف فخذه وما لا، فلا تتبعه
نفسك) [3] . ومثل قوله: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن
يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) [4] . ومثل
قوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشًا - أو خموشًا أو كدوشًا -
في وجهه) [5] . وقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل
الناس أعطوه أو منعوه) [6] إلى غير ذلك من الأحاديث.
وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله عز وجل عن موسى والخضر أنهما أتيا
أهل قرية استطعما أهلها. ومثل قوله: (لا تحل المسألة إلا لذي ألم مُوجع أو غُرم
مُفظع أو فقر مُدقع) . ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي (يا قبيصة لا تحل
المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فسأل حتى يجد سدادًا من
عيش - أو: قوامًا من عيش - ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته
ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فإنما هو سُحتٌ أكله صاحبه سحتًا) [7] .
ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس
والإلحاف في المسألة بالكدية والمشاحذة لا بالزنبيل ولا غيره - صناعة وحرفة بحيث
لا يبتغي الرزق إلا بذلك. كما لم يكن في الصحابة أيضًا أهل فضول من الأموال لا
يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب، بل هذان
الصنفان الظالمان المُصِرَّان على الظلم الظاهر من مانعي الحقوق الواجبة والمعتدين
حدود الله في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المُثْنَى عليهم.
(فصل) من توهم أن أحدًا من الصحابة. أهل الصفة أو غيرهم، أو التابعين
أو تابع التابعين قاتل مع الكفار أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو
أنهم كانوا يستحلون ذلك أو أنه يجوز ذلك - فهذا ضال غاوٍ بل كافر يجب أن يستتاب
من ذلك فإن تاب وإلا قتل {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:
115) .
بل كان أهل الصفة ونحوهم كالقُرَّاء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم
يدعو على قَتَلَتِهِم، هم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونصرًا لله ورسوله كما أخبر الله عنهم بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8) وقال: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا التاريخ لأبي عبد الرحمن محمد السلمي المذكور المتوفى سنة 412.
(2) المنار: ذكر الحافظ في لسان الميزان (السلمي) هذا ووصفه بأنه شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم وأنه عني بالحديث ورجاله وقال: تكلموا فيه، وليس بعمدة، بل قال ابن القطان: كان يضع الأحاديث للصوفية. وأن الحاكم قال: كان كثير السماع والحديث متقنًا فيه، من بيت الحديث والزهد والتصوف (قال) وقال السراج: مثله - إن شاء الله - لا يتعمد الكذب، ونَسَبَه إلى الوهم.
(3) المنار: الحديث في الصحيحين وغيرهما، ولفظ البخاري في كتاب الأحكام: عن عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة فقلت: أعطه أفقر مني، فقال: (خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) وله في كتاب الزكاة: (إذا جاءك بدل فما جاءك) ولفظ مسلم (خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك) إلخ وزاد في آخره: قال سالم: (فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدًا شيئًا ولا يرد شيئًا أعطيه) .
(4) هو في الصحيحين أيضًا على اختلاف في ألفاظه وأوله: (ما يكون عندي من مال فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله) إلخ.
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن وفيه زيادة تحدد الغنى بخمسين درهمًا، وفي سنده حكيم بن جبير ضعيف، وتكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث، ومعنى الخموش والخدوش والكدوش واحد.
(6) روياه أيضًا واللفظ للبخاري.
(7) لفظ الحديث في صحيح مسلم: (يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا) .(24/218)
الكاتب: حسني عبد الهادي
__________
من الخرافات إلى الحقيقة
(8)
فوز روح زردشت على روح الإسلام
من المجربات أنه إذا تأصلت عقيدة ما في نفس فرد أو جماعة يتعذر على
معتقدها أو على غيره إزالتها. فإن اتفق أن نُزعت هذه العقيدة، فلا بد أن يبقى
لها آثار في النفس تظهر بين آونة وأخرى بالرغم من الجهد الذي يبذله صاحب
العقيدة ليتناساها. هذا شأن العقائد الدينية، فإن ضُم إليها عقيدة قومية وامتزجت
العقيدتان يتعذر حينئذ إزالة هذه العقيدة المزدوجة.
أضرب مثلاً هؤلاء الإيرانيين أرادوا التأليف بين حاجاتهم الروحية وبين
موجبات تقاليدهم التاريخية وبين مقتضيات الدين الإسلامي فلم يفلحوا. لماذا؟ لأن
زردشت ولد في إيران ونشر مذهبًا ملائمًا لروح الفرس وموافقًا لتقاليدهم التاريخية،
فرسخ هذا الدين في أنفسهم، لأنه جاء موافقًا لحاجاتهم الروحية حتى إن ملك ذلك
العصر (كستاسب) ووزراءه وسائر الطبقات أقبلوا على دين (زردشت) إقبال
العاشق المشتاق؛ لأن روح البلاد كانت تطلب وصايا زردشت فكان معبرًا عما في
ضميرها.
نعم إن العرب ضربوا دولة الفرس في القادسية ضربة زلزلوا بها أركانها،
وقوضوا عمود خيمتها. إلا أن روح إيران بقيت بمعزل عن تلك الضربة، ولم
تتبدل لأن تبديلها محالٌ، حتى إن أحكام الإسلام المنطقية العلوية، لم تستطع فتح
الروح الإيرانية؛ لأن هذه الروح كانت قد اعتادت وألِفَت عقائد أمشاجًا مركبة
ممزوجة بالخيالات والأوهام، فلم تكن أسس الدين الإسلامي البسيطة لتحل محل
تلك الأسس المركبة. روح الإيراني كانت تطلب أحيانًا عبادات مقرونة بمظاهر
العظمة والفخفخة وأحيانًا بمظاهر الحزن المشعشع المعظم، فلذلك كانوا يرون قواعد
الدين الإسلامي كالشيء اليابس غير المرن. وهذا ما تأباه أرواحهم، وتنبو عنه
أذواقهم.
الدين والحكومة كانا يرتكزان على قاعدة واحدة عند الفرس. فلما سقطت
الحكومة سقط الدين معها؛ لأن سقوط القاعدة يقتضي سقوط ما بُنِيَ عليها.
إن إعادة دين (زردشت) كانت في نظر الإيرانيين أسهل وأسلم من التوسل
لإعادة عرش كسرى. ولكن إعادته تتوقف بالطبع على إضعاف الدين الذي حل
محله. لذلك صمموا على الأمور الآتية
(1) زلزلة قواعد الإسلام.
(2) إدخال تقاليد الفرس في سويداء قلبه.
(3) إحداث مذاهب جديدة.
(4) ابتداع طرق مُستحدَثة.
والقصد من ذلك كله إضاعة جوهر الإسلام الساذج بين هذه المركبات أو
إلباسه ثوب (زردشت) السابغ الفضفاض على الأقل، حتى إذا ما عثرت رجلاه
بأذيال هذا الثوب ووقع أو ضعفت مشيته تمهدت لهم السبيل لنصب عرش كسرى.
لذلك يجد المدقق منا في حوادث التاريخ أن جميع الفرق الضالة ولدت في
إيران وأن الخرافات والبدع السيئة جاءت من إيران؛ لأن الأحكام الإسلامية
البسيطة لم تستطع تطويع النفس الفارسية التي اعتادت الانحناء تحت أثقال التقاليد
القديمة.
هذا هو السبب الإيجابي. وهناك سبب معنوي أيضًا، وهو أن الإيراني
قضى عمره وهو يئن تحت استعباد السلالات المالكة؛ لأنه كان يتدحرج بين
استبداد آل (البيشداديين) و (الإشكانيين) و (الكيسانيين) و (الساسانيين) وكل
شعب وقع في نيران الاستبداد تطلب روحه دائمًا مبعثًا لأنينها وبث شكواها، وهذه
المظاهر التخييلية التي يحتفل بها الإيرانيون في أيام مخصوصة هي مبعث الأسى
الذي يجتمع فيه ما يفيض من دموعهم، ففي تلك الاجتماعات والاحتفالات يفرغ كل
امرئ آلامه ويخرج منها بدون آلام.
ذلك - يا سيدي القارئ - سر مأتم (المُحَرَّم) التي يبكي فيها الإيرانيون الحسين
السبط رضي الله تعالى عنه، وإذا اعتاد الروح عملاً وصار له ملكة؛ فإنه يصدر عنه
دائمًا لا يعيقه عنه عائق مهما يكن قويًّا، ولا شأن للمظاهر والأشكال عند الروح وإنما
الشأن عنده للإدراك والشعور الذي يبعث على العمل، فثم شعور يحرك داعية البكاء،
وسيان أبكى على كسرى أم على الحسين رضي الله عنه. باعث البكاء أساسي
وصورة المأتم فرع عنه [1] .
روح الإيراني يريد أن يرى رجلاً جالسًا على عرش الملك بكل عظمة وفخامة،
يريد أن يحصر حق التعظيم فيه وفي ورثته؛ لأن هذا المعنى تبوأ ورسخ في
سويداء قلب الشعب وأمسى روحًا ثانيًا له، يريد أن يرى آمرًا كبيرًا ذا أبهة وبهجة
يأمر وينهي متأبهًا متألهًا - لا عبدًا متواضعًا - ومن تحته أمة تأتمر وتطيع وتخضع،
وأنى يجد هذا في الإسلام؟ الإسلام حرم الاستبداد والتعظم والكبرياء، ونسخ
توارث الأمر والنهي وجعل الخلافة تابعة للشورى. وكان الخليفة كآحاد الناس
بعيدًا عن العظمة وعن الفخفخة. لذلك أحدثوا مسألة (الإمامة المعصومة) لتقوم
مقام الكسروية المقدسة، فيتوارثون عروش الأكاسرة، فاستعانوا ببني هاشم لا
لإجلاسهم على عرش الخلافة؛ بل لإجلاس أحفاد إسماعيل الشاه على عرش كسرى.
إن عقل الإيراني ما كان يقدر أن يفهم معنى أصول انتخاب الرئيس السياسي
من الناس. وكان انتخاب الخلفاء الراشدين الأربعة في نظره من أغرب الغرائب
لأن (زردشت) غرس في قلبه فكرة توارث الرئاسة والعظمة والجلال. لذلك كانوا
يتعجبون من ترجيح أحد على علي كرم الله وجهه؛ لأن الفضل الذاتي كان في
نظرهم شيئًا غريبًا؛ ولا سيما أولاد سيدنا علي رضي الله عنهم أسباط الرسول
صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو سر تولد مسألة (الإمامة) فإنها من مقتضيات روح إيران. ولما
كان الحسين رضي الله عنه قد تزوج إحدى عقائل بيت الملك في إيران من أسرة
(الساسانيين) كان الفرس يعلقون أهمية كبرى على هذه النقطة.
كانت روح الإيراني تطلب (خداوند) أي رئيسًا إلهيًّا لتنقاد له وتطيعه طاعة
وجدانية وتمتثل أوامره بغير بحث ولا مراجعة. وأنى لها في الإسلام مثل ذلك
وأكبر خليفة يقول علنًا: (أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه) فيجاب
من آحاد الناس بكل بساطة: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا) [2] .
الإيراني ما كان يمكن أن يفهم هذا، وروحه يأبى قبوله. وإنما يريد (خداوند)
أي رئيسًا إلهيًّا يأمر فيطاع بلا نقد وبلا اعتراض. الإيراني ينشرح صدره إن قَتَلَ أو
كَسَرَ أو سَمَّمَ أحدًا امتثالاً لأمر (الخداوند) وتكفي أدنى إشارة منه ليطيع بكل سرور.
وهذا السرور لا بد له من (خداوند) إذًا ما العمل والإسلام يأبى ذلك؟ وجدوا فكرة
إحداث (إمام يورث) أقصر طريق لما نووا. وهكذا فعلوا.
من قرأ روح أبي مسلم من أفعاله يتضح له صدق ما نقول، وللقارئ الكريم
البيان:
أمر الإمامُ (إبراهيم) أبا مسلم الخراساني أن يقتل كل من اشتبه في إخلاصه
وإن كان ولدًا لا يتجاوز طوله خمسة أشبار، فامتثل أبو مسلم هذا الأمر بدون تردد؛
لأنه صدر من (خداوند) أي من إمام، ومجموع من قتل أبو مسلم على
الشبهة ستمائة ألف مسلم. ولقد صور المؤرخ ابن الأثير هذه الفواجع تصويرًا تامًّا
حتى إن (أبا سلمة الخلال) الذي أحرز عنوان (وزير آل محمد) لم يقدر أن
يصون دم نفسه من قانون الشبهة؛ لأن أبا مسلم كان يتلقى أوامر ممثل (الخداوند)
الإمام إبراهيم كأمر إلهي.
وياليت الأمر بقي مسوقًا بروح الإيرانيين وحدهم بل إن روح سورية المقتبسة
من روح الروم زاد الأمر اضطرابًا وتهويشًا؛ إذ من المعلوم أن بعض الجنود
السورية والعراقية أغريت يوم (صفين) بعدم الطاعة لعلي كرم الله وجهه
ولمعاوية أيضًا، وهذه الديمقراطية الواسعة ليست إلا من بقايا أفكار (بيزانس)
فتشوشت أفكار العرب بين هذا الجزر الإيراني والمد الرومي (وكان العربي من
القديم قانعًا بالانكماش في جزيرته ولا يحلو له إلا ما عنده فلا يعرف ما عند غيره.
والسياسة هي معرفة المتغير ومعاملته حسبما علم من أحواله) وأوضح دليل على
عقلية الإيرانيين ما عمله أهل بلدة (راوند) من توابع أصفهان يوم جاءوا لمقابلة
الإمام المنصور إذ نادوه (يا خداوند) أي إلهنا؛ لأن كلمتي (إمام وخدواند) في نظر
الفرس لا يتجزآن، وعندما عدلوا عن تسمية المنصور إمامًا لم تستطع الروح
الفارسية أن تعيش بدون إمام ففتشت عليه واستمرت تفتش حتى وجدته ولكن من
وجدت؟ وجدت أبا مسلم الخرساني وادعت بأن الألوهية حلت فيه. أي في قاتل
ستمائة ألف مسلم.
لا يتعجب العاقل من إسناد الإيرانيين الألوهية لأبي مسلم لأنه - والحق يقال -
بطل من أبطال التاريخ وسياسي هائل، وهو ليس أكثر من إيراني وطني متغالٍ،
ولكن العجب كل العجب تقديس غير الإيرانيين له، والأحزاب التي أُلّفت لذلك.
حزب الرزامية:
إن قانون الشبهة الذي أحدثه الإمام إبراهيم لم يستثن أبا مسلم بل طبَّقه الخليفة
المنصور عليه بالذات، وعلى ذلك اجتمع بعض الفرس وبسطاء العرب وأعلنوا
إمامة أبي مسلم على رءوس الأشهاد وسموا جمعيتهم باسم (حزابي) ثم أعلن (رزام
بن شاقو) مؤسس الحزب الرزامي ألوهية أبي مسلم وقبل الناس ألوهية أبي مسلم
الذي صار إمامًا قبل مدة وجيزة حتى إن بعض الحزابين ما كان يصدق أن أبا مسلم
يموت بل كانوا يعتقدون بأنه سيظهر يومًا ما ويملأ العالم عدلاً وبعضهم كان يقول:
إنه مات، وإن الإمامة انتقلت إلى بنته.
ما هذه العقائد وما هذه الأقوال؟ إن هي إلا بقايا دين (زرادشت) وبمدة قليلة
كثر هذا الحزب.
جميع هذا الخرافات ليست من ديننا في شيء، إن هي إلا خرافات وما
أبو مسلم إلا سياسي تام وإمامته وألوهيته وقدسيته شيء موهوم خيالي.
حزب المبيضة:
ثم ظهر كاتب أبي مسلم المقنع فالتف حوله الخراسانيون الذين كانت أجسامهم
مسلمة وأرواحهم أسيرة عقائد (بوذا) و (زردشت) .
اسم المقنع (هاشم بن حاكم) وكان يغطي وجهه لقبحه، ولذلك سُمي المقنع.
رأى المقنع بحرانًا في أفكار الخراسانيين: رآهم مسلمين ولكن قواعد الإسلام
الساذجة لم توافق مشربهم، وطلب الرجوع إلى دين زردشت صعب وكذلك الاكتفاء
بالإسلام، بل هو عنده أصعب، ولذلك عزم على صبغ الإسلامية بصبغة زردشتية،
وهذا يحتاج لجسارة ومهارة، وبما أن هذا كان خصيصًا بالعلوم الطبيعية أخذ يقدم
لهم قوانينها وقواميسها كمعجزات فصدقوه واتبعوه. وكانت أعماله معطوفة على هدم
بناء العرب السياسي والديني معًا لذلك توسل بإحياء عقيدة الناسخ التي اكتست ثوبًا
هنديًّا وآخر مصريًّا وثالثًا يونانيًّا وثوبًا رابعًا إيرانيًّا ولكنه زاد على أثوابها ثوبًا
خامسا إسلاميًّا، وللقارئ الكريم ما كان يقول هذا المقنع:
إن الله تجلى في بادئ الأمر في وجود آدم ثم انتقل إلى نوح ثم إلى إبراهيم
ومن بعده إلى موسى ثم إلى محمد عليهم السلام، ومن بعده إلى علي كرم الله وجهه،
ثم إلى محمد بن الحنفية وفي النهاية حل في أبي مسلم الخرساني، ومن بعده انتقل
إلى وجود المقنع.
إن هذه العقيدة القديمة وُجد من استأنس بها في إيران وسورية ومصر والهند
والتف حوله عدد ليس بالقليل حتى إن الخليفة المهدي اضطر لأن يسوق عليه ثلاثة
جيوش، وكان الغالب في الثلاث المعارك المقنع، فهذا الظفر أطلق لسان الفرس
وطفقوا يلهجون بإيران واستقلالها. عندئذ جمع الخليفة المهدي جندًا كثيفًا، وأرسله
لحربه فغلب في هذه المرة وقتل المقنع في مدينة (كسن) ولكن الخرافات التي نشرها
بين المسلمين لم تمت.
وأما سبب تسميتهم المبيضة فهو أنهم كانوا يلبسون لباسًا أبيض.
الزنادقة أو الحمرة:
هم من أتباع المقنع أيضًا وكانوا يسمون الحمرة؛ لأنهم كانوا يلبسون لباسًا
أحمر [3] لقد أضر المحمرة بالإسلام أضرارًا أبلغ من أضرار المبيضة، وأدخلوا فيه
خرافات أكثر منهم وأتعبوا العرب والمسلمين أتعابًا دامت أحقابًا طويلة.
قبل الإسلام بقرنين ونصف ظهر في إيران رجل اسمه (مزدك) ونشر مذهبًا
جديدًا فيها. ومن مقتضيات هذا المذهب: إهمال كل قانون وكل نظام وحل جميع
الروابط الأدبية وفتح الباب على مصراعيه لكل شهوة بشرية، بَذَلَ الأكاسرةُ جُلَّ
المستطاع لقمع هذا المذهب ولكنهم لم يفلحوا؛ لأن الاشتراك بثروة الأغنياء
وبالنساء الجميلات كان يجذب الشبان من جميع الأطراف إليه، وانتشر هذا المذهب
حتى إنه لم يبق هنالك أثر للقانون والنظام وللحق وللأدب وللحياء، وعُدَّ كل شيء
يوافق تسكين الشهوة البشرية مباحًا بل مشروعًا.
وفي خلافة المهدي بدأ هذا المذهب ينتشر بين المسلمين ولكن بلباس إسلامي،
بذل الخليفة المشار إليه كل ما يمكنه لمحوه وسالت الدماء كالأنهار ولكن بدون
جدوى، بل ظل ينتشر في خراسان والعراق انتشارًا سريعًا، ومن الغريب أن جميع
المذاهب التي كان الإيرانيون ينشرونها بعد الإسلام هي مقتبسة مما كان يجري في
الهند وإيران، ولكن كانوا يبدلون اسم مؤسسها القديم ويضعون عليها أسم أحد أولاد
سيدنا علي رضي الله عنه، ولم يوجد حزب أضر بأخلاق المسلمين أكثر من هذا
الحزب لأنهم لم يكتفوا بإباحة النساء والأولاد بينهم، بل طفقوا يخطفون النساء
الحسان من الأسواق، وبهذا الشكل أتعبوا الخليفة المهدي وحكومته تعبًا ما وراءه
تعب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي
... ... ... ... ... ... ... ... نابلس
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كان الروح الإيراني يريد أن يبكي على (زردشت) وكسرى فبكى على الحسين، والروح البريطاني يريد أن يبكي على طريق الهند فبكى على ملك بني هاشم فروح الأولين من الفرس رأى بني أمية حاجزًا فكسره وأقام مقامه دولة فارسية: دولة الشاه إسماعيل الصفوي ! وكذلك الروح الأوروبي رأى الأتراك حائلاً دون مرامه فأزاله ولكن من أقام مقامه؟ السر برسي كوكس في العراق والسر هربرت صمويل في فلسطين وغورو في الشام. الأوروبيون والإيرانيون سلكوا طريقًا واحدًا وعملوا عملاً واحدًا وعيون العرب مغمضة عن مشاهدة التاريخ، وإن نصحهم عارف بالأمر يَصُمُّونَ الآذان ويقابلونه بالافتراء والبهتان! رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون (المترجم) .
(2) المنار: ليس كل ما في الإسلام ولا أهمه قول هذا الخليفة وهو عمر، بل قيَّد الله تعالى طاعة خاتم رسله في آية المبايعة بالمعروف فقال: [وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ] (الممتحنة: 12) مع العلم بأنه لا يأمر إلا بالمعروف، وصح عنه أنه كان يقول: (إنما الطاعة في المعروف) وما في معناه. وقال أبو بكر في خطبته الأولى عقب مبايعته: (قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت
فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) وعلى هذا جرى الخلفاء الراشدون كلهم.
(3) رجع الناس في هذا العصر إلى جعل الملابس الملونة بلون خاص شعارًا للأحزاب والجمعيات كالقميص الأسود لحزب الفاشستي في إيطالية.(24/226)
الكاتب: نظمي عنتباوي النابلسي
__________
منشور عام
في المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة
إن النهضة الوطنية الفلسطينية في مدينة نيويرك العظمى قد عقدت اجتماعًا
عامًّا بعدما اتصل بها من تصديق عصبة الأمم على الوصايات، وقررت بإجماع
الأصوات إصدار هذا النداء لكل الجمعيات والمؤتمرات السورية والفلسطينية ولجميع
السلطات العربية لتقرر الجمعيات خطة دفاعية عامة تجاه ما لَحِق بالبلاد من الأذى
والعبودية، على أن يحتوي على المواد الآتية:
أولاً - إن الحلفاء قد خاضوا غمرات الحرب واتخذوا لأنفسهم مبدأ تحرير
الشعوب المستضعفة، كما صرَّحوا بلسان وزرائهم في أثناء الحرب العظمى وبعدها،
وكما صرح المستر ولسن في خطبه وفي مواده الأربع عشرة؛ فاستنادًا على هذا
المبدأ ووفقًا للمعاهدة المربوطة بين جلالة الملك حسين الأول وبين بريطانية العظمى
سنة 1915 بلسان العميد البريطاني بمصر السر هنري مكماهون، ووفقًا للرسائل
المتبادلة بين الحكومة الحجازية والإنكليزية قد ساعد العربُ الحلفاءَ منذ سنة 1916
بدخولهم الحرب وإعلانهم الثورة ضد الحكومة العثمانية [1] .
ولم يكن حق العرب في الاستقلال يقتصر على الوعود والمعاهدات الدولية،
ولا على نظام عصبة الأمم ولا على مواد الرئيس ولسن الأربعة عشرة، بل على ما
للعرب السوريين من تراث المجد والوطنية وما فُطِرُوا عليه من التقاليد وما هم عليه
من الكفاءة السياسية والإدارية كما يدل على ذلك وجود نواب العرب من الندوة
العثمانية في الدور العثماني وإدارة كثير منهم مناصب رفيعة من سياسية وعسكرية
وإدارية وعلمية مما يجعل للعرب حقًّا أكيدًا فوق ما لهم من الحق الطبيعي في
الاستقلال والحرية، غير أن الحلفاء قد ساروا فعلا على طريقة الاستعمار واضطهاد
الشعوب ونفع الذات. فوعدت الحكومة الإنكليزية بكتاب حِبِّي أرسله المستر بلفور
إلى اللورد روتشلد في 2 نوفمبر سنة 1917 بوطن قومي في فلسطين وتواطأ
المسيو كليمانصو والمستر لويد جورج بعد الحرب على اتفاق سايكس بيكو، فتقسمت
البلاد السورية إلى أجزاء ولحق بها من الضرر والحَيْف والظلم والجَوْر والعبودية
ما لم نتوقعه، فهدمت بذلك جميع المبادئ التي افتخر الحلفاء باتخاذها مبدأً لهم ورموا
بالعهود والوعود التي ربطوها بعد الحرب عرض الحائط! والأغرب من ذلك أن
عصبة الأمم التي ولدتها المبادئ الديموقراطية الحديثة والتي لها السلطة في رؤية
عهود الوصايات، والتي من جملة وظائفها حماية الأقوام المستضعفة كما خوَّلَها هذا
الحق عهد الجمعية الموقع عليه في فرسايل في 28 يونيو سنة 1919 قد صمَّتْ
آذانها عن سماع صوتنا الممزوج بحلاوة الحق وتغاضت عن كل المساوئ التي
يقترفها الأوصياء في بلادنا، فصدقت بلا تردد بعد جلسة سرية عهود الوصايات،
اللهم إلا العراق وبذلك تحقق الرأي القائل: إن عصبة الأمم لم تكن إلا للتوفيق بين
الروح القومية الجديدة والسياسة الاستعمارية القديمة. ولما كان العرب قد فشلوا في
جميع الأعمال السياسية الخارجية ولم يلاقوا من الأوربيين إلا تصلفًا كلما ازدادوا
تقربًا إليهم - وجب عليهم أن يحصروا أعمالهم في بلادهم وفيما يهمهم من أمرها من
حيث هي بلاد عربية أو بلاد دينية مقدسة مع المثابرة في الجهاد سياسيًّا واقتصاديًّا
وعلميًّا.
ثانيًا - إن القضية العربية كانت في بدء نشأتها جامعة لكل الأقطار العربية من
سورية (شمالية وجنوبية) وعراقية وحجازية وكانت الوعود التي يستند عليها
العرب تتضمن كل هذه الأقطار حتى اشترك في الجيش العربي أناس من مختلفي
الأقطار والأمصار من سائر بلاد العرب، غير أن الدول الاستعمارية الأجنبية قد
جَزَّأَتْ بلادنا وفَكَّكَتْ أوصالها وجعلت لكل قطر منها قضية تختلف عن قضية القطر
الآخر من حيث طريقة الحل وارتباطها بحكومة خاصة؛ تأييدًا لسياستهم في تفريق
كلمة العرب ليعسُر بذلك حل القضايا العربية التي هي متمم بعضها لبعض، وفضلاً
عن أن القضية العربية قد ابتدأت شاملة جامعة فإن موقع بلاد العرب الجغرافي من
حيث فقدان الحواجز الطبيعية بينها وافتقار كل قطر إلى آخر لاختلاف تربته وموارده
مما يزيد الترابط الطبيعي بين العرب بالنظر لجامعة اللغة والعنصر، ومما يجعلنا
نؤكد أن هذه القضية المتحدة سياسيًّا واقتصاديًّا يجب أن يشترك في حلها العرب كلهم
ويتعاونوا على دَرْء الخطر في كل الأقطار كما كان في بدء الحركة العربية سنة
1915 ولما كانت الأمة العربية قد امتشقت حسامها لتأييد استقلالها - فالنهضة ترى أن
الوسيلة الأولى التي تجب أن يتخذها الفلسطينيون هي نشر الدعوة في بلاد العرب كلها
لتتعاون على درء العبودية عنا على أن يكون مبدأ التعاون وسيلة لاستقلال البلاد عن
طريق الجامعة العربية وبذلك يجب على العرب مقاومة الصهيونية والأجانب
المستعمرين على السواء كما يقاومهم الفلسطينيون فيما لو كانوا منفردين. فلهذا تحبذ
النهضة إجماع الرأي على طريقة هذا الجهاد السياسي الفعلي وينظر إلى تقوية هذا
الجهاد بالطرائق العلمية الواجبة التي يقر عليها الرأي.
ثالثًا - مقاطعة اليهود، على أن يباح لهم ما عدا الأراضي (أي الأموال
المنقولة فقط) ويحرم الشراء منهم، وتأييدًا لذلك فالنهضة تهتم الآن بمشروع تأسيس
بنك في فلسطين لتكون المقاومة على أساس اقتصادي علمي عملي ليستفيد المزارع
والتاجر، ولكي لا تضر المقاطعة بالوطن، وهنا لا يسعنا إلا أن نصرح أن فشل هذا
المشروع ونجاحه يتوقف على أهل البلاد، فإذا لم ير المهاجرون الذين يعملون في
سبيل القضية كل ما يمكن عمله إقدامًا من أهل البلاد على شراء الأسهم، فالمشروع
سيبقى في طي الخفاء كما أن ذلك يدل على أن أهل البلاد لا يفقهون للطرق الوطنية
الحقيقية معنًى. نحن لا نرى أن الجهاد الاقتصادي هو بتحبير المقالات على أعمدة
الجرائد بل بالعمل، وهذا المشروع هو أعظم العمل فائدة من هذه الوجهة.
رابعًا - نشر الدعوة بين جميع العامة في المدن والقرى: إما بتأسيس النوادي،
وإما بإلقاء الخطب والمواعظ في أوقات معينة لإضاءة الأقطار بنور المعرفة
وبالقضية الوطنية وبالأضرار التي تنجم عن بيع الأراضي، وبتصوير العبودية التي
تلحق بالأهالي، وللجوامع والكنائس في هذا العمل قسط وافر.
خامسًا - من أهم الأسباب القويمة لحفظ كيان أمتنا وحصولنا على أمانينا
الوطنية، انتشار العلم، فعلى كل رجل أن يرسل ابنه إلى المدارس لطلب العلم،
وعلى الأخص المدارس الوطنية؛ لأنها تولد في النفوس غريزة الوطنية الصحيحة.
سادسًا - تتخذ النهضة ما تضمنته البنود السالفة مبدأ لها في جهادها المقبل
راجية من كل جمعية أو سلطة عربية إبداء أي اقتراح يتعلق بالعمل الأساسي
للنهضة، كما أننا نرغب في مراسلتنا لاتخاذ الطرق الفعالة المشتركة للحصول على
أمانينا الحقة.
الخاتمة - قد أدرك العرب بعد أن حلب الدهر شطريهم، ورأوا من صنوف
العذاب ما رأوا أن وقت الاحتجاج والصراخ قد مضى وأن الطريقة الوحيدة لوصولنا
إلى حقنا وبلوغ أمانينا الوطنية هي أن نكون أقوياء. وكما أن الضعف فينا سبب في
اضطهادنا وامتهان كرامتنا العربية، فالقوة ستكون سببًا حقيقيًّا في إيصالنا إلى ما
نبتغي من الحرية والاستقلال، فما مضى بنا من العبر السياسية والتجارب الزمنية
علَّمنا أن ضعف العرب في تفرقهم وتشتيت شملهم، ولولا ذلك لما رأينا للأجنبي
إصبعًا تلعب في مقدرات الأمة العربية، فكفى فيما سبق عبرة لنا، وآن لنا أن
نحيي الاستقلال والحرية بقلوب مرتبطة معتمدين على أنفسنا في هذا الجهاد
الشريف.
لتحي فلسطين عربية حرة، لتحي سورية متحدة، لتحي الجامعة العربية.
... ... ... ... ... ... النهضة الوطنية الفلسطينية. نيويرك
... ... ... ... ... ... ... نظمي عنتباوي. النابلسي
__________
(1) المنار: إن ما ذكر من الرسائل بين الحجاز والإنكليز، وما سماه معاهدة هو خزي للعرب! خُدعوا به فيجب أن يردوه على صاحب الحجاز ولا يعترفوا به؛ لأنه يعُدُّهم بالصراحة قاصرين تحت حجر الإنكليز، أفما آن لهم أن يدركوا ويعقلوا؟ .(24/233)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة عالم عربي علوي
كتب إلينا صديقنا العالم الرحالة الشهير السيد محمد بن عقيل من المكلا ما
يأتي:
وصل إليَّ تلغرف من حيدر آباد وتأخر بعدن لعدم الراكب، فوصل بالأمس،
وفيه الإعلام بوفاة عالم الشرق البدر المشرق المناضل عن النبي الأمين والأنزع
البطين والآل الميامين وعدو النواصب أجمعين: شيخنا السيد أبي بكر عبد الرحمن
ابن محمد شهاب الدين باعلوي - رحمه الله رحمة الأبرار، وألحقه بمن أحبهم،
وألحقنا بهم في عاقبته، وعظَّم فيه الأجر، وأحسن الخلف، وإنا لله وإنا إليه
راجعون.
توفي ليلة الجمعة قبيل العشاء الساعة 7 زوالية 9 الجاري، في حيدر آباد
الدكن ودفن بعد صلاة الجمعة، وكانت ولادته سنة 1262 ويجمعها حروف:
(أبو بكر عبد الرحمن بن شهاب الدين باعلوي)
231 - 25 - 405 - 52 - 403 - 119
وله مصنفات في الأصلين والفقه والأنساب والحساب والطبيعيات، والأدب
والمنطق، وغير ذلك فتاوى جمة وديوان شعر، وقد نُشر في الجرائد كثير من
قصائده، وبآخر النصائح الكافية له قصيدتان، وأرسلت إليكم عددًا منها وأظن أن
أخانا السيد عبد الله دحلان يكتب له ترجمة، وقد أفظعني نعيه {لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4) وفيه خلف عن كل هالك وهو المستعان.
... ... ... ... ... ... في 24 جمادى الأولى سنة 1341
(المنار) نعزي صديقنا الكاتب وسائر السلالة العلوية والبلاد الحضرمية
والهندية والأمة العربية عن هذا العالم المتفنن الذي خدم العلم واللغة العربية بكتبه
الكثيرة وبتدريسه وتعليمه وبتصحيحه لكثير من مطبوعات (مطبعة دائرة المعارف
النظامية) في حيدر آباد الدكن موطن إقامته، ومما بلغنا من ترجمته أنه هو الذي جدَّد
الدعوة إلى موالاة آل البيت ومعاداة أعدائهم في القديم والحديث، فراجت في علوية
الحضارمة المنتشرين في جزائر جاوه وما جاورها، فغلا فيها أناس غلوًّا لا يرضاه
الفقيد ولا تلاميذه المعتدلين حتى وجد فيهم من ضل بنزغات الباطنية التي دسوها
في الشيعة، لم يقفوا عند حد ما كانت به الشيعة شيعة ونشروا في ذلك رسائل عديدة
فنهد لهم آخرون يردون عليهم، وعظم الشقاق بين جوَّالي العرب في تلك البلاد من
الأفراد والجماعات وطفق بعضهم يطعن في بعض، وقد كان المسلمون هنالك
متفقين على تكريم السادة العلويين وتفضيلهم على غيرهم وإن كان يفوقهم علمًا
وتقوى، فصار لهم بعد ذلك أعداء وخصوم أقوياء. ولم نقف لهذه الدعوة على فائدة
توازي ذلك أو ترجح عليه، فعسى أن يشرح لنا صديقنا السيد عبد الله دحلان
في ترجمة الفقيد الكريم - تغمده الله برحمته - أو في مقال خاص، فقد كثرت علينا
الرسائل من الفريقين المتنازعين ونحن معرضون عنها؛ لأننا نكره الشقاق والتنازع
ونتحرى أن نكتب ما نرجو به إصلاح ذات البين، وهو على معرفة كنه الحال بين
الفريقين.
__________(24/237)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(المرأة في التاريخ والشرائع)
هو (كتاب مُصَوَّر فيه 27 رسمًا، يبحث في تطور المرأة في التاريخ منذ عهد
البشر البدائي حتى الآن حيث تبوأت كراسي مجالس الأمم. فيدخل في ذلك الكلام
عن المصرية القديمة والبابلية والآشورية والصينية واليابانية واليونانية والرومانية
والفينيقية، ولا سيما العربية قبل الإسلام وبعده، ويختتم الكتاب في الكلام عن تطور
شأن المرأة في التمدن الحديث في الغرب وفي الشرق الأدنى خاصة ملمًّا بتاريخ
مسألة الحقوق النسائية - فهو إذًا يكاد يكون بما فيه من أحكام الشرائع تاريخًا عامًّا) .
مؤلف هذا الكتاب صديقنا البحاثة محمد جميل بك بيهم من سروات بيروت،
وقد ذكر في مقدمته أن الباعث له على تأليفه ما يراه من تطور شأن النساء في
الشرق تبعًا لتأثير حضارة الغرب فيه واكتساحه لأخلاقه وتقاليده وآدابه، فأحب أن
ينبه الأمة العربية أن لا تؤخذ في هذا على غرة، وأن ينشط الكُتاب للتأليف في هذا
الموضوع ويمهد السبيل لعقد رأي عام في مسألة المرأة.
طبع الكتاب في بيروت سنة 1339 وقد نظرت في بعض فصوله نظرة
عجلى فأعجبني طريقة البحث فيه والتأليف، ثم أمسكته بالقرب مني راجيًا أن أجد
فرصة أطالعه فيها بالدقة التي تمكنني من نقده فلم أظفر بها، ولكني أشهد له بما
علمت من النظرة الإجمالية أنه من الكتب الجديرة بالمطالعة والاعتبار والنقد،
وصفحاته 270 ونيف ماعدا الصور والرسوم، وثمن النسخة منه عشرون قرشًا
ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(تهذيب الألفاظ العامية)
اللغة العامية المستعملة في مصر وغيرها من البلاد الأفريقية والآسيوية
العربية هي اللغة العربية طرأ عليها التحريف والتصحيف وترْك الإعراب في
التركيب والتأليف، ودخل فيها ألفاظ من لغات الشعوب المخالطة والمجاورة لأهلها
ممن دخل الإسلام كالفرس والترك والبربر ثم من الإفرنج.
وإن في هذه العامية كثيرًا من فرائد اللغة المهجورة يتحاماها الكتاب والمؤلفون
في اللغة الصحيحة المُعْربة لغفلتهم أو لجهلهم بأنها من اللغة، وقد يكونون في أشد
الحاجة إليها ولا سيما المترجمين لبعض الكتب الأعجمية منهم - فلهذا عُنِيَ بعض
علماء اللغة قديمًا وحديثًا ببيان الدخيل والمولد وتمييز العربي الصحيح من ألفاظ
العامة من الدخيل، ورد المصَحَّف أو المحَرَّف إلى أصله، وأجمع ما كتب في هذا
العصر وأوسعه وأنفعه - فيما نعلم - كتاب (تهذيب الألفاظ العامية) للأستاذ الشيخ
محمد علي الدسوقي خريج دار العلوم المصرية، والمدرس في المدارس الأميرية،
وقد نفدت الطبعة الأولى منه فأعاد النظر فيه، وصحح ما كان قد ظهر له من خطأ
فيه وزاد فيه زيادة صالحة ثم طبعه 1338 طبعة ثانية بلغت صفحاتها 318 صفحة.
وقد وضع الكتاب مقدمة في أدواء العربية العامية وأدويتها التي ترجع بها إلى
أصلها - وهي اللحن ودواؤه النحو، والتحريف ودواؤه بيان أصله ورده إليه،
والدخيل ودواؤه يتوقف على تأليف مجمع لغوي … وانتقل إلى مبحث التعريب
فأطال الكلام فيه، وما يتعلق به ولا سيما التعريب من اللغات الإفرنجية الذي كثر
الجدال وعظم الخلاف فيه في المجمع اللغوي الذي ألف بمصر وفي غيره، ويلي
ذلك فصول في الوسائل العلمية لتعميم اللغة الصحيحة ونسخ العامية بها سماها
(الأدوية العامة) وفصول أخرى من تاريخ اللغة بحث فيها تهذيبها وأدوار تنقيحها قبل
الإسلام وبعده وفي الأعراض التي ظهرت عن داء التحريف وهي عشرة، وفي
بعض اللهجات الموروثة عن العرب. هذه جملة مباحث المقدمة، وأما مباحث الكتاب
فقد جعلها في جداول مقسمة إلى أقسام:
(الأول) ما تنطق به العامة صحيحًا ويُظَنُّ أنه عامي.
(الثاني) المُحَرَّف بالحركات والأوزان.
(الثالث) المُصَحَّف بالحروف. ويتبعه مباحث المهموز والممدود والمشدَّد
والمخفَّف واللازم والمتعدي، وما تزيد فيه العامة، وما تنقص منه وما تقلبه، وما
تستعمله من البحث والجمع والإفراد والنسب أي ما تخالف فيه العربية الفصيحة من
ذلك وغيره ويليه المُوَلَّد والفرق بينه وبين المصنوع.
(والقسم الرابع) في سرد الكلمات العامية ومرادفاتها العربية في أثاث المنزل
ومتاعه وماعونه وهو مُرَتَّب على حروف المعجم.
ولا يحتاج القارئ بعد هذا البيان الوجيز لمباحث هذا الكتاب إلى شهادة له بأنه
جدير بأن يسمى تأليفًا جديدًا مفيدًا، وأنه جدير بعناية علماء اللغة العربية والساعين
لإحيائها وأنه ينبغي لأهل الأقطار العربية الأخرى في الشرق والمغرب بأن يحصوا
من ألفاظ عوام بلادهم ما أحصاه المؤلف.
***
(مذكرات غليوم الثاني)
شرع الكاتبان: محب الدين أفندي الخطيب، وأسعد أفندي داغر في ترجمة هذه
المذكرات وطبعها في أجزاء صغيرة كالمجلات، وسيكون الكتاب بعد تمامه 200
صفحة، وثمنه خمسة قروش، وقد صدر العدد الأول منه في 52 صفحة، وهو
ربعه ولكن جعل ثمنه 4 قروش، وقد طبع بالمطبعة السلفية على ورق جيد ويطلب
من مكتبتها وسائر المكاتب.
__________(24/238)
شعبان - 1341هـ
أبريل - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلافة الإسلامية
(5)
33- كراهية غير المسلمين لحكومة الخلافة:
قد يقول قائل: إن غير المسلمين في البلاد التي توصف بالإسلامية (نسبة
للسواد الأعظم من أهلها) يكرهون أن تؤسس حكومة الخلافة فيها، ولا سيما
النصارى الذين يرون أن ضعف النفوذ والتشريع والآداب والتقاليد الإسلامية في كل
بلد إسلامي إنما يكون بقوة نفوذ الإفرنج وتشريعهم وآدابهم وتقاليدهم - وكذا لغاتهم -
وبذلك تكون مقومات الأمة ومشخصاتها أقرب إلى النصرانية منها إلى الإسلام، ومن
لم يؤمن بالعقيدة النصرانية والوصايا الإنجيلية بمحبة الأعداء وكراهية الغنى وإدارة
الخد الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن - فإنه قد يكون أشد استمساكًا بالنصرانية
الاجتماعية السياسية أقوى من المؤمنين بالإنجيل إيمانًا، فتلك النصرانية المُزَوَّرَة
التي تنسب إليها المدنية المادية الأوربية هي مثار التعصب والكراهة لكل ما هو
إسلامي، لا نصرانية الإنجيل الزاهدة المتواضعة الخاشعة ذات الإيثار الذي يسمونه
(إنكار الذات) .
وإذا كان أمثالهم من مُتَفَرْنِجَة المسلمين يكرهون الحكومة الدينية ويعارضون
في إحياء منصب الخلافة، أفلا يكون متفرنجة النصارى أولى؟ وإذا كان الأمر
كذلك فكيف نعود إلى تجديد حكومة دينية يكرهها كثير من رعاياها وينفرون منها؟
الجواب عن هذا يحتاج إلى تفصيل نكتفي بالضروري منه فنقول: إذا صح
ما يُعْزَى إلى من ذُكر من أهل الوطن بمقتضى العاطفة وتأثير التربية فإن مَن
يمحص الحقيقة وينظر إليها بعين المصلحة سواء كان منهم أو من غيرهم فإنهم
يحكمون فيها حكمًا آخر.
إن حكومة الخلافة إسلامية مدنية قائمة على أساس العدل والمساواة إلا أن
لغير المسلمين فيها من الحرية الشخصية ما ليس للمرتد والمنافق من المسلمين،
فهؤلاء يريدون أن يكون الإسلام رابطة جنسية أدبية حرة بحيث يكون لهم في
حكومته جميع حقوق المسلمين الشرعية والعرفية والقانونية، وإن صرحوا بأنهم لا
يدينون الله بالإيمان بعقيدته ولا بإقامة أركانه وشعائره وهم يعلمون أن الحكومة
الإسلامية لا تعطيهم شيئًا من ذلك، حتى إن المرأة إذا علمت من زوجها أنه ارتد عن
الإسلام حرم عليها أن تقيم معه وتستمر على عصمته، وأحكام المرتدين معروفة،
فأمرهم أغلظ من أمر الوثنيين، دع الكتابيين الذين تحل ذبائحهم والتزوج
بالمحصنات من نسائهم، ولا تعاقب الحكومة الإسلامية غير المسلمين على كل
شيء يحل لهم في دينهم - وإن لم يكن حلالاً في الإسلام - إلا ما فيه إيذاء لغيرهم -
بل لا تحاسبهم على شيء من أعمالهم الشخصية التي لا تضر المسلمين ولا غيرهم
من رعيتها وإن خالفت دينهم، ولكنها تحاسب المسلمين وتعاقبهم على المعاصي
بالحدود وأنواع التعزير كالتوبيخ والحبس، وذلك أن من أصول الإسلام حفظ
الآداب والفضائل ومنع الفواحش والمنكرات، وقد وصف الله المسلمين بقوله:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) وقال فيهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) وأحكام الردة
والحسبة في الإسلام معروفة.
فعُلم بهذا أن ملاحدة المسلمين وفُسَّاقهم المستهترين أجدر أن يكونوا أشد
كراهية لإقامة أحكام الشريعة من غير المسلمين؛ لأنها تكلفهم ما لا تكلف غيرهم
وتؤاخذهم بما لا تؤاخذهم به، وقد اقترح بعض هؤلاء الملاحدة على جماعة المؤتمر
السوري العام الذي عقد في دمشق أن يقرروا جعل الحكومة السورية غير دينية،
ولا أذكر أن أحدًا من الأعضاء النصارى وافق على الاقتراح، بل صرح بعضهم
برده كأكثر المسلمين، واقتُرِحَ في ذلك المؤتمر أن تقيد مادة الحرية الشخصية من
القانون الأساسي بقيد عدم الإخلال بالآداب العامة، فرد هذا الاقتراح بعض هؤلاء
الموصوفين بالمسلمين وصرَّح بعضهم بتعليل الرد بأنه يترتب عليه أن يجوز
للشرطة منع الرجل من الجلوس مع امرأة في ملهي من الملاهي أو مقهى من
المقاهي العامة لمعاقرة الخمر !! وقد كان ردُّ هذا الاقتراح أقبحَ خزيٍ صدر من
ذلك المؤتمر، وإن علل الرد بعضهم بالاستغناء عن قيد الآداب العامة بقيد القوانين
التي يمكن أن ينص فيها على ذلك القيد، وخُدع بعض أهل الدين والأدب بذلك،
وما كان ينبغي لهم أن يُخدعوا، بل أقول: إن أكثر النصارى من أعضاء ذلك
المؤتمر كانوا أقرب إلى المسلمين المتمسكين بأحكام الإسلام منهم إلى المنفلتين من
الدين، وإن كانوا يتقربون إليهم وينتصرون لهم فيما يوافق أهواءهم من مخالفة
هداية الدين العامة.
وقد ثبت بالتجارب أن غير المتدينين إذا اختلفوا لأسباب سياسية أو غيرها
فإنهم يكونون أشد عداوة وقسوة بعضهم على بعض من المتدينين بالفعل من الفريقين -
فالمتدين وإن شذ يكون أقرب إلى الرحمة من المادي - واعتبر ذلك بما وقع من
القسوة في هذه الحرب البلقانية العامة بين الأوربيين أنفسهم وبين من غلبت عليهم
تربيتهم من الأرمن والروم والترك.
وأضرب مثلاً آخر: الدكتور (برتكالوس) الرومي قال لجماعة من السوريين
كانوا يُظْهِرُونَ الابتهاج والسرور بالدستور العثماني عقب إعلانه: إن حكم الشريعة
الإسلامية خير لنا - معشر النصارى - من حكم الدستور الذي يسلبنا كثيرًا مما أعطتنا
الشريعة من الامتيازات، ويُحمِّلنا ما أعفتنا من التكليفات. وأيد كلامَه اشتدادُ العداء
بين الترك وبين الروم والأرمن وغيرهما بعد الدستور الذي ترتب عليه سلب هؤلاء
كثيرًا مما كان لهم منذ كان الحكم بالشرع وحده.
وإنني أعقب على هذا القول بأن أشد ما يتبرم به متفرنجة الترك من أحكام
الشريعة هو ما أعطته من الحرية الواسعة لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ويرون
أنه لولاها لصارت هذه البلاد ملة واحدة كبلاد أوربا التي لم يكن فيها شيء من هذه
الحرية، ولاستراحت من العداوات والفتن التي أثارها عليهم نصارى الرومللي
فالأناضول بدسائس أوربة حتى كانت سبب انحلال السلطنة العثمانية. هذا رأيهم،
ومن الغريب أن كثيرًا من نصارى بلادنا المتفرنجين يوافقونهم على هذه النظرية،
ويقولون ياليت المسلمين أكرهوا أجدادنا على الإسلام في أزمنة الفتح والقوة، إذًا كنا
في أوطاننا أمة واحدة ذات ملة واحدة فنسلم من شقاء هذا الشقاق والفتن المخربة
للبلاد.
لا مجال في هذا المقام لتحرير القول في هذه المسألة، وليس من الصعب بيان
خطأ مَن يظن أن معاملة نصارى الدولة بعدل الشريعة الإسلامية وحريتها هو الذي
ألبهم عليها، ولا إثبات أن الذي ألبهم ثم أثارهم هو جهل رجال الدولة وغفلتهم عن
دسائس أوربة في هذه الشعوب وما بثوا في مدارسها وكنائسها، وإنما غرضنا من
ذكرها أن الشريعة الإسلامية خير للنصارى في بلاد أكثر أهلها مسلمون، من حكومة
مدنية لا يتقيد أهلها بأصول هذه الشريعة - كما كانوا في عهد الخلفاء من العرب - فإن
الفرق الحقيقي بين الحكومتين هو أن الأكثرية المسلمة لا يحل لها أن تتبع هواها
في التشريع الديني ولا في التنفيذ بما يعد ظلمًا للأقلية غير المسلمة؛ لأن الله تعالى
حرَّم الظلم تحريمًا مطلقًا لا هوادة فيه ولا عذر، وأوجب العدل إيجابًا مطلقًا عامًّا لا
محاباة فيه، وحذَّر تحذيرًا خاصًّا من ترك العدل في حالة الكراهية والبغض من أي
فريق كان بقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي ولا يحملنكم بُغْضُ
قوم لكم أو بغضكم لهم - قال بعض المفسرين: أي الكفار، والصواب أنه أعم - على
أن لا تعدلوا فيهم بل اعدلوا فيهم كغيرهم - وحذفُ المعمول دليلُ العموم- أي
اعدلوا عدلاً مطلقًا عامًّا في المؤمن والكافر والبر والفاجر والصديق والعدو إلخ، وقال
في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى
أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135)
أي كونوا قائمين بالعدل في الأحكام وغيرها على أكمل وجه - كما تدل صيغة
المبالغة - شهداء لله في إثبات الحق، وما كان لله لا يميز فيه المؤمن نفسه ولا والديه
وأقرب الناس إليه على غيره؛ لأن هذا التمييز إيثار لنفسه أو لقريبه على ربه الذي
جعل الشهادة له سبحانه، ولا يفرق فيه بين الغني والفقير بأن يحابي الغني طمعًا في
نواله والفقير رحمة به، وقَفَّى على هذا الأمر بالنهي عن ضده وهو اتباع هوى النفس
كراهية للعدل، وبحظر اللَّىّ والتحريف للشهادة أو الإعراض عنها أو عن الحكم
بالحق، وتهدد فاعل ذلك وتوعده بأنه خبير بأمره لا يخفى عليه منه شيء. دع ما
ورد في الأحاديث النبوية من الوصية بأهل العهد والذمة خاصة، ولولا ذلك لفعلت
الحكومات الإسلامية القوية بالمخالفين لهم ما فعل غيرهم من إبادة بعض وإجلاء
آخرين عن ديارهم أو إكراههم على الإسلام أو سن قوانين استثنائية لقهرهم وإذلالهم.
وفي التاريخ العثماني أن السلطان سليمان استفتى شيخ الإسلام أبا السعود العمادي
الدمشقي الأصل في إكراه النصارى على الإسلام أو الجلاء، فأبى أن يفتيه وبيَّن له
أن الشريعة لا تبيح ذلك، فأذعن وكان يريد أن يفعل بهم كما فعلت الدولة الأسبانية
بمسلمي الأندلس.
وثَم فرق آخر بين الشرع الإسلامي والاشتراع البشري الذي لا تتقيد حكومته
بالدين هو في مصلحة غير المسلمين أيضًا، وهو أن كل مسلم يعتقد أن الحكم
الشرعي حكم إلهي، وأن طاعته قربة وزلفى عند الله يُثاب عليها في الآخرة،
وعصيانه عصيان لله تعالى يُعاقَب عليه فيها، سوء حكم به الحاكم عليه أم لا، ولكن
حكم الحاكم يرفع خلاف المذاهب فتكون طاعته ضربة لازب، وهذا ضمان لغير
المسلم، الوازع فيه نفسيّ، ولا ضمان مثله للمسلم من غيره.
(فإن قيل) : كل ذي دين يحاسب نفسه (أو ضميره) على ما يعتقده من
حق عليه.
(قلنا) : هذا عام مشترك وما نحن فيه أخص منه، وهو احترام الحكم
الشرعي، ووجوب طاعة الحاكم إذا حكم عليه سواء اعتقد صحته أم لم يعتقد، وإن
أمن عقاب الحكومة في التفصي منه بالحيلة.
وجملة القول: إنه ليس في الشريعة ظلم لغير المسلم يُعْذَر به على كراهيتها،
وهي تساوي بين أضعف ذمي أو معاهد وبين الخليفة الأعظم في موقف القضاء
وتقرير الحقوق، والشواهد على هذا في عصر الخلافة الراشدة وما بعدها متعددة،
وإننا نصرح بكل قوة بأن العدل العام المطلق لم يوجد إلا في الإسلام
ولا نعرف لهم مطعنًا في هذه المساواة إلا مسألة رد شهادة غير المسلم على المسلم،
وهي مسألة لا يقوم دليل على إطلاق القول فيها بل لها مخرج من الكتاب والسنة
وأصول الشريعة، فقد قال تعالى في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن
ليس فيها حكم منسوخ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ
حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) الآية -
والمتبادَر الذي عليه جمهور السلف والخلف أن المراد بـ (غيركم) غير المخاطبين
بالآية، وهم المسلمون، وخصه بعض العلماء بأهل الكتاب، ولا دليل على هذا
التخصيص، وقيَّدَه بعضهم بمثل الحالة التي نزلت فيها الآية بناء على أن الأصل
في شهادة غير المسلم العدل أن ترد؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) وقد بيَّنا ضعف الاستدلال بهذه الآية على ما ذكر في تفسير آية المائدة
بتفصيل، منه أن هذا في الأمر بالإشهاد في مسألة المطلقات المعتدات من المسلمات
لا في الشهادة مطلقًا ولا في كل إشهاد، وقد قال الله تعالى في الإشهاد على الأموال:
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (النساء: 6) ولم يقيِّد هذا الإشهاد
بالعدول من المؤمنين كما قيده في المسألة الخاصة بالنساء المسلمات، وبيَّنا ضعف
حمل المُطْلَق على المقيَّد في الآيتين مع اختلاف موضوعهما، والفرق بين الإشهاد
والشهادة، كما بيَّنا ضعف القول بأن غير المسلم لا يكون عدلاً بدليل القرآن؛ إذ جاء
فيه: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) وقوله:
{وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آل عمران: 75) كما بيَّنا
ضعفه بدليل سيرة البشر المعلومة بالاختبار والعقل، وهو أنه لم توجد أمة من الأمم
جردت من الصدق والعدالة بحيث لا يصدق أحد من أهلها، وبيَّنا أيضًا سبب
تفضيل الفقهاء للمسلم على غيره في الشهادة من أربعة أوجه، أهمها ما كان عليه
المسلمون الأولون من التقوى والصدق وعدم المحاباة عملاً بوصايا الدين التي تقدم
بعض الآيات فيها آنفًا، وما اتفق عليه المؤرخون في مقابلة ذلك من غلبة فساد
الأخلاق على الأمم الأخرى التي فتح المسلمون بلادها.
وفي أصول الشريعة مستند آخر لشهادة غير المسلم، وهو دخولها في عموم
البينة إذا ثبت عند القاضي صدقه فيها، فإن البينة في اللغة كل ما يتبين به الحق،
وقد فصَّل المحقق ابن القيم هذا المعنى في كتابه: (إعلام الموقعين) ونشرنا ذلك
في المنار وبيَّنا أنه يدخل في عموم البينة كل ما تجدد في هذا العصر من أنواع الكشف
عن الجرائم، كأثر خطوط الأصابع على الأشياء مثلاً، ومن أراد التفصيل فعليه
بالمنار وتفسيره.
فلم يبق بعد هذا البيان على إجماله من عذر لغير المسلمين إذا كرهوا إحياء
الشريعة الإسلامية العادلة لمحض التعصب الأعمى أو لتفضيل تشريع الأجانب على
تشريع من يشاركهم في وطنهم، وليس من الحق ولا من العدل أن تكلف أمة ترك
منقبة التشريع الفضلى ومثل هذه الحكومة المثلى؛ إرضاء لفئة قليلة لا مصلحة لها
في تركها وإنما تكرهها لمحض التعصب على السواد الأعظم من أهل وطنها،
وناهيك بما تأرّث من الضغائن بين مسلمي الأناضول والروم والأرمن الذين خرجوا
على الترك في زمن محنتهم وساعدوا أعداءهم عليهم في حربهم.
وموضوع الكلام في إقامة الخلافة في هذه البلاد التركية، فإذا رضي الترك
بذلك وعاملوا هؤلاء الجناة البغاة بعدل الشريعة ورحمتها، فلا يُعقل أن يكرهوا ذلك
أو يفضلوا عليه غيره إن كانوا يعقلون، وإنما أخشى أن يكون هذا الأمر نفسه مما
ينفر كثيرًا من الترك عن إقامة الشريعة التي تحرم أن يتبعوا الهوى في معاملة أقوام
أولئك الجناة القساة الذين خربوا ديارهم بالنار والبارود وهم يرونها بأعينهم أكوامًا
من الرماد والأنقاض.
وهذه حكومات جزيرة العرب إسلامية محضة ليس فيها قوانين وضعية ولا
تشريع أوربي، وأقدَمها حكومة أئمة اليمن، وهنالك كثير من اليهود وهم راضون من
حكومة الإمامة الشرعية لم يشْكوا منها ظلمًا ولا هضمًا ولا يفضِّلون عليها حكومة
أخرى، ولو سرى إليهم سم السياسة الاستعمارية من طريق التعليم أو غيره لأفسدوهم
على حكومتهم وأثاروهم عليها لطلب وطن قومي لهم في البلاد، وَلَوَعَدَهم نافثو السم
بالمساعدة على ذلك حبًّا في الإنسانية، أي حبًّا بإفساد الإنسانية وإثارة البغضاء بين
المختلفين في الدين والجنس أو اللغة بعضهم على بعض؛ ليتمكنوا هم من استعباد
الجميع {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
***
34- الخلافة ودول الاستعمار:
من البديهي [1] أن إقامة الخلافة الإسلامية يسوء رجال دول الاستعمار، وأنهم
قد يقاومونها بكل ما أوتوا من حول، وقوة وأحرصهم على ذلك الدولة البريطانية.
ولا أجهل ممن يظنون أنها كانت تسعى قبل الحرب لجعل الخلافة في الأمة العربية،
إلا الذين يظنون اليوم أنها تود تأسيس دولة أو دول عربية! ولو كانت تريد هذا من
قبل لكان أقرب طرقه مساعدة أئمة اليمن المجاورين لها في منطقة عدن على التُّرك
بالسلاح والمال لتنظيم جيشهم والاستيلاء على الحجاز؛ فإن حكومة الإمامة في اليمن
قوية عادلة قديمة راسخة يرجع تاريخها إلى القرن الثالث من الهجرة وقد حاربتها
الدولة العثمانية زهاء أربعة قرون لإسقاطها فعجزت عن ذلك، ولكن الحكومة
البريطانية كانت لها بالمرصاد، وما زالت تكيد لها وتسعى بالدسائس والفتن للتدخل
في شؤونها والتوسل بذلك للاستيلاء عليها ولم تستطع ذلك، ولن يجعل الله لها
عليها سبيلاً.
ولقد اشتهر لدى الخاص والعام أن الدولة البريطانية كانت ظهيرة للخلافة
العثمانية التركية، وما ذلك إلا لعلمها أنه صورية وأنها هي التي تنتفع بإظهار
صداقتها لها، وكان رجال هذه الدولة الداهية أعلم الناس بأن هذه الدولة قد دَبَّ في
جسمها الانحلال، وأنها سائرة في طريق الفناء والزوال، وإنما كانوا يحاولون أن
تبقى حصنًا بين القيصرية الروسية المخيفة بسرعة تكونها ونموها، وبين البحر
الأبيض المتوسط على شرط أن تكون قوة هذا الحصن بما وراءه من المساعدة
البريطانية لا بنفسه، وقد بيَّنا هذا في المنار من قبل، وأن الغازي أحمد مختار باشا
وافقنا على أن قاعدة الدولة البريطانية في السياسة العثمانية: أن لا تموت الدولة ولا
تحيا، وبيَّنا أيضًا أن هذه القاعدة قد تغيرت بما كان بين الدولتين - البريطانية
والروسية - على مسائل الشرق، واقتسامهما بلاد إيران قبل الحرب، وأنها تجنح إلى
إقامة خلافة عربية صورية تكون آلة بيدها بعد الحرب العامة، والتمكن من خداع
شريف مكة وتسخيره لمساعدتها، ونحمد الله أن جعلنا من أسباب خيبة هذا السعي
حتى لم يتم لها.
قد عنيت الدولة البريطانية منذ أول زمن هذه الحرب بالبحث في مسألة
الخلافة، وطفق رجالها يستطلعون علماء المسلمين وزعماءهم في مصر والسودان
والهند وغيرها آراءهم فيها ليكونوا على بصيرة فيما يريدونه من إبطال تأثير إعلان
الخليفة العثماني الجهاد الديني بدعوى بطلان صحة خلافته من جهة، وبدعوى أن
هذه الحرب لا شأن للدين فيها من جهة أخرى، وقد وجد من منافقي الهند مَن كَتَبَ
لهم رسالة باللغة الإنكليزية في ذلك وأرسلها إلينا ناشرها لنترجمها بالعربية
وننشرها في المنار، فعجبنا من جهله ونفاقه، ولولا المراقبة الشديدة على الصحف
عامة والمنار خاصة في تلك الأيام لرددنا عليها، وقد اطلعنا على ما كتبه بعض
علماء مصر لهم في الخلافة، وهو نقل عبارة (شرح المقاصد) وعبارات أخرى
في معناها، وعلمنا أن بعض العلماء كتب لهم بعض الحقائق فيها.
وقد دارت بيننا وبين بعض رجالهم مناقشات في المسألة العربية اقتضت أن
تكتب لهم مذكرات في تخطئة سياستهم فيها، بيَّنا في المذكرة الأولى منها التي قدمناها
لهم في أوائل سنة 1915 أن أكثر مسلمي الأرض متمسكون بالدولة العثمانية
وخليفتها؛ لأنها أقوى الحكومات الإسلامية وأنهم يخافون أن يزول بزوالها حكم
الإسلام من الأرض، وأن هذا أعظم شأنًا من بقاء المعاهد المقدسة سليمة مصونة،
بل بيَّنا لهم أيضًَا أن إعلانها الجهاد شرعي، وأن سبب ضعف تأثيره في مثل مصر
هو الاعتقاد بأنها منتصرة مع حلفائها فلا تحتاج إلى مساعدة.
وعدت إلى بحث الخلافة في آخر مذكرة منها وهي التي أرسلتها إلى الوزير
لويد جورج في منتصف سنة 1919 فقلت في بيان ما يرضي المسلمين من إنكلترا:
(إن الوزير قد علم أن الاعتراف باستقلال الحجاز وتسمية أمير مكة ملكًا لم يكن
له ذلك التأثير الذي كان الإنكليز يتوقعونه من قلوب المسلمين - ذلك بأن بلاد
الحجاز أفقر البلاد الإسلامية وأضعفها في كل شيء، وهي موطن عبادة لا ملك
وسيادة، ولم يكن المسلمون مضطربين من الخوف على المساجد المقدسة أن تهدم أو
يمنع الناس من الصلاة فيها والحج إليها وزيارته، بل الاضطراب الأعظم على
السلطة الإسلامية التي يعتقدون أن لا بقاء للإسلام بدونها، والحرص على بقائها
ممزوج بدم كل مسلم وعصبه، فهو لا يرى دينه باقيًا إلا بوجود دولة إسلامية
مستقلة قوية قادرة بذاتها على تنفيذ أحكام شرعه بغير معارض ولا سيطرة أجنبية،
وهذا هو السبب في تعلق أكثر مسلمي الأرض بمحبة دولة الترك واعتبارهم إياها
هي الدولة الممثلة لخلافة النبوة مع فقد سلطانهم لما عدا القوة والاستقلال من شرطها
الخاصة، ولولا ذلك لاعترفوا بخلافة إمام اليمن لشرف نسبه وعلمه بالشرع
واستجماعه لغير ذلك من شروط الخلافة، ذلك بأن الشروط تعد ثانوية بالنسبة إلى
أصل المطلوب. مثال ذلك: أن الحكومة المصرية تشترط في مستخدميها أن يكونوا
مصريي الجنس عارفين باللغة العربية حاملين لشهادات مخصوصة - ولكنها عندما
تحتاج إلى مستخدم فني لعمل لا يوجد مصري يعرفه تترك اشترط ذلك فيه؛ لأنه
إنما يُقَدَّم المستوفِي للشروط على غيره إذا كان قادرًا على أصل العمل المطلوب) .
اهـ. المراد هنا من مذكرتنا إلى لويد جورج.
وكان الغرض من هذا أن لا يغترُّوا بما يعلمون من عدم استجماع الخليفة
التركي لشروط الخلافة، ولا بما كانوا يرمون إليه من جعل شريف مكة خليفة بعد
اعترافه لهم بأن مكان الأمة العربية من إنكلترا مكان القاصر بالطفولية أو العَتَه من
الوصي ورضاه بحمايتهم له ولها، وقد صرحنا للوزير في هذه المذكرة بأن الذي
يرضي العالم الإسلامي من دولته ترك الشعوب الإسلامية العربية والتركية
والفارسية أحرارًا مستقلين في بلادهم وبقاء مسألة الخلافة على ما هي عليه إلى أن
يمكن تأليف مؤتمر إسلامي عام لحل مشكلتها، وقد بيَّنا فيها أيضًا أن هذه الدولة
مستهدفة لعداوة الشرق كله بالتبع لعداوة العالم الإسلامي، فلا يغرنها ضعف المسلمين
وتفرقهم فتحتقر عداوتهم مع كونهم مئات الملايين، فإنهم لن يكونوا أضعف من
(ميكروبات) الأوبئة، وسننشر هذه المذكرة في الوقت المناسب.
لم يبال هذا الوزير بنصح هذه المذكرة فاستمر على سياسة القضاء على دولة
الترك واستعباد العرب حتى خذله الله وخذله قومه وأسقطوا وزارته، لكن بقي أشد
أنصاره في الوزارة التي خلفتها وهو لورد كرزون الذي هو أشد تعصبًا وعداوة
للمسلمين منه؛ فلذلك لم يتغير من سياسة الدولة شيء في المسألة الإسلامية إلا ما
اضطرت إليه من مجاملة الدولة التركية الجديدة بعد تنكيلها بالجيش اليوناني الذي
أغرته وزارة لويد جورج بالقضاء على ما بقي للترك من القوة في الأناضول، فأثبتت
بذلك أنها لا تلين إلا للقوة وأما الحق والعدل والوفاء بالعهود والوعود فلها في
قاموس سياستها معانٍ أخرى غير ما يعرفه سائر البشر في لغاتهم.
* * *
35- الخلافة وتهمة الجامعة الإسلامية:
إن العيب الأول لكون الدولة البريطانية هي الخصم الأكبر الأشد الأقوى من
خصوم الخلافة الإسلامية هو أنها تخشى أن تتجدد بها حياة الإسلام وتتحقق فكرة
الجامعة الإسلامية فيحول ذلك دون استعبادها للشرق كله، وقد نشرنا في مجلدات
المنار أقولاً كثيرة للساسة الأوربيين في هذه المسألة، من أهمها ما نشرناه في المجلد
العاشر سنة 1325 من رأي كرومر في تقريره السنوي في مصر والسودان سنة
1906 فيها، وأهمه قوله:
(المقصود من الجامعة الإسلامية بوجه الإجمال اجتماع المسلمين في العالم
كله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فإذا نُظر إليها من هذا الوجه وجب
على كل الأمم الأوربية التي لها مصالح سياسية في الشرق أن تراقب هذه الحركة
مراقبة دقيقة لأنه يمكن أن تؤدي إلى حوادث متفرقة فتضرم فيها نيران التعصب
الديني في جهات مختلفة من العالم …..)
ثم ذكر أن للجامعة الإسلامية معانيَ أخرى أهم من المعنى الأصلي، وهي:
(أولها) في مصر الخضوع للسلطان وترويج مقاصده…
(وثانيها) استلزامها لتهييج الأحقاد الجنسية والدينية إلا فيما ندر ...
(وثالثها) السعي في إصلاح أمر الإسلام على النهج الإسلامي!! وبعبارة
أخرى السعي في القرن العشرين لإعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدًى لهيئة
اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة.
وذكر أن عيب هذه المبادئ والسنن والشرائع هو المناقضة لآراء أهل هذا
العصر في علاقة الرجال بالنساء. وأمرًا ثالثًا، قال: إنه أهم من ذلك كله، وهو
إفراغ القوتين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا تحويرًا
(قال) : وهذا ما أوقف تقدم البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام) .
ثم قَفَّى على تحذير الأوربيين من الجامعة الإسلامية بتحذيرهم من الجامعة
الوطنية؛ لئلا تتجلبب بها الأولى (التي هي أعظم الحركات المتقهقرة) .
رددنا على اللورد كرومر في كل هذه المسائل ردًّا مسهبًا ورد غيرنا عليه
أيضًا، وفي هذه المباحث ما فيها من تفنيد كلامه، وغرضنا هنا أن نبين شدة
اهتمام الإنكليز بمقاومة الجامعة الإسلامية بكل معنى من معانيها وتحريضهم جميع
الأوربيين وجميع النصارى عليها، وعلى مَن يتصدى لها وتخويف المسلمين منها.
ولقد كان من إرهاب أوربة للشعوب الإسلامية وحكومتها أن جعلتها تخاف
وتحذر كل ما يكرهه الأوربيين منها وتُظهر الرغبة في كل ما يدعونها إليه وجروا
على ذلك حتى صار الكثيرون منهم يعتقدون أن ما يَستحسن لهم هؤلاء الطامعون
فيهم هو الحسنُ، وما يستقبحونه منهم هو القبيحُ؛ إذ تربوا على ذلك ولم يجدوا
أحدًا يبين لهم الحقائق. وكان هذا عونًا لهم على سلب استقلال هؤلاء المخدوعين
والمرهبين في بعض البلاد وغلبة نفوذهم على نفوذ الحكومة في بلاد أخرى كمصر
والدولة العثمانية، واستحوذ الجبن والخور على رجال الحكومات في هذه البلاد حتى
إن أركان الدولة العثمانية لم يتجرأوا على الإذن لنا بإنشاء مدرسة إسلامية في
عاصمتها باسم (دار الدعوة والإرشاد) كما تقدم، ولم يكونوا كلهم يجهلون ما
ذكرت، بل قال لي شيخ الإسلام حسني أفندي رحمه الله تعالى: إن عندنا قاعدة
مطردة في الإفرنج هي أن كل ما يرغبوننا فيها فهو ضار بنا وكل ما ينفروننا عنه
فهو نافع لنا. وإنما هو جبن بعض الرؤساء وفساد عقائد بعض، وما الجبن إلا
غشاوة من الوهم على عين البصيرة انقشعت عن ترك الأناضول فرأوا أنهم بعد
انكسارهم في الحرب العامة وفقدهم لتلك الممالك الواسعة أعز وأقوى مما كانوا عليه
منذ مائتي سنة؛ إذ كانت البلاد فيها تنتقص من أطرافها ونفوذ الأجانب في عاصمة
الدولة فوق نفوذ خليفتها وسلطانها.
لهذا السبب ينوط الرجاء بحكومة الأناضول ألوف الألوف من المسلمين أن
تحيي منصب الخلافة وتجدد به مجد الإسلام وشريعته الغراء التي يُرْجَى أن يتجدد
بإحيائها مجد الإنسانية ويدخل البشر في عصر جديد ينجون به من مفاسد المَدَنِيَّة
المادية التي تهدد العمران الأوربي بالزوال.
أنا لا أتصور أن يكون الرعب من معارضة دول أوربة الاستعمارية هو الذي
يمنع الترك من إقامة الخلافة الإسلامية؛ فإن هذا شكل حكومتنا ومقتضى ديننا،
وطالما صرحت هذه الدول بعد الحرب بأنها لا تفتات على المسلمين في أمر الخلافة،
وأما الجامعة الإسلامية فهي مسألة أخرى، ولكل دولة لها رعايا من المسلمين أن
تسوسهم بالطريقة التي تراها أحفظ لمصلحتها، نعم لن يكون الإفرنج هم الذين
يمنعون إقامة الخلافة ولكن الذي يخشى أن يمنعها إنما هم المتفرنجون دون غيرهم
وقد شرحنا ذلك من قبل.
من المعقول في السياسة أن يطعن المستعمرون للبلاد الإسلامية في جامعة
دينية يظنون أنها قد تفضي إلى انتفاض أهل هذه البلاد عليهم، ويخافون أن تكون
الخلافة الحق سببًا لتحقق هذه الجامعة، وأن يطعنوا في الشريعة الإسلامية وينفروا
المسلمين منها لأجل ذلك كما يطعن فيها دعاة النصرانية لهذه العلة وللطمع في
تنصير المسلمين، وهذا الخوف من إقامة الخلافة يكون على أشده إذا كان الباعث
على إقامتها السياسة المحضة التي يستحل أصحابها كل عمل لأجل مصلحتهم، وقد
يكون ذلك إذا كان الباعث دينيًّا محضًا وهو إقامة حكم الإسلام كما شرعه الله تعالى،
وليس من شروطها أن يتبعها جميع المسلمين، ونحن نعلم أن هذا متعذِرٌ غير
مُسْتَطَاع في هذا الزمان وتكليفُ غير المستطاع ممنوعٌ في الإسلام: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) بل نحن نرى الرأي الغالب في بعض البلاد
يأبى إحياء الخلافة حتى إننا نجتهد في إقناع الحكومة التركية الحاضرة به ونشك في
قبولها، فإن زعيمها وصاحب النفوذ الأعلى في أقوى أحزابها يصرح في خطبه بأن
السلطة في هذه الحكومة للأمة التي يمثلها المجلس الوطني الكبير بلا شرط ولا قيد،
وأنه لا يمكن أن يكون لشخص معين نفوذ فيها مهما يكن لقبه، أي خليفة سُمِيَ أو
سلطانًا.
لما أذاع الاتحاديون عزمهم على إنشاء مدرسة جامعة إسلامية في المدينة
المنورة وابتداع سجل لطلاب الشفاعة النبوية فيها، وقالت الجرائد وغير الجرائد: إن
مرادهم بذلك إحياء الجامعة الإسلامية - كتبتُ مقالة في هذا الموضوع نشرتها في
المجلد السابع عشر من المنار (سنة 1330) قلت فيها نصه:
(وأما رأيي الذي أنصح به الدولة فهو أن تصدي رجاله السياسيين لتحريك
أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون
هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها- من أسباب ما نراه من
شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرِّره الإمام الغزالي
(كن يهوديًّا صِرْفًا وإلا فلا تلعب مع اليهود) .
ومُرَادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:
(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية إلا
ما كان من النظام الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام، وتعطي مقام
الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام وإقامة الحدود وحرية أهل الأديان ولا يعجزها
حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم أهواء سياسية ولا ضلع
مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليها منه الآن إن شاءته، ولو كان لي
رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي أو جعله محل النظر والبحث لبينت ذلك بالتفصيل
ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي تعترض في طريق تنفيذه من
داخلية وخارجية مع بيان المَخْرَج منها، ثم ما يترتب عليه من تجديد حياة الدولة،
وكونه هو المُنْجِي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير من الناس أنه هو المسرع
بالخطر ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة إذا علمت أنها شرعت
بنهضة إسلامية لعلمها بأن هذه هي حياتها الحقيقية، وكون حياتها بهذا هو ما
يصرح به بعض أحرار الأوربيين، وإن خوف منه بالتمويه والإيهام أكثر
السياسيين.
(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور الدين
إلى الجمعيات الدينية الحرة والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها
أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانة المالية من
أوقاف المسلمين الخيرية (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تُجِبْ
طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع بقائها بمَعْزِل عن
السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لَمَا اشترطت على رجال الدولة وجمعية
الاتحاد - إذ عرضت عليها مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة
لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة بل تكون نفقاتها
مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين الخيرية
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر:
44) اهـ.
هذا ما كتبناه في ذلك الوقت، وقد شرحنا آراء الإفرنج في الجامعة الإسلامية
وما فيها من الأوهام وما ينبغي للمسلمين، مرارًا في مجلدات المنار.
***
36- شهادة لوردين للشريعة الإسلامية:
ما كل من يتكلم في الإسلام وشريعته من الإفرنج يتكلم عن علم صحيح، وما
كل من لديه علم يقول ما يعتقد؛ فإن منهم من تنطقه السياسة بما تريه من مصلحة
دولته، ومنهم المتعصب الذي لا يبحث عن شيء من أمر الإسلام إلا ما يمكن
الطعن فيه لتشكيك المسلمين في دينهم أو لتحريض أعدائهم عليهم، وقد وُجد فيهم
من قال الحق في الإسلام وشريعته في أحوال اقتضت ذلك.
من هؤلاء لورد كرومر الذي طعن الشريعة تلك الطعنة النجلاء التي أقامت
مصر وأقعدتها، قد اضطر إلى إنصافها وتقييد ما أطلقه من الطعن فيها بما لا ينكره
أحد، وذلك في مجلد المنار العاشر إذ كان هو بمصر، فقد قلت في سياق الرد على
طعنته: إن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى حدثني أنه كان يكلمه مرة في مسألة
إصلاح المحاكم الشرعية في إبان اهتمام الشعب والحكومة بها واعتراض بعض
العلماء على إصلاحها فأقام له الدلائل على أن الإسلام يدعو إلى كل إصلاح ويناسب
كل زمان فقال له اللورد ما ترجمته:
(أتصدق يا أستاذ أنني أعتقد أن دينًا أوجد مدنية جديدة وقامت به دولة
عظيمة لا يكون أساسه العدل؟ هذا محال ولكنني أعلم أن هذه المقاومات - أي
لإصلاح المحاكم - أمور إكليركية) أي تقاليد لرجال الدين الإسلامي كتقاليد الكنيسة
عند النصارى.
هذه الكلمة حملتني على إرسال كتاب إلى اللورد هذا نصه:
القاهرة في 20 ربيع الأول سنة 1325
جناب اللورد العظيم:
أحييك بما يليق بمكانتك وإن لم يسبق لي شرف المعرفة لحضرتك، وأرجو
أن تَمُنَّ عليَّ ببضع دقائق من وقتك الثمين تجيبني فيها عن السؤال الآتي الذي
يهمني من حيث أنا صاحب مجلة إسلامية تدافع عن الدين وتبحث في فلسفته وهو:
هل عنيت بما قلت في تقريرك الأخير عن الحكم بالشريعة الإسلامية التي
وُضِعَتْ منذ أكثر من ألف سنة الدين الإسلامي نفسه الذي هو عبارة عن القرآن
الكريم والسنة النبوية؟ أم عنيت بذلك الفقه الإسلامي الذي وضعه الفقهاء؟ فإن
كنت تعني الثاني فهو من وضع البشر، وقد مزجت فيه آراؤهم بما يأخذونه عن
الأول، وخطَّأ فيه بعضهم بعضًا، وقد ترك حكام المسلمين أنفسهم العمل بكثير منه،
ولطلاب الإصلاح من المسلمين انتقاد على كثير من تلك الآراء في كل مذهب،
وإن كنت تعني الأول فهذا العاجز مستعد لأن يبين لجنابكم أن معظم ما جاء في
الدين نفسه من الأحكام القضائية والسياسية هو من القواعد العامة - وهي توافق
مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درء المفاسد وجلب المصالح بحكم
الشورى - وما فيه من الأحكام الجزئية (وهو مُقابل المُعْظَم) راجع إلى ذلك
وأختم رقيمي مودعًا لجنابكم بالتحية والاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار بمصر
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
وقد أجابنا بالكتاب الآتي بنصه العربي موقعًا ومؤرخًا بخطه الإفرنجي، وهو:
كتاب لورد كرومر إلى صاحب المنار:
حضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار؛
جوابًا على خطابكم أقول: إني عنيت بما كتبت مجموع القوانين الإسلامية التي
تسمونها الفقه؛ لأنها هي التي تجري عليها الأحكام، ولم أَعْنِ الدين الإسلامي نفسه،
ولذلك قلت في هذا التقرير الأخير وفي غيره بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي
الذي يطلب الإصلاح، ويسير مع المدنية من غير أن يمس أصول الدين، ولعل
العبارة التي كتبتها بتقريري كانت موجزة فلم تؤدِّ المراد تمامًا، واقبلوا يا حضرة
الأستاذ احترامي الفائق.
... ... ... ... ... في4 مايو سنة 1907 ... ... كرومر
كلمة لورد كتشنر للسيد الزهراوي:
زار السيد عبد الحميد الزهراوي عقب تعيينه عضوًا في مجلس الأعيان
العثماني مصر ونزل ضيفًا عند صديقه صاحب المنار؛ وزار لورد كتشنر العميد
البريطاني في ذلك الوقت بإيعاز، وكنت معه فكان مما قاله له اللورد باللغة
العربية [2] :
إن الدولة العثمانية لا تصلح بالقوانين التي تقتبسها منا - معشر الأوربيين -
ونحن ما صلحت لنا هذه القوانين إلا بعد تربية تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها
ونبدل بحسب اختلاف الأحوال، وإن عندكم شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم
الاجتماعية، فالواجب على الدولة أن تعمل بها وتترك قوانين أوربة، فتقيم العدل
وتحفظ الأمن، وتستغل بلادها الخصبة، وعندي أنها لا تصلح بغير هذا) .
هذه الكلام حق، وإن جاز على قائله الجهل والخطأ فيما يظن أنه لا يصلح لنا
من قوانين أوربة، ونحن نعلم أن كل ما لديهم من حق وعدل في ذلك فشريعتنا قد
سبقت إلى تقريره كما علم مما تقدم، ولتفصيل ذلك مقام آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) إننا نختار ما اختاره علماء المعقول من قدمائنا في النسبة إلى البديهة والطبيعة والغريزة على ألفاظها كالسليقة الذي ثبت سماعًا.
(2) نشرنا هذا في ص 77 م 17 من المنار.(24/257)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
أهل الصُّفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوي فيهم
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره
تابع لما قبله
وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة، وكان القتال منها في
تسع مغازٍ مثل بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وانكسر المسلمون يوم أحد
وانهزموا. ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق
حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن (كان) يكون المؤمنون من
أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقاتلوا مع الكفار قط.
وإنما يَظن هذا ويقوله من الضُلاّل والمنافقين قسمان (قسم منافقون) وإن
أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة يظنون أن إلى الله طريقًا غير
الإيمان بالرسول ومتابعته، وأن من أولياء الله من يستغني عن متابعة الرسول
كاستغناء الخضر عن اتباع موسى، وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو مَلِكَهُ
على النبي صلى الله عليه وسلم إما تفضيلاً مطلقًا أو في بعض صفات الكمال.
وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم، فإن الله بعث محمدًا صلى الله
عليه وسلم إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم زهادهم وملوكهم، وموسى عليه السلام إنما
بعث إلى قومه لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه، بل
قال له: إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله تعالى
عَلَّمَكَهُ الله لا أعلمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يُبْعَثُ إلى
قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة) وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 158)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) .
(القسم الثاني) من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا،
ويظن أن دين الله الموافقة للقدر سواء كان ذلك في عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء
والشفعاء من دونه، وسواء كان في الإيمان بكتبه ورسله والإعراض عنهم والكفر
بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض،
وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى
والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار وأولياء
الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد
والحقيقية، بنوا على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون وأنه الحقيقة
الكونية، وهؤلاء يعبدون الله على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم
فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وغايتهم يتوسعون في ذلك حتى
يجعلوا قتال الكفار قتال الله، وحتى يجعلوا أعيان الكفار الفجار والأوثان من نفس
الله وذاته، ويقولون: ما في الوجود غيره ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق
والمصنوع هو الصانع، وقد يقولون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا
مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (يس:
47) إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود
والنصارى بل ومن مقالات المشركين والمجوس وسائر الكفار من جنس مقالة
فرعون والدجال ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق الباري رب العالمين، أو
يقولون: إنه هو، أو إنه حل فيه.
وهؤلاء كفار بأصل الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله؛ فإن التوحيد الواجب: أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا فلا نجعل له ندًّا في
ألوهيته ولا شريكًا ولا شفيعًا، فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء،
فهذا قد قاله المشركون الذين قال الله فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟
فيقولون: (الله) وهم يعبدون غيره، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84-89) .
فالكفار المشركون مُقِرُّونَ بأن الله خالق السموات والأرض وليس في جميع
الكفار من جعل لله شريكًا مساويًا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط لا
من المجوس الثنوية ولا من أهل التثليث ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون
الكواكب والملائكة، ولا من عُبَّاد الأنبياء والصالحين ولا من عُبَّاد التماثيل والقبور
وغيرهم، فإن جميع هؤلاء، وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك فهم
يقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته وجميع أفعاله، ولكنهم مع هذا
مشركون به في ألوهيته بأن يعبدوا معه آلهة أخرى يتخذونها شركاء أو شفعاء. أو
في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب
وخالق ذلك الخالق.
وقد أرسل الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله
وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45) وقال
تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 51-52) .
وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: 3) فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له
وإلى طاعتهم.
والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن هذا [1]
رسول الله إلى جميع العالمين؛ وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما
أحله والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعه - فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم
ممن يُجَوِّزُ الخروجَ عن دينه وشريعته وطاعته إما عمومًا وإما خصوصًا ويُجَوِّزُ
إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته.
ويحتجون بما يفترونه أن أهل الصفة قاتلوه وأنهم قالوا: نحن مع الله، من
كان مع الله كنا معه، يريدون بذلك الحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية.
ويحتج بمثل هذا مَن ينصر الكفار والفجار ويخفرهم بهمته وقلبه وتوجهه من ذوي
الفقر. ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله وأن الخروج عن الشريعة المحمدية
سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل، وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهُم في العبادة
مثل أوليائهم في الأجناد، فإن المرء على دين خليله والمرء مع من أحب. هكذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكافرين بعضهم أولياء بعض،
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة
الذين قال فيهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع
قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من
الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة؛ لئن
أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا
عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف
بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم؟
ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله
به رسوله ليلة المعراج، وأن الله أمره أن لا يُعْلِمَ به أحدًا فلما أصبح وجدهم
يتحدثون به فأنكر ذلك فقال الله له: أنا أمرتك أن لا تُعْلِمَ به أحدًا، لكن أنا الله
أعلمتهم. إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر، وهي كذب واضح فإن
أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة ولم يكن بمكة أهل الصفة، والمعراج إنما كان من
مكة كما قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى
المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) ومما يشبه هذا من بعض
الوجوه رواية بعضهم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتحدث هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما، وهذا من الإفك المُخْتَلَق. ثم
إنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه، وهو
أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام بل كان كالزنجي، ويدعون أنهم هم
سمعوه وعرفوه، ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها
علم الأسرار والحقائق، إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع. ونحو ذلك مثلاً ما يدعي
النُّصَيْرِيَّة والإسماعيلية والقرامطية والباطنية والثنوية والحاكمية وغيرهم - من
الضلالات المخالفة لدين الإسلام ما ينسبونه إلى علي بن أبى طالب أو جعفر الصادق
أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة ابن عقب، وغير
ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل فإنه لما كان لآل
رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء
والصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة - صار كثير ممن يخالف
دينه وشريعته وسنته يُمَوه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته
ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء أو من هؤلاء حتى
يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته،
وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن
أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال.
(فصل) وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال بل
خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب موقوفًا ومرفوعًا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفق عليه سلف
الأمة وأئمة العلم والسنة وبعدهما عثمان وعلي، وكذلك سائر أهل الشورى مثل
طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراح
أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد هم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد قال الله تعالى
في كتابه: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ
الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} (الحديد: 10) فَفَضَّل
السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأنفسهم وأموالهم على التابعين بعدهم، وقال
الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:
18) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ} (التوبة: 100) .
وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم، وهؤلاء الذين فضلهم
الله ورسوله، فمنهم من هو من أهل الصفة. والعشرة لم يكن فيهم مَن هو من أهل
الصفة إلا سعد بن أبي وقاص، فقد قيل: إنه أقام بالصفة مرة. وأما أكابر المهاجرين
والأنصار مثل الخلفاء الأربعة ومثل سعد بن معاذ وأُسَيْد بن الحُضَيْر وعبَّاد بن بِشْر
وأبي أيوب الأنصاري ومعاذ بن جبل وأُبَيّ بن كعب ونحوهم - لم يكونوا من أهل
الصفة بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين. والأنصار كانوا في
ديارهم، ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم.
(فصل) وأما سماع المكاء والتصدية - وهو الاجتماع لسماع القصائد الربانية
سواء كان بِكَفٍّ أو بقضيب أو بدُفٍّ أو كان مع ذلك شبَّابَة فهذا لم يفعله أحد من
الصحابة ولا من أهل الصفة ولا من غيرهم ولا من التابعين، بل القرون الثلاثة
المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون القرن الذي بعثت
فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع
لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في العراق ولا مصر ولا خراسان ولا
المغرب. إنما كان السماع الذين يجتمعون عليه سماع القرآن وهو الذي كان الصحابة
من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه، فكان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أَمَرَوا واحدًا
منهم يقرأ والباقي يستمعون، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على
أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي
موسى: يا أبا موسى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا. فيقرأ وهم يستمعون، وكل مَن نقل أنهم كان لهم
حادٍ ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب، أو أنهم لما أُنشد بعض القصائد تواجدوا
على ذلك أو أنهم مزقوا ثيابهم أو أن قائدًا أنشدهم:
قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راق
إلا الطبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي
أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن الفقراء يدخلون الجنة قبل
الأغنياء بنصف يوم) أنشدوا شعرًا وتواجدوا عليه - فكل هذا وأمثاله إفك مفترًى
وكذب مُخْتَلَق باتفاق أهل الآفاق من أهل العلم وأهل الإيمان لا يُنَازِع في ذلك إلا
جاهلٌ ضال، وإن كان ذُكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل
العلم والإيمان.
(فصل) وأما قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف مثل الذين
يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه،
سواء كانوا من أهل الصفة أو غيرهم. أمر الله نبيه بالصبر مع عباد الله الصالحين
الذين يريدون وجهه، وأن لا تعدو عيناه عنهم: {تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) وهذه الآية في الكهف، وهي سورة مكية، وكذلك الآية التي هي في
سورة الأنعام: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا
عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ
الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52) .
وقد روي أن هاتين الآيتين نزلتا في المؤمنين المستضعَفِينَ لما طلب
المستكبرون أن يُبْعِدَهم النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه الله تعالى عن طرد من يريد
وجهه وإن كان مُسْتَضْعَفًا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة
وقبل وجود الصفة، لكن هي متناولة لكل مَن كان بهذا الوصف من أهل الصفة
وغيرهم.
والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله، وإن كانوا
فقراء ضعفاء، فلا يتقدم أحد عند الله تعالى بسلطانه وماله ولا بذُلِّه وفقره وإنما
يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى الله سبحانه وتعالى أن يطاع [2] أهل
الرئاسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره أن لا يطرد مَن
كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع
بهم كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر الله المتبعين لأهوائهم.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المناسب أن يقال: بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم.
(2) لعل الأصل: فنهى الله سبحانه وتعالى نبيه أن يطيع إلخ، بدليل ما عطف عليه من قوله: وأمره إلخ.(24/273)
الكاتب: أبو الكلام
__________
الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنكليزية
العالم العلامة الأستاذ أبو الكلام
إني قد كنت عازمًا على أن لا أقدم إلى المحكمة بيانًا ما؛ لأنها مكان لا رجاء
لنا فيه ولا طلب منه، ولا شكوى إليها، وإنما هي كمنعرج الطريق إلى المنزل لا بد
من قطعه للسابل، ولذا نقف فيه وقفة على كُرْهٍ منا وإلا لدخلنا السجن تَوًّا.
إن الجمعية الوطنية وجمعية الخلافة وجمعية العلماء قد أبحن تقديم بيان إلى
المحاكم لا للدفاع بل لإعلام الأمة الحقيقة، بيد أني ما برحت أشير على الناس بأن
يؤثروا الصمت على الكلام، وأن يقاطعوا المحاكم مقاطعة تامة، وذلك لأني أرى
أن كل من يقدم بيانًا لدحض التهمة وكشف الحق - وإن كان قصده به إعلام
الجمهور- لا يسلم من الظنة؛ إذ يجوز أن يكون في نفسه أدنى هوى للتخلص من
العقاب أو في أعماق قلبه أقل رجاء في عدل المحاكم مع أن سبيل (تارك التعاون)
مستقيم نَيِّر لا ينبغي أن توسخه الظنون والشبهات.
اليأس التام من العدل:
إن (اللا تعاون) نتيجة لليأس التام من الحالة الحاضرة، وهذا اليأس هو
الذي ألجأ الأمة إلى أن تغيرها وتتبدل غيرها بها، فكأن مَن يقاطع الحكومة ويأبى
معاونتها يعلن بأنه يئس من عدلها وحبها للحق، وأنه لا يعترف بها بل يعدها
حكومة غاصبة جائرة وغير شرعية؛ لهذا يود إسقاطها وتحطيمها، أفبعد هذا يرجع
القهقرى، فينتظر منها أن تنصفه كحكومة عادلة صالحة للبقاء والدوام؟
وإن غضضنا الطرف عن هذه الحقيقة الثابتة، فإن السعي للتبرئة من التهمة
ليس إلا فعلاً عبثًا وإنكارًا للحقائق؛ إذ كل بصير يعلم أنه لا رجاء في المحاكم أن
تنصف وتعدل في الحالة الحاضرة لا لأن رجالها لا يحبون العدل؛ بل لأنها سائرة
على نظام لا يستطيع معه حاكم أن ينصف أولئك الذين لا تريد الحكومة نفسها أن
تنصفهم، وإني ههنا أصرح بأن خطاب (اللاتعاون) ليس مع الأفراد والآحاد بل
مع الحكومة ونظامها ومبادئها.
موقف أصحاب الحق أمام المحاكم والقضاة:
إن هذه الحالة مثل سائر حالات عصرنا ليست بفذة، فالتاريخ شاهد على أنه
كلما طغت القوات الحاكمة ورفعت السلاح في وجه الحرية والحق، كانت المحاكم
آلات مسخرة بأيديها تفتك بها كيف تشاء، وليس هذا بعجيب، فإن المحاكم تملك
قوة قضائية، وتلك القوة يمكن استعمالها في العدل والظلم على سواء! فهي في يد
الحكومة العادلة أعظم وسيلة لإقامة العدل والحق، وبيد الحكومات الجائرة أفظع آلة
للانتقام والجَوْر ومقاومة الحق والإصلاح.
والتاريخ يدلنا على أن قاعات المحاكم كانت مسارح للفظاعة والظلم بعد
ميادين القتال، فكما أهريقت الدماء البريئة في ساحات الحروب حوكمت النفوس
الزكية في إيوانات المحاكم فشنقت وصلبت وقتلت وأُلقيت في غياهب السجون،
وليس هنالك عصبة صالحة محبة للحق من الأنبياء والحكماء والعلماء والصالحين إلا
ونراها واقفة كالجناة والمجرمين في قاعات المحاكم أمام القضاء، نعم إن كَرَّ الأيام
ومَرَّ العشي قد محا كثيرًا من مساوئ العهد القديم، فلا يوجد الآن شيء من المحاكم
الرومية للقرن الثاني المسيحي ولا جمعيات التفتيش السرية (jnquisifon) التي
كانت في القرون المتوسطة، ولكني لا أستطيع الاعتراف بأن عصرنا هذا قد نجا من
تلك العوامل النفسية التي كانت تعمل في تلك المحاكم - حقًّا إن تلك الأبنية التي كانت
مكامن للأسرار الرهيبة قد دُكت دكًّا، ولكن مَن ذا الذي يقدر أن يقلب تلك القلوب التي
تكمن فيها الأسرار المخيفة لحب الذات والظلم؟
مقام عجيب ولكنه عظيم:
إن جدول مظالم المحاكم وفظائعها طويل عريض - تلك المظالم التي لم يفرغ
التاريخ إلى الآن من البكاء منها - فترى فيه اسم المسيح صلى الله عليه وسلم
الإنسان الكامل الذي أُوقف مع اللصوص في محكمة أجنبية، وسقراط الحكيم الذي
اضطر إلى شرب كأس من السم (لأنه كان أصدق رجل في بلاده) وكذا فلورنس
غيليلو الذي لم يكذب مشاهداته العلمية؛ لأنها كانت جناية في عين القضاء والمحاكم
(وصفت المسيح بالإنسان الكامل لأني اعتقد أنه إنسان، ولكن الملايين من الناس
يعتقدون أنه فوق هذا) إذن ما أعجب قفص الجناة وما أعظم شأنه !! إنه موقف
للصنفين معًا: الأبرار والأشرار، حتى إنه كان لائقًا بهذا الوجود العظيم.
حمدًا وشكرًا:
وإني إذ أتدبر التاريخ العظيم لهذا الموقف وأراني قد شرُفت بالوقوف فيه
يسبح روحي بحمد الله ويلهج لساني بشكره من غير قصد مني، وهو وحده يعلم ما
أجده من الجذل والابتهاج؛ إذ أحسبني في هذا القفص محسودًا للملوك والسلاطين
العظام، فأين لهم في قصورهم المريحة تلك المسرة والراحة التي يرقص لها قلبي
في صدري؟ ويا ليت الإنسان الغافل والعاكف على هواه يشعر بنفحة منها! وإني
أقول حقًّا: إنه لو أدركها الناس لتمنوا المثول في هذا المكان، ولنذروا النذور لأجله!
***
لِمَ أخاطب المحكمة؟
إني كنت عازمًا على السكوت في المحكمة، ولمَّا أُحضرت فيها ورأيت
الحكومة تقدم في إثبات جريمتي الخطبتين اللتين ألقيتا في بعض مجامع (كلكتا)
وهما لا يحتويان على جميع الأمور التي ما زلت أكررها في جميع خطبي ورسائلي
ومقالاتي التي تعدو الحصر، والتي إن قدمت كانت أنفع لمقصدها - علمت أنها
عاجزة حتى عن تهيئة ذلك المستند الذي يعتبر في هذه الأيام كافيًا لإنزال العقاب مع
شدة رغبتها وحرصها على سجني. فغيرت قصدي وقلت: إن العلة التي كانت
مانعة من الكلام أصبحت موجبة له فأردت أن أثبت بلساني الأمر الذي لا تستطيع
الحكومة إثباته مع علمها به وشدة رغبتها في إثباته، وإني أعلم أن قوانين المحاكم
لا توجبه عليَّ ولا تضطرني إلى الاعتراف به من تلقاء نفسي، ولكن قانون الحقيقة
فوق هذه القوانين الوضعية، وهو الذي يسوقني إلى ما سأقوله؛ إذ ليس من الحق
أن نذر شيئًا مستورًا؛ لأن الخصم لا يستطيع إثباته.
الاعتراف بالجناية:
إن الاستبداد الذي ابتليت به الهند نوع من ذلك الاستبداد الذي يصيب الأمم في
طور ضعفها ووهنها وهو من طبعه يبغض الحركة الوطنية والحرية والمطالبة
بالحقوق بغضًا شديدًا؛ لأنه يعلم أنها إذا نجحت سقطت قوته الظالمة وانمحى وجوده
الفاحش، وما من وجود يحب سقوط نفسه وزواله مهما يكن زواله ضروريًّا في
عين الحق والإنصاف. فالتدافع بين الحرية والاستبداد (تنازع للبقاء) و (تزاحم في
الحياة) كل من الفريقين يجدّ ويكد للفوز والبقاء: الأمة تريد أن تنال حقها
المغصوب، والاستبداد يأبى عليها ولا يريد التزحزح عن مقامه، ولا تثريب عليه
لأنه - وإن كان وجوده خلافًا للحق - يدافع عن نفسه وحياته، وليس لنا أن ننكر
مقتضيات الطبيعة فكما يسعى الخير لبقائه يسعى الشر أيضًا، ومهما يكن ملومًا في
نفسه لا يلام على رغبته في الحياة.
وقد بدأ التزاحم في الهند بين هاتين القوتين: الحرية والاستبداد - فليس ببدع
أن تكون الحرية والمطالبة بالحقوق جناية في عين الاستبداد، وأن يكون محاربو
وجوده الباطل جناة وأثمة وأهلاً للعقاب الشديد. فما دام الأمر كذلك فإني أعلن على
مسمع من المحكمة والحكومة بأنني أنا قد ارتكبت هذه الجناية ارتكابًا واقترفتها
اقترافًا، وإن كانت الحكومة لا تعلم - وهي تعلم - فلتعلم الآن أني من أولئك الجناة
الذين بذروا بذور هذه الجناية في قلوب أمتهم ووقفوا حياتهم على سقيها وتنميتها
وتثميرها بل إني - ولا فخر - أول مسلم في الهند دعى أمته من اثنتي عشرة سنة
إلى هذه الجناية دعوة عامة وحول وجهتها في خلال ثلاث سنوات عن العبودية التي
كانت الحكومة زينتها لها إلى الحرية التي قد أشرقت شمسها الآن، ولن تنكسف أبدًا.
فإن كنت آثمًا في زعمها فلتعاقبني بما تشاء، فها أنا ذا معترف بالجناية بصدر رحب
ولسان طلق غير جذع منها ولا نادم عليها؛ لأن هذا ما كنت أتوقعه وأعرفه من قبل.
وإني لا أنتظر من الحكومة إلا الغلظة والقسوة لأني - وإن ألفيتها تدعي العصمة
من الخطأ والزلل ولا تعترف بذنوبها - أعلم أنها ما ادّعت أبدًا أنها مثل المسيح في
لينه وحنانه، فإذًا كيف أنتظر منها أن تقبل أعدائها وتحبهم كأصدقائها.
وأعلم أنها لا تعاملهم إلا بتلك المعاملة التي نراها منها الآن والتي ما زال
الاستبداد يختارها لمحق الحرية والحق وخنق أصحابه وحماته، فالشدة الغلظة من
الحكومة شيء طبيعي لا ينبغي لنا أن نشكو أو نعجب منه بل على كل من الحزبين
أن يعملا على مكانتهما حتى يفصل الله بينهما وهو خير الفاصلين.
(ثم قال بعد هذا: إنه لم يقبض عليه لأجل الخطبتين اللتي قُدمتا في
المحكمة بل ليخلو للحكومة جو كلكتا كيلا يقاطع احتفال ولي عهد إنكلترة عند قدومه
إليها وتضعف الحركة الوطنية والإسلامية. ثم ذكر أشد ما في الخطبتين وهو ما
يلي) :
أشد ما في الخطبتين:
إن الحكومة التي تأسست على الظلم لظالمة، وهي إما أن تتوب من ذنوبها
وفظائعها وتخضع للحق، وإما أن تزول من الوجود.
أيها الناس: إن كنتم تتألمون لإخوانكم الذين قُبِضَ عليهم فعلى كل منكم أن يبت
في نفسه الآن: هل هو راضٍ بأن تظل هذه الحكومة قائمة في بلادنا كما كانت عند
القبض على إخواننا؟
إذا كنتم تريدون تحرير بلادكم من رق العبودية فطريقته واحدة، وهي أن لا
تَدَعوا فرصة لأعدائكم الماكرين لاستعمال أسلحتهم القتالة التي عندهم بغير
حساب....
إن بعض الناس يظن أن الخطيب إذا فاه بمثل هذه الأقوال يحتاط لنفسه وإلا
فإنه بالحقيقة لا يقصد بها شيئًا، ولكني أيها الإخوان أعتقد أنه ليس فيكم أحد يحسب
أولئك الذين يتعبون من أجلكم خوافين من السجن أو الاعتقال أو مخلصين لهذه
الحكومة الظالمة في نفسها وقوتها بقولهم: إن أعمالنا يجب أن تكون بالأمن والنظام
- لا لا، إن هذا لا يتصور أبدًا، بل الحق الذي لا مراء فيه أنهم يقولون ذلك لأنهم
يرون نجاحكم متوقفًا على الأمن والنظام؛ إذ أنتم لا تملكون تلك الآلات الجهنمية
التي تتسلح بها هذه الحكومة، وإنما الأسلحة التي لديكم هي الإيمان والضمير وقوة
التضحية، فاستعملوها في وجهه تنجحون، وإلا فلا نجاح لكم بالأسلحة المادية.
أيها الناس: إن كنتم تريدون أن تعرقلوا الحكومة برهة من الزمن فطرقه
كثيرة، ولو كنت - لا سمح الله - من المحبين للحكومة لبُحْتُ بها ودعوتكم إليها ولكن
الذي أريده منكم هو (الحرب الحرب) الحرب التي لا تنتهي في يوم واحد بل تمتد
إلى يوم الفصل، وما أدراكم ما يوم الفصل؟ اليوم الذي إما أن تُمحى فيه هذه الحكومة
الجائرة، وإما أن تُفني ثلاثمائة مليون من النفوس البشرية.
***
الاعتراف فوق الاعتراف:
إن كانت هذه التصريحات (جناية) فإني معترف بأن قلبي قد اشتغل بها
ولساني قد نطق بها، وإني الذي صرحت بها أمام عشرات الألوف من الناس ليس
في هاتين الخطبتين فقط، بل في خطب أكثر من أن تُعَدَّ وتُحْصَى بل ما برحتُ
أقول أكبر وأشد منها؛ ذلك بأني أعتقد أن الصدع بها واجب عليَّ، ولن يمنعني من
أداء الواجب كونه مُعَاقَبًا عليه بقانون 124 من القوانين الهندية [1] بل إني لأجدني
الآن مدفوعًا إلى التصريح بها أمام المحكمة، ولا أزال قائلاً بها ما دام لساني بين
أسناني وروحي في جثماني. وإن لم أفعل ذلك أكن ظالمًا لنفسي وعاصيًا عند الله
وعند الناس أجمعين.
الحكومة الحاضرة (ظالمة) :
نعم إني قلت: (إن الحكومة الحاضرة ظالمة) وإن لم أقل هذا فماذا أقول يا
ترى؟ وأيم الله إني لأعجب كيف يُطْلَبُ مني أن أسمي شيئًا بغير اسمه، وأن أدعو
الأسود بالأبيض؟
إن ما قلته هو أهون ما يجب أن يقال في هذا الباب؛ إذ لا أعلم حقيقة ملفوظة
أخف منه.
لا ريب أني ما زلت أقول: إنه ليس إلا أن تتوب الحكومة من آثامها، وتغير
خطتها، وترجع عن ظلمها، فإن لم تستطعه فبُعْدًا لها وسُحْقًا، وليت شعري ماذا
يقال غير هذا؟ الشر إما أن يصلح وإما أن يزول وهل بينهما طريق آخر؟ إن هذه
الحقيقة قديمة العهد طويلة العمر لا يضاهيها في الكبر إلا الجبال والبحار وإني ما
دمت أعتقد أن هذه الحكومة من أولها إلى آخرها شر على شر، فكيف أستطيع أن
أدعو لها وأقول: دومي ولا تصلحي.
لماذا أعتقد هذا؟
لماذا أعتقده أنا وملايين من أبناء وطني وإخوان ديني؟ الجواب أصبح الآن
واضحًا جليًّا حتى يصح أن يعبر عنه بقول الشاعر الإنجليزي (ملتون) : إنه بعد
الشمس أوضح شيء وأجلى محسوس. على أني أصرح ههنا بأني أعتقد ذلك لأني
هندي ولأني مسلم ولأني إنسان.
الحكم الشخصي ظلم بالذات:
إني أعتقد أن الحرية حق طبيعي لكل إنسان ولكل أمة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) وليس لشخص أو حكومة أن تستعبد عباد الله
وتتخذهم خولاً. وسَمِّ الاستعباد والرق بأي اسم شئت، غير أنه على كل حال
استعبادٌ ورقٌّ، ومشيئة الله وناموسه يمقته وينفيه، وإني لأجله لا أعترف بالحكومة
الهندية، بل أَعُدُّهَا حكومة غير شرعية؛ لأنها مستبِدَّة طاغية استعبدت البلاد
وقهرت العباد داست الشرائع وخانت المواثيق! ليسخطها الشعب ويمجها الحق،
فهي معدومة في نظر الأمة، وإن كانت موجودة بقوة السلاح، وأرى واجباتي الدينية
والوطنية والإنسانية تطالبني بأن أحرر بني جلدتي من رقها وعبوديتها الشائنة.
ولا يقاطع كلامي (بالإصلاحات الإدارية) و (الترقي التدريجي) كلمات
خَطَّتها الحكومة وزخرفتها لتخادع به البُلْهَ والحَمْقَى. أما أنا فلا أُخْدَعُ بها؛ إذ
الحرية في اعتقادي حق طبيعي للإنسان، وليس لأحد أن يحدد ويقسم في تأدية
الحقوق، وإن مَثَلَ الذي يقول: إن أمة تنال حريتها تدريجيًّا، كَمَثَل الذي يقول
للدائن: يُرد إليك الدَّين قسطًا قسطًا، نعم إن لم يستطع أخذه دفعة واحدة يضطر إلى
قبوله بالأقساط، ولكن لا يسقط به حق الأخذ مرة واحدة.
(الإصلاحات) وما هي (الإصلاحات؟) إن هي إلا كما قال الفليسوف
الروسي تولستوي:
(إن أبيح للمسجونين انتخاب سجانهم بالأصوات، فإنهم لا يصيرون أحرارًا)
الحكومة الحاضرة حسنة أو قبيحة؟ سؤال ثانوي، أما السؤال الأساسي فهو:
هل وجودها حق وشرعي؟ فإني أعتقد أن مثل هذه الحكومة الأجنبية المتسلطة
باعتبار أصل خلقتها غير شرعية؛ لأن نفس وجودها ظلم وشر، فهي لو لم ترتكب
جميع تلك الفظائع التي ارتكبتها بهذه الكثرة لكانت في اعتقادي ظالمة وجائرة،
ويكفي لقبحها وشناعتها أنها موجودة! نعم نعترف بحسناتها إن كانت لها حسنات،
ولكن يظل وجودها على كل حال ظلمًا غير شرعي. ومثاله أن لو تسلط أحد على
بيتنا وأدارها إدارة حسنة وعمل أعمالاً صالحة، فإنه بهذه الحسنات لا يصير تسلطه
حقًّا شرعيًّا.
إن الشر يصح أن يُنْعَتَ ويُقْسَمَ بالكم والكيف، فنقول: (كم هو؟ وكيف
هو؟) ولكن لا يصح نعته وتقسيمه بالحسن والقبيح فلا تقول (أَحَسَنٌ هو أم قبيح؟)
نعم يقال: (سرقة قبيحة) و (سرقة أقبح) ولكن لا يقال: (سرقة حسنة)
و (سرقة قبيحة) وهكذا الاستبداد؛ فإني لا أستطيع أن أتصوره حسنًا وشرعيًّا في
حال من الأحوال؛ لأنه بذاته ووجوده قبيحٌ وشرٌّ وغير شرعي. نعم ربما يوجد نوع
من الاستبداد أخف وطأة وأقل ظلمًا وأكثر لينًا من غيره، ولكن الاستبداد الذي دهم
الهند لم يقف عند حد قبحه الخلقي، بل ما زال يكتسب السيئات فوق السيئات
والمنكرات تلو المنكرات (ظلمات بعضها فوق بعض) فإذن كيف لا يُعْلَن ظلمُهُ
ولا يُشْهَرُ قبحُهُ ولا يُشَدَّدُ النكيرُ عليه؟
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) إن المادة 124 هذه مثل المادة 151 من القوانين المصرية الخاصة بالذين يحرضون على كراهية الحكومة بأي واسطة من وسائط النشر أو الصور أو الكلام أو الخطابة إلخ (المترجم) .(24/280)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى
طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير
(3)
آثار العرب في سويسرة:
لم تزل للعرب آثار كثيرة في سويسرة، منها برج السارازين (لا يخفى أن
لفظة سارازين كان يطلقها الإفرنج على المسلمين في القرون الوسطى واختلفوا كثيرًا
في أصل هذه الكلمة وكيفية اشتقاقها، وقرأت في رحلة ابن بطوطة أن الملك الرومي
الذي كان في القسطنطينية سأله هل أنت سراكنوا؟ قال: وهذا اللفظ معناه مسلم
بلغتهم) وهو برج بقرب بلدة فيفاي بجوار (مونتروا) من مقاطعة (لوزان) ومما
ينسب إليهم مغارة وكهف في جهات لوستس.
وقال بعض المؤرخين ممن نقل عنه كلر: مِن المُحقَّق أن عصائب العرب
زحفت إلى (الجورة) وبحيرة جنيف وأنه لم يوجد من مؤرخينا من يذكر دخولهم إلى
روارسيه، وكانت كتبنا صامتة عن ذلك. فالتواتر ورواية الأخلاف عن الأسلاف
متصلة بالسند تقومان مقام ذلك، وكثير من أسماء هذه البلاد تدل على وقوع هذه
الغزاة.
وعلى نصف ساعة من دفليه في الجبل من جهة الشمال الغربي على مقربة
من الطريق الروماني المؤدي من دليمون إلى آجوا يوجد مضيق بين جندلين اسمه
كهف (السارازين) وشيوخ دفليه يروون عن آبائهم وأجدادهم خلفًا عن سلف أن
هذا المكان كانت أقامت فيه شرذمة من (السارازين) كانوا يوردون جمالهم (يظهر
أنه أينما تكون العرب تكون الجِمَال ولو في قلب أوربا) ماء سورن بقرب كورتتل،
وهذا اسم طريق روماني مهجور الآن، ثم إلى أحد صخور غار السارازين عدد
23 منقور نقرًا غريبًا بأرقام عربية لا يعرف السبب في نقر هذا العدد خاصة
لانقطاع سند التواتر وعدم وجود تاريخ لذلك، وإنما المعروف أن العرب كانوا
مقيمين هناك دركًا ثم إنه بقرب روسميزون تجاه جبل شبوت يوجد طريق اسمه
طريق السارازين.
ثم إنه يوجد في بلاد البيامون ووادي ساس في الجبل طريقان: أحدهما يمر من
فوركنتال مخترقًا ممر أنترونه، والثاني يمر من مونتومورو أي جبل المورو -
وهو المسلم المغربي في عرف الإفرنج - وكل من المضيقين كان إلى سنة 1440
يقال له الممر القديم، ويقول فرديناند كلر نقلاً عن المؤرخين أنه مما لا يجوز أن
ننساه أن المعاهدة التي عقدها الملك (هوغ كونت برفاتس) مع العرب كان من جملة
شروطها: سد جميع المضايق والثنايا إلا ثنية سان برنار فقط؛ فلذلك ترى هناك
محلاًّ اسمه (الماجل) وهو بدون شك محطة بريدية، وتجد في وادي ساس مكانًا
يسمى (ألا لاين) وهو (العين) وهناك ماء على الطريق في أعلى الوادي كما أن
في شرقي الوادي عين ماء اسمها Eienapl أي عين الألب.
وفي غربي وادي ساس محل اسمه ميشابل وهو حسبما يظن الأستاذ هيتسيغ
مُحَرَّف عن (مشبل) أي اللبوة التي معها أشبالها بدليل أن هناك غربي ممر
سيميلون جبلاً اسمه جبل الأسد، ونحن نظن أن الاسم هو (مشابل) كما يلفظونه
الآن لا (مشبل) وهو جمع (مشبل) اسم مكان، كقولك: مأسدة. أو هو
(مشابيل) جمع (مشبول) ومكان مشبول: كثير الأشبال.
ومن أكثر الأشياء في تلك الجهات التي جال فيها العرب اسم (مورو) الذي
هو - كما تقدم - اسم المغربي عند الإفرنج؛ لأن الرومان كانوا يسمون المغرب
الأقصى (موريتانيه) فمن ذلك جبل مورو الذي عند فراكسينة، وعليه قصر من آثار
العرب ويوجد ممر اسمه موروباس في ناحية (ماكوغناغه) في البيامول، كذلك في
واد يقال له وادي أنزا (ولعله وادي العنزة) محل يقال له (سيما دليمورو) أي قنة
المغربي وهو إلى الشمال من بريسينون، وفي جبل سان برنار غربي الدير الشهير
قنة شاهقة اسمها مونتمور.
وما عليه اسم (سارازين) شيء لا يكاد يُحْصَى. ذكر المسيو إدوارد كلرك في
تاريخ ولاية (فرانش كونته بفرنسة) أن الأسماء المضافة إلى سارازين كثيرة في
تلك الولاية، قال: عندنا خمسة كهوف يسمى كل واحد منها بكهف السارازين،
وجسران اسم كل منهما جسر السارازين، وثلاثة قصور كل منها يقال له قصر
السارازين، وطريقان كل منهما يسمونه السارازين، وسد طاحون منسوب إلى
السارازين، وواد صغير يسمونه وادي السارازين، وجندلان كبيران كل منهما يقال
له صخر السارازين، وباب يُرْفَع ويخفض من آثار السارازين، وقرية اسمها ساراز،
وهناك أيضًا حائط السارازين ومعسكر السارازين إلخ، وأمثال هذه الأسماء يجدها
الإنسان في مقاطعة بريس وفي الليونه، فمن ليون إلى حدود فرنسة الجنوبية تكثر
الأبواب التي ترفع وتحط أمام القلاع، وكلها منسوبة إلى السارازين.
ويقول هؤلاء المؤرخون الذين أثرنا عنهم ما تقدم من تاريخ العرب في
سويسرة: إنه كان للعرب قدرة بالغة على البناء وتشييد الأبراج وتحصينها وإحكام
أقفالها، وقد تركوا آثارًا بديعة مدهشة، ففي إيطالية وغربي سويسرة لا تزال جدران
كثيرة مبنية بالحجارة الكبرى من بناء العرب، وفي كل بناء تركوه ظهر أنهم أهل
هندسة وقوة حيلة يُعْجَب بها كل من تأملها، فتركوا بهذه الآثار ذكرًا عظيمًا بين
الأهالي؛ ثم إنه قد وجدت في سويسرة مسكوكات كثيرة عربية، وأكثرها من
مسكوكات الإسلام في إفريقيا منها ضرب سنة 169 للهجرة ومنها ضرب 182
للهجرة، وأكثرها من عصر هارون الرشيد، وقسم منها مضروب في القيروان،
ويُظن أن أكثر هذه النقود وصلت إلى سويسرة بواسطة النورمانديين، وكذلك وجدت
في بلدة مودون من سويسرة مسكوكات منها من سنة 170 للهجرة مضروب في أفريقيا
ومنها ضرب إسماعيل بن أحمد في أيام الخليفة المعتضد سنة 283 للهجرة، ومنها
ضرب في بغداد سنة 361 هجرية مكتوب على بعضها من الوجه الواحد (لا إله إلا
الله وحده لا شريك له. ركن الدولة أبو علي بويه، ومن الوجه الآخر: بسم الله، قد
ضرب هذا الدرهم في مدينة السلام عام ثلاث مائة وأربع وستين. ووجدت على
بعضها: محمد رسول الله. الطائع لله الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع.
ويظن أن هذه المسكوكات وصلت بواسطة الحروب الصليبية أو عن طريق
التجارة.
ومما وجد من آثار العرب في سويسرة ثوب حريري مُطَرَّز في دير بقرب
(شور) يستعمله القسوس في القداس عليه كتابات عربية مطرَّزَة بالقصب، ولا شك
أنه قبل أن يصير ثوبًا كَنَسِيًّا كان خلعة ملوكية أو حلة لأحد الأمراء، وقد أتى
المسيو سلنستر دوساسي في كتابه (المنتخب من تآليف العرب) في الصفحة 305
على بحث دقيق يتعلق بهذه المنسوجات العربية الفاخرة فقال ما ترجمته:
(عرفنا منسوجات كثيرة من هذا النوع الذي يسميه ابن خلدون بالطراز، منها
المعطف الذي كان يلبسه قياصرة ألمانية عند تتويجهم، فهذا الرداء عليه كتابات
عربية منسوجة بخيوط ذهبية، وقد قرأها وترجمها المسيو تيسشن فظهر أنه نسج في
بلرم في دولة الملك روجر (والعرب يقولون رجار) سنة 528 هجرية أي 1133
ميلادية وتجزم بأنه في أيام رجار؛ لأن الكتابات ليس فيها شيء من آثار الدين
الإسلامي، ومنها قطعة حريرية مطرَّزَة بالذهب محفوظة في خزانة ذخائر كنيسة
(نوتردام) الكبرى بباريز بديعة الصنع مكتوب عليها اسم الخليفة الحاكم بأمر الله
المتوفى سنة 411 للهجرة، ثم قطعة ثالثة شبيهة في النفاسة بالثانية وجدت في
ضريح بدير (سان جيرمان) المروج، عليها كلمتان عربيتان مكررتان مرارًا. كذلك
في مؤلف ظهر على آثار بلرم باللغة الإيطالية طبع في نابلي سنة 1814 مذكورة كتابة
عربية وجدت على أكمام القميص الذي وجد في ضريح الإمبراطور فريدريك الثاني
المتوفى في 13 ديسمبر سنة 1250. كذلك يذكر المسيو (دومور) سجادة عليها
كتابة عربية نسجت في مصر في زمان الخليفة المستعلي بالله وذلك يكون بين سنة
1094 وسنة 1101 للميلاد وهذه السجادة هي في خزانة آثار الفاتيكان الآن (أي
في زمان دساسي وهذا عاش بين سنة 1758 وسنة 1838) .
قد نقلنا كثيرًا من هذا التاريخ عن المسيو رينو الفرنسي وهو من المستشرقين
المشهورين، كان عضوًا للمجمع الملكي للآثار والآداب وأحد حفظة الكتب الشرقية
المخطوطة في مكتبة باريز الملوكية وتأليفه المسمى غارات العرب في جنوبي
فرنسة وفي البيامون (شمالي إيطالية) وفي سويسرة طبع بباريز سنة 1836 وقد
طالعنا منه نسخة في مكتبة منيخ عاصمة البافيار وذلك سنة 1920.
وأما المؤرخ الألماني الذي اعتمد عليه (فرديناند كلر) فهو (ليود براند)
المؤرخ الشهير القديم العهد ولد سنة 922 في لومباردية من أصل شريف ونشأ في
بلاط الملك هوغ المارّ الذِكْرِ في بافيان سنة 945 وعندما نفي الملك هوغ دخل
(ليود براند) في خدمة (برانجر) خلفه وقد سفر لبرانجر هذا إلى ملك القسطنطينية
وكانت وفاته سنة 970 وألف كتابين باللاتينية أحدهما اسمه: (معالي الإمبراطور
أوتون الكبير) والثاني اسمه (سياحتي إلى القسطنطينية) ملأه هزؤًا بدولة
بيزنطية وصنَّف كتابًا اسمه (الانتقام) كله نكات ونوادر على أبناء عصره. وفي
زمانه كانت وقائع العرب في سويسرة.
هذا ما اتصل إليه علمنا من تاريخ إقامة العرب بسويسرة، أو بالأحرى
(انتداب) العرب لإدارة تلك البلاد في القرن العاشر.
فإن قيل: إنك تُعَرِّضُ بما تسميه دول الحلفاء اليوم (انتدابًا) على سورية
وفلسطين والعراق، وهذا لا يشبه ذاك؟ أجبنا أنه لا يوجد أدنى فرق بين الانتدابين،
فإذا كان العرب سفكوا دماء بسويسرة فهو - ولا شك - أقل جدًّا مما سفكه الحلفاء في
سورية والعراق، وإذا كان أخذوا جماعة بثأر واحد فالحلفاء لم يتوقفوا دقيقة واحدة عن
تدمير قرى بتمامها ورمي القنابر الديناميتية على النساء والأطفال والعاجزين وحصد
رءوس الألوف لأجل الانتقام من عمل رجل واحد أو عصابة مؤلفة من بضعة رجال.
وإن قيل: إن العرب في سويسرة سلبوا ونهبوا، فهل إذا تأمل المنصف إدارة الحلفاء
في البلاد الشرقية التي احتلوها وما جمعوه منها من الذهب وما وزعوا من الأوراق
المالية بدون ضمان وما حمّلوا الأهلين من المغارم وما استأثروا لأنفسهم من معادن
البلاد وأصناف مرافقها - يجد شيئًا غير السلب والنهب؟ وزد على ذلك شيئًا، وهو
أن العرب لم يخدعوا أهل سويسرة في القرون الوسطى بقولهم: أنهم حلفاؤهم وأنهم
إنما جاءوهم لتحريرهم من رق الأجانب حتى إذا انكشف الغطاء عرفوا أنها خدعة
وظهرت الذئاب من تحت أصواف الحملان، كلا كان عمل العرب في سويسرة
أشرف، وأبعد عن اللؤم، ولم يكونوا مع ذلك دولاً عظامًا بل شرذمة صعاليك لا
يعيبهم ما يعيب الدول العظام {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
... ... ... ... ... ... ... ... في 15 إبريل سنة 1922
(المنار)
إننا نود لو يكون للقراء من العبرة بهذه الأثارة من تاريخهم ما هو في نظرنا أهم
من المقارنة التي ختمها بها الأمير الكاتب مراعاة لمقتضى الحال، وهي المقارنة بين
أحوال الأمة في طَوْر حياتها وإقبالها، وطور ضعفها وإدبارها. تتقاذف الأمواج برهط
من صعاليك العرب لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين فتلقيهم بسواحل بلاد لا يشاركهم
أهلها في لغة ولا دين، ولا تربطهم معرفة ولا عهد ! يكون من أمرهم وأمر شراذم
تتبعهم ما استخرجه لنا الكاتب من أسفار تواريخهم من عزة ومنعة، وتمكن في
الأرض، وقتال أو إجارة للأمراء والملوك وفرض الضرائب والمكوس، وإقامة
للصروح والحصون. ثم يكون من أمر هذه الأمة أن يذل ألوف الألوف منهم في عقر
دارهم، ويسلمون قيادهم فيها لأعدائهم باختيارهم، حتى يكون من مثل أمير الحجاز،
تلك البلاد المقدسة التي تحترمها الدول الكبرى ولا تدنو منها بسوء، أن يقترح
باختياره على الدولة الإنجليزية أن تنتزع البلاد العربية حتى المقدسة من الترك
وتجعلها تحت حمايتها - وأن يكون هذا الاقتراح في الوقت الذي كانت فيه هذه الدولة
تتوقع محو اسمها من الدول العظمى بقوة الحلف الألماني التركي، حتى لو أجمع
العرب أمرهم واقترحوا عليها الاعتراف باستقلالهم المطلق ومساعدتهم عليه، ولو
في مقابلة عدم مساعدة الترك عليها - فضلاً عن مساعدتها على الترك - لقبلوا
شاكرين {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(24/288)
الكاتب: أحمد عطية قوره
__________
إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبين
إلى العلم من الأوهام
جاءتنا الرسالة الآتية في مسألة تسويد النبي صلى الله عليه وسلم في
العبادات المشروعة، ومسألة التوسل، فننشرها مع الوعد بنشر ما يجيئنا من رد
عليها تُرَاعى فيه آداب المناظرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله الهادين المرشدين
(أما بعد) فإنا نحرِّر هذه الرسالة قيامًا بما أوجبه (الدين النصيحة) في الكشف عن
مسألتين خلط فيهما بعض من ينتسب للعلم: (الأولى) راجعة إلى الأحكام
(والثانية) راجعة إلى العقائد.
موضوع الأولى (تسويد) النبي صلى الله عليه وسلم، وقضاؤنا فيها أن من
أتى بها في الصلاة أو في الأذان أو في دعاء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم
على أن تكون من شرع الله ودينه - فهو مبتدع، وفي الأوليين مبطلة لهما ? وفي
الثالث مكروهة كراهة تحريم، وقد رأينا أن نجري على ما كان عليه المهتدون
الأولون في الإرشاد، فنقدم الأدلة على هذه الأمور الثلاثة: التسويد في الصلاة، وما
بعدها؛ تطبيقًا للفروع على الأصول، وإن كانت أحوال المناظرة وقوانينها تقضي
على المثبت بإقامتها لا علينا كما هو معروف عند الأصوليين وسواهم أن المثبت
لأمر هو المُدَّعِي المطالَبُ بإقامة الأدلة على دعْواه، أما النافي فيكفي أن يقول: لم
يرد ونحوه، فنقول:
إن مرجع الأحكام إلى واحد من أربعة أمور أو خمسة على الخلاف في
الاستحسان والمصالح المرسلة:
(1) كتاب الله.
(2) صحيح السنة أو حسنها أو ضعيفها فيما يتبع العبادة المعروفة عندهم
بفضائل الأعمال، الخالي عن ورود شيء فيه من النوعين الأولين.
(3) الإجماع بأنواعه، ولا سيما الثابت عن الصحابة.
(4) القياس الصحيح فيما لا نصَّ فيه (دع الاستحسان والمصالح
المرسلة) .
أما الكتاب فلا تعرض لها فيه؛ إذ لم يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم إلا
مجردًا عنها، وأما السنة فهي نافية لها؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم المذكورة بعد التشهد على اختلاف الروايات فيها حال تعليم النبي صلى الله
عليه وسلم إياها للصحابة خالية من تسويده، وكل من الأذان والصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم توقيفي ثابت بِعَدِّ كلماته، ولم يذهب أحد من الأربعة ولا
غيرهم من علماء المسلمين - متقدميهم ومتأخريهم - إلى جواز ذكرها في الأذان ولا
في الإقامة، وأما بعد التشهد فالكثيرون أو الأكثرون على عدم جوازها، كما سيأتي
بيانه بعد مفصلاً.
لا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم تركها تواضعًا، فإنها لو وجبت أو
شرعت ولو استحبابًا أو جوازًا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم تبليغها،
وإلا لم يؤد وظيفة البلاغ كما أمره الله تعالى بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ} (المائدة: 67) الآية، خصوصًا وأنه في مقام البيان بعد سؤال الصحابة
(رضي الله عنهم) عن كيفية الصلاة عليه المشروعة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:
56) الآية. رواه مسلم وغيره. وأيضًا فهي مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم:
(صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. ولقد فهموا - رضي الله عنهم - ما
أراده
ونِعْمَ ما فهموا، ولذلك امتنعوا عن الإتيان بها ولو كانت غير مبطلة فضلاً عن
كونها مندوبة كما يزعم البعيد عن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مشرعًا وكونهم
ممتثلين، لَمَا فاتهم الإتيان بها وهم أفضل الأمة وأكثرها أدبًا وقدوة لمن بعدهم
إلى يوم القيامة، وإن اتفاقهم على عدم الإتيان بها من غير إنكار أحد منهم على أحد
مع ما هو معروف عنهم من إكباره صلى الله عليه وسلم وإجلاله - لهو أبلغ إجماع
على عدم الإتيان هذا، وقد روى النسائي عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه
أنه قال: (انطلقت في وفد من بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا:
أنت سيدنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السيد الله، قلنا: وأعظمنا
وأفضلنا، قال: قولوا بقولكم- أو: بعض قولكم - أنا محمد عبد الله ورسوله، ما
أُحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي رفعني الله عز وجل) . فهذا الحديث صريح في
نفيها من وجهين: الأول دلالة الفحوى، فإنها إحدى طرق القصر، وذلك قوله:
(السيد الله) فإنها جملة مُعرَّفة الطرفين مفيدة للحصر؛ ولهذا وقع الرد بها في
القرآن ردًّا على الحصر بـ (إنما) في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ} (البقرة: 12) ردًّا لقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: 11) وأمثال هذا
كثير.
الوجه الثاني: بالمنطوق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن
ترفعوني.. .) إلخ، ومنزلته بالحصر {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} (الفتح: 29) وقوله:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} (آل عمران: 144) وأمثال هذا.
فقد تبين من هذا أن كلاًّ من الكتاب والسنة والإجماع يمنع الإتيان بها، ولا
يجترئ مسلم على القول بأن الصحابة (رضى الله عنه) اجتمعوا على منكر وهو
ترك شيء من الدين، وبهديهم اهتدى التابعون لهم بإحسان فمن بعدهم حتى دَبَّ
الفساد في المسلمين، وغلبت الأهواء على أئمة الدين، فجاءوا بالاستحسان
والمصالح المرسلة فزلزلوا سلطان الدين من النفوس [1] حتى صار لا يسمع إلا قول
فلان وفلان وصار الدين وضعًا فكريًّا لا وضعًا إلهيًّا.
وأما القياس فهو بنفيها أشبه وإن لم تكن إليه حاجة بعد النصوص؛ لأنه إنما
يُسْتَدَل به فيما لا نص فيه، وقد قدمنا النصوص من الكتاب والسنة والإجماع ومع
ذلك فهو قاطع في نفيها، ولنورد على ذلك بعض الأمثلة:
لا يجهل أحد أن أفضل ما ينطق به اللسان هو القرآن الكريم، وقد أجمعوا على
أنه لو أتى به في ركوعه أو سجوده كان مخالفًا للسنة، وقد روى مسلم في صحيحه أن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رفع سجاف حجرته في مرضه الذي مات فيه
فأشرف على الصحابة وهم متأهبون للصلاة، فقال: (نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو
ساجدًا) ولا يقال: إنه نهى عنه لإطالة الركوع والسجود لأن كثيره وقليله سواء في
النهي؛ ولأنه لو أطالهما بالتسبيح بمقدار سورة البقرة - ولا سيما في النوافل - لما
بطلت صلاته، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في ركعة واحدة البقرة ثم
النساء ثم آل عمران ثم كان سجوده قريبًا من ركوعه المذكور. رواه مسلم. فالسيادة
التي ليست بذكر ولم ترد في شىء مما تقدم من الأدلة أولى بالمنع.
مثال آخر: قال الإمام النووي في شرحه حديث كيفية تعليم النبي صلى الله
عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم أن يصلوا عليه، ما حاصله: أن قول القائل في
الصلاة (ورحمت) قبل (وباركت) أو بعدها - غير جائز وإن وردت في حديث
غريب؛ لأن العبادة لا يؤخذ فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن الخالي عن علة
كالغرابة ونحوها اهـ.
فالسيادة أولى بالمنع لعدم ورودها ولا في حديث موضوع، بل ورد النهي عنها
كما تقدم في حديث النسائي فهي إحْدَاثٌ محضٌ في الدين [2] مردودةٌ على مُحْدِثها،
عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. يشهد بذلك قوله صلى الله عليه
وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) وفي رواية: (من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم عن عائشة [3] .
هذا ما يتعلق بها من حيث الأصول الأربعة المُعَوَّل عليها. ولنرجع إليها من
حيث الفروع، فنقول: مذهب الشافعي أن كل كلام أجنبي - أي غير مشروع -
مُبْطِل للصلاة ولو حرفًا مفهمًا أو حرفين وإن لم يُفهِما. وقد تبين مما تقدم أنها كلام
أجنبي بالمعنى المذكور، والقول بالبطلان ليس بدعًا منا، بل هو قول المحقق
الطوسي من أئمة الشافعية، وقد نقل هذا العلامة الكردي المدني في حاشيته على شرح
ابن حجر الهيتمي، قال ما محصله: اختلف في تسويد النبي صلى الله عليه وسلم
عقب التشهد، فقيل بجوازه تأدبًا، وقيل بكراهته، وقيل بحرمته، وقال الطوسي من
أئمتنا: إنها مبطلة. قال الكردي بعد هذا: ولعل الطوسي غلط اهـ وقد تبين مما
تقدم أنه الحق، وأما تغليطه إياه فهو مبني على ما قدَّمه من جوازها تأدبًا، وعلى ما
قاله بعض المتأخرين من الشافعية وهم شذوذ بالنسبة إلى المتقدمين؛ لأن القول
بجوازها تأدبًا يؤدي إلى رفع الأدب عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو ما لا
يجترئ على القول به ذو دين.
هذا ولم يقل بجوازها أحد من الأئمة الأربعة، ولم ينقل عن أحد من أصحابهم
القول بالجواز. هذا ما يتعلق بها من حيث الفروع والأصول. وإن فيه لمقنعًا لمريد
الحق المنصف.
***
مسألة التوسل
والمسألة الثانية من الرسالة موضوعها ما ادعاه بعض من انتمى إلى العلم من
سنية التوسل مُرْتَكِنًا فيه على حديثين: أحدهما (اللهم إني أسألك بحق السائلين
عليك) الثاني ما ورد في تفسير الكلمات التي تلقت آدم أو تلقاها في قوله تعالى:
{فَتَلَقَّى آدَمُ} (البقرة: 37) الآية، وإنا نتكلم على كل من الحديثين ثم نفصل
المسألة من حيث المنقول فيهما عن الأئمة بالإيجاز، فنقول في شرح الحديث الأول،
وخير ما فسرته بالوارد
جاء من حديث معاذ عند مسلم ما ملخصه: (إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئًا، وإن حقهم عليه إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم) فمعنى حق السائلين
أي العابدين المخلصين في عبادتهم - كما يؤخذ من الحديث - هو أن تشملهم رحمته،
وحينئذ يرجع معنى الحديث إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يدخله
في رحمته؛ لأنه خير عابد مخلص بصفة من صفاته الذاتية وهي الرحمة المبينة في
حديث: (إن رحمتي سبقت غضبي) وسؤال الله بصفة من صفاته لا شيء فيه،
وليس هو توسلاً بذات مخلوق أو عمله بل هو مسئول بجزاء على عمل الإنسان نفسه
في مقابلة عمله كما يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ (إذا هم فعلوا
ذلك) فإذا كان معنى الحديث ما قدمناه لم يدل على سنية ما زعم من التوسل ولا على
جوازه. وإنا ننقل عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم خصوصًا أئمة المذاهب الأربعة
وأصحابهم عدم الجواز.
رأي أبي حنيفة وأصحابه:
قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز أن يسأل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك
بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى (بشرح
الكرخي) بعد أن ذكر ما تقدم ما نصه: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي
حنيفة، قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد
أن يدعو الله إلا به. وقال أبو يوسف: أكره أن يقول: بحق فلان، أو: بحق أنبيائك
ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، وقال القدوري: المسألة بخلقه لا
تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقًا. وما يقول فيه أبو حنيفة
وأصحابه: (أكره كذا) هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إلى
الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب.
رأي الشافعية:
في فتاوى أبي محمد العز بن عبد السلام ما نصه: لا يجوز سؤال الله بشيء
من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم. ثم قال: وأتوقف في جوازه بنبينا صلى الله
عليه وسلم لأني لا أعرف صحة الحديث فيه. والحديث الذي يشير إليه هو
(توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) [4] حديث باطل باتفاق الحفاظ، ونقل ابن
القيم أن الدعاء عند القبر والصلاة عنده والتمسح به لأنه قبر فلان الصالح: بِدَعٌ
منكرة باتفاق أئمة المسلمين. وإن ما ينقله بعض الجهلة من دعاء الشافعي عند قبر
أبي حنيفة كذب ظاهر اهـ.
ونقل الثوري عن الشافعي ما نصه: أكره أن يُعَظَّم مخلوق. واصطلاحه في
مثل هذه العبارة معروف، وهو التحريم.
ولم يُنقل عن مالك وأحمد في المسألة شيء سوى السلام على النبي صلى الله
عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما لمن وُجد عند القبر، بل نقلت موافقتهما
لغيرهما من الأئمة كما تقدم عن القدوري وابن القيم اهـ. الكلام على أحد الحديثين.
وأما على الثاني فقد قال السيوطي في تفسير الكلمات من قوله تعالى:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة: 37) الآية، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه فقال: أسألك بحق محمد إلا
غفرت لي، فأوحى الله إليه: ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعتُ
رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس
أحد أعظم قدرًا ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه: يا آدم إنه آخر النبيين
من ذريتك لولاه ما خلقتك) رواه الطبراني وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر
والحاكم وانفرد الأخير بتصحيحه اهـ. يرويه جميعهم عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب يرفعه، ولم يتابع السيوطي عليه أحد من
المفسرين بالمأثور كابن جرير والحافظ ابن كثير وغيرهم، ولو شئنا أن ننقل أقوال
أولئك العلماء في تفسير الآية لاحتجنا إلى عدة أوراق ولكن نكتفي بأنهم أهملوا ما
قال السيوطي، وإسناد الحديث في الطبراني الصغير هكذا: عن محمد بن داود بن
أسلم الصوفي المعري عن أحمد بن سعيد المدني الفهري عن عبد الله بن إسماعيل
المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب
قال الطبراني: لا يُروى عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به أحمد بن سعيد اهـ.
(ملحوظة) : (اتفق العلماء المحققون على عدم الاحتجاج بالحديث إذا روي
بالعنعنة المحضة [5] كالإسناد الذي مر معنا؛ إذ لم يصرح بلفظ التحديث أو الإخبار
أو السماع من طريق أخرى وقد صرَّح الطبراني أنه لا يُرْوَى إلا بهذا الإسناد كما
تقدم عنه) .
قال البيهقي: (وهو أحد رواته وتفرد به عبد الرحمن اهـ) يريد بذلك
أنه شاذ كما أراد الطبراني بأحمد بن سعيد، وقال بعضهم تعليقًا على تصحيح الحاكم:
ليس كل ما صحَّحه الحاكم مقبولاً، وقال المدارسي في هذا الحديث بخصوصه في
كتابه (كشف الأحوال في نقد الرجال) إن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف
باتفاق، وقال العلامة أحمد بن ناصر التميمي في كتابه (تقريب التهذيب) جوابًا
لسائل سأله عن تصحيح الحاكم لهذا الحديث: إنه من رواية عبد الرحمن بن زيد:
يعني ليس بصحيح، وقال أحمد بن حنبل: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف،
وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. وضعَّفه علي بن المديني جدًّا وهو إمام
الحفاظ في عصره صاحب تآليف عديدة في الجرح والتعديل. وقال أبو داود
صاحب السنن: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي من أصحاب السنن:
ضعيف، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثًا،
فقال: من حدثك؟ فذكر إسنادًا منقطعًا فقال مالك: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد
يحدثك عن أبيه عن جده عن نوح (ومالك هو الإمام الجليل) وقال أبو زرعة أحد
الحفاظ الذين يروي عنهم البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن في شأن
عبد الرحمن: إنه ضعيف، وقال أبو حاتم الحافظ المعروف: ليس عبد الرحمن بن
زيد بقوي في الحديث كان في نفسه صالحًا وفي الحديث واهيًا اهـ.
وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من
رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك اهـ.
وقال ابن سعد صاحب الطبقات في شأنه: كان كثير الحديث ضعيفًا جدًّا
اهـ وقال ابن خزيمة: ليس عبد الرحمن ممن يحتج أهل العلم بحديثه اهـ.
وقال الحاكم وأبو نعيم: وهو الراوي للحديث، روى عن أبيه أحاديث موضوعة
اهـ. وقال الحافظ ابن الجوزي الناقد للأحاديث: أجمعوا على ضعفه اهـ.
فهذا الحديث الذي يتمسك به جهلة المرتدين في جواز التوسل قد بينا شأنه
وأقوال العلماء فيه، وكان يصح لهم ذلك لو لم يعارضه اتفاق المسلمين كما نقلناه
عن الأئمة على عدم جواز التوسل فضلاً عن سنيته، نسأل الله التوفيق والاهتداء
بما جاء عن خير الأمة والمهديين بسنته، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على
محمد وعلى آله وصحبه آمين.
... ... تحريرًا بالعلاقمة في 4 شوال سنة 1340هـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد عطيه قوره
__________
(1) المنار: إن مراعاة المصالح المرسلة في الأحكام الشرعية قال بها الإمام مالك، وهو عنده خاص بالمعاملات القضائية والسياسية دون العبادات التي جعل مدار إثباتها على الاتباع المحض، وهو الحق.
(2) صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) وقد عرف الإمام الشافعي رضي الله عنه البدعة بما نصه (ما أُحدث وخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة) وقد بينا أن تسويد النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والأذان والدعاء المأثور لم يرد في واحد من الأربعة التي ذكرها الشافعي في تعريف البدعة اهـ من حاشية الأصل.
(3) اللفظ الثاني انفرد به مسلم، ورواه أحمد أيضًا، وأما الأول فمتفق عليه.
(4) المنار: الذي نجزم به أن سلطان العلماء لا يخفى عليه أن هذا الحديث موضوع، وأنه إنما عنى حديث الأعمى، والرواية التي تدل على ما ذكر من رواياته ضعيفة كما حقَّقه شيخ الإسلام في كتاب التوسل والوسيلة.
(5) المنار: لا يصح هذا على إطلاقه بل هو مقيد بعنعنة المدلسين.(24/294)
الكاتب: مصطفى عبد الرازق
__________
ذكرى رينان في الجامعة المصرية
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني
(رينان) كاتب بليغ من كُتاب الفرنسيس وملاحدتهم اشتُهر اسمه في مصر
وبعض البلاد العربية الأخرى بخطاب (محاضرة) موضوعه (الإسلام والعلم)
وجه به قوة فصاحته وبلاغته الخلاّبة إلى الطعن في الدين الإسلامي والأمة العربية
لينقض بها ما شاده علماء فرنسة الفلاسفة الأعلام وغيرهم من التاريخ المجيد للعرب
والإسلام، وفي مقدمتهم الفيلسوف الاجتماعي الكبير (غوستاف لوبون) صاحب
كتاب (حضارة العرب) الذي سارت بذكره الركبان، والعلامة (سديو) الشهير
صاحب كتاب (تاريخ العرب) ولكنه تكلم بجهل وتكلموا بعلم.
وقد كان من مثار العجب للناس أن الجامعة المصرية أقامت حفلة حافلة لذكرى
(رينان) بمناسبة انقضاء قرن من عهد ولادته وحاروا في استنباط الباعث لأساتذة
الجامعة على اختيار هذا الملحد الطاعن في دين الإسلام وفي المسيحية أيضًا
للإشادة بذكره وإعلاء قدره، على عدم حفظ أي منقبة له نفع بها البشر فأصاب هذه
البلاد وهذه الأمة حظ منها يستحق بها ذلك عليها، والعهد قريب باحتفال فرنسة
وغيرها بذكرى عالم من علمائها بل من أكبر علماء الأرض ومكتشفيهم نفع البشر
كلهم بعلمه واكتشافاته وهو (باستور) الشهير، فلماذا لم تحتفل الجامعة بإحياء ذكره
وإعلاء قدره؟
وقد كان الدكتور طه حسين أحد مدرسي الجامعة المصرية ينشر في هذه
الأثناء التي وقع فيها الاحتفال بذكرى (رينان) مقالات في جريدة السياسة يحاول
فيها إثبات انتشار الارتياب في الدين الإسلامي، والإلحاد، والفسق عنه في أهل
القرن الثاني والثالث للهجرة الإسلامية في بلاد الحضارة العربية كالعراق بل في
الحجاز أيضًا!! ويستدل على ذلك بشبهات كشبهات رينان، كما أخبرنا الثقات الذين
رد بعضهم عليه.
وفي إثر ذلك نُشر في الجرائد إعلان يبشر الناس بأن الأستاذ الشيخ مصطفى
عبد الرازق سيلقي في الجامعة المصرية محاضرة موضوعها (الفيلسوف رينان
وجمال الدين الأفغاني) فظننا نحن وأمثالنا أنه يريد بهذه المحاضرة أن يمحو سيئة
ذلك الاحتفال بالإشادة بفضل فيلسوف الإسلام السيد الحسيني سليل البضعة النبوية
الطاهرة الذي اشتهر عنه أنه رد على محاضرة رينان في وقتها بما هدم بنيانها
وقوض أركانها، وقد أممنا دار الجامعة في مساء اليوم الثاني من شعبان (20
مارس) مع الكثيرين لسماع محاضرته فلما سمعناها دهشنا وخاب أملنا، فخرجنا
من دار الجامعة إلى دار جريدة الأهرام لموعد اجتماع مجلس إدارة نقابة الصحافة
فيها فخَفَّ بنا كثيرون ممن خرج معنا من الأزهريين وغيرهم فرأيناهم مستائين مما
سمعوا كارهين له، فذكرنا لهم بعض ما في الخطاب من الخطأ والخطل والضعف
في المحاضرة فتمنوا لو يكتب فوعدناهم بذلك، وقد كتبنا في تلك الليلة العجالة
التالية لجريدة الأهرام:
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق
موسيو رينان وجمال الدين
نظرة عَجْلَى:
حضرتُ هذه المحاضرة في الجامعة المصرية وكنت قد سمعت من شيخنا
الأستاذ الإمام كلمة مجملة عن رد السيد على (رينان) فهمت منها ما سأذكره بعدُ.
كنت أظن أن سأسمع ما قاله (رينان) في الإسلام مفصلاً، وأن يكون فيه
شبهات ومطاعن دقيقة تحتاج إلى حجج جمال الدين وقوة عارضته فخاب ظني،
وكنت أنتظر أن أسمع تتمة المحاضرة المعلن عنها في الصحف، وهي ما كان بين
رينان ومحمد عبده لأرى هل أسمع عنه ضد ما أعلم منه عن نفسه، كما سمعت ضد
ما أعلم منه عن أستاذه، ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة أطال في المقدمة فضاق
الوقت المعين عن الخاتمة، وهي على ما أظن رد الشيخ محمد عبده على رينان.
طعن رينان في الإسلام بأنه عدو العلم والعقل وطعن في العرب بأن عقولهم
قاصرة بطبعها غير مستعدة لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة، وكل ما ذكر في
المحاضرة من تلخيص كلامه يدل على أنه لم يكن يعرف من أصول الإسلام شيئًا
إلا بعض كلام دعاة النصرانية في الجزائر ورجال السياسة الفرنسية فيها، وناهيك
بإخلاص الفريقين والتحقيق والصدق منهما، فمن تحقيق الفريق الأول ما يعرفه
قراء العربية من كتاب (الإسلام للكونت دي كاستري) الذي ترجمه بالعربية
المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول، فإن فيه من العقائد المنسوبة إلى الإسلام ما لم
يخطر في بال أحد من البشر لم يطلع على مفترياته. ومن تحقيق الفريق الآخر
تفضيل البربر على العرب في العلم والمدنية، ودليلهم على ذلك أن أصلهم من
برابرة الشمال الأوربيين لا من همج الساميين! وقد اضطر إلى تجهيلهم الفليسوف
الاجتماعي بحق (غوستاف لوبون) أحد أفراد علماء الفرنسيس الذين أنصفوا
العرب حق الإنصاف على علم صحيح بالتاريخ.
ومن هذا الباب ثناء رينان على جمال الدين وعلى قومه الأفغان بأنهم من
الأرومة الآرية ذات العقل الراقي المستعد للفلسفة العليا التي تستعصي على عقول
العرب، وعلّل بذلك ما زعمه من عدم استمساك هذا الشعب بالإسلام. والحق الواقع
القطعي الدال على مبلغ جهل رينان هو أن السيد جمال الدين هو الفليسوف الوحيد
الذي خرج من الأفغان وهو من صميم العرب من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم
وأن الشعب الأفغاني هو أشد الشعوب الإسلامية اعتصامًا بدين الإسلام وتعصبًا له
لعله لا يفوقه في هذا أو يساويه فيه إلا عرب نجد، فإذا كان السيد جمال الدين غير
متدين كما تراءى لعقل رينان فقد نقضت قاعدته في العرب وفي الأفغان جميعًا، فما
هذه الفلسفة؟ وإذا كان هذا مبلغ علمه بهذا الشعب الحاضر، فما القول بعلمه
بالشعب العربي الأندلسي الغابر؛ إذ فضح نفسه فيما قاله عنه شر فضيحة.
على أننا لا نثق بما نقل إلينا الأستاذ صاحب المحاضرة من كلام فيلسوفي
الغرب والشرق - على رأيه - فإن السيد جمال الدين كتب رده على رينان بالعربية -
كما قال - وترجم لجريدة الديبا بالفرنسية، ونقل من الفرنسية إلى الألمانية، ومنها
إلى العربية، فهل حفظ الأصل مع كثرة النقل من لغة إلى لغة إلى أخرى.
نقل إلينا قبل هذا كلام من قول رينان في الإمام الغزالي وجدناه غلطًا مخالفًا
لما في كتبه المشهورة كتهافت الفلاسفة وإحياء علوم الدين، وهو لم يعتوره من تعدد
الترجمة ما أصاب رد السيد جمال الدين.
ملخص ما ذكر في المحاضرة من رد السيد الأفغاني على الفيلسوف الفرنسي
أنه وافقه على كون الإسلام عدو العلم والعقل كسائر الأديان وخالفه في طعنه في
العرب. ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة نقل عن السيد كلمة وجيزة مجملة فيما
عزاه رينان إلى الإسلام هل هو من تأثير الدين نفسه أم هو تأثير فهم الناس له
واختلاف الشعوب في فهمه؟ خرجت هذه الكلمة بصوت غير جهوري فلم تَعِهَا كل
أذن؛ ولا فكَّر فيها كل سامع، ولعل كل ما في الرد من التسليم باضطهاد الإسلام
للعلم وعداوته للعقل مبني على هذه الكلمة.
ههنا أذكر كلمة الأستاذ الإمام عن رأي أستاذه السيد جمال الدين في الدين
والعلم، وهي أن الإسلام دين العقل والحكمة والفلسفة الصحيحة، وأنه لولا تأثير
هدايته لما انتقل العرب من الأمية إلى أعلى مما كان عليه جميع البشر في كل علم
وكل فن وكل نظام وكل عمران في مدة جيل واحد حتى سادوا الفرس والروم
والأوربيين وغيرهم. وهل يعقل أن تلك الشراذم التي خرجت من جزيرة العرب
حفاة عراة لا يعرفون من العلم شيئًا غير القرآن، ولم يكن كل واحد منهم يحفظه
كله - يمكن أن تدوخ كل هذه الأمم وتسودها وتسوسها من ساحل المحيط الأطلسي
إلى الشرق الأقصى وتُخْضِعَهَا لدينها ولغتها بالسيف؟
ولكن المسلمين ابتدعوا في الإسلام بِدَعًا كثيرة لم يمكن تداركها بسبب فساد
نظام الخلافة وإخراجها عن أصلها الذي يشترط فيه العلم الاستقلالي والعدالة، وبهذا
الابتداع الذي صار إسلام القرآن فيه غير إسلام المنتسبين إليه أضاعوا العلم به ثم
عادوا كل علم حتى صاروا إلى ما كان يسعى السيد لتلافيه وتداركه، فكأنه يقول
لرينان: كل ما ذكرت من عداوة الإسلام للعلم مما تكثر الشواهد عليه في التاريخ -
وإن كانت قليلة في عهد الإسلام بالنسبة إلى غيره من الأديان - فهو الإسلام الذي
فهمه خطأ أولئك الذين عادوا العلم والعقل والحضارة لا إسلام القرآن الذي يخاطب
العقل ويرفع شأن العلم في آيات كثيرة، ويبين أن لله سننًا في الكون قام بها نظامه،
وأن هذه السنن لا تبديل لها ولا تحويل.
من الكلمات المأثورة عن السيد جمال الدين: إن القرآن وحده كاف لرفع
البشر إلى أرقى مقام من العلم والعرفان والفضائل والحضارة، لو أن شعبًا وجده
على صخرة في جزيرة بالبحر لم ير غيره. وليس معنى هذا أن فيه مسائل جميع
العلوم والفنون التي يرقى بها البشر، وإنما معناه أنه يُصْلِحُ العقول والأنفس ويدفعها
بهدايته إلى طلب هذا الكمال.
وكتب إليَّ صديقي الشيخ عبد القادر المغربي من الآستانة أيام كان السيد فيها
أنه زاره فكان مما سمعه منه أنه ليس بين أوربا وبين القرآن من حجاب يمنعهم من
الاهتداء به إلا نحن معاشر المسلمين. قال: إنه رفع كفيه ووضعهما أمام وجهه
وفرج بين أصابعه وقال: ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا فيرون وراءه شعوبًا
قد فشا فيها الجهل والفقر والكسل و.. و.. فيقولون: لولا أن تعاليمه باطلة لما كان
أتباعه بهذه الدركة من الانحطاط! فإذا أردنا أن نهديهم إلى الإسلام فلنقنعهم أولاً أننا
لسنا مسلمين.
وقد سألت الأستاذ الإمام: هل وَفَّى السيد بما وعد به من كتابة كتاب يثبت فيه
أن المَدِينة الفاضلة التي مات الحكماء بحسرةٍ مِن فَقْدها لا تختطُّ في العالم إلا بالدين
الإسلامي؟ فقال: لا أعلم أنه كتب شيئًا بهذا العنوان، ولكنه كتب كتابًا أو قال
رسالة فارسية في العدالة العامة أثبت فيها هذه القضية، ولا أعلم ما فعل الله بهذا
الكتاب أو الرسالة (الشك مني) .
ومن أراد أن يعرف رأي السيد في تأثير الإسلام في إصلاح البشر فليقرأ
مقالات (العروة الوثقى) الاجتماعية في الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام. وأما
موضوع الإسلام والعلم فقد فصَّله الأستاذ الإمام في كتاب (الإسلام والنصرانية)
تفصيلاً. وسأعود إلى هذا الموضوع فأوفيه حقه في المنار إن شاء الله تعالى.
فعلم من هذا أن الذي يتفق مع ما كتبه السيد جمال الدين أو أملاه في حقيقة
الإسلام وكونه دين الحكمة والعقل والمدنية - هو أنه قد وافق على أن الإسلام
الممزوج بالبدع هو ذلك الذي اضطهد بعضُ أهله رجالَ العلم، كما كان يقول في
مجالسه بمصر عند رده على بعض آراء الأشعري في الكسب والجبر والتحسين
والتقبيح العقليين: إن دين الأشعري في المسألة كذا وإن إله الأشعري قادر مريد،
غير حكيم.
ويحب الملحد أن يكون عظماء الرجال ملاحدة مثله، وإذا كان مِن منتحلِي
الفلسفة والعلم والباحثين في الأدلة يظن أن من عرف بالعقل والعلم والحكمة لا يمكن
أن يكون ذا دين. وهذا ما كان يحمل بعض الناس على القول بأن جمال الدين
ومحمد عبده غير متدينين.
وقد كان يسألني بعض من يعرفون مني الصدق: هل الأستاذ الإمام متدين
بالفعل اعتقادًا وعملاً؟ بل كثيرًا ما سألني مثل هذا السؤال عن نفسي من يحسنون
الظن بي ويعدونني من (المتنورين) مثلهم ? وآخر مَن سألني هذا السؤال عن
نفسي أديب في حضرة جماعة من المسلمين والمسيحيين، منهم سليم أفندي سركيس
الكاتب المشهور، وموضوع السؤال الإيمان بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت،
وقد أجبتهم بما أزالَ استبعادَهم للبعث، وصوّرته لهم بصورة تتفق مع العلوم والفنون
العصرية ولا سيما الكيمياء حتى اعترفوا بذلك.
إن الملحد يحكم على غيره بالإلحاد بأدنى شبهة، وقد حدثني الدكتور شميل أنه
سأل السيد جمال الدين عن الدليل على وجود الله تعالى! قال: فشرع يذكر لي قواعد
كلامية في استحالة الترجيح بغير مرجِّح، والممكن والواجب. لم أفهمها فعلمت أنه
شاك ولا يستطيع أن يقيم برهانًا علميًّا واضحًا. والذنب على الدكتور شمبل الذي
كان خالي الذهن من تلك الأصول والقواعد العقلية التي اعتمد عليها متكلمو الإسلام
في المسائل الإلهية، فظن أن السيد يقول ما لا يفهم؛ لأنه هو لم يفهم ما قاله السيد.
أرى في هذا البلد أفرادًا يعنون في هذه الأيام بإفساد عقائد المسلمين وتجرئتهم
على الكفر وعلى الفسق أيضًا [1] حتى زعم بعضهم أن أكثر المسلمين كانوا كذلك في
القرن الثاني للهجرة مرتابين في الدين وفاسقين عنه بدليل ما يوجد في بعض
كتب الخلاعة والأخبار من حكاية ما يؤثر في ذلك عن بعض الأفراد من الشعراء
والمغنين والمخنثين! على أن رواة هذه الأخبار لا يثق بهم، وأين هم من كتب
المحدثين الثقات وتراجم العلماء والصلحاء الذين ملأوا الدنيا علمًا وفضلاً وقدوة
صالحة؛ إنهم لا يستطيعون قراءة أمثال هذه الكتب ولا تصديق مؤلفيها {وَلِكُلٍّ
وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148) .
وأما نحن فإننا لا نقبل إلا رواية الثقات العدول وننصح للناس أن يعرضوا عن
اللغو والفضول، وروايات مَن لا يوثق بعدالتهم، ولا سيما إذا كانت مخالفة
للروايات الصحيحة التي تعارضها. وعلماء نقد الحديث يردون رواية العدل
المعروف بالصدق إذا خالفت روايات الثقات الأثبات المعروفة، فآراء حكيم الإسلام
السيد جمال الدين الأفغاني مُدَوَّنَة في رده على الدهريين وفي مقالات (العروة
الوثقى) وغيرها برواية الثقات، وقد طبعت في عصره وتلقاها الألوف ومئات
الألوف في الشرق والغرب، فهل يصح أن نردها بجمل مقتضبة منقولة عمن لا يوثق
بهم بعد مرورها من مضيق لغات مختلفة تعودنا أن نسمع من أهلها الاختلاق علينا في
ديننا وتاريخنا وسياستنا؟ كلا إنه لو صح ما فعلوه فيها عن السيد جمال الدين لكانت
دليلاً على جهله فيما نعلم أنه من أعلم الناس به، وعلى تناقضه وعلى كذبه ونفاقه.
ولو كان ذلك - أجلَّ اللهُ قدرَه - لما صح أن يكون قدوة لأحد، وفات على دعاة
الإلحاد أن يتخذوه قدوة فيه للناس، كيف وهو الذي أحيا النهضة العلمية والسياسية في
الإسلام. رحمه الله وبرأه من تهم أعداء الأديان، كرينان ومقلدة رينان، ونحن إنما
نهتدي بقوله تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
***
كلمة المنار في المحاضرة
(1)
كتبنا كلمتنا العجلى للأهرام عقب حضور المحاضرة بحافز التأثير السيئ الذي
كان لها في نفسنا، وفي أنفس الجمهور كما علمنا، كما أن أحد أساتذة الجامعة جاء
الأهرام في تلك الليلة بكلمة أثنى فيها على المحاضرة، وزعم أن الجمهور تلقاها
بالقبول والارتياح ... ورغّب إلى رئيس تحريرها أن ينشرها في الجريدة على أن
تكون باسمها ففعل، ثم استكتبوا رضا توفيق بك الملقب بالفيلسوف التركي مقالة في
الثناء على المحاضرة وتحبيذ موضوعها والتنويه بأمر الجامعة المصرية وأساتذتها
ونشروها.
ونحن وعدنا في كلمتنا العجلى أن نعود إلى الموضوع فَنُجَلِّيه في المنار -
والمنار أجدر به - لأجل أن نكتب ما نرى فيه الفائدة بعد قراءة المحاضرة؛ لعلمنا
بأن ستنشر في جريدة (السياسة) التي كانت خصصت بعض صفحاتها لنشر أمثالها،
فلما قرأناها ظهر لنا ما كان خفي علينا عند سماعها، وأوله افتتاحها بتدقيق البحث
في تاريخ إخراج السيد جمال الدين من مصر واعتقاله في الهند ومجيئه إلى باريس،
فقد أطال فيها بما لم ينشر كله في صحيفة السياسة إذ لم يكن مكتوبًا، وكان هو أول
ما تبرم به السامعون ونكروه فإنهم لم يحضروا لأجل سماع تاريخ السيد في أسفاره
وتحرير القول في تاريخها، ونرى أن نقسم القول في المنار إلى بيان ما ظهر لنا
من غرض الأستاذ الشيخ مصطفى من المحاضرة، فالدفاع عما رمى به السيد جمال
الدين فتُفنَّد مطاعن رينان الجهلية.
الغرض من المحاضرة:
كنا نظن أن الأستاذ الذي درس العلم الإسلامي في الجامع الأزهر، وبعض
العلم الأوربي في باريس أراد - بعد احتفال الجامعة المصرية برينان الذي لم يعرف
في هذه البلاد إلا بما اشتهر من طعنه في الإسلام - أن يقوم بما هو جدير به من
تلخيص رأي رينان في الإسلام وتلخيص رد السيد جمال الدين عليه، والزيادة عليه
بما يَعِنُّ له، وختْم الكلام بخلاصة الموضوع الذي هو (الإسلام مع العلم والفلسفة)
ذلك ما كنا نوده وما كان يظنه الكثيرون.
فكانت خلاصة المحاضرة أن السيد جمال الدين الذي اشتهر في العالم
الإسلامي كله بأنه حكيم الإسلام وموقظ شعوبه والداعية إلى تجديد مجده وإعزاز
دولته بهدي الدين وعدو الإلحاد وصاحب تلك الحملة المنصورة على أهله في رده
على الدهريين - قد كان ما كان من أمره في ذلك محصورًا في حياته قبل أن يذهب
إلى أوربة - بل إلى باريس - وإنما كان الغرض سياسي، وأنه بعد وصوله إلى
مدينة الكفر والإلحاد واجتماعه برينان وأمثاله في أوائل سنة 1883 قد تطور فكره
في أقل من ثلاث سنين، فمرق من الدين، واعتقد أنه عدو للعلم والعقل والمدنية،
حتى إنه قَبِلَ بكل تعظيم وارتياح طعن رينان في الإسلام، وعظَّمه وأثنى عليه من
جرائه أطيب الثناء، على ما سنبينه بالإجمال من بطلانه وسخفه الذي لا يخفى على
طالب علم بله حكيم الإسلام، ومكمل تربية الأستاذ الإمام.
بهذا أجاب الأستاذ الشيخ مصطفى عن المقارنة بين رد السيد على رينان سنة
1883 وبين سائر محرراته حتى رده على الدهريين الذي كتبه سنة 1881 - وهذا
سر ذلك التدقيق التاريخي الذي أشرنا إليه في فاتحة هذه الكلمة، ولكن المعروف من
تاريخ السيد الحكيم، ومن محرراته في سنة 1883 وما بعدها أنه لم يزدد بعد
إقامته في أوربة - وباريس خاصة - إلا استمساكًا بعروة الإسلام الوثقى ودفاعًا عنه
ودعوة إلى النهضة الإسلامية المدنية بهدايته العالية. وخلاصة المحاضرة أن
فليسوفي الشرق والغرب قد اتفقا على إثبات عداوة الدين للعلم والعقل وحرية الفكر
لا فرق بين الإسلام وغيره.
علمنا أن صاحب المحاضرة كان يبحث منذ سنين عن آثار السيد جمال الدين
والشيخ محمد عبده، فهل كل هذا التعب كان لأجل هذه النتيجة المستنبطة من تلك
المقدمات غير المُسَلَّمَة؟
الدفاع عن السيد جمال الدين:
إننا نرى التعارض تامًّا بين هذا الرد الذي استخرجه لنا صاحب هذه
المحاضرة من ترجمة ألمانية عن ترجمة فرنسية لم يرها عن أصل عربي مفقود -
وبين سيرة السيد ومكتوباته وما روى الثقات عنه من أول عمره إلى آخره حيث كان
في الآستانة يختلف إليه العلماء والكتاب والأذكياء الذين لقينا كثيرًا منهم، فأي
الأمرين نُرَجِّح؟
لدينا رجل معروف مشهور، روى لنا عنه آراءه وأفكاره كثير من العلماء
والفضلاء من أقطار مختلفة عاشروه وتلقوا عنه، منهم من توفي كالأستاذ الإمام
والأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان والأستاذ إبراهيم اللقاني الذي كان أقرب الناس
إليه، وألصقهم به وأكثرهم استفادة منه، ومنهم الأحياء كالأستاذ الشيخ بخيت
والأستاذ إبراهيم بك الهلباوي، ومنهم آخرون من أهل سورية والآستانة وغيرها من
الأقطار كالأمير شكيب أرسلان والشيخ طاهر الكيال والشيخ عبد القادر المغربي
وله آثار مخطوطة ومطبوعة في عصره، أشهرها رسالة الرد على الدهريين،
وجريدة العروة الوثقى التي نشرها بباريس سنة 1884.
كل ذلك متفق في تعريف الرجل إلينا أو تعريفنا به، ويعارضه تلخيص
بالعربية عن ترجمة ألمانية لترجمة فرنسية لرده بالعربية على رينان، فيه إبهام
التلخيص واحتمال الخطأ فيه وعدم الثقة بمطابقة الترجمة الألمانية للفرنسية
والترجمة الفرنسية للأصل العربي الذي كتبه السيد ردًّا على رينان، فإذا هو بهذه
الظلمات الثلاث أقرب إلى التأييد منه إلى الرد، والمشهور أنه رد على أننا فهمنا منه
غير ما فهمه صاحب المحاضرة.
فأي هذين الأمرين المتعارضين نُرجح؟ أَفَهْمُنَا المؤَيَّد بالآثار المخطوطات
والمطبوعات وبروايات الثقات الأثبات، أم فهمه المعارَض بكل ما ذكرنا الذي تعلوه
تلك الظلمات الثلاث، إننا نرى أهل الفرق المختلفين في أصول الدين الواحد منهم
على مذهبه بنصوص من كتاب ذلك الدين الإلهي، وكذلك المختلفون في الفروع قد
يرد بعضهم على بعض بنصوص الكتاب وأقوال الرسل عليهم السلام، بل نرى
أهل دين يستدلون بكتاب غير كتابهم على خلاف ما أجمع عليه المؤمنون بذلك
الكتاب، كما ألف بعض دعاة النصرانية كتابًا استدل فيه بآيات من القرآن على أن
التوراة والإنجيل اللذين بأيدي أهل الكتاب حق كما أنزلهما الله وأنه لا تحريف فيهما
ولا تبديل، وأنه يجب العمل بهما بعد الإسلام! !
إننا نجد فيما لخصه الأستاذ صاحب المحاضرة من رد السيد جمال الدين على
رينان جملاً متفرقة تخالف جملاً أخرى منها وتحول دون صحة النتيجة التي
استنبطها من مجموع الرد وقد يؤيدها في ذلك جملة من تلخيص رد رينان على
السيد.
أول ما لخصه من رد السيد قوله:
(تشتمل محاضرة الموسيو رينان على نقطتين أساسيتين، فقد حاول هذا
المفكر العظيم أن يبرهن على أن الديانة الإسلامية كانت بما لها من نشأة خاصة
تناهض العلم وأن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة ولا
للفلسفة.
ويظهر أن الموسيو رينان يقول: إن هذه النبتة الصالحة ذبلت في أيدي
المسلمين كما يذبل النبات تلفحه ريح الصحراء الساخنة.
وإن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها: أَصَدَرَ هذا الشر عن
الديانة الإسلامية نفسها؟ أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت بها الديانة الإسلامية
في العالم ? أم أن أخلاق الشعوب التي اعتنقت هذا الدين أو حُملت على اعتناقه
بالقوة - وعاداتها ومواهبها الطبيعية - هي جميعًا مصدر ذلك؟
ولا ريب [2] أن الوقت المخصص لرينان قد حال دون إجلائه هذه النقطة)
اهـ. بحروفه.
فيؤخذ من هذه الجملة أو الجمل أمور:
(أحدها) أن السيد صرَّح بأن رينان يحاول أن يبرهن على نظريته في
الإسلام، لا أنه برهن، ومعنى (حاوله) طلبه بحيلة كما بيَّنه الزمخشري في أساس
البلاغة، وإنما يلجأ إلى الحيلة العاجز.
(ثانيا) : أنه حاول ذلك بأخذه من نشأة هذا الدين الخاصة وكون العرب
الذين نزل كتابه بلغتهم غير مستعدين للعلم والفلسفة، لا من طبيعته وتعاليمه.
(ثالثها) : أن الإسلام نفسه نبتة صالحة - أو العلوم - فالعبارة محتملة،
وأنها ذبلت في أيدي المسلمين وتصوحت كما يتصوح النبات الغض تلفحه ريح
السَّمُوم.
ومعنى هذا على الوجه الثاني أن العلوم وجدت في عهد الإسلام ثم ذبلت،
وهذا حق، فالتاريخ يشهد أن العرب هم الذين أحيوا العلم والفلسفة بعد أن أخرجهم
الإسلام من أميتهم، وأنها إنما ذبلت بعد ضعف دولهم، ثم جفت ويبست بعد زوال
تلك الدول، وسيأتي تفصيل ذلك.
(رابعها) قوله: إن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها:
أَصَدَرَ هذا الشر عن الديانة الإسلامية نفسها؟ أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت
بها الديانة الإسلامية.. إلخ ما تقدم.
والذي يتفق مع سيرة السيد مجمَلَة ومفصَّلَة - بل الذي نقل عنه صراحة - هو
أن إسلام القرآن أكمل هداية للبشر، وأنه كافل للمدنية الفاضلة التي مات الفلاسفة
والحكماء في حسرة من فقدها وعدم اهتداء السبيل إليها، وأن المسلمين لم يقوموا بكل
ما أرشد إليه الإسلام من كل وجه، وأنهم جَنَوْا على دينهم حتى نَفَّرُوا الناس منه في
القرون الأخيرة، وقد نقلنا في الكلمة العجلى بعض ما روى لنا الثقات عنه في آخر
عمره في الآستانة، أي بعد التطور الذي استنبطه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق
فكان منشأ أغلاطه. ومما يؤثر عنه وسمعه منه الكثيرون: أن القرآن لا يزال بِكْرًا لم
يفسره أحد حق تفسيره، وأن فيه من الهداية ما يناسب كل عصر، وأن المسلمين
أخذوا من هدايته المدنية في كل عصر بقدر استعدادهم وأحوالهم الاجتماعية، ولولا ما
سنشير إليه من الصدمات التاريخية لبلغوا به الكمال المدني كما بلغوا الكمال الديني.
يؤيد فهمنا هذا ما نقله الأستاذ صاحب المحاضرة من رد رينان على السيد جمال الدين
قبل خاتمتها، وهو قوله:
(ويلوح لي أن الشيخ جمال الدين قد زودني بطائفة من الآراء الهامة [3]
تعينني على نظريتي الأساسية وهي أن الإسلام في النصف الأول من وجوده لم
يَحُلْ دون استقرار الحركة العلمية في الأراضي الإسلامية. ولكن في النصف الثاني
خنق الحركة العلمية وهي في حظيرته فكان هذا من سوء حظه) . اهـ.
أضف إلى هذا إطناب السيد في تفنيد رأي رينان في العرب - واستنتِجْ منهما
أنه يعني بالنصف الأول عصر الدولة العربية المحضة قبل تغلب الأعاجم على
خلفاء العرب من ترك وفرس - وبهذا تعلم أن السيد قد هدم محاضرة رينان ونسفها
نسفًا برقة ولطف، كالماء تخلل أساس بناء بني على شفا جرف هار فانهار به،
وإن كل ما وافقه عليه هو أن المسلمين قد وجد منهم - كغيرهم - في نشأة الإسلام
الأعجمية في النصف الثاني من حياته ما خنق الحركة العلمية، فكل ما أسنده إلى
الإسلام موافقًا لرينان يُراد به الإسلام الأعجمي المشوه بالبدع، لا الإسلام العربي
المنصوص في القرآن والسنن، وإلا كان كلامه متناقضًا، ولا وجه لدفع التناقض
الذي يُصَان عنه كلام العقلاء إلا ما ذكرنا.
شرح الشيخ محمد عبده لرد الأفغاني على رينان:
إنني أستطيع أن أشرح لك أيها القاريء هذا الحكم ولكنك غني عن شرحي
بشرح أكبر تلاميذ السيد جمال الدين ومريديه وأعلم الناس بآرائه والمطلع على رده
على رينان بنصه، فهو قد شرح هذا الرد بكتاب حافل، تتزين به الخزائن
والمحافل ألا وهو (كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) .
أورد في هذا الكتاب بضعة من أصول الإسلام هي نصوص جليلة، وبراهين
قطعية، على كونه دين العمل والعقل والمدنية، ثم ذكر خلاصة تاريخية لمؤرخي
الإسلام والإفرنج عن الدول العربية، تثبت أن تلك المدنية الزاهرة وانتشار العلم
والفلسفة كان نتيجة تلك الأصول الإسلامية واستعداد الأمة العربية. ومما نقله من
كلام غوستاف لوبون الفيلسوف المؤرخ الفرنسي فيه: إن العرب أول من علَّم العالَم
كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.
وبعد أن شرح نتائج تلك الأصول فتح بابًا آخر للكلام عنوانه (الإسلام اليوم
أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام) وصف فيه سوء حال المسلمين علمائهم
ودهائهم، وذكر أنه هو الذي حمل رينان على الطعن في الإسلام واتخذه حجة له.
وقد أورد ذلك بصيغة السؤال ثم أجاب عنه بعد أن سماه (جمود المسلمين) جوابًا
بيَّن به أسبابه والمخرَج منه، ومما قاله في أوائل هذا الجواب (والعنوان لنا) :
ضعف الإسلام العربي بتغلب الأعاجم:
انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله: كان
الإسلام دينًا عربيًّا، ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيًّا بعد أن كان يونانيًّا، ثم أخطأ
خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له: ظن أن
الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم وغيرهم من
الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، وبصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج
عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح
له ذلك، هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا) .
(خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخَلَفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه،
أكثر من ذلك الجند الأجنبي، وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو
ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم ! وصارت
الدولة في قبضتهم. ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذبه
الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على
أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في
خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار
وغيرهم، ومنهم من تولى أمره) .
(أي عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح
سيرهم، فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله،
وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء،
وأن يتسربلوا بسرابيله، ليعدوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يُبَغِّض
إليهم العلم ويبعد بهم عن طلبه، ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية
الدين: زعموا الدين ناقصًا ليكملوه، أو مريضا ليعللوه، أو متداعيًا ليدعموه، أو
يكاد أن يَنْقَضَّ ليقيموه) .
(نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم
من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه، لكنهم نجحوا في
إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم،
وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة
الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرَّق الجماعة وأركس الناس في الضلالة،
وقرروا أن المتأخر، ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة
حتى يقف الفكر وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية
ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون
العامة. وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو ما فرض فيه النظر على
الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا
يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال ليس من صنع الحكام،
وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في
إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله وما على المسلم إلا أن
يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم
على ذلك وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام، وقد
انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاوَنَ ولاةُ الشر على مساعدتهم في
جميع الأطراف واتخذوا من عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلا للأيدي عن العمل.
والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف
البصيرة في الدين وموافقة الهوى، أمور إذا اجتمعت أهلكت، فاستتر الحق تحت
ظلال الباطل ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها
على خط مستقيم كما يقال.
هذه السياسة - سياسة الظلمة وأهل الأثرة - هي التي روجت ما أدخل على
الدين مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السموات، وأخلدت
به إلى يأس يجاور به العجماوات، فجُلُّ ما تراه الآن مما نسميه إسلامًا فهو ليس
بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال
قليلاً منها حُرِّفَت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع
والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدُّوه دينًا، نعوذ بالله منهم ومما يفترون على
الله ودينه، فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر
سموه إسلامًا والقرآن شاهد صادق: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) يشهد بأنهم كاذبون وأنهم عنه لاهون
وعما جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود، ونثبت أنه علة
لا بد أن تزول اهـ. المراد منه هنا.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تساءل الناس في الجرائد عن هؤلاء الأفراد وهم غير محصورين، وليس لنا أن نطعن في تدين فرد معين منهم إلا بدليل لا يحتمل التأويل، والمحاضرة التي نرد عليها ليست كذلك، على ضررها في هذا الباب وتأييدها لهؤلاء الأفراد.
(2) الظاهر أن هذه الجملة استئناف بياني، فواو العطف في أولها غلط.
(3) المنار: الصواب (المهمة) فإن المهم ما يهتم به الإنسان، والهام المذنب، ومن سجع الأساس: أهمه حتى همه.(24/303)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسائل الطعن في الوهابية
كان السلطان عبد الحميد يخاف عاقبة نهضة العرب الدينية في نجد؛ إذ كان
يعتقد هو وبعض أركان دولته أن العرب لا تجتمع لهم كلمة ولا تقوم لهم دولة إلا
بدعوة دينية كما قرَّره حكيمهم ابن خلدون في مقدمته - فكان يغري بعض أمرائهم
ببعض كإغراء آل رشيد بآل سعود وكان المنافقون من المُعَمَّمِينَ يتقربون إلى
حكومته بالطعن في الوهابية ويزعمون أنهم يخدمون بذلك الدين وينصرون السنة،
ولكننا لم نر أحدًا من هؤلاء المنافقين نصر الدين بالرد على الملاحدة ولا على دعاة
النصرانية الذين يطعنون في أصل الإسلام وكتابه ورسوله لتنصير المسلمين، وكان
بعض حشوية الشام المُتَمَلقين أشد الناس إسرافًا في الطعن في الوهابية فلا يكادون
يُذكرون في كل البلاد العثمانية بقدر ما يذكرون في دمشق وحدها.
وقد خفت هذه الوطأة في السنين الأخيرة ثم اشتدت بعد أن استقرت إمارة عبد الله
ابن الملك حسين في شرق الأردن وشاع أن الوهابية سيزحفون للاستيلاء على هذه
المنطقة لانتزاعها من السلطة الحجازية البريطانية، وكان بعض الجرائد المسيحية
في دمشق والقدس أول ميادين هذه الحملة، فأصحابها النصارى يطعنون في
الوهابية ويفضلون أمراء الحجاز على أمراء نجد من طريق السياسة، بل ذكرت
جريدة (لسان العرب) التي تأخذ راتبًا شهريًّا من الأمير عبد الله، ومنحتها جريدة
القبلة الحجازية لقب (لسان أقوامنا) أنه يجب على النصارى في سورية وفلسطين
تأييد الملك حسين وأولاده؛ لأن حكومتهم مدنية لا إسلامية بخلاف حكومة نجد فإنها
إسلامية دينية متعصبة. وقد فتحوا أبواب صحفهم لكل من يطعن في الوهابية من
المسلمين طعنًا دينيًّا بحتًا لأجل هذه الغاية السياسية.
وفي هذه الأثناء جاءتنا عدة رسائل من دمشق ورسالة من بيروت في الطعن
في الوهابية كُتِبَ على ظهر بعضها أنها (تُوَزَّع مجانًا وقفًا لله تعالى) وعلى
البعض الآخر (توزع مجانًا في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وغير
معهود من أصحابها هذا السخاء في نشر العلم والدين! .
لم يرسل إلينا هذه الرسائل مؤلفوها، بل أرسلها بعض أهل العلم والدين لنرد
عليها، وقد تصفحنا أوراقًا من كل منها من أولها وآخرها فلم نر شيئًا منها يستحق
أن يكرم بالرد؛ لأنهم يقولون زورًا ويخلقون أفكارًا ويردون عليها كما يردون بعض
الحق بمحض الجهل وتقليد العوام ومجاراتهم وجعل البدع الفاشية فيهم سننًا مجمعًا
عليها، بل ذكروا في رسائلهم من الأحاديث الموضوعة والآثار المصنوعة والكذب
على السلف الصالح والأئمة ما يعد معه الكذب على الشيخ محمد عبد الوهاب وأهل
نجد أمرًا هينًا؛ فإن كذبًا عليه صلى الله عليه وسلم ليس ككذب على غيره، فمن كذب
عليه متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، كما تواتر عنه عليه صلوات الله وسلامه. على
أن بعض علماء دمشق الأثريين قد ردوا عليهم برسائل فضحوا بها ما ستروا ولقفوا
ما لفقوا.
فمن هذه الرسائل ثلاث لرجل في دمشق يدعي الشيخ عبد القادر الكيلاني
الإسكندراني لقيته في دمشق غير مرة فأوهمني أنه يكره الحشو والبدع ويحب
الإصلاح. وما كنت أظن فيه أن يكتب أمثال هذه الرسائل، ولكنها هي أدل على
حقيقة حاله مما تراءى لي منه.
(ومنها) رسالة لرجل عامي لا ندري أهو من طائفة المعممين أم من غيرهم
اسمه محمد توفيق السويقة، وقد كتب عليها أنها الرسالة الأولى.
(ومنها) رسالة للشيخ محمد جميل الشظي الحنبلي سماها (الوسيط بين
الإفراط والتفريط) نصب فيها نفسه حكمًا بين الوهابية وغلاة خصومهم، وكنا نظن
أنه يحكم عن علم، ويلتزم الحق فلا يجور في الحكم، فإذا هو خصم أي خصم،
نقل عنهم ما ليس عندهم، ولبَّس الحق بالباطل، ولم يميز بين الأواخر والأوائل،
بل جعل الخلف الطالح، كالسلف الصالح، وأيَّدهم في بعض المواضع من حيث لا
يدري بل في سياق الرد عليهم، واعتمد في هذا الرد على كلام أعدائهم ومقلدة
أعدائهم.
رد على هذه الرسائل الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري، والشيخ أبو اليسار
الدمشقي، فأتيا بما يكفي دافعًا لمفترياتها، ومزيلاً لشبهاتها، وإن لم يستقصيا جميع
ضلالاتها، وردهما عليها رد على رسالة الشيخ مصباح شبقلو البيروتي.
فإن كل الذين يردون على الوهابية يستمدون الافتراء عليهم من مصدر واحد
كما أن مصدر مادتهم العلمية والدينية واحد هو التقليد لمتأخري مقلدة الحشوية
وبدعهم، فلا تحري في النقل، ولا استقلال في الفهم، ولا رسوخ في شيء من
العلم، وأنَّى والعلم الذي فرضه الله على كل مسلم محرم عندهم؛ لأنه يدخل في مفهوم
الاجتهاد الذي أقفل بابه بعض شيوخ مشايخهم، وشرعوا للناس تقليد المجتهدين بدلاً
منه، ثم شرع آخرون لهم تقليد المقلدين، وجميع من ينسب إلى مذاهبهم من الميتين
إلى خمس طبقات مرتبة في خمس دركات على أنهم يستدلون فيجتهدون لتأييد التقليد؛
لأن الاجتهاد المحرم عندهم ما يطلب به الحق لذاته؛ ولذلك يحتجون بالأحاديث
الموضوعة أو المفتراة حديثًا لأن مشايخهم ذكروها، ولا يعلم الفريقان أن المحدثين
أنكروها أو لم يثبتوها، والتمييز بين الأحاديث الصحيحة والباطلة من شروط العلم
المحرم عندهم، وإن لنا كلمة فاصلة فيهم وفي بيان عقائد الوهابية سَيَرَوْنَهَا في جزء
آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(24/318)
رمضان - 1341هـ
مايو - 1923م(24/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة وبحث
في الفتوى الأولى من فتاوى هذا المجلد - 24
وموضوعها: استعمال الذهب والفضة
(11) لصاحب الإمضاء بدار سعد (لحج) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل والفضيلة السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار، حفظه الله، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على
الدوام؛ سيدي: اطلعت على فتواكم الشريفة في استعمال آنية الذهب والفضة الصادرة
في الجزء الأول من المجلد 24 من مجلتكم المنار الغراء، وهي لعمري فتوى نفيسة
فيها توسيع وتيسير على كثير من المسلمين الذي ابتلوا باستعمال هذين النقدين في
الأسلحة والأواني والساعات والخواتم وغير ذلك، وفي دين الله سعة، وفي الحنيفية
السمحة والمحجة البيضاء ما يسع الخلق تفريجًا ومرحمة، وبحسب المؤمنين قوله
تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) وقوله تعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (الأعراف: 32) وقوله تعالى: {إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ} (الأعراف: 33) الآيات.
ولكن المحتاط لدينه لا بد له من برهان وحجة قاطعة تقابل النصوص وتدفع
اعتقاده الذي قد رسخ في يقينه، وأصبح من أجزاء دينه التي لا يمكنه فصل بعضها
عن بعض، وها أنا ذا أتطفل عليكم وأستزيدكم بيانًا لما كتبتموه واقفًا موقف السائل
المستفيد ولا شأن لي في الاعتراض وإنما أتطلب الحقيقة.
بنيتم - سيدي - فتواكم على ما ذهب إليه الإمام داود ومن وافقه من منع
القياس، وقد علمتم أن جمهور الأمة آخذ بالقياس، وأن داود أيضًا ممن يأخذ بالجَلِيِّ
منه. وقلتم في تعليلهم بالخيلاء وكسر نفوس الفقراء ما هو الحق، ولكن الأصح
عندهم أن العلة هي العين مع شرط الخيلاء، وفرق بين العلل.
نعم - سيدي - علمنا من مذاهب جمهور الأمة الإسلامية تحريم الاستعمال
للآنية في الأكل والشرب بالنص وغيرها بالقياس عليها، وقالت طائفة بالحل
والإباحة مطلقًا، وقالت أخرى بتحريم ما جاء به النص فقط، ومنهم داود، وقال
الشافعي في مذهبه القديم بالكراهة للتنزيه.
ثم وجدنا ابن المنذر نقل الإجماع ووجدنا الإمام النووي أيضًا ناقلاً له مع قول
ابن المنذر: إن المخالف معاوية بن قرة، وقول الشافعي في القديم، ومع قول
النووي: إن المخالف داود وأصحابه ممن ينفي القياس وإسقاطه لهذا القول، ونقله عن
الأصحاب أنهم لا يعتبرون خلاف من لم يقل بالقياس وإسقاطه لمذهب الشافعي القديم
وكونه غير مذهب له الآن.
فهل نقل الأفراد للإجماع مقبول أو مردود، وإذا رُدَّ فمِن أين نعلم الإجماع،
وهل قولهم بالإجماع يُحْمَل على الإجماع الصحيح المقبول الذي هو حجة، أو يُحْمَل
على كونه وقع بعد الخلاف وموت أهله أم ماذا نقول؟ وهل تقولون بحجية الإجماع؟
وهل هو واقع في الماضي وممكن الوقوع في الحال والاستقبال أم لا؟ وقد نقل
النووي أيضًا الإجماع على تحريم خاتم الذهب مع وجود الخلاف وصحة كون
جماعة من الصحابة ومن العشرة قد لبسوه حتى راوي حديث النهي عنه، والقول
فيه كسابقه، أفيدوا عافاكم الله.
وإذا أسقطتم هذا الإجماع فما قولكم في حديث الذهب والحرير (هذان حرامان
على ذكور أمتي حلال لإناثها) وحديث: (من لبس الذهب في الدنيا لا يلبسه في
الجنة) أو كما قال، تفضلوا بالبيان الشافي وإظهار الحجة الساطعة في ذلك، لا
عدمكم المسلمون، ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... الأمير: بدار سعد (لحج)
وأفيدونا عافاكم الله عن حديث النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا أو كما قال،
وعن حديث سيف رسول الله الذي تقلده يوم فتح مكة، وهو محلى بالذهب، وعن
إلباسه للبراء خاتم الذهب، وهو راوي حديث النهي عنه ويقول: ألبسنيه رسول
الله، ولماذا لبسه سعد بن أبي وقاص وطلحة وأسيد بن حضير وصهيب وحذيفة
وخباب وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، هل يجوز أن يقال: إنه لم يبلغهم
النهي، أم نقول: إنهم حملوا النهي على التنزيه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا، فقد وقع
هنا سوء ظن لمخالفة إجماع المذاهب، حفظكم الله.
(المنار)
إننا أوجزنا في هذه الفتوى؛ لأنه سبق لنا تفصيل المسألة في الفتوى 57 من
المجلد السابع وغيرها، ولو اطلع عليها السائل لاستغنى بها عن أكثر هذه المسائل.
ولو أردنا أن نعيد كل ما حقَّقناه من المسائل في المنار كلما تكرر السؤال عنه ممن
يتجدد من المشتركين لكثر التكرار فيه حتى يمله أكثر القارئين له.
ومن مسائل تلك الفتوى (1) بيان ضعف حديث: (أحل الذهب والحرير
للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) وتخطئة الترمذي في تصحيحه.
(2) إعلال حديث (إن هذين حرام على ذكور أمتي) ... إلخ.
(3) أن حديث معاوية في النهي (عن لبس الذهب إلا مقطعًا) في إسناده
سليمان القناد فيه مقال، وبقية رجاله ثقات، ورواه أبو داود بسند آخر فيه بقية بن
الوليد وفيه مقال أيضًا.
(4) أن حديث علي (نهاني رسول الله عن التختم بالذهب) ... إلخ، رواه
أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وفي رواية فيه: (ولا أقول نهاكم)
وهي كما قيل قاضية على رواية (نهى) .
(5) أن الذي ثبت في الصحاح هو النهي عن الأكل والشرب في صحاف
الذهب والفضة وأوانيهما مع الوعيد الدالّ على التحريم، وكذا التختم بالذهب.
(6) اختلاف السلف والخلف في المسألة ومسألة الحرير.
(7) اختلاف النصوص وآراء العلماء في علة النهي والتحريم، وقد استغرق
هذا وحده صفحتين من الفتوى وسيذكر بعضه فيما يأتي. وهاك تلخيص الكلام في
الحرير والذهب والفضة من خاتمة تلك الفتوى وهو:
(والجملة أن نص الشارع صريح في النهي عن الحرير الخالص إلا لحاجة
لُبْسًا وجلوسًا عليه، وأباح أنس وابن عباس الجلوس عليه. وقال الفقهاء أي بلا
حائل، فإن كان هنالك حائل كالنسيج الأبيض الذي يوضع على الكراسي والأرائك
فلا بأس عندهم، وعن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، والتختم بالذهب
على ما فيه، وإن بعض الفقهاء حملوا ذلك النهي على الكراهة دون التحريم
والجماهير حملوه على التحريم، وإن داود خصَّه بالشرب - وأكثر المحدثين بالأكل
والشرب - وعامة الفقهاء حرموا كل استعمال إلا نحو ضبة يصلح بها إناء. وأن
الاحتياط أن يجتنب المسلم ما ورد به النهي الصريح ويراعي المصلحة فيما وراء
ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص، والله أعلم) .
وبقي هنا أسئلة نجيب عنها بالإيجاز:
(1) حديث (من لبس الذهب في الدنيا لا يلبسه في الجنة) أخطأ السائل في
لفظه، فإنما ورد بهذا اللفظ في الحرير مع ذكر الآخرة بدل الجنة، وهو في
الصحيحين وغيرهما، والمراد به الحرير الخالص وهو مُقَيَّد بما لا تمس إليه
الحاجة جمعًا بين الروايات الصحيحة، ومنها: إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبد
الرحمن بن عوف والزبير بلبسه لحَكَّةٍ كانت بهما. رواه الشيخان بل الجماعة كلهم،
وروى أبو داود لُبْسَهُ عن عشرين من الصحابة.
وأما حديث لبس الذهب فقد أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر مرفوعًا
بلفظ (من مات من أمتي وهو يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة) الحديث،
ولم أر لفقهاء الحديث الذين حصروا التحريم في الصِّحَاف والآنية والخواتيم كلامًا
في هذا الحديث، وما ذلك إلا لأنهم لم يَرَوْهُ صالحًا للاحتجاج فإنهم يأخذون بكل ما
يحتج به، وليسوا كمقلدة المذاهب الذي يأخذون بما وافق مذاهبهم ويردون غيره أو
يسكتون عنه. ولم يحتج به من رأينا كتبهم من فقهاء الحنابلة حتى المغني والشرح
الكبير للمقنع، ولكن ذكره الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه، وسيأتي ما يؤيد إعلاله.
(2) حديث النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا أشرنا إلى ضعفه في خلاصة
فتوى المجلد السابع، وذلك أن صالح ابن الإمام أحمد قال عن أبيه: إن ميمون
القناد روى هذا الحديث ولا يصح، ووثقه ابن حبان ورواه أبو داود من طريق بقية
ابن الوليد وهو صدوق إلا أنه كثير التدليس عن الضعفاء، ولفظه عن معاوية: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعًا،
والنمار والنمور جمع نمر، وفيه حذف مضاف فإنما النهي عن استعمال جلودها
بوضعها على الرَّحل، وعللوه بالخيلاء وبأنه زي العجم، ومعنى المقطع ما جعل
قِطَعًا كحلي النساء، وما يُجْعَل في سيف الرجل، كذا فسروه، قال في نيل الأوطار:
قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: والمراد بالنهي: الذهب الكثير لا
المقطع قطعًا يسيرة منه تجعل حلقة أو قُرْطًا أو خاتمًا للنساء أو في سيف الرجل،
وكُره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والتكبر، وقد يضبط الكثير
منه بما كان نصابًا تجب فيه الزكاة (أي 20 مثقالاً) واليسير بما لا تجب فيه
(انتهى) وقد ذكر مثل هذا الكلام الخطابي في المعالم، ولعل هذا الاستثناء خاص
بالنساء، قال: لأن جنس الذهب ليس بمحرَّم عليهن كما حرم على الرجال قليله
وكثيره اهـ. وقوله هذا مراد به تأييد مذهبه وحمل الحديث عليه كدأب المقلدين.
وقد أباح قليل الذهب بعض المصنفين في فقه المذاهب. قال أبو القاسم
الخرقي من قدماء أئمة الحنابلة في مختصره المشهور: ويكره أن يتوضأ بآنية
الذهب والفضة، فإن فعل كره. اهـ. وحمل الشارح في المغني الكراهة على
التحريم ثم قال في اختلاف الأئمة في الضبة الكبيرة وتعليل التحريم بالإسراف
والخيلاء: إذا ثبت هذا فاختلف أصحابنا فقال أبو بكر: يباح اليسير من الذهب
والفضة لما ذكرنا. وأكثر أصحابنا على أنه لا يباح اليسير من الذهب ولا يباح إلا
ما دعت إليه الحاجة كأنف الذهب وما يربط به أسنانه ... إلخ.
(3) السؤال عن إلباس النبي صلى الله عليه وسلم البراء خاتم الذهب. ومن
لبسه غيره من الصحابة، هل يجوز أن يقال: إنه لم يبلغهم النهي أم نقول: إنهم
حملوا النهي على التنزيه؟ أقول: حديث البراء أسنده البخاري في عدة أبواب
اختلفت ألفاظها بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان ولفظه في كتاب اللباس: نهانا
النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: عن خاتم الذهب - أو قال: حلقة الذهب -
والحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقسي، وآنية الفضة ...
إلخ. وقد ذكر الحافظ في شرحه من الفتح ما نصه: وقد جاء عن جماعة من
الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن
أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب
وذكر ستة أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة
وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه من طريق حمزة بن أبي أسيد: (نزعنا من
يدي أبي أسيد خاتمًا من ذهب) . وأغرب ما جاء في ذلك عن البراء الذي روى
النهي فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: رأيت على البراء
خاتمًا من ذهب. وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في الجعديات،
وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب فقال:
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فألبسنيه فقال: (البس ما كساك الله
ورسوله) قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. (قلت) : لو
ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رُوِيَ حديث
النهي المتَّفَق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون على التنزيه
أو فهم الخصوصية له من قوله: (البس ما كساك الله ورسوله) وهذا أولى من قول
الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي. ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد:
كان الناس يقولون للبراء: لِمَ تتختم بالذهب، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ فيذكر لهم هذا الحديث ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (البس ما كساك الله ورسوله) اهـ.
فعلم من هذا أن أجوبة العلماء عن التعارض بين رواية البراء وعمله ثلاثة:
(أحدها) أن لبسه للخاتم كان قبل التحريم فهو منسوخ، وأدنى ما يُرَدُّ به هذا
القول إلى الأدب في التعبير أنه قيل عن غفلة، فإن الروايات في لبس البراء
للذهب صريحة في أنه كان بعد النهي، بل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
فإن كان هنالك نسخ، فالمنسوخ هو تحريم الذهب لا إباحته.
(ثانيها) الخصوصية، وهو ضعيف بل باطل أيضًا، لا لقولهم: (إن
الخصوصية خلاف الأصل) فقط؛ بل لأن الحلال والحرام لا تثبت فيه خصوصية
للأفراد لذواتهم، وإنما تُنَاط الرُّخَص بأسبابٍ تقتضيها، وليس هذا الموضع بالذي
يتسع لشرح هذه المسألة.
(ثالثها) اعتقاد أن النهي للكراهة وهو أقربها، ولكن فيه أن بعض أحاديث
النهي تتضمن الوعيد، وهو لا يكون إلا على المحرم، ويجاب بأن حديث البراء
المتفق عليه ليس فيه وعيد، ولو ثبت الوعيد عنده أو عند غيره من أكابر الصحابة
الذين روي عنهم التختم بالذهب لما لبسه أحد منهم، ومن المُسْتَبْعَد أن يخفى عليهم،
ويجوز أن يكون الوعيد عندهم مقيَّدًا بقيد كالإسراف أو الخيلاء مما لا ينطبق عليهم.
هذا، وإن حديث البراء وحديث علي رضي الله عنه في النهي يشتملان على
النهي عن لبس القسي (بفتح القاف وتشديد السين والياء) من الثياب - وهي ثياب
مصرية فيها شيء من الحرير - وعن المَيَاثِر الحمراء أو من جلود السباع أو مطلقًا
جمع ميثرة بالكسر، وهي حشايا صغيرة كان النساء يَصْنَعْنَهَا للرجال فتوضع على
سرج الفرس أو رحل البعير، وكُنَّ يَصْنَعْنَهَا من الأرجوان الأحمر أو جلود السباع
أو الديباج، وقد سبق إليها العجم فكان مما علل به النهي عنها تقليدهم والتشبه بهم،
وهو سبب عارض، وفي تحريمها خلاف بين الفقهاء أقواه أنَّ النهي يكون للتحريم
إذا كانت حريرًا خالصًا أو أكثرها من الحرير. وللتنزيه إذا لم تكن كذلك، على أنه
صح النهي عن الأحمر مطلقًا وعن جلود النمور، وفي تحريمهما خلاف مشهور.
(4) نقل النووي وابن المنذر الإجماع على ما ذكره السائل غير صحيح،
ونكتفي في بيانه والجواب عنه بما قاله أهل الرواية من فقهاء الحديث الواسعي
الاطلاع المستقلي الفكر: قال القاضي الشوكاني في نيل الأوطار ما نصه:
قال النووي: قال أصحابنا انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر
الاستعمالات في إناء ذهب أو فضة إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط،
ولعله لم يبلغه حديث تحريم الأكل وقول قديم للشافعي والعراقيين، فقال بالكراهة دون
التحريم وقد رجع عنه، وتأوله أيضًا صاحب التقريب، ولم يحمله على ظاهره،
فثبتت صحة دعوى الإجماع على ذلك، وقد نقل الإجماع أيضًا ابن المنذر على
تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة.
وقد أجيب من جهة القائلين بالكراهة عن الحديث بأنه للتزهيد بدليل: (إنها
لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ورد بحديث: (فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم)
وهو وعيد شديد، ولا يكون إلا على محرم. ولا شك أن أحاديث الباب تدل على
تحريم الأكل والشرب، وأما سائر الاستعمالات فلا. والقياس على الأكل والشرب
قياس مع فارق، فإن علة النهي عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة حيث
يطاف عليهم بآنية من فضة، وذلك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه صلى الله عليه
وسلم لما رأى رجلاً مُتَخَتِّمًا بخاتم من ذهب فقال: (ما لي أرى عليك حلية أهل
الجنة) أخرجه الثلاثة من حديث بريدة وكذلك في الحرير وغيره، والإلزام تحريم
التحلي بالحلي والافتراش للحرير؛ لأن ذلك استعمال، وقد جَوَّزَه البعض من القائلين
بتحريم الاستعمال.
وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال فلا تتم مع مخالفة داود
والشافعي وبعض أصحابه وقد اقتصر الإمام المهدي في (البحر) على نسبة ذلك إلى
أكثر الأمة على أنه لا يخفى على المُنْصِف ما في حُجِّيَّة الإجماع من النزاع
والإشكالات التي لا مخلص عنها. والحاصل أن الأصل الحل فلا نثبت الحرمة إلا
بدليل يسلمه الخصم ولا دليل في المقام بهذه الصفة، فالوقوف على ذلك الأصل
المعتضد بالبراءة الأصلية هو وظيفة المنصف الذي لم يخبط بسوط هيبة الجمهور
ولا سيما وقد أيَّد هذا الأصل حديث: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا)
أخرجه أحمد وأبو داود.
ويشهد له ما سلف وأن أم سلمة جاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضخضت - الحديث في البخاري وقد سبق - وقد
قيل: إن العلة في التحريم الخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء؛ يرد عليه جواز
استعمال الأواني من الجواهر النفيسة وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة،
ولم يمنعها إلا مَن شذَّ، وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماعَ على الجواز وتبعه
الرافعي ومَن بعده، وقيل: العلة التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد
لفاعله ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. وأما اتخاذ الأواني بدون استعمال فذهب
الجمهور إلى منعه، ورخصت فيه طائفة اهـ.
وقال الحافظ محمد بن إسماعيل الأمير في (سبل السلام شرح بلوغ المرام)
بعد ذكر الإجماع على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصِحافهما ما
نصه (وأما غيرهما من سائر الاستعمالات ففيها الخلاف - قيل: لا تحرُم لأن النص
لم يرد إلا في الأكل والشرب، وقيل: تحرم سائر الاستعمالات إجماعًا، ونازع في
الأخير بعض المتأخرين وقال: النص ورد في الأكل والشرب لا غير، وإلحاق
سائر الاستعمالات قياسًا لا تتم فيه شرائط القياس. والحق ما ذهب إليه القائل بعدم
تحريم غير الأكل والشرب فيها؛ إذ هو الثابت بالنص، ودعوى الإجماع غير
صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره فإنه ورد بتحريم الأكل والشرب
فقط، فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال، وهجروا العبارة النبوية وجاءوا بلفظ عام
من تلقاء أنفسهم، ولها نظائر في عباراتهم. اهـ. المراد منه.
فأنت ترى أنه أنكر صحة الإجماع، ولو لم يكن من دليله إلا ما تقدم عن
الصحابة رضي الله عنهم لكفى، وأنكر صحة القياس هنا ولا ينكر كل قياس،
وهو قياس في مسألة فيها نص، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم بيان تحريم
كل استعمال لصرَّح به، وهو إنما صرَّح ببعض الاستعمال فصدق على الباقي قوله:
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) .
وقد لخَّص الحافظ ابن حجر الأقوال في المسألة في الفتح فقال في آخر شرحه
لأحاديث النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة والتختم بالذهب وتعليله
ما نصه:
وفي هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل
مكلف رجلاً كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي
أبيح لهن في شيء. قال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب
والفضة في الأكل والشرب ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر
وجوه الاستعمال، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقًا،
ومنهم مَن قَصَرَ التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب؛ لأنه
لم يقف على الزيادة في الأكل اهـ. المراد منه، وهو صريح في عدم الإجماع.
وقد أطال بعده في سرد ما عللوا به النهي والبحث فيه، فإن قيل: لا يَبْعُدُ أن يكون
الإجماع قد وقع بعد ما ذكر من الخلاف، قلنا: إن هذا احتمال أرادوا به تصحيح
قول من ادعاه، ولا يصح أن يجعل الاحتمال دليلاً، وفي حُجِّيَّة إجماع غير
الصحابة، وفي إمكانه ثم إمكان العلم به ما فيه من الخلاف، بل يصح أن يقال:
إن كون تحريم الاستعمال قول الجمهور، فيه نظر، فإنه غير منقول عن كثير من
علماء السلف الذين يُعْتَدُّ بعلمهم، وإنما قبلت هذه الأقوال بعد فشو التقليد فصار ما
عليه المقلدون الكثيرون يشتبه بما عليه الأئمة الكثيرون، وإن كانت كثرة المقلدين
كقلتهم باتفاق علماء الأصول، فأخذ زهاء مئتي مليون من حنفية هذا الزمان بقول
أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن رفع اليدين عند الركوع والقيام منه مكروه مثلاً،
لا يخرجه عن كونه قول فرد أو أفراد. ولا يلحقه بقول الجمهور لكثرتهم، بل جمهور
العلماء المجتهدين من سلف الأمة وقدوتها على سنية الرفع، ورواه البخاري عن
خمسين من الصحابة. بل لو خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم
سائر علماء عصرهم فهم ومن قبلهم سواء في المسألة، أعني أنه لا يقال: إنها مذهب
جمهور الأمة بأخذ ثلاثمائة مليون من اتباعهم بها، فإن هؤلاء الملايين ليس لهم قول؛
لأنهم مقلدون لغيرهم لا مستدلون، ولكن بعض أتباع هؤلاء الأئمة صاروا يسمون
اتفاقهم إجماعًا، وألفوا في ذلك كتبًا جمعوا فيها ما اشتهر من هذا الاتفاق، على أنه
غير حجة في الدين باتفاق علماء الأصول كما يأتي، بل من المؤلفين من يطلق كلمة
الإجماع على اتفاق علماء مذهبه، وقد يتوهم هؤلاء وأولئك أن ذلك هو الإجماع الذي
جُعل حجة لعدم علمهم بالمخالف، ولا غرو فأقل المقلدين مَن له اطلاع على أقوال
سلف الأمة وأئمتها المخالفين لمذهبه.
(5) السؤال عما يعرف به الإجماع، وجوابه أنه يعرف بالنقل الذي لا
مُعَارِض له، وكان العلم بالإجماع من أشق الأمور في العصر الأول، ويكاد يكون
من المتعذر بعده، بل قال بعضهم: إنه متعذر حتى الإجماع السكوتي المُخْتَلف فيه،
ولهذا كثر خطأ الذين حاولوا ضبط ما عرفوه من مسائله كابن المنذر وابن حزم
ولدينا رسالة لابن تيمية في تخطئة ابن حزم في كثير مما نقل الإجماع عليه. وأما
تحقيق الحق في مسألة حجية الإجماع فقد فصلناه في تفسير {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) [1] فلا نُفْرِدُ لها بحثًا هنا.
(6) قول السائل: إننا بنينا فتوانا على ما ذهب إليه داود ومن وافقه من منع
القياس. فهو سهو منه يظهر له بمراجعة الفتوى، وإنما بنيناها على نص القرآن
وقاعدة البراءة الأصلية وحديث (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا
عنها) وما في معناه، وتخصيص القياس بما عدا الزيادة في العبادات والتحريم
الديني المحض، وهذا مذهب المحققين من فقهاء الحديث وغيرهم.
وقد حققنا مسألة الاحتجاج به واختلاف أهل الحديث وأهل الرأي فيه حيث
حققنا مسألة الإجماع كما بيناه آنفًا، فيراجع هنالك فإنه طويل ونفيس جدًّا.
(7) قوله: فقد وقع هنا سوء ظن لمخالف إجماع المذاهب. نقول: ما هذه
المذاهب التي أساءوا الظن بمن ينقل ما خالفها؟ الظاهر أنهم يعنون مذاهب أئمة
الفقه الأربعة الذين ينتمي إليهم أكثر مقلدة المسلمين السنيين: أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، فإن كانوا يسيئون الظن بمن ينقل ما
يخالف أقوالهم وأقوال أتباعهم، فسوء ظنهم هذا يتناول أساطين علماء الإسلام
الأعلام من المفسرين والمحدثين والمتكلمين والأصوليين، وإن كانوا يسيئون الظن
بمن يخالف مذاهبهم في العمل فهم يسيئون الظن بكل المجتهدين في زمنهم ومن
بعدهم، ويشرعون للناس حجية إجماعهم، وهذا شرع لم يأذن به الله، ولم يقل به
أحد من علماء الأصول المنتمين إليهم ولا من غيرهم؛ بل جمهور هؤلاء
الأصوليين يشترطون في الإجماع اتفاق المجتهدين في عصر من الأعصار، حتى
إنهم منعوا الاحتجاج بإجماع الخلفاء الأربعة مع ما ورد في الحديث من جعل سنتهم
كسنته صلى الله عليه وسلم، وإجماع أئمة آل البيت مع ما ورد من حديث الثقلين
وغيره، وإجماع أهل المدينة في عصر التابعين وتابعيهم الذي جرى عليه الإمام
مالك. فهل يقولون بحجية إجماع أربعة من المجتهدين كان عدد المجتهدين في
عصرهم غير محصور، وجميع هؤلاء الأصوليين يقولون - بالتبع لأئمة السلف -
كلهم بوجوب اتباع الدليل وتحريم التقليد ورد كل قول أحد يخالف نص الكتاب
والسنة، وهذا منقول عن الأئمة الأربعة نقلاً لا نزاع فيه فهو مما أجمعوا عليه، بل
نقل ابن حزم الإجماع العام على النهي عن التقليد، وإنما أباح التقليد المقلدون وأولوا
كلام أئمتهم في بطلانه، واشترطوا فيه العجز عن معرفة الدليل ولو في بعض المسائل
دون بعض، واختلف هؤلاء في التزام مذهب معين، ورجَّح ابن برهان والنووي عدم
الالتزام، واحتجوا بما كان عليه عوام السلف من الصحابة والتابعين. وقال التاج
السبكي في أواخر كتابه (جمع الجوامع) في الأصول الذي هو عمدة الأزهر وسائر
المعاهد الدينية بمصر: وإن الشافعي ومالكًا وأبا حنيفة وأحمد والأوزاعي وإسحاق
وداود وسائر أئمة المسلمين على هدًى من ربهم.
وليعلم مَن يسيء الظن ومَن يحسنه من أهل بلادكم أن المنار منار الإسلام لا
منار مذهب معين من المذاهب المتبعة، وأنه يحترم ويعظم جميع الأئمة ويخدم
الإسلام بنحو ما كانوا يخدمونه به، وهو بيان كتاب الله وسنة رسوله وسيرة سلفه
الصالح مع الدعوة إلى الاهتداء بذلك في هذا العصر في أمري الدين والدنيا، ومن
ذلك ذكر كل حكم بدليله. ويعتمد في الاستدلال على أشهر كتب التفسير والسنة
وشروحها المعتبرة، ويتحري بذلك إفادة جميع المسلمين وجمع كلمتهم، وإزالة ما
شجر من الخلاف والشقاق بينهم، ويرى أن اتباعهم لأولئك الأئمة يساعد على ذلك
دون اتباع كثير من المقلديد المتأخرين المفرقين.
وليعلم هؤلاء أيضًا أن كثيرًا من هذه الكتب المنتشرة المنسوبة إلى أناس
يصفون أنفسهم بالشافعي والحنفي إلخ، محشوة بالخرافات والأحاديث الموضوعة
والأقوال المخالفة لأحوال الأئمة ونصوصهم، ونحن - بحمد الله وتوفيقه - قد اتبعنا
الأئمة كلهم بالتزام ذكر الأحكام بأدلتها من غير تعصب لأحد من العلماء في المسائل
الخلافية، وإننا ننصح لكل أحد بأن يحتاط لنفسه في العمل، ومنه أن يجتنب ما
اختلف العلماء الذين يعتد بعلمهم في تحريمه، وإن لم يعتقد رجحان التحريم، وأما
إذا اعتقده بقوة دليله عنده أو بالثقة بقول إمامه فيتعين عليه تركه، ولكن ليس للمقلد
أن يعترض على مَن اتبع الدليل؛ لأنه ليس من أهله، ولا على مَن قلد غير إمامه
وغير الأربعة كالزيدي مثلاً لأنه مثلهم. ولا ينبغي للمسلمين أن يتعادوا بسبب هذه
الخلافات، فقد أضاع ذلك عليهم دينهم ودنياهم كما بيناه مرارًا، ولقد صدق حجة
الإسلام الغزالي في جعله ترك المسلمين لجميع المسائل الخلافية الاجتهادية دون
ضرر الاختلاف والتفرق في الدين، وقوله: إنهم لو عملوا بما أجمع عليه
المسلمون وحده لكان كافيًا في نجاتهم في الآخرة، كما بيَّنه في كتابه القسطاس
المستقيم، ونقلناه في (محاورات المصلح والمقلد) فليراجعه من أراد، والله يهدي
من يشاء إلى صراط مستقيم.
(تنبيه) جاءنا سؤال - بل أسئلة - من بيروت عن استعمال الذهب والفضة
لعل السائل يستغني بما يراه في هذا الجزء عن نشرها والجواب عنها، فإن بقي عنده
إشكال بعد قراءة ما هنا فليسأل عنه وحده.
والمرجو من كل مَن يسأل عن أشياء عديدة أن يميز بعضها من بعض،
ويجعلها معدودة بالأرقام.
__________
(1) راجع ص 181 - 208 ج 5 تفسير وص 213 - 417 منه.(24/331)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النفس التي خلق منها البشر
(س 12) من صاحب الإمضاء في بيروت:
لجانب حضرة صاحب الفضل والفضيلة العلامة السيد محمد رشيد أفندي
رضا منشئ مجلة المنار الأغر، حفظه الله، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعدُ أرفع لجنابكم ما يأتي راجيًا التكرم
بالإجابة عليه: قرأت في مناركم الأغر في الجزء الثامن من المجلد الثالث والعشرين
الصحيفة 621 ما يأتي:
(وكان مما ذكر من دفع بعض الشبهات مسألة خلق البشر من نفس واحدة،
فذكر أنه ليس في القرآن نص قطعي أصولي على أن هذه النفس هي آدم، كما نعتقد
نحن وأهل الكتاب..)
بناء على كون هذه الآيات القرآنية ليس فيها نص قطعي أصولي كما قال
الأستاذ الإمام (رحمه الله) فحينئذ تحتمل أن تكون هذه النفس غير آدم، وما هي
هذه النفس التي هي غير آدم؟ تكرموا علينا بالجواب، فلا زلتم للعلم أنصارًا وللدين
الحنيف منارًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الدا عي لكم
... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين سليم كريدية
(ج) النص الأصولي القطعي هو عبارة عن اللفظ الذي يفيد معنًى واحدًا لا
يحتمل غيره حقيقة ولا مجازًا ولا كناية، فلا يدخل فيه ما يدل على معنى راجح هو
المتبادَر عند الإطلاق بحيث لا يحتمل غيره إلا بتأويل مُتَكَلَّف، فعلى هذا لا ينبغي
للعاقل أن يبحث عما يحتمله كل لفظ من المعاني المجازية أو الكنائية إلا إذا احتاج
إلى ذلك لغرض صحيح كدفع اعتراض مُعْتَرِض مخطئ تعيَّنَ دفعُه بمثل ذلك.
بعد التذكير بهذه الفائدة أقول: يحسن أن تراجعوا معنى النفس التي خلق منها
البشر في تفسير أول سورة النساء في الجزء الرابع من تفسيرنا، فإن لم يكن لديكم
فراجعوه عند وكيل المنار في بيروت الشيخ عبد الله العطار، وفي بعض مجلدات
المنار بحث في هذه المسألة كان سببه خوض بعض الناس في كلمة الأستاذ الإمام
التي أشرنا إليها. واعلم قبل ذلك أن قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) يشبه قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام: 2) في كون الأول
دالاًّ على أصلنا الروحي، والثاني دالاًّ على أصلنا الجسدي، وإن تفسير النفس
الواحدة بآدم تفسير مراد وليس هو المعنى اللغوي للفظ النفس، وإن بعض المفسرين
قالوا: إن المراد بالنفس الواحدة في آية الأعراف قصي جد قريش، وحسبك هذا
بيانًا لكون النفس الواحدة المُنَكَّرَة في الآية ليست نصًّا أصوليًّا ولا ظاهرًا لغويًّا في
آدم عليه السلام.
__________(24/343)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخلافة الإسلامية
(6)
36 - الخلافة والبابوية، أو الرياسة الروحية:
الإسلام دين الحرية والاستقلال الذي كرم البشر ورفع شأنهم بإعتاقهم من رق
العبودية لغير الله تعالى من رؤساء الدين والدنيا. فأول أصوله: تجريد العبادة
والتنزيه والتقديس والطاعة الذاتية لله رب العالمين، وأن الرسل عليهم الصلاة
والسلام ليسوا إلا مرشدين ومعلمين: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) فلا سيطرة لهم على سرائر الناس، ولا حق الإكراه والإجبار،
ولا المحاسبة على القلوب والأفكار، ولا مغفرة الذنوب والأوزار، ولا الحرمان
من الجنة وإدخال النار، بل ذلك كله لله الواحد القهار العَفُوُّ الغفار، قال تعالى لخاتم
رسله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22)
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم
بِوَكِيلٍ} (الأنعام: 107) {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 52) {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21) {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص:
56) .
وإنما تجب طاعة الرسول فيما يبلغه ويبيِّنه من أمر الدين عن الله تعالى، وما
ينفذه من شرعه، دون ما يستحسنه في أمور الدنيا بظنه ورأيه، فالطاعة الذاتية
إنما هي لله، ولذلك قال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء:
80) فطاعة الرسول ثم طاعة أولي الأمر من الأمة تَبَعٌ لطاعة الله التي أوجبها
للمصلحة تنفيذًا للشريعة، على أن الرسول معصوم في تبليغ الدين وإقامته، وقد
جعله الله أسوة حسنة لأمته، وكان الصحابة على هذا يراجعون النبي صلى الله عليه
وسلم فيما يقوله برأيه في المصالح العامة كالحرب والسلم ويبدون آراءهم، وكان
يرجع عن رأيه إلى رأي الواحد منهم إذا تبين له أنه الصواب، كما رجع إلى رأي
الحباب بن المنذر يوم بدر، وإلى رأي الجمهور بعد الشورى، وإن لم يظهر له أنه
أصوب كما فعل يوم أحد. وقد قال: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم
فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم من حديث رافع بن
خديج، وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه من حديث عائشة.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن فيمن اتبعه منافقين، وكان يعرف بعضهم
دون بعض، ولكنه يعاملهم معاملة المؤمنين؛ لأن من أصول شريعته أن يعامل
الناس بحسب أعمالهم الظاهرة، ويوكل أمر القلوب والسرائر إلى الله تعالى.
قال رجل له وقد رآه يعطي رجالاً من المؤلفة قلوبهم: يا رسول الله اتق الله،
قال: ويلك، أَوَلَسْتُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ ثم ولى الرجل فقال خالد بن
الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ - وفي رواية: فقال عمر: يا رسول الله
ائذن لي أضرب عنقه - قال: لا تفعل لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم مِن
مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم
أومر أن أنقب في قلوب الناس ولا أشق بطونهم) رواه الشيخان من حديث أبي سعيد
الخدري.
وإذا كان هذا شأن الرسول صلى الله عليه وسلم فهل يكون للخلفاء والأمراء -
مهما عظُم شأنهم- أن يحاسبوا الناس على قلوبهم أو يسيطروا عليهم في فهمهم للدين
أو عملهم به وربما كان فيهم من هم أعلم به منهم؟ كلا إن الخليفة في الإسلام ليس
إلا رئيس الحكومة المقيَّدة، لا سيطرة ولا رقابة له على أرواح الناس وقلوبهم،
وإنما هو منفذ للشرع، وطاعته محصورة في ذلك فهي طاعة للشرع لا له نفسه،
كما تقدم آنفًا وبسط في المسألة (1، 6، 8) ولكن الأعاجم أفسدوا في أمر الإمامة
والخلافة بما دست الباطنية في الشيعة من تعاليم الإمام المعصوم، وبما أفرط الفرس
والترك ومن تبعهم في الغلو بإطراء الخلفاء مما يذكر مثاله في الخلاصة التاريخية
الآتية، حتى فتحوا لهم باب الاستعباد، وقهروا الأمة على الخنوع والانقياد، انتهى
كل غلو إلى ضده، فكان غلو الأعاجم في الخلفاء العباسيين سببًا للقضاء على
خلافتهم، ثم كان تقديس الخلفاء العثمانيين سببًا لإسقاط دولتهم، وقد أبقى الترك
لواحد منهم لقب (خليفة) مجردًا من معناه الشرعي والسياسي كما تقدم، ولم يمنع ذلك
الناس ولا سيما أصحاب الجرائد عن وصفه بالقداسة، وبصاحب العرش، وغير
ذلك من الإطراء بالقول والفعل. وكثر خوض المسلمين كغيرهم بذكر الخلافة
الروحية، وفصلها من السلطة الزمنية السياسية، وإنَّا وإن كنا قد بيَّنا الحق في
المسألة في هذا البحث نرى أن نزيدها إيضاحًا بنقل ما كتبه الأستاذ الإمام فيها نقلاً
عن كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) قال رحمه الله:
(الأصل الخامس للإسلام)
(قلب السلطة الدينية)
أصل من أصول الإسلام أنتقل إليه، وما أجله من أصل! قلب السلطة
الدينية والإتيان عليها من أساسها: هَدَمَ الإسلامُ بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم
يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله
سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، على أن رسول الله عليه السلام كان
مُبَلِّغًا ومُذَكِّرًا، لا مهيمنًا ولا مُسَيْطِرًا، قال الله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *
لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) ولم يجعل لأحد من أهله أن يَحُلَّ ولا
أن يربط لا في الأرض ولا في السماء [1] ، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب
عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفعه عن كل رق إلا العبودية لله وحده،
وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق
النصيحة والإرشاد. قال تعالى في وصف الناجين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 3) وقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال:
{وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) فالمسلمون
يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير وهم المراقبون عليها لعلهم يردونها
إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه، وتلك الأمة ليس لها فيهم إلا الدعوة والتذكير،
والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتبع عَوْرَة أحد، ولا
يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب على مسلم أن
يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله الله
صلى الله عليه وسلم؛ لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام
رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف [2] وإنما يجب عليه قبل ذلك أن
يُحَصِّلَ من وسائله ما يؤهله للفهم كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال
العرب خاصة في زمان البعثة، وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من
الآثار. فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يَعُدُّهُ لفهم الصواب من السنة والكتاب
فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما. وله بل عليه أن يطالب المُجيب بالدليل على
ما يجيب به، سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال، فليس
في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه.
السلطان في الإسلام
لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدودًا، ورسم حقوقًا، وليس كل معتقد
في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله. فقد يغلب الهوى وتتحكم الشهوة،
فيُغْمَطُ الحقُّ، أو يتعدى المعتدي الحد، فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا
وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة،
وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد وهو
السلطان أو الخليفة.
الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه
الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، نعم شُرط فيه أن يكون مجتهدًا، أي أن يكون من
العلم باللغة العربية وما معها مما تقدم ذكره بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب
والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل،
والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معًا.
هو - على هذا - لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية، ولا
يرتفع به إلى منزلة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء
العقل، وكثرة الإصابة في الحكم [3] ، ثم هو مُطَاع ما دام على المَحَجَّة ونهج
الكتاب والسنة، والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه، وإذا
اعْوَجَّ قَوَّمُوه بالنصيحة والإعذار إليه [4] . لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق [5] .
فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن
في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه [6] ، فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه،
والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من
مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه.
ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج
(كراتيك) أي سلطان إلهي. فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله،
وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة وما
تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى الإيمان، فليس للمؤمن ما دام مؤمنًا
أن يخالفه، وإن اعتقد أنه عدو لدين الله، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق
على ما يعرفه من شرائعه؛ لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر
ظهر هما دين وشرع، هكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى. ولا تزال
الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة كما سبقت الإشارة إليه.
كان من أعمال التمدن الحديث: الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية،
فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه،
تشرع وتنسخ ما تشاء، وتراقب وتحاسب كما تشاء، وتحرم وتعطي كما تريد،
وخول السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض، وحق
السيطرة على ما يَحفظ نظام اجتماعهم في معاشهم لا في معادهم، وعَدُّوا هذا
الفصل منبعًا للخير الأعم عندهم.
ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص
واحد. ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرِّر الدين، وهو
واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب بالإخضاع،
وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده إلا متاع، ويبنون على ذلك أن
المسلم مُسْتَعْبَد لسلطانه بدينه، وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان يحارب العلم،
ويحمي حقيقة الجهل، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح مع العلم ما دام
من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين. وقد تبين لك أن هذا كله خطأ
محضٌ وبعد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام. وعلمت أن ليس في
الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن
الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها
لأعلاهم يتناول بها من أدناهم.
ومن هنا تعلم (الجامعة) [7] أن مسألة السلطان في دين الإسلام ليست مما
يضيق به صدره، وتحرج به نفسه عن احتمال العلم، وقد تقدم ما يشير إلى ما
صنع الخلفاء العباسيون والأمويون الأندلسيون من صنائع المعروف مع العلم
والعلماء، وربما أتينا على شيء آخر منه فيما بعد.
يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو المفتي
أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد
وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع
الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته
لربه أو ينازعه في طريق نظره) اهـ.
***
الخاتمة:
خلاصة اجتماعية تاريخية في الخلافة والدول الإسلامية [*]
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: 53) .
(تمهيد)
لقد كان فيمن قبلنا من البشر منذرون ورسل بُعثوا لهدايتهم، وملوك وحكام
يتولون الأحكام والسياسة فيهم، وكان بعض الأنبياء ملوكًا، وكان بعض الملوك
تابعين للأنبياء، وكان الملك والرياسة فتنة للملوك والرعايا، وللرؤساء
والمرؤسين {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} (الفرقان: 20)
وكان رؤساء الدين من غير الأنبياء كثيرًا ما يشتركون مع رؤساء الدنيا من
الملوك والأمراء في فتنة المال والجاه، فيكون بعضهم أولياء بعض في استعباد
مرءوسيهم، والتمتع بأموالهم وأعراضهم، وكانت الشعوب تنقاد لأولئك الرؤساء إما
بوازع الاعتقاد الديني، وإما بقهر القوة والسلطان، وإما بالأمرين جميعًا، وربما
كان بعضها يضيق ذَرْعًا ببعض الملوك الجائرين فينزع يده من طاعتهم، يَثُلُّ
عروشهم، ويولي أمره جماعة من الزعماء الذين نهضوا لمقاومة الجور والقهر
بقوتهم، حتى إذا ما صار الأمر إليهم كانوا وهم عصبة أشد جورًا وبغيًا من الملك
الواحد الذي لا يستطيع ظلمًا ولا هضمًا إلا بأعوانه من أمثالهم، وما زال الناس
مرهقين بسيطرة رؤساء الدين الروحية في سرائرهم، ورؤساء الدين والدنيا معًا في
ظواهرهم، إذا أووا إلى ظل العدل يومًا لفحهم هجير الجور أيامًا، وإذا تذوقوا من
حلاوة الرحمة جرعة راحة تجرعوا من علقم القسوة آلامًا، يشقى الألوف منهم
ليتمتع باللذة أفراد من المترفين، ويحرم الألوف من بُلْغَة العيش ويتمتع بثمرات
كسبهم نفر من المسرفين. ما زال الناس كذلك حتى بعث الله خاتم رسله رحمة
للعالمين، فجاءهم عنه بما فيه صلاح الدنيا وهداية الدين.
فكان من أصول هدايته للبشر أن أسس لهم دينًا وسطًا وشرعًا عادلاً،
ومملكة شورية: جعل أمرهم شورى بينهم، وأزال جبرية الملك وأثرته وكبرياءه
من حكومتهم، وجعل أمر الرئيس الذي يمثل الوحدة ويوحد النظام والعدل في المملكة
للأمة، ينتخبه أهل الرأي والعدالة والعلم من زعمائها، الموثوق بهم عندها، وجعله
مسئولاً عنهم لديهم، ومساويًا في جميع أحكام الشريعة لأدنى رجل منهم، وفرض
عليهم طاعته في المعروف من الحق والعدل، وحرَّم عليهم طاعته في المعصية والبغي
والجور، وجعل الوازع في ذلك دينيًّا لينفذ في السر والجهر؛ لأن الطاعة الحقيقية لله
وحده، والسيطرة لجماعة الأمة، وإنما الرئيس ممثل للوحدة، ولذلك خاطب الكتاب
المنزل نبي هذا الدين المرسل، بمبايعة الناس على أن لا يعصوه في معروف وأمَره
بمشاورتهم في الأمر، وقد أقام هذه الأصول صلوات الله وسلامه عليه بالعمل على
أكمل وجه، فكان يستشيرهم ويرجع عن رأيه إلى رأيهم، ودعا في مرض موته مَن
عساه ظلمه بشيء إلى الاقتصاص منه، وسار على سنته هذه خلفاؤه الراشدون من
بعده، فكان هذا من أفعل أسباب قبول دين الإسلام وسيادته على جميع الملل
والأديان، واستعلاء حكمه ولغته في الشرق والغرب، وخضوع الأمم الكثيرة له
بالرضا والطوع، وانتشاره في قرن واحد من الحجاز إلى أقصى أفريقية وأوربة من
جانب الغرب، وإلى بلاد الهند من جهة المشرق.
ولو سار من جاء بعد الراشدين على سنتهم في اتباع هدي الكتاب والسنة،
لعمت هداية الإسلام العالم كله. ولما تهافت عبيد الشهرة والشهوة على رياسته - التي
هي خلافة للنبوة - والنزوان عليها بقوة العصبية؛ إذ ليس فيها تمتع باللذات
الجسدية، ولا بعظمة السيطرة الجبروتية؛ فقد فرض الصحابة للخليفة الأول نفقة
نفسه وعياله كرجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ولا أدناهم، ولكنه هو ومن
بعده من الراشدين اختاروا أن يكونوا في معيشتهم دون الوسط من أمتهم.
أما الاعتداء على عمر وقتله فلم يكن من حسد المسلمين ولا من كراهتهم له،
ولا من طمع أحد أن يخلفه، بل كان من جماعة المجوس السرية انتقامًا منه لفتحه
لبلادهم، وإسقاطه لملكهم، وأما التعدي على عثمان وقتله فقد كان بدسائس الفرس
وعبد الله بن سبأ اليهودي، ولولا هاتان الفتنتان لما وصل الشقاق بين علي
ومعاوية إلى ما وصل إليه، كما يعلم ذلك كل مُدَقِّق في التاريخ.
اتسع ملك الإسلام وكثر خصومه من زعماء الملل والشعوب الذين أزال
عظمتهم واستمتاعهم بملك بلادهم، وساوى بينهم وبين عبيدهم في الحقوق وكل
أقوامهم عبيد لهم، ولم يكن الوازع الديني فيمن دخلوا فيه من هذه الشعوب مثله فيمن
فهموه حق الفهم من العرب، ولم تكن كل بطون العرب كالسابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار، ولم يكن من السهل إيجاد نظام لقوة الخلافة تخضع له كل هذه
الأمم والشعوب في الخافقين مع بُعْد الشُّقَّة وصعوبة المواصلات، فلهذا سهل على
السبئيين والمجوس بَثُّ الفتن للإسلام وللعرب، وعلى معاوية تأليف جيش في الشام
يقاتل به الإمام الحق أمير المؤمنين، ثم جعل خلافة النبوة ملكًا عضوضًا كملك
الغابرين.
سنة التغلُّب وعواقبها
وإفساد الأعاجم لحكم الإسلام العربي
فتح معاوية للأقوياء باب التغلب فأقبلوا إليه يهرعون، ولم يثبت ملك الأمويين
معه قرنًا واحدًا كاملاً، ولما كان الإسلام قد أبطل عصبية العرب الجنسية، احتاج
العباسيون أن يستعينوا على الأمويين بعصبية الأمة الفارسية، وكان للزنادقة
والمنافقين من هؤلاء مكايد خفية، يريدون أن يديلوا للفرس من العرب، وللمجوسية
من الإسلام، ولأجلها بثوا في المسلمين التفرقة بالغلو في آل البيت توسلاً للطعن في
جمهور الصحابة ليفرقوا كلمة العرب ويبعدوا بهم عن أصول الإسلام الشوروي
(الديمقراطي) وينشئوا فيه حكومة (أتوقراطية) مقدسة أو معبودة، بجعل رئاستها
لمن يدعون فيهم العصمة من بيت النبوة، ليسهل عليهم بذلك إعادة الكسروية
والمجوسية.
ولما انكشف أمرهم للعباسيين عَوَّلُوا على جعل عصبيتهم من الترك، فكان
المعتصم يشتري شُبَّانَهم من بلادهم وسائر النواحي ويجعلهم جنودًا له، ويطلق لهم
العنان، ويمهد لهم هو ومَن بعده سبيل السلطان، جهلاً منهم بطبائع العمران،
وكانوا أُولِي جهل وقسوة وفساد، فطغوا في البلاد، وأكثروا البغي والعدوان على
العباد، حتى صاروا يقتلون الخلفاء أنفسهم وهم على عروشهم، أو يخلعونهم
ويولون غيرهم بأهوائهم، فاختل بفسادهم النظام والطاعة بوازع الإسلام، فسهل
على إخوانهم التتار اجتياح ملك العباسيين تخريبًا وتتبيبًا، وتقتيلاً وتمثيلاً،
واستفحل أمر الباطنية من القرامطة وغيرهم، وقد كان جند الترك في العباسيين،
كجند الإنكشارية بعده في العثمانيين، كان قوة لهم، ثم صار قوة عليهم ومُفسدًا
لملكهم.
وقد أفسد الأعاجمُ أمر الخلفاء العباسيين بالإطراء والتعظيم الذي ينكره الإسلام
ولا تعرفه العرب بِشَرِّ من إفسادهم له بالاستبداد بهم والاعتداء عليهم، كما فعل
السلطان عضد الدولة بذلك المظهر العجيب الذي أقامه للخليفة الطائع.
قال السيوطي في ترجمة الطائع لله من تاريخ الخلفاء: وسأل عضد الدولة
الطائع أن يزيد في ألقابه (تاج الملة) ويجدد الخُلَع عليه ويلبسه التاج، فأجابه،
وجلس الطائع على السرير وحوله مائة بالسيوف والزينة، وبين يديه مصحف
عثمان، وعلى كتفه البردة، وبيده القضيب، وهو متقلد بسيف رسول الله صلى الله
عليه وسلم وضربت ستارة بعثها عضد الدولة، وسأل أن تكون حجابًا للطائع حتى لا
تقع عليه عين أحد من الجند قبله، ودخل الأتراك والديلم وليس مع أحد منهم حديد،
ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين. ثم أذن لعضد الدولة فدخل، ثم
رفعت الستارة وقبل عضد الدولة الأرض، فارتاع زياد القائد لذلك وقال لعضد الدولة:
ما هذا أيها الملك، أهذا هو الله؟ فالتفت إليه وقال: هذا خليفة الله في أرضه (! !)
ثم استمر يمشي ويقبل الأرض سبع مرات. فالتفت الطائع إلى خالص الخادم، وقال
استَدْنِهِ، فصعد عضد الدولة فقبل الأرض مرتين، فقال: ادن إلي، فدنا وقبل رجله.
وثنى الطائع يمينه عليه وأمره فجلس على كرسي بعد أن كرر عليه (اجلس) وهو
يستعفي، فقال له: أقسمت عليك لتجلسن، فقبل الكرسي وجلس، فقال له الطائع: قد
رأيت أن أفوض إليك أمر الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع
جهاتها، سوى خاصتي وأسبابي، فتولَّ ذلك. فقال: يعينني الله على طاعة أمير
المؤمنين وخدمته، ثم أفاض عليه الخلع وانصرف اهـ.
ثم ذكر المؤرخ من عاقبة هذا ما وصل إليه أمر الخلفاء بعد ذلك مع السلاطين؛
إذ كان الوجهاء فيهم كآحاد ركابهم. وما كان يفعله أمثال ذلك الملك الجاهل
المتملق، وكل ما ذكر من تلك الهيئة منكرات في الإسلام. فتقبيل الأرض أشد تذللاً
من الركوع والسجود، وقد صحت الأحاديث في النهي عن التشبه بالأعاجم في
كبريائهم وبذخهم، حتى في الوقوف على رءوس ملوكهم أو بين أيديهم.
اضطراب المسلمين في حكوماتهم
وأما سبب وقوع ذلك وطول العهد عليه فهو أن التطورات الاجتماعية كانت
تقضي بوقوع ما وقع من التصرف في شكل الحكومة الإسلامية، ولم يكن يمكن في
تلك الأزمنة أن يوضع لها نظام يكفل أن تجري على سنة الراشدين، ولا طريقة
أوائل الأمويين والعباسيين. في الجمع بين عظمة الدنيا ومصالح الدين. ولما صار
هذا ممكنًا كان أمر الدين قد ضعف، وتلاه في جميع الشعوب الإسلامية ضعف
حكوماتها، وضعف حضارتها، فلم تهتد إلى مثل ما اهتدى إليه الإفرنج من القضاء
على استبداد ملوكهم شعبًا بعد شعب، فمنهم من قضى على الحكومة الملكية قضاء
مبرمًا، ومنهم من قيد سلطة الملوك فلم يدع لهم من الملك إلا بعض المظاهر الفخمة
التي يستفاد منها في بعض الأحوال، دون أن يكون لهم من الأمر والنهي في
الحكومة أدنى استبداد.
ذلك بأن كل من يُعطَى تصرفًا في أمر يجب أن يكون مسئولاً عن سيرته
فيه، والتقاليد المتبعة في الملك أن الملك فوق الرعية، فلا يتطاولون إلى مقامه
الأعلى ليسألوه عما فعل. وهذا شيء أبطله الإسلام بجعله إمام المسلمين كواحد
منهم في جميع أحكام الشريعة، ونص على أنه مسئول عما يفعل بقوله صلى الله
عليه وسلم (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن
رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت
زوجها وهي مسئولة عن رعيتها) ... إلخ (متفق عليه من حديث ابن عمر) وكان
المسلمون يراجعون الخلفاء الراشدين ويردون عليهم أقوالهم وآراءهم فيرجعون إلى
الصواب إذا ظهر لهم أنهم كانوا مخطئين، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
خطَّأتْه امرأة في مسألة فقال على المنبر: امرأة أصابت وأخطأ عمر. أو: ورجل
أخطأ. غفل المسلمون عن هذا فتركوا الخلافة لأهل العصبية يتصرفون فيها تصرف
الملوك الوارثين الذين كانوا يزعمون أن الله فضلهم على سائر البشر لذواتهم ولبيوتهم
وأوجب طاعتهم والخضوع لهم في كل شيء، فلم يوجد في أهل الحل والعقد من
الرؤساء من اهتدى إلى وضع نظام شرعي للخلافة بالمعنى الذي يسمي في هذا العصر
بالقانون الأساسي يقيدون به سلطة الخليفة بنصوص الشرع، ومشاورتهم في الأمر،
كما وضعوا الكتب الطوال للأحكام التي يجب العمل بها في السياسة والإدارة والجباية
والقضاء والحرب، ولو وضعوا كتابًا في ذلك معززًا بأدلة الكتاب والسنة وسيرة
الراشدين، ومنعوا فيه ولاية العهد للوارثين، وقيدوا اختيار الخليفة بالشورى وبيَّنوا
أن السلطة للأمة يقوم بها أهل الحل والعقد منها وجعلوا ذلك أصولاً متبعة - لما وقعنا
فيما وقعنا فيه.
فأما الراشدون رضي الله عنهم فقد كانوا واثقين بتحريهم للحق والعدل
ويصرحون بسلطة الأمة عليهم وهم واقفون في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم
من منبره، كما قال أبو بكر: وُلِّيت عليكم ولست بخيركم فإذا استقمت فأعينوني وإذا
زغت فقوموني. وكما قال عمر: من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه. وكما قال
عثمان: أمري لأمركم تبع. وأقوال علي وأعماله بالشورى معروفة على اضطراب
الأمر وظهور الفتن في زمنه، وموت كثير من كبراء أهل العلم وتفرق بعضهم، ثم
إنهم لم يكونوا قد دخلوا في عهد التصنيف ووضع النظم والقوانين، ولا شعروا بشدة
الحاجة على ذلك لكثرة الصلاح وخضوع الأمة لوازع الدين.
وما جاء عصر التأليف والتدوين إلا وكانت الخلافة قد انقلبت إلى طبيعة المُلْكِ
بالبدعتين الكبريين اللتين ابتدعهما معاوية وهما جعل الأمر تابعًا لقوة العصبية،
وجعل الخلافة تراثًا ينتقل من المالك إلى ولده أو غيره من عصبته، وشَغَلَ الناسَ
عن سوء هاتين البدعتين سكونُ الفتنة التي أثارها السبئيون والمجوس وافترصها
الأمويون، وما تلاه من اجتماع الكلمة وحقن الدماء في الداخل والعود إلى الفتوح
ونشر هداية الإسلام وسيادته في الخارج، وذلك أن تأثير الفساد الذي يطرأ على
الصلاح العظيم، لا يظهر إلا بتدرج بطيء.
قاعدة ابن خلدون في العصبية مخالفة للإسلام
خدع كثيرون بمظهر ذلك المُلْك حتى حكيمنا الاجتماعي ابن خلدون الذي اغتر
باهتدائه إلى سنة قيام الملك وسائر الأمور البشرية العامة بالعصبية حتى أدخل فيها
ما ليس منها، بل ما هو مضاد لها، كدعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فجعل
مدارها على مَنَعَتِهِم في أقوامهم وقوة عصبية عشائرهم معتمدًا على حديث معارَض
بآيات القرآن الكثيرة وبوقائع تواريخهم الصحيحة، وبنى على ذلك إلحاق الخلافة
بالنبوة بما لبس عليه من ذلك، وإنما النبوة وخلافة النبوة هادمتان لسلطان العصبية
القومية ومقرِّرَتان لقاعدة الحق واتباعه بوازع النفس والإذعان لشريعة الرب.
وهذا قصص الرسل في القرآن الكريم ناقضة لبنيان قاعدته، وفي بعضها التصريح
بعدم القوة والمنعة، كقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود: 80) أم أيهم قامت دعوته بعصبية قومه،
إبراهيم الخليل، أم موسى الكليم، أم عيسى الروح الكريم، أم خاتم النبيين، عليه
وعليهم الصلاة والتسليم؟ ألم تكن جُلُّ مزايا بني هاشم في قريش الفضائل الأدبية دون
الحربية، ألم يكن جل اضطهاده وصده عن تبليغ دعوة ربه من رؤساء قريش، ألم
يكونوا هم الذين ألجأوه إلى الهجرة؟ وهم الذين نزل الله فيهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال: 30) الآية، حتى هاجر
مستخفيًا. وسمى الله هجرته إخراجًا - أي نفيًا وإبعادًا - بمثل قوله: {يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} (الممتحنة: 1) حتى نصره الله تعالى
بضعفاء المهاجرين والأنصار. وما آمن أكثر قريش إلا بعد أن أظهره الله عليهم
وخذلهم في حروبهم له.
نعم إن بعض كلام ابن خلدون في حكمة جعل الخلافة في قريش صحيح،
وهو مكانتهم العليا في الجاهلية والإسلام التي لم ينازعهم فيها أحد من العرب، وأولى
أن لا ينازعهم فيها من يدين بالإسلام من العجم، وذلك من أسباب جمع الكلمة،
وقد أشار إلى ذلك الصديق رضي الله تعالى عنه في احتجاجه على الأنصار،
وأما عصبية القوة الحربية فلم تكن علة ولا جزء علة لجعل الخلافة في قريش؛
لأن الإسلام قد قضى على هذه العصبية الجاهلية - يعترف ابن خلدون كغيره بذلك -
فلا يمكن أن يجعلها علة من علل شرعه القويم، الذي مداره على جعل القوة
تابعة للحق، خلافًا لسائر المبطلين من البشر الذين يجعلون القوة فوق الحق، فإما
أن يكون تابعًا لها وإما أن تقضي عليه قبل أن يقضي عليها.
وبهذا البيان الوجيز يعلم سائر ما في كلام ابن خلدون من شوب الباطل بتحكيم
قاعدته في تصحيح عمل معاوية حتى في استخلاف يزيد وجعله مجتهدًا مخطئًا في
قتال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ومصيبًا في استخلاف يزيد الذي أنكره عليه
أكبر علماء الصحابة فنفذه بالخداع والقوة والرشوة. فهو يزعم أن معاوية كان عالمًا
بقاعدته في أن الأمور العامة لا تتم إلا بشوكة العصبية، وبأن عصبية العرب كلهم
قد انحصرت في قومه بني أمية، وأن جعل الخلافة شورى في أهل الحل والعقد من
أهل العلم والعدالة والكفاية من وجهاء قريش غير بني أمية - لم يعد ممكنًا، وكل هذا
باطل، وفي كلام ابن خلدون شواهد على بطلانه، وليس من مقصدنا إطالة القول
في بيان ذلك هنا.
وحسبنا أن نقول: إن عصبية العرب لم تنحصر في بني أمية لا بقوتها
الحربية ولا بثقة الأمة بعدلهم وكفاءتهم، وإنما افترصوا حياء عثمان وضعفه فنزوا
على مناصب الإمارة والحكم في الأمصار الإسلامية التي هي قوة الدولة ومددها.
واصطنعوا من محبي الدنيا من سائر بطون قريش وغيرهم من يعلمون أنهم
يواتونهم، وأكثر هؤلاء ممن لم يعرفوا من الإسلام إلا بعض الظواهر، وهم مع
الحكام أتباع كل ناعق، فتوسلوا بهم إلى سن سُنَّة الجاهلية والقضاء بها على خلافة
النبوة الشرعية [8] .
ولو شاء معاوية أن يجعلها شورى كما نصح له بعض كبراء الصحابة رضي
الله عنهم ويجعل قومه وغيرهم مؤيدين لمن ينتخب انتخابًا شرعيًّا باختيار أهل
الشورى - لفعل. وما منعه إلا حب الدنيا وفتنة الملك، ولكن عمر بن عبد العزيز
لم يكن يستطيع ذلك بعد أن استفحل أمرهم وصاروا محيطين بمن يتولى الأمر
منهم، وفي كتاب الفتن من صحيح البخاري أن أبا برزة الصحابي الجليل سئل وكان
بالبصرة عن التنازع على الخلافة بين مروان وابن الزبير والخوارج - وهو أثر
سنة معاوية - فقال: احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطًا على أحياء قريش، إنكم
يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم
بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت
بينكم، إن ذاك الذي في الشام - والله - إن يقاتل إلا على الدنيا، وإن هؤلاء الذين
بين أظهركم - والله - إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة - والله - إن
يقاتل إلا على الدنيا اهـ. ويعني بالذين بين أظهرهم الخوارج الذي يسمون القراء
ولذلك جاء في رواية أخرى زيادة: يزعمون أنهم قراؤكم.
نعم إن الأولين من بني أمية وبني العباس استخدموا طبيعة الملك وتوسلوا به
إلى مقاصد الخلافة كنشر الإسلام ولغته وإعزازه وفتح الممالك وإقامة العدل بين
الناس كافة. إلا ما كان من الانتقام من المتهمين بطلب الخلافة ومن التصرف في
بيت المال. قال ابن خلدون بعد تفصيل له في هذا الباب: فقد صار الأمر إلى
الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق.
ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبية وسيفًا. وهكذا كان
الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس
إلى الرشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر
ملكًا بحتًا وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر
والتقلب في الشهوات والملاذِّ، وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد
الرشيد من بني العباس، واسم الخلافة باقيًا فيهم لبقاء عصبية العرب والخلافة
والملك في الطوْرَين ملتبس بعضهما ببعض، ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب
عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكًا بحتًا كما كان الشأن
في ملوك الأعاجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركًا، والملك بجميع ألقابه
ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء ... فقد تبين أن الخلافة وجدت بدون الملك أولاً
ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية
الخلافة اهـ.
وهذه الخلاصة التي ذكرها ابن خلدون تدل على صحة قولنا الذي كررناه
مرارًا وهو أن خلفاء بني أمية وبني العباس قد جمعوا بين عظمة الملك ونعيمه
وترفه وبين مقاصد الخلافة من نشر الدين والحق والعدل. وأن الفساد دَبَّ إليهم
بالتدريج، وما زال يفتك بهم حتى أزال ملكهم، وأكثر المسلمين لا يشعرون بسير
السنن الاجتماعية فيهم والأقلون لا يستطيعون تلافي الفساد وتداركه قبل أن ينتهي
إلى غايته من هلاك الأمة.
وإنما كان يُتلافى بالنظام الذي تقام به الخلافة. فالنظام قد أوجد أديانًا
ومذاهب باطلة، وثبت دولاً جائرة، فكيف لا يحفظ به الحق الراسخ رسوخ الأطواد،
فهو الحق الذي يعلو ولا يعلى، لو أن المسلمين بذلوا من العناية لإعادة الخلافة إلى
نصابها عشر ما بذلت فِرَق الباطنية لإفسادها لعادت أقوى ما كانت وسادوا بها
الدنيا كلها.
هذا - وإن ما فات المسلمين في القرون الوسطى لا ينبغي أن يفوتهم في هذا
العصر الذي عرف البشر فيه من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري ومن فوائد
النظام وأحكامه ما لم يكونوا يعرفون.
الترك العثمانيون والخلافة والتفرنج
كان أجدر المسلمين بالسبق إلى هذا رجال الدولة العثمانية، ولا سيما الذين
يقيمون في الآستانة والرومللي من بلاد أوربة يشاهدون تطور شعوبها وترقيهم في
العلوم والفنون والنظام، ولكن دولتهم لم تكن دولة علوم وفنون؛ لأنه لم يكن لهم
لغة علمية مدونة قابلة لذلك إلا في أثناء القرن الماضي، ولم يكن يتعلم علوم الإسلام
منهم إلا قليل من المقلدين، ولهذا جعلوا سلطة سلاطينهم شخصية مطلقة حتى بعد
تحليتهم بلقب الخلافة، فلما صاروا يدرسون تاريخ أوروبة وقوانينها وثوراتها
على حكومتها لإزالة استبدادها، ظنوا أن لا سبيل لتقييد استبدادهم ومنع ظلمهم إلا
بتقليد أوربة في شكل حكوماتها
الملكية المقيَّدة، ثم رجحوا في هذا الزمن الجمهورية؛ لأنهم رأوا أن جعل السلطان
مقدسًا غير مسئول كما قرروه في قانونهم الأساسي لم يَفِ بالغرض. ولو درسوا
الشريعة دراسة استقلالية كما يدرسون القوانين لوجدوا فيها مخرجًا أوسع وأفضل من
القانون الأساسي السابق، ومن الخلافة الروحية وحكومة الجمعية الوطنية الحاضرة.
أسس مدحت باشا وأعوانه الدستور العثماني فمزق السلطان عبد الحميد شملهم
وداس دستورهم مدة ثلث قرن كان فيها الحاكم المطلق الذي لا رادَّ لأمره، ولا
معقب لحكمه، والشرع والقانون تحت إرادته، منتحلاً لنفسه ما اختص به رب
العزة نفسه دون خلقه، بقوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء:
23) والناس في المملكة العثمانية ومصر وتونس والهند يقولون: قال الخليفة
الأعظم وفعل الخليفة الأعظم، فإن قال أحد العثمانيين المظلومين في أنفسهم وفي
أمتهم ووطنهم: إنه أساء وظلم - لعنوه وحكموا عليه بالخيانة أو بالكفر، فكان هذا
سببًا لاعتقاد هؤلاء المتفرنجين من الترك أن منصب الخلافة نفسه عقبة في طريق
ما يبغون من تقليد أوربة في شكل حكوماتها المقيَّدَة، من حيث إن الخليفة يجب أن
يطاع مطلقًا ولا يجوز أن يعصى، ولا أن يقيد بقانون، ومن حيث إن رياسته
للدولة تجعلها مضطرة لمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية في السياسة والإدارة
والقضاء والتعليم، وإلى تعلم اللغة العربية التي يتوقف عليها فهم الشريعة، وهذه
قيود تنافي ما يبغون تقليد الإفرنج فيه لاستقلال أمتهم التركية، بجعل سلطتها في
الحكم والدولة لها، لا تتقيد فيه بقيد ما من شريعة أخرى، ولا لغة أخرى، وهو ما
يعبرون عنه (بالحاكمية الملية) .
إحياء الجنسية الطورانية
عزم هؤلاء المتفرنجون على إحياء الجنسية التركية الطورانية، وجعلها
مستقلة أتم الاستقلال في الحكم والتشريع والعقائد والآداب، غير مقيدة فيه بقيد
مستمَد من أمة أخرى. بل أقول بلغة صريحة فصيحة: غير مقيدين فيه بالشريعة
الإسلامية ولا بالدين الإسلامي. وقد مهَّدوا له السبيل بما ألفوا له من الكتب
والرسائل، ووضعوا له من الأناشيد والقصائد، وواتتهم السلطة الاتحادية على ذلك،
ولكن عارضهم فيه الشعب التركي الذي يريدون هذا له وبه وفيه، وهو شعب
متدين بالإسلام، وسلطانه يعترف له أكثر مسلمي الأرض بأنه خليفة المسلمين،
وأن لدولته نفوذًا روحيًّا في هذه الشعوب الإسلامية قد جعل لها مكانة خاصة لدى
الدول الكبرى في سياستها، له فائدة من جهة وغائلة من جهة أخرى، فإن هذه
الدول تضطر إلى مراعاتها في بعض الأمور لكيلا تهيج عليها رعاياها المسلمين
باتهامها بعداوة دولة الخلافة، وتقبل منها كل عذر يعتذر به عن بعض مطالب
الدول بأنه مما لا يستطاع صدوره من خليفة المسلمين، ولهذا السبب نفسه تجمع
على عداوة هذه الدولة والكيد لها، والسعي لإضعافها أو إعدامها لتستريح من تأثير
منصب الخلافة في رعاياها المسلمين. ولهذا فشا في هؤلاء المتفرنجين الاعتقاد بأن
ضرر الخلافة عليهم أكبر من نفعه لهم، ثم تزلزل هذا الاعتقاد عند بعضهم منذ
حرب طرابلس الغرب إلى الآن، وقد كان الاتحاديون - على تهورهم - بين إقدام
وإحجام للفصل في هذه المسألة وجعل السيادة الطورانية فوق سيادة الإسلام.
وسائل المتفرنجين لإماتة الدين
تعارض المانع والمقتضي، فاتخذوا لإزالة الموانع وسائل:
(منها) بث الإلحاد والتعطيل في المدارس الرسمية ولا سيما العسكرية وفي
الشعب جميعًا وألفوا لذلك كتبًا ورسائل بأساليب مختلفة.
(ومنها) تربية النابتة الحديثة في المدارس وفي الجيش على العصبية
الجنسية، وإحلال خيالها محل الوجدان الديني بجعلها هي المثل الأعلى للأمة،
والفخر برجالها المعروفين في التاريخ وإن كانوا من المفسدين المخربين، بدلاً من
الفخر برجال الإسلام من الخلفاء الراشدين، وغيرهم من السلف الصالحين، ولهم
في ذلك أشعار وأناشيد كثيرة يتغنى بها التلاميذ والجنود وغيرهم.
(ومنها) التدرج في محو كل ما هو إسلامي في أعمال الحكومة، وإضعاف
سلطة المشيخة الإسلامية، حتى إنهم سلبوا منها الرياسة على المحاكم الشرعية،
ووضعوا قانونًا للأحكام الشخصية.
(ومنها) إضعاف التعليم الديني حتى إنهم حدَّدوا عدد مَن يتخرج في
المدارس الدينية فجعلوه قليلاً لا يكفي للمحافظة على الدين والشرع.
(ومنها) جعل الخلافة والسلطنة مظهرًا مؤقتًا لا أمر لصاحبه ولا نهي،
ولكن يستفاد من اسمه في تنفيذ ما لا يقبله الجمهور من غيره، حتى شاع أنهم كانوا
يصدرون الإرادات السَّنية بإمضاء السلطان محمد رشاد وهو لا يدري.
(ومنها) إفساد الآداب والأخلاق والآداب الإسلامية بالعمل، فأباحوا للنساء
التركيات هتك الحجاب والتبرج والتهتك، بل أباحوا لهن البغاء وكانت إباحته قاصرة
من قبل على غير المسلمات. وقد حدثني الأمير شكيب أرسلان في (جنيف
سويسرة) عن طلعت باشا الصدر الأعظم أن عاهل الألمان لما زار الآستانة في
أثناء الحرب ورأى النساء التركيات سافرات متبرجات عذله على ذلك وذكر له ما
فيه من المفاسد الأدبية والمضار الاقتصادية التي تئن منها أوربة وتعجز عن تلافيها.
وقال له: إن لكم وقاية من ذلك كله بالدين أفتزيلونها بأيديكم!
منتهى سلطة الخليفة وشيخ الإسلام
لم يكن منصب الخلافة الذي يتحلى بلقبه السلطان مانعًا للاتحاديين من عمل
من الأعمال التي تهدم الدين وتمحو أثره من الدولة ثم من الأمة؛ لأن الخلافة لم
تكن إلا لقبًا رسميًّا له بعض من التأثير في خارج الدولة كاحترام الدول له وتعلق
مسلمي رعاياها ومن تحت نفوذها منهم به، وأما داخل الدولة - بل الدولة نفسها - فلم
يكن للخليفة فيها ديوان خاص ذو نظام وتقاليد يستعين به الخليفة على شيء من
أعمال الحكومة في إقامة الشرع والمحافظة على الدين، والنظر في مصالح
المسلمين. لم يكن في (المابين الهمايوني) مستوى الخليفة السلطان شيء من هذا.
وإنما كان يوجد في الوزارة عضو يسمى شيخ الإسلام، وله دار تسمى (باب
المشيخة الإسلامية) هي مقر رجال الفتوى وإدارة المحاكم الشرعية وإدارة التعليم
الديني. ولكن المشيخة الإسلامية بلغت من الضعف أن صارت عاجزة عن حفظ هذه
المصالح الخاصة بها، فلم يقدر شيخ الإسلام أن يمنع الحكومة الاتحادية من سلب
المحاكم الشرعية منه وجعلها تابعة للعدلية (الحقانية) ولا من التضييق على التعليم
الديني، فهل يقدر على منعها من إباحة الزنا للمسلمات، أو غيرها من تلك الموبقات،
وأهم أسباب هذا الضعف أن المشيخة لم تكن إلا مصلحة رسمية لم تُعْنَ في يوم من
الأيام بشيء من خدمة الدين الروحية التي تجعل لها سلطة معنوية في الشعب الإسلامي
في داخل المملكة ولا خارجها ليكون لها من قوته الدينية ما تهابه الحكومة وتخشاه،
وتؤيد به نفوذها ونفوذ الخليفة الذي ترك الأمور الدينية والمصالح الإسلامية لها.
ضعف ما عدا العسكرية في الدولة
الحق أقول: إن الدولة العثمانية والشعوب الإسلامية، قد برحت بها الأدواء
الاجتماعية والدسائس والتعاليم الأجنبية، حتى أفقدتها جميع قواها المادية
والمعنوية، فلم يبق فيها إلا القوة الحربية، المتمتعة بشيء من النظام والسلاح
العصري في هذه الدولة، فلا يستطيع أحد أن يحدث فيها انقلابًا ما إلا بقوة الجيش.
عرف ذلك الاتحاديون فعملوا به ما عملوا، وأساءوا به حتى قضوا على هذه
السلطنة (الإمبراطورية) وصدق قولنا فيهم عند سلب حزب الائتلاف السلطة منهم
(فإن عادوا كرة ثانية، كانت هي القاضية) .
ما نقترحه على الترك في مسألة الخلافة
هذا وإن الله تعالى قد وفق هذه القوة العسكرية الهادمة، بما كان من تلك
السياسة الجاهلة الظالمة، إلى إنقاذ جل البلاد التركية من براثن الدول الأوربية، بعد
أن نشبت فيها، وكاد يتم بأس العالم كله منها، وألفوا حكومة جمهورية تركية،
قررت ما قررت في مسألة الخلافة الإسلامية، فالذي نراه بعد طول الروية
والنظر في المسألة من الوجهتين السياستين - الإسلامية والاجتماعية - أن ما قرروه
بادئ الرأي يجب أن يكون تدبيرًا مؤقتًا، لا أمرًا مبرمًا مؤبدًا، وأن تترك السلطة
العسكرية أمر الحكومة بعد الصلح إلى مجلس منتخب من الشعب، ينتخبه بحرية
حقيقية، لا سيطرة عليها للحكومة ولا للجندية، وأن يترك أمر الخلافة إلى الشعوب
الإسلامية كلها، والحكومات المستقلة وشبه المستقلة منها، وأن يؤلف له لجنة أو
جمعية مختلطة حرة مركزها الآستانة، تدرس كل ما يكتبه وما يقترحه أهل العلم
والرأي في المسألة، ويكون ذلك تمهيدًا لعقد مؤتمر إسلامي يعقد بعد الصلح بسنة أو
أكثر من سنة.
ونرى أن تؤلف الحكومة التركية العليا لجنة أخرى للبحث فيما يجب أن تكون
عليه علاقتها مع الأمة العربية، ومع غيرها من الشعوب الإسلامية، وما يمكن أن
تفيدها وتستفيد منها بمكانتها العسكرية والمدنية والدينية، وأن يكون أعضاء
اللجنتين أو بعض أعضائها من أركان مؤتمر الخلافة هم الذين يضعون برنامجه
ويقررون نظامه، بعد تمحيص ما يجمعونه من الآراء والمعلومات في كل ما يتعلق
بالمسألة.
وقد تناقلت الجرائد أن حكومة أنقرة ستشاور العالم الإسلامي في الخلافة،
ولكن الشورى الصحيحة النافعة لا تتم إلا بالنظام وحسن الاختيار من الأفراد
والأقوام، فعسى أن يختار لكل لجنة أهلها من أولي النُّهى، وأن توفق كل منها
لتحقيق الحق في عملها، وأن ينتهي ذلك باقتناع أهل الحل والعقد من الترك، ببذل
نفوذهم لإقامة الإمامة الحق لإصلاح ما أفسدت جهالة المسلمين ومادية الأوربيين في
الأرض، فقد استدار الزمان واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح القرآن، وضعفت
معارضة المقلدة الجامدين، وظهر ضرر عصبية الأمويين والعباسيين والعثمانيين،
وضُلاَّل الإفرنج والمتفرنجين، فطوبى للمجددين المصلحين، وويل للمقلدين
المغرورين، والعاقبة للمتقين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} (الواقعة: 95)
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .
__________
(1) إشارة إلى ما نقل متى في إنجيله عن المسيح (18: 18 الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء) .
(2) أي توسيطه لذاته وأما توسيطهم في التعليم والإرشاد فقد أثبته أولاً وآخرًا.
(3) المنار: من شواهد ذلك ارتفاع قدر العلماء على الخلفاء الذين قصروا عنهم في الفهم والعلم، ألم يأتك نبأ الإمام مالك مع الخليفة هارون الرشيد - رحمهما الله - وكيف أنزل الإمامُ الخليفةَ عن المنصة وأقعده مع العامة عند إلقاء الدرس لأنه في رتبة المستفيد.
(4) من شواهد ذلك قول الخليفة الأول رضي الله عنه في خطبته (وإن زغت فقوموني) راجع ص 734 من مجلد المنار الرابع.
(5) حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما (راجع 32) من مجلد المنار الرابع.
(6) مثال ذلك أن يكون له عصبية أقوى من الأمة يخشى أن يبيدها بها و (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
(7) هي مجلة مصرية رد عليها الأستاذ في هذه المسألة.
(*) كانت هذه المقالة أول ما كتبناه في مسألة الخلافة، ثم لما بدا لنا أن نقدم عليها بيان أحكامها الشرعية، وتلا ذلك البحث في وسائل إقامتها وموانعها - طال القول حتى نسينا هذه المقالة، ثم رجعنا إليها فرأينا أن نجعلها خاتمة للترغيب، على أن بعض مباحثها قد تكررت في المباحث التي سبقت.
(8) راجع المسألة 8 و 14.(24/345)