الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(17)
الأمراض التي تنشأ عن الميكروبات الحيوانية
النافض أو الملاريا
Malaria
لفظ ملاريا أصله بالإيطالية كلمتان [aria mal] ومعناهما (الهواء الفاسد)
سميت به هذه الحمى لتوهم الناس في زمن التسمية أن سببها فساد الهواء.
يطلق هذا اللفظ على أنواع من الحمى تنشأ عن ميكروب حيواني من نوع
[البيروتوزوا Protozca] (راجع صفحة 28 من هذا الكتاب) يعيش في دم
الإنسان وينتقل من شخص إلى آخر بنقل بعض أنواع البعوض (النموس) ويسمى
هذا الميكروب بالإفرنجية [Plasmodium] أو [أميبا الدم Ioemamoeba] وإنما
قلنا: إنه يعيش في دم الإنسان؛ لأنه لم يعرف إلى الآن أنه يعيش في دم حيوان
آخر من ذوات الثدي، ما عدا أنواعًا شبهه يعيش في دم بعض أنواع القردة ويُحدث
لها حمى.
تمتاز أخف أنواع هذه الحُمّى التي تحدث في أكثر البُلدان المعتدلة بتقطعها؛
بمعنى أن نوبها تفصل بعضها عن بعض بفترات يكون فيها المصاب كأنه سلم منها،
أعني أنها لا تكون مستمرة كالحميات العفنة الأخرى، فتستمر النوبة بضع
ساعات ثم تزول وتعود في اليوم الثاني أو في اليوم الثالث [Tertian] أو في
الرابع [Ouartan] والنوع الذي يعود في اليوم الثالث هو الأكثر حدوثًا في الأقاليم
المعتدلة. أما الذي يعود في اليوم الرابع فيكثر حصوله في بعض بلدان إيطالية
والهند. وهناك أنواع أشد مدة الحمى فيها أطول وتعرف في إيطالية بالحمى الصيفية
الخريفية [autumnal - Aestiv] وفي البلاد الحارة (بالحمى المستمرة أو الخبيثة)
ويكثر انتشار هذه الحمى في الأقاليم التي بين خطي 63 شمالي خط الاستواء
و57 جنوبيَّه.
الأسباب - قلنا: إن الذي ينقل ميكروب هذه الحمى هو البعوض؛ فلذا توجد
هذه الحمى حيث يوجد البعوض ويكثر، وتختفي أو تنعدم حيث لا يوجد، أعني أن
حرارة الجو وكثرة الرطوبة والمستنقعات التي يتوالد فيها البعوض هما أعظم
الأسباب لانتشار هذه الحمى. وجميع الأجناس البشرية عرضة للإصابة بها، ولكن
السود أقل في ذلك من البيض. وهي تصيب الإنسان في جميع الأعمار. ومما
يهيئ المرض ضعف الصحة والتعرض لرطوبة أو لحرارة الشمس الشديدة أو
الإفراط أو التفريط في الأكل أو الشرب.
وقد يمكن الميكروب في الدم ولا يحدث الحمى، وإنما يسبب ضعف الصحة
وفقر الدم أو ضخامة الطحال، ولا يستمر بقاؤه في الدم إلى أكثر من ثلاث سنين إذا
لم تتكرر العدوى به.
ولهذا الميكروب أنواع، ثلاثة منها على الأقل تعيش في دم الإنسان،
والأخرى في دم الطيور. وقد اكتشف ما يعيش منها في الإنسان بين سنة 1881
و1890.
وهذه الأنواع الثلاثة تعيش داخل كريات الدم الحمراء وتتغذى بها فتمتص
مادتها الهيموغلوبينية ويحولها إلى حبيبات ملونة (سوداء أو سمراء
مصفرة) [1] . يمكن اعتبارها كأنها براز لها، فإذا كبرت خلية الميكروب انقسمت
إلى عدة أقسام (تتراوح بين 6- 15 أو 20) وانفجر غشاء الكرية الحمراء فتخرج
هذه الأجسام وتسبَح في الدم ثم تخترق كريات الحمراء وتسكنها وتفعل بها ما فعلته
في الأولى. وكثير منها تقتله خلايا الطحال أو غيرها أو خلايا الدم البيضاء.
وعند تمام نمو خلية الميكروب وانقسامها إلى عدة أقسام ترتفع حرارة
المصاب؛ لأن الميكروب حينئذ يخرج سُمّه فيدور مع الدم. ومن ذلك ترى
أن هذا الميكروب اللعين يفسد الصحة بإتلافه الكريات الحمراء التي عليها مدار
التنفس وبإفرازه سمًّا يحدث الحمى، وهناك ضرر ثالث وهو إفرازه سمًّا آخر يذيب
كريات الدم الحمراء فيتعب الكبد ويكثر من إفرازه الصفراء ويكثر الإسهال، وقد
يبول المريض بولاً أحمر مشتملاً على مادة الدم الذائبة فيه- كما سيأتي- فتلتهب
الكلى بسبب ذلك.
ولا يلزم من دخول هذا الميكروب إلى الدم أن يحدث للمصاب ما ذكر فإنه قد
يقتل ولا يصاب الشخص بشيء، وقد يكمن في الطحال إلى أن تضعف قوة مقاومة
الجسم له فتظهر حينئذ أعراض الحمى، وقد تتغلب البِنْية بعد ذلك على الميكروب
فتبيده وتحصل للجسم مناعة تقيه شره مرة أخرى. وهذا الميكروب قد يصيب
الأجنة في أرحام أمهاتها غير أن ذلك نادر جدًّا.
أما البعوض الذي ينقل العدوى من شخص إلى آخر فهو من النوع المسمى
[Anopheles] وميكروب الملاريا لا يضره بشيء إذا دخل جسمه. واعلم أن
ذَكَر هذا البعوض لا يمص الدم بل الأنثى فقط، وهي التي تحمل العدوى. ومدة
حياتها تزيد عن شهر في الغالب. وتضع كل أنثى نحو 100 بيضة على سطح
الماء طول كل بيضة نحو نصف ملليمتر أو ملليمتر كامل. وبعد يومين أو ثلاثة
يفقس. وإذا كان الجو حارًّا فقست قبل ذلك، وتعود الأجنة في الماء وهي المسماة
بالعلق، وبعد عدة أيام (13-23) تصير بالتطور بعوضة.
ويمتاز هذا النوع من الأنواع الأخرى بما يأتي:
(1) أن أنثاه لا تلسع الإنسان غالبًا ولا تمص دمه إلا ليلاً.
(2) أن شواربها [Palpi] طويلة مثل منقارها [Prboscis] الغليظ.
(3) أنه توجد في أجنحتها نقط مسودة بخلاف أجنحة الأخرى فإنها
رائقة.
(4) أن جسمها أطول وأنحف. هو مستقيم بخلاف الأخرى فإنها أغلظ
وإذا وقفت على الحائط رأيت ظهرها محدودبًا.
واعلم أن بعوضة الملاريا لا تنقل العدوى إلى بعوضة أخرى، فلا يوجد
الميكروب فيها إلا إذا أخذته من الإنسان بامتصاص دمه.
وإذا امتصت البعوضة دم المصاب لقحت [2] بعض خلايا الميكروب الخلايا
الأخرى التي تتطور وتصل غدد اللعاب في البعوضة لتخرج منها أثناء وَخْز شخص
آخر فتعديه بالملاريا، ومدة هذا الطور الذي يقضيه الميكروب في جوف البعوضة
تختلف من 6- 16 يومًا بحسب حرارة الجو. والبعوضة لا تطير عادة من مواطنها
إلى أبعد من نصف ميل إنكليزي.
الأعراض- تكون نوب هذه الحمى في أول الأمر غير منتظمة غالبًا، ولعل
السبب في ذلك أن الميكروبات التي تدخل الجسم تكون من أنواع مختلفة، فتتغلب
البنية على أقلها عددًا، وبذلك ينفرد بالجسم نوع واحد وهو الأكثر عددًا، وفي
بعض الأحيان يبقى نوعان أو ثلاثة. طور التفريخ يتراوح بين 3 أيام و12 يومًا،
وهو طويل في الأشكال المنتظمة، قصير في غيرها، وقد يحصل المرض بمجرد
التلقيح.
وفي بعض الأحوال تتقدم الحمى بعض أعراض أخرى كالتوعك والصداع
وآلام بالأطراف وغثيان وغيرها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذه تشاهد سابحة في الدم أو داخل الكريات البيضاء التي تبتلعها أو داخل منسوج بعض الأعضاء كالطحال والكبد والمخ وغيرها.
(2) أما في دم الإنسان فيحصل الانقسام بلا تلقيح.(19/485)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنشور الهاشمي الشريف الثالث
نشر في عدد الحادي والثلاثين من جريدة القِبلة الذي صدر في 4 صفر.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:
108) الحمد لله الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، والصلاة إلى سيدنا محمد
صاحب الهداية الباقية ما بقيت العصور وكرت الدهور، وعلى آله وأصحابه الذين
قاموا بعزائم الأمور، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: فقد حان لنا أن نخاطب أبناء بلادنا خاصتهم وعامتهم، وكبيرهم
وصغيرهم، وحاضرهم وباديهم في حقائق الأمور التي كنا فيها، والحالة التي
صرنا إليها، والواجبات التي حتمت علينا مقتضيات الدين والقومية والإنسانية أن
نقوم بها حق القيام.
فإنه لم يبق فيهم -ولله الحمد- من يخفى عليه أمر هؤلاء الأغرار الذين تسلطوا
على المملكة العثمانية فأحلوا فيها ما أحلوا وحرموا ما حرموا، مما قدمت الإشارة
إلى بعضه في منشورَيْنا السابقَيْن. واتخذوا دين الله لهوًا ولعبًا، وسلبوا السلطة من
أيدي أهلها. وتصرفوا بالمملكة تصرفًا أضاعوا به من بلادها في بضع سنوات ما
تزيد مساحته على مساحة بضع ممالك عظيمة في أوربا. وآذوا عباد الله بالقتل
والشنق والتعذيب والتغريب ومصادرة الأموال وانتهاك الأعراض بما لا يحيط به
العد والحصر. ولعل أرض الحرمين الشريفين كانت أقل الممالك العثمانية ابتلاء
بمصائبهم ومفاسدهم. لا عن تكريم منهم لمشاعرها المقدسة، ولا رأفة منهم بأهلها،
أو لأن الحجازيين أحب إليهم من سكان الروملي والأناضول والشام والعراق،
بل لما سخرنا لله له من الوقوف لهم موقف النصح تارة والدفع بالتي هي أحسن
أحيانًا، على أمل أن يصبح الذي بيننا وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
بذلنا ما في الوُسع لدفع الأذى عن هذه الديار بالطريقة المتقدمة، ولم نألُ جهدًا
في تخفيف ظلمهم عن المسلمين وأهل ذمتهم في كل أنحاء المملكة، وحملهم على
اجتناب كل ما ينكره الناس عليهم، وإقناعهم بخطر أعمالهم وما ستئول إليه من
ضياع البلاد وهلاك العباد، وكنا نخلص النصح لرجالهم في الآستانة بمكاتبات
محفوظة لدينا صورها وأعدادها وتواريخها، لا سيما في السنين الأخيرة. ومن
المتيسر لكل إنسان أن يطلع عليها، وكذلك كنا ننصح لولاتهم هنا بطريق المشافهة
والمخاطبة، وأوفدنا بعض أولادنا إلى الآستانة لهذا الغرض. ولكنهم لم تزدهم
دعوتنا إلا ظلمًا وطغيانًا، وبغيًا وعدوانًا.
ومما زاد مسئوليتنا بين يدي الله عز وجل، ثم أمام واجب الوطنية والقومية،
ما وقع فيه قومي وأبناء جلدتي من الشدة التي لا تحتمل، حتى أمست بلادنا بسبب
أولئك الأغرار الجاهلين منقطعة عن كل أقطار الدنيا، وأن قلب المؤمن لا يرضى
في حال من الأحوال رؤية جيران بيت الله الحرام وهم يموتون من الجوع والعري
على قوارع الطريق. وذلك مما هو معلوم لدى الخاص والعام والبدوي والحضري،
ولا ريب أن أهل بلادنا لم ينسوا تلك الحالة المؤلمة والهلكة التي لمستها الأيدي
وعاينتها الأبصار؛ لأن الحَوْل لم يحُلْ عليها بعد. وما كانت شدتها بالذي يستحق
أن ينسى.
حينئذ استخرنا الله عز وجل للقيام في وجوه الأئمة الظالمين والمخربين
الملحدين، فرارًا من عاقبة قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجه في حديث صحيح: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على
يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث
الطبراني: (خذوا على أيدي سفهائكم من قبل أن يَهلكوا أو يُهلكوا) وقوله -صلى
الله عليه وسلم- فيما رواه الطبراني أيضًا بحديث صحيح: (أيما والٍ ولي شيئًا من
أمر أمتي فلم ينصح لهم كنصيحته لنفسه كبَّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة في
النار) وقوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني أيضًا بحديث صحيح:
(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) وقوله -صلوات الله عليه
وسلامه- فيما رواه أبو داود في سننه: (خيركم المُدافع عن عشيرته) وقد خار
الله لنا أن ننهض بأمتنا للأخذ على أيدي الظالمين، وإجلاء السفهاء المارقين،
عن البلاد والعباد. طالبين لهم ما طلبناه لأنفسنا من جعل هوانا تبعًا لما جاء به -
صلى الله عليه وسلم-، ودفع السوء عن عشائرنا وجماعتنا العربية التي صارحها
هؤلاء الأغرار بعداوة جنسيتها ولغتها وتقاليدها وراحتها وهنائها في كل ما ظهر
وما بطن من أقوالهم وأعمالهم.
وها إن ما كنا نسمعه وتسمعونه من ضروب ظلمهم وبَغْيهم في عرب الشام
والعراق، لم يسلم منه أهل المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فقد تواترت
الأنباء بمضاعفة بغيهم وظلمهم فيها، وأخذوا في شنق النفوس البريئة وصلبها،
مستعملين ضروب الوحشية الطورانية، وشرعوا بتشغيل بعض من وقع في أيديهم
من سكان العوالي بالأشغال الشاقة بعد الفظائع الشنيعة التي أجروها لهم من قبل. ثم
شنقوا أخيرًا ثلاثة من أعيان المدينة المنورة، وبدأوا بتجنيد الأهالي بالقوة، حتى
استنجد بعض أهالي المدينة المنورة المكيين لينقذوهم مما هم فيه.
فأي مروءة ترضى لحاكم مهما كان ظالمًا أن يسُلّ سيف حقده وضِغْنه
وانتقامه في سكان المدينة المنورة الذين آثروا جوار النبي -صلى الله عليه وسلم-
على كل لذائذ الدنيا، وصاروا أمانة الله في يد من يحكمهم، وإذا كان حقد المتغلبة
وضغنهم قد وصل بهم إلى حد أن يمدوا أيديهم بالأذى العامة سكان المدينة المنورة
الذين لا حول لهم ولا طَوْل في جانب القوة العسكرية المتسلطة عليهم فإن أولى بهم
أن يخرجوا لقتال أولادي الأربعة ومن معهم من أفلاذ أكباد العرب، فهنالك موضع
الشجاعة والقوة لا في قتل الأهالي الأبرياء والمجاورين الضعفاء، وها إن جيوش
الحق زاحفة عليهم من أربع جهات لا من جهة واحدة، مجيبة داعي الله بالأخذ على
أيدي الظالمين، وتأديب الملاحدة المارقين.
وإنه لا يفوتنا بهذه المناسبة أن نعلن أمتنا المخلصة بسرورنا من غيرتها
الإسلامية وحميتها العربية، وشكرنا لها على ما أبدته حتى الآن من البساطة
والرجولية والشمم العربي ومشاركتها الفعلية في طرد المتغلبة المارقة من عقر دارنا
وحصون بلادنا. فسطرت بذلك صفحة ذهبية جديدة في تاريخ البلاد العربية المجيدة
واستحقت أن تكون صاحبة الفخر الأعظم باسترداد الاستقلال التام الدائم لبلادها ما
دامت السماء والأرض إن شاء الله تعالى.
وإن نظرة واحدة فيما كانت بلادنا عليه بالأمس وما صارت إليه بحول مُحوّل
الأحول كافية لترديد شكر الله تعالى منا جميعًا على جزيل آلائه، وعظيم نعمائه فقد
أبدلها من العسر يسرا، ومن الخوف أمنًا ومن الضعف قوة، وكانت مقدّراتها تحت
تصرف وصيّ جاهل لا يراعي فيها إلاًّ ولا ذمة فأزاحه الله عنها. وصارت
حكومتها منها وفيها، وفتحت لرجالها على اختلاف طبقاتهم أبواب العمل لإدارتها،
واستعمال عقولهم وذكائهم ومواهبهم في تحسين أحولها، كما فتح لأبنائهم الطريق
القويم إذا جدُّوا في إدراك الفضائل وتحصيل الكمالات، حتى يبلغوا بقدرة الله عز
وجل سعادة الدنيا بتولي المراتب العالية في دولتهم، والمناصب الجليلة في حكومتهم؛
ويحصلوا على سعادة الآخرة بإيفاء ما يجب علينا من خدمة وفود الله وحجاج بيته
الحرام، واستحصال جميع الأسباب التي تستلزمها راحتهم من كل الوجوه، وإن
عزائم حكومتنا معقودة للنهوض بأمر المعارف على أساس قويم يضمن تهذيب ناشئة
البلاد -إن شاء الله تعالى- على الوجه الذي أشرنا إليه. وإن كل ما حصل حتى
الآن ليس إلا جزءًا قليلاً مما ستناله البلاد من الخير التدريجي الدائم، وإن كان
كثيرًا بالنسبة إلى ما نحن فيه من التدابير الحربية، وبالنسبة إلى الوقت القصير
الذي تمتعت فيه الأمة بالاستقلال.
ومما لا يختلف فيه اثنان أن تأسيس الممالك يحتاج أن تبذل فيه كل طبقات
الأمة ما تستطيعه من السعي والجهد والعمل، وأن يقوم كل فرد من أفرادها بما
يحسنه من وسائل المساعدة للنهضة العامة، حتى يتم الخير العمم على أيديهم جميعًا
فتشترك الأمة كلها في نتائجه بعد اشتراكها في مقدماته. وبهذا تقيم الأمة صُروح
المجد، وتهيئ لممالكها أسباب الهناء والسعد.
وأهم ما ينتظر من الأمة إخلاص النية والتناصح والتعاضد والدفاع عن الحق
والمصلحة القومية والوطنية، فقد ورد في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي
ومسند أحمد: (إن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)
وفي صحيح مسلم: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع
بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا
يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرئ
من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)
وفي سنن الترمذي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يد الله على الجماعة)
فبالتعاون والتآزر والتناصح تنجح الأمم وتفوز في معترك الحياة وتكتسب رِضى الله
ورضى الخلق، وبهذا يأمرنا ديننا الإسلامي الحنيف، فلنكن مسلمين حقيقة، ومن
كان مع الله كان الله معه، وإن ما نالته جيوشكم حتى الآن من النصر والفوز لم يكن
بالإخلاص والنية الصالحة واستئصال شأفة الإلحاد والفساد، وشتان بين من
يؤسس بنيانه على التقوى ومن يؤسس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ.
وإن من باب التحدّث بالنعم الإلهية، والتوفيقات الصمَدَانية، ما ترونه من
أني لم أضنّ بنفسي وراحتى وحياة أولادي، على الدفاع عن راحة أبناء جلدتي
ومصلحة بلادي، وذلك لما علمته من أن الخدمة لا تتم إلا بأن يعمل لها كلٌّ بما
يستطيع.
ومن نِعم الله تعالى على بلادنا هذه العربية اتفاق مصالحها مع مصالح من
والاها من حلفائها، وإعلانهم العطف عليها في آمالها وأمانيها، وتصريحهم بأن من
النقط التي لا تقبل التغيير والبديل بقاؤها في أيدي حكومة إسلامية مستقلة أمينة من
كل طارئ خارجي. وإن من مقتضى أخلاقنا الإسلامية التي منها الاعتراف بالجميل
شكر حلفائنا الكرام على إخلاصهم في صداقتنا وحسن سيرتهم معنا وبذلهم الوُسع
فيما فيه خير هذه البلاد. وأنا سنحرص على دوام ما يؤيد هذه المنافع المتبادلة إلى
ما شاء الله.
ونستنهض همة أمتنا في الختام إلى العمل على حفظ ما بأيديهم من نعم الله
السابغة، والاستمرار فيما أخذوا به من أسباب النهوض والتقدم؛ لأن الزمان
الحاضر زمان جِدّ وعمل، وقد خاضت كل الأمم في معامع الحروب والخطوب
تأمينًا لمصالحها وبقائها، وضحت كل مرتخص وغالٍ في سبيل عزها ومجدها،
وإننا لجديرون بأن نكون في مقدمة الطامحين إلى إحياء الأمجاد، والسير في سبيل
الأجداد، ورفع شأن البلاد، واجتناب كل ما يخل بنعمة حاضره، وسعادة مستقبله،
ومن جهة ثانية فإني أحث قومي على الاقتصاد والأخذ بأسبابه وترك البطالة المنهي
عنها في الدين الإسلامي، ولنا مُعتبَر في الحث وشدة المثابرة في وسائل الاكتساب
مهما كان حكمنا على حالة بلادنا في الوقت الحاضر من جهة ما يظهر في النظرة
الأولى من قلة أسبابها الاقتصادية، ولكن مباشرة العمل ستبين لكم أنها تأتي بثمرات
لم تكن في الحُسبان، فيكون بها تعديل الحاجة وتهوين الضرورة التي أحست البلاد
بها في الشهر الأول بل في الأسبوع الأول من وقوع الحصر.
وإنه لم يبق لأحد عذر في التقصير بشيء من أسباب الارتقاء بعد أن فتحت
أبواب الاكتساب الخارجية للرجال، وأبواب المدارس للأطفال، وسوف تستمر
حكومتنا في هذا السبيل -إن شاء الله- حتى تستكمل كل أسبابه، لا سيما المدارس
المساعدة على ذلك بكل أنواعها، كالمدارس التجارية والزراعية والصناعية والطبية
والهندسية، وسائر ما نحتاج إليه في حياتنا الجديدة والعُمران الحاضر على الطراز
والوجه المناسب لقدسية بلادنا، حتى يسهل استثمار ما أعد الله تعالى فيها من لوازم
الحياة على أيديكم وبواسطتكم في عهد قريب -إن شاء الله تعالى- وليس ذلك بعزيز
عليكم بالنظر إلى ما خصكم الله تعالى به من الذكاء والفطنة، وإن خطتنا الإسلامية
هي المحافظة على ما نحن فيه والسعي لتنميته والتقدم به بالتدريج الذي تقتضيه
حالة البلاد {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة المكرمة
... ... ... ... ... ... ... ... ... وملك البلاد العربية
... ... ... ... ... ... ... ... ... الحسين بن علي
(المنار)
كان المنشور الهاشمي الأول خطابًا خاصًّا بالمسلمين، وقد نشرنا خلاصته في
الجزء الرابع، والمنشور الثاني موجهًا إلى الناس عامة والمسلمين خاصة، وقد
نشرناه بنصه في الجزء السادس، وهذا المنشور الثالث خاص بأهل الحجاز وحدهم
وكلهم مسلمون كما يعلم القراء، إلا أنه يوجد في جدة أفراد من أهل الكتاب
المعاهَدين تساهَلَ الحكام من قبل بالسماح لهم بالإقامة فيها، وسبب جعل الحرمين
وما يحيط بهما من جزيرة العرب خاصًّا بالمسلمين، مع ما هو معروف من تساهل
الإسلام هو أنهما أعظم المعابد الإسلامية وما حولهما حرم لهما. ومن المساواة في
الإسلام أنه لا يجوز للمسلمين في دار الإسلام دخول معابد غيرهم، ولو مؤقتًا إلا
أن يكون بإذنهم، فهل تجوز الإقامة فيها؟ لو كان لهذا الملك الشريف رعية من
غير المسلمين لَخَصَّهم بخطاب يعلم منه القاصي والداني أنه أوسع صدرًا وأشد
تسامحًا من خلفاء العباسيين، وأنه لو حكم بينهم بما يأمره به دينه واجتهاده لكان
حكمه خيرًا لهم من دستور العثمانيين في دينهم ودنياهم.
وقد كنت مع جمهور من المسلمين السوريين في مجلسه الشريف من دار
حكومته بمكة المكرمة ومعنا عبد العزيز بك المصري المشهور، فذكرت في سياق
الحديث عن العرب إخلاص القائمين بالنهضة العربية من المسلمين والنصارى
وضربت الدكتور أمين المعلوف مثلاً وشاهدًا فقال -حفظه الله تعالى-: يا حضرة
السيد، إنني لا أحب أن يفرق في هذا المقام بين مسلم وغيره، وإذا كان أصل
شرعنا في الذمي الغريب عنا أن له ما لنا وعليه ما علينا، فكيف إذا كان من أبناء
جنسنا، ثم أثنى على الدكتور وأعرب عن رضائه عنه، فسر الحاضرون بقوله
سرورًا عظيمًا.
__________(19/489)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عاقبة الحرب
ومكانة بريطانية العظمى منها
كتبنا في أول العهد بالحرب مقالة نشرت في (ج 12م17) الذي صدر في
آخر ذي الحجة سنة 1332 بينَّا فيها من استعداد الفريقين المتقاتلين ومن مقاصدها
ما ظهر لنا بعد سنتين أنه أصح من كل ما نشر في الصحف مخالفًا له. وقد رأينا
أن نعيد أواخر تلك المقالة للمقارنة بينه وبين كلام حديث العهد، نشر في جريدة
التيمس، وهذا نص عبارتنا في تلك المقالة:
(فجملة القول في المجموعين المتقاتلين أن إنكلترة وفرنسة وروسية
وبلجيكة والصرب والجبل الأسود أكثر من ألمانية والنمسة والعثمانية رجالاً ومالاً
وأساطيل بحرية وهوائية، ولكن ألمانية وحدها أعلى منهن استعدادًا ونظامًا، ولولا
الأسطول الإنكليزي لرجحت على الجميع رجحانًا ظاهرًا، بل لأمكنها أن تحارب
أوربة كلها وتنتصر عليها.
بيد أن هذا السبق في الاستعداد ليس مما ينتظم في سلك الخوارق والآيات بل
يمكن لدول الأحلاف أن يلحقوها به إذا عجزت في أول العهد عن بطشة فاصلة في
فرنسة. أما إذا وقف مدها عند تدويخ بلجيكة، والاستيلاء عليها وعلى بضع
ولايات من شمال فرنسة وجانب من بولاندة الروسية، فما بعد المد إلا الجزر، فإذا
أمكن للحلفاء أن يزيدوا عدد جندهم ويمدوه بما لم تستطع هي مثله عاد لهم الرجحان
عليها في البر، كما سبق لهم الرجحان عليها من قبل في البحر.
فمحل الرجاء للحلفاء إنما هو التغلب بالكثرة بقاعدة قول الشاعر العربي:
ولست بالأكثر منهم حصًى ... وإنما العزة للكاثر
أما هذا المدد الذي يكون به الرجحان البري فلا يُرجى إلا من قِبَل بريطانية
العُظمى؛ لأن الفرنسيس قد بذلوا كل ما في وسعهم، والروس-وإن كانوا أكثر
عددًا- لا يجدون من الذخائر والسلاح ولا من الضباط ما يمكنهم من تجنيد العدد
الذي تسمح لهم به كثرتهم، والإنكليز وحدهم هم القادرون على مضاعفة جنودهم،
وعلى إيجاد ما يحتاجون إليه من السلاح والذخيرة؛ لكثرة معاملهم وعمالهم ومالهم،
وليس عندهم جندية إجبارية تستغرق العمال، وتوقف حركة الأعمال، وإنما يعز
عليهم التعجيل بإيجاد ضباط أكفاء لجيش كبير يجددون تنظيمه تجديدًا، ولكن الإنكليز
أهل صبر وأناة، فما لا يدركونه في سنة يرضون بأن يدركوه في سنين، وتاريخهم
مُرة أخلاقهم في ذلك. وقد قدر لورد كتشنر ناظر الحربية القائم بتجهيز الجيوش
الإنكليزية مدة هذه الحرب بثلاث سنين.
تبين لنا مما تقدم ما يراه كل الواقفين على الحقائق من أن هذه الحرب ليست إلا
المظهر الأجلى للتنازع على السيادة والنفوذ والاستعلاء في الأرض بين الإنكليز
وأبناء عمهم الألمان، وسائر الدول تبع لهما في عللها ومعلولاتها، ومقدماتها
ونتيجتها.
دع البحث في المقدمات فقد انتهى أمرها، وسيحكم التاريخ حكمه العادل فيها،
وأما النتيجة فهي أن السيادة العُليا في الغرب والشرق ستكون لإنكلترة أو لألمانية
لا محالة، ويكون أحلافهما تبعًا لهما، فتكون لإنكلترة إذا فازت هي وأحلافها
بالنصر التام؛ لأنهم لن ينالوا ذلك إلا بها، ولا تنتهي الحرب إلا وقد انتهكت قواهن
من دونها، واستحدثت هي من القوة فوق ما كان لها؛ إذ شرعت بتأليف قوة برية
لم يكن لها مثلها في وقت من الأوقات، كما أنها تزيد الأسطول قوة على قوة،
وحينئذ تكون أعظم الدول ربحًا وأقلهن خسارة، وإذا كان من بواكر هذا الربح
مصر وقبرص والبصرة ومعظم مستعمرات ألمانية في إفريقية أو جميعها كما هو
المنتظر فكيف تكون أواخره؟
وأما إذا كان النصر التام لألمانية وأحلافها فقد طالما لهجت الجرائد الإنكليزية
والفرنسية وغيرها بأن ألمانيا حينئذ تجعل أوروبة كلها تحت سيطرتها، وتنتزع
منها جميع مستعمراتها، وأنها بذلك تسود العالم كله، ولعلنا نعود إلى تفصيل القول
في نتيجة الحرب على كل تقدير، بقدر ما تسمح به المراقبة الرسمية على الصحف
ونلم في ذلك بأماني الشرقيين عامة والمسلمين خاصة [1] .
هذا ما كتبناه منذ سنين وعدة أشهر، وأما ما جاء في جريدة التيمس مؤيدًا له
فهو ما نشر في جزء المقتطف الذي صدر في آخر ديسمبر من السنة الماضية
الموافق 5 صفر الماضي، وهذا نصه بحروفه إلا ما غيرته المطبعة من تأنيث
أسماء الدول وأوربة بالتاء:
***
رأي الإنكليز في عاقبة الحرب
إن الألمان لجأوا إلى الدفاع بعد الهجوم في كل الميادين تقريبًا والحلفاء
يفوقونهم في كل شيء عددًا ومادّة ما عدا القوة العقلية، وفي يدهم زمام البحار فهم
يضيقون على الألمان تضييقًا لا يضعفه علم ولا تقوى على احتماله حمية وطنية
مهما عظمت. وما من دولة محايدة يُؤْبَه لها إلا وهي تفضل الانضمام إليهم.
وستكون العاقبة لنا حتمًا، ولكنها قد لا تزال بعيدة، فإن ألمانية لم تُقهر حتى الآن.
تجنبت بوارجها القتال قبل أن يُقضى عليها. نعم: أُقفلت أسواق المسكونة في
وجهها وأوصدت أبواب البحار أمام سفائنها؛ وقد حدث مثل ذلك لنابليون بونابرت
في معركة الطرف الأعز، ولكنه بقي في أوج مجده وبقيت ملوك الأرض تخطب
وُدّه وتتسابق إلى نيل رضاه.
والإنسان يعيش في البر لا في البحر والدولة البرية التي تتسلط على نصف
أوربة وتمتد سلطتها من البلجيك إلى الأناضول لا يمكن إذلالها بقوة بحرية؛ لأنها
لا تزال تستورد ما تحتاج إليه من البلدان الواسعة التي تحت سطوتها.
ولا مُشاحة في أن إيصاد البحار دون ألمانية قد أضر بها كثيرًا ولكن الضربة
القاضية لا تكون إلا في البر. هذا ما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل
(المقتطف: وقد مثلت ذلك مجلة لندن بصورة وقف فيها الجنرال جوفر الفرنسوي
أمام أمير البحر جاليوك الإنكليزي وقال: نِعِمَّا ما فعلت، ولكن الضربة القاضية
تكون في البر لا في البحر- كما ترى في الصورة التالية) [2] .
ولقد أخطأنا في إلقاء اعتمادنا كله على قوتنا البحرية وإهمالنا لقواتنا البرية
فكنا كالخِراف أمام الذئاب لمَّا ذهبنا لمحاربة ألمانية في فرنسا؛ لأننا اعتدنا الراحة
والرفاهة فأسأنا إلى أنفسنا وإلى أوروبة كلها بإهمالنا قوتنا البرية.
وسبيلنا الآن أن نعلم أن قوة ألمانية الحربية لم تضعف حتى الآن ولا دليل
على أنها لا تستطيع مواصلة الحرب وإمداد جنودها بالرجال والسلاح سنة أخرى أو
سنتين.
من المحتمل أن قيادة جيوش الألمان جعلت منذ الربيع الماضي تُخفي عدد
قتلاهم وجَرحاهم ولا تذكر إلا القليل منه حالَمَا رأت أننا نعنى بذلك ونبني عليه
أحكامنا. ولها غرض آخر وهو أن لا يعلم الشعب الألماني ما حل برجاله. ومع
ذلك فإنها لم ترسل إلى ميدان القتال حتى الآن إلا القليل من مُجندي سنة 1917، ولم
ترسل أحدًا من مجندي سنة 1918. وهي تستطيع أن تجند كل سنة نحو نصف
مليون من الشبان. وكثيرون من الجرحى يُشفون ويعودون إلى ميادين القتال. وقد
يكون عندها الآن مليونان من الرجال المستعدين لحمل السلاح وإنجاد الجنود
المقاتلة.
ولا جِدال في أنها خسرت هي والنمسا خسارة فادحة في الصيف الماضي،
ولكن خسارتهما هذه لا تستلزم أن يطرحا سلاحهما حالاً ويطلبا الصلح ناهيك عن
أن التزامهما خطة الدفاع تقلل خسارتهما من الرجال وتمد أجل الحرب كثيرًا.
فلا ينبغي لنا أن نتوانى بل يجب علينا أن نزيد همة وإقدامًا ونوالي الهجوم
نحن وحلفاؤنا ونُكثر من سبك المدافع والقنابل وإعداد الجنود ونستعين بكل رجال
الإمبراطورية البريطانية. وما دامت حكومتنا قد أقرت التجنيد الجبري، ووزعت
إدارة الأعمال على الأكْفَاء من الرجال فلا يهمنا بعد الآن من يدخل الوزارة أو من
يخرج منها.
وستنتهي هذه الحرب حينما تتأكد ألمانية أنها تخسر كثيرًا بإطالتها ولا تستفيد
شيئًا منها، ولكن ما من أحد يعلم متى يكون ذلك. من المرجح أن أُولي الأمر في
ألمانيا علموا الآن هذه الحقيقة ولكن يصعب عليهم أن يجاهروا بها قبلما تدور الدائرة
على قُوادهم في معركة كبيرة فاصلة لا سيما وأن الشعب الألماني قد استهوي وأُقنع
أن الفوز في يده فيصعب عليه أن يصدق الآن ما يناقض ذلك) .
(المقتطف)
واستطرد الكاتب إلى ما يجب على الأمة الإنكليزية فِعله بعد أن يعقد النصر
للحلفاء فقال:
إن الحرب ستنتهي يومًا ما فكيف يكون حالنا حينئذ؟ إذا اعتبرنا قوانا البرية
والبحرية وخيرات بلداننا فسنصير أعظم دولة حربية في المسكونة، ونكون مُعتمد
حلفائنا ونمتلك ما مساحته مليون ميل مربع من مستعمرات الألمان، ويكون عندنا
جيش محنَّك من الجنود والضباط يعد بالملايين، ويزيد تفوقنا البحري عما كان قبل
الحرب، وتتحقق الأمم كلها أن إمبراطوريتنا مرتبطة بعضها ببعض، عراها لا
تنفصم، وشعوبها لا تُقهر، وفِعالها خليق بماضيها المجيد.
ولقد كان ضعفنا العسكري شوكًا في جنب جنودنا في السنوات الأخيرة وهو
من أكبر الأسباب لنشوب هذه الحرب إلا أن ذلك قد مضى وانقضى. ولكننا قد
نخسر كل ما اكتسبناه الآن إذا قامت فينا وزارة تطلب أن نطبع سيوفنا سككًا
ورماحنا مناجل قبل أن يحين الزمان الصالح لذلك. فيجب علينا أن نكون على حذر
مدة خمسين سنة إلى أن تزول هذه الحرب وما أثرته في النفوس ويعود الأمن
والسلام إلى نصابيهما.
وعلينا أن نحذر الغرور الخمول؛ لئلا نضيِّع ثمار الظَّفَر، فقد أُعطينا زعامة
حلفائنا فصارت زعامة أوروبة لنا بحق مكتسب، فلا ينبغي لنا أن نحل محل ألمانية
فنكون قوة حربية مستبدة مثلها؛ لأننا أصحاب البوارج والرجال والأموال ونتوخى
التفوق الحربي على غيرنا. بل يجب أن يكون غرضنا النفع العام وخدمة نوع
الإنسان. أما البحر فيجب أن يبقى لنا التفوق فيه، وأما البر فيجب أن يكون عندنا
من القوة ما يكفي لحماية ثغورنا وبلداننا مهما اختلفت تصاريف الزمان. ولا نخدعنّ
أنفسنا بأن القوة البحرية كافية وحدها كما فعلنا فيما مضى.
يجب أن نمرن شبابنا كلهم على استعمال السلاح، لا لكي يضرموا نار الحرب
به بل لكي يمنعوا إضطرامها ويحملوا كل أملاكنا ومستعمراتنا ويحفظوا تاريخ
أسلافهم المجيد.
والفوز في الحروب والتغلب على المكارم مغروسان في نفوسنا حتى إن
جنودنا الذين دارت الدائرة عليهم في أول الحرب واضطروا أن يعودوا القهقرى أمام
العدو لم يكن يخطر لهم أن يتفكروا إلا بأن الفوز سيكون لهم أخيرًا، وقد قامت هذه
العزائم كل مدة الحرب وستبقى أشرف ميراث نورِّثه لذريتنا من بعدنا) .
(المقتطف)
هذا ولم نكد ننتهي من كتابة هذه السطور حتى طير إلينا البرق أن ألمانية
عزمت أن تجعل بلادها كلها معملاً للأسلحة والذخائر الحربية أو أن تحسب البلاد
كلها محلاًّ تجاريًّا كبيرًا وتستخدم كل ما في بلادها من الأيدي العاملة ومعدات العمل
لخدمة الجيش، وأن لا تكتفي باستخدام الرجال والأسرى بل تستخدم النساء أيضًا،
ويقال: إنها عزمت على تجنيدهن أيضًا. وأن إنكلترة قررت إنشاء إدارة للتموين
يرأسه رجل مطلق التصرف يحق له أن يرغم الناس على الاقتصاد، وأنها حظرت
على السكان إتلاف المواد الغذائية واستعمال السُّكَّر في الكماليات، وطحن الدقيق
على الأسلوب الذي يزيل منه المادة السمراء فتقل تغذيته. اهـ ما نقلناه عن
المقتطف من ترجمته وتعليقه.
ومَن قابل ما نقله عن جريدة التيمس التي هي أعظم الجرائد الإنكليزية مكانة
ومعرفة بما قلناه في أول العهد بالحرب في شأن ظَفَر إنكلترة وحلفائها يجده شيئًا
واحدًا.
__________
(1) قد وفينا بهذا الوعد ونشرنا في الأجزاء الماضية ما أذن لنا بنشره.
(2) المنار: نشرت الصورة في المقتطف كما نشرت في مجلة لندن.(19/495)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحركة الطورانية الجديدة
في بلاد تركيا [*]
ننقل هذه المقالة عن العدد 18 والعدد 19 من جريدة القبلة الغرّاء مع تصحيح
بعض الألفاظ:
قرأنا في جريدة (نبر إست) الإنكليزية الصادرة في أول ذي القعدة مقالاً
خطيرًا (؟) تحت عنوان الحركة الطورانية الجديدة فترجمناها (؟) إلى لغتنا
العربية الشريفة ونشرناها على صفحات القبلة، لعل فيها عِبرة ومُزْدَجرًا فإن أسرار
الاتحاديين، والحمد لله قد ذاعت وشاعت حتى أصبحت حديث الشرق والغرب.
وإن وراءها لأشد منه أو أفظع، وأدهى وأمرّ، وسيعلم النازحون عن المملكة
العثمانية من حقائق الاتحاديين الطورانيين ما علمه العرب العثمانيون قبل ذلك
بأعوام فاستعدوا للدفاع عن كيانهم وعن دينهم، وبعضهم سادرون في غفلاتهم
هائمون في أودية الأوهام والأضاليل، وإليك ترجمة المقال المذكور:
ظهرت في تركيا حركة جديدة عرفها القوم باسم (بني طوران) أعني
طوران الجديدة، وقد نبتت في الآستانة سنة 1331 ثم أخذت تنتشر في أجزاء
كثيرة من السلطنة، وقد امتازت هذه الحركة بكونها مقصورة على فئة
مخصوصة غايتها توحيد القومية التركية بالعنصرية الجنسية دون الروابط الدينية
الإسلامية. وإليك بيان الغايات التي ترمي إليها في مساعيها وأعمالها:
أولها: أن تجعل الأتراك أمة قائمة بذاتها مستقلة عن الدين الإسلامي تمام
الاستقلال حتى يتهيأ لها أن تربي فيهم ذلك الشعور القومي الذي ذكره الدكتور ألفرد
نونج في مقالة نشرها تحت توقيعه في جريدة (أندرنوخ) الألمانية على إثر حديث
دار بينه وبين زعماء الاتحاديين [1] .
ثانيها: ترقية الروح العسكري التركي فقط [2] .
ثالثها: إنشاء العلاقات التجارية وغيرها من الصلات بين مسلمي بلاد العجم
الشمالية (آذربيجان) وبلاد روسيا في آسيا والأجزاء الجنوبية منها.
رابعها: تطهير اللغة التركية من الألفاظ العربية والفارسية ومن آداب هاتين
اللغتين.
ولهذه الجمعية التركية مَطمع آخر ترمي إليه وإن لم تجهر به رسميًّا وهو
تتريك العرب وإدغامهم في الترك حتى لا تبقى لهم قومية قائمة بذاتها. وأكبر آمال
هذه الجمعية أن تجعل التركي العثماني يعد نفسه تركيًّا قبل كل شيء، وأما كونه
مسلمًا فيعد عنده من المسائل الثانوية التي لا تهمه كثيرًا.
أما هذه الجمعية فإنها تقوم بتلك الأعمال بإيعاز من السلطة الحاكمة التي
تؤيدها بكل وسيلة ممكنة وتدفع لها كل ما يلزمها من المال لأجل بلوغ هذه الغاية،
وهم يسمونها (ترك أوجاغي) أي: جمعية الوطن التركي. وهي تقوم الآن بنشر
دعوتها والقيام في أعمالها بهمة فائقة. أما الأطفال الترك فإن المدارس الطورانية
التي شُرع في إنشائها كفيلة بأن تغرس في نفوسهم تلك الروح التركية الجديدة.
وقد بذلوا غاية الجهد في تدريس التاريخ القومي للطورانين، وأفرغوا كل
عناية لنشره في المدارس العالية، وحضوا الطلاب على التنافس فيه والتهافت عليه،
وأخذوا بتأليف قوة كبيرة من فتيانهم سموها بالتركية (إيزجي) أي: قافة
الأثر. ووضعوها تحت رعاية أنور باشا وهم يدربونها على الفنون العسكرية حتى
تكون قادرة على الانضمام للجيش العامل وتفوق غيرها من أبناء العناصر
الأخرى كالعرب والأكراد واللاز ونحوهم , ولهذه القوة الصغيرة علامات
مخصوصة وشارات معينة وألقاب معروفة، وكلها تركية قديمة يرجع تاريخها إلى
ما قبل العصر الإسلامي. أما الأولاد الذين أسماؤهم مأخوذة من العربية فقد
استبدلوا بها ألفاظًا تركية محضة بدعوة أن الكشافة تركية خالصة وأن أسماءها يجب
أن تكون كذلك إتمامًا للقومية ورعاية للجنسية، ومن الأسباب التي عملت على إيجاد
هذه الحركة أمور علمية ولغوية؛ لأن الاتحاديين شرعوا في نقل كتب
كثيرة من علمية وتاريخية إلى لغتهم فكان لها في نفوسهم تأثير. وقد تفانوا في ذلك حتى عزموا على ترجمة القرآن الكريم إلى التركية واستعماله في العبادة بها لا باللسان
العربي، ولكن العلماء المسلمين من جميع النِّحل حتى بعض التُّرك أنفسهم
عارضوا في ذلك أشد معارضة.
وقد طبع الاتحاديون كتبًا كثيرة لتأييد المبدإ العُنصري، ومن ذلك الروايات
الكثيرة التي وضعوها وأهمها (بني طوران) وهي الرواية التي كتبتها إحدى
نسائهم المطالبات بحقوق الانتخاب واسمها (خالدة خانم) وقد حبَّذت فيها تلك
الحركة الجنسية ونوهت بمطالب السيدات وحقوقهن، ولا ريب أن مثله مسألة
المطالبة بحقوق النساء، وما يقوم به الأتراك من نشر دعوتهم والحث على العودة إلى
مدينة طوران من شأنه أن يعيد إلى مخيلة الإنسان ذكرى ما هو معروف عن الأقوام
الطورانية وما كانت عليه من الأحوال الاجتماعية؛ لأن استبدادهم بالنساء وما
ألحقوه بهن من ضروب القسوة والظلم يفوق ما فعلته جميع شعوب الأرض في
العصور المظلمة.
يقال: إن الحركة التركية بدأت بالظهور تحت صور شتى وأسباب مختلفة
أولها اللغة التركية ومحاولة كتابتها بما يخالف الأحرف العربية حتى تعذرت قراءتها
على كثيرين. على أن هذا الأمر لا شأن لنا به على الإطلاق. وهنالك أسلوب آخر
أعني به توطيد العلاقات مع مسلمي روسيا والقوقاس دون غيرهم من سائر
المسلمين بحجة أن هذه الأقوام ربما كانت من أصل تركي أو أن تتريكها ممكن في
الأقل، ولكن ذلك لم ينقذهم من خطر الاندماج في العرب وخسران قوميتهم ما دام
للإسلام سلطان على النفوس [3] ولذلك عالجوا أمرهم بإحياء اللغة التركية والسعي
في استلالهم عن سواها.
أما الباحث الثالث الذي شدد عزائمهم فهو كتاب تلاه [4] الدكتور ناظم
المرخص المسئول لجمعية الاتحاد فكان كالجذوة أصابت يابسًا؛ لأنه أوقد في
نفوسهم نار الحماسة والحمية. وذلك الكتاب مؤلَّف تاريخي وضعه الموسيو ليون
كوهين بالفرنساوي عن آسيا والأتراك في منغوليا وأصلهم منذ سنة 1405 ميلادية،
وقد صدر ذلك الكتاب سنة 1896. وبما أن الجمعية العلمية الفرنساوية قرظته
وخصته بالعناية فقد حل عند الاتحاديين مكانًا رفيعًا فنقلوه إلى التركية بعبارات
بالغوا فيها ما استطاعوا ولم يلتفتوا ألبتة إلى صحة بعض الأحكام والآراء المذكورة
في الكتاب بل عدّوا ذلك أمرًا ثانويًّا بالنسبة لخطتهم المرسومة. ومن البديهي أن من
مقتضيات تلك الحركة استقلال العنصرية التركية دون الإسلام تمام الاستقلال
وانفصالها عنه أشد الانفصال، وإن ذلك لأمر خطير عند المسلمين وغيرهم من الدول
العظمى مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا وإنكلترا؛ لأن لهذه الدول عددًا كبيرًا من
الرعايا المسلمين، وذلك ما يجعل لهذا الانقلاب أهمية كبيرة في الشرق والغرب.
وهذه الحركة كما يقولون، مقصورة على جمعية الاتحاد والترقّي ومبنية
على نظرات أستاذهم المجري فمبري لما علق في ذهنه من المزاعم القديمة البالية من
أن الإسلام ينافي الوطنية [5] , ويزعم الاتحاديون أن الإسلام باختلاطه مع التقاليد
والمؤثرات العربية والفارسية واليونانية والبيزنطية قد حوَّل الترك إلى
عنصر شرقي مسلم ليس له مدنية (كلتور) خاصة به، وهم يقولون: إن هذه
الحقائق تحملهم على الاهتمام بمصيرهم والتفكير في عاقبة أمرهم وزيادة العناية في
تمييز الحياة الوطنية التركية عن الإسلام.
أما تيار المهاجرة التركية فقد بدأ منذ أوائل عهد النصرانية في آسيا من بلاد
الصين والأكسوس. وكانت ديانتهم في ذلك الزمن على افتراض أنهم كانوا يدينون
بدين خاص ما يسمونه اليوم (السامانزم) أي: العبادة الوثنية [6] . وكانت مدينتهم
مؤلفة من المبادئ البسيطة المعروفة عند القبائل الرحّالة المنتشرة في أواسط آسيا
كما يقضي بذلك مركزهم الجغرافي وحالتهم الاقتصادية والمحيطة بهم. ولم يكن لهم
من المزايا غير الصفات الحربية، ولم يكن لهم من الشرف القومي أيضًا سوى ما
يستعيرونه من شرف الأمة التي تستخدمهم بالدراهم للمحاربة في صفوفها، وكانوا
يُعرَفون بالطاعة لكل من أطعمهم وتولى قيادتهم في ساحة القتال. ولا مُشاحّة أن
التركي لم يستطع تجوُّز تلك الحدود من تِلقاء نفسه. ولم يكن للتركي دين خاص به
ولم يعمل شيئًا لترقية شئونه وبلوغ درجة رفيعة من المدنية، ولم يحاول الترك قط
أن يمتزجوا ببقية أجناس قومهم، وإن كان جنكيز المغولي قد حدّث نفسه بهذا الأمر
وجعله نُصْبَ عينيه وأكبر آماله. ولم يكن التركي يقتبس من المدنية إلا ما تلجئه
الأحوال الضرورية إليه لاحتكاكه بها كرهًا كما وقع له مع المدنية الصينية فالفارسية
فالعربية فالرومية فالألمانية. ولا يقع في وهم أحد أن ما استعاره التركي من مدنيات
أولئك ولا سيما مدنية الإسلام قد حال دون بلوغه (كلتور) مدنية خاصة به [7] وأن
التركي لم يُظهر في عصر من العصور مقدرة خاصة أو استعدادًا طبيعيًّا لأجل
النهوض وإظهار مدنية يستقل بها عما كان يقترضه اقتراضًا ويقلده تقليدًا مضحكًا.
وفي الحقيقة أن العثمانيين من بين قبائل التركمان أقل الناس لياقة لتمثيل أمة
يدلك على ذلك أن الأناضول عدا ما فيه من قبائل اليودوك والتركمان خالٍ من
آثار القبائل التركية الأصلية؛ لأن القومية التركية فيه ليست إلا لفظة أوجدتها
الأحوال السياسية. وليس الدم التركي فيها سوى قطرة صغيرة في بحار تلك الدماء
المتحدرة من الأقوام والشعوب القديمة الراجعة في تاريخها إلى ما وراء تأسيس
القسطنطينية بأجيال كثيرة كاليونان القدماء والفريجيين والغلاطيين والآشوريين
والكاريانس والحيثيين، وتلك الدماء هي التي تحركت في أعصاب ذلك المزيج
المسمى بالعثماني فأوجدت فيه ميلاً للزراعة وحرثة الأرض، ولا سيما العناية
بالبحرية في القرن السادس عشر. وقد كان من جملة العوامل التي حفظت وجود
الأتراك حتى اليوم بصفة شعب معروف أمران: الدين والطاعة العسكرية. فإذا
ذهب الإسلام من تركيا، فماذا عسى أن يبقى لها. وقد أجاب عن ذلك أصحاب
(قوم جديد) فقالوا: إنه سيبقى لهم أتراك طوران والإسلام بصورة جديدة فيكون دينًا
وطنيًّا أهليًّا. على أن شعب طوران لم تظهر عليه دلائل الابتكار والاختراع
فيستطيع قلب الإسلام رأسًا على عقب وجعله كما تشاء عنصريته الطورانية: وكما
يزعم أقطاب القوم الجديد، وكل ما في الأمر أن للطورانيين سبقًا في التدمير
والتخريب والقتل كما فعل جدهم هولاكو فقد دمر الترع المائية التي كانت في
العراق وجعل بقاعه المخصبة مجدبة حتى اليوم. أما الطورانيون العثمانيون فقد
نسفوا المدنية البيزنطية الزاهرة، ومثلهم جنكيز السفاح الذي ملأ بُخارى بغيًا وظلمًا
وقد لا يصدق الناس أن تيمور كان من الفرسان وأن جنكيز من أقطاب السياسة.
ولقد أفاض المسيو كوهين في وصف المزايا العسكرية الطورانية، ولكنه لم
يذكر شيئًا عن فظائعها إلا أن الدكتور بيسلر أصلح ذلك الخطأ فبين ما كانت
تستعمله تلك البطون الطورانية من ضروب القسوة والظلم مع جميع الأمم الخاضعة
لأحكامهم، وليس للتركي لذة أو اهتمام خاص في الأمور الدينية؛ ولذلك لم يبذل
شيئًا في خدمة الإسلام الذي جمد بين يديه فلم يتقدم خطوة؛ ولذلك يستصعب
العارفون قدرة (قوم جديد) على جعل الإسلام تركيا محضًا.
ومما لا ريب فيه أن التركي يخاف العرب أشد خوف ويدأب في استعمال كل
الوسائل لجعلهم أتراكًا ومحو قوميتهم تقليدًا لما فعله شولرويك هولستين مع ولايات
الدانمرك التي انضمت لألمانيا. ولقد صرح بذلك جلال نوري بك في أحد كتبه فقال:
(إن البلاد العربية بأسرها ولا سيما العراق واليمن يجب أن تكون تركية في اللغة
والجنس، وأن تكون لغة الدين عندهم تركية أيضًا، والإسراع في تتريك البلاد
العربية من أهم الأمور لحفظ وجودنا؛ لأن روحًا جديدة بدأت تدبّ في نفوس
العرب ورجال نهضتهم وأخذت تهدد وجودنا السياسي بضربة تقضي علينا قضاء
مبرمًا، فالضرورة -والحالة هذه- توجب علينا أن نكون على تمام الأُهبة والاستعداد
لاتقاء هذا الخطر) . وكتب أحمد شريف بك في جريدة طنين ما يأتي: (يتحدث
العرب كثيرًا في هذه الأيام عن نفسهم وقوميتهم، وهم يجهلون اللغة التركية جهلاً
تامًّا كأن بلادهم ليست خاضعة للأتراك، فالواجب يقضي على حكومة الباب العالي
أن تهتم اهتمامًا فعليًّا في جعلهم ينسون هذه النغمة وتضطرهم لتعلم اللغة التركية
الرسمية. فإذا أهمل الباب العالي ذلك كان كمن يحفر قبره بيديه. وإذا بقي العرب
على يقظتهم هذه فلا يبعد أن يهبوا لاسترجاع ملكهم، وفي ذلك القضاء على السيادة
التركية في آسيا) وهنالك أدلة أخرى عديدة على أن الأتراك يسعون بكل جهدهم
للقضاء على أمة شريفة كالأمة العربية ومحو أثرها من عالم الوجود، ولكن الحلفاء
يدافعون عن مبدأ القومية ويؤيدونه، وهم لا يسمحون بفناء أمة كريمة تريد البقاء
ولا سيما إذا كانت أمة أخرى طاغية تريد سحقها. وذلك ما يجعل ميول الحلفاء
عربية محضة وهو أمر لا يرتاب فيه أحد من المسلمين المتمتعين بالعيش في ظل
إنكلترا وفرنسا. فالحلفاء أنصار العرب، وهم يسعون لتأييدهم؛ لأنهم أصحاب
الدين الإسلامي الحنيف، ومنهم النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وفوق ذلك
كله فإن هنالك صلة قرابة بين العرب والمسلمين التابعين لحكومة فرنسا في شمال
إفريقيا اهـ.
__________
(*) قد لخص هذه المقالة صاحب المقتطف ناسبًا إياها إلى أحد أدباء الإنكليز وأبقى كلمة الطورانية
بالتاء.
(1) عبارة المقتطف: وهذه العبارة هي عبارة الدكتور ألفرد نوسيج من حديث دار بينه وبين زعماء الاتحاديين ونشر في جريدة درتاج الألمانية اهـ.
(2) ترقية الروح العسكرية بين الترك أهم.
(3) عبارة المقتطف: وإلا لابتلع العرب الترك العثمانيين في آخر الأمور ولو فاز هؤلاء باستخدام الجامعة الإسلامية لبلوغ غاياتهم.
(4) أي: اطلع عليه وقرأه.
(5) عبارة المقتطف: ويقال أن أحرار الترك يميلون إليها بوجه خاص بناءً على القاعدة التي وضعها فمبيري اليهودي المجري المعروف وهي أن (لا وطن في الإسلام) .
(6) المقتطف: كانت القبائل التركية تقطن بلاد آسية من حدود الصين إلى نهر جيجون (أوكسوس أو موداريا كما يسميه التتر) وكانت ديانتها - إن كان لها ديانة- ما يسمى (بالشامانية) أي عبادة قوى الطبيعة بالشعوذة والسحر.
(7) كذا في القبلة والمراد: دون إنشائه مدنية خاصة.(19/501)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأثير الصحافة في أخلاق الأمة
سيدي الأستاذ صاحب المنار
بمناسبة مقالكم الصريح عن حال المسلمين الاجتماعية ومكان الأغنياء وسائر
الطبقات منها ربما جاز لي أن أتعرض بكلمة وجيزة لمسألة حيوية مرتبطة بهذا
الموضوع وهي تأثير الصحافة في أخلاق الأمة.
بديهي أن الصحافة من الموازين التي تقاس بها درجة الرقي في شعب من
الشعوب، كما أنها إحدى المكيفات له وأحد عوامل الإصلاح إذا قبض على زمامها
من لهم خبرة به. ليس من الصعب على الإنسان إذا فحص حالة الجرائد في قطر
من الأقطار أن يقرر حكمًا تقريبيًّا عن مبلغ نهضة أهل ذلك القطر وشكل مزاجهم،
كذلك ليس من الصعب التنبؤ بمستقبل الحركة الفكرية في أمة ما استنتاجًا من
مشرب صحافتنا التي هي أشبه بمرب ومهذب لها. والدارس لحال الصحافة في
وادي النيل لا يتيسر له التفاؤل الحسن عن تقدمنا في الآداب والأخلاق.
عودت الصحافة المصرية الرأي العام على قبول المدح يُزَفّ لمستحقه ولغير
مستحقه بغير حساب، وعوّدت الجمهور على أن لا يعمل عملاً بغير جزاء مادي أو
غير مادي أقله المدح سطورًا لا تعد، فأصبحنا وليس بيننا مَن يعرف مبدأ التضحية
ويعمل به إلا شواذ شقوا بسمو أخلاقهم , وضاعت أتعابهم ومجهوداتهم النبيلة ,
وصار لا يعرف الإحسان إلا الأقلية الضئيلة الصالحة، ومن عداها من المتظاهرين
بالبر فمنافقون تضطرهم إلى ذلك الرهبة من الرؤساء والحكام، أو متأخرون يرغبون
في الإعلان عن أنفسهم بما ينفقونه. وليس من الغريب بعد هذا إذا أصبحت
جميع مشروعاتنا الخيرية عُرضة للفشل، كما أنه ليس من المدهشات أن يتصدى
بعض الناس للقيام بعمل خيري دون أن يكون لهم في الواقع غَيْرة عليه بل كل
قصدهم الإعلان عن أنفسهم سواء نجح العمل أم لم ينجح. ويتبع كل هذا بطبيعة
الحال إساءة الظن من بعضنا ببعض، وتعثرنا في أعمالنا، وتسابقنا إلى شهرة
كاذبة وغرور باطل، وإغراق أخلاق الأمة ومصالحها في هذا التيار.
لم يقتصر كرم الصحافة بالإطراء المتناهي على العُمَد والأعيان بل شمل أيضًا
رجال مهنة الطب الشريفة وخلطت الشخصيات فيه بالعموميات فأصبحت أنهار
الصحف مزدانة يوميًّا بالإعلانات الفخمة عن الأطباء مما يَندى له جبين الحر،
ومما ضر سُمعة هذه المهنة الجليلة في القطر المصري. وبعد هذا وذاك تشكو
الصحف من المتاجرين بالطب من أهله ومن غير أهله. فكم قرأت من أوصاف
المدح لأطبائنا ما لا يقال مثله لأوزلر أو رولستون أو أرلخ أو كارلس أو لين أو
أوجل أو غيرهم من فطاحل علماء الأطباء بأوروبا! وأتذكر أني زرت وطني منذ
ثلاث سنوات وكنت لا أزال حينئذ طالب علم فكتبت عني وقتئذ إحدى الصحف
العربية الكبرى بالقاهرة ما لا يجوز أن يكتب إلا عن ذي منزلة علمية كبيرة!
واضطررت على كره مني أن أحرر كتاب عتاب شديد اللهجة إلى صديقي المحرر..
ولا تزال الصحف تعوّد طلبة العلم الناشئين حب الظهور الضار ولا سيما الطلبة في
أوروبا. وإنني مع اعترافي بأن منا بعض المتفوقين الحاصلين على شهادات علمية
عالية جليلة المنزلة وهم قليلون، وأن منا بعض المتفوقين على أقرانهم الأوروبيين
في امتحانات المسابقة للجوائز العلمية وشهادات الشرف وهم أقل وأندر، أرى أن
كل هذا لا يجيز للصحف أن تبالغ في فوز فائز وتنعته بأكبر النعوت التي لا تناسب
مركزه؛ لأن هذا مُزر بكرامتها وكرامة الممدوح ومؤد إلى فساد أخلاق الناشئة.
فهذه يا سيدي الأستاذ علة من علل اجتماعية كثيرة سببتها الصحافة بتهاونها
بدل أن تقضي عليها وعلى أمثالها بالموعظة الحسنة والقدوة الصالحة، وأدت إلى
الكثير مما تشكو ويشكو منه الغيورون المصلحون الذين لا نعرف أقدارهم إلا متى
حرمنا من مساعيهم فنندم بُرهة على التفريط حين لا ينفع الندم، ثم نستمر في
ضلالتنا، ومعظم الصحف تجارية في ذلك حرصًا على مودتنا لها، بدل أن تزجرنا
وترشدنا حبًّا في نفعنا. فحبّذا لو وجهتم عنايتكم بالإصلاح شطر رصفائكم الأفاضل
مرة قبل أن يستفحل الداء فقد أشرفنا على عهد لا يكاد يستطيع شريف النفس أن
يضمن النجاح لعلمه بعقله وجدّه في هذه الفوضى ما لم يقرن ذلك بالإعلان عن نفسه
والسمسرة في هذا السبيل. وإذا كان أحد أسباب هذا المصاب الجهل وضعه-
الأخلاق فثاني الأسباب هو انحطاط الصحافة.
... ... ... ... ... ... نادي مستشفى سانت جورج بلندن
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب)
(المنار)
أحسن الكاتب وأصاب، ولا رجاء في إرجاع الصحف بالنقد إلى مَحجة
الصواب؛ لأن أكثر أصحابها لا يقصدون الإصلاح، وجميعهم يقصدون الكسب
والجاه، والذين يميلون إلى الإصلاح منهم يتحرون في كلامهم ما لا يسوء القُراء
كالمسائل النظرية والإرشاد المجمل. ثم هي تمدح من يستحق الذم، وتسكت عما
يجب من النقد. ولا يتسع هذا التعليق الوجيز للإطالة في تأييد رأي الكاتب في
جنايتها على الأخلاق، ولكنني أنقل فيه كلمة تغني عن مقالات:
حدثني شيخنا الشيخ حسن الجسر عن حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني وكان
قد لقيه في الآستانة بعد إنشاء جريدة طرابلس الشام التي كان الشيخ شريكًا ومحررًا
فيها، ولكن مقالاته فيها لم تكن تعزى إليه قال:
قال لي السيد: إن جريدتكم (طرابلس) قد جمعت بين الكفر والإيمان، ترى
في صدورها مقالة في مدح الصِّدق وذم الكذب مثلاً وأكثر ما فيها بعد تلك المقالة
كذب - وأشار إلى ما يذكر كل عدد من إطراء رجال الدولة والحكومة وغيرهم من
الوجهاء- فقلت له: إن مدير الجريدة يفعل هذا على سبيل التقية (وذكر الشيخ أنه
تنصَّل من مهنة الصحافة) فقال له السيد: التقية مذهب الشيعة.. وأنكر على
الشيخ تنصُّله من الصحافة وقال: أنا صحفي. ثم قال وهو المراد: إننا لا نخطو
خطوة واحدة إلى الإمام إلا إذا أعطينا كل ذي حق حقه فسمينا العالِم عالمًا،
والمُصلح مصلحًا، والمفسد مفسدًا..
__________(19/507)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية النهضة النسائية بمصر
اجتمع عدد من كرائم السيدات الوطنيات في 27 يناير الماضي في منزل
حضرة السيدة الفاضلة حرم صاحب العزة إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير فألَّفن
جمعية أدبية غايتها السعي في ترقية المرأة الشرقية والاهتمام بمستقبلها بعد هذه
الحرب.
وقد افتتحت الحفلة حضرة ربة المنزل بالكلمات الآتية:
أبدأ قولي بحمد الله، والصلاة والسلام على من اصطفاه
وبعد: فإني يا سيداتي ويا أخواتي الأعزاء أراني وأنا في موقفي هذا منشرحة
الصدر بتشريفكن منزلي إجابة لدعوتي بالحضور إلى هذه الحفلة المراد بها البحث
في ترقية المرأة الشرقية لتساوي أختها الغربية في الحضارة والارتقاء.
أقول: الارتقاء ويعلم الله لا أريد بقولي هذا أنها في انحطاط أو مهضومة
الجانب أو أنها لا تصلح للرقي، حاشا، فالمرأة الشرقية كانت ولا تزال عزيزة
الجانب أهلاً لكل فضيلة غير أنها ينقصها الآن إتقان العلم والعمل به إتقانًا ينهض
بها إلى منزلة أسمى مما نحن عليه؛ لأن العلم وحده لا يكفي. ومثال ذلك أن
كثيرات من أهل الطبقات الراقية أمثال حضراتكن أدخلن بناتهن المدارس وصرفن
المصاريف الجمّة فتراهن يتكلمن باللغات وبأيديهن الشهادات ولكنهن إذا اجتمعن فلا
حديث لهن إلا الأزياء والخياطات والحرائر والدنتيلات والإعجاب بالأزياء الحديثة.
هذا هو الموضوع الأكثر رواجًا بيننا الآن. فماذا يؤخرنا إذًا يا حضرات
الفاضلات وكلكن من المتعلمات الراقيات -ولله الحمد- عن النهوض نهضة علمية
عملية والتعاضد جميعًا على البحث فيما يلزم هذا الرقي، ونحن الآن في عصر
النور والإصلاح. فلهذا قد اجتمعنا للمذاكرة في هذا الشأن الخطير وتقرير ما يلزم
للهداية إلى الطريق التي توصلنا إلى هذا الغرض الشريف كقوله تعالى: {وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ} (آل عمران: 104) وإني أسأل الله أن يكلِّل عملنا
هذا بالنجاح، وأن يوفقنا جميعًا إلى ما فيه النفع والإصلاح. وإن شاء الله سألقي
في الاجتماع القادم محاضرة أدبية أبين فيها الأدواء وما يلزم لها من الدواء لترقية
الأخلاق والأفكار والله المستعان.
ثم دعت الكاتبة المجيدة صاحبة مجلة فتاة الشرق الزهراء للخطابة في
موضوع ترقية أخلاق المرأة الشرقية فألقت خطابًا مفيدًا كان له أجمل وقع في نفوس
السيدات وصفقن لها مِرارًا وما زِلن يتسامرن ويتجاذبن الحديث في مواضيع أدبية
مفيدة ثم انصرفن شاكرات ربة المنزل على السعي في هذه النهضة المفيدة، وقد
وعدن بالمداومة على الحضور فيها.
__________(19/510)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(تصحيح كتاب الأغاني)
كان علاّمة اللغة وإمامها في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي قد
صحح في نسخته من كتاب الأغاني بالمطبعة الأميرية كثيرًا من الأغلاط التي كان
يعثر عليها عند المطالعة والمراجعة وزاد عليها في بعض الأجزاء بعض الفوائد
والأبيات من الشعر كتبها على الهوامش فعُني (محمد أفندي عبد الجواد الأصمعي)
بجمع تلك التصحيحات والزوائد من نسخة الشنقيطي بعد أن صحح بها نسخة
المكتبة الزكية بإذن واقفها أحمد زكي باشا وإرشاده، وأضاف إليها تصحيحات
وزوائد أخرى لأحمد زكي باشا من نسخته، وطبع ذلك كله مبينًا مكان الغلط
وتصحيحه من طبعة المطبعة الأميرية وطبعة السياسي، وأضاف إلى ذلك
استدراكات على فهرس الكتاب، فبلغ المطبوع سبعين صفحة كبيرة كصفحات
الأغاني، وكل من ينظر في كتاب الأغاني المطبوع من أهل العلم باللغة وفنونها
يجزم بأن فيه من الغلط الكثير الذي لم يذكر في هذه التصحيحات ما لا يخفى مثله
على الشنقيطي، لذلك جزمت بأن الشنقيطي لم يصحح الكتاب كله بل بعض ما كان
يعثر عليه عند المراجعة أو المطالعة.
ولكن جامع التصحيحات ظن أنه صححه كله بقصد، وأن تصحيح زكي باشا
جاء كالاستدراك عليه، فهو مما خفي عليه أو مما ذهل عنه، وإنني أؤيد رأيي بشاهد
واحد بل شواهد كثيرة في قصيدة واحدة وهي قصيدة أبي دلامة الفائية المنشورة في
ص 130 من جزء الأغاني التاسع من طبعة السياسي، ففي هذه القصيدة أغلاط لا
تحتمل التأويل، وهي منشورة في الجزء الأول من العِقد الفريد، ومن راجعها
عليه يرى بين ما فيه وما في الأغاني اختلافًا كثيرًا وزيادة ونقصًا، والشنقيطي كان
مطلعًا على العقد الفريد، فلو كان ملتزمًا تصحيح الأغاني لصحح غلط
القصيدة وأشار إلى ما خالفت رواية الأغاني فيه رواية العقد، ومن التصحيف
فيها قول الشاعر:
وطالما اختلفت صيفًا وشاتية ... إلى معلمها باللوح والكتف
صحفت كلمتا (صيفًا وشاتية) في الأغاني بجعلهما (ضيفًا وشانية) ومن
التحريف فيها قوله:
والحق طرف والعين في طرف ...
حرفت فيها كلمة العين المراد بها النقد بكلمة الطين؟
هذا وإننا نشكر للأديب الأصمعي هذه الخدمة التي لا يُنقص من قدرها ما
ذكرنا من الحقيقة، وننصح لكل مقتنٍ لكتاب الأغاني بتصحيح نسخته على هذه
الجداول.
***
(تصحيح كتاب لسان العرب)
كتاب لسان العرب لابن منظور الإفريقي أعظم معاجم اللغة التي أتحفتنا بها
المطابع، ولكن فيه غلطًا مطبَعيًّا كثيرًا، على كونه قد طُبِعَ بالمطبعة الأميرية التي
هي خير المطابع العربية تصحيحًا، وأذكر أنه لما سافر الأستاذ الإمام سفره الأخير
إلى تونس والجزائر وصقلية وأوربة أنابني عنه بتصحيح كتاب المخصص مع
الشيخ محمد محمود الشنقيطي (رحمهما الله تعالى) فكان هذا يذكر لي في أثناء
التصحيح كثيرًا من أغلاط لسان العرب التي اعتمد عليها مصححو المطبعة الأميرية
في تصحيح المخصص فأخطئوا، وقليلاً من الأغلاط التي أخطأ فيها ابن منظور
نفسه في النقل أو الاعتماد على بعض الروايات المرجوحة في اللغة. وقد انتدب
صديقنا أحمد بك تيمور الباحث اللغوي الشهير بتدقيقه وسعة اطِّلاعه لجمع ما تيسر
له من تلك الأغلاط وتصحيحها، وكان ينشر ذلك في مقالات متفرقة في جريدة
المؤيد ومجلتي الضياء والآثار، ثم جمع شمل تلك المقالات وزاد عليها ما عثر عليه
بعد نشرها، وأذن لمحمد أفندي عبد الجواد الأصمعي بطبع ما جمعه وحرره منها-
وهو القسم الأول من التصحيح- فطبعه ووعد بنشر ما اطلع عليه من تصحيحات
الإمام الشنقيطي والشيخ حمزة فتح الله والشيخ إبراهيم اليازجي والشيخ محمود
مصطفى والشيخ محمد البلبيسي أيضًا، فنشكر له هذه العناية.
***
(الكوكب)
جريدة سياسية أدبية أسبوعية تصدر في القاهرة بشكل كراسة من قطع الكتب
الكبير ذات ثماني صفحات مطبوعًا طبعًا جميلاً بحروف المطبعة الأميرية الجديدة،
وموضوعها تنشيط الحركة العربية ودعوة سائر عرب الجزيرة إلى القيام بمثل ما
قام به عرب الحجاز للقضاء على سلطة الترك وتقليص ظلهم غير الظليل عن سائر
البلاد العربية، والظاهر أن لها موارد خاصة تستقي منها أخبار مساوئ الترك
وفظائعهم في سورية والعراق وكذا فظائع حلفائهم الألمان في أوربا، وأنها كانت
توزع في بلاد العرب دون مصر، وأول عدد ظهر منها في مصر هو السابع عشر
فقرَّظه المقطم، ثم اطلعنا عليه وعلى أعداد مما صدر بعده. وثمن كل عدد من هذه
الجريدة قرش مصري صحيح (10 مليمات) .
__________(19/511)
ربيع الآخر - 1335هـ
فبراير - 1917م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ربح صندوق التوفير
(س 11) من صاحب الإمضاء بمصر
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الأستاذ الجليل حفظه الله:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإننا كثيرًا ما سمعنا من الناس
إباحة وضع الأموال في صناديق التوفير بالبريد وأخذ الفوائد منها، وذلك مما لا
شك أنه الربا المحرّم بإجماع المسلمين لا نعلم بينهم خلافًا، ثم إذا ناظرناهم فيه
استندوا إلى أن الأستاذ الإمام -رحمه الله وغفر له- أفتى بجوازه في فتوى رسمية،
ولما كنا لم نرَ هذه الفتوى ولم نعلم وجهها وكنتم أخص الناس بالإمام وأعلمهم بأقواله
وفتاويه لجأنا إليكم لتبينوا لنا فتوى الإمام، وهل هي لا تعارض الكتاب والسنة ثانيًا،
خصوصًا وأن المجالس الحسبية قررت وضع أموال القاصرين في هذه الصناديق
بناء على هذه الفتوى المزعومة كما يقولون، وليكن بيانكم شافيًا وافيًا كما هو دأبكم إن
شاء الله تعالى.
... ... ... ... كتبه أبو الأشبال
... ... ... ... ... ... ... ... ... عفا الله عنه بمنه
***
(ج) إن كان للأستاذ الإمام فتوى رسمية في مسألة صندوق التوفير فهي
توجد في مجموعة فتاويه بوزارة الحقانية ومنها تطلب، وأنا لم أر له فتوى في ذلك
ولكنني سمعت منه في سياق حديث عن مقاومة الخديوي له وما حاصله: أن
الحكومة أنشأت صندوق التوفير في مصلحة البريد بدكريتو خديوي (أمر عال)
ليتيسر للفقراء حفظ ما زاد من دخلهم عن نفقاتهم وتثميره لهم، وقد تبين لها أن
زُهاء ثلاثة آلاف فقير من واضعي الأموال في صندوق البريد لم يقبلوا أخذ الربح
الذي استحقوه بمقتضى الدكريتو. فسألتني الحكومة هل توجد طريقة شرعية لجعل
هذا الربح حلالاً حتى لا يتأثم فقراء المسلمين من الانتفاع به فأجبتها مشافهة بإمكان
ذلك بمراعاة أحكام شركة المضاربة في استغلال النقود المودعة في الصندوق،
فذاكر رئيس النظار الخديوي في تحوير الدكريتو الخديوي وتطبيقه على الشرع
فأظهر سموه الارتياح لذلك. ولما قال له رئيس النظار: إننا استشرنا المفتي في
ذلك غضب غضبًا شديدًا، وقال: كيف يبيح المفتي الربا؟ لا بد أن أستشير غيره
من العلماء في ذلك. ثم جمع سموه جمعية من علماء الأزهر في قصر القبة وكلفهم
وضع طريقة شرعية لصندوق التوفير ليظهر أمام العامة بأنه هو المحامي عن الدين
والمطبق للمشروع على الشريعة، وأن الحكومة كانت عازمة على إكراه المسلمين
على أكل الربا بمساعدة المفتي لولا تداركه الأمر. وقد وضع له العلماء مشروعًا
قدمته المعية لنظارة المالية. (قال) وإن نظارة المالية عرضت عليّ ذلك المشروع
لإقراره -أو قال للتصديق عليه- فوجدته مبنيًّا على ما كنت قلته للحكومة شفاهًا.
هذا ما سمعت منه -رحمه الله تعالى- وأظن أنه قال: إن أولئك العلماء كانوا من
فقهاء المذاهب الأربعة أو الثلاثة ولا أجزم بذلك.
ومهما تكن صفة الطريقة التي وضعها العلماء لاستغلال أموال التوفير فلا
يظهر عدّها من الربا المُجمع على تحريمه وهو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية،
وقد بينه الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لا يشك فيه بمثل ما بينه غيره من أخذ
الزيادة في مقابلة التأجيل فقال: هو أن يكون له دَيْن فيقول له- أي: إذا حل أجَل
الدين - إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن لم يقض زاده هذا في المال وزاده هذا في
الأجل. وذكر الفقيه ابن حجر في الزواجر أن الإنساء فيه كان بالشهور، ولهذا كان
يتضاعف ويخرب البيوت.
__________(19/527)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم
وتطهير قلبه من حظ الشيطان
(س 12) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية.
سيدي الحكيم قدوة العلماء وتاج الفصحاء.
من لا أسميه إجلالاً وتَكرمة ... فقدره المعتلي عن ذاك يغنيني
أتطفل على مائدتكم العلمية التي أبهرت العقلاء وأعجبت الفصحاء لما عليها
من أصناف المعارف الحية وأنواع التعاليم الصحيحة- راجيًا من علو آدابكم ومكارم
أخلاقكم أن تفسحوا لي المقام، فإن لي قلبًا يصبو إلى ما يفوه به فوكم من الدُّرَر، وما
ينطق لسانكم من الحِكم والعِبَر وما ينزه قلمكم من الفكر.
في هذه الأيام كثر الجدال حتى كاد يُفضي إلى الهلاك في مسألة (انشقاق
صدر الرسول -عليه الصلاة والسلام- وإخراج قلبه وتطهيره من حظ الشيطان الذي
وجد معه من يوم أن ظهر على الأرض ونزل من بطن أمه وامتلائه حكمة)
اختلفت آراء القوم وتباينت في تلك المسألة فمن مصدِّق عليها مقر بحدوثها ومن
مكذب لها مفنِّد لا يلوي إلا على ما يثبته البرهان ويقبله الوجدان ويقر به العقل
الرجيح - أما المصدق لها فأدلته ما جاء في البخاري بما معناه: أن النبي بينما
كان يلعب في الصغر مع أقرانه؛ إذ نزل عليه جبريل فصرعه وشق صدره فأخرج
قلبه وطهره من خبائث الشيطان أو بالأحرى من موضع يوسوس له فيه الشيطان
وملأ قلبه نورًا وحكمةً.
ولم يكتف جبريل بشق صدره مرة بل شقه مرات تبعًا لازدياد الحكمة ونموها
فيه كلما كبر حتى كان ليلة الإسراء، وهو نائم ناداه من أحد الثلاثة منادٍ (كما يقول
البخاري) فقام إليه وأتى، فإذا جبريل، وقد أفرج صدره ونظف قلبه ثم أسرى به-
وقد قال النبي بما معناه: كل مولود يستهل معه الشيطان. فسئل: حتى أنت يا رسول
الله؟ قال: (حتى أنا، ولكني تغلبت على شيطاني) قال الله تعالى في سورة
الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج:
52) الآية.
وأما المكذب لها فإنه باقٍ على تكذيبها، وها هو قد كتب إليكم؛ ليسترشد بنور
علمكم الساطع لاعتقاده بأنك الزعيم الأكبر للمسلمين. تلك هي المسالة التي أرجو
من حضرتكم إما تأييدها لنسير على مقتضاها، وإما نفيها وبذلك تنتفي الشُّبه
والأباطيل التي تشوه سُمعة الرسول -عليه الصلاة والسلام- والأمل وطيد في أن
يكون الرد سريعًا لا زلت محفوظًا من الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم الخاضع
... ... ... ... إسماعيل حسن خليه
***
(ج) لا بد أن يكون مرادكم بتكذيب المسألة تكذيب الرواية أو الروايات
الواردة فيها التي أوردتم بعضها بالمعنى فخالفتم اللفظ والمعنى، وقرنتم به آية الحج
وليست من معناه في شيء بل معناها أن الرسل والأنبياء إذا تمنوا لا يتم لهم
موضوع أمانيهم بسبب وسوسة الشيطان للناس ولا محل لتفصيل ذلك هنا. وقد
صرحتم بأن سبب التكذيب اعتقادكم أن مضمونها يعد طعنًا في سمعة الرسول -
صلى الله عليه وسلم- يجب أن ينزه عنه. ولكن لا ينبغي لمسلم أن يرد حديثًا
مرويًّا إلا بعلة في سنده، أو معارضة ما هو أقوى منه لمتنه بشرطه، ومن أشكل
عليه فهم شيء من الأحاديث فعليه أن يبحث ويسأل لا أن يرده بهواه، ويكذب من
لا يعرف سيرته من الرواة. وإننا نورد هنا مما روي في هذه المسألة أصحها سندًا
ونبين ما في أسانيدها ومتونها مما يمكن أن يتعلق به من ينفي وقوع شق الصدر
حقيقة، ثم نبين ما ينبغي أن توجه به المسألة على تقدير صحة وقوعها فنقول:
روى حديث شق الصدر في الصغر مسلم - لا البخاري- قال: حدثنا شيبة بن
فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك (رضي الله
عنه) أن رسول -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو يلعب مع الغِلمان فأخذه
فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقًا فقال: هذا حظ الشيطان
منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأَمَه ثم أعاده في مكانه وجاء
الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره (أي: مرضعته حليمة السعدية) فقالوا: إن
محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
وأقول: إن في هذا السند مقالاً قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب في
شيبان بن فروخ: صدوق يهِم (أي يخطئ) ورُمي بالقدر. قال أبو حاتم: اضطر
الناس إليه أخيرًا. من صغار التاسعة. وقال في شيخه حماد بن سلمة: ثقة عابد
أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، ومن كبار الثامنة اهـ.
وقال في تهذيب التهذيب بعد ثناء الأئمة عليه: وقال البيهقي: هو أحد أئمة
المسلمين إلا أنه لما كبر ساء حفظه؛ فلذا تركه البخاري، وأما مسلم فاجتهد، وأخرج
من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ
اثني عشر حديثًا ذكرها في الشواهد. ثم قال الحافظ: وقال ابن سعد: كان ثقة كثير
الحديث، وربما حدث بالحديث المنكر. وأقول: يؤخذ من هذا الكتاب ومن ميزان
الاعتدال أنهم أنكروا من روايته عدة أحاديث شاذة في الصفات قيل: إنها دُست في
كتبه.
هذا أصح ما رُوي في هذا الباب، وقد علمت ما في سنده، ثم إن أنسًا لم يرفعه
وما كل ما يرويه الصحابي عن مجهول يُحتج به بل يفرق في روايته بين أحكام
الدين وبين الأخبار عما كان قبل الإسلام؛ إذ يمكن أن ينتهي الخبر إلى بعض
المشركين، وقد رُوي خبر شق الصدر عن حليمة السعدية مرضعته -صلى الله
عليه وسلم- من طرق أخرى عند أهل السيَر والطبراني والبيهقي وأبي نعيم
وابن عساكر كلها دون طريق مسلم منها الضعيف والموضوع كرواية البيهقي وابن
عساكر عن ابن عباس عن أبيه من طريق محمد بن زكريا الفلاني وكان كذابًا يضع
الحديث. ورواية أبي نعيم وأبي إسحق وغيرهما عن عبد الله بن جعفر عن حليمة
من طريق جهم بن أبي الجهم. قال الذهبي: لا يُعرف، له قصة حليمة السعدية.
فإذا كان السائل يرى أن هذا الحديث لا يصح لما رآه في متنه غير لائق
بمنصب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد علم أيضًا أن في سنده مقالاً، وليس هو
من عقائد الدين ولا من أحكامه القطعية.
وقد ورد خبر شق الصدر في أحاديث المعراج أيضًا المروية في الصحيحين
والسنن وغيرها، وقد استشكلها بعض العلماء فنورد منها ما لا بد منه لبيان هذه
المسألة.
أحاديث قصة المعراج في الصحيحين مدارها على أنس بن مالك، فمنها ما
رواه بنفسه، ومنها ما رواه عن غيره. وقد ذكر في بعضها شق الصدر دون بعض،
فأما حديث أنس فلم تُذكر قصة شق الصدر في طريق من طرقه إلا طريق شريك
بن عبد الله بن أبي نمر عنه وهو في صحيح البخاري وتفسير ابن جرير، قال أنس:
ليلة أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر
قبل أن يوحى إليه فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، وقال أحدهم:
خذوا خيرهم [1] ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى [2] فيما يرى قلبه
وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه
حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبرئيل فشق جبرئيل ما بين
نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أبقى
جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًّا [3] إيمانًا وحِكمة فحشى
به صدره ولغاديده- يعني عروق صدره- ثم أطبقه ثم عرج به. إلخ الحديث، وفي
آخره (واستيقظ وهو في المسجد الحرام) وهذه الرواية صريحة في أن ذلك كله كان
في النوم وليس فيها ذكر لحظ الشيطان، واحتج بها من قالوا: إن المعراج كان رؤيا
منامية. وأولها من قال: إنه كان في اليقظة بالروح والجسد. ولا يحتاج إلى تأويلها
من قالوا: إنه مشاهدة روحية. وفي نسخة من صحيح البخاري (فاستيقظت) بدل
واستيقظ، وهي كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري التفات من الغيبة إلى حكاية
قول النبي -صلى الله عليه وسلم -والتور الذي ذكر أنه كان في الطست إناء
صغير يُشرب فيه.
وفي رواية شريك هذه مخالفة لغيرها في عدة أمور استشكلوها وأنكروها عليه
وغلطوه فيها أهمها قوله: (ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب
قوسين أو أدنى) مع أن الثابت في الصحيح أن آية (ثم دنا) نزلت في جبريل -
عليه السلام- وهاك ما في فتح الباري للحافظ ابن حجر في ذلك:
قال الخطابي: ليس في هذا الكتاب- يعني صحيح البخاري- حديث أشنع
ظاهرًا وأبشع مذاقًا من هذا الفصل فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين
وبين الآخر وتمييز مكان كل واحد منهما- هذا إلى ما في التدلي من التشبيه
والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل (قال) فمن لم يبلغه من هذا
الحديث إلا هذا القدر مقطوعًا عن غيره ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه
وجهه ومعناه، وكان قصاراه إما رد الحديث من أصله، وإما الوقوع في التشبيه،
وهما خطتان مرغوب عنهما. وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه
الاستشكال فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله: (وهو نائم) وفي آخره
(استيقظ) وبعض الرؤيا مثل يضرب ليتأول على الوجه الذي يجب أن يصرف
إليه معنى التعبير في مثله، وبعض لا يحتاج إلى ذلك بل يأتي كالمشاهدة.
(قال الحافظ بعد نقل ما تقدم) قلت: وهو كما قال، ولا التفات إلى من
تعقّب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: (إن رؤيا الأنبياء وحي) فلا يحتاج إلى
تعبير؛ لأنه كلام من لم يُمعن النظر في هذا المحل. فقد تقدم في كتاب التعبير أن
بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير. وذكر الحافظ الأمثلة من الصحيح على تأويل
النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض الرؤى بغير ظاهرها. ثم ذكر أن الخطابي
تُعقّب في جزمه بأن ما ذكر كان في المنام وقوله: إن القصة بطولها إنما هي
حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا
نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي إما
من أنس، وإما من شريك فإنه كثير التفرد بمناكر الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر
الرواة انتهى- أي كلام الخطابي، ثم أطال الحافظ البحث فيه، ولا يعنينا من بحثه
إلا قوله بأن للحديث حكم المرفوع؛ لأنه مرسل صحابي فيما لا مجال للرأي فيه،
ويفسر هذا ما يأتي.
وأما ما رواه أنس عن غيره مشتملاً على مسألة شق الصدر فليس في الصحيح
منها إلا حديث مالك بن صعصعة الأنصاري المرفوع الذي رواه أنس عنه ولم يرو
أحد عنه غيره. وأوله كما في البخاري (بينما أنا في الحطيم - وربما قال
في الحِجر- مضطجعًا، قال الحافظ: زاد في بدء الخلق (بين النائم واليقظان) إذ أتاني آتٍ فقد قال: سمعته يقول: - فشق ما بين هذه إلى هذه.. [4] فاستخرج
قلبي، ثم أُتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم
أُتيت بدابة دون البغل) إلخ الحديث. والظاهر أن أنسًا روى هذه القصة غير مرفوعة
عن مالك هذا فصرح باسمه مرة وأرسلها مرة أو مرارًا عند ما كان يحدّث بها وذكر
في بعض المرار ما سكت عنه في بعض. وهذه تؤكد أن القصة كانت في
النوم وتضعف تأويل المئولين إلا من قال بحصولها مرة في اليقظة ومرة أو أكثر من
مرة في الرؤيا إن أثبت ذلك.
وقد روى أنس مسألة شق الصدر في أحاديث المعراج عن أبي ذر مرفوعة
في الصحيحين قال: كان أبو ذر يحدّث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
(فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم،
ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ
بيدي فعرج بي إلى السماء) الحديث، فهذه الرواية لم يصرح فيها بأنه كان نائمًا،
ويمكن حملها على المصرحة بذلك دون العكس. ولذلك جزم الحافظ بأن القول بتعدد
المعراج في اليقظة بعيد جدًّا تنافيه المُراجعة في مسألة فرض الصلاة منافاةً ظاهرةً.
وإذا كان الجمع بين تعارض الروايات الصحيحة السند متعذرًا بدون القول بالتعدد،
وكان القول بالتعدد في اليقظة بعيدًا، بل غير معقول، فلا مندوحة عن القول بأنها
كانت رؤيا منامية إما كلها أو يُستثنى واحدة منها كانت في اليقظة، والأكثرون على
هذا، فيمكن أن يقال إذًا: إن شق الصدر كان في الرؤيا المنامية التي تكررت دون
واقعة اليقظة إلا أن تكون هذه مشاهدة روحية كما قال بعضهم.
وأما حديث مس الشيطان للمولود فهو مروي في الصحيحين عن أبي هريرة
باستثناء عيسى في بعض الروايات، وعيسى وأمه في بعض، والحديث واحد،
وسيأتي نصه في تلخيص الجواب. وقد استشكل بعض العلماء معناه قال الحافظ في
شرحه من الفتح ما نصه:
(وقد طعن صاحب الكشاف في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته فقال:
إن صح هذا الحديث فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها
فإنهما كانا معصومَيْن. وكذلك من كان في صفتهما لقوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
المُخْلَصِينَ} (الحجر: 40) قال: واستهلال الصبي صارخًا من مس الشيطان
تخييل لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه. وأما
صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم
لامتلأت الدنيا صراخًا انتهى. وكلامه متعقب من وجوه والذي يقتضيه لفظ الحديث
لا إشكال في معناه ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء، بل ظاهر الخبر أن
إبليس ممَُكّن من مس كل مولود عند ولادته لكن من كان من عباد الله المخلصين لم
يضره ذلك المس أصلاً، واستثنى من المخلصين مريم وابنها فإنه ذهب يمس على
عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص ولا يلزم منه تسلطه على
غيرهما من المخلصين. وأما قوله: لو ملك إبليس إلخ فلا يلزم من كونه جعل له
ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد. وقد أورد الفخر الرازي
هذا الإشكال وبالغ في تقريره على عادته وأجمل الجواب فما زاد في تقريره على أن
الحديث خبر واحد ورد على خلاف الدليل؛ لأن الشيطان إنما يغوي من يعرف
الخير والشر، والمولود بخلاف ذلك وأنه لو مكن من هذا القدر لفعل أكثر من ذلك من
إهلاك وإفساد وأنه لا اختصاص لمريم وعيسى بذلك دون غيرهما إلى آخر كلام
الكشاف. ثم أجاب بأن هذه الوجوه محتملة، ومع الاحتمال لا يجوز دفع الخبر انتهى
قد فتح الله تعالى بالجواب، كما تقدم، والجواب عن إشكال الإغواء يُعرف مما
تقدم أيضًا وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه،
والله أعلم. انتهى كلام الحافظ.
وأما حديث قرناء الناس من الشياطين الذي ذُكر فيه إسلام شيطان النبي -
صلى الله عليه وسلم- أو سلامته من وسوسته فهو مروي في صحيح مسلم من
حديث عائشة وعبد الله بن مسعود ولفظ هذا: (ما منكم أحد إلا وقد وكل الله به
قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه
فأسلم فلا يأمرني إلا بخير) وقد ضبط بعضهم (فأسلم) برفع الميم واختاره
الخطابي ومعناه، فأنا أسلم من شر وسوسته، وضبطها بعضهم بفتح الميم، ومعناه
فصار هو مسلمًا وقيل: مستسلمًا. وهما روايتان، وقوله: (فلا يأمرني إلا بخير)
يرجّح الثانية بل يوجب الجزم بها. قال النووي في شرحه: قال القاضي (أي
عياض) : واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- من
الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة
القرين ووسوسته وإغوائه فأعلمنا بأنه معنا لنحذر من وسوسته بحسب الإمكان اهـ.
أقول: وفي رواية أخرى لهذا الحديث (وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه
من الملائكة) ويوضح هذا حديث ابن مسعود عند الترمذي والنسائي وابن حبان
في صحيحه: (إن للشيطان لَمَّةً بابن آدم وللمَلَك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد
بالشر وتكذيب بالحق) إلخ وهذا الملك الذي يقابل الشيطان يسمى مَلَكُ الإلهام، وهو
الذي عبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (واعظ الله في قلب كل مؤمن)
وقد بينا مسألة انقسام الخواطر النفسية إلى شيطانية وملَكية في الجزء الأول من
التفسير وفي هذا الجزء (السابع) منه أيضًا، فليراجع السائل تفصيل ذلك في تفسير
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} (الأنعام: 9) من جزء المنار الثالث من هذا
المجلد (ج3 م19) فهو يقرب لذهنه ما لعله يراه بعيدًا عنه إذا لم يكن قرأه.
وملخص الجواب أن حديث شق صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- في
طفوليته وتطهيره من حظ الشيطان منه في سنده مقال ومتنه ليس مرفوعًا إلى النبي
-صلى الله عليه وسلم- وليس له حكم المرفوع. وليس متنه لا ينافي عصمة النبي
صلى الله عليه وسلم؛ لأن حاصل معناه أن روح القدس قد طهر قلبه وقدسه منذ
الطفولية وقبل أن يصل إلى السن التي تكون فيها الوسوسة، وأن حديث شقه في
قصة المعراج كانت رؤيا منامية في الراجح ولا ذكر فيها لحط الشيطان، فحاصل
معناها أنها رمز وتمثيل لتأييد الروح القدس والملائكة له -صلى الله عليه وسلم-
وإعدادهم إياه لمناجاة الله عز وجل مناجاة خاصة. وأما حديث مس الشيطان للمولود
عند ولادته فسنده صحيح لا عبرة بمن تكلم في صحته، ولكن استثناء عيسى وحده
مرة فيه واستثناؤه هو وأمه مرة أخرى إن كانتا غير متعارضتين فلا عموم
في الصيغة، وينافي ذلك قولهم الاستثناء معيار العموم. وإن كانتا متعارضتين
سقط الاستدلال بهما أو يقوم الدليل على ترجيح أحدهما. وقد علمت ما قاله
الزمخشري في الحديث وأقواه معارضة قوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} (الحجر: 40) له فإنه صريح في أن الشيطان لا سلطان له على إغواء عباد الله
المخلصين. وعلمت ما أجاب به الحافظ عن هذه المعارضة، وهو أن هؤلاء العباد
لا يضرهم ذلك المس؛ إذ لا يدل الحديث على أن كل من مسه الشيطان يغويه.
ونقول: إنه يجوز أن يكون المراد بالمس بيان توجه الشيطان إلى التعرض
للوسوسة للمولود واستعداد المولود لقبوله الوسوسة التي هي تزيين الباطل والشر في
النفس، وكيفية المس على القول بأنه حقيقة لا تمثيل بحث في عالم الغيب وهو مما
أجمعوا على تفويض كيفيته إلى الله تعالى إذا صح الخبر به وكان ممكنًا في نفسه.
وأما حديث القرين من الشياطين والقرين من الملائكة فهو أصح سندًا وأقوى
متنًا؛ لأن له شاهدًا من القرآن {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ
لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف: 36) والأحاديث التي وردت في توضيحه تدل على
أن الأنفس البشرية فيها داعيتان: إحداهما للحق والخير، والأخرى للباطل والشر،
وأن الأولى ترجح بإلهام ملكي، والأخرى بإغواء شيطاني. ولكن الإنسان هو الذي
يزكي نفسه ويهذبها حتى ترتقي إلى التناسب مع روح الشيطان وتلقي وسوسة
الباطل والشر منها، فمثل ملك الإلهام كمثل القرين الصالح من الناس لا يعاشر إلا
من يشاكله، ومثل الشيطان كمثل قرين السوء لا يصاحب إلا من يشابهه، فكل
قرين بالمقارن يقتدي، و (الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر
منها اختلف) كما ورد في الحديث الصحيح، وإذا قارف الرجل الصالح خطيئة كان
تأثيرها في نفسه معدًّا لوسوسة الشيطان أو بمحوه بعمل صالح يضاده (وأتبع
السيئة الحسنة تمحها) {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114) .
__________
(1) ورد أنه كان نائمًا بين عمه حمزة وابن عمه جعفر.
(2) كانت هذه بعد البعثة بلا خوف.
(3) حال وفي غير هذا الحديث ذكر وصف الطست نعتًا لإحلال وليس فيه ذكر التور.
(4) يعني من ترقوته إلى آخر مراق بطنه وفسر في هذه الرواية بلفظ آخر.(19/529)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بدع الجمعة والأذان
وختم الصلاة والجنازة
(س 13- 20) من صاحب الإمضاء بطملاي مركز منوف مديرية
المنوفية.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد فهذا من عبد الرحمن أحمد الصعيدي إلى دار الدعوة والإرشاد بمصر
يتشرف بالإفادة عما سيذكر: في هذا العهد ظهر عندنا رجل ينهانا عما سيأتي:
1- قراءة سورة الكهف جهارًا داخل المسجد يوم الجمعة.
2- والأذان المسمى عندنا بالأول من يوم الجمعة.
3- والأذان الثاني داخل المسجد بين يدي الخطيب.
4- الترقية.
5- التبليغ في الصلاة.
6- ختام الصلاة جهارًا في المسجد.
7- الصلاة والسلام على النبي عقب الأذان.
8- السير مع الجنازة بالذكر جهارًا وقراءة البردة.
وحيث إننا نفعل كل ما ذكر من منذ وجدنا بالدنيا، وهذا الرجل يجتهد في
إبطال ذلك ولا نعلم إذا كان عمل هذا من البدع فنتركه أم من الدين فنتبعه.
نرجو الإفادة مع التوضيح وإفتائنا عما ذكرناه؛ لأن في نفوسنا (ريبًا) من
ذلك؟ وقال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وحِبّه وسلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مقدمه
... عبد الرحمن أحمد الصعيدي
الجواب عن هذه الأسئلة [*]
1- قراءة سورة الكهف جهارًا داخل المسجد يوم الجمعة- بدعة ليس لها دليل
من كتاب الله ولا من سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولم تؤثر عن سلف الأمة
الصالح. ولكن لقراءتها يوم الجمعة بدون تقييد بالجهر وبكونها في المسجد أصلاً
ضعيفًا، قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: من أقوى ما ورد في قراءة
الكهف يوم الجمعة حديث أبي سعيد الخدري عند الحاكم في التفسير والبيهقي في
السنن (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)
وقد أورده الحاكم من طريق نعيم بن حماد عن هشيم عن أبي هاشم وصححه، ولكن
قال الذهبي في الميزان: بل نعيم بن حماد ذو مناكير. أقول: بل جُرح بأكثر من
هذا، وقد وردت أحاديث أقوى من هذا في قراءة آل عمران وهود في يوم الجمعة،
فلماذا لا يعمل بها هؤلاء الناس المواظبون على قراءة الكهف إن كان غرضهم العمل
بالأحاديث لا اتباع العادة.
ثم إن الإتيان بالعبادة المشروعة على وجه مخصوص وفي وقت معين لم يرد
في الشرع ما يدل عليهما في كيفية الأداء المبنية على الاتباع، وظهور ذلك يجعل
ما ليس من شعائر الدين شعارًا. وهذا ما يسميه الشاطبي في الاعتصام بالبدعة
الإضافية وسيعاد ذكره قريبًا، دع ما في رفع الصوت بقراءة الكهف أو غيرها في
المسجد عند اجتماع الناس للصلاة من التهويش على المصلين وهو غير جائز، وقد
صرح الفقهاء بمنع الجهر بالتلاوة في المسجد إذا كان فيه من يصلي وأنه حرام.
وفي حديث أبي سعيد الخدري: (اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج لربه فلا يؤذ
بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة) رواه أبو داود.
2- الأذان الأول يوم الجمعة، أحدثه عثمان في خلافته وأقره الصحابة
(رضي الله عنهم) وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: الأذان الأول يوم
الجمعة بدعة، فالأظهر أنه استعمل البدعة هنا بمعناها اللغوي لا للإنكار، ومعناه
أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قيل: ويحتمل أنه للإنكار؛ أي:
لأن مقتضى إكمال الدين في عهده -صلى الله عليه وسلم- أن لا يزاد في العبادات
ولا سيما الشعائر بعده شيء، وإنما الاجتهاد في مسائل المعاملات والمصالح التي
تختلف باختلاف الزمان والمكان لا العبادات وشعائر الإسلام التي لا يدخل فيها
القياس الذي احتجوا به لفعل عثمان (رضي الله عنه) ويمكن أن يُجاب عن هذا
بأن الأذان للإعلام بالوقت وسيلة للصلاة اجتهادية لا عبادة مقصودة لذاتها، وأن
النبي -صلى الله عليه وسلم- استشار المسلمين في أمر هذه الوسيلة واستحسن ما
كان منهم من رأي ورؤيا؛ فلأجل هذا رأى عثمان والصحابة أن هذه المسألة يصح
العمل فيها برأي أولي الأمر إذا احتيج إلى ذلك. فلما حدثت الحاجة بكثرة المسلمين
وعدم تبكيرهم إلى المسجد على نحو ما كانوا يفعلون في عهده -صلى الله عليه
وسلم- أمر عثمان المؤذن أن يؤذن بهم للجمعة على الزوراء - وهي موضع أو دار
له بسوق المدينة- وأبقى ما كان من أذان المسجد عند جلوس الإمام على المنبر كما
كان إبقاء للعبادة كما كانت. قال السائب بن يزيد (رضي الله عنه) فيما رواه عنه
البخاري وأبو داود والنسائي: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على
المنبر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان
وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ولم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم-
غير مؤذن واحد.
وفي رواية أخرى لهم زيادة فثبت الأمر على ذلك. والمراد بقوله: النداء
الثالث هو الأذان الأول، فهو أول بالنسبة إلى تقديمه في العمل وثالث بالنسبة إلى
حدوثه بعد الأذانين المشروعين لكل صلاة، أعني الأذان والإقامة، وكانوا يطلقون
عليهما (الأذانين) على طريق التغليب أو لأن الأول إعلام بوقت الصلاة والآخر
إعلام بالشروع فيها، ولكنهم إذا ذكروا الإقامة وحدها لا يسمونها أذانًا بل إقامة.
والمرجح المختار عندنا في هذه المسألة أن يتبع الناس في كل حالة ما كان عليه
السلف الصالح، فإذا علمنا أن المصلين اجتمعوا في المسجد على نحو ما كانوا عليه
في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)
اكتفينا بأذان المسجد، وإذا كانت الحال كما كانت في عهد عثمان وعلمنا أن الأذان
الأول على المنارة أو في السوق مجلبة للمصلين فعلناه. ولا ينبغي لمسلم أن ينكر
على أهل مسجد ما يختارونه من هذه الفعلين؛ إذ لا يصح أن يكون ما حدث في
عهد عثمان ناسخًا لما قبله، ولا أن يكون ضلالة من بعض الراشدين أقره عليها
الصحابة، فليتق الله مَن تُحدثه نفسه بهذا الإنكار. وليعرف قيمة نفسه أولاً، وأما
قول السائل: لم يكن له -صلى الله عليه وسلم- غير مؤذن واحد فهو خاص بأذان
الجمعة.
3- الأذان الثاني داخل المسجد بين يدي الخطيب- فيه أن فعله بين يدي
الخطيب وبالتلقين المعهود في بعض المساجد بدعة لا فائدة فيها ولا نعرف الحامل
لمبتدعها عليها. وقد علمنا علم مما قلنا آنفًا في مسألة الأذان الأول أن الأذان الثاني
وهو الذي كان على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما يكون إذا جلس الإمام
على المنبر كما صرح به السائل في حديثه الصحيح. وأما مكانه فقد روى
الطبراني فيه أن بلالا ً كان يؤذن على باب المسجد. وذكره الحافظ في فتح الباري
محتجًّا به وهو المشهور.
4- الترقية المعهودة في يوم الجمعة بدعة لا نعرف لها أصلاً من كتاب ولا
سنة ولا اجتهاد أحد من الأئمة وإنما أحدثها بنو أمية وأنكرها الفقهاء من جميع
المذاهب.
(راجع المنار ص 31 م6)
وقد استفتي شيخ الجامع الأزهر منذ بضع عشرة سنة في بعض المسائل
المتعلقة بالجمعة مما تقدم فأفتى بأنها بدع منكرة. وقد أشار الأستاذ الإمام إلى هذه
الفتوى ومقاومة بعض أصحاب النفوذ السياسي لها بقوله في كتاب الإسلام
والنصرانية (ص 139من الطبعة الثانية) فقال:
(سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حُكم عمل من الأعمال
الجارية في المساجد يوم الجمعة، ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين
منزلته فأفتى بما ينطبق على السنة، وما يعرفه العارفون بالدين، وقال: إن العمل
بدعة من البدع يجب التنزه عنها. أيظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفُتيا؟
كلا، حدث قيل وقال، وكثرة تسآل، ودخلت السياسة، ثم قيل: إن الزمان ناصر
الحقيقة وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا، وسكت السائل وماذا يصنع
المجيب؟ اهـ.
5- التبليغ في الصلاة هو رفع المؤذنين أصواتهم بالتكبير للإحرام وأذكار
الانتقال لإعلام من لم يسمع صوت الإمام ولا يراه عند إحرامه وانتقاله من ركن إلى
آخر: وله أصل في السنة بما كان من صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
مرض موته آخر جماعة؛ إذ صلى قاعدًا والناس خلفه قيام وأبو بكر (رضي الله
عنه) يبلغهم تكبيره. وقد صرح علماء المذاهب المشهورة بجواز التبليغ إذا احتيج
إليه، فإن لم يُحتج إليه كان بدعة منكرة. على أن للمؤذنين فيه بدعًا كثيرة كفعلهم
له جماعة ورفعهم أصواتهم أكثر مما ينبغي متحرين فيها حُسن النغم وإطالتهم المد
حتى يضطر الإمام إلى انتظارهم أو سبقهم فينتقل إلى السجدة الثانية قبل فراغهم من
تكبيرة السجدة الأولى مثلاً، وقد بين الفقهاء ذلك، وأطال فيه وفي غيره من هذه
المسائل صاحب المدخل رحمه الله تعالى.
6- ختام الصلاة جهارًا في المساجد بالاجتماع ورفع الصوت من البدع التي
أحدثها الناس فإذا التزموا فيها من الأذكار ما ورد في السنة كانت من البدع الإضافية
وقد تساهل فيها كثير من مقلِّدة الفقهاء وأطال العلامة الشاطبي الكلام في إنكارها في
كتابه الاعتصام، ونقلناه عنه في المنار فليراجعه من شاء.
وهذه البدعة قد انتشرت في الأقطار الإسلامية منذ بضعة قرون حتى عمت
الغرب والشرق والجنوب والشمال، ولما أنكرها من أنكرها في الأندلس كثر فيها
القيل والقال، وقد كنت فطنت لها قبل أن أرى لأحد من العلماء كلامًا فيها فتركتها
في أواخر زمان الطلب ولكنني لم أترك الأذكار الواردة بل كنت أقولها وأنا
منصرف من الصلاة، ولم يخطر في بالي أن أنهى عنها أحدًا، ولا أنها يصح أن
تسمى بدعة. ولما كنت في عليكده من الهند سنة 1330 قدموني للخطبة وإمامة
الجمعة فلما فرغت من الصلاة لم أستطع الانصراف ولا التحول من شدة الازدحام
في المسجد ولا رأيت أحدًا من الناس انصرف ولا قام لصلاة ولا غيرها، ثم خلص
إليّ شاب من طلاب العلوم الدينية فأخبرني أن الناس ينتظرون أن يسمعوا مني
أذكار ختم الصلاة ليتبعوني فيها ويقوموا إلى صلاة السنة البعدية وغيرها من
شئونهم، قلت: إن هذا غير مشروع، قال: ألم يرد في الصحيح أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان يقول بعد السلام:
(اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قلت: نعم قد صح
أنه كان إذا سلم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول ذلك (رواه مسلم) ولكن لم يصح أنه كان
يقول ذلك رافعًا صوته ليسمعه الناس ويقولونه بقوله، وأنا قد قلت ذلك سرًّا.
ولما جئت بيروت عند منصرفي من الهند أقمت فيها أيامًا كنت أقرأ درسًا بعد
الظهر في مسجد المجيدية من كل يوم، فشُغل المؤذن بعد صلاة الجمعة يومًا عن
الأذكار والأدعية التي جرت العادة برفع صوته فيها واتباع جمهور المصلين له،
شغلته عنها صلاة الجنازة، فظل كثير من الناس ينتظرونه متلفتين إلى اليمين وإلى
الشمال، فبدأت الدرس ببيان الحق في هذه المسألة وهو أنه ليس من السنة أن
يجلس الناس بعد الصلاة لقراءة شيء من الأذكار والأدعية المأثورة ولا غير
المأثورة برفع الصوت وهيئة الاجتماع كما اعتادوا في الأقطار المختلفة، وأن هذه
العادة صارت عند الناس من قبيل شعائر الدين التي يُنكر على تاركها والناهي عنه،
وإنكار تركها هو المنكر. وأن ما ورد في بعض الأحاديث من الأذكار كقول: (اللهم
أنت السلام) إلخ والاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل يُستحب أن يقوله
الأفراد سرًّا في أي حالة يكونون عليها بعد الصلاة من قيام وقعود ومشي وأن
الاجتماع لذلك والاشتراك فيه ورفع الصوت بدع هوَّنها على الناس التعود، ولو
دعاهم أحد إلى مثل هذه الصفات في عبادة أخرى كصلاة تحية المسجد مثلاً لأنكروا
عليه أشد الإنكار. ولما عدت إلى مصر وشرعت في طبع كتاب الاعتصام للشاطبي
رأيته وفَّى هذه المسألة حقها، فحمدت الله تعالى.
7- الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- عقب الأذان- هي
بدعة أيضًا والقول فيها كالقول فيما تقدمها. قال صاحب المدخل: يطلب من إمام
المسجد أن ينهى المؤذنين عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي -صلى
الله عليه وسلم- عند الأذان، وإن كانت الصلاة والتسليم على النبي -صلى الله عليه
وسلم- من أكبر العبادات، ولكن ينبغي أن يسلك بها مسلكًا فلا توضع إلا في
مواضعها التي جعلت لها، ألا ترى أن قراءة القرآن من أعظم العبادات، ومع ذلك
لا يجوز للمكلف أن يقرأ في الركوع ولا في السجود ولا في الجلوس أعني
الجلوس في الصلاة؛ لأن ذلك لم يرد والخير كله في الاتباع، وهي بدعة قريبة
الحدوث جدًّا مما تقدم ذكره فيما أحدثه بعض الأمراء من التغني بالأذان. إلخ.
8- السير مع الجنازة بالذكر جهارًا وقراءة البُردة كل ذلك من البدع التي لم
يسكت عنها المشتغلون بعلوم الشرع كما سكت جماهيرهم على الأذكار التي اتصلت
بالأذان والصلاة. على أن جميع ما ذكر في الأسئلة والأجوبة من البدع قد بينه
أنصار السنة وخاذِلو البدعة من العلماء منذ أُحدثت إلى هذا العصر.
والبلاء كل البلاء في جعل عمل الناس حُجة على كتاب الله تعالى ودواوين
السنة مع أن بعض الأئمة قال بالاحتجاج بعمل أهل المدينة في زمن الصحابة
والتابعين فخالفه في ذلك سائر الأئمة وجمهور الأمة، وخص بعضهم ذلك بزمن
الراشدين فقط، والآن يحتج الناس بعمل العوام الطغام وبسكوت من لا حجة في
قوله فضلاً عن سكوته من المعممين، أو بتأويل بعض المنافقين الذين يتقربون إلى
العامة بما يرضيهم طمعًا ببعض الحطام أو الجاه الكاذب عندهم.
وقد استفتي شيخ علماء الإسكندرية لهذا العهد في المسألة الأخيرة من هذه
المسائل وفي مسائل أخرى مما أحدثه الناس في أمور الموتى فنذكر ذلك بنصه:
السؤال
ما قولكم فيما يفعله الناس الآن من الصياح أمام الجنازة بنشيد البردة وغيرها،
والاجتماع للتعزية بنصب الخيام، وقراءة القرآن فيها أيامًا مخصوصة، وقراءة
الصمدية بعدد مخصوص يسمونه (عتاقة) ويزعمون أنها تعتق الميت من النار
وتفريق الخبز للفقراء على القبور، وأخذ الفقراء الخبز والنقود أجرًا على قراءة
القرآن- فأهل العلم فينا بين محرِّم لذلك ومحلل، وقد لجأنا إليكم لكي تفيدونا، هل
هذا من الدين أم لا؟ وما هي طريقة نبينا -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح
من الأئمة في ذلك؟ وما حكم الله فيمن يخالف طريقتهم أفيدونا بأدلة تشفينا، فلا
زلتم هداة الحائرين.
الفتوى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فما يفعله
الناس الآن من الصياح أمام الجنازة بنشيد البُردة وقراءة القرآن ونحو ذلك غير
جائز شرعًا، وهو خلاف السنة، وخلاف عمل السف الصالح؛ لأن السنة في اتباع
الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار وعلى ذلك جرى العمل من السلف الصالح، وقد
قال الإمام مالك رضي الله عنه: (لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه
أولها) وكذلك الاجتماع بنصب الخيام في التعزية مباهاة وافتخارًا، وقراءة القرآن
بالكيفية الجاري العمل بها الآن في هذه المجتمعات، وأخذ القراء الخُبز وأجرة على
ذلك واتخاذ ذلك سنة وعادة، فليس من السنة، ولا من عمل السلف الصالح، وإنما
شأنهم أنهم كانوا يذهبون إلى صاحب المصيبة في بيته لحمله على الصبر وعدم
الجزع، من غير إطالة مكث، ويدعون لصاحب المصيبة بالصبر، وللميت
بالمغفرة والرحمة، ثم إن الذي ينفع الميت إنما هو الصدقة على روحه، والدعاء له
بالمغفرة والرحمة، أما إهداء ثواب الفاتحة وغيرها مثل قراءة القرآن بغير الطريقة
التي أخرجته إلى حد الغناء فبعض العلماء رجح حصول الثواب إلى الميت وبعضهم
قال بعدمه.
... ... ... ... ... ... ... ... شيخ علماء الإسكندرية
__________
(*) حذفنا سؤالاً من هذه الأسئلة يتعلق بعادة مصرية بين العروسين.(19/538)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(18)
أما نوبة الملاريا فلها ثلاثة أطوار:
(1) طور البرودة- يشعر المريض بتعب وسآمة وصداع وآلام في الظهر
وبرودة- وتبتدئ الرِّعدة فينكمش في فراشه ويرتجف جميع جسمه وتصطك أسنانه
ويزرقّ وجهه وأنامله وينتصب شعر جسمه كما يحصل من شدة البرد أو الفزع
ويصغر النبض ويُسرع ويضطرب ويتوتر، ويكون التنفس سريعًا غير عميق.
ويكون سطح الجلد باردًا حقيقة، ولكن إذا وُضع مقياس الحرارة في الفم أو في
الدُّبر أو تحت الإبط رأينا الحرارة مرتفعة، فإنها تبدأ في الزيادة قبل الرعدة بدقائق،
بل بساعة أو ساعتين أحيانًا؛ وإنما ينشأ الإحساس ببرودة سطح الجسم من
انقباض أوعية الدم فيه.
ويكون مقدار البول كثيرًا ولونه رائقًا وكثافته قليلة. ويستمر هذا الطور
نصف ساعة أو ساعتين. وترتفع الحرارة بسرعة في آخره إلى ما بعد 40
سنتيجراد.
(2) طور السخونة- يبدأ بالإحساس بالسخونة التي تعم الجسم كله فتزداد
الحُمَّى، وتتمدد الشرايين، ويتوتر النبض ويسرع ويمتلئ، ويحتقن الوجه،
ويتصدع الدماغ. وفي بعض الحالات يهذي المريض أو يعتريه الذهول. ويكون
البول في هذا الطور قليلاً قاتمًا كثيفًا. وكثيرًا ما تظهر [النملة Herpes] حول
الفم. ويستمر هذا الطور 3-4 ساعات.
(3) طور العَرق- يتندى الجسم أولاً بالعَرق بعد شدة جفافه ويعُم الجسم كله
ثم يصير غزيرًا ويستمر ساعة أو ساعتين أو ثلاثًا فيشعر المريض حينئذ بالراحة
ويترطب لسانه، وتنخفض الحرارة أولاً بالتدريج، ثم تسرع حتى تصير طبيعية
ويعود المصاب إلى حالته الصحية الأولى. ويكون البول في هذا الطور كثيفًا جدًّا
وتُرَسب فيه أملاح كثيرة من حامض البوليك.
ولا تحصل جميع هذه الأطوار لكل مصاب، بل قد تقتصر النوبة على واحد
منها أو اثنين، فمثلاً قد يشعر ببرودة خفيفة تعقبها سخونة مدة ساعتين أو ثلاث ولا
يحصل عرق، وقد يبرد ويعرق ولا يشعر بسخونة، وقد يعرق فقط مع ارتفاع
خفيف في الحرارة.
أما الأطفال فيندر أن يحصل لهم رِعدة بل يصابون بدلها بتشنج خفيف (وقد
لا يلاحظ) أو بتشنج شديد.
وفي الأحوال المعتادة يكبر الطحال في طور البرودة والسخونة حتى قد يحس
به تحت الضلوع.
وتحصل أول نوب الحمى هذه إما في الصباح أو وقت الظهر، أما النوب
التي تليها فلا تكون دائمًا في وقت النوبة الأولى بل قد تتأخر عنها شيئًا فشيئًا حتى
تحصل في المساء أو في الليل، وقد تتقدم عنها شيئًا فشيئًا حتى تحصل قبل الفجر،
ويسمى النوع الأول بالمتقهقر والثاني بالمتقدم.
والأحوال المعتادة من هذه الحمى غير مميتة في الغالب إلا للأطفال الصغار أو
الشيوخ أو السُّقماء. وقد يتمدد الطحال منها حتى ينفجر وينسكب الدم في تجويف
البطن، وقد ينزف الدم في منسوج الطحال نفسه ويتكون فيه خراج فينفجر في
تجويف البريتون. ومضاعفات مثل هذه الأحوال ليست بكثيرة، وأشهرها النزلة
الشعبية والرُّعاف والبول الزلالي والآلام العصبية فوق الحاجب.
أما الأحوال الخبيثة المسماة [بالصيفية الخريفية] فلا تكون نوبها منتظمة ولا
متقطعة إلا أحيانًا قليلة تكون الفترة فيها قصيرة، ويقل حصول الرعدة للمصاب،
وكثيرًا ما يعتريه اليرقان والغثيان والقيء والإسهال، حتى قد تشتبه هذه الحمى
بالحمى التيفودية، وقد تطول مدتها إلى ثلاثة أسابيع وتنتهي كثيرًا بالموت الذي
يسبقه الهذيان أو الغيبوبة أو الاضطرابات الهضمية أو البول الزلالي أو النزف
الدموي أو الهمود (الهبوط) .
ومن الأنواع التي يتأثر منها المجموع العصبي بشدة نوع يمتاز طول الغيبوبة فيه حتى تمكث نحو 12 ساعة أو أكثر، ويكون الشخص كأنه مصاب بنزف
في مخه، ومنها نوع يشتد فيه الهذيان والهيجان. وقد شوهد بعض أحوال يركن
فيها المصاب كأنه ميت حقيقة فيقف تنفسه ويضعف نبضه وضربات قلبه حتى لا
يمكن إدراكهما.
واعلم أن هذه الحمى إذا تكررت نوبها جعلت الشخص سقيمًا عليلاً مصفرًّا
(لإبادة ميكروبها للكريات الدموية الحمراء) ويعتريه الدُّوار، وقلة الميل للطعام وآلام
بالعضلات والمفاصل والضعف والاستسقاء) ، ويضخم الطحال والكبد أو يكثر
منسوجه الليفي ويتيبس ويضمر، وقد يصاب الشخص بالجنون أو بالتهاب
الأعصاب أو بطنين الآذان أو الصمم أو فقدان الشم أو الذوق.
التشخيص- إن أحسن الطرق للتحقق من شخص هذه الحمى البحث في الدم
عن ميكروبها بواسطة المجهر. وليحترس من إعطاء الكينين للمريض قبل عمل
هذا البحث فإن هذا الدواء يُذهب الميكروب من الدم. ويختفي الميكروب أيضًا من
الدم في الأنواع الخبيثة وقت انخفاض الحرارة، أعني في الفترات التي بين نوب
الحمى وأحسن الأوقات لمشاهدته في تلك الأنواع هو أن يبحث في الدم عند ابتداء
النوبة وقت صعود الحرارة. أما في الأنواع الحميدة فيكون الميكروب أكبر وأظهر
في الفترات التي بين نوب الحمى.
المعالجة- الغرض الذي يُرمى إليه هو قتل الميكروب وإخراج سمومه من
الجسم وإراحة المريض مما يحدثه من أعراض الداء، وأحسن الأدوية وأشهرها
لقتل هذا الميكروب هو [الكينين Quinine] [1] وأشهر أملاحه الكبريتات، وهي
مادة بيضاء خفيفة شديدة المرارة قليلة الذوبان في الماء فتذوب فيه بنسبة 1: 800
ولكنها سهلة الذوبان فيه بإضافة أحد الحوامض إليه. ومقدار تعاطيها في اليوم 20-
30 قمحة تقسم على ثلاث دفعات، والأفضل أن تكون الدفعة الأخيرة قبل ميعاد
حضور النوبة نحو ست ساعات، ولا مانع من إعطائها بعد طعام الفطور والغذاء
والعشاء ككثير من الأدوية الأخرى. وإذا قاءها المريض مزجت بقليل من الأفيون
أو حقنت في المستقيم أو تحت الجلد، والأفضل أن تحقن داخل عضلات الألية،
وأحسن الأملاح للحقن في الشرج أو تحت الجلد هو [هيدروبروميد الكينين
الحمضي] فإنه سهل الذوبان في الماء ولا يتهيج منه المكان المحقون، وجرعته من
قمحتين إلى عشر أو 15 قمحة.
و [البوكينين Euquinine] وهو إتيل كربونات الكينين يكاد يكون عديم
المرارة ولا يضر المعدة ولا الأعصاب، ولذلك كان أحسن دواء للأطفال والنساء.
وجرعته تختلف من 5 إلى 10 قمحات بحسب السن.
ويجب الاستمرار على تعاطي الكينين مدة بعد زوال الحمى؛ لأن بعض
الميكروبات قد ينجو من فعله ويختفي في الطحال، ثم يعود إلى الظهور ويكثر
فيحدث النكس، فلذا يجب الاستمرار على تعاطيه بعد الشفاء بمقادير يعينها الطبيب
(كخمس قمحات في اليوم) لمدة ثلاثة أشهر على الأقل.
وهناك بعض أدوية أخرى نافعة في الملاريا، ولكنها أقل قيمة من الكينين مثل
مركبات الزرنيخ.
وكثيرًا ما يحدث من الكينين أعراض ضارة مثل طنين الآذان والصداع
والصمم، وقد تُتقى هذه الأعراض بتقليل مقداره أو إبطاله مؤقتًا أو إعطاء حامض
الهيدروبروميك أو الجويدار لمنع الاحتقان الناشئ من الكينين.
الوقاية- تكون:
(1) بردم المستنقعات.
(2) وبإبادة البعوض وذلك بصب زيت البترول على المياه التي توجد فيها
البويضات والعلق لقتلهما، ويكون ذلك بنسبة أوقية لكل 15 قدمًا مربعة من سطح
الماء.
(3) وباتقاء لذع البعوض بمثل الكلة (الناموسية) وخصوصًا بالليل وهو
وقت لذع هذا النوع من البعوض في الغالب.
(4) وبدوام استعمال الكينين في الأقاليم التي تكثر فيها الملاريا (بمقدار
خمس قمحات يوميًّا) .
***
حمى البول الأسود
Fever Blackwater
تحدث هذه الحمى في الأقاليم الحارة التي تكثر فيها الملاريا لمن أقام بتلك
البلاد سنة على الأقل فأكثر أو للذين أصيبوا بالملاريا، ويقل حصولها لغير هذين
السببين.
بحث الأسباب تفصيلاً- ذهب العلماء في حقيقة سبب هذه الحمى مذاهب
أهمها:
(1) أنها نتيجة إصابة شديدة بالملاريا.
(2) أنها ملاريا متضاعفة بإصابة الكليتين.
(3) أنها نتيجة ميكروب مجهول.
(4) أنها ملاريا مع عامل آخر كتسمم الجسم بمثل الكينين أو بسُمّ مرض
من الأمراض كالإفرنجي وغيره، أو كالتعرض للبرد.
الأعراض- تتقدمها آلام في الأطراف والدماغ وتوعّك ثم رعدة فقيء صفراوي
فبول أحمر أو أسود بسبب ذوبان مادة الكريات الحمراء فيه، ويكون فيه زلال
كثير، وترتفع الحرارة إلى 40 سنتجراد فأكثر ثم تنخفض قليلاً بعد بضع ساعات،
ثم ترتفع مع رِعدة أخرى، وهلم جرًّا. ويُصاب المريض باليرقان، ويضخم
الطحال والكبد ويتألم المصاب من جسهما.
وفي الحالات البسيطة تزول الأعراض بعد نحو أسبوع، وأما في الشديدة
فيستمر القيء ويقل البول أو يبطل إفرازه ويصاب المريض بالغيبوبة أو الهمود
ويموت.
وعدد الوفيات بهذا المرض هو من 16 إلى 50 في المئة.
المعالجة- تكون بحسن التمريض والعناية بالمصاب والإكثار من شرب
السوائل لإدرار البول، وتعطى المنعشات المقويات للقلب، ولا يعطى المريض
الكينين إلا إذا وجد ميكروب الملاريا في الدم، وحينئذ يعطى أي ملح من أملاحه
غير الكبريتات فإنها تساعد على إذابة الكريات الحمراء، ويكون مقدار أي ملح قليلاً
متكررًا.
***
الدوسنطاريا الأميبية
Dysentery Amoebic
قلنا: إن الدوسنطاريا نوعان: نوع ينشأ من ميكروب نباتي (وقد سبق الكلام
عليه في صفحة 102 من الجزء الثاني من هذا الكتاب) والآخر ينشأ من ميكروب
حيواني وهو المراد بالكلام هنا.
وكلمة [أميبا Amoeba] يونانية معناها (المتغير) تطلق على حييوين
دقيق ذي خلية واحدة دائم التغير لشكله بما يرسله من جسمه في جميع الجهات من
الأرجل [الكاذبة [2] Pseudopodia] التي يتحرك بها حركة ذاتية، وهو من
أبسط الحيوانات المسماة [الحيوانات الأولى Protozoa] .
يتسلق الإنسان ثلاثة أنواع من الأميبا:
(1) نوع يوجد في فمه إذا أصاب أسنانه النقد (التسويس) (راجع ص
68 من الجزء الأول) .
(2) ونوع يسكن الجزء الأعلى من الأمعاء الغلاظ، والظاهر أنه لا ضرر
منه.
(3) والثالث هو أميبا الدوسنطاريا هذه.
وهذا الأميبا يشاهد في براز المصاب وفي المدة التي قد تتكون في الكبد [3]
بسبب هذا المرض، وأكثر وجوده يكون في المواد المخاطية التي يتبرزها المريض
وقت اشتداد المرض؛ أي في زمن حدته. قُطر هذا الميكروب الحيواني هو من 25-
35 ميكرونًا؛ أي أن حجمه كحجم ثلاث أو أربع كريات حمراء من كريات الدم.
وهو يثقب الغشاء المخاطي للأمعاء الغلاظ ويسكن تحته ويتكاثر ويحدث المرض،
وقد يصل إلى الأوعية اللمفاوية أو الأوردة فيسير فيها.
أسباب الدوسنطاريا الأميبية- يوجد هذا النوع من الدوسنطاريا في الأقاليم
الحارة والمعتدلة كمصر، ولا ينتشر بشكل وبائي كالنوع الآخر السابق. وتنتقل
الأميبا بواسطة الماء الذي يتلوث في براز المصاب أو بواسطة الأطعمة الملوثة به
أيضًا خصوصًا الخضر. ويصيب المرض جميع الأجناس البشرية إذا تعرضت
للعدوى، وكذلك الصغار والكبار بلا تمييز بينهم، غير أن الظاهر أنه يصيب
الذكور أكثر من الإناث لقلة تعرض هؤلاء له من أولئك , ولهذا النوع أيضًا حملة
كالنوع الأول يوجد الميكروب في أمعائهم ولا تحدث لهم أعراضه.
الأعراض- لا تختلف أعراض هذا النوع كثيرًا عن أعراض النوع الباسيلي
الذي سبق ذكره إلا في أشياء قليلة، وهي أنه لا يكون ابتداؤه مفاجأة بل تدريجيًّا في
الغالب، وتكون مدته أطول فإنه يميل لأن يكون مزمنًا، وتكون الحمى فيه أقل،
وكذلك الاضطراب العام، وتكثر نكساته ولا يمنع ذلك من أن يكون أحيانًا شديدًا جدًّا
ومميتًا بسرعة، وترتفع الحمى ويقلّ البول ويكثر الزلال فيه. ومن الناس من
توجد في أمعاءه قروح ناشئة على هذا الميكروب، ومع ذلك لا تظهر عليهم
أعراض المرض، ولكن ذلك قليل.
المضاعفات- تحتقن الكبد أحيانًا وتلتهب وكذلك الكليتان، ويندر حصول
النسف المعوي في هذا الشكل. وأهم المضاعفات خرّاج الكبد الذي يكون غالبًا
واحدًا أو على الأكثر لا يزيد عن ثلاثة، والسبب فيه وصول الميكروب إلى الكبد
بطريق الوريد الباب فيميت بسمه منسوجه.
ومن العقابيل ضيق الأمعاء بسبب انقباض آثار القروح التي تحدث فيها.
الإنذار- يراعى فيه مسألة خراج الكبد وشدة الأعراض. وتخشى النكسة
والإزمان. والفواق علامة سيئة في الحالات الحادة؛ لأنه ينذر غالبًا بقرب
الاضمحلال والموت.
المعالجة- لا تختلف عن معالجة النوع الباسيلي إلا في نفع [عرق الذهب]
وشدة تأثيره في هذا المرض، وهو جذور شجرة في بلاد البرازيل بأمريكة الجنوبية،
في هذه الجذور مادة مقيئة تسمى لذلك باللغات الإفرنجية [Emetine] ولكنها
شافية لهذا الداء. والجرعة من مسحوق هذه الجذور هي 20-30 قمحة،
ويستحسن إعطاء قليل من الأفيون أو أحد مركباته قبلها بنحو نصف ساعة،
ويستلقي المريض على قفاه ولا يعطى له شيء آخر سوى قليل من الثلج لمصه،
وذلك كله لمنع القيء الذي يحدث من الدواء، وتتكرر الجرعة بعد 8 أو 10 ساعات،
إذا كانت الأعراض شديدة أعطيت الجرعة ثلاث مرات في اليوم، وبعد زوال
أعراض الدسنطاريا يكمل العلاج بمركبات البزموت والأفيون ونحوهما.
ويفضل استعمال [الأميتين Emetine] حقنًا تحت الجلد أو في داخل
العضلات [4] بمقدار نصف قمحة مرة ليلاً ومرة نهارًا عندما تتحسن الحال بحقن
المريض مرة واحدة فقط في اليوم، ولا يحدث القيء بهذه الطريقة كما يحدث من
إعطاء مسحوق عرق الذهب نفسه بالفم. وهذا الدواء نافع أيضًا في منع التهاب
الكبد وخراجها؛ لأنه قاتل لميكروب الدوسنطاريا بسرعة عجيبة.
والمعالجة بالأميتين أو بعرق الذهب نافعة أيضًا في الحالات المزمنة، وإذا
تعاطت حقن المريض أيضًا بالمحاليل المطهرة أو القابضة في المستقيم، ويكون
مقدار الحقن نحو لتر في المحلول الدافئ.
الوقاية- تقوم بتطهير الماء بالغلي أو غيره بالامتناع عن أكل الخُضر وغيرها
إلا إذا طهرت، وبإبادة الذباب بقدر الإمكان أو منعه من الوصول إلى الطعام أو
الشراب.
***
الحمى الراجعة أو ذات النكس
Fever Relapsing
مرض معد شهير ينتشر عادة بشكل وبائي، وليس له طفح مخصوص كبعض
الحميات الأخرى، وإنما يمتاز بحصول حمى بضعة أيام تنتهي فجأة بعد نحو
أسبوع، ثم ترجع ثانية بعد مُضي بضعة أيام وهكذا. وهي كثيرة الوجود في مصر
وغيرها، وقد كانت تنتشر بشكل مريع في السجون وغيرها حيث يكثر الازدحام.
ينشأ الشكل المعتاد منها في مصر من ميكروب حيواني حلازوني الشكل
اكتشفه [أبرميير Obermeier] في الدم سنة 1873 وله أنواع يختلف بعضها
عن بعض قليلاً كما في بلاد الهند وأمريكا. طول هذا الميكروب يختلف من 16 -
40 ميكرونًا وعرضه ميكرون واحد. وهو يشاهد في دم المصاب بهذه الحمى بين
كرياته لا في داخلها. ويقول بعض الباحثين: إنه يمكن مشاهدته في طور التفريخ
قبل حصول الحمى بنحو 48 ساعة، ويقول آخرون: إنه يشاهد أولاً في اليوم
الثاني للحمى ويكثر عدده كلما تقدمت الحمى، ولا يقل إلا إذا بلغت الحمى أكثر
شدتها وارتفاعها قبيل البحران، فإذا انخفضت الحرارة لا يشاهد الميكروب في الدم
إلى أن تقترب النوبة الثانية. وقد أمكن تلقيح الإنسان والقرد بهذا الميكروب إذا
حُقن فيهما جزء من دم المصاب. وشاهد بعض العلماء أن الميكروب إذا اختفى من
الدم ذهب إلى الطحال، وهناك تبتلعه بعض الكريات البيضاء وتقتله، فلذا استنتج
أنه إذا أفلت بعضها من القتل وعاد إلى الدم تكاثر فيه فتنتكس الحمى.
والإصابة بهذه الحمى لا تحمي الشخص من عودتها بعد زمن إلا قليلاً ولكنها
تحمي غالبًا من الإصابة بالتيفوس. ومن الأسباب المهيئة للعدوى الفاقة والجوع
والازدحام والقذارة. وذلك لأنها تنتقل من شخص إلى آخر بواسطة قمل الجسم فقد
شُوهد فيه نفس الميكروب، وهو لا ينتقل إلى الإنسان بلسع القمل لجسمه، وإنما
ينتقل بطريقة أخرى، وهي أن المصاب بالقمل يكون كثير الحك لجسمه فيتسلخ
جلده قليلاً من أظافره أو غيرها فإذا سحقت قملة في أثناء الحك أو غيره كالنوم
عليها وأصاب دمها بعض تلك الجروح التي بالجلد دخل منها الميكروب إلى الدم
وأصاب الإنسان بالحمى. ويبقى الميكروب في جسم القملة مدة حياتها بل يصل إلى
بويضاتها (الصئبان) فتتلقح به أيضًا، ولذلك وجب الاحتراس من القمل والصئبان
فإنهما ينقلان هذه الحمى.
وهي تصيب الإنسان في جميع الأعمار ولا تميز بين الذكر والأنثى إلا قليلاً
فإن نسبة المصابين بها من الذكور إلى الإناث تكون عادة كنسبة 3 إلى 2 وهي
كثيرة الحصول للفقراء والشحاذين ونحوهم لكثرة ضعفهم ووجود القمل فيهم، وقل
أن تصيب الأغنياء إلا إذا صادفتهم قملة انتقلت إليهم من مصاب بها اقتربوا منه.
وهناك نوع من هذه الحمى يحصل في إفريقيا ينتقل من شخص إلى آخر بواسطة
القراد، ولكن مدة هذه الحمى أقصر فإنها تكون عادة يومين أو ثلاثة، ويوجد أيضًا
ميكروبها حتى في بويضات القردان، ويجوز أن ينتقل إلى الجيل الثالث من نسله.
الأعراض- يتراوح طول التفريخ بين يوم و 16 يومًا ولكن في أكثر الأحوال
يكون أقل من تسعة أيام. وتبدأ الحمى فجأة بقشعريرة أو برعدة يعقبها سريعًا صداع
في الجبهة وآلام في الظهر والأطراف. وبعد زمن يسير تزول القشعريرة ويخلفها
إحساس بحرارة في الجسم ويزداد الصداع والآلام المذكورة. وتكون درجة الحرارة
في اليوم الأول 39 أو أكثر فيضطر المريض إلى التزام الفراش ويشتد به العطش
والإقهاء وقد يعتريه الغثيان والقيء ويحتقن الوجه ويبيض اللسان وتزداد درجة
الحرارة في الليل فتكون 40 أو 41 وتنخفض قليلاً في الصباح فتكون أقل بدرجة
غالبًا.
وقد تتكرر الرعدة ويكثر العرق. ويسرع النقل، وكذلك مرات التنفس.
ويعتري المريض في بعض الأحوال اليرقان الشديد حتى يتكون البول بلون المُرة
(الصفراء) وتكبر الكبد والطحال خصوصًا، وتظهر [النملة Herpess] أحيانًا
على الشفتين وقد يحصل رعاف (نزف من الأنف) . وتستمر هذه الحالة على نحو
من أسبوع، ويقل نوم المريض ويشتكي كثيرًا من آلام المفاصل والعضلات، ولكنه
يبقى حافظًا لقواه العقلية إلى قبيل النهاية وعندئذ يعتريه الهذيان، وتشتد الحمى جدًّا
قد تصل إلى 42 و 49 وحينئذ تنفرج الأزمة فجأة ويحصل البحران، ويكثر العرق
وتقل مرات النبض والتنفس، وتنخفض الحرارة بسرعة ويشفى المريض غير أنه
قد يعتريه همود خصوصًا إذا كان شيخًا، وقد يصحب البحران إسهال أو رعاف
وتكون الحرارة أقل من الدرجة الطبيعية ثم يتحسن الحال بسرعة وتشتد شهوة
الطعام وتعود قوة المريض في ثلاثة أيام أو أربعة. وبعد أن يظن أنه شُفي تمامًا
تعود إليه الحمى فجأة كما بدأت، ويكون ذلك بعد مضي أسبوع تقريبًا، ويصبر
المريض في عين الحالة التي كان عليها في المرة الأولى، وبعد بضعة أيام تنتهي
النكسة بالبحران أيضًا. وقد ينكس المريض ثانية وثالثة ورابعة، وكذا خامسة في
النادر. ومن المرضى من لا ينكس ألبتة. وتكون مدة النكس في الغالب أقل من مدة
المرض الأولى فتكون عادة أربعة أيام أو خمسة، وقد تكون يومين أو ثلاثة،
وتكون النكسة في الغالب أخف وطأة من الحمى الأولى، ولكنها أحيانًا تكون أشد بل
قد يموت منها المريض.
واعلم أن جميع المدد المذكورة سابقًا هي تقريبية فإنها تتفاوت تفاوتًا عظيمًا
باختلاف الأشخاص، وقد رأينا في السجون المصرية أن مدة الحمى الأولى قد
تتراوح من يوم إلى ثمانية أيام أو تسعة، والفترة الأولى من يومين إلى واحد
وعشرين يومًا، ومدة النكسة الأولى من يوم إلى عشرة، والثانية من يوم إلى سبعة
وهلمَّ جرًّا في الاختلافات العظيمة في مدة الفترات وأيام النكس، ومن المسجونين
من نُكس أربع مرات [5] .
وعدد الوفيات يختلف من 14 إلى 18 في المئة، ويحصل الموت عند اشتداد
الكرب في الحمى الأولى أو عقب البحران مباشرة من الهمود خصوصًا في الشيوخ
كما تقدم. وقد يحصل الموت بسبب التسمم البولي والتشنج أو بالالتهاب الرئوي أو
بالزحار أو غيره.
ومن المضاعفات غير ما ذكر، ضخامة الطحال وتمزقه، والحُمرة بالأطراف
السفلى، والتهاب الغدد اللعابية أو تقيحها، والتهاب العين الذي يعميها، وإجهاض
الحَبالا والنسف الرحمي الخطر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذه الكلمة مأخوذة من لغة أهل بيرو Pero بأمريكة الجنوبية، ومعناها (القشر) لأن هذه المادة تستخرج من قشر شجرة (السنكونا Cinchona) وسميت هذه الشجرة بهذا الاسم؛ لأن أميرة شنكون Chinchon زوجة حاكم بيرو عولجت بها من حمى فشفيت في سنة 1628 وفي السنة التالية أحضرتها إلى أوروبة، وبعد ذلك أدخلها الجزويت إلى رومية، ولذلك سميت أيضًا (قشر الجزويت) .
(2) سميت بذلك؛ لأنها ليست دائمة بل تنبعث وتنقبض.
(3) خصوصًا بعد فتح خراج الكبد هذا بثلاثة أيام حينما تنقبض جُدُره.
(4) ذلك أفضل لعدم إحداث ألم وورم وتييس في مكان الحقن.
(5) راجع تقرير جناب الدكتور (كرتون Kirton) رئيس القسم الطبي بمصلحة السجون المصرية عن سنة 1907.(19/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمعيات الاتحادية
لتكوين العصبية التركية
كتب بعض شبان العرب المتعلمين في مدارس الدولة العثمانية بالآستانة
مقالات في الجرائد في موضوع هذا العنوان، ثم رأينا في كتاب (ثورة العرب)
الذي صدر بالعربية من عهد قريب كلامًا مختصرًا مفيدًا في ذلك فنقلناه عنه؛ لأجل
الاعتبار به وإثبات ما يحتاج إلى الرجوع إليه من تاريخ هذا الانقلاب الخطر. قال
المؤلف تحت عنوان (المعول الاتحادي العظيم) ما نصه:
أنشأ الاتحاديون جمعية تركية عظيمة سموها جمعية (ترك أوجاغي) - أي
طائفة الترك أو العائلة التركية- وجعلوا غايتها محو الإسلام وتتريك العناصر
العثمانية، ومركزها في الآستانة ومصاريفها من تخصيصات وزارتي الأوقاف
والداخلية ومن المشيخة الإسلامية أيضًا وهي منتشرة في كل بلدة وقرية في
الأناضول والقوقاس وتركستان وتراقية ومكدونية ولها أربعة فروع لكل منها
مهمة خاصة به وهذه الفروع هي:
أولاً: (ترك يوردي) - أي: المملكة التركية- ومهمته العناية بالآداب التركية
بطرق شتى أهمها (تطهير) اللغة التركية من الكلمات العربية وجعلها لغة مغولية
بحتة وتأليف الكتب القومية بهذه اللغة وتعليمها في المدارس ونشرها في البلاد
التركية وكتابتها بحروف منفصلة لكي يبقى بينها وبين اللغة العربية أقل شبه [1] .
ووظيفة أعضاء جمعية (ترك يوردي) مقاومة كل كاتب تركي أو غير تركي
لا يرى رأيهم ولا يعتقد معتقدهم، ونشر الكتب القومية والأناشيد الحماسية بين
الترك وتدريسهم التاريخ التوراني القديم وإفهامهم أن الترك أعظم أمة في العالم
اختارتها الأقدار لسيادة الأمم. وقد جرى لهم حوادث عديدة مع فريق من عقلاء
الترك أنفسهم كعلي كمال بك والدكتور رضا نور بك ولطفي فكري بك وغيرهم،
فاتهموا هؤلاء بالخيانة وتهددوهم بالقتل، وقالوا: إن العنصر التركي يتبرأ منهم
وأنهم من أصل يوناني وأنه لا وطنية لهم ولا قومية ولا شرف.
ثانيًا: (ترك درنيكي) - أي: ثبات الترك- ومهمته بث الفكرة القومية في
الترك العثمانيين وغير العثمانيين بشكل لم يسبق له مثيل في تواريخ الأمم [2] .
وأعضاء ترك درنكي من غلاة الاتحاديين وأشدهم كرهًا للعناصر ورغبة في
تتريكها والقضاء على الفكرة القومية فيها. وهم على جانب عظيم من الهمة والنشاط،
ولكن الغرور أعمى أبصارهم وأسدل ستارًا من الجهل على عقولهم فكانت ثمرة
نشاطهم شرًّا على الدولة ووبالاً [3] .
ثالثًا: ترك بلكيشي- أي العلم التركي- ومهمة أعضائه ترجمة الكتب العلمية
إلى اللغة التركية القديمة، ونشر هذه اللغة بين الترك وبث الفكرة القومية التركية
في تركستان والقوقاس وربطهما بدولة الاتحاديين برباط سياسي متين.
رابعًا: (ترك كوجي) - أي: القوة التركية- ومهمته العناية بصحة الترك
وتقوية أجسامهم ونشر الألعاب الرياضية بينهم.
ويشترط للدخول في جمعية (ترك أوجاغي) أو في أحد فروعها أن يكون
طالب الدخول تركيًّا وأن يدفع رسمًا شهريًّا، وأن يتعهد ببذل حياته ونشاطه وماله
لإعلاء شأن الترك وبسط سيادتهم على الأمم الأخرى وأن يغير اسمه باسم توراني
يُعرف به بين أصحابه، فمن كان اسمه أنور مثلاً صار يُعرف اليوم بين أصحابه
باسم أيشلداق- أي: أنور بالتركية القديمة- ومن كان اسمه محمدًا أو سليمًا أو حسينًا
أو سعيدًا صار اسمه اليوم تيمورًا أو جنكيز أو هلاكو أو غورز إلخ.
وقد بدَّل كل الضباط الاتحاديين أسماءهم بأسماء تورانية، وكذا رجال
الحكومة الحالية؛ لأنهم كلهم من جمعية (ترك أوجاغي) ويعرفون بين أصحابهم
الترك بأسماء تورانية غير أسمائهم التي يعرفهم بها غير الترك.
وقد أنشأت جمعية ترك أوجاغي وفروعها أندية عديدة في جميع المدن والقرى
التركية لتدريس تاريخ الترك القديم ولا سيما تاريخ هلاكو وأوغوز وجنكيز خان
وبث الفكرة التركية في الأمة التركية وجعلها تعتقد بتفوقها على الأمم الأخرى في
كل شيء. وعينت هذه الجمعية ثلاثة أيام في الأسبوع لتعليم النساء التركيات
التاريخ القديم وبث الفكرة العنصرية فيهن وحملهن على العناية بتربية أطفالهن
تربية قومية تركية. وتبرعت وزارة أوقاف المسلمين أخيرًا بخمسين ألف ليرا
عثمانية لجمعية (ترك أوجاغي) لأجل تأليف تواريخ مفصلة لهلاكو ووأغوز
وجنكيز وتيمور لنك.
وأندية (ترك أوجاغي) محرّم دخولها على غير الترك، فكل من يودّ أن
يدخل إليها يجب عليه أن يُظهر للبواب ورقة عليها اسمه وتاريخ ولادته، وقد سعت
جمعية ترك أوجاغي أخيرًا في ترجمة القرآن الكريم إلى التركية القديمة مع خطبة
الجمعة والأدعية الدينية وغيرها مما يوجب الدين الإسلامي تلاوته باللغة العربية،
وعزمت على نزع أسماء الصحابة من الجوامع لاعتقادها أن وجود هذه الأسماء
العربية في الجوامع والأماكن المقدسة مما يُضعف الفكرة القومية في الترك.
وليست المدارس العثمانية رشدية كانت أو إعدادية مَلَكية أو عسكرية إلا
فروعًا من فروع جمعية (ترك أوجاغي) وكذلك جمعية الاتحاد والترقي وجميع
الجمعيات السياسية والعلمية والدينية والأدبية التي تأسست في الآستانة والأناضول
قبل الحرب الأوروبية وبعدها.
وقد أدخلت الحكومة في برنامج مدارسها العالية ولا سيما المدرسة الحربية
ومدرسة أركان الحرب في الآستانة درس تاريخ التورانيين وعلومهم الحربية
وآدابهم ونظاماتهم، وعهدت إلى أحمد أغايف بك وخالد ضياء بك وحمد الله بك
في إلقاء محاضرات يومية في هذه المواضيع على تلامذة المدارس الحربية ومدارس
الحقوق والطب والهندسة وغيرها وترسيخ الفكرة التركية في نفوسهم.
واستعاض التلامذة في جميع المدارس الابتدائية والإعدادية والعالية من الكتب
العصرية بمجموعة (ترك يوردي) - المملكة التركية- وكتاب ترك قليجي-
السيف التركي- وتاريخ توازن، وتاريخ تيمور لنك وهلاكو وجنكيز خان وغيرهم.
وفي كل يوم يجتمع تلامذة المدارس الحربية في ساحات مدارسهم ويستلون
سيوفهم وينشدون نشيدهم الوطني الذي يبتدئ بهذه الأبيات:
جنكز خانك بايراغي ... آنلي شانلي صانلاندي
آيت خانك بايراغي ... حربده بويله أكلاتدي
أي: لقد تموجت أعلام جنكيز خان في جو المجد والشرف وأرشدنا أعلام
آيت خان إلى نهج هذا الطريق المجيد في الحرب. إلخ.
والأغرب من هذا كله الدعاء الجديد الذي ألفته جمعية (تورك يوردي)
وجعلت الترك يستعملونه في منازلهم ومدارسهم، وقد قررت أخيرًا استعماله في
الجوامع في الآستانة والأناضول، وهذه ترجمته:
(أيها الإله القادر على كل شيء أنعم على الترك بالصحة والعافية وأحسن
إليهم بذئب أبيض [4] واشملهم برعاية مولانا السلطان الأعظم.
(وأنت يا مملكة توران الجميلة المحبوبة أرشدينا إلى الطريق المؤدية إليك؛ لأن
جدنا أوغوز الكبير ينادينا.
(أيها الإله القادر على كل شيء أنر طريق توران أمامنا، واجعل أمتنا
كالورد الناضر واهدنا الصراط المستقيم) .
***
الأناشيد الحماسية في الجيش
أما الجيش العثماني فمعظم ضباطه وجنوده الترك من الاتحاديين ومن
المنتسبين إلى جمعية ترك أوجاغي، وهم يحتقرون الضباط والجنود من أبناء
العناصر العثمانية الأخرى ولا يسمون الدولة إلا الدولة التركية، وينفرون من
تسميتها الدولة العثمانية لاعتقادهم أن البلاد العثمانية غير التركية ليست إلا مستعمرة
فتحها الترك بالسيف. وهذا نموذج من الأناشيد الحماسية التي يتزعمون بها في
الجيش:
بزتر كزسن تركلكه أمانتسك ...
هيج قورقمه هب أولورسي ويرميز ...
أي: نحن ترك وأنت (يا آسيا) أمانة بيد الترك فلا تخشى شرًّا؛ لأننا نفديك
بأرواحنا.
أي ترك كنجي يتيشيرارتق أو يومه ...
قوش كويلينك أمداديدورمه نه ...
أي: انهض أيها الفتى فقد نمت طويلاً وأسرِع في الحال إلى إمداد بلاد
أجدادك.
جنكيز خانك بايراغي ... آنلي شانلي صانلاندي
آيت خانك بايراغي ... حربده بويله أكلاتدي
وقد سبقت ترجمته.
انتقامي آله مزسك تركلك بزه نافله ...
صوصتره لم بايقوشلري يتيشر بو ولوله ...
أي: لا يحق لنا أن نُدعى أتراكًا ما لم ننتقم من أعدائنا. فلنسكت اليوم عن
نعيقه وليكفنا ما سمعناه من الضجيج والنحيب.
يورييالم أيلرى يه أتلاية لم طاغ تبه ...
باطلاتالم بومبالري جانلر كيرسون يرلره
أي: هلموا إلى الأمام فستنبط أمامكم الجبال والآكام وتتفجر قنابل الديناميت
وتفغر الأرض فاها لابتلاع النواقيس والأجراس.
آل بايراغك التنده انآ لرم يورودي ...
كوك بايراغك التنده يكي توران بيودي ...
أي: لقد سار أجدادنا إلى المجد تحت العلَم الأحمر الذي هو مصدر عظمة
توران الجديدة.
يورين طاغلر اينيسين التون اردوشان ويرسون ...
آل بايراق! يا نعينلر اوزرنده يوكسلسك ...
أي: سيروا لتنبسط الجبال وتكسبنا جيوش التاي [5] الشرف فإن مجدنا
سيشاد تحت العلم التركي على الأنقاض والحرائق.
بزايغورز دونميز قونا غمز طاغ اوه ...
تركز بزمدراسيا تركز هيمز ...
أي: نحن سعداء فلا نرجع عن سيرنا إلى الأمام؛ لأن مسكننا الجبال
والبِطاح نحن ترك وآسيا كلها لنا نحن أتراك أتراك كلنا.
كيف يعلمون الأمة
هذا نموذج من الأناشيد التركية الوطنية التي يترنم بها الترك في ميادين القتال
على مسمع من جنود العرب وضباطهم.
وإلى القراء نموذج من الخطب والدروس التي يلقيها على التلامذة العثمانيين
في مدارس الدولة أساتذة من أعضاء جمعية (ترك أوجاغي) عينوا برواتب باهظة
لتتريك أبناء العناصر العثمانية.
قال أستاذ التربية العسكرية في المدرسة الحربية في الآستانة في درس ألقاه
على صف الضباط بعد إعلان الحرب العثمانية بأيام ما خلاصته (أي خلاصة
ترجمته) :
(أود أيها السادة أن ألقي عليكم كلمة في غاية الأهمية بمناسبة الحوادث
العظيمة التي وقعت في الغرب فأظهرت لنا معاشر الترك أمورًا لم تخطر في بالِنا
من قبل وعِبرًا ينبغي أن نعتبر بها. فإن البلجيك الصغيرة تجاسرت على محاربة
ألمانيا العظيمة ووقفت بجيش لا يزيد على مئة ألف جندي أمام أعظم جيش ذكره
تاريخ بني البشر فحالت دون القضاء على حليفتها فرنسا. لذلك لا يسعنا نحن الترك
أعداء البلجيك إلا أن نطأطئ رؤوسنا إجلالاً لها واحترامًا لجيشها الباسل. ولكن
أتعلمون أيها الأصدقاء لماذا وقفت البلجيك تيار الجيش الألماني العظيم؟ وقفته لأنها
كانت تحاربه باسم القومية وباسم الوطن. أوَ تعلمون لماذا عظمت فرنسا وإنكلترا
وألمانيا ومدن العالم وصرن أعلى أمم الأرض مقامًا وأكثرها ثراءً؟ لأنهن خضن
معترك الحياة باسم القومية لا باسم الدين. فعلينا أيها الأعزاء أن نظهر من الآن
وصاعدًا أمام العالم بصبغة القومية المقدسة، وأن نضرب بالعصبية الدينية عرض
الحائط.
ونحن أيها السادة أتراك، وإني لأعجب من تسميتنا عثمانيين. فمن هو
عثمان الذي ننتسب إليه؟ إنه تركي جاء من آلتاي واجتاح هذه البلاد بجيشه التركي
فانتسابنا إلى أصله أشرف من انتسابنا إليه. ولقد خُدعنا بجهل أسلافنا في
الماضي، فبئس الأسلاف الذين أنسونا قوميتنا، إنكم أيها الأعزاء ستلحقون بالجيش
قريبًا وستكونون أساتذة جنودنا الأبطال. فعلموهم أنهم ترك وأنهم إذا حاربوا العدو
من أجل الترك وتحت العلم التركي ينتصرون عليه ويحرزون ما أحرزته البلجيك
من المجد والفخر. وتأكدوا أن التركية خير لنا من الإسلام وأن التعصب للجنسية
من أكبر فضائل الهيئة الاجتماعية.
فأجابه أحد ضباط العرب قائلاً: (تعلم أيها القائد أن للأمم الشرقية تقاليد لا
يمكن الإغضاء عنها، وقد حفظت الجنسية العثمانية هذه التقاليد وكفلت سلامة الدولة
إلى الآن. فتتريك العناصر العثمانية أو إنكار قوميتها عليها يؤدي إلى اضمحلال
الدولة في القريب العاجل. فأنا أحتجّ على هذا الكلام وأقول بكل صراحة: إن
الرابطة الإسلامية العثمانية هي الرابطة الوحيدة التي تربطنا بالترك. ولما كنت
حضرتك تعلمني الآن أن هذه الدولة دولة تركية وأن هذا العلم الذي عهدت إليّ في
الدفاع عنه هو علم تركي؛ أي: علم أجنبي عني فقد قضيت على قوتي المعنوية قضاء مبرمًا، وأخمدت كل عواطفي الوطنية؛ لأني أنا وأبناء العرب وجميع
أبناء العناصر غير التركية لا تحارب في جنب الترك إلا لمقاصد متحدة وذبًّا عن
حياض الإسلام والعثمانية) .
فأجاب القائد قائلاً: (اعلم أن الحقيقة غير العواطف وأنك وإن تكن عربيًّا
فأنت وعنصرك من تبعة تركيا. ألم يستعمر الترك بلادك؟ ألم يفتحوها بالسيف؟
إن العثمانية التي تتخذها حجة لك هي حيلة اجتماعية يستعملها الضعيف للوصول إلى
غايته. أما الدين فلا شأن له في السياسة، وستنهض قريبًا باسم التركية وتحت العلم
التركي ونترك الدين جانبًا؛ لأنه من الأمور الشخصية الثانوية، أما أنت وأبناء
جنسك فعليكم أن تعرفوا أنكم تُرك وأنه ليس في العالم قومية عربية أو وطن
عربي) [6] .
وقد احتج ضباط العرب الذين سمعوا هذه الخطبة إلى وزارة الحربية وطلبوا
منها عزل القائد الأستاذ فلم تعبأ باحتجاجهم ولا أجابتهم إلى طلبهم، بل اتخذت
التدابير اللازمة للتخلص منهم فقذفت بهم إلى ميادين القتال وعرضتهم لرصاص
العدو بلا سبب إلا رغبتها في محوهم ليتسنى له بعد ذلك قتل الفكرة القومية في
بلادهم. وهذه الرغبة- رغبة قتل العرب- قديمة العهد في الترك الاتحاديين. فقد
عثر ضباط العرب سنة 1912 في بولاير على كتاب من أحد زعماء الاتحاديين إلى
قائد اتحادي كبير جاء فيه (عرضوا العرب لرصاص العدو واعملوا على التخلص
منهم؛ لأن قتلهم يفيدنا. أما الكُرد فاحتفظوا بهم؛ لأنهم يلزمون لنا في بلاد
الأرمن) [7] .
__________
(1) المنار: قررت وزارة الحربية في عهد ناظرها أنور باشا استعمال الحروف المنفصلة في الأمور العسكرية فقط، ثم نقلت إلينا الجرائد أخيرًا أن الاتحاديين قرروا كتابة التركية بالحروف الإفرنجية ولا ندري كيف ينفذون ذلك.
(2) المنار: أذكر أن هذه الجمعية تشغل بتنقيح اللغة التركية وإنها هي التي دعتني إلى مجلس إدارتها في الآستانة لما بلغها أن بعض المسلمين كتبوا إلى من جاوه أنه بلغهم أن الدولة العثمانية تضطهد اللغة العربية وتصرح بأنها تطهر التركية منها، وأنهم لا يصدقون هذا الخبر إلا إذا أكدته أنا لهم، وأنهم حينئذ يحذفون اسم السلطان من الخطبة، ومرة اجتمعت بهم وتذاكرنا في المسألة قال لي رئيس الجمعية: إن عملنا فني محض لا دخل له في السياسة ولا الدين فنتوسل إليك أن تستعمل بنفوذك الديني لإزالة التهم السيئة التي حومت حوله وجرى بيننا محاورة ليس هذا محلها.
(3) بلغ منهم الغرور مبلغًا لا يتصوره العقل فبينما كانت جيوش البلقانيين أمام شطلجه تهدد كيان الدولة كان أحدهم- أحمد أغايف بك- ينشئ سلسلة مقالات في جريدة تصوير أفكار جاء فيها ما ترجمته (يجب أن تهتم تركيا بشئون إيران أعظم اهتمام؛ لأن إيران طريقنا إلى الهند والصين!) .
(4) الذئب الأبيض إله من إلهة الترك الأقدمين وقد كان شعارًا لهم أيضًا.
(5) اسم الجبال آلتون طاغ الذي يعده الترك التورانيون بلادهم الأصلية.
(6) جرت هذه المناقشة على مسامع مئات من ضباط العرب في المدرسة الحربية في الآستانة وقد نقلها إلينا غير واحد منهم فعربناها للقراء اهـ من هامش الأصل.
(7) نشر هذا الكتاب في حينه في معظم الصحف العربية اهـ من هامش الأصل.(19/555)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(3)
باخرتا الحُجَّاج - المنصورة والنجيلة
استأجرت الحكومة للحجاج باخرتي (المنصورة والنجيلة) وهما من أقدم سفن
شركة البواخر الخديوية- وأما المحمل المصري فقد حمل مع أميره وعسكره على
سفينة حربية إنكليزية- ولما كنا آخر من جاء السويس من الحجاج علمنا من
أصدقائنا الموظفين في هذا الشأن أن المنصورة أسرع الباخرتين، وأنه لم يبق في
الدرجة الأولى منها موضع لي وللسيدتين؛ لأن وفد العلماء المرسل إلى الحج على
نفقة سلطان مصر المعظَّم قد ركب المنصورة قبل مجيئنا، وتسابق إليها الناس،
وقد يوجد فيها موضع واحد لي، وأن النجيلة تفضل المنصورة بأنها أقل منها نودانا،
وأنه يمكن أن نجد في الدرجة الأولى منها بيتًا أو مخدعًا (قمره) خاصًّا بنا.
فنزلنا فيها مع رفيقنا في يوم الأحد لأربع بقين من ذي القعدة، وقد علمنا بعد سفرها
أنها أبطأ بواخر الدنيا سيرًا. قيل لنا: ليس فيها ضوء كهربائي ولا أجراس ولا مقاعد
للاستراحة إلا كراسي المائدة في الدرجة الأولى، ولكن المِخدع الذي خصص لنا
فيها واسع جدًّا قلما يوجد في البواخر الكبيرة مثله في سعته، وهو مُعدّ لنوم ستة أو
سبعة، وفيه عدة نوافذ. ثم إن ربانها سالم أفندي البدن من أحسن الناس أخلاقًا
وعناية بالحجاج، وهو من أقدم المستخدمين بهذه البواخر، وقد حج مرارًا،
وطبيبها مهذب حسن المعاشرة وهو طلياني يتكلم بالعربية العامية بطلاقة ولهجته
فيها سورية، فنشكر لهذين الرئيسين في الباخرة حسن عشرتهما وعنايتهما بنا
خاصة وبسائر الحجاج أيضا، ولا نبخس خدم الباخرة حقهم من الثناء على حسن
خدمتهم. ولعل باخرتنا كانت تفضل المنصورة فيما عدا سرعة السير. وقد زارنا
في الباخرة قبل سفرها محافظ السويس، ثم صار إلى المنصورة لزيارة وفد العلماء
السلطاني فيها.
***
حجاج باخرتنا النجيلة
وأنسنا في الباخرة بصحبة كثير من ركاب الدرجتين الأولى والثانية وحمدنا
صحبتهم وعشرتهم، وأخص بالذِّكر منهم عالمًا من أكبر علماء القطر المصري
وأديبًا من أفضل أدبائه. أما العالم فهو الأستاذ الشيخ عبد الفتاح الجمل شيخ علماء
بورسعيد وقد كنت أسمع له ذكرًا حسنًا فرأيته فوق ما كنت أسمع علمًا وفضلاً
وهدْيًا وأدبًا وإنصافًا في المذاكرة واستقلالاً في الفهم، وله مشاركة حسنة في
التاريخ والأدب ومعرفة أحوال العصر، ولعله يندر وجود مثله في علماء مصر.
وأما الأديب فهو محمد توفيق علي (اليوزباشي) في الجيش المصري، وهو
يفضل من نعرف من أدباء مصر وضباطها في الأخلاق الدينية والمحافظة على
العبادات، وكثرة النظم في ذم الفواحش والمنكرات. وقد كان معه والدته، وهي
امرأة تقية زكيه الفطرة، واتفق أن كان مخدعهما ملاصقًا لمخدعنا فكانت والدتي
وشقيقتي تأنسان بإلمامها بهما وصحبتها لهما، وهي أقل منهما دوارًا، وأكثر على
مشقة البحر اصطبارًا، وقد حجت قبل هذه المرة. وكذلك كنت أنا آنس به، فقد
كنا أكثر الرفاق تلازمًا قلما نفترق إلا في وقت النوم، وكان أكثر حديثنا وسمرنا
أول الصحبة في الشِّعر والأدب وأقلها في المسائل الدينية والعلمية والشئون
الاجتماعية، إلا إذا حضر المجلس الأستاذ الجمل، فإن الحديث يكون بعكس ذلك
كما كان في أواخر العهد بالصحبة.
وقد وزعت بعض نسخ المناسك على حجاج الباخرة قبل أن أقرأها وأصحح
أغلاطها وبعضها بعد ذلك، ولما علم الناس أنها بغير ثمن كثر الطلب لها حتى من
الأميين فصرت أشترط على من يأخذها من القارئين، أن يقرأها لمن يجاوره من
الرفاق الأميين، وكان انتشارها في المركب سببًا لكثرة اختلاف الحجاج إلينا للسؤال
عن أحكام النسك ولا سيما واجبات الإحرام.
كان سفرنا من مصر في أول الميزان وقد بدأ هواء الخريف المعتدل بطرد
هواء الصيف الحار ويجليه عن أفق مصر، وكأن ما كان يرحل منه عن مصر
يذهب إلى الحجاز ليحل محل هواء صيفه الذي هو أشد منه حرارة، لذلك كنا كلما
أوغلنا في الجنوب نشعر بأن جونا يرجع بنا القهقرى إلى الصيف، فكان عامة من
في السفينة لا يكادون يبرحون ظهرها إلا إلى حاجة غير النوم؛ إذ كان جميع ركاب
الدرجة الثالثة ينامون على الظهر، وكذلك بعض ركاب الدرجة الثانية، وكان جل
ركاب الدرجة الثالثة ينامون على الظهر وكذلك بعض ركاب الدرجة الثانية، وكان
جُلّ ركاب الدرجة الثالثة من أدنى طبقات المصريين قد دعَّهم إلى الحج دعًّا ما كان
من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون وحملها الأغنياء على مساعدة الفقراء على
الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب، فكان أكثرهم يقطعون أوصال
الليل باللهو واللعب والغناء والطرب، ومنه ما يسمونه في اصطلاح أهل الطرق
بالذكر، وهو أن يقف جماعة يتثنون ويرقصون ويصيحون بأصوات منكرة: أُه أُه
أو هو هو، أو حيّ حيّ على صوت مغنٍّ يغنيهم ببعض الأغاني الحديثة أو
الأشعار القديمة، فيكونون بذلك من الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا وأقبح اللهو وأنكره
وأقربه من غضب الله وأبعده عن مرضاته ما جعل دينًا، فهؤلاء الذين يسمون
أنفسهم ذاكرين الله يظنون أنهم خير من الذين يتغنون ببعض الأغاني لأجل التسلي
عن فراق الأهل والولد مثلاً، وما ذلك اللهو الذي سموه ذكرًا إلا معصية، وما هذا
اللهو الذي ظنوه حرامًا أو مكروهًا إلا مباح، ولَهُمْ في ذكرهم هذا شرّ مكانًا ممن قال
فيهم بعض العلماء:
أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
ولذكرهم هذا دون الذِّكر مع الغفلة أو الغيبة الذي قال فيه الشيخ محيي
الدين ابن عربي:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب
ومن مظاهر الدين الباطلة في هؤلاء العوام ما كان يمثله رجل منهم شر تمثيل:
كنا نسمع كل ليلة صوتًا منكرًا أجشّ ينادي به صاحبه السيد البدوي بألقابه
المشهورة في هذه البلاد، ويكثر من ذلك، ويلح فيه بعد نوم الناس متنقلاً على ظهر
السفينة من مكان إلى مكان، وكثيرًا ما كان يقف بالقرب من بعض نوافذ مخدعنا
فيزعج السيدتين وينغص عليهما نومهما، ولما تكرر ذلك منه بحثنا عنه، فإذا هو
بزي أهل الطريق المتصنعين الذين يراؤون الناس بلحاهم وثيابهم وحركاتهم
وأصواتهم، فتلطفنا في وعظه وإقناعه بترك ذلك الصياح، ولكنه أقل منه ولم
يتركه ألبتة.
هذا وإننا لما حاذينا رابغ آذن ربان السفينة الحجاج ببلوغ ميقات الإحرام
فطفقوا يُحرمون، وإننا نرجئ الكلام على الإحرام الآن لنذكره في هذه الرحلة مع
غيره من أعمال المناسك متصلاً بعضها ببعض، ونسترسل في وصف السفر فنقول:
***
الوصول إلى جدة
وصلت المنصورة إلى ثغر جدة ضحوة يوم الأربعاء وهو التاسع والعشرون
من ذي القعدة، ولم يلبث ركابها أن ينزلوا منها، وأما باخرتنا النجيلة فوصلت
عشاء ليلة الخميس فلم تستطع التقدم إلى موقف البواخر من الميناء لكثرة الصخور
الخفية هنالك فأرسلت في مكان بعيد عنهن، وإنما دخلت الميناء وأرست في
مكان بعيد عنه، وإنما دخلت الميناء وأرست فيه ضحوة يوم الخميس، فكان
تأخر ركابها عن ركاب أختها 24 ساعة، والسفن ترسى على بُعد شاسع من البَرّ في
ذلك الثغر لرقة الماء وكثرة الصخور، فلما رأت الوالدة والشقيقة ذلك عراهما
الغم؛ لأن الدوار يشتد عليهما في الزوارق الصغيرة ذات الشّرع أو المجاديف
ويؤلمهما طول المسافة فيها، وخافتا أن لا تصلا إلى البر إلا بحالة لا ترضيهما،
ولكننا لم نكد نستعد للنزول إلا وكان صديقنا الكريم الشيخ محمد نصيف زكيل سيدنا
الشريف الأعظم صاحب الحجاز [1] قد جاء الباخرة في زورق كهربائي أو بخاري
(لنش) مع جماعة من سراة جدة وكبرائها لأجل استقبالنا، وقد أخبرونا بعد
السلام أنهم قد نزلوا أمس للسؤال عنا في باخرة المنصورة، ثم إننا بعد
استراحة الزائرين نزلنا وأنزلنا معنا في الزورق ما خف من متاعنا وصغر حجمه، وأرسلنا ما بقي في مراكب النقل الشراعية.
وكان الرفيقان الشيخ خالد ومحمد نجيب أفندي قد نزلا في بعضها، - فسار بنا
الزورق كالسهم فوصلنا بغاية الراح، ونزلنا ضيوفًا مكرمين في دار صديقنا الكريم
الشيخ محمد نصيف، وهي دار فسيحة واسعة الحجرات كثيرة النوافذ، تفيض عليها
الشمس من دور جدة، وكان الهواء معتدلاً في هذا الثغر، لا يُشتكى برد منه ولا حر، وقد بلغني الصديق المضيف، تحية سيدنا الشريف، وصدر أمره العالي إليه
بالعناية بنا وكان قد بلغ الديوان الهاشمي العالي موعد وصولنا كما بلغه مندوبه
بمصر خبر سفرنا بالبرق ثم بلغ مضيفنا بمكة خبر وصولنا بالمسرة (التليفون)
وتكلمت به مع إخواننا محرري جريدة القبلة. وفي صبيحة اليوم التالي ورد على
مضيفنا في البريد من المقام لهاشمي الأعلى رقعة شريفة هذا نصها:
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نومرو 195
وكيل شرافة مكة المكرمة وإمارتها بجدة
معتمدنا الأعز:
كتابك رقيم 27 الجاري، وصل وعلم ما له لا سيما من خصوص السيد رشيد
رضا فقد أرسلنا وبتاريخه كان قصدنا نشعرك بالاستعداد لمقابلته بما يقتضي له من
الحفاوة وللمعلومية تحرر 29 ذي القعدة سنة 1334.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحسين بن علي
لم نكد نستقر في الدار إلا وأقبل الزائرون المهنئون يفدون علينا أفرادًا
وجماعات وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى فهمي معاون نائب الحضرة الهاشمية في جدة
جاء بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن سيادة رئيسه الشريف محسن معتذرًا عنه
بالاشتغال بشئون المَحمل المصري. وقد تذكرنا فتذاكرنا بعد التحية والسلام، فيما
كان من تلاقينا أول مرة منذ بضعة أعوام، ذلك أنني زرت سورية عقب إعلان
الدستور العثماني سنة 1327 فأقمت فيها أشهرًا ثم عدت إلى مصر على سفينة
فرنسية من شركة المساجري، واتفق أن كان في هذه السفينة مصطفى بك فهمي هذا
قاصدًا بورسعيد للسفر منها إلى الحجاز فرأى اسمي بين ركاب الدرجة الأولى ولم
يرني على مائدتها ولا على ظهرها مع الركاب؛ لأنني أصبت بدوار خفيف لزمت
لأجله مخدعي، ولم يكن معي أحد فيه، فسأل عني فدل عليّ فالتقينا وتعارفنا، قال
لي: إن سيادة أمير مكة الجديد سيدنا الشريف حسين طلبني لأكون كاتب السر له
وكان موظفًا بولاية حلب في عمل لا أذكره الآن وإنني لما علمت بوجودك هنا
رغبت في لقائك واغتنام الفرصة في الاستفادة من رأيك فيما ينبغي لبلاد الحجاز من
الإصلاح في عهد الدستور فإن أميره الجديد لا بد أن يوجه همته إلى إصلاح عظيم
في هذه البلاد المقدسة، وأنت أولى من يستنار برأيه في هذا الأمر. فذكرت له ما
خطر في بالي في ذلك الوقت القصير من وسائل حفظ الأمن ونشر العلم وإصلاح
حال البدو وسكة الحديد الحجازية، وتواعدنا على المكاتبة في كل ما يتجدد من
الشئون بتجدد الأعمال، وقد بدأ بالوفاء بوعده بعد وصوله إلى مكة المكرمة بمدة
وجيزة، فكتب إلي كتابًا ذكر فيه أنه عرض ما سمعه مني من الآراء على سيد
الجميع فصادف القبول والارتياح، وقد أجبته بما اقتضته الحاجة، وكان من
غرائب عهد الدستور أنني أرسلت إليه كتابًا مسجلاً فيه كلام يتعلق بخدمة الدولة
وتمكين سيادتها في البلاد العربية فأعيد إلي هذا الكتاب ولم توصله إليه إدارة البريد
التركية، ولا يزال عندي وقد وعدته بإطلاعه عليه عندما التقينا في جدة لأنه كان في
أوراقي، ولكن لم يتيسر لي إخراجه في ذلك الوقت.
أقمنا في جدة من ضحوة يوم الخميس إلى أصيل يوم السبت، ولم أخرج من
الدار في هذه المدة إلا إلى صلاة الجمعة في أقرب المساجد إليها، وقد سمعنا خطيب
المسجد يدعو للسلطان محمد رشاد في خطبته كالعادة. ولم أرد الزيارة لأحد؛ لأن
الزائرين كانوا لا يكادون يفارقوننا إلا وقت النوم؛ وكان جُلّ حديثنا معهم في
المسائل الدينية والعلمية، والعبرة الاجتماعية والسياسية، وإنما اختلست منهم
ساعات متفرقة كتبت فيها نبذة من التفسير للمنار ومكتوبات أرسلتها إلى مصر.
كنت أتمنى لو ملكت وقتًا أرد فيه الزيارة للزائرين الكرام فلما غلبت على
الوقت قلت: لعلي أملك بعد العودة من مكة المكرمة ما لا أملكه الآن، ولكن وقت
العودة كان أضيق كما يُعلم في محله، ولذلك طلبنا من صديقنا أن يكتب إلينا
أسماءهم لنؤدي لهم الشكر بالكتابة جزاءَ ما استحقوه علينا من الزيارة، فكتب إلينا
زهاء ثلاثين منهم، وهم الذين تذكرهم، فمن أهل العلم منهم الأساتذة الشيخ محمد
حسين إبراهيم والشيخ أحمد الزهرة والشيخ أحمد طه رضوان والشيخ إسحاق بن
حسن العباسي والشيخ محمد سعيد دردير خطيب مسجد عكاش.
ومن رجال الحكومة عدا من ذكرنا مدير الشرطة مساعد اليافي ومدير الصحة
الدكتور أمين معلوف وقائد حامية الثغر عبد الرؤوف عبد الهادي ورئيس كتاب
الحجر الصحي رشيد باغفار، ومحمد راغب الصنعاني من الكتاب، وحسين
ملوخية مأمور نقل البريد، وكل هؤلاء يطلق عليهم لقب الشيخ للتكريم. قد أعجبني
من الدكتور معلوف وعبد الرؤوف ومساعد زيهم العربي فكانوا به أبهج في عيني
منهم في زيهم الإفرنجي التركي.
ومن كبراء الوجوه والتجار في الثغر الشيخ سليمان قابل رئيس البلدية
والمشايخ زينل علي رضا وعبد الله علي رضا ومحمود زاهد ومصطفى درويش
عبد ربه ومحمد بن أحمد الهزاز ومحمد باحفظ الله وعبد الله المحمد الفضل
ومحمد العبد الرحمن الفضل.
ومن أصحاب الحرَف ووكلاء الأعمال المشايخ حمزة جلال نقيب وكلاء
المطوقين وحسين بحيري من المطوفين وبكر خميس وسليمان عزابه من وكلاء
المطوقين ومحمد سعيد كمال شيخ السماسرة وعبد الرحمن فائق من كتاب شركة
البواخر العثمانية.
فنشكر لهؤلاء ولسائر من تفضلوا بزيارتنا (كالشيخ عبد الرؤوف الصبان من
طلبة دار العلوم المصرية وقد فاتنا ذكره مع علماء جدة) مودتهم وفضلهم، وقد
علموا ما حال دون ما كنا نبغي من زيارتهم، وأن التقصير من الزمن لا منا،
والعذر عند كرام الناس مقبول.
***
عبرة للمعتبرين - وجناية المفسدين على المصلحين
أظهر لي صديقي المضيف سروره وارتياحه لرؤيته إياي بثوبي الإحرام
(الإزار والرداء) وقد أثار عجبي وحزني أنه ظن أن من المحتمل أن أترخص بترك
لباس الإحرام اعتمادًا على الفدية. وقال لي: لو رأيتك لابسًا ثياب الحل لعزمت
عليك أن لا تنزل جدة إلا بلباس الإحرام؛ لئلا يظن بعض الناس أنك من قبيل
هؤلاء المتهاونين الذين يجيئون هذه البلاد غير محرمين بحج ولا عمرة، وذكر لي
شيئًا يسيرًا مما علمته بعد ذلك تفصيلاً من حال بعض الشبان الذين جاؤوا الحجاز،
ودخلوا مكة المكرمة نفسها، وكأنهم لا يعرفون شيئًا من مكانتها، ولا حق بيت الله
وشعائره فيها، فدخلوها غير محرمين، ومروا ببيت الله تعالى غير طائفين ولا
مصلين، وترددوا بين الصفا والمروة غير ساعين ولا مُرملين، فكانوا مضغة في
أفواه الحجازيين، ومثالاً مشوهًا لشبان المدنية العصريين، وحجة قاطعة لألسنة
الذين يلغطون منهم بتكفير الاتحاديين؛ لأنهم يساوونهم في ضلالتهم، وهدمهم
لشعائر ملتهم، ولكنهم يقصرون عنهم في الغيرة والإخلاص لأمتهم، والتفاني بخدمة
دولتهم، وبذل النفس والنفيس في إحياء جنسيتهم.
لقد أحزنني وأمضني وساءني وآسفني ما قاله هذا الصديق الذي أعتقد أنه ما
أحبني في الله تعالى إلا لأجل اعتصامي بديني وغيرتي عليه، ودعوتي إلى إحياء
كتابه وسنته، وقلت في نفسي: يا سبحان الله! إذا كان مثل هذا المحب الحسن
الاعتقاد قد بلغ سوء تأثير بعض أولئك الشبان في نفسه أن تصور ذهنه في مثلي
جواز دخول جدة بغير ثياب الإحرام، ولو على سبيل الرخصة، وللقيام بما يجب
بدل ذلك من الفدية، فكيف يكون رأيه واعتقاده فيمن لا يعرف لأحد منهم حظًّا من
علم أو عمل، ولا يحفظ لأحد منهم في قلبه بعض ما يحفظ لي من الظن الحسن؟
وقلت له محاولاً كتمان أسفي ومكابرة امتعاضي: لو كان هذا اللباس (لباس
الإحرام) مستحبًّا لا واجبًا لما تركته تهاونًا ولا إيثارًا لما في اللباس المعتاد من
الحشمة أو الزينة أوالرفاهية، وأنا أرجو أن أكون من أعلم الناس بفوائده وأحرصهم
على إدراكها بالعمل، ولو تركته لما استطعت أنت ولا أحد من الناس أن يقنعني
بإتيانه، لأنني لا أتركه- لو تركته- إلا لعذر شرعي ملجئ، كأن أعتقد أنه يضر
بصحتي ضررًا يجعل الواجب محظورًا، وأكون بلبسه عاصيًا لله تعالى لا طائعًا،
وأما نظر الناس فلا أبالي به في أمر الدين، وأعوذ بالله ان أكون من المرائين، بل
تعودت- ولله الفضل والمنة- أن لا أتصنع للناس ولا أدهن لهم ولا أتحرى مدحهم
ولا أخاف انتقادهم في المصالح الدنيوية والأمور العادية بحيث يحملني ذلك على
ترك شيء أراه حقًّا أو مصلحة أو فعل شيء أراه باطلاً أو مفسدة.
وأقول مستطردًا: إنه قد عاداني كثير من الناس في هذا الخلق وآذوني لأجله
ولم أوذ أحد منهم، وأرى أنني غير مغبون معهم، وأن هذا الخلق خير لي من
مودتهم، ولا سيما من أعرف منهم سوء النية، وفساد الطوية، ولكن يسوءني أنه لا
بد أن يوجد في أمثال هؤلاء من هو حسن النية يخدع بالشبهة أو يقلد غيره فيما لا
علم له به، وأنه يعسر العثور على هؤلاء والتناصف معهم باقتناعٍ، كَلامُنَا بحسن نية
الآخر وإخلاصه، ورجوع المخطئ إلى رأي المصيب إن ظهر صوابه، وعذره
إياه فيما لم يظهر له. ولم أذكر هذا التفصيل كله للصديق، وإنما خطر في بالي
عند الكتابة أن بيانه مفيد؛ لأن مثله يقع لكل صادق مستمسك بعروة الحق لا يحابي
ولا يداهن الناس فيه.
ومن دقائق هذا البحث أن الإنسان كثيرًا ما تغشه نفسه وتخدعه بتسمية العجب
والكبر والإصرار على الهوى اعتصامًا بالحق وصلابة فيه، وقلة اكتراث بالمبطلين
فينبغي للمخلص في اعتقاد نفسه أن يمتحن نفسه ويناقشها الحساب فيما بعد يعاب
به وينتقد منه، وهذا أمر عسير غير يسير؛ إذ يقل في الناس من يبلغ من يحب ما
ينتقده هو أو غيره ويطلعه على عيوب نفسه، كما يقل فيهم مَن يسلم مِن غِيبة
صديقه، وأكثر ما يبلغ الناس من الاعتقاد عليهم أو انتقاصهم، ما ينقل إليهم عن
خصومهم وأعدائهم، وقل من ينظر في مثل هذا نظر الروية والإنصاف فيستفيد منه،
وإنما يستحوذ على الأكثرين عند سماعه ثوران الغضب وخواطر الدفاع أو الانتقام،
وأحمد الله تعالى أن وفقني في ريعان الشباب وأوائل العهد بالرشد إلى حمل
أصدقائي على إرشادي إلى عيوبي ومكاشفتي بما يرونه أو يسمعونه من الانتقاد عليّ،
ولا أزال أسأل عن ذلك من أتوسم فيه النصح، وإن كان أصغر مني سنًّا وأقل
تجربة ومعرفة، وإني لأحوج إلى نصيحة واحدة أستعين بها على إصلاح نفسي،
من سبعين مسألة أستعين بها على إصلاح غيري. وقد توجد هذه النصيحة عند
عاميّ يزيد ما عندي من العلم والاختبار على ما عنده منهما سبعين ضعفًا، فيكون
أعلم مني بما أنا أحوج إليه مما أفضله به.
وأما ما أكتبه فإنني أطالب الناس بالانتقاد على ما يرونه منه خطأ أو باطلاً،
أطالبهم بلك كتابة بما أنشره في المنار كل عام، وكل ما يكتب إليّ من ذلك أنشره
في المنار على حسب الوعد الذي أعد به عند طلب الانتقاد، فإن تعمدت إغفال
شيء -وذلك نادر جدًّا- فإنما أغفله لتكريم غيري، لا لإخفاء عيبي، ولا أذكر من
ذلك الآن إلا رسالة أرسلها إليّ صديق مخلص من أشهر علماء الأقطار هفا فيها
هفوات تُزري بقدره، لو نشرت ونقدت وإن تلطف الناقد جهد الطاقة، وبالغ في
الأدب حتى بلغ حد الاستطاعة، فرأيت من الوفاء له أن أراجعه فيها، وأستأذنه
بنشرها بعد التنبيه لما فيها، فلم يأذن. من أجل هذا أعتقد كما يعتقد جمهور قراء
المنار أن آية الإخلاص في انتقاد ما ينشر فيه أن يكتب ويرسل إليه، لا أن يقال أو
ينشر في غيره من الصحف، فإن نشر النقد في المنار نفسه هو الوسيلة لتمحيص
الحقيقة عند من اطلعوا على الكلام المنتقد فيه، وإنما فائدة الانتقاد عند المخلص فيه
بيان الحق والصواب لمن ينتقد عليه باطله أو خطأه، ولمن اطلع على ذلك وخشي
أن قد يكون قد ضل به وهم قراء كلامه، وأما انتقاد ذلك في بعض البيوت أو
الأندية أو الصحف التي لا يطلع أكثر قرائها على ما يدعي المنتقد أنه باطل وضلال
فهو إذاعية للباطل ضارة لا يحمل عليها إلا هوى النفس، وذلك من شأن المرائين
المفسدين، لا من شأن الصادقين المصلحين.
وقد ذكرني ما قاله الشيخ محمد نصيف في مسألة الإحرام والسبب الحامل له
على هذا القول ما أنبأني به أخي في الله عز وجل العلامة الشيخ محمد مكي بن
عزوز التونسي في الآستانة سنة 1328 قال رحمه الله تعالى ما حاصله: كتب إلي
أحد إخواني من علماء تونس بعد العلم بتلاقينا هنا: إننا نعرف قيمة السيد محمد
رشيد رضا العلمية ومقاصده الإصلاحية من مناره. ولكننا نرى بعض الذين
يلهجون بطلب الإصلاح حتى الديني منه لا تنطبق أعمالهم على أقوالهم، فهم لا
يؤدون فرائض الدين ولا يقيمون أركانه فضلاً عما دونها من آدابه وأحكامه، فكيف
رأيت صاحب المنار، بعد المعاشرة والاختبار؟ قال: فكتبت إليه بعض ما رأيت،
ومنه أن زيارته الأولى لي في داري كانت بعد العصر فصلى صلاة العصر عندي،
وكنت قد صليتها قبل قدومه منفردًا فأعدتها مقتديًا به، فلم أرَ صلاة أكمل انطباقًا
على السنة من صلاته. وزرته مرة مع بعض الإخوان فقدَّم لنا الشاي، ولم يشرب
معنا؛ لأنه كان صائمًا. إلخ.
أليس من آية ضعف الدين، وابتلاء الصادقين بالمنافقين، وغُمة الأمر على
المؤمنين، ما دار من المكاتبة بين العالمين التونسيين في الصلاة والصيام، ومن
الحديث بيني وبين محمد نصيف في مسألة لباس الإحرام؟ بلى وإنني تذكرت في
هذه اللحظة مسألة أخرى من هذا القبيل أذكرها إتمامًا للعبرة:
دخلت مرة على الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد في نهار رمضان
فرأيت عنده إبراهيم بك المويلحي جالسًا يدخن بلفيفة من التبغ (سيكارة) فذكر
المنار ومنْع الحكومة الحميدية إياه من دخول البلاد العثمانية فجعل المويلحي يرميها
بالجهل، ويقسم أن المنار خير لها من فيلق من المعسكر لما فيه من خدمة الدين
الذي لا تنهض الأمة بدونه، وأطنب في مدح الدين وتأثيره في الإصلاح وعدم
الرجاء في نهضة المسلمين بدون ما يدعو إليه المنار من الإصلاح الديني. علم بهذه
الواقعة إبراهيم بك الهلباوي فأشار إليها في مقالة أرسلها إلى المؤيد من أوربة يذكر
فيها بعض عبر السفر، مستطردًا إلى العبرة بها على سبيل التشبيه والمثل، قال
في وصف رجل - على ما أذكر: كذلك الرجل الذي كان يعلم صاحب المنار في
مدح الدين ... في شهر رمضان ولفيفة التبغ بيده يدخن بها -أو ما هذا مؤداه- ففهم
بعض الناس من عبارته أن الذي كان يدخن هو صاحب المنار المخاطب لا المتكلم
الذي يخاطبه، وإن كان المتبادر من العبارة العكس وهو الذي يجري عليه الكتاب
عادة في مثل هذه المسألة، أعني أنهم لا يصرحون باسم من ينتقدونه في مقام
الاعتبار، فإذا صرح أحدهم باسم المنتقَد عليه أو بوصفه بما يُعرف به لَهوًى له
وقصد إلى ذمه، لا تواتيه الجرائد المعتبرة (كالمؤيد) ولا تنشر ذلك له، فلو أن
صاحب المؤيد فهم من العبارة ما فهمه بعض الناس أو خطر في باله أنه قد يفهم
منها ذلك لتصرف فيها بما يحول دون هذا الفهم.
بلغني وبلغ صاحب المؤيد -رحمه الله- ذلك في وقته فلم نحفل به، وقال هو:
إن هذا الفهم لا يخطر إلا ببال بعض العوام، وهو لا يؤثر أدنى تأثير في سُمعة
صاحب المنار حتى عند من لا يعرف مكانته من هداية الدين، وإذا كتب شيء
لإيضاح الحقيقة ربما كان سببًا للقيل والقال. ثم علمنا أن هذا الفهم قد سبق إلى
أذهان بعض الناس في نائي الأقطار؛ جاءتني يومًا برقية من بمباي الثغر الهندي
المشهور من محمد باشا عبد الوهاب شيخ دارين أحد ثغور نجد الجنوبية يقول فيه:
إنه مسافر إلى السويس في باخرة كذا يقصد الحج، فلما كان موعد وصول الباخرة
رأيت من المروءة أن أذهب إلى السويس للقائه، وإن لم أكن أعرفه أو أعرف عنه
شيئًا من قبل، فوافيته فيها وكان معه جمهور من العرب ومسلمي الهند جاء بهم
ليحجوا على نفقته. فقدم لنا لفائف التبغ (السكاير) على حسب العادة فاعتذرت،
فعرضوا علي النارجيلة (الشيشة) فاعتذرت أيضًا. فسألني الباشا عن السبب فقلت:
إنني أكره هذا الدخان، وقد حفظني الله تعالى من اعتياد التدخين في الصغر، فلا
أتكلفه بعد العلم بضرره في الكبر، فقال: إذًا أنت لم تدخن في حياتك قط. قلت:
الأمر كما ذكرت. فالتفت إلى أصحابه وذكرهم بما دار من الخلاف في عبارة
الهلباوي، وكيف ظهر أن الصواب ما قاله من نزه صاحب المنار عن أن يكون هو
المفطر في رمضان. على أن المسألة مسألة مجاهرة بالفطر، وهي أفحش من
الفطر في السر، لما فيها من سوء القدوة، وانتهاك الحُرمة.
بعد هذا الاستطراد الطويل أقول: إن بعض شبابنا الذين أفسدت المدارس
التركية أو الإفرنجية عقائدهم، وشوهت حرية الكفر والفسق أخلاقهم وآدابهم، ولم
يكن لديهم من التجربة والخبر، ولا من حكم العقل وصحة الفكر، ما يفرقون به
بين الحجاز وبين الآستانة ومصر، لم يقفوا عند حد ترك الإحرام، قبل دخول البلد
الحرام، وترك الطواف والصلاة والصيام، بل تجرأ أحدهم على التصريح
بالاعتراض على القرآن. وتجرأ على الطعن في بعض الخلفاء الراشدين، بل على
ما هو أكبر من ذلك من الضلال المبين.
من أجل هذا صار بعض الحجازيين يسيء الظن بجميع أفراد هذه النابتة
الجديدة، وبعضهم يجعل سيرة هؤلاء الغاوين، حُجة حتى على من ظهرت عدالتهم
من الوافدين، أما طبيعة الحرم بل طبيعة جزيرة العرب، فلا تطيق الصبر الطويل
على إلحاد الملحدين ولا على توسيد الأعمال إلى الفساق المجاهرين، وأما ما عدا
الجزيرة من البلاد العربية فستحذو نابتتها حذو النابتة التركية، وإن فيها من يودُّ
تقليد جمعية الاتحاد في السياسة والعصبية والإلحاد، ولكن آمالهم أدنى من آمالهم،
ومآلهم شر من مآلهم فإنهم لا يرجون أن يكون لهم دولة كالدولة العثمانية يغلبون
على أمرها، ويعتزون بقوة مالها وقوة جندها، وسيظهر حالهم ومقصدهم، وما
يكون من تأثيره في بلادهم وأمتهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يعلم القراء أن هذا وقع قبل مبايعة أهل الحجاز للشريف بالمُلك ونشر الرحلة بعد المبايعة لا يقتضي استعمال لقب الملك فيما يحكى فيها عما كان قبل ذلك.(19/563)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(كتاب الحرب الأوربية.. أو فلسفتها)
لا أعرف أحدًا من العامة ولا من الخاصة يصدق جميع ما يُنشر في الجرائد
من أخبار الحرب والسياسة ولا أكثره، وإنما يصدق الناس ما يوافق عقولهم،
وآخرون ما يوافق أهواءهم. وأهل البصيرة يعلمون أن أصحاب الجرائد في بلادنا
لا يعرفون جميع الحقائق التي يعرفها أصحاب الجرائد في أوربة، وأنه لا يباح
لهؤلاء ولا لأولئك أن ينشروا كل ما عرفوا، فإن ما ينشر في الجرائد في هذه الحال
يراد به عند جميع الأمم ما يترتب عليه من التأثير، ولا تمحيص الحقائق ولا تدوين
التاريخ، وإنما يرجى أن تدون الحقائق بعد الحرب بسنين، بأقلام أركان الحرب
وأحرار المؤرخين. وأجدر الناس بإظهار الحقائق في كل زمن هم الحكماء ورجال
الإصلاح الاجتماعي والتحقيق التاريخي، وإذا قلت: إن (غوستاف لوبون) هو
أشهر حكماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ في هذا العصر لا أكون مبالغًا، فإنه قد
اشتهر في الشرق كما اشتهر في الغرب بما ترجم من كتبه الاجتماعية باللغات
الشرقية ككتاب تطور الأمم، وكتاب روح الاجتماع، وبما كتبه في تاريخ أعظم أمم
الشرق؛ ككتاب حضارة العرب وكتاب حضارة الهند. وقد كتب كتابًا في فلسفة
هذه الحرب بين فيه مناشئها النفسية، وأسبابها الخفية والجلية، وكيفية تولدها
ونمائها وسيرها في كل أمة من الأمم المتقاتلة، وكونها معلولة لعلل خفية ما كان
في استطاعة أحد أن يحول دون ترتبها عليها، ولم تكن بإرادة دولة من الدول ولا
ملك من الملوك، خلافًا للكثيرين الذين غلطوا في ذلك. ومن مباحث الكتاب بيان
انقلاب الطرق الحربية والعواطف التي توقظ داعية الحرب، وتأثير الأغلاط النفسية
والحربية فيها، وإيقاظها للشعور الديني والطرق الحربية الألمانية وتأثيرها، ونتائج
الحرب مجهولة وعقبات الصلح، وغير ذلك من الفوائد مستنبطًا مسائله وقواعده من
الوثائق الرسمية، وأجدر الأخبار بالثقة.
مثل هذا الفيلسوف الكبير يكتب ما يعتقد، وقد بدأ التمهيد الذي جعله مقدمة
الكتاب بقوله: (ليس غرضي من هذا الكتاب درس حوادث الحرب الأوربية،
وإنما الذي أرمي إليه استقصاء الظواهر النفسية التي أدت إليها والتي رافقتها منذ
نشأتها، فإن تدوين وقائعها بإنصاف وإخلاص ليس بميسور لنا اليوم. وإن الأهواء
لا تزال متسلطة على نفوسنا، ولا يتسنى للأجيال التي تخلق التاريخ أن تدونه.
ولا بد من فترة تمرّ بعد انتهاء المآسي البشرية حتى يتمكن الإنسان من اكتشاف
سرها وإدراك حقيقتها، فإن التاريخ لا يُنصف إلا الموتى) .
ومن أراد أن يستفيد من هذه الحرب علمًا وفلسفة وعِبرة وبصيرة فعليه بهذا
الكتاب، وهو قد ترجم بالعربية وطبع في مطبعة الهلال.
***
(كتاب ثورة العرب- مقدماتها وأسبابها ونتائجها)
ألّف هذا الكتاب عضو من أعضاء بعض الجمعيات العربية، هو سوري أقام
في الآستانة عدة سنين، وفي مصر عدة سنين لا عمل له إلا الاشتغال بالسياسة،
والأقطاب التي تدور عليها مباحث الكتاب تنحصر فيما يأتي:
الحرب الأوربية والشرق. المسألة الشرقية وفروعها. المسألة العربية
وأدوارها , العرب والترك في الماضي. العرب والاتحاديون، تأليف الجمعيات العربية وأسبابه.
المؤتمر العربي الأول ونتائجه. نيات الاتحاديين ومعداتهم، الاتحاديون
والإسلام والعرب، تفاقم الخطب، وانفجار البركان. المبايعة بالملك على العرب.
مستقبل العرب.
ما من مسألة من مسائل هذا الكتاب إلا ولدينا علم تفصيلي فيها. وقد قرأت
نبذًا متفرقة منه لأقف على منهاج مؤلفه فيه، فظهر لي مما قرأت ومما أعلم من
أخلاق المؤلف وآدابه أنه اجتهد وتحرى الحق فيما كتبه بحسب ما وصل إليه علمه
وفهمه مما رأى وروى، ومما سمع وقرأ. ومما بينه في كتابه أن أذكياء العرب قد
ألجأتهم سيرة الاتحاديين وسيرهم بالدولة والأحداث التي حدثت في عهد دستورهم
إلى تأليف الجمعيات والأحزاب للمحافظة على مقومات أمتهم وترقيتها في عهد
الدستور في ظل الدولة العثمانية مع الإخلاص لها والحرص على دوام الارتباط بها
وقد صدق.
نقلنا في هذا الجزء فصلاً من فصول الكتاب وربما ننقل عنه غيره، وقد
بلغت صفحاته246 صفحة من قِطع المنار، وثمن النسخة منه عشرة قروش
صحيحة.
***
(المذابح في أرمينية)
كتيب للشيخ فائز الغصين بيّن فيه ما رآه بعينيه وسمِعه بأذنيه من رجال
الحكومة الاتحادية الطورانية وضباطها من حوادث وأخبار الفتك بالأرمن. والكاتب
من أبناء رؤساء عشائر العرب في حوران تخرج في مكتب الدولة الملكي بالآستانة،
وانتظم في سلك حكومتها الإدارية، وقد كان حظه من تنكيل حكومته بأمثاله من
نجباء العرب النفي إلى أرضروم، ولكنه سجن في ديار بكر بضعة أشهر وهي
قطب الرحى لتلك الأحداث، وفيها وفي طريقها رأى وروى ما دوّنه في كتيبه من
الفظائع التي تقشعر منها الجلود، ثم تيسر له الفرار إلى البصرة ثم إلى الحجاز
فمصر وغرضه من الكتاب تبرئة الإسلام والمسلمين من قتل أحد بغير حق ولا سيما
النساء والأطفال وبيان أن تبعة مذابح الأرمن في أعناق الحكومة الاتحادية دون
سواها.
***
(الكنز المفقود)
قصة خيالية كُتبت ببعض اللغات الإفرنجية وترجمتها باللغة العربية الكاتبة
المشهورة (ماري نجار) وغاية مؤلفها منه بيان شأن المرأة المهذبة، وأن جمال
المرأة وذكاءها وثروتها لا تغني عنها شيئًا إذا لم تكن مقرونة بالتهذيب. ولذلك
قدمتها إلى الصحف العربية التي يُعنى أصحابها (برفع شأن المرأة ومساواتها
بالرجل وتشجيعها على رفع صوتها والسماح لها بنشر أفكارها على صفحاتها)
وصفحات القصة 235 من القطع الصغير، وثمن النسخة منها 5 قروش.
__________(19/574)
جمادى الآخر - 1335هـ
أبريل - 1917م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استدارة الزمان والنسيئة في الحج
(س 21) من أحد قراء المنار من كبراء مكة المكرمة.
الذي أحيط به علمَ حضرة الفاضل الأستاذ أني أستفسر عما رسخ بفكري عند
تلاوة قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة: 36) قال صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق
الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم ثلاث
متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)
قال أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح
صحيح البخاري: (المراد بالزمان النسبة، وقوله: كهيئته أي: استدار استدارة
مثل حالته.. ولفظ الزمان يطلق على قليل الوقت وكثيره، والمراد باستدارته
وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي
الليل والنهار) فلا يخفى أن مفهوم منطوق الحديث الشريف (استدار كهيئته يوم خلق
الله السموات والأرض) مع ما تضمنه شرح ابن حجر بقوله: المراد باستدارته
وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل، حيث يستوي
الليل والنهار، إن وقت الوقوف بعرفة لا يكون إلا في ذلك اليوم الذي تحل فيه
الشمس برج الحمل لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا تقدم أو تأخر دخلت النسيئة معنًى؛ إذ
لا غرو أن وقت الوقوف من بعد ذلك اليوم لم يقع في ذلك الوقت؛ لأنه لا أقل من
تأخر كل عام عشرة أيام بحسب الفصول على حساب الأشهر الهلالية. فإن قلتم:
هذا أمر مقرر مشى عليه الصحابة والتابعون من بعده -صلى الله عليه وسلم-
وهلُم جرًّا إلى الآن، وعليه جاء في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189) إن المعتبر في الحج الأشهر الهلالية. قلنا
حينئذ: يترتب على هذا أنه لا فائدة لما أفهمه منطوق الحديث الشريف، وهو لا
ينطق عن الهوى، ولا معنى لما شرحه ابن حجر في قوله في ذلك اليوم الذي حلت
فيه الشمس برج الحمل. وهذا إذا كان السؤال في الآية الشريفة عن الهلال فقط،
وأما إذا جرينا على أن السؤال كان عن جميع الأهلة حيث دخلت الشمس في هذا
الجمع فحينئذ السؤال قد توجه للاشتباه، حيث إن ما ذكر من مفهوم الآية والحديث
المتقدم ذِكرهما يؤيد أن المراد بقوله: والحج أن ميقات الحج الشمس حينما تحل
في برج الحمل، أفتونا مأجورين آمين.
(ج) ليس في منطوق الحديث الشريف ولا مفهومه أن استدارة الزمان هي
وقوع تاسع ذي الحجة في أول يوم من برج الحمل، ولا ذلك مطابق للواقع. وإنما
أخذه الحافظ من قول بعض العلماء لا من حديث آخر فقال في شرح الحديث من
كتاب بدء الخلق من الفتح: وزعم يوسف بن عبد الملك في كتابه تفضيل الأزمنة
أن هذه المقالة صدرت من النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر مارس وهو آذار
وهو برمهات بالقبطية، وفيه يستوي الليل والنهار عند حلول الشمس في برج
الحمل. اهـ، ومنه يعلم أنه ذكر هذا البيان الواقع، ولا أدري من أين أخذ
الحافظ أن تاسع ذي الحجة وافق في تلك الليلة دخول الشمس في برج الحمل، فهو
لم ينقل عن يوسف بن عبد الملك ذلك. والواقع أن أول ذي الحجة من تلك السنة،
وهي العاشرة كان يوم الخميس كما ثبت في كتب الحديث وهو يوافق 27 فبراير
وثاني برمهات، وفي بعض كتب التقويم أن أوله الجمعة 28 فبراير 3 برمهات،
وعلى كل من الحسابين يكون دخول الشمس في برج الحمل بعد اليوم التاسع،
وهب أنه كان فيه فما ذِكرهم له إلا بيان للواقع. وكل من موافقة وقوع الوقوف في
أول يوم من برج الحمل وموافقة عام حجة الوداع لأول عام انتظم فيه حساب
السنين في إثر تكوين السموات والأرض بهذه الحالة لا دخل له في فريضة الحج.
على أننا إن سلَّمنا أن هذا المفهوم المدَّعى في السؤال هو مفهوم الحديث نقول:
إنه مفهوم مخالفة، اشترط من يحتجون به أن لا يعارضه ما هو أقوى منه من
منطوق أو مفهوم موافقة، وهذا المفهوم يعارضه الكتاب والسنة؛ إذ لو جعل الحج
في فصل الربيع تابعًا للحساب الشمسي لخرج من الأشهر الحرم المعلومات عند
العرب بالتواتر من عهد إبراهيم وإسماعيل اللذين فرض الله الحج على ألسنتهما
وهو قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ} (البقرة:
197) إلخ وهن الأشهُر المتواليات في حديث الاستدارة. وكانت حكمة جعل الحج
في الأشهر الحرم أن يأمن الحجاج على أنفسهم في ذهابهم إلى مكة وإيابهم منها إلى
أوطانهم فلا يُغير عليهم أحد من الأعراب كعادتهم.
وأما فائدة الحديث فهي تقرير إبطال النسيء ولوازمه. قال تعالى بعد الآية
المذكورة في أول السؤال: {ِإنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37) وهو ما
جروا عليه من تأخير بعض الأشهر الحُرُم إلى غيره؛ أي استحلال الشهر الحرام
نفسه، وتحريم شهر آخر بدلاً منه لما كانوا يرون من الحاجة إلى الإغارة في الشهر
الحرام. مثال ذلك أنهم كانوا يؤخرون تحريم القتال في المحرَّم الذي يعودون فيه
من الحج إلى صفر، ويعلنون ذلك في (مِنى) قبل انصرافهم من الحج، وإذا
احتاجوا أخروا صفر إلى ربيع، وهلُم جرًّا حتى استدار التحريم على شهور السنة
كلها. وروي أن القلمس بن أمية بن عوف نسأ لهم الشهور أربعين سنة، فترتب
على ذلك أنهم أحلوا جميع ما حرم الله، وأخروا الحج عن وقته الذي شرعه الله فيه
حتى إن السنة التاسعة التي حج فيها أبو بكر بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كان
الوقوف فيها في شهر ذي القعدة كما قال مجاهد، وتلتها حَجة الوداع فكان فيها
الوقوف في ذي الحجة، وهو الشهر الذي فرض الله الوقوف فيه. فكانت استدارة
الزمان أن رجع حساب الحج إلى أصله، وحُرِّم النسيء ألبتة، فزال السبب الذي
كان يتأخر فيه الحج من الأشهر المعلومات التي فرصه الله فيها. وأفاد الحديث أن
هذا الحساب حقيقي صحيح في نفسه ليس فيه من خطأ النسيء شيء. وقد قرأت
بعد كتابة ما ذكر ما كتبه الحافظ على الحديث في تفسير سورة براءة فإذا به قد نقل
هذا المعنى عن الخطابي.
وأما ما ذكرتم من الفرق بين الهلال والأهلة فلا نعلم له مأخذًا من اللغة ولا
أصلاً من الروايات، فالأهلة جمع هلال وهو اسم للقمر عندما يبدو في أول ليلة من
الشهر إلى ثلاث ليالٍ، وقيل: إلى سبعٍ، وفي الليلتين الأخيرتين أو الثلاث
الأخيرة منه. فإذا كان هذا اللفظ لا يطلق مفردًا على الشمس، فكيف تدخل الشمس
في مفهوم جمعه؟
__________(19/603)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى المولد النبوي [*]
(3)
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة من داره إلى دار أبي
بكر، ثم خرجا متزودين من خوخة [1] فيها واستخفيا في الغار المعروف بغار ثور [2] ،
وكانا قد استأجرا دليلاً ماهرًا من المشركين ليرحل بهما، وأعطياه راحلتيهما
وأمَّناه على سرهما [3] وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فكتم أمرهما ووافاهما في الميعاد،
ولما علمت قريش بخروجهما، خرجت بالقافة في طلبهما [4] حتى إذا ما انتهوا إلى
باب الغار، صرف الله عنه القلوب والأبصار، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال:
يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا. فقال: (يا أبا بكر ما
ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا) ولما كان بعد ثلاث جاء الدليل
فرحل بهما، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة فهاجر معهما، وكانت نار
الطلب قد خمدت عنهما، وجعل المشركون لمن جاءهم بهما دية كل واحد منهما،
وقد كان ما كان من حِفظ الله وإكرامه لهما.
ولما بلغ الأنصار خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، كانوا يخرجون
صبيحة كل يوم ينتظرونه في الحَرّة [5] ولا يرجعون إلى الديار، إلا بعد أن تغلبهم
الشمس على الضلال [6] حتى وافاهم بقباء [7] يوم الإثنين ثامن ربيع الأول فتلقوه
بالإكرام، وقام فيها مدة أربعة أيام، وكان نزوله في بني عمرو بن عوف، وبنى
فيها مسجدها الذي أسس على التقوى من أول يوم، ثم دخل المدينة يوم الجمعة
عند دخول الشمس في بُرج الميزان، وهو أول الاعتدال الخريفي في الزمان، فكان
ذلك رمزًا لما في شريعته من الاعتدال، وكونها آخر الشرائع الإلهية التي يبلغ بها
الدين غاية التمام والكمال، وقد أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في
المسجد الذي في بطن الواد، ثم ركب فأخذوا بخطام ناقته: هلم إلى العدد والعدة
والمنعة والسلاح [8] . فقال: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) وكلما مرت بدار من دور
الأنصار رغبوا إليه في النزول عليهم وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة) وما
زالت تمر بدار بعد دار، إلى أن بركت في موضع مسجده اليوم من دور أخواله بني
النجار [9] فبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله في بيته، فجعل رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول: (المرء مع رحله) وأقام في منزل أبي أيوب
حتى بنى حجرته ومسجده، واستحضر في أثناء ذلك أهل بيته من مكة المكرمة [10]
ولم يفرح الأنصار بشيء كفرحهم بقدومه -صلى الله عليه وسلم- ومثله عودته إليهم
بعد الفتح الأعظم [11] وأي شرف وفخر وسعادة في الحياة وبعد الممات، أعظم من
هذه السعادة التي افتخر بها شاعرهم بهذه الأبيات:
ثوى في قريش عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبًا مواتيا [12]
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم يرَ من يؤوي ولم ير داعيا [13]
فلما أتانا واستقرت به النوى ... وأصبح مسرورًا بطَيْبة راضيا [14]
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس باغيا [15]
بذلنا له الأموال من حِلّ مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا [16]
نعادي الذي عادى من الناس كُلهم ... جميعًا، وإن كان الحبيب المصافيا [17]
ونعلم أن الله لا رب غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا [18]
***
أخلاقه وسيرته بعد الهجرة مع المؤمنين
وحاله مع أهل الكتاب والمشركين
كان -صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق أخلاقًا، وأعلاهم فضائل وآدابًا،
امتاز بذلك في عهد الجاهلية، فكيف يدرك كنهه بعد النبوة، وقد خاطبه العلي
العظيم، بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وكان جامعًا بين اللُّطف
والتواضع والدماثة، وبين العزة والوقار والمهابة، من رآه بديهة هابه، ومن
خالطه معرفة أحبه [19] ، وجامعًا بين الرأفة والرحمة والحياء، وبين الشجاعة والحزم
والمضاء، فكان في حومة الوَغى أثبت الناس، وكانوا يلوذون به إذا اشتد البأس
[20] حتى إنه ثبت وحده في يوم أُحد، ولكنه لم يقتل بيده غير أُبي بن خلف [21]
وإنما كان يدافع عن نفسه وغيره دفاعًا، ويرشد المقاتلين بالتدبير والتثبيت إرشادًا،
ولم يكن ينتقم لنفسه، ولا يُحابي في الحق عشيرته ولا أبناء جنسه، وكان على
حلمه الواسع، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان أجود من الريح المرسلة،
والسحب المنهملة، وكان أعظم الناس صبرًا، وأحسنهم لله وللناس شكرًا [22] ، وكان
يجب اليُسر ويأمر به، ويكره العُسر ويَنهى عنه [23] ، يأكل من الطعام ما وجد، لا
يأبى المستلَذ منه نسكًا. ولا يتحراه تنعُّمًا وترفًا، ولكنه كان يعتني بأمر الماء [24] ،
ويحب الطِّيب والنساء، وكان يُكثر الوصية بهن وباليتامى والأرقّاء، ليمحو من
أنفس الناس احتقار الضعفاء.
كان -صلى الله عليه وسلم- يربي المؤمنين بالقرآن، وبما آتاه الله من الخُلق
العظيم والعرفان، فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى إنهم كانوا يتقاسمون المال
والعقار، وألَّف الله به بين قلوب الأوس والخزرج فأصبحوا بنعمته تعالى إخوانًا،
وكانوا في الجاهلية أعداء لا يألو أحدهما الآخر بغيًا وعدوانًا، وكان يشاور أصحابه
في الأمر، ويساوي بينهم في الإقبال والبشر، ويوقِّر كبيرهم ويرحم صغيرهم،
ويُكرم فقيرهم، ويعود مريضهم، ويشيِّع ميتهم، ويقبل هديتهم، ويجيب دعوتهم،
ويكون معهم كأحدهم.
فأما اليهود من أهل الكتاب، الذين كانوا في تلك الرحاب، فقد وادعهم وأقرهم
على دينهم، وأمنهم على دمائهم وأموالهم، على أن لا يحاربوه، ولا يُظاهروا ولا
يوالوا [25] عدوهم عليه، وأن لهم النصر على المؤمنين، وينفقون معهم ما داموا
محاربين، وأن لهم دينهم وللمسلمين دينهم، سواء في ذلك مواليهم وأنفسهم، ولكنهم
ما لبثوا أن نقضوا عهده، وظاهروا عليه عدوه.
وأما المشركون فاشتدت عداوتهم له، وكانوا حربًا له ولمن آمن به، فلم
يشتفوا بإخراجه وإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وما كان من تعذيبهم لمواليهم
وضعفائهم ونسائهم، لأجل إرجاعهم عن الإسلام، إلى ما كانوا عليه من عبادة
الأصنام، حتى صارحوهم البغي والعدوان، فلم يكن للمسلم أمان على نفسه في
مكان، إلا أن يمنعه أحد الأقوام، أو يصدهم عنه الشهر الحرام أو المسجد الحرام،
على أن قريشًا صدتهم عن البيت، بعد أن قلدوا الهدي وأحرموا بالعمرة سنة
ست [26] ، حتى صالحهم -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية [27]- والإسلام على ما
صار إليه من المنعة والقوة-[28] ، على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها
الناس من مؤمنين وكافرين، وأن يرجع عنهم ذلك العام، ويُخلُّوا بينه وبين
مكة في العام المقبل ثلاثة أيام، وأن يرد عليهم من أتاه من أصحابهم ولو بقصد
الإسلام، ولا يردوا عليه من أتاهم من الصحابة الكرام، وكان -صلى الله عليه
وسلم- قد رأى في المنام، أنه قد دخل المسجد الحرام، فظن المسلمون أن تأويل
الرؤيا يكون في تلك السنة، ولذلك اشتد عليهم الاستياء من الصلح حتى خيفت عليهم
الفتنة [29] لولا أن الله تعالى أنزل عليهم السكينة، وعجل لهم بعض ما وعدهم، ثم
من المغانم الكبيرة [30] وذلك برهان على إيثاره -صلى الله عليه وسلم- للسلام،
وما كانت حروبه إلا دفاعًا وتأمينًا لدعوة الإسلام، وكان أكبر فوائد ذلك الصلح
اختلاط المسلمين بالمشركين، وإسماعهم القرآن وتبليغهم حقيقة الدين، وإرسال
الرسل لتبليغ الملوك المجاورين [31] فصار الناس يدخلون فيه آمنين مقتنعين،
وأظهر الإسلام في هذه الهدنة مَن كان يخفيه بين المشركين خوف الفتنة، وحسبك أنه
تعالى أنزل سورة الفتح، في تعظيم شأن هذا الصلح؛ مبينًا ما فيه من الحِكَم
والمصالح، ومشتملة على أخبار الغيب والوعد بالنصر والمغانم، فسماه فتحًا مبينًا،
وأعقبه كما وعد نصرًا عزيزًا؛ إذ كان تمهيدًا لفتح مكة، الذي أتم به النعمة، وازداد
المؤمنون بذلك إيمانًا، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجًا.
وكان فتح مكة سنة ثمانٍ، وفي سنة عشر حج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حجة الوداع، التي هدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرَّر قواعد الإسلام،
وعلَّم الألوف أحكام المناسك [32] ، وأمر بأن يبلِّغ الشاهد منهم الغائب، وأشهَد الله
تعالى المؤمنين على أنه بلغ ما نزل إليه وبينه تبيينًا، وأنزل تعالى عليه في مساء
عرفة: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أقام في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين،
يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل،
وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية
وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به حِكَمه وتشاهد آياته في الخلق، وتتسع
به العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابرًا مع السابقين من
المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين، ثم دخل الإسلام بالهجرة في عهد
الحرية، وتكونت له قوة العصبية، وجاء الوحي فيه مفصلاً لما أجمل في السور
المكية من الأحكام، وبيان الحلال والحرام، وبينت السنة النبوية جميع فروع
العبادات، وكل ما يحتاج إليه من النصوص والقواعد للسياسة وفروع المعاملات،
فبذلك كله أكمل الله الدين، وأتم نعمته على المؤمنين، وقد تربى على ذلك الألوف
من المهاجرين والأنصار، فنشروا هذا الدين القويم في الأقطار والأمصار، فأروا
أمم الحضارة والأديان القديمة، من العدل والرحمة والسيرة القويمة، ما لم يروا
مثله بأعينهم، ولا رووا نظيره عن أحد من قبلهم، وقد كانت مدة التشريع بعد
الهجرة، كمدة التبليغ بعد البعثة [33] فبعد حجة الوداع بثلاثة أشهر [34] قبض الله
تعالى إليه نبيه المصطفى، ورسوله المجتبى، ورفع روحه الطاهرة إلى الرفيق
الأعلى، فتوفي -صلى الله عليه وسلم- تاركًا للأمة ما إن تمسكوا به لن يضلوا من
بعده، كتاب الله وسنته في تبيينه وعترته العاملين بهما من أهل بيته [35] وكذا خلفاؤه
الراشدون [36] وعلماء أصحابه به العاملون [37] مؤسسًا لهم أمة عظيمة، ودولة عادلة
رحيمة، وحكومة شوروية حكيمة، قيدت فيها سلطة الفرد، بالشريعة العادلة
وسيطرة أهل الحل والعقد [38] مبشرًا بأن ملكها سيعم الشرق والغرب، وينتظم ملك
كسرى وقيصر، وأنه يظل عزيزًا ما أقاموا الحق واعتصموا بالعدل، فإذا وسدوا
الأمر إلى غير أهله، فلينتظروا ساعتهم المضروبة لفقده [39] ، وبأنه لا تزال طائفة
من أمته ظاهرة على الحق قوَّامة على أمر الله، إلى أن تقوم الساعة ويأتي أمر
الله [40] .
وقد تم كل ما بشر به وأنذر، ولا تزال آيات نبوته تتجدد وتتكرر، فجزاه الله
عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن قومه، ورسولاً عن أمته، وصلى الله وبارك عليه،
وعلى أهل بيته الطاهرين [41] ، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء الثامن ص 473.
(1) الخوخة: الكوَّة النافذة والباب الصغير في الباب الكبير.
(2) ثور: اسم جبل معروف من جبال مكة، والغار لا يزال فيه إلى اليوم.
(3) فيه من العبرة ما كان عند العرب من الأمانة والصدق والوفاء.
(4) القافة جمع قائف، وهو الذي يعرف الآثار، فإذا رأى أثر الأقدام أو الأخفاف أو الحوافر في الأرض استدل بها على عددها ووجهة سيرها.
(5) الحَرّة: موضع ظاهر المدينة من جهة مكة فيه حجارة سود.
(6) أي: عندما يقرب وقت الظهر ويتقلص ظلال الجدر حتى كأن الشمس تغالب المستظل بها عليها.
(7) موضع بظاهر المدينة فيه قرية، وأصله اسم لبئر كانت هناك فهو مؤنث ممنوع من الصرف ويصرف بمعنى الموضع، وتبصر أيضًا.
(8) الخِطام: الحبل الذي يوضع في مِخطم الراحلة أي أنفها لتُقاد به وهلم إلخ حكاية لقولهم، أي قائلين: هلم أي أقبل وتعالَ إلى قوتي الكثرة والاستعداد.
(9) هم قبيلة من الأنصار، وهم أخواله -صلى الله عليه وسلم- من جهة جده عبد المطلب فإن أمه سلمى بنت عمرو منهم.
(10) أرسل -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بَعيرين وخمسمائة درهم فأحضروا فاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة بنت زمعة زوجه التي تزوجها بعد خديجة وأسامة بن زيد وأمه أم أيمن وأما بنته زينب فلم يمكِّنها زوجها أبو العاص بن الربيع من الخروج وقد خرج من هؤلاء عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان.
(11) هو فتح مكة.
(12) ثَوى أقام الحِجَّة بالكسر السنة، والبُضع ما بين 3 إلى 9 أي: أقام ثلاث عشرة سنة بمكة يُذَكِّر ويعظ بالدعوة إلى الله في أثنائها، وإنما دعا في عشر منها.
(13) المواسم مجمع الحج، فلم ير من يؤويه أي يجعل له مأوى أي منزلاً يأمن فيه على نفسه، ولم ير داعيًا إلى ذلك أو إلى الله بمساعدته ونصره.
(14) النَّوى وِجهة المسافر التي ينويها بسفره، وطَيْبَة: المدينة يُروى البيت في سيرة ابن هشام هكذا: فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورًا بطيبة راضيا.
(15) الباغي المعتدي ويروى البيت هكذا:
فأصبح لا يخشى من الناس واحدًا ... قريبًا ولا يخشى من الناس نائيا.
(16) الوَغَى: الحرب والتآسي مثل التعازي ما يتسلى به المرء عن المكاره.
(17) أي: نعادي الذي عاداه من جميع الناس، وإن كان من قبل حبيبًا لنا لا يؤثر عليه أحدًا.
(18) يروى هذا البيت بألفاظ أخرى في سيرة ابن هشام، وفيها أبيات أخرى أيضًا.
(19) البديهة: الفجاءة؛ أي من رآه مفاجأة من غير سابق معرفة خافه أو وقَّره وأجلَّه لما يتجلى في شمائله من الروعة والهَيْبة، ومن خالطه أي: عاشره مخالطة معرفة أحبه لحُسن خلقه وكمال آدابه وشدة رحمته وعنايته بأمر معاشره، وهذا الكلام من وصف علي رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم.
(20) البأس: بالهمز ويخفف هنا للتناسب وهو الشدة والمكروه، والمراد هنا الحرب ونحوها من المكاره الشديدة.
(21) كان أُبَيّ من رؤوس المشركين وصناديدهم، وكان يعلف فرسًا له بمكة اسمه العود ويقول: أقتل عليه محمدًا فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبره فقال: (بل أنا أقتله إن شاء الله) فلما كان يوم أُحد ونُكب المسلمون وانكشفوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقبل أُبي مقنعًا بالحديد لا يُرى من بدنه شيء، وجعل يقول: أين هذا الذي يزعم أنه نبي فليبرز لي فإنه إن كان نبيًّا قتلني، فلما دنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ النبي حربة من الحارث بن الصِّمة فطعنه بها طعنة جاءت في تَرقوته من فُرجة بين سابغة الدرع والبيضة التي على الرأس فكرَّ الخبيث منهزمًا ومات من ذلك الجُرح في طريقهم إلى مكة قيل: بسرف وقيل: برابغ.
(22) قال -صلى الله عليه وسلم-: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) رواه أحمد والترمذي عن أبي سعيد.
(23) من وصاياه: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(24) كان أحب الشراب إليه الحلو البارد كما في حديث عائشة في الشمائل، وكان يستعذب له الماء من بيوت السقيا كما روى أبو داود، والسُّقيا بالضم عين على بُعد يوم من المدينة أو أكثر.
(25) أي: لا يعانوا ولا يناصروا.
(26) الإحرام وتقليد الهدي، أي: ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام دليل على عدم إرادة القتال.
(27) الحُديبية بالتخفيف كدويهية ويشدِّده أكثر المحدثين: بئر سُمي باسمها الموضع الذي حولها (وقيل: وادٍ هناك) وهوعلى نحو مرحلة من مكة من بعضها عن طريق جدة وكان هناك قرية، قيل: هي في الحِلّ، وقيل: في الحرم، وقيل: بعضها في الحل وبعضها في الحرم وهو أبعده عن مكة.
(28) كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- 1400 رجل أو 1500.
(29) لما صالح -صلى الله عليه وسلم- المشركين أمر المؤمنين بالتحلل من عمرتهم فلم يبادروا إلى الامتثال لما عراهم من ذهول الحزن، فدخل -صلى الله عليه وسلم- على أم سلمة وقال لها: (هلك المسلمون) وذكر لها ما كان فأشارت عليه بأن يخرج ولا يكلم أحدًا حتى ينحر هديه ويحلق رأسه، فخرج ففعل ذلك فتبعوه فنحروا، وصار يحلق بعضهم بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا من الغم.
(30) عجل لهم فتح خيبر فقد عاد -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية في ذي الحجة فأقام في المدينة زُهاء عشرين ليلة، ثم خرج إلى خيبر ففتحها في المحرَّم أول سنة سبع.
(31) ملوك جزيرة العرب والشام ومصر وفارس.
(32) المناسك أحكام الحج، وقد اختُلف في عدد من حج مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع من 40 ألفًا إلى مئة وعشرين ألفًا وسبب هذا الاختلاف أنه خرج من المدينة بجماهير المسلمين فيها وفيما حولها، وكان الناس ينضمون إليهم في الطريق عدا من حج من سائر بلاد العرب.
(33) أي: عشر سنين.
(34) توفي -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وكذلك كانت ولادته وبعثته وهجرته في يوم الإثنين وفي ذلك إشارة إلى أن الإيمان به يلي الإيمان بالله تعالى، والشهادتان شاهدتان على ذلك.
(35) روى مسلم في صحيحه من طرق عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا بماء يدعى خُمّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر ثم قال: (أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به- فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: -وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وفسر زيد أهل بيته بمن حرَّم عليهم الصدقة، قال: وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ويقول آخرون: هم علي وذريته من فاطمة -عليهم السلام- ولَعمري إنهم كانوا أحفظ الناس لهديه حتى عند ظهور البدع وفتن الدنيا، ولا يخلو عصر من طائفة منهم أو أفراد من الهداة المصلحين، وإنْ فُتن الكثيرون منهم بغلاة المحبين، فكانت فتنتهم لهم أعم وأدوم من فتنة الأمراء الظالمين؛ إذ كان من أثرها في ذريتهم أن ترك أكثرهم العلم والأعمال النافعة استغناء عنهما بشرف النسب، غافلين عن قول جدهم علي المرتضى -كرم الله وجهه-: قيمة كل امرئ ما يحسنه، ولله دَرّ بيت الإمامة في اليمن منهم فإنهم لم يتركوا الاجتهاد في علوم الدين والمحافظة على الإمامة إلى اليوم والثقل بالضم وبفتحتين: الشيء النفيس المصون، وكذا متاع المسافر وحشمه قال النووي: قال العلماء: سميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما، وقيل: العمل بهما، وروى الترمذي من حديث جابر قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: (إني تارك فيم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي- أحدهما أعظم من الآخر- كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) وروى أحمد والطبراني من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا (إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعِترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وعلم عليه السيوطي بالصحة، ورُوي نحوه من حديث أبي سعيد وحذيفة بن أسيد ورواته كثيرون وطرقه متعددة ذكرنا أصحها، وروي حديث بمعناه عن أبي هريرة وفيه لفظ السنة بدل العترة، ومعناه صحيح ولا معارضة بينه وبين الآخر الذي هو أصح منه رواية ويؤيده حديث مرسل في الموطأ.
(36) ورد في مناقب الخلفاء الأربعة أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها وورد لفظ الخلفاء الراشدين في حديث العرباض بن سارية عند أبي داود والترمذي (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عَضوا عليها بالنواجذ) إلخ.
(37) ورد في فضل أصحابه -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة منها في صحيح مسلم أنهم أمنة لأمته فإذا ذهبوا أتاهم ما يوعدون ومعنى أَمَنَة حفظة على الدين، ومنها الحديث الصحيح (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) إلخ رواه الشيخان وغيرهما، والقرن: العصر طال أو قصر.
(38) الإسلام هو الذي شرع للناس شكل الحكومة التي يسمونها الديمقراطية فأقامها الراشدون بالعمل ثم هدمت بالتدريج.
(39) إشارة إلى حديث أبي هريرة عند البخاري (إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة) .
(40) إشارة إلى ما ورد في الصحيحين والسنن من الأحاديث كحديث ثوبان: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) وحديث المغيرة: (لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) واللفظان هنا لمسلم وليس في البخاري (على الناس) وفي أحاديث أخرى ذكر عصابة تقاتل على الدين أي على حفظه، وذكر النووي أن الطائفة لا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل يجوز اجتماعهم في قطر أو بلد ويجوز تفرقهم، وذكر أن منهم الفقيه والمحدث والمفسر والمقاتل والقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والزاهد والعابد أي: لأن إقامة الحق تكون بالعلم بالكتاب والسنة وبثهما وبالعمل بهما وبالدفاع عنه بالحجة وبالقوة.
(41) ذكر المباركة هنا مع الصلاة لموافقة الصلاة الإبراهيمية المشروعة في الصلوات، والحمد لله على نعمه التي تتم بها الصالحات.(19/607)
الكاتب: ابن جبير الأندلسي
__________
علماء بغداد في القرن السادس
ومكانتهم في الوعظ والتذكير
قال الرحًّالة ابن جبير الأندلسي بعد أن وصف بغداد بأنها أمست بالنسبة إلى
ما كانت كالطَّلل الدارس، وانتقد أخلاق أهلها ومعاملتهم وغرورهم ببلدهم ما نصه:
أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكّرين، لا جرم أن لهم في
طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف
والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرًا من أوزارهم،
ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم،
لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم
من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه
كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة، فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام
رضي الدين القزويني رئيس الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار إليه
بالتقديم في العلوم الأصولية، حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر
من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر وأخذ القراء أمامه في القراءة
على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا وأتوا بتلاحين مُعْجِبة، ونغمات مُحرجة
مطربة.
ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار، وتصرف في
أفانين من العلوم من تفسير كتاب الله عز وجل، وإيراد حديث رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- والتكلم على معانيه، ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب،
فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر، ودُفِعت إليه عدة رقاع منها، فجمعها جملة في
يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء
فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ وقورًا هينًا ليِّنًا، ظهرت فيه
البركة والسكينة، ولا سيما آخر مجلسه، فإنه سَرَتْ حميا وعظه إلى النفوس حتى
أطارتها خشوعًا، وفجرتها دموعًا، وبادر التائبون إليه سقوطًا على يده ووقوعًا،
فكم ناصية جزَّ، وكم مَفْصِل من مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحزَّ، فبمثل مقام
هذا الشيخ المبارك تُرحم العُصاة، وتُتغمد الجُناة، وتُستدام العِصمة والنجاة، والله
تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين
من سخطه وانتقامه، برحمته وكرمه، إنه المنعم الكريم لا رب سواه ولا معبود إلا
إياه.
وشهدنا له مجلسًا ثانيًا إثْر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من
الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة الشافعية،
ودخل المدرسة النظامية بهزّ عظيم وتطريف آماق تشوقت له النفوس، فأخذ
الإمام المتقدم الذكر فيه وعظه مسرورًا بحضوره ومتجملاً به، فأتى بأفانين من
العلوم على حسب مجلسه المتقدم الذكر، ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين
الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد المشتهر المآثر والمكارم، المقدم بين الأكابر
والأعاظم.
ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال
الدين أبي الفضائل ابن علي الجوزي بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي
آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب
الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا
زيد، وفي جوف الفَرَا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، ورئيس
الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه
الصناعة، والمشهور له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام
في النظم والنثر، والغائض في بحر فكره على نفائس الدُّر.
فأما نظمه فرضيّ الطباع ومهياريّ الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان،
ويعطل المثل بقس وسحبان، ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد
المنبر ويبتدئ القراء بالقراءة وعددهم نيَّف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان
منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت
طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات،
إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها
عددًا، أو يسميها نسقًا، فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته
عجلاً مبتدرًا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات
المقروآت في أثناء خطبته فقرأها، وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدمًا ولا
مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها، فلو أن أبدع مَن في مجلسه
تكلف تسمية ما قرأ القراء به آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن
ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء بها عجلاً؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ
تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) إن هذا لهو الفضل المبين. فحدِّث ولا حرج عن
البحر، وهيهات ليس الخَبَر عنه كالخُبْر، ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته
برقائق من الوعظ، وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها
الأنفس احتراقًا، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون
بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده
فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له؛ ومنهم من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع
إليه، فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم
نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا
الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن مَنَّ
بلقاء من يشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله، وفي أثناء مجلسه ذلك
يبتدرون المسائل وتطير إليه الرقاع فيجاوب أسرع من طرفة عين، وربما كان
أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا إله
سواه.
ثم شاهدنا مجلسًا ثانيًا له بُكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في
ساحة قصور الخليفة ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور هو من حرم
الخليفة، وخص بالوصول إليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته
ومن حضر من الحرم، ويُفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع، وقد بسط
بالحصر وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس
المذكور، وقعدنا إلى أن وصل هذا الحَبْر المتكلم فصعد المنبر وأرخى طيلسانه على
رأسه تواضعًا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة
فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاؤوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت
العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة، وقد أحصينا لهم تسع آيات، من
سور مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء وأتى بأوائل الآيات في أثنائها
منتظمات، ومشَّى الخطبة على فقرة آخر آية منه في الترتيب إلى أن أكملها،
وكانت الآية: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} (غافر: 61) فتمادى على هذا السين؛ وحسَّن أيَّ تحسين،
فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له
ولوالدته، وكنى عنها بالسِّتر الأشرف، والجناب الأرأف، ثم سلك سبيله في
الوعظ، كل ذلك بديهةً لا رويةً، ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروآت على
النسق مرة أخرى، فأرسلت وابلها العيون، وأبدت النفوس سر شوقها المكنون،
وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين، وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول،
وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لا تملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولا
تجد للصبر سبيلاً، ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق؛
بديعة الترقيق، تشمل القلوب وَجْدًا، ويعود موضعها النسيبي زهدًا. وكان آخر ما
أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك
الكلام.
أين فؤادي أذابه الوجد ... وأين قلبي فما صحا بعد
يا سعد زدني جوًى بذكرهم ... بالله قل لي فديت يا سعد
ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من
فيه، إلى أن خاف الإفحام فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشًا عجلاً، وقد أطار
القلوب وجلاً، وترك الناس على أحرّ من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر، فمن
معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب، فيا له من مشهد ما أهول مرآه، وما
أسعد من رآه، نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته، بمَنِّه
وفضله.
وفي أول مجلسه أنشد قصيدًا نيرًا لقبس عراقي النفس في الخليفة أوله:
في شغل من الغرام شاغل ... من هاجه البرق بسفح عاقل
يقول فيها عند ذكر الخليفة:
يا كلمات الله كوني عوذة ... من العيون للإمام الكامل
فلما فرغ من إنشاده، وقد هز المجلس طربًا ثم أخذ في شأنه، وتمادى في
إيراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلمًا في الدنيا يعطى من ملكة النفوس
والتلاعب بها ما أُعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده
لا إله غيره.
وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وُعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه بالإضافة
لما عهدناه من متكلمي الغرب، وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة شرَّفهما الله مجالس
من قد ذكرناه في هذا التقييد فصغرت بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ في نفوسنا
قدرًا، ولم نستطب لها ذكرًا، وأين تقعان مما أريد، وشتان بين اليزيدين، وهيهات
الفتيان كثيرًا، والمثل بمالك يسير.
ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه، ويروق استطلاعه، وحضرنا له مجلسًا
ثالثًا يوم السبت الثالث عشر لصَفَر بالموضع المذكور بإزاء داره على الشط الشرقي
فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجبًا، صعد بوعظه أنفاس
الحاضرين سحبًا، وأسال من أدمعهم وابلاً سكبًا، ثم جعل يردد في آخر مجلسه
أبياتًا من النسيب شوقًا زهدّيًا وطربًا، إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره
والهًا مكتئبًا، وغادر الكل منتدمًا على نفسه منتحبًا، لهفان ينادي يا حسرتا واحربا،
والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحى، وكل منهم بعد من سكرته ما صَحَا،
فسبحان من خلقه عبرة لأولي الألباب، وجعله للتوبة أقوى الأسباب، لا إله سواه.
__________(19/619)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدكتور شبلي شميل
في اليوم الأول من هذه السنة الميلادية سنة (1917) اغتالت المنية الطبيب
النطاسي، الحكيم الاجتماعي، العالم الطبيعي، الأديب الكاتب، الناظم الناثر،
الدكتور شبلي شميل الشهير بتصانيفه ومقالاته العلمية والاجتماعية في المجلات
والجرائد العربية والفرنسية.
كان شبلي فذًّا نادر المثل في مجموعة علومه وأعماله وأفكاره وأخلاقه والذي
يحملنا على ترجمته أنه كان من طلاب الإصلاح المدني والتجديد الاجتماعي
المخلصين- وقليل ما هم - لا من الذين اتخذوا العلم ذريعة لجمع المال ولا وسيلة
لجاهٍ كما هو شأن السواد الأعظم من المتعلمين، فهو لم يدخر مالاً، ولم يتأثل عقارًا،
ولم يصرف جُلّ أوقاته للكسب، بل كان اشتغاله بالأمور الاجتماعية أكثر من
اشتغاله بالطب، ومثل هذا يكون مؤثرًا في أهل جيله تأثيرًا نافعًا أو ضارًّا لا كالذين
يعدون من العلماء بورقة شهادة يحملها كل منهم بيده، ونرى أنه يعيش عمرًا طويلاً
ثم يموت كما يموت العصفور لا يترك أثرًا في جيله يُنسب إليه. لهذا نذكر عن هذا
الرجل أهم ما نرى فيه العبرة من ترجمته فنقول:
كان أول من نشر مذهب دارون باللغة العربية وانتصر له وناضل دونه؛ إذ
كان رجال الدين ولا سيما الكاثوليك الذين نشأ شميل على مذهبهم يعدون هذا المذهب
من دعائم الكفر، ولم يكتف الرجل بذلك بل كان يصرح قولاً وكتابة بالتعطيل
والإلحاد، ولم يتجرأ أحد قبله على ما تجرأ عليه من ذلك فيما نعلم مع كثرة الذين
زاغت عقائدهم من المتعلمين على الطريقة الأوربية الحديثة. ومن الغريب أن
نرى المحامين عن النصرانية وكتبها الدينية كاليسوعيين (الجزويت) لم يتصدوا
للرد على الدكتور شميل كدأبهم في الرد على أمثاله من كتاب الشرق والغرب، وقد
كانت مجلتهم (المشرق) واقفة بالمرصاد والهلال وغيرهما من الصحف المنشرة
كلما نشر فيها شيء يخالف الدين أو المذهب الكاثوليكي ردوا عليه أشد الرد. فإذا
كان الجزويت لم يشنعوا على الدكتور شبلي شميل كما شنعوا على من لم يجهر بمثل
ما جهر به فلا عجب إذا سكت عنه من دونهم عصبية وعناية بهذا الأمر، وأكبر ما
بلغنا من مقاومة بعض القسيسين له أنهم كانوا ينهون بعض الناس سرًّا عن دعوته
لمعالجة مرضاهم. وجمهور المتعلمين على الطريقة العصرية من السوريين في
مصر وسورية وأمريكة يحبون الدكتور شميل ويعدونه من دعاة الإصلاح
الاجتماعي المخلصين، ومنهم من يغلو فيه، أما النصارى منهم - وهم الأكثرون-
فلا يرون عدم تدينه مانعًا من إصلاحه الاجتماعي؛ إذ لا علاقة للدين بذلك عندهم،
ولا شك في كون هذا من تساهلهم الذي قاربوا به الإفرنج، وأما المسلمون فلا يرون
مروقه من عقيدته التي نشأ عليها مبعدًا له عنهم؛ لأنها ليست عقيدتهم فهو في
نظرهم طبيب عالم اجتماعي غير مسلم، ولكنه أقرب من غيره من المخالفين لهم
إلى التساهل والإنصاف لحريته واستقلال فكره. وله أصدقاء من مسلمي مصر
لعلهم يزيدون على أصدقائه من مسلمي سورية الذين لا يعرفه أكثرهم إلا بالسماع.
وأما مذهب داروِن فقد تكلم بعض علماء المسلمين فيه وفي مخالفته لظواهر
النصوص في خلق آدم -عليه السلام-، ولم يجعلوا ذلك ردًّا على الدكتور شميل؛
لأنه لم يكن صاحب المذهب، وقد سبق أشياخنا إلى الرد على مذهب دارون،
وأول ما رأيناه في ذلك ما أبرزه لنا الأستاذ الإمام في ترجمته لرسالة أستاذي الذي
تخرجت على يديه الشيخ حسين الجسر في الرسالة الحميدية فهو قد لخص هذا
المذهب وبين أن دلائله في أصل البشر ظنية لم تصل إلى درجة القطع، وأنها لو
ثبتت وصارت يقينية لا تكون حجة على الإسلام لإمكان تأويل ظواهر النصوص
الواردة في الكتاب والسنة في خلق آدم. وقد أقر أكابر علماء سورية شيخنا على
تلك الرسالة وترجمت بالتركية فأقرها علماء الترك، وكافأه السلطان عبد الحميد
على خدمته للإسلام بها برتبة علمية عالية وراتب شهري. ورغب إليه أن يكون
من شيوخ قصره فاعتذر وعاد إلى طرابلس الشام بعد أن أقام في قصر يلدز عدة
شهرًا ضيفًا مكرمًا عند السلطان. وأما علماء الأزهر فقد اطلع كثير منهم على
الرسالة الحميدية وأعجب بها. ولكن لم نسمع أن أحدًا منهم كتب في موضوعها
شيئًا.
بينا رأي المسلمين الذين يعرفون الدكتور شبلي فيه، وأنهم كانوا يرونه أقرب
إلى التساهل والإنصاف، وبيان ذلك أنه كان يقول: إنه لا يوجد دين اجتماعي يتفق
مع مصالح البشر المدنية إلا دين القرآن. سمعت هذا منه غير مرة. وأخبرني أنه
طالما خطر في باله أن يجمع ما في القرآن من الآيات الواردة في المسائل
الاجتماعية والأدبية ويفسرها تفسيرًا علميًّا اجتماعيًّا. وأنه قد حاول هذا الجمع
فصعب عليه تجريد ما أراده لما في القرآن من المزج بين هذه المسائل والمسائل
الروحية الأخروية. وقال لي: إنك أقدر مني على تجريد ما أريد، فلو فعلت لكان
تفسيري نافعًا لك فيما تتوخاه من التوفيق بين الإسلام والعلم العصري والحضارة
العصرية، ومن نشر محاسن الإسلام بين الناس؛ لأن ألوفًا من الناس يقرؤون
تفسيري ولا يقرؤون تفسيرك.
وأما رأيه في نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو أنه كان يفضله على
جميع البشر، وقد كتب إليَّ منذ تسع سنين كتابًا أودعه أبياتًا من الشعر في ذلك هذا
نصه:
إلى غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار.
أنت تنظر إلى محمد كنبيٍّ فتجعله عظيمًا، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله
أعظم , ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض
فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعُرَى
المودة.
... ... من صديقك الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شميل
(الحق أولى أن يقال)
دع من محمد في سدى قرآنه ... ما قد نحاه للحمة الغايات
إني وإن أكُ قد كفرت بدينه ... هل أكفرن بمُحْكم الآيات
أوَما حوت في ناصع الألفاظ من ... حكم روادع للهوى وعِظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها ... ما قيَّدوا العمران بالعادات
نِعْمَ المدبر والحكيم وإنه ... رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحِجَا رجل السياسة إنه ... بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خطب النهى ... وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى ... من سابق أو لاحق أو آت
وقد نشرنا هذا الكتاب والأبيات في (ج1 م11) في معرِض الرد على
البرنس كايتاني في زعمه أن نجاح النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في كفاءته
من حيث هو سياسي محنَّك أكثر من نجاحه من حيث هو نبي، وأن حُنْكَته
وسياسته أفادا أكثر من إفادة القرآن. رددنا على صاحب هذا القول وعلى المؤيد
الذي نقل كلامه وأقره وعلى الدكتور شميل فيما زعمه من أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- أفضل من حيث كونه رجلاً منه من حيث كونه نبيًّا. وسألنا الله تعالى أن
يهديه إلى الباقي من مزايا كتابنا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو المهم
الأعظم المتعلق بأمر الدين والآخرة الذي أشار إليه في البيت الأول، وكفر به في
البيت الثاني، فقد صرح لنا بأن مراده بلُحمة الغايات أمور الآخرة.
إن الدكتور شبلي شميل قد اهتدى بالاطلاع على القرآن الحيكم إلى ما فيه من
الحكم الروادع للهوى والشرائع والموافقة لأصول العمران حتى في هذا الزمان.
وبالاطلاع على سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كونه قد فاق جميع أبطال
البشر وعظمائهم، ويدخل فيهم عنده أكابر الأنبياء -عليهم السلام- وكبار الساسة
وقواد الحروب وأهل الفصاحة والأدب. فلو أن الدكتور تأمل فيما اهتدى إليه من
هذين الأمرين وكان مؤمنًا بالله تعالى لجزم بكونه نبِيًّا مرسلاً من عنده عز وجل؛
لأن ما امتاز به كتابه وما امتاز به شخصه على جميع البشر من سابق أو لاحق أو
آتٍ إنما كان بعد أن بلغ أربعين سنة في الأُمية بين أهل الشرك والجاهلية فهل يُعقل
أن تحدث هذه المزايا العلمية العملية الأدبية العمرانية الحربية السياسية الاجتماعية
لرجل في سن الكهولة دفعة واحدة؟ كلا إن هذا لا يعقل أن يكون إلا بوحي وتأييد
من الله عز وجل. ولكن كثيرًا من الباحثين في مثل هذه المسألة يبحثون فيها من
جهة واحدة منصرفين عن سائر الجهات فلا يحيطون بسائر أطراف المسألة،
والصوارف عن أمثال هذه المباحث كثيرة، أظهرها: كون إنكار الأديان عندهم من
القضايا المسلمات، وكنت أرى أن للدكتور شبلي شميل مانعًا قلما يشاركه فيه غيره
في بلاده وهو عدّه الجرأة على التصريح بالتعطيل مزية من المزايا العظيمة التي
انفرد بها، وحب الامتياز من غرائز البشر الراسخة، فمن رأى نفسه قد انفردت
بشيء منه قلما يفكر ويبحث في شيء من شأنه أن يذهب بما انفرد به، على أن
رجال الدين الذين على مذهب أسرته الذي نشأ عليه ثم ارتد عنه قد حكموا بأنه تاب
من ردته وعاد قبل الموت إلى دينه ومذهبه الأوَّلَيْن، ولذلك جنَّزوه وصلوا عليه في
كنيستهم ودفنوه في مقابرهم، وجماهير الناس يرتابون في ذلك أو يجزمون بخلافه
ويعدون هذا من غرائب تساهل الكاثوليك.
كان الدكتور شبلي شميل من دعاة الاشتراكية وهو مستقل برأيه فيها غير مقلد
لطائفة من طوائفها، وكان ماديًّا في آرائه وأفكاره إلا أنه كان متحليًا بكثير من
الأخلاق الحسنة المحمودة التي يضاد بعضها ما تقتضيه الأفكار المادية التي غلبت
على عقله وخياله، كالرأفة والسخاء والصدق والوفاء والنجدة والمروءة والشجاعة
وغير ذلك. وإن تحلي بعض المعطلين بالفضائل من أقوى الشبهات على الدين في
هذا العصر، فإننا نسمع كثيرًا من المرتابين أو الراسخين في الكفر يقولون: أيّ
حاجة للناس في الدين وإننا نرى كثيرًا من المصلين الصائمين منغمسين في
المعاصي والرذائل، بل ترى كثيرًا من رؤساء الأديان الرسميين كذابين طماعين
أدنياء بخلاء لا يُرجى منهم معروف، ونرى فلانًا وفلانًا مما لا دين لهم متحلين
بالأخلاق الفاضلة والآداب العالية والسبق إلى عمل المعروف، وقد أجبت عن هذه
الشبهة في المنار غير مرة واتخذت تأبين الدكتور فرصة لبيان ذلك للجمهور.
في اليوم المتمم للأربعين من تاريخ وفاته أقام النادي السوري في
القاهرة حفلة تأبين للدكتور الذي هو من نوابغ السوريين بلا خلاف، أجاب الدعوة
فيها مئات من أهل العلم والأدب والوجاهة من سكان القاهرة على اختلاف مذاهبهم
ونِحلهم فغصَّ النادي بهم، وافتتح الجلسة رئيسها أحمد حشمت باشا بخطبة وجيزة
أطرى فيها المؤبَّن إطراءً كبيرًا. ثم دعي الدكتور يعقوب صروف إلى الكلام في
علم الدكتور شميل، وهو أعلم الناس به وبعلمه فجاء من ذلك بخلاصة جمعت
فأوعت. ثم دُعيت إلى الكلام على أخلاقه فقلت ما خلاصته على ما أتذكر الآن:
(أشكر لإدارة النادي السوري اختيارهم إياي للكلام في أخلاق الدكتور شبلي
شميل، فإن الكلام في الأخلاق أحب إليَّ؛ لأن أثرها في حياة الناس العملية أعظم
من أثر العلم؛ لأن العلم يبين طرق العمل، والأخلاق هي التي تبعث عليه وتهدي
إلى الغاية منه، فحُسن الأخلاق هو الذي يجعل العلم نافعًا وسوء الأخلاق قد يجعله
ضارًّا، ولذلك شبه حكماؤنا علم فاسد الأخلاق بالسيف في يد المجنون، وإننا نرى
مبلغ تأثير ضرر العلم بسوء استعماله في الحرب الأوروبية الحاضرة التي كان
الموقد لنيرانها بعض الأخلاق المذمومة من الطمع والكبر وحب العلو واستعباد
الأقوياء للضعفاء.
على أن العمل النافع لا يرتقي إلا بالعلم، وما ساد بعض الأمم على بعض إلا
بالعلم، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) وإنما
تظهر حقيقة المرء وتُعرف ترجمته ببيان علمه وأخلاقه وأعماله، وقد أحسن
النادي باختيار العلامة الدكتور صروف للكلام على علم الدكتور شميل فهو أعلم
منَّا بهذه العلوم وبمكان الرجل منها، وقد جاء بفصل الخطاب في ذلك.
كان الدكتور شميل متحليًا بعِدّة من الأخلاق الحميدة التي لا يرتقي العمران
البشري إلا بكثرة المتحلِّين بها في الأمم كالصدق واستقلال الرأي والشجاعة والثبات
والسخاء والوفاء والنجدة والمروءة والرأفة، يعرف له ذلك كل من عرفه، وكل
خلق من هذه الأخلاق له تأثير في أعمال الناس ومعاملاتهم، ولا يمكن بيان ذلك
بالتفصيل في وقت قصير محدود كوقتنا هذا وإنما أشير إلى بعض ذلك بالإيجاز
فأقول:
إن من أضر مفاسد الكذب طمس الحقائق وإبطال ثقة الناس بعضهم ببعض،
فالكذاب لا يوثَق بخبره ولا بعلمه ولا برأيه ولا يمكن أن يرتقي قوم فُقدت الثقة من
بينهم. ومن أكبر بواعث الكذب الجُبن، ولولا ما أوتي الدكتور شميل من الجرأة
والشجاعة لما أمكنه أن يكون صادقًا يقول ما يعتقد، وإن كان مما ينكره عليه
ويكرهه منه أهله وقومه والسواد الأعظم من أهل وطنه، والشاهد على هذا
تصريحه قولاً وكتابة بالآراء التي تخالف عقائد هؤلاء الذين يعيش معهم،
والمعروف أن الخوف من عاقبة قول الصدق، هو الذي يحمل الناس على الكذب،
ولذلك يكثر في عهد الاستبداد والظلم، ولكننا نرى كثيرًا من كبراء الحكام ورؤساء
الناس في بلاد كثيرة يكذبون على رعاياهم ومرؤوسيهم، فلا يتجرؤون على
التصريح لهم بما لا يرضيهم، وإن كان التصريح خيرًا لهم، وهكذا يعيش كثير من
أكابر الناس وأصاغرهم عيشة الكذب والغش والرياء والنفاق لجبنهم وضعف ملكة
الاستقلال فيهم، ولم يكن شميل مرائيًا ولا منافقًا بل كان مستقلاًّ شجاعًا يقول ما
يعتقده حقًّا وصوابًا غير هيَّاب ولا وَجِل.
وكان على جرأته وشدته في آرائه رقيق القلب سخي النفس، فكان إذا دُعي
إلى معالجة فقير يخف إليه مرتاحًا ويعالجه مجانًا، وربما اشترى له الدواء، وزاده
ثمن الغذاء، على أنه لم يكن ذا فضل من المال، وإننا نرى كثيرًا من الأغنياء
البخلاء، يحتالون على أكل أموال الناس حتى الفقراء والأدباء، ونحن أصحاب
الصحف قد جرَّبنا جميع أصناف الناس فوجدنا في كل صنف منهم (حتى علماء
الدين وكبار الحكام من قضاة وغيرهم) أناسًا يتعمدون هضم الحق فيعِدُون جابي
الصحيفة ويمطلون، حتى تمر الشهور والسنون، ولا يصدقون ولا يفون. فهل
يمكن أن ترتقي أمة إلا بزوال هؤلاء أو زوال النعمة من أيديهم؟ إن السخي لا يمنع
حق أحد؛ لأن من يعطي الناس من ماله ما ليس لهم، لا يعقل أن يمسك عنهم ما
هو لهم، وفي مثل شائع بين كثير من المسلمين: إن الذي يزكي لا يسرق.
وهنا مسألة مهمة تخفى على كثير من الناس، وهي إن أكثر مكارم الأخلاق لا
تنطبق في النفس إلا بالتربية الدينية، وتكون عرضة للفساد بالتعطيل والأفكار
المادية، فكيف اتصف الدكتور شميل بتلك الأخلاق الحسنة مع كونه كان ماديًّا
متعطلاً؟ يحتج بهذه الشبهة بعض الملاحدة على عدم الحاجة إلى الدين قائلين: إننا
نرى فلانًا وفلانًا ممن مرقوا من الدين أفضل أخلاقًا وآدابًا من المتدينين الذين نرى
من رؤسائهم وعلمائهم من فشا فيهم الكذب والطمع والدناءة والبخل والجبن والرياء
والنفاق، والجواب عن هذه الشبهة أن فاسدي الأخلاق من المنسوبين إلى الدين لم
يتربوا تربية دينية صحيحة بل لم يكن لهم حظ من الدين إلا الاسم أو تعوّد بعض
العبادات من غير فَهْم لحكمها ولا قيام بحقها، وإن أولئك المتعطلين الحسني الأخلاق
قد تربوا تربية دينية تكونت بها أخلاقهم، فقد حدثني الدكتور شميل عن نفسه أنه
كان في نشأته الأولى مبالغًا في التدين مواظبًا على العبادة، وأن فكرة التعطيل ما
طرأت عليه إلا بعد سفره إلى أوروبة، فقد لقي في فرنسة عالمًا ماديًّا قال له كلمة
هدمت عقيدته الدينية هدمًا، ولم يذكر تلك الكلمة. وأقول: إنها لم تهدم تأثير التربية
الدينية في نفسه، ولا ما ورثه من أخلاق أهل بيته، ولا عجب فقد ثبت في العلم
الحديث أن لكل نوع من المدرَكات الفكرية والوجدانية مركزًا خاصًّا في دماغ
الإنسان، وما كل فكر يأخذه المرء بالتسليم يؤثر في أخلاقه وآدابه العملية بل لا بد
في هذا التأثير من التربية العملية أو كونه عقيدة يجزم صاحبها عقلاً ووجدانًا بأن
العمل بمقتضاها سعادة، وتركها شقاوة لا تعد لها شقاوة، وفكرة الإلحاد ليست كذلك،
فهي قد كانت محصورة في مركز صغير من دماغ الدكتور شميل له صلة بلسانه
ولا سلطان له على قلبه، ولذلك كانت تظهر أحيانًا في كلامه، ولكنها لم تنزع من
نفسه ما تربى عليه في بيته من الأخلاق الدينية كالصدق والرحمة والسخاء وغير
ذلك) .
ثم ذكرت في التأبين رأي الدكتور في الإسلام وفي نبينا -عليه الصلاة
والسلام- وقرأت كتابه وأبياته في ذلك، وقد تقدم ذكرها في هذه الترجمة.
هذا ما أتذكره من كلامي في أخلاق الدكتور شميل لم أترك منه شيئًا ولكنني
زدت مسألة الشبهة الأخيرة إيضاحًا؛ لأنني رأيت بعض الناس لم يفهمها حتى قال
لي بعضهم: إن التأبين يقصد به المدح وأنت ذممت الرجل وجعلته مجنونًا، وإنما
أخذ جعلي إياه مجنونًا من قولي: إن فكرة الكفر والإلحاد قد طرأت على دماغه في
الكِبَر، وقد عبرت بكلمة المخ بدل الدماغ ففهم ذلك الرجل وغيره من ذلك ما فهموا
ولغطوا به.
ثم دعي الدكتور كحيل إلى الكلام في سيرة شميل الطيبة فقرأ خطبة طويلة
بالفرنسية بيَّن فيها ذلك. ودُعي محمد حافظ بك إبراهيم فأنشد قصيدة بليغة استعاد
الجمهور كثيرًا من أبياتها مرارًا. ودُعي أيضًا كل من أنطون جميل الأديب
المشهور وحسن أفندي الشريف وهو شاب من أبيار وأميل أفندي زيدان صاحب
الهلال فألقى كل منهما خطبة فصيحة أطرى فيها الفقيد إطراء الشاب الممتلئ إعجابًا
بآرائه وأفكاره ونشاطه وهمته، فدل ذلك على تأثير الرجل في أنفس النابتة الجديدة
ثم قام ابن أخيه رشيد بك شميل صاحب جريدة البصير فشكر للنادي السوري
وللمؤبنين عملهم، وانفضت الحفلة.
__________(19/625)
الكاتب: الخطيب الحافظ
__________
عمران بغداد في القرن الثالث
وصف دار الخلافة فيها
نشرنا في هذا الجزء أَثارة من تاريخ بغداد العلمي الديني في القرن السادس
بعد تخريب التتار لعمرانها وننشر هنا أثارة أخرى من تاريخ عمرانها قبل ذلك سَبَق
لنا نشره في (ص 285 م 13) منقولاً عن تاريخ مدينة السلام للخطيب الحافظ
قال:
حدثني أبو حسين هلال بن المحسن قال: كانت دار الخلافة التي على شاطئ
دجلة تحت نهر معلّى قديمًا للحسن بن سهل ويسمى القصر الحسني، فلما توفي
صارت لبوران بنته فاستزلها المعتضد بالله عنها فاستنظرته أيامًا في تفريغها
وتسليمها، ثم رمَّتها وعمرتها وجصصتها وبيضتها وفَرَشتها بأجلِّ الفرش وأحسنه،
وعلقت أصناف الستور على أبوابها وملأت خزائنها بكل ما يخدم الخلفاء به،
وزينت فيها من الخدم والجواري ما تدعو الحالة إليه. فلما فرغت من ذلك انتقلت
وراسلته بالانتقال، فانتقل المعتضد إلى الدار ووجد ما استكثره واستحسنه، ثم
استضاف المعتضد بالله إلى الدار مما جاورها كل ما وسعها به وكبرها وعمل عليها
سورًا جمعها به وحصَّنها، وقام المكتفي بالله بعده ببناء التاج على دجلة، وعمل
وراءه من القباب والمجالس ما تناهى في توسعته وتعليته، ووافى المقتدر بالله فؤاد
في ذلك وأوفى مما أنشأه واستحدثه، وكان الميدان والثريا وحير الوحوش (بستانها)
متصلاً بالدار، كذا ذكر لي هلال بن المحسن أن بوران سلمت المعتضد الدار إلى
المعتضد، وذلك غير صحيح؛ لأن بوران لم تعش إلى وقت المعتضد، وذكر محمد
بن أحمد بن مهدي الإسكافي في تاريخه أنها ماتت في سنة إحدى وسبعين ومئتين،
وقد بلغت ثمانين سنة ويشبه أن تكون سلمت الدار إلى المعتمد على الله والله أعلم.
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثني أبو الفتح
أحمد بن علي بن هرون المنجم قال: حدثني أبي قال: قال أبو القاسم علي بن
محمد الجواري في بعض أيام المقتدر بالله، وقد جرى حديثه وعظُم أمره وكثرت
الخدم في داره: قد اشتملت الجريدة إلى هذا الوقت على أحد عشر ألف خادم خَصيّ،
وكذا من صقلبي ورومي وأسود، وقال: هذا جنس واحد مما تضمه الدار فدع الآن
الغلمان الحجرية وهم ألوف كثيرة والحواشي من الفحول. وقال أيضًا: حدثني أبو
الفتح عن أبيه وعمه عن أبيهما أبي القاسم علي بن يحيي أنه كانت عدة كل نوبة من
الفراشين في دار المتوكل على الله أربعة آلاف فراش، قالا: فذهب علينا أن نسأله
كم نوبة كانوا؟ حدثني هلال بن المحسن قال: حدثني أبو نصر خواشاذة خازن
عَضُد الدولة قال: طفت دار الخلافة عامرها وخرابها وحرمها وما يجاورها
ويتاخمها فكان ذلك مثل مدينة شيراز. قال هلال: وسمعت هذا القول من جماعة
آخرين عارفين خبيرين.
ولقد ورد رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله ففرشت الدار بالفُرُش
الجميلة وزينت بالآلات الجليلة ورتب الحجاب وخلفاؤهم، والحواشي على طبقاتهم
على أبوابها ودهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها، ووقف الجند
صفين بالثياب الحسنة وتحت الدواب بمراكب الذهب والفضة، وبين أيديهم الجنائب
على مثل هذه الصورة، وقد أظهروا العدد الكثير والأسلحة المختلفة فكانوا من أعلى
باب الشماسية إلى قريب من دار الخلافة، وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص
الدارية والبرانية إلى حضرة الخليفة بالبزة الرائقة، والسيوف والمناطق المُحلاة
وأسواق الجانب الشرقي وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظارة [1] وقد
اكترى كل دكان وغرفة مشرفة بدراهم كثيرة، وفي دجلة الشذاءات والطيارات
والذباذب والزلالات والسمريات [2] بأفضل زينة وأحسن ترتيب وتعبئة، وسار
الرسول ومن معه من المواكب إلى أن وصلوا إلى الدار ودخل الرسول فمر به على
دار نصر القشوري الحاجب ورأى ضففًا كثيرًا ومنظرًا عظيمًا فظن أنه الخليفة
وتداخلت له هيبة وروعة حتى قيل له: إنه الحاجب، وحمل من بعد ذلك إلى الدار
التي كانت برسم الوزير وفيها مجلس أبي المحسن علي بن محمد بن الفرات يومئذ
فرأى أكثر مما رآه (عند) نصر الحاجب ولم يشك أنه الخليفة حتى قيل له: هذا
الوزير، وأجلس بين دجلة والبساتين في مجلس قد عُلقت ستوره واختيرت فروشه
ونصبت فيه الدسوت وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف، ثم استدعي بعد أن طِيف
به في الدار إلى حضرة المقتدر بالله وقد جلس أولاده من جانبيه فشاهد من الأمر ما
هاله ثم انصرف إلى دار قد أُعدت له.
حدثني الوزير أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن المسلمة قال: حدثني
أمير المؤمنين القائم بأمر الله قال: حدثني أمير المؤمنين القادر بالله قال: حدثتني
جدتي أم أبي إسحاق بن المقتدر بالله أن رسول ملك الروم لما وصل إلى تكريت أمر
أمير المؤمنين المقتدر بالله باحتباسه هناك شهرين ولما وصل إلى بغداد نزل دار
صاعد ومكث شهرين لا يؤذن له في الوصول حتى فرغ المقتدر بالله من تزيين
قصره وترتيب آلته ثم صف العسكر من دار صاعد إلى دار الخلافة، وكان عدد
الجيش مئة وستين ألف فارس وراجل، فسار الرسول بينهم إلى أن بلغ الدار، ثم
أُدخل في أزج [3] تحت الأرض فسار فيه حتى قبل بين يدي المقتدر بالله وأدى
رسالة صاحبه ثم رسم أن يطاف به في كل الدار وليس فيها من العسكر أحد ألبتة،
وإنما فيها الخدم والحُجّاب والغِلمان السودان، وكان عدد الخدم إذ ذاك سبعة آلاف
خادم منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود، وعدد الحجاب سبع مئة حاجب،
وعدد الغِلمان السودان غير الخدم أربعة آلاف غلام قد جعلوا على سطح الدار
والعلالي، وفتحت الخزائن والآلات فيها مرتبة كما فعل بخزائن العرائس، وقد
علقت الستور، ونظم جوهر الخلافة في قلابات على درج غُشيت بالديباج الأسود.
ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه منها، وكانت شجرة من
الفضة وزنها خمس مئة ألف درهم عليها أطيار مصوغة من الفضة تصفر بحركات
قد جعلتها فكان تعجّب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده. قال لي
هلال أبي الحسين بن أم شيبان الهاشمي وذكر أبو الحسين أنه نقله من خط الأمير
وأحسبه الأمير أبا محمد الحسين عيسى بن المقتدر بالله قال: كان عدد ما عُلق في
قصور أمير المؤمنين المقتدر بالله من الستور الديباج المذهبة بالطرز المذهبة الجليلة
المصورة بالجامات والفيَلة والخيل والجمال والسباع والطيور والستور الكبار
البصنائية والأرمنية والواسطية والبهنسية السواذج والمنقوشة والدبيقية المطرزة
ثمانية وثلاثين ألف، وعدد البسط والنخاخ [4] الجهرمية والدرابجردية والدورقية في
الممرات والصحون التي وطئ عليها القُواد ورُسل صاحب الروم من حد باب العامة
الجديد إلى حضرة المقتدر بالله سوى ما في المقاصد والمجالس من الأنماط الطبري
والدبيقي التي لحقها النظر دون الدوس اثنان وعشرون ألف قطعة، وأدخل رسل
صاحب الروم من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخيل، وهي
دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمس مئة فرس
عليها الجِلال الديباج بالبراقع الطِّوال، وكل فرس في يد شاكري بالبزة الجميلة، ثم
أدخلوا من هذه الدار إلى الممرات والدهاليز المتصلة بحير الوحش، وكان في هذه
الدار من أصناف الوحش التي أُخرجت إليها من الحير قطعان تقرب من الناس
وتشممهم وتأكل من أيديهم. ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج
والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار فهال الرسل أمرها، ثم
أخرجوا إلى دار فيها مئة سبع: خمسون يمنة وخمسون يسرة كل سبع منها في يد
سبَّاع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد.
ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث وهي دار بين بستانين في وسطها بركة
رصاص قلعي حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلوة، طول البركة
ثلاثون ذراعًا في عشرين ذراعًا، فيها أربع طيارات لطاف بمجالس مذهبة مزينة
بالدبيقي المطرز وأغشيتها بدبيقي مذهب، وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيه
نخل قيل: إن عدده أربع مئة نخلة وطول كل واحدة خمسة أذرع قد لبس جميعها
ساجًا منقوشًا من أصلها وإلى حد الجُمَّارة بحلق من شبه مُذهبة وجميع النخل حامل
بغرائب البسر الذي أكثره حلال لم يتغير، وفي جوانب البستان أترجّ حامل
ودستنبو ومقفع وغير ذلك.
ثم أخرجوا من هذه الدار إلى الشجرة، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة
مدورة فيها ماء صاف وللشجرة ثمانية عشر غصنًا لكل غصن منها ساحات كبيرة
عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة
فضة وبعضها مذهب، وهي تتمايل في أوقات ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما
تحرك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر، وفي جانب الدار
يَمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارسًا على خمسة عشر فرسًا قد ألبسوا الديباج
وغيره وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في الناورد خببًا
وتقريبًا وفي الجانب الأيسر مثل ذلك.
ثم أدخلوا إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيه من الفرُش والآلات ما لا
يُحصى ولا يُحصر كثرة، وفي دهاليز الفردوس عشرة آلاف جوشن مذهبة معلقة
ثم أخرجوا منه إلى ممر طوله ثلاث مئة ذراع قد علق من جانبه نحو عشر آلاف
درقة وخوذة وبيضة ودرع وزردية وجُعبة محلاة وقِسيّ، وقد أقيم نحو ألفي خادم
بيضًا وسودًا صفين يَمنة ويَسرة، ثم أخرجوا بعد أن طِيف بهم ثلاث وعشرين
قصرًا إلى الصحن التسعيني وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل والبزة الحسنة
والهيئة الرائعة وفي أيديهم الشروخ والطبرزينان والأعمدة. ثم مروا بمصاف من
عليه السواد من خلفاء الحجاب والجند والرجالة وأصاغير القواد ودخلوا دار السلام
وكانت عدة كثير من الخدم الصقالبة في سائر القصور يسقون الناس الماء المبرد
بالثلج والأشربة والفقاع ومنهم من كان يطوف مع الرسل ولطول المشي بهم جلسوا
واستراحوا في سبعة مواضع واستسقوا الماء فسقوا.
وكان أبو عمر عدي بن أحمد بن عبد الباقي الطرسوسي صاحب السلطان
ورئيس الثغور الشامية معهم في كل ذلك وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة ووصلوا
إلى المقتدر بالله وهو جالس في التاج مما يلي دجلة بعد أن لبس بالثياب الدبيقية
المطرزة بالذهب على سرير آبنوس قد فرش بالدبيقي المطرز بالذهب، وعلى
رأسه الطويل ومن يَمنة السرير تسعة عقود مثل السبح معلقة ومن يَسرته تسعة
أخرى من أفخر الجواهر وأعظمها قيمة غالبة الضوء على ضوء النهار وبين يديه
خمسة من ولده ثلاثة يمنة واثنان يَسرة. ومثل الرسول وترجمانه بين يدي المقتدر
بالله فكفر له (أي: سجد) وقال الرسول لمؤنس الخادم ونصر القشوري وكانا
يترجمان عن المقتدر لولا أني لا آمن أن يطالب صاحبكم بتقبيل البساط لقبلته،
ولكنني فعلت ما لا يطالب رسولكم بمثله؛ لأن التكفير من رسم شريعتنا، ووقفا ساعة
وكانا شابًّا وشيخًا، فالشاب الرسول المتقدم، والشيخ الترجمان وقد كان ملك الروم
عقد الأمر في الرسالة للشيخ متى حدث بالشاب حدث الموت، وناوله المقتدر بالله
من يده جواب ملك الروم، وكان ضخمًا كبيرًا فتناوله وقبَّله إعظامًا له وأُخرجَا من
باب الخاصة إلى دجلة وأُقعدا وسائر أصحابهما في شذا من الشذاوات الخاصة
وصعدا إلى حيث أنزلا فيه من الدار المعروفة بصاعد، وحمل إليهما خمسون بدرة
ورقًا في كل بدرة خمسة آلاف درهم وخلع على أبي عمر عدي الخلع السلطانية،
وحمل على فرس وركب على الظهر، وكان ذلك في سنة خمس وثلاث مئة اهـ.
__________
(1) النظارة: المتفرجون.
(2) أنواع من السفن.
(3) بيت مستطيل أخص من النفق.
(4) الصواب: الأنخاخ وهو ضرب من البسط.(19/633)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار
بحمد الله تعالى نختتم المجلد التاسع عشر جاعلين حجمه وعدد أجزائه كما بيَّنَّا
في خاتمة المجلد الذي قبله؛ لأن الورق قد قلّ وروده وزاد غلاء ثمنه حتى إن ما
كنا نشتريه قبل الحرب بمئة قد صار ثمن مثله أربعمائة أو خمسمائة.
وقد جرينا في إصدار أجزاء هذا المجلد على ترتيب الشهور الذي اضطررنا
إليه العام الماضي حتى إننا بدأنا بطبع هذا الجزء في الشهر السادس من سنة1335
إذ كان هو الشهر العاشر لسنة المجلد التي كان بدؤها شهر شعبان سنة 1334، ولكنا
اضطررنا بعد طبع أكثره إلى تأخير إصداره إلى شعبان، وكان من أسباب ذلك
وعكة عرضت لنا، وتلتها وثأة أصابت يدنا اليمنى، ومنها مرض عرض لمن
يتوقف عليه العمل في المطبعة، وأقوى الأسباب أنني لم أكن أكره مثل هذا التأخير
في هذه السنين النحسات التي حجب فيها المنار عن قرائه في بلاد كثيرة فقلَّت
الاستفادة منه وقلَّ دخله من حيث كثرت نفقته ونفقتنا، لم أكن أكره هذا ولم أكن
أتعمده، فلما عرضت الأسباب له لم أجتهد في مقاومة ما يمكن مقاومته منها، فإذا
رحم الله تعالى البشر فصرف عنهم شر هذه الحرب عن قريب وعادت المياه إلى
مجاريها، فلنا الرجاء بأن نتدارك ما فات بإصدار جزئين في كل شهر إلى أن تعود
سنة المنار إلى ما كانت عليه من غير أن تنقص مجلداته عن عدد سنيِّه القمرية،
وإذا أراد الله أن يطول أجل الحرب، فالأرجح أن نتعمد تأخير بعض الأجزاء من
المجلد العشرين إلى أن ينتهي بانتهاء سنة 1336 فيضيع بذلك مجلد من حساب السنين
القمرية، ولا تلبث مجلدات المنار أن توافق عدد سنيها الشمسية، ونحن إنما
نتقاضى اشتراك المنار عن المجلدات لا عن السنين فلا يضر المشتركين تأخر
بعض الأجزاء. على أن بدء المجلد العشرين سيكون في التاريخ الذي بدأ فيه الجلد
التاسع عشر فلا تأخير جديد.
هذا وإن ما كنا قد ادخرناه من الورق لهذا المجلد قد اضطررنا إلى استعمال
بعضه لمطبوعات أخرى (كذكرى المولد النبوي) فلم يكن كافيًا، وقد وُفقنا لابتياع
طائفة أخرى من ورق خير من ورقه لأجل المجلد العشرين تكفيه إذا صدر بحجم
هذا المجلد فلا يخشى أن يتوقف صدوره من عدم الورق، وإن انقطع الوارد عن
مصر انقطاعًا تامًّا، وليس هذا الانقطاع ببعيد؛ إذ اشتدت وطأة الحرب فقد علمنا من
أخبار أوروبة أن أعظم دول الصناعة تشكو من قلة الورق، وقد نقصت صحفها من
عدد أوراقها وقيل: إن بعضها سيحتجب أو يبطل صدروه، فما القول في بلادنا
التي تجلب كل الورق الذي تحتاج إليه من أوروبة، وقد تضاعف ثمنه هنالك
وتضاعفت أجرة نقله، وما كل ما ينقل يصل بل تُغرق الغواصات بعض السفن
التي تحمله. فعسى أن يكون علم المشتركين بهذه الأحوال باعثًا لهم على أداء قيمة
الاشتراك بلا مطل ولا تسويف.
ونذكِّر المشتركين الكرام بشيء ربما يغفل الكثيرون عنه، هو نفقة الجباة أو
وكلاء التحصيل فإن الذي كان يرضى بعشرين في المئة مما يجمعه أصبح لا
يرضى بخمسة وعشرين، وقد طاف بعض إخواننا في بعض البلاد طوفة للتحصيل
على نفقتنا فبلغت نفقته أربعين في المئة مما جمعه، ويا ليته جمع من كل مدينة أو
قرية جميع ما يطلب من مشتركيها واستغنى عن العودة إليها بقية العام. كلا إن
بعضهم لوَّى وسوَّف وطلب النظرة مع الميسرة لا إليها، فإذا كان أهل كل بلد لا
يؤدون ما عليهم إلا بعد أن يسافر إليهم الجابي مرارًا بمثل تلك النفقة أو ربما دونها
قليلاً فماذا يبقى لصاحب الصحيفة في مقابلة سائر النفقات، ثم ماذا يبقى له بعدها
في مقابلة عمله لأجل نفقته؟ فمن تأمل هذا نهاه قلبه (ضميره) أن يسوّف في أداء
ما عليه، وأن يلجئ الجابي إلى تكرار العودة إليه، وإن كان قد اعتاد الإرجاء
والتسويف.
***
الانتقاد على المنار
لم يكتب إلينا في هذه السنة انتقاد ما على شيء من مباحث المنار إلا ما كتبه
بعض إخواننا من إخبارنا بكراهة كثير من الناس لما يُكتب في المنار من الفلسفة
السياسية (كذا كتب بعضهم) وقد كلمنا غير واحد من الإخوان في ذلك مشافهة
وصرحوا بأن ما يكرهون من المنار هو طعنه في الحكومة التركية الاتحادية على
علاتها التي يصدق أخبارها السوءى بعضهم دون بعض، وتأييده للحركة العربية
الحجازية. وقد أجبت عن هذا الانتقاد بأنني كتبت في ذلك ما أعتقد أنه حق وأن
بيانه واجب عليّ لملَّتي وأمتي، وسيعلم من لا يكره أن يعلم أنني كنت ناصحًا
مخلصًا وعلى حق وصواب، وقد كنت كتبت لهذا الجزء مقالة تاريخية طويلة
للمسألة العربية بينت فيه إخلاص العرب للدولة إلى أن اضطرتهم الحكومة الاتحادية
إلى ما اضطرتهم إليه من مقاومة بغيهم، ضاق عنها هذا الجزء، وستُنشر في
الأول من المجلد العشرين -إن شاء الله تعالى-.
وانتقد بعض الإخوان والمحبين شدة العبارة التي انتقدنا بها بعض الشبان الذين
ذهبوا إلى الحجاز وأخلوا فيه بالواجبات، وفاهوا بالمنكرات قائلين: إن بعض
الناس قد أولوها بغير ما قصد بها من النصح، ثم علمنا أن ذلك التأويل كان في بلد
نحن من أشد الناس إخلاصًا له وغيرة عليه؛ إذ عد الانتقاد طعنًا في حكومة الحجاز
نفسها، واقترح علينا أن نصرح بغرضنا من ذلك النقد فنقول:
إننا لم نكن نظن أنه يخطر ببال أحد يقرأ المنار أو يعرف مشربنا في الجملة
أننا نقصد بتلك العبارة غير النصح لمن اعتادوا التهاون بأمور الدين أن يراعوا
الفرق بين البلاد المقدسة وغيرها، وأن لا يجعلوا أنفسهم حجة لأهل الحجاز -ولا
لغيرهم- على رجال النهضة الجديدة وطلاب الإصلاح للأمة العربية فتبطل الثقة
بهم، وربما يكون سببًا لسوء الظن بالحكومة العربية الجديدة إذا انتظم أولئك
المنتقدون فيها، على أن ما حكيناه عن بعضهم كان قبل تأسيس هذه الحكومة فليس في
عبارة الانتقاد ذِكر لها ولا لكون المنتقدين انتظموا في سلك خدمتها، وكلامنا صريح
في هذا لا يكاد يتبادر إلى الذهن غيره، وقد كنا نُسدي مثل هذه النصيحة لمن نراه
من أولئك الشبان قبل سفرهم ولكن يتعذر رؤية كل من يسافر لهذا الغرض فتعين
النصح بالكتابة، ونحن العرب أحوج الناس إلى الوحدة والاتفاق ونبذ الخلاف
والشقاق والاجتهاد في جعل الحكومة التي تجددت لنا في أحسن حال ممكنة، وهذا
ما نقصده من نصحنا، والله يعلم حُسن نيتنا.
ونُقل إلينا أن بعض الناس استنبط من عبارة المنار في هذا الموضوع أننا
نقول بوجوب لباس الإحرام على كل من يسافر إلى مكة ولو بقصد التجارة، وهذا
من سوء الفهم، ومعاذ الله أن نقول بذلك، وإنما يجب لباس الإحرام على من قصد
الحج أو العمرة دون غيره. ومن شأن المتدين أن يغتنم فرصة ذهابه إلى الحرم
فيحج أو يعتمر، وأسأل الله تعالى أن يوفق كلاً منا للقيام بما يجب عليه،
والإخلاص فيه، والحمد لله أولاً وآخرًا.
__________(19/638)
المجلد رقم (20)(20/)
شوال - 1335هـ
يوليو - 1917م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة العشرين للمنار
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله تعالى وأشكر له توفيقه وتأييده، حمدًا يوافي نعمه وشكرًا يكافئ
مزيده، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، ورحمته العامة المرسلة وحجته
القائمة على خلقه، محمد النبي الأمي العربي الذي بعث في الأميين؛ ليعلمهم
الكتاب والحكمة ويجعلهم الأئمة الوارثين، ويُصلح بهم فساد الأمم والشعوب
المتعلمين وغير المتعلمين، وعلى عترته آل بيته الطاهرين، وأصحابه الذين
نشروا دعوته بين العالمين، وعلى التابعين لهم في هدايتهم وهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد دخل المنار في العام العشرين، داعيًا إلى الاعتصام بحبل الله
المتين، والاهتداء بنوره المبين، والاستمساك بسنة رسوله الأمين، والسير على
منهج السلف الصالحين، مبينًا أن الخير كل الخير في اتباع مَن سلف، وأن الشر
كل الشر في ابتداع مَن خلف؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين فلا يقبل زيادة كمال،
فالزيادة فيه كالنقص منه خزي وضلال، وإنما الناقص الذي يحتاج دائمًا إلى
الإكمال والإصلاح، ما كان من أوضاع البشر عرضة للنقص والفساد، مثبتًا أن
ضعف الشعوب الإسلامية إنما جاء من عملهم بعكس هذه القضية، أعني الابتداع
في الأمور الدينية، واتباع مَن قبلهم في الأمور الدنيوية. فالأمم في ارتقاء دائم،
وهم في جمود ملازم، غلب عليهم الجهل المركب، فهم للعلم يدعون، ورُزِئوا
بالفقر المدقع، وهم في الدنيا طامعون، وخنعوا للضيم والذل، وهم معجبون
متكبرون، وخضعوا لظلم المتغلبين وهم بالمُلك والسيادة مفتونون {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: 69-70) .
خسروا أنفسهم، فخسروا كل شيء، وهل خسران النفس إلا فقْد استقلالها في
الفهم والعلم والحكم؟ ، وتقليد الآباء والأشياخ المتأخرين في جميع أمور الدنيا
والدين؟ ، فالتحقيق أنهم مقلدون حتى في الابتداع؛ لأنهم فقدوا ملكة الاستنباط
والاختراع؛ وقد ساروا بحسب الظاهر على الطريقة الثابتة بالعقل والاختبار،
وهي كون علوم المتأخرين وفنونهم أجدر بالثقة والاعتبار، سنة الله في التدريج
والارتقاء، على أنهم يعتقدون بحق أن متقدمي هذه الأمة خير من متأخريها في
جميع العلوم والأعمال؛ لأن الخلف لم يسيروا على سنة السلف في الاجتهاد
والاستقلال؛ ولو ساروا عليها لفاقوهم في كل ما هو من كسب الناس. وهم إنما
يقلدون المتأخرين؛ لأنهم لا يرون أنفسهم أهلاً لاتباع المتقدمين، إذ يزعمون أن
المتأخر أضعف من المتقدم عقلاً وفهمًا، وربما اعتقدوا أنه أقل قوة وأنحف جسمًا،
وأن هذا التفضيل منحة إلهية وهبية، لا يمكن إدراكه بالأسباب الكسبية، غافلين
عن سنة الله تعالى في سائر الأمم والأجيال، وسبق المتأخرين للمتقدمين في جميع
العلوم والأعمال، حتى أن الله تعالى سخر لمراكبهم الهواء، كما سخر لها الماء،
وسخر لها من البحار لججها وأعماقها، كما سخر لها متونها وأمواجها، بل سخر
الله تعالى لهم ما في السماوات وما في الأرض، فما كان مسخرًا لغيرهم بالقوة صار
مسخَّرًا لهم بالفعل. فما بال جماهير المسلمين لا يسمعون ولا يبصرون، ولا
ينظرون ولا يتفكرون، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
كل ما هو مسخر للبشر، وكل ما هو من كسب البشر، فهو قابل للارتقاء،
إذا لم يجمد الأبناء فيه على ما ورثوه عن الآباء. وكل ما ينفع الناس من العلوم
والفنون والأعمال، فهو مما يتناوله كسبهم وتصرفهم بمقتضى الاستعداد الخاص
والتسخير العام، إلا الدين الإلهي، والوحي السماوي، وقد أكمل الله لنا الدين، كما
ثبت بنص الكتاب المبين، فما بالنا قد ابتدعنا فيه كثيرًا من الشعائر، كمواسم الأيام
الفاضلة والموالد، وكثيرًا من العبادات التي لا أصل لها من السنة والكتاب، كأذكار
أهل الطرق وما استحدثوا من الأوراد والأحزاب، بل ما بالنا نبني المساجد على ما
نشرّف من القبور، ونوقد عليها السرج والشموع؟ ! ، ونحن نعلم أن فاعلي ذلك
ملعونون على لسان الرسول، بل ما بالنا نطوف بهذه القبور كما نطوف ببيت الله،
وندعوها مع الله أو من دون الله، ونحن نعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله -
أن هذا عبادة لها من دون الله؟ ، أنتبع في هذا عمل الآباء المتأخرين، ونحن نتلو
ويُتلى علينا قول الله تعالى في المشركين، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .
إنا لندعو الناس إلى عقيدة السلف ونحن بها موقنون، ونرشد من بَلَغَتْه
الدعوة إلى سيرتهم الدينية ونحن على طريقتها إن شاء الله مستقيمون، وإنما نورد
في باب التفسير وغيره من المنار بعض تأويلات الخلف للآيات والأخبار، وما قد
يخالف مذهبهم من الآراء العصرية، وخاصة في مقام الدفاع عن القرآن والسنة
النبوية؛ لأن الضرورة ألجأت إليها، بتوقف إقامة الحجة، أو دحض الشبهة عليها،
فإن المنار ليس خاصًّا بالمذعنين للكتاب والسنة من المؤمنين، بل يكتب لهم
ولغيرهم من المبتدعين والمنافقين والكافرين، ومنهم المنكر الجاحد، والمجادل
المعاند، ومنهم المشتبه المغرور بشبهته، والمرتاب المتردد في ريبته، وحسبنا من
الفلج أن نقنع بتأويل الخلف، من تعذر إقناعه بتفويض السلف، وأن ندحض
الشبهة برأي جديد، إذا أعيا دحضها برأي تليد، إذ يكفي في صحة الإيمان الجزم
بأن كل ما جاء به الرسول عن ربه فهو حق، وفي صحة الإذعان موافقة السلف
في مسائل الإجماع العملية وما لا يحتمل التأويل من النص، ولا حرج في دين
الفطرة فيما اقتضته الفطرة من تفاوت الأفهام، مع صحة قواعد الإيمان وإقامة
أركان الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرّ أصحابه على مثل ذلك في مسائل
الأحكام، كتارك الصلاة والمصلي بالتيمم للجنابة، والمختلفين في صلاة العصر يوم
بني قريظة [1] .
ورُب فهم جديد يؤيد دين الحق أعظم التأييد، ومن مزايا القرآن أنه لا تنتهي
عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، وأن من آياته ما يظهر في زمان دون زمان، وهل
يظهرها إلا أفهام أهل العرفان، الذين هم حجة الله في أرضه، على الجاهلين
والجاحدين من خلقه، ولن يخلوا عنهم عصر من الأعصار، وإن خلت منهم بعض
البلاد والأمصار، وكم من عالم ينتفع بعلمه الغائب البعيد، ويحرم منه القريب العتيد
{قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) .
تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشر بما
يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفِطَر، وكالصواعق المحرقة
على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون، فصبرنا
لله وبالله، ولم نكن كمَن أُوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا
بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين، فقلنا: {سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 55) ، وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًا،
أضرّ بنا ضررًا جليًا؛ إذ حُجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك
وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حَمِدَ الدعوة كل مَن عرفها من طلاب الإصلاح،
وأهل الروية والاستقلال، وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة،
فقليل من الشيوخ وكثير من الشبان - يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في
هذا الزمان، وكثير من الشيوخ والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد،
ورمي جماهير علماء العصر بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون
بأمور معيشتهم، وبمطالعة دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار
لتقريظ أو انتقاد، وعن كل ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد، وقد دخل المنار
في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام في هذا العام شاب
متخرج في الأزهر، فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سبَّ فيها صاحب
المنار وكفَّر، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر، على أن
المنار قد صرح بإثبات هذه الأبوَّة تصريحات، آخرها ما في الجزء الأول من
المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضَّل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين، ويعلم
كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومَن لا يَزَعه هديُ
القرآن، عن السب والكذب والبهتان - قد يَزَعْه عقاب السلطان؛ لهذا رفع أحد
كبار المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرْنا بذلك كاتب
المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رَحِمه وصحبه، بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه،
فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب، وتماديًا في الطعن والسب، ولكنه جنح في
المحكمة للسلم، وطلب - هو وصاحب الجريدة - من رئيسها الصلح، على أن
يعتذروا عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار
وآرائه الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أُثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك
منهما، وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما،
ولا قيمة عندي لمثل هذا الكلام، فإنه مما يقال لصاحبه: سلام، وإنما ذكرناه في
فاتحة المنار التي نشير فيها عادة إلى ما تجدَّد في تاريخ الإصلاح، تمهيدًا لذكر ما
قيل إنه ترتب على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية، لأجل البحث عن أغلاط
المنار الدينية والعلمية، وبيانها للناس وللحكومة المصرية؛ ذكرت ذلك الجريدة
التي وقفت نفسها على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه
إبطال المجلة أو إخراج صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من
حقائق العلوم الأزهرية، ما ليس عند صاحب المنار، الذي تلقى العلم في البلاد
السورية؛ ... فنقول للواهمين، ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم
من كُنه علم الأزهر ما لا تعلمون، فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا
إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة، ولكننا
كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر؛ فلهذا
ندعو قراء المنار في كل عام، إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط
والأوهام، لننشره فيه، فيطلع عليه جماهير قارئيه، وإنا لنتمنى أن تؤلَّف لجنة من
علماء الأزهر، تقرأ مجلدات المنار التسعة عشر، وتُحصي ما تراه من الأغلاط
المتفق عليها، بقدر ما يصل إليه علمها وفهمها، وأن تتحرى في ذلك ما يليق
بكرامة أهل العلم، من صحة النقل والتروي في الحكم، واجتناب الطعن والبذاء،
والسخرية والاستهزاء، وإننا نَعُدُّ ذلك إذا سمت إليه همة بعض الأزهريين - أعظم
خدمة للمنار، يُخدم بها العلم والدين، ونعِد بأن ننشر لهم ما يكتبونه فرحين
مغبوطين، مقرين إياهم على ما نراه فيه من الصواب، مبيّنين ما نراه من الخطإِ
مع التزام الآداب، وترديد عبارات الحمد والشكر، التي تبقى بقاء الدهر، ولَثَوابُ
الله خيرٌ للذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون، والذين هم على البر والتقوى
يتعاونون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
وإننا على ضعف أملنا بتحقُّق تلك الأمنية، واحتقارنا لكل ما يُكتب
بجهالة وسوء نية - لَيحزُننا أن يقوم في الأزهر بعض علمائه، ورئيس
جمعية من جمعياته، ينتقم ممن يقاضي بعض أصحابه، بافتراء الكذب
عليه [2] ، ونسبة ما ينقله عن غيرنا إليه [3] وتحريف آيات القرآن، استدلالاً بها
على ما رماه به من الكفر والفسق والعصيان [4] بذلك الكذب والبهتان،
الذي زاد فيه على ما سبقه إليه ذلك الطعان، وإننا لَنكرمُ كلاً من المنار والأزهر
بعدم ذكر اسمه، وعسى أن يثوب إلى رشده، ويتوب من إثمه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ
يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) .
__________
(1) الأول في سنن النسائي والثاني في الصحيحين.
(2) ادَّعى أن صاحب المنار قال: إن آدم عليه السلام من سُلالة القرود، وإنه ليس أبا جميع البشر - وهذا كذب وافتراء - وادعى أنه عضو في لجنة أُلِّفت لنشر كتب شميل، وهذا كذب مفترًى أيضًا.
(3) عزا إلى صاحب المنار أقوالاً في خلق الإنسان، وفي تكفير مَن يحكم على السارق بغير الحد الشرعي، وتلك الأقوال من منقول المنار، لا من أقوال صاحبه، بل مخالفة له.
(4) استدل بآيات سورة الممتحنة في النهي عن موالاة أعداء الله على ضد ما تدل عليه، وأهمل ما قيدته به السورة من كونه فيمن قاتلونا في الدين إلخ.(20/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الرقيق الأبيض والأسود
(س1) من صاحب الإمضاء في قليوب
حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد وصاحب المنار المنير؛
تحيةً وسلامًا، وبعد: أعرض على مسامع فضيلتكم المسألة الشرعية الآتية،
وأرجو نشرها في باب السؤال والجواب المفتوح في المنار المنير خدمة للشرع
الشريف، لا حرمنا الله منكم وها هي:
ما قولكم - دام فضلكم - في مسألة الرقيق الأبيض والأسود ومسألة مشتراه
في الزمن الماضي قبل مقاومة الحكومات لهذه العادة. وهل هذا البيع حرام أم حلال
شرعًا، وما الفرق في الدين الإسلامي بين العبد والحر، وما هي ميزة الحر على
العبد في الدين. وهل سواد (العبد) من الإقليم القاطن فيه أو منحة إلهية للفرق بين
الحر والعبد. وما يستحقه العبد في الميراث الشرعي إذا كان من والد حر وله إخوة
أحرار؟ وكيف كان البيع في زمن الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم
وزمن الخلفاء الراشدين وما هي حجتهم في ذلك؟
نرجو الرد على هذه الأسئلة كما عودتمونا ذلك، ولفضيلتكم الشكر سلفًا، وفي
الختام أهدي فضيلتكم أزكى تحياتي وسلامي.
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه أحمد حسين فراج
... ... ... بعيادة الدكتور محمد عبد الحميد بك الخصوصية بقليوب
(ج) الظاهر أن السائل يظن أن كل مَن كان أسود اللون فهو عبد رقيق
وكل مَن كان أبيض اللون أو قريبًا من الأبيض - كالأصفر والأسمر - فهو حر
وأن الرقيق الأبيض عبارة عما هو معروف في القطر المصري من الاتِّجار
بأعراض البنات اللواتي يحتويهن المشتغلون بهذه التجارة، وهن صغيرات
بضروب من الإغواء والحيل. والصواب أن الأصل الفطري أن يكون جميع البشر
أحرارًا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص: منذ كم تعبَّدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ! ، وإنما الرقّ أمر عارض أحدثه تحكُّم الأقوياء
في الضعفاء، فكانوا يقتلون الأسرى ثم عطفوا عليهم فاستبدلوا الاسترقاق بالقتل،
وكان عامًّا لجميع أقطار الأرض الآهلة بالبشر، وقد أقرته الشرائع القديمة كلها،
حتى صار من شئون العمران وضروريات الحياة الاجتماعية، وقد جاء الإسلام،
وهو على هذه الحال، فلم يكن من الحكمة أن يبطله دفعة واحدة، كما أبطل الربا
والفواحش والتبني؛ إذ لو أبطله لتعطَّل كثير من أمور المعايش والأعمال، فشرع
الأحكام لإزالة مفاسده كإذلال العبيد وإهانتهم وتحميلهم من العمل ما لا يطيقون،
حتى نهى الشارع أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي، وجعل العبيد إخوانًا لسادتهم،
وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون وأوجب عتقهم في الكفارات وغير الكفارات من
الأسباب المعروفة في كتب السنة والفقه، وجعل العتق - من غير سبب - قربة من
أفضل القربات، حتى أن من العتق ما يوجبه الشرع بغير اختيار المالك، ومنه أن
مَن مثَّل بعبده بقطع عضو أو تشويه - أعتق عليه، قال صلى الله عليه وسلم:
(مَن لطم مملوكَه أو ضربه فكفارته أن يعتق) رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن
عمر، وقد عمل به ابن عمر، وروياهما والترمذي عن سويد بن مقرن قال:
(كنا بني مقرن ليس لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خادم واحدة،
فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقوها، قالوا: ليس
لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)
وإنما أبقى أصل استرقاق الأسرى والسبي من الكفار في الحرب الدينية مباحًا؛
لأنه قد تقتضيه المصلحة، حتى مصلحة السبي نفسه أحيانًا. مثال ذلك أن تقتل
رجال قبيلة في الحرب ولا يبقى منهم أحد يستطيع أن يقوم بأمر النساء والذراري؛
إذ لم تكن الشعوب والقبائل في الأزمنة الماضية -ولا هي الآن كلها أيضًا - ذات دول
غنية كدول أوربة وما يشبهها في النظام الاجتماعي، فإذا أخذ الغالبون السبي في مثل
تلك الحالة وربوه على ما يوجبه الإسلام من الرفق والتكريم، وتسروا النساء حتى
صرن أمهات أولاد لهم يُعتقن بمجرد موتهم - فلا شك أن هذا قد يكون خيرًا لهم من
تركهم هائمين على وجوههم. على أن الإسلام لم يوجب ذلك، بل شرع لنا أن نمن
عليهم بإطلاقهم بلا مقابل كرمًا وإحسانًا وأن نفدي بهم أسرانا، إن كان لنا أسرى عند
قومهم، كما قال في سورة القتال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) .
وإذا عرفت أصل الرق الشرعي علمت أن ما اشتهر عن النخاسين من شرائهم
بعضَ بنات الشركس من آبائهن الفقراء لبيعهن في الآستانة وغيرها، ومن شرائهم
أو خطفهم لأولاد السودانيين أيضًا - كله باطل، فالأب لا يملك بيع أولاده. ومَن
دونه من الأقارب أوْلَى بأن لا يجوز له ذلك، والمشتري لأمثال هؤلاء لا يملكهم
شرعًا، ويجب على الحكام إبطال مثل هذا الرق قطعًا؛ لما يترتب عليه من مفاسد
التسري والتوارث وغير ذلك من الأحكام الباطلة.
وأما سواد السود من الناس فهو من تأثير الإقليم كما هو مشهور، وقد سكن
كثير من العرب - الذين يغلب عليهم اللون القمحي في البلاد الاستوائية وما يقرب
منها - فأثَّر ذلك في جلودهم؛ حتى صاروا أقرب إلى الزنوج منهم إلى البيض،
وسكن كثير منهم في البلاد الشمالية الباردة وما يقرب منها؛ فصار بياضهم كبياض
أهلها.
وأما الفرق بين الحر والعبد في الدين الإسلامي فهو أنه لا فرق بينهما في
الإيمان وتقوى الله تعالى والعمل الصالح وفضائل الدين وآدابه والجزاء عند الله
تعالى، وكم من عبد مملوك تقي خير عند الله من ألف حر، ولكن المملوك لما كان
لا يملك المال عند الجماهير ولا يملك التصرف في نفسه لتقيده بخدمة مالكه - كان
له بذلك أحكام خاصة لا يحتاج السائل إلى معرفتها كلها، فمنها ما هو تخفيف عليه،
ككونه لا تجب عليه الجمعة عند الجمهور خلافًا للظاهرية - وتصح منه إجماعًا -
ولا الجهاد ولا الحج، وإذا حج بإذن سيده أو معه صح منه ذلك وأثيب بقدر
إخلاصه وقيامه بالمناسك على وجهها ولا تجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يملك المال،
ويترتب على عدم ملكه المال أنه لا يرث ولا يورَّث، وحدّه نصف حدّ الحر،
ويترتب على عدم ملكه التصرف بنفسه أنه لا يلي الولايات العامة كالقضاء، ولا
الخاصة كالنكاح والوصاية على اليتيم، وكل مسألة من هذه المسألة وأشباهها مفصلة
في كتبها وأبوابها من كتب الفقه. وفي بعضها خلاف بين الفقهاء. وأما بيع الرقيق
فكبيع غيره مما يملك، وحسب السائل هذا البيان المختصر.
***
العوام والخواص
(س2) من الحاج عبد العزيز. ن. وفي بلد جكجاكرتا (بجاوه) .
نرجو من فضلكم أن ترشدونا في تعريف العام والخاص، هل العام مَن لم
يعرف اللغة العربية في فصاحتها وبلاغتها، والخاص مَن يعرفها؟ أو مَن هم؟
(ج) العامّ اسم فاعل من العموم وهو الإحاطة والشمول، والخاصّ اسم فاعل
من الخصوص وهو إصابة بعض الشيء أو الأفراد دون بعض. يقال: نزل المطر
فعمّ الأرض فهو عامّ أو خصّ بلد كذا فهو خاص. والسائل لا يسأل عن هذا، وإنما
يسأل عن معنى العامّيّ والخاصّيّ، واحد العامة والخاصة. فالعامّيّ هو المنسوب
إلى عامة الناس أي سوادهم الذين لا خصوصية لهم فيهم، ويقال لجماعتهم العوامّ،
والخاصّيّ المنسوب إلى خاصة الناس وهم كبراؤهم وزعماؤهم كالعلماء الأعلام
وكبار الحكام وأهل الفضل والجاه، ويقال لجماعتهم الخواص. وعلماء اللغة
العربية في جاوه يصح أن يكونوا من خواص أهلها، وأما كونهم هم الخواص
وحدهم فلا يتحقق إلا إذا كان أهل البلاد يخصونهم بالاحترام والتكريم ويفضلونهم
على سائر الناس، ويعدون مَن عداهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد ولا
كرامة.
_______________________(20/19)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة لذكرى المولد النبوي
فيها بيان تاريخ الاحتفال بالمولد وحكمه شرعًا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه
ومَن والاه.
أما بعد: فإن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، وقد
اختلف في كونها بدعة حسنة أو بدعة سيئة كما سيأتي، والمشهور أن المُحْدِث لها
هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب
الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل [1] أحدثها في أوائل القرن السابع
أو أواخر القرن السادس، فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة
سنة 586 وتوفي سنة 630.
وقد كان سخيًّا متلافًا صاحب خيرات كثيرة، وكان ينفق على الاحتفال بالمولد
ألوفًا كثيرة، ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب،
كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات، له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان
دولته، وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة، وكان
يكون في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي،
بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق. وكان الناس
يتركون كل عمل في تلك الأيام، فلا يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على
القباب.
قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم
شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفَّها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي
حتى أتى بها إلى الميدان ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان
المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد [2] عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة
ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع
- أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن
ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل. فإذا كانت صبيحة يوم المولد
أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة،
وهم متتابعون، كل منهم وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير، لا أتحقق
عدده.
ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ
والقراء والشعراء ومد السماط. وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا
الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم
وتلك النواحي، فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.
لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه؛ لأن ما يُعمل
بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل، إلا أنه دونه عظمة ونفقة، فهَهُنا تنصب
قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في
دائرة واسعة ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول، يسمعون في بعضها
وعظ الوعاظ، وذكر أرباب الطرق المعروفة. ويرأس الاحتفال شيخ مشايخ طرق
الصوفية، ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر،
يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء، ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة
الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها مَن حضر المأدبة، ويؤمها الأمراء والوزراء،
حتى إذا ما انتظم جمْعهم حضر عزيز مصر بحاشيته، وتقرأ بين يديه قصة المولد،
فيخلع على مَن يقرأها خلعة سنية، وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلّى
وصواني الحلوى الجافة. ثم ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ
الشيوخ، فيمكث فيها ساعة زمانية، يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية، ثم
ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء، ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام
المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم. وفي ضحوة ذلك اليوم
يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الصوفية، يتقدم كلَّ
طريقة شيخُها، وهم يهللون أو يتلون الأوارد، ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ
قليلاً، فيحييه، ثم ينصرف.
وقد استحسن جماهير المسلمين الاحتفال بالمولد في مشارق الأرض ومغاربها
ويجتمعون لقراءة قصته في المساجد، ومنهم مَن يجعل لها دعوة خاصة في البيوت،
وهذه لا تتقيد بجعلها في تاريخ الميلاد النبوي، ولكن أنكر هذا الاحتفال بعض
العلماء، وعدَّه بدعة مذمومة؛ لأنه عُدَّ موسمًا وشعارًا دينًا وعبادة غير مشروعة،
يظن العوام أنها مشروعة؛ ولما يقترن به من المنكرات الأخرى. وقال بعضهم: إنه
بدعة حسنة؛ لأنه عبارة عن الشكر لله تعالى على وجود خاتم أنبيائه وأفضل رسله
بإظهار السرور في مثل اليوم الذي وُلد فيه، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار،
وقد ألف الجلال السيوطي رسالة في عدِّه بدعة حسنة في جواب مَن سأل عن
حكمه شرعًا، وعرفه بقوله: هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية
الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من
الآيات، ثم يمد لهم سماط، فيأكلون، وينصرفون من غير زيادة على ذلك. وذكر
أن الحافظ ابن حجر سُئل عنه، فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن
أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن
وضدها، فمن جرد في عمله المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومَن لا
فلا.
ثم بيّن أن الحافظ خرجه على حديث الصحيحين في صيام عاشوراء شكرًا لله
تعالى على إنجائه فيه موسى نبيه، وإغراق فرعون عدوه، قال: فيُستفاد منه
الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في
نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام
والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟
وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم
عاشوراء ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، وتوسع
قوم، فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما تعلَّق بأصل عمله. وأما
ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم
ذكره من الإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل
الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن ما
كان من ذلك مباحًا بحيث يتعين للسرور بذلك اليوم - لا بأس بإلحاقه وبه وما كان
حرامًا أو مكروهًا فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى. اهـ.
وقد يقال: لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة والتابعين ولا الأئمة
المجتهدين ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد الشارع لهم بالخيرية؟ فهل كان
صاحب إربل التركماني ومَن تبعه أعلم وأهدى منهم وأعظم شكرًا لله تعالى؟ ويقال
مثل هذا في تخريج الحافظ ابن رجب إياه على تعليل صيام يوم الإثنين بأنه يوم وُلد
فيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي مزيد بيان لحجة المخالف.
وخرجه السيوطي على أصل آخر استنبطه من تخريج شيخه الحافظ، وهو ما
رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة،
(قال) : مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه والعقيقة لا تعاد مرة ثانية،
فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد
الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب
لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه الآيات
وإظهار المسرات. اهـ.
وهذا تخريج ضعيف من وجوه:
(أحدها) أن هذا الحديث منكر كما قال راويه البيهقي، بل باطل كما قال
النووي في شرح المهذب.
(ثانيًا) أنه لو صح لكان دليلاً على استحباب عقّ الإنسان عن نفسه ولم يقل
بهذا أحد.
(ثالثها) جعل قولهم: إن العقيقة لا تعاد حجة على الحديث على تقدير
صحته، مع كون عبد المطلب عقّ عنه صلى الله عليه وسلم.
(رابعها) أنه لو كان تشريعًا لعمل به الصحابة وغيرهم وقال به أئمة الفقهاء
أو مَن بلغه منهم.
(خامسها) أن يوم البعثة كان أوْلَى بهذا الشكر من يوم الولادة؛ لأن النعمة
والرحمة إنما كانت برسالته صلى الله عليه وسلم بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) .
وحجة المنكرين في هذا الباب أن كل بدعة دينية تعد من العبادات المحضة أو
تُجعل من شعائر الدين - فهي محظورة؛ لأن الله تعالى أكمل الدين وأجمعت الأمة
على أن أهل الصدر الأول أكمل الناس إيمانًا وإسلامًا، وأن كل بدعة ليست من هذا
القبيل - كالمنافع الدنيوية والوسائل التي يقوَّى بها أمر الدين والدنيا كالمدارس
والمستشفيات والملاجئ الخيرية التي يثاب صاحبها بحسن نيته فيها - فإنها تعد
بدعة حسنة، والتحقيق أن هذه لا تسمى بدعة شرعية، وإنما يطلق عليها اسم
البدعة لغةً، فلا تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث
الصحيح عند مسلم: (شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؛
لأن موضوع الحديث المحدثات في أمر الدين، ولكنها تعد من السنن الحسنة في
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها
إلى يوم القيامة) -الحديث (وهو في صحيح مسلم أيضًا) فقد رَغَّبَ أمته بهذا
الحديث في الاختراع النافع لها في دينها ودنياها، ولكن ليس لأحد أن يخترع في
الدين نفسه شيئًا.
ثم إن البدعة الدينية إما أن تكون اختراع عبادة أو شعارًا دينيًّا لا أصل لهما
وإما أن تكون تخصيصًا لعبادة مشروعة بزمان معين أو مكان معين أو هيئة معينة
لم يخصصها بها الشارع. ومن هذا النوع عَدَّ الفقهاء صلاة الرغائب في رجب
وصلاة ليلة النصف من شعبان من البدع المذمومة. قال النووي في المنهاج:
وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. وقد سمّى الشاطبي هذا النوع
بالبدع الإضافية، وسمى النوع الأول البدع الحقيقية. وأطال في بيان ذلك في كتابه
(الاعتصام) وفصله تفصيلاً.
هذا، وإن ما يعهد من الاحتفال بالمولد ليس عبادة مأثورة عن الشارع يؤتى
بها على الوجه المشروع، ولا هو عمل دنيوي محض، بل يجمعون فيه عبادات
يأتون بها أو ببعضها على وجه غير مشروع، وبين لعب ولهو، بعضه مباح
وبعضه محظور، وقد كان يكون في احتفال القاهرة خيام يرقص فيها النساء
المتهتِّكات مكشوفات الصدور والبطون، كما يحصل دائمًا في غيره من احتفالات
الموالد - كالموالد الحسيني والمولد البدوي - وما هو شر من ذلك، ولكن قد أبطل
هذا كله من الاحتفال الذي يكون في القاهرة، ولله الحمد.
وقد حاول مَن ذكرنا من العلماء تخريجه على أصل شرعي بإبطال ما يكون
فيه من اللهو والاقتصار فيه على عمل الخير، ولولا تخصيص تلك العبادة بالزمان
والمكان والصفات المخصوصة التي تشبه بها الشعائر والعبادات المشروعة وتلتبس
بها - لما احتيج في تخريجه إلى ما تكلفوه.
وأما اجتماع الناس في مثل القباب والخيام التي تنصب في العباسية، وتزين
بالمصابيح والأنوار الكهربائية، وإظهار البهجة والسرور، بذكرى مولد ذي الضياء
المعنوي والنور، وذكر إخراج الله الخلق بهديه من الظلمات، وما آتاه من الهدى
والآيات - فهو في نفسه من المباحات، المقرونة بالمستحبات والمندوبات، بشرط
أن يخلو من البدع والمنكرات، وأن لا يعد من الشعائر الدينية ولا من العبادات،
فإذا كان بحيث يظن العامة أنه مطلوب شرعًا حرم فعله قطعًا، بل كان بعض
الصحابة يتركون بعض المسنونات؛ لئلا تظن العامة أنها من الواجبات، ومن هنا
صرح الشاطبي في (الاعتصام) [3] بكون اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم عيدًا من البدع، وأفتى ابن حجر المكي بأن القيام عند ذكر ولادته صلى
الله عليه وسلم بدعة، وذكر أن الناس يفعلونه تعظيمًا وقال: (فالعوام معذورون
لذلك بخلاف الخواص) [4] وقد علل فتواه بأن القيام يوهم العامة أنه مندوب، ويزاد
عليه أن بعضهم يظن أنه واجب، وقد يعلل أيضًا بأنه يُفعل بهيئة العبادة لما يكون
من الصلاة المخصوصة المعينة بالعدد في أثنائه.
ولكن لم يأخذ أحد بهذه الفتوى، فما زال العلماء يقومون كغيرهم ولم نَرَ لهم ردًّا
للفتوى بدليل أرجح من دليلها، ولعل أكثر العوام يعتقدون وجوب هذا القيام لالتزام
العلماء وسائر الناس له، ولو فطنوا لِتَرْك أحدٍ له لعدُّوه فاسقًا متهاونًا بالدين أو كافرًا
مارقًا منه! ، ولعلك لو اقترحت على جماعة العلماء - الذين يحضرون قراءة قصة
المولد - تركه في بعض الأوقات ليعلم العامة أنه غير واجب لما تجرءوا على ذلك.
والحق أن قصد التعظيم هو الذي زين للعوام والخواص أمثال هذه البدع. فإن
من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، وإنما
التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره، ويعتز
دينه إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكًا. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم
تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذه السبيل. ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم
اللساني. ولا شك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل
تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير أو
تبديل لأجل تعظيمه به، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ فقد كان جُل ما
أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، ومازالوا يبتدعون بقصد
التعظيم وبحسن النية؛ حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم! . ولو تساهل
سلفنا الصالح كما تساهلوا وكما تساهل خلفنا الذين اتبعوا سَنَنهم شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع - لضاع أصل ديننا أيضًا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب
علينا أن نرجع إليه ونعَض عليه بالنواجذ، ويجب على العلماء أن يبينوا للناس
الإحداث والبدع محذرين منها، كما يجب عليهم أن يبينوا لهم الفرائض والسنن
مرغّبين فيها، والبيان يحصل بالقول والفعل والإقرار والترك، كما أن التشريع حصل
بذلك؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك بعض سننه لئلا تُفرض.
قال الإمام الشاطبي في الاعتصام [5] : وقد ثبت في الأصول أن العالِم في
الناس قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، فكما أن النبي
صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على
الأحكام بقوله وفعله وإقراره، واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور
المنهي عنها، فلم ينكرها العلماء أو عملوا بها فصارت تعد سننًا ومشروعات
كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد) ... إلخ. وقد أطال في هذه المسألة وبيَّن
مفاسد السكوت قبل هذه العبارة وبعدها، ولا سيما عمل (الخواص من الناس
بالبدعة عمومًا وخاصة العلماء خصوصًا) وذكر في هذا السياق أن علماء الصحابة
كانوا يتركون بعض السنن لئلا يظن الناس أنها واجبة، ومن ذلك أن أبا بكر
وعمر وابن عباس تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة [6]-
على أن بعض الفقهاء بعدهم قال بوجوبها - ونُقل عن الإمام مالك أنه قال في
الموطأ - في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان - إنه لم يَرَ أحدًا من أهل العلم
والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم
يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس
منه لو رأوا رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. اهـ.
وقد كان الإمام مالك يعرف الحديث في صيامها، وكلامه يدل على ذلك، كما
قال الشاطبي ولكنّ سد ذرائع البدع اقتضى ترك هذا المستحب، ومالك من أشد الأئمة
تشديدًا في ذلك. ومما نقله عنه الشاطبي وغيره قوله: (مَن أحدث في هذه الأمة شيئًا
لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله
يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا. اهـ[7] ، وقوله عندما
سئل عن القراءة في المساجد: (لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث،
ولم يأتِ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن) . اهـ[8] .
وجملة القول: إن خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو وجعْل ذلك
عملاً واحدًا عن باعث ديني - هو الذي يجعل مجموع تلك الأعمال من قبيل
الشعائر الدينية ويوهم العوام أن تلك العادات - وكذا العبادات المبتدعة في هيئتها
وتوقيتها وعددها - من أمور الدين المشروعة بهذه الصفة ندبًا أو وجوبًا، كما قال
الفقيه ابن حجر في مسألة القيام عند ذكر ولادته عليه أفضل الصلاة والسلام وما
يكون فيه من الصلاة المخصوصة كما قلنا.
وأما قراءة قصة المولد فهي عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة
النبوية كما قال السيوطي، ولكن كثيرًا من الناس كتبوا (موالد) حشوها بالأحاديث
الموضوعة والمنكرة وفي بعضها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق
كالتغزُّل بجماله. وكنت منذ سنين أتمنى لو يوجد بين أيدي الناس رسائل في هذا
الموضوع يتحرى فيها الصحيح المفيد، عسى أن يستبدل بها بعض ذلك الضار
السيئ التأثير، بيد أنني كنت أتحامى أن أكتب في ذلك شيئًا باسم المولد؛ لئلا
أكون محدِثًا أو مساعِدًا أو مقرًّا لما لم يفعله السلف الصالح.
ثم كان أن دعاني في غرة ربيع الأول من عام 1334 شيخ مشايخ طرق
الصوفية بمصر السيد عبد الحميد البكري [9] إلى مأدبة أعدها في داره وسماع قصة
المولد بعدها، فأجبت الدعوة، وتوسلت بها إلى تنفيذ تلك الفكرة؛ إذ كنت علمت
من أحاديث جرت بيني وبينه أنه من محبي الإصلاح للطرق الصوفية وغيرها،
وهنالك كلّمته في قصص الموالد المشهورة ووجوب تغييرها، فاستحسن ذلك، فقلت
له: أرأيت إذا كتبتُ شيئًا في هذا الموضوع أتستبدل به ما يُقرأ عندك في الاحتفال
الرسمي وغيره؟ ، قال: نعم، فانتهزت هذه الفرصة لبيان الحق في هذه المسألة
شكلاً وموضوعًا، ثم شرعت في كتابة شيء من ذلك في ساعات المساء من النهار،
فأتممته في بضعة أيام متفرقة، لم تتم أسبوعًا، وكتبت أكثره في دار البكري،
وكنت أُطْلعه على ما أكتب، فيُسرّ به، ولكنه جاء طويلاً لا يمكن أن يُقرأ في
الحفلة الرسمية كله، فاختصرنا منه نسخة قُرئت من الحفلة الرسمية، فكانت
موضع إعجاب أهل الفهم والذكاء من الوزراء والكبراء وغيرهم من أهل الروية.
ثم اطلع على ما كتبت كله بعض أهل العلم ومحبي الإصلاح فرغبوا إليَّ في
طبعه ونشره، ورأوا أنه من أحسن ما يُنشر في هذا العصر لبيان حقيقة دعوة
الإسلام وكليات الدين وخلاصة السيرة النبوية، فشرعت في طبعه وزدت فيه عند
الطبع حديث البعثة وقصة الهجرة وما تلاها من الخاتمة ومسائل أخرى في أثناء
الكلام. طبعته في المنار ثم جردته منه، وطبعته على حِدَتِه، وحذفت مما طبع في
المنار جملة وجيزة اقتبستها من (رسالة التوحيد) ، وزدت مسائل أخرى قليلة.
فكان فوق ما كنت أقدر وأتوخى في هذا المقام، الذي اعتيد فيه الاختصار، فجاء
كتابًا وجيزًا حاويًا لخلاصة الحقائق المتفرقة في أسفار التاريخ والسيرة النبوية،
وكتب التفسير والحديث والعقائد الإسلامية، مبينًا لِكُنْه الإسلام وحقيقته، وكليات
أحكامه وحكمته، بعبارة يسهل على الناس فهمها، ويتيسر لمريد الحفظ حفظها،
وحروف مضبوطة بالحركات، وأسجاع غير متكلفات، فهو جدير بأن يُقرأ في
البيوت وفي المحافل، وبأن يُلقَّن لطلاب العلوم الدينية والدنيوية في المدارس، وإذا
اكتفى سامعوه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره فُرادى ولم
يرفعوا أصواتهم بصيغة مخصوصة في أوقات معينة - لا يكون في قراءتهم ولا
سماعهم له شبهة على الابتداع الحقيقي ولا الإضافي.
طريقة اختصاره في القراءة:
هذا، وإن لمَن يقرؤه على الناس في وقت ضيق أن يختصر منه بعض
الفصول كفصل الهجرة بطوله من منتصف الصفحة 30 إلى فصل أخلاقه وسيرته
صلى الله عليه وسلم في الصفحة 36، ويمكن ترك هذا الفصل أيضًا إلى الخاتمة
في الصفحة 41، وإذا كان المقروء عليهم من العوام فللقارئ أن يحذف مما يقرأ لهم
بحث اصطفاء الله لقومه وقبيلته وآل بيته صلى الله عليه وسلم من أول الصفحة 4
إلى نهاية الصفحة 10؛ لأن هذا البحث لا يفهمه حق الفهم إلا الخواصُّ من أهل
العلم، ومازال كثير من الناس يستشكل ما ورد في الحديث الصحيح من اصطفاء
الله تعالى كنانة وقريشًا وبني هاشم، وحكمة جعل دين العلم والمدنية على لسان
نبي أمي بُعث في أمة أمية، ولم أَرَ أحدًا سبقني إلى بيان مزايا العرب التي أعدهم
الله بها لهذه المنقبة العظيمة، ولله الحمد والمنة، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي
تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15) ، وصلى الله على سيدنا محمد
خاتم النبيين، وآله وصحبه ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
وكتب هذا في 5 رمضان سنة 1335.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(1) إربِل بوزن إثمد، وضبط في المتن بفتح الباء غلطًا.
(2) هي الليلة التاسعة من ربيع الأول على المختار عند المحدثين، أو ليلة 12 منه على المشهور عند الجمهور، وكان مظفر الدين يراعي الخلاف، فيجعلها ليلة تسع في سنة، وليلة 12 في أخرى.
(3) ص34 من الجزء الأول.
(4) ص 60 الفتاوى الحديثية له.
(5) ص269، ج2.
(6) ص276، ج2 من الاعتصام.
(7) ص149 و150، ج2.
(8) ص168، ج2 من الاعتصام.
(9) بيت البكري من أشهر بيوتات مصر، ينتسبون إلى الصديق رضي الله عنه، ويلقبهم الجمهور بقلب السيد كالعلويين.(20/23)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استدراك على الحواشي
شاعر الأنصار - صاحب الأبيات المذكور بعضها في قصة الهجرة - هو أبو
قيس صرمة بن أبي أنس قد ترهّب، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وهمَّ
بالنصرانية، فلما جاء الإسلام أسلم وهو شيخ كبير، وله شعر كثير، وعاش نحوًا من
120.
__________(20/32)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ّالمسألة العربية
مقالة للتاريخ
الإسلام والجنسية العربية. إبراهيم الخليل عربي. الأُخوَّتان الدينية
والجنسية. اتفاق الإسلام والجنسية العربية. مصلحة المسلمين وغيرهم من العرب
في تجديد الدولة العربية واحدة. مصلحة المسلمين الأعاجم ورأيهم في ذلك.
استقلال لبنان لم يكن عقبة في طلب العرب للاستقلال. لم ينهض العرب للاستقلال
في عهد عبد الحميد. اتهام الخديو والإنكليز بالميل إلى استقلال العرب. حال
أمراء الجزيرة وزيدية اليمن وزعماء الولايات العربية في ذلك. الخلافة عند أهل
الزيدية وأهل السنة. السبب الحقيقي لسكون العرب وسكوتهم هو الإسلام وأوربة.
إزالة الإسلام للعصبية الجنسية. إجماع العرب على المحافظة على الدولة ويأسهم
منها. استقلال الحجاز. اتفاق الحلفاء على استقلال الشعوب، أو تفويض أمر
حكمها إليها.
إنني عربي مسلم أو مسلم عربي؛ فأنا قُرشي عَلوي، من ذرية محمد النبي
العربي، الذي ينتهي نسبه الشريف إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام،
وملته الحنيفية هي ملة جده إبراهيم، أساسها التوحيد الخالص، وإسلام الوجه لله
تعالى وحده، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) ،
اقرأ الآيات إلى قوله: { ... وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133) ، فإسلامي
مقارن في التاريخ لعربيتي، وإن من الناس مَن هو أقدم نسبًا في الإسلام، ومَن هو
أقدم نسبًا في العربية، وهم مَن عدا الإسماعيليين من متقدمي العرب ومتأخريهم.
وأما الإسماعيليون منهم فتاريخ عربيتهم وإسلامهم واحد؛ إذ كان أول أب لهم
في العرب مسلمًا، وقد يقال: إن إسلامهم أقدم إذا كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم غير
معدود من العرب على ما هو المشهور في كتب التاريخ من أن أول العرب
المستعربة إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكأنهم عدّوه كذلك؛ لأنه وُلد في بلاد
العرب، ونشأ فيهم فلم يكن له لسان غير اللسان العربي. ولكن التاريخ يثبت لنا
أن أباه إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللغة العربية، كما يؤخذ من التاريخ
العربي والتاريخ المستنبَط من الآثار القديمة، أما مأخذ ذلك من التاريخ العربي فهو
أنه أقام في بلاد العرب زمنًا، أقام فيه الدين وبنى البيت العتيق الذي هو أقدم بيت
وُضع لعبادة الله وحده في الأرض، فمن البديهي أنه كان يعلِّمهم الدين بلسانهم،
ويخاطبهم به، وأما مأخذ ذلك من الآثار القديمة المكتشفة في هذا العصر موضحة
للتاريخ القديم، فهي أن علماء الآثار بينوا لنا أن مدينة الكلدان كانت عربية،وأن
حمورابي الذي كان ملكهم وصاحب شريعتهم في عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم
كان عربيًّا، وقد اكتشفت شريعته في بلاد العراق منقوشة على عمود من
الحجر الأصم، فكانت باللغة العربية لذلك الزمان. وقد جاء في سفر التكوين - أول
أسفار العهد القديم عند أهل الكتاب - أن حمورابي هذا كان في زمن إبراهيم، وأنه
كان يُدعى ملك السلام وكاهن الله العلي، وأنه بارك إبراهيم، وأن إبراهيم أعطاه
عشرًا من كل شيء (راجع: تك 14: 18) .
قلت: إنني عربي مسلم. فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من
العرب وغير العرب، وأخ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير
المسلمين. أما دليل الأخوة الدينية فقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وأما دليل الأخوة الجنسية فالآيات المتعددة في سورة
الأعراف والشعراء المصرحة بكون الأنبياء المرسلين إخوة لأقوامهم
المشركين. ولما كان شعيب عليه السلام قد أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى
أصحاب الأيكة من غير قومه - اختلف التعبير عنه، فقد قال تعالى في سورة
الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85) ، أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب شعيبًا ... إلخ.
وقال في سورة الشعراء {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ
تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 176-178) ولم يقل أخوهم شعيب،
كما قال في عاد {أَخُوهُمْ هُود} (الشعراء: 124) وفي ثمود {أَخُوهُمْ
صَالِحٌ} (الشعراء: 142) - مثلاً - لأنه لم يكن من جنسهم.
وإنني أحمد الله عز وجل أن جعل مصلحة العرب السياسية في عصرنا
موافقة لمصلحة المسلمين السياسية، كما أبينه في هذه المقالة، ولو تعارضتا لقدمت
ما يوجبه عليَّ ديني، على ما تقتضيه مصلحة أبناء جنسي؛ لأنني أرجو بديني
سعادة الدنيا والآخرة، وأنا موقن بذلك، ولا أرجو بخدمة جنسي وحده إلا الدنيا
وحدها، وما أنا على يقين من إدراكها، على أنني راضٍ بما آتاني الله منها، أما
وقد اتحدتا فخدمة جنسي خدمة لديني، ينفعني في الآخرة إن لم ينفعني في الدنيا،
وأنا مؤمن بهذا، وإن كان يخفى على كثير من إخواني المسلمين.
* * *
(مصلحة العرب والمسلمين في الدولة العربية)
إنما مصلحة العرب السياسية أن يكون لهم دولة مستقلة، وهذا أمر بديهي لا
يختلف فيه عاقلان، فالعرب أمة من أقدم أمم الأرض وأعرقها في الاستقلال، ذات
مجد عظيم، ومدنية عالية في التاريخ القديم والحديث، ولغة ممتازة في لغات العلم
والأدب، وشريعة هي أعدل الشرائع المنزلة للبشر، وقد ضعفت هذه الأمة الكريمة،
وضعفت مزاياها ولغتها، وأُهمل معظم شريعتها، وكادت تفنى بفنائها، كل ذلك
لعدم وجود دولة مستقلة لها؛ إذ يستحيل أن ترتقي أمة بغير دولة.
إن السواد الأعظم من العرب يَدينون دين الإسلام واللغة العربية هي لغة هذا
الدين، فلا تصح لمسلم عبادة بغير هذه اللغة، فبالدولة العربية تحيا لغة القرآن،
وتحيا بحياتها شريعة الإسلام. فمن البديهي إذًا أن يكون الخير كل الخير للمسلمين
في هذه الدولة إذا وُجدت، وإن عقلاء المسلمين من غير العرب يعلمون هذا،
ولكنهم يرونه الآن متعذرًا أو متعسرًا، ويخشون كما كان يخشى مسلمو العرب أن
يكون السعي له مفضيًا إلى إضعاف الدولة العثمانية التي لم يبق للمسلمين دولة
غيرها، فيكون مثل الساعين كمثل مَن له دار تكنه، فهدمها ليبني خيرًا منها،
فعجز عن البناء وأمسى في العراء معرضًا لما يجني على حياته! ، ولكن جمعية
الأغرار المغرورين (جمعية الاتحاد والترقي) ما زالت تهدم من آمال العرب في
بقاء الدولة، وفي كون بقائها خيرًا للإسلام والمسلمين، حتى دعتهم بل دعَّتهم [1]
إلى طلب الإصلاح في الجملة، ثم إلى طلب اللامركزية، ثم إلى استقلال الحجاز،
ولا يعلم غير الله ما تكون عاقبة ذلك؛ لأن العالم كله في طور تغيُّر وانقلاب
مجهول، ولكن المعلوم قطعًا أن ما حصل في بلاد العرب هو نتيجة طبيعية لسيرة
الاتحاديين، لم يكن في استطاعة أحد دفعه كما يعلم مما يأتي.
وأما غير المسلمين من العرب فهم الآن كالمسلمين ليس لهم دولة؛ ولأن
يكون لأبناء جنسهم دولة خير لهم من أن يكونوا تابعين لدولة أعجمية، لا
يشاركونها في النسب ولا في اللغة ولا في العادات والتقاليد ولا في الوطن
الجغرافي [2] ولا في الدين، ولا لدولة أعجمية، يشاركها بعضهم في الدين والمذهب
أو في الدين دون المذهب دون سائر مقومات الأمم ومشخصاتها، وهم يعلمون أن
الدين أو المذهب لا يحملها على جعْلهم مساوين لأبناء جنسها ووطنها، وإن كانوا
من غير أبناء دينها ومذهبها، ولا يضرهم أن تكون العربية في هذه الدولة الأغلبية
للمسلمين من أبناء جنسهم، فإن أفراد البشر وجمعياتهم يتآلفون ويتعاونون على
مصالحهم بكثرة ما يشتركون فيه من مقومات الأمم ومشخصاتها، وما يشترك فيه
المسلمون وغيرهم من العرب من المقومات والمشخصات كاللغة والعادات والآداب
والمصالح والمرافق الوطنية أكثر مما يشترك فيه غير المسلمين من العرب مع
الإفرنج الموافقين لهم في الدين، بله الترك المخالفين لهم حتى في الدين، ودين
الإسلام دين مساواة في الحقوق وحرية تامة في العقائد. وقد ارتقى غير المسلمين في
أرقى دول العرب الإسلامية مدنية إلى أعلى المناصب، حتى كان وزراؤهم
وأطباؤهم يزاحمون الخلفاء العباسيين بالمناكب، وإذا كان لغير المسلمين أغلبية في
بقعة من البلاد العربية كجبل لبنان - فإنه يمكنهم أن يكونوا مستقلين مع ارتباطهم
واتحادهم بالمملكة العربية فيها استقلالاً إداريًّا واسعًا خيرًا من الاستقلال الذي نالوه
منذ نصف قرن.
لو نهض زعماء العرب إلى السعي للاستقلال لما تعذر عليهم إرضاء
اللبنانيين منهم بذلك، وإزالة جميع ما في البلاد من أسباب الخلاف. ولو تعذر
عليهم إرضاء اللبنانيين في أوائل العهد بالسعي لَما كان ذلك موجبًا لتركه واليأس
منه. ولا أطيل في بيان هذا وكشف غواشي الأوهام عنه؛ لأنه يخرج بي عن
المقصد من هذا المقال، وأكتفي منه بتذكير الملمّ بتاريخ سورية الحديث بتلك
الحركة العربية التي حدثت في سورية أيام كان مدحت باشا زعيم الترك الأكبر واليًا
عليها؛ فإنهم يتذكرون أن اللبنانيين كانوا في طليعة العاملين، وبرهاننا على هذا
قصيدتا اليازجي البائية والسينية.
لأجل هذا كان سكون العرب العثمانيين وسكوتهم في الأجيال الأخيرة - التي
تحركت فيها عصبيات الأجناس وهبت لطلب الاستقلال - مثارًا لعجب مَن لم
يعرف سبب ذلك السكون من العقلاء.
* * *
(اتهام الترك للعرب)
كان الترك يتهمون العرب بالميل إلى الاستقلال دونهم والسعي لذلك، وأنه لا
يمنعهم منه إلا ضعفهم وعجزهم أمام قوة الترك. وقد ذكرت في مقالات (العرب
والترك) التي كتبتها في الآستانة ونشرتها في جرائدها ثم في المنار أنني لا أعرف
لهذه التهمة أصلاً إلا ما كان من افتراء جواسيس السلطان عبد الحميد وطلاب
المنافع عنده أو استغلال أوهامه، بل أقول: إن هذه التهمة لم تكن معقولة في عهد
السلطان عبد الحميد؛ لأن النهوض بأمر الاستقلال إما أن يكون من جانب الأمة بما
تتوسل به إليه من الجمعيات السياسية والعصابات المسلحة، ولم تتصدَّ الأمة
العربية لذلك ألبتة، وإما أن يكون من جانب الأمراء المستقلين بالإدارة في بعض
الأقطار أو من دونهم من الزعماء أصحاب العصبية، ولم نعلم أن أحدًا من أمراء
جزيرة العرب أو من الزعماء في الولايات العربية العثمانية - كان مظنة أو موضعًا
لهذه التهمة؛ إذ لا توجد شبهة يُعتمد عليها في ذلك. إلا أن المفسدين كانوا يتهمون
خديو مصر عباس حلمي باشا بذلك، فكان يُسمع لهم؛ لأن مصر بلاد عربية غنية
بالمال والرجال، وقد تصدى رأس حكومتها الأخيرة محمد علي باشا لحرب الدولة
العثمانية، فقهرها واستولى على سورية والحجاز وتوغل في الأناضول ولولا الدولة
الإنكليزية لاستولى على سائر مملكتها، ولكن عباس حلمي باشا لم يكن ليطمع بمثل
ما طمع به جده الأعلى، بل ولا بمثل ما كان يطمع به جده الأدنى (إسماعيل باشا)
من الاستقلال السياسي بمصر والسودان فقط لمكان الاحتلال الإنكليزي، الذي
جعل السلطة الفعلية في مصر بيد إنكلترة دونه؛ ولهذا كان الموسوسون والجواسيس
يزعمون أنه على اتفاق مع الإنكليز في هذا الأمر، وكان كثير من المصريين
وغيرهم يصدق ذلك، ومنهم من لم يرجع عن هذا التصديق إلا بعد نشر كتاب
(عباس حلمي الثاني) للورد كرومر؛ إذ صرح فيه بأن حياة عباس مع الاحتلال
كانت حياة خلاف وشقاق لا يُرجى معه اتفاق.
إن المطلعين على الحقائق يعلمون علم اليقين أن عباس حلمي باشا ما كان
يسعى لهذا الأمر ولا يرجوه، على أنه كان يعلم أنه لا سبيل له إليه لو تصدى له،
ويعلمون أن من سياسة إنكلترة التقليدية بقاء ما للترك من السلطان والسيادة على
بلاد العرب، وترجيح ذلك على تأسيس دولة عربية جديدة، وهي لم تجنح إلى
سياسة العطف على العرب وإظهار الميل لمساعدتهم على الاستقلال إلا بعد وقوع
الحرب بينها وبين الترك بمدة طويلة.
أما أمراء جزيرة العرب فقد كان كل منهم راضيًا بحاله ولم يكن يخطر ببال
أحد منهم أن يعتدي على الدولة فيما وراء حدود إمارته ولا أن يسعى لذلك بالاتحاد
مع غيره، كما أنه لم يكن يسهل على أحد منهم أن تعتدي الدولة على استقلاله أو
تُحْدث في بلاده حدثًا ما لِما استقر في أنفسهم من غريزة الاستقلال الموروثة في
الأمة العربية، مع عدم ثقة أحد منهم بأن الدولة تقيم شرع الله في بلادهم، على أن
للزيدية دولة أقدم من الدولة العثمانية مازالت تُنَصِّب الأئمة من قريش عليها
ويعتقدون أن الترك من البغاة الخوارج على الإمام الحق، وأهون اعتقاد سائر
عرب الجزيرة في حكام الترك - أنهم ظلمة فسقة مبغضون للعرب، ولكنهم مع ذلك
يحبون بقاء الدولة ويتمنون لها القوة والعظمة لأجل صد الإفرنج عن البلاد
الإسلامية. وقد كان رجال الدولة في العهد الأخير يعتقدون أن الشيخ مبارك الصباح
من أشد العرب عداوة للدولة، ولكنني لما لقيته سنة 1330 منصرفي من الهند
أخبرني بما لقيه من عدوان الدولة عليه، وتصديقها لنفيه من الكويت، وأن إنكلترة
منعتها من ذلك بدون طلب منه، وأنه مع ذلك محافظ على نسبته إليها ورافع لعلمها
باختياره، ولو شاء لاستبدل به غيره، ومن كلامه في الترك والعرب: (نحبهم ولا
يحبوننا) .
وأما كبراء العرب في ولايات سورية والعراق من العلماء والوجهاء فقد
كانوا أشد تعصبًا للترك من الترك أنفسهم، حتى كانوا يفضلونهم على العرب
ويسترون ما يعرفون من سيئاتهم، ويكبّرون الصغير من حسناتهم، بل يذكرون لهم
فضائل ومناقب لا يُعرف لها أصل، منها أنهم يعدون بعض ملوكهم من الأولياء،
ومؤرخو الترك يعدونهم من الفساق! . ومما كانوا يذيعونه بين العامة أن الشيخ
محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي قد علما بالكشف أن ملكهم
يبقى إلى قيام الساعة!
تلك حال كبراء البلاد وخاصتها والعامة تبع لهم، لم يُسمع لأحد منهم نبأة
ظاهرة ولا دعوة خفية إلى عداوة الترك أو القيام عليهم أو الاستعداد لتأسيس حكومة
عربية تستقل في البلاد، اللهم إلا ما كان قد قيل من أن شيعة الماسون كانت تسعى
لجعل الأمير عبد القادر خديويًا لسورية، وما قيل في عهد ولاية مدحت باشا على
سورية من أنه كان هو الذي يسعى لجمع كلمة المسلمين وغيرهم للاتفاق على
تأسيس إمارة عربية في سورية كالإمارة المصرية يكون هو الخديو عليها، ومن أن
رستم باشا متصرف لبنان الأجنبي الأصل كان هو الذي كشف للدولة دسيسة شيخ
أحرار الترك وزعيمهم الأكبر، وترتب على ذلك إخراج السلطان عبد الحميد
لمدحت باشا من سورية، وقيل إن تلك الحركة كانت مدبرة بدسائس الآستانة
ليتوسل السلطان بها إلى نفي مدحت باشا، ثم الفتك به. وفي تلك الأثناء نُشرت
قصيدتا الشيخ إبراهيم اليازجي السينية والبائية (راجع ص831، م12) .
ولما كنت أنشر في الآستانة مقالات (العرب والترك) وأشرت فيها إلى هذه
المسألة جرى بيني وبين الصدر الأعظم حسين حلمي باشا حديث في هذا الموضوع،
قال لي في أثنائه: إنه أقام في سورية عدة سنين أيقن في أثنائها بأنه لا يوجد فيها
أحد من وجهاء المسلمين يكره الدولة إلا بعض الأفراد من بيت المؤيد ومن بيت
الصلح، وسائر الوجهاء مخلصون للدولة كغيرهم. ولا أدري مَن عنى بقوله ذاك.
ولم أعلم عن أحد من المعاصرين لنا من أهل هذين البيتين شيئًا يبين المراد لنا من
قوله، إلا أن أحد أفراد البيت الأول كان قد جاء مصر في أوائل عهد مجيئي إليها،
وأسس جمعية دينية يشترط في أعضائها ترك المحرمات والمحافظة على أداء
الفرائض وقد ساعدته على ذلك ولم أكن أسمع منه كلمة تُشعر بأن له غرضًا سياسيًّا
منها وقد أفادت الجمعية فائدة دينية ظاهرة، ثم انشق عنها عضو مصري تركي
الأصل زاعمًا أن للمؤسس غرضًا سياسيًّا منها، وتبعه على هذا جماعة من
أعضائها في القاهرة صاروا يلغطون بذلك. ثم إن المؤسس سافر إلى الآستانة ثم
عاد إلى سورية وأقام فيها. ولو صدّق السلطانُ عبد الحميد أنه كان يسعى إلى ذلك
الغرض السياسي لما أفلت من قبضة انتقامه. وإنما اتهمه بعض الناس بأنه تعمد
إلقاء كلام لأولئك اللاغطين ليشتهر ويوصله الجواسيس إلى السلطان.
هذا كل ما نعلم عن سورية في هذا الأمر. وأما العراق فقد قيل: إن السيد
سلمان القادري نقيب بغداد كان يسعى إلى تأسيس حكومة عربية، وإن طلب السلطان
عبد الحميد في الآستانة قتلاً بالسم كعادة الملوك لم يطعم في القصر السلطاني ولا عند
أحد في الآستانة شربة ماء ولا فنجان قوة ولا غير ذلك، وكان يعتذر بأنه مريض لا
يذوق شيئًا إلا بأمر طبيبه الخاص، ولكن اشتهر أن السلطان أكرم مثواه وقلده نوطًا
ذهبيًا كتب عليه (شيخنا سلمان) وأعاده إلى بغداد عزيزًا كريمًا، ومما
كان يقال في ذلك الوقت أن للسيد سلمان أعداء، سعوا به إلى السلطان؛ وسمعت
والدي رحمه الله تعالى يقول: كان السيد سلمان ذا نفوذ عظيم في قبائل العراق وكان
يوجد مئة ألف مسلح بالمرتين منهم طوع أمره، وأنه بلغه أن سبب نجاته من
فتك السلطان عبد الحميد أن بعض العقلاء من كبراء الآستانة قالوا أن من مصلحة
المسلمين أن يدخر مثل هذا الزعيم لأنه قد يحتاج إليه إذا طرأ على الدولة ما تخشى
عاقبته على بلاد العراق أو ما هو أعظم من ذلك، فلهذه الفكرة أقنعوا السلطان
بوجوب تكريمه (أو تلطيفه كما يقولون) وإعادته إلى بلاده. ولا أدري من أين
وصل إلى والدي هذا الخبر وكنت إذ سمعته منه صغيرًا لا أحفل بالبحث عن أمثال
هذه المسائل.
* * *
(تعاون جمعيات الترك والعرب)
هذا ما يصح أن يذكر من تاريخ هذه المسألة ولا نعلم وراءه شيئًا إلا ما كان
يكتبه في بعض الجرائد والمنشورات، من يقصدون استغلال وسوسة السلطان عبد
الحميد كما تقدم. ولكن أهل الرأي وحملة الأقلام من العرب لم يقصروا في التعاون
مع أمثالهم من الترك على السعي لإصلاح حال الدولة والقضاء على الاستبداد
الحميدي، فلما أسس شبان الترك جمعية الاتحاد والترقي ونشروها في الولايات
دخل فيها كثيرون من شبان العرب وكانت شعبها في سورية أعظم منها في غيرها،
وأسس بعض العرب جمعية أخرى كجمعية الاتحاد بعد ضعف شأن هذه في مصر
وسورية وهي جمعية الشورى العثمانية وأدخلوا في لجنتها المركزية أشهر رجال
الاتحاديين الذين كانوا في مصر وغيرهم من العثمانيين. فكان هَمّ طلاب الإصلاح
من العرب في عهد عبد الحميد هو همّ طلاب الإصلاح من الترك وكانوا يشتغلون
متعاونين والمواصلات بين جمعياتهم لا تنقطع ولا سيما جمعية الاتحاد والترقي في
أوربة وجميعة الشورى العثمانية بمصر، ظلوا على ذلك إلى أن ظفروا بإعادة
الدستور فظن العرب كما ظن غيرهم من الأجناس الذين تتألف منهم المملكة
العثمانية أنهم فازوا بما جاهدوا في سبيله إلى أن قلب لهم المتغلبون على جمعية
الاتحاد - وعلى الدولة - ظَهْر المِجَن، وأوقعوهم في هوة اليأس من
الدولة.
* * *
(السبب الصحيح)
تبين مما شرحناه من الحقائق أن عدم تصدي العرب لإنشاء دولة جديدة لم
يكن سببه الخوف من قوة الدولة كما كان يتوهم الترك؛ فإن العرب أقوى من
اليونان والبلغار وغيرهما من الشعوب التي انفصلت من السلطنة العثمانية،
وصارت دولاً مستقلة، ولم يكن سببه تفرق العرب وتعذر اتفاق أمرائهم وزعمائهم
كما يتوهم الكثيرون منهم ومن غيرهم، فلو وجد هذا القصد لكان هو الجامع لهم،
ولا الجهل الضارب بجرانه في البلاد العربية؛ فإن محمد علي الكبير لما غزا
الدولة وكاد يفتحها كلها لم يكن من علماء السياسة والاجتماع، ولم يكن الشعب
المصري على درجة عالية من العلوم والفنون التي تدفع الشعوب إلى الفتح
والاستعمار.
وإنما كان السبب الصحيح لسكون العرب وسكوتهم عن طلب استقلالهم
وتجديد دولة لهم هو الإسلام وأوربة.
دين الإسلام وسياسة دول أوروبة سببان مستقلان أو سبب واحد مركب،
لكل من جزئيه تأثير خاص في صرف العرب العثمانيين عن السعي للاستقلال،
ولعله لو انفرد أي منهما لما صرفهم كلهم عن كل سعي واستعداد لذلك.
أما الإسلام فقد أزال من أنفس العرب عصبية الجنسية إلا مَن غلبت عليهم
البداوة فإنهم بما توارثوه من الغرائز والأخلاق - لا يخضعون إلا لسلطة رؤسائهم
الذين من أبناء جنسهم، بل من رؤساء عشائرهم. وأما من غلبت عليهم الحضارة
فما زالوا يألفون سلطة الأعاجم من الملوك والسلاطين الذين يتولون أمرهم من قِبَل
الخلفاء العباسيين، ويحكمون بشريعتهم، ويؤيدون لغتهم، ويتركون لغاتهم إليها،
إلى أن هان عليهم الخضوع لسلطة الأعاجم المصرّين على أعجميتهم، الذين لا
يستمدون سلطتهم من خليفة قرشي عربي وهم الترك، بل هان عليهم ادعاء هؤلاء
الأعاجم للخلافة النبوية ورضوا بذلك واطمأنوا له؛ لأنه مع إشرافه على مجموعهم
المتفرق من شاهق القوة العسكرية - قد أطل على قلوبهم من سماء الفتاوى الشرعية،
وتسرب إلى أفكارهم من باب المصلحة الإسلامية؛ ذلك بأن أكثرهم من المنتمين
إلى مذاهب علماء السنة، الذين يوجبون طاعة المتغلب بالقوة، وإن لم يكن حائزًا
لغير الإسلام من شروط الخلافة الشرعية، ومنها النسب القرشي بإجماعهم،
ومستندهم في ذلك رعاية المصلحة الراجحة، وخوف الفتنة. على أنهم مختلفون
في عدّ رعاية المصلحة حجة، أو داخلة فيما ذكروه للقياس من مسالك العلة،
ومختلفون في سد الذرائع أيضًا. ولما كانت الزيدية لا تقول بطاعة المتغلبين، ولا
بمصلحة تبيح ترك اشتراط النسب القرشي العلوي وشرط العلم الديني في أئمة
المسلمين (أي الخلفاء) لم يخضعوا لسلطان الترك، ولا دانوا لحكمهم، بل ظلوا
ينصّبون الأئمة الحائزين للشروط الشرعية في مذهبهم، ويقاتلون الترك الذين
يتصدون لفتح بلادهم، ولم تستطع الترك أن تغلب أئمة اليمن على أمرهم، بل
صالحوا إمامهم الإمام يحيى منذ سنين قليلة، وأقروه على إمامته في قومه ووطنه
بعد أن حاربوه، وحاربوا سلفه أربع مائة سنة، على أن الإمامة لا تتجزأ ولا تتعدد
والحق أن الباعث الأخير لاعتراف أكثر المسلمين بخلافة سلاطين الترك - هو
كوْنهم أمسوا حصنًا لبقية البلاد الإسلامية في وجه أوربة.
وليس من غرضنا هنا أن نبحث في الخلافة وشروطها، وإنما بحْثنا هذا
تاريخي إذا ذكرت فيه مسألة شرعية، فإنما تُذكر على سبيل الاستطراد مختصرة
بقدر الضرورة، ولم تكن مسألة الخلافة من مواضع بحث طلاب الإصلاح من
العرب في السنين الأخيرة خلافًا لأوهام الواهمين التي أثارها في مخيلاتهم لغط
بعض الكُتاب بها في عهد السلطان عبد الحميد لأجل استغلال وساوسه كما تقدم،
حتى صارت حكومته تمنع نشر كل كتاب من كتب الكلام والعقائد والحديث
والتفسير تذكر فيه هذه المسألة. ومن أثر ذلك أنه لما طبع كتاب المسايرة لكمال بن
الهمام، وهو من أهم كتب العقائد عند الحنفية وكثير الرواج في الآستانة، اضطر
طابعه بمصر أن يطبع منه نسخًا، حذف منها بحث الإمامة (الخلافة) لأجل بيعها
في الآستانة وسائر البلاد العثمانية. وصار بعض الجاهلين في مصر يظن أن ذكر
الشروط الشرعية للخلافة - ولا سيما شرط النسب القرشي - لا يصدر إلا من عدو
للدولة وللإسلام أيضًا. على أن هذا الشرط مذكور في الكتب العربية والتركية التي
طُبعت في الآستانة قبل تشديد الحكومة الحميدية في مراقبة المطبوعات وقد ذكر في
بعض الكتب العصرية التي طبعت بعد الدستور، ومنها كتاب لإسماعيل حقي بك
بابان الاتحادي الذي كان مدرسًا في مكتب الحقوق، وصار ناظرًا للمعارف.
* * *
(تكوين الترك للعصبية العربية)
فهذا وجه صدّ الإسلام للعرب عن محاولة الاستقلال دون الترك، وقد قلت
مرارًا: إنه لا يقدر أحد على إعادة هذه العصبية إلى العرب أو إعادتهم إليها بعد أن
أبعدهم الإسلام عنها - إلا الآستانة، أو تحامل الترك عليهم بباعث العصبية
التركية [3] . وقد صدق الزمان هذا القول وأسس الاتحاديون - بعصبيتهم التركية
واضطهادهم للعرب - بناء العصبية العربية أو أحيوها بعد موتها. فإن هؤلاء
الاتحاديين قد تمرسوا برجالات العرب وشبانهم في الآستانة وغيرها، فعلموا من
أقوالهم وأفعالهم في دُور الحكومة الرسمية ومدارسها وأندية الجمعية في البلاد
العربية أن عزمهم على تتريك العرب كغيرهم بالقوة عزم ثابت لا يرجعون عنه،
وأنهم جازمون بسهولة تتريك بلاد سورية والعراق في سنين معدودة، وما يعسر
تتريكه الآن من جزيرة العرب يعد من المستعمرات، يوضع له قانون خاص
لإدارته، ولا يكون لأهله ما لسائر العثمانيين من الحقوق المنصوصة في القانون
الأساسي. وقد أرسلوا طائفة من طلبة الترك إلى أوربة لأجل درس قوانين
الاستعمار.
بهذا علم نبهاء العرب أن أمتهم ولغتهم عرضة للزوال من المملكة العثمانية -
ولا يجهل أحد أن الدين الإسلامي يقوى بقوة لغته العربية ويضعف بضعفها ولا
نقول أكثر من ذلك - فتوجهت قلوب كثير منهم لتدارك الخطب وألفوا بعض
الجمعيات لذلك ورأى الذين يتحرون هدي الإسلام في أعمالهم أن ما كان مانعًا من
إحياء الجنسية العربية قد زال وخلفه المقتضي لإحيائها، فقد كان المانع من ذلك
اتقاء الشقاق بين العرب والترك وإفضاء ذلك إلى زوال الدولة واستيلاء الأجانب
على بلادها، وقد وقع ذلك من قِبَل الاتحاديين أي من قبل الدولة نفسها؛ لأنها في
قبضتهم فلا معنى لاتقائه وقد حصل، وخلفه المقتضي لإحياء هذه الجنسية، وهو
وجوب المحافظة على اللغة العربية والأمة العربية شرعًا. ولكن هذا قد يحصل بما
دون استقلال العرب بأنفسهم دون الترك، وإن كان حصولاً ضعيفًا، فلم يكن باعثًا
على السعي إلى تأليف دولة عربية بل إلى طلب إصلاح اضطرب في تحديده
أفرادُهم وجماعاتهم وكان حزب اللامركزية أقصدها وأشدها اعتدالاً.
وما كان يخفى على أحد من هؤلاء أن مطالبهم معلقة بين الرجاء واليأس،
وأن الحياة إنما هي حياة الاستقلال، لا تحيا اللغة ولا ترتقي الأمم بدونها، ولكن
دونها خَرْط القتاد؛ إذ لا تحصل إلا بثورة يصطدم بها الترك والعرب اصطدامًا
يُخشى أن يُضعف الفريقين، وينتهي بزوال الدولة واقتسام أوربة لبلادهما. ومن ذا
الذي يُقدم على حمل هذه التبعة الثقيلة التي تئطُّ من حملها الجبال الرواسي؟
أيجهل أحد من طلاب الإصلاح العرب أن هدم آخر سلطنة إسلامية - مهما يكن
سببه الحامل عليه - لا يعقب الساعي إليه والقائم به إلا لعْن مئات الملايين من
المسلمين إلى يوم الدين؟
لهذا أجمع طلاب الإصلاح من العرب الذين يعتد برأيهم، ويرجى تأثير
عملهم - على أن لا يكونوا سببًا لسقوط الدولة وزوالها. ولا يسعوا إلى ضررها
ولا إلى إضعافها، وعلى أن يجعلوا همّهم في إصلاح أنفسهم وعمارة بلادهم، مع
النصح للدولة والإخلاص لها، وطلب حقوقهم التي أثبتها لهم القانون الأساسي فيها،
ليرتقوا ويعتزوا بأنفسهم، فلا يسقطوا مع الدولة إن سقطت وتعتز الدولة وترتقي
بارتقائهم إن بقيت، وأن يكون جلّ سعيهم إلى ذلك في مجلس الأمة بواسطة
مبعوثهم.
ثم طرأ على بعضهم اليأس من بقاء الدولة وقوي ذلك وكثر التفكر في عواقبه
عندما غلب البلقانيون الدولة في الحرب، وكادت دولة البلغار التي تم لها استقلالها
في عهد الدستور تستولي على الآستانة، وتحدثت جرائد أوربة بحقوق بعض الدول
الكبرى في بلاد الدولة وخص بالذكر بعض الولايات العربية، وطفق المفكرون
يناجي بعضهم بعضًا: ما حيلتنا إذا أقدمت دولة قوية على الاستيلاء على بلادنا،
كما استولت إيطالية على طرابلس وبرقة وليس فيها شيء من أسباب الدفاع ولا
يمكن الدولة ولا مصر أن تساعدها على مقاومة كما ساعدتهما.
صدعهم هذا اليأس بعد أن قوي رجاؤهم في الدولة بانتصار حزب الحرية
والائتلاف على حزب الاتحاد والترقي وانتزاعه السلطةَ التنفيذيةَ من يده، ثم قوي
ذلك اليأس واشتد بثورة الاتحاديين على وزارة كامل باشا وقتلهم لناظر الحربية في
الباب العالي وتأليف وزارة جديدة منهم بقوة الثورة، ولولا أن زعماء العرب كانوا
مجمعين على المحافظة على الدولة مهما تكن حالها - لبادروا عند ذلك اليأس الشديد
إلى إضرام تار الثورة على الدولة والجهر بالاستقلال دونها، لعلمهم بأنه لم يبق
عندها في ذلك الوقت سلاح ولا ذخيرة تدافع بهما عن عاصمتها، فكيف تقدر على
تجريد عسكر يخمد نيران الثورة في البلاد البعيدة عنها؟ ! ، ولكنهم لم يفعلوا، ولم
يكن الإسلام هو المانع لهم من التصدي لتأسيس دولة عربية وهم يائسون من بقاء
الدولة التركية ومن إقامتها للإسلام إن بقيت والاتحاديون غالبون على أمرها، فإن
إفتاء مذاهبهم بوجوب طاعة المتغلب خوف الفتنة التي ترجح مفسدتها على
المصلحة لم يعد ينطبق على حالتهم مع الدولة، ولكن المانع الحقيقي هو الخوف من
أوربة أن تغتنم الفرصة وتستولي على البلاد.
فتبين بهذا أن ما كان يصد زعماء العرب من المسلمين عن التصدي لتأسيس
دولة عربية أمران: الإسلام والخوف من أوربة، وكان الرجحان في بعض
الأحوال للأول وفي بعضها للثاني، ولكنهما كانا في عامة الأحوال والأوقات مانعًا
واحدًا أو سببًا واحدًا مركبًا من أمرين كل منهما يقوي الآخر.
وبعد حرب البلقان أقدمت الحكومة الاتحادية على عقد الاتفاق بينها وبين
الدول الكبرى على الاعتراف لهن بالنفوذ الاقتصادي في أعظم الولايات العربية
ليقرضنها عشرات الملايين من الجنيهات، وصرح بعض كبار السياسيين في جرائد
أوربة بأن مناطق النفوذ الاقتصادي تتحول إلى مناطق نفوذ سياسي عند سنوح أول
فرصة لذلك، فثبت عند زعماء العرب أن الاتحاديين شرعوا في تنفيذ ما هددوهم
به من بيع بلادهم وترقية الترك بثمنها، كما فعلوا ببيع طرابلس الغرب وبرقة،
فاشتدت عزيمتهم على طلب الإصلاح وعقدوا المؤتمر العربي في باريس لذلك؛
فذعرت الحكومة الاتحادية، ولجأت إلى الحيلة والخداع لضعفها في ذلك الوقت،
وكان من أمر نتيجة المؤتمر ما هو معلوم من اعتراف جمعية الاتحاد ثم حكومتها
ببعض حقوق العرب في الدولة ووعدها بإعطائهم تلك الحقوق بالتدريج وخداعها
للسيد عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر وتصديقه إياها بما وعدت به.
* * *
(الحرب الأوربية واستقلال الحجاز)
ثم ظهرت بوادر الحرب الأوروبية وعزم الدولة على الدخول فيها
فبادرت إلى كتابة مقالة نصحت فيها لإخواني العرب بالكف عن طلب
الإصلاح في حال الحرب، وتأييد دولتهم بالإجماع، فكان لها تأثير عظيم.
ولكن الاتحاديين لما دخلوا في الحرب، وجعلوا الأحكام في المملكة
عسكرية عرفية - جعلوا ذلك وسيلة للتنكيل بالعرب والأرمن حسب خطتهم
المقررة منذ سنين، فصلبوا في سورية جميع مَن عرفوا من المطالبين
بالإصلاح من نابغي العرب، ونفوا من البلاد أرباب البيوتات والثروة الكبيرة،
وصادروا أموال الناس، وغلات أرضهم، وفعلوا مثل ذلك في العراق، ثم
تحرشوا بالحجاز، فبادر الشريف أمير مكة المكرمة إلى إعلان استقلال
الحجاز بعد النصح لجمال باشا الحاكم العسكري الاتحادي المطلق في سورية
ولحكومة الآستانة - بالكف عن الفظائع في سورية والعراق، فلم يقبل نصحه،
وانتهى أمر الشريف باعتراف دول الحلفاء باستقلاله التام، وبما بايعه به
أهل البلاد من جعْله ملكًا عليهم.
وقد نشر الشريف قبل المبايعة منشورًا بيَّن فيه سبب قيامه مع
الحجازيين بما قاموا به، ففهمنا منه أنه كان موافقًا لما أجمع عليه مَن دونه
من زعماء العرب من الرغبة في المحافظة على بقاء الدولة، واتقاء أن يكون
زوالها أو ضعفها من قِبَل العرب، فإن استقلال الحجاز - الذي أنتجته
الضرورات - لا يمكن أن يكون سببًا لزوال الدولة، وهي داخلة في أحد
الحلفين اللذين انقسمت إليهما دولة أوربة الكبرى؛ فإن النصر لأحد الحلفين على
الآخر إنما يكون بانتصاره عليه في أوربة، واستقلال الحجاز لا يقدم في ذلك،
ولا يؤخر، ولكنه أفاد العرب فوائد عظيمة، فصدق عليه قولنا: إما أن ينفع
نفعًا كبيرًا أو صغيرًا، وإما أن لا يضر.
وقد ثبت عندنا أن استقلال الحجاز كان سببًا لكف الاتحاديين عن
محاولة إبادة العرب من سورية والعراق الآن، وتخفيف ما كانوا شرعوا فيه
من المذابح والفظائع، وكان هذا من أجلّ منافعه التي تربي على ما ترتب عليه من
سفك الدم الذي اجتهدت الحكومة العربية الحجازية في اجتنابه بقدر الطاقة.
* * *
(عاقبة العرب استقلال الشعوب)
ثم طرأ بعد استقلال الحجاز أن أعلن دول الأحلاف أنهن قد اتفقن على
حرية الشعوب واستقلالها في أمر حكومتها، وذكروا العرب والأرمن منها،
وهذه قاعدة عادلة عظيمة الشأن إذا نُفذت على وجهها الصحيح، وكانت الدول
كلها متضامنة في حفظها بما يتعاهدن عليه في مؤتمر الصلح، وأوَّلها بعضهم
بمعنى أن لا يحكم شعب إلا بالطريقة التي يختارها لنفسه، ولكن الوقوف على
آراء الشعوب المغلوبة على حريتها متعذر في هذه الأوقات التي تخضع فيها
للأحكام العسكرية، وقد علمنا ممن فر من سورية والعراق إلى مصر والحجاز
ومن أسرهم بمصر أن العداء بين العرب والترك قد عمَّ وتمكن، فلا مطمع في
زواله. ولم يبق في العرب مَن لا يرغب في الاستقلال دون الترك، ومن
البديهي أنه لا يوجد شعب في الدنيا يختار على الحرية والاستقلال شيئًا إذا
تيسر له، ولكن يوجد في كل أمة أفراد من عبيد المال، ومن الجاهلين الذين
يُخدعون بزُخرُف الأقوال، فيمكن أن يُستخدم من هؤلاء وأولئك بالترغيب
والترهيب طائفة تقول ما تؤمر أن تقوله، ولا يمكن أن يكون اختيار هؤلاء
للعبودية بتسميتها بغير اسمها حجة على الشعب، ولكن القوة تحتج على
الضعف بما تشاء، وإنما يُعرف رأي الشعوب في بلاد الحضارة من قِبَل
أحزابها السياسية، وليس للشعب العربي العثماني حزب سياسي عام إلا
(حزب اللامركزية) ، ويمكنه أن يبين رأي الشعب إن استطاع زعماؤه
أن يعربوا عن آرائهم، وله جمعيات موضعية خاصة كجمعية الاتحاد
اللبناني بمصر وأمريكة والنهضة اللبنانية في أمريكة، فهي تمثل آراء
جمهور اللبنانيين. والدول إذا أخلصت في تنفيذ هذه القاعدة تقررها،
وعندما يجتمع زعماء كل أمة تنال استقلالاً جديدًا لتأسيس حكومتها العليا
يعرف رأيهم في شكلها، ولا يعرف معرفة صحيحة بغير ذلك. فإذا انتهت
الحرب بذلك كانت عاقبتها على البشر خير العواقب. والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) دعَّتهم بتشديد العين: دفعتهم بعنف.
(2) هذا الوصف احتراز من الوطن السياسي.
(3) أذكر أنني كتبت هذا غير مرة في المنار ولكنني لا أتذكر من مواضعها إلا ما في ص 252 و253 من المجلد الثالث عشر والعبارة فيه تدل على أنها مسبوقة، وإلا ما في ص80 من المجلد التاسع عشر.(20/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة استقلال الشعوب
نشر (المقطم) في العدد الذي صدر منه في 23 شعبان (13 يونيو) مقالة
عنوانها: (الصلح الدائم وكيف يُنال؟) قال فيها ما نصه:
وضعت روسية الديمقراطية على بساط البحث مسألة الغرض من الحرب
الحاضرة في أواسط الشهر الماضي، فحملت الدول المتحاربة على إعلان قصدها
وغايتها، وحثت الأمم الكبيرة والصغيرة على بسط آمالها وأمانيها، وكانت روسية
أولى الدول التي أعلنت غايتها من الحرب، فقالت: إنها لا تتوخى ضم الأملاك
وتقاضي الغرامات الحربية، وإن غرضها الأساسي الوحيد إنما هو إبرام صلح
وطيد الأركان على أساس استقلال الأمم الكبيرة والصغيرة وتحقيق آمالها القومية
العادلة وتخويلها حقًّا من أقدس حقوقها وهو أن تحكم نفسها بنفسها وتختار شكل
الحكومة التي تلائم أخلاقها وعاداتها. وقام المسيو ريبو بعد ذلك، فأعلن رغبة
فرنسة في إبرام صلح عادل أساسه استقلال العناصر. ثم وقف في مجلس النواب
الفرنسوي وقفته التاريخية المشهورة، فجاهر في جلسة 4 يونيو الحالي بأن فرنسا
لا ترمي من هذه الحرب إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين اللتين سُلختا عنها
سنة 1871، رغم إرادة سكانهما، ومنح الأمم الكبيرة والصغيرة الاستقلال التام.
ووافقت بريطانيا العظمى على قرار حليفتيها العظيمتين إذا كان مبدأ عدم ضم
الأملاك، وتقاضي الغرامات الحربية يعني رد المسلوب والتعويض من الخسارة
التي نزلت بالأمم التي اعتُدِي عليها.
وقد وافانا روتر أمس بنص المذكرة الكبيرة الشأن التي أرسلها الدكتور ولسن
رئيس الولايات المتحدة إلى روسية وبيَّن فيها أغراض أميركا من هذه الحرب،
فقال:
(إنها لا تروم الربح المادي ولا التوسع ولا تقاتل لجرّ مغنم، ولكن لتحرير
الشعوب في كل مكان، ومساعدتها على النهوض والارتقاء في ظل الاستقلال من
غير تسلط متسلط عليها، وإن المشاكل الحاضرة يجب أن تسوَّى طِبقًا لمبدأ واضح
جلي، وهو أنه لا يصح إجبار شعب من الشعوب على أن يعيش في ظل حكم لا
يريده، ولا إجراء تعديل في الكون إلا فيما يؤدي إلى توطيد أركان السلام وسعادة
الأمم، فيصير إخاء البشر حينئذ حقيقة واضحة وقوة فعالة لصون الحياة من اعتداء
المستبدين وطمع الطامعين) .
هذه غاية الولايات المتحدة من الحرب، وذلك هو الغرض الوحيد الذي
وضعه الحلفاء كلهم نصب عيونهم، وأعلنوا غير مرة عزمهم الأكيد على الوصول
إليه مهما كلفهم الأمر، وبديهي أن الولايات المتحدة لم تخُض غمار الحرب
الحاضرة إلا بعد ما اتفقت مع الحلفاء على تحقيق هذا المبدأ الشريف العادل، فإن
المسيو بريان رئيس الوزارة الفرنسوية سابقًا أرسل إليها - باسم الحلفاء جميعهم -
مذكرة مسهبة في 3 ديسمبر الماضي، قال فيها: إن للحرب الحاضرة ثلاثة
أغراض:
أولها: إعطاء الأمم الكبيرة والصغيرة حريتها واستقلالها.
وثانيها: نيل التعويض من الخَسارة التي نشأت عن اعتداء ألمانية الفظيع.
وثالثها: الحصول على ضمان وافٍ لمنع وقوع الحرب في المستقبل.
على هذا الأساس تم الاتفاق بين الحلفاء والولايات المتحدة، ومن أجل هذه
الغاية الشريفة فقط بذلت أمريكة رفاهية شعبها، والأموال الطائلة التي كانت تنهال
عليها من أوربة. فالمجد لها والفخر لرئيسها العظيم نصير الإنسانية وحامل لواء
الحرية والعدل في العالم. اهـ.
* * *
وجاء في (المقطم) الذي صدر في 24 شعبان (14 يونيو) ما نصه:
خطة روسية
دعا وزير خارجية روسية مندوبي الصحف إلى مقابلته، وبسط لهم خطة
روسية الحاضرة، وقال ما خلاصته:
ترمي روسية الجديدة الحرة إلى إبرام الصلح العام في أقرب آن على أساس
تحرير الأمم وتخويلها حقَّ انتقاء شكل حكوماتها وعدم ضم الأملاك وتقاضي
الغرامات الحربية من الأعداء، وهي تتوخى من مواصلة الحرب أمرين:
أولهما: الحصول على صلح شريف يزيل الضغائن والأحقاد من بين الأمم
المتحاربة.
وثانيهما: استقلال الشعوب استقلالاً تامًّا وجعْلها قوة عظيمة لصون الحرية
ومنع اعتداء المعتدين في المستقبل.
إن الخطأ الذي ارتكب في حرب السبعين لا يجوز أن نرتكب مثله اليوم،
فسكان الإلزاس واللورين الذين سُلخوا عن فرنسا - رغم إرادتهم - لم ينسوا وطنهم
الأصلي إلى الآن، وكانت مسألتهم من أسباب الحرب الحاضرة؛ لأن الظلم لا يُنسى
مهما تقادم عهده؛ لذلك ترى روسية الحرة أن تشيد الصلح المقبل على أساس العدل
وحرية الشعوب الكبيرة والصغيرة.
لا أنكر أن الحكم السابق ارتبط بمعاهدات سرية مع بعض الدول، وأن هذه
المعاهدات أقلقت الديموقراطيين الروس لاعتقادهم بأنها ترمي إلى التوسع وضم
الأملاك، فألحّوا على الحكومة المؤقتة في نشرها في الحال خوفًا من وقوع الشقاق
بين أحزاب الأمة، ولكن هذا الطلب لا يتفق مع مصلحة روسية؛ لأنه يؤدي إلى
قطع صِلاتها بحلفائها وإكراهها على إبرام صلح منفرد، مع علمها أن الصلح
الوحيد الذي يلائم مبادئها هو الصلح العام على أساس استقلال الأمم الكبيرة
والصغيرة استقلالاً تامًا، فالواجب على روسيا في هذه الحال أن تنسى الماضي،
وتنظر إلى المستقبل فقط بعد الانقلابات العظيمة التي طرأت على الكون كالثورة
الروسية، ودخول الجمهورية الأميركية العظمى في الحرب. وهذه الانقلابات
ستؤثر أعظم تأثير في ديمقراطية الأمم المتحالفة، ولا سيما أن صِلاتها بممثلي تلك
الديمقراطية على أحسن ما يُرام. وبديهي أن مهمتي الأساسية في وزارة الخارجية
هي التوفيق بين الديمقراطية الروسية وديمقراطية الأمم الغربية على أساس يكفل
السلم للعالم. ولكن تحقيق هذه المهمة يتعذر علينا إذا أحجمنا عن القيام بالعهود التي
قطعناها لحلفائنا.
أما مسألة ضم الأملاك فلا تخطر على بال أحد منا، وليست المعارك التي
تخوض غمارها الآن إلا معارك دفاعية ترمي إلى طرد العدو من البلاد التي احتلها
في روسية والبلجيك وفرنسة وسربية ورومانية ونيل الأمم الكبيرة والصغيرة
حريتها واستقلالها.
هذا كل ما أستطيع أن أقول الآن عن غرض روسية، والخطة التي تنهجها
لتحقيق آمالها وأمانيها. انتهى.
* * *
وجاء في (المقطم) الذي صدر في يوم السبت 18 رجب (19 مايو) :
غرض بريطانية العظمى من الحرب
لندن في 17 مايو
إن الخطبة التي خطبها اللورد روبرت سسل في مجلس النواب في الليلة
البارحة تعد هنا - وفي سائر بلدان الحلفاء - من أهم ما قيل في بيان غرض
بريطانية العظمى من الحرب.
فتح المستر سنودن باب المناقشة وردّ اللورد روبرت سسل عليه، فقال: إن
عبارة (عدم الضم) راجت كثيرًا وتناقلتها الأفواه. ثم شرع بطرق أبواب هذا
الموضوع بابًا فبابًا، واستهل البحث بذكر بلاد العرب، فقال: ليس في الدنيا رجل
يشير علينا بأن نبذل نفوذنا لرد بلاد العرب إلى تحت سلطة الأتراك (هُتاف) ، ثم
إن أعظم ضم لأرمينية بأوسع معنى السيادة والإمبراطورية - يفيد شعبها الذي عانى
الويلات والنكبات بما اقترفه الأتراك به من الجرائم، وما يقال عن أرمينية يقال
مثله عن سورية وفلسطين.
ثم انتقل إلى الكلام عن مستعمرات ألمانية في إفريقية، فقال: إننا لم نهجم
على تلك المستعمرات لننقذ أهلها الأصليين من سوء الحكم، ولكن أتريدون أن
نعيدهم إلى ألمانية بعد ما أنقذناهم منها؟ ! ، فهتف المجلس له هتافًا شديدًا لما قال:
إن بدني يقشعرُّ إذا فكرنا في رد أولئك الوطنيين إلى حكم الحكومة التي ارتكبت بهم
ضروب القسوة.
وماذا أقول عن بولندا وهل فيكم مَن يعترض على إنشاء مملكة بولندية
مستقلة. وماذا أقول عن الإلزاس واللورين وهل مَن يقول (؟) إن ألمانية بعدما
أخذت ولايتين من فرنسة لا يجب أن تردهما إليها (هتاف) . وعندنا أيضًا
الولايات الإيطالية الداخلة في حكم النمسا، فهل توافق الحكومة البريطانية على عدم
رد هذه الولايات إلى إيطالية وسكانها من الإيطاليين.
ثم طرق اللورد روبرت بابًا آخر من أبواب الموضوع، وأشار إلى عبارة
(عدم عقد الصلح مع آل هوهنزلرن) ، فقال إن في هذه العبارة كثيرًا مما
يُستصوب، وهي مقبولة عند عامة البريطانيين، ولكن الفطنة قد تقتضي بعدم
اتخاذها قاعدة لتعريف سياستنا الوطنية.
قال: وقد سمعنا البعض يقولون: (لا غرامة حربية) فهل يراد أن لا
تعطَى البلجيك غرامة؟ وماذا يكون نصيب سربيا وولايات فرنسة الشمالية؟
وهل يسعنا أن نغضي عن تعويض ما دُمر من البواخر التجارية؟ أما أنا فلست
مستعدًّا للموافقة على ذلك.
وعقبه المستر إسكويث، فخطب خطبة كان لها وقع عظيم فقال: إن عبارة
(عدم الضم) التي وردت في بعض التصريحات الروسية - لم تُفهم تمامًا لعدم
وجود معجم وافٍ للغةِ السياسة الدولية، ولكني لا أعتقد أن زعماء روسية وحكامها
المسئولين استعملوها بغير المعنى الذي نسلم به نحن.
ولكن لضم البلدان أربعة معانٍ مختلفة يمكن استعمالها لها:
(فالمعنى الأول) أن هذه الحرب إذا أريد أن تؤدي إلى صلح وطيد الأركان
فيجب أن تسفر عن ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم
وأغلال الاستبداد (هتاف) ، وهذا أمر مشروع، وإلا فإن الأغراض التي امتشقنا
لأجلها الحُسام في هذه الحرب لا تُنال أو يُنال جانب منها فقط إلا إذا قام الحلفاء حق
القيام بعمل هذا التحرير بضم البلدان (هتاف) ، قال: وإني واثق أن رجال
حكومة روسية الجديدة لا يحتجون على ضم البلدان إذا كان هذا هو الغرض منه.
(والمعنى الثاني) يسري على البلدان التي تحوي جنسيات فُصلت عن
أصولها، مثال ذلك بلاد الترنتينو فضمها إلى إيطالية ضروري لراحة ضمير العالم
المتمدن (هتاف) .
ثالثًا (كذا) أن الضم قد يكون من الأمور المطلوبة لنقل ملك أو أرض لأجل
الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية لا للهجوم بل للدفاع، ووقاية البلاد من
هجوم في المستقبل.
ويبقى (الوجه الرابع) أي الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد
السياسي بالربح الاقتصادي، وهذا أمر لا يلقى شيئًا من التأييد في البرلمان
البريطاني ولا في بريطانية العظمى ولا بين حلفائها (هتاف) .
ومتى جلونا هذا الإبهام فهل يبقى خلاف بيننا وبين أصدقائنا ديمقراطِيِّي
روسية على القواعد العامة التي يجب مراعاتها في الكلام عن الصلح؟ !
أما أنا فلا أعتقد بوجود شيء من الفرق (اسمعوا اسمعوا) - روتر.
* * *
وجاء في المقطم الذي صدر في 21 رمضان (10 يوليو) ما نصه:
غاية الحلفاء من الحرب
رد فرنسة وإنكلترة على المذكرة الروسية
أرسلت الحكومة الروسية المؤقتة في شهر أبريل الماضي مذكرة خطيرة
الشأن إلى دول الحلفاء، بسطت فيها غايتها من الحرب، وألحت عليهم في إعلان
أغراضهم الحقيقية منها. وقد نشرنا المذكرة الروسية في حينه، ورأينا الآن أن
نوافي القراء برد فرنسة وإنكلترة عليها لما فيه من الدلالة على حسن نيات الحلفاء
وسمو مبادئهم نبل مقاصدهم، وهو الجواب الذي وصل إلى بتروغراد في أواخر
شهر يونيو الماضي. قالت فرنسة في مذكرتها:
(جواب فرنسة عن مذكرة روسية)
اطلعت حكومة الجمهورية الفرنسوية بارتياح عظيم على المذكرة التي سلمها
إليها سفير روسية في باريس باسم الحكومة المؤقتة، وشاركتها في الثقة التامة بكل
ما يتعلق بتحسين موارد روسية الاقتصادية وزيادة قوتها الحربية أو السياسية ثم
رأت أن تعلن ما يأتي:
إن فرنسة لم تفكر في استعباد شعب من الشعوب حتى أعدائها الحاليين،
ولكنها تريد أن يزول الخطر الذي يهدد العالم وأن يُعاقَب المجرمون الذين أضرموا
نار هذه الحرب الهائلة، وكانوا عارًا على أعدائنا أنفسهم، وهي تترك لأعدائها
عواطف الطمع التي امتازوا بها في الحرب والسلم، ولا تطلب من البلاد إلا ما هو
لها شرعًا.
لقد ذهبت مساعيها السلمية أدراج الرياح، واضطرت إلى امتشاق الحسام
دفاعًا عن حريتها واستقلالها ورغبة في إكراه العدو على احترام استقلال الأمم،
فكما أن روسية أعلنت إحياء مملكة بولندة القديمة المستقبلة، هكذا فرنسة تحيي
بسرور عظيم كل المساعي الحرة التي تبذلها الأمم المستعبَدة.
ولا ترمي فرنسة في هذه الحرب إلا إلى غاية واحدة وهي انتصار الحق
والعدل، سواء قامت الأمم لإعلان استقلالها ووحدتها وإعادة سالف مجدها ومدنيتها،
أو لخلع نير العبودية عن عاتقها، وهو النير الذي كان يهدد جميع الأمم التي لم
تبلغ منزلة الجرمان من الارتقاء الظاهري.
ولا تطلب فرنسة لنفسها إلا تحرير الولايتين الفرنسويتين اللتين سلختا عنها
بالقوة وهما الإلزاس واللورين ولكنها تحارب مع حلفائها إلى النصر الذي يعيد إليهم
حقوقهم واستقلالهم السياسي والاقتصادي ويعيضهم من الخسارة التي نزلت بهم
ويكفل لهم منع كل اعتداء يقع عليهم في المستقبل.
وتعتقد حكومة الجمهورية اعتقادًا تامًّا كاعتقاد الأمة الروسية أن هذه المبادئ
العادلة هي المبادئ الوحيدة التي يجب أن يضعها الخلق نصب عيونهم لإبرام صلح
دائم على أساس العدل والحق.
فعلى الحكومة المؤقتة أن تثق ثقة تامة بمبادئ الحكومة الفرنسوية وتعلم أنها
مستعدة للاتفاق معها ليس فقط على التدابير اللازمة لمواصلة الحرب، بل على
طرق الانتهاء منها أيضًا بشكل يتفق مع الغاية التي خُضنا غمار الحرب من أجلها
انتهى.
قرار مجلس نواب فرنسا
ثم شفعت الحكومة الفرنسوية هذه المذكرة بالقرار الخطير الشأن الذي أصدره
مجلس نواب فرنسة في جلسته التاريخية في 5 يونيو، ونقلته إلينا التلغرافات
الخصوصية والعمومية في حينه [المنار وهذه ترجمته:]
باريس في 5 يونيو
هذا نص قرار الثقة بالحكومة الذي وضعه مجلس النواب الفرنسوي:
إن مجلس النواب الذي يعبر رأسًا عن سلطة الشعب الفرنسوي يرسل إلى
الديمقراطية الروسية وسائر ديمقراطيات الحلفاء التحية والسلام.
إن مجلس النواب يؤيد الاحتجاج الإجماعي الذي قدمه مندوبو الإلزاس
واللورين المسلوختين عن فرنسة إلى الجمعية الوطنية في سنة 1871، ويجاهر
بأنه ينتظر أن هذه الحرب التي أكرهت ألمانية المحبة للفتح سائر بلدان أوربة على
خوض غمارها لا تؤدي إلى تحرير الولايات التي اكتسحها الألمان فقط، بل إلى رد
الإلزاس واللورين إلى وطنهما الأصلي، وتعويض فرنسة مما أصابها من الضرر
والخسارة.
إن مجلس نواب فرنسة لا يفكر في فتح البلدان وإخضاع شعوب أخرى ولكنه
ينتظر أن يؤدي جهاد جيوش الجمهورية الفرنسوية وجيوش حلفائها إلى سحق
الروح العسكري البروسي والحصول على ضمان وطيد لاستقلال الشعوب الكبيرة
والشعوب الصغيرة.
والمجلس واثق بأن الحكومة تكفل إحراز هذه النتائج بالتعاون العسكري
والسياسي مع حلفائنا - روتر.
* * *
(جواب إنكلترة عن مذكرة روسية)
وأرسلت الحكومة البريطانية المذكرة التالية إلى حكومة روسيا وهي:
تلقت الحكومة البريطانية المذكرة التي سلمها إليها معتمد روسية في لندن وتضمنت
أغراض روسية من الحرب الحاضرة.
وقد ورد في المنشور الذي أُعلن على الشعب الروسي، ووصل إلينا مع
المذكرة أن روسية لا تتوخَّى سيادة الأمم الأخرى والاعتداء على أملاكها القومية
واحتلال بلادها بالقوة، فالحكومة البريطانية تشارك الحكومة المؤقتة في مبادئها
وتعلن أنها لم تخض غمار الحرب من أجل التوسع والفتح وإنما خاضت غمارها في
بدء الأمر دفاعًا عن كِيانها ورغبة في إكراه المعتدين على احترام المعاهدات الدولية،
أما الآن فقد صار لها غاية أخرى وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستبداد
الأجنبي.
وقد قابلت الحكومة البريطانية بسرور عظيم عزم روسية على تحرير بولندا
التي تحت حكمتها الأتقراطية الروسية، وبولندا التي تئن من جور الاستبعاد
الجرماني، فالديمقراطية البريطانية تحيي روسية وتتمنى لها النجاح في هذه المهمة
من صميم فؤادها.
ويهمنا قبل كل شيء أن نجد طريقة حسنة لحل المشاكل الحاضرة حلاً يكفل
للأمم سعادتها وهناءها ويستأصل جراثيم الحروب المقبلة من العالم.
والحكومة البريطانية تنضم إلى حلفائها الروسيين من صميم فؤادها وتقبل
معهم المبادئ السامية التي أعلنها الرئيس ولسن في خطبته الشهيرة في مجلس الأمة
الأميركية.
وتعتقد الحكومة البريطانية أن الاتفاقات التي أبرمتها مع حلفائها في الماضي
لا تناقض هذه المبادئ، ومع ذلك فإنها تقبل أن تعيد النظر فيها إذا شاءت الحكومة
الروسية ذلك، وأن تعدل بعض موادها إذا اقتضت الحال؛ انتهى.
* * *
وجاء في المقطم الذي صدر في 18 رمضان (7 يوليو) :
الحلفاء واستقلال الأمم
أرسلت الحكومة الروسية مذكرة إلى دول الحلفاء بسطت فيها غايتها الحقيقية
من الحرب وطلبت منهم أن تعرف الغاية التي يتوخَّوْنها هم أيضًا، فأجابتها فرنسة
بمذكرة طويلة، قالت فيها: إنها لا ترمي إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين ومنح
الأمم الكبيرة والصغيرة استقلالها التام، ثم شفعت هذه المذكرة بالقرار الذي أصدره
مجلس نواب فرنسا في 5 يونيو الماضي.
وقالت إنكلترة في ردها على المذكرة الروسية إنها خاضت غمار هذه الحرب
دفاعًا عن كيانها ورغبة في إكراه الآخرين على احترام المعاهدات الدولية. أما اليوم
فصارت ترمي إلى غاية ثالثة وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستعباد
الأجنبي، فإنكلترا في هذه الحال توافق على المباديء السامية التي جاهر بها
الدكتور ولسن وأعلنتها الدمقراطية الروسية، وهي مستعدة لإعادة النظر في
المعاهدات التي أبرمتها مع روسية وسائر حلفائها.
وقد قابلت الصحف الروسية هاتين المذكرتين بارتياح عظيم إذا استثنينا
الصحف الثورية والمتطرفة والداعية إلى الصلح. فقالت جريدة نوفو فريميا ما
خلاصته:
لا يمكننا أن نزيد حرفًا واحدًا على جواب الحلفاء عن مذكرتنا؛ فهو في غاية
الوضوح في ما يتعلق بخطة الفتح الذي يتهمهم أعداؤنا بها.
وقد أعلن حلفاؤنا غايتهم الحقيقية من الحرب، فإذا هي غاية روسيا وغاية
أميركا حليفتنا الجديدة. انتهى.
وقالت (البورص غازت) إن جواب الحلفاء أرضى روسية الديمقراطية
وأكد لها أن ديمقراطيات العالم كله متفقة على الدفاع عن استقلال الأمم وسحق
الاستبداد البروسي.
* * *
استقلال ألبانيا
رومية في 4 يونيو - صدر منشور في أرجيرو كاسترو يوم 3 يونيو
باستقلال ألبانيا وتوحيدها كلها تحت حماية إيطاليا - روتر.
رومية في 4 يونيو
هذا بعض نص المنشور بإعلان الحماية الإيطالية على ألبانيا وهو بإمضاء
الجنرال فريرو:
أيها الألبانيون، إنكم بهذا القرار سيصير لكم معاهد حرة، وجنود ومحاكم
ومدارس، يديرها أبناء قومكم، ويتيسر لكم أن تديروا أملاككم، وتجنوا ثمرة تعبكم
لأنفسكم، ولزيادة خير بلادكم وإسعادها.
أيها الألبانيون، إنكم أينما كنتم سواء في بلادكم الحرة الآن أو فارين في
سواها من البلدان أو كنتم خاضعين لحكم أجنبي يمتنّ عليكم بالمواعيد الكثيرة ولكنه
في الحقيقة يسلبكم ويعاملكم بالشدة - أنتم سُلالة جنس عريق نبيل، تربطكم عدة
قرون من التقاليد القديمة بحضارة رومية والبندقية. إنكم لا تجهلون اشتراك
المصلحة بين الإيطاليين والألبانيين في البحار التي تفصل بيننا والتي وحدت بيننا
أيضًا، إنكم لحسنو النية واليقين، تعتقدون بحسن مصير وطنكم المحبوب، فأنتم
تقفون الآن في ظل راية إيطاليا وألبانيا، وتحلفون يمين الإخلاص الأبدي لألبانيا
المستقلة التي تنادي بها اليوم باسم إيطاليا وتتمتعون بصداقة إيطاليا.
وقد تُلِيَ هذا المنشور على جمهور كبير من ألبانيي أرجيرو كسترو، فقابلوه
بالحماسة ونُشر في سواها من الجهات التي تحت إدارة الإيطاليين، وألقى الطيارون
نسخًا منه في البلاد الواقعة وراء فوجوزا - روتر.
* * *
(المنار)
هذا، وإن البرقيات العامة نقلت إلينا أن روسية الحرة لم تعترف بهذا
الاستقلال، بل صرحت بأن مؤتمر الصلح هو الذي يفصل في أمرها.
ومن تأمل أجوبة الحلفاء كلها رأى أن جواب فرنسة أبعدها عن مظان التأويل
وأقربها إلى مقصد المذكرة الروسية، ولما كان المعهود في السياسة أن يكون لكل
كلام ظاهر وباطن، وأن يكون ظاهره محتملاً للتأويل - كتب أحد كُتاب فرنسة
الأحرار (المسيو أولار) مقالة في الموضوع الذي نبحث فيه، لخصتها جريدة
(المقطم) في العدد الذي صدر منها يوم الجمعة 13 يوليو (24 رمضان) بما يأتي:
غرض فرنسا من الحرب
من مقالة للمسيو أولار
أنشأ المسيو أولار الكاتب الفرنسوي الشهير مقالة شائقة في جريدة (البايي)
(الوطن) الباريسية، بسط فيها غاية فرنسة من الحرب والأغراض الحقيقية التي
ترمي إليها. والمسيو أولار من أعظم الكتاب الفرنسويين وأشدهم تأثيرًا في الرأي
العام وأكثرهم خبرة بشؤون الشرق الأدنى، ولا سيما سورية التي زارها لآخر مرة
سنة 1907، وأسس فيها مدرسة بيروت العلمانية ومدرسة دمشق للبنات، وهو
أستاذ التاريخ في جامعة السوربون وصاحب المؤلَّفات العديدة عن الثورة الفرنسوية،
ومن زعماء الماسون والرئيس الأكبر لجمعيات التعليم العلماني في فرنسا؛ لذلك
رأينا أن نلخص مقالته للقراء لما فيها من الدلالة على أغراض الأمة الفرنسوية من
هذه الحرب وسمو مبادئها ونبل مقاصدها ورغبتها الأكيدة في مواصلة الحرب إلى
النصر قال:
خاضت الولايات المتحدة غمار الحرب ودخلت الثورة الروسية في دور جديد
في الأسابيع الأخيرة فأحدث ذلك تأثيرًا عظيمًا في العالم، ظهرت نتائجه الأولى في
انقشاع الغيوم المتلبدة في جو سياسة الحلفاء.
وقد وقعت هذه الأيام حوادث سياسية لها مغزى عظيم واضح، فأعلن المسيو
ريبو رئيس الوزراء الفرنسوية في مجلس النواب - بعد اتفاقه مع الحكومات
المتحالفة -: إنه لا يمكن أن تكون لنا خطة سرية غير الخطة الصريحة التي
يعرفها العالم كله وإن في التلاعب بالوجدان الوطني خطرًا عظيمًا يؤدي إلى أعظم
النكبات، فالمسيو ريبو أنس من نفسه هذه الجرأة الأدبية التي حملته على هذا
التصريح الخطير الشأن بعد ما أبدت الديمقراطيتان الأميركية والروسية آراءهما في
الأمر وأعربتا عن عدم رضائهما عن السياسة السرية.
وهذا، وإننا نرى من جهة أخرى أن الجنود الفرنسويين الذين يقاسون
ضروب الشقاء ويريقون دماءهم الزكية في الخنادق دفاعًا عن الوطن العزيز -
يريدون أن يعلموا الغاية الحقيقية التي يقاسون الشقاء ويقتحمون الأخطار للوصول
إليها. لا مشاحة في أنهم يعلمون أن غرضهم الوحيد من الحرب الحاضرة طرد
العدو من البلاد التي اجتاحها، وتحرير العناصر من ربقة الاستعباد، ولكنهم
يخشون أن تكون هنالك سياسة سرية وراءها مقاصد فتح ومطامع استعمار تحت
ستار العدل والحق، وأن يتخذ ذلك حجة لتحقيق الأحلام القديمة التي منشأها الغرور
وغاياتها استعباد الأمم.
إن الفرنسويين قاطبة يحاربون إلى النهاية من أجل فرنسا والإلزاس
واللورين ويريقون آخر نقطة من دمهم لإنقاذ البلجيك التاعسة من مخالب العدو،
ولكنهم لا يقبلون بوجه من الوجوه أن تكون غايتهم من الحرب فتح آسيا الصغرى
وتحقيق مشروع استعماري بعيد تخفيه الحكومات. اهـ.
* * *
(المنار)
إن الذكي الفطِن يفهم من هذا التلخيص ما وراءه، فعسى أن تنتهي هذه
الحرب بما يحبه - مثلنا - هذا الكاتب الحر بتحقيق آمال المستضعفين وتحرير
الشعوب أجمعين.
* * *
الترك والعرب.. وهل يكونان كالنمسة والمجر؟
نشر (المقطم) في 5 شوال مقالة أرسلها إليه إبراهيم أفندي النجار من
باريس شرح فيها ما أحدثته الثورة الروسية ودخول الولايات المتحدة في الحرب -
من الروح الجديدة في سياسة العالم وأشار فيها إلى ما بين قاعدة أحرار الروس
ومرامي الرئيس ولسون وبين تنفيذ فكرتهما من العقبات وذكر تأثير ذلك في الدولة
العثمانية، فقال ما نصه:
(وقد اتصل بي هذين اليومين خبر كبير الأهمية إذا صدقت الرواية وصدق
راويها وهو أن هذه الفكرة التي سبقت الإشارة إليها مشت شرقًا ووقفت في فروق
الآستانة) ، ففكر أصحاب الحل والعقد فيها في إنشاء السلطنة العثمانية على
الأساس الثنائي من الترك والعرب، كما قامت إمبراطورية النمسا على أساس سلطة
النمسويين والمجريين. وإن الحكومة شارعة في تعديل القانون الأساسي على هذا
المبدأ. قرأت هذا الخبر الذي رواه لي مخبري في سويسرا ووقفت عنده وقفة
الحائر في نقضه وتصديقه.الأول لأنه لا ينطبق على سياسة غلاة الترك
العنصرية، والله أعلم بما أعرف من خبايا نياتهم وبما يضمرون. والثاني لأن
القوم ضاقوا ذرعًا في هذه الحرب وعلموا أن عاقبتها ستكون وبالاً عليهم وأن
نهايتها ستكون على حسابهم وعرفوا مبادئ الثورة الروسية والرئيس ولسن كما
عرفنا الخاص والعام، وسمعوا آراء رجال الحل والعقد في برلين وفَّينا في
النصح لهم بالتخفيف من غلوائهم، فرأوا من الحكمة أن يفعلوا مختارين ما تحملهم
القوة القاهرة على قبوله وإقراره، والذي يعلم كيف أعلن مدحت باشا القانون
الأساسي الأول يوم كان سفراء الدول المجتمعين في الطوبخانة في الآستانة
لتبادل الرأي في كيفية حمل الدولة على الإصلاح - يعرف مسالك الترك في هذه
المآزق، ويتبين له وجه الشبه التام بين اليوم والبارحة؛ لهذا السبب ملت إلى
تصديق الرواية، وإن كنت لا أجزم بصحتها. اهـ.
__________(20/48)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المجمع اللغوي المصري [*]
لقد تم تأليف هذا المجمع في دار الكتب السلطانية، وهذا هو القانون الذي
وضعه لبيان أعماله اللغوية وأنظمته الداخلية.
عملاً بالمادة الثانية من القانون المتضمنة تأليف لجان لوضع مصطلح كل
علم أو فن - قد قرر المجمع في جلسته المنعقدة يوم أول يونيو سنة 1917 تأليف
اللجان الآتية، وألفت فعلاً، وهذه هي أسماؤها:
1- لجنة الجغرافيا والتاريخ والآثار والملابس والأواني والملاحة والتجارة.
2- لجنة الطب والعلوم الطبيعية عدا علم النبات.
3- لجنة المنطق والفلسفة والعلوم الاجتماعية.
4- لجنة الفقه والقانون.
5- لجنة العلوم الرياضية والفنون الجميلة والصناعة والزراعة وعلم النبات.
6- لجنة اصطلاحات الدواوين.
أما أعضاء المجمع فهم الآتية أسماؤهم، وقد رُتِّبت بحسب الترتيب الأبجدي
بالحروف الأولى فيها:
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رئيس
المجمع وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وكيل
وحضرات أحمد لطفي السيد بك مدير دار الكتب السلطانية كاتب السر، والسيد
محمد الببلاوي وكيل دار الكتب مساعد كاتب السر، وحضرات الشيخ أحمد إبراهيم
والشيخ أحمد الإسكندري وأحمد برادة بك وأحمد تيمور بك وصاحب السعادة أحمد
زكي باشا وأحمد سليمان بك والدكتور أحمد عيسى بك وأحمد كمال بك وإسماعيل
رأفت بك وحفني ناصف بك وعبد الحميد فتحي بك وعبد الحميد مصطفى بك
وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة وعثمان فهمي بك والدكتور فارس نمر
ومحمد أمين واصف بك والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محمد شريف سليم ومحمد
عاطف بركات بك والشيخ مصطفى العناني والدكتور يعقوب صروف، وهذه
صورة قانون المجمع:
الفصل الأول
في غرض المجمع
المادة الأولى: غرض هذا المجمع خدمة اللغة العربية وخصوصًا وضع معجم
وافٍ بحاجة الزمن، شامل اصطلاحات العلوم والفنون والصناعات.
المادة الثانية: يكلف المجمع لجانًا أو أفرادًا جمع مصطلح كل علم أو فن
وإعداده ولكل لجنة أو فرد أن يطلب من المجمع أن يدعو إلى الانضمام إليه من
يرى دعوته من الاختصاصيين ويعرض ما تم من ذلك على المجمع لبحثه وتقرير
ما يراه وإذا تم جزء صالح للنشر جاز نشره على حدة قبل إتمام المعجم.
المادة الثالثة: للمجمع أن يزيد في اللغة للضرورة ويراعي في الزيادة دفع
الحرج.
المادة الرابعة: يستبدل بالكلمة العامية أو الأعجمية التي لم تُعرَّب من قبلُ
غيرها من الألفاظ العربية الموضوعة للدلالة على معناها فإذا لم يهتدِ المجمع إلى
كلمة عربية وضع كلمة عربية للدلالة عليها أو أقر الكلمة العامية أو عرَّب الكلمة
الأعجمية مع مراعاة المادة الثالثة.
المادة الخامسة: يكون وضع الكلمات بطريق المجاز والاشتقاق أو النحت أو
غير ذلك مما يقع إجماع على منعه ويفضل الأخذ من الكلمات المهجورة تقليلاً
لاشتراك المستعمل.
المادة السادسة: تُذكر الكلمات من المعجم بمعانيها القديمة ويضاف إليها
استعمالها في المعاني الجديدة التي يقرها المجمع، وينبّه على ما كان من وضع
المجمع.
* * *
الفصل الثاني
في أعضاء المجمع
المادة السابعة: يؤلف المجمع من ثمانية وعشرين عضوًا، منهم ثلاثة
يعرف أحدهم اللغة العبرية، والثاني الفارسية، والثالث السريانية زيادة على معرفة
كل منهم للغة العربية.
المادة الثامنة: متى خلا مركز أحد الأعضاء فلكل عضوين أن يرشحا خلفًا
وتعرض أسماء المرشحين ثم يدور عليهم الانتخاب على حسب المادة الثالثة عشرة
ويشترط في قبول المرشح أن ينال انتخاب ثلثي الأعضاء الحاضرين على الأقل.
المادة التاسعة: للمجمع أن ينتخب أعضاء مراسلين بالطريقة التي ينتخب بها
الأعضاء ويكون لهم حضور الجلسات وليس لهم أصوات في القرارات.
المادة العاشرة: مَن أعان المجمع من أعضائه المراسلين أو غيرهم إعانة
لغوية يُعتدّ بها ذُكر اسمه في ثبت واضعي المعجم.
* * *
الفصل الثالث
في إدارة أعمال المجمع
المادة الحادية عشرة: تقوم بالأعمال الإدارية للمجمع لجنة مؤلفة من الرئيس
والوكيل وكاتب السر ومساعده.
المادة الثانية عشرة: يُنتخب أعضاء اللجنة من بين أعضاء المجمع لمدة
سنة، ويجوز إعادة انتخابهم.
المادة الثالثة عشرة: يكون الانتخاب بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة
للأعضاء الحاضرين في جمعية عمومية، يحضرها ثلثا الأعضاء على الأقل، فإن
لم يحضر ثلثا الأعضاء تم الانتخاب في الجلسة التالية مهما كان عدد الأعضاء فيها.
المادة الرابعة عشرة: يدير الرئيس أعمال المجمع ويدعو لجانه ويقدم إليها
موضوعات البحث ويهيمن على تنفيذ قرارات المجمع. وهو عضو بالقانون في كل
لجنة من لجان المجمع يشترك مع أيها شاء.
المادة الخامسة عشرة: يقوم الوكيل مقام الرئيس عند غيابه في كل ما له من
الحقوق وما عليه من الواجبات.
المادة السادسة عشرة: على كاتب السر ومساعده تحرير محاضر الجلسات
وتسجيلها في سجل خاص بعد التصديق عليها، وهما مكلفان بمراسلات المجمع
وحفظ أوراقه ونشر أعماله التي يتقرر نشرها.
* * *
الفصل الرابع
في نظام الجلسات
المادة السابعة عشرة: ينعقد المجمع مرتين في كل شهر على الأقل ويجتمع
فوق العادة بناءً على طلب يكتبه خمسة من أعضائه أو بناءً على طلب الرئيس.
المادة الثامنة عشرة: يعين المجمع في شهر أكتوبر من كل سنة الأيام التي
ينعقد فيها كل شهر إلى نهاية شهر مايو.
المادة التاسعة عشرة: إذا لم يستطع أحد الأعضاء حضور جلسة وجب أن
يعتذر وتتلى الاعتذارات عند افتتاح الجلسة.
المادة العشرون: كل عضو غاب أكثر من ست جلسات متواليات من غير
عذر يقبله المجمع يعتبر مستقيلاً ويستبدل به غيره بالانتخاب.
المادة الواحد والعشرون: في غير الأحوال المنصوص عليها يكون الاجتماع
صحيحًا متى حضره ربع الأعضاء.
المادة الثانية والعشرون: للمجمع أن يستعين باختصاصين يدعوهم لحضور
جلساته عند النظر في البحوث المتعلقة بمعارفهم الخاصة
المادة الثالثة والعشرون: تعقد الجلسات برئاسة الرئيس أو الوكيل عند غيابه
وإذا غاب كلاهما انعقدت الجلسة برئاسة أكبر الحاضرين سنًا.
المادة الرابعة والعشرون: في غير الأحوال المنصوصة في القانون تكون
قرارات المجمع بالأغلبية النسبية.
المادة الخامسة والعشرون: للمجمع أن يعيد المناقشة في قرار سابق إذا طلب
ذلك ثمانية من الأعضاء.
المادة السادسة والعشرون: لا يجوز تغيير مادة من هذا القانون إلا بطلب
مكتوب يقدمه خمسة من الأعضاء، مبينة فيه أسباب التغيير يُقرأ في المجمع، ثم
ينظر في جلسة تالية ولا يكون التغيير صحيحًا إلا إذا اتفق عليه سبعة عشر عضوًا.
المادة السابعة والعشرون: كل خلاف يقع في تفسير مادة من مواد القانون
يعرض على المجمع لتقرير ما يُتَّبع في ذلك.
* * *
(تنبيه)
مقالة المسألة العربية كُتبت في العام الماضي، وأشير إليها في تقريظ
جريدة (القبلة) ، ج6، 190، الذي صدر في 30 المحرم سنة 1335 ثم
حذف منها، وزدنا في آخرها ذكر (استقلال الشعوب) .
__________
(*) هذا ما نشره كاتب سر المجمع في الصحف، وقد بيَّن المنار سبب تأليف هذا المجمع في المجلد 19.(20/61)
ذو القعدة - 1335هـ
أغسطس - 1917م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
فسخ عقد النكاح بالعيب في أحد الزوجين
(س3) من صاحب الإمضاء في العلاقمة بالشرقية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
إلى القائم بأمر ربه المعتضد بحجة الله البالغة صاحب مجلة المنار أرفعه
مستفتيًا فضيلتكم بعد حمد الله حق حمده والصلاة والسلام على خير عباده سيدنا
محمد وعلى آله ومَن تبعه وتحية الله وسلامه عليكم.
أيها الأستاذ النبيل السيد السند:
يا صاحب الفضيلة بينما نقرأ ما يتعلق بالمرء وزوجه من بقاء النكاح وفسخه
في الكتب التي للأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم؛ إذ
رأينا فيها أنه ليس لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح لعيب بالآخر إلا بالجنون
والجذام والبرص، ويسميها الأئمة - ومن تبعهم - العيوب المشتركة فتوقفنا في
حصر العيوب المشتركة التي يفسخ بها النكاح في الثلاثة الآنفة الذكر، مع وجود ما
يماثلها في الضرر، بل ربما كان أشد وأولى مما ذكروا بالفسخ كالسل والزهري
وغيرهما من الأدواء المستحدثة، وبعد البحث والتنقيب لم نعثر على قول لا في
الكتب التي بأيدينا ولا ممن سألناهم ممن يظن فيهم أنهم لا يتقيدون بما تقع عليه
أبصارهم من المنصوص، فبعثنا إليكم بتلك الرسالة مستفتين: هل تجري
الأدواء المستحدثة مجرى ما نصوا عليه لمشاركتها له في علة الحكم، فتكون مقيسة
عليه، فيفسخ بها النكاح أو يقف الأمر عند حد المنصوص، وهنا تساؤل: أيّ
فرق بينها وبينه؟ وإذا كان ما نص عليه الفقهاء مأخوذًا من دليل فما هو؟ هذا ما
نرجو أن تجيبوا عنه بفصل القول الذي نعهده فيكم ويعهده العقلاء أجمع، أمدكم
الله بالعلم النافع وهدانا الله وإياكم إلى ما يوصلنا إلى مرضاته وسلوك سبيله القويم،
إنه سميع قريب عليم.
... ... ... ... ... ... ... أحمد عطية قوره من العلاقمة
(ج) ليس في هذه المسألة نص صريح في الكتاب ولا في السنة
الصحيحة وحديث زيد بن كعب بن عجرة الآتي فيه مقال، وليس فيه تصريح
بالفسخ لأجل البرص. ولكن فيها آثارًا عن بعض الصحابة والتابعين مستندة إلى
أصول الشريعة الثابتة من منع الغش ونفي الضرر والضرار، وحينئذ لا وجه
لحصر العيوب فيما ورد في تلك الآثار؛ إذ لا دليل على الحصر وإن ورد عن
بعضهم عبارة فيه فتلك العبارة ليست مما يحتج به مَن ذكرتم من الفقهاء كما يُعلم
من أصولهم، ومذاهبهم ليست متفقة كما ادَّعيتم. وقد حرر المسألة العلامة المحقق
ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) في فصل مستقل قال:
(فصل)
في حكمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد
بصاحبه برصًا أو جنونًا أو جذامًا أو يكون الزوج عِنِّينًا
في مسند أحمد من حديث يزيد بن كعب بن عجرة [1] رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها فوضع [2] ثوبه
وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فانحاز [3] عن الفراش، ثم قال: (خذي
عليك ثيابك) ولم يأخذ مما آتاها شيئًا. وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أنه
قال: أيما امرأة غُرّ بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها المهر بما أصاب
منها وصداق الرجل على مَن غره [4] وفي لفظ آخر: قضى عمر رضي الله عنه
في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فُرق بينهما والصداق لها بمسيسه
إياها وهو له على وليها.
وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: طلق
عبد يزيد أبو ركانة [5] زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها
من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية، فذكر
الحديث ... ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: طلِّقْها، ففعل، قال: راجع
امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله قال: قد علمت،
راجعها، وتلا:] ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ [ (الطلاق: 1) ،
ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول
ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول، ورواية العدل عن غيره
تعديل له ما لم يعلم فيه جرح، ولم يكن الكذب ظاهرًا في التابعين ولا سيما التابعين
من أهل المدينة ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما مثل هذه
السُّنة التي اشتدت حاجة الناس إليها، لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا
عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله.
وجاء التفريق بالعنّة عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود
وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، لكن عمر وابن مسعود والمغيرة - رضي الله
عنهم - أجلوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة - رضي الله عنهم - لم يؤجلوه،
والحرث بن عبد الله - رضي الله عنه - أجله عشرة أشهر. وذكر سعيد بن
منصور: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيمًا، فقال له
عمر رضي الله عنه: أعلمتَها أنك عقيم؟ ، قال: لا. قال: فانطلقْ فأعلمْها، ثم
خَيِّرْها، وأجَّل مجنونًا سنة، فإن أفاق، وإلا فرق بينه وبين امرأته. فاختلف
الفقهاء في ذلك، فقال داود وابن حزم ومَن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة،
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة. وقال الشافعي
ومالك يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة. وزاد الإمام
أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين، ولأصحابه في نتن
الفرج والفم وانخراق مجرى البول والمني في الفرج والقروح السيالة فيه والبواسير
والناصور والاستحاضة واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين
والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما وكون أحدهما خنثى مشكلاً، والعيب
الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة والعيب الحادث بعد العقد وجهان.
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في
البيع، وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا مَن قاله، وممن حكاه أبو
عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي، وهذا القول هو القياس أو قول
ابن حزم ومَن وافقه. وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو
أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة
اليدين أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات والسكوت عنه
من أقبح التدليس والغش وهو منافٍ للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو
كالمشروط عرفًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَن تزوج
امرأة، وهو لا يولد له: أخبرْها أنك عقيم وخيِّرْها، فماذا يقول رضي الله
عنه في العيوب التي هذا عندها كمال بلا نقص.
والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح
من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط
المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا
قط ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبِنَ به. ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده
وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول،
وقُربه من قواعد الشريعة.
وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال:
قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل
بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما
غره. وَرَدُّ هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر رضي الله عنه من باب الهذيان
البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد: إذا لم يقبل سعيد بن
المسيب عن عمر رضي الله عنه فمَن يُقبل؟ ، وأئمة الإسلام جمهورهم يحتجون
بقول سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بروايته عن
عمر رضي الله عنه؟ وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يرسل إلى سعيد يسأله
عن قضايا عمر رضي الله عنه، فيفتي بها، ولم يطعن أحد قط من أهل عصره -
ولا مَن بعده ممن له في الإسلام قول معتبر - في رواية سعيد بن المسيب عن عمر
رضي الله عنه ولا عبرة بغيرهم.
وروى الشعبي عن علي كرم الله وجهه: أيما امرأة نُكحت وبها برص أو
جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك وإن شاء طلق،
وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. وقال وكيع عن سفيان الثوري عن
يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنهم قال: إذا تزوجها
برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على مَن غره. وهذا يدل على
أن عمر رضي الله عنه لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص
والحصر دون ما عداها، وكذلك حكم قاضي الإسلام حقًّا، الذي يُضرب المثل
بعلمه ودينه وحكمه - شريح رضي الله عنه، قال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب
عن ابن سيرين رضي الله عنه: خاصم رجل إلى شريح، فقال: إن هؤلاء قالوا
لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاؤوني بامرأة عمياء، فقال شريح: إن كان دلس
لك بعيب لم يجُز. فتأمل هذا القضاء وقوله: إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي
أن كل عيب دُلِّسَتْ به المرأة فللزوج الرد به.
وقال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال. ومَن تأمل
فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رُويت
عن عمر رضي الله عنه: لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة الجنون والجذام
والبرص والداء في الفرج، وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ وابن
وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما وقد رُوي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل
ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه.
هذا كله إذا أطلق الزوج، وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت
شوهاء، أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزًا شمطاء، أو شرطها بيضاء
فبانت سوداء، أو بكرًا فبانت ثيبًا. فله الفسخ في ذلك كله، فإن كان قبل الدخول
فلا مهر، وإن كان بعده فلها المهر، وهو غرم على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت
هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد
في إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما (إذا) كان الزوج
هو المشترط. وقال أصحابه: إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا
في شرط الحرية إذا بان عبدًا فلها الخيار، وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان.
والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل
إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى؛ لأنه لا تتمكن من المفارقة بالطلاق،
فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى، وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به فإذا شرطته شابًّا جميلاً صحيحًا
فبان شيخًا مشوهًا أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به وتمنع من
الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع
وبالله التوفيق. وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا
يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن، وهو أشد إعداءً من ذلك البرص اليسير،
وكذلك غيره من أنواع الداء العُضَال [6] وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته وحرم على مَن علمه أن يكتمه من المشتري، فكيف
بالعيوب في النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس - حين
استشارته في نكاح معاوية رضي الله عنه أو أبي جهم رضي الله عنه -: (أما
معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) ، فعلم أن
بيان العيب في النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به
سببًا للزومه، وجعل ذا العيب غلاً لازمًا في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه، ولا
سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه؟ ، وهذا مما يعلم يقينًا أن التصرفات
(في) الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه، والله أعلم.
وقد ذهب أبو محمد بن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد
أي عيب كان فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه ولا إجازة ولا
نفقة ولا ميراث، قال: إن التي أدخلت عليه غير التي تزوج؛ إذ السالمة غير
المعيبة بلا شك؛ فإذًا لم يتزوجها، فلا زوجية بينهما. اهـ.
***
الإصرار على البدع
وما يُشترط في مكان الجمعة وزمانها وعدد جماعتها
(4-7) من الشيخ يوسف أحمد سليمان، الطالب بمشيخة الإسكندرية
من (طملاي) بمركز منوف.
فضيلة الأستاذ مفتي المنار
سأل عبد الرحمن أحمد الصعيدي من طملاي عن حكم فعل البدع التي كثيرًا
ما نهينا أئمة البلد عنها ولله الحمد، فأجبتم إجابة كافية شافية في الجزء التاسع الذي
صدر في 30 ربيع سنة 1335 (صحيفة 538) ، وعرضنا الجواب على علماء
الناحية، لا فرق بين مدرس في الأزهر وغير مدرس فقرؤوه وفهموه، والتمسنا
العمل بما علموه فامتنعوا، وقالوا: إن تَرْكُ العمل غير جائز والعمل بالبدع جائز
وهو أحسن! ولذا لم يتركوا حتى ولا واحدة، بل زادوا الطبل والرايات أمام
الجنازة إذا شخص منهم مات، وعضوا عليها بالنواجذ. وقد رأينا في كتاب فتاوى
أئمة المسلمين للشيخ محمود (صحيفة 56) : سئل الشيخ أحمد الرفاعي عن الذي
لم يرضَ بسنة النبي في الصلاة أو الدفن، فهل تصح الصلاة خلفه، ويصح أن
يجعل من عدد الجمعة؟ ، فأجاب بأن الصلاة خلفه باطلة وإذا جعل من عدد الجمعة
بطلت صلاة الجمعة على جميع المسلمين. وسئل الشيخ سليم البشري عن رجل
يقول بعدم جواز ترك البدع المجمع على بدعيتها كالترقية ... إلخ، وإذا قيل له سُنَّةُ
النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمور لا يقبل النصيحة، وهذا الرجل إمام
راتب في مسجد، فهل يصلون جماعة في المسجد قبله أو معه أو بعده؟ ، فأجاب
بأن هذا الإمام مبتدع فلا يكون إمامًا للمسلمين، وعليهم أن يجتهدوا في منعه من
الإمامة ولو بواسطة الأفراد.
فعلى هذا؛ هل الشرع الذي شرعه لنا رسول الله يرى لنا رخصة في كوننا
نصلي الجمعة في الغيط أو في البيت أو في المسجد بعدد أقله ثلاثة غير الإمام
الخاطب من وقت صلاة العيد إلى الاصفرار، هل ذلك يجزئ أم لا، وما هي التي
تجزئ؟ اشفنا بالجواب، رفعك الملك الوهاب.
* * *
الجواب في مسألة البدع:
البدع منها ما يكون كفرًا أو وسيلة إلى الكفر ومنها ما هو حرام وما هو
مكروه، وليس في البدع الشرعية شيء جائز كأن يكون مباحًا؛ لأنها لا تكون إلا
ضلالة كما ورد في الحديث، وقد صرح بهذا الفقيه ابن حجر المكي في الفتاوى
الحديثية (ص306) وأما البدعة غير الشرعية فهي التي قالوا: إنها تنقسم إلى
الأحكام الخمسة كما بيّنه ابن حجر في ص112 من الفتاوى الحديثية أيضًا، ولكنه
أخطأ في بعض الأمثلة، وعبّر عن بعض هذه البدعة بالبدعة اللغوية وقد فصَّل
العلامة الشاطبي هذا البحث تفصيلاً تامًّا في كتابه (الاعتصام) ، وسبق لنا نقل
كثير من فصوله. ولم يبلغنا قبل اليوم أن الجهل بلغ من أحد ينسب إلى الإسلام
مبلغًا حمله على القول بأن العمل بالبدعة الشرعية جائز وأنه خير من تركها! . وما
نقله السائل عن الشيخ أحمد الرفاعي فيه مبالغة لا نعرف لها وجهًا بذلك الإطلاق،
وما أفتى به الشيخ سليم البشري حق ظاهر، والشيخ أقدر من كل أحد في مصر
على مقاومة البدع وإبطال كثير منها؛ وذلك لا يكون بفتوى منه؛ فإنه يَقِلُّ في هذا
القطر مَن يترك شيئًا تعوَّده لفتوى عالم، ولكن لدى الشيخ وسائل أخرى، كل منها
يؤثر ما لا تؤثر الفتاوى الفردية.
يسهل على الشيخ - وهو رئيس العلماء - أن يؤلف لجنة من كبار علماء
المذاهب الأربعة في الأزهر ويأمرها بإحصاء البدع الفاشية في المساجد والأضرحة
والموالد وغيرها وتأليف رسائل في التغير عنها، تطبع ويذكر فيها أسماء عشرات
من العلماء الذين ألفوها وأقروها، وأن يعهد إلى علماء جميع المعاهد الدينية
وطلابها بنشرها وقراءتها على الناس في المساجد بنظام متبع، وكذا في غير
المساجد بشرط أن يكونوا أول العاملين بها والمنكرين على كل من يخالفها، ويمكن
طبع الألوف من هذه الرسائل على نفقة الأوقاف الخيرية المطلقة وتوزيعها بغير
ثمن، وأن يعهد إلى بعض المنشئين المجيدين بإنشاء خطب في ذلك، توزعها
وزارة الأوقاف على خطباء جميع المساجد ليخطبوا بها، وأن يقترح على الشعراء
المجيدين أن ينظموا ذلك في قصائد وموشحات تزجر الناس عن تلك البدع. ويسهل
عليه أيضًا أن يتوسل بالحكومة إلى إبطال كثير من تلك البدع، ولا سيما بدع
المواسم والاحتفالات التي للحكومة يد فيها. فعسى الله أن يوفق الشيخ إلى هذا
العمل الذي لا يقدر عليه غيره، فيكون ذخرًا له عند الله تعالى، وموجبًا لثناء
الناس كلهم بحق.
***
الجواب عن مسألة العدد في الجمعة:
اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على خمسة عشر قولاً، نقلها
الشوكاني عن الحافظ ابن حجر، أضعفها القول بأنها تصح من الواحد، فلا يشترط
فيها عدد - وقد نقل الإجماع على خلافه - ثم القول بأنها لا تنعقد بأقل من ثمانين،
وهو أكثر ما قيل فيها. وأوسطها القول بأنها تصح من اثني عشر غير الإمام،
وهو العدد الذي بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجمَّع بهم حين انفض الناس
إلى التجارة، وهم الذين نزل في شأنهم آخر سورة الجمعة، فظاهر حديث جابر في
المسألة عند أحمد والشيخين أنه صلى بهم، وإن لم يصرح بذلك وصح عند
الطبراني وابن أبي حاتم أنه صلى الله عليه وسلم سألهم عن عددهم فكانوا 12
رجلاً وامرأة، فلولا اعتبار العدد الذي لا يعرف إلا بالعد - دون مجرد النظر - لم
يسألهم، وفيه أن ذلك لا ينفي صحتها بأقل من هذا العدد؛ لأن هذه واقعة عين لا
تدل على العموم، وإنما وجه الاستدلال به أنه يقال فيه ما قيل في خبر انعقادها
بالأربعين، وهو أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد في الجمعة، وقد ثبت جوازها
بهذا العدد، فلا يجوز بأقل منه، ولا سيما في الابتداء إلا بدليل، ولم نَرَ دليلاً
صحيحًا لأحد ممن قالوا بانعقادها بأقل من ذلك، فأقل ما يقال فيه: إن انعقادها بما
دون هذا العدد مشكوك في صحته، ولا يزيل هذا الشك قياسها على الجماعة الذي
استدل به مَن قال بانعقادها باثنين أو ثلاثة مع الإمام أو بدونه؛ لأنه معارض لما دل
عليه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد مَن بقي يوم انفض الناس من حوله؛
ولأن مخالفة الجمعة لغيرها من الصلوات الخمس في بعض الأحكام فارق يبطل
صحة القياس، ولو كان صحيحًا لما خفي على الصدر الأول، ولم ينقل عنهم
التجميع بثلاثة أو أربعة، ولكنَّ في الأربعة حديثًا لا يصح. هذا ما أراه أقوى
الأقوال في المسألة. وقال الحافظ - عند ذكر القول الخامس عشر - وهو اشتراط
جمع كثير بغير قيد: ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. اهـ، وفيه أن
الاثني عشر إذا لم يكونوا جمعًا كثيرًا فما حد الكثرة عنده، وهي من الأمور
النسبية، وما الدليل عليها؟
* * *
الجواب عن مسألة مكان الجمعة:
اشترط بعض الفقهاء أن تقام الجمعة في مصر جامع؛ أي: مدينة، ولم يجيزوا
إقامتها في القرى بمعناها العرفي أي الضياع أي البُليدات القليلة السكان. وروي
ذلك عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا، وقد ضعَّف أحمد رفعه وصحَّح ابن حزم وقفه
وعليه زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله من أئمة العِتْرة وأبو حنيفة وأصحابه.
والجمهور يجيزون التجميع في القرى بالمعنى العرفي المذكور، ومن حججهم ما
رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: أول جمعة جُمعت بعد
جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بجُواثي من
البحرين هذا لفظ البخاري ولفظ أبي داود: بجواثي قرية من قرى البحرين. وزاد
أيضًا: (في الإسلام) بعد قوله: أول جمعة جمعت. قالوا: وصلاة الجمعة في
ذلك الوقت مما لا يفعله الصحابة باجتهادهم بل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي
وإن فُرض فعلها باجتهادهم فلا يعقل أن يخفى عليه فإذًا لا يكون إلا بأمره، وهو
الراجح أو بإقراره؛ إذ لو أنكره عليهم لتوفرت الدواعي على نقله. وكتب عمر إلى
أهل البحرين: أن جَمِّعُوا حيثما كنتم، وصححه ابن خزيمة عنه. وروى عبد الرزاق
عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يُجَمِّعُونَ فلا
يعتب عليهم. أقول: ولا حجة فيما هو آثار عن الصحابة مختلفة والقرية في حديث
ابن عباس الذي في معنى المرفوع هو المصر. ويمكن الجمع بأنها تصح من أهل
الضياع والمزارع ولا تجب عليهم، بل على أهل المدن. ونص حديث علي المشار
إليه آنفًا: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع) .
والقرية والمدينة والمصر والبلد تتوارد على معنى واحد في اللغة، وإن كان
بينها فروق دقيقة في موادها، فقد أطلق في القرآن اسم القرية والبلد على مكة،
وهي أيضًا مدينة ومصر بلا خلاف، وأطلق اسم القرية في سورة يوسف على
مصر (82: 12) وقال علماء اللغة: القَِرية - بالفتح والكسر - المصر الجامع،
ولا ندري متى جعل المولدون لفظ القرية اسمًا للبُليدة الصغيرة، وفسر أهل اللغة
المصر بالكورة والصقع، والكورة بالمدينة، وقالوا: إن الكورة والخلاف والرستاق
والجند واحد، وهو مجموع القرى والمزارع، فكأن المصر البلد الذي يتبعه عدة
مزارع وضياع وهو كالبندر في عُرف مصر، وقال الراغب: المصر اسم لكل بلد
ممصور أي محدود، يقال: مصرت مصرًا: أي بنيته. والمصر: الحد. اهـ،
وقول الليث إنه عندهم الكورة التي تقام فيها الحدود، ويقسم الفيء والصدقات من
غير مؤامرة الخليفة - اصطلاح إسلامي.
واشترط بعض العلماء إقامة الجمعة في مسجد مستدلاً بعمل الناس في الصدر
الأول وما بعده، والعمل وحده لا يعدونه دليلاً، وروى أهل السير أنه صلى الله
عليه وسلم صلى الجمعة بالناس في بطن الوادي قبل وصوله إلى المدينة، وصرح
ابن القيم بأنه صلاها هنالك في مسجد، والجمهور لا يشترطون المسجد، وثبت
عن الصحابة إقامة الجمعة في مصلى العيد خارج البلد.
***
الجواب عن مسألة وقت الجمعة:
ورد في الأحاديث الصحيحة التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يصلي الجمعة حين تميل الشمس أي عند الزوال، بأنهم كانوا يصلون معه، ثم
يرجعون إلى القائلة فيقيلون، روى المعنيين أحمد والبخاري من حديث أنس،
والقائلة:الظهيرة أي منتصف النهار والقيلولة:وهي النوم في الظهيرة أو الاستراحة
فيها، وإن لم ينمْ، وفي حديث سهل بن سعد الذي اتفق عليه الجماعة: ما
كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. أي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما
صرح به في رواية مسلم والترمذي. وعن ابن قتيبة: (لا يسمى غداء ولا قائلة
بعد الزوال) ، وهنالك أحاديث أخرى بهذا المعنى أخذ بها الإمام أحمد، فقال
بصحة الجمعة قبل الزوال، وتكلف الجمهور تأويلها، وذهب بعض أصحاب أحمد
إلى أن وقتها وقت العيد، وبعضهم إلى أنها لا تقدم على الساعة السادسة، أي التي
تنتهي بالزوال، والجمهور منهم كغيرهم، فالمعروف في فقههم أن وقتها وقت
الظهر، ولا دليل على صحتها في وقت العصر، والتجميع قبل الزوال مختلف فيه،
وموجب للافتراق والقيل والقال بلا فائدة، فلا ينبغي الإقدام عليه.
__________
(1) كذا في نسخة الكتاب المطبوعة بمصر الكثيرة الغلط، وهو غلط صوابه زيد بن كعب بن عجرة، كما في سنن سعيد بن منصور، وقد شك في المسند، فقال عن جميل بن زيد قال: حدثني رجل من الأنصار ذكر أنه كان له صحبة يقال له كعب بن زيد أو زيد بن كعب ومثله عند ابن عدي والبيهقي ورواه الحاكم في المستدرك من حديث كعب بن عجرة ولم يشك وجميل بن زيد ضعيف، وقد اضطرب في هذا الحديث، وقال الحافظ ابن حجر: مجهول.
(2) في النسخة المذكورة: وضع.
(3) وفيها: فأماز.
(4) عزاه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام إلى سعيد بن منصور ومالك وابن أبي شيبة، ثم قال: ورجاله ثقات، وروى سعيد أيضًا عن علي نحوه، وزاد: وبها قرن فزوجها بالخيار، فإن مسها فله المهر بما استحل من فرجها (وسيأتي) .
(5) في السنن زيادة: وإخوته أي: وأبو إخوة ركانة.
(6) ومنه داء السل وداء الزهري.(20/97)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز [1]
(4)
السفر إلى مكة المكرمة
في صبيحة يوم السبت سافر ركب المحمل المصري من جدة قبل شروق
الشمس، وفي ضحوته سافرت الوالدة والشقيقة ومعهما الصديق الكريم الشيخ خالد
النقشبندي والصهر الحميم محمد نجيب أفندي وقد استأجرنا لهم أربعة جِمال
بجنيهين، اثنان للركوب واثنان لحمل المتاع (العفش) وأرسلت حكومة جدة معهم
جنديين عربيين من جنود الشريف الهجانة للخفارة وزوَّدهم صديقنا ومضيفنا الشيخ
محمد نصيف بأنفس الزاد الكافي. وتأخرت عنهم لإتمام ما كنت بدأت به من كتابة
نبذة من التفسير للمنار لإرسالها مع البريد من جدة مع كتابة ما لا بد من كتابته
إلى مصر. ثم سافرت بعد صلاة العصر من هذا اليوم على حمار استأجرته بمائة
قرش عثماني ولم أكد أظفر به لولا مساعدة الأصدقاء؛ لأن المغاربة والمصريين قد
سبقوا إلى استئجار جميع حمير البلد أو أكثرها! وسافر معي جنديان من هجانة
العرب بأمر الحكومة لأجل التكريم لا الحفظ؛ فإنها واثقة بأمن الطريق، وركب
معي الشيخ محمد نصيف والشيخ مساعد اليافي مدير الشرطة في جدة وبعض
الأصدقاء مشيعين مودعين ثم عادوا عند غروب الشمس إلى جدة، وقد زودني
الصديق المضيف بالزاد النفيس الكافي كما زود الآل والصحب واختار لي شابًّا
نشيطًا من أهل جدة للخدمة في الطريق وأخذ الحمار في مكة وأدركنا في الطريق
أحد الحجاج المصريين على حمار، فرافقنا.
* * *
(العناية بأمر الماء في السفر)
ولم أهتم لنفسي إلا بملء إبريقي المعدني الذي يحفظ ما يودع فيه من بارد
وحار زمنًا طويلاً بقطع الثلج وملء قربة من الماء النقي. ذلك بأني أعنى بأمر
الماء ما لا أعنى بأمر الطعام ولا سيما في السفر، ولا يشق عليّ فقْد شيء من
طيبات الدنيا التي اعتدتها إلا الماء البارد النقي. وهذا الإبريق من نوع الرَّوَّايات
الوارد (أوعية الماء للسفر) الإفرنجية التي يسمون واحدها (ترموس) وأكثر هذا
النوع عمودي الشكل، وهو يحفظ ما يودع فيه من بارد وحار يومًا وليلة بالتقريب،
وإبريقي الذي ذكرت يخالفها في الشكل والجودة؛ فهو نوع جيد يحفظ الثلج أو
الجليد عدة أيام لا يذوب منه إلا القليل، وقد ملأته بالثلج مرة في طرابلس الشام
وسافرت قاصدًا مصر، فبِتّ في بيروت ليلتين وفي البحر ليلتين، بعدها لم أحتجْ
فيها إليه؛ لأنني أعده لشرب الليل والماء المثلوج متيسر في الباخرة عامة النهار
وناشئة الليل. وقد اتفق أن كان منزلي (القمرة) من الدرجة الأولى بجانب
مستودع الماء المثلوج للباخرة، وفي ضحوة اليوم الخامس نزلنا في محجر
الإسكندرية الصحي فتعاهدت الإبريق فإذا بالثلج فيه لم يذُب إلا بعضه. وقد كان
هذا الإبريق هدية من سلطان مسقط السابق السيد فيصل رحمه الله تعالى - ولم أَرَ
هذا النوع إلا عنده - أهداه إليَّ عند سفري من مسقط سنة 1330؛ إذ رأى أنني
حين كنت في ضيافته لم أسأل عن شيء إلا عن الماء المثلوج. وكان عنده آلة
لصنع الثلج، ولكنها كانت معطلة في فصل الشتاء، وكان وصولي إلى مسقط في
أول فصل الربيع والشمس في برج الحَمَل (شهر أبريل - نيسان) ، فأمر بإصلاح
الآلة واستعمالها قبل الموعد المعتاد عندهم لأجلي. ووضع عندي في دار الضيافة
إبريقًا من هذا النوع الذي نتكلم عنه ليتيسر وجود الثلج عندي في كل ساعة من
الليل والنهار، ولما سافرت وجدت مع متاعي في الباخرة إبريقًا آخر منه جديدًا لم
يُستعمل من قبل، فاستفدت منه في سفري ذاك، وكان أكبر نفعه في السفر من
البصرة إلى بغداد في شط العرب ودجلة؛ إذ قلّ الثلج في الباخرة بين العمارة
وبغداد، ثم نفد، ثم في السفر من بغداد إلى حلب ولا يوجد الثلج بينهما إلا في
مدينة دير الزور وهي بين العراق وسورية، وكان شأننا في تدبير ماء الشرب في
ذلك الطريق - التي قطعناه في 18 ليلة في مركبات (عربات) سفرية تسير على
ضفاف الفرات لا تبعد عنه في بعض الأحيان إلا قليلاً- أننا كنا كلما نزلنا منزلاً في
المساء نبادر إلى تقطير الماء في قدور من الفخار، ثم نبرده بهواء الليل الجاف
البارد في أكواز (قلل) الماء البغدادية وفي قلة معدنية مغشَّاة بقِماش يبلل بالماء،
فيبرد المعدن بضرب الهواء له، ويبرد الماء ببرده - وهذه القلة أهداها إليّ الطبيب
النطاسي محمد عبد الولي في مدينة لكنهو بالهند - وكنت قبل الإدلاج في آخر الليل
أملأ الإبريق المعهود من هذا الماء وترمسًا آخر عموديًّا من النوع المعروف لكثرته
في هذه البلاد، كان أهداه إليَّ صديقي السيد يوسف الزواوي أكبر سروات مسقط
بعد بيت السلطان فيها، فكنت أشرب في بكرة النهار من هذا وأدخر ذاك إلى العشي؛
لأنه أحفظ، والتغير فيه أبطأ. وقد انكسر العمودي معي في حماه، ولا أسف
عليه؛ لأن مثله كثير، إلا أنه أثر من صديق، ثم انكسر الأول في مصر فآلمني
كسره لطرافته وفائدته ولكونه أثرًا من ذلك السلطان الكريم - سقى الله لحده - ولكن
نجله البر الوفي صديقي السيد نادر قائد الجيش الأول لسلطنة مسقط أهداه إليّ إبريقًا
آخر عوضًا عنه، وهو الذي كان معي في الحجاز وكان ما حملت فيه من الثلج
كافيًا لي بين جدة ومكة، إلا أن ماء قربة الجلد تغير في الطريق؛ لأنها كانت بعيدة
العهد بالاستعمال.
وسبب حفظ الترمس لما يودع فيه مدة طويلة هو أنه مؤلف من إناءين،
أحدهما وهو الظاهر معدني وثانيهما زجاجي، باطنه كالمرآة وظاهره مُغشّى بمادة
من المواد البطيئة التوصيل للحرارة والبرودة، ويوضع الزجاجي في باطن المعدني
منفصلاً عنه، ويكون الاتصال بينهما من أعلى الفوهة ولهذه الفوهة صمام (سداد)
من الفلين على رأسه قطعة من معدنه الأبيض ويكون فوقها غطاؤه المعدني المتصل
به، فإذا رفع الصمام قليلاً أمكن صب الماء من بلبل الإبريق.
أطلت في مسألة الماء ليستفيد مما كتبت مَن يعنون بأمر صحتهم ورفاهيتهم
في السفر. والعناية بأمر الماء محمودة، بل ضرورية، فالماء الرديء يكون سببًا
لأمراض كثيرة؛ إذ الماء يحمل من جراثيم الأمراض والأوبئة ما لا يحمل غيره،
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل ما وجد ولا يذم طعامًا ولكنه لم يكن
يشرب من كل ماء يوجد، بل كان يستعذب له الماء من آبار السقيا وهي على
مسافة يوم من المدينة أو أكثر، وكان أحب الشراب إليه العذب البارد. والماء الذي
يوجد بين جدة ومكة في القهاوي - أي الأكواخ التي يأوي إليها المسافرون
للاستراحة وشرب القهوة والشاي - كله قذر، فلا أصله جيد ولا أوانيه نظيفة،
وماء بحرة - التي ينزل فيها جميع الحجاج للاستراحة - رديء غير عذب. ويقال
إن بالقرب منها بئرًا لا بأس بمائها، ولكن لا يسهل إلا على الأقلين الوصول إلى
شيء منها. فمن الضروري للمسافر الذي يُعنَى بصحته أن يحمل ما يكفيه من الماء
بين جدة ومكة في سفره من كل منهما إلى الأخرى، وللشقادف قلل من الفخار
يربطونها في مؤخرتها، فيكون ماؤها مقبولاً ولا سيما في الليل.
* * *
(القهوات في طريق مكة والدكرور)
نزلنا بعد المغرب في أول قهوة من القهوات التي أشرنا إليها آنفًا، فأذنت
وصليت المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، وصلى معي الرفاق، وشربت الماء
المثلوج وشرب الرفاق القهوة وبعد أن استرحنا قليلاً أعطيت صاحب القهوة عنهم
أضعاف المعتاد، فدعا لنا، وركبنا حُمُرنا وركب الجنديان هجانهما، وسرينا لا
نرى من الحجاج في الطريق إلا سودان الدكرور مشاة على أرجلهم رجالاً ونساءً
وأطفالاً، يحمل الرجال حرابهم والنساء أطفالهن على ظهورهن وما لديهن من
المتاع والزاد على رءوسهن، وكنا نرى بعضهم نيامًا على جانبي الطريق، فهم
ينامون إذا تعبوا، فإذا استيقظوا في أي ساعة في ليل أو نهار مشوا، لا يخافون
اللصوص ولا قُطاع الطريق، وقد قيل لنا: إنه لا يتعرض لهم أحد بسوء؛ لأنه لا
يكاد يوجد معهم شيء له قيمة ينتفع به اللصوص من الأعراب هنالك؛ فأكثرهم
عراة لا يملكون من اللباس ما يزيد على ستر العورة ولباس جميع رجالهم ونسائهم
الأبيض وهم مع ذلك يدافعون عن أنفسهم دفاع الأبطال بحرابهم السودانية، فلا
يُستهان بهم مع كثرتهم؛ فإنهم منتشرون طول الطريق، لا تبعد ثلة منهم عن أخرى
إلا قليلاً، واللصوص قلما يكونون كثيرين إلا إذا كانوا يقصدون سلب القوافل
الكبيرة.
* * *
(أمن الطريق وحادثة اعتداء)
وقد كان الطريق في هذا الموسم آمنًا مطمئنًّا، لم يبلغنا أنه وقع فيه اعتداء
على أحد إلا ما حدث بالقرب منا، فإننا سمعنا قبل انتهاء الثلث الأول من الليل
صوت طلق رَصاص استفز الحارسين اللذين معنا، فسألتهما: ما هذا؟ قالا: قوم.
وهم يعنون بكلمة القوم اللصوص وقطاع الطريق، وأشارا علينا بأن نسرع في
السير ما استطعنا، ونقصد قهوة كنا نرى ضوءها فننزل فيها، وتركانا مسرعين
بهجانهما إلى الجهة التي سمع منها صوت الرصاص، وطفقنا نحن نلكز حمرنا
مسرعين بها إلى تلك القهوة، فبلغناها بعد جهد وعناء فاسترحنا فيها ساعة، وشرب
رفيقاي الجندي والمصري الذي ألفَيْناه في الطريق الشاي، ورأينا هناك أناسًا من
الفقراء يطلبون من القهوة طعامًا. ثم جاء الجنديان مع رجل آخر، فأخبرا أن القوم
- قطاع الطريق - الذين سمعنا صوت رصاصهم قد شرّدوا بعيرين للرجل الذي
عاد معهما ولرفيق له، وكانا عائدين من جدة بعد بيع ما كانا حملاه إليها، وأن
خفراء الطريق ما زالوا يقتفون أثرهم، وقال الرجل: إنه لم يَرَ هو ورفيقه إلا لصًّا
واحدًا، ولكنه مسلح وهما أعزلان.
* * *
(النزول ببحرة)
وبعد استراحة الجنديين وشربهما الشاي أكرمت صاحب القهوة واستأنفنا
السرى، فبلغنا (بحرة) في منتصف الليل تقريبًا ورأينا أنوار ركب المحمل
المصري بالقرب من الخصاص التي يأوي إليها الحجاج وغيرهم من المسافرين،
والخصاص جمع خص، وهي البيوت من عيدان الأشجار أو القصب أو غيره من
النبات وهي هنالك كثيرة تسع الألوف الكثيرة من الناس، وعلى جانبي الطريق
سوق منها، فيه الحوانيت والقهوات وإن شئت قلت: الخانات أو الفنادق لإيواء
المسافرين، فيجد المسافرون فيها الماء والخبز واللحم والبيض وأنواعًا أخرى من
الأغذية وقهوة البن والشاي، والموسرون من المسافرين قلما يحتاجون إلى شيء
منها؛ لأنهم يحملون زادهم من جدة أو مكة لعلمهم بأن ما يوجد هنالك غير نظيف
ولا جيد. والخصاص التي وراء هذه السوق التي في الطريق العام عبارة عن دور
يتألف كل منها من عدة بيوت، يمكن أن يجعل بعضها للنساء وبعضها للرجال ولها
مراحيض وراء المساكن. وقد نزلنا في قهوة كبيرة كنا أُوصِينا بالنزول فيها،
فاسترحنا فيها ساعتين كاملتين وكنا قد جُعنا فأكلنا مما نحمل من لحوم الضأن
والدجاج والسمك والخضر والحلوى والفاكهة وشربت الماء المثلوج وحمدت الله
تعالى حمدًا كثيرًا. وأحببت أن أعرف أين نزل جماعتنا فتعذر عليّ ذلك.
* * *
(السُّرَى من بحرة ومسألة أمن الطريق)
ولما أردنا استئناف السرى استأذنني الجنديان في البقاء ببحرة؛ لأنهما
يريدان العودة صباحًا إلى جدة، وجاءاني بجنديين عربيين من المشاة، فقالا: هذان
من جنود سيدنا الموكلين بحراسة الطريق وهما يقومان مقامنا، فسرينا ومشيا أمامنا،
يحمل كل منهما بندقية من الماوزر على كتفه شادًّا مِنطقة من رصاصها المنضود
في وسطه، وهو حافي القدمين، ليس عليه إلا قميص قصير، فسألت أحدهما عن
أمن الطريق، فقال: إن الأمن تام ولا خوف عليكم في الطريق، قلت: أرأيت إذا
هجم علينا قوم كثيرون فماذا تغني عني أنت وصاحبك؟ قال: إن القوم الكثيرين
لا يعتدون على الأفراد أو الجماعة القليلة من المسافرين وإنما يقصدون القوافل
الكبيرة التي تحمل ما يحتاجون إليه من الطعام ونحوه، والقوم القليلون لا يتجرؤون
على جنود سيدنا، وإن كانوا أقل منهم، وفي الطريق على طوله مخافر متقاربة
يمكن إيصال أنباء الاعتداء من بعضها إلى بعض بسهولة. وحقًّا ما قال؛ فإنَّا كنا
بعد مفارقة جدة بقليل نرى تلك المخافر على جانبي الطريق، وكثير منها في
الروابي والهضاب، وهي كثيرة متقاربة، وكان هذان الجنديان كلما أبصرا أحداً في
الطريق على مقربة منا أسرعا إليه قبل وصوله إلينا وعرفا حاله. وقد رأينا في
طريقنا قبل بحرة وبعدها كثيرًا من القوافل قاصدة جدة إما من مكة وإما من الطائف،
وهي التي تحمل الفاكهة كالرمان والعنب والسفرجل، ورأينا أيضًا كثيرًا من
الأفراد والجماعات يقصدون جدة. وفي أثناء الساعة الثانية وصلنا إلى قهوة
استرحنا فيها قليلاً واستأذنني الجنديان بالتخلف وأوصيا جنديًّا كان هنالك بأن
يصحبني إلى مكة، وكانت المسافة قد قربت وعلمت منهما أنهما جائعان، وليس
معهما شيء، فأعطيتهما ما تيسر من الدراهم.
ثم أدلجنا وسألت الجندي عن حال الأمن في تلك البقعة فقال: إن هذه الأرض
أرض هذيل الذين أنا منهم، وهم لا يسرقون ولا يعتدون على أحد وإن ماتوا جوعًا
بل يعيشون بمواشيهم وإنما اللصوص وقطاع الطريق هم عرب الشمال. وبعد أن
أصبحنا وصلنا إلى مكان، فذكر لي حادثة من الحوادث المثبتة لأمانتهم، قال:
مات في هذا المكان رجل من حجاج المغاربة، يظهر أنه كان مريضًا، فتعب في
الطريق فتحول عنه إلى هذا المكان للاستراحة فمات فيه وكان له ولد منفرد عنه
وصل مكة، فلم يجد والده فعاد ينشده في الطريق وكان بعض عربنا قد رأوا الميت
ووجدوا معه كيسًا كبيرًا فيه نقود كثيرة فحفظوه ولما رأوا الولد دلوه على والده
وأعطوه نقوده وأعانوه على دفنه ولم يأخذوا من الكيس شيئًا ولو شاؤوا لأخذوه كله.
وجملة القول إن العناية بحفظ الأمن في هذا الموسم كانت كبيرة، وإنني لم
أسمع من أحد من الحجاج شكوى اعتداء على نفس ولا مال، ولكن حدثتني الوالدة
- بعد الوصول إلى مكة المكرمة - أنه عرض لهم في الليل رجل ادعى أنه من
الحجاج المصريين من المنصورة، وأنه فقير لم يجد ما يركبه، وكان يحاول أن
يركب البعير الذي عليه أسفاطنا وصناديقنا، فينهره أحد الجنديين اللذين معهم
بالكلام فيتحول قليلاً، ثم يعود، ولم ينصرف حتى هدده بالضرب، واتهمه بأنه
يريد أن يركب البعير ليشرده ويذهب به، وأنه لا بد أن يكون له رفاق ينتظرونه.
ويجوز أن يكون الرجل صادقًا، ولكن إساءة الظن في هذا المقام من الفِطنة.
والفضل الأول في هذا الأمن الذي لم يُسمع بمثله منذ قرون لشخص الشريف
الحسين بن علي [2] ، وقد كان السيد الزواوي قال لي -منذ بضع سنين -: إنه لم
يَرَ أقدر من هذا الأمير على حفظ الأمن في الحجاز كله، وسياسة العرب فيه.
* * *
(بحث لغوي في الحجر والفِهْر والصخر)
لم أستفد من حديث هذا الأعرابي الجندي ولا من حديث مَن قبله فائدة لغوية
تُذكر، على أني أكثرت من الكلام مع هذا ما لم أكثر مع الآخرين ورأيته أفصح
منهم وذكرت له أبياتًا من الشعر العربي، فرأيته لا يفهم جميع مفرداتها، ولكنه
امتحنني بالسؤال عن شيء أبيض في الجبل - ولون الجبل أسود بل أصهب - قلت:
أي شيء هو؟ ، قال: ما هو مثل الشاة؟ والغنم هناك أبيض اللون، قلت: نعم.
قال: هذا فِهر. وأقول: إن المشهور في كتب اللغة أن الفِهر الحَجر الصغير
الذي يؤخذ باليد، ويدق به الجوز ونحوه، وقال بعضهم: الذي يملأ الكف. وذلك
الحجر كبير لا يمكن رفعه بيد واحدة؛ ولذلك رجعت إلى معاجم اللغة، فرأيت في
لسان العرب - بعد تعريفه بما ذكرت آنفًا -: (وقيل هو الحجر مطلقًا) ، ومن
العجيب أنه قد فسر هو والفيروزآبادي الحجر بالصخرة، والصخرة بالحجر
العظيم الصلب. وهو تساهل أو تقصير في تحديد المعاني، والصواب أن الحجر
اسم جنس لهذه الأجسام المعروفة يُطلَق على صغيرها وكبيرها وعلى الصلب الشديد
اليبوسة منها وغيره. وقالت العرب: استحجر الطين أي يبس فصار حجرًا.
والصخر ما عظم من الحجارة، واحدته صخرة، والحصى صغار الحجر، واحدتها
حصاة، وجمعها حصيات وحُصيّ. قالهما ابن سيده في المخصص، وهذا ما يفهمه
جميع الناطقين بالضاد من معنى الحجر والصخر والحصى. وقول اللسان في الفهر:
(وقيل هو الحجر مطلقًا) على ضعفه - لا يؤخذ على إطلاقه والذي ظهر لي من
نُقول أهل اللغة ومن كلمة الأعرابي الهذيلي أن أكثر العرب كانت تطلق الفهر على
الحجر الذي يؤخذ باليد الواحدة للدق به والكسر أو الحذف والرجم، وقليل منهم
أطلقه على ما يؤخذ بكلتا اليدين لدقّ شيء أو ضربه، وأكثر العرب تؤنث الفِهر،
وورد تذكيره في حديث حمالة الحطب؛ فإنها أخذت فهرًا وجاءت لتضرب به النبي
صلى الله عليه وسلم، فلم تره فقالت لأبي بكر رضي الله عنه - وهو معه -: لو
وجدت صاحبك لشدخت رأسه بهذا الفهر. نقله شارح القاموس بهذا اللفظ عن
الروض. قال صاحب الهمزية:
وأعدّت حمالة الحطب الفهـ ... ـر وجاءت كأنها الورقاء
يوم جاءت غضبى تقول في مثـ ... ـلي من أحمد يقال الهجاء
وتولت وما رأته ومن أيـ ... ـن ترى الشمس مقلة عمياء
(قهوة سالم)
وقد بلغنا قهوة سالم مصبحين، وهي في حدود الحرم على مقربة من مكة،
وكنا مررنا ليلاً بالعلمين المنصوبين لحدوده. فصيلنا فيها صلاة الفجر ثم لم أملك
نفسي من التعب والنعاس أن اضطجعت، فنمت حتى طلعت الشمس. وكنت عازمًا
على الاغتسال في هذه القهوة لدخول مكة عملاً بالسنة، وسألت في جدة وفي
الطريق عن مكان يمكنني أن أغتسل فيه فقيل لي قهوة سالم، ولكنني خشيت على
نفسي المرض من الاغتسال وقتئذ بالمال البارد مع شدة الإعياء، فاكتفيت بالوضوء،
ورأيت أن أمشي ميلاً أو ميلين لتلين عروق رجلي ووركي وأعصابها المتيبِّسة
من طول الركوب الذي طال عليَّ عهده، ففعلت وضايقني دخول الرمل في نعلي
فمشيت حافيًا ضاحيًا (أي بارزًا للشمس) كسودان الدكرور، الذين كنت أراهم
أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي منذ خرجت من جدة إلى أن دخلت مكة.
* * *
(أسرى الترك)
ولما قربنا من مكة وظهرت لنا ضواحيها - رأينا أسرى الترك الذين أسرهم
العرب في الطائف خارجين منها مشاة في الطريق اليسرى مرسَلين إلى جدة،
يخفرهم قليل من الجنود الأعراب، وفي اليوم الثاني من دخولنا مكة رأينا فيها
ضباطهم ركوبًا على الإبل متلفِّعين، لا ترى إلا أعينهم وأنوفهم، وهم مرسَلون إلى
جدة يخفرهم قليل من جنود الأعراب الهجانة، وكان قد بلغنا في جدة خبر فتح
الشريف الأمير عبد الله الطائف بعد أن حاصرها عدة أشهر، وتسليم قائد الحامية
التركية غالب باشا الذي كان والي الحجاز له.
* * *
(وفد الأمير لاستقبال العبد الفقير)
ولما بلغنا قهوة المعلم وهي آخر قهوة بين جدة ومكة - رأيت صديقنا الأستاذ
الكبير السيد عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة مع بعض ولده وبعض
المكيين، فأقبل لاستقبالي ونزلت عن دابتي فتعانقنا وتصافحنا وجلسنا للاستراحة
وبعد السلام قال لي: إن هذا الوقت هو وقت دخول سيدنا الشريف عبد الله نجل
سيدنا الأمير مكة قادمًا من الطائف، بعد أن تم فتحها على يديه، وقد أُعِدَّ له احتفال
كبير، وخرج سيدنا بجميع الشرفاء والوجهاء ورجال الحكومة إلى خارج البلد
لاستقباله، ولما علم بأن قدومك يتفق في هذا الوقت أوفدني من قِبَله لأجل استقبالك،
وأرسل إليك بغلته هذه مع مَن ترى من حُجّاب سيادته لتدخل عليها مكة - وأشار
إلى بغلة دهماء مشدودة مع حاجبين أبيضَيْ اللون بثياب حمر كالثياب التي يلبَسها
قواسة وكلاء الدول - ولو جئت قبل هذا الموعد لرأيت من العناية باستقبالك ما
يسرك، ولكنت معنا الآن في استقبال صديقك سيدنا الشريف عبد الله، ولدخلت بك
مكة من الطريق التي دخل منها سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فقابلت هذه
العناية الهاشمية بالشكر والثناء وخالص الدعاء.
هذا، وإنني كنت عازمًا عند الوصول إلى جدة أن أكتب إلى هذا الصديق
الوفي أكلفه أن يستأجر لي ولمَن معي دارًا ننزل فيها، ولكنه كلمني بالمسرة
(التلفون) من مكة، فقال: إن سيدنا الأمير - أعزه الله - قد أمر بإعداد منزل لك
مؤلَّف من دائرتين، إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وفيه جميع ما يُحتاج إليه
من الأثاث والماعون والخدم وهو بقرب الحرم الشريف. وعلمت من هذا الصديق
أنه كان يتمنى أن ننزل في داره ضيوفًا عليه، لو لم يتفضل (سيد الجميع)
بتشريفنا بضيافته السنية الهاشمية.
وقد تذكرت الآن - والشيء بالشيء يُذكر - أن صديقي السيد يوسف
الزواوي كبير تجار مسقط وسرواتها، الذي مرّ ذكره في هذه الرحلة - وهو من آل
هذا البيت - كان قد كتب إليَّ وأنا في بمباي ثغر الهند الأول سنة 1330 يقول إنه
بلغه أنني عازم على زيارة مسقط ويدعوني إلى النزول في داره، ولم يكن يعلم أن
سمو سلطانها السيد فيصل - رحمه الله وطيب ثراه - قد أمر مندوبه في بمباي
بدعوتي إلى ضيافته وبأن يخبره عن يوم سفري بالبرق (التلغراف) ، فلما جئت
مسقط ونزل السيد إلى الباخرة مع مَن نزل من ولد السلطان وحاشيته في زورقه
البخاري لاستقبالي فيها - أخبرني بما كان تمناه واستعد له من حسن الضيافة، لولا
أن سمو السلطان نفس عليه بذلك وقال له: أنت تنتظر مثلي قدوم فلان على بلدنا
وتريد أن تستأثر بضيافته من دوننا؟ ! ولكن السيد يوسف - أحسن الله إليه -
أدب لي مأدبة عظيمة في نفس مسقط، ودعا إليها جميع كبرائها ووجهائها ومأدبة
أعظم وأفخم منها في دار له بمزرعة في ضواحي مسقط، دعا إليها كبراء مسقط
ووجهاء البلاد المجاورة لها، حضرها عشرات منهم، فقضينا معهم يومًا كاملاً من
أطيب أيام الحياة، ذكَّرناهم فيه بآيات الله، فألفينا آذانًا صاغية وقلوبًا واعية،
وكذلك الأستاذ السيد عبد الله - حيّاه الله تعالى - فإنه أدّب لنا عدة مآدب فخمة،
حضر بعضها أهل العلم والوجاهة من حجاج المغاربة، وسيجيء ذكر هؤلاء
المغاربة في هذه الرحلة.
* * *
(دخول مكة المكرمة والطواف والسعي)
بعد أن استرحنا قليلاً ركبت البغلة التي تفضل بإرسالها إليَّ سيدنا الأمير،
ومشى أمامي حاجباه، وركب السيد الزواوي فرسه اللينة السير ونجله السيد عبد
الرحمن دابته، وسارا إلى جانبي، وركب مطوّف بلدنا (طرابلس الشام) الشيخ
محمد الحريري ونجله دوابهما وسارا وراءنا، فلما دخلنا مكة ومررنا في أسواقها
جعل الناس يقومون على الجانبين تكريمًا لمَن كرَّم أميرُهم ومنقذُهم من الهلكة، وإن
كانوا لا يعرفون شخصه ولا صفته، حتى إذا ما بلغ السير بنا بيت الله الحرام،
دخلناه ومررنا فيه من باب بني شيبة [3] حيث دخله سيد الرسل عليه أفضل الصلاة
والسلام، فلما وقعت العين على الكعبة المعظمة، التي كساها الله تعالى حُلل المهابة
والعظمة، قلت كما كان يقول عمر بن الخطاب عليه الرضوان: اللهم أنت السلام
ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام. وقفَّيت على ذلك بالدعاء الذي ورد، وإن لم
يصح به السند: (اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًّا) .
وطفت طواف القدوم والعمرة سبعة أشواط، وطاف معي مطوفنا رافعًا
صوتًا بما يحفظه من الثناء والدعاء - وهو ما اعتاد المطوفون تلقينه للحجاج - وأنا
أدعو وأثني بما أعلم وما أُلهم. وقد ذكَّرني المطوف بما كدت أذهل عنه من الرَّمَل
في هذا الطواف، وما يُسَنُّ فيه من كشف المنكب الذي يكون بالاضطباع، وبعد
الطواف صليت ركعتين، وشربت من ماء زمزم، ثم خرجت من باب الصفا لأجل
السعي بين الصفا والمروة.
كنت أحب أن أطَّوَّف بالصفا والمروة ماشيًا ولكن السعي بينهما سبع مرات
عبارة عن قطع ثلاثة كيلو مترات مشيًا، وذلك ما كنت أعجز عنه في ذلك الوقت
لما عرض لوركي من التعب والألم من الركوب عامة الليل على حمار غير فاره
لولا الإشناق له طول الطريق لخرَّ بي مرارًا، وكم ثنى ركبتيه للركوع، ومنعه
جذبي الرسن من السجود، فسعيت راكبًا على البلغة وهو جائز، ورملت بها في
موضع الرمل وهو ما بين الميلين (العمودين) الأخضرين الناتئين من جدار الحرم،
وقد بينت في المناسك أن جميع مناسك الحج قد شرعها الله تعالى على لسان
إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام إلا الرمل في الطواف والسعي، فإنه من
آثار نبينا صلى الله عليه وسلم، فعله مع الاضطباع وهو عبارة عن كشف المنكب
الأيمن وإظهاره ليظهر قوة المسلمين للمشركين في عمرة القضاء؛ إذ كان بلغه أنهم
قالوا: إن محمدًا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهُزَال، وكان بلغه
عنهم في الحديبية أنهم قالوا في المؤمنين: أوهنتهم حمى يثرب.
وبعد السعي عدت إلى دار السيد الزواوي إجابة لدعوته، فمروا بي من
طريق آخر وحُجاب الأمير أمامي والكثيرون من الناس يقفون في دكاكينهم، وفي
الطريق من الجانبين، فأحييهم بالسلام وبالإشارة حتى إذا ما جئت الدار أعد لي ماءً
للاستحمام فاغتسلت وتغديت مع السيد وولده ونمت، وكان الحر قد اشتد، فلم أنم
إلا قليلاً. وقد سألني السيد: متى تحب أن أذهب بك لزيارة سيدنا الأمير؟ قلت
له: إنني كنت محرمًا بالعمرة وقد أديت طوافها وسعيها وسأقصر شعري وأتحلل
منها، ولكن ثيابي مع الوالدة والرفاق، فمتى وصلوا ألبَس ونذهب، ورغبت إليه
في الذهاب إلى الدار المعدة لنا لأجل انتظارهم فيها، ولما جئت الدار وجدتها على
الشارع العام بجوار باب الحرم الغربي الكبير المسمى بباب إبراهيم، وقد تأخر
وصول الجماعة إلى قرب المغرب، فلم نتشرف بتلك الزيارة إلا ليلاً، وسأذكر لقاء
الأمير وشمائله في فصل آخر.
* * *
الحالة الروحية عند أداء المناسك
وحُكم التلبية والطواف والسعي
الحج عبادة روحية جسدية اجتماعية، فهو تربية عالية للإنسان منفردًا
ومجتمعًا، أي تربية كاملة له، فإن الإنسان مركَّب من جسد وروح، وقد خُلق
ليعيش مجتمعًا، وفي الحج تقوية لجسده ولروحه ولروابطه الاجتماعية.
أما كونه رياضة بدنية مقوية للجسد فظاهر في جميع المناسك؛ فالإحرام
ضرب من الرياضة والسفر كذلك، قد وصفت لك - أيها القارئ - سفري من جدة
إلى مكة، وعلمت بالإجمال ما قاسيت فيه من المشقة، مع استكمال أسباب الراحة
وقرب الشقة. وفي الطواف والسعي رياضة المشي التي يصف الأطباء نفعها
ويوصون بها، فدائرة المطاف حول الكعبة المعظمة لا يقل متوسطها عن مائة متر
وأقل الطواف سبعة أشواط (مرات) ومن الناس من يطوف في اليوم والليلة أسابيع
كثيرة متصلة ومنفصلة، أما أنا فلم أستطع أن أزيد على سبعة أسابيع في أمثل
الأوقات وأعدلها وهو وقت السحر؛ لما كنت عليه من ضعف البدن، وكان رفيقي
وأخي في الله الشيخ خالد يطوف ضِعفي ذلك أو يزيد. وإذا كان أقل الطواف -
وهو أسبوع - عبارة عن مشي ثلاثة أرباع الكيلو فإن السعي بين الصفا والمروة
سبع مرات يقرب من مشي 3 كيلو.
وأما كونه مقويًا للروابط الاجتماعية فلما فيه من التعارف والتآلف بين
الشعوب المختلفة في أفضل بقاع الأرض، وفي أحسن الأحوال التي يكون عليها
الإنسان في هذه الحياة، وهي التجرد من شواغل الدنيا والتوبة إلى الله تعالى من
جميع المعاصي والآثام.
وأما كونه عبادة روحية مهذبة للنفس بتقوية شعور الإيمان، فهو المقصود
بالذات الذي يجب أن يُتَحَرَّى وينوى، ويلاحظ عند كل عمل من أعمال المناسك،
وهاك خلاصة وجيزة من العلم والاختبار في ذلك:
(الحالة الروحية في طريق مكة وتأثير التلبية)
كنت قبل عودة المشيعين لي من جدة ألبي في السير قليلاً، وأتكلم معهم
كثيرًا، فلما عادوا وولى النهار بأنسه وبهائه، وأقبل الليل بوحشته وظلماته -
هدأت المشاعر، وقرت النواظر، وخشعت السرائر، وتزاحمت الخواطر - فكان
الغالب منها على الفكر والقلب ما يثيره تأثير الزمان والمكان وزي الإحرام في
النفس.
فأما الزمان فهو شهر ذي الحجة الحرام، وأما المكان فهو الطريق إلى بيت
الله الحرام، وأما زي الإحرام فهو الذي كان يتزيَّا به إبراهيم خليل الله،
وإسماعيل ذبيح الله، ومحمد خاتم رسل الله، وغيرهم من رسل الله الكرام، عليهم
الصلاة والسلام، وكل مَن حج البيت أو اعتمر من أصحابهم وأتباعهم هداة البشر،
فيا لها من ذكرى لذي اللب، يخشع لها القلب، ويُرجى بها رضوان الرب، بما
تثمره من قوة الإيمان، وطهارة الوجدان، وخلوص السر والإعلان، ولو لم يقترن
بها ذكر لسان، ولا عمل أركان، فكيف إذا صحبها تكرار التلبية، التي تزيد
حرارتها تذكية؛ وإخلاصها تزكية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن
الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تأملت نفسي في تلك الليلة الليلاء، والطريق الجرداء، فرأيتني حاسرًا حافيًا
في إزار ورداء، غير مُبالٍ بما يكون من تأثير الهواء، وهي حال لم أعهدها في
سالف الأيام، إلا بين جُدُر الحمام، وقد كان الهواء عند خروجنا من جدة حارًّا
رطبًا، وكانت الدابة وهي في أول السير تنهب الأرض نهبًا. وهذه ثلاثة أسباب
يتفصَّد بها العرق من الإهاب، ثم كنا كلما أوغلنا في السرى، وتغلغلنا في البيداء،
نشعر بجفاف الجو، وبرد الهواء، حتى اضطررت إلى إخراج سجادة صلاة كانت
تحتي، فوضعتها على عاتقي فلم تغنِ عني، فأخرجت العباءة فتلفعت بها، جاعلاً
لأجل الإحرام أعلاها أسفلها، ولم أخف من أذى يصيبني من برد الليل ولا ضرر،
ولم يعرض لي سأم من طول السرى ولا ضجر، فإن مسني طائف من شيطان
الوسوسة - ذكرت الله تعالى، فطردته بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك
لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ويالله ما أحلى التلبية في تلك الفلوات، وما أعظم الأُنس بها في حنادس
الظلمات، إذا خشعت بها الأصوات، واستمطرت بها العَبَرات، ومن دقائق حكم
الشرع استحبابه رفع الصوت بها للرجال، وتجديدها بتجدد المناظر واختلاف
الأحوال، فرفْع الصوت بها ينفي الوسواس، وإذا كان في الليل يطرد النعاس،
وهو أجلب للخشوع، وأذرف للدموع، واستئنافها عند اختلاف الأحوال وتجدد
المناظر أدعى إلى دوام الذكر وعدم تفرق الخواطر، فكنت كلما علونا نجْدًا، أو
هبطنا غورًا، أو نزلنا مكانًا، أو استأنفنا سُرَانا، أو لقينا مشاة أو ركبانًا - جأرتُ
إلى الله تعالى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك
والملك، لا شريك لك.
* * *
(تأثير رؤية الكعبة والطواف بها)
تلك التلبية تملأ قلب متدبرها إيمانًا وتوحيدًا، وتجرده من الحظوظ والأهواء
تجريدًا، وتعده لزيارة بيت الله والطواف، وهو في أحسن حال وأتم استعداد، حتى
إذا اكتحلت عينه برؤية الكعبة المعظمة، وراع القلب ما جللها من المهابة والعظمة
- تذكَّر أنها أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدى للعالمين، وخصه الله بالآيات
البينات الباقية على بقاء الأيام والسنين، ورأى أمامها مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا
وآلهما الصلاة والسلام، ووجد نفسه حيث كان بدء دين الله الإسلام، وحيث الختام،
فإذا دنا من مهبط الروح الأمين، ومطاف الملائكة والنبيين، والصديقين والشهداء
والصالحين فلا تسلْ ثَمَّ عن الدموع كيف تنسكب، وعن الضلوع كيف تضطرب،
وعن الأعناق كيف تخضع، وعن القلوب كيف تخشع، ولا عن وجدان الإيمان،
كيف يتألق نوره في الجَنان، ويفيض بيانه على اللسان، فيحركه بما يُلهم من الثناء،
وما يشعر بالحاجة إليه من الدعاء، وما يذكره أو يُذكّر به من المأثور، من
مرفوع أو موقوف، لا تسلْ - أيها القارئ - عن شيء من ذلك، ولا عن غيره مما
يكون عند أداء المناسك، فمَن ذاق عرف، ومَن حُرم انحرف.
على هذه الحال تدخل الحرم المقدس، طاهر القلب والبدن من الحدث
والدنس، فتأتي الركن الأسود، حيث العظمة والسؤدد، فتقول: بسم الله، الله أكبر،
فيصغر في قلبك كل شئون البشر، ثم تبدأ الطواف، مع النية والإخلاص، بلمس
الحجر وتقبيله إن قدرت، وبالإشارة إليه إن أنت عجزت، ولا بأس بأن تتذكر ما
رُوي من أنه رمز إلى يمين الله التي لا تشبه الأيمان، وأن استلامه وتقبيله في
معنى تحية رب البيت ومبايعته على الإيمان والإسلام والإحسان، ومن أنه يشهد
لمستلمه يوم القيامة كما تشهد الأعضاء، وبأن تقول بلسانك أو قلبك، كما قال أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب من قبلك: (إنني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع،
ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبَّلك [4] لما قبَّلْتك) ، فتقبيلك ليس
لذاتك الحجرية، ولا لمنفعة فيك مرجوة أو مضرة مخشية، ولا هذا الطواف الذي
بك يبتدأ وعندك يختتم، في معنى عبادة الوثن وتعظيم الصنم، وإنما هو خضوع
لأمر الله، واقتداء برسل الله، وتعظيم لما عظم الله، وأنس بالقرب مما نُسب إلى
الله، يكمل به توحيد الله، وتنمي به محبة الله، فمن شأن المحبين الأُنس بكل ما
يُنسب إلى المحبوب، ولا سيما إذا تعذر اللقاء وعز الوصول، وكم نظموا من
الأشعار، في الوقوف بالأطلال والطواف بالآثار:
أمر على الديار ديارِ ليلى ... أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب مَن سكن الديارا
ولما كان الرب العلي العظيم، الجدير بأعلى مراتب الحب والتعظيم، لا
تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، ولا يراه عباده في هذه الدار - كان من
رحمته بالمؤمنين المحبين أن وضع هذا البيت للطائفين منهم والعاكفين، ونسبه إليه؛
ليكون تعظيمه تعظيمًا له.
فإذا مضيت في الطواف يمينًا مصاحبًا لهذه الذكرى، جاعلاً البيت من الجهة
اليسرى، فاشغلْه بالثناء على الله، والدعاء لنفسك، ولآلك وصحبك، ولأمتك
وأولي أمرك، فإذا بلغت الركن اليماني - وهو الجنوبي الغربي - فاستلمه إن سهل
عليك؛ فإنه على قواعد إبراهيم، التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم، ومتى
انتهيت إلى مقابله - وهو الركن الأسود - فقد أتممت من طوافك الشوط الأول،
وبقية الأشواط مثله في الشروط والآداب، كالخشوع والتذكر وترك غير الضروري
من الكلام، وعدم التهافت على استلام الركن والحجر عند الزحام، فإذا أتممت
السبعة الأشواط فاختم دعاءك بين الركعتين بقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201) ، ثم صَلِّ ركعتين
سنة الطواف، والأفضل أن تصليهما وراء المقام.
* * *
(تأثير السعي وحكمته)
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، وليس له نفل فلا
يفعل في كل منهما أكثر من مرة، ويجب أن يكون بعد الطواف، ولا يشترط فيه
شروط الصلاة. فإذا جئت الصفا فاقرأ كما قرأ الرسول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن
شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) ، وقُل كما قال: (نبدأ بما بدأ الله) ، ثم اصعد
درجة أو أكثر، واستقبل البيت الحرام، فإذا رأيته فقل كما كان يقول عليه الصلاة
والسلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل
شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده) ، وادعُ الله تعالى مكررًا ذلك ثلاث مرات.
وتذكر عند السعي أنه ذكرى سعي جدَّتنا السيدة هاجر عليها الرضوان، أم
أبينا إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وعلى أبيه، وصفوة بنيه، ويا لها من ذكرى
لمجد العرب الكرام، ومعجزات الإسلام، مثبتة لحفظ الله تعالى لهذه الملة، وعنايته
بهذه الأمة، حفظتها العرب بالعمل المتواتر، وكم حفظت ما هو دونها من المآثر.
وما يحفظ بالتمثيل والمحاكاة يكون أثبت مما يحفظ بالتلقين والروايات، ولكنهم
مزجوا مناسك الحنيفية، بخرافات الوثنية، فإن كانوا قد وضعوا صنمين على
الصفا والمروة فقد وضعوا 360 صنمًا على الكعبة، ثم طهر الله تعالى هذه البقاع
بالإسلام، وأعادها إلى ما كانت عليه في عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما وآلهما
الصلاة والسلام، روى البخاري وغيره من طريقين عن ابن عباس رضي الله
عنهما، قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان [5] خرج بإسماعيل وأم
إسماعيل ومعهم شنة [6] فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها
على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة - زاد في الرواية الأخرى فوق
زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ولا بها ماء ووضع عندهما جرابًا فيه
تمر، وسقاءً فيه ماء - ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا
كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى مَن تتركنا؟ ، قال: إلى الله، قالت:
رضيت بالله، وفي الرواية الأخرى أنها قالت: إذًا لا يضيعنا، وفيها أنه لما كان
عند الثنية، أي ثنية كداء حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء
الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ
بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) ، قال: فرجعت فجعلت تشرب من
الشنّة ويدرّ لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبتُ فنظرت لعلِّي
أُحسّ أحدًا - زاد في الرواية الأخرى: حتى إذا نفد ما في السقاء (أي الشنة)
عطشت وعطش ابنها، فجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية
أن تنظر إليه - (قال) : فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت هل تُحسّ أحدًا،
فلم تُحسّ أحدًا، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطًا ثم قالت:
لو ذهبت فنظرت ما فعل، تعني الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه
ينشغ [7] للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أُحسّ أحدًا،
فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدًا حتى أتمت سبعًا - زاد في
الرواية الأخرى: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك سعي
الناس بينهما) - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت، فقالت:
أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل - وفي الرواية الأخرى فقالت: قد أسمعت
إن كان عندك غَواث، فإذا هي بالمَلَك عند زمزم - قال: فقال بعَقِبه هكذا وغمز
عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل [8] ، فجعلت تحفر
(قال) : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (لو تركته كان الماء ظاهرًا) -
ولفظ الرواية الأخرى: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت - أو قال - لو لم تغرف
من زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا) ، أي جاريًا على وجه الأرض - (قال) :
فجعلت تشرب من الماء ويدرّ لبنها على صبيها، قال: فمر ناس من جرهم ببطن
الوادي، فإذا هم بطير - وفي الرواية الأخرى: فرأوا طائرًا عائفًا أي يحوّم على
الماء - كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم،
فنظر فإذا هم بالماء، فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن
نكون معك أو نسكن معك - وزاد في الرواية الأخرى فقالت: نعم ولكن لا حق لكم
في الماء، قالوا: نعم - ثم قال مصرحًا بالرفع: (فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم
فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم
وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم) . اهـ المراد منه،
ويليه ذكر عودة إبراهيم إلى مكة لتفقد تركته، أي ما تركه فيها وخبر بنائه البيت.
وجرهم كقُنفذ هو ابن قحطان ولكن رجح الحافظ أن قحطان نفسه من ذرية إسماعيل.
فهذا حديث صرح فيه ابن عباس بما يدل على رفعه كله، وإن لم يسنده إلى
النبي صلى الله عليه وسلم في أوله. وفيه نص صريح في بيان حكمة جعْل الصفا
والمروة من شعائر الله، التي يحيا شعور الإيمان بها، ووجوب التطوف بهما
والسعي بينهما. فإنه تمثيل يذكِّر بتلك الواقعة التي هي من أكبر آيات الله ومظاهر
قدرته، وعنايته بتلك السيدة العظيمة القوية الإيمان به والاتكال عليه والثقة به،
وبولدها الذي أراد سبحانه أن يباركه ويجعله أمة عظيمة، كما هو منصوص في
سفر التكوين من أسفار التوراة القديمة، وأي شيء أجدر بأن نتذكره هنالك، ونمثله
كما وقع لأجل الاعتبار به، وإحياء شعور الإيمان بتصوره، من رضاء أم مُرضع
بأن تقيم مع طفلها منفردين بعيدين عن العمران، في وادٍ غير ذي زرع ولا ماء؛
لأن الله تعالى قد أمر بذلك أبَا ولدها الذي لقنها الإيمان، ورأت ما أيده الله به من
الآيات البينات، وكيف نصره وحده على قومه المشركين الظالمين الأقوياء؟
أليس تمثيل حال تلك الأم جائعة ظامئة، والهة حائرة، تشاهد طفلها يتلوَّى
ويتمرغ، من شدة الجوع والظمأ، ويضرب بنفسه الأرض كالمصاب بالصَّرع،
وينشغ - أي يشهق من صدره - للموت في ذلك القفر، فيسوقها ذلك الألم إلى
الفرار من رؤيته بتلك الحال، والسعي بين ذينك الجبلين القريبين من ذلك المكان،
تصعد هذا مرة وذلك أخرى، ضارعة إلى الله، راجية أن تجد من عنده غوثًا،
حتى إذا ما انتهت من الشوط السابع أرسل الله تعالى روحه الأمين الذي يؤيد به
الأنبياء، فأنبع لها ذلك الماء، وجعل فيه الري والغذاء، ثم ساق ذلك الركب من
جرهم إليها، وسخرهم للإقامة عندها، ليتربى فيهم، ويتذرّاهم ولدها، ثم يجعله
أصلاً لهذه الأمة الكريمة، ويجعل ذلك الوادي القاحل صدفة لدرة الكعبة اليتيمة، إذ
جعله بلدًا يحفظ بيته الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، وجعل قلوب الناس تهوي إليه
من جميع الأقطار إيمانًا ونسكًا، ورزق أهله من الثمرات، وسخر لهم البشر في
كل زمان، ألسنا نرى في هذا العام معجزة من معجزات هذا التسخير؟ بلى، وقد
ابتلى في هذا العام وما قبله الأمم الغنية القوية، المتصرفة في البلاد العامرة
الخصبة الغنية، بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات،
بهذه الحرب الأوربية التي تقطعت بها الروابط، وقلَّت المواصلات، واقتضى
دخول الدولة العثمانية في غمراتها، أن تضرب الدول المحاربة لها حَجْرًا بحريًّا
على جميع سواحلها، فكان الضيق على سكان حرم الله تعالى أليمًا شديدًا، حتى إذا
ما أوشك أن يفتك بهم الموت جوعًا - سخر الله تعالى لهم تلك الدول تحمل إليهم
الأقوات والأموال، وتنقل إليهم وفود الحجاج، وأراهم بهذه الإغاثة العامة مثالاً
لتلك الإغاثة الخاصة، أعني إغاثة هاجر وإسماعيل، استجابة لدعاء الخليل:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} (إبراهيم: 37) ،
وكثيرًا ما ذكَّرت الناس بذلك في أثناء أداء المناسك.
فمن سعى بين الصفا والمروة عالمًا بما ذُكر، متذكرًا له، معتبرًا به - فإنه
يشعر في قلبه بنماء الإيمان بالله وبرسل الله، ويفهم سر قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تأخر نشرُه بغير تعمُّد.
(2) نبهنا قبلُ على أن حوادث الرحلة حدثت قبل المبايعة بالمُلْك، فبقي التعبير فيها على ما كان عند وقوعها.
(3) هو الآن في صحن الحرم كأنه قوس منصوب، ويقابله في جار الحرم الشرقي بابان يسمى أحدهما باب العباس والثاني باب علي، وفي وسط هذا الجدار الباب الذي يسمونه باب النبي صلى الله عليه وسلم، يليه في الجانب الشمالي باب السلام الذي يدخل منه أكثر الحجاج.
(4) عبارة عمر: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك إلخ، رواه الجماعة كلهم.
(5) أهله: امرأته سارة، غارت من هاجر لما ولدت، وحملته على طردها مع طفلها إسماعيل وفي الفصل 21 من سفر التكوين (التوراة) أن إبراهيم استاء من كلامها، فأمره الله تعالى بإخراجهما، ووعده بأن يجعل إسماعيل ابنه أُمة، وفيه أنه زود هاجر بخبز وقربة ماء، وأعطاها ابنها، فتاهت في بَرِّية بئر سبع، وأنه لما نفد ماؤها، وتوهمت أن يموت ولدها - ناداها ملاك الرب وأراها الماء، ووعدها بجعْل ابنها أمة عظيمة وأن الله كان مع الغلام، وأنه سكن برية فاران أقول: وفاران من أسماء مكة كما في معجم البلدان، وما يخالف هذه الرواية مما هنالك نعده تحريفًا وقالوا: إن إبراهيم جاء مكة على البراق.
(6) بفتح الشين والنون والمشددة: القربة اليابسة.
(7) بوزن يفتح معناه: يشهق من صدره.
(8) قوله: فقال بعقبه هكذا: أي فعل وقوله: ودهشت بفتح الدال والهاء ولأبي ذر بكسر الهاء.(20/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي
يود بعض الموسرين من المستمسكين بعروة الكتاب والسنة لو يعرفون
أمثالهم من الفقراء والمساكين المتجنبين للمعاصي والبدع، المحافظين على
الفرائض والسنن؛ ليؤدوا إليهم ما يجب من زكاة المال وزكاة الفطر وغيرهما من
الصدقات؛ إذ لا تطيب أنفسهم لصرفها إلى فاسق ولا مبتدع ولا مجهول الحال؛ لما
يعلمون من فشوّ البدع والضلال، وكثرة المعاصي والنفاق، دعْ المجاهرة بالكفر
والإلحاد، فالصدقات المفروضة التي يُتقرَّب بها إلى الله تعالى لإقامة دينه، يتحرى
صرفها إلى من ينفقها في طاعته، أو فيما أباحه لعباده من الطيبات، لا في
المعاصي والمحرمات، ولا في البدع والخرافات، فإذا كانت صدقة التطوع يجوز
بذلها لكل مؤمن وكافر - من ذمي أو مستأمن أو معاهد - فصدقة الفرض ليست
كذلك؛ لذلك اقترح علينا بعض هؤلاء الموسرين أن نحصي مَن نعرف، ومن
يتيسر لنا أن نعرفهم من المؤمنين المذعنين المعتصمين، من فريق الموسرين
وفريق المستحقين للزكاة من الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم والغارمين، ومن
يلم بإدارة المنار من أبناء السبيل، وأن نكون واسطة التعارف والتعاون بين
الفريقين؛ لأن وقوف كل فرد من الموسرين على هؤلاء المستحقين متعذر، وأن
منهم من تعدد تأخيرهم الزكاة عن وقتها زمنًا طويلاً أو قصيرًا لأجل ذلك.
ولعمري إن هذا اقتراح جليل، ولكن القيام به على حقه عسير غير يسير،
وإذا علم الناس أن بعض الناس يعطون صدقاتهم لمجتنب كبائر المعاصي والبدع
والمحافظين على الفرائض والسنن - يكثر المدّعون لذلك وحاملو الشهادات من
العلماء والوجهاء على صحة دعواهم، وأخذ الشهادات على هذا سهل على أكثر
الناس في هذا العصر، فإن كثيرًا من محبي الصدق يستحلون أن يشهدوا لمن يدعي
مثل هذه الدعوى إذا كانوا لم يروا منه ما يصدقها ولا ما يكذبها، وأما غيرهم فلا
يتحامى شهادة الزور وقول الباطل في ذلك، ومنهم من يرى أنه يتقرب به إلى الله
تعالى بمساعدة الفقير على تحصيل قوته. وإننا على ما نعلم من العسر في ذلك
سننظر فيه ونجتهد في القيام به بقدر الطاقة، ونرجو من إخواننا الصادقين إعانتنا
على ذلك.
__________(20/127)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السنة الرابعة للحرب
دخلت الحرب في السنة الرابعة من عمرها، فشاب لأهوالها الوِلدان،
وهي لم تزدد إلا شبابًا! وخمدت بها نار حياة الأمم، ولم تزدد نيرانها إلا
شبوبًا، وكان أهم أحداث عامها الثالث في الميادين الشرقية ثورة الروس
على حكومتهم القيصرية، وإسقاط القيصر نقولا عن عرشه، واعتقاله مع
زوجه وولده، ثم نفيهم إلى سيبرية؛ حيث كانت حكومته المستبدة تنفي
الألوف من أحرار السياسيين، والعلماء والكتاب النابغين!
وأكبر العبر في هذا الانقلاب العظيم أن طلاب حكومة الشعب الشورية من
الروس عجزوا عن جمع كلمة أحزابهم على شكل آخر لحكومتهم، فانشقت العصا،
وتفرقت الشيع، وتعددت الثورات والفتن الداخلية حتى في الجند، وقد كانت الحكومة
الجديدة المؤقتة أمسكت عن الحرب عقب الثورة، وأمسك عنها أعداؤها، حتى ظن أن
هنالك هدنة، ثم هجمت في هذا الصيف على النمسة، فشدد الألمان الهجوم عليها،
واستولوا على كثير من ولاياتها، وأعظم ما استولوا عليه قيمة عندهم (ريغا) .
يلي هذا ما حدث قبله من دخول دولة رومانية في الحرب واستيلاء الجرمان
على عاصمتها، وقسم كبير من بلادها وخروج الملك والحكومة منها، وإقامتهم في
روسية، ويليه استيلاء الإنكليز في الربيع الماضي على مدينة بغداد عاصمة المدنية
العربية في الشرق، وتهنئة الملوك ورؤساء حكومات الأحلاف لملكهم بهذا الظفر.
وأما الميدان الغربي الأعظم فأهم أحداثه أن الإنكليز والفرنسيس ما زالوا
يكاثرون الألمان في المدافع والذخيرة وغيرهما، حتى كثروهم فيها كما كثروهم في
عدد الجيوش، وأن الألمان قد جلوا عن قسم عظيم من أرض فرنسة وامتنعوا وراءه
في خط أقصر من الخط الأول سموه خط هندنبرج نسبة إلى قائدهم العام، وقد استولى
الحلفاء على ذلك القسم، بعد أن صار معظمه خرابًا يبابًا كما توقعنا من قبل، وحاربوا
الألمان عند انسحابهم منه حربًا عوانًا، ربحوا فيها كثيرًا من الأسرى
والمدافع، ولا تزال الحرب في هذا الميدان سجالاً.
_______________________(20/128)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ هذا الجزء
صدر الجزء الأول من هذ المجلد في شوال؛ فوجب أن يكون الثاني جزءَ ذي
القعدة، وكان جَعْل تاريخه سلخ شوال خطأً.
__________(20/128)
ذو الحجة - 1335هـ
سبتمبر - 1917م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكمة تحريم الدم المسفوح
(س8) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا
ما قولكم دام فضلكم في الدم المنصوص على تحريمه في القرآن الشريف
مقيدًا بالمسفوح مرة، وغير مقيد مرارًا، وما الحكمة في تحريمه؟ أفيدونا
الجواب ولكم الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... طبيب جمعية الرفق بالحيوان
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن ذهني
(ج) الدم المسفوح هو الذي حرم الله شربه وأكله، وهو الذي يراق من
الحيوان بذبح أو جرح أو غيرهما، وتقييده بالمسفوح هو الذي نزل أولاً في سورة
الأنعام، وما نزل بعده مطلقًا فهو محمول على ذلك المقيد بقيده. واحترز بالقيد عن
الجامد كالطحال، وعما يخالط اللحم من المائع القليل فإنه لا يسفح. وقد بينا في
تفسير آية محرمات الطعام من سورة المائدة أن حكمة تحريمه أمران:
أحدهما: أنه خبث تستقذره الطباع السليمة، فوجب التنزه عن جعْله غذاءً
للمؤمنين الطيبين الذين لا يليق بهم إلا الطيبات.
وثانيهما: أنه ضار؛ لأنه عسر الهضم، ويشتمل على كثير من الفضلات
العفنة، وكثيرًا ما يشتمل على جراثيم الأمراض والأدواء الخطرة. فإن سهل على
بعض البارعين في العلوم الطبية معرفة مثل هذا واتقاء ضرره فهو لا يسهل على
جميع البشر من البدو والحضر المخاطَبين بهذا الدين العام. وتتمة الكلام على ذلك
في (ص 134 و 135 من جزء التفسير السادس) .
* * *
الكتابة
وطريق تحصيلها ومكان القرآن والحديث منها
(س9) من صاحب الإمضاء بمصر
أستاذي الفاضل الشيخ رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله؛
وبعد؛ فإنا نعلم مكانتكم من العلم في هذا البلد؛ لذلك نرجو الإجابة على ما
يأتي:
إن فن الكتابة والتحرير الذي أحياه فينا الأستاذ الإمام ما زال يتصعد درجات
الكمال، حتى إنه ليخيل للناظر في كتابات هذا العصر أنه بين أولئكم الأعراب
البائدين أو العباسيين المتحضرين حسب اختلاف درجات الكتّاب. وقد توافقت آراء
الكاتبين على أن أقوم طريق إلى الكتابة النظر في كلام العرب وحفظ الجيد منه
والنسج على منواله. وإنا نجد أحسن كلام في جزالة الألفاظ ومتانة الأسلوب وعلو
المعنى كتاب الله تعالى وحديث رسوله، وإنا نحفظ الكتاب وكثيرًا من السنة، ومع
ذلك أرانا لا نجيد شيئًا من الكتابة، بل لم نصل فيها إلى الدرجة الوسطى من ذلك.
وقد بلغنا أن بعض النصارى كان يحفظ القرآن لهذا الغرض، وينتفع به، فبأي
عين نظر إليه ذلك النصراني حتى انتفع به وما بالنا ضللنا هذا الطريق في حين
أننا أولى به؟ ! وكم من رجل ما حفظ شيئًا من القرآن ولا عرف شيئًا من السنة
غير أنه زاول كثيرًا من اللغة العربية هو قليل بالنسبة لكتاب الله وسنة رسوله،
وبهذا طال باعه فيها، وذهب فيها مذاهب آبائها الأولين. فاللهم هيئ لنا ما يرشدنا
إلى الصواب. وإنا نرجو الاهتداء بهديك والاستنارة بمنارك إن شاء الله، فأجبنا
عن ذلك، وما السبب فيه على صفحات المجلة لفائدة القراء، ولكم الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد عليوة
(ج) كان الناس في أول العهد بالنهضة العلمية والأدبية التي جددها الإسلام
للعرب يطلبون اللغة العربية من أهلها بالتلقي والمشافهة، ولما سرت العُجمة إلى
الأمصار العربية بكثرة مخالطة العرب للعجم فيها - صار أبناء العرب ومواليهم من
العجم يرحلون إلى الأعراب في البوادي، فيقيمون عندهم زمنًا طويلاً يتلقون عنهم
العربية الخالصة من شوائب العجمة، ويحفظون أشعارهم ويروونها، كما يحفظون
ويروون الكتاب والسنة، فيتلقاها عنهم طلاب العلم والآداب في الأمصار، بالرواية
والدراية والاستظهار، ولما استنبطوا منها الفنون لأجل ضبطها وفهمها، وبيان
أسرارها وفلسفتها - وصاروا يتدارسون هذه الفنون في المساجد والدُّور والقصور،
مع تطبيق قواعدها على الشواهد من الكتاب العزيز والسنة، وأقوال العرب
وأشعارهم المحفوظة، فيجمعون بين مَلَكَة اللغة وذوقها، وبين فنونها وفلسفتها،
ومنهم من كان يضم إلى ذلك العلوم الشرعية والعلوم العقلية والكونية، ولا يَحُول
رسوخ ملكاتهم في العلوم والفنون دون رسوخ ملكة اللغة في منثور ولا منظوم، وقد
انسلخ القرن الخامس للهجرة والعلماء البلغاء كثيرون، حتى إذا ما تغير منهج
التعليم، وأسلوب التأليف، وقل الحفظ والحفاظ، وكثر الاختصار في الكتب وما
اقتضاه من البحث في الألفاظ - ضعفت ملكة اللسان، وسقطت مكانة البيان،
وصار جهابذة علماء الشرع واللغة، والمصنفون في فنون الفصاحة والبلاغة - لا
يستطيعون التفلت من عقل اصطلاحات علومهم وفنونهم البعيدة عن الأسلوب
العربي، إلا إلى أسجاع متكلفة أو عجمة أو عجرفة، ومَن شاء قايس بين عبارة
الزمخشري في الكشاف وعبارة الفخر الرازي في التفسير الكبير، وبين عبارة عبد
القاهر في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وعبارة السعد التفتازاني في المطول
والمختصر، فإذا كانت عبارة العلامة التفتازاني في دقتها وتحريرها نائية عن
براعة عبارة الإمام الجرجاني في فصاحتها ورشاقة أسلوبها، وإذا كانت عبارة
الإمام الرازي - على بسطها وإيضاحها - تكاد تعد ركاكة عامية في جنب عبارة
العلامة الزمخشري في متانتها وعلو أسلوبها، فما القول في المتأخرين الذين يعدون
منتهى العلم الاستعداد لفهم كلام مثل الرازي والتفتازاني، بل القدرة على المناقشة
فيه، وإيراد الاحتمالات والأجوبة في معانيه؟ !
أتى على الأمة العربية بضعة قرون وهي في تدلٍّ وضعف في اللغة، لا
يمضي عليهم قرن ولا عام إلا والذي بعده شر منه، وما سببه إلا تنكُّب سبيل
الأولين في حفظ الكثير من الكلام العربي الحر الفصيح وفهمه، ومعارضة أسلوبه
في نثره ونظمه، فكان إذا اتفق لأحد منهم ذلك بإلهام الفطرة، أو إرشاد أحد من
بقية أهل المعرفة، فصار كاتبًا بليغًا، أو خطيبًا مفوهًا، أو شاعرًا مجيدًا - أحال
الباحثون ذلك على ندور في الاستعداد، يكاد ينتظم في سلك خوارق العادات، حتى
إن ذلك النابغ نفسه يظل غافلاً عن السبب، دعْ مَن كان بعيدًا عنه أو كان منه على
كثب.
بلغ الجهل من أكثر أهل هذه القرون بهذه المسألة كل هذا ولم تكشفه عنهم
سيرة سلفهم، ولا ما يؤثر من العلم وطريقة التعليم عنهم، ولا ما شرحه الحكيم عبد
الرحمن بن خلدون في القرن الثامن في ذلك وفي هذه المسألة بخصوصها عند الكلام
على اللغة العربية وفنونها وآدابها، وتحصيل ملكة البيان فيها، فقد وَفَّاهَا حقها في
اثني عشر فصلاً من مقدمته المشهورة وهي الفصل السابع والثلاثون وما بعده إلى
الخمسين، ذلك بأنه كتب ما كتب والأمة في طور يقل فيها من يقرأ مقدمته، فيفقه
ويعتبر، ولم يكن كل من يفقه بالذي يقدر على تلافي الخطْب، والسير بالأمة في
الطريق القصد، وقد استبد بأمر الأمة الأعاجم الجاهلون، وقل العلماء المستقلون
وساد المقلدون.
أما هذه النهضة الأخيرة فقد كان حكيمنا السيد جمال الدين مقتدح زنادها،
وشيخنا الأستاذ الإمام قائد جيادها، ولكن السائل بالغ في إطراء المعاصرين من
كتابها، فنظمهم في سلك الأولين، من الفحول المقرمين، وما هم إلا عيال على بعض
المولدين، على قلة ما يحفظون من المفردات، وكثرة ما يخطئون في المركبات.
وأما سؤاله عمن حفظ القرآن من النصارى استعانة به على تحصيل ملكة
البلاغة - وهم ثلة من المتقدمين، وأفراد من المتأخرين - بأي عين نظروا إليه
وكيف صار بعضهم بليغًا دون كثير ممن حفظه من المسلمين وأضاف إليه شيئًا من
الأحاديث؟ ، فجوابه أنهم نظروا إليه بعين طالب الفصاحة والبلاغة، لا بعين
طالب الدين والهداية، والأمور بمقاصدها، وإنما يستفيد كل امرئ من كل شيء
مفيد بقدر ما تتوجه إليه إرادته من فوائده، وتحصيل ملكة البيان في العربية لا
تتوقف على حفظ القرآن الكريم، ولكن حفظه يكون مزيد كمال فيها لمَن حفظه
وقصد منه ذلك؛ لأنه أبلغ الكلام العربي وأعلاه أسلوبًا، وإن كان أسلوبه معجزًا لا
يمكن أن يُحتذَى مثاله، ومن حفظه لا يقصد ذلك منه لا يستفيد شيئًا من بلاغته،
كما أنه إذا لم يقصد الاهتداء به لا يستفيد من هدايته، ومن هنا تعلم أن حفظه وحده
لا يكفي في تحصيل ملكة البيان في اللغة العربية، بل يتوقف ذلك على ممارسة
الكثير من كلام بلغاء العرب في العهدين الجاهلي والإسلامي أو العهد الثاني فقط،
وإن هذه الممارسة هي الأصل في تحصيل ملكة البيان؛ لأنها هي التي تُحتذَى وقدر
القرآن الكريم أو ضعفه لا يكفي خلافًا لما تُظهره عبارة السائل وما قيل في القرآن
يقال مثله في الأحاديث النبوية وإن كان أسلوبها غير معجز؛ وذلك أن المحفوظ
منها قليل، وأكثرها جمل مختصرة، فلا تنطبع في نفس حافظها ملكة التصرف في
جميع الأغراض والمعاني. ومن لم يقصد استفادة البلاغة منهما لم يستفد منها شيئًا.
وإن من حفاظ القرآن عندنا مَن لا قصد لهم من حفظه إلا تجويد ألفاظه وتوقيع
آياته على الأنغام الموسيقية؛ ليُعجبوا أو يُطربوا مَن يستأجرونهم لقراءته في المآتم
أو ليالي رمضان، ومن الناس من لا ينظر فيه إلا بقصد البحث عن آية يمكن
التشكيك فيها، بحملها على غير ما أريد منها، ولا يعجزه أن يجد ذلك، وقد ذم
بعض الشعراء وجهًا أبيض أزهر فشبَّهه برئة الحيوان، وذم ابن الرومي الورد
فشبّهه بما ننزه عنه هذا الكلام. (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .
__________(20/129)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(5)
مقامنا بمكة قبل الحج
تقدم أنني دخلت مكة ضحوة يوم الأحد (وهو الثالث من أيام ذي الحجة
بحسب تقاويم مصر وهو ما ثبت لدى حكومة مكة بعد وكانوا يعدونه الرابع في
تقاويمها) وإنني كنت متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وإنني لم أتجاوز يوم الأحد دار
السيد الزواوي التي جئتها بعد الطواف والسعي إلا مساءً؛ إذ جئت المنزل الذي أُعد
لي من قِبَل الأمير - أحسن الله كرامته - وإنني لم أخرج منه إلا ليلاً بعد وصول
السيدة الوالدة والرفاق إلى قصر الأمير للتشريف بزيارته. ولقيت في القصر نجله
النجيب صديقي الشريف عبد الله، وليس في مكة من أنجاله النجباء سواه؛ إذ كان
قد وجَّه الأمراء الثلاثة عليًّا وفيصلاً وزيدًا إلى فتح المدينة المنورة والأمير عبد
الله إلى فتح الطائف، وتقدم أن فتح الطائف قد تم على يديه قبيل قدومنا، وأنه دخل
مكة منصرفًا عنها في وقت دخولنا.
وفي اليوم الثاني - وهو يوم الاثنين رابع ذي الحجة - علم الناس بوصولي
إلى مكة مع الحجاج المصريين، وذكرته جريدة القبلة في عددها الخامس عشر
الذي صدر فيه، فأقبل الكثيرون من الشرفاء والعلماء والوجهاء بزيارتنا وفي
مقدمتهم الأمير الشريف عبد الله وبعض مَن يشار إليهم بعد، وبقينا إلى يوم التروية
- وهو يوم الجمعة ثامن ذي الحجة - لا عمل لنا إلا عبادة الله تعالى، وأخصها
التطوف ببيته، وإلا لقاء الناس في الدار وفي الحرم والاستفادة من مذاكراتهم.
وقد كنت مدة إقامتي بمكة ضعيف البدن بنزف دم كان قد عرض لي، لم
يسبق لي مثله، فكنت لا أستطيع الطواف إلا في وقت الأصيل ووقت السحر،
وثقل عليَّ الحر، على أنه لم يكد يتجاوز الدرجة 35 من ميزان سنتكراد إلا قليلاً،
ولم أكن أجد راحة في جسمي إلا حيث كانت راحة روحي، وما ذاك إلا في الحرم
الشريف. ولا يوجد في بطن مكة مكان كالحرم يتخلله الهواء لسعته وكثرة الفجاج
الموصلة إليه من الجهات الأربع، ولولا أن وصفه مبين بالتفصيل - في كتب
المتقدمين والمتأخرين من المؤرخين والرحالين - لوصفته في هذه الرحلة الوجيزة.
وكنت أصلي الفجر كل يوم بجانب مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى
آله الكرام، وأصلي المغرب والعشاء في الجانب الشرقي من الحرم مع صديقنا
الشريف أبي نمي الذي يعشق فضله وأخلاقه كثير من فضلاء المصريين؛ إذ
عرفوه بإقامته في القاهرة عدة سنين، وكانت داره في مصر بجوار دارنا من شارع
درب الجماميز، واتفق أن زاويته في جدار الحرم الشريف بالقرب من باب إبراهيم
- وكذا داره - فهي بجوار المنزل الذي أُنزلنا فيه كما علم مما تقدم. وكان خدمه
يفرشون له في كل أصيل سجادة أو سجادتين تجاه زاويته، حيث يصلي مع بعض
أصحابه، وكنت أنا والسيد الزواوي منهم، وكنا نجيئه في الأصيل، ونخرج بعد
صلاة العشاء.
لم أجد قوة على رد كل مَن زارني ولم أتمكن من إحصائهم، فنويت أن أرجئ
النظر في ذلك إلى ما بعد الانتهاء من أعمال النسك، ولكنني زرت فوزي بك
البكري من سروات دمشق الشام في داره وعبد العزيز بك المصري في منزله وكلاً
من الشيخ كامل قصاب أحد علماء الشام ومحب الدين أفندي الخطيب وفؤاد أفندي
الخطيب في إدارة جريدة القبلة، وكلهم يعملون فيها، وكثر التلاقي بيني وبين
هؤلاء، والحديث معهم في الشؤون السياسية الحاضرة، ونعرف أخبار الحجاز
منهم.
ولم أدخل دار أحد من المكيين زائرًا إلا زاوية الشريف أبي نمي ودار الشيخ
محمد صالح الشيبي فاتح بيت الله الحرام (ورئيس مجلس الشيوخ في الحكومة
الجديدة كما يأتي) ، ثم لم يتيسر لي بعد الحج زيارة أحد ممن زارني، كما يعلم مما
يأتي إلا نائب الشرع الشريف الشيخ يونس أفندي، فإنني زُرته في المحكمة
الشرعية، وكنت عرفته مجاورًا في رواق الشوام بالأزهر، إذ كان يحضر دروس
الأستاذ الإمام، وزرت الشيخ عبد الملك الخطيب من أدباء مكة قبل السفر منها بيوم
واحد. وكنت أود أن أزور الشيخ عبد الله سراج قاضي القضاة ووكيل رئيس
النظار في الحكومة الجديدة، وأخلو به في داره ساعة للمذاكرة في الشئون الحجازية،
فلم أجد فرصة لذلك، وكان قد تفضَّل بزيارتي في دار الضيافة الهاشمية، وأثنى
لي على تفسير المنار، وطلب مني جميع ما طُبع منه. وقد رأيت أنه في أقرب
منزلة من ثقة الأمير، وقلما جئت قصر الإمارة إلا ورأيته معه، أو منتظرًا لقاءه.
وأما الشيخ الشيبي فهو كبير بني شيبة حَجَبَة الكعبة المعظمة، ووارثي
مفتاحها في الجاهلية والإسلام، وبيتهم من أكبر بيوت قريش بعد بيوتات الهاشميين
عامة والعلويين منهم خاصة، وهم يُنسبون إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة،
وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الصحابي الذي فتح باب الكعبة للنبي
صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخلها معه كما في الصحيحين وغيرهما من كتب
السنة والسير والتاريخ. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: (أقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة،
ثم دعا عثمان بن طلحة، فقال: (ائتني بالمفتاح) ، فذهب إلى أمه، فأبت أن
تعطيه، فقال: والله لتعطينَّه، أو ليخرجنَّ هذا السيف من صلبي (يعني أنه يقتل
نفسه بطعن بطنه به، حتى ينفد من ظهره) ، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه، ففتح الباب. وظاهر هذه الرواية أن
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح الباب، وورد التصريح بذلك في رواية
عنه أيضًا، سندها ضعيف في تاريخ مكة للفاكهي قال: (أي ابن عمر) كان بنو
أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده. ولكن روى عنه البخاري من طريق فليح أنه
قال: وقال لعثمان: (ائتنا بالمفتاح) ، فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل.
وفي هذه الرواية أيضًا أنه كان مردفًا لأسامة على القصواء، وهي ناقته صلى الله
عليه وسلم، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم
الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد الحديث.
وقال الحافظ في الفتح: روى عبد الرزاق والطبراني من جهته من مرسل
الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوم الفتح: (ائتني بمفتاح
الكعبة) فأبطأ عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، حتى إنه ليتحدَّر منه
مثل الجمان من العرق، ويقول: (ما يحبسه؟ !) فسعى إليه رجل وجعلت المرأة
التي عندها المفتاح وهي أم عثمان واسمها سلافة بنت سعيد تقول: إن أخذه
منكم لا يعطيكموه أبدًا، فلم يزل بها، حتى أعطت المفتاح، فجاء به، ففتح، ثم
دخل البيت، ثم خرج منه، فجلس عند السقاية. فقال علي: (إِنَّا - يعني بني
هاشم - أُعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيبًا منا) . فكره النبي
صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه. ثم قال
الحافظ: وروى ابن عائذ من مرسل عبد الرحمن بن سابط (وهو ثقة) أن النبي
صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان، فقال: (خذها خالدة مخلدة،
إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم، لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، ومن طريق
ابن جريج أن عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية،
فنزلت {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ، فدعا
عثمان، فقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ومن
طريق علي بن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني شيبة كلوا
مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف) . اهـ.
والظاهر أن ذكر بني شيبة ههنا غلط من النُّسَّاخ، صوابه: يا بني أبي طلحة؛
فإن عثمان بن طلحة هذا هو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة كما تقدم،
وكانوا كلهم يدعون بني أبي طلحة نسبة إلى جدهم أبي طلحة عبد الله بن عبد
العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وقد ذكر الحافظ في ترجمة كل من
عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان من (تهذيب التهذيب) من عبارة
الأصل عن مصعب الزبيري أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إليهما معًا،
وقال: (خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم) وذكر
عن ابن سعد عن هوذة بن خليفة عن عوف عن رجل من أهل المدينة: دعا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح شيبة بن عثمان، فأعطاه المفتاح، وقال:
(دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته) وذكر الحافظ هذين الحديثين في ترجمة
شيبة من الإصابة أيضًا، ثم قال: وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم
أعطاها يوم الفتح لعثمان، وأن عثمان ولي الحجابة إلى أن مات، فوليها شيبة،
واستمرت في ولده. اهـ. وهذا هو الصواب، وقد استمرت في ولده إلى اليوم،
وبهذا حفظ نسبهم، وعظم حسبهم، وقد نزعها منهم بعض أمراء مكة، ثم عادت
إليهم كما يؤخذ من بعض كتب التاريخ.
أقول: ولأهل هذا البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة
الثابتة من قبل الإسلام، التي أقرها الله تعالى ورسوله لهم في محكم القرآن، وبأن
إقرارها لهم كان سبب نزول الآية العظيمة التي هي قاعدة أصول الأحكام، عليها
مدار إصلاح الأنام، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) كما تقدم آنفًا.
وذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور من تخريج ابن جرير وابن المنذر عن
ابن جريج، بمعنى ما تقدم، وفيه أنه قال: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية -فداؤه أبي وأمي -
ما سمعته يتلوها قبل ذلك. وذكر هو والحافظ ابن كثير رواية طويلة في هذا المعنى
عن ابن عباس أخرجها ابن مردويه عنه من طريق الكلبي عن أبي صالح، وفيها
أن العباس رضي الله عنه حاول أخذ المفتاح، وطلب من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يجعل له الحجابة مع السقاية، فأنزل الله الآية في ذلك. قال الحافظ ابن
كثير - بعد ذكر هذه الرواية -: وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك،
وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام. اهـ. وذكر علماء الحديث والسير أن
عثمان بن طلحة أسلم في هدنة الحديبية هو وخالد بن الوليد وهاجرا، وأن شيبة
أسلم عام الفتح.
الشيخ محمد صالح الشيبي:
هذا، وإنني لم أَرَ فيمن رأيت رجلاً تمثل رؤيته فصلاً من تاريخ قريش في
الجاهلية والإسلام وتاريخ بيت الله الحرام إلا كبير الشيبيين الشيخ محمد صالح،
وهو رجل جليل المنظر، لطيف المعاشرة، حسن المفاكهة، له مشاركة في العلوم
الإسلامية، والآداب العربية، وحظ من المدنية العصرية، ورأيته على مشربي في
العناية بأمر الماء النقي البارد، فهو لا يشرب من ماء عين زبيدة التي يشرب منها
أهل مكة، بل يستعذب له الماء من بئر في ضواحيها - كما كان يستعذب الماء من
آبار السقيا للرسول الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ويثلج له الماء في
داره، وعنده روايا إفرنجية من نوع الترمس الأسطواني المشهور، يحمل له فيها
الماء المثلوج مع قطع من الجليد المصنوع، إذا خرج هو منها إلى سفر قريب
كعرفة أو جدة. وقد أقام في الآستانة زمنًا وهو يعرف اللغة التركية.
رخاء المعيشة بمكة:
وعلى ذكر الثلج أذكر من خبر رخاء المعيشة في مكة المكرمة أن أهل هذا
البلد الأمين يتمتعون أبدًا بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي حكاه الله
عنه في قوله: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) ،
ودعائه أن يبارك الله لهم في اللحم، عندما زار بيت إسماعيل بمكة بعد زواجه
الثاني، كما ثبت في حديث ابن عباس عند البخاري، الذي ذكرنا القسم الأول منه
في بيان حكمة السعي بين الصفا والمروة من هذه الرحلة. فاللحم في مكة كثير
رخيص، وهو جيد شديد السمن، والثمرات والخضر فيها كثيرة رخيصة أيضًا،
على أنهم يرفعون أثمان كل شيء في موسم الحج. وقد كنا في دار الضيافة
الهاشمية تُستطاب لنا ألوان اللحم والخضر في كل غداء وعشاء، ولكن كان يغلب
عليَّ وعلى الوالدة والشقيقة الإقهاء [1] ؛ فرغبتنا في الطعام كانت ضعيفة، ولولا
عنب الطائف ورمانها الجيدان لما طابت لنا المعيشة، وكان لدينا طاهٍ يحسن الطبخ
على الطريقتين المكية والتركية، ثم استحسنت الوالدة أن تتولى الطبخ لنا إحدى
الجاريتين اللتين خُصصتا للخدمة المنزلية، وأما الثلج أو الجليد فقد قيل لنا إنه كان
له معمل في مكة وقد كُسر وتعطل. ووجدنا بعض الهنود هنالك يعملون قطعًا
صغيرة من الجليد يجمدونها في قوالب من الزنك، ويبيعونها بأثمان غالية جدًّا
لمعتادي شرب الماء المثلوج كالشيخ الشيبي، فكنت أشتري منهم كل يوم؛ إذ لم
أجد ماء كيزان الفخار مقبولاً، وإن كنا في شهر الميزان، خلافًا للمثل الحجازي
القائل: إذا دخلت الشمس في الميزان يبرد الماء في الكيزان.
وقد ذكر الرحالة محمد بن جبير الأندلسي في رحلته ما وجد في مكة من
الثمرات والبقول، كما ذكر غير ذلك من خيراتها وتحفها، قال: وأما الأرزاق
والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المَزِيَّة على
سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا هذه البلاد المباركة، فألفيناها تغصّ بالنعم والفواكه
كالتين والعنب والرمان والسفرجل، والخوخ والأُتْرُجّ والجوز والمقل ... إلخ،
ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البِطِّيخ والسفرجل وكل فواكهها عجب، لكن
للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة؛ وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح
وأطيبها، يدخل به الداخل عليك، فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك، فيكاد يشغلك
الاستمتاع بطيب رياه، عن أكلك إياه، حتى إذا ذقته خُيِّلَ إليك أنه شبيه بسكر
مُذاب، أو بجنى النحل اللباب ... إلخ، وأطنب في وصف جودة اللحم وسمنه
ولينه وسهولة هضمه، وهو كما قال، نحن لم ندرك كل ما أدرك من الثمرات،
فإنه جاء مكة في قلب الصيف من سنة 579، وبقي فيها إلى أواخر الشتاء.
والبطيخ الأصفر - الذي أدركناه - دون النوع الجيد منه في مصر المعروف
بالشمام.
* * *
(الإحرام بالحج وشدّ الرحال إلى عرفات)
صلينا الجمعة يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة [2] في الحرم الشريف، وفي
ليلة السبت شددنا الرحال إلى عرفات محرمين بالحج، وقد قال لي صديقنا السيد
الزواوي في صبيحة ذلك اليوم: إن سيدنا الأمير - أيده الله تعالى - قد كان
استحسن أن نخرج معه إلى عرفة، ونكون في صحبته هنالك وفي منى إلى أن
تعودوا إلى مكة، ولما ذكر لي ذلك مستشيرًا فيه ذكَّرته بوجود والدتكم معكم، وقلت
لعل الأوْلى أن يخرج في خدمتها؛ لأن ذلك آنس لها وأقر لعينها ومزيد ثواب له،
فاستحسن ذلك، وأمرني بتجهيز الرواحل والمؤنة وسائر ما يلزم وأمر بصرف
عشرين جنيهًا لنفقة عرفة خاصة، وقد عهد إلى إبراهيم (وهو وكيل الخرج
والمتولي أمر خدمتنا) باختيار جمال قوية جيدة لكم، والجمال في هذا العام قليلة جدًّا
لكثرة ما مات منها قبل الثورة لقلة العلف، ولو كان الحاج كثيرًا كالعادة لما وجد من
الجمال ما يكفيه، وقد وصلت أجرة الجمل الواحد إلى عرفة ذهابًا وإيابًا إلى
عشرين ريالاً مجيديًا، ولولا أن سيدنا الأمير - حفظه الله - أمر عسكر البيشة
بجلب الجمال من الأعراب ولو بالقوة لتعذر على بعض الحجاج أن يجدوها إلا
بأجرة فاحشة.
هذا ملخص ما قاله السيد الزواوي، فشكرت لسيدنا الأمير كرمه وفضله
ودعوت له بالتوفيق والتأييد، ثم للسيد عنايته بنا هو ونجله السيد عبد الرحمن،
وتعاهدهما إيانا بكل ما نحتاج إليه في كل يوم، بل في كل آن، وكانت هذه العناية
على أتمها عند الحل والترحال، ففي أصيل هذا اليوم - يوم التروية- جِئَ
بالرواحل إلى حوش الدار، وتولى وكيل الخرج ووالده شد الشقادف وفرشها بنظر
السيد عبد الرحمن وإرشاده، ثم ركبنا في وقت العشاء، فكانت السيدتان الوالدة
والشقيقة في أحسن الهوادج ومعهما غزلان الجارية جلست بينهما لخدمتهما،
وركبت أنا ومحمد نجيب أفندي في شقدف، وركب وكيل الخرج مع الأستاذ الشيخ
خالد في شقدف، وركب والد وكيل الخرج الجمل الذي يحمل الخيام والأثاث
والماعون والمؤنة، وركب السيد عبد الرحمن دابة فارهة، وسرنا الهُوَينا في
أسواق مكة قاصدين عرفة، بعد أن أحرمنا جميعًا، وأهللنا بالحج من منزلنا، إلا
الذي ذهب بالخيام والماعون فإنه سبقنا، وتأخر عنا السيد الزواوي الكبير، ثم
أدركنا، وبعد سرى نحو من ست ساعات، وصلنا إلى حيث ضربت خيامنا من
عرفات، وذلك بالقرب من موقف النبي صلى الله عليه وسلم حيث مسجد
الصخرات، (وسيأتي قريبًا بيان هذا الموقف) ، ولم يكن في استطاعتنا أن نتبع
سُنته صلى الله عليه وسلم في السير بأصحابه إلى عرفة.
كان مَن لم يَسُقْ الهدي من الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع، قد قلبوا حجهم إلى عمرة بأمره صلى الله عليه وسلم وبعد طواف
العمرة وسعيها قصروا شعورهم، وتمتعوا إلى يوم التروية، وكانوا نازلين في
خارج مكة، فلما خرجوا معه صلى الله عليه وسلم فيه إلى منى أهلّوا بالحج من
الأبطح - وهو ما انبطح من الأرض في أول طريق منى ما بين الجبلين إلى مقبرة
مكة (المعلى) ويسمى البطحاء والمحصب - وقد صلى النبي صلى الله عليه
وسلم الظهر والعصر يوم التروية بمنى، وبات في ليلة عرفة وإنما رحل منها بعد
طلوع الشمس، ففي ذلك عدة سنن لم تتيسر لنا. والخروج في كل وقت من يوم
الترويه مباح، وكره مالك التقدم إليها قبله، والتأخر عنه إلا إن أدركه وقت الجمعة
بمكة، فيصليها فيها كما فعلنا. وروى ابن المنذر أن عائشة لم تخرج من مكة يوم
التروية حتى دخل الليل، وذهب ثلثه. اهـ من نيل الأوطار.
صفة الطريق من مكة إلى عرفات:
خرجنا من الدار وهي غربي الحرم بقرب بابه المعروف بباب إبراهيم [3] ،
فسرنا في الشارع الكبير، مائلين يمينًا إلى جهة الجنوب الشرقي، حيث يكون
الحرم الشريف عن يسارنا، ويسمى ذلك الموقع بالسوق الصغير، ويليه من
الشارع جياد وفيه معاهدة الحكومة والمطبعة والتكية المصرية، ويليه شارع المسعى
حيث يكون السعي بين الصفا والمروة، فالقشيشية فسوق الليل الذي كان فيه ميلاد
النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وهنالك يتحول السائر في الطريق إلى
جهة الشمال، فيمر بالغزة، وفيها قصر الإمارة عن يمينه، فالنقا فالسليمانية عن
يساره، وهذا القسم الشمالي من مكة واقع بين جبل أبي قبيس من جهة الشرق وجبل
قيعقعان وجبل الهندي من جهة الغرب، ودونهما جبل لعلع الصغير عند النقا.
ومتى جاوز الخارج من مكة عمرانها من هذا القسم - يرى عن يساره مقبرتها
المعلاة أو المعلى، وفيها قبر السيدة خديجة أم المؤمنين، وجدة آل البيت الطاهرين،
عليها وعليهم السلام، وهذه الجهة هي أعلى مكة، وتسمى الحَجُون (بفتح الحاء
المهملة) التي قال فيها الحارث بن مضاض الجرهمي:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بل نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
ويدخل فيها من ثنية كداء [4] التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكة عام الفتح وفي حجة الوداع وهي في أعلى الجبل الذي على يسار المار إلى
المقبرة، ويقال لثنية كداء الثنية العليا، وللثنية الأخرى التي دخلنا منها الثنية
السفلى، وتسمى كُدَى (بالضم والقصر) ومنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم
من مكة، وهي بقرب شعب الشاميين من ناحية جبل قيعقعان. وهناك باب الشبيكة
المشهور بعد جرول.
ووراء المعلى في طريق منى مكان يسمى البياضية مطلق الهواء، فيه قصور
لبعض الشرفاء. ومن هناك يتحول طريق منى إلى الشرق، وهو وادٍ يختلف
عرضه من مئتي ذراع بذراع الآدمي إلى ألف ذراع بالتقريب، وتختلف أسماؤه
باختلاف المواقع، وأشهرها وادي المنحنى الذي قال فيه ابن الفارض:
ما بين ضال المنحنى وظلاله ... ضل المُتَيَّم واهتدى بضلاله
ويليه وادي السَّلَم بفتح السين واللام، ويذكر كثيرًا في أشعارهم. والضال هو
البري من شجر السدر وهو ذو شوك ونبقه صغير، والسلم الشجر الذي يسمى ورقه
القرظ، ويُدبغ به، وهما من أشجار تلك البلاد.
وأول منى العقبة التي فيها الجمرة المنسوبة إليها وسيأتي ذكرها. والمسافة
بين مكة ومنى فرسخ واحد أي ثلاثة أميال كما قالوا، ففي معجم البلدان لياقوت:
مِنًى بالكسر والتنوين في درج الوادي الذي ينزله الحاج ويرمي فيه الجمار، يسمى
بذلك لما يمنى فيه، أي يُراق من الدماء - أي دماء الأنعام للنسك - إلى أن قال:
وهي بُلَيْدة على فرسخ من مكة، طولها ميلان، تعمّر أيام الموسم، وتخلو بقية
السنة إلا ممن يحفظها، وقلّ أن يكون للإسلام بلد مذكور إلا ولأهله بمنى مضرب.
اهـ.، والمراد بالمضرب: المكان الذي تُضرب فيه خيام الحاج. وهذه الطريق
يقطعها راكبو الخيل - وكذا الحمير - في ساعة واحدة وراكبو الإبل في ساعتين،
وحدّ منى من العقبة التي فيها جمرة العقبة إلى بطن مُحَسِّر (بكسر السين المشددة)
كما سيأتي، والغالب فيه التذكير والصرف، وقد تؤنث على الأصل في أسماء
البقاع، وتمنع من الصرف.
والوادي بين منى والمزدلفة يسمى وادي المنار، وتسمى المزدلفة جمعًا أيضًا،
ويكثر هذا الاسم في الأخبار والآثار والأشعار، وهي المشعر الحرام عند الجمهور،
أو هو جبل قزح فيها، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة:
198) ، أي في المزدلفة، فهي عند الجبل. والمسافة بينها وبين منى من نهاية
حدها الشرقي نصف ساعة لركاب الخيل أو الحمير الفارهة وساعة أو ساعة وربع
لراكبي الإبل. وسميت جمعًا لجمعها الناس في ليلة النحر، والمزدلفة من الازدلاف
وهو الاقتراب، إما للتقرب إلى الله بذكره فيها، أو للازدلاف إليها من منى بعد
الإفاضة من عرفات، وقيل: إن آدم وحواء تعارفا في عرفة، واجتمعا في
المزدلفة، وسيأتي الكلام على المبيت فيها للنسك.
والمسافة بين المزدلفة وعرفات ساعة ونصف على الدواب، ويمكن قطعها
بأقل من ذلك، وثلاث ساعات للإبل. وبين المزدلفة وعرفة مضيق الأخشبين
ووادي نمرة وبطن عرنة، وقال العلماء: إن المسافة بين مكة وعرفة تسعة أميال
تقريبًا، نقله الزَّبِيدي شارح القاموس والإحياء، ولكنه ذكر - عند الكلام على نمرة
- أنها على مسافة أحد عشر ميلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الإقهاء: فقد شهوة الطعام.
(2) سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يروون فيه إبلهم، ويحملونها الماء الكثير لعدم وجوده في عرفة.
(3) إبراهيم الذي أُضيف إليه هذا الباب مزيّن كان هناك، ويظن بعض الناس أن المراد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وممن اغتر بظاهر التسمية الرحالة ابن جبير، فظن ذلك.
(4) الثنية: بوزن قضية: الطريق في العقبة أو العقبة المسلوكة وقال الراغب: الثنية من الجبل ما يحتاج في قطْعه إلى صعود وحدور، والعقبة: الطريق الوعر في الجبل وكداء: بفتح الكاف والمد.(20/150)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة الشيخ سليم البشري
شيخ الأزهر
في الضحوة الكبرى من يوم الجمعة لأربع خلون من شهر ذي الحجة الحرام
تُوفي الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر عن عمر ناهز المائة
سنة وقيل جاوزها، وكان قبل يومين من وفاته سليمًا معافى، وقد نعته إدارة
المعاهد العلمية في الأزهر إلى رؤساء الحكومة والجرائد اليومية، بما نصه:
أصيب المسلمون في مصر بفقد شيخ المسلمين وكبير علماء الدين حضرة
صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر ورئيس
المجلس الأعلى للمعاهد العلمية والدينية الإسلامية.
توفي إلى رحمة الله قبيل ظهر اليوم (الجمعة 21 سبتمبر 1917) بعد ما
لزم الفراش يومين، كان من قبلهما ينهض بأعباء المعاهد الدينية ويلقي دروسه
العالية في الأزهر بعزم فتيّ، لا تنال منه الشيخوخة، ولا يدركه هرم.
وستشيع جنازة الفقيد غدًا السبت 22 سبتمبر 1917، الساعة 11 صباحًا
من محطة كُبري الليمون مارة بشارع كامل، فشارع الموسكي إلى الجامع الأزهر،
حيث يجتمع وفود المشيعين من العلماء والطلاب وغيرهم للصلاة عليه. ثم تسير
الجنازة إلى مدافن السادات المالكية بقرافة الإمام مارة بشارع الغورية فشارع
المغربلين فشارع محمد علي ويلقي صاحب العزة حافظ إبراهيم بك على قبر الفقيد
مرثاة من نظمه. أحسن الله عزاء المسلمين في فقيدهم الجليل وتولاه برضوانه
ورحمته.
كانت وفاته في داره بالحلمية من ضواحي مصر وبدئ الاحتفال بتشييع
جنازته في الوقت الذي ذُكر في النعي، وقد وصفت ذلك جريدتا الأهرام والمقطم
بالتفصيل، قالت الأهرام:
فجيء بالجثة من الحلمية إلى كبري الليمون بقطار خاص يصحبها أنجال
الفقيد وأحفاده وآله وجمهور من العلماء والأعيان. وكان في انتظارها في محطة
كبري الليمون نفسها من الداخل جمهور عظيم من كبار العلماء والموظفين الملكيين
والعسكريين والأعيان والتجار والمحامين، يتقدمهم حضرة صاحب السعادة حسن
عبد الرازق باشا وكيل الديوان العالي السلطاني بالنيابة عن صاحب العظمة
السلطانية، والكولونِل ر. ف. هربرت بالنيابة عن القومسير العالي البريطاني،
وحضرة صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير الأوقاف العمومية بالنيابة عن
رئيس الوزراء والميجر هـ. م. جريفس أحد أركان الحرب في الجيش البريطاني
بالنيابة عن القائد العام، فاللواء السيد علي باشا مساعد الأدجونانت الجنرال بالنيابة
عن وزير الحربية، فالقائم مقام إدواردس بك بالنيابة عن سردار الجيش، فحضرة
صاحب المعالي محمود شكري باشا رئيس الديوان العالي السلطاني، فحضرة
صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية.
(ثم ذكرت وكلات الوزارات بأسمائهم وكبار الموظفين الوجهاء بالإجمال
وخيَّالة البوليس، فجمهور الطلاب الأزهريين وطلبة مدرسة القضاء الشرعي
ومدرسة ماهر باشا) .
ثم وصفت الجريدة السير بالجنازة إلى الأزهر والصلاة عليها فيه وتأبين الفقيد
كما بلغت، ومنه أن المؤذنين كانوا يرتلون في المآذن التي مرت فيها الجنازة -
وكذا في صحن الأزهر - آيات الأبرار، أي الآيات التي وردت في وصفهم من
سورة الإنسان، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا
كَافُوراً} (الإِنسان: 5) ... إلخ.
وأقول: إن هذا من البدع الخاصة بكبار رجال العلم الديني، ومَن يُنزلونه
منزلتهم؛ ولذلك يظن الكثير من غير المسلمين ومن المسلمين الجاهلين الذين لا
يعرفون السنن والبدع أنه من شعائر الدين. وللمؤذنين في قراءة هذه الآيات طريقة
رديئة، لو لم تكن قراءتها والاجتماع لها في المآذن والمساجد بدعًا لكانت هذه
الطريقة في التلاوة كافية في وجوب الإنكار عليهم ووجوب منعهم من ذلك على
القادر؛ ذلك أنهم يقطعون الآيات قطعًا، يقرأ بعضهم كَلِمًا منها، يسكت في غير
مواضع الوقف منها، فيتم بعض آخر ما بدأ كما يفعل الممثلون للقصص في
الملاهي، فيفصلون بين الصفة والموصوف، والعامل والمعمول، يقول بعضهم:
{إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: 5) ، فيقول آخرون: {كَانَ
مِزَاجُهَا كَافُوراً} (الإِنسان: 5) ، ثم يقول بعضهم: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإِنسان: 6) ، فيقول آخرون: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (الإِنسان: 6) ،
وهكذا يفرقون في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإِنسان: 7) بين (يومًا) وما وصف به، ولو تدبروا الآية لخافوا أن يعذبهم
الله تعالى في ذلك اليوم على هذا التمزيق في قراءة كتابه. ومن غريب الاتفاق أننا
اقترحنا في جزء المنار الماضي على شيخ الأزهر أن يسعى لإبطال البدع من
المساجد، ولم يكد نوزع الجزء إلا وقد قضى الشيخ نحبه، فعسى أن يقوم بذلك
خلفه.
ثم قالت الأهرام: وكان الناس من وطنيين وأجانب وقوفًا بالعشرات والمئات
على جانبي الطريق، يحيون الفقيد في مشهده، ويترحَّمون عليه. ثم ذكرت
وصول الجنازة إلى الجامع الأزهر في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر والصلاة
عليه وقراءة الشيخ محمد الحملاوي قصيدة من نظمه في رثاء الفقيد. وتلاه الشيخ
محمد أبو العيون بتأبين منثور، أشير إليه بأن يختصره لأجل التعجيل بالدفن
المطلوب شرعًا، ففعل.
ثم حملت الجنازة من الأزهر، والمؤذنون يكررون الآيات التي تقدم الكلام
عليها إلى مقابر المالكية من قرافة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبعد مواراتها
التراب أنشد محمد حافظ بك إبراهيم مرثيته، وتلاه الشيخ محمد فراج المنياوي
بتأبين نثري، أساء فيه الإطراء، فجعل فيه الفقيد من الخلفاء الراشدين، بل فضَّله
عليهم في التعبير. ثم عزى جمهور المشيعين أبناء الفقيد، وانصرفوا.
***
(مرثية محمد حافظ بك إبراهيم)
أيدري المسلمون بمن أُصيبوا ... وقد واروا سليمًا في التراب
هوى ركن الحديث فأي خطب ... لطلاب الحقيقة والصواب
موطأ مالك عزى البخاري ... ودع لله تعزية الكتاب
فما في الناطقين فم يوفي ... عزاء الدين في هذا المصاب
قضى الشيخ المحدث وهو يملي ... على طلابه فصل الخطاب
ولم تنقص له التسعون عزمًا ... ولا صدته عن درك الطلاب
وما غالت قريحته الليالي ... ولا خانته ذاكرة الشباب
أشيخ المسلمين نأيت عنا ... عظيم الأجر موفور الثواب
لقد سبقت لك الحسنى فطوبى ... لموقف شيخنا يوم الحساب
إذا ألقى السؤال عليك ملقٍ ... تصدى عنك برك للجواب
ونادى العدل والإحسان أَنَّا ... نزكي ما يقول ولا نحابي
قفوا يا أيها العلماء وابكوا ... ورووا لحده قبل الحساب
فهذا يومنا ولنحن أولى ... ببذل الدمع من ذات الخضاب
عليك تحية الإسلام وقفًا ... وأهليه إلى يوم المآب
***
التعازي:
ونشرت جريدتا الأهرام والمقطم تعزية برقية من نائب الملك لمدير المعاهد
الدينية، وأخرى للشيخ طه البشري أكبر أبناء الفقيد، صرح فيهما بأن نعي الفقيد
قد شق عليه كثيرًا، ودعا له بالرحمة والرضوان، وبرقيتان أُخريان بمعناهما من
كبير الوزراء، صرح فيهما بأنه أسف جدًا لعدم إمكان تشييعه الجنازة بشخصه.
وقد تألف وفد من أنجال الفقيد ومراقب الأزهر رأسه المدير العام للمعاهد
الدينية الشيخ عبد الرحمن قراعة لأداء الشكر لرؤساء الحكومة وكبراء البريطانيين
الذين اشتركوا في تشييع الجنازة بالذات، أو بإنابة الوكلاء عنهم والمعزين، فبدءوا
بقصر عابدين، وسجلوا أسماءهم في (دفتر التشريفات) ، ثم نائب وزير الحربية،
وإدواردس بك لشكر السردار، ثم الجنرال كليتون لشكر القائد العام للقوات
البريطانية بمصر على إرساله مندوبًا لتشييع الجنازة، ثم وكيل الأوقاف لشكره
وشكر الوزير، وأرسلوا برقيات شكر إلى نائب الملك ورئيس الوزراء وقومندان
المحروسة ومحافظ العاصمة وحكمدارها.
***
(ترجمة الفقيد)
نشرت جريدة الأهرام ترجمة وجيزة للفقيد، قيل إنها مستمدة من أهل بيته
ملخصها:
أنه (وُلِدَ حوالي سنة 1243 أو 1244 في محلة بشر بمركز شبراخيت،
ولما شبَّ حضر إلى مصر لتلقي العلم، وأقام تحت رعاية شيخه الشيخ بسيوني
البشري من شيوخ المسجد الزينبي، وأنه تعب في طلب العلم تعبًا شديدًا، ولقي من
الدهر مقاومات عظيمة، وأنه كان يتعبد في المسجد الزينبي ليلاً، ويذهب إلى
الأزهر نهارًا لتلقي الدروس، وأن خاله عُين أمينًا لكساوي المحمل في أول ولاية
سعيد باشا، فخرج معه إلى الحجاز حاجًّا، وبعد أن أدى فريضة الحج عاد إلى
مصر، وبقي يشتغل بالتدريس حتى سنة 1273 تقريبًا) .
وإن أول عهده بالوظائف أن (عُين إمامًا لمسجد إينال بمرتب 90 فضة في
الشهر) ، وفي سنة 1291 مات الشيخ علي العدوي فنِيط به التدريس في المسجد
الزينبي بدلاً منه بمرتب مئة قرش في الشهر، وعين وكيلاً عن شيخ المسجد
الزينبي لحداثة سنه، وهو الشيخ أحمد الصفتي الشيخ الحالي، وبقي كذلك إلى آخر
ولاية إسماعيل باشا، ثم عين إمامًا وخطيبًا لمسجد زين العابدين، ثم شيخًا للمالكية
بعد وفاة الشيخ عليش، ثم شيخًا للأزهر لأول مرة في سنة 1901، وكانت مدتها
أربع سنين. وذكر من حبه للعلم وإيثاره له أن تلميذه قدري باشا عرض عليه
وظيفة بثلاثين جنيهًا، فأبى مفضلاً الانقطاع إلى تعليم العلم. ولم يذكر تلك الوظيفة،
فالظاهر أنه لم يكن يمكن الجمع بينها وبين التعليم.
وذكر مسألتين من خلائقه: إحداهما أنه كان اختار الشيخ أحمد المنصوري
شيخًا لرواق الصعايدة، فأبى قاضي مصر إقامته ناظرًا على أوقاف الرواق، فأصر
صاحب الترجمة على تعيينه دون غيره (ورأى في العدول إهدارًا لرأيه، وبالغ في
التشبث برأيه حتى فضَّل ترك المشيخة على التجاوز عن حقه المفروض بحكم
القانون) ، والثانية أنه لما جدد المسجد الزينبي رأى رئيس مهندسي الأوقاف أن
ينقل القبر المنسوب إلى السيدة زينب بما فيه، فعارضه الشيخ، وأعلمه أن ذلك
مخالف للشرع من وجوه عديدة، وانتهى الخبر إلى الخديو محمد توفيق باشا، فأمر
بإبقاء القبر في مكانه، وترضَّى الشيخ، فتم له ما أراد، ولما كانت نشأة الشيخ
الدينية قد كانت في جوار ذلك الضريح وصار قيِّمًا له عدة سنين ظل محافظًا على
تكريمه طول عمره، ولا ندري أكان يعتقد أن السيدة زينب مدفونة في هذا المكان
كما يظن عامة المصريين أم كان يرى أن نسبة القبر إليها كدفنها فيه؟
وفي هذه الترجمة أغلاط وقصور. وقد علمنا من عالم من أكبر تلاميذ الفقيد
وأعلمهم بترجمته أنه سمع منه أنه وُلد في سنة 1237، وأنه جاء مصر في سنة
1245 أو 1247، وأقام عند خاله الشيخ بسيوني شلتوت المؤذن في مسجد السيدة
زينب. ثم قضت الحال أن أرسله الخال إلى الأزهر.
وقد رأينا في جريدة وادي النيل التي تصدر في الإسكندرية - وهي أرقى
جريدة للمسلمين في هذا القطر - نعيًا للفقيد، وشيئًا من حاله، يبلغ زهاء نصف
عمود، بدأه بقوله: (نعت العاصمة الأستاذ الشيخ سليمًا البشري شيخ الجامع
الأزهر عن عمر طويل، قضى شطره الأكبر في خدمة العلم، وقضى أواخره في
ولاية المشيخة الأزهرية غير مرة. وكان رحمه الله في ولاية المشيخة ذا أنصار
يحفون من حوله، وخصوم كثيرين يأخذونه بأمور ليس من المناسب ذكرها ... ) ،
ثم ذكر أن علماء الأزهر متفقون على أنه أعلمهم بالحديث وأن طريقته في قراءته
أنه كان يقرأ الحديث أولاً على سبيل التبرك، ثم يقرؤه أحد الطلبة بصوت جهوري،
ثم يشرحه الشيخ بما شاء الله من علمه.
أقول: وهذه المزيَّة له مشهورة سمعتها من كثيرين، وعليها بنى حافظ مرثيته،
وهي أعظم مزية تُذكر له في هذا العصر، الذي أهمل الأزهريون فيه العناية بعلم
السنة روايةً ودرايةً؛ حتى صار طلبة العلوم الدينية في ديوبند وغيرها من بلاد
الهند يفضلون أكبر شيوخ الأزهر في علوم الحديث. وإنما كان الشيخ سليم البشري
على حظ من علم الحديث؛ لأنه طلب العلم قبل هذا الجيل بجيلين، وكانت كتب
السنة لا تزال تدرس في الأزهر.
وقد أدركنا من أقران الشيخ في الطلب شيخ شيوخنا الشيخ محمود نشابه
فألفيناه منفردًا بعلوم الحديث، وقد كنت أقرأ عليه صحيح مسلم، فيصحح لي أسماء
الرواة وغريب الحديث، ويجيبني عن كل ما أسأله عنه من المشكلات على البداهة
من غير مراجعة شرح ولا كتاب آخر، فإذا رجعت إلى تلك الكتب رأيت ما قاله
هو الصواب. ولكن صاحب الترجمة لم يعمل شيئًا لإحياء ما اندرس من علوم
الحديث في الأزهر في أيام رياسته ومشيخته.
وعندنا أن أعظم ما يُذكر في تاريخ مشيخته للأزهر قبوله للقانون الذي
وضعته الحكومة له ولمعاهد التعليم الديني التابعة له وتنفيذه إياه، وقد بيَّنَّا رأينا فيه
في المجلد الرابع عشر من المنار، ولا مجال لبيان ذلك، ولا لما كان بين المترجم
وبين الأستاذ الإمام من الوفاق والخلاف في إدارة الأزهر، وإنما أقول: إن المترجم
كان حريصًا على نيل رضاء السلطة العليا في كل وقت، وقد فصَّلنا ذلك بعض
التفصيل في تاريخ الأستاذ الإمام.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(20/160)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شيخ الأزهر الجديد
لما تُوُفِّيَ الشيخ البشري كثر القيل والقال في الأزهر في ترشيح خلف له،
وسرى ذلك إلى سائر معاهد العلم الديني للأزهر وإلى غيرها، واشتهر أن
الأزهريين رشحوا أربعة أشياخ: كل منهم له حزب رَشَّحَه، وسعى له سعيه، وقد
كتب بعضهم مقالات إلى الجرائد يطعن فيها ببعض، منها ما نُشر، ومنها ما لم
يُنشر، واتسع الوقت للخوض في ذلك بأن البشري توفي قُبيل عطلة عيد الأضحى،
ولم يتعين الخلف له إلا بعد انتهائها، فقد صدرت الإرادة بتعيين الشيخ محمد أبي
الفضل الجيزاوي شيخ معهد الإسكندرية شيخًا للأزهر ورئيسًا لمجلس المعاهد
الدينية الأعلى في يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من شهر ذي الحجة الحرام، وهو
أكبر علماء المالكية بعد البشري سنًا، ومن أشهر علماء الأزهر في العلم والمحافظة
على آداب الشيوخ وشمائلهم، ويقال إنه في العقد الثامن من العمر، وقد سبق له
الاشتغال بإدارة الأزهر؛ إذ كان أحد أعضاء مجلس إدارته في مشيخة الشيخ
حسونة النواوي، ثم عين وكيلاً للأزهر، وبعد قليل من الزمن عيّن شيخًا لمعاهد
الإسكندرية.
فنهنئه بأكبر منصب يرتقي إليه شيوخ العلم الديني بمصر، ونسأل الله تعالى
أن يوفقه، ويسدده فيه، ويجعل لإحياء علم السنة، ومقاومة البدع أفضل حظ من
عنايته.
__________(20/165)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عبر التاريخ
ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد
قالت جريدة (المقطم) في فاتحة مقالة طويلة نُشرت في صدر العدد الذي
صدر في 19 جمادى الأولى سنة 1335 - 13 مارس سنة 1917:
قُضي الأمر في العراق، وسقطت بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين، ومباءة
مجدهم، وعُنوان فخرهم، واستولى البريطانيون على منبت أثلة المنصور
والمهدي وهارون الرشيد والمأمون، وموئل العلماء والشعراء والأدباء في عصر
الشرق الذهبي الحديث، أي ذكرى تهيج في خاطر العربي إذا ذكر اسم بغداد
والزوراء ودار السلام؟ بل أي مجد يتحلى لعينيه عند سماع اسمها من دولة
عظيمة الأركان، متينة البنيان، قامت على العدل والنظام والعلم والأمان، وشعب
ناهض ناشط لطلب العلم وإتقان الصناعة وترويج التجارة، وتوسيع نطاق الزراعة
وبسط السيادة، وإضاءة مصباح العلم لتمزيق دياجير الظلام، بغداد دار العلم
والمجد، وبغداد مقر العظمة والثروة وبغداد عاصمة العرب وقاعدة الشرق.
هذا إرث مجيد ظل بيد الشرقيين اثني عشر قرنًا شاهدًا ناطقًا بعظمة أسلافهم
يناوح خرائب بابل وآثار نينوى، حتى صار أمره إلى الاتحاديين، فضاع منهم،
كما ضاع سواه، وصارت بغداد في يد مَن يعرف قيمتها، ويقدرها حق قدرها.
هذا ميراث العرب الكرام أخذه الاتحاديون، كما يأخذ الصبي الكرة، وقذفوا
به، كما يقذف بها، فأفلت من يدهم، وهم يسيرون الجيوش إلى بلدان أوربة
فاتحين، وثغور تركيا وكبار مدنها تسقط الواحدة بعد الأخرى، هذه سُنَّة الله في
خلقه، وقد سخر الاتحاديين لإنفاذ مشيئته وإنزال قضائه ".
ثم قال في فاتحة العدد الذي صدر في 22 جُمادى الأولى بعد كلام، علل فيه
تسمية الجرائد الإنكليزية بغداد مدينة الشعر والخيال بأنهم أخذوا ذلك من كتاب ألف
ليلة وليلة، الذي هو أشهر كتاب عند الإنكليز بعد التوراة والإنجيل:
أما العرب فينظرون إلى بغداد من وجهة أخرى، وإن لم يغفلوا وجهة
الشعر والخيال، فالعرب في مقدمة الأمم التي تجلّ الشعر والشعراء، ولكن العرب
يرون في بغداد القديمة عنوان مجد جنسهم، ورمزًا إلى أكبر شأو بلغته حضارتهم،
ويذكرون أن عصرها الأول كان عصرهم الذهبي؛ إذ منها انبلج صُبح العلم في
العصور الحديثة، فأضاء الشرق والغرب.
إن العرب يرون في بغداد الأولى مقر العلم والحكمة، وخزانة معارف الشرق،
ومدرسته التي نبغ فيها العلماء والأطباء والفلاسفة والفلكيون والكيماويون
والشعراء والكُتاب واللغويون والمهندسون برعاية العباسيين، وعناية أفاضل
خلفائهم، ولا سيما المأمون الذي كان عضد العلم وسند العلماء.
قال السر هنري رولنصن المؤرخ الشهير كلامه عن بغداد ما نصه: وقد
نافست بغداد قرطبة في الآداب والعلم والصناعة والفنون، فكان لهاتين المدينتين
سيادة العالم من هذا القبيل. أما في التجارة والثروة فإن قرطبة لم تبلغ شأو بغداد.
وكانت بغداد عاصمة الإسلام الدينية والعاصمة السياسية لمعظم بلدانه، لما كان
الإسلام ركن حضارة الدنيا.
هذه هي بغداد كما يراها العرب الذين يعرفون تاريخ قومهم، ويحفظون ذكر
عظمة جنسهم، ويتحسرون على أيام الرشيد والمأمون، ويتمنون لو أتيح للعرب أن
ينهضوا مثل نهضتهم في ذلك العصر السعيد، ويتعاونوا على رفع شأنهم بإتقان
العلم وتنشيط الصناعة والتفاني في تأييد المجموع.
كانت بغداد لسلطنة العرب كلندن اليوم لسلطنة البريطانيين، فكانت مركز
قوتهم، ومجمع علمهم، وركن صناعتهم، وسوق تجارتهم، ومجلس حكومتهم،
وكان خلفاؤها ينظرون في الجهات الأربع ويعلمون أن الرياح كيفما هبت فإنها تهب
عليهم من ولاياتهم وممالكهم، حتى لقد قال الرشيد - يخاطب السحابة -: (أمطري
حيث شئت فإن خيركِ يأتيني) .
إن بغداد صارت الآن للعرب مدينة الشعر والخيال؛ إذ لا سبيل إلا بهما إلى
تمثُّل عظمتها الماضية، أما في عصر العرب الذهبي فقد كانت بغداد جامعة لأبهة
الملك وشرف العلم ومجد الصناعة وعظمة التجارة وإتقان الفنون وبراعة النظام،
فكان الخيال والشعر فيها تفكهة يلطفان من أخلاق أهلها، وهم في طلب العلى
جادون، وإلى التقدم والارتقاء والنجاح ناشطون، وفي ذلك يقول أحد شعرائهم:
بغداد أيتها الجياد فإنها ... أنجى وأقرب للشؤون وأنجح
ولله در ذلك المستشرق القائل [1] :
في بلاد سكانها من صميم العرب الذين عُرفوا بالعزة والأَنَفَة والشمم، ودانت
لهم الأقطار، ففتحوا الممالك، ودوخوا الأمصار في غابر الأعصار، وأنشؤوا لهم
في التاريخ مجدًا خالدًا، وذكرًا باقيًا، فذاع فضلهم، وطارت شهرتهم، وتناقلت
الركبان أخبارهم، هناك جنة عدن، وهناك جنات النعيم، كانت رافلة في حُلل
الهناء والرخاء أيام كانت إنكلترة وألمانية فيافي وقِفَارًا، وكان أهلهما غارقين في
بحار الجهل، يتخبطون في دياجي الظلام، بلادكم - أيها العرب - هي التي
أزهرت فيها الحضارة، وأينعت الفنون، وأثمر الأدب، وعمرت دور العلم
والفلسفة، وهي البلاد التي انبعث منها نور الدين، وألبَست العالم ثوب الرفاهية
والسعادة.
ترى هل يكون للعرب نصيب من يقظة العالم بعد الحرب، ويد في نهضته
القادمة، فيحل الجد محل الخيال، وتطلق العقول والقلوب مما أصابها من الفتور،
وتنزل هذه الأمة المنزلة التي تجدر بها في مجالس الشعوب؟ ، أو تظل تعود
ببصرها القهقرى إلى عصور مضت، وأيام انقضت، تتغذى بالذكرى، وتصعد
الأنفاس الحرّى. اهـ.
__________
(1) أي في مقالة نُشرت مترجمة في (المقطم) بتاريخ 27 سبتمبر سنة 1916.(20/166)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجم المنار
اضطرنا انقطاع ورود الورق وغلاؤه المضاعف الفاحش إلى تصغير حجمه
رجاء الزيادة في أجزائه، وهو ضرورة تقدر بقدرها، وعسى أن لا يطول أجلها.
_______________________(20/168)
المحرم - 1336هـ
نوفمبر - 1917م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم تارك الصلاة
(س8) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا المحترم؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأرجوكم تعريفنا على صفحات المنار الأغر عن حكم تارك الصلاة
بغير عذر في نظر الشرع، وهل الأحاديث التي وردت بخصوص ترك الصلاة
تؤخذ على ظاهرها، أو فيها ما يحتمل التأويل كما يقال؟ أما ما أعلم من
الأحاديث الواردة في تارك الصلاة أو المتخلف عنها، فهو الموضح بعدُ، فإن كان
هناك أخرى أرجو التفصيل بإيضاحها في الإجابة. قال - صلى الله عليه وسلم -:
1- (بين العبد والكفر - وفي رواية الشرك - ترك الصلاة، فإذا تركها فقد
أشرك. وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كعدد نجوم السماء له ميزابان من
الجنة كلما نضب أمداه، مَن شرب منه شربة، لم يظمأ بعدها أبدًا، وسيرده أقوام
ذابلة شفاههم، فلا يطعمون منه قطرة واحدة، مَن كذب به اليوم لم يصب منه
الشراب يومئذٍ) .
2- (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمَن تركها فقد كفر) (يريد طبعًا العهد
الذي بيننا وبين الكفار) .
3- (مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .
4- (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) .
5- (والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة،
فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم
بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين
لشهد العشاء) .
فأرجو بعد النظر في هذه الأحاديث التكرم بتفهيمنا درجة صحتها، وعما إذا
كان في ظاهرها شيء يحتمل التأويل، خصوصًا في لفظة الكفر أو الشرك.
هذا، والسبب الذي ألجأني إلى عرض سؤالي هذا على فضيلتكم هو ذلك
التهاون الغريب في أمر الصلاة بين مَن يسمون أنفسهم مسلمين الآن، وظنهم أن
تاركها لا يخرج عن كونه عاصيًا بسيطًا مثل باقي العصاة، مفتوحة له أبواب
التوبة في أي وقت شاء فيه الصلاة، وذلك بالرغم مما ورد في أمرها في القرآن
الكريم والأحاديث الشريفة من التشديد والوعيد؛ لذلك أرجو أن تكون الإجابة مفصلة
الشرح، لعلها تكون فصل الخطاب فيما عليه شبابنا المسلمون المتفرنجون من
الحيرة في حكم تارك الصلاة بغير عذر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... الداعي علي مهيب
... ... ... ... ... ... ... ... بتفتيش عموم التلغرافات
(ج) يجد السائل في المجلد الثامن عشر من المنار ما يغنيه عن تفصيل
القول في هذه المسألة، وهو رسالة للشيخ محمد أبي زيد من طلبة دار الدعوة
والإرشاد، اسمها (البرهان على خروج الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان) ،
نُشرت في ص 505, 562, 586 وما بعدها، أورد فيها كثيرًا من الآيات التي
استدل به على كفر مَن ذكر، وبعض الأحاديث المؤيدة لدلالتها على ذلك، وذكرنا
فيما علقناه في حواشيها وما ذيلناها خلاف العلماء في المسألة والجمع بين الأقوال.
وإن أدري أيريد السائل الآن أن أتوسع في شرح المسألة، واستيفاء ما ورد فيها
من النصوص لزيادة الإيضاح، وتكرار تذكير التاركين لهذه الفريضة التي هي عماد
الإسلام؟ أم لم يقرأ تلك الرسالة، وما علقناه عليها؟ وقد يستدل بما أورده من
الأحاديث - وسؤاله عن غيرها - أنه لم يقرأ الرسالة، على أنه من أشد قراء
المنار عناية بهذه المسائل كما نظن، فنحثّه أولاً على مراجعتها وقراءتها، ونرشده
إلى كتابين جليلين في المسألة أحدهما (كتاب الصلاة) لإمام السنة أحمد بن حنبل
رضي الله عنه، و (كتاب الصلاة وأحكام تاركها) لناصر السنة ابن القيم رحمه
الله تعالى، والكتابان مطبوعان معًا. فإذا أشكل عليه - بعد الاطلاع على ما ذُكر -
أمر فليسأل عنه.
وأما الحديث الأول مما أورده في السؤال فصدره الخاص بالصلاة في صحيح
مسلم وأكثر كتب السنن، والثاني رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي
والنسائي والثالث والرابع والخامس في الصحيحين وغيرهما إلا الثالث، فقد رواه
البخاري دون مسلم، ومما قيل في الخامس إنه في تهديد جماعة من المنافقين، وإنه
في صلاة الجمعة خاصة أو الجماعة مطلقًا، فالأحاديث التي أوردها في الموضوع
كلها صحيحة. وقد ورد في معناها أحاديث أخرى.
وإنني أذكر كلمة وجيزة في المسألة تفيد السائل فضل فائدة في المسألة، وإن
كان يمكنه مراجعة المجلد الثامن عشر من المنار والاكتفاء بما فيه؛ لأنه من قدماء
المشتركين الذين يحفظون المنار، وقد تكون ضرورية للذين اشتركوا في المجلد
التاسع عشر والمجلد العشرين ومَن يتعذر عليه مراجعة ما أحلنا السائل على
مراجعته.
إن الكفر والظلم والفسق وما اشتق منها قد استعملت في لغة الكتاب والسنة
استعمالاً أعم وأوسع من الاستعمال الاصطلاحي الذي جرى عليه المتكلمون والفقهاء
فهؤلاء قد جعلوا الكفر مقابلاً للإيمان والإسلام، فالمسلم الصحيح الإيمان قد يكون
عندهم فاسقًا وظالمًا، ويطلق عليه هذان اللقبان، ولكن لا يطلق عليه لقب كافر،
وفي لغة الكتاب والسنة تطلق هذه الألفاظ على ما يقابل الإيمان والإسلام، وعلى
بعض كبائر المعاصي التي اختلف أئمة الفقهاء والمتكلمين في كفر مرتكبها بمعنى
خروجه من ملة الإسلام كالصلاة، وكذا على ما أجمعوا على أنه غير كفر بهذا
المعنى كالنياحة من الميت، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
(اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) ، وأهل
الأثر يتبعون النصوص في ذلك ويقولون بكفر كل من أسند إليه الكفر أو وصف به
في الكتاب والسنة، وما كل كفر عندهم خروج من الملة، بل هنالك كفر دون كفر،
وهم ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين. وأهل المذاهب يتبعون مذاهبهم في كل
مسألة، فيفرقون بين النصوص يؤلون بعضها، ويأخذون ببعض اتباعًا؛ لمَن قلدوهم
لا للنصوص.
والتحقيق الجامع بين النصوص أن مَن كان مؤمنًا صحيح الإيمان مسلمًا
صادق الإسلام لا يُخرجه عن ملة الإسلام تركه لصلاة كسلاً أو ارتكابه لكبيرة من
المنهيات بجهالة يتوب منها، ولكن الإيمان الصحيح هو إيمان الإذعان والخضوع
الفعلي لأوامر الله ونواهيه، الذي به يكون المؤمن مسلمًا. وقد يكون المرء مؤمنًا
غير مذعن كإبليس، ومَن قال الله تعالى فيهم من أئمة الكفر: {وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} (النمل: 14) ، ومَن قال فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) ، وغير هؤلاء.
وهل يعقل أحد ينصف من نفسه أن يكون من أولئك المؤمنين المذعنين مَن
يترك عماد الدين وأعظم أركان الإسلام بغير مبالاة، ويصر على ذلك غير مكترث
للآيات والأحاديث الكثيرة في الأمر بها والترغيب فيها، والبيان لفوائدها ومكانتها
العليا من الدين والترهيب والزجر عن تركها والوعيد الشديد عليه، وتسميته كفرًا
في أحاديث صحيحة، ظاهرها أن المراد به كفر الاعتقاد، لا كفر النعمة أو كفر
العمل، كما قيل.
وممن قال بكفر تارك الصلاة من أئمة السلف إمام الأئمة علي كرم الله وجهه،
وقد أوَّل الجمهور الأحاديث الواردة في ذلك بما أشرنا إلى بعضه آنفًا. وحملها
بعضهم على الاستحلال ولا خلاف في كفر من استحل حرامًا مجمعًا على تحريمه
معلومًا من الدين بالضرورة كترك الصلاة والزكاة من الفرائض وكفعل الزنا وشرب
الخمر من المحظورات.
واستحلال الشيء هو عدُّه حلالاً كما قال ابن منظور في لسان العرب. فإذا
كان المراد به الاستحلال بالفعل وهو أن يكون المحرم عند مرتكبه كالحلال في عدم
تحرجه من فعله ولا احترامه لأمر الله ونهيه، حتى كأنه لم يفعل شيئًا - فهذا هو
الذي لا يعقل أن يصدر من مؤمن. وإن كان المراد اعتقاد أن الشرع أحله فهذا
مُحال على نشء بين المسلمين. ولا أعرف لإمكان الجمع بين الإيمان بما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم وبين ترك فريضة منه أو ارتكاب محرم إلا صورة
واحدة، وهي الغرور بالأماني كالمغفرة والشفاعة وجعل الفاسق ذلك كالمقطوع به،
وقد كشفنا الشبهة عن وجه هذا الغرور مرارًا في التفسير، والله أعلم.
__________(20/188)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(5)
عرفات وحدودها:
كل من عرفة وعرفات (بفتح العين والراء فيها) اسم لتلك البقعة الشريفة من
الأرض، التي هي أشهر البقاع عند ألوف الألوف من البشر. وعرفات اسم مفرد
يُنَوَّن كأذرعات وليس جمعًا لعرفة، وجُوِّز أن يكون أشير بصيغة الجمع إلى كون
كل مكان أو قسم من تلك البقعة يتحقق فيه معنى التعارف أو التعرف الذي عُللت به
التسمية كما يأتي قريبًا. ويحتمل أن يكون بعض قدماء العرب مد فتحة الفاء
وأشبعها في الشعر، ثم كثر فصار اسما مستقلاًّ، ونظيره قول الشاعر في عُرَنَة
(بضم العين وفتح الراء والنون) :
أبكاك دون الشعب من عرفات ... بمدفع آيات إلى عرنات
وقول عمر بن أبي الكنات الحكمي المغني:
عفت الدار بالهضاب اللواتي ... بين توز فملتقى عرنات
وظاهر عبارة لسان العرب أنهما موضعان، قال: وعرونة وعرنة موضعان،
وعرنات موضع دون عرفات إلى أنصاب الحرم، قال لبيد:
والفيل يوم عرنات كعكعا ... إذ أزمع العجم به ما أزمعا اهـ
وأقول: ليس دون عرفة موضع يسمى عرنات غير بطن عرنة الذي يذكره
جميع العلماء. وأخطأ مَن قال: إن عرفة مولَّد ليس بعربي صحيح. ومَن قال:
إنه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة، وإنما يقال: إنه يوم عرفة بمعنى أنه يوم
الوقوف بها، كما يقال: يوم التروية، وليس كيوم عاشوراء. وقد ورد اسم عرفة
في الأحاديث الصحيحة علمًا للبقعة وكذا في كلام الصحابة، وسيأتي شيء منها،
وعليه جرى العلماء والفقهاء، فكلهم يطلقون اسم عرفة على تلك البقعة الشريفة،
فلا يغترنَّ أحد بعبارة القاموس المُوهِمة، ولا بقول مَن توهم ذلك من المتأخرين،
وزعم أنه مقتضى كلام الراغب، وإنما قال الراغب: (ويوم عرفة يوم الوقوف
بها) ، أي بالبقعة المخصوصة التي اسمها عرفة وعرفات. قيل إنها سميت بذلك؛
لأن آدم وحواء تعارفا بها بعد هبوطهما من الجنة، وقيل لقول جبريل لإبراهيم
عليهما السلام، لما علمه المناسك، وأراه المشاهد: أعرفت أعرفت؟ قال:
عرفت عرفت. وقيل: لأنها مقدسة معظمة، كأنها عرّفت، أي طيبت بالعطر.
وقيل: لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: لتعرُّف العباد فيها إلى الله تعالى بالعبادة
والدعاء. والقولان الأولان يتوقفان على نقل صحيح، والأخيران أظهرُ معنىً،
ويعدون تعارف الناس هنالك من حِكَم الحج التي شُرع لأجلها، والواقع أن التعارف
بين الحجاج لا يتيسر في عرفة، كما يتيسر في منى؛ لأن وقت عرفة قصير،
فإن المجمع عليه منه يمتد من وقت الظهر إلى وقت المغرب، ولا يجزئ الوقوف
قبل الزوال عند أحد من العلماء إلا ما رُوي عن الإمام أحمد من أن وقت عرفة من
فجر يومها. ويجوز الوقوف في ليلة العاشر عند غير الشافعية، فأنَّى يتيسر
التعارف بين أفراد ذلك الجمع الكبير في ذلك الوقت القصير، مع ما يشرع فيه من
ذكر الله تعالى ودعائه، المقصود في هذه المعاهد لذاته. وستأتي للبحث تتمة.
وحدود عرفة معروفة للناس بما يتناقلوه بالتواتر عن المواضع التي يحصل
الفرض بالوقوف فيها. وذكر العلماء المتقدمون لها حدودًا، منها قول بعضهم: الحد
الأول ينتهي إلى جادة الطريق المشرق، والثاني ينتهي إلى حافات الجبل الذي
وراء أرضها، والثالث ينتهي إلى الحوائط (أي البساتين) ، التي تلي قرية عرنة،
وهذه القرية على يسار مستقبل القبلة في عرفة، والرابع إلى وادي عرنة بضم
العين وفتح الراء والنون، وعرنة ونمرة (بفتح فكسر) ليستا من عرفة، ولا من
أرض الحرم والمالكية يجيزون الوقوف بعرنة، ويحتج عليهم الجمهور بحديث:
(عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن
بطن محسر، ومنى كلها منحر) ، رواه مسلم وغيره. ومُحَسِّر (بكسر السين
المهملة مشددة) ، وبطن محسر وعرنة، كل منهما وادٍ فاصل بين المزدلفة ومنى.
وقالوا: حد الحرم من المأزمين (بكسر الزاي) وهو مضيق بين عرفة
ومزدلفة، وهناك علمان مبنيان في أول حدود عرفة، جُعلا علامة على حد الحرم،
فما كان شرقيهما من عرفة وما وراءها فهو من الحل، وما كان قبلهما من جهة
الغرب من بطن عرنة ومزدلفة ومنى فهو من الحرم، ويوجد ميلان آخران في أول
حد مزدلفة من جهة الغرب، فما بين العلمين والميلين هو وادي عرنة.
وفي الجانب الجنوبي من العلمين مسجد نمرة المعروف بمسجد إبراهيم بقرب
الطريق الممتد من منى إلى الطائف ويسمى أيضًا مسجد نمرة ومسجد عرنة. قال
الغزالي: ونمرة هي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة. اهـ. وظاهر حديث
نزول النبي صلى الله عليه وسلم بنمرة أنها أدنى عرنة لا كلها. وفي كتب اللغة أن
نمرة هي الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من المأزمين تريد
الموقف. قال شارح القاموس: كذا في التكملة. وقيل: الحرم من طريق الطائف
على طرف عرفة من نمرة على أحد عشر ميلاً. اهـ. وقد نقل هذا في معجم
البلدان وفيه بعده: وقيل نمرة على أحد عشر ميلاً. اهـ أي من مكة. فالتحقيق
الذي عليه الجمهور أن المسجد لم يكن من عرفة، وقول بعض الناس فيه (مسجد
عرفة) بالفاء من باب ما جاور الشيء أُعطي حكمه أو نُسِبَ إليه، ولذلك نسب
بعضهم عرفة إلى مكة وبعضهم إلى منى. وقال بعضهم: إن بعضه من عرفة
وبعضه من عرنة، وذلك بعد أن زِيد فيه كما سيأتي.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في مناسك الحج - بعد ذكر استحباب المبيت
بمنى ليلة عرفة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم - ما نصه: ويسيرون منها إلى
نمرة عن طريق ضب من يمين الطريق. ونمرة كانت قرية خارجة عن عرفات
(أي فخربت كما صرح غيره) من جهة اليمين فيقيمون بها إلى الزوال كما فعل
النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي وهو موضع النبي
صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه الظهر والعصر وخطب، وهو في حدود عرفة
ببطن عرنة. وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم، وإنما بُني في أول دولة بني
العباس. اهـ. المراد منه هنا.
وقال الغزالي في (الإحياء) : وأما مسجد إبراهيم عليه السلام فصدره في
الوادي وأخرياته من عرفة، فمَن وقف في صدر المسجد لم يحصل له الوقوف
بعرفة. ويتميز مكان عرفة من المسجد بصخرات كبار فُرشت هناك. اهـ.
قال الزبيدي عند شرح أول هذه العبارة من شرح الإحياء: وجدت بخط الإمام
الفقيه الشيخ شمس الدين بن الحريري ما نصه: وقد وقع للفقهاء في نسبة هذا
المسجد لإبراهيم الخليل عليه السلام كلام، وقد نسبه إليه جماعة منهم ابن كج وابن
سراقة والبغوي والقاضي حسين والأزرقي وتبعهم الشيخ النووي وجماعة من
المتأخرين، وادعى الإسنوي أنه خطأ، وإنما هو شخص اسمه إبراهيم من رءوس
الدولة المتقدمة، كما قاله غير الإسنوي، فالتبس بالخليل عليه السلام. وردَّ
الأذرعي هذا بأن الأزرقي من أعلم الناس بهذا، وقد نسبه إلى الخليل عليه السلام،
قال: (وعلى تسليم أن يكون قد بناه مَن ذُكر فلا يمتنع أن يكون منسوبًا من أصله
إلى الخليل عليه السلام، إما لأنه صلى هناك، أو اتخذ مصلى للناس، فنُسب إليه)
اهـ، وأقول: نعم، لا يمتنع ذلك عقلاً، ولكننا لا نثبته إلا بنقل صحيح، فأين
هو؟ !
وقال الزبيدي - عند شرح آخر تلك العبارة -: قال النووي في زوائد
الروضة: الصواب أن نمرة ليست من عرفات، وأما مسجد إبراهيم (عليه السلام)
فقد قال الشافعي رحمه الله إنه ليس من عرفة، فلعله زِيد بعده في آخره، وبين
هذا المسجد وبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم بالصخرات نحو ميل. قال إمام
الحرمين: وتطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفة. اهـ.
وقال صديقنا محمد لبيب بك البتانوني في الرحلة الحجازية التي ألفها في سنة
1328 - بعد وصفه لمنى وانتقاله إلى وصف الطريق منها لمزدلفة فعرفة - ما
نصه: ومن ثَمَّ يضيق الوادي، ويسمى بوادي محسر، حتى إذا وصل إلى المزدلفة،
وهي على مسافة ساعتين من منى (؟) أخذ في الاتساع مرة أخرى. وهناك
ترى على يمينك المشعر الحرام الذي يجب الوقوف عنده في النزول من عرفة.
وفي هذه الجهة مسجد على جبل قزح عمَّره السلطان قايتباي، ومن هناك يضيق
الوادي ثانيًا ويسمى بوادي عُرَنة (بضم العين وفتح الراء والنون) حتى إذا قرب
من مسجد نمرة (ويسمى مسجد عرفة أو مسجد إبراهيم) انفتحت أرجاؤه إلى
الشمال والجنوب. وهذا المسجد كبير قد أحاطت به البواكي (يعني الأروقة) في
جهاته الأربع من داخله. وعمّره قايتباي عمارة تُشكر. ونصفه الغربي (الذي إلى
مكة) في الحرم والنصف الآخر في الحل وبواسطة مجرى ماء يسير إليه زمن
الحج من مجرى عين زبيدة. وفي شمال هذا المسجد بقليل إلى الشرق ترى العلمين
وهما عمودان من البناء بعيدان عن بعضهما (أي أحدهما بعيد عن الآخر) بارتفاع
خمسة أمتار في عرض نحو ثلاثة، قد أقيما في فضاء الوادي للدلالة على حدود
عرفة من الغرب وهنالك نجد الجبل قد حلق على الوادي وقفله أمامك من الشرق
(أقفله أي سده) بشكل قوس كبير وهو ما يسمونه جبل عرفة. وعلى طرف القوس
من جهة الجنوب الطريق إلى الطائف على كرا، وفي طرفه من جهة الشمال لسان
يبرز إلى الغرب يسمونه جبل الرحمة، وسفحه الجنوبي هو حد عرفة من الشمال.
اهـ.
صفة جبل الرحمة بعرفات:
قال ابن جبير الأندلسي في رحلته: (وعرفات بسيط من الأرض مد البصر،
لو كان محشر الخلائق لوسعهم، يحدق بذلك البسيط الأفيح جبال كثيرة. وفي آخر
ذلك البسيط جبل الرحمة، وفيه وحوله موقف الناس، والعلمان قبله بنحو الميلين،
فما أمام العلمين إلى عرفات حل وما دونهما حرم، وبمقربة منهما مما يلي عرفات
بطن عُرنة، الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه) - ثم قال -:
(وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال، قائم وسط البسيط، وهو كله حجارة
منقطعة بعضها عن بعض. وكان صعب المرتقى فأحدث فيه جمال الدين [1]
المذكورة مآثره في هذا التقييد - أدراجًا وطيّة من أربع جهاته، يصعد فيها بالدواب
الموقورة وأنفق فيها مالاً عظيمًا. وفي أعلى الجبل قبة تُنسب إلى أم سلمة رضي
الله عنها، ولا يعرف صحة ذلك، وفي وسط القبة مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه.
وحول ذلك المسجد المكرم سطح محدق به فسيح الساحة جميل المنظر، يشرف
منه على بسيط عرفات، وفي جهة القبلة منه جدار، وقد نُصبت فيه محاريب
يصلي الناس فيها. وفي أسفل هذا الجبل المقدس عن يسار المستقبل للقبلة دار
عتيقة البنيان في أعلاها غرف (وفي نسخة غرفة) ، لها طيقان تُنسب إلى آدم
صلى الله عليه وسلم وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرة التي كان
عندها موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في جبل متطأمن) .
أقول: هذا الجبل هو جبل إلال (بوزن هلال) قال ابن دريد في وصف
الحاج:
ينوي التي فضلها رب العلى ... لما دحا تربتها على البنى [2]
حتى إذا قابلها استعبر لا ... يملك دمع العين من حيث جرى [3]
ثمت طاف وانثنى مستلمًا ... ثمت جاء المروتين فسعى [4]
ثمت راح في الملبين إلى ... حيث تحجى المأزمين ومنى [5]
ثم أتى التعريف يقرو مخبتًا ... منازلاً بين إلال فالنقا [6]
موقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة:
اتفق الرواة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة بمنى
ورحل منها بعد طلوع الشمس، حتى جاء نمرة، فأقام بها إلى وقت الزوال، ثم
جاء بطن الوادي، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح، فوقف
على الموقف من عرفة، وعلى أن المكان الذي وقف فيه، وأشار إليه في الحديث
هو المكان المعروف عند الصخرات. وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف) ،
والمراد أنه لم يقف هنالك لمزية لذلك المكان على غيره في أداء النسك، بل يصح
الوقوف في كل موضع من عرفة. ولكن صار لذلك المكان مزية بوقوفه فيه،
فصار موقف الأئمة ونوابهم الذين يحجون بالناس. وقد نقل الزبيدي في شرح
الإحياء كلامًا مفصلاً للمحب الطبري في ذلك المكان وفي جبل الرحمة، قال:
(وقد روى أبو الوليد الأزرقي بإسناده عن ابن عباس أن موقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان بين الأجبل الثلاثة النبعة والنبيعة والنابت، وموقفه
صلى الله عليه وسلم منها على النابت، قال: والنابت على النشزة التي خلف
موقف الإمام، وموقفه صلى الله عليه وسلم على ضرس من الجبل النابت مضرس
بين أحجار هناك نابتة من الجبل الذي يقال له إلال ككتاب.
(قال المحب الطبري) : وعلى هذا يكون موقفه صلى الله عليه وسلم على
الصخرات الكبار المفترشة في طرف الجبلات الصغار التي كأنها الروابي عند
الجبل الذي يعتني الناس بصعوده ويسمونه جبل الرحمة واسمه عند العرب إلال
بالكسر، وذكر الجوهري فيه الفتح والمحفوظ خلافه، وهذا يرجح ضبط مَن ضبط
قول جابر في حديثه الطويل: (وجعل جبل المشاة بين يديه) بالجيم؛ فإن الواقف
كما وصفناه يكون هذا الجبل أعني إلالاً بين يديه وهو جبل المشاة، وذكر ابن
حبيب أن إلالاً جبل من الرمل يقف الناس به بعرفات عن يمين الإمام، حكاه عنه
أبو عمرو عثمان بن علي الأنصاري في تعاليقه على الجوهري، وذكر ابن أبي
الصيف في بعض تعاليقه على الجوهري أن اسم جبل الرحمة الذي يقال له جبل
المشاة كبكب.
(قال المحب الطبري) : والمشهور في كبكب أنه اسم جبل بأعلى نعمان
بقرب الثنايا عنده قوم يُدعون الكباكبة نسبة إليه، والمشهور في جبل الرحمة ما
ذكرناه. إذا تقرر هذا فمن كان راكبًا ينبغي أن يلابس بدايته الصخرات المذكورة
كما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم، ومن كان راجلاً وقف عليها أو عندها بحسب
ما يتمكن من غير إيذاء أحد، ولا يثبت في الجبل الذي يعتني الناس بصعوده خبر
ولا أثر، (قال) : وذكر شيخنا أبو عمرو بن الصلاح في منسكه عن صاحب
الحاوي أنه يقصد الجبل الذي يقال له (جبل الدعاء) ، وهو موقف الأنبياء عليهم
السلام، وعن محمد بن جرير الطبري أنه يستحب الوقوف على الجبل الذي عن
يمين الإمام يعني جبل الرحمة، والذي ذكره صاحب الحاوي لا دلالة فيه على
إثبات فضل لهذا الجبل؛ فإنه قال: والذي نختار في الموقف أن يقصد نحو الجبل
الذي عند الصخرات السود وهو الجبل الذي يقال له جبل الدعاء وهو موقف الأنبياء
عليهم السلام، والموقف الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من
الأجبل الثلاثة على النابت، ثم ساق ما أوردناه سابقًا، ثم قال: وهذا أحب المواقف
إلينا للإمام والناس.
(قال المحب الطبري) : وهذا صريح في أنه أراد بجبل الدعاء النابت الذي
وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعرض في كلامه لجبل الرحمة
بنفي ولا إثبات. وما فهمه - رحمه الله - أنه جبل الرحمة غير مطابق، وقوله:
وهو الجبل أراد سهله، وهو من الأضداد يطلق على المكان المرتفع والمنخفض،
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف عليه لكونه موقف الأنبياء عليهم السلام،
وكلام ابن جرير ظاهر الدلالة أنه أراد بالجبل - الذي عن يمين الإمام - الجبل
الذي وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النابت كما تقدم بيانه، والظاهر
أنهما أراداه بقولهما، فيكونان قد أثبتا له شيئًا من الفضل، ولا نعلم من أين أخذا
ذلك؛ إذ لم يثبت في فضله خبر، ولو ثبت له فضل فموقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم أفضل منه وهو الذي خصَّه العلماء بالذكر والفضل.
ثم قال الطبري - نقلاً عن صاحب النهاية -: في وسط عرفة جبل يقال له
جبل الرحمة، ولا نُسُكَ في الرقي عليه، وإن كان يعتاده الناس. وقال غيره: قد
افتتنت العامة بهذا الجبل في زماننا، وأخطأوا في أشياء منها (أنهم) جعلوا الجبل
هو الأصل في الوقوف، فهم بذكره لَهِجُون، وعليه دون غيره معرجون، حتى
ربما اعتقد بعض العامة أن الوقوف لا يصح بدون الرقي (فيه) ، ومنها احتفالهم
بالوقوف عليه قبل وقت الوقوف، ومنها إيقادهم النيران عليه ليلة عرفة،
واهتمامهم لذلك باستصحاب الشموع من بلادهم، واختلاط النساء بالرجال هنالك
صعودًا وهبوطًا بالشمع الكثير الموقد، وإنما حدث ذلك بعد انقراض السلف الصالح،
ومَن كان متبعًا آثار النبوة فلا يحصل بعرفة قبل دخول وقت الوقوف يأمر ذلك،
ويعين عليه، وينهى عن مخالفته. اهـ. ما نقله الزبيدي.
5
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو جمال الدين محمد الجواد الموصلي كان وزير صاحب الموصل، وله في الحرمين والمشاعر عمارات عظيمة.
(2) البنى جمع بنية يشير إلى أثر: (دحا الله الأرض دحوًا من تحت الكعبة) ، وهو مروي عن عطاء، وليس حديثًا كما توهم، ودحا الشيء رماه وكشفه ونحاه قيل: وبسطه.
(3) استعبر: جرت عَبرته أي دمعته.
(4) المروتان الصفا والمروة تغليب.
(5) تحجى: قصد وتعمد.
(6) التعريف: الوقوف بعرفة، أي أتى مكان التعريف، ويقر ويستقري ويتتبع منزلاً بعد منزل، ومخبتًا خاضعًا خاشعًا، وإلال: الجبل، والنقا: تلال الرمل.(20/192)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب والصلح
كثر الخوض في حديث الصلح في السنة الماضية، وقد كانت دول التحالف
الجرماني هي التي بدأت بطلب فتح باب المفاوضة في الصلح وكلفت ألمانية
الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية قبل انضمامه إلى
محاربيها أن يتوسط بين المتقاتلين في الصلح، فكتب مذكرة في ذلك ردت عليها
إنكلترة أشد الرد، ورفضتها كل الرفض، وتبعها حلفاؤها بالطبع. ثم إن البابا
أرسل رسالة إلى جميع الدول المتقاتلة من الفريقين، دعاهم فيها إلى المبادرة إلى
حقن الدماء وعقد الصلح على قاعدة جعْل قوة الحق الأدبية بدلاً من قوة الجيش
المادية، وتحديد التسليح البري والبحري والجوي، وحرية البحار وحقوق الشعوب
وعدم ضم شيء من أملاك بعضها إلى بعض، وعدم أخذ غرامة حربية وجعل
التعويض عن الخراب بالتعاون، وقاعدة التحكيم الإجباري فيما يقع بين الدول من
المسائل الخلافية. فلم يستحسن هذه المذكرة من دول التحالف البريطاني إلا حكومة
روسية المؤقتة التي سبقت إلى اقتراح قاعدة (لا ضم ولا غرامة) وقد رد الدكتور
ولسن على المذكرة ردًّا طويلاً، وافقه عليه سائر الحلفاء، أهم ما فيه أن حكومة
ألمانية الحاضرة حكومة أتقراطية لا تثق الحلفاء بعهودها، فيعقدوا معها صلحًا،
فالأساس الأول لقواعد الصلح عندهم تحويل هذه الحكومة إلى ديمقراطية تنطق باسم
الشعب، فإن لم يبادر الألمان أنفسهم إلى قلب حكومتهم وثل عرش آل هوهنزلرن
المؤيد بالقوة العسكرية والاستعاضة عنها بحكومة ديمقراطية فإن الحلفاء هم الذين
يفعلون ذلك بالقوة القاهرة، وحينئذ يتم الصلح الحقيقي الذي يستريح به البشر من
مصائب الحرب، وقد أيدت الحلفاء الرئيس في رده، وأثنت جرائدها عليه [1] إلا
أن بعض الجرائد الإنكليزية كالتيمس - أنكرت منها تفرقة الرئيس بين الحكومة
الألمانية والشعب الألماني؛ إذ جعل وزر الحرب على الحكومة وحدها، قالت:
(ولكن الشعب الألماني قابل الحرب بحماسة عظيمة، وإن لم يكن هو الذي أعلنها
وقد وافق نوابه على جميع الاعتمادات الحربية، وقابلت صحافته الفظائع الجرمانية
بهُتاف شديد) .
ونقول: إن الظاهر لنا أن الرئيس ولسن يرمي بتبرئة الشعب الألماني من
تبعة الحرب وإظهاره الاكتفاء بإسقاط حكومته الإمبراطورية - إلى إغرائه بثورة
داخلية على حكومته الممتازة بكونها جهة الوحدة لقوتها وقوة أحلافها، فإن تم هذا
تنتهي الحرب في أقرب زمن بأقل خسارة.
أما دول التحالف الجرماني فقد قابلت مذكرة البابا بالابتهاج، فأما ألمانية فقد
أرسل وزير إمبراطوريتها ردًّا جميلاً إلى وزير خارجية الفاتيكان بأمر مولاه
الإمبراطور، بدأه بقوله: (إن جلالته ينظر بعين الاحترام والشكر والسرور إلى
المساعي التي يبذلها قداسة البابا لتقصير أجل الحرب وتخفيف وطأتها ... ) إلخ،
وتبجح بأن مولاه مازال نصير السلم منذ تبوأ العرش، وبأنه يوافق على أن
الشروط التي قالها قداسته من الأمور التي يجب أن تظهر في المفاوضات المقبلة،
وبأنه: (ليس في العالم شعب يتمنى الصلح على أساس إصلاح ذات البين بين
الأمم وإحلال الإخاء والمساواة محل البغض أكثر من الشعب الألماني) . (وقال) :
(فإذا أدركت الأمم المشربة بهذه المبادئ أن الاتفاق خير من الشقاق فإنها تستطيع
أن تسوي جميع المشاكل الحاضرة وتمنع وقوع الحروب في المستقبل بإنالة جميع
الشعوب ما يلزم لحياتها وسعادتها، فعلى هذا الأساس وحده يحتمل أن يبرم الصلح
الدائم الذي يقرب بين الأمم وينهض بالبشرية نهضة كبيرة من الوجهتين المعنوية
والاقتصادية. وهذه الثقة هي تحملنا على الاعتقاد أن أعداءنا يجدون في المبادئ
التي أعرب عنها قداسة البابا أساسًا تمهيديًّا للصلح المقبل بشروط تلائم روح العدل
وموقف أوربا الحالي) . اهـ بنص ترجمة المقطم (في 19 ذي الحجة الماضي) .
ورد إمبراطور النمسة الجديد (كرلوس) بنفسه ردًا مشربًا بمنتهى التعظيم
والاحترام والقبول؛ لأنه هو الإمبراطور الكاثوليكي الوحيد، ولكنه لم يَفُهْ بكلمة ما
تدل على اعترافه بحقوق الأمم والشعوب.
وكذلك كان رد الدولة العثمانية على المذكرة بإمضاء السلطان محمد رشاد ردًّا
مشربًا بالتعظيم والاحترام، وصرح فيه بالموافقة على القواعد الأساسية التي اقترح
أن يبنى عليها الصلح والاستعداد لدرس الطرق التي تؤدي إلى تسوية المشاكل
الدولية في إبان مفاوضات الصلح، (قال) : (وإننا نصرح بذلك، وأمام أنظارنا
الضمان الكافي على استقلال الأمم وحريتها وارتقائها؛ لأننا رأينا في اقتراح
قداستكم أساسًا متينًا للصلح العمومي الدائم وطريقة حسنة لحقن الدماء) .
وقال - قبل ذلك -: (لقد أُكرهنا على خوض غمار الحرب دفاعًا عن حريتنا
وارتقاء بلادنا. وهذه الغاية الشريفة هي الغاية الوحيدة التي نحارب الآن من أجلها،
والتي تكفل لنا المحافظة على حقوقنا واستقلالنا التام في بلادنا وعلى حدودنا
القومية) . اهـ من ترجمة المقطم التي نُشرت في عدد 8 المحرم - 25 أكتوبر
الماضي.
وقد جزم ساسة الحلفاء بأن البابا لم يسعَ هذا السعي إلى الصلح إلا بتوسل
ألمانية والنمسة إليه، وأن سبب ذلك الشعور بالضعف والعجز عن الاستمرار على
القتال، وأن الغرض منه إغراء الميَّالين إلى الصلح في بلاد أعدائهم من
الاشتراكيين وغيرهم بحمل حكوماتهم على عقد الصلح، فما من أمة محاربة إلا
وفيها كثير من محبي السلم ودعاته. أما رأي هؤلاء الأحلاف في مسألة الأمم
والشعوب فقد بيناه في الجزء الأول، وأما مسألة الغرامة فقد صرحت جرائدهم -
ناقلة عن أقطاب ساستهم - أن من أهم شروط الصلح عندهم أن يؤخذ من الجرمان
عوض عن البلاد التي خربوها في بلجيكة وفرنسة والبلقان، بعد جلائهم عن هذه
البلاد كلها، ومنها رد الإلزاس واللورين إلى فرنسة.
وقد جاءت برقيات روتر في 5 المحرم (22 أكتوبر) بنص خطبة طويلة
بليغة من خطب لويد جورج رئيس الوزراء البريطانية ألقاها على ملأ عظيم في
لندن، كان غرضه الأول منها الحث على الاقتصاد في جميع النفقات واستطرد فيها
إلى الكلام في مسألة الصلح، فقال - بعد التصريح بأنه لا يرى في جو السياسة
شروطًا تؤدي إلى صلح وطيد الأركان -: (ولكن الشروط الوحيدة المحتملة الآن
تؤدي إلى هدنة مسلحة تفضي إلى حرب أشد هولاً من هذه. إن هذه الحرب مخيفة،
ولكن ما كشفته من الرزايا التي يحتمل وقوعها في البر والبحر والجو أشد هولاً
وأعظم رعبًا؛ فلهذا طلب من الذين يلحون في عقد صلح مبتسر - إذا صح أن
هنالك مَن يلح فيه-أن يمعنوا النظر فيما يحتمل وقوعه إذا وقع صلح غير مُرضٍ) ،
ثم قال: (يجب علينا في أثناء البحث في شروط الصلح أن نضع نصب عيوننا
الغرض العظيم من هذه الحرب، فإن المسألة ليست مسألة تعديل حدود أملاك إلا حيث تقتضي حقوق القوميات هذا التعديل، ولا هي مسألة غرامات إلا حيث تكون الغرامات للتعويض من ضرر، ولكنه في الدرجة الأولى مسألة القضاء على مبدأ فاسد
باطل استعبد أوروبة، وأوقع الخوف في قلوب أهلها، أو كاد لو أُتيح له الفوز)
(هُتاف) .
إن العدو الحقيقي هو روح الحرب الذي نشأ وترعرع في بروسيا، هذا
الروح الذي يرمي إلى جعْل العالم مكانًا تتسلط فيه القوة البهيمية تسلطًا لا ينازع فيه
أحد، بدلاً من عالم تسكنه ديمقراطيات حرة مرتبطة معًا بعرى السلم الشريفة، وقد
أقيم لهذا الروح هيكل يُعبد فيه في بتسدام [2] ، فلا سلم في العالم، ولا حرية إلا إذا
دكّ هذا الهيكل، وشتت شمل كهنته، وألبسوا ثوب العار إلى الأبد (هتاف) .
وعلقت الرجاء بأننا نتمكن في السنة الحالية من القضاء على هذه القوة
الهائلة، وكنا جميعًا ننتظر حركة حربية عظيمة من جميع الجهات تتجه إلى العدو،
وتنيلنا هذه الأمنية، ولكن تضعضع قوة روسيا الحربية الموقت، لا أقول إنه خيّب
الآمال، ولكنه أجل تحقق الرجاء على أن الزمان في جانبنا.ا. هـ المراد منه.
(المنار)
إن الحرب السياسية من قولية وعملية أعظم من الحرب الآلية من برية
وبحرية، وقد ظهر من براعة البشر في الحرب القلمية، ما هو أدل على الحذق
والذكاء من براعتهم في اختراع الآلات والأساليب الحربية، ومن براعة الإنكليز
المعهودة في السياسة أن قذفوا الألمان بالدول والأمم، بإزاء قذف غواصات الألمان
لبواخرهم بالحمم، حتى صار أعظم دول أمريكة الشمالية وأمريكة الجنوبية حربًا
لهم، بل آذنتهم دولة الصين بالحرب أيضًا، فصار عدد نفوس الأمم المحاربة لهم
بالذات، وبالتبع زُهاء ألف وخمسمائة مليون، وهم لا يزيدون مع أحلافهم على مئة
وخمسين مليونًا، وقد صرحت الجرائد بأن الجيش البريطاني المقاتل في الميدان
الغربي وحده لا يقل عن ثلاثة ملايين، وأن الجيش الألماني المقاتل بالفعل لا يكاد
يتجاوز أربعة ملايين.
وصرحت مرارًا بأن الإنكليز وأحلافهم متفوِّقون على الجرمان في السلاح
والذخائر وجميع مواد الحرب أضعافًا كثيرة، بل جاء في برقية لمكاتب المقطم
بباريس في 30 مايو الماضي أن الجنرال ز. لندن قال في مقالة له: (يظهر أن
النمسة وبلغارية وتركية استنفدت جميع قواتها، وصارت على آخر رمق، وأن
هذه الدول الثلاث ما كانت لتثبت لولا همة ألمانية ونشاطها، ولكنها ستتلاشى بنفاد
قوتها، وتطرد الوهن إليها) ، وقال عن الجيش الألماني: (إن عدد فرقه كان في
شهر إبريل الماضي مئتين وتسع فرق من المشاة، وهذا العدد يساوي عدد المشاة
من البريطانيين في ميدان فرنسة، فللفرنسويين والإنكليز التفوق على ألمانية) .ا. هـ
نعم، إنهم خسروا قوة روسية، ولكن يقابلها انضمام الولايات المتحدة إليهم،
وهذه الدولة أغنى دول الأرض الآن، وهي تقرض الحلفاء المال بمئات الملايين
في كل شهر، وتقدم لهم من الذخائر والأغذية والمواد الضرورية للحرب ما خفّ به
الحمل الثقيل عن عاتق الإنكليز. ففي مقطم 21 المحرم (7 نوفمبر) مقالة
افتتاحية، قال فيها: إن الحكومة البريطانية أقرضت حلفاءها ألفًا ومئتي مليون من
الجنيهات، وهي تجود عليهم بالبواخر والفحم والصوف والقطن والزيت والفولاذ،
وغير ذلك من المواد الخام التي تكثر في بلادها وفي مستعمراتها. ثم ذكر أن لها
في الميدان الغربي نحوًا من ثلاثة ملايين مقاتل.
هذا، وإن الأخلاق ركن من أعظم أركان الحرب؛ لأن جميع أعمال البشر
من آثار أخلاقهم، فالصبر والثبات في الحرب واجتماع الكلمة خير من كثرة
الجيوش، فتأمل تعليل النصر في النص الكريم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) ، وقوله تعالى: {إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ... } (الأنفال: 45) إلى قوله { ... وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) ، ومعنى كونه
تعالى مع الصابرين أن سُنته في خلقه قد جرت بجعْل الصبر من أعظم أسباب
الغلب والنصر، ولا سيما إذا صحبه الإيمان بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه،
وبمجموع ذلك فاز المسلمون من قبل، فغلبوا الأمم الكثيرة بالفئات القليلة.
والصبر والثبات والتعاون من الأخلاق التي امتازت بها الأمم الإنكليزية على
كثير من الأمم منذ أجيال؛ لذلك كانت أخلاقهم أنفع لأحلافهم من أموالهم ومتاعهم،
فولاهم لم يثبت على حرب الألمان أحد، وهؤلاء الألمان أقران لهم، وأقتال في
ذلك، فحرب الأخلاق بينهما هي الجهاد الأكبر، وعليه المعوّل الأخير في النصر
والظفر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) نُشر رد الرئيس ولسن في مقطم 3 من ذي الحجة الماضي (21 سبتمبر) ، ونُشرت نبذ من الجرائد الأمريكية والإنكليزية والفرنسية والطليانية في تأييد في 4 ذي الحجة.
(2) المنار: يعني الوزير بهذا الهيكل عرش ملك بروسية إمبراطور الألمان.(20/199)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مختارات من الجرائد
(الطعن في رئيس وزراء الإنكليز)
الطعن في العظماء والمصلحين في الأمم سُنة من سنن الاجتماع، حوادثها
كثيرة في التاريخ، وقد اتهمت جريدتان من الجرائد الإنكليزية مستر لويد جورج
رئيس وزرائهم - الذي أظهرت الحرب كفاءته وتفوقه على الأقران - فزعمت أنه
فَرَّ من لندن إلى فرنسة عند علمه بإحدى غارات الطيارات الألمانية على العاصمة،
وقد كذَّبت الحكومة الجريدتين، فلم تعتذرا عن كذبهما، فرفع الوزير عليهما دعوى
لسوء تأثير طعنهما في العامة. وقد عجبنا مما أظهرته الدعوى من كثرة ما سبق من
الطعن في الوزير، وهو موضع العبرة التي أردنا ضمها إلى أمثالها من حوادث
التاريخ. فقد جاء في مقطم 24 المحرم - 10 نوفمبر، من مقالة في شرح هذه
القضية ما نصه:
ولما عرضت القضية قال المحامي عن المستر لويد جورج إن موكله يقول:
إنه لو كان ما عَزَتْه الجريدتان والشركة عليه طعنًا شخصيًّا في شخصه فقط لرأى
أن كرامته ومقامه كرئيس وزراء بريطانيا العظمى يقضيان عليه بأن يتغاضى عنه،
ويكتفي بتكذيبه في الصحف التي نشرته، فإن المستر لويد جورج استهدف في
حياته السياسية لما لم يستهدف له سياسي آخر من الحملات والمطاعن الشخصية
والسياسية، فقابلها كما يجب على الساسة أن يقابلوها، أي أنه عدَّها من الأمور
التي لا مناص للسياسي من الاستهداف لها في حياته السياسية.
قال المحامي: والمستر لويد جورج يعذرني إذا قلت: إن خصومه ما كانوا
يخرجون من مناضلته فائزين. على أن الذي يهم رئيس الوزارة في قضيتنا هذه هو
سوء الوقع الذي يقع في نفوس الجمهور من اتهامه كذبًا بالجبن، فقد بلغه أن الناس
- ولا سيما في القسم الشرقي من لندن - ساءهم خبر مغادرة كبير وزرائهم للندن
للتخلص مما تعرضوا له، ولما كانت هذه التهمة كاذبة لجأ الرئيس إلى المحاكم
لينفي فيها على رءوس الأشهاد هذه التهمة الباطلة، ويُطْلع مواطنيه على الحقيقة.
ثم ذكر المقطم أن الوزير لما حضر المحكمة وحلف اليمين ألقى عليه المحامي
أسئلة أجاب عنها، منها السؤال الآتي مع جوابه:
س: ألم أفهم منك أنه لو كان الطعن شخصيًّا موجهًا إلى شخصك فقط لما
رفعت هذه القضية؟ .
ج: كنت أكتفي بنفي الخبر الذي روته الجريدتان؛ لأني لو سِرت على قاعدة
رفع القضايا على كل مَن يطعن فيَّ لما أتيح لي أن أفعل شيئًا آخر.
* * *
(الإسرائيليون وفلسطين)
ترجمة برقية خصوصية للمقطم من مكاتبه بلندن أيدتها برقيات روتر.
لندن؛ الجمعة في 9 نوفمبر الساعة 3 بعد الظهر.
ذكرت جريدة (جويش كرونكل) أن المستر بلفور وزير الخارجية البريطانية
كتب إلى اللورد روتشلد يقول ما نصه:
" يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك أنها تنظر بعين الرضى
والارتياح إلى المشروع الذي يراد به أن ينشأ في فلسطين وطن قومي لشعب اليهود،
وتفرغ خير مساعيها لتسهيل إدراك هذا الغرض. ولكن ليكن معلومًا أنه لا يُسمح
بإجراء شيء يُلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي للطوائف غير اليهودية
الموجودة في فلسطين الآن، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى
وبمركزهم السياسي فيها ". مكاتبكم بلندن.
* * *
(مظاهرة الصهيونيين لتحقيق أمانيّهم في فلسطين)
جاء في مقطم 16 المحرم - 13 نوفمبر ما نصه:
قال وكيلنا الإسكندري أمس: أقام الإسرائيليون - ولا سيما الصهيونيين منهم
- احتفالاً كبيرًا أمس في حديقة رشيد بالإسكندرية على إِثْر البيان الذي أبلغه المستر
بلفور إلى اللورد روتشلد في شأن تحقيق أماني الإسرائيليين بجعْل فلسطين وطنًا
قوميًّا لهم. وقد ألقى بعض خطبائهم في هذا الاحتفال خطبًا تناسب المقام، فشكروا
للحلفاء عامة، ولبريطانيا خاصة هذا الوعد الشريف، آملين تحقيقه في القريب
العاجل.
ثم طاف المحتفلون - وهم في أحسن نظام في شوارع المدينة الكبرى -
تتقدمهم الموسيقى وفرقة الكشافة الإسرائيلية، وهم فرحون جذلون بتلك البشرى
السارة هاتفون للحلفاء، ولبريطانية العظمى بدوام النصر والظفر. اهـ.
* * *
(معركة غزة ونتائجها)
نشر المقطم تحت هذا العنوان البرقية الآتية: باريس في 8 نوفمبر:
إن سقوط غزة من الحوادث التي يمكن أن تنشأ عنها نتائج عظيمة جدًّا،
والتي تعد مقدمة لأفول نجم تركيا في الأماكن المقدسة، وتحرير البلاد التي هي مهد
الديانة المسيحية. وقد قطعت المواصلات التركية تمامًا مع القوات التي تحارب في
بلاد العرب، وصار مصير (المدينة) معروفًا من الآن، وقد احتلت إنكلترا -
حليفة ملك الحجاز - كل العراق تقريبًا، وجنوبي بلاد فلسطين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (هافاس)
_______________________(20/204)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما قيل في سقوط بغداد
(2)
نشر المقطم في عدد 28 جُمَادَى الأولى سنة 1335-22 مارس 1917
ترجمة منشور الجنرال مود الذي خاطب به أهل بغداد عقب دخولها فاتحًا باسم ملكه
واسم الشعوب التي يحكمها، وقد بدأه ببيان أن غرضهم من الحرب كسر العدو،
وإخراجه من البلاد، فمجيء جيوشهم العراق؛ لذلك لا (كما يأتي الغازي الفاتح
والعدو الطامع) ، ثم ثنى بذكر تخريب الأجانب للبلاد من عهد هولاكو واستبدادهم
فيها، ثم قال:
إن جلالة ملكي وشعوبه والأمم العظيمة المحالفة له يرومون لكم السعادة
والرخاء وإحياء العصر القديم، لما كان الخصب منتشرًا في دياركم، تضيء العالم
بنبراس الآداب والعلم والفنون، ولما كانت بغداد إحدى عجائب الدنيا.
إن بين شعبكم وأملاك ملكي علاقات مصلحية وثيقة؛ فقد تعامل تجار بغداد
وتجار بريطانيا العظمى منذ مائتي سنة بتمام المودة والصداقة، وجنى الفريقان
الربح، أما الألمان والترك الذين نهبوكم فقد اتخذوا بغداد منذ 20 سنة مقرًّا لمهاجمة
قوة بريطانيا العظمى وحلفائها في إيران وجزيرة العرب، فلم يسع الحكومة
البريطانية إلا أن تكترث لما يقع في بلادكم الآن وفي مستقبل الأيام، فإن الواجب
والمصلحة للشعب البريطاني وحلفائه يقضيان على الحكومة أن لا تسمح بأن يتكرر
في بغداد ما فعله الترك والألمان في إبان الحرب.
ثم خاطب أهل بغداد خاصة، فذكر لهم أن حكومته يهمها يسرهم التجاري
وسلامتهم من الظلم والجور مؤمّنًا إياهم من إرهاقها لهم بأحكام أجنبية عنهم، قال:
بل هي ترجو أن تحقق آمال فلاسفتكم وحكمائكم وكُتابكم؛ فتزهو بغداد وتزهر
وينشط أهلها ويتمتعون بثروتهم ومقتنياتهم في ظل النظام الذي يطابق شرائعكم
المقدسة وأمانيكم القومية، وذكَّرهم ثانية بظلم الأجانب واستقلال الحجاز. وختم
المنشور بدعوتهم إلى الاشتراك في إدارة شئونهم الملكية مع مندوبي بريطانيا
العظمى، الذين يصحبون الجيش البريطاني (قال) : فتتحدوا مع بني جنسكم في
الشمال الشرقي والجنوب والغرب على تحقيق آمال العرب.
ثم نشر المقطم مقالة في عدد 29 جمادى افتتحه بعبارة طويلة من مقالة
لمستشرق بريطاني، دعا العرب فيها إلى اليقظة وطلب الحرية والاستقلال (هي
المقالة التي نشرها المقطم في شهر سبتمبر من العام الماضي، وأشار إليها في
المقالة التي نقلنا عنه معظمها في آخر الجزء الماضي) ، هذا نصها:
هل انحط العرب اليوم أو فسدت أحسابهم وضعفت همتهم؟ ، كلا، لا هذا
ولا ذاك؛ فهمتهم لا تزال كبيرة، وأحسابهم لا تزال صحيحة، وهم حافظون
لأنسابهم وقد صانوا ما زانهم به الله من قوة وبأس وهمة ونشاط ومضاء عقل
وأصالة رأي وشجاعة وإقدام وأخلاق كريمة وسماحة وجود وإحسان، ولكني رأيتهم
غارقين في بحور الفاقة، وقد تولاهم التفرق واشتد بهم الانقسام؛ فدانوا لسواهم
وخضعوا. وبعد ما كانوا سادة صاروا مسودين، فهل يبقون - بعد أن تضع
الحرب أوزارها - كما كانوا لما أضرم أوارها.
تشتت شمل العرب ودالت دولتهم منذ عصفت في بلادهم عاصفة هولاكو
المغولي واجتاحها السلجوقيون رعاة طوران، فضاع استقلال العرب وباتوا رعية
لسواهم، فذلوا بعد العز، وافتقروا بعد الغنى وخيم الجهل على بلادهم بعد ما كانت
مطلع الشمس العلم والعرفان، حتى طلع صبح اليوم الذي تفك فيه قيود الأمم
المقهورة، فهل يعتبر العرب بما يقع الآن في أنحاء الدنيا، ويجمعون كلمتهم
ويبتغون الوحدة القومية لهم ولأبنائهم بعدهم.
لقد كان العرب أعداء أنفسهم، فأوسعوا مجال الانقسام بينهم، ولولا ذلك لما
تسلط عليهم شعب أدنى منهم وأحط، فالعرب لا تعوزهم الشجاعة، ولا تنقصهم
الأخلاق الكريمة، وقد امتد ملكهم من بحر الروم إلى سور الصين، فضُربت
الأمثال بنجدتهم، وتحدثت الأمم ببأسهم وشدتهم، ولا يزالون - كما كانوا - من
أشد الناس نخوة وأعظمهم حمية، وهم كرمل البحر في الكثرة، فكيف يرضون
بالذل، ولا يطمعون بالاستقلال ومساواة الشعوب العظيمة والتمتع بأطايب الحياة
ورغد العيش والهناء؟ !
لست أدعو العرب لأن يكونوا سفاحين كالألمان ولا ظالمين كالترك، ولكنني
أتمنى لهم أن يكونوا أحرارًا في بلادهم، وأن يطيبوا نفسًا وعيشًا، ويعودوا إلى
سابق عهدهم، فينيروا العالم بأنوار حكمتهم وعلمهم، وفلسفتهم وصناعتهم، كما
فعل أسلافهم الكرام من قبلهم.
إني أسمع صوتًا ينادي من السماء، ويقول: انهضوا يا أبناء عدنان، ويا
سلالة قحطان، وأفيقوا من سنة النوم فقد غلبت عليكم ألف عام!
ثم قفَّى المقطم على هذه النبذة بالتنويه بمنشور الجنرال مود والثناء عليه،
ولكنه هفا هفوة كبيرة في المقابلة بينه وبين ما خاطب به الحجاج أهل العراق؛ إذ
وصفهم بالنفاق والشقاق، والفرق بين الحالين عظيم.
__________(20/206)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الجديدة
لدينا كثير من مطبوعات السنتين الماضيتين - على قلة المطبوعات في هذا
الزمن - لم نفرغ للنظر في شيء منها لنبين مزيَّته، أما وقد طال الأمد فسنذكرها
بالاختصار، وأقل حقوق أصحابها الإعلان، ونبدأ بذكر صحيفتين مصريتين:
(المجلة السلفية)
علمية أدبية أخلاقية تاريخية اجتماعية، تصدر مرة في كل شهر، صاحبها
ومديرها عبد الفتاح أفندي قتلان، سنتها عشرة أشهر، وقيمة الاشتراك فيها 20
قرشًا في القطر المصري، و8 فرنكات في الخارج تُدفع مقدمًا، وقد تمَّت سنتها
الأولى، فكانت 216 صفحة، وأكثر ما نُشر فيها مختارات من الكتب العربية
للشيخ طاهر الجزائري. وهذا وجه تسميتها بالمجلة السلفية.
(الحال)
جريدة إخبارية اقتصادية قضائية تاريخية، تصدر ثلاث مرات في الأسبوع،
صاحبها ومديرها خليل بك صادق، وقيمة الاشتراك فيها مائة قرش في السنة.
وَفاتَهُ أن يذكر في صفتها أنها فكاهية؛ فروح فكاهة صاحبها تتجلى في كل ما يُنشر
فيها.
***
ترجمة الشيخ سليم البشري
أرجأنا بقية هذه الترجمة إلى جزء آخر.
__________(20/208)
ربيع أول - 1336هـ
يناير - 1918م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم التصوير
وصنع الصور والتماثيل واتخاذها
(س9) من صاحب الإمضاء الرمزي في سنغافوره.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله.
ما قول الأستاذ المرشد مولانا السيد محمد رشيد رضا -أرشده الله ورضي عنه
- في حكم عمل الصور من الجص والأحجار والمعادن مجسمة، وفي حكم عملها
بالحفر أو القلم أو بآلة حبس الظل (الفوتغراف) غير مجسمة، هل هو جائز مطلقًا،
أو في بعض الصور، وما الدليل على ذلك؟
وهل تقولون بحرمة ما صُنع للعبادة والتعظيم فقط، أم تذهبون إلى كون
التحريم خاصًّا بالزمن المتقدم خوفًا من أن يكون ذريعة إلى عبادة الصور، أما الآن
فلا يحرم لانسداد الذريعة؟ وهل يدل على ذلك ترْك الصحابة ما وجدوه في إيوان
كسرى من الصور مع صلاتهم فيه؛ لأنها لمحض الزينة أم لا؟ وما حكم
الاقتناء لها ولو لحاجة، والنظر ولو لضرورة عسر الاحتراز، أو لكونها عند
مَن لا يحرمها؟
أفتونا على صفحات مناركم مأجورين، ولا زلتم قبلة الإفادة، وللصواب
موفَّقين، وبإمداد الله مُعانين. حرره في سنقفوره - د. هـ. ن.
(ج) سبق لنا قول وجيز في هذه المسألة واقتضت الحال الآن بسط
المسألة بالتفصيل، وهو يتوقف على إيراد الأحاديث الصحيحة الواردة فيها،
وملخص ما فهمه العلماء المشهورون منها , وقد استوفى الإمام البخاري جُل ذلك
في كتاب اللباس من صحيحه، فنعتمد في النقل على ما ورد فيه، فنذكره بغير
عزو إليه غالبًا، ونعزو ما ننقله عن غيره لزيادة فائدة فيه، ونعتمد في تلخيص
أقوال العلماء على ما أورده الحافظ ابن حجر في الفتح؛ فإنه أجمع الكتب التي
نعرفها لذلك ولأمثاله، وإن نقلنا شيئًا عن كتاب آخر نعزوه إليه.
* * *
الأحاديث الصحيحة في التصاوير والمصوِّرين
1- عن مسلم (هو ابن صبيح أبو الضحى واشتهر بكنيته) ، قال: كنا مع
مسروق في دار يسار بن نمير (هو مولى عمر بن الخطاب وروى عنه) ، فرأى
في صُفَّته [1] تماثيل، فقال: سمعت عبد الله (هو ابن مسعود) ، قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إن أشد الناس عذابًا عند الله المصوِّرون) ،
وفي رواية مسلم: (كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال مسروق: هذه
تماثيل كسرى؟ ، فقلت: لا، هذا تماثيل مريم) ، ثم ذكر الحديث.
2- عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما
خلقتم) .
3- عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: (إني أصور هذه الصور، فأفتني
فيها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصوّر في النار،
يجعل له بكل صورة نفسًا فتعذبه في جهنم) .
وقال: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر، وما لا نفس له.
ورواه مسلم وأحمد وفي بعض الروايات أن السائل رجل من أهل العراق
أراه نجَّارًا، وفي بعضها أنه قال له: إنما معيشتي من صنعة يدي، وأنه عندما
ذكر له الحديث انتفخ غيظًا، فرخص له بما ذُكر، ونص المرفوع في رواية أخرى:
(مَن صوَّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ،
قال الحافظ ابن حجر وفي رواية أبي سعيد بن أبي الحسن: (فإن الله يعذبه حتى
ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا) ، واستعمال حتى هنا نظير استعمالها في
قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: 40) ، وكذا قولهم:
لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، ثم ذكر أن هذا أمر تعجيز لا من تكليف ما لا
يُطاق، وأنه استشكل في حق المسلم؛ لأنه يدل على الخلود، وأنه يتعيّن تأويله
بإرادة الزجر الشديد، وأن ظاهره غير مراد. اهـ ما ذكره الحافظ ملخصًا، وأقول:
الأوْلى أن يُحمل على المشركين الذين يصنعون ما يُعبد لعبادته كما يُعلم مما يأتي.
4- عن عمران بن حطان عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه.
التصاليب جمع تصليب وهو مصدر سمي به ما كان فيه صورة الصليب من
ثوب أو غيره، ونقضه أزاله، والإزالة تكون بنحو الطمس والحك واللطخ والقطع،
وقد ذكر البخاري هذا الحديث في (باب نقض الصور) وذكر الحافظ في وجه
مطابقة الحديث للترجمة أنه استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك
مع الصليب في المعنى، الذي هو سبب التحريم، وهو عبادتهما من دون الله.
5- عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة فرأى في أعلاها
مصورًا يصور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ... ومن
أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة) .
في هذه الرواية حذفٌ عُلم من رواية أخرى، وهو: (قال الله عزوجل:
ومن أظلم ممن ذهب يخلق...... إلخ) ، رواها مسلم، وفيها أن الدار دار مروان،
وفي رواية له: تُبنى لسعيد أو لمروان، قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن
التصوير يتناول ما له ظل، وما ليس له ظل؛ فلهذا أنكر ما يُنقش على الحيطان،
يعني ابن بطال أن هذا الفهم غير صحيح، من حيث إن التشبيه في الحديث القدسي
لا ينطبق عليه، فإن الله تعالى خلق ذوات ماثلة لا نقوشًا في الحيطان ونحوها،
ويمكن أن يقال أيضًا: إن صنع التماثيل ذات الظل - التي شددوا فيها - لا تعد من
هذا الظلم إلا إذا قصد صانعها أن يخلق كخلق الله، وقد فسروا (ذهب يخلق)
بقصد، وهو رواية حديث ابن فضيل، ويؤيده حديث عائشة الآتي (وهو التاسع) ،
إذ قال: (يضاهون بخلق الله) ، وفي رواية مسلم: ( ... يشبهون بخلق الله) ،
وإنما يكون هذا بالقصد.
6- عن ابن عباس عن أبي طلحة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير) .
7- عن عبد الله بن عمر قال: وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم،
فراث (أي أبطأ) عليه، حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج،
فلقيه، فشكا إليه ما وجد، فقال: (إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب) هكذا
أخرجه البخاري مختصرًا، وهو عند مسلم من حديثي عائشة وميمونة أوضح،
وفي الأول: (ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة، متى دخل
هذا الكلب ههنا؟ فقالت: والله ما دريت به. فأمر به، فأخرج، فجاء جبريل
... ) ... إلخ، وفي الثاني: (ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر
به، فأخرج، ثم أخذ بيده ماءً، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل ... إلخ) ،
وظاهر الحديثين أن امتناع جبريل كان بسبب وجود الكلب؛ إذ ليس فيهما ذكر
للصور، وفي الأول أنه رأى الكلب عَرَضًا، ولم يكن عالمًا بوجوده، وفي الثاني
أنه كان عالمًا به، وتذكره بعده إبطاء جبريل، وفيهما الخلاف بين السرير
والفسطاط، والأول معروف، والثاني بيت من شعر دون السرادق، وقال النووي:
أصله عمود الأخبية، والمراد به في الحديث بعض حجال البيت، فيطابق حديث
عائشة. اهـ بالمعنى.
وفي القصة حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي
وصححه كابن حبان والحاكم وهو: (أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة، فلم
يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر
فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع،
فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر، فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان
توطآن، ومر بالكلب فليخرج) ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا
الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد لهم، وفي رواية النسائي: (إما أن
تقطع رءوسها، وإما أن تجعل بسطًا توطَّأ) والنَّضَد بفتحتين: ما ينضد من متاع
البيت، يجعل بعضه فوق بعض، وما ينضد عليه ذلك المتاع من سرير وغيره،
فهو يطابق حديث عائشة من هذا الوجه.
ظاهر هذا الحديث أن الواقعة كانت في بيت علي وفاطمة، وظاهرُ حديثِ
كُلٍّ من عائشة وحفصة أنها كانت في بيتها.
ومن الاضطراب في هذه الروايات أن حديث ابن عمر صريح في أن النبي
صلى الله عليه وسلم خرج، فلقى جبريل خارج البيت، وظاهر حديث عائشة أن
جبريل دخل البيت بعد إخراج الكلب، وصرحت عائشة وحفصة بأنه صلى الله
عليه وسلم أمر بإخراج الكلب قبل لقاء جبريل بعد رؤيته، أو تذكره، وصرح أبو
هريرة بأن جبريل هو الذي أخبره به، واقترح عليه إخراجه، وعادة العلماء أن
يجمعوا بين أمثال هذه الروايات المتعارضة بتعدد الوقائع، وعليه يترجَّح أن يكون
ما رواه أبو هريرة وقع أولاً، فعلم منه النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل لا
يدخل مكانًا فيه كلب؛ ولذلك أمر بإخراج الكلب بعد ذلك لما رآه أو تذكره، لعلمه
مما سبق أنه هو سبب تأخر جبريل، ولكن في حديثي عائشة وحفصة عند مسلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم سبب تأخُّر جبريل عليه السلام؛ لأنه سأله
عنه، فقال - في حديث عائشة -: (منعني الكلب الذي كان في بيتك ... إنا لا
ندخل ... ) ... إلخ.
وذكر النووي في سبب الامتناع أربع علل:
1- كثرة أكل الكلاب للنجاسات.
2- قبح رائحتها، أي رائحة بعضها.
3- أن بعضها يسمى شيطانًا، وهو الأسود القبيح المنظر.
4- النهي عن اتخاذها، ولهذا الأخير قال الخطابي: إن الامتناع خاص بما
نُهي عنه، دون المأذون فيه ككلب الماشية والزرع والصيد، وخالفه النووي، فقال
بالتعميم في الكلاب، ولكنه خص الملائكة بملائكة الرحمة.
8- عن أنس رضي الله عنه قال: (كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها،
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عني؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض
لي في صلاتي) ، أميطي: أي نحِّي وأزيلي، وفيه حذف المفعول، ورواية مسلم:
(أزيليه) .
9- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله
صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون
بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو سادتين) .
وفي رواية للبخاري في المظالم، ( ... قالت: فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا
في البيت يجلس عليهما) ، وفي رواية لمسلم: ( ... فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق
بهما في البيت) ، وفي لفظ أحمد: فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما،
وفيها صورة، والنمرقة والمرفقة: الوسادة كما سيأتي.
10- وعنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم
بالباب فلم يدخل، (قالت) : فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. قال: ما هذه
النمرقة؟ ! قلت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون
يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصور)
وفي رواية مسلم: (اشتريتها لك؛ تقعد عليها، وتوسّدها) . والفقرة المرفوعة منه:
(إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) .
11- وعنها قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، وعلقت دُرْنُوكًا
فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه، فنزعته، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: ( ... وقد
سترت على بابي درنوكًا، وفيه الخيل ذات الأجنحة) ، وفي لفظ آخر عنده:
(دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي، وقد سترت نمطًا فيه تصاوير، فنحاه،
فاتخذت منه وسادتين) وستور الدرنوك، والنمط جنس واحد كما سيأتي.
12- عن بشر بن سعيد عن زيد بن خالد (الجُهني الصحابي) عن أبي
طلحة (زيد بن سهل الأنصاري) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة)
(وفي نسخة (الصور) وفي أخرى (صور) قال بشر: ثم اشتكى زيد (أي
ابن خالد) فعُدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة (وفي نسخة صور) ، فقلت
لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - وكان مع
بشر -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ ! (وفي نسخة (يوم أول)
فقال عبيد الله: ألم تسمعه حيث قال: (إلا رقْمًا في ثوب) ، قال الحافظ في
رواية عمرو بن الحارث: فقال إنه قال: (إلا رقمًا في ثوب) ألا سمعتَه؟
قلت: لا. قال: بلى قد ذكره. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
13- وروى مسلم وأبو داود عن زيد بن خالد عن أبي طلحة الأنصاري قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا
تماثيل، قال: فأتيت عائشة، فقلت: إن هذا يخبرني أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لا تدخل الملائكة ... إلخ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر ذلك؟ ، فقالت: لا، ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل، رأيته خرج في غزاة،
فأخذت نمطًا، فسترته على الباب، فلما قدم، فرأى النمط عرفت الكراهية في
وجهه، فجذبه حتى هتكه، أو قطعه، وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة
والطين، قالت: فقطعنا منه وسادتين، وحشوتهما ليفًا، فلم يعب ذلك عليَّ) .
قالوا: إن هذا النمط هو الذي فيه الخيل ذات الأجنحة كما تقدم آنفًا من رواية
أخرى عند مسلم، وذكر النووي أن العلماء استدلوا به على منع ستر الحيطان
وتنجيد البيوت بالثياب، وهو منع كراهة تنزيه لا تحريم، هذا هو الصحيح، ثم
رد على مَن حرمه.
وأقول: الظاهر أن هذا الحديث معارض لتلك الأحاديث؛ إذ ليس فيه أنه
أنكر الصور التي في النمط، ويمكن أن يقال إن: هذا وقع قبل امتناع جبريل من
دخول البيت لوجود التماثيل والكلب فيه، إلا أن عائشة حدثت بهذا وبغيره بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسألة مشكلة من هذا الوجه، ومثله حديث أنس
عند البخاري (وهو الثامن مما أوردنا) ففيه: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها
بإماطة القرام؛ لأن تصاويره تعرض له في صلاته، فَعِلَّة الأمر بإزالته أنه يشغل
نظر المصلي إليه، وجماهير الفقهاء متفقون على كراهة الصلاة إلى ما يشغل
المصلي، ولا دليل فيه على إنكار الصور، أو تحريم اتخاذها، ومثله حديثها في
الدرنوك (وهو الحادي عشر) ، ولكن ليس فيه تصريح بالعلة، ومثله حديثها عند
مسلم في الثوب الممدود إلى السهوة، وأما حديثها في القرام (وهو التاسع) ،
وحديثها في النمرقة (وهو العاشر) - فهما صريحان في إنكار اتخاذ الصور بتلك
الهيئة، وقد استشكل ذلك العلماء، وأجاب بعضهم عنه بتعدد الوقائع، وبأن الصور
في بعضها من غير ذوات الأرواح، وهي التي لم ينكرها، وفي بعضها من ذوات
الأرواح كالطير والخيل، وهي التي أنكرها، ويقال هنا أيضًا ما قلناه في حديث
زيد بن خالد عن أبي طلحة، وهو أن عائشة كانت تحدث بذلك بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فلماذا كانت تذكر كل واقعة وحدها، ولم تبين لكل سائل أو
محدَّث كل ما علمته في المسألة؟ ، وهل يعقل أن ينكر النبي صلى الله عليه وسلم
على عائشة عملاً عملته في بيته، فتزيله بأمره، ثم تعود إلى فعله؟ ، كلا، إن
الروايات في هذه المسألة مضطربة، ولم نَرَ لأحد من العلماء قولاً شافيًا فيها.
والذي نراه أقرب إلى الوقوع أن عائشة كانت علقت على الجدار سترًا فيه
تصاوير للزينة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب الإرشاد إلى ما
يُستحسن في تدبير المنزل، وهو عدم إضاعة الثوب بوضعه على الجدار وضعًا لا
فائدة فيه؛ لأن الثياب لستر الأبدان وزينتها، لا لستر الحجر والطين، ويحتمل أن
يكون هذا هو الذي وقع أمامه في صلاته، وأنه علل أمره بإزالته بكونه يشغل
النظر في وقت الصلاة، وبكونه إسرافًا وإضاعة للثوب، وأن عائشة ذكرت كل
تعليل مرة في سياق كلام اقتضاه، أو ذكرتهما معًا، وذكر الرواة كلاً منهما في
سياق اقتضاه، ويحتمل أن يكون الحديثان في واقعتين، عُلل الإنكار في الأولى
منهما بشغل النظر في الصلاة، وأن الستر كان في الثانية، بحيث لا يراه في
الصلاة، وكل حديث في هذا الباب لم تنكر أو لم تذكر فيه التصاوير فهو محمول
على تلك الواقعة أو الواقعتين، وأما الروايات - التي فيها التصريح بإنكار اتخاذ
التصاوير بتلك الصفة - فالأقرب أنها في واقعة واحدة كانت بعد ما تقدم، وأنها
علقت النمرقة في غيبته؛ إذ كان مسافرًا، فلما عاد، ورآها أنكر عليها، وامتنع
من دخول البيت حتى تنزعها، فلما تابت دخل، وهتكها بيده، أي أزالها، إلا أن
الإخبار بها كان في أوقات مختلفة، فاختلف التعبير باللفظ والمعنى، ومن الأول
القرام والنمط والدرنوك والنمرقة والوسادة والمرفقة [2] ، ويدل على هذا الجمع
قولها: (أتوب إلى الله مما أذنبت؟ !) فلولا النهي السابق لم يكن تعليقها النمرقة
ذنبًا تتوب منه، ولكن في بعض روايات الصحيح أنها قالت: فما أذنبت، ولعل
هذا غلط من بعض الرواة.
14- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت ألعب بالبنات عند النبي
صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه (أي يستترن) ، فيُسَرِّبُهُنَّ (أي يرسلهن) إليّ،
فيلعبن معي) ، أخرجه البخاري في كتاب الأدب من الصحيح.
وقد حرّف بعض المشددين في مسألة الصور هذا الحديث، فزعم أن معنى
قولها كنت (ألعب بالبنات) كنت ألعب مع البنات، قال الحافظ في شرح الحديث:
حكاه ابن التين عن الداودي وردَّه، (قلت) : ويرده ما أخرجه ابن عيينة في
الجامع من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا
الحديث: (وكن جواري يأتين فيلعبن معي) ، وفي رواية جرير عن هشام:
(كنت ألعب بالبنات وهن اللعب) ، أخرجه أبو عوانة وغيره، وأخرج أبو داود
والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من
غزوة تبوك أو خيبر ... فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها،
قالت: فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟
قالت: بناتي، ورأى فيها فرسًا مربوطًا له جناحان، فقال: ما هذا؟ قلت:
فرس، قال: فرس له جناحان! قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها
أجنحة؟ ! فضحك) . فهذا صريح في أن المراد باللعب غير الآدميات. اهـ.
15- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتكى النبي صلى الله عليه
وسلم - أي مرض مرض الموت - ذكر بعض نسائه كنيسة يقال لها مارية،
وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتيا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها،
فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم
صوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) ، أخرجه البخاري في
أبواب المساجد وفي الجنائز، وأخرجه مسلم في المساجد.
* * *
أقوال العلماء في فقه هذه الأحاديث
(1) قال الحافظ - عقب ذكر حديث أبي هريرة المتقدم عن أحمد
وأصحاب السنن ما نصه -: وفي هذا الحديث ترجيح قول مَن ذهب إلى أن
الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه - هي ما تكون على
هيئتها مرتفعة غير ممتهنة. فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غيرت عن
هيئتها، إما بقطعها من نصفها، أو بقطع رأسها فلا امتناع.
(2) ثم قال الحافظ - في إثْر ما تقدَّم -: وقال القرطبي: ظاهر حديث
زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قبلُ (وهو التاسع مما نقلناه عن البخاري) أن
الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقمًا في الثوب، وظاهر
حديث عائشة المنع، ويجمع بينهما بأن يُحمل حديث عائشة على الكراهة، وحديث
أبي طلحة على مطلق الجواز، وهو لا ينافي الكراهة. (قال الحافظ:) قلت
وهو جمع حسن، لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه، والله
أعلم.
(3) قال الحافظ - عند الكلام على حديث النمرقة -: قال الرافعي: وفي
دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان، قال الأكثر: يكره وقال أبو محمد: يحرم،
فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار، كما في ظاهر الحمام أو دهليزها
لا يمتنع الدخول، قال: وكأن السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة، وفي
المجلس مكرمة، (قلت) وقضية إطلاق نص المختصر، وكلام الماوردي وابن
الصباغ وغيرهما لا فرق اهـ.
(4) اختلفوا في الملائكة التي لا تدخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فقيل هو
على العموم، وقيل هو خاص بملائكة الرحمة، وتقدم عن النووي، وصرح هؤلاء
بأنه يُستثنَى منه الحَفَظَة، وقيل مَن نزل بالوحي خاصة كجبريل (قال الحافظ:)
وهذا نقل عن ابن وضاح والداودي وغيرهما، وهو يستلزم اختصاص النهي بعهد
النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوحي انقطع بعده، وبانقطاعه انقطع نزولهم،
وقيل التخصيص في الصفة، أي لا تدخله الملائكة دخولَهم بيتَ مَن لا كلب
فيه.
(5) قال الحافظ: وأغرب ابن حبان فادَّعى أن هذا الحكم خاص بالنبي
صلى الله عليه وسلم، قال: وهو نظير الحديث الآخر: (لا تصحب الملائكة
رفقة فيها جرس) (قال:) فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ إذ مُحال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل لا
تصحبها الملائكة، وهم وفد الله. انتهى، وقد استبعد الحافظ هذا التأويل، وقال إنه
لم يره لغيره.
(6) قال: وقد استشكل كوْن الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع
قوله سبحانه وتعالى - عند ذكر سليمان عليه السلام -: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ
مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيل ... } (سبأ: 13) ، وقد قال مجاهد: كانت صورًا من
نُحَاس. أخرجه الطبري. وقال قتادة: كانت من خشب ومن زجاج، أخرجه عبد
الرزاق.
والجواب أن ذلك كان جائزًا في تلك الشريعة، وكانوا يعملون أشكال الأنبياء
والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة؛ ليتعبدوا كعبادتهم. وقد قال أبو العالية:
لم يكن ذلك في شريعتهم حرامًا، ثم جاء شرعنا بالنهي عنه، ويُحتمل أن يقال: إن
التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملاً لم
يتعين الحمل على المعنى المشكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة
الكنيسة، التي كانت بأرض الحبشة، وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه
وسلم قال: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا
فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) ، فإن ذلك يُشعر بأنه لو كان جائزًا في
ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدل على
أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عُبَّاد الصور، والله أعلم. اهـ.
أقول: لم يأتِ الحافظ رحمه الله بشيء يشفي في هذه المسألة، والذي يظهر
في حل الإشكال أن وجود التصاوير في مكان ليس مانعًا ذاتيًّا لدخول الملائكة فيه؛
إذ لو كان كذلك لم يختلف فيه حكم شرائع الأنبياء عليهم السلام، وأصل دين الله
فيهم واحد، وإنما اختلفت فيه شرائعهم بما يختلف ضره ونفعه وفساده وصلاحه
باختلاف الزمان والمكان، وما ذكره الله تعالى من منَّته على نبيه سليمان عليه
السلام في هذه المسألة - دليل على أن عمل التماثيل له، واتخاذه إياها في مبانيه،
لم يكن فيه مظنة عبادة، ولا تشبه بالمشركين مذكِّر بعبادتهم مؤنس للمؤمن بها.
ومن العجيب أن يذكر الحافظ في تعليل ما كان يعمل لسليمان أنه كان يعمل له
صور الأنبياء والصالحين ... إلخ، وهذا هو أصل البلاء في عبادة الصور
والتماثيل، فقد روى البخاري وغيره أن أصنام قوم نوح وأوثانهم المذكورة في
سورة نوح صارت إلى العرب، وأن أسماءها كانت أسماء رجال صالحين، فلما
ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها
أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسخ العلم
عُبدت. ويؤيد هذا حديث عائشة في قصة الكنيسة وقد تقدم، فالنصارى قد اتبعوا
سنن سلفهم من الروم واليونان في اتخاذ الصور والتماثيل، فكانوا يجعلون صور
الأنبياء والصالحين في المعابد وغيرها، وهي التي ذمَّهم الرسول صلى الله عليه
وسلم بها، ولم يذمهم على اتخاذ صور الملوك والقواد والوالدين والأولاد وغيرهم
مما لا شبهة فيه على العبادة، ولا دخل له في الدين، فمن العجيب أن يغفل
المستنبط عن علة الشيء الصريحة، ويتخذ له علة أخرى يفسر بها النصوص؛
ليجمع بينها، فيحمل الشيء على ضد المراد، على أن الحافظ ذكر حديث الكنيسة
المصرح بالعلة الصحيحة، ولكنه لم يرد به ما ذكره قبله.
وقد وقع مثل هذا لبعض المؤلفين المقلدين في تشريف القبور بالبناء، ووضع
الستور عليها، فحمل النهي عن ذلك في الأحاديث على ما لم يقصد به تعظيم الميت
الصالح، أي لأنه إضاعة للمال، وأباح ما اتبع به الخلف الصالح سنن مَن قبلهم
من بناء القبور الصالحين، ووضع الستور عليها إذا كان المراد به تعظيمها قياسًا
على أستار الكعبة! ، وهو قياس مصادم للنص، مبطل له، ناقض لعلته، ذاهب
بحكمته، فإن الخطر على أصل الدين - وهو التوحيد - إنما هو تعظيم قبور
الصالحين؛ لأنه أدى عبادتها بالتعظيم والطواف والتمسح ودعاء الموتى،
(والدعاء هو العبادة) ، كما ثبت في الحديث عند أحمد وأصحاب السنن
وغيرهم. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة مِرَارًا.
(7) نقل الحافظ في شرح حديث عبد الله بن مسعود - وهو الأول مما
أوردنا - عن الخطابي أقدم شُراح البخاري أنه قال فيه: إنما عظمت عقوبة
المصور؛ لأن الصور كانت تُعبد من دون الله؛ ولأن النظر إليها يفتن، وبعض
النفوس إليها تميل، قال: والمراد بالصور هنا: التماثيل التي لها روح. اهـ.
أقول: التعليل الأول هو الصحيح الذي يؤخذ من مجموع النصوص،
واقتصر عليه المحققون، وأما دعوى الافتتان بجمالها، وهذا لا يقع إلا نادرًا فلا
يُبنى عليه مثل هذا الوعيد الشديد، وإنما يظهر وجهه إذا أُريد به الافتتان الديني،
الذي كان عليه الكفار، وهو يرجع إلى التعليل الأول. ومن العجيب أن يجعل
الميل والاستحسان لبعض خلق الله والسرور به مذمومًا شرعًا ومقتضيًا لتحريم
الاستمتاع به، وإن لم يترتب عليه ترك فريضة، ولا ارتكاب معصية. فليحرموا
إذًا النظر والتأمل في زينة الكواكب النيِّرات، والجنات معروشات وغير معروشات،
وجمال رياض الأزهار، ومحاسن حدائق الأشجار، وسماع خرير المياه،
ونغمات الأطيار، وغير ذلك من صنع الله {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل:
88) ، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه} (السجدة: 7) ، وماذا يفعلون بقول
الرسول عليه الصلاة والسلام لمَن سأله عن الزينة في اللباس: (إن الله جميل
يحب الجمال) ؟ رواه مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود وغيرهما عن غيره
أيضًا.
(8) ثم قال - بعد نقل ما تقدم عن الخطابي -: وقيل يفرق بين العذاب
والعقاب، فالعذاب: يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب:
يختص بالفعل. فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابًا أن يكون أشد الناس
عقوبة، هكذا ذكر الشريف المرتضى في الآية المشار إليها، وعليها انبنى الإشكال،
ولم يكن هو عرج عليها؛ فلهذا ارتضى التفرقة، والله أعلم.
(قال:) واستدل به أبو علي الفارسي في التذكرة على تكفير المشبِّهة،
فحمل الحديث عليهم، وأنهم المراد بقوله: (المصوِّرون) ، أي الذين يعتقدون أن
لله صورة، وتُعُقِّبَ بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ: (إن الذين يصنعون هذه
الصور يعذَّبون) ، وبحديث عائشة الآتي بعد بابين بلفظ: (إن أصحاب هذه
الصور يعذَّبون) وغير ذلك، ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره
- أي معارضة الآية للحديث - اهـ، وحديث الباب الذي أشار إليه هو الثاني مما
أوردنا.
وأقول: كان يمكن لأبي علي أن يجيب عن هذا لو أورد عليه بجعْل حديث:
(إن أشد الناس عذابًا عند الله المصورون) - في الذين يجعلون لله تعالى صورة
مماثلة لصور بعض المخلوقات، ويجيب عن معارضة الآية بتقدير (من أشد)
ويتفصى بذلك من جعْل التصوير ككفر آل فرعون مشاركًا له في مثل عقابه،
ومعلوم من أصول الشريعة المجمع عليها أن ما ورد النص بتسميته أكبر الكبائر هو
دون أشد الكفر بالشرك بالله، ومعاندة رسله ككفر آل فرعون؛ إذ كل كبيرة من هذه
الكبائر - التي هي أعظم جرمًا من التصوير المحرم - يجوز أن تُغفر، ولا يعذب
صاحبها أصلاً، فكيف يجرم بأن المصورين أشد الناس أو من أشدهم عذابًا كآل
فرعون. وأما كونهم يعذبون فالأمر فيه دون ذلك، ولا سيما على قول مَن فرق بين
العذاب والعقاب، فلم يجعل كل عذاب عقابًا.
(9) من أشد الفقهاء تشديدًا في التصوير واتخاذ الصور أبو بكر بن العربي
من المالكية والنووي من الشافعية. وقد جزما بتحريم التصوير مطلقًا، لخص الأول
الأقوال في اتخاذ الصور فقال: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات
أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقًا على
ظاهر قوله في الحديث: (إلا رقمًا في ثوب) ، الثاني: المنع مطلقًا حتى الرقم،
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قُطعت الرأس أو
تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح، الرابع إن كان مما يمتهن جاز وإن
كان معلقًا لم يجز. اهـ. ونُوزِعَ في دعوى الإجماع فيما له ظل، واستثنى
الجمهور لعب البنات كما تقدم، وفيه بحث سيأتي قريبًا.
(10) قال الحافظ - في شرح حديث الدرنوك -: واستدل بهذا الحديث
على جواز اتخاذ الصور إذا كانت مما لا ظل له، وهي مع ذلك مما يوطأ ويُداس،
أو يمتهن بالاستعمال كالمخادّ والوسائد، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء من
الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق
في ذلك بين ما له ظل، وما لا ظل له، فإن كان معلقًا على حائط أو ملبوسًا أو
عمامة، أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا فهو حرام، ثم ذكر الحافظ مؤاخذات فيما
نقله النووي: (منها) حكاية ابن العربي تحريم ما له ظل بالإجماع، وقال: إن
محله في غير لعب البنات، وإن القرطبي حكى - فيما لا يتخذ للإبقاء كالفخار -
قولين: أظهرهما المنع، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار، وبلعب
البنات محل تأمل، (ومنها) أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو
كان معلقًا إلا أن يكون على جدار فيمنع، أي عملاً بحديث: (إن الله لم يأمرنا أن
نكسو الحجارة والطين) .
(11) قال النووي: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل،
وأما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقًا، وهو مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكره
النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك، ومع ذلك فأمر
بنزعه (قال الحافظ متعقبًا للنووي) قلت: المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن
القاسم بن محمد بسند صحيح، ولفظه عن ابن عون قال: دخلت على القاسم، وهو
بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء. ففي
إطلاق كونه مذهبًا باطلاً نظر؛ إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله: (إلا
رقمًا في ثوب) ؛ فإنه أعم من أن يكون معلقًا أو مفروشًا، وكأنه جعل إنكار النبي
صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبًا من كونه مصورًا،
ومن كونه ساترًا للجدار. ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم - وذكر تعليل
الحديث المتقدم في ذلك، وقال - فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب
المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن، ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي
لا يستر به الجدار، والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل
زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما
استجاز استعمالها.
ثم رجح الحافظ أن الرخصة فيما يمتهن لا فيما كان منصوبًا، ونقل عن
جماعة من علماء السلف القول بذلك، منها ما روي عن عكرمة: كانوا يكرهون ما
نصب من التماثيل نصبًا، ولا يرون بأسًا بما وطئته الأقدام، وما روي من طريق
عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها تماثيل الطير والرجال. اهـ.
* * *
(المنار)
القاسم بن محمد هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أحد أئمة
التابعين، تربى في حجر عمته عائشة، وتفقه بها، وروى عن غيرها من الصحابة
أيضًا وممن أخذ عنه الزهري وربيعة شيخ الإمام مالك وكثيرون. قال يحيى بن
سعيد الأنصاري: (ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم) ، وعن أبي الزناد
قال: (ما رأيت فقيهًا أعلم من القاسم، وما رأيت أحدًا أعلم بالسنة منه) ، وقال
سفيان بن عيينة: (كان القاسم أعلم أهل زمانه) ، وقال ابن سعيد: (كان إمامًا
فقيهًا ثقةً رفيعًا ورعًا كثير الحديث) ، قال أيوب السختياني: (ما رأيت أحدًا
أفضل من القاسم) . انتهى ملخصًا من تذكرة الحفاظ.
(12) قال الخطابي في شرح حديث اللعب: إن اللعب بالبنات ليس
كالتلهِّي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها؛ لأنها إذ
ذاك كانت غير بالغ. قال الحافظ - عقب نقله -: وفي الجزم به نظر، لكنه
محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها، أو
جاوزتها، أو قاربتها. وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعًا فيترجح رواية مَن
قال في خيبر، ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض. اهـ.
وأقول: إن هذا ليس بجمع؛ إذ لو كانت لعب البنات محرمة لما أقر النبي
صلى الله عليه وسلم عائشة وصواحبها على اللعب بها، وإن كن غير بالغات، ولما
تركها في بيته. والصواب أن هذه اللعب لا تدخل في عموم ما أنكره من الصور
المعلقة، بل هي أشبه بما أقره من الصور في الوسائد والمرافق في أن كلاًّ منهما لا
يشبه ما كان يُعبد من الصور والتماثيل.
(13) بعد كتابة ما تقدم كله راجعت ما كتبه الحافظ في شرح حديث كنيسة
مارية في الحبشة المقارن في البخاري لحديث لعن أهل الكتاب لاتخاذهم قبورَ
أنبيائهم مساجدَ، فإذا هو يقول - في شرح الأول في باب: هل تُنبش قبور
المشركين -: وإنما فعل ذلك أوائلهم؛ ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم
الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم،
ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فاعبدوها.
فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وفي
الحديث دليل على تحريم التصوير، وحمل بعضهم الوعيد على مَن كان في ذلك
الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا، وقد أطنب ابن دقيق
العيد في رد ذلك، كما سيأتي في كتاب اللباس. اهـ.
ثم قال - في شرح الحديث الثاني في باب بناء المسجد على القبر -: وقد
تقدَّم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية أن يصنع بالقبر ما صنع أولئك الذين
لُعنوا، وأما إذا أمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة،
وهو هنا متجه قوي. اهـ.
ويعني بما تقدم قوله في الكلام على ترجمة الباب السابق:
إن الوعيد على ذلك يتناول مَن اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاةً، كما
صنع أهل الجاهلية وجرهم ذلك إلى عبادتهم. اهـ.
(للفتوى بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الصُّفَّة بضم الصاد وتشديد الفاء كالظلة وزنًا ومعنى: وتُطلَق على المكان المظلل بفناء الدار أو المسجد، وعن الليث أنها مكان كالبهو مظلَّل مستطيل.
(2) القِرَام بالكسر: ستر فيه نقوش وتصاوير، وقيل: ثوب من صوف ملون يُفرش في الهودج، أو يُغطَى به، والنمط قال النووي في شرح مسلم: المراد به هنا بساط ليف له خمل، والدرنوك - بالضم كعصفور -: ثوب غليظ له خمل، إذا فُرش فهو بساط، وإذا عُلق فهو ستر، والنمرقة - بضم النون والراء - وكسرهما لغة كلب -: الوسادة يُجلس عليها، وتوضع على الرحل تحت الراكب للينها، وتُتَوَسَّد أيضًا فتسمى وسادة، والوسادة - بتثليث الواو - المخدة التي تتوسد في النوم، أي يوضع عليها الرأس، وتسمى مِخدة بكسر الميم؛ لأنها يوضع عليها الخد عند النوم، وتسمى مرفقة ومرفقًا بكسر الميم وفتح الفاء؛ لأنها يوضع عليها المرفق عند الاتكاء عليها، فاختلاف الأسماء لاختلاف الاستعمال، وقد كان يختلف المسمى بالكبر والصغر كما يختلف الآن، وهو جنس واحد تحديد معناه أنه شبه كيس من نسيج يوضع فيه نحو قطن أو صوف أو ليف، ويُخاط عليه، ومنه ما يُصنع أولاً، وبالذات للنوم، ومنه ما يُصنع للاتكاء أو الجلوس، ثم يُستعمل لغير ذلك عند الحاجة.(20/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(6)
صفة الوقوف بعرفات:
بلغنا عرفات في وقت السحر، فألفينا الخيام قد ضُربت لنا وفُرشت، فنزلنا
فيها، ولما طلع النهار وجدنا أنفسنا بالقرب من مسجد الصخرات، حيث كان
موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأينا أكثر الحجاج في هذا الجانب من
بسيط عرفات وسائر الجوانب والأجواز خالية، وفي بعضها قليل من الحجاج،
ولبعض حجاج الأقطار مواضع خاصة يقفون فيها كل عام، كما يرى القارئ في
صورة الموقف من الفصل السابق. ويقف كثير من عرب الجزيرة في جبل الرحمة
ويصعده كثير من حجاج الأقطار الأخرى كما علم مما تقدم. وكانت خيام الشريف
في موضعها المعتاد من وسط ذلك البسيط، وكان السبب في بُعدها عن مسجد
الصخرات وموقف الإمام أن يسهل على أي فريق من الحجاج الوصول إليه للزيارة
أو الشكوى في زمن قصير.
وإنني - بعد كتابة ما تقدم من وصف عرفات - اطَّلعت على كتاب دليل الحج
لمحمد باشا صادق المصري المهندس، أحد ضباط أركان الحرب، الذي طُبع سنة
1313، فإذا فيه: إن مساحة البقعة المستوية من عرفات (كيلو متر مربع) ، أي
نحو ألفي ذراع بذراع الآدمي - وهو من رؤوس الأصابع إلى المرفق - والذي
يتراءى للنظر أنه أوسع من ذلك، وهذا المكان لا يسع مئات الألوف من الحجاج،
ولكن كثيرًا منهم يقفون في جبل الرحمة وفي غيره مما إلى ذلك البسيط من الجبال،
وجبل الرحمة يرى في المساء مكتظًا بالحجاج من سفحه إلى قنته. وارتفاعه نحو
من ستين ذراعًا (30 مترًا) ، وطوله قريب من ستمائة ذراع (300 متر) ، كما
قال محمد صادق باشا، قال: وأعلى هذا الجبل سطح مستوٍ مبلط بالحجر، مربع
في نحو عشرين مترًا، وفي وسطه مصطبة، طولها سبعة أمتار في (عرض)
سبعة، وارتفاعها متر ونصف، وفي ركنها الغربي عمود، ارتفاعه أربعة أمتار
في عرض مترين، يُرى من أسفل الجبل كمنار للطريق. اهـ.
وأقول: إن هذا منار لا كالمنار، ولا يُشترط في مسمى المنار لغةً أن يُوضَع
في أعلاه أو أثنائه نور، وإنما هو العلم الذي يُهتدَى به، وهذا المنار يراه حجاج
الآفاق من الجهات المختلفة.
قد فاتنا لقلة الحجاج رؤية منظر من أعظم المناظر المؤثرة في النفس،
المحركة لشعور الخشوع والعبودية في القلب، وهو رؤية تلك البقعة الشريفة غاصَّة
بالشعوب الوافدة من جميع أقطار الأرض، ملبّين داعين، باكين خاشعين، يجأرون
إلى الله عز وجل على اختلاف لهجاتهم، الناشئة عن اختلاف لغاتهم، يرددون
الأذكار المأثورة بالعربية، ويدعون الله ما شاءوا بلغاتهم المختلفة.
قال صديقنا محمد لبيب بك في رحلته - بعد وصف عرفات والكلام على
الوقوف -: عند وصول الحجاج إلى هذا الوادي ينزل ركب المحملين (أي
المصري والشامي) بخيامهم قريبًا من جبل الرحمة، يليهما مضارب الحجاج على
اختلاف أجناسهم، وعلى سفح عرفة من عاليه إلى جبل الرحمة - ترى حجيج
الأعراب محتشدين إلى جوف الجبل، بعضهم فوق بعض كالبنيان المرصوص. أما
باقي الحجيج فإنه ينصب الخيام في بطن الوادي الذي يزدحم إليه الناس حتى لا تكاد
ترى فيه مكانًا خاليًا من واقف وقاعد، وجمالهم وحميرهم مربوطة بجوارهم،
وترى الكل في صعيد واحد؛ حتى يتعذر على الإنسان السير إلى جهة أراد، ولو
لضرورة في نفسه، ولو كان مولانا الشريف يأمر بتقسيم وادي عرفة إلى أحذية
أفقية (أي أمكنة متحاذية كالصفوف) ، يقسمها شارع رأسي، ويخصص كل حذاء
لسكنى جماعة من الحجيج وجمالهم من ورائهم. وتوضع لذلك علامات من البناء،
لا يتجاوزها الحجاج في وضع مضاربهم، ولا الجَمَّالة في ربط جمالهم، ويعين لهذا
النظام مَن يحفظه مع الدقة - لكان له شكر الله والملائكة والناس أجمعين.
وفي سعة الوادي ما يضمن لدولته إقامة الكل على الراحة التامة؛ لأن هذا
التزاحم إنما سببه التقرب من مجرى الماء ومن السوق الذي تراه بجوار مسجد
الصخرات (ويباع فيه بعض الأغذية الضرورية) ، وربما كان لتزاحمهم سبب آخر،
وهو خوفهم من الأعراب الذين يكون لهم من ذلك الرحاب عون على النهب والسلب،
وبسبب هذا التزاحم يضل الناس عن أمكنتهم إذا تركوها لأمر ما؛ ولذلك تراهم ينادون
بعضهم - أي أنفسهم - إما بأسمائهم أو بألفاظ اصطلح عليها أهل كل جهة،
حتى إذا سمعها واحد منهم أجابه بصوت عالٍ وقصد مصدر الصوت. وهذه الحركة لا
تكاد تنقطع مدة الإقامة بعرفة. اهـ. وأقول: إننا لم نشاهد شيئًا من ذلك لقلة
الحجاج، وهذا يؤيد ما قلنا من قبل إن التعارف بين الشعوب في عرفة لا يتيسر.
وذكر ابن جبير الأندلسي في رحلته أن الجمع الذي كان في عرفات في سنة
حجه - وهي سنة 579 - لا شبيه له إلا الحشر، وأن المحققين من الأشياخ
المجاورين زعموا (أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعًا أحفل منه، وأنه ما رؤي
- من عهد الرشيد الذي هو آخر مَن حج من الخلفاء - جمع في الإسلام مثله) . ثم
قال: (فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين
باكين وإلى الله عز وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس
بالدعاء قد ارتفع، فما رُؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبًا خواشع، ولا أعناقًا لهيبة
الله خوانع خواضع، من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح
وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب وقد وصل أمير الحاج مع جملة
من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور وأخذ
السَّر واليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جدّ
فجدّ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى، وكان
المُجتمِع منهم في هذا العام عددًا لم يجتمع قط مثله، وكذلك وصل الأمير العراقي
في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخُرَاسانيين، ومن
النساء العقائل المعروفات بالخواتين (واحدتهن خاتون) ومن السيدات بنات الأمراء
وكثير ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع، وقد جعلوا قدوتهم في النفر
الإمام المالكي؛ لأن مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن
سقوط القرصة ويحين وقت المغرب، ومن السر واليمنيين مَن نفر قبل ذلك. فلما
أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعًا
ارتجت له الأرض، ورجفت الجبال، فيا له موقفًا ما أهول مرآه، وأرجى في
النفوس عقباه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم
حنان منان) . اهـ. المراد منه.
* * *
وقوفنا بعرفات وتأويل رؤيا صادقة:
زرت في أثناء النهار الأمير الشريف مع بعض الإخوان فجئت سرادقه راكبًا
فرسًا لبُعده عن موقفنا. ورأيت سوق عرفة وهي بقرب مجرى عين زبيدة كما يُعلم
من الصورة التي نشرناها. ولما رأيت مجرى عين زبيدة هنالك ووجدتها تنحدر
بقوة في مجاريها الواسعة المبنية، تذكرت رؤيا كنت رأيتها بمصر قبل ثورة
الحجاز، وكتبتها وذكرتها لكثير من الناس: رأيت في جمادى الأولى سنة 1334
أنني في مكة المكرمة ومعي رفيق لي، فدخلنا المسجد الحرام، ثم أردنا أن نخرج
لحاجة لنا فسمعنا أذان العصر، فقلت لرفيقي: لا ينبغي لنا أن نخرج، وقد أدركتنا
الصلاة إلا بعد أدائها في المسجد، وبينما أنا جالس في المصلى بالقرب من الكعبة
المعظمة رأيت الشريف حسينًا أمير مكة جالسًا أمامي من جهة يميني قريبًا مني
واعتقدت أنه جاء ليصلي بالناس إمامًا، فالتفت إليَّ من جهة يساره وقال لي:
أبطأت علينا، إننا منذ زمن ننتظر قدومك إلينا. وبعد أن خرجنا - ولم أره صلى
ولا أننا صلينا معه - رأيت معي بعض رجاله، وأننا ذاهبون بأمره إلى أحد دوره
- أي غير دار الإمارة - لأكون فيها ضيفًا عليه، وبَيْنَا نحن نسير غربًا جنوبيًّا
رأيت في شارع واسع ممتد من الجنوب إلى الشمال ماءً غزيرًا صافيًا مندفعًا بقوة
في مجرى واسع مبنِيٍّ بالحجارة، وله فرع إلى الغرب وفرع إلى الشرق، فوقفت
متعجبًا من قوة جريان ذلك الماء وقلت في نفسي: أهذا ماء عين زبيدة؟ ، ما سمعنا
أحدًا من الحجاج ذكره بهذا الوصف، وهذه القوة في الجريان لا تكون إلا بقوة دافعة
كالكهربائية أو البخارية. ورأيت في الطريق دارًا جديدة ممتازة بين دور مكة
ببياضها من الخارج، علمت أنها خاصة بنساء الشريف، وخطر في بالي أن دار
الضيافة التي خُصصت لي سأكون فيها قبل مع الشريف عبد الله أحد أنجال الأمير.
هذا ما رأيته في نومي قبل ثورة الحجاز بعدة أشهر، ولما حدثت الثورة
وأعلن الاستقلال خطر في بالي أنه ربما كان تأويل رؤياي إصلاحًا جديدًا تحيا به
مكة ويمتد إلى سائر الجهات كامتداد ذلك الماء الذي رأيته؛ فإن الله تعالى يقول:
{وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) ، ولما جئت مكة حاجًّا ظهر لي
من تأويل الرؤيا أنه كان معي رفيق، وأنني كنت ضيفًا للأمير، وأنه رحب بي
أحسن ترحيب، وكان ينتظر مجيئي، وأن دار الضيافة كانت في الجهة الغربية من
الحرم الشريف، وأن الشريف عبد الله زارني في هذه الدار، وأنني رأيت دارًا
بيضاء قيل لي: إنها دار حرم الأمير الخاص، وأن الناس تحدثوا بأنه سيبايَع
بالخلافة والإمامة الخاصة قد تؤول بالإمامة العامة، وكل منهما كان متوقعًا، ولم
يقع وأما مصدق الرؤيا في مسألة الماء فلم أشاهده في اليقظة على نحو ما رأيته في
النوم إلا في عرفات، فالمجرى المبني وطوله وامتداده يشبه الذي رأيت إلا أن
سرعة اندفاع الماء وقوته كانتا دون ما رأيت في النوم، والفرق يسير، فهذه الرؤيا
من أوضح الرؤى، وأجلاها تأويلاً، وهي حجة على الذين ينكرون الرؤى الصادقة.
* * *
الحالة الروحية في الوقوف والنفر:
إن الحالة الروحية لا تبلغ الكمال في عرفات ظاهرًا وباطنًا إلا في أصيل ذلك
اليوم العظيم، ففي أول النهار يعرض لأكثر الناس شواغل تشغل حواسهم
وجوارحهم وأفكارهم، منها ضروريات الأكل والشرب، ومنها رؤية المناظر
الجديدة من تلك البقعة الجامعة لشعوب كثيرة، وما يحيط بها من الخيال، فهذه
المناظر تشغل كثيرًا من الناس بصورتها، وشكا في أول العهد برؤيتها، عن
معناها وحكمة كوْن السير إليها والوقوف فيها عبادة لله تعالى، وفي أثناء النهار
يأكل الناس طعامهم، ويستريح أكثرهم في خيامهم ومضاربهم، أو في ظلال
الجبال، ولا سيما إذا كان الحر شديدًا، فإذا جاء وقت العصر جمعوا متاعهم وشدوا
رحالهم وفرغوا قلوبهم للذكر والدعاء، وازدحموا عند موقف الخطيب من جبل
الرحمة، حرصًا على سماع الخطبة، أو الاشتراك مع الألوف من إخوانهم في التكبير
والتلبية، وقد بينَّا في المناسك أن الشرع لم يجعل لعرفة ذكرًا ولا دعاءً خاصًّا،
بل ترك ذلك للأفراد. ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي بعرفة في
الخطبة ولا في غير الخطبة، ولكن صح أنه كان يلبي بين المشاعر ذهابًا وإيابًا،
وهي منى ومزدلفة وعرفة. ودعا على ناقته بعرفة رافعًا يديه، ولم يرد في الصحاح
نص ذكره ولا دعائه، واستحسن العلماء ذكر ما ورد في الضعاف كقول: (لا إله إلا
الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء
قدير) روي عن عدة من الصحابة مرفوعًا، وإنه خير ما يقال.
قضينا جل نهار عرفة بذكر الله والدعاء وتيسر لي - والحمد لله - الاغتسال
فيه، وصلينا الظهر والعصر جميعًا في مسجد الصخرات، ورأينا هنالك خطيب
عرفة وهو نائب الشرع بمكة وقد صعد بناقته، فاستوى على تلك الصخرة من جبل
الرحمة ذات التاريخ الإسلامي العظيم، وقد أحاط به الناس وازدحموا من حوله،
يسمعون منه أحكام المناسك، ومن دونه ومن فوقه في الجبل ألوف من الناس يشاهد
بعضهم بعضًا، ويراهم مَن في السفح ومن في بسيط عرفات كلها؛ لأن الجبل
مدرَّج يشبه ما يتخذ في بعض المدارس الكبرى من المقاعد ذات الدرج المقوسة التي
تسميها الفرنجة (نفيتاترو) وكلما لبى وكبر الخطيب لبى من حوله وكبروا وأشاروا
بأطراف أرديتهم البيضاء أو مناديلهم ويتبعهم في التلبية والإشارة كل من هنالك من
قمة الجبل إلى سفحه، فيلبي سائر الناس ويكبرون، فيتموج بأصواتهم الهواء،
وترتج الجواء، حتى تصل إلى عَنان السماء، بل تخترقها حاملة ذلك الذكر والثناء،
والضرعة والدعاء، إلى مَن استوى إلى عرشه المجيد، وهو أقرب إلى عبده من
حبل الوريد. فيا له من موقف ما أعظمه! ، وما أصدق مَن شبهه بيوم القيامة،
وقد يكون التشبيه على أكمله في ذلك المساء؛ فإنه وقت يكون فيه لكل مؤمن من
الشغل بنفسه والتوجه إلى ربه، ما لا يعهد مثله في وقت من أوقات حياته، يشعر
والناس محيطون به من كل جانب - بأنه في خلوة لا يشغله فيها عن ربه شاغل،
ولا يشوب خشوعه له وبكاءه من خشيته وسروره بمناجاته رياءٌ ولا سمعةٌ، بل لا
يكاد يخطر بباله أن أحدًا هنالك يرى أبدًا.
فما أعجب شأن هذا الاجتماع العظيم الذي يجمع كل مَن شهده بإيمان وعرفان،
بين مزايا عبادة الخلوة وعبادة شعائر الاجتماع، بل أقول: إن له مزية على سائر
الشعائر، لا يعرفها إلا مَن ذاقها.
وقبيل الغروب أقبل الشريف أمير مكة بموكبه الحافل، حتى صعد أدنى جبل
الرحمة، فكان قريبًا من موقف الخطيب وتلاه ركب المحمل المصري، وحينئذ
أطلقت المدافع، وعزفت المعازف (الموسيقى) واستعد الناس للدفع من عرفة،
لأجل مبيت تلك الليلة بمزدلفة، وبدأ الدفع بعد الغروب. فركبت السيدتان هودجهما،
وسار الرفيقان الكريمان والخدم معهما، وتفضل السيد الزواوي بإرسال نجله
السيد عبد الرحمن معهم وعهدنا إليه أن يذهب بهم إلى منى ليلاً بعد أداء أدنى ما
يجب من المقام بمزدلفة ويعبر عنه بالمبيت، ورافقني هو، فدفعنا معًا على دابتين،
فقطعنا ذلك الطريق، في ذلك الوقت المعتدل اللطيف. ونحن نجأر إلى الله تعالى
بالتلبية والتكبير، ولقد وصفنا تأثير التلبية في الطريق بين جدة ومكة، وأين تأثير
طريق مكة من تأثير عرفة؟ وما أبعد الفرق بين حال المبتدئ بهذه العبادة - عبادة
المناسك - الذي لم يذق منها إلا طعم الإحرام والتلبية، وبين من شاهد بيت الله عز
وجل وطاف به كثيرًا وسعى بين الصفا والمروة متذكرًا تلك الآيات البينات، ثم
أقام ركن الحج الأكبر وهو الوقوف بعرفة فامتلأ قلبه إيمانًا وعرفانًا وانثنى بين
الألوف من الموحدين، يكبر الله على هدايته تكبيرًا، ويكرر التلبية له تكريرًا؟ !
* * *
(المبيت بمزدلفة وقصر الصلاة وجمعها)
الإلمام بمزدلفة ليلة النحر وذكر الله عند المشعر الحرام (أي فيها) واجب
وجعله بعض علماء الأثر ركنًا، وقد ثبت في السنة التعجل بالضعفة كالنساء
والصبيان بالإفاضة من مزدلفة إلى منى بعد غياب القمر. وأدنى الواجب الوقوف
فيها ليلاً لذكر الله تعالى وأما المبيت إلى الصباح فهو سنة كما بينا في المناسك.
نزلت مع السيد الزواوي بفناء مسجد المزدلفة فصليت هنالك المغرب والعشاء
قصرًا وجمعًا. والسيد لا يقصر في عرفة ومزدلفة ولا يجمع؛ لأنه مكي شافعي،
والشافعية لا يجيزون القصر والجمع إلا في السفر الطويل، والحنفية يوجبون
الجمع في المزدلفة لأجل النسك، والتحقيق عند أهل الحديث أن القصر عزيمة
والجمع رخصة في كل سفر طويل أو قصير، وأن الجمع في المشاعر أفضل
للاتباع، وناهيك باتباعه صلى الله عليه وآله وسلم في أعمال حجة الوداع التي علَّم
فيها الألوف المناسك وغير المناسك، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب.
قال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر
والعصر بعرفة وكذلك مَن صلى مع الإمام، وذكر أصحاب الشافعي أنه لا يجوز
الجمع إلا لمَن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخًا إلحاقًا له بالقصر (قال) : وليس
بصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع، فجمع معه مَن حضره من المكيين
وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع.
كما أمرهم بترك القصر فقال: (أتموا؛ فإنا سَفْر) [1] ، ولو حرم الجمع
لبينه لهم؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قال: ولم يبلغنا عن أحد من
المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة والمزدلفة، بل وافق عليه مَن لا يرى الجمع في
غيره. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناسك الحج بعد أن ذكر صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم الظهر والعصر جمع تقديم ببطن عرنة في حدود عرفة وخطبته هناك
ما نصه: ويصلي بعرفة والمزدلفة ومنى قصرًا، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة
وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة والمزدلفة ومنى كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي صلى الله
عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة
ومزدلفة ومنى: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ،
ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى
بهم بمكة. وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلاً خارج مكة وهناك كان
يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما
رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه ولم يقل لهم أتموا
صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة ولا
بزمان، ولم يكن بمنى أحد ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال: (منى مناخ من سبق)
ولكن قيل: إنها سكنت في خلافة عثمان وإنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة؛ لأنه كان
يرى أن المسافر يحمل الزاد والمزاد. اهـ.
وذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي ما تقدم عن المناسك مختصرًا وزاد
أنه ليس على المسافر جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم عرفة
ولا في سفر آخر. وأقول: إن عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة
بالإتمام في منى وما بعدها ينطبق على حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين) رواه أحمد ومسلم
وأبو داود وصرحوا أن الشاك في الأميال والفراسخ شعبة لا أنس. وقال
الحافظ في الفتح: إن هذا أصح حديث وأصرحه في المسألة.
مكث السيد الزواوي معي قليلاً في المزدلفة ثم ذهب إلى منى وأوصى الخادم
بإحضار دابتي في الصباح، فنمت ساعات، واستيقظت في وقت السحر، وقد
سخر الله تعالى لي رفاقًا من خير الناس بتّ بجوارهم، وقد عرف الزواوي منهم
رجلاً مكيًّا، اسمه الشيخ علي مؤمنة، فلما استيقظت وجدتهم أيقاظًا، فطلبت منهم
ماءً، فتوضأت وصليت الوتر إحدى عشرة ركعة فلما أتممت صلاتي وجدتهم قد
أحضروا الشاي وخصني كبيرهم بإبريق نظيف من نوع جيد منه وقدم لي معه
صحنًا فيه لوز مقشور وصحنًا فيه هشة من الكعك المعروف بالقراقيش فأصبت من
ذلك كله شاكرًا لهم. وطفق كبيرهم يسألني أسئلة في السنة والاتباع والابتداع
واختلاف العلماء والصوفية ويتلقى أجوبتي عنها بالقبول مسرورًا بما جليتها به
الشرح والتفصيل. وهذا الرجل بخاري الأصل يعرف العربية، وكنت توهمت أنه
داغستاني وقد ساح في كثير من البلاد، وقد فهمت أنه جاور في مكة المكرمة وأنه
يخرج كل سنة منها إلى عرفة ببعض أصحابه في الموسم مشاة ويعودون مشاة. وقد
اختلف العلماء في أي الأمرين أفضل في المناسك في المشي أم الركوب؟ ، فقيل:
المشي؛ لأنه أقرب إلى التواضع وأعون على الدعاء، وقيل بل: الركوب تأسيًا
بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يفعل إلا الأفضل والأكمل ويمكن أن يقال: إن
الأفضل لأهل الآفاق وللضعفاء من أهل مكة الركوب وإن الأقوياء من المقيمين بمكة
قد يكون المشي أفضل لهم من عدة وجوه، منها مشاركة أهل الآفاق ببعض مشقة
السفر وإن ذلك لا ينافي الاتباع.
وقد سألت السيد الزواوي عن هذا الشيخ وعن رفيقه الخاص الشيخ علي
مؤمنة وكلفته بعد عودتي أن يسأل عنهما، فكتب إليَّ أن الثاني نشأ من صغره محبًّا
للعزلة والبعد عن كبراء الدنيا وهو على الدوام يخدم العلماء وأهل الطريق من
الغرباء ومنهم الشيخ حسام الدين البخاري صاحبكم في المزدلفة، ويقول تلميذه
الشيخ علي مؤمن إنه أقام في مصر مدة طويلة وخرج منها في العام الماضي مأمورًا
عليه (كذا) بالوصول إلى مكة والإقامة بها هذا العام وهو الآن موجود في أحد
أربطة البخارية بحارة جياد، لا يخالط أحدًا، لا يعرف ولا يُعرف، مواظبًا على
الجمعة والجماعة كتلميذه الشيخ علي. ولما طلع الفجر صلينا مع الجماعة ثم ذهبنا
حول المسجد نجمع الحصا لرمي الجمار فلما جمعناها ركبت دابتي وسرت وسار
أصحابي مشاة قاصدين منى.
* * *
الإفاضة إلى منى ورمي جمرة العقبة
أفضنا من مزدلفة ملبين مكبرين قبل طلوع الشمس عملاً بالسنة، ومخالفة لما
كان عليه عمل الجاهلية من تأخير الإفاضة منها إلى طلوعها، ومن السنة المبنية
على سبب تاريخي هنالك الإسراع المعتدل في السير في بطن محسر لا فرق في
ذلك من الماشي والراكب. وتقدم أن بطن مُحَسِّر - بتشديد السين المكسورة - هو
الوادي الفاصل بين منى ومزدلفة. قال بعض العلماء: إن حكمة الإيضاع فيه أن
أهل الجاهلية كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم، ففي الإسراع فيه إظهار
البراءة من ذلك. وقال بعضهم: إن هذا المكان هو الذي أهلك الله تعالى فيه
أصحاب الفيل، الذين جاءوا من طريق اليمن لهدم بيته المحرم؛ فاستحب الإسراع
في الخروج منه؛ لأنه كان موضع سخط الله تعالى وعذابه لأولئك الظالمين
المعتدين، ويستحب مثل ذلك في كل مكان مثله كديار ثمود.
ولما وصلنا إلى منى قصدنا الجمرة الكبرى جمرة العقبة وكانت الشمس قد
ارتفعت فرميناها بسبع حصيات، نكبر مع كل حصاة. وفي مثل هذا الوقت رماها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم راكبًا، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم جعل
البيت عن يمينه ومنى عن يساره ورمى. وأنه كان يكبر مع كل حصاة، وأنه قال:
(اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا) .
وبعد الرمي جئت الدار المعدة لنزولنا فيها، فإذا هي من أعظم دور منى حُسنًا
وسعة وهي لصديقنا الشيخ محمد نصيف، فرأيت السيدتين في قسم النساء منها،
والرفيقين في قسم الرجال، والجميع كما أحب، وأعطيت لوكيل الخرج دراهم
ووكلته بشراء النسك والذبح عني. وقد قصصت قليلاً من شعر رأسي بيدي، ولم
يتيسر لي الإتيان بحلاق إلى الدار؛ لأنني أريد الإفاضة إلى مكة لأجل طواف
الركن. وفي حديث أنس عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة
فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن،
ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس.
ومتى شرع الحاج في رمي جمرة العقبة مكبرًا تنقطع التلبية التي شعار الحج،
ويستبدل بها التكبير الذي هو ذكر الله في العيد، ومتى رماها وحلق شعر رأسه
أو قصره حل له كل ما كان محرمًا في النسك إلا ملامسة النساء؛ فإنها لا تحل إلا
بالتحلل الأخير بطواف الإفاضة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) السفر بفتح السين وسكون الفاء: جماعة المسافرين كالشرب جماعة الشاربين.(20/236)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب والصلح
عقدت الهدنة بين الروس وأعدائهم وألف الفريقان لجنة من مندوبي كل دولة
منهما للبحث في شروط عقد الصلح، وفي عدد جريدة الأهرام - الذي صدر في
11 ربيع الأول - أن وزير خارجية الألمان الذي رأس الجلسة الأولى جعل
الغرض من الاجتماع إعادة الصلات الاقتصادية والأدبية إلى ما كانت عليه قبل
الحرب. وأن الوزير الروسي (كامنف) تلا برنامج حكومة الروس المعروف الذي
تقترح جعْله أساسًا للصلح العام، وخلاصته أن يكون الصلح بلا ضم ولا غرامة.
وأن يُعطى كل شعب تحكمه أمة أخرى الحرية والاستقلال، إما بالاعتماد على رأيه
بعد سحب القوة الغاصبة من بلاده، وإما بالاعتماد على الرأي الذي أظهرته صحافة
ذلك الشعب وجمعياته. وتعد حكومة روسية مواصلة القتال لتقتسم الشعوب الغنية
الشعوب الصغيرة الفقيرة جريمة لا تُغتفر!
ثم قالت الأهرام: وقد جاءنا اليوم بيان أتم عن مطالب الروس: (1)
العدول عن كل ضم وفتح بالقوة. (2) إعادة استقلال البلاد التي اجْتِيحت. (3)
منح كل عنصر الحق بأن يختار الحكم الذي يريده. (4) التفادي عن ضرب
الغرامة الحربية وتقرير التعويض على الأفراد. (5) إنشاء صندوق دولي من
أموال الجميع لدفع التعويضات.
ثم ذكرَتْ أمرًا ثالثًا أُعلن في الجلسة وهو (رغبة الألمان بأن يشترك جميع
المتحاربين بمفاوضات الصلح حتى تقررت دعوة مندوبي فرنسا وإنكلترة وإيطالية
والولايات المتحدة إلى المفاوضات) .
ومن الناس من يرتاب في إخلاص الدولة الألمانية في إظهار ارتياحها إلى
دخول جميع الحلفاء في مؤتمر الصلح ولا يرتابون في إخلاص النمسة، ويرى
هؤلاء أن إيعاز الأولى إلى حكومة (البولشفيك) الروسية التي لم يعترف بها
الحلفاء بأن تدعوهم إلى الاشتراك معها في مفاوضات هذا الصلح في بلادها يراد به
اضطرار الحلفاء إلى الإباء والرفض، ويؤيد ذلك ما قاله السنيور (أورلندو) رئيس
وزارة إيطالية في خطابه بمجلس الشيوخ وهو: إنه قد حان الوقت لكشف الغطاء
عن ألاعيب دولتي الوسط اللتين تبذلان كل وسيلة لشد عزائم شعوبهما ولتسويد
صفحة خصومهما بادعائهما أنهما تريدان الصلح وأن الحلفاء يرفضونه. فالحلفاء
هم الذين يريدون الصلح وهم وحدهم يريدونه ولكنهم يريدونه على شكله الممكن أن
يجعله صلحًا عادلاً شريفًا دائمًا باتفاقات جلية صادقة. أما إمبراطوريتا الوسط فإنهما
تتبعان خطة غريبة، تطلبان بها من الحلفاء أن يعودوا إلى مواصلتهما على يد
حكومة لم يعترف بها الحلفاء؛ لأنهما حكومة وقتية إلى أن تجتمع الجمعية
الدستورية؛ ولأن شطرًا كبيرًا من روسيا لم يعترف بها.
هذا من حيث الشكل، وأما من وجهة الجوهر في مقترح الصلح فإن مندوب
البولشفيك يظن أن باستطاعته أن يقول إن الشطرين الأولين من مقترحات الصلح
مقبولان، وهما أولاً إعادة الممالك التي فقدت استقلالها من جراء الحرب، وثانيًا
الجلاء عن الأراضي التي احتلت مع العدول عن الضم، وإنكم لترون أن في هذا
القول ضلالاً، ففي الحقيقة أن الشطر الثالث المتعلق بالشعوب الخاضعة لأمم
ليست منها - لم يقبله الألمان والنمسويون. (وضرب لذلك مثل أمانيهم القومية
والإلزاس واللورين) .
ثم رغب الخطيب في بيان ضرر العودة إلى الحالة القديمة؛ لأنه ليس في هذا
القول ضمانة إذا ما قبل الشرطان اللذان قال بهما البولشفيك أولاً؛ لأن
إمبراطوريتي الوسط أعلنتا أنهما لا تنويان إزالة الاستقلال السياسي من البلاد التي
احتلتاها فلفظة (الاستقلال السياسي) لا تنفي الاعتداء على الاستقلال الآخر
كالاستقلال الاقتصادي مثلاً؛ ولأنها لا تتضمن أيضًا عودة المملكة المستقلة إلى
جميع أراضيها كاملة. أضف إلى ما تقدم أن لفظة (استقلال الشعوب) هي لفظة
مبهمة لا تزيل الشكوك وما تضمره دولتا الوسط من المطامع فإنهما تقولان: إنهما لا
تريدان ضمًا بالقوة، ومعنى ذلك أنهما تنويان ضمًّا بغير قوة. فمتى إذن يمكن أن
يوصف الضم بالقوة؟ ، فالجواب على ذلك أن الأمر معلق على وجود القوة وعلى
شكل الخيار الذي يعرض على الشعوب الموجودة تحت نير الغازي، أضف
إلى هذا هل يعتبر الضم ضمًّا عند ما لا يمكن ذكر الضم بالقوة في المعاهدات
الدولية.
فبالصيغة التي تعرضها دولتا الوسط صيغة مبهمة تتحمل الريب والشكوك،
وتدلنا على أننا لا نزال بعيدين جدًّا عن المبدأ الأول الذي يمنع كل الضم) اهـ
المراد منه نقلاً عن عدد 4 يناير من الأهرام.
وقد أفادت البرقيات المنشورة بهذا التاريخ أن مفاوضات الصلح أوقفت؛ لأن
ألمانية تزعم أن شعوب الولايات أو الممالك الأربع التي انتزعتها من الروسية -
وهي البولندية والكورلندية واللتوانية والأستونية - قد جهرت برغبتها في الانضمام
إلى ألمانية فيجب أن تكون ألمانية، وإن الروس ينكرون عليها ذلك، وإن وزير
خارجيتهم تروتسكي خطب في اللجنة المركزية لحزب العمال والمجندين فأنكر ذلك
أشد الإنكار؛ لأن إظهار الشعب الرغبة في مسألة الحكم لا يكون صحيحًا مع وجود
الاحتلال الأجنبي والقوة العسكرية. وفي برقية لروتر من لندن وردت في 2 يناير
أن اللجنة أقرت الوزير الخطيب على خطابه، ووضعت قرارًا بفحواه، قالت في
آخره:
فنحن ندافع عما لبولندا ولتوانيا وكورلندا من الحق في بت مصيرها،
والحكم في مستقبلها بتمام الحرية، ونقول لشعوب النمسا وألمانيا وبلغاريا وتركيا
اذكروا أن التعجيل في عقد صلح ديمقراطي يتوقف عليكم، فقد سالت دماؤكم
وأصابكم الإعياء والجهد في حرب عديمة المثيل، فلا تسمحوا لدعاة السلطة والفتح
من النمسويين والألمان أن يحاربوا روسية الثورية لإخضاع بولندا ولتوانيا وكورلندا
وأرمينية.
(المنار)
قد سبقنا فبيَّنَّا في الجزء الأول من هذا المجلد ما قررته الروسية ورئيس
الوزارة الإيطالية اليوم في مسألة حرية الشعوب واختيارها لكل الحكومة الذي
ترضاه لنفسها، وبينا في الجزء الرابع - الذي قبل هذا - أهم ما يشترط الحلفاء
للصلح. وبعد كتابة ما تقدم وإعداده للطبع جاءنا البرق بخطبة رئيس الوزارة
البريطانية، ثم بخطبة رئيس الولايات المتحدة، وهما أصرح ما قاله الحلفاء في
أسباب الحرب وشروط الصلح، ويعد ناسخًا لكل ما يخالفه * سيد القول ما يقول
الرئيس * وسيعلم منهما حقيقة غرض الحكومة الألمانية، وهل هي تريد الصلح
حقيقة فيما تتخذه من الوسائل الصورية له كما يقال، أم تريد به إيقاع الشقاق بين
أعدائها كما قال رئيس الحكومة الإيطالية، أو إقامة الحجة عليهم بأنهم هم طلاب
الحرب والفتح كما يظن كثير من الناس. ولعل هذه الصراحة من الحلفاء تضطرها
إلى التصريح بشروط الصلح التي ترضاها، فإنها لما تصرح بشيء إلا طلب حرية
البحار.
ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق والعدل وحرية الشعوب المستضعفة على
الباطل والظلم وقوة الاستبداد والاستعباد، ويكشف عنها حجب الخداع والرياء. إن
ربي سميع الدعاء.
__________(20/246)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تنبيه
اضطررنا إلى تأخير تتمة الشيخ سليم البشري.
__________(20/248)
ربيع الآخر - 1336هـ
فبراير - 1918م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل واتخاذها
(تابع لما في الجزء الخامس)
(ملخص ما تقدم من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء في شرحها وفقهها)
أما الأحاديث فتلخص في سبع مسائل:
(1) أن المصورين يعذبون يوم القيامة ويكلفون إحياء ما صنعوا تعجيزًا،
ووصفهم بالظلم الشديد لقصدهم مضاهاة خلق الله.
(2) لعن المصور كما لُعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال فيهم: إنهم
كانوا يصورون الصالحين منهم، ويضعونها في معابدهم، ووصفهم بأنهم شر الخلق.
(3) إنكار نصب الستور التي فيها الصور والتماثيل وهتكها أي إزالتها.
(4) تعليل الإنكار تارة بأننا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين، وتارة بكونها
في المصلى تعرض للمصلي في صلاته، وتارة بعدم دخول الملائكة بيتًا فيه صورة
أو كلب.
(5) اتخاذ الثياب التي فيها الصور وسائد ومرافق واستعمال النبي صلى
الله عليه وسلم لها مع بقاء الصورة فيها، كما صرح به في رواية الإمام أحمد.
(6) أن تغيير الصورة الحيوانية بما تصير به أشبه بالشجر - كقطع رأسها
- يبيح اتخاذها. وفي معناه فتوى ابن عباس للمصور العراقي.
(7) نقض التصاليب وإزالتها.
وأما الآثار عن الصحابة والتابعين في المسألة:
(فمنها) استعمال زيد بن خالد الصحابي للستر الذي فيه الصور، وهو أحد
رواة حديث: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة إلا رقْمًا في ثوب) ، فهو لم
يشترط أن يكون الثوب الذي فيه الصورة مهانًا.
(ومنها) اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي
الله عنه الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء، وهو ربيب عمته عائشة
الصديقة، وأعلم الناس بحديثها وفقهها، وقد روى عنها حديث النمرقة.
(ومنها) استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وخازنه - الصور في داره. وقد روى عن عمر وغيره، وهو من الثقات كما قال
ابن سعد وابن حبان.
(ومنها) صنع الصور في دار مروان بن الحكم أو سعيد بن العاص وكل
منهما ولي إمارة المدينة، وكانا من التابعين، روى الشيخان عن الأول ومسلم عن
الثاني، وهو خير من الأول. وقد انتقد على البخاري روايته عن مروان، وأجابوا
عنه بأنه ثقة في الحديث وإنما ذنوبه عملية سببها السياسة، أعاذنا الله من شرها
وشر أهلها. وعمل مروان لا قيمة له في الاحتجاج إلا أنه يدل على أن التصوير
كان مستعملاً في عصر الصحابة، ولكن أبا هريرة أنكر ما رآه في داره، وكان من
أعلم الصحابة بأحداث بني أمية، وأخبر بعضها قبل وقوعها. وكذلك أنكر ابن
عباس على المصور العراقي تصويره للحيوان، وأفتاه بتصوير النبات.
وأما أقوال العلماء في شرحها وفقهها، فمنهم مَن شدد فيه ومَن خفف، وأشهر
المشددين من محققي الفقهاء من القرون الوسطى أبو بكر ابن العربي والنووي فقد
جزما بتحريم التصوير مطلقًا، وإن كان الأصل أن ما حلّ اتخاذه واستعماله حل
صنعه.
وقال الأول: إن ما له ظل كالتماثيل ذات الأجسام يحرم اتخاذه بالإجماع،
وبين الحافظ ابن حجر أن حكاية الإجماع غير صحيحة؛ لتصريح الجمهور بحل
لعب البنات لصحة الحديث بذلك، ونقل عن القرطبي حكاية قولين فيما لا يتخذ
للإبقاء كتماثيل الفخار، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار وبلعب البنات
محل تأمل. وأقول: إن تماثيل الحلوى التي تصنع بمصر في أيام الموالد أقل بقاءً
مما يصنع من الفخار؛ لأنها لا تلبث أن تؤكل، وهي تؤخذ للأطفال كلعب البنات،
فالقول بحلها أظهر من القول بحل ما يتخذ من الفخار، وأما ما لا ظل له من
الصور فحكيا في اتخاذه أربعة أقوال: (1) الجواز مطلقًا، (2) المنع مطلقًا،
(3) تحريم ما كانت الصورة فيه تامة، وجواز ما قطع رأسها أو تفرقت أجزاؤها،
(4) جواز ما يُمتهن دون ما كان معظمًا كالمعلق. وقد رجَّحا الثالث ورجَّح
الحافظ ابن حجر الرابع.
وقد علم من هذا التفصيل كلام المحققين بالإجمال. ومن التفصيل فيه قول
الحافظ: مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلقًا إلا أن يكون على
جدار، ومذهب القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أن ما لا ظل له لا بأس
باتخاذه مطلقًا، فقد صح أنه كان في بيته بمكة حجلة فيها تصاوير كما تقدم، ومنه
حمل أبي علي الفارسي الوعيد بعذاب المصورين على المشبهة الذين يعتقدون أن لله
تعالى صورة كصور خلقه، تعالى عن ذلك، وجعل الحافظ ابن حبان حديث امتناع
الملائكة من دخول بيت فيه صورة خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل
بعضهم إياه خاصًّا بملائكة الوحي ومقتضاهما أنه انقطع، وجعله الكثيرون خاصًّا
بملائكة الرحمة، وخصَّصه بعضهم بالصفة، كما تقدم في (ص 229) ، ومنتهى
التخفيف قول بعضهم: إن الوعيد على تحريم التصوير خاص بمن كان في ذلك
الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا. وردّه ابن دقيق العيد كما قال
الحافظ في الفتح.
والتحقيق أن الأصل في الوعيد على التصوير قسمان: أحدهما: لا يتحقق إلا
بالقصد، وهو مضاهاة خلق الله كما تقدم في الكلام على الحديث. وثانيهما: لا
يُشترط فيه قصد علة الحصر، وهو كما يؤخذ من حديث كنيسة الحبشة، ومما
صرح به المحققون من المتقدمين والمتأخرين في شرحه وشرح غيره، وهو سد
ذريعة عبادة صور الأنبياء والصالحين وغيرهم، ومثله الوعيد على بناء المساجد
على القبور، لا فرق بينهما ألبتَّة. فيأتي فيه ما قاله الحافظ في شرح الحديث من
(باب بناء المسجد على القبر) من صحيح البخاري، وهو كما في آخر (ص
235) من جزء المنار الماضي. وقد تقدم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية
أن يضع بالقبر ما صنع أولئك الذين لُعنوا. وأما إذا آمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول
بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة، وهو هنا متجه قوي. اهـ.
ويمكن أن يقال: إن سد الذرائع يختلف باختلاف الأزمنة وباختلاف أنواع
الصور ولما كانت التماثيل والصور المعظمة في الجاهلية تعظيم العبادة هي صور
ذات الأنفس أذن ابن عباس رضي الله عنه للمصور الذي استفتاه بتصوير الشجر
وما لا نفس له. ولما صارت صور ذات الأنفس لمجرد الزينة، وزالت مظنة العبادة
- اتخذ بعض أئمة السلف بعض الصور في بيوتهم، كما ترك الصحابة الصور في
إيوان كسرى. ولا نقول: إن ذريعة تعظيم الصور -تعظيم ديانة وعبادة - قد زال
في هذا الزمن، وإن علة التحريم انتفت، كما قال مَن جعل التحريم كالمنسوخ
لجعْله خاصًّا بالعصر الأول؛ إذ لا شك في أن تصوير الأنبياء والأولياء، وكل مَن
يغلو في تعظيمه العوام، أو اتخاذ تماثيل لهم قد يفضي إلى العبادة. كما رأينا نظير
ذلك في تعظيم قبور الصالحين الذي جاء مصداقًا لحديث الصحيحين: (لتتبعن سَنَن
مَن قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ... ) إلخ، ولكن الناس شددوا في سد ذريعة
عبادة الصالحين بتعظيم صورهم، وتساهلوا في سد ذريعة عبادتهم بتعظيم قبورهم
ببناء المساجد عليها، والطواف بها، والتماس جلب النفع ودفع الضر بالتمسح بها
ودعاء مَن دُفن فيها.
ومَن تأمل الأحاديث وآثار السلف في مسألة تشييد القبور وتجصيصها،
وحظر اتخاذها مساجد ووضع السرج والستور عليها، ومسألة التصوير واتخاذ
الصور بجعلها في البيوت والستور ونحوها - يتجلى له أن علة النهي عن الأمرين
واحدة، ألا إنها في القبور أشد وأعم، وقد جمع الأمر بإزالتهما في الحديث
الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي الهياج الأسدي
قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويتَه) وفي رواية: (أن لا
أدع قبرًا مشرفًا إلا سويتُه ولا تمثالاً إلا طمستُه) بإسناد الأفعال إلى ضمير المتكلم،
أي بعثني على أن لا أدع ... إلخ. وطمْس التمثال محو صورته التي يُشْبه بها
الحي ويحصل بتشويهه أو قطع رأسه دون إزالة عينه؛ لأن ذلك كافٍ في إخراجه
عن صفة المعظم عبادةً. وأما تسوية القبر فإزالة لعينه؛ لأن المراد بها تسويته
بالأرض، أي جعله مساويًا لها. ولكن أجاز الفقهاء رفع القبور قدر شبر، كما رفع
الصحابة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. وقدر بعض
مَن رأى القبر الشريف من السلف ارتفاعه بأربعة أصابع، نقله الحافظ في الفتح،
والظاهر أنه اعتمده، وقال الشافعي في الأم: (ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما
يُبنَى) . قال النووي - عند نقله في شرح مسلم: ويؤيد الهدم - قوله: (ولا قبرًا
مشرفًا إلا سويته) . اهـ.
وأما الخلف من العوام والحكام فخالفوا جميع الأحاديث والآثار في المسألة
الأولى، ولكنهم ظلوا يشددون المسألة الثانية إلى أن عمت البلوى بها في هذا
العصر، فصاروا يتساهلون في أمر اتخاذ التصاوير للزينة وللأنس بصور الأقربين
والمحبين، وصار العلماء يسمحون للمصورين بتصويرهم، حتى أكابر شيوخ
الأزهر وقضاة الشرع والمفتين، ولكنهم لا يزالون يشددون في صناعة التصوير
نفسها على كثرة منافعها، وشدة الحاجة إليها في غير ما تساهل الجمهور في اتخاذه
من أعمالها.
سألني بعض العلماء البصراء في طرابلس الشام مرة عن التصوير؛ إذ قلت:
إنه يعد الآن من أركان العمران والحضارة، هل له فائدة يُعتدّ بها شرعًا؟ فإن ما
فتن به الناس من زينة التصاوير ليس بالأمر النافع الذي يرخص في هذه الصناعة
لأجله، ولو في غير ما تُخشى عبادته أو تعظيمه تعظيمًا دينيًّا، فقلت له -
على البداهة، ولم يكن قد سبق لي تفكّر في حصر فوائد التصوير -: إن له أنواعًا
من الفوائد في حفظ اللغة، وإيضاح كثيرمن العلوم والفنون وفي الأعمال العسكرية
والإدارية والسياسية، وذكرت له من الأمثلة على ذلك ما يأتي:
(1) إننا نرى في كتب اللغة أسماء كثير من الأشياء كالنبات والحيوان
وغيرهما غير مفسرة بما يعرف به المسمى مَن لم يكن يعرفه باسمه ذاك، بل
يقولون حيوان معروف أو طائر معروف وصاحب القاموس المحيط يكتفي بحرف
(م) المختزل من كلمة معروف، وهذا تقصير كبير في حفظ اللغة، ولو وضعت
صورة الشيء عند اسمه كما كان يفعل قدماء المصريين وكما تفعل أمم الحضارة
الآن - لكان ذلك أحسن حفظ للغة، ولا يغني عنه الوصف بالكلام؛ لأن بعض
الأجناس تتشابه فلا يسهل التمييز بينها بالقول، بل يتعسر أو يتعذر وصف أي
جنس من أجناس المخلوقات وصفًا يمكن أن يعرفه به كل مَن سمعه.
(2) يترتب على الجهل بأجناس بعض الحيوان جهل ما يتعلق بها من
الأحكام الشرعية كأحكام ما يحل أكله منها، وما لا يحل، وأحكام جزاء الصيد على
المحرم وغير ذلك.
(3) إن للتصوير فوائد عظيمة في علوم التاريخ الطبيعي والطب
والتشريح الإنساني والحيواني وفروع هذه العلوم قد صارت كثيرة في هذا العصر،
ويتوقف إيضاح الحقائق فيها - تأليفًا وتعليمًا - على الصور التي تظهر بها جميع
الأعضاء الظاهرة والباطنة، صحيحة ومريضة، فإتقان هذه العلوم يتوقف عليها.
(4) للتصوير فوائد عظيمة في الأعمال الحربية، فلا يمكن لمَن يتركه أو
يقصر فيه أن يقاتل أعداءه بمثل ما يقاتلونه به، ولا أن يعد لهم ما استطاع من قوة،
فمنها تصوير المواقع والطرق والبلاد والجيوش، وما لديها من السلاح والذخيرة،
ومنها تصوير مَن يشتبه في أمرهم أن يكونوا عيونًا وجواسيس، وتقتضي الحكمة
أن يُجعلوا تحت المراقبة، ومنها تصوير مَن يحتاج إلى تحقيق شخصيتهم؛
لئلا يشتبهوا بغيرهم.
(5) للتصوير فوائد عند حكومات هذا العصر في الأعمال السياسية والإدارية
كأعمال الجواسيس وحفظ الأمن وغير ذلك وتفصيل ذلك يطول.
لا يقال: إن المسلمين يمكن أن يستغنوا عن صناعة التصوير في التعليم
والتأليف والأعمال الحربية وغيرها كما استغنى سلفهم؛ فإن هذا بمثابة القول
باستغنائهم عن سلاح هذا العصر ومراكبه البحرية والهوائية كما استغنى عنها سلفهم،
وإنما كان يصح هذا التشبيه لو كان ما ذُكر من المستحدثات موجودًا في عصر
السلف، يستعمله خصومهم، وهم يتركونه، ولا يضرهم تركه. وهذا باطل لا
يقول به أحد.
ولا يترتب على نوع ما من أنواع هذه التصاوير تذرع إلى عبادة غير
مشروعة، ولا إلى تعظيم ديني، ولا يقصد بشيء منها مضاهاة خلق الله، فإما أن
يؤخذ فيها بقول مَن يجعل الوعيد على التصوير خاصًّا بما ذُكر من أول الأمر
كتصوير الصالحين، ومَن يخشى أن يفتتن الناس بصورهم وتماثيلهم، وبما يقصد
به مفسدة أخرى كالتحريض على المعاصي وهتك العورات، وأما أن يخص
عمومها بأحكام الضرورة في بعضها، وأحكام الحاجة التي تعد من المصلحة
الراجحة في بعض آخر؛ فإن القاعدة في المحرم لذاته أن يباح للضرورة كأكل
الميتة ولحم الخنزير، وفي المحرم لسد الذريعة أن يباح للمصلحة الراجحة كرؤية
الطبيب للعورات، وأبدان النساء الأجنبيات عملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
فمَن عرض مسألة التصوير واتخاذ الصور على هذه القواعد الشرعية علم
منها أن دين الفطرة - الذي قرن كتابه ووصف بالحكمة، ورفع منه الحرج والعسر
عن الأمة - لم يكن ليحرم صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال، ويحتاج
إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وإنما يحرم ما فيه مفسدة، أو ما كان ذريعة إلى
مفسدة، ولا يبعد أن يقال: إن أعمال المصورين في هذا العصر تعتريها الأحكام
الخمسة، فإذا سألنا رؤساء الحكام وكبار القواد وأركان الحرب والأطباء وغيرهم
من علماء الفنون - التي هي من فروض الكفايات - عن صناعة التصوير الشمسي
واليدوي، فقالوا: إن منها ما هو ضروري يترتب على تركه ضرر عظيم، ومنها ما
فيه مصلحة راجحة، ومنفعة مجرَّبة، فمقتضى الأصول والقواعد تكون واجبة في
بعض تلك الضرورات والمصالح. ومستحبة أو مندوبة فيما دونها من المنافع،
ومباحة فيما لا ضرر فيه ولا نفع، ومكروهة فيما كان مظنة الضر، وقد بينا قريبًا
ما تكون فيه محرمة، وهو ما حمل عليه النص، فهذا ما أعلمه وأفهمه من نصوص
الشرع وقواعده في هذه المسألة، وهو يؤيد ما نقلته عن بعض علماء السلف
والخلف في التساهل فيها قولاً وعملاً، والله أعلم.
__________(20/270)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(7)
طواف الإفاضة:
بعد ذلك ركبت دابتي وقصدت مكة المكرمة فطفت طواف الإفاضة وهو
طواف الركن الذي لا يتم الحج بدونه، وفي أثناء طوافنا شرع أهل مكة في صلاة
العيد ورأيت الأمير يصلي معهم مأمومًا. وكان الرجال يصلون في الجهة الغربية
من الكعبة المعظمة والنساء في الجهة الجنوبية وهن كثيرات جدًّا، ثم سعينا بين
الصفا والمروة وهو من أركان الحج وقد سعيت في هذه المرة ماشيًا. وقد اختلفت
الروايات: هل طاف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة في
حجة الوداع مرة أو مرتين؟ ففي حديث جابر عند مسلم أنهم طافوا بينهما مرة
واحدة قبل عرفة، وفي حديث عائشة أنهم طافوا مرتين أي عند القدوم وبعد طواف
الإفاضة، ورجح المحققون من علماء الحديث رواية جابر، وقالوا: إن ما ذكر في
حديث عائشة مُدْرَج من كلام الزهري لا من كلامها، فمذهب المحدثين أن السعي لا
يتكرر، ويقول كثير من الفقهاء: إن لكل نسك سعيًا لا يُسقطه السعي بعد طواف
القدوم، وإن السعي للعمرة لا يغني عن السعي بعد طواف الإفاضة للحج، ولم
يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم العيد يوم النحر بمكة ولا بمنى، كما أنه لم يصلِّ
الجمعة بعرفة؛ لأنه مسافر، ولم يكن يصليهما في السفر، وقال بعض العلماء: إن
رمي جمرة العقبة للحاج كصلاة العيد لغيره فصلاة العيد لا تُطلب منه، وإن كان
مكيًّا. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإقامة السنة على الوجه الأكمل في حجة أخرى أو
حجات كثيرة.
هذا، وإنني بعد الطواف والسعي جئت منزلنا بمكة واستحضرت حلاقًا فأخذ
شعر رأسي كله بالآلة المعروفة بالمكنة أخذًا أقرب إلى الحلق منه إلى التقصير ثم
عدت إلى منى وقد تحللت من الحج تحللاً كاملاً، ولله الحمد أولاً وآخرًا، وإياه
نسأل أن يجعله حجًّا مقبولاً وسعيًا مشكورًا. وقد بقي من أعمال الحج التي لا
يُشترط فيها الإحرام.
رمي بقية الجمار وذبائح النسك:
الجمار بالكسر والجمرات بالتحريك: جمع جمرة وهي في أصل اللغة:
واحدة الجمر من النار، والحصاة، والقبيلة التي تصبر لقراع القبائل، وكل قوم
يصبرون لقتال مَن قاتلهم لا يحالفون أحدًا، ولا ينضمون إلى أحد. قيل سميت
جمرات المناسك بمنى بهذا الاسم؛ لأنها تُرمَى بالجمار أي الحصى، وقيل لأنها
مجمع الحصى التي ترمى شبهت باجتماع القبيلة على مَن ناوأها. وقال أبو العباس:
أصلها من جمرته ودهرته إذا نحيته، والتجمير: رمي الجمار، والمجمر
(كالمعظم) : موضع رمي الجمار. فأما جمرة العقبة فهي في عقبة منى التي ينحدر
منها السائر إلى مكة على جانب الطريق، وأما الجمرة الوسطى والصغرى فهما في
وسط الطريق الذي يشق منى نصفين، وتعرف مواقعهما من صورة منى
(خريطتها) وفي موضع كل من الوسطى والصغرى بناء يقرب من شكل المنارة
أو المسلة، قليل الارتفاع، حوله حظيرة مستديرة، وكانت دارنا عند الجمرة
الوسطى من جهة الشمال، وهي أفسح دار هنالك.
وقد بينا كيفية رمي الجمار وحكمته في مناسك الحج، كما بينا حكمة ذبائح
النسك. وكنا نذبح كل يوم من أيام منى فنأخذ حاجتنا ليومنا، ونتصدق بالباقي،
وقد كانت الذبائح في السنين الخالية تزيد على حاجة أهل البلاد ومَن حولهم من
الأعراب لكثرتها، وأما في هذا العام فهي لا تكاد تكفي فقراء الحرم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(20/276)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحالة السياسية في الحجاز
في أواخر سنة 1334
أتممنا بفضل الله مناسكنا، فنحمد الله تعالى، ونسأله أن يتقبل منا، وإذ فرغنا
من حديث المناسك فيحسن أن نتم فوائد هذه الرحلة بما يمكن بيانه الآن من أخبار
الحجاز الاجتماعية والسياسية، التي تعد من أعظم الأحداث التاريخية، ثم ببعض
الطُرَف الأدبية من المختارات الشعرية، ونبدأ بذكر إنشاء الحكومة الجديدة في مكة
المكرمة، فنقول:
لما شعر بالاستعداد لتأليف هذه الحكومة أصحابنا اللاجئون إليها، الذين يعدون
من أصحاب الشأن أو العمل فيها - اختلفت آراؤهم فيما يُنتظر أن تكون عليه، وما
ينبغي أن يكون مسلكهم في هذه الحال على كل تقدير يتصوره الذهن، وقد
استحسنوا أن يجتمعوا ليلاً، ويكاشفوني بآرائهم، ويتعرفوا رأيي (والمستشار
مؤتمن) ، ففعلوا. ومما يعد من الغريب عند كثير من الناس - أن ما كان يجول
في أذهان أهل البلاد المختلفة بمكة في هذه المسألة هو عين ما كان يجول في أذهان
أهل مصر من الآراء والظنون. ثم ماذا كان؟
علمنا يوم الخميس سابع ذي الحجة أنه قد تألفت فيها حكومة جديدة، على
الوجه الذي نُشر بعد الحج في العدد السابع عشر من جريدة (القبلة) بتاريخ 15 ذي
الحجة سنة 1334، وهذا نصه:
الحكومة العربية الجديدة
ما أزِفت الساعة السادسة من نهار الخميس الماضي سابع ذي الحجة حتى
اكتظت دار الحكومة بأكابر العرب وعِليتهم انتظارًا لتشريف رجال الحكومة العربية
الجديدة، ولما كانت الساعة السابعة وصل صاحب السمو الأمير عبد الله ومعه سائر
الوكلاء، فصدحت الموسيقى بالسلام الشريف، وأخذت الجنود النظامية
المرصوصة على جانبي الطريق السلام العسكري. ولما استقر بحضراتهم المكان
في ندوة الحكومة - قرئ المرسوم الشريف الصادر من جلالة سيدنا المليك المعظم
إلى حضرة العلامة المِفضال الشيخ عبد الله سراج بتعيينه قاضيًا للقضاة ووكيلاً
لرئاسة الوكلاء، وتعيين زملائه حضرات الوكلاء العظام. وهذه صورة المرسوم
الشريف:
(المرسوم الشريف بتأليف هيئة الوكلاء)
حضرة العالم الكامل الشيخ عبد الله سراج
إنه لما كانت مصالح الرعايا وانتظام شؤون المجتمع وتوفر أسباب العمران
لا بد لها من دواوين يتوزع عليها النظر في الحكومة، وما هو في معنى ذلك من
المصالح العامة والخاصة، ويتعين بها أساس الوظائف الذي تُبنى عليه المسؤولية
وتكوين حكومة لبلادنا المحروسة. وبالنظر إلى ما تحققناه فيكم من الكفاءة
والاستقامة - عزمنا بعد الاستعانة بالله عز وجل على توجيه منصب قاضي القضاة
لعهدتكم، وتعيينكم وكيلاً عن رئيس الوكلاء العظام، وقد اخترنا لبقية الوكالات
حضرات الذوات الآتية أسماؤهم، وهم: ولدنا عبد الله بن الحسين لوكالة الخارجية،
ويكون وكيلاً عن وكيل الداخلية، وعبد العزيز بن علي رئيس أركان حرب
ووكيلاً عن وكيل رياسة الجند مع ترفيع درجته عن رتبته الحاضرة، والشيخ علي
مالكي وكيلاً للمعارف، والشيخ يوسف بن سالم رئيس البلدية سابقًا وكيلاً للمنافع
العمومية، والشيخ محمد أمين مدير الحرم الشريف سابقًا وكيلاً للأوقاف، مع بقائه
في نظارة أمور الحرم، وكلما يتعلق بوظيفته الشريفة، والشيخ أحمد بن عبد
الرحمن باناجه وكيلاً للمالية. وذلك لما توسمناه من درايتهم واستعدادهم للسهر على
مصالح البلاد وأهلها على ما يُرضي الله، وإننا ننتظر منكم المبادرة إلى تأسيس
الدوائر والدواوين الرسمية، وتعيين العمال والموظفين لها، وأرجو الله سبحانه أن
يجعلنا مظهر توفيقه وهداه، في كل ما يحبه ويرضاه.
في 7 ذي الحجة الحرام سنة 1334 هـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين
***
ثم تُلي مرسوم شريف آخر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، وهذا نصه:
(المرسوم الشريف بتأسيس مجلس الشيوخ الأعلى)
وكيل رئيس الوكلاء وقاضي القضاة مولانا وفقه الله؛
بما أننا قد استنسبنا تعيين هيئة أطلقنا عليها اسم (مجلس الشيوخ) ، وجعلنا
وظيفة هذا المجلس النظر في كل ما يتعلق بمنافع البلاد، والمراقبة على أعمال
الدواوين والدوائر الرسمية، وإبداء الرأي فيما تعرضه الدوائر على مقام وكيل
رئيس الوكلاء، وسيقرر فيما بعد صلاحية هذا المجلس العالي، فقد جعلنا رئيسًا له
جناب الفاضل الأجلّ فاتح بيت الله الحرام الشيخ محمد صالح الشيبي. وأعضاءه
حضرات الأفاضل الأجلاء: مفتي الشافعية السيد عبد الله بن محمد صالح الزواوي ,
ومفتي المالكية الشيخ عابد بن حسين, والشيخ عبد القادر بن علي الشيبي, ونائب
الحرم السيد إبراهيم بن علي, ووكيل شيخ السادة السيد محمد بن علوي السقاف
والشيخ عبد الله علي رضا, والشيخ علي بن عبد الله الشرباصي والشيخ أبو بكر بن
محمد خوقير وذوي السيادة والشرف حمزة بن عبد الله الفعر وفنن بن محسن
وسليمان بن أحمد بن سعيد وناصر بن شكر ولتبليغهم ما ذُكر اقتضى تحريره.
في 7 ذي الحجة سنة 1334.
اهـ ما نُقل عن جريدة القبلة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين
***
ولما علم الناس بتأليف الحكومة الجديدة كان حديثها شغلهم الشاغل، وكانوا
ينتظرون أن يسمعوا يوم الجمعة ثامن الشهر شيئًا جديدًا في تعيين شكلها، واستحسن
بعض الإخوان الذين رأوا من إكرام الأمير مثواي أن أطلب التشرف بمقابلة خاصة؛
أتوسل بها إلى عرض ما عرفوا وحمدوا من رأيي في شكل هذه الحكومة،
ففعلت، نلت الحظوة في أول الليل على سطح في أحد جوانب قصر الإمارة،
وتوسلت بذكر ما تم من تأليف مجلس الوكلاء إلى السؤال عن شكل الحكومة،
كيف يكون؟ ، فتفضَّل الأمير - بتواضعه المعهود - قائلاً: هذا ما نحب أن
نأخذ رأيكم فيه، فذكرت رأيي مفصلاً تفصيلاً، ولكنني لم أسمع كلمة ولا رأيت
إشارة تدل على استحسان ولا على إنكار، ثم استأذنت، وانصرفت.
قلت: إن جمهور الناس من المكيين والحجاج كانوا ينتظرون أن يسمعوا يوم
الجمعة شيئًا جديدًا، فلم يسمعوا، وكان مَن صلى الجمعة في المسجد الحرام من
المصريين على مقربة من المنبر، يلقون السمع إلى الخطيب عند الدعاء، فسمعوه
بآذانهم يدعو للسلطان محمد رشاد، وخرج الناس من المسجد الحرام، ولم يقع ما
كانوا يتوقعون من المبايعة بالخلافة بين الركن والمقام، فزال بذلك ما زال من
الظنون والأوهام.
ثم عاد الناس إلى الحديث في هذه المسألة في مساء يوم العيد بمنى، وأُشيع
أن المبايعة يحتمل أن تكون ضحوة غد في أثناء الاحتفال المعتاد في سرادق الأمير؛
ذلك بأن العادة قد مضت بأن تكون ضحوة اليوم الأول من أيام منى موعد تهنئة
الأمير الشريف بالعيد، وإتمام المناسك، فكان يحضر لديه والي الحجاز وقائد الجند
فيه، وأمير الحج الشامي والمصري، وكبار الشرفاء والعلماء وكبراء رجال
الحكومة ووجهاء مكة المكرمة والحجاج، ويُتلى الفرمان السلطاني الذي يعهد فيه
إلى الشريف بالنظر في شؤون الحج وحفظه في الحجاز ... ، ويخلع الوالي على
الأمير الخلعة السلطانية.
ولما أشيع ما أشيع جاءني أولئك الأصحاب ليلاً للمذاكرة في الأمر، وبعد
طول التشاور فيه اقترحوا عليَّ أن أذهب إلى مخيم الإمارة لاكتشاف الحقيقة؛ إذ
قيل إن جمهور رجال الحكومة الجديدة وشرفاء مكة ووجهاءها يرون وجوب المبايعة
بالخلافة، وإن سيدنا الأمير مخالف لهم في ذلك، ويرى ترك ذلك إلى جماعة
المسلمين في سائر الأقطار، وقد بيّن هذا المعنى بعد ذلك في بعض المنشورات
الهاشمية. ولما كان منزلنا بعيدًا عن مخيم الإمارة، وكان الإخوان يعلمون أن
الأمير لا يسهر كثيرًا - جاؤوني بجواد كريم، فركبته، وأسرعت إلى السرادق
الخاص، فقيل لي: إن سيدنا قد نام، وسألت عن نجله الأمير عبد الله، فقيل إنه قد
نام أيضًا، فعدت أدراجي إلى إخواني، فأخبرتهم بذلك، وانصرفنا إلى مضاجعنا.
بِتُّ ليلتي أفكر في هذه المسألة، ولم يبقَ لي من أعمال النسك ما يشغل قلبي
عنها، وكان رأيي في مسألة الخلافة هو ما قيل لي في هذه الليلة عن رأي الأمير
دون من حوله، وقد أكبرته لذلك، وكان أعجبني من منشوريه الأولين جعْل عداوته
لفئة الاتحاديين المتغلبة لا للشعب التركي ولا للدولة العثمانية أيضًا - وكذلك كانت
الثورة في أول عهدها - وكنت أرى أن مبارزته العداوة للفئة المتغلبة قد يقف بغي
زعمائها على العرب عند حد ما اجترح جمال باشا من الموبقات التي هي شر لدولته،
وكذا لجمعيته، لا خير لهما كما توهم، وأن نفع الحركة الحجازية محصور في
هذه الفائدة المرجوة، وفي إغاثة جيران بيت الله من المجاعة والهَلَكَة المخيفة، وفي
الاحتياط لما يجب إذا سقطت الدولة، وأرى أنه يجب السعي لتحقيق ذلك بدون
ارتكاب إثم يُرْبِي شرُّه على خيره، وكنت أشرت إلى رأيي هذا، وإلى حسن ظني
في الأمير الشريف في مقال المحاورة الذي نُشر في المنار قبل الحج، وقبل العزم
عليه، ذلك ما بت أفكر فيه، ولما أصبحنا أسرع الناس إلى مكان الاحتفال مشرقين،
وتأخرت إلى الضحوة الكبرى، فألفيت سرادق الإمارة غاصًّا بالناس، وكذا
الفجوة التي أمامه، ولو لم يرني بعض مَن يعرفنني هنالك لما تيسر لي اختراق ذلك
الجمع الكثيف، والنفوذ إلى المجلس الهاشمي الشريف، ولكن رآني مَن فرَّج لي
فرجة بين الناس، دخلت منها إلى أن بلغت الحلْقة الكبيرة، وجلست على كرسي
أُخلي لي فيها، وكان الناس من مصريين ومكيين قد شرعوا في إلقاء الخطب
والقصائد في التهاني والأدعية، فرأيت أن ألقي خطبة في بيان الحقيقة التي عرفتها
بالبحث والاختبار، والآراء التي أنتجتها تلك الأفكار، أشير فيها إلى آراء الناس
من الحجازيين والآفاقيين، وكنت قد بلوت أخبارهم، واكتنهت معرفتهم وأفكارهم،
وأذكر ما لديَّ من الرأي في المسألة الحجازية، وما يشترط في ذلك بقدر ما يسعه
المقام، فلما فرغ مَن كان يتكلم قبل مجيئي استأذنت، فأذن لي، فقمت، وقلت -
ما ملخصه كما نُشر في جريدة القبلة -:
وكل ما يوضع فيها بين الأهلَّة هكذا () فهو من قبل جريدة القبلة - كما هو ظاهر
- إلا الآيتين الكريمتين في أولها - فهما من أصل الخطبة.
***
خطبتنا السياسية في منى
أيها المسلمون الكرام، من سكان حرم الله وحجاج بيته الحرام، إنكم تعلمون
أن الإسلام دين سيادة وسلطة، وأن شريعته أُنزلت ليقيم أحكامَها أهلُه؛ لقوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) على التأويل
المشهور للآية، وتعلمون أن الله تعالى قد جعل هذا الدين عربيًّا؛ إذ أنزل القرآن -
الذي هو أصله وأساسه - باللغة العربية على لسان النبي الأمي العربي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم.
وقد بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} (الرعد:
37) ، فهذه الآية أخص من الآيات الناطقة بإنزال القرآن عربيًّا؛ لأنها مصرحة
بأن حكم هذا الدين عربي، مع العلم بأن كتابه المتعبَّد به عربي، وهذه البلاد
العربية هي مهد هذا الدين، ومهبط وحيه، ومشرق نوره، وكان أهلها هم السابقين
إلى تلقيه، والاهتداء به، ثم تبعهم فيه غيرهم من عرب الحجاز، فسائر هذه
الجزيرة العربية. ثم حمله العرب إلى سائر الأقطار، ونشروه فيها، فامتد في
الجيل الأول منهم، حتى عَمَّ نوره الشرق والغرب، وأروا الأمم بإقامة أحكامه من
العدل والرحمة ما لم يعرفوا، ولم يسمعوا له نظيرًا، كما اعترف بذلك المنصفون
من الإفرنج وغيرهم.
ثم طرأ الضعف على السلطة الإسلامية بتفرُّق الوحدة العربية الكافلة لها،
وتغلغل الأعاجم في الدول الإسلامية التي تعددت بسبب ضعف سلطة الخلافة، فبعد
أن كانت الفتوحات الإسلامية في مد، لا جزر معه - صارت دول الطوائف
الإسلامية بين مد وجزر، وقوة وضعف، حتى وصلت الدولة العثمانية منها إلى
درجة عالية، ومكانة سامية، من القوة الحربية، وسعة الفتح والتغلب، فسُرَّ بها
المسلمون، ورضي بعض حكامهم المستقلين بسيادتها طوعًا واختيارًا، كما دخل
بعضهم تحتها اضطرارًا، وقد كان أمراء مكة العظام أهل بيت سيدنا هذا (وأشار
الخطيب إلى جلالة مولانا الأمير) في مقدمة مَن أيد هذه الدولة، واعترفوا بسلطتها
وسيادتها؛ لأجل جمع كلمة المسلمين بها، وإعلاء شأن الشريعة الإسلامية بنفوذها
(ههنا قال جلالة سيدنا للخطيب: صدقت) .
ثم إن هذه الدولة قد سرى إليها الضعف، ودبَّ إليها الوهن من زهاء ثلاثة
قرون، وإنني أذكر لكم بعض الشواهد على ذلك من تاريخها الرسمي منذ مئة سنة
ونَيِّف:
إن محمد علي باشا - الذي كان واليًا للدولة على مصر -قد زحف على
سورية، ففتحها، ثم على الأناضول، فتوغَّل فيها، ولولا أن الدولة الإنكليزية
أكرهته على الرجوع إلى مصر لاستولى على بلاد الدولة كلها. وكان ذلك على
عهد السلطان محمود الذي كان يعد مصلحًا في الدولة، ومجددًا لها بقضائه على
عسكر الإنكشارية المختل، وإدخاله نظام الجندية الأوروبي في الدولة.
تولى السلطان محمود السلطنة في سنة 1223، وتوفي سنة 1255، فخلفه
السلطان عبد المجيد، الذي صرح في خطابه - عند إعلان (التنظيمات الخيرية)
في كلخانة - بأن الضعف والخلل قد طرأ على الدولة منذ 150 سنة، وأنه لا بد
من تلافي خطر ذلك بالنظام الذي أعلنه بتدبير أساطين الدولة في عهده. ولكن ذلك
النظام لم يُعِدْ إلى الدولة قوتها، ولا أنقذها من الخطر الذي كان يُخشى عليها.
ودليل ذلك أن أركان الدولة قد خلعوا أخاه السلطان عبد العزيز الذي خلفه سنة
1277، وقتلوه، أو ألجأوه إلى بخع نفسه بيده سنة 1293؛ بحجة أن استبداده
كان حائلاً دون إصلاح الدولة، وتجديد شبابها، وولوا بعده السلطان مرادًا، ولم
يلبثوا أن خلعوه في تلك السنة، وولوا بعده السلطان عبد الحميد الذي كان عاهدهم
على العمل بالقانون الأساسي الذي قلدوا فيه الدول الأوروبية؛ ظنًّا منهم بأنهم لا
يعتزون إلا بما اعتزت به من الحكم النيابي.
وأما سيرة السلطان عبد الحميد فهي معروفة عندكم؛ لأن العهد بها قريب،
وقد خلعته جمعية الاتحاد والترقي بقوة جند الدولة، واعتقلته، وتولت الجمعية
السيطرة على الدولة بعده، فماذا كان من أمرها؟ هل كانت خيرًا من أولئك
السلاطين العظام، الذين لم يقدروا أن يصلحوا مُلكهم الذي ورثوه عن آبائهم
وأجدادهم؟ كلا، إن زعماء هذه الجمعية - الذين غلبوا الدولة على أمرها - هم
أوشاب من الملاحدة المارقين، قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بكيد يهود سلانيك،
وشركاؤهم في النمسة، وألمانية أقوى أنصارهم؛ ولذلك نرى أكبر همّهم جمع المال.
فلا هم على دين هذه الدولة؛ فيغاروا عليه، بل هم يقاومونه، ويهدمونه، ولا
هم من أصل راسخ فيها؛ فيكونوا أحرص على حياتها من أبناء سلاطينها
وأساطينها.
وإذا نظرنا إلى أعمالهم دون عقيدتهم وآرائهم نرى أنهم قد فعلوا في الدولة من
الإفساد والتخريب ما لم يفعله غيرهم فيها، منذ أصيبت بالضعف إلى أن أصيبت
بهم.
ثبت أنهم أخذوا من مال الدولة لنظارة الحربية خمسين مليون جنيه؛ ليجددوا
قوتها العسكرية، ثم رأينا دولة البلغار - التي كانت ولاية من ولايات الدولة ولم يتم
لها الاستقلال إلا في عهدهم - قد كسرت جيوش الدولة، وكادت مدافعها في شطلجه
تمزق مسامع أهل الآستانة. وكان السبب الحسي لذلك قلة ما عند الجيش العثماني
من المؤنة والذخيرة والدواب وسائر أسباب الحرب.
وقد خسرت الدولة في عهدهم المشؤوم من الممالك ما لم تخسر مثله في عدة
أجيال: خسرت البوسنة والهرسك ببيع الجمعية إياهما للنمسة، وطرابلس الغرب
وبرقة ببيعها إياهما لإيطالية، ومكدونية وألبانية وكريت وجزائر الأرخبيل،
ونسكت عما خسرته في هذه الحرب من الولايات، فقد أضاعوا نصف الدولة في
بضع سنين، وحمَّلوها فيها من أثقال الديون ما لم تحمل مثله قبلهم في بضعة قرون.
ثم عمدوا إلى الأمة، فأفقروها كما أفقروا الدولة. فهذا هو الإصلاح الذي خلعوا
- لأجل القيام به - سلطان الدولة وخليفتها عبد الحميد، وحجروا على خَلَفه من
بعده.
فيا أيها المسلمون المبصرون! ، إذا كان قد ثبت من تاريخ الدولة الرسمي بما
ذكرته لكم من شواهده، أنها كانت ضعيفة يُخشى عليها الزوال قبل هذه الأرزاء
والمصائب التي منيت بها - بشؤم هذه الجمعية، فكيف يكون حالها الآن،
وقد اصطلت بنار هذه الحرب، وتعرضت لعداوة أكبر دول الأرض؟ !
إن سواد المسلمين الأعظم يغارون على هذه الدولة، ويتمنون لها دوام
الاستقلال، وكمال القوة؛ للسبب الذي بيناه في فاتحة الكلام، ولكن يقل في
المسلمين مَن يعرف حقيقة حالها، وكُنه الخطر الحائق بها. ويقل فيمن يعرف ذلك
مَن يسعى لتدارك ما يترتب على هذا الخطر إذا وقع من فقد الإسلام لما بقي من
أحكام شريعته، وحرمان المسلمين من آخر ما كان لهم من الاستقلال السياسي على
عِلاَّته.
لم نَرَ أحدًا من زعماء المسلمين وكبرائهم قدر الحال الخطرة التي وصل إليها
الإسلام قدرها، وانبرى لتداركها إلا هذا الرجل العظيم - أمير مكة وشريفها - فإنه
(؟) ، أي أن الدولة - وهو من أعلم أهلها بحالها - قد أمست على شفا جُرُف،
وأن ملاحدة الاتحاديين قد اتخذوا الأحكام العرفية والقوة العسكرية ذريعة للتنكيل
بالأمة العربية بتقتيل رجال الفكر والعمل ومصادرة أموال أهل الثروة منها؛ حتى
لا يبقى فيها رجاء في عامل ولا في عمل، فانتدب لتدارك الخطب ومصارعة
الخطر بنفسه الكريمة وأنفس أنجاله النجباء، ولو استطاع أن ينقذ الدولة نفسها من
الخطر لفعل، ولو بذل في ذلك دمه ودم هؤلاء الأنجال الكرام (هنا قال الأمير -
حفظه الله تعالى - للخطيب: صدقت) .
لكن العمل - لإنقاذ الدولة نفسها من الخطر - قد أصبح فوق طاقته وطاقة
غيره ( ... : صدقت) ، فرأى أن يبدأ بالمستطاع، وهو إنقاذ الحجاز - مهد
الإسلام ومشرق نوره - مما نزل به من البلاء والشقاء، ثم إنقاذ غيره مما يمكن
إنقاذه من البلاد العربية؛ ليكون ذلك بيئة الحفظ الاستقلال الإسلامي، وعدم زواله
بما يُخشى ويُتوقع أن يحل بالدولة العثمانية والعياذ بالله تعالى ( ... : صدقت) .
لا يخفى على ذِي بصيرة أن الاتحاديين ما حشروا الألوف من جيوشهم في
الحجاز إلا بنية سيئة؛ لأنهم يعلمون - كما نعلم - أن أعداءهم الحلفاء لا يحاولون
الاستيلاء على الحجاز، ولا يحاربون أهله، فكان من المعقول أن يرسلوا تلك
الجيوش إلى قتال أعدائهم الروس، وإنقاذ ما فتحوه من الولايات التركية، ولكن
التنكيل بالعرب أهم عندهم من دفع الروس عن عقر دارهم. ولو تم لهم ما أرادوا
لرأينا من فظائعهم في الحجاز ما هو أشد من فظائعهم في الشام ( ... : صدقت) .
نعم، إن الحلفاء لا يحاربون الحجاز، ولكن وجود الجيوش الاتحادية فيه
ألجأهم إلى ضرب الحصر البحري على ثغوره؛ فضاقت المعيشة على أهله، حتى
باعوا حُليهم وأثاثهم وأبواب بيوتهم وخشب سقفها، ولو طال عليهم أمد ذلك سنة
أخرى لأكلتهم المجاعة، وما يتبعها عادة من الأوبئة ( ... : صدقت) .
أعلن سيدنا هذا استقلال العرب في الحجاز - والحاجة قد اشتدت إليه حتى
وصلت إلى حد الضرورة - وما كان ليوجد في الأمة العربية ولا الأمة الإسلامية
كلها مَن آتاه الله من البصيرة والشجاعة والثقة بالله والتوكل عليه ما ينهض به للقيام
بهذا العبء العظيم، ولولا ثقته بالله وتوكله عليه لما تجرأ على ذلك؛ لأننا كلنا نعلم
أنه لا يوجد في الحجاز قوة عسكرية ولا ثروة مالية يُعتمد عليها في مثل هذا العمل
(تصديق ... ) .
كلنا نعلم أنه لا يوجد في الدنيا كلها مكان يصلح لتأسيس دولة إسلامية تخلف
الدولة العثمانية إذا وقع بها ما نخشاه عليها إلا جزيرة العرب، وما يتصل بها من
البلاد العربية؛ لما خص الله تعالى به هذه البقعة وأهلها من الخصائص، ولا يعقل
أن يحفظ استقلال الإسلام في مثل بلاد الأفغان؛ إن هو زال من مهده وموطن نشأته
ومحل إقامة شعائره. انفردت هذه البقاع الطاهرة المقدسة بأنها أجدر بقاع العالم
الإسلامي لإقامة استقلاله. وكذلك انفرد سيدها وأميرها في هذا العصر بالنهوض
بما يجب من العمل والاستعداد لتجديد هذا الاستقلال. فكان له بعمله أكبر مِنَّة في
أعناق أهل هذه البلاد، وفي أعناق جميع المسلمين الذين يشعرون بأن أمر هذا
الاستقلال هو أهم المصالح العامة الدينية والاجتماعية. ولكن منهم مَن فقد هذا
الشعور!
أيها الحجازيون، مَن يكفر منكم لهذا الرجل المصلح المنقذ هذه النعمة فهو
أكفر الناس للنعم. أيها المسلمون، يجب أن تعلموا أن هذا العمل أعظم خدمة
للإسلام في هذا الزمن؛ فإن الدولة العثمانية إن سَلِمت من السقوط وحُفظ استقلالها
لم يكن استقلال العرب في الحجاز وغيره مانعًا من ذلك، ولا من تعاضد العرب
والترك مع حفظ حقوق كل منهم. وإن سقطت وفقدت استقلالها لم يكن هذا
الاستقلال هو السبب فيه، ولكنه يكون سببًا لحفظ استقلال الحكم الإسلامي في
أشرف بقاع الإسلام، بل لا يغيب عن أذهانكم أنه لولا إعلان هذا الاستقلال لترتب
على سقوط الدولة العثمانية وقوع حرم الله تعالى وحرم رسول الله صلى الله عليه
وسلم غنيمة في أيدي الدول الفاتحة. فإن تركوهما بعد ذلك لنا كان لهم منَّة التصدُّق
بهما علينا. وإلا كانا تحت سيادتهم والعياذ بالله تعالى. وبهذا يتبين لكم أن هذا
العمل العظيم - الذي قام به هذا الزعيم العظيم - قد أنقذ الحرمين الشريفين، وما
حولهما من هذا الخطر الجسيم. ووضع أقوى أساس لحفظ الاستقلال الإسلامي
بإنشاء دولة جديدة له، فله بهذا أكبر منَّة على جميع المسلمين. وما أقول هذا تملقًا
له ولا مدحًا شعريًّا، وإنما هو الحقيقة البيضاء الناصعة، بيَّنتها لكم بالإيجاز الذي
يحتمله المقام والسلام. اهـ الخطبة.
قالت جريدة القبلة - مقفية على هذه الخطبة -: وبعد أن جلس (أي
الخطيب) أثنى عليه جلالة سيدنا - أيَّده الله بروح من عنده - وقال للناس إنه لم
يَرَهُ إلا منذ أيام قليلة، ونزيد عليها أنه قد صرح بأنني عبرت في المسألة عن
فكره ورأيه، ولم يسبق له مكاشفتي به، وأنه لم يرني إلا منذ أيام قليلة، وهو
صادق فيما قال، وأنني ما كنت أرجو أن يرضيه خطابي إلا من باب حسن الظن
فيه، الذي استنبطته مما كنت أعلم من سوء نية جمال باشا وأعوانه، ومن منشورَيْه
الدالين على قيامه بما قام به في الحجاز لأجل الداعية التي وصلت إلى حد الاضطرار،
وإنها ضرورة تُقدَّر بقدرها، وهذا هو الحكم الشرعي في مثلها، وقد جعلتها مقدمة
للسعي إلى ذلك.
وأقول: إن وقْع الخطبة قد كان حسنًا في سمع الجمهور، وكانت موضع حديث
الناس وثنائهم، حدثني بذلك الكثيرون في منى، ثم في مكة، وقد علمت أنها
جمعت بين إرضاء الفريقين المتعارضين في الرأي: فريق المتشائمين من ثورة
الحجاز، الخائفين أن تكون سببًا لضعف الدولة العثمانية، على حين لا استعداد
لإنشاء دولة إسلامية تحل محلها، وفريق المتفائلين الذين يرجون أن تكون مبدأ
دولة عربية مستقلة، تحيا بها حضارة العرب الزاهية الزاهرة، حتى أن أصحاب
فكرة المبايعة كانوا يرجون - عند سماع الخطبة - أن تكون مقدمة للمبايعة.
زارني بعد نزولنا من منى إلى مكة الشيخ عبد الملك الخطيب أحد أدباء مكة
المقربين من الحضرة الهاشمية - وقد تقدم ذكره في هذه الرحلة - فكان جُل حديثه
الثناء على الخطبة، وقال: إنني كنت في الحضرة الهاشمية أذكر محاسنها، وأنوه
بها، وإن سيدنا وافقني على ذلك، وساهمني فيه، ثم ذكر أنه كان ينقصها شيء
واحد، قلت: بل ينقصها عندي أشياء، ولكن الوقت لم يكن يتسع لأكثر مما قيل،
قال: لم أعنِ أن في الخطبة نفسها نقصًا، بل هي كاملة، وإنما كان ينقصها أن
تكون مقدمة للمبايعة، فلو أنك بعد إتمامها مددت يدك، وبايعت سيدنا لاتبعك الناس،
وكان أمرًا مفعولاً، قلت: إن هذا ليس من رأيي، ولا من حقي، وما يؤمنني أن
يقال لي ما قيل لذلك الشاعر، الذي قال:
وخذا النوم من عيوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
فقيل له: خلعتَ ما لا تملك مَن لا يقبل؟ ! وبهذا حولت المباحثة السياسية
إلى مفاكهة أدبية.
هذا، وإنني قد تشرفت بعد ذلك بحديث مع الحضرة الهاشمية في موضوع
الخطبة، فكان مما قال الأمير: إن المسألة الجوهرية في الخطبة هي أن الدولة
العثمانية على خطر، وأنا موافق لك على هذا الرأي من قبل الحركة، ولكن أكثر
الناس أو المسلمين لا يعقلون ذلك. وقد عرضت عليه في هذه الجلسة شيئًا من
خلاصة رأيي في المسألة العربية، وما يجب اتخاذه من الاحتياط في مسألة الدولة،
على الوجه الذي أشرت إليه في خاتمة الخطبة، فأظهر لي الاستحسان، وأحال
على الزمان، وقراء المنار يعرفون رأيي مما بسطته في المقالة التاريخية (المسألة
العربية) ، التي نشرتها في الجزء الأول من المجلد العشرين، ومنه أن الثورة
الحجازية قد أدت وظيفتها، وأفادت ما رجوناه منها. فأنقذ الحجاز، وأوقفت بغي
البغاة، وأحمد الله أنني كنت أسعى إلى تنفيذ هذه المقاصد على تلك القواعد، وأنني
الآن معتزل لأعمال السياسة وأهلها، منتظر حكم العزيز الحكيم في أمر أمتي
والشعوب كلها.
__________(20/278)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة الشيخ سليم البشري
بقي مما ينبغي أن يُذكر في ترجمته، ما انفرد به دون أمثاله من شيوخ الأزهر
كإنكاره كتابةً على الدولة العثمانية الفتك بالأرمن في أطنة، وكرئاسته لاحتفال اللجنة
السورية التي عُقدت في دار التمثيل الأميرية لإعانة طلبة العلم السوريين في الأزهر،
تلك اللجنة التي قال - في حمدها بحق -: إنها مسيحية، ليس فيها إلا مسلم واحد
تسعى لإعانة مسلمين ليس فيهم نصراني واحد! وغير ذلك من الأمور المدنية
العصرية، ولم يتيسر لنا جمع ما كتب في ذلك بوقته من الجرائد، ولم يذكره أحد
في ترجمته.
_______________________(20/288)
جمادى الآخرة - 1336هـ
أبريل - 1918م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
التمثيل العربي
اشتغال المرأة المسلمة به وتمثيل قصص الأنبياء
(س10) من صاحب الإمضاء بمصر
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا
جمعتني النوادي بطائفة من المتعلمين الذين قلما يخلو مجلسهم من البحث
وبأية مناسبة دار بيننا ذكر التمثيل العربي وبسطنا على بساط بحثنا:
(1) المرأة المسلمة والتمثيل، (2) تمثيل روايات الأنبياء عليهم السلام
عمومًا وخاتمهم خصوصًا، فقرَّ رأي فريق منا على جواز ذلك كله؛ إذ لا
تتم أدوار التمثيل وفصوله إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور
المرأة المسلمة على مراسح التمثيل. وأي مانع يمنع تمثيل روايات
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عمومًا وخاتمهم خصوصًا، وهو لم يخرج عن كونه
درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل مَن
يصادفه أو يجد له أثرًا، ومنع فريق آخر كل ذلك، وعدَّه نوعًا من التقليد الإفرنجي،
الذي يستحوذ على بعض البسطاء، فيعدونه مفتاح تمدن الأمة، في حين أنه شر
عليها وعلى أخلاقها الذاتية. فهذا ما كان من الفريقين، أما أنا - كاتب هذه السطور-
فقد أعلنت الحيدة حتى أسترشد برشدكم، أو أستنير بفُتيا مناركم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه محمد محمد سعفان
... ... ... ... ... ... ... طالب بمدرسة القضاء الشرعي
(ج) قلت: هدانا الله وإياك محجة الصواب في الحكم، وعصمنا
أن نقْفو ما ليس لنا به علم -إن بعض الأندية جمعك بطائفة من المتعلمين البحَّاثين،
وإنهم ذكروا (التمثيل العربي) فاختلفوا في جواز اشتغال المرأة المسلمة به،
وفي جواز تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة وخاتمهم خاصة، فقالت
طائفة منهم بجواز الأمرين، وعللوا الأول (بأن أدوار التمثيل وفصوله لا تتم إلا
بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مراسح التمثيل) وعللوا
الثاني بأنه (درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير
الوعاظ، وقل من يصادفه أو يجد له أثرًا) وقالت طائفة أخرى بمنع الأمرين
وعدّوه من التقليد الإفرنجي الضار، الذي يغتر به الأغرار، وقلت إنك وقفت حتى
تستفتي المنار، فهاك ما أفهمه في المسألتين بالاختصار:
لم يأتِ فريق المجيزين بشيء من العلم، يدل على ما جزموا به من الحكم،
فإن سلمنا لهم أن التمثيل لا يتم إلا بالمرأة - لا نسلم لهم أن جوازه يستلزم جواز
اشتغال المرأة المسلمة به، بل نسألهم ماذا يعنون بهذا التمام؟ وهل يعتد به شرعًا؟
ولماذا لا يُستغنى فيه بالمرأة غير المسلمة التي تستبيح من أعماله ما لا يباح
للمسلمة؟ وبأي حجة جعلوا القول بجواز التمثيل الذي ينقصه وجود المرأة المسلمة
أصلاً بنوا عليه القول بجواز اشتغالها بالتمثيل؟ وهل يعدوا التمثيل المطلق أن يكون
مباحًا أو مستحبًّا بشرط خلوِّه من فعل الحرام وذرائع الفساد، واشتماله على الوعظ
النافع والإرشاد؟ أَوَليس الصواب أن يقال - والأمر كذلك - إن التمثيل الذي
يتوقف على قيام المرأة المسلمة ببعض أعماله على الوجه المعروف في دور
التمثيل بمصر غير جائز؛ لأن ما توقف على غير الجائز فهو غير جائز، أو لأن
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟
إن اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل المعروف يشتمل على منكرات محرمة،
(منها) : ظهورها على أعين الرجال متبرجة كاشفة ما لا يحل كشفه لهم من
أعضائها كالرأس والنحر وأعالي الصدر والذراعين والعضدين، وتحريم هذا
مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا حاجة إلى ذكر النصوص
فيه. (ومنها) الاشتراك مع الرجال الممثلين في أعمال تكثر في التمثيل -
وإن لم تكن من لوازمه في كل قصة - كالمعانقة والمخاصرة والملامسة
بغير حائل. (ومنها) غير ذلك من المنكرات التي تشتمل عليها بعض
القصص دون بعض كالتشبه بالرجال، وتمثيل وقائع العشق والغرام
المحرم بما فيه من الأعمال المحرمة لذاتها، أو لكونها ذريعة إلى المحرم لذاته،
ولا أنكر أنه يمكن للكاتب العالم بأحكام الشرع وآدابه أن يكتب قصة تمثيلية
يودع بعض فصولها أعمالاً شريفة وأقوالاً نافعة إذا مثَّلتها امرأة مسلمة
تبرز في دار التمثيل غير متبرجة بزينة، ولا مبدية لشيء مما حرم الله
إبداءه من بدنها، ولا آتية بشيء من أعمال الفساد ولا من ذرائعه؛ فإن تمثيلها
يكون بهذه الشروط مباحًا أو مستحبًا. مثال ذلك أن تؤلف قصة في الترغيب
في الحرب للدفاع عن الحقيقة وحماية البلاد عند وجوبها باعتداء الأعداء عليها،
ويذكر فيها ما رُوي عن الخنساء رضي الله عنها في حثّ أبنائها على القتال بالنظم
والنثر. فمَن ذا الذي يتجرأ على القول بتحريم ظهور امرأة تمثل الخنساء في
مثل تلك الحال، التي هي مثال الفضيلة والكمال؟ ! ولكن إمكان وضع مثل هذه
القصة - وهو من الممكنات التي لم تقع - لا يُبنى عليه القول بإطلاق جواز ما هو
واقع من التمثيل المشتمل على ما ذكرنا، وما لم نذكر من المنكرات المحرمة
والمكروهة شرعًا.
وأما تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد عللوه بأنه
درس وعظ مؤثر، يعنون أن كل ما كان كذلك فهو جائز، وهذه الكلية
المطوية ممنوعة، وتلك المقدمة الصريحة غير متعينة؛ فإن هذه
القصص قد توضع وضعًا منفرًا، فلا تكون وعظًا مؤثرًا، وإن من
الوعظ المؤثر في النفوس ما يكون كله أو بعضه باطلاً، وكذبًا وبدعًا،
أو مشتملاً على مفسدة أو ذريعة إليها، ويُشترط في جواز الوعظ أن
يكون حقًّا لا مفسدة فيه، ولا ذريعة إلى مفسدة. وبناءً على هذا الأصل
ننظر في هذه المسألة من وجوه:
(أحدها) أن العُرف الإسلامي العام يعد تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
إهانة لهم، أو مزريًا بقدرهم، ومما أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض
النصارى كانوا أرادوا أن يمثلوا قصة يوسف عليه السلام في بعض المدن
السورية، فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورُفع الأمر إلى
الآستانة فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل تلك القصة وأمثالها، فإن
قيل: إن بعض مسلمي مصر - كأولئك المتعلمين القائلين بالجواز - لا
يعدون ذلك إهانة ولا إزراءً؛ إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الانبياء أو
الإزراء بهم أقل ما يقال فيه: إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفرًا
صريحًا وردَّة عن الإسلام، نقول: إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي
تربَّى على آداب الإسلام وأحكامه، لا بالأفراد القلائل ومَن غلبت عليهم التقاليد
الإفرنجية حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية، كذلك القاضي الأهلي
الذي حكم ببراءة أستاذ مدرسة أميرية غازل امرأة محصنة وتصبَّاها، وكاشفها
بافتتانه بجمالها، حتى هجره الرُّقاد، وواصله السهاد، فشكت المحصنة هذه
الوقاحة إلى زوجها، فرفع الزوج الأمر إلى قاضي العقوبات طالبًا تعزير ذلك
العادي المفتات، فكان رأي القاضي أن مغازلة المحصنات الحسان
وتصبيهن، يحتمل ذلك الكلام الذي يفسدهن على أزواجهن، ولا يقتضي
سجنًا ولا غرامة، ولا تأنيبًا ولا مَلامةً؛ لأنه إظهار لحب الحسن والجمال، وهو
من ترقّي الذوق وآيات الكمال، ولكن ما رآه هذا القاضي المتفرنج حُسنًا وكمالاً
رآه السواد الأعظم من المسلمين نقصًا قبيحًا، وأنكروه عليه في الجرائد، حتى
منعتها مراقبة المطبوعات من التمادي في الإنكار، واستأنف الزوج الحكم، فنقضه
الاستئناف، وحكم بأن كلام ذلك الأستاذ جريمة منافية للآداب، ولو حاول بعض
أجواق التمثيل تمثيل قصة أحد الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام - لرأوا من
إنكار العلماء والجرائد ما لا يخطر ببال أولئك الأفراد الذي يرون جوازه، ولو وقع
مثل ذلك في بلد لم تذلل أهله سيطرة الحكام لما كان مثارًا للفتنة، ولتصدي الناس
لصد الممثلين بالقوة، بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء
والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يُزري بمقامهم، ويضع من قدرهم،
وأن أحدًا من هؤلاء الكبراء لا يرضَى لنفسه ذلك.
(الوجه الثاني) أن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة،
وأرقاهم في الصناعة لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور
أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراءً بهم على إطلاقه، أفلا يعدون
من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم أن يسمى (السي فلان)
أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله أو عيسى روح
الله أو محمدًا خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله ما
قولك في كذا، فيقول: كذا …، ولا يبعد - بعد ذلك - أن يخاطبه بعض
الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية، أو من باب
التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثمًا، فيقول له: مدد يا
رسول الله! ألا إن إباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدي إلى مثل
هذا، وكفى به مانعًا لو لم يكن ثَمَّ غيره.
(الوجه الثالث) تمثيل الرسول في حالة أو هيئة تزري بمقامه ولو
في أنفس العوام، وذلك محظور وإن كان تمثيلاً لشيء وقع. مثال ذلك
أن يمثل بعض هؤلاء الممثلين المعروفين يوسف الصديق عليه السلام بهيئة بدوي
مملوك تراوده سيدته عن نفسه، وتقدّ قميصه من دبر، ثم يمثله مسجونًا مع
المجرمين. ويتجلى النظر في هذا الوجه ببيان مسألة من أعظم المسائل التي يغفل
عنها أمثال أولئك الباحثين الذين ذكرهم المستفتي، وهي أن الرسل عليهم الصلاة
والسلام بشر ميَّزهم الله تعالى بما خصَّهم به من الوحي، وهداية الخلق إلى الحق،
وقد كانت بشريتهم حجابًا على أعين الكافرين حال دون إدراك خصوصيتهم،
فأنكروا أن يكون الرسول بشرًا مثلهم، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق.
وروي عن المسيح عليه السلام أن النبي لا يُهان إلا في وطنه وقومه، وقال
بعض العلماء في هذا المعنى: أزهد الناس في الولي أهله وجيرانه. أي لأنهم قلما
يرون منه إلا ما هو مشارك لهم فيه من الصفات والعادات، وأما ما يمتاز به من دقائق
الورع والتقوى والمعرفة بالله تعالى، فمنه ما هو سلبي لا يفطنون له، ومنه ما هو
خفي لا يدركونه؛ ولذلك احتِيجَ في إيمان أكثر الناس بالرسل قبل الارتقاء العقلي إلى
الآيات الكونية، وبعده إلى الآيات العلمية (كالقرآن الحكيم من الأمي) ، والذين
يؤمنون بالرسل من بعدهم يسمعون من أخبار آياتهم وخصائصهم وفضائلهم أكثر مما
يسمعون من أخبار عاداتهم وصفاتهم البشرية؛ وبذلك يكون تعظيمهم وإجلالهم لهم غير مشوب بما يضعف الإيمان بهم من تصور شؤونهم البشرية.
على أن الواجب أن يعرفوا منها ما يحُول دون الغلو في التعظيم
والإطراء الذي يرفع به الغلاة الأنبياء إلى مقام الربوبية والإلهية والتفريط
في ذلك كالإفراط، فتمثيل أحوال الأنبياء وشؤونهم البشرية بصفة تعد
زراية عليهم وإزدراء بهم، أو مفضية إلى ضعف الإيمان والإخلال
بالتعظيم المشروع - مفسدة من المفاسد التي يحظرها الشرع، فكيف إذا
أضيف إليها كوْن التمثيل في حد ذاته يعد في العرف العام تنقيصًا أو
إخلالاً ما بما يجب من التكريم، وكوْن الممثلين من عوام الناس، وقد
علمت ما في هذا وذاك.
(الوجه الرابع) أن من خصائص القصص التمثيلية الكذب، وأن
الكذب على الأنبياء ليس كالكذب على غيرهم، فإذا جاز أن يسند إلى
أسماء لا مسميات لها كلام تُقصد به العظة والفائدة، كما يحكون مثل ذلك
عن ألسنة الطير والوحش، وهو ما احتج به الحريري في فاتحة مقاماته
على جواز وضعه لها، وإذا صح أن يقاس على ذلك إسناد مثل ذلك الكلام إلى
أناس معروفين من الملوك وغيرهم فيما لا ضرر فيه، ولا إفساد في التاريخ،
ولا غيره من الحقائق - إذا جاز ما ذُكر، وصح القياس فلا يظهر جواز مثله في
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، على أن في المسألة نصًا خاصًا لا محل
للقياس مع مورده، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كذبًا عليَّ ليس ككذب
على أحد، فمَن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار) رواه الشيخان في
الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن زيد، ورُوي عجُزه - وهو: مَن
كذب عليَّ ... إلخ - متواترًا، وروى أحمد من حديث عمر مرفوعًا: (من كذب
عليَّ فهو في النار) وهو مطلق لم يقيد بالتعمد، وإسناده صحيح. وقياس الكذب
على غيره من إخوانه الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام - جلي، فهو
أقرب من قياس الكذب على الرسل على الكذب على العجماوات، الذي
احتج به الحريري، وأشار إلى اتفاق العلماء على جوازه. والكذب عليهم
يشمل ما يُحكى عنهم من أقوال لم يقولوها، وما يُسند إليهم من أعمال
لم يعملوها.
فإن قيل: إنه يمكن وضع قصة لبعض الرسل يلتزم فيها الصدق في كل ما
يُحكى عنه، أو يسند إليه - قلنا: إن النقل الذي يعتد به عند المسلمين هو نقل
الكتاب والسنة، ولا يوجد قصة من قصص الأنبياء في القرآن يمكن فيها ذلك إلا
قصة يوسف، وكذا قصة موسى وقصة سليمان مع ملكة سبأ، إذا جعل التطويل فيهن
في غير الحكاية عنهم. والأولى هي التي يرغب فيها الممثلون.ويرجى أن يقبل على
حضور تمثيلها الكثيرون، وفيها من النظر الخاص ما بيناه في الوجه الثالث. وأما
السنة فليس في أخبارها المرفوعة ولا الموقوفة ما يبلغ أن يكون قصة تصلح للتمثيل
إلا وقائع السيرة المحمدية الشريفة، والعلماء بها لا يكاد أحد منهم يقدم على جمع
طائفة منها، وجعْلها قصة تمثيلية.
وإذا فُتح هذا الباب، ووجد منهم مَن يدخله على سبيل الندور لا يلبث أن
يسبقه إليه كثير من الجاهلين بالسنة، المتقنين لوضع هذه القصص بالأسلوب الذي
يرغب فيه الجمهور، فيضعون من قصص الأنبياء - المشتملة على الكذب - ما
يكون أروج عند طلاب الكسب بالتمثيل، فيكون وضع الصحيح ذريعة إلى هذه
المفسدة.
فعُلم من هذه الوجوه أن جواز تمثيل قصة رسول من رسل الله
عليهم السلام يتوقف على اجتناب جميع ما ذُكر من المفاسد وذرائعها، بحيث يرى
مَن يعتد بمعرفتهم وعُرفهم من المسلمين أنه لا يعد إزراءً بهم، ولا منافيًا
لما يجب من تعظيم قدرهم، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى مَن اهتدى بهم.
__________(20/310)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(8)
أيام منى ولياليها وأقوال الشعراء فيها
نصوص الشرع في أيام منى:
قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) .
أجمع العلماء على أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى التي تسمى
أيام التشريق. قيل: إن سبب تسميتها بذلك أنهم يشرّقون فيها لحوم الأضاحي؛ أي:
يقددونها ويبرزونها للشمس. وقيل: لأن الهدايا والضحايا لم تكن تنحر فيها إلا بعد
شروق الشمس، وقيل: هو مأخوذ من قول الجاهلية: أشرق ثبير، كيما نُغير.
أي ادخلْ يا ثبير في الشروق؛ لكي نسرع في الدفع إلى منى للنحر، ذلك بأنهم
كانوا لا يفيضون من المزدلفة إلا بعد شروق الشمس ووقوعها على جبل ثيبر أعظم
تلك الجبال، فأُمرنا بمخالفتهم بالإفاضة قبل الشروق. وقيل: لأنها أيام تشريق
لصلاة يوم النحر، فصارت تبعًا له، وأطلقوا التشريق على صلاة العيد، وسموا
مصلى العيد مشرّقًا. والجمهور على أن هذه الأيام هي الثلاثة التي تلي يوم عيد
النحر وأدخله بعضهم فيها، ولكن تخيير المتقي بين التعجيل في يومين أو التأخر
إنما هو في أيام منى الثلاثة التي بعد يوم العيد.
ووصفت أيام منى الثلاثة أو الأربعة بالمعلومات في قوله عز وجل في
الحجاج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم
مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 28) وتطلق الأيام
المعلومات على أيام عشر ذي الحجة الأوائل أو التسع التي آخرها يوم عرفة.
روى أحمد ومسلم والنسائي عن أبي نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل) ، وفي
رواية ضعيفة عند غيرهم زيادة: (وبعال) بعد شرب. والبعال والمُباعلة:
الملاعبة بين البعلين (الزوجين) ، ومعناها صحيح؛ فإنه يحل في أيام منى كل ما
كان محرمًا بالإحرام حتى التغشِّي، وإنما يحل بعد طواف الإفاضة الذي تتم به
أركان النسك كلها. والمراد بالأكل: الأكل من لحوم الأضاحي المطلوب بقوله
تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} (البقرة: 58) وغيرها من الطيبات؛ فإن هذه الأيام أيام
عيد وسرور، شُرع فيها الجمع بين التمتع باللذات المباحة، حتى اللهو بالحراب
وسماع الغناء، وبين ذكر الله تعالى وشكره على إنعامه بها وبالتوفيق لإقامة النسك.
وشعار هذه الأيام من الذكر التكبير ويستحب رفع الصوت به والاشتراك فيه
عقب الصلوات وفي عامة الأوقات والأمكنة؛ فقد روى سعيد بن منصور وأبو
عبيد (أن عمر رضي الله عنه كان يكبر في قبّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد
فيكبرون ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرًا) وذكره البخاري في
الصحيح تعليقًا.
وأصح ما ورد في صيغته ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان،
قال: (كبروا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) وروي عن الصحابة والتابعين
التكبير ثلاثًا ومرتين وزيادة التهليل. والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يأمر الناس بصيغة مخصوصة في التكبير والذكر في العيدين وأيام منى، كما أنه لم
يأمرهم بأذكار وأدعية معينة في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ليأتي كل فرد أو
جماعة بما شاؤوا، فلا بأس إذًا بما استحدث الناس من الذكر وصيغ التكبير مما لم
يرد عن السلف، وإن أشار بعض العلماء إلى استنكاره لذلك كأنه يراه من البدع
باستحداث صفة لعبادة تعد من الشعائر، وهو ما سماه بعضهم بالبدعة الإضافية.
وإنما يتجه هذا إذا التزموه جهرًا بغير زيادة ولا نقصان، ويتأكد إنكاره إذا صار
بحيث تظن العامة أنه واجب أو مندوب بهذا الوصف. وقد ذكر الإمام الشافعي في
الأم أن التكبير المشروع في العيدين هو كلمة (الله أكبر) ، وأن التثليث في بدئه
مستحب وأن لكل أحد أن يزيد من الذكر ما شاء.
وكذلك التكبير والدعاء والتضرع عند رمي الجمار، يرمي كل جمرة بسبع
حصيات مكبرًا مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والوسطى فيطيل القيام، يدعو
ويتضرع ولا يطيل عند جمرة العقبة. هكذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم
وروي تقدير قيامه صلى الله عليه وسلم عند الجمرتين بقدر سورة البقرة.
وكانت ذبائح النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة من الإبل، جاء
بثلاث وستين منها معه من المدينة وجاء علي كرم الله وجهه بالباقي من اليمن، وقد
نحر النبي صلى الله عليه وسلم 63 بيده الكريمة فكانت إشارة إلى سِنِي حياته
الشريفة، وأمر عليًّا فنحر الباقي. وأمر صلى الله عليه وسلم بأخذ بَضعة (بفتح
الباء: قطعة) من كل بدنة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكل هو وعلي منها،
وشَرِبَا من مرقها.
كلمة تاريخية أدبية في أيام منى:
سمعنا من الشريف في منى كلمة جديرة بالحفظ والتدوين، قال: كانت أيام
منى أول الإسلام من أطيب أيام الحياة - أي لما تقدم بيانه من الجمع بين اللذات
الروحية والبدنية والاجتماعية - فلما قربت المواصلات بين الأقطار الإسلامية
البعيدة صار ينتقل الوباء إلى الحجاز مع الحجاج الموبوئين، فيكون أشد فتكه عند
اجتماع الناس في منى، فصارت أيام منى أيام غم وكدر، يتعثر الناس فيها بالموتى
في كل مكان، وتعد الحكومة لها الألوف الكثيرة من الأكفان، ونحمد الله أنه لم يمُت
فيها أحد في هذا العام، لا بمرض وبائي ولا بمرض عادي. اهـ بالمعنى.
أقول: من الشواهد المؤيدة لهذه الكلمة التاريخية كثرة ذكر منى في أشعار
المتقدمين الغزلية والتغزُّل بالنساء عند رمي الجمار فيها، وندرة مثل ذلك في
غيرها من المشاعر، وعند غير رمي الجمار من الشعائر؛ ذلك بأن ما تقدم لنا
شرحه من تأثير الإحرام ولباسه في القلب وتأثير رؤية المشاعر العظام والطواف
بها والوقوف فيها أيضًا - كل ذلك مما يصرف الحاج عن كل ما عداه، ولا يدع في
قلبه فراغًا واسعًا لغير ذكر الله، لا ذكر الحسان، ولا ذكر الأهل والولد والإخوان،
فالتجلي الإلهي في جميع المشاعر - أثناء أداء جميع المناسك - تجلِّي هيبة وجلال،
إلا منى؛ فإن التجلي فيها تجلي أُنس وجمال، ولا تنسَ ما ذكرناه آنفًا من تحلل
الحاج فيها من الإحرام، واستباحته ما كان محرمًا من الأعمال، وكونها أيام عيد
يستحب فيها التمتع بالطيبات، وزدْ على ذلك أن لياليها هي الليالي التي يكمل فيها
نور القمر، وأن هواءها اللطيف يحبب إليك السمر.
رفقًا بها أيها الزاجر ... قد لاح سلع وبدا حاجر
وخلها تسحب أرسانها ... على الرُّبا لا راعها ذاعر
واذكر أحاديث ليالي منى ... لا عدم المذكور والذاكر
* * *
لهف نفسي لليالٍ سلفت ... آه لو ترجع هاتيك الليالي
لا تقل لي بمنى تُعْطَى المُنَى ... بمنى كان من القوم انفصالي
* * *
صحبي مَضَوْا فمدامعي ... منهلة في إثر صحبي
ما فَوّق الهجران سهـ ... ـمًا فانثنى عن قصد قلبي
كلا ولا نادى الجوى ... إلا وكنت أنا الملبي
ولقد وقفت على منى ... لولا المنى لقضيت نحبي
وأشعار الشعراء بالتغزل بالنساء في منى ورميهن الجمار كثيرة، من أحسنها
قول الشريف الرضي - وهو من التغزل الخيالي النزيه -:
من معيد لِيَ أيا ... مي بجزع السمُرات [1]
ولياليَّ بجَمْع ... ومِنىً والجمرات [2]
وظباء حاليات ... كظباء عاطلات [3]
رائحات في جلابيـ ... ـب الدجا مخمرات [4]
راميات بالعيون الـ ... ـنجل قبل الحصيات
أَلِعَقْر القلب راحوا ... أم لعقر البدنات [5]
كيف أودعت فؤادي ... أعينًا غير ثقات
أيها القانص ما أحـ ... ـسنت صيد الظبيات
فإنك السِّربُ وما ... زُوِّدت غير الحسرات
يا وقوفًا ما وقفن ... في ظلال السلمات [6]
موقفًا يجمع فتيا ... ن الهوى والفتيات
تشاكى ما عنانا ... بكلام العَبَرات
نظرٌ يشغَل منا ... كل عين بقَذاة [7]
كم نأى بالنفر عنا ... من غزال ومهاة [8]
آه من جيدٍ إلى الدا ... ر كثير اللفتات [9]
وغرامٍ غير ماض ... بلقاء غير آت
فسقى بطن منى والـ ... ـخَيْف صوب الغاديات [10]
وزمانًا نائمَ العذَّ ... ال مأمون الوُشاة
في ليالٍ كاللآلي ... بالغواني مُقمرات
غرست عندي غرسَ الـ ... شوق ممرورَ الجناة [11]
أين راقٍ لغرامي ... وطبيب لشَكاتي [12]
ومن التغزُّل الخيالي في منى وغيرها من معاهد النسك وأعماله ما قاله أبو
محمد عبد الله بن محمد التنوخي في قصيدته التي مدح بها ثقة الدولة يوسف بن
محمد بن الحسين القضاعي صاحب صقلية الروم وهو:
ولما التقينا محرمين وسيرُنا ... بلبيك ربًّا والركائبُ تعسِف [13]
نظرت إليها والمطيُّ كأنما ... غوار بها منها معاطسُ رعَّف [14]
فقالت أما منكنّ مَن يعرف الفتى ... فقد رابني من طول ما يتشوَّف [15]
أراه إذا سرنا يسير حذاءنا ... ونوقف أخفاف المطيّ فيوقف
فقلت لتِربيها ابلغاها بأنني ... بها مستهام قالتا نتلطف [16]
وقولا لها يا أم عمرو أليس ذا ... مِنًى والمُنى في خَيْفه ليس يُخلف [17]
تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا ... بأن عنّ لي منك البنانُ المطرَّف [18]
وفي عرفات ما يخبر أنني ... بعارفة من عطف قلبك أسعف [19]
وأما دماء الهَدي فهي هُدى لنا ... يدوم ورأي في الهوى يتألّف [20]
وتقبيلُ ركنِ البيت إقبالُ دولة ... لنا وزمانٍ بالمودة يعطف
فأوصلتا ما قلته فتبسَّمت ... وقالت أحاديثُ العِيافة زُخرف [21]
بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه بُرْد الكلام المفوّف [22]
فلا تأمنا ما استطعتما كيد نطقه ... وقولا ستدري أينا اليوم أَعْيَف [23]
إذا كنت ترجو في مِنى الفوز بالمُنى ... ففي الخيف من إعراضنا نتخوَّف
وقد أنذر الإحرام أن وصالنا ... حرام وأنَّا عن مزارك نصدف [24]
وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر ... بأن النوى بي عن ديارك تقذف [25]
وحاذر نِفاري ليلة النفر إنه ... سريع، فقل مَن بالعيافة أعرف [26]
فلم أر مثلينا خليلي مودة ... لكل لسان ذو غِرارين مُرهف [27]
ومما قيل في أيام منى ولياليها ما رواه صاحب الأغاني عن معبد المغني الذي
يُضرب به المثل، قال: أتيت أبا السائب المخزومي - وكان يصلي في كل يوم
وليلة ألف ركعة - فلما رآني تجوَّز أي خفف الصلاة، وقال: ما معك من مبكيات
ابن سريح؟ قلت له:
ولهنَّ بالبيت العتيق لُبانة ... والبيت يعرفهن لو يتكلم
لو كان حيَّا قبلهن ظعائنا ... حيا الحطيمُ وجوههن وزمزم
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة ... وهمو على سفر لعمرك ما همو
متجاورين لغير دار إقامة ... لو قد أجدّ تفرّق لم يندموا
فقال لي: غنِّه فغنيته، ثم قام يصلي فأطال، ثم تجوز إليَّ، فقال: ما معك
من مطرباته ومشجياته؟ ، فقلت: قوله:
لسنا نبالي حين ندرك حاجة ... ما بات أو ظل المطي معقلا
فقال لي: غنه فغنيته، ثم صلى وتجوز إلي، وقال: ما معك من مرقصاته؟
فقلت:
فلم أَرَ كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفتنَّ ذا هوى [28]
فقال: كما أنت حتى أثمر لهذا بركعتين.
وأما التغزُّل في نساء معروفات في وقائع ومشاهد كانت هنالك فكثيرة ولزير
النساء الشهير عمر بن أبي ربيعة الشاعر القرشي كثير - منها قوله في أيام منى:
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها ... وموقفي وكلانا ثَم ذو شجن
وقولها للثريا وهي باكية ... والدمع منها على الخدين ذو سَنن [29]
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت تطلب دينًا أو رضيت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن
قال ابن سريج المغني: ما ظننت أن الله عز وجل ينفع أحدًا بشعر عمر بن
أبي ربيعة، حتى سمعت وأنا باليمن منشدًا ينشد قوله: بالله قولي له - البيتين -
فحركني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحجاج وحججت.
وقد كان عمر مفتونًا بالنساء وحديثهن، ولم تكن هيبة بيت الله وسائر
المشاعر الشريفة لتصرفه عن مغازلتهن، حتى في أثناء أداء المناسك؛ لأنه - وهو
مكي - قد ألفها واعتادها والآفاقيون أشد هيبةً وخشوعًا هنالك من الحرميين في
الغالب، ومما رُوي عنه في كتاب الأغاني أنه بينما كان يطوف رأى امرأة من
أجمل النساء، فوقعت في قلبه، فدنا منها، فكلمها، فلم تلتفت إليه، فعاودها في
الليلة الثانية، فقالت: إليك عني يا هذا؛ فإنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة،
فألح عليها يكلمها، حتى خافت أن يشهرها. فلما كان في الليلة الثالثة جاءت
بأخيها معها إلى الطواف، فلما رأى عمر أخاها معها عدل عنها! فتمثَّلت بقول
جرير:
تعدو الذئابُ على مَن لا كلابَ له ... وتتقي صولةَ المستأسدِ الضاري
وروي أن المنصور حدث بهذا الخبر فقال: وددت أنه لم تبق فتاة في خدرها
إلا سمعت بهذا الحديث. أقول: وهو شاهد على حكمة الشرع في حظر السفر على
المرأة إلا مع ذي مَحرم. هذا، وإن شعر عمر يوهم أنه كان من أفسق الفساق،
ولكن روى صاحب الأغاني عنه أنه حلف - في مرض موته -بالله أنه ما ركب
فاحشة قط، ولا كشف ثوبًا عن حرام قط، وحلف مرة بعتق كل مملوك له على
ذلك، وكان له في الحوك وحده سبعون عبدًا.
ومما روي عن غير عمر في هذا الباب تشبيب النميري بزينب الثقفية. ذلك
أن يوسف بن الحكم الثقفي والد الحجاج المشهور كان قد اعتل في بلده (الطائف) ،
فنذرت بنته زينب لتحجنَّ ماشية إن عُوفي، فعوفي، فخرجت في نسوة، فقطعن
بطن وَجّ (أي بطن وادي وج) ، وهو ثلاث مائة ذراع في يوم جعلته مرحلة لثقل
بدنها، ولم تقطع ما بين مكة والطائف إلا في شهر، وكان محمد بن عبد الله
النميري الطائفي يهواها، فقال - في حجها - أبياتًا منها:
تضوع مسكًا بطنُ نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات [30]
تهادَين ما بين المحصب من منى ... وأقبلن لا شعثًا ولا غبرات [31]
أعان الذي فوق السموات عرشه ... مواشي بالبطحاء مؤتجرات [32]
مررن بوجّ ثم رحن عشية ... يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف البنان من التقى ... ويقتلن بالألحاظ مقتدرات [33]
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلت بِنان المسك وحفا مُرَجّلاً ... على مثل بدر لاح في الظلمات [34]
وقامت تراءى يوم جَمْع فأفتنت ... برؤيتها مَن راح من عرفات
وقد أراد الحجاج أن يفتك بالنميري لتشبيبه بأخته لولا أن منعه منه عبد الملك
وكتب إليه أن لا سبيل له عليه على أنه ما وصفها هي وصواحبها إلا بالتقى.
وعلى ذكر أبيات النميري فيمن توسَّع جيب درعها، وترفع يدها عند رمي
الجمار ليرى ساعدها، وتتراءى يوم جَمْع أي عند انصراف الناس منها صباحًا إلى
منى لتفتن مَن أفاض إليها من عرفات على ذِكرها نقول لا عجب إذا وجد في النساء
المفتونات بجمالهن مَن تحب أن تظهر جمالها في تلك المعاهد الشريفة، كما وجد
في الرجال مثل عمر بن أبي ربيعة الذي يخرج إلى الحج ليغازل النساء، ولكن هذا
نادر، وأكثر الشعر فيه تخيّل، ومنه قول العرجي الشاعر من أبيات كانوا يتغنون
بها:
أماطت كساء الخز عن حُرّ وجهها ... وأدنت على الخدين بُردًا مهلهلا [35]
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا [36]
روى أبو الفرج عن عبد الله بن عمر العمري قال: خرجت حاجًّا فرأيت
امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة الله
ألستِ حاجّةً؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنًا، ثم قالت:
تأمل - يا عمي - فإنني ممن عنى العرجي بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
قال: فقلت لها: فإني أسأل الله أن لا يعذب هذا الوجه بالنار. قال: وبلغ
ذلك سعيد بن المسيب، فقال: أما والله لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال
لها: (اعزبي) قبحك الله، ولكنه ظُرف عُبَّاد الحجاز (قال أبو الفرج:)
ورويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار - وذكر حكاية أخرى في معناها، فيها
أن أبا حازم قال لأصحابه: ادعوا الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها بالنار.
وأبو حازم من كبار عباد التابعين. وكان عُبَّاد العراق - ولا سيما أهل البصرة منهم-
مشهورين بالشدة في العبادة والزهد، ومنهم خرج أكابر الصوفية.
وإننا نختم هذا السياق بخبر أبي نواس فاسق الشعراء، فقد روي أنه كان
يهوى جارية لأحد الثقفيين بالبصرة اسمها جنان وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة،
تروي الأشعار وتعرف الأخبار، فقيل له يومًا إنها عزمت على الحج، فقال: أما
والله لا يفوتني المسير معها، والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها، ثم سبقها
إلى الخروج، وقال - بعد عودته -:
ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبُها عسيرُ
فلما لم أجد سببًا إليها ... يقربني وأعيتني الأمورُ
حججتُ وقلت قد حجَّت جنان ... فيجمعني وإياها المسيرُ
وروى صاحب الأغاني من خبر حجه عمن شهده، وقد أحرم، أنه لما جنَّه
الليل جعل يلبي بشعر، ويحدو به، ويطرب، فغنى به كل مَن سمعه، وهو قوله:
إلهنا ما أعدلك ... مليك كل مَن ملك
لبيك قد لبيتُ لك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ... والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك ... على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أَمَّلَك ... أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك ... كل نبي وملَك
وكل مَن أهلّ لك ... سبّح أو لبّى فلك
يا مخطئًا ما أغفلك ... عجّل وبادر أجَلَك
واختم بخير عملك ... لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك ... والعز لا شريك لك
والعبرة في هذه الوقائع والأشعار من وجوه:
(منها) أنه يدل على أنه لا يمكن أن يجتمع النساء والرجال الكثيرون في
مكان ينظر بعضهم إلى بعض إلا ويكون لمغازلة النساء بالكلام أو بالنظر نصيب
فيه، كما قال عمر بن أبي ربيعة في أبيات مقصورة:
ومَن مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وإذا كانت معاهد الحج لم تخلُ من المغازلة والتغزُّل في أول عصر الحضارة
الإسلامية وأول العهد بتحجُّب النساء والدين لم يزل في قوة سلطانه على
الأرواح، حتى إن أشد المترفين إسرافًا في الخلاعة ومغازلة النساء لم يرتكب في
عمره فاحشة، فما ظنك في غير هؤلاء وأمثالهم وفي أهل هذا الزمان في غير تلك
المعاهدة؟ قال لي بعض القسيسين قد مات الدين، ولا يقصد الناس المعبد
إلا لمغازلة النساء.
(ومنها) أن أقوال الشعراء في معاهد الحج وأيامه وأعماله مما يشوق
القلوب إلى تلك البلاد كما وقع لابن سريج في اليمن، ولأجله كتبت هذا الفصل
من الرحلة، وإنني وجدت نفسي في أيام كتابتي لهذا الشعر فيه شديدة الشوق إلى
الحجاز ومشاهده، وليالي عرفة والمزدلفة ومِنى، على أنني لست من المغازلة
والغزل في شيء، ولم أَرَ هنالك، ولم أسمع عن أحد شيئًا من ذلك، ولله الحمد.
ولكنني أذكر في الكلام على هذه العبرة كلمتين لفاضلين مصريين كانا معنا في
الحجاز: (أحدهما) قول أتقى الرجلين وأحسنها تدينًا - وهو محصن - إنه رأى
في منى امرأة في نافذة دار مقابلة للدار التي كان فيها تحمل منظارًا، تنظر
فيه، فتوَهَّم أنها تنظر إليه، فاشتغل قلبه بذلك مدة وجوده في منى. (والثانية)
قول الآخر، وهو أعزب: إنني لم أَرَ في الحجاز امرأة وسيمة، يشتهي المرء أن
يعيد إليها طرفه، فهل هؤلاء هن نساء العرب اللواتي شبَّب بهن الشعراء ذلك
التشبيب الفاتن، الذي يُخَّيل لقارئه أنهن أجمل نساء الأرض؟ ! ويا ليت شعري
كيف كان يكون غزلهم وتشبيههم، لو كان في نسائهم من الجمال ما نعهد في
الآستانة وغيرها؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الجِزع بكسر الميم وسكون الزاي: منعطف الوادي ومُنحناه، والسمرات جمع سمرة: وهي شجرة السمر بفتح السين وضم الميم: وهي من شجر العضاه أي ذي الشوك، وشوكها قصير، وورقها صغير، ولها برم، أي ثمر أصفر، ويُؤكل.
(2) جمع اسم المزدلفة، وذكر في هذه الرحلة.
(3) حاليات: متزيّنات بالحلي، وهن الظبيات بالمجاز، وعاطلات غير متحليات، وهن الظبيات بالحقيقة.
(4) الدجا: سواد الليل مع غيم يمنع رؤية القمر والنجوم يعني يخرجن ليلاً لرمي الجمار ولغير الرمي من حاجتهن، فيكون الدجا ساترًا لهن كالجلابيب حالة كونهن مختمرات بخُمُرهن مبالغة في الستر.
(5) ذكر ضمير (راحوا) ، وقلما يأتي في الفصيح إلا لنكتة كتذكيره في السلام على امرأة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في سورة هود، وإرادة إذهاب الرجس عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب لشمول الخطاب للخليلين في الخطابين، ولعل الشاعر هنا يعني أنهن يخرجن مع رجالهن.
(6) السلمات جمع سلمة بفتحتين: وهو من شجر العضاه كالسمر، ويكثر في جزيرة العرب، والخطاب للرجال الذين يقفون في ظلال شجر السلم مدة وقوف أولئك النساء يتشاكون معهن الجوى بكلام العَبرات - أي الدموع - الدال على ما في القلوب.
(7) يعني أن كل عين من أعين فتيان الهوى والفتيات تذرف العبرات في موقفها ذاك، حتى كأن فيها قذاة تستنبط دموعها، وهي ما يقع في العين من عصفة تبن وغيرها.
(8) المهاة: البقرة الوحشية تشبه بها المرأة النجلاء لسعة عينيها وحسنهما، وأشار بغزال ومهاة إلى فتيان الهوى والفيتات الذين وصف موقفهن عند الوداع، كما علم من ذكره النفر هنا، وهو الدفع من منى.
(9) المراد بالدار: دار منى.
(10) بطن منى واديها والخيف سفح جبالها أي سقاها كلها ما يصوب، وينسكب من المطر في الغداة، أي أول النهار فالغاديات جمع غادية: وهي السحابة التي تنشأ أول النهار أو المطرة فيه.
(11) الجناة ما يجنى من الثمر، والظاهر أنه أراد بالممرور المرّ - ضد الحلو - وفعل المرارة لازم لا مفعول له، وإنما الممرور مَن غلبت عليه المِرة - وهي بالكسر - ما يسمى الصفراء أو السوداء من أخلاط البدن والشريف من أئمة اللغة فلا بد أن يكون لاستعماله مخرج إذا صحت الرواية عنه، وإن لم يكن استعماله حجة في اللغة.
(12) الشكاة بالفتح: ما يُشكى من مرضٍ عَرَض، أو ألمٍ ألمّ سأل ما عزّ فلا يوجد، وهو الراقي لغرامه، والطبيب لسقامه، وإنما احتاج الغرام للراقي دون الطبيب؛ لأنه وجْد نفسي روحي يحتاج إلى المسكنات الروحية، وإن وهمية والاستفهام استفهام توجع ويأس.
(13) قوله: وسيرنا بلبيك ربًا معناه أن سيرهم مُلابِس ومصحوب بالتلبية المعروفة، وعسف الركائب: خبطها في السير على غير هدى، لعله لشدة الزحام أو في السُّرَى، يقال بات فلان يعسف الليل إذا خبطه في ابتغاء طلبته.
(14) الغوارب جمع غارب: وهو الكاهل أو ما بين السنام والعنق، والمعاطس: الأنوف، والرعف الرواعف: أي التي يسيل منها الدم، والمراد أن الغوارب جُرحت من طول السير والأقتاب عليها، حتى كان منها أنوفًا راعفة.
(15) رابه: أوقعه في الريبة، وهي الشك والتهمة، والتشوُّف إلى الشيء: التطلع إليه، أي أن تطلُّعه وإدمانه النظر إليها جعلني اتهمه بأنه يتعمد ذلك لأمر ما في نفسه، ثم فسرت ذلك التشوف لصواحبها بسيره حذاءهم إذا سرن، ووقوفه إذا وقفن.
(16) التِّرب بكسر التاء وسكون الراء: اللدة وهي بالكسر، مَن وُلد معك، فتِرباها رفيقتان لها من سنها، والمستهام مَن جعله الحب كالهائم في الفلوات، لا يهتدي سبيلاً إلى النجاة.
(17) شرع يستمليها بالتفاؤل بنبيل مودتها مستنبطًا له من أسماء الأمكنة وغيرها على طريق العيافة التي ستُذكر في الأبيات، وبدأ بذكر منى، فجعلها فألاً بنيل المنى، وهو جمع مُنية (بوزن غرف وغرفة) ، ومعناه ما يتمنى، وقد تقدم أن خيف منى سفح جبلها.
(18) طارف الوفاء: حديثه وجديده، والبنان: الأصابع، وقد يخص بالعُقد العليا منها، واحدتها: بنانة، والمطرَّف: المخضوب بالحناء.
(19) العارفة: المعروف في المعاملة، المراد من حديث: (مَن أسدى إليكم معروفًا فكافئوه) ، والإسعاف بالحاجة: قضاؤها.
(20) الهَدْي بالفتح: ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام، وهي ذبائح النسك، والهُدى بضم ففتح: الدلالة على المطلوب بلطف والإيصال إليه كذلك، وهو ضد الضلال، والمراد أن كلمة الهدي بالفتح فأل دال على تواصل دائم لنا.
(21) العِيافة: التفاؤل أو التشاؤم بحركات الطير ومساقطها وأسمائها هذا هو الأصل، ثم توسعوا فيه بمثل ما ترى في هذه الأبيات، والزخرف: الزينة والتزويق، تعني أنها من زخرف الكلام لا من الحقائق، كقوله تعالى: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً) (الأنعام: 112) ، وفي حديث قبيصة عند أبي داود: (العيافة والطيرة والطرق من الجبت) ، أي من الخرافات كالكهانة والسحر، والحديث صحيح السند.
(22) البُرد: الثوب المخطط، والمفوَّف: الرقيق، وتعني به لطافة كلامه وحسنه، وكونه ينمّ عما وراءه.
(23) أعيف اسم تفضيل من العيافة يقال عاف الطير يعيفها: إذا زجرها وتطيَّر بها، وهو ما تقدم آنفًا.
(24) نصدف: نعرض.
(25) أي وقذفي بالحصا في رمي الجمار مخبر لك بأن النوى - أي البُعد أو وجهة السفر (وهي مؤنثة) - ترمي بي في مكان بعيد عن ديارك.
(26) النفار والنفور مصدر نفر (من باب نصر وضرب) وهو: الشرود بسبب مزعج، ومنه نفار الظبي والدابة والنفر للقتال والنفر: التفرق ويوم النفر وليلة النفر هو: يوم ينفر الحاج من منى، وهو ثاني أيام التشريق لمن تعجل، ويسمى النفر الأول وثالثها لمَن تأخر، ويسمى النفر الثاني.
(27) أي لكل منا لسان ذو حدين مرهف: من أرهف السيف: إذا رقق حده، ويعني بغراري اللسان: قدرته على جعْل الكلام الواحد على وجهين متقابلين متضادين كجعْل أعمال النسك ومواضعه للتفاؤل وللتشاؤم، فهو كالسيف ذي الحدين.
(28) الشعر لعمر بن أبي ربيعة، وإنما لابن جريج الصوت والتجمير: رمي الجمار، وأفتن بالهمزة كفتن من الفتنة، وهو لغة نجد، وفي نسخة ديوان عمر المطبوعة: أفلتن.
(29) السنن بالفتح: الطرق وهي مجاري الدمع.
(30) تضوع: فاحت رائحته، وبطن نعمان أي وادي نعمان وهو بين الطائف ومكة، ويُروى حرف القافية: خفرات، والخفر: شدة الحياء.
(31) المحصب موضع بين مكة ومنى.
(32) مؤتجرات: طالبات للأجر.
(33) ويُروى: يخمرهن يدل يخبئن، والمصراع الثاني: ويخرجن من جنح الليل معتجرات أي متلفعات بالمعاجر على رءوسهن.
(34) البِنَان بكسر الباء جمع بَنَّة بالفتح، وهي: الرائحة الطيبة، والعل: متابعة الشيء، وأصله متابعة السقي، والوحف: الشعر الكثير الحسن، والمرجّل من الترجيل، وهو: تسريح الشعر بالمرجل، أي المشط أي وعلت روائح المسك منها شعرًا أثيثًا حسنًا مرجلاً فوق وجه يلوح بينه كالبدر في الظلمات.
(35) البُرد بالضم: ثوب مخطط، والمهلهل: الرقيق النسيج، والواهي أي برد لا يستر الوجه لرقته، ولعله من الهَلَل بالتحريك، وهو نسيج العنكبوت.
(36) الحُسبة بالضم والاحتساب في العمل: اعتداده ذخرًا عند الله، والمغفل: مَن لا فطنة له، فيتقي فتنة النساء.(20/316)
شعبان - 1336هـ
مايو - 1918م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
(1)
يكثر ذكر المتفرنجين في المنار وغيره، والتفرنج مشتق من اسم الإفرنج أو
الفرنجة، وهذه الصيغة تُبنى لمعانٍ: (منها) التكلف كتجلد فلان وتشجع وتخشع،
وتجرع الشراب إذا تكلف الجَلَد والشجاعة والخشوع وشرب ما يكره، و (منها)
تحصيل الشيء بالتدريج كتعلم الحساب. وكل من هذين المعنيين ظاهر في استعمال
كلمة التفرنج وما يُشتق منها، فالمتفرنجون هم الذين يقلدون الإفرنج فيما يستحسنونه
من العادات وغيرها بالتكلف أولاً، ثم يتوسعون في ذلك بالتدريج، حتى انتقل بعضهم
من التقليد في مشخصات الأمم التي تقوى بها روابطها كالعادات في الأزياء والأكل
والشرب وآداب المجلس، إلى ما هو من مقوماتها التي تبقى ببقائها وتفنى بفنائها
كاللغة والدين والشريعة وأصول الآداب والروابط الاجتماعية المنزلية والقومية.
وهؤلاء المتفرنجون فريقان:
(أحدهما) مَن كان تفرنُجهم أثر التعليم المصري والتربية الإفرنجية التي
حببت إليهم ما لقنوه وتربوا عليه من مقومات القوم ومشخصاتهم قبل أن يلقنوا ما
لأمتهم من ذلك، ويتربوا عليه كما يجب، فكانوا كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
(وثانيهما) مَن يتفرنجون تقليدًا للفريق الأول من قومهم الحكام والأغنياء
تقربًا إليهم، وانتظامًا في سلكهم، وتمتُّعًا بمثل زينتهم ولذتهم، فهم مقلِّدة المقلدين،
بغير شبهة ولا دليل، إنما كان سبب فشو هذا التفرنج في المسلمين المدارس
الإفرنجية والمدارس الوطنية الرسمية وغير الرسمية، التي أنشئت لتقليد الإفرنج
في تربيتهم وتعليمهم بغير بصيرة ولا علم بموضع الحاجة، على حين كان العلم
بمقومات الأمة الإسلامية ومشخصاتها قد قلّ وضعف بضعفها السياسي والاجتماعي،
وما بقي منه أمسى مشوبًا بما ليس منه من البدع والدخيل، وساءت طريقة تعليمه،
وأهملت فكرة التربية عليه بالتخلُّق والعمل، وقد قلت - في المنار - غير مرة:
إنني لا أعرف في الدنيا مدرسة تعلم فيها اللغة العربية التعليم الفطري، الذي به
تكون مَلَكَة في ألسنة المتعلمين، بحيث يفهمون كلامها الفصيح في كل كتاب،
ويقدرون على الإتيان به محاورة وخطابة وكتابة بغير تكلف، كما تعلَّم اللغات
الإفرنجية في بلاد أهلها، ولا على مقربة من ذلك كما تعلم في بلادنا، ولا أعرف
مدرسة يعلم فيها الإسلام تعليمًا يُفهم به كتابه وسُنته وما فيهما من العقائد والأحكام
والحِكَم والآداب فهمًا صحيحًا، يتمكن به المتعلمون من بيانه بالقول والكتابة،
وإثبات قضاياه والدفاع عنه بالدليل والحجة، ولا مكانًا يتربى فيه النشء على
أخلاقه وآدابه العالية، وإنما المدارس الإسلامية التي تدرس فيها العربية والدين
معاهد تعالج فيها كتب في فنون العربية والعلوم الشرعية مما صُنِّفَ بعد ضعف العلم
الاستقلالي أو موته قلما يوجد فيها من وضع الأئمة المجتهدين شيء، ولكن يقرأ في
بعضها قليل من كتب التفسير بقصد التبرك الذي لا يعقل معناه لا بقصد الاهتداء،
وكل ما يقرأ من الكتب في مدارس البلاد العربية يفسر باللغة العامية، وفي مدارس
البلاد الأعجمية (كالهند والفرس والترك) يترجم بلغاتها.
في أثناء هويّ الأمة الإسلامية في هذه الهاوية من الجهل من عدة قرون كان
الإفرنج يصعدون في مراقي العلم الاستقلالي والتربية الاجتماعية على علم ونظام،
يهتدون فيه بسنن الله في خلق الإنسان والأكوان، وقد جعلوا لكل علم وكل فن ولكل
صناعة وعمل جماعات تُعنى بترقيته وإتقانه، حتى إن الجمعيات الدينية فيهم تملك
ألوف الألوف من النقود الذهبية. ولكن كان جُلّ ارتقائهم في العلوم والفنون المادية
والمالية والحربية وطرق استعمار الممالك واستخدام الشعوب لمنافعهم، وأقله في
الفضائل الدينية والأدبية التي ترجح الحق على القوة، والعدل على الشهوة، حتى
خاف عاقبة ذلك عليهم حكماؤهم وعقلائهم، وقال أكبر وأشهر فيلسوف اجتماعي
فيهم، وهو هربرت سبنسر، لأكبر وأشهر حكيم فينا، وهو الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده - ما معناه أن ضعف الفضيلة وتغلُّب الأفكار المادية على أوربة
سَتَدُعُّها (أي تدفعها بعنف) إلى حرب مجتاحة ليظهر أيّ أممها الأقوى، فيسود
العالم.
{إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإنه ليبغي أن
رآه قوي واستعلى، وإن مظاهر الغنى والقوة لغَرَّارة خداعة، فالفقراء يعظمون
الأغنياء، وإن منعوهم رفدهم، وهضموهم حقهم، والضعفاء يخضعون للأقوياء،
وإن أرهقوهم عسرًا، واستذلوهم عدوانًا وظلمًا، ولا يزال بعض الشعوب على
إرث ما من سلفهم الذين عبدوا الملوك، واتخذوهم آلهًة وأربابًا، وإن زالت تلك
الدعوى وعفت مظاهرها الباطلة، فيظهر أثر هذا الإرث في كثير من أفرادها،
وإن تبوءوا مقاعد الرياسة فيها، وأما ولوع الأمم المغلوبة على أمرها بتقليد الغالبين
- في كل ما يسهل التقليد فيه من العادات وشئون الحياة - فهو سُنة من أظهر سنن
الاجتماع، وقد بسط الكلام فيها حكيمنا ابن خلدون في مقدمته، فهي لا تخفى على
قراء العربية، الذين يعنون بالأمور الاجتماعية، والتقليد في الأمم كالتقليد في
الأفراد، هو توطين لنفس المقلد على أن يكون تابعًا للمقلد في بعض ثمرات اجتهاده،
غير طامع في مساواته، فهو يستلزم تعظيمه له واحتقاره لنفسه وقومه.
إن المقلد لا ينفكّ مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي
قد يشتبه أمر بعض المتفرنجين بما يدعو إليه المصلحون من الاعتبار بما
أوتي الإفرنج من العلوم والفنون، وما أتقنوا من الأعمال، والبحث في أسباب ذلك
وطرقه، والاستقلال في اقتباس ما تحتاج إليه أمتهم منه، لتقوى به، وتكون أمة
عزيزة قوية مثل أممهم، وإنما تقوى الأمة إذا حافظت على ما كانت به أمة كاللغة
والآداب والعادات والشرائع التي تمتاز بها، وإذا كان بعض العادات باطلاً ضارًّا،
فينبغي إزالته وتغييره بالحكمة والموعظة الحسنة، والتربية العملية النافعة، بشرط
أن لا يشوب ذلك شيء من تحقير الأمة في أنفس أهلها، ولا إذلالها بإشعارها
باستعلاء غيرها عليها، وأن لا تُحْمَلَ على تقليد أجنبي عنها، وإنما تلقَّن الحكمة
مع إقناعها بفضلها ونفعها، وبأنها يجب أن تكون أحق بها وأهلها، كما ورد في
حديث أبي هريرة عند الترمذي: (الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق
بها) ، ومن المتفرنجين مَن يدعي هذا الإصلاح، ويتوهم أنه صادق؛ لأنه لا يميز
بين الإصلاح والإفساد، ومنهم مَن يدعيه بمحض الكذب والرياء، {وَمِنَ النَّاسِ
مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا
تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 204-205) .
إن الفرق بين المتفرنج المقلد وبين المصلح المستقل مما يخفى على غير
العارفين بالحقائق، ومن هؤلاء العارفين لورد كرومر الذي كان عميد إنكلترة في
مصر، فقد بيَّن في كتابه (مصر الحديثة) من فضائح المتفرنجين المصريين ما
فيه أكبر عبرة لمَن يعتبر منا، وإن كان لم يكتبه لأجلنا، ولا نحن عرفنا كيف
نستفيد منه، وقد أشار إلى مذهب المصلحين الإسلاميين فيما يستحدثون لقومهم من
شئون الحضارة بما قاله في أحد تقاريره عن مصر عند ذكر وفاة الأستاذ الإمام،
وهو أن الشيخ وحزبه المعتدل يشترطون في ذلك المحافظة على أصول الإسلام،
خلافًا لمن لا يبالون في هذه السبيل بالدين ولا ما دونه من مقومات الأمة التي نشؤوا
فيها. ولا يرجى من أجنبي غير مسلم أن يقول في كلمة استطرادية أكثر من هذا،
في بلد له السيطرة على حكومته، وجل من تعتمد عليهم حكومته من رجالها هم
المتفرنجون، كما بيَّن ذلك اللورد نفسه في كتابه (عباس الثاني) .
المتفرنجون أصناف، فمنهم المعتدلون والغلاة، ومن الغلاة: المارقون من
الدين الذين يحاربون أصوله وفروعه، وينفثون سموم الكفر والفسق في أهله،
والمارقون الذين لا يحبون أن يعرف حالهم، فلا يتكلمون في أهل الدين ولا يحبون
أن يتكلم هؤلاء فيهم، إما لاعتقادهم أن فشوَّ الكفر مفسدة تزيد أمتهم ضعفًا وفسادًا،
وإما لكراهتهم للخوض في أمثال هذه المسائل وما تجرُّه من القيل والقال، ومن
المعتدلين: الثابتون على عقيدتهم التي نشأوا عليها، والذين لهم ضرب من الآراء
الجديدة فيها، وإنما تفرنج هؤلاء في أبدانهم، لا في عقلهم ووجدانهم، ولا نحاول
استقصاء ما يكون به التفرنج وأصناف أهله في أفراده، بل نقول بالإجمال: إنه
قسمان: صوري ومعنوي، ظاهري وباطني، والمعنوي الباطني، يستلزم
الصوري الظاهري، وأما هذا فلا يستلزم ذاك، ولكنه يؤثر فيه بعض التأثير، فكل
منهما يمد الآخر في ذلك وفي غيره ويستمد منه؛ لذلك ترى بين أصحاب كل قسم
من التعارف والتآلف ما لا نجده بينهم وبين المخالفين لكل منهم، فهو لذلك يسري
في الأمة سريانًا تدريجيًّا، لا يشعر به الجمهور، وإنما يفطن له الأفراد من
العارفين بشئون الاجتماع المراقبين لسير الأمم وتقلبها، وما يطرأ عليها من التغيير.
أما ما يشعر به الجمهور ويتألم له من بعض شذوذ الغلاة من هؤلاء
المتفرنجين وجهر بعضهم في إنكار ما عليه الأمة من العقائد أو العادات المحترمة
فمثله فيه كمثل العامي الجاهل الذي يُصاب بالداء الإفرنجي، يتألم لكل قرحة
تعرض له من أثر الداء ويطلب لها الدواء، ولكنه لا يعرف خطر الداء في عامة
بدنه، ولا فعله في تسميم دمه، ولا يطلب له العلاج في غير أوقات التألم من
الأعراض الحادثة، ولا يصبر على تناول الأدوية التي يرجى أن تنقي دمه من ذلك
السم في الزمن الطويل.
ترى هذا الجمهور الذي ضربنا له المثل يصيح ويشكو قولاً وكتابةً عند كل
صوت يجهر بمخالفة دينه وآدابه وعاداته: فلان كفر، فلان فجر، وأما العالم
بشئون الاجتماع فهو كالعالم بالطب أو بحفظ الصحة، كلاهما يهتم بالعلل العامة
وأسبابها والعلاج الذي يستأصلها لا بأعراضها التي تظهر تارة وتخفى أخرى. ويا
ليت الجمهور يتبع الطبيب الاجتماعي الذي يستصرخه عند كل صيحة تؤلمه من
مهاجميه في عقائده أو غيرها من مقوماته الملية، كما يتبع مريض البدن طبيب
الأبدان، إذًا لسهل التوقي من خطر هؤلاء الذين تقطعت الأسباب وانفصمت العرى
التي تربطهم بأمتهم، وتعذر عليهم الاتصال بأمة أخرى يكونون أعضاءً حية فيها،
ففقد جمهورهم الشعور بالحياة القومية والملية، فأمسى لا يهتم إلا بلذَّاته الشخصية،
ومنها أن يكون محترمًا مكرمًا بين مَن يعيش معهم، فهو يدعوهم إلى أن يكونوا
مثله مُدَّعِيًا أن ذلك خير لهم، كما أنه يكون عونًا لكل ذي سلطان عليهم، يساعده
على كل ما يريده منهم، ومن دون هذا الجمهور أفراد يعز عليهم أن لا يكون لهم
أمة، فهم لشدة حاجتهم إلى الأمة التي انفصلوا منها في الباطن يريدون أن يجذبوها
إليهم، ويجعلوها أمة أخرى بمقومات ومشخّصات مذبذبة، لا هي إسلامية صحيحة
ولا هي إفرنجية خالصة؛ ليكونوا أعضاءً رئيسة لها في هذا الخلق الجديد المتخيل،
بعد أن صاروا فيها كالأعضاء الأثرية وزوائد الأظفار والأشعار التي جرت العادة
بقصها وإلقائها، وهؤلاء الأفراد الذين يفكرون في تكوين الأمم قليلون، ولكن الذين
يلغطون بهذه الألفاظ كثيرون، ولم يظهر في متفرنجينا فرد صَلُحَ لتكوين أسرة
صالحة، أو تأسيس جمعية نافعة، فأين هم من إفناء أمة كبيرة وإعادتها خلقًا
جديدًا؟ إلا أنهم بضعف الأمة في نفسها، وبمساعدة القوى الغريبة لهم عليها.
ليستطيعون شيئًا من الهدم دون البناء، ومن الإماتة دون الإحياء.
قلنا: إن جمهور المسلمين يشكو ويتألم من كل صوت يسمعه من هؤلاء الذين
يدعون إرادة إصلاحه وإحيائه، وإنما يشكو من أعراض الداء لا من سمه وأسبابه،
ونقول أيضًا: إنه كلما سمع صوتًا منكرًا من تلك الأصوات يفزع إلى مَن يثق بهم
من العلماء والكُتَّاب: انصروا الدين، ردوا على الملحدين، ويقنعه كل ما يقال،
ويكتب بعنوان الرد، وإن كان من قبيل الطعن والسب.
وقد سمع في هذه الأيام صوت من هذه الأصوات، لولا حالة الحرب وما
اقتضته من المراقبة على المطبوعات لكان الجهر بالشكوى منه أضعاف ما عهد في
أمثاله، ذلك صوت رجل من أعضاء النيابة، ألقى على جمهور عظيم من رجال
القضاء بأسلوب الخطابة، ثم طبع في رسالة، ووزع على الناس كافة، موضوعه
وضع قاعدة لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، ولتغيير أصول الشريعة الإسلامية،
وقد رغب بعض الفضلاء في الرد عليه، ويكفي في وجوب ذلك مجرد اطلاعنا
عليه، وكنا سنتكلم في تلك القاعدة أو القواعد كلامًا علميًّا شرعيًّا، ولا نقول في
شخص وضعها شيئًا، وإن الغرض بيان الحق في نفسه، ومَن عرف الحق عرف
أهله، وموعدنا الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(20/340)
الكاتب: ن. هـ. د.
__________
نقد ذكرى المولد النبوي
لصاحب الإمضاء الرمزي
(الموضع الأول) في صفحة [1] (ي) من المقدمة حققتم أن عمل المولد
بالشكل المعروف بدعة، وأنكم تتحامون عن عمل شيء باسم المولد، فأحسنتم،
وأجدتم. ثم ذكرتم أن البكري دعاكم، فتوسلتم بإجابة الدعوة إلى تنفيذ فكرة استبدال
الضار من الموالد بالنافع، فهل هذه الفكرة غيَّرت حكم هذه البدعة، وأخرجتكم من
المُحْدَثِينَ؟ ، لا أظن ذلك، بل لا أرى وضع المولد يليق بأمثالكم، القائمين
بالإصلاح ومحاربة البدع، وخصوصًا على الصورة التي طُبع عليها مختومًا كل
فصل منه بالصلاة البتراء، فلو اكتفيتم بنشره في المنار مع الإرشاد إلى جعْل
تلاوته بصورة الخطابة لربما كان أنسب، وعن الصورة المألوفة أبعد.
(الموضع الثاني) في أول الصفحة الرابعة من ذكرى المولد ذكرتم ما لفظه:
كيف كان اصطفاء الله تعالى لهذه الأصول من الأمة العربية، الذي ثبت في
صحيح مسلم وغيره من كتب السنة السنية، وبماذا امتاز قوم خاتم الرسل ... إلخ.
العبارة في ذوقي السقيم غير مستقيمة، ولم يظهر لي صلاحية شيء مما بعدها
للجواب عن (كيف كان) ، وجميعه جواب عن (وبماذا امتاز) ، فحذف السؤال
الأول والاقتصار على الثاني لعله أظهر.
(الموضع الثالث) في الصفحة الخامسة قولكم: أيام كانت الأمم مرهقة
بالأثرة والأنانية والأنين من ثقل الضرائب ... إلخ، لعل الأولى حذف لفظ
(والأنين) ، أو إبداله بلفظ (وتأن) ؛ ليصح العطف، أو ليكون أوضح.
(الموضع الرابع) في الصفحة السابعة قولكم: أما اصطفاء الله لكنانة
فيفسره ... إلخ، وقولكم: وأما حج العرب إليه فهو دليل ... إلخ، لعل الأولى:
اصطفاء الله لكنانة يعلم مما كانت تحفظه العرب من أخباره ... إلخ، وحج العرب
إليه دليل ... إلخ، بحذف لفظ (أما) ولفظ (فهو) .
(الموضع الخامس) في الصفحة الثامنة ذكرتم بالحواشي تفسير الندوة
بالشورى، وخصصتموها بإجالة الرأي بعد البعثة للائتمار به صلى الله عليه وآله
وسلم هكذا، والمعروف أن الندوة محل الشورى مطلقًا، وأن الذي بناه قصي وجعل
بابه للكعبة، كما نقلتموه في الصفحة نفسها عن ابن إسحاق، وكذلك فسرتم اللواء
براية قريش، وأنه كان يسمى العقاب، والمعروف أن العقاب اسم راية النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، كما في القاموس صفحة 107.
(الموضع السادس) قولكم في الصفحة التاسعة: (كان ذلك كله من ارتقاء
قريش، واستعداد العرب للإسلام، ولكن هذه القوى المعنوية كلها وجهت لمعاداته
عليه وآله أفضل الصلاة والسلام) ، لعل حذف هذه العبارة المشعرة بغاية الهجو
والموهمة أن جميع قريش وجهَّوا جميع قواهم لمقاومته أولى وأليق؛ لأن السياق في
مدح قريش، وشرح المزايا التي فضلوا واستعدوا بها للإصلاح الروحي والمدني؛
ولأن الواقع خلاف ذلك، فليس كل قريش وجهوا قواهم لمعاداته صلى الله عليه
وآله وسلم؛ إذ منهم السابقون للإسلام مع إخفائه لمصلحة الذبّ عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كأبي طالب رضي الله عنه، ومنهم السابقون له المتحمّلون لمشاقّ
التعذيب كآل ياسر، ومنهم السابقون القائمون بنصرته صلى الله عليه وآله وسلم
ونشر دعوته، والذب عن حوزته، المؤثرون له صلى الله عليه وآله وسلم على
أنفسهم، القائمون بمساعدته بكل ما في وسعهم، كحمزة وعلي وخديجة وأبي
بكر وغيرهم من أجلاء الصحابة الذين هجروا وطنهم رغبة في صحبته، وملازمة
خدمته صلى الله عليه وآله وسلم، بل منهم - مع عدم إسلامه في أول البعثة - من
تحمل مشاق الحصر مع بني هاشم في الشعب إيثارًا لنصرته صلى الله عليه وآله
وسلم ومساعدته، على أن الإسلام ما اعتزَّ ودخل في طور القوة والمَنَعَة إلا بعد
إسلام مَن تأخر منهم، فكانوا القائمين بنصرته، ونشر دعوته صلى الله عليه وآله
وسلم، الباذلين أرواحهم في حماية بيضته في حياة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وبعد وفاته، وسيبقون - إن شاء الله - كذلك إلى قيام الساعة، ولعل الحكمة في
ذلك رفع التهمة عن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم، ولله در العلامة الشيخ عبد
العزيز الزمزمي، حيث أشار في همزيته لذلك، فقال:
خيرة الله من قريش وما أد ... راك مَن هم مكانة وعَلاء
نسب بالعلا علا فتراءت ... درر الأفق تحتها حصباء
شرف شامخ الذرى وفَخَار ... ثابت صبر الجبال هباء
أنزل الله في قريش لإيلاف ... قريش فزادهم آلاء
شرف الله قدرهم بنبي ... خلقوا من نجاره شرفاء
واصطفاهم لأجله واجتباهم ... فغدوا سادة به نجباء
ذبّ عنهم صونًا لهم ورعاهم ... وحماهم ممن نوى الأسواء
أظهر الله فضلهم من قديم ... بحديث في فضلهم عنه جاء
ثم لما جاء النبي إليهم ... أبطئوا عنه لا قلى وجفاء
كيف يجفونه وقد ألف الله ... عليها ضبابها والظباء
لكن الله وحده قد تولى ... نصره حفلة به واعتناء
لو تولوه داخل الشك قومًا ... عاينوا حزب نصره القرباء
فقضى الله ما قضاه إلى أن ... شاد أركان دينه والبناء
دخلوا فيه مرعبين فصاروا ... فيه للناس قادة رؤساء
جعل لمصطفى الإمامة فيهم ... إذ رآهم لخودها أكفاء
ورثوا الأمر بعده فأقاموا ... اعوجاجًا من العدا وانحناء
(الموضع السابع) في الصفحة العاشرة قولكم: فجملة ما امتاز به آله صلى
الله عليه وآله وسلم ... إلخ. لعل ثبوت بعد الآل عن الأمور الحربية والرياسة لا
يصح قبل الإسلام ولا بعده. أما قبل الإسلام فلمنافاته ما قدمتموه من أن الندوة
واللواء والسفارة والأعنة والقبة من المناصب المختصة بهم، وكلها من الأمور
الحربية، ولمنافاته أيضًا ما قدمتموه من أن كنانة كان مثابة التعارف، وأن مالكًا
وقصيًّا ملكا العرب، فهل الرياسة غير هذا؟ وأما بعد الإسلام فلمنافاته ما هو
معلوم من حملهم لألوية القتال وقيادة الجيوش لمحاربة الأعداء في بدر وأحد
وخيبر وحنين، بل لم تَدُرْ رحى الحرب في المعارك المشهورة إلا على محور الآل،
فهم قطب رحاها بلا جدال، وهم الثابتون معه صلى الله عليه وآله وسلم في
المواضع التي فَرَّ فيها الأبطال. فهل الأمور الحربية التي بعدوا عنها غير هذا؟
ولله در أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، حيث يقول - كما نقله
في الاستيعاب -:
لقد علمت قريش غير فخر ... بأنَّا نحن أجودهم حصانا
وأكثرهم دروعًا سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
وأرفعهم لدى الضراء عنهم ... وأبينهم إذا نطقوا لسانا
وقولكم في الصفحة المذكورة؛ ولذلك غُلِبُوا على الرياسة حتى بعد الإسلام ...
إلخ تغلب الغير عليهم في الرياسة بعد الإسلام لا يستلزم بُعْدَهُمْ عنها، وعدم
استحقاقها، وإلا لنا في ما تواتر عن علي وابنيه الحسن والحسين من قيامهم بطلب
الخلافة، واحتجاجهم على مَن قاومهم بالبراهين، ومحاربتهم للطاغية معاوية
وأذنابه، وانضمام الصحابة - إلا مَن شَذَّ - إلى علي وابنيه عليهم السلام.
ربما يقال: إن الدليل على ذلك كوْن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان
يولي غيرهم، ويتركهم، فالجواب عن ذلك أن التولية منه صلى الله عليه وآله
لأشخاص كعمرو بن العاص وعدم توليته لآخرين كأبي بكر وعمر لا يمكن أن
يكونا دليلاً على استحقاق الأول للخلافة وعدم استحقاق الآخرين؛ لأن ذلك من
وقائع الأحوال المطروقة باحتمال أن يكون كل من التولية وعدمها لمقاصد مهمة:
فمن مقاصد التولية تأليف قلب المولَّى أو استجلاب ود عشيرته، (ومنها) إزالة
نفور الناس عنه لاستقذارهم له، من حيث تلطخه بحمئة عداوة النبي والمسلمين،
(ومنها) قصد إبعاده للسلامة من دسائسه {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} (التوبة: 47) ، ومن مقاصد عدم التولية لأشخاص قيامهم بحراسة النبي والذب عن
حوزته ومساعدته، (ومنها) قيامهم بتلقي أحكام الشريعة ليبلغوها للأمة وخصوصًا
آل بيته، فهم هالة طلعته، وثقات أمته، وهم العدول المعصوم اتفاقهم، المشهود
بأنهم والقرآن في قَرَن إلى قيام الساعة، رضوان الله عليهم أجمعين.
وقولكم - في آخر الصفحة -: فهو أنفى للشبهة عن رسالته صلى الله عليه
وآله وسلم، قد يقال: إنه لو كان فيما ذكر محل شبهة لكان لتفضيلهم والأمر
بالصلاة عليهم وفرض مودتهم وموالاتهم وفرض الخمس لهم أكبر شبهة وأعظم
تهمة، وليس الأمر كذلك، والله أعلم.
(الموضع الثامن) في الصفحة الثالثة عشرة ذكرتم بعض أولاد عبد المطلب
والمقام يقتضي استيعابهم؛ لأن الاقتصار في محل البيان يوهم الحصر، وزيادة
سطر لا تطول به القصة.
(الموضع التاسع) في الصفحة الثلاثين ذكرتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم
لقي من قومه أشد الجحود والإيذاء ... إلخ، لعل الأوْلى: من زعماء قومه الذين
أشقاهم الله؛ فصدوه عن تبليغ دعوة ربه، ومنهم عمه أبو لهب القائل ... إلخ، لما
قدمناه من قيام كثير من قومه بمساعدته وإجابة دعوته.
(الموضع العاشر) في الصفحة الحادية والثلاثين ذكرتم أنه صلى الله عليه
وآله وسلم كان يدعو الناس أن يحموه للقيام بهذا الأمر، فلم يحمِهِ من قريش أحد
... إلخ، لعل الأولى: كان يدعو الناس إلى أن يعضِّدوا مَن يحمونه؛ ليقوم بهذا
الأمر، فحال زعماء الشرك دون ذلك محاولة لإطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن
يتم نوره، فهدى الله للإيمان به ستة نفر من أهل يثرب ... إلخ لما تقدم أيضًا.
(الموضع الحادي عشر) في الصفحة السابعة والثلاثين ذكرتم أنه صلى الله
عليه وآله وسلم ثبت وحده في يوم أحد ... إلخ، والذي أذكره أنه ثبت معه بضعة
نفر من قريش وبني هاشم وكذا في حُنين، وهذه منقبة لهم، يحسن ذكرها إشعارًا
بمزايا الاصطفاء التي ذكرتموها.
(الموضع الثاني عشر) في الصفحة الحادية والأربعين ذكرتم في الخاتمة
أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، والمشهور أنها
بضع عشرة سنة، ثم ذكرتم في الصفحة الثانية والأربعين حال الإسلام في تلك
المدة وما لاقاه صلى الله عليه وآله وسلم مع السابقين من المؤمنين وصبرهم على
الاضطهاد ... إلخ، ثم دخول الإسلام في عهد الحرية ... إلخ، ولم تذكروا دخوله
في عهد القوة والمنعة بعد فتح مكة بدخول قريش واتباع العرب لهم مع أن ذلك هو
مظهر مزايا الاصطفاء، فلعل إلحاقها يكون في المستقبل إن شاء الله تعالى.
(الموضع الثالث عشر) في الصفحة الثالثة والأربعين ذكرتم في الحواشي
حديث الثقلين ثم قلتم: وفسر زيد أهل بيته بمَن تحرم عليهم الصدقة ... إلخ، ثم
قلتم - ويقول آخرون -: هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام ... إلخ،
وظاهر تقديمكم تفسير زيد، والتعبير في مقابله بلفظ: يقول آخرون - يُشعر
باعتماد ما قاله زيد رضي الله عنه. ولعل الصواب ما يقوله الآخرون، كما حققه
شيخ مشايخنا العلامة مولانا السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي
في كتابه (رشفة الصادي) .
ولعل ملخص ما حققه العلامة ابن شهاب أن المراد بأهل البيت - في آية
التطهير -: علي وفاطمة والحسن والحسين عند جمهور العلماء وأكابر أئمة
الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم، وأن الأدلة تضافرت بذلك عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير مَن أُنزلت عليه الآية متعين.
دعوا كل قول غير قول محمد ... فعند بزوغ الشمس ينطمس النجم
فمن ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي من طرق عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33) وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجللهم بكساء،
ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) . وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتها على منامة، عليه
كساء خيبري، فجاءت فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: ادعي لي زوجك وابنيك حسنًا وحسينًا، فبينما هم
يأكلون، إذ نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ... } (الأحزاب: 33) الآية، فأخذ النبي بفضلة كسائه فغشاهم إياها ثم أخرج يده من
الكساء، فألوى بها إلى السماء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) قالها ثلاث مرات. قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي
في الستر فقلت يا رسول وأنا معكم فقال (إنكِ إلى خير) مرتين، وذكر ابن كثير
والسمهودي طرقًا كثيرة لحديث أم سلمة هذا.
وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن
عائشة ما يقاربه في المعنى، وكذلك روي عن واثلة بن الأسقع ما يقاربه، إلى غير
ذلك من الأحاديث الدالة على أن المراد بأهل البيت مَن ذكر، ولا التفات لمَن خالف
ذلك، ولا يمنع هذا الحصر دخول أولاد مَن ذكر وذرياتهم إلى آخر الأبد في هذا
المعنى المراد شمول لفظ أهل البيت لمَن سيوجد منهم، كشمول لفظ الأمة لمن
سيوجد منها؛ لا سيما والأحاديث مصرحة بذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) إلى أن
قال: (وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوضَ) وكقوله عليه وآله الصلاة
والسلام: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض) إلى
غير ذلك من الأحاديث والأخبار الدالة قطعًا على أن هذه السلالة الطاهرة هم آل
البيت المطهرون، وأنهم المرادون بكل ما ورد في فضل أهل البيت من الآيات
والأحاديث، وأنهم عدول هذه الأمة، وأنهم لن يفارقوا الكتاب إلى يوم القيامة،
وأنهم أحد الثقلين المأمور بالتمسك بهما، وقد أجمعت الأمة على ذلك. اهـ
باختصاره، وبعد وجود النص بعدم إدخال أم سلمة بل وعائشة في رواية - هل
يمكن تفسيره بما يشمل آل العباس، وخصوصًا والحديث في الحضّ على التمسك
بأهل البيت، فهل يعقل أن نحض على التمسك ببني العباس، وسيرهم معلومة
لدى العام والخاص؟ !
(الموضع الرابع عشر) في الصفحة الثالثة والأربعين ذكرتم أنهم - أي
الآل - كانوا أحفظ الناس لهدْيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يخلو عصر من
طائفة أو أفراد من الهداة المصلحين منهم، وإن فتن الكثير منهم بغلاة المحبين ...
إلخ، ولعل المناسب وإن فتن بعضهم، واغترَّ بشرف نسبه، وترك العلم والأعمال
النافعة غافلاً عن قول جده علي ... إلخ؛ لأن إثبات الفتنة للأكثرية ينافي آية
التطهير كما لا يخفى. ثم ذكرتم في حديث الثقلين رواية عن أبي هريرة وأن فيها
إبدال لفظ (العترة) بلفظ (السنة) ، وأن لا معارضة بينها ... إلخ يظهر للعاجز
أن رواية الإبدال المذكورة على حذف مضاف، أي حَمَلة سنتي، فتكون مخصصة
للرواية الأولى، كما أن الأولى مخصصة للثانية، فالمعنى حملة سنتي الذين هم من
عترتي، أو عترتي حملة سنتي، وأيضًا يظهر أن المراد بالطائفة من أمته - التي
لا تزال ظاهرة على الحق، قَوَّامة على أمر الله إلى أن تقوم الساعة - هم عترته
الحاملون لسنته، والله أعلم.
... ... ... ... ... من ملاكه سلخ جُمادى الأولى سنة 1336
... ... ... ... ... ... ... ... ... ن. هـ. د.
__________
(1) في الأصل صافحة في كل موضع من الرسالة فأبدلت في المطبعة بصفحة.(20/345)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(9)
النفر من منى إلى مكة:
لما كان يوم النفر رمينا الجمرات لآخر مرة، وفي الأصيل شددنا الرحال ونفرنا
من منى هابطين إلى مكة المكرمة حامدين لله شاكرين له ما وفقنا لإتمام مناسكنا،
راجين من فضله وإحسانه أن يكون حجنا مبرورًا، وسعينا مشكورًا، وعلمنا مُثابًا،
ودعاؤنا مُستجابًا، ويالله ما أحلى الشعور الذي يستولي على المرء في أثناء هذا
النفْر، فإنه على فراقه لذلك المعهد القدسي الذي وصفنا في الفصل السابق ما له في
النفس من عظيم الأنس - تراه يفارقه قرير العين مطمئن القلب جمّ السرور فرحًا
بفضل الله ورحمته، وذلك شأن الإنسان بعد إتمام كل عمل من الأعمال النافعة التي
يهتم بأمرها، يفرح في عاقبة إتمامه بقدر ما كان من عنايته به وتعبه فيه، وبقدر
مكانة العمل نفسه من نفسه، وما يرجو من فائدته ونفعه، سواء كان ذلك في دنياه
أو دينه، فمَن لم يألُ جهدًا في أداء المناسك أفاض من منى وهو بحيث وصفنا من
الغبطة الروحية، والسكينة والطمأنينة، التي يعبر عنها بعض الناس براحة
الضمير، ومن قصر في شيء من تلك الأعمال، ولو بترك العزيمة والأفضل خالج
غبطته وطمأنينته بعض التمني ولوم النفس: ليتني فعلت كذا، وسأفعل كذا في حج
آخر إن شاء الله تعالى كما تمنى بعض رفاقنا لو باتوا الليل كله في المزدلفة معي.
المقام بمكة بعد الحج:
قد كنت أرجأت أمورًا مما أنوي عمله في مكة إلى ما بعد الحج: (منها) ما
أشرت إليه قبلُ من زيارة جميع الذين تفضلوا بزيارتي ولم تتيسر لي زيارتهم قبل
الحج، (ومنها) زيارة كثير من المعاهد التاريخية والآثار النبوية في مكة
وضواحيها؛ إذ لم أشأ أن أخلط ذلك بأعمال النسك كما يفعل بعض العوام الذين يعدون
بعض ذلك من أعمال النسك أو من الأعمال المطلوبة شرعًا ولو لغير النسك، ولا
يطلب شيء من ذلك شرعًا، لا وجوبًا ولا ندبًا، إلا من كانت له نية صالحة في
شيء من ذلك وجاء به على وجه يعرفه الشرع ولا ينكره، (ومنها) شراء أشياء
كثيرة مما يباع في مكة وضواحيها بعضها لأنفسنا، وبعضها لأجل إهدائه لأصدقائنا،
(ومنها) وهو أهمها شرح ما عندنا من الحقائق في الحالة السياسية الحاضرة لمن
يجب شرحها له بعد أن كنا فتحنا أبواب بعض مسائلها، فكان الحديث في أكثرها
إجماليًّا ولا يغني فيها إلا البيان والتفصيل.
لم نلبث أن بدا لنا ما لم نكن نحتسب، وفاجأنا ركب المحمل المصري بسفره
يوم الخميس 14 ذي الحجة من مكة المكرمة إلى جدة، وعلمنا أنه قرر ركوب
البحر في ثاني يوم وصوله إليها، ولو سافرنا معه لما أمكننا أن ندرك شيئًا مما نريد
من مكة، فعزمنا على التخلف عنه يومًا واحدًا، وهو منتهى ما نملك من التأخير،
وماذا عسى يغني عنا اليوم الواحد مما كنا نقدر له أسبوعًا كاملاً لا نستكثره عليه؟ ،
على أننا أدركنا في ذلك اليوم - بتوفيق الله تعالى وعناية المحبين - ما لا يدرك
إلا في أيام، فابتعنا بعض ما نحب من الحُلي والحُلَل من منسوجات الهند الموضونة
وغير الموضونة وبعض منسوجات الشام وبلاد الترك والصين وغير ذلك مما
يشتري مثله الحجاج عادة، وكان الفضل في شراء ذلك في وقت قصير مع أمن
غبن التجار لنا فيه لصديقنا الشيخ حسين با سلامة، وهو من أشهر أدباء مكة
وتجارها، وقد تركنا ما كنا نبغي من الزيارات بأنواعها، ولكن الله تعالى منّ علينا
بما هو خير منها كلها، وهو التشرُّف بدخول بيته العتيق المعظم والصلاة والدعاء
فيه.
دخول الكعبة المعظمة:
دخلت المسجد الحرام في وقت الضحى من يوم الجمعة (15 ذي الحجة) ،
فوجدت باب البيت العتيق المعظَّم مفتوحًا، وفيه بعض شبان آل الشيبي الكرام،
فرأيت الفرصة سانحة للتشرف بالدخول فيه، والوقت هادئ لا يكدر صفوه احتفال
ولا ازدحام، وكان يرافقني الشيخ حسين با سلامة، فبلغ من هنالك من الشيبيين
رغبتي، فقابلوها بالقبول والارتياح، فتوضأت من بئر زمزم، وأدلى الشيبيون لي
السلم، فصعدت، فدخلت متذكِّرًا دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
متمثّلاً حاله في ذلك اليوم العظيم يوم الفتح، ففاجأني من الهيبة والخشوع والبكاء ما
لم يسبق له نظير، ووقفت زمنًا لا أستطيع فيه الإحرام بالصلاة ولا النطق بالتكبير،
وقد ذكر لي رفيقي با سلامة في هذه الحال المكان الذي صلى فيه صفوة الله من
خلقه وَعَيَّنَهُ بالإشارة على حسب ما بيَّنه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري،
فصليت فيه ركعتين هما أرجى ما أحتسبه عند الله تعالى من التطوع، ثم صليت في
كل جهة من الجهات الثلاث الأخرى ركعتين.
ودخول الكعبة ليس من مناسك الحج خلافًا لما حكاه القرطبي عن بعض
العلماء، واختلفت الرواية في دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلاته فيه،
والتحقيق الذي جمع به بين الروايات الصحيحة المتعارضة أنه دخله في عام الفتح
لا في حجه ولا في عمرته، وأنه صلى فيه ركعتين بين العمودين المقدمين جاعلاً
الباب وراءه وبينه وبين الجدار الذي صلى إليه ثلاثة أذرع بذراع الآدمي تقريبًا لا
تحديدًا، وليس من السنة تتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم
للصلاة فيها، ولا مواقفه في النسك كما تقدم في الكلام على موقفه في عرفات،
وكذا سائر عباداته، ولم يُرْوَ عن أحد من علماء الصحابة أنه فعل شيئًا من ذلك إلا
عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) ، فهو فعل غير مشروع وغير ممنوع، إلا
أن يؤتَى به على وجه يكون به بدعة، وهو جعله كالمشروع بالتزامه أو بالاجتماع
عليه كالشعائر، فإذا خلا من شبهة البدعة كان كبير الفائدة لذي اللب؛ لما فيه من
حسن الذكر الذي يخشع له القلب، ولعله لم يشرع لئلا يترتب عليه الحرج الشديد
بالتزاحم؛ ولتعذر فعله على العدد الكثير، كما لو أراد كل حاج أن يقف حيث وقف
صلى الله عليه وسلم, ولسد ذريعة الشرك؛ إذ يُخشى على ضعيف العلم بالدين أن
يغلو فيه، فيجعل للرسول شركة في العبادة التي يتتبع آثاره فيها {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5) ، وإنما ذلك بتوجيه الوجه
وإسلامه إليه وحده في العبادة.
* * *
وداع الأمير وصفاته
علمت أن أمثل الأوقات لوداع الأمير ما بعد صلاة الجمعة، فقصدت عقب
الصلاة حجرته التي يصلي فيها، وهي في جدار الحرم الجنوبي، فألفيته جالسًا في
القسم الخارجي من الحجرة، وفي حضرته بعض الكبراء، وفي مقدمتهم رئيس
الوكلاء والشيخ محمد صالح الشيبي الكبير رئيس مجلس الشيوخ، وكان معي السيد
عبد الله الزواوي وكيل المجلس، وعلمنا أنه كان في القسم الداخلي، حيث صلّوا
الجمعة نجله الشريف عبد الله وكيل الخارجية مع بعض الناس. فلما دخلت على
الأمير تلقاني بالحفاوة والإكرام، فاستلمت يده لتقبيلها، فحاول تواضعه التمنع من
ذلك، ولما جلسنا تفضَّل بكلمات من المجاملة كادت تذيبني خجلاً، ونكتفي من
كلامه بما دون الإطراء الذي تقتضي الحال حذفه، وهو قوله موجهًا الخطاب
للحاضرين: هذا فلان ... صاحب المنار، كلكم تعرفونه، وتعرفون ما له من
الغيرة والإخلاص والجهاد في خدمة الإسلام. وهو قد جاءنا في هذا العام حاجًّا.
وكنا نتمنى أن يبقى عندنا، ولكنه صاحب عمل كبير في مصر، وهو قد رأى
وعرف كل شيء عندنا، وظهر له أننا إلى الآن لم نقف أمام عتبة عمل من الأعمال
(وكان ذكر في سياق حديثه ما ينوي من ضروب الإصلاح العلمي والعملي) ،
التي لا بد لنا منها، وأن همنا محصور في إخراج المتغلِّبة من بلادنا، ولا يتم ذلك
إلا بفتح المدينة المنورة، فمتى تم لنا ذلك، وأردنا البدء بالإصلاح الذي نبغيه فإننا
نرجو من غيرته أن لا تمنعه أعماله في مصر من إجابتنا إلى ما نطلبه من معاونته
وإرشاده، وهو الآن يقدر أن يخدم حركتنا في مصر أكثر مما يخدمها هنا لو أقام
بيننا.
فلما أتم كلامه شكرت له ما أراه مبالغة في حسن الظن والمجاملة، وذكرت أن
هذا التواضع عن كمال الرفعة قد أخجلني، حتى عقد لساني، ولم يَبْقَ لي إلا أن
أقول: إنني أعد نفسي كجندي صغير مستعد في كل آن لخدمة دينه وأمته بالإخلاص،
وأعاهدكم أمام بيت الله تعالى، على أنني لا أُدعى إلى عمل أستطيعه في خدمتهما
إلا وأبذل فيه كل جهدي ما دمت معتقدًا أنه حق، وإنه لا يثنيني عن ذلك منفعة
شخصية ولا أهل ولا ولد، فإنني نشأت على العمل بما يوجبه عليَّ اعتقادي،
ويطمئن إليه قلبي، ثم قمنا، وتقدمت لوداعه، ومحاولة تقبيل يده، فأخذ بيدي،
وتوجه بي إلى بيت الله عز وجل من حيث يرى من نافذة المكان، وقال: أسأل
رب هذا البيت أن يجمعنا، ولا يجعل هذا آخر العهد بيننا، ثم ودعت الحاضرين،
وانصرفت حامدًا شاكرًا.
صفات الأمير وشمائله:
قد آن أن أذكر في هذه الرحلة بعض ما علمته واستنبطته من صفات هذا
الأمير الجليل، ومزاياه التي يوافق ذِكرها مقتضى الحال، فأقول: إنه حوى جل
أخلاق ملوك الشرق وأمرائه العظماء، وانفرد بصفات ورثها من أجداده الشرفاء،
فمن ذلك قِرى الضيوف وإجازة الوفود، وعزة النفس والثقة بها والاعتماد عليها،
والثبات والإصرار على ما يأخذ به، ويجري عليه، فقد تتزلزل الجبال دونه، ولا
يتزلزل، وشدة الحذر، وسوء الظن الذي عدّ من أزكى الفطن، حتى كان نصب
عينيه قول الشاعر:
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... مَن لا يعول في الدنيا على رجل
ولذلك تراه ينظر في كل شيء من شؤونه الخاصة، وشئون البلاد العامة،
حتى أمور المنزل وشؤون الضيوف والوفود ونفقاتهم، ومصالح البدو وصلاتهم،
وقد أعطاه الله تعالى قوة غريبة، فهو يشتغل بالنظر في ذلك كله عامة النهار، ولا
يشكو مللاً ولا تعبًا، وقد كلمته في مسألة الاشتغال بالجزئيات، ووجوب نوطها
ببعض العمال، وجعل وقته الثمين خاصًّا بالمصالح العامة والأمور الكلية، ووضع
نظام لذلك، فقال: إن هذا ضروري لا مندوحة عنه، ونحن لا نزال نجري على
نظامنا القديم، والتحول عنه إلى غيره لا يتأتَّى إلا في زمن غير قصير، قلت:
نعم، وإنما الغرض وضع النظام له والبدء فيه.
ومن أخلاقه وشمائله توخِّي التواضع في القول والفعل، مع المحافظة على
الوقار وأبَّهة الملك، والأدب العالي في مخاطبة الجليس ومجاملته، مع الإشارة إلى
ما تقتضي الحال من معارضته، وهو على آدابه وتواضعه شديد الوطأة على
المجرمين والمخالفين السياسيين، يأخذهم بأشد العقاب الذي يرهب كل من تحدِّثه
نفسه بأن يعمل على شاكلتهم، لا يخاف في ذلك لومة لائم. (ومنها) العفة
والنزاهة فهو مقتصد في تمتُّعه بالطيبات، عزوف النفس عن الانهماك في الشهوات،
(ومنها) الشجاعة والإقدام على مكافحة الأخطار، لا يخاف الموت على نفسه
ولا على ولده؛ ولذلك جعل أنجاله الأربعة قوادًا لجيوشه، يكافحون المهالك بأيديهم،
ويناطحون الموت بنواصيهم.
وهو يحب وطنه (الحجاز) حبًّا عظيمًا، ويكرم الحفاة العراة من أعرابه
تكريمًا، وطالما نوهنا بما علمنا من براعته في سياستهم وحفظ الأمن بينهم، وقد
رأيناه يقضي في مقابلتهم عدة ساعات من كل نهار وهم يدمرون عليه بما اعتادوا
من الحرية والاستقلال.
أما معارفه وآراؤه في السياسة والأمور الاجتماعية فليس الخوض فيها من
مقتضى الحال في هذا الوقت، ولم يكن يسهل العلم بتفصيلها من المذاكرات القليلة
التي دارت بيني وبينه، وإن كنت كلمته فيها بحرية واستقلال قلما يكلمه بمثلهما
أحد؛ لأنه قليل الكلام، لا يطيل المراجعة والحوار في المسائل ليعلم كُنه غروره
فيها، ولكن الزمان سيبين كنه ذلك كله بما يظهر من تصرفه في شؤونها. وقد
وقفت منه على آراء سيكون لها أعظم شأن في سياسته:
(منها) يأسه من الدولة العثمانية ولولا هذا اليأس لما أقدم على ما أقدم عليه،
كما أشرت إلى ذلك في خطبتي السياسية بمنى بين يديه، ثم إنه كلمني في هذا
الموضوع بعد النزول من منى، وعدَّه من الأمور التي عبرت فيها بالخطبة عن
رأيه قبل الوقوف عليه. (ومنها) أنه له ثقة بالدولة البريطانية، وتقديرًا لقوتها
وعظمتها لا حد لهما، ولا سلطان لشيء عليهما. (ومنها) أن ما شاهده من
التطور والتحول في سياسة الدولة العثمانية، وإفضاء ذلك إلى جعْلها كالكرة في
أيدي جمعية الاتحاد والترقي قد ضاعف ما في فطرته وتربيته من كراهة الآراء
والأفكار التي نشأ عنها ذلك الفساد، وشدة الحذر من أصحاب أمثال هذه الآراء
والأفكار، وقد ذكرت في هذه الرحلة ما كان أعجبني ووافق رأيي من خطته
السياسية التي أفصح عنها في منشوراته، وأشرت إلى ما طرأ بعد ذلك من التحول
فيها فلا أعيده، وإنما أقول: إنه جاء موافقًا لما ذكرته هنا من آرائه الراسخة،
فظهر أن التجارب لا تزيدها إلا رسوخًا وثباتًا.
وإنني أختم الكلام بتكرار الشكر والثناء على حسن ضيافته لي وإكرامه إياي،
فقد غمرني بكرمه وجوده، وكان من دقة لطفه وكمال ذوقه في ذلك أن جعله
بطريقة لا مجال للاعتذار عن قبول شيء منه، وقد كنت قلت أول مقدمي لبعض
المقربين منه كلامًا عن عادتي التي شرحتها في المنار عند رحلتي إلى الهند، وهي
أنني لا أقبل أن تشاب خدمتي للعلم وللملة والأمة بشيء من شوائب المنافع الشخصية،
حتى إنني كنت أعلن في تلك الرحلة أنني لا أقبل الهدية، ورجوت أن يتلطف في
تبليغ ذلك، وإن أدري أفعل أم لا، ولكنني بعد شد الرحال وعند إرادة الركوب
وصلت إلى جائزة سنية، أو هدية هاشمية، أردت أن أكلم مَن جاء بها في شأنها،
فقال: هكذا أُمرت، وأنا لا أعلم شيئًا إلا أنني عبد مأمور أمرني سيدنا، فنفذت
أمره، وانصرف، فعجبت من هذا اللطف الدقيق، والذوق السليم.
طواف الوداع وتوديع الإخوان:
في أثناء اشتغال وكيل الخرج وأعوانه بشدّ الرحال، طفت أنا ومَن معي من
الآل والصحب طواف الوداع، وكان ذلك بعد العصر، وكنا قصدنا أن نركب في
ذلك الوقت، ولكن لم يتيسر لنا الركوب إلا عند قرب غروب الشمس، وودعنا قبل
الخروج كثير من الإخوان والمحبّين، وركبنا، وركب معنا بعض الأصدقاء
مشيّعين، وفي مقدمتهم السيد الزواوي الكبير، ونجله السيد عبد الرحمن والشيخ
حسين با سلامة، ومطوفنا ونجله، وخرج معهم الأخ الرفيق الشيخ خالد، أما سائر
الرفاق والأهل فقد ركبوا في الشقادف من أول الأمر، وأما أنا فركبت البغلة التي
أُرسلت إليَّ من الإصطبل الهاشمي مع اثنين من حُجاب الأمير مشيا أمامي
بملابسهما الرسمية، حتى إذا ما خرجنا من مكة المكرمة، وبلغنا المكان المعروف
بقهوة المعلم - وقد ذكرناه في الكلام على دخولنا مكة حرسها الله تعالى - ألفينا
هنالك صاحب السيادة الشريف شرف حاكم مكة (القائم مقام الأمير فيها) بالانتظار
مع بعض رجاله، وقد أنفذ للتوديع من قِبَل الحضرة الهاشمية نائبًا عنها، وعلمنا
أنه خرج منذ وقت العصر؛ لأنه هو الوقت الذي عيّن لخروجنا، ولم يتيسر لنا
الخروج فيه، فنزلنا، وجلسنا معه قليلاً، واعتذرنا له عن تأخيرنا، وشكرنا له هذا
الانتظار الطويل، ثم صلينا المغرب مع المودعين جماعة، وأتبعتُها أنا والرفيقان
بالعشاء مجموعة معها جمع تقديم، ثم ودعنا السادة المشيعين، وركبنا الرواحل،
وسِرنا باسم الله قافلين، والحمد لله رب العالمين.
ذيل لمباحث الحج في الصدقات وفقراء الحرم:
إنني عند توديع السيد الزواوي قلت له: قد بقي معي في الكيس خمسة عشر
جنيهًا إنكليزيًّا من النقود المخصصة للصدقة في الحرم، لم يتيسر لي إنفاقها، فأنا
أوكلك في توزيعها على المستحقين من أهل الصلاح والمروءة المتعففين، وأعطيته
إياها، فأرسل إليَّ بعد عودتي إلى مصر ورقة فيها أسماء مَن صرفها لهم، ومقدار
ما أعطى كُلاًّ منهم، وعليها أختامهم، وبهذه المناسبة نقول في فقراء الحرم
والصدقة فيه وفي غيره، وما يتعلق بذلك كبحث السؤال:
إن الفقراء المتسوّلين أول مَن يستقبل الحجاج قبل دخول مكة، وآخر من
يشيعهم عند الخروج منها عائدين إلى بلادهم، وكذلك شأنهم عند الخروج من مكة
إلى منى فعرفات، وعند العودة من منى بعد انقضاء أيامها. وأكثر هؤلاء
المتسولين من صغار الصبيان والبنات، يقل فيهم المراهقون والمراهقات، فتراهم
يحيطون بالحجاج من كل جانب، رافعين أيديهم إلى مقدم الهوادج، وألسنتهم تكرر
الأدعية المناسبة للأوقات، فيذكرون في أدعيتهم قبل دخول مكة، وعند الخروج
إلى عرفة، أداء الحاج وقبوله والعودة بالسلامة، وبعد الحج زيارة النبي صلى الله
عليه وسلم والوقوف بشباك حجرته الطاهرة، ومنهم مَن يربط كوزًا من الزنك
ونحوه بطرف خشبة كالعصا، ويرفعها حتى تكون بين يدي الراكب، فيكون ما
يوضع في كل كوز خالصًا لحامله، وأما الصغار الذين لا يحملون هذه الكيزان فما
يرضخ لهم يُرمَى على الأرض، فيستبقون لالتقاطه، فيكون حظ النشيط والقوي
منهم أضعاف حظ الخامل والضعيف.
السؤال محرم في الإسلام لا تبيحه إلا الحاجة الشديدة، أو الضرورة التي
تبيح كثيرًا من المحظورات كأكل الميتة ولحم الخنزير؛ لأنه ذل يدعو إليه الكسل
وحب البطالة والاتكال على أوساخ الناس، والضرورات عوارض تعرض لبعض
الناس أحيانًا وهي تقدر بقدرها شرعًا، وليس من شأنها أن تكون ملازمة للكثيرين
من الأصحاء القادرين على الكسب، بحيث تبيح لهم أن يجعلوا السؤال حرفة يكون
عليها مدار رزقهم، كما هو شأن أكثر السائلين في كل البلاد، بل يكون بعض
هؤلاء غنيًّا شرعًا تجب عليه الزكاة، وقد يتأثل السائمة والعقار، وإذا كان السؤال
لغير ضرورة معصية محرمة - وكانت الإعانة على المعصية معصية - فعلى
المسلم العارف بأحكام الإسلام أن لا يرضخ بشيء لمَن يعلم من حاله أنه قد اتخذ
السؤال حرفة له، ولا لمَن يعلم أيضًا أنه غير مضطر إلى ما يسأله، بأن كان
يمكنه أن يستغني عنه، والمجهول حاله في ذلك موضع تردد ونظر، وأما من يعلم
الإنسان أو يظن من حاله أنه يسأل عن ضرورة ولا غنى له عما يسأله ولا وصول
له إليه بغير السؤال - فلا مندوحة للواجد على مواساته والرضوخ له من مال الله
تعالى وقد يصل ذلك إلى درجة الوجوب، كأن تعلم أن فلانًا مضطر ولا يعلم بحاله
أحد يرجى أن يزيل اضطراره سواك وأنت قادر على ذلك، ومثل هذه الصورة تقع
للأفراد القليلين، وقلما تقع للكثير من الناس إلا في أزمة المجاعات العامة.
إنني قلما أعطي أحدًا من السائلين الكثيرين في الشوارع بمصر ولما رأيت
هؤلاء السائلين خارج مكة عند قدومي إليها - وأنا لم أنسَ ما كان بلغنا ونحن في
مصر من خبر العسرة والضيق في الحجاز وما سمعته مؤكدًا لذلك في جدة -
وجدتني مندفعًا لإعطاء كل مَن سألني، ولما نفد ما كان في كيسي من الدراهم المعدة
لنفقة الطريق في جدة إلى مكة - أذنت الرفيق الذي صحبني من جدة بأن يعطي مَن
يعلم أنه لم يأخذ مني ويحصي ما ينفقه كي أرده له بعد الاجتماع بالآل الذين كانوا
يحملون نفقتنا في رحالهم. وكنت أردت أن أجري على هذه الطريقة مع السائلين
في الحرم الشريف. ثم صدني عن ذلك أنهم صاروا يجتمعون عليَّ بكثرة عند
الدخول ويحيطون بي، بحيث يتعذر توزيع ما في اليد أو الجيب عليهم فكنت أنثره
على بُعد، فيتركونني، ويتهافتون عليه، ثم تركت ذلك لما فيه من المشقة والشهرة،
ورأيت الراحة في الإخفاء، ولكن رفيقي محمد نجيب أفندي ظل يتحمل التعب
والعناء في توزيع الصدقة على هؤلاء المتسولين في داخل الحرم وخارجه وله صبر
طويل على ذلك.
ومن غريب ما رأينا من دلائل البؤس والجوع في الفقراء الملازمين للحرم أن
بعض الناس جاء بشيء من الحبوب لحمام الحرم فاختطفوه، وصار بعض
السودانيين من الدكرور يأخذون منه ويضعونه في أفواههم ويمضغونه متغذّين به
كالدواب. وقد جرينا نحن على عادة الناس بالرضخ بالقليل للواحد من هؤلاء
المتسولين، بحيث كان صرف الجنيه الواحد يوزَّع على المائة أو المئات منهم،
وإنما تطيب النفس بما هو أكثر من ذلك للذين يتعرضون ولا يسألون، والذين إذا
سألوا يتجملون ولا يلحفون، وإنما ذكرنا هذا البحث وما وقع لنا من التجربة فيه
ليستفيد منه غير العالم بما ذكرنا من الأحكام، وغير الواقف على ما وقفنا عليه من
التجارب، ونسأل الله أن لا يجعل فيه شيئًا من الرياء وشهوة الشهرة، على أن
صدقتنا مما ينبغي أن يستحيا من ذِكْره، فهي - والحق يقال - دون ما أنعم الله به
علينا، وما من أحد يحج إيمانًا واحتسابًا إلا ويتصدق في الحج بحسب سعته؛ لأن
الأعمال الصالحة يضاعَف أجرها في ذلك الزمان وذلك المكان، ومنهم مَن ينفقون
هنالك فوق جميع ما نملك من المال، ولكن المتصدق العالم المخلص يجد عناءً
عظيمًا في تحرِّي المستحقين الصادقين، من أهل الإيمان واليقين، والصلاح في
الدين، يجد هذا العناء في وطنه الذي يقيم فيه، فكيف حاله في بلد يجهل حال أهليه،
وقد كثر الكفر والابتداع في الأرض، وظهر الفساد في البر والبحر؟ وليس
هذا محل شرح هذه المسألة بالإسهاب، وقد ألممنا بها من قبل في المنار.
القفول من مكة إلى جدة:
إننا لما ودعنا المشيعين الكرام وامتطينا الرواحل اخترت أن يكون محمد
أفندي هو الصاحب بالجنب لي، وأن يركب وكيل الخرج مع الأستاذ الشيخ خالد،
وكان المناسب أن يركب الأستاذ معي لما بيننا من التعادل والتوازن في الجسم،
وطول الصحبة مع التوافق في التربية والرأي، فإننا تعارفنا من أوائل العهد بمَقدمي
إلى مصر، ولا أزال أهدي إليه المنار من ذلك العهد إلى اليوم، ولا أرى منه إلا
الوفاق والثناء والشكر. وإنما اخترت التفرق في الرواحل لثلاثة أسباب ترجح ما
ذكرت من الجامعتين الجسمية والروحية بيننا: (أحدها) أن في تفرُّقنا عدلاً بين
الراحلتين في التخفيف عليهما؛ لأن تعادلنا في الجسامة، يقابله تعادل صاحبينا في
النحافة، (ثانيها) أن كلاً منا يحتاج إلى خدمة رفيقه في الراحلة، ومحمد أفندي
يرغب في خدمتي؛ لأنني أستاذه في الدين، فلا يبقى لخدمة الأستاذ إلا وكيل
الخرج، (ثالثهما) أن صاحبي أجدر بالاستفادة مني؛ لأنه اعتاد منذ كان تلميذًا
الرجوع إليّ في أمور دينه، فصرت لعلمي بشؤونه أقدر على إفادته وإفتائه في أمره،
وصاحب الأستاذ أجدر بالاستفادة منه؛ لأنه ما فتئ مشتغلاً بوعظ العوام
وإرشادهم، وقد حِيلَ بيني وبين ذلك في مصر، فلم يقع لي فيها إلا مِرارًا قليلة في
السنين الأولى من هجرتي، وأما في هذه السنين الأخيرة فلم يأخذ عني فيها إلا
بعض المدرسين وأذكياء طلاب العلم، وكان من لوازم هذه القسمة بيني وبين
صديقي أنني كنت أحسن حظًّا منه؛ إذ كان صاحبي من الأتقياء المتعلمين في
مدارس الحكومة حتى العالية فيها، العارفين بأخلاق الناس وشؤونهم بطول اختباره
وتجاربه في خدمة الحكومة المصرية، وصاحبه من العوام، على أنه كان يمكنه أن
يستفيد من اختباره لشؤون الحجاز - وأصناف الحجاج - ما لا يعرف إلا من أمثاله
المتوسِّمين بهذا الأمر.
سرينا منفردين ليس معنا رفاق من المصريين ولا غيرهم ممن نعرف، ولكنَّا
وجدنا في الطريق عددًا ليس بقليل من حجاج المغاربة منهم المشاة والركبان، وقد
بلغنا بحرة في وقت السحر، فعرَّسنا فيها [1] ، وكان الجوع قد بلغ منا؛ لأننا لم
نتعشَّ قبل خروجنا من مكة، فأكلنا مما حملنا من الزاد، وكان جُله من لحم خروف
أهداه إليَّ بعض المحبين، لم نَرَ مثله في طراوة لحمه ولينه ودسمه، لا في الحجاز
ولا في غيره، وهو ليس من ضأن الحجاز. ثم نمنا قليلاً؛ إذ استيقظنا بعد طلوع
الفجر، فأدركنا صلاته بفضل الله تعالى.
لم أَرَ من بحرة في إلمامي بها ليلاً قادمًا من جدة إلى مكة إلا ما على جانبي
الطريق العام من المنازل التي يسمونها القهاوي، وهي خاصة بالرجال، وأكثر مَن
ينزل فيها الرجال الذين لا يستغنون عما فيها من الطعام وشراب الشاي والقهوة،
وما يحتاجون إليه من الخدمة، أو الذين يريدون الاستراحة قليلاً، وإن كان معهم
كل ما يحتاجون إليه، وكنت حينئذ من هذا الفريق كما تقدم، وفي هذه المرة نزلنا
في المنازل التي يسمونها العشش، وهي وراء تلك القهوات، وقد رأيتها فوق ما
كنت أحسب رأيتها دورًا في كل دار بيوت من العيدان، وبيت خلاء لها حائط منها
يفصلها عن غيرها من الدور، بحيث يكون النساء في كل منها في ستر تام غير
معرضات لأعين أهل الدور المجاورة لها، نزلت مع الوالدة والشقيقة في دار،
ونزل رفاقنا في دار بجانبها، ومكثنا هنالك إلى ضحوة النهار، وقد نفد ما حملنا
من مكة من الماء، فجاءنا وكيل الخرج بماء كدر غير عذب، فسألناه: ألا يوجد
ماء نقي عذب في هذه الأرض؟ ، قال: بلى، ولكنه غالٍ لا يكفينا لملء ما معنا
من أواني الشرب أقل من ريال، فأمرناه بأن يأتينا بقدر الكفاية منه، فجاءنا بماء لا
يفضل الأول إلا بمضاعفة ثمنه، فكانت هذه كبرى سيئاته، جعلها خاتمة لخدمته،
فكانت سبب حرمانه مما كنت أنوي أن أجعله علاوة له على الأجرة الوافية التي
خصصها له الأمير، وما كان يصيبه كل يوم بعد كفايته وكفاية أهله من فضل النفقة
المعينة، وما أخذه من ذبائح نُسكنا التي وكلته بالتصرف فيها، وقد سبق له مثل
هذه السيئة معنا بمنى، جاءنا بماء كدر لولا أن تداركنا أنفسنا بالبحث عن ماء نقي
وفقنا له لما سلم أحد منا من مرض النزلة الشعبية التي ظهرت أعراضها في بعضنا،
ولكننا غفرنا له تلك. وأما هذه فلم نستطع تداركها وسوء الخاتمة لا يُغفر، فنسأله
تعالى أن يحسن خاتمتنا.
هذا، وإننا قد قاسينا من الظمأ في بقية يومنا وعامة ليلتنا بين بحرة وجدة ما
لم نعرف له نظيرًا في تاريخ حياتنا، فكنا نبل أفواهنا من ذلك الماء عند الضرورة،
وحاولت الاستغناء عنه بمصّ رب السوس فلم يغنِ شيئًا. وفي هذه الحالة تذكرت
ما كنت عازمًا على استصحابه من مصر، فأنسانيه الشيطان، وهو السكر الليموني،
أي الممزوج بحامض الليمون، فأوصي كل مسافر إلى تلك البلاد وأمثالها أن
يحمل معه شيئًا منه.
وصلنا إلى جدة قبيل الفجر، فنزلنا في دار صديقنا الشيخ محمد أفندي نصيف
وكيل الإمارة الجليلة، وقد نمنا بعد صلاة الفجر ساعات قليلة، وبعد الاستيقاظ
طلبت ماءً سخنًا للاستحمام، فاغتسلت، وغيرت ثياب الطريق، وعلمنا أن أكثر
الحجاج المصريين نزلوا إلى السفينتين اللتين جاؤوا فيهما، فتبعناهم، وزودنا
صديقنا بأحسن الزاد، ونزل معنا هو وبعض الأصدقاء في زورق البلدية البخاري
إلى سفينتنا التي جئنا فيها (النجيلة) مشيعين، وكان هذا آخر عهدنا بأرض
الحجاز، فنسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بالعودة إليها مرارًا كثيرة حاجّين ومعتمرين،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) التعريس: نزول المسافرين في آخر الليل للاستراحة.(20/352)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصائب الحرب
] وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [[1]
يشتغل بأعمال هذه الحرب - حرب المدنية - عشرات ألوف الألوف من
الرجال ومئات الألوف من النساء كان أكثرهم يشتغل بأعمال الزراعة والصناعة
والتجارة، فيكثرون من نتاج الأرض، ومن إيصال حاج بعض الناس إلى بعض،
فيعم به الرخاء وغضارة العيش، ويزداد المال في أيدي الناس، وقد قدر عدد قتلى
المعارك في أربع سنين بعشرات آلاف ألف، وعدد المشوّهين من الجِراح بخمسة
وعشرين، أو 30 ألف ألف، وحل محلهم مثلهم أو أكثر منهم، فتضاعفت خسارة
البشر بالحرمان من فوائد أعمالهم، فنقصت الأموال والثمرات بنقص الأنفس، ثم
بهلاك الكثير منهما، ومن الأنفس بحرب الغوَّاصات التي ابتدعتها مبتدعة أكثر
رزايا التدمير والتقتيل - ألمانية - فقد رقت صناعة هذه السفن الغواصة، حتى
صارت تحمل المدافع، وتقطع تحت الماء ألوفًا من الأميال والفراسخ، وحيثما
التقت بسفينة تحمل عروض التجارة، أو تنقل الناس من بلد إلى آخر، أرسلت
عليها وابلاً من قذائف المدافع أو سهامًا الطوربيل، فجعلتها كعصف مأكول، لا
تفرق بين سفن المحاربين وسفن الأمم التي على الحياد، ولا بين حاملة الجنود
وعدد الحرب وحاملة العروض وأهل السلم من الرجال والنساء والأولاد، أرادت
بذلك أن تحرم إنكلترة وأحلافها من ثمرات سيادة البحار، بعد أن شدد هؤلاء عليها
خناق الحصار، فآذت الأمم كلها، وأكثرت من عدد أعدائها.
كانت جوائح الغواصات سببًا في اشتداد الضيق، وامتداد الغلاء الفاحش إلى
جميع أقطار الأرض، وقد كان هذا القطر المصري في السنتين الأولى والثانية من
سِنِي الحرب أقل الأقطار غلاءً، وأكثرها رخاءً؛ لأن أرضه زراعية خصبة يمكنها
أن تنتج من الأقوات ما يزيد عن حاجة أهلها، وكان المخزون فيه مما يرد إليه من
الخارج كالفحم الحجري والأنسجة والمواد والأدوات اللازمة للزراعة والصناعة
كثيرًا، وثمنه معتدلاً، وقد غلا ثمن القطن منذ السنة الثانية، فربحت البلاد
عشرات من الملايين، قضت منها كثيرًا من ديونها، فلما اشتد حرب الغواصات
قلّ كل ما يرد من الخارج، وتضاعفت أثمانه أضعافًا، وتبع ذلك غلاء غلاّت
البلاد ومواردها، حتى بلغ ثمن إردب القمح في الشتاء الماضي خمسة جنيهات،
ويباع الآن الرِّطْل المصري من السمن بأربعة عشر قرشًا وخمسة عشر، وبلغ ثمن
أقة زيت الزيتون أربعين قرشًا، فصار مساويًا للسمن بعد اشتداد غلاء السمن،
وكان قد زاد عنه، إلا أنه قد ورد منه أخيرًا على الإسكندرية عدة قناطير من كريت،
فنزل الثمن قليلاً. ورطل اللحم البحري يباع في القاهرة بثمانية أو تسعة قروش،
وأقة العنب بِيعت بأربعة قروش فخمسة فستَّة، وقِسْ عليه سائر الفاكهة.
وقد سَعَّرَتْ الحكومة المصرية أكثر مواد الغذاء، فكان تسعيرها إياها سببًا
لزيادة الغلاء، ولم نر أهل هذه البلاد اتفقوا على مخالفة الحكومة وعدم الاكتراث
لها بشيء كما فعلوا في تسعير الأقوات. فمن الثابت أنها لم تنقص من ثمن شيء
إلا وزادوا فيه عما كانوا يبيعونه به قبل تسعيرها إياه، اللهم إلا زيت البترول فهو
الذي استطاعت الحكومة أن تنفذ أمرها فيه تنفيذًا مطردًا. وقد كان ثمن رطل اللحم
قبل تسعيره 6 قروش أو 6 ونصف قرش، فلما رفعته الحكومة إلى هذا القدر
ارتقى سعره كما علمت. وكان ثمن رطل السمن 9، فصار بعد جعلها إياه نحوًا من
ذلك بزهاء ضعفيه. وكان ثمن أقة زيت القطن المكرر كثمن رطل السمن، فصار
شأنه شأن السمن في التسعير والغلاء، وقس على ذلك سائر الأشياء.
وأما ما يرد إلى القطر من الخارج فقد تضاعفت أثمانه إلى ما شاءت أطماع
تُجاره التي لا حد لها، فتضاعف ربحهم، وعظمت ثروتهم، وكلما غلوا في الغلاء
غلا أهل الفَنَع والثراء في الشراء، وقد بلغنا أن أغنى أمم الأرض من الأوربيين
والأمريكيين ترك موسروها في أثناء هذه الحرب جميع ما يعد في العرف من
الكماليات، واكتفى الأغنياء منهم بالحاجيات، ومن دونهم بالضروريات، حتى
ترك أكثرهم شرب الخمور التي كان بعضهم يعدها ضرورية، وكسدت عندهم
تجارة الترف والزينة، وشذَّ أغنياء هذا القطر، فاشتد تباريهم في اتخاذ الحلي
والحلل، وتنافسهم في الأثاث والرياش، وأرهق مَن دونهم من أهل الطبقة الوسطى
عسرًا، فنسأله تعالى أن يجعل لهم مع هذا العسر يسرًا.
__________
(1) البقرة: 155.(20/364)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
إن الاضطرار إلى تقليل صحائف المنار على كثرة مواده حال دون
تقريظ المطبوعات الجديدة في هذه السنة وما قبلها، أو التنويه بذكرها للإعلام بها،
وذلك حق لأصحابه على مَن يهدونها إليهم من أصحاب الصحف الدورية حَقَّهُ العُرْفُ،
وأوجبه التعاون على نشر العلم، ولقراء هذه الصحف من الحق على أصحابها أن
يعلموهم بما يتجدد في صناعة المطبوعات من الصحف والمصنفات، ويبيّنوا لهم
قيمتها المعنوية قبل بيان قيمتها المالية، بالتقريظ الصحيح، والنقد النزيه، وإننا
نحب أن نؤدي الحقين، ونقوم بواجب النصح للفريقين، ولكن يتعذَّر علينا تارة
ويتعسر تارة قراءة ما يُهدَى إلينا من هذه المطبوعات، أو قراءة طائفة من كل منها،
تكفي لصحة الحكم في أمرها، ولا نحب أن نكون كمَن ينظر في فهرس الكتاب،
فيختار منه ما يظن أن فيه تقصيرًا أو خطأً، فيراجعه، وينتقد منه ما يراه محلاً
للانتقاد، أو يختار موضعًا يوافق رأيه فينقله، ويخصه بالثناء، ولا كمَن يثني على
كل كتاب يُهدى إليه ثناءً مجملاً، أو ينشر ما يرسله إليه صاحب الكتاب إطراء
مفصلاً، وخير من هذا وذاك أن يعرِّف صاحب الصحيفة بالكتاب تعريفًا تاريخيًّا،
بذكره وذكر اسمه واسم مؤلفه وموضوعه ووصف حجمه وورقه وطبعه، وهو ما
نجري عليه أحيانًا، وقد نزيد عليه بيان قيمته المعنوية أحيانًا، وإن من الكتب ما
يعرف الجمهور قدره في الجملة بمجرد ذكره أو وصفه، وإننا نراجع الآن ما أُهدي
إلينا في هذه المدة، ونذكر ما يقع في يدنا منه فيما بقي من أجزاء منار هذا
المجلد.
***
(جرجي زيدان "1861-1914 ")
(ترجمة حياته. مراثي الشعراء والكُتاب. حفلات التأبين. أقوال الجرائد
والمجلات في الرجل وآثاره) .
نشر هذا الكتاب إميل أفندي زيدان نجل جرجي بك زيدان ووارث الهلال من
بعده، مؤلَّفًا من ص 147 بحجم الهلال، مطبوعًا بمطبعة الهلال في سنة 1915،
وهذا الكتاب مستغنٍ عن الوصف والتقريظ.
***
(مبادئ علم السياسة)
كتاب لخصه سليم أفندي عبد الأحد الكاتب المشهور من بعض الكتب
الإنكليزية لمجلة الهلال، فطبعته في سنة 1915، وجعلته ملحقًا للسنة الثالثة
والعشرين من مجلة الهلال. وهو ثلاثة أقسام: (أولها) في الدولة: حقيقتها
ونشوؤها وسلطتها وصلتها بغيرها وأنواع الدول في القديم والحديث. (ثانيها)
نظام الحكومة: سلطتها بأنواعها وأنظمتها وسياستها وإدارتها وأحزابها وغير ذلك.
(ثالثها) الحكومة والاجتماع: وفيه ذكر المذاهب الفردية والاشتراكية والأنظمة
الحاضرة.
أما حاجة اللغة العربية إلى مثل هذا الكتاب فشديدة لكثرة القراء الذين يهتمون
بالأمور السياسية، وقلة ما في اللغة من موادها. وأما طبع الكتاب فنظيف وورقه
جيد، وصفحاته 130 بشكل المنار والهلال.
***
(خلق المرأة)
كتاب ألفه بالفرنسية هنري ماريون الذي كان أستاذًا في كلية الآداب بباريس
وترجمه بالعربية إميل أفندي زيدان صاحب الهلال، وجعله ملحقًا للسنة السادسة
والعشرين. وقد طالعته كله، فألفيت كاتبه من أعدل الكتاب الأوربيين في هذا
الموضوع، وأرجو أن أكتب شيئًا في بيان ما استفدته منه، وقد طبع بمطبعة
الهلال طبعًا حسنًا، ولكن على ورق غير جيد، والعذر قلة الورق، وكثرة الثمن،
وصفحاته 119.
***
(الصبي: بحث في الأخلاق والتربية في قالب روائي)
كتاب ألفته إنكليزية اسمها (ماري كورلي) وعني بترجمته بالعربية عبد
العزيز أفندي صدقي من موظفي وزارة المعارف والتزم طبعه نجيب أفندي متري
صاحب مطبعة المعارف، وقد طبع الجزء الأول منه في العام الماضي في 128
صفحة.
أما المترجم فشاب نبيه يتوخى أن ينفع بلاده بما يترجم، وليس ممن لا هَمَّ
لهم من الترجمة أو التأليف إلا الكسب، فيختارون ما يلذ للجمهور، لا ما ينفعه،
وعبارته حسنة، ولكن فيها ما فيها من ضعف أساليب الجرائد وغلطها، وذلك ما
يعز أن يسلم منه كاتب عصري، وهو - على ما أظن - غير مغرور بها على
علمه بأنها تفضل عبارات أكثر مترجمي القصص التي تُنشر في هذه الأيام، بل
يحب الترقي والكمال في الترجمة والإنشاء، ولا طريق لذلك إلا عرض ما يترجم
وينشئ لنقد بعض علماء اللغة والأدب ومتأنقي الكتاب قبل نشره أو بعده ولو بالجعل
والجزاء.
وأما غرضه من ترجمة هذه القصة فقد بيّنه في مقدمتها وهو إكمال ما ينقص
البلاد من القصص الجدية الجامعة بين لذة المطالعة والفائدة النافعة في تربية الأسرة،
وقد شرح ذلك شرحًا جميلاً في صفحتين ونصف صفحة.
تصفحت هذا الجزء فألفيته مفيدًا كما قال المترجم ولكن البلاد ليست فارغة
خالية من مثله كما ادعى، كيف وقد طبع فيها كتاب (التربية الاستقلالية) مرتين
وأوشكت نسخ الطبعة الأخيرة أن تنفد، وهو إذا قوبل بما ظهر من كتاب (الصبي)
يظهر أنه أعم فائدة وأفضل، وأسلم من لغو القصص وأبعد، ومما أعجبني من
الفوائد التي انفرد بها كتاب الصبي أو خالفه فيها غيره - بيان كراهة الشعب
الإنكليزي لتعليم أولاده وتربيتهم في مدارس أجنبية، فإن مؤلف كتاب التربية
الاستقلالية (إميل القرن التاسع عشر) - وهو فرنسي - قد استحسن أن يُربَّى
الطفل الفرنسي في البلاد الإنكليزية؛ لأن التربية فيها أفضل، وأن يعلم ويربى في
بلاده إذا صار يافعًا؛ لينشأ فرنسيًا وطنيًّا صادقًّا، ثم يكمل علومه في البلاد الألمانية؛
لأن العلوم العالية أرقى فيها وأكمل. وأما مؤلفة كتاب الصبي أو قصته فهي تقول
في التعليم في المدارس الأجنبية ما قال مالك في الخمر، وتجعلها أدهى من الساعة
وأمرّ؛ فقد ذكرت أن أم (الصبي) الجاهلة - التي جعلتها مثلاً للتربية الفاسدة - قد
اختارت له مدرسة أجنبية، يتعلم فيها من اللغات والعلوم العقلية والجسمية، وما
يؤهله لكل عمل في الحياة، على قلة الأجر والنفقات، ثم ذكرت أن الصبي ارتاع
لهذا الاختيار الذي يُخرجه عن كونه إنكليزيًّا: (إذ كان وجدانه يحدثه أن المدارس
الأجنبية تبدل جنسيته وأخلاقه) ، ثم قالت: (إن الصبي ذكر ذلك لشيخ كبير
مختبر، يعرف البلاد الأجنبية، فحذره من ذلك، وأنذره سوء عاقبته بقوله: إن
المدارس الأجنبية لا تخرّج إنكليزيًّا مطلقًا، إنك تذهب إلى الخارج شابًا ظريفًا
مؤدبًا كما أنت الآن، ولكنك لا تعود بتلك الصفات، ستعود وقد تعلمت الكذب
والنفاق والمخادعة، فعندما تتحدث تنهق كالحمير، وعندما تسير تقفز كالضفادع،
وسوف تخاف من الماء البارد، ولا يمكن للناظر إلى وجهك أن يقول: إنك إنسان
حي، إنك أجنبي متَّسخ حقير، هذا ما ستكونه) اهـ.
__________(20/366)
شوال - 1336هـ
يوليو - 1918م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [*]
لما وصل إلينا هذا النقد في بريد الشرق الأقصى كان أول ما خطر في بالنا
قبل أن نقرأه أنه يجب علينا إذا وجدناه كله أو جلَّه صحيحًا أن نشهد لصديقنا الناقد
بالتدقيق والتحقيق، وأنه بزَّ فيهما علماء مصر وغير مصر من البلاد الإسلامية
التي اطَّلع كثير من علمائها على كتاب (ذكرى المولد النبوي) ، فلم يروا فيه
بعض ما رآه هو من الخطأ، ثم قرأنا النقد، فرأينا أكثره خطأً محضًا، وأقله ما له
وجه أو شبهة، وها نحن أولاء نبين ذلك بما يحتمله المقام من التفصيل، مع اتقاء
ما يمل من التطويل.
***
(الموضع الأول)
تأليف الكتاب هل هو بدعة
قد غفل الناقد عما حررناه في المقدمة من كون البدعة في احتفال المولد إنما
هي مجموع ما يعمله الناس من خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو ...
إلخ ما ذكرنا في صفحة (ي) من المقدمة، وقد صرحنا فيها بأن قراءة قصة المولد
عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة النبوية، لا يُنكَر منها إلا جعْلها من
الشعائر الدينية الموهمة أنها مشروعة، أي بالتوقيت والاجتماع وغير ذلك. فغفل
عن ذلك وجعل هذا العمل العلمي المفرد عين ذلك المجموع المركب، ومن العجيب
أنه ادَّعى أننا ختمنا كل فصل من ذكرى المولد بما سماه (الصلاة البتراء) ، غافلاً
عن كون أهم فصوله - وهو فصل تبليغ الدعوة - لم يُختم بصلاة بتراء، ولا غير
بتراء، وكذلك فصل مناهضة الدعوة، وإلجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
الهجرة، ومثلهما الخاتمة.
أما قولي في آخر تلك الصفحة: إنني كنت أتحامى كتابة قصة المولد لما
ذكرت من الأسباب الثلاثة - فهو حكاية عن رأيي في هذه المسألة في السنين
الخالية، وأما ما أنفذته إثْر ما كان من المذاكرة بيني وبين البكري فهو ما ترجَّح
عندي بعد ذلك وهو كتابة مصنف وجيز في خلاصة تاريخ المصطفى صلى الله
عليه وسلم وسيرته، وحقيقة دعوته، وكليات دينه وشريعته - يكون دعوة إلى
الإسلام، وردًّا لما فشا في قصص الموالد من الأباطيل والأوهام، وأن أنشره مع
بيان ما به تكون قراءته فريضة أو فضيلة محمودة، وما يكون بدعة مذمومة،
فتكون بذلك فوائد نشره مضاعَفة، وإني أعتقد أن هذا العمل واجب شرعًا، ولو
فصَّلت أدلتي على ذلك لما خفيت على أحد، ولكن لا حاجة إلى هذا التفصيل.
على أن آخر عبارة الناقد لهذا الموضع تفيد إجازة هذا التأليف ونشره في
المنار؛ إذ حصرت النقد في طبعه منفردًا، وختم فصوله بالصلاة البتراء، ويعني
بها ما تُرك فيها الصلاة على الآل؛ لأنه - فيما يظهر - ينكر ذلك، ويراه بدعة
محظورة، ويلتزم قرن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على الآل،
ولو فيما ينقله عن غيره كما يراه قراء نقده فيما نقله عن ذكرى المولد، وهذا من
التحريف في النقل، ولا يخفى حكمه. ونحن لا ننكر أن الصلاة على الآل تبعًا
للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلاة وكذا في خارجها،
ونحن نفعلها في التشهد من الصلوات دائمًا، وفي غيره أحيانًا، ولم يقم عندنا دليل
على التزامها ولم يصح عندنا نقل عن السلف من الصحابة وعلماء التابعين ولا أئمة
آل البيت بذلك، وإنما تلتزمها فرقة الشيعة، وقليل من غيرها، والتزامها أقرب
إلى البدعة من تركه؛ لأن الأصل في البدعة مخالفة ما كان عليه أهل الصدر الأول
بشرطه، وأما طبع الكتاب وحده فهو كطبعه في المنار، والناقد نفسه يقترح أن
يطبع مرة أخرى يُراعَى فيها ما رأى تنقيحه في نقده كما تقدم آنفًا.
* * *
(الموضع الثاني)
الفرق بين الامتياز وما به الاصطفاء
سألنا في الكتاب: كيف كان اصطفاء الله تعالى لتلك البطون من العرب،
وبِمَ امتازوا على غيرهم، حتى كانت أمتهم بهم أفضل الأمم، وأشد استعدادًا لذلك
الإصلاح الكامل العام، الذي جاء به صفوة البشر منهم عليه أفضل الصلاة والسلام؟
وأجبنا عن ذلك بما شهدت به التواريخ العامة من امتياز الأمة العربية على
سائر الأمم من بدء التاريخ إلى عصر الإصلاح الأعظم بالبعثة المحمدية، وبما
عُرف في تاريخ العرب أنفسهم من امتياز كنانة فيهم وامتياز قريش في بني كنانة،
وامتياز بني هاشم في قريش، فعلم بهذا أن اصطفاء كل بطن منهم كان بما امتاز به
من المزايا والصفات والأحوال التي كان عليها، وأن ذلك كان إعدادًا لهم لجعْل
صفوة الأصفياء في خير بطن منهم، ولقيامهم بدعوته، ونشرهم لهدايته، ولم
يتأمل الناقد ذلك؛ فوقع فيما وقع فيه، مما لم يخطر لغيره من الكُتَّاب وعلماء اللغة
عندنا ببال؛ إذ لم يفطن لكون ما به الامتياز هو سبب الاصطفاء أو نفس الاصطفاء.
* * *
(الموضع الثالث)
إنكار عطف واقتراح آخر
أنكر الناقد علينا في جملة (كانت الأمم مرهقة بالأثرة والأنانية والأنين من
ثقل الضرائب) من الصفحة الخامسة أن عطف الأنين على الأثرة غير صحيح أو
غير واضح، واختار حذفه أو وضع فعل الأنين المضارع موضع المصدر، قال:
ليصح العطف أو ليكون أوضح، ونقول إن لإنكاره دون اقتراحه وجهًا وجيهًا،
ولكنه لم يبينه، وهو أن الباء في قولنا (بالأثرة) للسببية أو للآلة، وكل من الأثرة
والأنانية سبب للرهق الذي أُرِهقته تلك الأمم أو آلة له، وأما الأنين فهو أثر السبب
أو الآلة وليس منه، والوجه أن يقال (تأن) بغير عطف.
* * *
(الموضع الرابع - أما جوابها)
بيَّنَّا وجوه اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم على غيرهم من العرب بأسلوب
أما وأما، فأنكر الناقد ذلك في كنانة بجعله هنا خلاف الأولى، زاعمًا أن الأولى
حذف (أما وجوابها) ، وبدء الكلام هكذا: اصطفاء الله لكنانة يعلم مما كانت
تحفظه العرب ... إلخ، ولم يبين وجه هذه الأولوية، فندعها إلى القراء يحكمون
فيها بعلمهم وذوقهم.
* * *
(الموضع الخامس)
ندوة قريش ورايتها " العقاب "
زعم الناقد أننا في هامش الصفحة الثامنة فسَّرنا الندوة بالشورى،
وخصصناها بإجالة الرأي للائتمار بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، وأن
المعروف ما ذكرناه عنها في صلب الكتاب، وقد فهم ذلك من قولنا: (التي اجتمعوا
فيها بعد البعثة للائتمار به صلى الله عليه وسلم) وبديهي أن وصفها بذلك لا يدل
على ما فهمه من التخصيص، وإنما تلك غفلة ظاهرة منه.
وأما إنكاره قولنا: إن العقاب راية قريش، وقوله: إن المعروف أنها راية
النبي صلى الله عليه وسلم كما في القاموس، فما كان له أن يرسله بدون مراجعة
لكتب التاريخ والحديث؛ إذ كلمة القاموس وحدها لا تكفي للفصل في مثل هذه
المسألة، وهو يعلم أن ما في القاموس مشهور لا يعرف عامة الناس غيره لذكره في
السيرة النبوية، وأشعار الشعراء كقول صاحب الهمزية:
فغدا ناظرًا بعيني عقاب ... في غزاة لها العقاب لواء
فكان ينبغي له - والأمر ما ذكرنا - أن يقول: إن مجيء هذه العبارة من
صاحب المنار على خلاف المشهور لا بد له من أصل، ثم يراجع لعله يقف على
هذا الأصل، ويحكم فيه حكمه.
أشهر معاني العُقاب (بضم العين) أنه طائر من الجوارح التي تصيد، (ومنها)
الحرب نقله في اللسان عن كراع، (ومنها) العَلم الضخم نقله الجمهور، قال في
اللسان: والعقاب الذي يعقد للولاة شُبِّهَ بالعقاب الطائر وهي مؤنثة أيضًا. ونقل
صاحب العقد الفريد في كتاب النسب عن ابن المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي
أن الذين انتهى إليهم الشرف من قريش - فوصلهم بالإسلام - عشرة رهط من
عشرة أبطن، كان لكل منهم منصب ومكرمة من المكارم التي كانت لقريش -
وهي التي ذكرناها في الصفحة 8 - قال: فكان من هاشم العباس بن عبد المطلب
يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام، ومن بني أمية أبو سفيان
بن حرب، كانت عنده العقاب راية قريش، وإذا كانت عند أحد أخرجها إذا حميت
الحرب فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب، وإذا لم يجتمعوا على أحد
رَأَّسُوا صاحبَها، فَقَدَّمُوهُ. اهـ المراد منه.
ويؤخذ من كلام علماء التاريخ والعاديات أن طائر العقاب شعار قديم للعرب
وقد عبر بعضهم عنه بالصقر، وإنما الصقر في اللغة: اسم لكل ما يصيد من
جوارح الطير، فالظاهر أن قريشًا سمت راية الحرب الكبرى بالعقاب من ذلك،
وأما كون رايته صلى الله عليه وسلم تسمى العقاب فلم يثبت في حديث صحيح،
ويحتمل أن يكون سبب هذا القول أن بعضهم أطلق هذا اللفظ على رايته الكبرى
بمعناه اللغوي العام، الذي هو العلم الضخم، ففهم آخرون من الإطلاق أن العقاب
اسم علم لها. وقد لخص الحافظ ابن حجر في شرح: (باب ما قيل في لواء النبي
صلى الله عليه وسلم) - من صحيح البخاري ما ورد في كتب السنة في ذلك،
وحكى هذا القول بصيغة التمريض والتضعيف، وقد رأينا أن نذكر عبارته برمتها؛
لأنها فصل الخطاب في مسألة هذا الباب، قال:
اللواء بكسر اللام والمد هي الراية ويسمى أيضًا العلم وكان الأصل أن يمسكها
رئيس الجيش ثم صارت تُحمل على رأسه. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير
الراية، فاللواء ما يُعقد في طرف الرمح، ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك
حتى تصفقه الرياح. وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم
علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، وجنح
الترمذي إلى التفرقة فترجم بالألوية وأورد حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض. ثم ترجم للرايات، وأورد حديث البراء أن راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء مربعة من نمرة، وحديث ابن عباس
كانت رايته سوداء ولواؤه أبيض أخرجه الترمذي وابن ماجه وأخرج الحديث أبو
داود والنسائي أيضًا ومثله لابن عدي من حديث أبي هريرة ولأبي يعلى من
حديث بريدة، وروى أبو داود من طريق سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم:
رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، ويجمع بينها باختلاف الأوقات.
وروى أبو يعلى عن أنس رفعه: (إن الله أكرم أمتي بالألوية) ، وإسناده ضعيف،
ولأبي الشيخ من حديث ابن عباس: (كان مكتوبًا على رايته لا إله إلا الله،
محمد رسول الله) وسنده واهٍ. وقيل كانت له راية تسمى العُقاب سوداء مربعة،
وراية تسمى الراية البيضاء، وربما جعل فيها شيء أسود اهـ.
* * *
(الموضع السادس)
توجيه قوى قريش لمعاداته صلى الله عليه وسلم
أنكر الناقد قولنا - في الصفحة التاسعة: إن قُوى قريش المعنوية وُجهت
كلها لمعاداته صلى الله عليه وسلم - بأنها مُشعرة بغاية الهجو وموهمة أن جميع قريش
وجهوا جميع قواهم لمقاومته صلى الله عليه وسلم، وبأن هذا مخالف للسياق
وللواقع، ثم نَوَّهَ بفضل قريش بما نَوَّهَ به.
ونقول في الجواب:
(أولاً) إن ما يتضمنه الكلام من هجو فهو خاص بجاهلية قريش التي ذمها
الله ورسوله والمؤمنون، فقد فعلوا ما فعلوا وهم مشركون، وما زال أكثرهم
مشركين أكثر مدة البعثة، وما صاروا يدخلون في الإسلام أفواجًا إلا بعد فتح مكة،
ويأس مَن بقي من زعمائهم بعد الحرب من الرياسة، وأي جرم أجدر بالذم والهجو
مما فعله من إيذاء الله ورسوله وفتنة المؤمنين وإخراجهم من ديارهم، وقتالهم في
دار هجرتهم، وذلك لا يقتضي ذم المؤمنين منهم ولو بعد الإيذاء، فقد كان خالد بن
الوليد أشد كُماتهم نكايةً في قتال المسلمين، ثم صار أشدهم نكايةً وبلاءً في قتال
أعدائهم الكافرين.
و (ثانيًا) إن ما كان من كفر أكثرهم وإيذائهم لا ينافي ما ذكرنا من استعداد
جمهورهم للإسلام بما ذكرنا من مزاياهم؛ فإن سبب الكفر والإيذاء كبرياء الرؤساء
المعروفين وحيلولتهم بين الرسول وبين الجمهور وتقليد الدهْماء واتباعهم لهم؛
ولذلك كان صلح الحديبية فتحًا مبينًا بظهور ذلك الاستعداد فيهم، وفي غيرهم من
العرب عندما صاروا يجتمعون بالمسلمين، ويسمعون منهم القرآن وصفة الإسلام،
كما بينا ذلك في ص 39 و40 من ذكرى المولد، ومن الدلائل على هذا حديث
جابر مرفوعًا عند أحمد ومسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) ، وحديث
أبي هريرة مرفوعًا عند البخاري: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا
فَقِهُوا) .
و (ثالثًا) إن العبارة لا تدل بطريق الحقيقة ولا المجاز ولا الكناية على أن
جميع أفراد قريش وجهوا جميع قواهم لمعاداته صلى الله عليه وسلم، وإنما هي
صريحة في توجيه قوى القوم المعنوية التي هي جاههم ومكانتهم الدينية والأدبية في
العرب إلى مقاومته صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون هذه القوى للهيئة الاجتماعية
والجمهور الأعظم الذي يمثله الزعماء، وهذا هو الذي حصل، فلا مجال فيه
للجدال والمراء، ولم يكن الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم من قريش قبل
الهجرة بقادرين على حماية الدعوة، ولا حماية الرسول ولا ضعفاء المؤمنين من
الأذى والفتنة، بل كان أكثرهم محتاجًا إلى مَن يحميه ويجيره من جمهور قريش
أصحاب الجاه والثروة والعظمة.
وقد أراد الناقد أن يكثر عدد السابقين الأولين من قريش إلى الإسلام، ونصر
الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فجعلهم ثلاثة أزواج: (1) السابقون إلى
الإسلام مع إخفائه ومثَّل له بأبي طالب، وقد ثبت في حديث الصحيحين أن أبا
طالب مات على شركه، وأنه أدنى أهل النار عذابًا لدفاعه عن الرسول صلى الله
عليه وسلم وحياطته له وإن كان بباعث القرابة والعصبية، و (2) السابقون
المتحملون لمشاق التعذيب ومثَّل له بآل ياسر وليسوا من قريش، وإنما هم عنسيون
من اليمن، ولم يذكِّرْه ذكرُهم بما كانوا يقاسونه من تعذيب قريش لهم، وعجز جميع
المؤمنين عن إغاثتهم والدفع عنهم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمرّ
بهم، فيقول: (صبرًا آل ياسر؛ موعدكم الجنة) ، و (3) السابقون القائمون
بنصرته ونشر دعوته، (قال) : كحمزة وعلي وخديجة وأبي بكر وغيرهم،
وتمثيله بذكر هؤلاء صحيح، ولكنهم كانوا عددًا قليلاً، لم يقدروا على حماية أنفسهم
وحماية الدعوة، بل أخرجهم جمهور قريش القوي مع الرسول صلى الله عليه وسلم
وسائر المؤمنين من ديارهم بغير حق، كما شهد الله تعالى في سورة الأنفال والحج
والممتحنة.
وما ذكره من فضائل قريش في نقده لهذه العبارة من حق وباطل - هو دون ما
ذكرناه نحن في هذه الرسالة بحق، ولا نناقشه إلا في قوله: إن الإسلام ما اعتز
ودخل في طور القوة والمنعة إلا بعد إسلام مَن تأخر منهم، ففيه نظر، بل هو غلط؛
فإن الإسلام قد اعتز وقوي بدخول الأنصار فيه، وإن كان فضل السابقين الأولين
من المهاجرين على الأنصار معروفًا لا يُنكر؛ في كونهم الأساس الأول والركن
الأعظم، ولكن أخانا الناقد الفاضل أحد أفراد عصبية جديدة ذات نزعة عصبية
للعلويين من قريش، وبهذه النزعة استصغر ما استكبره واستعظمه جماهير
المطَّلعين على ذكرى المولد النبوي من فضائل قريش عامة، والعلويين منهم خاصة
بحق، ولنا في هذه العصبية كلام نقوله بعد.
ثم إننا نبرأ إلى الله مما نقله عن الزمزمي في همزيته، وهو زعمه أن قريشًا
لم تبطئ بالإيمان بغضًا وجفاءً، بل امتنعوا من تولّي الرسول صلى الله عليه وسلم؛
لئلا يشك فيه مَن يرى نصر القرباء له، بل أخّروا ذلك إلى أن تولى الله نصر
دينه، فلما كان ذلك دخلوا فيه، وصاروا رؤساء له، فهذا الزعم مخالف لما عُلم
بالضرورة من الكتاب والسنة وكتب السيرة النبوية كلها، فالظاهر منه أن الناظم
يريد أن السواد الأعظم من قريش آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم باطنًا، وكتموا
إسلامهم لعلمهم أن الله سينصر رسوله، ويعز دينه بغير سبب، ولا أحد من
المؤمنين من غيرهم، (إذ الظاهر أن هذا الرجل وأمثاله ينكرون فضل الأنصار
الثابت بشهادة الله ورسوله لهم بالإيواء والنصر أو يصغرونه أو يخفونه) ، فأحبوا
أن لا يكون إظهارهم للإسلام شبهة على نصره بالخوارق فأخروه لذلك؟ ! وماذا
يقول في الإيذاء والفتنة قبل الهجرة وفي سيرهم من مكة إلى المدينة لأجل قتال
النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعدها؟ ! .
هذا، وإننا ننوي تنقيح عبارات من كتاب (ذكرى المولد النبوي) عند إعادة
طبعه، منها الإشارة في هذه العبارة التي نرد نقد الناقد لها، نريد أن نحذفها،
ونقول: (ولكن قواها (أو قوى قريش) كلها وُجهت لمعاداته عليه أفضل الصلاة
والسلام) بدل: (ولكن هذه القوى كلها) ؛ فإن هذه الإشارة وقعت بعد كلام ليس
مرادًا منها، والناقد لم يلمح ذلك.
* * *
(الموضع السابع)
بُعد الآل عن الأمور الحربية والرياسة
قلنا في الصفحة العاشرة في بيان فذلكة ما امتاز به بنو هاشم آل الرسول
صلى الله عليه وسلم على سائر قومه من قريش: إن جملة ذلك الأخلاق العلية،
والفواضل العملية، والفضائل النفسية، والبُعد عن الأثرة والأمور الحربية؛ ولذلك
غلبوا على الرياسة حتى بعد الإسلام.. فرد علينا الناقد بقوله: لعل ثبوت بعد الآل
عن الأمور الحربية والرياسة لا يصح قبل الإسلام ولا بعده، واستدل على الأول
بما كان من المناصب الحربية لقريش قبل الإسلام، وبما ذكرنا من امتياز كنانة
ومالك وقصي في العرب، وعلى الثاني بحمل الآل لألوية القتال وقيادة الجيوش في
بدر وأحد وخيبر وحنين ... إلخ.
وأقول في الجواب: إنني أجلّ الناقد الفاضل عن أن يكون سوء الفهم هو
الحامل له على هذا النقد، كما يتبادر إلى كل مَن قرأه، وقرأ الأصل، وأكاد أجزم
بأن سببه نزعة العصبية التي أشرت إليها آنفًا، فهي التي ألقت إلى وهمه أن
العبارة تدل بجملتها على عدم استعداد آل البيت النبوي عليهم السلام للرياسة والملك،
وما يلزمهما من أمور الحرب، فأراد أن يرد على ذلك، فغفل عن أصل العبارة
وعن معنى الآل، وأخذ يستدل على أصالتهم في الأمور الحربية وعنايتهم بأمرها،
بما كان لغيرهم من قريش من مناصبها، وبما كان من الرياسة والملك لبعض
أصول قريش وأجدادهم كمالك بن النضر وكنانة! ولم يكن لبني هاشم من تلك
المناصب والرياسات التي ذكرها شيء، إنما كانت لهم سقاية الحاج فحسب، وكان
يتولاها العباس، الذي لا يعده الناقد ولا ذريته من الآل، أعني الذين وردت
الأحاديث في فضلهم وتحريم الصدقة عليهم، فأما الندوة واللواء فكانت لبني عبد
الدار، وقيل: إن الندوة والمشورة كانت لبني أسد، وأما السفارة فكانت في بني
عدي وتولاها قبل الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفسير هذه المناصب
يُعلم من هامش ص 10 من ذكرى المولد.
ثم إنه غفل عن جعْلنا امتياز بني هاشم بالأخلاق والفضائل دون الحرب،
وحب الأثرة والكبر - علة لغلبة غيرهم إياهم على الرياسة الدنيوية، حتى بعد
الإسلام، ولم يفهم نكتة هذه الغاية (حتى بعد الإسلام) ، والمراد منها ظاهر، وهو
أن الإسلام زاد في امتيازهم وتفضيلهم، فكان مقتضى ذلك أن يقدَّموا على غيرهم،
في كل ما يساوون غيرهم في الاستعداد له، ونبهنا إلى حكمة ذلك. وهذا الغلب
يصدق ولو لم يكن إلا لبني أمية؛ إذ العبارة لا تدل على أنهم يغلبون في كل زمان
وكل مكان، على أنهم غلبوا في أكثر الأزمنة والأمكنة، هذا هو الواقع الذي لا
مراء فيه.
على أنني أطلقت ضمير (الآل) في قولي (غلبوا) ، ولم يكن لأحد منهم
صورة في ذهني إلا العلويين، وما كان من زهد أئمتهم في الدنيا ورياستها، وما
قابل ذلك من أثرة غيرهم وتكالبهم عليها. وظلمهم إياهم؛ لتعلُّق القلوب بهم،
فأطلقت العام، وأنا أريد منه الخاص، والعبارة صادقة في كل حال، لا تنقضها
خلافة العباسيين من الهاشميين، الذين لا يعدهم الناقد من آل الرسول.
ثم إن نفينا لجعْل العناية بأمور الحرب من مزايا بني هاشم - التي فضلوا بها
سائر قريش - لا يقتضي أن يكونوا جبناء، يفرون منها، أو بُلداء لا يحسنون
التصرف فيها، إذا هم اضطروا إليها، فالحرب في نفسها شر، لا يبيحه إلا جعله
دافعًا لمفسدة هي شر منه، وإقامة مصلحة تصغر في جانبها هذه المفسدة، كما يعلم
من أول ما نزل في الإذن للمؤمنين في القتال، وذلك بقوله تعالى - في سورة الحج
-:] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [ (الحج:39-41) .
فبنو هاشم لم يكونوا يحبون الحرب للرياسة والكسب، كغيرهم من العرب
وغير العرب، ولم يوقدوا لذلك نار حرب قط، وقد كانت حرب الرسول صلى الله
عليه وسلم كلها دفاعًا عن الحق وأهله، وتأمينًا لحرية الدين ودعوته، ولكنه كان
أشجع الناس وأثبتهم في مواقف القتال، ويليه صلى الله عليه وسلم في ذلك عمه
حمزة وابن عمه علي المرتضى (رضي الله عنهما) ، والشجعان من بني هاشم لا
يحصون عددًا، ولكن الشجاعة شيء وحب الحرب للرياسة شيء آخر، وفي كلامه
هنا مآخذ أخرى سيعلم بعضها من الرد على بعض المواضع الآتية، على أنه لا
غرض لنا في مناقشته في كل ما أخطأ فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) يحسن أن يُراجع النقد في الجزء الثامن عند كل موضع من المواضع.(20/395)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
(2)
(قاعدة إصلاح قانون الأحوال الشخصية)
كان من أمر الحكومة المصرية بعد إعلان إنكلترة حمايتها عليها، وإلغائها
منصب القاضي الشرعي الأكبر الذي كان يعين من قِبَل الدولة العثمانية عليها - أنها
شرعت في أمر كان إنفاذه في أيام ذلك القاضي متعذرًا، وهو تأليف لجنة من علماء
الأزهر وبعض المدرسين في مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة الحقوق، يرأسها
وزير الحقانية لوضع قانون للأحوال الشخصية الخاصة بأحكام الزواج وما به
كالطلاق والفسخ والعدة والنفقة، تستمد مواده من فقه المذاهب الأربعة المشهورة،
ولا تتقيد بمذهب الحنفية وحده، بل يجعل القانون الذي كان وضعه قدري باشا
الحنفي هو الأصل، ويؤخذ من فقه المذاهب الأخرى ما تراه اللجنة أيسر وأكثر
انطباقًا على مصلحة الناس في هذا العصر. وطالما تمنى طلاب الإصلاح في هذا
القطر وغيره مثل هذا التيسير، ولكن ما جرت عليه الحكومة المصرية منتقَد من
وجوه أخرى بيناها في مقال لم يتيسر لنا نشره، وقد كاشفنا ببعضها بعض أُولِي
الشأن، وأهمها جعْل الأحكام الشرعية قانونًا، وما يترتب على ذلك؛ فالقانون إذا
أُطلق في هذا المقام ينصرف في العرف إلى ما يقابل الشرع من الأحكام، ويتوقف
الحكم به على إقرار مجلس الوزراء إياه، وصدور أمر الحاكم العام (الدكريتو أو
المرسوم السلطاني) به، ويلزم من ذلك جعْله تشريعًا جديدًا من هذه الحكومة،
يحكم به باسمها، على أنها هي الواضعة له، وينفذه وزير من وزرائها، لا يشترط
أن يكون مسلمًا، وكون القضاة يطبقون الحكم على ما يفهمون من نصوصه - وإن
كانت سقيمة - لا تدل على ما قصدته اللجنة دلالة واضحة (قد اطلعنا على بعض
ما وضع من هذا القانون، فوجدنا فيه عبارات كثيرة في غاية الضعف والركاكة) ،
وكونه سيُشرح كما شرح غيره من القوانين، فتُستنبط الأحكام من عبارته (النص
الحرفي) ، فيستعين بشرحه القضاة ووكلاء الدعاوي على فهم المراد منه، والعمل
بما يفهمون من ذلك، ولما كنت منتقدًا لهذا الوضع بهذه الصورة لم أبين رأيي في
مواده، عند ما أرسل إليَّ وزير الحقانية الجزء الأول الذي تم منه، كما أرسله إلى
كثير من علماء الشرع والقضاة والمحامين من شرعيين وأهليين؛ لأن إبداء الرأي
في ذلك يتضمن إقرار أصل العمل والموافقة عليه، ولست مقرًّا له ولا موافقًا.
وقد انتقد كثير من أهل العلم بعض مواد هذا القانون في الجرائد، واقترح
بعض مَن أُرسل إليهم ما تم منه اقتراحات، عُرضت على اللجنة العلمية المشتغلة
بوضعه، وعلمت أن بعض المحامين الأهليين اقترحوا على وزير الحقانية اغتنام
هذه الفرصة لإبطال تعدد الزوجات، وتقييد أحكام الطلاق! ، بنحو ما كان اقترحه
قاسم بك أمين فيما كتبه في المسألة التي يسمونها (تحرير المرأة) ، وإن أدري
أُعرضت أمثال هذه الاقتراحات على اللجنة، أم التزمت الوزارة عرض ما هو
منصوص في كتب المذاهب الأربعة؟
وقد كثر بحث المتفرنجين - وخاصة علماء الحقوق منهم - في مسألة قانون
الأحكام الشخصية، وحديثهم في وجوب جعْله مطابقًا لآراء الذين يسمونهم (الفئة
الراقية) - يعني المتفرنجة - وقد عني بهذه المسألة أحمد أفندي صفوت وكيل نيابة
(الدلنجات) ، فألف فيها رسالة، خرج فيها عن الموضوع إلى ما هو أعم منه
وأكبر، وأهم وأخطر، وهو نسخ نصوص الشريعة الإسلامية كلها، وإبطال
قواعدها وأصولها التي هي موضوع علم أصول الفقه، ووضع أصول أخرى لها
يراها الواضع مرقية لهذه الأمة الإسلامية من حضيض الهمجية القديمة التي كان
عليها سلف المسلمين وخلفهم بزعمه ووهمه - إلى قمة الترقي المدني الجديد الذي
صعدت إليه الأمة المصرية أو الفئة الراقية منها، التي يجب عنده أو ينتظر أن
يتبعها غيرها.
وقد ألقى هذه الرسالة بصفة خطبة - أو محاضرة كما سماها - على جمهور
كبير من هذه الفئة بقاعة المحامين بالإسكندرية (في 5 أكتوبر سنة 1917) تحت
رئاسة المحامي أنطون بك سلامة، ثم طُبعت ووزعت على الناس، وألقي إليَّ
نسخة منها، فوجب عليَّ الرد عليها شرعًا، وذلك ما رغب ويرغب فيه كثير من
محسني الظن بي، كما بينت ذلك في مقالة الجزء الذي قبل هذا.
إن مواضع النقد والبحث في هذه الرسالة (أو المحاضرة) ثلاثة أهمها:
القواعد الجديدة التي وضعها هذا الباحث لنسخ الشريعة الإسلامية بهدم أصولها
القديمة كلها. ويليه المسائل المراد إصلاحها من قانون الأحكام الشخصية، وهي
أربعة ذكرها مجملة في ص 5:
(1) حرية المتعاقدين ولزومية العقد على الطرفين.
(2) عدم التناقض مع قاعدة الحرية الشخصية المقررة في قانون العقوبات.
(3) رسمية عقد الزواج والطلاق.
(4) تسهيل إجراءات الدعوى.
ويلي هذين مسائل متفرقة في موضوع الترقي الذي يدعيه هو وأمثاله،
ويطلب تغيير أصول الشريعة وفروعها لأجله، ونبدأ بالأول الأهم، فنبين رأيه في
أصول الشريعة، وقواعده التي وضعها لنسخها، ونتبعها بنقدها العلمي الشرعي
فنقول:
أصول الشريعة ورأيه فيها:
قال في أول الصفحة 21 ما نصه (أصول الشريعة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس. أما القياس فنصرف النظر عنه؛ لأننا سنقيس بأنفسنا على أحكام
الأصول الأخرى) ، يعني أنهم سيقيسون على الأصول التي يشرعونها بأنفسهم؛
بناءً على أن لهم حق التشريع في الأحكام الشخصية كالأحكام المدنية والعقوبية التي
تشرع الحكومة فيها ما تشاء بإرشاد المسيطرين عليها، كما سيأتي بيانه، ومنها ما
يأخذونه عن قوانين الإفرنج كما هي. مثال ذلك قاعدة الحرية الشخصية المقررة في
قانون العقوبات، ومن أحكامها أن الأنثى متى تجاوزت السنة الرابعة عشرة يجوز
لها أن تعاشر مَن تشاء بلا قيد ولا شرط ولا رباط شرعي، وليس لوالدها حق
إرجاعها عن غيها لداره، كما صرح بهذا مؤلف الرسالة في الصفحة الثامنة
وغيرها. وكما أنه لا يجوز لوالد بنت الخامسة عشرة فما فوقها أن يردها ويمنعها
عن غيها إذا اختارت أن تكون خدنًا لأحد الفساق، أو بَغِيًّا تعرض نفسها للزنا في
المواخير والأسواق، كذلك لا يجوز لقاضي الشرع ولا للسلطان أو نائبه - أن
يردها عن هذا الحق الذي حقه لها القانون، ولماذا؟ ! لأن القانون أباحه. أما ما
أباحه الله في كتابه فلكل حاكم أن يحرمه عندهم، كما سيأتي قريبًا.
قال: (وأما الإجماع) وحجتهم فيه حديث: لا تجتمع أمتي على ضلال،
فنقسمه إلى قسمين: إما إجماع العلماء أو حكم ولي الأمر السابق (كذا) وعلى
حسب قواعد نظامنا القضائي لا نتقيد برأي مهما أجمع عليه الشُّراح إلا أن نوافق
على إجماعهم! وأما ما يقرره الحاكم بصفته صاحب السلطة التشريعية - فيمكن
لخلفه أن يلغيه طبقًا لقاعدة أن السلطة التشريعية تملك أن تلغي ما تقرره طبعًا لا
تأثير لشخصية الحاكم. (كذا) ، وقد استشهد لهذه القاعدة بأن لكل سلطان أن يلغي
ما وضعه من قبله، وجعله إلغاء الإجماع من هذا القبيل، ثم قال: إن المتأخرين
هم الذين جعلوا الإجماع حجةً؛ رضاءً منهم بتحكيم السابقين (قال) : " ونحن الآن
نرفض حكم المتأخرين والسابقين " أي أنه يرفض أحكام جميع المسلمين من السلف
والخلف، ولكنه ادعى أنه يتقيد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
فانظر كيف يتقيد بذلك! ، قال في ص 22:
(السنة) أريد أن أبحث القرآن من قبل؛ لأن حكم اتباع السنة ناتج من حكم
القرآن.
القرآن بصفته كتاب الله قد أودع فيه كل حكم شاء أن يفرض على كافة
المسلمين في جميع العالم اتباعه، فالذي تُرك ولم ينزل في القرآن تُرك ليكون للفرد
حرية التصرف فيه ولولي الأمر الرأي في تقييده بحسب ما يراه لازمًا لمصلحة
الجمهور. فالرسول بصفته ولي الأمر حاكم الأمة وقاضيها كان إذا سئل عن أمر
حكم فيه وهذه الأحكام إما صدرت في مسائل فردية خاصة فتقيدت بها وإما صدرت
من الرسول لتكون قاعدة وحكمًا عامًّا وفي هذه الحالة تكون بمثابة قانون صدر من
صاحب السلطة التشريعية ونفس هذه السلطة يملكها الحاكم في كل زمن بعده فيملك
إلغاء ما تقرر بمقتضاها.
وإذًا أستنتج أن السنة إما أنها تخصصت بحوادث فردية فصارت أحكامًا
قضائية في طبيعتها، وإما تعممت في شكل قواعد وقوانين فصارت تشريعًا صادرًا
من ولي الأمر لزمنه، وإذا ظهر من بعدُ للاحقين من أولياء الأمر مصلحة للناس
في تغييرها أو إلغائها كان ذلك ولا حرج. وهذا كله خاص بالأحكام المدنية فقط
دون الدينية. ولا يتناقض في شيء قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: 59) ، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا} (الحشر: 7) ؛ إذ إننا إذا رأينا لزومًا للخروج عن السنة لمصلحة فلا
يكون ذلك غير طاعة، بل شيئًا آخر، وبديهي أن الرسول لو كان في هذا العصر
لاختلفت سنته فيه، ولو لم يُسأل ما أبدى حكمًا!
(الكتاب) قلت في الكلام عن السنة: إن الله أودع الكتاب كل حكم شاء أن
يفرض على كافة المسلمين في كل زمان اتباعه. فيكون الكتاب بذلك مقيدًا للمسلمين
فيما أمر. وبهذه المناسبة أعيد القول أنْ ليس لأي حكم لم يرد في الكتاب حكم
الفرض الواجب العمل به. وما زاد عن الكتاب من سنة أو إجماع حكمه الجواز،
إذا شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحة في ذلك فله العدول عنه.
والأحكام الواردة في القرآن - عدا المبادئ الأصولية العامة - على ثلاثة
أقسام:
(1) ما حرم عمله.
(2) ما أوجب عمله.
(3) ما أُجيز.
ثم بيَّن أن حكم القسم الأول أن لا يُتعرَّض له، ولا يحكم بشيء يخالفه في
مرماه، كتحريم الأم والأخت والجمع بين خمس أزواج. ومرمى الشيء غرضه،
والمراد أن يعتبر الغرض من الحكم لا الحكم نفسه، فهو إذًا كالقسم الثاني. وحكم
القسم الثاني أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه. ومثَّل له بإيفاء العدة
والإشهاد على عقد الزواج.
(قال) : (فلا حرج في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق
وأخصرها) ، وعدَّ جعل العقد رسميًا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أكثر مدة الحمل
على الطلاق مغنيًا عن التقيد بالتربص ثلاثة قروء، أي ومثل ذلك ما إذا علم عدم
الحمل بالاطلاع على ما في الرحم بالأشعة التي تشفّ الجسم (أي تجعله شفافًا)
كالأشعة المعروفة بأشعة رونتجن؛ فبذلك يمكن إلغاء العدة على قاعدته!
ثم قال - بعد التمثيل الذي ذكرناه بالمعنى -: (وبذلك ينقض وجوب التقييد
بالمعاني الحرفية للألفاظ القانونية الواردة في القرآن) ، وأما حكم الثالث - وهو ما
جعله القرآن جائزًا كتعدد الزوجات - فهو أن الإنسان مخير فيه، ولكن لكل حكومة
أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء.
هذا رأي أحمد أفندي صفوت في أصول الشريعة الإسلامية ذكر أنه يقوله
ويقترحه بصفته مسلمًا! ، وهو هدم لأصول الشريعة كلها، لا يوافقه عليه مسلم في
الأرض، وهو مسلم، وسنبين ذلك بالدليل في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(20/404)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيد الهمام - آل رضا
في آخر الساعة الثانية بعد النصف من ليلة الخميس لثمانٍ بقين من شهر ذي
القعدة الحرام الحالّ (الموافق لحلول الشمس في الدرجة الخامسة من برج السنبلة سنة
1296 هـ ش - 29 أغسطس) قد وهب الله جل ثناؤه لصاحب هذه المجلة غلامًا
سويًّا أزهر اللون جميل الخلق كأخيه (محمد شفيع) إلا أنه أوسع غُرة وأنحف بنية،
فسميناه الهُمَام (بضم الهاء وتخفيف الميم) ، فنحمد الله ونشكره على ما حبانا به من
مزيد نعمه، ونسأله تعالى أن يجعل له أوفر نصيب من اسمه، حتى يكون قرة عين
لنا ولأمته وقومه، ومثل ذلك لأخيه وأخته، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ
أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .
__________(20/408)
ذو الحجة - 1336هـ
أكتوبر - 1918م(20/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [1]
(الموضع الثامن)
أولاد عبد المطلب
أنكر الناقد ذكرنا في (ص13) بعض أولاد عبد المطلب دون بعض، وقال:
إن المقام يقتضي استيعابهم؛ لأن الاقتصار في محل البيان يوهم الحصر، ونجيب
عن ذلك بأن المقام لا يقتضي استيعاب ذكرهم؛ لأن الكتاب ليس في تاريخ بني
هاشم، وإنما هو خُلاصة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وكليات دينه ومزايا ملته، وذكرنا من أولاد عبد المطلب والده صلى الله عليه وسلم، وأعمامه الذين لهم شأن عظيم في سيرته، وهم: أبو طالب والعباس وحمزة رضي الله
عنهما، ولكن العبارة قد توهم غير المطَّلع على تاريخهم أن هؤلاء جميع ولد عبد
المطلب؛ ولذلك نقحَّنا العبارة في نسختنا الخاصة التي يُعتمد عليها في الطبعة
الثانية هكذا: (ووُلد لعبد المطلب أولاد كثيرون، أشهرهم أبو طالب والعباس
وحمزة وعبد الله) ، وما الحاجة إلى ذكر كبراء المشركين الضالين بعد سكوتنا
عن ذكر أشهرهم أبي لهب؟!
* * *
(الموضع التاسع)
ما لقي صلى الله عليه وسلم من جحود قومه وإيذائهم
أنكر الناقد علينا إسناد الجحود والإيذاء إلى قوم الرسول صلى الله عليه وسلم،
واقترح أن يصحح بقوله: فلقي أشد الجحود والإيذاء من زعماء قومه الذين
أشقاهم الله، واحتج على ذلك بما قدمه من قيام كثير من قومه بمساعدته، وإجابة
دعوته صلى الله عليه وسلم، ونجيب عن هذا بما أجبنا به عن ذاك الذي قدمه،
وأهمَّه أننا اهتدينا في هذا التعبير بالقرآن المجيد، فقد قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الحَق} (الأنعام: 66) ، ولم يقل: زعماء قومك؛ ولهذا الاستعمال نظائر
فيه، وفي كلام العرب، ولا يعقل أن يشترط في لغة ما أن لا يسند إلى القوم إلا ما
يفعله كل فرد من أفرادهم؛ إذ لا يمكن العلم بهذا إلا في قوم محصورين، عملوا
عملاً شاهده منهم مَن أخبر عنهم، وذلك نادر، وإنما المعروف أنه يسند إلى القوم
ما يفعله الجمهور، وإن أنكره مَن لا يؤثر إنكاره لضعفهم أو قِلَّتهم، وكذا ما يفعله
البعض، ولم ينكره الجمهور كقتل اليهود للأنبياء، وعقر ثمود للناقة، وتفصيل
الرد على هذه المسألة يُعلم مما يأتي في الكلام على الموضع العاشر والموضع
الحادي عشر.
* * *
(الموضع العاشر)
حمايته صلى الله عليه وسلم للقيام بالدعوة
أنكر الناقد علينا قولنا في (ص 31) إنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو
الناس لحمايته للقيام بهذا الأمر، فلم يَحْمِهِ من قريش أحد، واقترح أن تصحح
العبارة، أو تنقح بقوله: (كان يدعو الناس إلى أن يعضدوا مَن يحمونه للقيام بهذا
الأمر، فحال زعماء الشرك دون ذلك ... ) إلخ، وهذا وما قبله من تلك العصبية،
وغرضه أن ينزه قريشًا مما ذكر، وبسنده إلى زعماء الشرك على الإبهام.
والجواب عنه يعلم مما تقدم بالإجمال، وأما التفصيل فهو في كتب الحديث
والسيرة النبوية، أيها راجع القارئ يجد فيه أن قريشًا اشتد إيذاؤها للرسول صلى
الله عليه وسلم بعد هلاك عمه أبي طالب، وأنه خرج إلى الطائف يلتمس النصرة
من ثقيف، والمنعة بهم من قومه - وهذه عبارة ابن هشام عن ابن إسحاق - وأنه
كان يعرض نفسه على القبائل، فيردونه، حتى أجابه وفود الأنصار - رضي الله
عنهم - وفي حديث عمرو بن مسلمة عند البخاري: أن العرب كانت تقول: دعوه
وقومه؛ فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، ولو كان فيمن آمن من قومه قوة ومنعة
لما احتاج إلى ذلك، بل كان يدعو القبائل إلى الإسلام فقط، وهذا أمر مشهور متفق
عليه، ولم نَرَ قبل هذا النقد الغريب أحدًا بلغت منه العصبية لقريش، حتى في شر
ما كانت عليه في جاهليتها هذا المبلغ، وسنزيد هذا بيانًا في الرد على الموضع
الآتي:
(الموضع الحادي عشر)
ثباته صلى الله عليه وسلم في أحد ومَن ثبت معه
قلنا في الكلام على شجاعته وثباته عليه الصلاة والسلام من (ص37) إنه
ثبت وحده يوم أحد، فأنكر الناقد علينا ذلك، وقال: إنه يذكر أنه ثبت معه بضعة
نفر من قريش وبني هاشم، (قال:) وكذا في حنين، وهذه منقبة لهم يحسن ذكرها
إشعارًا بمزايا الاصطفاء التي ذكرتموها. اهـ.
والجواب أن الأحاديث الصحيحة تثبت أنه صلى الله عليه وسلم انفرد بالثبات
في الغزوتين بالذات، وثبت معه أفراد بالتبع، فالأوْلى أن يعطف يوم أحد على يوم
حنين، أو يكتفي بالثاني، فإنه ثابت في الصحيح بلفظه، فلا غرو أن يُذكر في
مثل هذا السياق، وإن قيدوه بما سيأتي للجمع بين الروايات، ففي بعض ألفاظ
حديث أنس في صحيح البخاري أنه: (لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان
وغيرهم بنَعمهم وذراريهم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من الطلقاء
(هم الذين أسلموا في مكة يوم الفتح) ، فأدبروا عنه، حتى (بقي وحده) ، فنادى
يومئذ نداءين، لم يخلط بينهما، التفت عن يمينه فقال: يا معشر الأنصار؟ قالوا:
لبيك يا رسول الله، نحن معك. ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار.
قالوا: لبيك يا رسول الله، نحن معك) الحديث.
ويؤيده حديث البراء في الصحيحين، وهو أنه: (سئل: أَوَلَّيْتُمْ مع النبي
صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا ... )
- الحديث - وفي رواية: (أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟
فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر.....) وفي رواية أنه:
(سئل: أتوليت يوم حنين؟ قال: أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه
لم يولِّ، ولكن عجل سرعان القوم، فرشقتهم هوازن، وأبو سفيان بن الحارث
آخذ برأس بغلته البيضاء) الحديث، وأبو سفيان هذا هو ابن عمه صلى الله عليه
وسلم (الحارث بن عبد المطلب) ، وكان خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
وهو قادم إلى مكة فاتحًا، فأسلم، وحسن إسلامه.
وروى ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة: (إنه لما فر الناس يوم
حنين لم يبقَ معه صلى الله عليه وسلم إلا أربعة نفر ثلاثة من بني هاشم ورجل من
غيرهم: علي والعباس بين يديه وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعِنان وابن مسعود
من الجانب الأيسر، قال: وليس يُقبِل نحوه أحد إلا قُتل) ، واختلفت الروايات
فيمن ثبتوا معه على أقوال: 9 أو 10 أو 12 أو 80 أو دون 100 أو 100،
بضعة وثلاثون من المهاجرين، والباقون من الأنصار، وهذا الأخير تفصيل رواية
أبي نعيم في دلائل النبوة، ويروى عن العباس رضي الله عنه أنه أنشد في ذلك:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر مَن قد فر عنه فأقشعوا
وعاشرنا وافى الحِمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجعُ
قال الحافظ في الفتح: ولعل هذا هو الثبت ومَن زاد على ذلك يكون عجّل في
الرجوع فعُد فيمن لم ينهزم، وكان أول مَن ولَّى وانهزم الطلقاء من قريش، الذين
دخلوا الإسلام يوم الفتح، وما كلهم بصادق، وقال العلماء: ما كل مَن ولَّى يومئذ
كان فارًّا من القتال، بل منهم مَن كان متحرفًا لقتال، أو متحيزًا إلى جهة أو فئة
لأجل القتال، وبعضهم جرفه التيار وهو لا يدري أين ذهب، وقالوا في الجمع بين
رواية ثباته وحده، ورواية ثبات القليل معه - أن هؤلاء كانوا في خدمته، وكان
هو المهاجم وحده، وهم يتبعونه من ورائه، حيث توجه، فتوجه إلى قتال
المشركين، ولما رأى ما رأى من اختلاط الحابل بالنابل نادى الأنصار، فلبوه،
فكان النصر بهم، وإن كان فضل المهاجرين وثباتهم لا يُنكر، وكانت مزية بني
هاشم أن أكثر العشرة - أو الاثني عشر - الذين ثبتوا معه أولاً منهم، وكان منهم
أبو بكر وعمر وابن مسعود وعثمان بن طلحة، وما لبث جمهور الصادقين أن
تبينوا الأمر، فصاروا يتراجعون.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاز
الغنائم العظيمة في هذه الغزوة - قسمها في قريش بين المهاجرين الذين أسلموا قبل
الفتح، والطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فوجد بعضُهم
لذلك، فقال بعضهم: إذا كانت شديدة فنحن نُدعَى، ويُعطَى الغنيمة غيرنا، وقال
بعضهم: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا، ويتركنا وسيوفنا
تقطر من دمائهم، فجمعهم صلى الله عليه وسلم في قبة أدم (جلد) ، وسألهم عما
بلغه عنهم، فسكت بعضهم، وقال فقهاؤهم: أما رؤساؤنا - يا رسول الله - فلم
يقولوا شيئًا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: كيت وكيت، فقال صلى الله عليه
وسلم: (إني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم - وفي رواية: إن قريشًا
حديث عهد [2] بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أَجْبُرهم وأتألفهم - أما ترضون
أن يرجع الناس بالدنيا، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟! ،
قالوا: بلى، وفي رواية: أنه خطبهم، فذكَّرهم فضل الله به عليهم بالهداية
والتأليف بينهم والغنى ثم قال: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير،
وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءًا من
الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لاخترت وادي
الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار ... ... إلخ، وقد بيّن العلامة ابن
القيم الحِكَم في غزوة حنين في الهزيمة، ثم في النصر وقسمة الغنائم، ومنها أنه
صلى الله عليه وسلم لم يعطِ كبار المهاجرين من الغنيمة كالأنصار، فيراجع في
(زاد المعاد) ولخصه الحافظ في الفتح.
وأما ثباته وحده صلى الله عليه وسلم يوم أحد فهو ظاهر قوله تعالى: {إِذْ
تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} (آل عمران: 153)
- فقد اتفقوا على أنه نزل في هزيمتهم يومئذ، قال الحسن البصري: (فروا
منهزمين في شعب شديد، لا يلوون على أحد، والرسول يدعوهم في أخراهم: إليَّ
عباد الله، إليَّ عباد الله، ولا يلوي عليه أحد) وروي نحوه عن ابن عباس
وعطية العوفي وقتادة، إلا الجملة الأخيرة فقد انفرد بها الحسن، وقد اختلفت
الروايات فيمن ثبت معه صلى الله عليه وسلم، وظاهر بعض الروايات الصحيحة أن
الناس تولوا، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي طلحة زيد بن سهل
الأنصاري يناضل عنه، فكان ثباته معه لأجله، فيصح أن يقال: إنه صلى الله
عليه وسلم ثبت وحده يومئذ؛ لأن ثباته كان بشجاعته الذاتية، وثبات أبي طلحة؛
لأنه رآه ثابتًا، فوجب عليه أن يناضل عنه بسهامه، ولما رآه غيره فعلوا مثل فعله،
فقد كان سبب الهزيمة الأكبر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث أن
تراجع الناس إليه لما علموا ببقائه - فِدَاه أبي وأمي - صلى الله عليه وسلم،
فالسابقون إلى ذلك عُدوا من الثابتين معه، واختلف في عددهم؛ لأن كل راوٍ ذكر
مَن رآه أو علم بوجوده معه، فلا تنافي بين رواياتهم، ففي حديث أنس عند
البخاري: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو
طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب (أي مترّس) عليه بجحفة له،
وكان أبو طلحة رجلاً راميًا شديد النزع (أي رمي السهم) ، كسر يومئذ قوسين أو
ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: (انثرها لأبي طلحة) ،
(قال:) ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي
أنت وأمي، لا تشرفْ يصبْك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت
عائشة بنت أبي بكر وأم سليم (هي أم أنس) ، وإنهما لمشمِّرتان، أرى خدم
سوقهما [3] تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم [4] ، ثم ترجعان،
فتملآنها، ثم تجيئان، فتفرغانه في أفواه القوم،ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة
إما مرتين، وإما ثلاثًا.
وفي حديثه عن مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ في سبعة من الأنصار
ورجلين من قريش، يعني طلحة وسعدًا، وفي حديث عائشة عند أبي داود
الطيالسي، قالت: كان أبو بكر إذا ذُكر يوم أحد قال: كان ذلك اليوم كله لطلحة،
قال: كنت أول مَن فاء (أي رجع) ، فرأيت رجلاً يقاتل عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال: فقلت: كن طلحة، (قلت:) حيث فاتني يكون رجل من قومي،
وبيني وبينه رجل من المشركين، فإذا هو أبو عبيدة، فانتهينا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: دونكما صاحبكما، يريد طلحة، فإذا هو قد قطعت
أصبعه ... إلخ، وفي الصحيح التنويه بسعد بن أبي وقاص؛ فإنه كان يناضل عنه
صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: ارمِ، فداك أبي وأمي، روى البخاري هذا
عنه، وروى عن علي كرم الله وجهه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يجمع أبويه لأحد غير سعد، يعني في الفداء، وروى عن أبي عثمان النهدي
أنه لم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير
طلحة وسعد، أي طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وهما حدَّثا أبا عثمان النهدي
بذلك، وروى الحاكم عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: لما جال
الناس يوم أحد تلك الجولة تنحيت، فقلت: أذود عن نفسي، فإما أن أنجو، وإما أن
أستشهد، فإذا رجل مخمّر وجهَه، وقد كاد المشركون أن يركبوه، فملأ يده من
الحصى فرماهم ... ، وإذا بيني وبينه المقداد، فأردت أن أسأله عن الرجل، فقال لي: يا سعد، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقمت، وكأنه لم يُصبْني
شيء من الأذى، وأجلسني أمامه، وجعلت أرمي ... فذكر الحديث. اهـ من
الفتح، وفيه اختصار.
وقد نقله دحلان في سيرته عن المستدرك بزيادة واختلاف في بعض الجمل،
ومن الزيادة أن الرجل المخمر لما رمى المشركين بالحصى تراجعوا عنه إلى الجبل،
ففعل ذلك مرارًا، فظاهر هذا الحديث أنه لما جاء سعد لم يكن عنده غير المقداد،
وما يدرينا أن المقداد لم يكن معه من أول الأمر.
قال الحافظ - في شرح حديث أبي عثمان النهدي - من الفتح: وعند ابن
عائذ من مرسل المطلب بن عبد الله بن حنطب أن الصحابة تفرقوا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، حتى بقي معه اثنا عشر رجلاً من الأنصار، والنسائي
والبيهقي في الدلائل من طريق عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال: تفرق
الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبقي معه أحد عشر رجلاً من
الأنصار، وطلحة [5] ، وإسناده جيد، وهو كحديث أنس إلا أن فيه زيادة أربعة،
فلعلهم جاءوا بعد ذلك، وعن محمد بن سعد أنه ثبت معه 14 رجلاً، 7 من
المهاجرين، منهم أبو بكر، و7 من الأنصار، ويُجمع بينه وبين حديث الباب -
أي حديث أبي عثمان النهدي - بأن سعدًا جاءهم بعد ذلك، كما في حديثه الذي
قدمته في الحديث الخامس (أي حديث: ارمِ، فداك أبي وأمي) ، وأن المذكور من
الأنصار استشهدوا كلهم، فلم يبق غير طلحة وسعد، ثم جاء بعدهم مَن جاء، وأما
المقداد فيحتمل أن يكون استمر مشتغلاً بالقتال، وسيأتي بيان ما جرى لطلحة بعد
هذا، وذكر الواقدي في المغازي أنه ثبت يوم أحد من المهاجرين سبعة: أبو بكر
وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد وطلحة والزبير وأبو عبيدة، ومن الأنصار:
أبو دجانة والحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن
حنيف وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وقيل: إن سعد بن عبادة ومحمد بن
مسلمة بدل الأخيرين، فإن ثبت حُمل على أنهم ثبتوا في الجملة، وما تقدم فيمن
حضر عنده صلى الله عليه وسلم أولاً فأولاً، والله أعلم. اهـ كلام الحافظ في
الجمع بين الأقوال.
فعلم مما تقدم أن منقبة الثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد خاصة
بمن علموا بموقفه، ودافعوا عنه قبل أن يتراجع الجيش، وأنها لم تكن للمهاجرين
وحدهم، بل كان للأنصار الحظ العظيم منها، وأنه لم يكن مع المهاجرين أحد من
بني هاشم غير علي كرم الله وجهه ورضي عنهم أجمعين.
* * *
(الموضع الـ12)
مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد التبليغ
قال الناقد: ذكرتم في الخاتمة أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد بدء
التبليغ عشر سنين، والمشهور أنها بضع عشرة سنة. اهـ.
ونقول إن هذه العبارة أظهر هفواته وأغربها فما ذكرناه هو المنصوص في
كتب الحديث والسير، وما ذكره وادعى أنه المشهور لم يقل به أحد، وإنما وقع
الخلاف في الروايات الواردة في مدة إقامته بعد البعثة لا بعد التبليغ بين عشر
وثلاث عشرة، وجمع بينهما المحققون بأن المدة بين بدء الوحي وفترته، وبين
الأمر بالتبليغ ثلاث سنين، والمدة من بدء الأمر بالتبليغ إلى وقت الهجرة عشر
سنين، بيَّن ذلك الإمام أحمد في تاريخه وغيره من المحدثين، واعتمده ابن إسحاق
وغيره من أصحاب السير، فهل بلغ من الناقد الفاضل التعصب لمكة كأهلها أن
حفظ المدة من ابتداء الوحي بالرؤيا الصادقة إلى وقت الهجرة حفظًا إجماليًّا، ثم
نسي تحديدها وصفتها، فجعلها بضعة عشر عامًا من أول التبليغ، وعلى هذا
يُحتمل أن تكون سبع عشرة سنة، أو تسع عشرة سنة، وأن تضاف إليها مدة الفترة
فتكون 22سنة! ، ومن المشهور - الذي يحفظه العوام وصبيان المكاتب في مدارس
الناقد الفاضل كغيرها - أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث على رأس الأربعين،
وتوفي في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة عن 63 سنة، فسبحان مَن
لا ينسى ولا يذهل.
وقد أضاف الناقد إلى هذا الموضع مسألة أخرى، فادعى أننا لم نذكر في
الكتاب دخول الإسلام في عهد القوة والمنعة بعد فتح مكة بدخول قريش فيه واتباع
العرب لهم، ورجا أن نذكر ذلك في المستقبل؛ لأنه مظهر مزايا الاصطفاء،
ونجيب بأننا ذكرناه بالإجمال، ولا يتسع هذا المختصر للتفصيل.
ونحب أن نصرح لأخينا الناقد الفاضل بأن كتاب (ذكرى المولد النبوي) لم
يوضع لشرح حديث الاصطفاء، ومناقب قريش وبني هاشم، فنذكر فيه كل ما
يتعلق بذلك من تاريخهم في الجاهلية والإسلام، وإنما شرحنا الحديث شرحًا لم نطَّلع
لأحد على مثله لبيان حكمة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في خير بيت من بيوت
الأمة العربية.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما في ج 9، ويراجع النقد المردود عليه هنا في ص 349، ج 8.
(2) كذا في النسخ الصحيحة، واعتمد بعضهم أن أصله: (حديثو عهد) .
(3) الخدم: جمع خدمة: وهي الخلاخيل، وقيل الخدمة أصل الساق، والسوق: جمع ساق.
(4) أي: ترفعان قرب الماء بخفة وسرعة على ظهورهما، وتسقيان الجرحى بصبّه في أفواههم.
(5) هو ابن عبيد الله، وملخص تتمة الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - لما لحقهم المشركون، وهو يصعد في الجبل - ألا أحد لهؤلاء؟! فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقال: كما أنت يا طلحة، فاستأذنه رجل من الأنصار، فأذن له، فقاتل حتى قُتل، فأعاد صلى الله عليه وسلم القول، فَلَبَّاه طلحة، فقال له كما قال أولاً، فاستأذن أنصاري آخر، فأذن له، ومازال يعيد ذلك، ويحبس طلحة، حتى لم يبق معه غيره، فقاتل مثل قتال جميع مَن كان قبله، وأُصيبت أنامله، وفي رواية: شُلت أصبعه، أو أصبعاه، وأنه جُرح بضعة وثلاثين جرحًا.(20/421)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
(3)
الإسلام وأصول الشريعة
قد عُلِمَ - مما تقدم في المقالتين الأوليين - أن من المتفرنجين مَن يدعو
المسلمين إلى هدم أصول الشريعة الإسلامية كلها، والاستعاضة عنها بقوانين
يضعها حكام كل قطر مستقل بآرائهم، وإن استمدوا أصوله وفروعه من قوانين أمم
أخرى مخالفة للمسلمين في عقائدهم وآدابهم وعاداتهم ومصالحهم، وأن من هؤلاء
المتفرنجين مَن يلبس على المسلمين بما يدعوهم إليه من إفساد دينهم وهدم شرعهم
الذي هو أعظم مقومات أمتهم الرابطة بين شعوبهم بما يُلبس دعوته من ثوب
الإصلاح، وإن أغرب أحوالهم المتناقضة أن بعضهم يتكلم باسم الإسلام، ويدعي
إمكان الجمع بينه وبين نبذ أصوله كلها استهجانًا لها؛ بزعم أنها وُضعت لقوم لم
يرتقوا إلى الكمال الإنساني الذي ارتقى إليه هؤلاء المتفرنجون، ومن أهم أصوله
إباحة السِّفَاح بالبغاء، أو اتخاذ الأخدان لكل عذراء تجاوزت السنة الرابعة عشرة،
أي صارت بنيتها مستعدة لهذا التمتع المفسد للصحة، الجالب للأدواء القاتلة،
المقلل لنسل الأمة، المشوه لآدابها، المُوقِع للعداوة والبغضاء بين أفرادها وبين
أسرها.
جهر بهذا صاحب الخطبة أو الرسالة التي نرد عليها في هذه المقالات بما تقدم
بيانه في المقالة الثانية مع الوعد بالرد عليه، وإننا نبدأ الرد في كلمة وجيزة في
بيان ما يناسب المقام من تعريف ما يكون به المسلم مسلمًا؛ ليعلم هل يمكن الجمع
بين الإسلام وبين ما جاء به، ودعا إليه أحمد صفوت أفندي من حيث هو مسلم،
وإن كنا قد بينا هذا في المنار من عهد قريب؛ لئلا يقع بعض الجاهلين فيما يعده
جميع المسلمين كفرًا، وهو لا يدري، فنقول:
الإسلام والكفر:
إن الإسلام الصحيح عبارة عن الإذعان النفسي والخضوع الفعلي لجميع ما
جاء به محمد خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، مع
الاعتقاد الجازم بأن كل ذلك حق وخير، وأن كل ما يخالفه باطل وشر، سواء كان
ذلك الجزم بدليل قطعي أو إقناعي أو بغير دليل كما هو رأي الجمهور في صحة
إيمان المقلدين. فمَن أذعن بالفعل ظاهرًا - وهو غير مؤمن بما ذكر - فهو منافق،
ومن اعتقد وأيقن ولم يذعن فهو جاحد مجاهر، كما قال تعالى - في قوم فرعون -:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 14) .
وإن الإذعان والخضوع لبعض ما جاء به الرسول دون بعض - كفر كالإيمان
ببعضه دون بعض، قال تعالى - فيمن خالفوا بعض أحكام كتابهم الدنيوية -:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) ؛ ولذلك أجمع أهل الحل والعقد من الصحابة بعد التشاور على قتال
مانعي الزكاة وعدّوهم مرتدين عن الإسلام. وليس منه مخالفة بعض الأوامر
والنواهي بجهل أو تأوُّل أو جهالة، كغلبة غضب أو شهوة مع الإذعان النفسي في
عامة الأحوال، والعمل فيما سوى هذه الشواذ، فإن الجاهل يرجع إذا زال جهله
بالعلم الصحيح، والفاسق يتوب إذا زالت جهالته بذكر الله وتذكُّر الوعد والوعيد
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء:
17) .
فهذا هو الإسلام الذي لا يعتد المسلمين بدين مَن خالفه، ولا يعدونه منهم، فلا
يرثونه، ولا يرثهم، ولا يحل لهم أن يزوجوه مسلمة منهم، ولا أن يدفنوه في
مقابرهم. ثم إن ما جاء به الرسول قسمان: قطعي الرواية والدلالة وغير قطعي،
وقد بينا حكم كل منهما في تفسير الجزء الماضي من المنار. ومن القطعي المعلوم
من الدين بالضرورة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ويلزمه أن شرع
الإسلام باقٍ ما بقي البشر، لا ينسخه شيء، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم
مَن كان في عصره من المسلمين أن يبلغوا مَن بعدهم، ولم يفرق أحد من سلف
المسلمين وخلَفهم بين مَن بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلم منه في عصره ومَن
بلغته من غيره بعده. فمَن يدعي الإسلام ويزعم أن ما جاء به الرسول من أحكام
الشرع لم يكلف اتباعه فيه كله إلا الذين كانوا في زمنه؛ لأنه كان حاكمهم، وأن
مَن بعدهم لا يكلَّفون إلا اتباع ما تشرعه لهم حُكَّامهم، سواء كانوا منهم أو من
غيرهم، وأنه لا فرق بين هؤلاء الحكام وبين الرسول في كونهم شارعين يجب
اتباع أحكام شرعهم في الأمور الشخصية والمدنية والتأديبية على سواء، وينسخ
المتأخر منهم ما شرعه من قبله، مَن يدعي ما ذكر - فقد جاء بدين جديد معارض
لدين الإسلام مع انتحاله لاسمه، ولا يعتد أحد بإسلامه إلا مَن استجاب له وقبل
دعوته، كما فعلت فرق الباطنية قديمًا وحديثًا، فإنهم حرَّفوا أصول الإسلام وفروعه،
وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فلم يعتد المسلمون بانتحالهم لقب الإسلام في
الظاهر، بل سموهم بأسماء أخرى كالإسماعيلية والدروز والنصيرية والبابية
والبهائية، ولم يُبِحْ مسلم سني ولا شيعي ولا خارجي أكل ذبائحهم ولا تزويجهم ولا
التزوج منهم؛ لأنهم أبعد عن الإسلام من أهل الكتاب، الذين يبيح السواد الأعظم
من المسلمين أكل ذبائحهم والتزوج منهم، فكيف بالتوارث الذي لا يحل بين
المسلمين وأهل الكتاب؟ !
فيجب على قائل ذلك القول وعلى مَن صدَّقه أن يرجعوا عنه؛ إذ قد قالوه عن
جهل بحقيقة الإسلام، وعسى أن يكونوا قد فعلوا، فنحن أحرص الناس على عدم
إخراج أحد ينتمي للإسلام من حظيرته، وإنما نبين الحقيقة عند الحاجة في نفسها،
ولا نحكم على شخص معين بها ولا بلوازمها، وإنما نعين الأشخاص على الحكم
على أنفسهم، وعلى معرفة حكم الله فيمن يعرفون حالهم، سواء كان في مسألة
الشارع والتشريع أو في غيرها.
ومن الأصول المجمع عليها بين المسلمين أن لا حكم لغير الله بعد ورود
شرعه، وسيأتي الكلام في ذلك ومَن كان في قلبه شبهة من ذلك القول الناقض لهذا
الأصل فيجب عليه أن يبحث حتى يزيلها، ويطمئن قلبه بوجوب اتباع الرسول
صلى الله عليه وسلم في جميع ما ثبت عنه من أمر الشرع، وسنرد الشبهات التي
ذكرها أحمد أفندي صفوت في بحث الكتاب والسنة.
بعد هذه المقدمة - التي وفينا فيها بوعدنا في آخر المقالة الثانية - نبدأ بنقل
كلام أحمد أفندي صفوت على الترتيب الذي ذكرناه في تلك المقالة، فنقول:
القياس من أصول الشريعة:
القياس ليس من الأصول التي أجمع عليها المسلمون، بل الفقهاء فيه فريقان:
أحدهما يُثْبته وهم الجمهور، ومنهم المقتصد فيه، والقائل بأنه ضرورة تقدر بقدرها،
ومنهم المقتصد فيه، والمبالغ في التوسع، وثانيهما ينكره وهم الظاهرية. وقد
بينا حجج الفريقين وتحقيق الحق في ذلك في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية [1]
والقياسيون لم يقولوا بالقياس إلا بما ظهر لهم من الدليل عليه من الكتاب والسنة.
والظاهرية لم ينفوا القياس إلا لاعتقادهم أن نصوص الكتاب والسنة وقواعدهما
مغنية عنه.
وأما غلاة المتفرنجين فإنهم يردون القياس؛ لأنه مبني على كتاب الله وسنة
رسوله، لا لأنهم يستغنون عنه بنصوصهما كالظاهرية من علماء السنة، بل هم
يرغبون عنهما بالذات، وعنه بالتبع لهما، ويستبدلون بأصولهما وأحكامهما أحكامًا
أخرى يقيسون عليها، صرح بذلك أحمد أفندي صفوت في خطابه، كما نقلناه في
المقالة الثانية عن ص 21 من رسالته، قال:
(أما القياس فنصرف النظر عنه؛ لأننا سنقيس بأنفسنا على أحكام الأصول
الأخرى) أي الأصول التي تشرعها لهم حكوماتهم، كأصل الحرية الشخصية في
القانون المصري، وتقدم بيان ذلك والتمثيل له في المقالة الثانية، ولا نطيل القول
في هذه المسألة؛ لأنها غير مقصودة لذاتها؛ ولأن رده القياسَ الفقهيَّ ليس لدليل
شرعي ولا عقلي على فساده، ولا لكونه ينافي الحق والعدل، وسيأتي له ذكر في
الكلام بعد.
***
الإجماع من أصول الشريعة:
قد اختلف علماء أصول الفقه الإسلامي في الإجماع الاصطلاحي الذي عرفوه
بقولهم: (هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من
الأمور) ، فقال بعضهم بعدم إمكانه، وبعضهم بعدم إمكان العلم به وبعضهم بعدم
إمكان نقله إلى مَن يحتج به وبعضهم بعدم كونه حجة، والإمام أحمد والظاهرية لا
يحتجون إلا بإجماع الصحابة، ويستدل العلماء - الذين يحتجون بالإجماع
الاصطلاحي، وهم جمهور سائر المذاهب - بآيات من القرآن وأحاديث فهموا منها
إثبات حجية الإجماع، أدناها مرتبة في الرواية حديث ابن عمر: (لن تجتمع أمتي
على الضلالة) ، كما رواه الطبراني في الكبير عنه، أو (لا تجتمع أمتي على
ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذ إلى النار) كما رواه الترمذي عنه،
وقد نوزعوا في دلالة ما استدلوا به على إجماعهم الاصطلاحي، وقد حررنا بحث
الإجماع، وما يقوم الدليل عليه منه في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... } (النساء: 59) ، وبينا
هنالك أن أصول الشريعة الإسلامية أصح وأعدل وأفضل من جميع الحكومات
الشوروية التي يسمونها في عرف هذا العصر بالنيابية وبالديمقراطية [2] .
وأما غلاة المتفرنجين فيردون إجماع المسلمين من الصحابة وغيرهم بغير علم ولا
فهم؛ لأنهم يرغبون عن كل ما هو إسلامي قديمًا أو حديثًا إلى قواعد تشريعهم
الجديد، الذي نذكر بعض مسائله في الأحكام الشخصية من هذا البحث لا لمخالفة
الإجماع للعدل أو للمصلحة؛ فشأنهم فيه شأنهم في القياس كما تقدم آنفًا.
قال لسانهم أحمد أفندي صفوت في خطابه المعهود: وأما الإجماع وحجتهم فيه
حديث: (لا تجتمع أمتي على ضلال) [3]- فنقسمه إلى قسمين: إما إجماع
العلماء أو حكم ولي الأمر السابق، وبحسب قواعد نظامنا القضائي لا نتقيد برأي
مهما أجمع عليه الشراح، إلى أن نوافق على إجماعهم! . اهـ، فجعل حكم ولي
الأمر السابق داخلاً في معنى الإجماع، وما هو منه في شيء، وفسر إجماع العلماء
بما يتفق عليه شراح كتب الفقه من الآراء - كما هو المتبادر من عبارته - وهذا
الإطلاق باطل، كما علم من تعريف الإجماع الذي ذكرناه آنفًا.
ثم إنه زعم أن المتأخرين هم الذين جعلوا الإجماع حجة رضاءً منهم بحكم
السابقين! (قال) : (ونحن نرفض حكم المتأخرين والسابقين) فهو بعد قوله: إن
علماء المسلمين يستدلون على حُجية الإجماع بالحديث الذي ذكره، ولم ينازع في
دلالته على ذلك - يرفضه بصفته مسلمًا، ويدعي أن المتأخرين وحدهم هم الذين
جعلوه حجة. وذلك دليل على أنه لا يعرف معنى الإجماع ولا تاريخه، وأنه لا يفهم
معنى ما يقوله، وما يكتبه بالعربية، دع ما فيه من الخطأ والغلط اللغوي، فهو إذًا لا
يرفض شيئًا من أصول الشريعة - دع فروعها التي هي تبع لها في الرفض - لأنه
لا دليل عليه، ولا لأن دليله معارَض بما هو أقوى منه، ولا لأنه غير مطابق
لمصلحة المسلمين في هذا العصر، وإن كان هو وأمثاله يزعمون ذلك بغير علم - بل
لأنه يستبدل بما شرع الله وبكل ما يبنى ما يشرعه الناس، وإن اختلف في كل
قطر إسلامي باختلاف أفكار الشارعين أصحاب السلطة والنفوذ فيه، بحيث يكون
للمسلمين عشرات من الشرائع في أحكام الزواج والطلاق وما يتبعهما وفي سائر
الأحكام؛ حتى يخرجوا عن كونهم أمة واحدة كما سماهم الله تعالى. ومن
يرفض أصول الشريعة الإسلامية وجميع أحكام أهلها من المتقدمين والمتأخرين - لما
ذكرنا من العلة - كيف يبالي بتفريق شمل الأمة، وتقطيع جميع الروابط والمقومات
التي كانت بها أمة؟ ! ومَن كان مكانه من الإسلام والعلم بمصالح أهله ما ذكرنا فهل
يُستبعد منه أن يعد هذا الفساد إصلاحًا وطنيًّا، كما نسمع من هؤلاء المتفرنجين
كثيرًا، ونرى مثله فيما يكتبون أحيانًا؟ !
قلنا: إن فريق الغلاة من هؤلاء المتفرنجين يرفضون الإجماع وهو اتفاق
علماء الشرع المستقلين من المسلمين؛ لأنه إجماع المسلمين، وما ذاك إلا أنهم
مرقوا من دينهم ولا يحبون أن يبقى لهم به صلة ما، بل يحاولون إفساد عقيدة كل
من استطاعوا فتنته من أهل هذا الدين، كما يفعل أمثالهم من دعاة الأديان أو دعاة
الإلحاد.
قلنا: إنهم يرفضون القياس الإسلامي أيضًا؛ لأنه يستند على نصوص الكتاب
والسنة التي لا يَدينون بهما، ولكنهم يجيزون القياس على ما يستحسنون من
نصوص القوانين الوضعية. كما أنهم يستحسنون العمل بما يتفق عليه علماء هذه
القوانين من أي ملة كانوا، ومَن قَبِلَ رأي الأفراد من قوم فهو أجدر بقبول رأي
الجماهير منهم.
وقلنا: إنهم لا يرفضون ذلك بدليل عقلي ولا شرعي، فيكون موضوع المناقشة
بيننا وبينهم كما وقع بين سلفنا كالظاهرية والقياسية ونفاة الإجماع الأصولي على
إطلاقه ومثبتيه وكما وقع الآن بين المستقلين في الفهم منا.
وأما غير الغلاء المرتدين من المتفرنجين فيوجد فيهم مَن يجد في صدره
حرجًا من الفقه الإسلامي؛ إذ يرى كثيرًا من فروعه غير معقولة أو غير عادلة،
ويرى أن قائليها لا حجة لهم عليها، غير أقيسة لهم يعتقد أنهم آراء لهم أو مفهومات
لعبارات كتب مذهبهم، لا يظهر لها أصل من نصوص الكتاب والسنة، أو دعوى
إجماع لم يثبت باتفاق المحدثين والمؤرخين على نقله، ولا حجة على جعْله كالنص
الذي لا سبيل إلى نقضه.
ويوجد فيهم مَن قد ينكر كون القياس حجة، أو مَن ينكر كثيرًا مما ذكروا له
مسالك العلة، ومن ينكر حجية الإجماع أو إمكانه أو إمكان العلم به، وأكثر منهم
من ينكر كونه حجة دائمة باقية كالكتاب والسنة، وكون آراء الفقهاء الاجتهادية
شرعًا ثابتًا يجب العمل به، وإن ظهر لنا من النصوص خلافه، أو ثبت بالتجرِبة
ضرره في مصالح الأمة الشخصية أو المنزلية، أو شئونها الاجتماعية والسياسية.
ويوجد فيهم - وفي غيرهم من مستقلي الفكر - مَن يظنون بادي الرأي أن
أكثر أحكام الفقه القضائية والسياسية آراء للمجتهدين، إن كانت كلها أو جلها موافقة
للمصلحة في الزمن الذي وضعت فيه، فقد صارت غير موافقة لمصلحة المسلمين
أنفسهم في هذا الزمن.
وفي كل فريق ممن ذكرنا مقتصد في نقده لهذا الفقه ومسرف، ومستدل ومقلد،
ومن المستدلين الواسع الاطلاع، والحافظ لقليل مما يُنتقد من الأحكام، ومنها
بعض الأحكام الشخصية التي أُلفت اللجنة المعهودة لأجلها. ومَن يراجع مجلد المنار
الرابع يرى فيه مناظرة في نقد الفقه الإسلامي بين كاتبين من أشهر الكُتاب
المعتدلين.
وقد مرّ على أول بحث حضرته بمصر في هذه المسألة زهاء عشرين سنة،
وكان في دار سعد زغلول باشا ولم أنسَ كلمة قالها ثَمَّ قاسم بك أمين لمَن ذكر في
الأمثلة المنتقدة مسألة الربا وهي: (إن تحريم الربا المنصوص في القرآن وكل ما
نُص في القرآن يجب أن يؤخذ بالتسليم من غير بحث، وإنما نبحث في أقوال
الفقهاء) . اهـ. وبعد هذا بسنة أو سنتين زرت الأستاذ الإمام في يوم عيد،
فألفيته في مكتبه داخل الدار مع أحمد فتحي زغلول باشا محتجبًا عن جماهير
المهنئين الذين يجلسون في حجرة الاستقبال، ريثما يشربون القهوة، وينصرفون،
فلما جلست إليهما وجدتهما يبحثان في مسألة الإجماع، ورأيت الأستاذ يوافق جليسه
في بعض ما ينكره من مباحث هذه المسألة، فقلت لهما: إني أفهم في الإجماع معنى
آخر غير المشهور في كتب الأصول، وهو اتفاق أهل الحل والعقد كلهم أو أكثرهم
مجتمعين على ما لا نص عليه من الأمور المتعلقة بمصالح الأمة القضائية أو
السياسية، سواء كان في استنباط الأحكام لها أو في تنفيذها، وأرى أن ذلك ينطبق
على أدلة الإجماع، ويوافق عمل السلف كجمع الخلفاء الراشدين أهل العلم والرأي
للتشاور فيما لم يرد فيه نص من الكتاب، ولم تجرِ به سنة نبوبة، وفي مبايعة
الخلفاء، فقال الأستاذ: إن هذا المعنى صحيح، لا إشكال فيه، ولا اعتراض عليه،
واستحسنه أحمد فتحي غاية الاستحسان. وقد بينت هذا المعنى بعد ذلك بما كتبته
في المقالة الثالثة عشرة، وهي المقالة الأخيرة من مقالات (محاورات المصلح
والمقلد) في بحث الوحدة الإسلامية في السياسة والقضاء المنشورة في مجلد المنار
الرابع، وقد اطلع عليه الأستاذ الإمام يومئذ، فأعجبه، ثم زدته بيانًا في تفسير
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) المنشور في
أواخر المجلد الثالث عشر وأوائل المجلد الرابع عشر من المنار، بعد أن نقلت من
الأستاذ الإمام قوله: إنه اهتدى إليه بعد البحث في المسألة والتفكر فيها عدة سنين،
وإنه كان يظن لم يُسبق إليه حتى رأى النيسابوري صرح به في تفسيره، وقد
ذكرت هنالك أن النيسابوري أخذه عن الرازي وزاده بيانًا، ثم أيدت قولهما،
ووضحته بكلام السعد التفتازاني في مسألة انعقاد المبايعة بالإمامة وقد حققت في
المسألة أن الإجماع في الإسلام في معنى مجالس نواب الأمة في القوانين الإفرنجية،
إلا أنه أكمل منها. والقياس - وهو ركن الاجتهاد للأفراد - معهود عندهم أيضًا،
يجري عليه القضاء ووكلاء الدعاوي وشراح القوانين، فالقوم قد اقتبسوا من أصول
الفقه الإسلامي وفروعه ما ارتقت به قوانينهم، ونحن أهملنا وقصرنا، ورضينا
بالجهل الذي هو التقليد، حتى صار أهل شرعنا ينفرون ويفرون منه ويقلدون
الإفرنج أو يجتهدون في قوانينهم، ولو لم يحرمهم علماء السوء الجامدون وأمراء
الجهل الظالمون من الاجتهاد في شرعهم لما فروا إلى شرائع الأجانب وقوانينهم.
ألا أنه لا علاج لردة بعض المرتدين، ولابتداع كثير من المبتدعين ولا لضعف
سائر المتفرنجين - الذين لا يزالون مؤمنين - إلا سلوك سبيل الاستقلال في فهم
الشرع، وبيان مكانته من المساواة والعدل، وموافقته لمصالح الناس، من جميع
الأجناس وشرح معنى قولنا: إنه أعظم مقومات هذه الأمة، تبقى ببقائه، وتزول
بزواله، وتفصيل ما يتبع ذلك من مقاصد الذين ربّوا هؤلاء المتفرنجين على
كراهته، وهم لا يشعرون بعلة ذلك ولا بعاقبته، فإذا ظل صِنف الفقهاء والمتكلمين
منا على جمودهم، وإيجاب تقليد ما اختاره المقلدون المتأخرون الذين يعالجون
مصنفاتهم - فسيغلبهم هؤلاء المتفرنجون وأعوانهم على هدم ما بقي من شرعهم
ودينهم، بل يجعلونهم أعوانًا لهم على هذا الهدم، على جهل بذلك أو على علم،
وها نحن أولاء نرى مبدأ تشريعٍ جديدٍ، ووضع طريف يلبس بتليد، يصيح بجانبيه
مثل هذا الصوت الشديد، الذي أوجب هذا الرد العتيد وقد رأينا من أصحاب العمائم
مَن نصر ذلك القصد الخفي، ولم نرَ منهم مَن أنكر هذا الصوت الجلي، فأين
الغيرة على الدين؟ !
إنا لنراها تظهر على أشدها في تضليل مَن يدعو إلى هداية الكتاب والسنة،
ولم نر لها أثرًا في تخطئة مَن يدعو إلى ترك كل من الكتاب والسنة، فإن كان ذنب
الأول أنه يُؤْثر الاجتهاد على التقليد فالثاني يهدم كلاًّ من الاجتهاد والتقليد! ، وزال
اعتذار الجامدين على التقليد بأن كلمة الدهماء مجتمعة عليه، فصار سببًا للتفرق في
الدين والارتداد عنه.
وإذا كان الإجماع (وهو ما يقرَّر باجتهاد جماعة أهل الحل والعقد) -
والقياس (وهو ما يستنبطه بالاجتهاد أفراد أهل العلم) هما أرقى ما اقتبسه منا
الإفرنج، وسبقُنا إليهما ثابت بالنقل والعقل، وظهر أنه لا علة لرد مَن يرفضهما
من المتفرنجين المارقين، إلا كونهما من هداية الدين، وتقييدهما بنصوص الكتاب
والسنة، وكونهما من آثار أئمة هذه الأمة، فننتقل إلى الكلام معهم في أصلي الكتاب
والسنة؛ لنتبين هل ينبذونهما لذاتهما، أم لعلل يستنكرونها فيهما؟ ، وموعدنا في
ذلك المقالة الرابعة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يراجع في المجلد 18 من المنار، وفي ج7 من التفسير وهو بحث يستغرق 75 صفحة.
(2) يراجع ذلك في مجلدي المنار 13 و14، وفي الجزء الخامس من التفسير.
(3) صوابه: ضلالة، كما تقدم آنفًا.(20/429)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ عبد الكريم سلمان
في أثناء شهر شعبان من هذا العام فجع القطر المصري بعالِم من أنفع علمائه،
وأديب من أبرع أدبائه، وكاتب من أبلغ كُتابه، وقاضٍ من أعدل قضاته، أحد
أعضاء النهضة الإصلاحية (الشيخ عبد الكريم سلمان) ، تغمده الله برحمته.
ولد الفقيد في قرية (جنبواي) إحدى قرى مديرية البحيرة من أبوين كريمي
الأخلاق، أما الوالد فألباني الأصل، وأما الوالدة فعربية المحتد، وكان بين بيته
وبيت الأستاذ الإمام تعارف أهل الجوار، فلما جاورا في الأزهر تعاشرا معاشرة
الأهل لا الطلاب، ولما خرجا إلى ميدان العمل تعاونا تعاون أخلاء الأصحاب،
المتفقين في الآراء والمقاصد والآداب، وعاشا ما عاشا متوادين موادة اللدات
والأتراب، ثم ما فرق الموت بينهما مدة التفاوت في العمر، حتى جمع بينهما تحت
التراب، فعسى أن يكون هذا مُصْلِيًّا لذلك المُجَلِّي إلى دار الثواب، وأن يجمعنا الله
بهما في دار الكرامة يوم المآب.
لعل الشيخ عبد الكريم كان أذكى ذهنًا من الأستاذ الإمام، ولكن هذا فاقه ففاته
في الجد والاجتهاد، وتسديد سهام الإرادة إلى كل مراد، والعادة أن أكثر الأذكياء
يكونون قليلي العناية والاجتهاد في الأعمال العقلية التي توكل إلى رأيهم واختيارهم
(كطلب العلم في مثل الأزهر) ، والسبب الخفي لذلك أنهم لا يشعرون بما يشعر به
مَن دونهم في الذكاء إلى التعب في التحصيل، إلا مَن كان له من نفسه حافز يحفزه
إلى مقصد عظيم، وكان الأستاذ الإمام من هؤلاء؛ فإنه طلب العلم بباعث ديني
قوي، نمَّاه في قلبه سلوك طريق التصوف قبله، كما فصَّلناه في ترجمته، فكان
وهو يسكن مع الشيخ عبد الكريم في حجرة واحدة - يقضي جُلَّ ليلته في المطالعة،
ويحاول الشيخ عبد الكريم هو وغيره أن يحملوه على مشاركتهم في سمرهم وما
يلهون به فيه فيعييهم ذلك منه، ولو كان للشيخ عبد الكريم مثل جده وعزيمته لكان
للأمة منه نابغة طار صيته في الأقطار، وبلغ من الشهرة ما تبلغه شمس النهار،
على أنه مشى الهُوينا فسبق الأقران، فكان الأستاذ الإمام البدء من مريدي السيد
جمال الدين وكان هو الثنيان [1] .
كان أول عمل تولاه الأستاذ الإمام هو رئاسة تحرير الجريدة الرسمية
(الوقائع المصرية) وإدارة المطبوعات، فكان الشيخ عبد الكريم عضُده الأول في
قلم محرريها، ثم كان خلَفه بعد اعتزاله العمل باعتقاله مع زعماء العُرابيين إثْر
احتلال الإنكليز لمصر، فوضع اسم (عبد الكريم سلمان) في ذيل الجريدة موضع
اسم (محمد عبده) ، وظل في عمله هذا إلى أن أُلغي القسم الأدبي من الجريدة،
واستغني عن عمله في المطبوعات بعد عودة الأستاذ الإمام من منفاه.
ولما شرع الأستاذ - بعد استقراره بمصر - في إصلاح التعليم في الجامع
الأزهر كان الشيخ عبد الكريم ساعده الأيمن في ذلك من أول العمل إلى آخره، وهو
هو مؤلف كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر في عشر سنين) ، كتبه عقب
استقالتهما من مجلس إدارة الأزهر، وطبعناه ونشرناه قُبيل وفاة الأستاذ الإمام، بعد
اطلاعه عليه وإجازته له، ومنه يعلم قيمة عمل الشيخين في إقامة هذا الركن العظيم
من أركان الإصلاح الإسلامي، وعبارته تشهد لهما بما كانا عليه من الإخلاص
والتواضع والبُعد عن التبجح والدعوى.
فكفى الشيخ عبد الكريم فضلاً وكرامة أن كان عشيرًا وديدًا للأستاذ الإمام في
أول نشأته العلمية وعضوًا عاملاً معه في النهضة الإصلاحية الأولى التي توسل
إليها بإدارة المطبوعات، وفي الحركة الإصلاحية الثانية التي توسل إليها بإصلاح
التعليم في الأزهر، وتفصيل ذلك في سيرة الأستاذ الإمام. ولقد تخرج مع الأستاذ
الإمام على يد السيد جمال الدين كثير من الأزهريين في الأفكار والكتابة والخطابة،
كان في مقدمتهم إبراهيم بك اللقاني، واشتغل معهما في المطبوعات أفراد منهم،
أشهرهم من الأحياء: سعد باشا زغلول وإبراهيم بك الهلباوي، ومن الموتى: سيد
أفندي وفا، ولكن ترك كل أولئك زي العلم الديني، واستبدلوا به الزي الإفرنجي
العثماني، فكان أكثرهم - بعد الثورة العرابية - محامين في المحاكم الأهلية، ولم
يجد الأستاذ الإمام مَن يشتغل معه في الإصلاح بعد العودة إلى مصر إلا مَن حافظ
على الزي الأزهري وهو الشيخ عبد الكريم. وبهذا يُعلم تأثير تغيير الزي في
الشئون الاجتماعية.
بعد خروج الفقيد من خدمة المطبوعات جُعل عضوًا (قاضيًا) في المحكمة
الشرعية العليا، فكان فيها قدوة صالحة في تحري العدل، والاستقلال في الرأي،
ومن آيات ما وصفناه به من شدة الذكاء أنه ولي القضاء بمذهب الحنفية في المحكمة
العليا الاستئنافية، وهو شافعي لم يتمرن على الأعمال والأحكام القضائية في
المحاكم الابتدائية، فلم يعجزه أن يضرب مع أكبر القضاة بكل سهم، ويكون سبَّاقًا
إلى إصابة الحق والعدل في الحكم، وكان له من الشهرة في المحكمة ما هو جدير
به. نعم، إنه كان قد سبق له دراسة بعض كتب الحنفية في الفروع والأصول،
كما شهد له الشيخ عبد القادر الرافعي وغيره من كبار فقهائهم.
ولئن وُجد في زمن الفقيد أفراد يساهمونه في فضيلة استقلال القضاء، وآحاد
يجارونه في حلبة الأدب والإنشاء، وآخرون يسبقونه بالتوسع في بعض العلوم، أو
الإغراب في بعض شوارد الفنون - فقد كاد يكون نسيج وحده في أفضل ما يتفاضل
فيه الناس، بعد ما يتعلق بالباطن من معرفة الله، وكمال الإيمان والإخلاص،
أعني مكارم الأخلاق، وما يلزمها من محاسن الأعمال والآداب، فقد كان ممتازًا
بالوفاء لإخوانه، والإخلاص لأخدانه وخِلانه، والمروءة والنجدة في قضاء حاجات
قاصديه، وإن لم يكونوا من أصحابه ومحبيه، وأما أصحابه فكان أسبقهم إلى عيادة
مريضهم، وتشييع ميتهم، وإصلاح ذات بينهم، وتهنئتهم بكل نعمة تحدث لهم،
وكان ربما يسافر من بلد إلى آخر للعُتبى بين متغاضبين، والتأليف بين متباغضين،
وإزالة الجفاء بين أسرتين؛ وكان له من الحذق في الاستيعاب ما يسل به السخائم،
ومن اللطف في العتاب ما يستخرج به الحفائظ، فلا تكاد تتعاصى حية على رقيته،
أو تأبى عقدة أن تنحل بنفثته.
ومن سوء حظ المسلمين أن أسرع إليه اليأس من صلاح حالهم، فأقعده في
آخر عمره عن مساعدة أعمال الإصلاح العام لهم، وقد كان الأستاذ الإمام عناه بقوله
لي في أول العهد بمقدمي إلى مصر: (إن لي أملاً كاملاً، وهنا رجل آخر له
نصف أمل!) . ثم لم يلبث هذا النصف أن ذهبت به وقائع الأيام، حتى كان
يصرح بذلك، ويحتج عليَّ وعلى الأستاذ الإمام قائلاً: سترى ما ينتهي إليه أملكما
في هذه الأمة الميتة، وما يبلغه إصلاحكما من هذه الشعوب الفاسدة، وله كلمة في
هذا المعنى قالها لأستاذنا الشيخ حسين الجسر، ألبَسها كعادته ثوب الدعابة والهزل،
وقد كنا بدار الأستاذ الإمام، نتحدث فيما أشيع من رغبة الأمة اليابانية في التديُّن
بدين الإسلام، قال الشيخ حسين الجسر: إذًا يُرجى أن يعود إلى الإسلام مجده،
قال الفقيد: دعهم؛ فإني أخشى إذا صاروا منا أن نفسدهم قبل أن يصلحونا!
ذكرت هذا في ترجمة الرجل لما فيه من العبرة المحزنة. وإلى الله المشتكى،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الفقيد طويل القامة، عظيم الجثة، قوي البنية، فاعتراه منذ سنين مرض
في المعدة، طال عهده وما نقه منه إلا وقد ذهب سمنه، وهزل بدنه، وضعف
قلبه، حتى توفي فجأة بسكتة قلبية، وكان يعزى أصدقاؤه آل محمود في بلدة
الرحمانية، فنقلت جثته إلى مصر، وصلي عليه في الجامع الأزهر، ودُفن بجوار
صديقه الأستاذ الإمام، تغمدهما الله بالرحمة والرضوان، وقد حضر تشييع جنازته
وليالي مأتمه مَن لا يُحصى من العلماء والوجهاء ووفود البلاد من الوجهين البحري
والقبلي، مُظهرين لمكانته العالية من أنفسهم ومعزين لنجله المهذب حسان أفندي،
وللفقيد مقالات كثيرة في موضوعات شتى متفرقة في الصحف كالوقائع المصرية
ومجلة الآداب وجريدتي المؤيد والمقطم، ولكن يقل فيها ما هو موقَّع منه أو معزوّ
إليه، وفي الاستطاعة جمع طائفة كبيرة منها إن وُجد مَن يُعنَى بذلك. فعسى أن
يأذن نجله بذلك لمَن شاءه، جاعلاً له حق طبعه ونشره لإحياء ذكرى والده وحفظ
أثره.
__________
(1) تطلق العرب كلمة (البدء) على السيد الأول في السيادة والتقدم، و (الثنيان) على التالي له في ذلك، قال الشاعر - في تفضيل قومه على غيرهم -:
... ثنياننا إن أتاهم كان بدءهم ... وبدؤهم إن أتانا كان ثنيانا.(20/437)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حسن جلال باشا
كان حسن باشا جلال - المتوفى في 18 جمادى الأولى الماضي - من رجال
العلم والعمل والفضيلة ومكارم الأخلاق الإسلامية، ففي سيرته من العبرة وحسن
الأسوة ما يتوخى المنار نشره، ولم يكن ترْكُنا لترجمته عقب موته تعمدًا كتركنا
تراجم أكثر مَن يموت من أرباب المناصب والرتب العلمية، والمظاهر الدنيوية،
العارين مما يتوخاه المنار وإنما تركناها؛ لأن ما نعلمه من سيرته قليل مجمل،
وكان توفيق أفندي أبو طالب رئيس كتاب محكمة مصر الأهلية قد أخبرنا بأنه شرع
في كتابة ترجمة له، فانتظرنا صدورها للأخذ عنها، وأكثر ما نرويه خلاصة منها.
وُلد الفقيد بمصر في أربع خلون من شعبان سنة 1271، ولما بلغ سن التعليم
أدخل في مدرسة خليل آغا، فكان الأول من طلبتها في جميع فصولها، فمهد له
ذلك دخول مدرسة دار العلوم التي أُنشئت في سنة 1278 بطريق الاستثناء لفقده
بعض شروطها، فعني وجدّ إلى أن حصَّل ما كان ينقصه منها، وفي سنة 1292
جعل مدرسًا بالمدرسة التجهيزية بعد أداء الامتحان المشترط لذلك، وفي سنة
1295 اختير لتدريس اللغة العربية لأبناء فاضل باشا، فرافقهم إلى سويسرة،
وتعلم فيها اللغة الفرنسية، وكان يتردد فيها على وزير مصر الشهير مصطفى
رياض باشا دون جميع مَن هنالك من المصريين (إذ كانوا يجتنبون لقاءه لمغاضبته
للخديوِ إسماعيل باشا) ، فلما اعتزل إسماعيل وولي توفيق، وعاد رياض إلى
وزارة مصر - أرسل الفقيد إلى أوربة لتحصيل علم الحقوق على نفقة الحكومة،
فنال شهادة الحقوق، وعاد إلى مصر، وخدم القضاء مساعدًا للنيابة، فقاضيًا،
فوكيلاً لبعض المحاكم، فرئيسًا لعدة منها، آخرها محكمة الإسكندرية تولاها عشر
سنين ونصف سنة، فمستشارًا في محكمة الاستئناف، وكان آخر راتبه الشهير فيها
مئة جنيه.
ومن خدمته للعلم أنه كان عضوًا في المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية
وعضوًا في اللجنة الإدارية لمدرسة القضاء الشرعي.
هذه السيرة الرسمية - التي تتطلع لتحصيل مثلها أعناق أكثر المتعلمين -
ليست مما نحفل بذكرى أصحابها في المنار، وإنما فضل الرجل عندنا في سيرته
العملية وأخلاقه وآدابه الدينية التي فضل بها الجم الغفير من أمثاله رجال القضاء،
وممن يعد فوقهم في المنصب والجاه كالوزراء والأمراء.
كان الرجل محافظًا على أوامر دينه ونواهيه من سن الصبا إلى سن
الشيخوخة، لم يُفتن في شبابه بمعاصي الشهوات، ولا في كهولته بمنكرات العظمة
والكبرياء، ولا في شيخوخته بدناءة الطمع والحرص على المال، ولم تزلزل
الإقامة في البلاد الأوربية ما نشأ عليه من الآداب الإسلامية، ولم تفسد عليه عفته
وورعه، ولم تحوله عن زيه العلمي ولا عاداته، حتى إنه كان يتورع عن أكل
ذبائح النصارى لكثرة الملاحدة فيهم، ويذهب من محل إقامته إلى جزار يهودي في
مكان بعيد، يشتري منه اللحم، ويعالجه لنفسه.
وروى أبو طالب عن بعض عشرائه من شبان المصريين طلاب علم الحقوق
في فرنسا أنهم أغروا به امرأة بارعة الجمال لتراوده عن نفسه، وجعلوا لها عشرة
جنيهات إن هي فتنته عن عفته، فجاءت حجرته متبرجة بما استطاعت من زينة،
وطرقت الباب، ففتح لها، وسألها قبل الدخول عن حاجتها، فضحكت ضحكة دلّ
ومداعبة، ورأرأت رأرأة مغازلة وملاعبة، وحاولت الدخول عليه، ومدت يدها
إليه، فدفعها بعنف، وأغلق دونها الباب، فرجعت خائبة تجهر بالهُجر والسباب!
ومما رواه من سيرته أنه كان أبر الناس بوالديه، وأوصلهم لرحمه، وأحفاهم
بإخوانه وأصدقائه، وأشدهم عناية بكل مَن له عهد وصلة به، مرضت والدته
بمصر أيام كان مقيمًا في الإسكندرية رئيسًا لمحكمتها، فكان يعودها كل أسبوع
حاملاً معه ملاءات فراشها كاملة النظافة والكي، ويتولى ترتيب ذلك وفرشه بيده،
وكان - وهو يطلب الحقوق في أوربة - يرسل إليها في كل شهر جزءًا من راتبه.
وبلغني أنه كان ينفق ثلث الراتب، ويرسل إليها الثلث، ويجعل الثلث الثالث للكتب،
وما زال محبًّا للكتب باحثًا عن نفائسها المخطوطة طول عمره، وكنت أراه في
أواخر عمره يختلف إلى صغار باعة الكتب، ويجلس عندهم باحثًا عما عساهم
التقطوه من بعض التركات، أو أصحاب الحاجات.
قال أبو طالب: وكان وفيًّا بالعهد؛ فقد عرف في (قنا) يوم ولي القضاء فيها
بدالاً مصريًّا متوسط الحال، كان يشتري منه حاجته، فلما عاد إليها وهو مستشار
سأل عنه، فقيل له إن حالته تضعضعت، وتجارته كسدت، وهو الآن يبيع
المراوح، فلم يمنعه ذلك من زيارته، وتعهُّد شأنه كلما ذهب إلى قنا، ولا تسلْ عن
اغتباط ذلك البدال بمثل هذه الزيارة؛ فإنها كانت أشهى إليه من رد ثروته، بل
شبابه عليه. اهـ.
وأفضل ما يؤثر من مناقبه مبالغته في الاستقلال والعدل في القضاء، حتى إنه
لم يكن يقبل شفاعة، ولا حديثًا في قضية رُفعت إليه، ولا في ترقية عامل تحت
رياسته، كما أنه لم يكن يكلم أحدًا من أصدقائه القضاة ولا غيرهم في مثل ذلك.
وقد اشتهر بذلك، حتى لم يكن أحد من أقرانه ولا ممن فوقه من المناصب يطمع أن
يكلمه في شيء من ذلك، وله مواقف ووقائع تؤثر في ذلك، ذكر بعضها أبو طالب.
ويعجبني مقاله في إثْر هذه المناقب، وهو:
ولقد أغفلت التوسع في حياة الفقيد القضائية وذكر الحوادث التي اتفقت له دالة
على مبلغ ما كان عليه من الفقه في القضاء والعدل والشجاعة مكتفيًا بأن
المعاصرين أحاطوا بكل هذه الأحوال، ويلوح لي أن كتابة تاريخه المعاصر
بالتفصيل فيه من الصعوبة ما لا يظهر لأول وهلة؛ ولذلك اقتصرت على هذا
الإلماع اليسير.
وما كنت لأطمع أن يكون كل المصريين كحسن باشا جلال؛ فهذا من المحال
قطعًا، ولا أرجو أن يكون واحد في الألف كذلك، بل الذي آمله أن يتصفح هذه
الورقات بإمعان، وأن لا يستصغروا شأن الحوادث التي سقتها هنا مثالاً من أخلاقه؛
عسى أن يحتذي حذوه ويهتدي بهدْيه نفر من الأمة؛ ليعملوا كما عمل، لعل الله
يبعث فيها الحياة الحقيقية، التي لا يُظهرها إلا مثل هذه الأخلاق؛ فإن الذي يعيش
الآن بين ظهراني المصريين لا يمكنه أن يتجاهل العلماء العديدين في كل علم وفن
فمصر ليست فقيرة من هذا النوع؛ إذ للقضاء رجال وللطب آخرون وللهندسة
والزراعة مثلهم ولكل مطلب من مطالب الحياة قوم يشغلهم شأنه، وما ينقص
المصريين إلا شأن واحد وهو الأخلاق؛ فإن ذوي الأخلاق الفاضلة قليلون بالنسبة
لمجموع الأمة ومدارسها ومعاهدها. وإني - على قدر معلوماتي القاصرة - لا أرى
بابًا لهذه الأخلاق إلا النفس التي بين جنبي كل حي من الأمة، فما عليه إلا أن
يروّضها على الفضائل التي شاعت في الكتب وتداولتها ألسن الصغار، وغفلت
عنها عقولهم، فإن أصغر كتاب مدرسي فيه بيان لأصول الفضائل، ولو مرنت
النفوس مِرَانًا حقيقيًّا عليها لتغيرت الأحوال تغيرًا عظيمًا في وقت قصير. أما ما
نعيش الآن فيه من حيث الأخلاق وآداب المعاملات - فمما يعجز عن وصفه أكبر
كاتب بليغ، وإني لَيحزُنني جدًّا أن أجهل مصدر هذا الداء الوبيل الذي تفشى تفشيًا
مزعجًا؛ فإن ابن عشر سنين يبرز في النفاق والمداهنة على ابن الستين! ، فنحن
نتقدم فيها، ولكنه تقدم معكوس؛ لأن كل مَن أتقن هذا النفاق عُدَّ ظريفًا كيِّسًا، وقد
عم جمود الإحساس والعواطف كثيرًا من هذه الطبقات في هذه الأمة ذات المجد
القديم والتاريخ العظيم، التي تحتاج إلى شيء بسيط حتى تكون من أرقى الأمم؛
وذلك باعتدال أبنائهم في أحوالهم وأقوالهم وعملهم بلا إفراط ولا تفريط؛ لأن الحالة
الوسطى تكاد تكون معدومة، وقد دعت الحياة فيها:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوني بيان عندها وخطاب
وعندي أن إصلاح شأن هذه الأمة - التي سهلت طباعها وزكت نفوسها ولان
جانبها وسهل قيادها - لا يأتي إلا بحسن اختيار العاملين من أبنائها من أصغر عامل
عمومي وهو الخفير إلى أكبر موظف وهو الوزير، فما كل النفوس بصالحة للخدمة
العامة التي تتطلب صفات خاصة تظهر في صاحبها من أول نشأته، فإذا صح
انتقاء هؤلاء أصبحت مصر في زمن قليل فردوس الأرض؛ لأن هذه الأمة سريعة
التقليد لحكامها. اهـ المراد.
(المنار)
لقد هدي هذا الكاتب إلى ما يجب من العبرة في هذه السيرة الحسنة بعبارة تدل
على أنه عني بتهذيب أخلاقه وتربية نفسه، حتى ظن أن ذلك يسير على أكثر
الناس المتعلمين. وهيهات هيهات، إنهم عن السمع لمعزولون، وعن الحاجة إلى
تزكية النفس لغافلون، وهذا التعليم المعروف لا يزيدهم إلا غفلةً وإعراضًا عنها،
ولن يكون ذلك إلا بانقلاب يتغير به نظام التربية والتعليم، ويكون أمرهما موكولاً
إلى أصحاب الفضيلة والحكمة من الأمة، وأين هم؟ ! وكيف السبيل إلى تفويض
الأمر إليهم؟ ! وأما اختيار أمثالهم لأعمال الحكومة فمَن يقدر عليه ويُعنى
بتنفيذه؟ ! ههنا محل التأمل للمتأملين.
__________(20/441)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التحول في ميادين الحرب وقرب أجل الصلح
هجم الألمان في أول فصل الربيع من هذا العام على الجيوش الإنكليزية في
شمال الميدان الغربي هجومًا لم يسبق له نظير، كانوا يضربون به جميع خطوط
القتال بمدافعهم في وقت واحد، ويمطرون البلاد الواقعة وراء هذه الخطوط وابلاً
من مدافعهم إلى مسافة 28 ميلاً، وكان غرضهم الفصل بين الجيوش الإنكليزية
وبين الفرنسية والأمريكية؛ للتمكن من سحق الأولى، والتفرغ بعدها للأخرى، أو
تخضع لطلب الصلح بلا شرط ولا قيد. وما كاد يتم لهم مبدأ ما يحاولونه، حتى
حدث في خطة دول الأحلاف أعظم حادث، انعقد الإجماع على وجوبه من قبل،
لولا ما عارضه من تقدم المانع على المقتضي، وهو توحيد القيادة لجميع جيوش
دولهم، وبذلك يتمكن الفرنسيس من وصل ما انقطع من التواصل، ومزج الجيوش
بعضها ببعض. ثم هجم الألمان هجومين آخرين عظيمين، بلغ من تقدُّمهم بهما أن
قطعوا نهر المارن، وساروا على مقربة من باريس التي كانوا يضربونها كل يوم
بمدافع بعيدة المرمى. وكان الناس يتوقعون زحفهم عليها في الأسبوع الثاني من
شهر شوال، وهو الثالث من شهر يوليو (تموز) ؛ لأن وزراء الأحلاف كانوا
يصرحون بأن تفوق الألمان عليهم في العَدد والعُدد عظيم، وأن الخطر لا يزول إلا
إذا انقضى فصل الصيف، وحالت أمطار الخريف دون استمرار شدة القتال، وهم
ثابتون مصابرون لعدوهم، فإذا تم ذلك لهم زال الخطر، ودالت الدولة لهم بكثرة
الجيوش الأمريكية، التي ستكون في صيف السنة القابلة مساوية لجميع الجيش
الألماني.
بينما ينتظر الناس ذلك إذ فاجأهم خبر شروع الألمان في التقهقر المنظم من
جنوب المارن إلى شماله، ثم من جنوب ألاين إلى شماله، وكان يظن أن ذلك
لخطة حربية، يعقبها هجوم أشد مما قبله، ولما استمر التقهقر ظن قوم أنه يقصدون
خط هندنبرج ليشتوا فيه، كما فعلوا في العام الماضي، وأنهم في أثناء ذلك يجمعون
جيشًا من الحكومات الروسية التي آذنت الأحلاف بالحرب، وظن آخرون أن سبب
التقهقر اتفاق سري على الصلح، وقوى هذا الظن ما نقلته البرقيات عن طلعت باشا
من أنه قال - عقب اجتماع سياسي مع رجال الدولتين الجرمانيتين -: إنه لم يبقَ
لاستمرار الحرب فائدة، وإن الصلح سيعقد قبل حلول فصل الشتاء من هذا العام.
ثم مازال الألمان يتقهقرون، والأحلاف يتأثَّرونهم، ويحتلون البلاد التي يغادرونها
حتى آخر الشهر، وقد ظهر في برلين وغيرها مبادئ انقلاب سياسي، ربما كان
هو السبب الباطن للازورار والانكماش.
وأما الترك فكانوا يدافعون دفاع المستميت عن كل بقعة أخذها الروس من
بلادهم التركية، أو الإنكليز من بلاد العرب في العراق وفلسطين، حتى إذا جاء
هذا الشهر فاجأتنا الأنباء بأن الجيش الإنكليزي في فلسطين شرع يزحف في
الأغوار والأنجاد، من تلك الأرض الحصينة الخالية من الماء، فاستولى في 12
ذي الحجة (18 سبتمبر) على خطوط الترك الأمامية في جلجلة والطيرة وطولكرم
وفي 13 منه تقدم حتى بلغ العفولة وفي 14 منه بلغ بيسان وجنين ونابلس والسامرة
وما جاء 17 منه إلا واحتلوا حيفا وتبعتها عكا وفي 19 منه احتلوا طبرية وسمخ
وعمان، وبلغ عدد مَن أسروا من الجيش التركي أربعين ألفًا، ولم نسمع في أثناء
ذلك بمقاومة تُؤثَر، ولا بعدد من القتلى يُذكَر، وما زالوا يوغلون في ولايتي سورية
وبيروت شمالاً من الجانب الغربي، ويحاذيهم جيش الأمير فيصل العربي من
الجانب الشرقي، حتى دخلوا دمشق في 25 منه، وكان الترك قد أجلوا عنها،
وتألفت فيها حكومة مؤقتة.
ولا شك في أن الترك قد قرروا ترك سورية كلها لأهلها، والانكماش إلى
بلادهم التركية تمهيدًا لطلب الصلح. فإذا يئس الاتحاديون من ولاياتهم العربية فإنهم
يفضلون بيعها لأعدائهم، أو تركها لهم غنيمة باردة على إبقائها لأهلها العرب كما هو
معروف عنهم، ولكن الأمر لم يبق في أيديهم، فهم قد قتلوا أنفسهم، وقطعوا
أوصال سلطنتهم (إمبراطوريتهم) بسيف العصبية الجنسية الذي سلّوه على غير
الترك من الأجناس.
أما أخبار الصلح ومقدماته فأولها أن النمسة نشرت في ثاني ذي الحجة مذكرة
رسمية في عاصمتها، بينت فيها أنها أرسلت إلى الدول المتحاربة اقتراحًا تدعوهم
فيه إلى إرسال مندوبين من كل منهم إلى بلد من البلاد التي على الحياد للمفاوضة
السرية في أمر الصلح، وتمهيد السبيل إلى الاتفاق الممكن في ذلك. وفي 21 منه
علمنا أن الحكومة البلغارية طلبت الصلح، وعقد الهدنة، وأن رئيس وزارة هذه
الحكومة عرض الأمر على معتمد الولايات المتحدة، فأشار عليه بوجوب قبول
شروط الحلفاء للهدنة بدون بحث؛ لأنهم يريدون بالشدة فيها الأمن من كل خطر في
المستقبل، ولكنهم يراعون في شروط الصلح العدل والإنصاف على قواعد الجنسية،
فقبل نصحه. وروت البرقيات أيضًا أن المعتمد نفسه سافر إلى مركز قيادة الحلفاء
وحضر توقيع الهدنة وأن الترك سيحذون حذو البلغار.
ولم ينقضِ اليوم الأخير من ذي الحجة إلا والبرقيات العامة تتلاقى في جواء
أرجاء العالم بأن الدولة الألمانية نفسها خاطبت الرئيس (ولسن) برغبتها ورغبة
حليفتيها النمسة وتركية في الصلح على الأصول والشروط التي وضعها هو.
فسبحان محول الأحوال، ونسأله أن يحول حالنا إلى أحسن حال.
__________(20/444)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد العشرين
بحمد الله نختم المجلد العشرين من المنار، وله الحمد والشكر على نعمة
التوفيق والثبات، وقد جعلنا أجزاء هذا المجلد عشرة كأجزاء المجلد الذي قبله،
ولكنا اضطررنا إلى تصغير حجمها من الجزء الخامس وما بعده؛ لأن الحرب اشتد
غليان سعيرها، وجميع الأشياء اشتد غلاء سعرها، وقد ذكرنا في أول خاتمة
المجلد السابق أن ما كنا نشتريه من الورق بمئة صار ما سعره 400 أو 500،
ونقول في هذه الخاتمة: إنه تضاعف بعد ذلك إلى 1000، بل إلى 1600 أما
السعر الأول، فقد علمناه بأنفسنا، وأما السعر الآخر فيما نقل إلينا، وقد غلت أثمان
سائر الأشياء أيضًا، حتى الأغذية الوطنية التي بيَّنَّا ثمنها في الجزء الثامن، فلنا
العذر في تصغير حجم المنار مع عدم الزيادة في قيمة الاشتراك، وقد فعل مثل
فعلنا أصحاب الجرائد والمجلات في جميع الآفاق.
هذا، وقد أخرنا البدء بهذا الجزء الأخير إلى شهر ذي الحجة، كما أخرنا ما
قبله من أجزائه [1] وأجزاء ما قبله من سني الحرب، فأدغمنا في سنيها الأربع سنة
من سني المنار؛ إذ لم نُصدر في هذه السنين الأربع إلا ثلاثة مجلدات، وبذلك
وافقت مجلدات المنار عدد سنيه الشمسية في الجملة، وذلك ما توقعناه في خاتمة
المجلد التاسع عشر من تأثير استمرار الحرب، فقد صدر أول عدد من سنة المنار
الأولى في 22 شوال من سنة 1315، ويوافق ذلك منتصف الشهر الأول من سنة
1898 الميلادية. فعلى هذا يكون قد تم لنا المجلد العشرون في السنة العشرين
الميلادية، ولكن قبل تمامها.
والمرجو أن يتم الصلح العام بين الأمم المتحاربة في العام الذي نستقبله، وأن
يتيسر لنا فيه أن نزيد في حجم المجلد الحادي والعشرين، وإن كان لا يرجى أن
يعود ثمن الورق إلى ما كان عليه قبل الحرب إلا بعد سنين، فإن عود الرخص إلى
المصنوعات إنما يكون بالتدريج البطيء.
***
(الانتقاد على المنار)
ورد علينا في هذا العام ذلك الانتقاد الطويل على (ذكرى المولد النبوي) ،
وقد نشرناه برمته في الجزء الثامن والرد عليه في التاسع والعاشر، وبقي له بقية
تُنشر في السنة الجديدة.
وورد علينا انتقاد آخر لمسألة أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمه أبي
طالب، التي ذُكرت استطرادًا في الكلام على أبي إبراهيم الخليل صلى الله عليه
وسلم من هذا المجلد. فالناقد ممن يجزمون بنجاة الأبوين الشريفين وأبي طالب
خلافًا لما روي في الصحيحين وغيرهما، وكل ما ذكره في مسألة الأبوين قد تقدم
في بحثنا، وأما إيمان أبي طالب فانتقد علينا عدم ذكر ما ورد في إيمانه من
الروايات الضعيفة، ولم يكن الكلام في تاريخه فنستوفي كل ما جاء فيه، وإنما كان
في بيان حكمة ما ورد في كتاب الله وحديث رسوله الصحيح في معنى التصريح
بكفر أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقد صرحنا بحظر اعتداء بيان النصوص
وحكمها وأحكامها في ذلك إلى ما يعد إيذاءً للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لأحد
من أهل البيت الذين من ذريتهم، وإن أقوى ما يستدل به على نجاة الأبوين
الشريفين في الآخرة وأرجاه هو ما ورد في امتحان الله تعالى لأهل الفترة في الآخرة
ونجاة بعضهم به، ومَن أجدر منهما بذلك؟ ، ونتمنى أن نجد أدلة أقوى من هذا،
فإن وجدنا شيئًا نشرناه مغبوطين، وإلا سكتنا مؤمنين مفوّضين، ولا نرتاح إلى
الرد على المنكرين، فحسبنا بيان ما ظهر لنا أنه الحق المبين، وهو خلاف ما
نهوى، فما نحن للهوى بمتَّبِعين، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ
لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) ، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) قد صدر ما قبله في أواخر ذي القعدة، كما عُلم من آخر خبر في الجزء التاسع.(20/447)
المجلد رقم (21)(21/)
ربيع الأول - 1337هـ
ديسمبر - 1918م(21/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الحادي والعشرين
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن عز وقدر، وغلب فقهر، وخلق كل شيء بقدر، وصلاةً وسلامًا
على خاتم رسله محمد الذي بعثه رحمةً للبشر، ونذيرًا للأسود والأحمر، وأنزل
عليه أحسن الحديث والسير، والمواعظ والعبر، فاعتز وساد من اهتدى بآياته
وادَّكر، وشقي من أعرض وكفر، ولا تزال ميزانًا لسير البشر، في البدو والحضر
{كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً
لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) .
أنذر المعتزين بقوة الأجناد والاستعداد للحرب والجلاد، المغترين بكثرة
الأموال والأولاد، وسعة الملك وعمران البلاد، سنته التي خلت في العباد، الباقية
إلى يوم التناد، في سوء عاقبة البغي والفساد، والفحش والسفاد، ذَكَّرَهُمْ بما عاقب
به مَن قبلهم، ثم أنذرهم عذابًا يبعثه عليهم من فوقهم، أو يثيره بهم من تحت
أرجلهم، أو يلبسهم شيعًا بتنازع أطماعهم في الأرض، ويذيق بعضهم بأس بعض،
فتماروا بالنذر، واتكلوا على ما أوتوا من القوى والحيل، اتكلوا على قوة العلم
والنظام ويا لها من قوة، اتكلوا على قوة الدخان السام والآلات الحربية، اتكلوا على
الغواصات، والمدرعات، والنسافات، والمدمرات البحرية، اتكلوا على قوة
الأموال من المواد والنقود الذهبية، اتكلوا على قوة المكر والخداع والتجسس
والمكايد السياسية، أعد كل ما استطاع من قوة لخذل الحق واتباع الهوى، متكلاً
على ما كانوا يسمونه توازن القوى، لاعتقاد الجميع أن الحق للقوة , أو أن القوة
تغلب الحق، ثم منى كل نفسه بالنصر وأنه صاحب الحق {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (المؤمنون: 71) {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ
لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
* بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 43-46) .
نسوا أن علم الله فوق كل علم، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) نسوا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وأشد بأسًا وتنكيلاً, نسوا
سنته في قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) وسنته في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً
مَّفْعُولاً} (الإسراء: 4-5) إلى آخر تلك الآيات والعبر وأمثالها من الأمثال
والنذر {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4- 5) .
إن سنن الله - تعالى - في نوع الإنسان، كسننه في سائر الأكوان: حق
وعدل، ورحمة وفضل، إلا أن الناس يبغون على أنفسهم، ويجنون على فطرتهم،
فيضر الفرد أو الجمع منهم ليضر، ويضر لينتفع ويُسَر, أو لينفع ويَسُر، فيعود
ضرره عليه، ويحفر لأخيه أخدودًا فيقع فيه، يفرِط أو يفرِّط أناس في شهواتهم
البدنية، فتنتابهم الأمراض الجسدية، فإذا عرفوا بذلك سنن الله تعالى فيها، وحكمته
في قوادم أسبابها وخوافيها، كانت فائدة الأمراض أعظم من غوائلها، ونفعها أكبر
من ضررها، ويفرِط قوم ويفرِّط آخرون في الشهوات الاجتماعية، فيعبثون
بالحقوق المشتركة والروابط المعنوية، فيهيج البغي والعدوان بين القبائل والشعوب
وتشتعل بينهم نيران الحروب، فتكون فتنةً وبلاءً للجميع، وإن ظهر ذلك أولاً في
فريق دون فريق، ثم تكون العاقبة للمتقين، والنقمة على الباغين والعادين {ذَلِكَ
وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} (الحج: 60)
و (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) والظالم سيف الله ينتقم به , ثم
ينتقم منه {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِي} (هود: 102) وما كان يظن بأدق الأمم بحثًا في السنن الإلهية, وأوسعها
علمًا بالشؤون الاجتماعية، أن تكون أشد عدوانًا وبغيًا، من أشد القبائل غباوةً وجهلاً
ولكن كان مَثَل هذه الأمم كمَثَل الأطباء الذين تفتك بشبابهم الأمراض والأدواء ,
لإفراطهم في شُرب المسكر، وإسرافهم في الفحشاء والمنكر، وهم أعلم الناس
بضررها، وأبلغهم لسانًا في التحذير من خطرها، وذلك برهان قطعي على أن
علوم البشر أجمعين، لا تغني في إصلاح حال البشر عن هداية الدين، دين الإذعان
واليقين الحاكم على الإرادة، لا دين التقليد الذي لا يخرج عن حكم العادة، وإن ضل
من اغتر بعلومهم فكفر، وفسق عن أمر ربه وفجر وجهل حكمة الله وصنعه في خلق
البشر, فقال بفنائهم وببقاء الحجر والمدر {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة: 7-13) .
لقد أتى على أمم الشمال الغربية حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، إذ كان
أهل الجنوب الشرقيون يملأون الآفاق علمًا ونورًا، لا يزال بعضه مرويًّا مأثورًا،
أو مرئيَّا منظورًا، وذهب البعض الآخر هباءً منثورًا، ثم أتى عليها أحقاب نالت
فيها بالعلم والصناعة ملكًا كبيرًا، وتبوأت من تراث ملوك الشرق جنات وقصورًا،
وزخرفًا وحريرًا، وثلت عروشًا رفعها العدل والعلم، ثم وضعها الجهل والظلم
فدمرها تدميرًا، فكانت سيف الانتقام الإلهي منتضىً مشهورًا، ولكن استكبر أهلها
في أنفسهم، وعتوا عتوًّا كبيرًا, ولم يقيموا الميزان الذي يتبجحون به مينًا وزورًا
ولو غيَّر أهل الجنوب ما بأنفسهم, لغير الله ما حل بهم، ولكن أوشك أن
يدور الزمان، ويعود الأمر كما كان {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا
إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: 49-50) .
تعارضت بين دول الشمال المطامع، وتنازعوا على ما يصيبون في الجنوب
والشرق من المنافع، فحكم القضاء في قضيتهم المدافع، وكان عذاب ربك واقعًا ما
له من دافع، فقتلوا من أبنائهم في أربع سنين , أضعاف من قتلوا في حروب
المطامع في عدة قرون، وخسروا في هذه السنوات من الأموال أضعاف ما ربحوا
من جميع الأجيال {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 45-46) ولولا أن خلق الإنسان من عجل، لما استبطأ عدل الله في الأمم
والدول، فمن ذا الذي كان يظن من المستعجلين، أو المستبطئين , أن يرى العالم
في القرون الطويلة ما أرته هذه الحرب في أربع سنين: ثُل عرش قياصرة الروس
القاهرين، وأبعد القيصر وأهل بيته إلى حيث كان يَعتقِل نابغي العلماء والسياسيين،
وتمزقت كبرى سلطنات (إمبرطوريات) الأرض إلى بضع جمهوريات يسفك
بعضها دماء بعض، فثُل عرش السلطنة النمسوية , وتمزقت إلى عدة حكومات
جمهورية، وتدهور عن عرشه أعز عاهل على وجه هذه الأرض، بعد أن كاد يقضي
على أكثر أمم الشرق مع الغرب، وهو النافذ الحُكم والإرادة في أوسع أمم الأرض علمًا، وأدقهم نظامًا وأمتنهم حكمًا، فكان سقوطه كسلك انقطع فتناثرت الفرائد،
إذ سقط ملوك الجرمان وأمراؤهم واحدًا بعد واحد، وأجبر قبله على الاستقالة ملك
اليونان، وتلاه كل من ملكي البلغار والرومان، وتقلص ظل الترك عن بلاد العرب
والأرمن والأكراد، التي سفك طغاتهم الاتحاديون فيها الدماء، وأكثروا فيها الفساد
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 13-14)
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ
وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} (آل عمران: 26) , {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى للبشر} (المدثر: 31) .
ومن أكبر العبر أن الله أنقذ أوربة من ظهور الألمان عليها وما كان يُحذر من
سيطرتهم على مستعمراتها بعد إجلائهم عنها، على يد أقل الشعوب الكبرى استعدادًا
للحرب والجلاد، وأبعدها عن طلب السيادة على الشعوب والطمع في البلاد، وهو
شعب الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان له من الفلج بقوة الحق المعنوية، فوق
ما كان له من الظفر بترجيح قوى الأحلاف الجندية والمادية، فإن دعوة رئيسه
(الدكتور ولسن) إلى بناء صلح الأمم على ما وضعه من قواعد الحق والعدل العام،
واستقلال الشعوب والأقوام، والمساواة بين الأقوياء والضعفاء، والأولياء والأعداء -
هو الذي زلزل نظام الشعوب الجرمانية الراسخ البناء، وأظهر الاشتراكيين
الضعفاء منهم على أولئك الجبارين من الملوك والأمراء، فكان به الظفر للقوة
الأدبية على تلك القوة العسكرية والمالية التي أعدت لمقاومة البرية , {فَوَقَعَ
الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف:
118-119) فعلم بذلك أن القوة للحق، أو أن قوة الحق فوق قوة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وإنما بقاء الباطل في
نومة الحق عنه، أو خداعه للحق حتى يوهمه أنه له أو معه أو شعبة منه، أما وقد
استيقظ الحق من رقدته، صرع الباطل وهو في عنفوان قوته , فلم يبق إلا أن يجرده
من قوة المكر والخداع، التي هي عتاده الآن في الهجوم والدفاع، والكر في ميادين
الأطماع {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} (المدثر: 18-23) .
قتل الإنسان ما أكفره، إذا مسه الضر لجأ إلى الحق والعدل، والرحمة
والفضل، فإذا نجا منه استبدل الكفر بالشكر، ولجأ إلى الخديعة والمكر {وَإِذَا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ
رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ * هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ
مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا
بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا
مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 21-24) هذا هو القول الفاصل بين الحق والباطل
المبين لحال الأفراد والجماعات في اختلاف الحالات والأوقات، ولكن قد ظهر
لفضلاء العقلاء الأمريكيين والحلفاء، بما رزئ به العالم في هذه الحرب من البأساء
والضراء - أنه لا سلام على الأرض إلا بالمساواة في العدل وترك سياسة المكر
والرياء , ومعاهدات السر والخفاء، واستقلال جميع الشعوب بأمر حكوماتها،
وتأليف عصبة من علماء الأمم للفصل في خصوماتها، وإلغاء جميع المعاهدات
القديمة السرية، وإن عللت بدعوى إرادة الخير وحسن النية، وإنما الخير كله في
الحرية، وهذا ما دعا إليه (الرئيس) جميع المتحاربين، فواثقوه على أن يقبلوه
مذعنين , وأسر الكيد له بعض الطامعين ليأخذوا بالشمال ما عجزوا عن أخذه
باليمين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ
بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 123) وأما أولئك العقلاء فمتفقون على ما
اقترحه (الرئيس) من وجوب الإخلاص، وأن لا منجاة بدونه ولا مناص، إن
لا تفعلوه تكن فتنته في الأرض وفساد كبير، وانقلاب (لمشفي) شره مستطير، أو
تعود الحرب جذعةً بهذه السياسة الخدعة، الخبأة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ
الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (لقمان: 33) فهذا ما يذكر به المنار
قُرَّاءه في فاتحة مجلده الحادي والعشرين، كدأبه فيما سبق من السنين، مقتبسًا من
الكتاب المبين ما هو ذكرى للمغرورين بقوتهم، وبشرى للمغلوبين على حريتهم
وحجة على اليائسين , وعبرة للمعتبرين، وإنما العبرة لمن اعتبر، والموعظة
لمن ازدجر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) .
... منشئ المنار ومحرره: السيد محمد رشيد رضا
__________(21/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتفاع بالرهن هل هو ربا؟
س1 من محمد فاضل محمد، أحد مشتركي المنار بسنجرج (منوفية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (أما بعد) فما يقول الأستاذ
الفاضل الإمام الهمام السيد محمد رشيد رضا - حفظه الله - في الانتفاع بالأطيان
المرهونة المسمى عند الفلاحين (بالغاروقة) هل هو من الربا المحرم الداخل تحت
قولهم: (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) أو يقاس على الظهر والدر في قوله صلى
الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا , ولبن الدر يشرب بنفقته إذا
كان مرهونًا) الحديث، أم أن هذا الحديث لا يقاس عليه شيء غير الذي ورد فيه؟
الرجا أن تفيدونا بالجواب ولكم حسن الثواب.
تحريرًا في (5 ربيع الأول سنة 1337)
ج - إن ما ذكر من الانتفاع بالرهن ليس من الربا، وجملة (كل قرض جر
نفعًا فهو ربا) رويت حديثًا، ولم يصح , بل قيل بوضعه كما بينا ذلك في المنار
من قبل (ص362 م10) في حديث الصحيحين، وغيرهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم زاد في قضاء الدين على الأصل، وعده من حسن القضاء، وإنما تكون
الزيادة ربًا إذا كانت مشروطةً في العقد، وأما الانتفاع بالرهن فالحديث الذي
أوردتموه فيه رواه البخاري في صحيحه وأكثر أصحاب السنن وغيرهم، وورد
بألفاظ أخرى، ولكن الانتفاع بالرهن فيه في مقابل النفقة عليه لا في مقابل الدين،
وقد قال بعض الأئمة بالأخذ به في الرهن الذي يحتاج إلى نفقة مطلقًا، واشترط
بعضهم فيه امتناع الراهن من تلك النفقة , ومنع أكثرهم الانتفاع بالرهن مطلقًا ,
وأجابوا عن الحديث بما لا محل لبيانه هنا، وبعضهم يجيز انتفاع المرتهن بالرهن
بإذن الراهن، وهو الذي جرت عليه جمعية علماء الحنفية، التي وضعت للدولة مجلة
الأحكام العدلية، ومن الناس من يجري في هذه المسألة على طريقة بيع الوفاء، وهو
معروف، ومقرر في المجلة أيضًا.
__________(21/16)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مبادئ الانقلاب الاجتماعي الأكبر
وحرية الأمم
(1)
شروط الصلح العالمي أو صلح الأمم العام
التي وضعها، وأعلنها الدكتور ولسُن رئيس جمهورية الولايات المتحدة في أول
سنة 1918 , وقبلتها حكومات الحلفاء، ثم رضيت الحكومات المحاربة لهن بجعلها
قواعد للصلح العام (وذلك قبل التعديلات التي اقتضت الحال إدخالها عليها)
منقولةً عن الجرائد المصرية، ومصححةً على نسخة التيمس الصادرة في 11
يناير سنة 1918.
1- إبرام اتفاقات الصلح علانيةً، وإعدادها علانيةً، وبعد عقدها لا تبرم
اتفاقات خاصة من أي نوع كان مما يتناول الشؤون الدولية، ولكن الهيئات السياسية
تعمل دائمًا جهارًا، وعلى مرأًى من العالم.
2- حرية الإبحار في البحر خارج حرم السواحل مطلقةً من كل قيد (حرم
السواحل 6 أميال) سواء كان في زمن السلم، أو في زمن الحرب إلا في حالة
إقفال البحار كلها أو بعضها بأمر دولي عام تنفيذًا لاتفاقات دولية.
3- إزالة الحوائل الاقتصادية جهد ما تصل إليه الطاقة، وتقرير المساواة في
الصِّلات التجارية بين جميع الأمم التي ارتضت الصلح وتشاركت في تأييده.
4- إعطاء الضمانات الكافية وأخذها، بأن يُنقص سلاح كل بلد على أقله مما
يتفق مع أمن البلاد في داخلها.
5- التسوية الحرة المقرونة بالتساهل والنزاهة التامة للدعاوي الاستعمارية،
يكون مبناها الاحترام التام للمبدأ الذي يجعل مصلحة الشعوب ذات الشأن مساويةً
للدعاوي النزيهة التي تدعيها الحكومة المنوي تقرير صفتها, أو عنوانها.
6- الجلاء عن الأراضي الروسية كلها، وتسوية كل مسألة تتعلق بروسيا
على وجه يضمن لها أحسن المعاونة وأوسعها من جميع أمم الأرض بحيث تقدم
لروسيا الفرصة الموافقة لتقرر دون حائل ولا مانع عرقلة تقدمها السياسي، والقومي،
ويكفل لها بكل إخلاص قبولها في حجر الأمم الحرة بالأنظمة التي تختارها هي
لنفسها، بل يقدر لها فوق قبولها المساعدة التي قد تحتاج إليها أو تتمناها من كل وجه.
والمعاملة التي تعامل بها روسيا من الأمم شقيقاتها في الأشهر المقبلة تكون
الدليل الناصع على حسن مقصدهن، وعلى معرفتهن حاجات روسيا بصرف النظر
عن مرافقهن الخاصة، بل الدليل على عطفهن المعقول وكرمهن.
7- العالم كله موافق على قصد الجلاء عن البلجيك وترميمها دون أقل سعي
للنقص من سيادتها التي تتمتع بها كسائر الأمم الحرة، ولا يقوم عمل من الأعمال
كهذا العمل في إعادة ثقة الأمم في القوانين التي وضعتها هي ذاتها وجعلتها دستورًا
لصِلاتها المتبادلة، وبدون هذا العمل يتهدم بناء القانون الدولي، وتضيع قيمته إلى
الأبد.
8- تحرير جميع الأراضي الفرنساوية، وترميم جميع المناطق المجتاحة،
والغرم الذي أصاب فرنسا من بروسيا في عام 1871 فيما يتعلق بالألزاس واللورين،
وهو الغرم الذي كدر صفو العالم في مدة خمسين سنةً تقريبًا - يجب أن يعوض عليها
حتى تعود ضمانة السلم لمصلحة الجميع.
9 - تعديل الحدود الطليانية يجب أن يتم طبقًا لمبادئ قومية واضحة كل
الوضوح.
10- تعطى لشعوب النمسا وهنغاريا التي تريد أن ترى مقامها بين الأمم ثابتًا
ومضمونًا، كل التسهيلات لزيادة استقلالها الإداري.
11- رومانيا وصربيا والجبل الأسود يجلى عنها، والأراضي المحتلة ترمم،
ويضمن لصربيا طريق إلى البحر، وصِلات الدول البلقانية تكون متبادلةً، ومعينةً
بنصائح ودية، وتجري هذه الصلات على قاعدة التقاليد العنصرية المقررة تاريخيًّا،
ويجب البحث الجد في الضمانات الدولية للاستقلال السياسي والاقتصادي وصيانة
الأملاك لدول البلقان.
12- الأقاليم التركية من أملاك السلطنة العثمانية الحاضرة يجب أن يضمن
لها سلطان وطني وطيد، ولكن الأمم الأخرى التي هي الآن تحت الحكم التركي
يجب أن تضمن لها حياة أمن لا ريب فيه، وفرصة للتدرج في الاستقلال الإداري
لا شائبة فيها أبدًا، وأما الدردنيل فيجب أن يظل مفتوحًا دائمًا كطريق حرة لبواخر
جميع الأمم ومتاجرها، تحت حماية جميع الدول.
13- يجب إنشاء دولة بولونية مستقلة، وهذه الدولة تتألف من جميع الأراضي
التي لا يجادَل بأن سكانها من البولونيين، وتضمن لهذه الدولة طريق إلى البحر،
ويضمن باتفاق دولي استقلالها السياسي والاقتصادي كما تضمن سلامة أملاكها
وأراضيها.
14- يجب أن تؤلف من جميع الأمم عصبة عامة باتفاقات معينة يكون
الغرض منها تبادل الضمان للاستقلال السياسي، وصيانة الأملاك على حد المساواة
للأمم الصغيرة والكبيرة.
(2)
خطبة الرئيس ولسن
في عيد استقلال الأميركيين
مترجمة عن عدد التيمس الذي صدر في 12 يوليو سنة 1918
في اليوم الرابع من يوليو (تموز) الماضي احتفلت الولايات المتحدة
الأميركية بعيد استقلالها، فوقف الرئيس ولسن عند قبر وشنطون على جبل فرنون
وخاطب المجتمعين حوله قائلاً:
يسرني أن آتي معكم إلى هذا المحل الاستشاري القديم البعيد عن الضوضاء؛
لأخاطبكم قليلاً بمغزى هذا اليوم الذي هو عيد حرية أمتنا، المكان منفرد، والهدوء
تام فيه، وهو لا يزال بعيدًا عن ضوضاء العالم كما كان في تلك الأيام الخطيرة
الشأن حينما كان الجنرال واشنطون يأتيه مع الرجال الذين اشتركوا معه في إنشاء
الأمة الأمريكية، كانوا يتطلعون إلى العالم من هذا المكان، فرأوه بعين الخيال التي
تنظر إلى المستقبل، رأوه بعين أبناء هذا العصر التي لا يرضيها ماضٍ تنفر منه
النفوس الأبية، ولذلك لا نشعر بأن هذا المكان موقف رجل ميت ولو كان قبره
أمامنا , فإنه المكان الذي عُمل فيه عمل عظيم، عمل حي، هنا وعد الناس وعدًا
عظيمًا، قولاً وفعلاً، فالذكرى التي تحيط بنا في هذا المكان وتبث النشاط في
نفوسنا هي ذكرى ذلك الرجل العظيم الذي لم يكن موته سوى خاتمة مجيدة لحياة
مجيدة.
ومن هذه الأكمة الخضراء نتطلع بأعين باصرة إلى العالم المحيط بنا،
ونتصور الوسائل التي يجب أن تحرر نوع الإنسان، ومما لا ريب فيه أن وشنطون
وشركاءه أثبتوا بأخلاقهم وأعمالهم أنهم لم يكونوا يقولون ويفعلون لأجل فريق
من الناس خاصةً، بل لأجل الشعب كله، فعلينا نحن أن نثبت أنهم لم يقولوا ولم
يفعلوا لأجل شعب واحد، بل لأجل العالم أجمع، لم يكن اهتمامهم بأنفسهم ولا
بمصالح الملاك والتجار وأصحاب المصالح الأخرى الذين كانوا يعاملونهم في
فرجينيا وما إليها شمالاً وجنوبًا، بل بالشعب كله الذي كان يرغب في نزع
الامتيازات التي تميز ذوي المقامات العليا ونفي الخاصة وإبطال سلطة حكامهم الذين
لم يختاروهم للحكم عليهم.
لم يكن لوشنطون ومشيريه منافع شخصية، ولا طلبوا امتيازات خاصةً،
وإنما أرادوا أن يكون كل إنسان حرًّا، وأن تكون أميركا ملجأً يلجأ إليه كل من يريد
من أمم الأرض أن يشاركهم في حقوق الأحرار ومزاياهم.
فبهدي أولئك الفضلاء نهتدي معتقدين أن اشتراكنا في هذه الحرب هو ثمرة
الغرس الذي غرسوه، والفرق بيننا وبينهم أنه قسم لنا من حسن حظنا أن نشترك
مع أناس من كل أمة في ما تؤمن به حريتنا وحرية كل الأمم، ويسرنا جدًّا أنه
أتيح لنا أن نفعل ما كان أسلافنا يفعلونه لو كانوا في مكاننا، ويجب أن ينال العالم
كله ما نالته أميركا في العصر الذي أتينا لنتذكره ونستمد الإلهام منه.
لا شبهة في أن هذا المكان من أصلح الأماكن لأن نلتفت منه إلى عملنا،
ونوطن أنفسنا على القيام به، وهو من أصلح الأماكن لأن نبين للأصدقاء الذين
ينظرون إلينا، وللحلفاء الذين كان من حسن الحظ أن شاركناهم في العمل ما هو
الدافع الذي يدفعنا إليه، وما هي الأغراض التي نرمي إليها.
فهذا ما نراه في هذه الحرب التي خضنا غمارها. إن أغراض الخصمين منها
واضحة بينة في كل فصل من فصولها، ففي الجهة الواحدة نرى أمم العالم التي
اشتركت في الحرب فعلاً، والأمم التي تئن من السيادة، ولكنها لا تستطيع المقاومة.
أممًا كثيرة في كل أقطار المسكونة، ومنها أمم روسيا التي تقوض بنيانها الآن.
وفي الجهة الأخرى نرى قواد جيوش ورؤساء حكومات لا يرمون إلى نفع
عام، بل إلى نفع خاص، إلى مطامع شخصية لا ينتفع بها أحد غيرهم، وأسيادًا
شعوبهم كالوقود في أيديهم، وحكومات تخشى من شعوبها، ولكنها متسلطة عليهم
تتصرف في دمائهم وأموالهم كما تشاء، وفي دماء كل الشعوب التي تتسلط عليهم
وأموالهم، حكومات ترتدي حلل سيادة قديمة غريبة عن عصرنا ومعادية له.
فهذه الحرب الزَّبون الناشبة بين الماضي والحاضر وشعوب الأرض تستشهد في
معتركها لا بد من أن تكون فاصلةً حاسمةً لا مهادنة فيها، ولا مراضاة ولا توسط، ولا
هوادة.
الحلفاء يحاربون لأجل أغراض أربعة، ولا يلقون السلاح من أيديهم قبل أن
تتحقق كلها:
(الأول) : ملاشاة كل قوة استبدادية تستطيع أن تزعزع أركان السلم إذا
أرادت ولو سرًّا، وإذا كانت ملاشاة القوى الاستبدادية غير مستطاعة وجب على
الأقل إضعافها، حتى تعجز عن الضرر.
(الثاني) : تسوية كل خلاف سواء كان في أرض أو سلطة أو مصلحة
اقتصادية أو علاقة سياسية، على مبدأ (رضا الشعب) الذي تتعلق به تلك التسوية
مباشرةً، لا على مبدأ المصالح المادية والمنافع الشخصية التي تنال شعبًا آخر،
أو تنال قومًا يرغبون في تسوية أخرى لتعزيز سيادتهم أو نفوذهم الخارجي.
(الثالث) : تسليم الشعوب كلها بأن معاملة بعضهم مع بعض خاضعة لمبادئ
الشرف والاحترام لناموس العمران الذي يخضع له سكان كل الممالك العصرية،
وأن علاقاتهم بعضهم مع بعض خاضعة للقانون القاضي بأن كل العهود والوعود
يجب أن تحفظ حفظًا تامًّا بلا دسيسة ولا مخادعة ولا ضرر ولا ضرار، ولتوثيق
عرى الثقة التامة على أساس الاحترام المتبادل والحقوق المتبادلة.
(الرابع) : إنشاء نظام للسلم يجمع قوة الأمم الحرة لمقاومة كل معتد على
الحق، ويحفظ السلم والعدل بإقامة محكمة من الرأي العام يخضع لها الجميع،
ويكون لها حق الفصل في كل خلاف يقع بين الأمم، ويتعذر عليهم فضه.
هذه الأغراض العظيمة يمكن التعبير عنها بجملة واحدة، وهي أننا نطلب
سلطان القانون المؤسس على رضا الرعايا، والمؤيد برأي البشر المنظم، وهذه
الأغراض العظيمة لا تنال بالبحث والتوفيق بين مطالب رجال السياسة، وما
يشيرون به لتوازن القوة لحفظ مصالح الأمة، وإنما تنال بما يصمم عليه العقلاء
الذين يتوخون العدل والحرية.
ويلوح لي أن هواء هذا المكان سيحمل صدى هذه المبادئ إلى كل الأنحاء،
هنا قامت قوات حسبتها الأمة العظيمة التي وجهت لمقاومتها عصيانًا على سلطتها
الشرعية، ولكنها رأتها بعد ذلك خطوةً في تحرير شعبها كما هي خطوة في تحرير
شعب الولايات المتحدة، وقد وقفت الآن لأتكلم والفخر ملء نفسي، والأمل والثقة
ملء جوانحي، عن نشر هذا العصيان - بل هذا التحرير - في أقطار المسكونة.
إن حكام بروسيا الذين عميت بصائرهم أثاروا قوًى لا يعرفون قدرها، قوى
إذا ثارت لا يمكن إخمادها؛ لأنها مدفوعة بعزم وحزم لا فتور لهما؛ لأن النصر
معقود بناصيتهما.
***
(3)
وجوه الحرب أو مقاصدها وجمعية الأمم
خطبة الدكتور ولسن في نيويورك
منقولة عن عدد التيمس الذي صدر في 4 أكتوبر سنة 1918
خطب الرئيس ولسن في نيويورك قبل فتح باب الاكتتاب في قرض الحرية
الرابع بستة آلاف مليون ريال فقال: إنه لم يعمل منبر الخطابة ليروج القرض،
فإن لترويجه رجالاً ونساءً لا تني همتهم ولا يفتر ولاؤهم، وقفوا أنفسهم بحماسة على
عرضه على مواطنيهم في جميع أنحاء البلاد، وسيكون النجاح التام قرين عملهم لما
هو معروف عن حميتهم وحمية البلاد، وهذه الثقة مؤيدة بما يبذله مديرو المصارف
(البنوك) من المعونة الصادقة القائمة على الخبرة والروية، فإنهم يساعدون مساعدةً
لا تثمن، ويرشدون بآرائهم ومشورتهم، ثم قال:
ما جئت لأروج للقرض، وإنما جئت منتهزًا هذه الفرصة لأطلعكم على
أفكار تظهر لكم الأمور التي يدور عليها هذا النزاع العظيم، وتجلوها لعيونكم أكثر
من قبل، فتزداد حماستكم لحمل واجب تأييد الحكومة برجالكم وما عندكم من
الوسائل المادية والبذل والإيثار (وإنكار الذات) إلى أقصى الحدود، فليس في الدنيا
رجل أو امرأة استوعب معنى هذه الحرب، وهو يتردد في بذل كل ما عنده، فمهمتي
الليلة هي أن أشرح لكم مرةً أخرى معنى هذه الحرب ومغزاها لنا، وحسبي هذا؛
إذكاءً لشعوركم، وتذكيرًا لكم بالواجب عليكم، فإنه كلما انقضى دور من أدوار هذه
الحرب، تجلى لنا ما نروم أن نبلغ بها، ومتى هاج فينا عامل الرجاء والانتظار أشد
هياج، ازداد تأملنا في النتائج التي تبنى عليها، والأغراض التي تنال بها، وزاد ذلك
كله وضوحًا لأعيننا، فإن للحرب أغراضًا معينة لم نوجدها نحن، ولا نستطيع
تغييرها، ليست هذه الأغراض من مخترعات رجال السياسة ومجالس الحكومات،
وليس في طاقة الساسة والمجالس تغييرها وتبديلها؛ لأنها نشأت من طبيعة الحرب
وأحوالها، فجهد ما يستطيعه الساسة ومجالس الحكومات تنفيذ هذه الأغراض أو نبذها
خيانةً منهم، ويحتمل أن هذه الأغراض لم تكن جليةً في أول الأمر ولكنها صارت
جليةً اليوم، فقد دامت الحرب أكثر من أربعة أعوام، وخاضها العالم كله، وحلت
مشيئة بني البشر فيها محل مقاصد الدول، ويحتمل أن تكون الحرب أضرمت بيد
فريق من رجال السياسة والدول، ولكن إيقافها فوق طاقتهم وفوق طاقة خصومهم؛
لأنها صارت حرب شعوب، وشملت شعوبًا من جميع الأجناس على اختلاف
لمراتب في القوة والثروة وقد خضناها لما ثبتت صبغتها، وظهر أنه لا يوجد أمة
تستطيع الوقوف أمامها مغلولة اليدين غير مكترثة لنتائجها، وقد تحدتنا الحرب
فتحدت في قلوبنا كل ما نعز في الدنيا، وكل ما نحيا لأجله، وسمعنا صوتها فكان له
رنة في قلوبنا، وسمعنا أيضًا أصوات إخواننا من جميع أقطار العالم، وأصغينا إلى
نداء إخواننا الذين نادونا بعد ما سقطوا قتلى إلى قاع البحار فلبينا دعوتهم بهمة
عظيمة وشجاعة وكان الجو حولنا صافيًا نقيًّا، فرأينا الأمور على حقيقتها، وظللنا
نراها بأعين شاخصة وعقول لم تتغير من ذلك الحين، وقبلنا الوجوه التي
تدور الحرب عليها بحكم الحقائق، لا كما عرفها جماعات من الناس هنا أو في البلدان
الأخرى، فلا يمكننا أن نقبل نتيجةً لا تطابق تلك الوجوه أو لا تحلها.
وهذه الوجوه أو الأمور الجوهرية هي:
هل يسمح للسطلة العسكرية في أمة أو مجموعة من الأمم أن تثبت الحكم في
مصير شعوب ليس لها من الحق في حكمها سوى الحق المكتسب بالقوة؟
هل يجوز للأمم القوية أن تتعدى على الأمم الضعيفة، وتخضعها لمقاصدها
ومصالحها؟
هل يكون حكم الشعوب في أمورها الداخلية بقوة مطلقة غير مسئولة، أم
بمشيئتها واختيارها؟
هل يكون في العالم مقياس عام للحق والامتياز في جميع الشعوب، أم يفعل
القوي ما يشاء ويعذب الضعيف ولا ناصر له؟
هل يوطد الحق اتفاقًا بمخالفات تعقد اعتباطًا، أو تكون هنالك جمعية من الأمم
توجب احترام الحق العام المشترك؟
هذه وجوه للحرب لم يخترها رجل واحد، ولا جماعة من الناس، فهي
ملازمة للحرب، ويجب أن تبت إما بالاتفاق أو التساهل أو بالتوفيق بين المصالح،
ولكن يجب أن كون بتها نهائيًّا مع التسليم التام الصريح بالمبدأ القائل: إن مصلحة
أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم، وهذا ما نعنيه بالسلم الوطيد الدائم إذا تكلمنا
بإخلاص وفهم وعلم حقيقي بالمسألة التي نحن فيها، فنحن متفقون على أن لا سلم
يحرز بالمساومة والتساهل مع الدولتين الجرمانيتين؛ لأننا عاملناهما قبل اليوم،
ورأيناهما في تعاملهما مع حكومات أخرى كانت تحارب في هذه الحرب، وشاهدنا ما
فعلتا بها في (برست توفسك) و (بخارست) فأقنعتانا بأنهما خاليتان من الشرف ,
وأنهما لا تبتغيان العدل، ولا ترعيان عهدًا، ولا تعرفان مبدأً سوى القوة
ومصلحتهما، فالاتفاق معهما غير مستطاع، وقد جعلتاه مستحيلاً، والشعب الألماني
يعلم الآن أننا لا نقبل عهود الذين جرونا إلى هذه الحرب، فإننا وإياهم على طرفي
نقيض في معنى الاتفاق والتفاهم.
ومن أهم الأمور أن نُجمع إجماعًا تامًّا صريحًا على اجتناب كل صلح يحرز
بالتساهل أو التنازل عن شيء من المبادئ التي جاهرنا بأننا نحارب لأجلها،
ولهذا سأتكلم بمنتهى الصراحة عن الأمور التي يشملها ما تقدم، فإذا كانت
الحكومات التي تحارب ألمانيا وشعوب تلك الحكومات، متفقةً على إحراز صلح
وطيد ثابت كما أعتقد - وجب على جميع الذين يجلسون حول مائدة الصلح أن يأتوا
إليها وهم مستعدون أن يدفعوا الثمن الوحيد الذي يحرز هذا الصلح به، وأن
يوجدوا الأداة الوحيدة التي تكفل تنفيذ معاهدات الصلح واحترامها , وهذا الثمن هو
العدل المجرد عن الهوى في تنفيذ كل مادة من مواد الصلح بقطع النظر عن
المصالح التي يعترض ذلك لها، وعن أصحاب هذه المصالح، لا أقول العدل
المطلق فقط، بل ارتياح الشعوب التي يحكم في أمورها ومصيرها أيضًا، فالأداة
التي توصل إلى ذلك والتي لا بد منها، هي جمعية الأمم التي تؤلف بعهود فعالة،
ومن دون هذه الأداة التي تكفل دوام السلام يظل السلم العام قائمًا بعضه على وعود
قوم ساقطين من الحقوق؛ لأن ألمانيا يجب أن تبيض سواد صفحتها، لا في مجلس
الصلح، بل فيما يعقبه , وعندي أن تأليف جمعية الأمم هذه وتعيين الغرض منها
تعيينًا صريحًا جليًّا يجب أن يكون جزءًا من الصلح نفسه، بل أهم جزء فيه.
ولا يمكن تأليف هذه الجمعية الآن، فإنها إذا ألفت الآن كانت عبارة عن
محالفة جديدة مقتصرة على الأمم المتحدة على عدو مشترك، ولا يحتمل أن تؤلف
بعد عقد الصلح إذ من الواجب ضمان السلم، والسلم لا يُضمن بخاطر يخطر بالبال
بعد الصلح، أما السبب الذي يقضي بضمان السلم فهو - بالقلم العريض - وجود
فريق من الذين يبرمونه أثبت للعالم أن عهوده لا يعول عليها، فيجب تدبير وسيلة
عند عقد الصلح لإزالة هذا العامل، ومن الحماقة أن يترك الضمان لمشيئة
الحكومتين اللتين رأيناهما تدمران روسيا وتخدعان رومانيا.
ولكن هذه الأقوال العمومية لا تكشف اللثام عن المسألة، ولا بد من تفاصيل
تجعلها أقرب إلى الأمور العملية منها إلى الأمور النظرية، فإليكم بعض التفاصيل
أتلوها عليكم بثقة أعظم؛ لأنها رسمية تعبر عن تأويل الحكومة الأميركية للواجب
عليها في مسألة السلم.
الأول: أن معنى العدل المجرد عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن
نعدل فيهم والذين لا نريد أن نعاملهم بالعدل، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا
يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة
صاحبة الشأن.
الثاني: لا يجوز أن تجعل المصلحة الخاصة لأمة أو أمم أساسًا لجزء من
الصلح إذا كانت مناقضة لمصلحة الكل.
الثالث: لا يجوز إنشاء محالفات أو عهود خاصة واتفاقات داخل جمعية الأمم
العامة.
الرابع: لا يجوز أن تعقد في قلب جمعية الأمم اتفاقات ومعاهدات اقتصادية
خصوصية مصدرها حب الذات، ولا يجوز استخدام المقاطعة الاقتصادية في أي
شكل كان إلا كعقاب اقتصادي بإخراج المعاقب من أسواق العالم، وهذه سلطة تخول
لجمعية الأمم التأديب والسيطرة.
الخامس: يجب نشر جميع الاتفاقات التي تبرم بين الدول على رؤوس
الأشهاد بحذافيرها وقد كانت المحالفات القومية والمعاهدات على اختلاف أنواعها
والمنافسة الاقتصادية مصدرًا كبيرًا للخطط والشهوات التي تؤدي إلى الحرب، فكل
صلح لا يقضي على هذه المحالفات والاتفاقات يكون صلحًا خاليًا من الإخلاص غير
مأمون البقاء.
إن الثقة التي أتكلم بها عن شعبنا في هذه الأمور لم تنشأ عن تقاليدنا فقط ولا
عن مبدإ العمل الدولي الذي جاهرنا باتباعه دائمًا فقط، فإذا قلت: إن الولايات
المتحدة لا تعقد معاهدات واتفاقات خصوصية مع أمم معينة، فإني أقول أيضًا: إن
الولايات المتحدة مستعدة لحمل نصيبها الكامل من تبعة المحافظة على العهود العامة
والاتفاقات المشتركة التي يشاد السلم عليها من الآن، فإنا لا نزال نتلو وصية
وشنطن الخالدة باجتناب (المحالفات المؤدية إلى المشاكل) ونفهم مضمونها ونلبي
الدعوة التي فيها، على أن المشاكل تأتي من محالفات خصوصية محدودة، فنحن نقبل
الواجب الذي يفرض علينا في العصر الجديد الذي نرجو فيه محالفةً عامةً تجتنب
فيها المشاكل وتطهير جو العالم للتعارف بين شعوبه والمحافظة على حقوقه
المشتركة.
وَصَفتُ الحالة الدولية كما خلَّفتها الحرب، لا لأني أظن أن زعماء الشعوب
العظيمة التي نحن متحدون معها مخالفون لي في الرأي والقصد، بل لأن الجو يظلم
من حين إلى حين بما ينتشر فيه من الضباب وما يطير فيه من الريب والظنون التي
لا أساس لها، وبتشويه الآراء تشويهًا يراد به الشر، فيجب من حين إلى حين
دحض الأقوال التي يقولها غير المسئولين عن دسائس للصلح، أو عن ضعف في
العزيمة ووهن في القصد من جانب ولاة الأمور، ويجب من حين إلى حين المجاهرة
بأتم الصراحة بما تكرر ذكره من قبل.
قلت: إني لم أوجد وجوه الخلاف في هذه الحرب والمحاورة التي تدور عليها
ولم يوجدها غيري من رجال الحكومة بل قابلتها بما أوتيت من بعد النظر والتصميم
الذي اشتد بزيادة وضوح هذه الأمور، ومن الواضح الآن أن هذه النتائج مما لا
يستطيع أحد أن يقلبها إلا إذا تعمد ذلك، فأنا مضطر أن أقاتل لأجلها، كما أظهر
الزمان والأحوال لي ولكل العالم، وحماستنا لهذه الأمور تزداد كلما ازدادت جلاءً،
والقوات التي نقاتل لأجلها تتآزر وتتألب وتقوى بما بينها كلما ازدادت هذه الأمور
وضوحًا أمام أعين الشعوب المتحاربة , ومن مميزات هذه الحرب العظمى أنه بينما
رجال الدول يبحثون عن تعاريف لتعريف مقاصدهم وأغراضهم ويظهرون بمظهر
المقلب الذي يغير اتجاه نظره - كانت عقول الشعوب التي يفرض على أولئك الرجال
تعليمها وإنارة أذهانها تصقل وتتبين الأغراض التي تحارب لأجلها، فصُرف النظر
عن الأغراض القومية، وحل محلها الغرض العام المشترك للإنسانية المستنيرة،
وصارت آراء الناس أبسط مما كانت وأصدق وأشد اتحادًا من آراء رجال الأعمال
الذين لا يزالون يعتقدون أنهم يقامرون لأجل القوة والسلطة، يقامرون بمبالغ عظيمة.
لهذا قلت: إن الحرب حرب شعوب وليست حرب ساسة، فعلى رجال السياسة
أن يتبعوا سير الفكر العام وإلا سقطوا، وعندي: إن هذا هو المدلول عليه في
الاجتماعات التي يعقدها عامة الناس الآن ويطلبون في كل واحد منها تقريبًا من
رجال حكوماتهم أن يخبروهم بالصراحة التامة ما يبغون من هذه الحرب وما هي
الشروط التي يظنون أنها ستكون شروط تسويتها النهائية، ولم يرتح من ذكرت إلى
ما قيل لهم حتى الآن جوابًا عن سؤالهم؛ لأنهم يخشون أن يكون جواب السؤال
مفرغًا في عبارات تقسيم الأملاك والبحث في السلطة، لا في قالب العدل والرحمة
والسلام، وإرواء غليل المظلومين من الرجال والنساء والشعوب المستعبدة، وهي
الأمور التي يرون أنها جديرة بحرب كهذه غمرت العالم، ويحتمل أن يكون الساسة
لم يدركوا هذا التغيير في عالم السياسة والعمل، ويحتمل أنهم لم يجيبوا مباشرة
عن السؤال المطروح عليهم لأنهم لم ينتبهوا إلى دقة السؤال والجواب المطلوب،
أما أنا فيسرني أن أحاول ترديد الجواب راجيًا أن يفهم العالم أن الشغل الشاغل لي
هو إرضاء الذين يحاربون في الصفوف، وهم أولى الناس بالجواب الذي لا يعذر أحد
على عدم فهمه ما دام يفهم اللغة التي يصاغ هذا الجواب بها أو يستطيع الحصول
على من يترجمه له إلى لغته بالضبط، وعندي أن زعماء الحكومات التي نحن
مشتركون معها سيتكلمون بالصراحة التي أحاول أن أتكلم بها كلما حانت لهم فرصة
وعسى أن يشعروا أنهم أحرار في تخطئتي إذا اعتقدوا أنني مخطئ في تعيين
الأمور التي تنشأ عن الحرب، أو في ما أقول عن الوسائل التي يمكن بها الحصول
على الحل الموافق لهذه الأمور.
إن توحيد القصد بين الدول في هذه الحرب ضروري كتوحيد القيادة في
الميدان، وهذا التوحيد في المشورة والرأي يكفل النصر التام، فالنصر لا يحرز
بغير ذلك (والهجوم الصلحي) لا يقع إلا متى أظهرنا أن كل انتصار تحرزه
الشعوب المتحدة على ألمانيا يدني الأمم من الأمان والطمأنينة ويجعل تكرار حرب
كهذه مستحيلاً، إن ألمانيا لا تفتأ تلمح إلى الشروط التي تقبلها (لعقد الصلح) فتجد
أن العالم لا يقبل شرط الصلح، بل يطلب انتصار العدل انتصارًا نهائيًّا، ويبغي
الإنصاف في المعاملة. انتهى.
***
تعليق المقطم ثم المقتطف على هذه الخطبة
نشر المقطم هذه الخطبة في 2 أكتوبر، وعلق عليها التعليق التالي قال:
(جعل الدكتور ولسن موضوع خطبته (جمعية الأمم) التي يصبو إلى تأليفها
مِن جميع الدول ليكون منها حائل يحول دون وقوع حرب عظيمة أخرى تنكب
بها الإنسانية نكبات تعرقها عرق المدى. والذي ينعم النظر في هذه الخطبة
النفيسة البليغة يجد أنه لم يقل فيها قولاً لم يسبق له أن جاهر به في خطبته
السابقة، وخطاباته التاريخية إلى مجالس الأمة الأمريكية، فقيمتها إذًا في تأييد
المبادئ والقواعد التي وضعها، وبسط الآراء التي كان أول من نادى بها في
معترك الأمم قبل ذلك، على أن نبي الحق ونصير العدل والرأفة في هذا العصر
مصمم على أن يطبق هذه المبادئ النظرية على سياسة العالم العملية بكل ما أوتي
من علم وذكاء ونشاط، وما رزق شعبه من قوة وثروة وعلم وحمية.
إن الاشتراكية الصحيحة الخالصة من كل شائبة والتي ترفع قدر الإنسانية هي
الاشتراكية التي نادى بها الدكتور ولسن بقوله في خطبته هذه: (إن مصلحة
أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم) .
ورب قائل يقول: إن الدكتور ولسن ليس بمبتكر لهذا المبدأ، فقد جاهر به
غيره من قبله، وقد يكون الأمر كذلك، ولكن ولسن ينوي أن يكون أكبر عامل في
تطبيقه فعلاً، وإخراجه من حيز القوة إلى حيز الفعل، واتخاذ الوسائل التي تضمن
المحافظة عليه، وعقاب كل من يجرؤ على نقضه. فإذا كانت الأديان المنزلة قد
علمت هذه المبدأ من قديم الزمان، فإن الذين اشتغلوا بالسياسة في ما مضى من
العصور جعلوا ديدنهم التجمل بهذا المبدأ في الظاهر، ومحاربته في الباطن، فكانوا
يسخرونه لقضاء الأوطار ثم يعبثون بروحه.
فالشعوب الصغيرة في جميع أقطار العالم ترفع أيديها مبتهلةً إلى الله أن يطيل
عمر ولسن ويمنحه القوة اللازمة لتحقيق أمانيه، واسم ولسن سيظل منقوشًا على
صفحات قلوب المظلومين من الرجال والنساء والأمم المستعبدة التي يسعى
لإرواء غليلها بجعل نتيجة هذه الحرب لخدمتها ونفعها، لا لتقسيم البلدان والبحث
في توزيع السلطة والسؤدد.
إن الصوت الصاعد من أميركا هذه الأيام صوت نبوءة يقرع أسماع العالم
بالحق، ويدل الدول على سبيل الصلاح والبقاء، وإذا كان في التاريخ عبر،
وفي علم الاجتماع أوليات، فإنما هي ما نادى به خلف وشنطن، فهو ليس شاعرًا،
ولا هو من السابحين في بحار الخيال، ولكنه رجل أشبع مروءةً ووفاءً، واستوعب
العلم الصحيح المبني على استقراء سليمي العقل والدين من البشر، ورأى الواجب
يقضي عليه بإرشاد الناس إلى سبيل الحق، ورجل كهذا قاد أمةً عظيمةً إلى مواطن
الحرب والبذل والجود، ولبَّت أمته دعوته عن طيب خاطر لتؤيد مبدأ مس قلوبها لا
يذهب كلامه صرخةً في واد.
وقد فصل خطته تفصيلاً حسنًا في هذه الخطبة، وعرف العدل تعريفًا ما رأى
الناس أسمى منه في ما صدر عن عقول البشر، فقال: (إن معنى العدل المجرد
عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن نعدل فيهم، والذين لا نريد أن نعدل
فيهم، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى
التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة) .
نقول: وقد يظل العالم بعيدًا عن بلوغ هذه المرتبة الرفيعة التي وضعها رئيس
الأميركيين نصب العيون؛ لأن الارتقاء إليها صعب شاق، ولكن إنشاء هذا المقياس
الرفيع سيفيد العالم؛ لأنه ينشطه على التطاول لبلوغه، وستفهم أوربا اليوم أن
سياسة (مترنيخ وتيلران وبسمرك) لا تثبت على طوارق الحدثان كما ظهر في ما
جرى بعد مؤتمر (فينا) ومعاهدة (فرنكفورت) لأن البناء المتين لا يقوم على
الرمل، وإنما يثبت إذا قام على الصخر.
فليرحب العالم بصوت المدافع عن الضعفاء من الأفراد والأقوام، وليكرم
صاحبه ويعظم قدره، فقد أنار سبيل الإنسانية ومسح دموعها، فخفق فؤادها أملاً
وامتلأ صدرها رجاءً.
إن الرجل الذي لبى دعوة الإنسانية في أشد عصورها خطرًا عليها تنصت
الإنسانية إلى صوته إنصات كل مخلوق إلى صوت من يعرف حبه وعطفه،
ويدرك تفانيه وإيثاره، ويحترم كفاءته ومقدرته) اهـ.
(المنار)
صدق المقطم في قوله: إن الرئيس ولسن ليس هو الواضع لهذه القواعد للحق
والعدل، ولا هو أول من نادى بها، فإن الواضع لها هو الله تعالى بمثل قوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فذكر الناس كلهم، ويؤيده قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) والشنآن: البغض
مع الاحتقار، وأول من نادى بها في هذا العهد وزمن هذه الحرب أحرار الروس،
وخاطبوا بذلك دول الحلفاء، فأكبروا خطتهم، وأجابوا عنها بما بيناه في المجلد
(العشرين) الماضي من المنار (ص 48- 57) .
وصدق المقطم في حصر مزية الرئيس ولسن في استعمال قوة أمته لتنفيذ هذه
القواعد بعد تفصيله لها، وفي قوله: إن ديدن السياسيين فيما مضى هو التجمل بها
في الظاهر ومحاربتها في الباطن، وتسخيرها لقضاء المآرب. وقد أصبح جميع
الناس يعرفون هذا، ويسرنا أن نرى جميع أمم الحلفاء تعظم ولسن وتؤيده اليوم.
***
خطاب الرئيس ولسن في مجلس الأمة الأمريكي
ألقى الرئيس على مجلس الأمة المؤلف من الشيوخ والنواب تقريره السنوي
وذكر فيه مسألة تأثير أمته الفاصل في الحرب ومسألة الصلح. وجاءنا روتر في
أول ديسمبر (ك1) بخلاصة منه ننقل ترجمتها عن الجرائد مع تصحيح ما يقابلها
على جريدة التيمس، وهي:
(كان العام الماضي الذي انقضى منذ وقوفي أمامكم للقيام بالواجب الذي
فرضه علي الدستور هو إبلاغ مجلس الأمة المعلومات الخاصة بأحوال البلاد
(أمريكة) مفعمًا بحوادث عظيمة وأعمال كبيرة ونتائج جمة بحيث لا أرجو أن
أعطيكم صورة كافية تمثلها أو تمثل التغييرات البعيدة الغور التي طرأت على حياة
أمتنا وحياة العالم , وقد شاهدتم بأنفسكم هذه الأمور كما شاهدتها أنا، وعليه قد حان
الوقت لتعيين نصيب كل منا فيها، ولا ريب في أننا نحن الذين نقف في وسط هذه
الأمور بمنزلة جزء منها، وأقل كفاءة من رجال أي جيل آخر فيما يقولونه عن معنى
هذه الحوادث أو عن ماهيتها، على أن هناك حقائق ظاهرة لا يمكن الخطأ فيها، وهذه
الحقائق تكون في الذهن جزءًا من الأعمال العامة التي يقضي علينا واجبنا بالبحث
فيها، وما ذِكْر هذه الحقائق إلا إعداد المكان الصالح لنماء العمل التشريعي والتنفيذي
الذي يجب علينا أن نكيف ونقرره) .
وتناول الرئيس بعد ذلك الكلام على نقل أكثر من مليوني جندي إلى ما وراء
البحار بخسارة 758 شخصًا؛ بسب أعمال العدو، ثم قال: (ولسنا نثير رواكد
الحسد إذا قلنا: إن وراء هذه الحركة العظيمة دعامة تدعمها، وهي قائمة على تنظيم
في صناعات البلاد، وفي جميع أعمالها المثمرة يفوق بكماله وبتمام طريقته
وتباشير نتيجته وبالنشوة المخيمة عليه وباتحاد غايته وسعيه - كل تنظيم وضعته أية
دولة من الدول العظمى الداخلة في الحرب) .
ثم أطرى روح الحمية والبساطة التي أظهرتها الجنود الأميركية في ساحة
القتال قائلا: (إن الجيش الأميركي قام بدوره في أعظم وقت مناسب، وفي أعظم
ساعة حرجة كان مصير العالم فيها هدفًا للأخطار فألقى بقوته بين صفوف الحرية،
فبدأ يأفل نجم العدو، وما زال يزداد أفولاً حتى أدرك قواد دولتي الوسط أنهم قد
ضُربوا , وها نحن أولاء نرى الآن بلادهم تُصفى) .
وبعد أن أثنى الرئيس على أعمال بنَّائي السفن، وعمال السكك الحديدية،
والذين اشتغلوا في الحرب بأيديهم وعقولهم، أطرى النساء الأميركيات، وصرح
بأن (أقل ثناء يمكن توجيهه إليهن هو أن نجعلهن مساويات للرجل في الحقوق
السياسية بما برهن على أنهن كفؤ لهم في كل عمل اشتغلن به لأنفسهن أو لبلادهن) .
واستطرد الرئيس فقال: (الآن، وقد ضمنا نيل الفوز العظيم الذي بذلت في
سبيله كل تضحية، وقد جاء هذا الفوز تامًّا كاملاً، فعلينا أن نعود حالاً إلى واجباتنا
الخاصة بالسلام: السلام الذي سيقينا اعتداء الملوك المطلقين من كل قيد، ومطامع
العصابات العسكرية. ولنستعد لنظام جديد، ولوضع أساسات جديدة للدولة وللحق) .
وبعد أن تناول الرئيس الكلام على علاقة أميركا بالدول الأجنبية ذكر مسألة
الإصلاح والترميم وإلغاء القيود التجارية وغيرها في أميركا، ثم حث على مساعدة
بلجيكا وفرنسا والجهات الأخرى التي اجتاحها العدو، وناشد المجلس على تأييد
برنامج الأسطول، ثم تناول مسألة سفره أوربا لحضور مؤتمر الصلح فقال:
(إنني أرحب بهذه الفرصة لأعلن للمجلس عزمي على الالتحاق بمندوبي
الحكومات التي نشترك معها في الحرب ضد دولتي الوسط؛ لأدرس معهم النقاط
الجوهرية في معاهدة الصلح، وإني لا أجهل عدم ملاءمة سفري، ولا سيما في هذه
الآونة، على أنني أرجو أن تبدو العوامل التي أوجبت علي السفر أمامكم وجيهة كما
تبدو لي، فقد قبلت حكومات الحلفاء قواعد الصلح التي بينتها لكم يوم 8 يناير
الماضي كما قبلتها حكومتا دولتي الوسط، وترغب هذه الحكومات رغبة كلها عقل
في استشارتي الشخصية فيما يتعلق بتفسير هذه القواعد وتطبيقها، فمن الواجب أن
أقدم هذه المشورة كي تبدو تمامًا رغبة حكومتنا الصادقة في العمل - بدون أن تكون
هناك مصلحة ذاتية ما - لتسوية المسائل التي ستكون ذات فائدة عامة لجميع الأمم
ذات الشأن.
ولا ريب في أن تسوية المسائل الخاضعة بالصلح الذي سيتفق عليه على
جانب عظيم من الأهمية والشأن فيما يتعلق بنا وببقية العالم، وإني لا أعرف مهمةً
أو مصلحةً تبدو ذات أهمية أعظم من تسوية هذه المسائل، فقد قاتلت قواتنا في البر
والبحر؛ لحماية مبادئ تَعرِف أنها مبادئ بلادها، ولقد حاولت أن أعبر عن هذه
المبادئ، فقبلها رجال السياسة كخلاصة أفكارهم وأغراضهم، وبما أن الحكومات
المشتركة قد قبلت هذه المبادئ، فإن علي أن أعمل بحيث لا يمكن إدخال خطأ عليها،
وبحيث يبذل كل مجهود لتنفيذها) .
قال: (فالواجب يقضي علي والحالة هذه بأن ألعب دوري لأحصل لهم على
ما بذلوا لأجله دماءهم وأرواحهم، وليس عندي هنالك واجب يمكن تفضيله على
هذا) .
ثم وعد الرئيس ولسن بأن سيوقف المجلس على جميع المفاوضات التي
ستدور في مؤتمر الصلح كما هي بكل سرعة ممكنة مشيرًا إلى إلغاء الرقابة في
إنكلترا , وقال:
(أفلا أرجو أن أكون متمتعًا بتأييدكم أيها النواب في جميع الواجبات الدقيقة
التي ستلقى على عاتقي في أوروبا , وفي مجهوداتي التي سأبذلها بصدق وأمانة
لتفسير المبادئ والأغراض التي تجلها بلادنا التي نحبها؟)
قال: (ولا أجهل عظم الواجب الذي أخذته على عاتقي، ولا المشاق التي
ستعترضني في سبيلي، ولا التبعة العظيمة الملقاة علي) . (إنني خادم الأمة وليس
لدي فكرة خاصة أو غرض خاص في القيام بمثل هذه المهمة، وسأذهب لأبذل
قصارى جهدي في التسوية العامة التي يجب أن أعمل للوصول إليها في مؤتمر الصلح
مع زعماء الحكومات المشتركة، وسأعتمد على تأييدكم ومساعدتكم لي، وسأكون
على صلة معكم، فأقف بواسطة البرقيات البحرية واللاسلكية على كل شيء تريدون
أخذ رأيي فيه، وسأكون مرتاح الفكر لأنني سأكون دائمًا على إلمام تام بمعرفة الأمور
الجليلة الشأن الخاصة بشؤوننا الداخلية.
وسأجعل مدة غيابي قصيرة ما أمكن، وأملي أن أعود إليكم، وأنا على يقين
تام بأن المبادئ العظيمة التي ناضلت أميركا لأجلها قد دخلت في دور العمل
والتنفيذ) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(21/17)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مستقبل سورية وسائر البلاد العربية
1- البلاد المحررة
هذا إعلان رسمي من قِبل الحكومتين البريطانية والفرنسوية، نُشر بهذا
العنوان في الجرائد المصرية اليومية في يوم الجمعة 8 نوفمبر سنة 1918 -4 صفر
سنة 1337:
إن الغرض الذي ترمي إليه فرنسة وبريطانية العظمى بمواصلتهما في
الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني - هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها
الترك تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تُبنى سلطتها على اختيار
الأهالي الوطنيين لها اختيارًا حرًّا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذًا لهذه
النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في
سورية والعراق اللتين أتم الحلفاء تحريرهما , وفي البلاد التي يواصلون العمل
لتحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلاً،
والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من
النظامات , وإنما همهم أن يحققوا بعونهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات
والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركةً منتظمةً , وأن يضمنوا لهم
قضاءً عادلاً واحدًا للجميع , وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد، وتقدمها اقتصاديًّا
وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها , وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما
استخدمته السياسة التركية. ذلك هو ما أخذت الحكومتان المحاربتان على نفسيهما
مسئولية القيام به في البلاد المحررة.
***
2- البر بالمواثيق
نشر المقطم يوم الاثنين 23 ديسمبر 1918، و19 ربيع الأول 1337 ما
نصه:
تلقينا في الأسبوع الماضي العدد 11 من جريدة المستقبل الغراء الصادر في
باريس يوم 30 سبتمبر الماضي، فقرأنا فيه ما يأتي: (جاء في برقية رسمية من
لندن هذا النبأ الذي طربت له أفئدة أبناء سورية، ولبنان) :
لندن في 35 سبتمبر: إن الجيوش البريطانية التي تؤازرها جنود فرنسية قد
وصلت الآن إلى حدود البقاع الراجع أمر تهيئة سكانها للحكم الذاتي إلى فرنسة طبقًا
للاتفاق الإفرنسي البريطاني المبرم عام 1916.
فبرًّا بالمواثيق ترى الحكومة البريطانية والحكومة الإفرنسية أيضًا أنه من
اللازم تنظيم الإدارة المؤقتة في هذه البقاع طبقًا لاتفاق عام 1916, وأن السلطة
العسكرية البريطانية الموجودة هناك تبر بالمواثيق بر الحكومة البريطانية بها
وستوضع قريبًا هنا على بساط البحث مسألة إدخال هذا الاتفاق في طور العمل)
انتهى بحروفه.
***
3- إعلان اتفاق سنة 1916 المذكور في باريس
إن جريدة المستقبل التي تصدر في باريس لخدمة فرنسة في مستعمراتها
الأفريقية وسائر البلاد العربية، ويديرها أفراد من مسيحيي لبنان وسورية يعبرون
عن أنفسهم باسم (الجمعية السورية المركزية) قد بينت أمر هذا الاتفاق الذي أشار
إليه فيما نقل عنها المقطم منذ سنة كاملة وصَدَرَ العدد 9 منها في 27 ربيع الأول سنة
1336 -10 يناير سنة 1918 مزينًا بطبعه بالحبر الأحمر والأزرق، مُصدّرًا
بمقالة افتتاحية في مستقبل سورية الذي صرح به في الجمعية السورية ممثلا
الحكومتين البريطانية والفرنسية، ذلك بأن الحكومة الإنكليزية أوفدت (السير
مارك سايكس) المشهور إلى باريس فضمت إليه حكومتها (المسيو جان فو) ممثلاً
لها ليصرحا في الجمعية السورية باتفاقهما، فعقدوا فيها اجتماعًا حضره بعض
أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين، ونائب بطرك الكاثوليك في فرنسة،
وأعضاء الجمعية السورية، وهم المسيو شكري غانم رئيسها الأول , والمسيو أنيس
شحادة رئيسها الثاني , والدكتور جورج سمنه كاتم أسرارها العام , والمسيو نجيب
مكرزل أمين صندوقها - واعتذر يوسف أفندي سعد أحد أعضائها عن الحضور
بانحراف صحته - ورأس الجلسة المسيو (فرنكلان يوبون) أحد أعضاء مجلس
النواب، وبعد افتتاحه الجلسة ألقى المسيو شكري غانم خطبةً، ذكر فيها حبهم
لفرنسة وإعجابهم بإنكلترة , والتوازن بين الدولتين، وأنه هو أساس (ما اصطلح
الرأي العام على تسميته باسم جمعية الأمم) (؟) وقال: (إن في هذا التوازن
ضمانًا للشعوب الصغيرة؛ لأنه يكفل استقلالنا بصفة أكيدة، بعد تحريرنا من رق
الأتراك الشنيع، ويجعل لنا مقامًا رفيعًا برعاية فرنسة وعونها، وبمصادقة
إنكلترة) إلخ.
ثم تلاه السير مارك سايكس فحث في خطابه السوريين على الاتحاد ونبذ
الخلاف، والاتفاق على القاعدتين الآتيتين اللتين زعم أن في استطاعة جميع أجناس
سورية وأديانها الاتفاق عليهما (؟) وأن الواجب على السوريين الذين يتمتعون
بالحرية في أوربة وأمريكة ومصر أن يرفعوا أصواتهم بهما؛ لأن الذين في البلاد
مكرهون على الصمت، وهما قوله:
1- يجب بادئ بدء قلب الحكم التركي المشئوم، لأن ما هو - بإجماع
الآراء - فاسد في أرمينية , غير صالح لسورية.
2- ثم يجب أن تنتظروا من فرنسة أن تأتيكم بالمساعدة التي لا غنى للشعب
المظلوم عنها، وهو في حاجة إليها كي يقدر على السير بنفسه في طريق الحياة،
وينبغي أن تتطلبوا ضمانات من الدول المتمدنة في العالم لئلا تخضعوا مرةً أخرى
لحكم الأتراك الذي صار بكم إلى الفقر وإلى الشقاق.
وتلاه المسيو غو ممثل الحكومة الفرنسية فقال:
أيها السادة
(إنه ليسرني أن أؤكد لكم برخصة من وزير الخارجية الجمهورية - بعد
النصائح الرشيدة التي سمعتموها من فم السير مارك سايكس ممثل الأمة الحليفة -
أن فرنسة وإنكلترة متفقتان تمام الاتفاق على تحرير الشعوب غير التركية من
النير التركي في آسيا الصغرى، مهما كانت أديان هذه الشعوب وأجناسها وتهيئتها
لمستقبل أحسن من ماضيها) .
وقد صممت الدولتان الحليفتان العزم - بعد طرح كل فكرة ترمي إلى السيطرة
الاستعمارية - على هداية الشعوب التي تتكلم العربية وغيرها من اللغات،
والساكنة في الربوع التي تمتد من الجبال الأناطولية إلى بحر الهند، وللسير بها في
طريق الاستقلال بالحكم، وفي سبيل الحضارة، مع احترام العقائد الدينية وحقوق
الوطنيات، وستعمل كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله
فرنسة وإنكلترة دور دليل لتحسين حالة المستقبل، ودور حكم بين الجماعات
الدينية والجنسية، والأولى مستعدة للقيام بهذا الدور في الشمال، والثانية في
الجنوب.
إننا نرغب في أن يحيط مواطنوكم كلهم علمًا بهذا الاتفاق الولائي المعقود بين
الدولتين الحرتين الكبريين حتى يقدروه حق قدره، ولا سبيل إلى تحقيق مستقبل
مجيد - وقد أهلتهم له عذاباتهم الماضية، وثِقتهم بمصير وطنهم - إلا بالاتفاق
وبنبذ الشقاق الناتج من حكم الأتراك.
وإنني أدعوكم إلى تحية فجر هذا المستقبل لسورية ولغيرها من البلدان التي
تتكلم بالعربية، شاملين في تحياتنا بريطانيا العظمى وفرنسة وسورية) اهـ.
ثم إن مسيو شكري غانم فاه بكلام خلاصته أن السوريين الذين في مصر
كثيرون , وهم أرقى السوريين علمًا وثروةً وأشدهم اختلافًا، فينبغي للسير مارك
سايكس السعي لاتفاقهم على الأمرين اللذين دعا إليهما , أي: بنفوذ حكومته هنا،
ولم يقل مسيو شكري غانم هذا القول إلا لعلمه بأن السواد الأعظم من السوريين هنا
مخالفون له في رأيه ورأي جمعيته، وأنهم لا يرون أنفسهم غير أهل للاستقلال
التام، ولا يطلبون نصب وصي عليهم حتى يؤهلهم له؛ لأنهم يعتقدون أنهم
راشدون لا سفهاء ولا معتوهون.
***
4- دخول المسألة العربية في طور جديد
بعد ذلك الاتفاق دخلت المسألة في طور جديد بما وضعه الدكتور ولسن رئيس
الولايات المتحدة من الشروط لصلح الأمم، وما فسرها به في تلك الخطب، فصار
أمر الشعب العربي في كل قطر منوطًا به ومفوضًا إليه باتفاق الدول، ولم يبق
للافتيات عليه من سبيل، إلا أن يجني على نفسه، فالدول وأحرار أممها يقولون
له: إن أمره بيده، والمستعمرون الطامعون يقولون له: قد قضي الأمر في شأنه،
فما عليه إلا أن يساعدهم على تمدينه وسبر بلاده.
هذا، وإننا قد بينا من قبل أن الشروط لصحة مثل هذا الاعتراف والإقرار،
أن لا يكون تحت سيطرة عسكرية، ولا ضغط سلطة تنافي الاختيار، وأن يكون
من المقر المعترف على علم بأن أمره بيده، وأن قضيته لم يقض فيها، ولن يقضى
فيها إلا برأيه (راجع ص 48 - 59، و499، و246 من المجلد 20) .
بعد هذا نقول: من المقرر الذي لا ريب فيه أن مسألة الولايات العربية
العثمانية ستعرض على مؤتمر الصلح، وما يقرره فيها هو الذي ينفذ - وأن الدولة
العثمانية ستطلب أن تكون مستقلةً في إدارتها الداخلية عملاً بالشروط ال 12 من
شروط الرئيس ولسن التي قبلت الصلح بها، وقد نقلت التيمس في شهر نوفمبر أن
مجلس النواب العثماني قرر أن تكون الولايات العربية مستقلةً تحكم نفسها كما تشاء
بشروط الارتباط بالسلطان وحده، والظاهر أن المراد بذلك أن تكون تحت سيادته
باعترافها له بالخلافة، لا تحت سيادة الباب العالي ومجلس الأمة - وأن إنكلترة،
وفرنسة ستطلبان تقسيم سورية والعراق على حسب اتفاقهما في سنة 1916 ,
وكل هذا وذاك ينافي تحرير البلاد واستقلالها، خلافًا لما أذاعته البرقيات والجرائد عن
دول الحلفاء من أول سني الحرب إلى آخرها، ولقواعد ولسن وخطبه المفسرة لها،
المصرحة بوجوب استفتاء كل شعب في أمره والعمل برأيه في حكم بلاده، وهذا
الاستفتاء لم يقع.
فالحق أن أمرهم بيدهم من كل وجه، ولهم أن يطلبوا ما يبغونه - بدافع الفطرة
والعقل - من الاستقلال التام المطلق من كل قيد، وهو ما أجمع عليه زعماؤهم
وعقلاؤهم، وقتل في سبيله شهداؤهم، فإذا فاتتهم هذه الفرصة واختاروا العبودية
على الحرية والاستقلال بخداع دعاة الاستعمار، كانوا في حكم من بخع نفسه بيده
بل كانوا قاتلين لأمتهم بأسرها، وملعونين في تاريخها وتاريخ الأمم كلها.
قلنا: وإن أهل المعرفة يقترحون كلما أمكنهم التصريح بمطالب البلاد
الصريحة المعقولة التي لا يختلف فيها إلا المخدوعون أو المأجورون. والمرجو
من الرئيس ولسن العظيم، ومن أحرار سائر الأمم الذين لا ينخدعون بمكايد
المستعمرين، ولو كانوا من أمتهم - أن ينصروا الحرية الكاملة، فيحرروا الشعب
العربي كغيره تحريرًا تامًّا بجعل أمره بيده , ولله الأمر من قبل، ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(21/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [1]
الموضع الثالث عشر
آل البيت [2]
نقل الناقد ما ذكر في حاشية ص 43 من ذكرى المولد من القولين في تفسير
حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه- أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين
تحرم عليهم الصدقة، وقول غيره. هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام،
واستنبط من تقديمنا القول الأول وإبهام القائلين بمقابله ترجيحَه , وتعقبه بقوله:
(ولعل الصواب ما يقوله الآخرون كما حققه شيخ مشايخنا العلامة مولانا
السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي) كما قال: (إن المراد بآل
البيت في آية التطهير: علي وفاطمة والحسن والحسين) وهو قول جمهور
العلماء وأكابر أئمة الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم. وإن الأدلة تضافرت بذلك عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير من أنزلت عليه متعين
(ثم بين ذلك بحديث أم سلمة المعروف في تفسير آية التطهير، وأشار إلى حديث
عائشة بمعناه , وذكر أن جميع ذرية فاطمة داخلة في ذلك إلى يوم القيامة، وأن
الأحاديث مصرحة بذلك، ومثل بحديث الجمع بين القرآن والعترة، وبحديث أهل
بيتي أمان لأهل الأرض) وجزم بأن ذلك دالٌّ قطعًا على أن هذه السلالة الطاهرة
هم أهل البيت المطهرون المرادون بكل ما ورد في فضل أهل البيت من الآيات
والأحاديث، وأنهم عدول هذه الأمة وأحد الثقلين المأمور بالتمسك بهما، قال: (وقد
أجمعت الأمة على ذلك) .
وأقول (أولاً) : إنني لم أرد بتقديم قول زيد ترجيحه، ولا بتأخير قول
الآخرين تضعيفه؛ لأنني لست بصدد ذلك, وإنما أخرت ما أخرت لأبني عليه ما
ذكرته بعده من الثناء والمناقب، وهذا سبب من أسباب التأخير معهود في أساليب
الكلام الفصيح ما كان له أن يفهم منه الترجيح , و (ثانيًا) : إن ما ذكره من
التصويب وادعى أنه هو التحقيق، وأن الأحاديث الصحيحة ناطقة به والأمة
مجمعة عليه - فيه نظر ظاهر، ولا أحب أن أعبر عنه بما دون ذلك، فالأحاديث
الصحيحة في الآل والذرية والعترة كثيرة، والخلاف فيها كثير، والمتبادر من آية
التطهير أنها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعليل لما قبلها من الأوامر
والنواهي الخاصة بهن، وما بعدها خطاب لهن كالذي قبلها، فلا يمكن أن يكون هذا
التعليل أجنبيًّا في وسط الكلام، ولا يمكن أن يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
تفسير آية بما ينافي أساليب البلاغة، فكيف بما ينافي المتبادر من اللغة؟ وقد بينت
هذا في المنار من قبل.
ولولا التعصب الذي أوقع أدق علماء اللغة وفرسان بلاغتها في الغلط أحيانًا،
لَما كان يقبل أحد له شمة من العربية أن يقول فيما نزل نصًّا قاطعًا في خطاب معين:
إنه في غير ذلك المخاطب المعين، حتى إنه يشمله بعمومه خلافًا للأصل الذي جرى
عليه جميع العلماء. قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) : هذا نص في دخول أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب
النزول داخل فيه - قولاً واحدًا - إما وحده، على قول، أو مع غيره، على
الصحيح، اهـ، ويريد بالصحيح: ما جرى عليه أهل الأصول من أن العبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ (أهل البيت) هنا عام يدخل فيه كل منتسب إلى
ذلك البيت، ولكن المخاطب منهم في الآية نساؤه صلى الله عليه وسلم، وهُن أهل
البيت السكني المتبادر هنا، وأهل بيت الرجل وآله يطلق على بيت القرابة وعلى
أتباعه، ومنه قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر: 46) وقول
عبد المطلب يوم الفيل:
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
ولا يمكن أن يراد هذا الأخير من الآية لقرينة الخطاب.. ومثله (آل) القرابة
لولا ما ورد من في الحديث من إدخاله صلى الله عليه وسلم أهل العباء فيهم خبرًا أو
دعاءً, والدعاء هو الذي ثبت في الصحيح. وأما حديث أم سلمة فمضطرب المتن،
ومخالف لمنطوق الآية، وفي أسانيد طرقه كلها علل تمنع الاحتجاج به، فكيف يمكن
ترجيح مفهومه على منطوق القرآن؟ وفي حديث علي عند النسائي , وأبي هريرة
عند أبي داود مرفوعًا: (من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا آل البيت
فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين , وذريته وأهل بيته،
كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) فقد عَطف آل البيت) على الأزواج
والذرية , والأصل في العطف المغايرة.
إنني لا أحب أن أطيل الكلام في مناقشة الناقد في هذه المسألة من عندي، بل
أستغني عن ذلك بأن أنقل له أوسع ما رأيته في تفسير آية التطهير وأجمعه لأقوال
أهل السنة والشيعة؛ ليعلم مكان ما ادعاه من اتفاق العلماء أو إجماع الأمة من
الصحة، وهو ما أورده الشهاب الآلوسي في روح المعاني تفسيرًا لقوله تعالى:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) .
قال: استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل: الشيء
القذر، وأريدَ به هنا عند كثير الذنب مجازًا، وقال السدي: الإثم , وقال الزجاج:
الفسق, وقال ابن زيد: الشيطان , وقال الحسن: الشرك , وقيل: الشك , وقيل
البخل والطمع , وقيل: الأهواء والبدع , وقيل: إن الرجس يقع على الإثم , وعلى
العذاب , وعلى النجاسة , وعلى النقائص , والمراد به هنا: ما يعم كل ذلك، ولا
يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف , و (ال) فيه للجنس أو
للاستغراق، والمراد بالتطهير، قيل: التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم، ويحليكم بالتقوى تحليةً
بليغةً فيما أمركم. وجوز أن يراد به الصون, والمعنى: إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم
الرجس ويصونكم من المعاصي صونًا بليغًا فيما أمر ونهى جل شأنه، واختلف في
لام (ليُذهب) فقيل: زائدة وما بعدها في موضع المفعول به لـ (يريد) فكأنه قيل:
يريد الله إذهاب الرجس عنكم، وتطهيركم. وقيل: للتعليل. ثم اختلف هؤلاء،
فقيل: المفعول محذوف , أي: إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب، أو: إنما يريد
منكم ما يريد ليذهب، أو نحو ذلك، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في
ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، واللام وما بعدها خبر , أي: إنما إرادة الله
تعالى للإذهاب، على حد ما قيل في (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فلا مفعول
للفعل. وقال الطبرسي: اللام متعلق بمحذوف تقديره: وإرادته ليذهب , وهو كما
ترى، وهذا الذي ذكروه جارٍ في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء:
26) {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 71) وقول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان
ونصب (أهل) على النداء، وجوز أن يكون على المدح، فيقدر: أمدح، أو
أعني، وأن يكون على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه: (بك
الله نرجو الفضل) وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
و (ال) في (البيت) للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه، أي: بيت
النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم , والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب،
لا بيت القرابة والنسب، وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل , وحينئذ
فالمراد بأهله نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم المطهرات؛ للقرائن الدالة على
ذلك من الآيات السابقة واللاحقة، مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه
سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد: أخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر من
طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: 33) إلخ في نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصةً. وأخرج
ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ (خاصةً) وقال عكرمة: من
شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم. وأخرج ابن
جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو
نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى ابن جرير أيضًا أن عكرمة كان ينادي
في السوق أن قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) نزل في نساء النبي عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن سعد عن
عروة {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) قال: يعني أزواج
النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم.
وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات - باعتبار الإضافة إلى النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم - بيت واحد، وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة
إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات، وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء
الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب:
53) دفعًا لتوهم إرادة بيت زينب لو أُفرد من حيث إن سبب النزول أمر وقع فيه،
كما ستطلع عليه، إن شاء الله تعالى. وأورد ضمير جمع المذكر في (عنكم)
و (يطهركم) رعايةً للفظ الأهل، والعرب كثيرًا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك
رعايةً للفظ، وهذا كقوله - تعالى - خطابًا لسارة امرأة الخليل - عليهما السلام -
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود: 73) ومنه - على ما قيل - قوله سبحانه: {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ
نَاراً} (طه: 10) خطابًا من موسى عليه السلام لامرأته , ولعل اعتبار التذكير هنا
أدخل في التعظيم. وقيل: المراد هو صلى الله - تعالى - عليه وسلم، ونساؤه
المطهرات - رضي الله تعالى عنهن - وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة
والسلام عليهن.
وقيل: المراد بالبيت: بيت النسب، ولذا أُفرد ولم يُجمع كما في السابق
واللاحق. فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معًا
في الدلائل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى
الله - تعالى - عليه وسلم: (إن الله - تعالى - قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما
قسمًا، فذلك قوله - تعالى -: (وَأَصْحَابُ اليَمِينِ ... وأصحاب الشمال) فأنا من
أصحاب اليمين , وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثًا فجعلني في خيرها
ثلثًا، فذلك قوله تعالى [3] : {وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ} (الواقعة: 9-10) فأنا من السابقين , وأنا خير السابقين، ثم جعل
الأثلاث قبائل , فجعلني في خيرهم قبيلة وذلك قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وأنا أتقى ولد آدم
وأكرمهم على الله - تعالى - ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتًا , فجعلني في خيرها
بيتًا، فذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب) فإن
المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النَّسبَي.
واختلف في المراد بأهله، فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم: جميع بني هاشم
ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم , وهذا هو المراد بالآل عند
الحنفية، وقال بعض الشافعية: المراد بهم: آله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين
هم مؤمنو بني هاشم والمطلب. وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقًا , وأسرة الرجل - على ما في القاموس -
رهطه , أي: قومه وقبيلته الأدنون، وقال في موضع آخر: صار أهل البيت متعارفًا
في آله عليه الصلاة والسلام، وصح عن زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل
له: مَن أهل بيته؟ نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم؟ فقال: لا، ايم الله إن
المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل
بيته: أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي
آخر أخرجه هو أيضًا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه قال: هم آل علي وآل
عقيل وآل جعفر وآل عباس.
وقال بعض الشيعة: أهل البيت - سواء أريد به بيت المدر والخشب أم بيت
القرابة والنسب - عام، أما عمومه على الثاني فظاهر, وأما على الأول؛ فلأنه
يشمل الإماء والخدم، فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضًا، وقد صح ما يدل على
أن العموم غير مراد. أخرج الترمذي والحاكم - وصححاه - وابن جرير وابن
المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة - رضي الله
عنها - قالت: في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
البَيْتِ} (الأحزاب: 33) وفي البيت فاطمة، وعلي، والحسن والحسين، فجللهم
رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال: (هؤلاء أهل
بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) وجاء في بعض الروايات أنه
عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء، وأومأ بها إلى السماء وقال: (اللهم
هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) ثلاث مرات،
وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساءً فدكيًّا، ثم وضع يده
عليهم ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي - وفي لفظ: آل محمد -، فاجعل
صلواتك وبركاتك على آل محمد، كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)
وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت: فرفعت الكساء لأدخل
معهم فجذبه صلى الله عليه وسلم من يدي، وقال: (إنك على خير) وفي أخرى
رواها ابن مردويه عنها أنها قالت: ألستُ من أهل البيت؟ فقال صلى الله تعالى
عليه وسلم (إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم)
وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه
الصلاة والسلام قال: قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: (أنت على
مكانك، وإنك على خير) وأخبار إدخاله صلى الله تعالى عليه وسلم عليًّا
وفاطمةَ وابنيهما - رضي الله تعالى عنهم - تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة
والسلام: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) ودعاؤه لهم , وعدم إدخال أم سلمة أكثر
من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنًى كان البيت، فالمراد
بهم من شملهم الكساء، ولا يدخل فيهم أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد
صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي , وقال: المراد من البيت: بيت
النبوة , ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج، بل للخدام من الإماء اللائي
يسكن في البيت أيضًا , وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق،
فالمراد به: آل العباء الذين خصصهم حديث الكساء. وقال أيضًا: إن كون البيوت
جمعًا في (بيوتكن) وإفراد البيت في (أهل البيت) يدل على أن بيوتهن غير
بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اهـ. وفيه ما ستعلمه، إن شاء الله تعالى.
وقيل: المراد بالبيت: بيت السكنى وبيت النسب , وأهل ذلك أهل كل من
البيتين، وقد سمعت ما قيل فيه، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقال بعض
المحققين: المراد بالبيت: بيت السكنى وأهله - على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها
والأخبار التي لا تحصى كثرةً، ويشهد له العرف - من له مزيد اختصاص به إما
بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره، وعدم كون الساكن
في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج، أو
بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد، أو بقرابة من صاحبه
تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك، أو
بعدم المنع من ذلك كالأولاد الذين لا يسكنونه، وكأولادهم وإن نزلوا، وكالأعمام
وأولاد الأعمام، وعلى هذا يحصل الجمع بين الأخبار، وقد سمعت بعضها كحديث
الكساء، ولا دلالة فيه على الحصر، وكالحديث الحسن: أنه صلى الله تعالى عليه
وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة، ثم قال (يا رب هذا عمي وصنو أبي،
وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه) فأمَّنت أسكفة
الباب وحوائط البيت فقالت: آمين، ثلاثًا. وجاء في بعض الروايات أنه عليه
الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين - رضي الله تعالى
عنهم - وبقية بناته وأقاربه وأزواجه. وصح عن أم سلمة في بعضٍ آخر أنها قالت:
فقلت: يا رسول الله، أما أنا من أهل البيت؟ فقال: (بلى إن شاء الله تعالى)
وفي بعض آخر أيضًا أنها قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم: (ألست من أهلك؟)
قال: (بلى) وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم
وقد تكرر - كما أشار إليه المحب الطبري - منه صلى الله تعالى عليه وسلم الجمع
وقوله (هؤلاء أهل بيتي) والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة - رضي الله
تعالى عنهما - وغيرهما وبه جُمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع، وما
جلّل صلى الله تعالى عليه وسلم به المجتمعين، وما دعا به لهم، وما أجاب به أم
سلمة، وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء، ليس لأنها ليست من أهل البيت
أصلاً , بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية
وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أُدخلوا تحته - رضي الله تعالى عنهم - فإنه عليه
الصلاة والسلام لو لم يدخلهم، ويقل ما قال لتُوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء
سياقها وسباقها ذلك. وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة
الحمل على أن النزول كان مرتين، وقد أدخل صلى الله تعالى عليه وسلم بعض من
لم يكن بينه وبينه قرابة سببية ولا نسبية في أهل البيت توسعًا وتشبيهًا، كسلمان
الفارسي - رضي الله تعالى عنه - حيث قال عليه الصلاة والسلام: (سلمان منا
أهل البيت) وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال: وأنا من أهلك يا رسول الله؟
فقال عليه الصلاة والسلام (وأنت من أهلي) فكان واثلة يقول: إنها لمن أرجى
ما أرجو. والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النَّسبي - أعني خبر
الحكيم الترمذي ومَن معه عن ابن عباس - يجوّز حمل البيت فيه على بيت المدر.
والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي - مثلاً - كما ينقسم الإنسان إليهما، على أن في
رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره، والجرح مقدم على التعديل.
وما روي عن زيد بن أرقم - رضي الله تعالى عنه - من نفي كون أزواجه
صلى الله - تعالى - عليه وسلم أهل بيته, وكون أهل بيته: أصله وعصبته الذين
حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام - فالمراد بأهل البيت فيه: أهل البيت
الذين جعلهم رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم ثاني الثقلين، لا أهل البيت
بالمعنى الأعم المراد في الآية، ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان
قال: انطلقت أنا وحصين بن صبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما
جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا: رأيت رسول الله صلى
الله - تعالى - عليه وسلم , وسمعت حديثه , وغزوت معه , وصليت خلفه، لقد
لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلى الله -
تعالى - عليه وسلم. قال: يا أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي، فنسيت
بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم، فما حدثتكم
فاقبلوا، وما لا، لا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله - تعالى - عليه
وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة , فحمد الله وأثنى عليه ,
ووعظ وذكّر ثم قال: (أما بعد ألا يا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي
رسول ربي فأجيب , وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور ,
فخذوا بكتاب الله , واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال
(وأهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي , أذكركم الله في أهل بيتي , أذكركم الله في
أهل بيتي، ثلاثًا. فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل
بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده, قال: ومن
هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس) الحديث. فإن الاستدراك
بعد جَعْله النساء من أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر في أن الغرض: بيان
المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم
فيه ثاني الثقلين، فلأهل البيت إطلاقان، يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في
الآخر، وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه - رضي الله
تعالى عنه - كون النساء من أهل البيت، وقال بعضهم: إن ظاهر تعليله نفي كون
النساء أهل البيت بقوله: (ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم
يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها) يقضي أن لا يكنَّ من أهل البيت مطلقًا، فلعله أراد
بقوله في الخبر السابق: (نساؤه من أهل بيته) أنساؤه؟ إلخ، بهمزة الاستفهام
الإنكاري، فيكون بمعنى: ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير
صحيح مسلم ويكون - رضي الله تعالى - عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة
والسلام لسن من أهل البيت أصلاً، ولا يلزمنا أن ندين الله برأيه لا سيما وظاهر الآية
معنا، وكذا العرف، وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى
الشامل للأزواج، وغيرهن من أصله وعصبته صلى الله - تعالى - عليه وسلم الذين
حرموا الصدقة بعده، ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء
الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى اهـ.
وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (إني تارك
فيكم خليفتين - وفي رواية: ثقلين - كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض
وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) يقتضي أن النساء
المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين؛ لأن عترة الرجل كما
في الصحاح: نسله ورهطه الأدنون. و (أهل بيتي) في الحديث، الظاهر أنه بيان
له، أو بدل منه بدل كل من كل، وعلى التقديرين يكون متحدًا معه، فحيث لم تدخل
النساء في الأول لم تدخل في الثاني، وفي النهاية أن عترة النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم بنو عبد المطلب، وقيل: أهل بيته الأقربون والأبعدون منهم اهـ.
والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وفي كون الأزواج
المطهرات كذلك خلاف، قال ابن حجر: والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف، وإن
حكى ابن عبد البر الإجماع عليه فتأمل، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على
المعنى الأعم ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم: (نزلت هذه الآية في خمسة:
في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) إذ لا دليل فيه على الحصر، والعدد لا مفهوم له.
ولعل الاقتصار على من ذَكَر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم؛ لأنهم أفضل من
دخل في العموم، وهذا على تقدير صحة الحديث، والذي يغلب على ظني أنه غير
صحيح، إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من
الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول.
وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما
ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت، فإنهم في
معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع، وليس لهم قيام
بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظمهم في سلك
الأزواج، ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد - مما لا يرتضيه
منصف، ولا يقول به إلا متعسف.
وقال بعض المتأخرين: إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنة؛
لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة، ولا حجر على رحمة الله عز وجل ,
ولأجل عين ألف عين تكرم، وأما أمر الجمع والإفراد، فقد سمعت ما يتعلق به ,
والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في (عنكم) للتغليب، وذكر
أن في (عنكم) عليه تغليبين، أحدهما: تغليب المذكر على المؤنث، وثانيهما:
تغليب المخاطب على الغائب؛ إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم
ذكر فيما قبل، ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه، وأمر التعليل عليه ظاهر
وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت: الأزواج المطهرات فقط،
واعتذر المشهدي عن وقوع جملة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: 33) إلخ، في
البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم، فقد قال تعالى شأنه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} (النور: 54) ثم قال
سبحانه بعد تمام الآية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) فعطف
(أقيموا) على (أطيعوا) مع وقوع الفصل الكثير بينهما، وفيه أنه وقع بعد
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (النور: 56) إلخ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النور: 56) فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف (أطيعوا) على (أطيعوا) وهو كما ترى،
سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس من محل النزاع، فإنه فصل
بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب، وهو لا ينافي البلاغة،
وما نحن فيه - على ما ذهبوا إليه - فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة
والسابقة وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى، ومما يضحك منه الصبيان
أنه قال بعد: إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية؛ لأن آية التطهير جملة ندائية
وخبرية , وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية , وعطف الإنشائية على
الخبرية لا يجوز، ولعمري إنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام:
خسن وخسين دختران مغاوية، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما في الجزئين 9 و10 من المجلد 20.
(2) يراجع النقد في ص 250 م 20.
(3) قوله: [وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ] إلخ كذا بخطه، وفيه حذف صدر الآية وهو الثلث الأول اهـ، مصححه.(21/38)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقاضي والتخاصم في رسالة آدم
الحسد غريزة قديمة في الثقلين، كان أول مظهر عرف لها في التاريخ المأثور
حسد إبليس أبي الشياطين - لعنه الله - لآدم أبي البشر عليه السلام، وكان ينبغي
أن يكون أطهر البشر من هذه الخليقة الذميمة أهل العلم الديني، ولكن ثبت في بعض
الآثار أنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها كما ثبت بالاختبار أنهم أشد تحاسدًا من
النساء الضرائر في بيوتها.
وقد لبس الحسد الإبليسي في هذا العام وما قبله ثوبي زور من الغيرة على
آدم عليه السلام. ثوبان ظهر بهما بعض محبي الظهور من شبان الأزهريين، وإنما
فصلهما وخاطهما بعض شيوخهم المعروفين، فأما الثوب الأول: فهو تكفير من
يقول بأن قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) ليس نصًّا
قطعيًّا في كون هذه النفس (المنكرة) هي آدم، وفي كونه هو أصل جميع البشر -
وإن كان يقول بهذا عملاً بدلالة الظواهر - وعدم قبول إسلام أحد من القائلين بتعدد
أصول البشر، أو الشاكين في صفة تكوينهم، وقد بينا في المنار كيف كان عاقبة
المفترين في هذه المسألة (راجع ص 6 م20) .
وأما الثوب الثاني: فهو تكفير من يقول: إن رسالة آدم غير ثابتة بنص
قطعي، بل القول بها معارض بظواهر بعض الآيات، وبحديث الشفاعة المتفق
عليه؛ فإن خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم يروي فيه عن آدم أن نوحًا
أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ذكر هذه المسألة في مجلس خاص
بدمنهور الشيخ محمد أبو زيد من مريدينا طلاب دار الدعوة والإرشاد، فانبرى
لتكفيره والتشهير به صاحب الثوب المستعار، ثم ألبس الثوب من رفع عليه
دعوى حسبة إلى قاضي دمنهور الشرعي ليحكم بردته ويفرق بينه وبين زوجه،
فكان مَثَله مع مفصل الثوب ولابسه الأول كَمَثَل من تعلم السحر من هاروت ,
وماروت {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة: 102) .
نظر في الدعوى قاضي دمنهور، فكان فقهه فيها كفقه لابس الثوب وخائطه،
فحكم بردة الرجل وفرق بينه وبين زوجه، فأحدث هذا الحكم هزةً واضطرابًا في
القطر المصري كله، وأظهر الناس استنكاره في جميع الجرائد، وبيَّن أهل العلم
وجوه خطأه في المجالس والمدارس، وانزعجت له وزارة الحقانية، فحظرت النظر
في أمثال هذه الدعوى على المحاكم الشرعية، إلا أن يكون بعد اطلاع الوزارة على
الدعوى، وأخذ الإذن الخاص بالنظر والحكم فيها، وهذا ملخص الحكم المشار إليه:
صورة ملخص الحكم
الصادر في قضية الشيخ أبو زيد
سئل الشيخ عما يعتقده في رسالة ونبوة آدم فقال: (إن آدم ليس نبيًّا ولا
رسولاً بنص قطعي، وإنما نبوته ورسالته ظنيتان، هذا ما نطقت به وما أعتقده
إلى الآن) .
الحكم والأسباب
حيث إن نبوة سيدنا آدم - عليه السلام - ثابتة بالكتاب والسنة وبالإجماع
ومعلومة من الدين بالضرورة، لذا كفر جاحدها. قال في كتاب العقائد النسفية:
أول الأنبياء آدم عليه السلام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام. أما نبوة آدم
فبالكتاب والسنة والإجماع، أما بالكتاب الدال على أنه أمر ونهي، مع القطع بأنه لم
يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا بالسنة والإجماع، فإنكار نبوته
على ما نقل عن البعض يكون كفرًا، وفي الفتاوى الهندية، جزء ثاني: من يقول:
آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم أن آدم نبي أم لا: يكفر، كذا في العتبية، ولم يحك
خلافًا، وفيها أيضًا: رجل قال لغيره: إن آدم عليه السلام نسج الكرباس، فقال له
الغير: فحينئذ نحن أولاد النساج، فهذا كفر، وما ذاك إلا يكون استخفافًا بالنبي؛
لأن هذه العبارة لو قيلت لولي من أولياء الله ما ترتب عليها الكفر، وفي الجزء
الأول من (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) ويكفر بقوله: لا أعلم أن آدم عليه
الصلاة والسلام نبي أم لا.
وحيث إن المنصوص عليه شرعًا أن المرتد عن دين الإسلام ينفسخ نكاحه في
الحال ويفرق بينه وبين زوجته وحيث إن الشيخ محمد أبو زيد قد نطق بما يوجب
الردة لإنكاره نبوة ورسالة آدم عليه السلام , وإن هذه عقيدته كما أقر بذلك، وبذا ارتد
عن دين الإسلام , وانفسخ نكاحه بزوجته فلانة , فوجب التفريق.
(لهذا) فرقنا بين الشيخ محمد أبو زيد المذكور، وزوجته.
(المنار)
هذا نص الحكم كما وصل إلينا، وهو على ما فيه من خطأ في العبارة
ظاهر البطلان بعدم انطباقه على الدعوى من جهة الصورة، وبعدم صحة ما استدل
به القاضي - فأما الأول: فإن الشيخ أبا زيد قد صرح بأن نبوة آدم ورسالته
ثابتتان بالأدلة الظنية، وهذا ليس إنكارًا لها كما زعم القاضي, وإلا كان القاضي
نفسه منكرًا لمعظم أحكام الشريعة التي يحكم بها بين الناس في مسائل الأبضاع
والأموال، والكفر والإيمان، فإن معظمها ظني بغير نزاع، وقد صرحوا في العقائد
النسفية وشروحها أن الأدلة الظنية كافية في العقائد، وأما الثاني: فهو أن الردة إنما
تكون بجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يخفى على أحد
من عوام المسلمين وخواصهم, ونبوة آدم ورسالته ليست كذلك، فما نقله عن الفتاوى
الهندية في التكفير بها غير صحيح، وقد قصر القاضي فيما يجب عليه من كشف
شبهة المدعى عليه ومن استتابته.
***
إلغاء الحكم في قضية سيدنا آدم
بحكم محكمة الاستئناف الشرعية الصادر في أول ديسمبر سنة 1918
منقول عن جريدة وادي النيل
عرضت قضية سيدنا آدم المعروفة على محكمة الإسكندرية الكلية الشرعية
أمس برئاسة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى سلطان , وكان الزحام شديدًا
جدًّا، وقد حضر الجلسة جمهور كبير من المحامين الأهليين والشرعيين والعلماء،
وكان المدعى عليه الشيخ محمد أبو زيد حاضرًا ومعه اثنان من المحامين، وكان
المدعي الشيخ محمد صالح الزواوي حاضرًا ومعه محامياه.
وبعد استكمال الإجراءات النظامية سمعت المحكمة كلام المحامين، ثم سألت
المدعى عليه:
تريد المحكمة أن تتبين رأيك في نبوة آدم.
- إن نفسي مطمئنة إلى أنه نبي, ونظري في النصوص هو الذي اطمأنت به
نفسي.
- قلتَ في مذكرتك في الصفحة التاسعة: (فما بال هؤلاء يطلبون حكمًا
شرعيًّا من قاضٍ مسلم يعتقد أن نبوة آدم ورسالته ليستا من العقائد في شيء؟)
- إنهما ليستا من العقائد التي تثبت بالنص القطعي، وهذا تعريف أصولي
اتبعته في جهات من المذكرة [1] .
- جاء في المذكرة ما يدل على أنك ترى الأدلة ظنيةً.
- إن كلامي لا ينافي اعتقاد النبوة، فإنه لا مانع من أن آخذ من الأدلة الظنية
شيئًا ترتاح به نفسي ويطمئن إليه ضميري، وإن أدلة نبوة آدم عليه السلام، وإن
كانت ظنيةً في اصطلاح الأصوليين، فإني مرتاح إليها، وليس هناك خلاف بين ما
أقوله الآن، وما قلته فيما مضى.
وبعد هذا أخذ فضيلة الرئيس يفيض في نصائحه، وكان الأسف والحزن
آخذين من نفسه فقال: أخجلتمونا أمام الناس أعظم خجل، فالإفرنج مشتغلون بما
يفيدهم، وأنتم مشغولون بما لا يفيد، ألستم ترون الكسل والكذب اللذين يتفشيان في
الأخلاق حتى كادا يقتلانا؟ أفما كان الأولى أن نعالج هذين الدائين وغيرهما من
الأدواء المنتشرة بيننا؟ لقد كان الأولى أن يكتب القلم الذي كتبت به هذه المذكرة
فيما ينفع الأمة فيقول لها: اتحدو، لا تحاسدوا، لا تتباغضوا, اعملوا كما يعمل
غيركم، اطلبوا العيش بعزة النفس، لا بالمذلة للأمراء وغير الأمراء، نرجو يا
رجال الدين أن تعالجوا الأدواء المنتشرة بين المسلمين.
وبعد أن فرغ من هذه النصائح الثمينة استحلف رجال الدين أن ينبذوا الشقاق
وصغائر الأمور، وقال: إنني أعرف الآن أنكم حزبان أتيا ليسمعا ما نقضي به
في هذه القضية، فأرجو أن تخرجوا متحدين، ثم قامت المحكمة للمداولة، ثم عادت
فأصدرت الحكم، وهذا نصه:
بعد سماع أقوال الخصوم والاطلاع على ملف القضية الابتدائية، وبعد
المداولة، وللأسباب التي هي:
- استئناف حاز شكله القانوني فهو مقبول.
- المقرر شرعًا أن الكفر هو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء مما
علم مجيئه به من الدين علمًا ضروريًّا بحيث يستوي فيه الخاصة والعامة، كالتوحيد
وأركان الإسلام , وألحقوا به كفر العناد , أو ما يدل على الاستخفاف لتضمن ذلك
معنى الجحود.
- نبوة آدم، وإن دل عليها الكتاب والسنة واتفق عليها العلماء، ولم يعرف
بينهم خلاف فيها , فإنكارها بأي شكل كان ضلال ومخالفة لما عليه المسلمون، إلا
أنها ليست من ضروريات الدين بحيث يعرفها الكافة، كالصلاة والصوم، بل هي
من الأمور النظرية , والقول بأنها معلومة من الدين بالضرورة دعوة غير مقبولة.
- منكر شيء من الأمور النظرية مستندًا إلى شبهة - ولو غير صحيحة - لا
يُحكم عليه شرعًا بالكفر على ما هو الحق الذي يجب العمل به في مذهب الحنفية،
ذلك لأن الكفر نهاية في العقوبة، فلا يكون إلا عن نهاية الجناية، وذلك بإنكار الثابت
بالنص القطعي الخالي من الشبهة والاحتمال من الكتاب والسنة المتواترة , أو الإجماع
القولي الثابت تواترًا، ولذلك قالوا: لا يُفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل
حسن، أو كان في عدم كفره رواية ضعيفة ولو في مذهب غيرهم، وأجازوا مع
الكراهة إمامة أهل البدع في الصلاة، وهم ممن يعتقدون خلاف المعروف عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بلا معاندة، بل بنوع شبهة إن كانت فاسدةً حتى الخوارج
الذين يستحلون دماء وأموال مخالفيهم من المسلمين , أو ينكرون صفات الله، وقالوا:
لا نكفر أهل البدع ببدعتهم لكونها من تأويل وشبهة وللنهي عن تكفير أهل القبلة
والإجماع على قبول شهادتهم، وذلك ما لم ينكر أحد منهم شيئًا من المعلوم ضرورة.
وفي الفتاوى الصغرى: (الكفر شيء عظيم) وفي جامع الفصولين: (لا
يُخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك في أنه ردة لا يحكم بها؛
إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك، إن الإسلام يعلو) وقال صاحب نور العين: إن
المسائل الإجماعية تارةً يصحبها التواتر كوجوب الخمس، وقد لا يصحبها إلا بكفر
جاحدها (؟) لمخالفته التواتر لا الإجماع (ثم نقل أنه) إذا لم تكن الآية أو
الخبر المتواتر قطعي الدلالة , أو لم يكن الخبر متواترًا , أو كان قطعيًّا ولكن فيه
شبهة , أو لم يكن إجماع الجميع , أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة , أو لم
يكن قطعيًّا بأن لم يثبت بطريق التواتر , أو كان قطعيًّا لكن كان إجماعًا سكوتيًّا -
ففي كل هذه الصور لا يكون الجحود كفرًا.
ومن كل هذا ترى العلماء - رضوان الله عليهم - قد احتاطوا نهاية الاحتياط في
عدم تكفير المسلمين.
ما ورد من الآيات والأحاديث في نبوة آدم عليه السلام، وكذا الإجماع عليها،
كل ذلك لم تتوفر فيه تلك القيود، وهذا ما يجب التعويل عليه دون ما عداه،
وعليه يكون حكم محكمة أول درجة في غير محله، ويتعين إلغاؤه.
وكيل المستأنف قال: إنه مكتف بالأدلة الموجودة بمحضر القضية الابتدائية ,
وهي أدلة غير منتجة للدعوى خصوصًا وقد قرر المستأنف عليه اليوم أنه يعتقد تمام
الاعتقاد بنبوة آدم عليه السلام.
لهذا، تقرر قبول هذا الاستئناف شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء ما حكمت به
محكمة أول درجة، ورفض دعوى المدعي) اهـ.
(المنار)
هذا الحكم هو الحق وما ذكره القاضي الفاضل في أثناء كلامه من المواعظ
يرجى أن يزيد المدعى عليه المظلوم في تكفيره والتفريق بينه وبين زوجه، هدى.
فإنه قد عاهد الله- تعالى- على يدنا بوقف حياته على خدمة دينه وأمته بمثل هذه
المواعظ، وما كتب مذكرته إلا دفاعًا عن دينه, وهو أثمن شيء يحرص عليه،
فكانت كتابتها في وقتها أفضل مما استحسن القاضي إبداله بها، وأما المبطلون
المكفرون للمؤمنين مع علمهم بما ورد في ذلك، فلم يتعظوا - وهم أحوج إلى
الموعظة - إذ طلبوا إعادة النظر في الحكم مخطئين له، وذلك يتضمن تكفير قاضي
الاستئناف بزعمهم؛ لأنه قال بأن نبوة آدم مسألة نظرية لا قطعية، فهل
فقهوا هذا؟ أم يقولون إن أبا زيد يكفر بما لا يكفر به غيره؟
قالت جريدة وادي النيل:
عود إلى قضية آدم
لم يقنع المدعون في قضية آدم المعروفة بالحكم الذي أصدرته المحكمة
الشرعية الكلية فيها، ويظهر أنهم لم يتأثروا بتلك النصائح الثمينة التي أفاض بها
فضيلة رئيس المحكمة عليهم وعلى رجال الدين عامةً، ومن أغلاها وأثمنها ترك
الخلاف في توافه الأمور، والاتفاق لمعالجة الأدواء التي تضر الأمة في كل شيء ,
وإنا لا يسعنا إلا أن نأسف لهذه الحالة، فقد رفعوا التماس إعادة نظر إلى المحكمة،
وعرض عليها في جلسة أمس (أي: 29 ربيع الأول سنة 1337 -2يناير
1919) فأصدرت الحكم الآتي:
صار الاطلاع على عريضة الالتماس المطلوب بها إلغاء ما حكمت به محكمة
الاستئناف في القضية نمرة 4 سنة 1918 بتاريخ أول ديسمبر سنة 1918
وخلاصتها أنه لم يصادف (كما زعم الطالب) قبولاً في المذهب لبنائه على مجرد
استنتاجات من قواعد عامة؛ ولأن اتفاق العلماء على نبوة آدم (باعتراف المحكمة)
يدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة , لا من الأمور النظرية، فضلاً عن
وجود نصوص قاطعة تدل على أنها معلومة من الدين بالضرورة، ولأن كل الأحكام
الشرعية نظرية , ولما اشتهر بعضها اشتهارًا تامًّا سمي ضروريًّا , وذلك لا ينافي
نظريته وأن الضروري متفاوت في الشهرة , ويكفي فيه أي شهرة، وعلى تسليم أنه
نظري - كما فهمت المحكمة - فإن منكره لا يعفى من التكفير إلا إذا كان خفيًّا،
والمنكر له شبهة، وإن عدول المستأنف إلى الإقرار بنبوة آدم أمر زائد عن الموضوع
الذي فصل فيه ابتدائيًّا، إلخ.
المحكمة: حيث إن الالتماس تقدم في ميعاده القانوني وحيث ما قررته
محكمة الاستئناف في بيان ما حكمت به في القضية المشار إليه لا عمل لها فيه
بشيء سوى جمع ما قاله علماء الحنفية في عدة مواضع في كتب الفروع المعول
عليها (كرد المحتار) وشرحه في باب الإمامة والردة و (البحر) في الردة،
و (فتح القدير) في باب البقاء، وغير ذلك، ومن كتب الأصول (كالتحرير)
و (مسلم الثبوت) القاضية تلك النصوص بأن مذهب أبي حنيفة: عدم تكفير أحد
من المخالفين فيما ليس من الأصول المعلومة من الدين بالضرورة , وإذن يكون ما
قضي به استئنافيًّا في هذه الحادثة ليس إلا بالتطبيق لما نصوا على أنه المذهب،
والذي يعلم منه أن ما جاء في (الهندية) و (مجمع الأنهر) مخالفًا له لا يمكن
الأخذ به في الأحكام التي لا تكون إلا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة عملاً بما
قالوه في رسم المفتي (راجع مقدمة شرح الدر جزء أول) وجاء القانون نمرة 31
مقررًا له.
وحيث إن التطرف بدعوى أن نبوة آدم معلومة من الدين بالضرورة توصلاً
لتكفير مسلم بأي وسيلة انقيادًا لأحقاد نفسية، ثم الاستدلال عليها بما جاء بعريضة
الالتماس تعده المحكمة تهاترًا وشغبًا في أمر بديهي، ومثله مكابرة مردود من ذاته لا
يستحق التفاتًا.
وحيث إن حكم محكمة الاستئناف لم يُبنَ إلا على أن المستأنف أنكر لشبهة
غير صحيحة أمرًا نظريًّا ليس من الأصول المعلومة ضرورة، كما هو صريح في
أسباب ذلك الحكم , ولا دخل فيه مطلقًا لما قرره المستأنف بالجلسة، فالقول: إن ما
حصل منه أمر زائد لم يفصل فيه ابتدائيًّا، وجعل ذلك من أسباب الالتماس - قول
صادر بلا روية، ومما ذكر كله وما تبين في أسباب الحكم المستأنف، ومن الرجوع
إلى الكتب التي أخذت منها أسبابه، وإلى كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام
والزندقة) للإمام الغزالي - رضي الله عنه - يرى أن ما حكمت به محكمة
الاستئناف هو ما يجب الحكم به شرعًا، ويتعين لما ذكر رفض هذا الالتماس
موضوعًا عملاً بالفقرة الثانية من المادة 331 قانون نمرة 31 سنة 1910.
فبناءً عليه، تقرر قبول هذا الالتماس شكلاً وفي الموضوع برفضه وعدم
قبوله اهـ.
(المنار)
نشكر للقاضي الفاضل تصريحه بما ظهر له من أن هذه القضية لم تكن
صادرةً عن غيرة على الدين، ولا حرص على أعراض المسلمين، وإنما هي أحقاد
نفسية أثارها الحسد، وإلا فما بالنا لم نر أحدًا من هؤلاء المكفرين لأهل الصلاح
والإصلاح من المسلمين، لا يدافعون عن الإسلام بالإنكار على من يدعون إلى ترك
جميع نصوصه حتى نصوص الكتاب والسنة والإجماع بجميع أنواعه، وتفضيل ما
يضعونه هم من القوانين عليها كالذين يرد عليهم المنار من رجال القضاء الأهلي،
ولا بالإنكار على المستبيحين لجميع الفواحش والمنكرات؟
__________
(1) يعني بالمذكرة رسالةً كتبها في المسألة بيَّن فيها خلاف العلماء وطبعها.(21/49)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجم المنار
والجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين
بدأنا بهذا الجزء في ربيع الأول، واضطررنا إلى تأخيره زهاء شهرين، وقد
زدنا فيه كراستين على ما قبله ونرجو أن نزيد فيما يصدر بعد الجزء الثالث إذا ورد
ورق جديد على مصر في هذه المدة، وأن يصدر مطردًا بلا انقطاع، وقد أخرنا
المقالة الرابعة من مقالات (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ولعلها تنشر في الجزء
التالي له مع ترجمة (باحثة البادية) وتأبينها وشيء من تقريظ المطبوعات الحديثة.
__________(21/56)
جمادى الآخرة - 1337هـ
مارس - 1919م(21/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المتفرنجون والإصلاح الإسلامي [*]
(4)
قد بينا في المقالة الثانية رأي أحمد صفوت أفندي [1] في الكتاب والسنة
والإجماع والقياس من أصول الشريعة , وتكلمنا في المقالة الثالثة على أصلي
الإجماع والقياس، وأرجأنا الكلام على الأصلين الأولين بالتفصيل إلى هذه المقالة
فنقول:
أحكام السنة
ملخص ما نقلناه من خطبة الرجل في أحكام السنة (ص407 م20) أنها
قسمان: خاص: وهو ما كان من قبيل أحكام المحاكم في القضايا الفردية , وعام:
وهو ما كان من قبيل القواعد والقوانين لزمنه صلى الله عليه وسلم، وزعم أن كلاًّ
من القسمين قد ثبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكم الأمة وقاضيها ,
أي: لا بكونه رسول الله - تعالى - والمبلغ عنه، وأن لكل حاكم يجيء بعده حق
الحكم والتشريع الذي كان له في الأحكام المدنية، وله أن يغير ويلغي من تلك
الأحكام ما يرى مصلحة الناس في تغييره وإلغائه.
ونقول: إن هذا الذي قرره مخالف لما جرى عليه المسلمون منذ ظهر الإسلام
إلى هذا اليوم، فهو مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، وخروج عن
إجماعهم الحقيقي، لا العرفي عند الأصوليين فقط، ولكنه يقرره بصفته مسلمًا كما
قال، وقد علم مما بيناه في المقالة الثالثة مكانه من الإسلام.
أما المسلمون فهم متفقون على أن الحكم لله وحده {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام: 57) وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله تعالى، وأُمر
أن يحكم بين الناس بما أراه الله فيما أنزل الله من الكتاب والميزان، والمراد
بالميزان: العدل والقسط، والموازنة بين أحكام النصوص في القياس والرأي، قال
تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48) الآية، وقال:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105)
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: 17)
وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25) وقال تبارك اسمه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقد أمر الله المؤمنين بما أمر
به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقال: {وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي: ولا يكسبنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو
بغضكم لهم، جريمة ترك العدل فيهم، بل يجب أن تعدلوا فيمن تبغضون ومن
يعاديكم، كما يجب أن تعدلوا فيمن يحبكم وفيمن توالون على سواء، فالعدل
واجب لذاته لا يختلف باختلاف من يحكم بينهم ومن يعاملون.
قلنا: إن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لله وحده , أي: هو له لذاته؛ لأنه
هو رب العباد الذي يعلم ما فيه الخير والمصلحة لهم، والذي يجب عليهم الخضوع
والانقياد له، ولهم العز والشرف في ذلك، وليس لبشر أن يعلو على جماعة البشر،
فيكون سيدًا مسيطرًا عليهم بقوته أو عصبيته رضوا أم سخطوا؛ لأن هذا ذل وعبودية
لا تجب عليهم إلا لربهم وخالقهم، ولذلك جعل الله الرسل معلمين هادين، لا جبارين
ولا مسيطرين.
وقد اختلف العلماء في أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: هل كانت كلها
بوحي من الله، أم كان بعضها بالاجتهاد والقياس؟ وهل أذن الله له أن يحكم برأيه فيما
لم يُوحَ إليه فيه شيء لا بالنص ولا بالاقتضاء أم لا؟ وقد جعل الله تعالى أمر المؤمنين
شورى بينهم، حتى إنه أمر الرسول نفسه بمشاورتهم في الأمر، وإنما أوجب عليهم
طاعة أولي الأمر منهم بالتبع لطاعة الله ورسوله، فلا يطاع أحد منهم في
معصيته و (إنما الطاعة بالمعروف) كما ثبت في الحديث الصحيح [2] ، بل قال
تعالى في آية المبايعة للرسول: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12)
وبهذا يعلم الفرق بين طاعة الرسول وطاعة غيره من أولي الأمر، وقد فصلنا ذلك في
تفسير {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) [3] فما
قرره أحمد أفندي صفوت من مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم بغيره من
الملوك والسلاطين في التشريع - باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله
وإجماع المسلمين , وكذا للمعقول، فطاعة الرسول من أصول الإيمان، واستحلال
مخالفته والقول بنسخ آحاد الحكام لأحكامه وشرعه، كفر صريح، بل يشترط
في صحة الإيمان الإذعان لحكمه والرضا به ظاهرًا وباطنًا {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً} (النساء: 65) [4] .
هذا وإننا نرى هؤلاء المتفرنجين يقتدون بأئمتهم الإفرنج في كل شيء ضار،
ولا يقتدون بهم في احترام سلفهم من رجال القانون والمشترعين ورؤساء الحكام ,
وناهيك بالإنكليز والأمريكان منهم، فإنهم لا يزالون يحافظون على أقوال سلفهم،
وحكامهم ما لم يضطروا إلى تركها اضطرارًا، ومن ذلك ما يطرق مسامعنا كثيرًا
في هذه الأيام من تكرار مذهب (منرو) واستمساك أهل الولايات المتحدة بعروته
حتى إن منهم من يقاوم به مشروع جمعية الأمم الذي هو أشرف مشروع يعلو به قدر
أمتهم ورئيسهم إذا هو نجح في تنفيذه، وإلا كان الأمر بالعكس أو الضد. وتراهم
مع هذا يقولون: إنه يجب الوقوف به عند حد مذهب (منرو) الذي من مقتضاه:
عدم تدخل حكومتهم في شؤون العالم القديم في مقابلة عدم السماح بالتعرض لشؤون
العالم الجديد تحقيقًا لقول (منرو) (أمريكا للأمريكيين) أفليس كل من يوصف
بالإسلام أجدر بالاستمساك بأقوال نبيه من استمساك هؤلاء الناس بمن لا يساوي
قلامة ظفره من زعمائهم؟ أما إنه كان ينبغي ذلك المنسوب إلى دينه أو قومه ,
وإن لم يكن مؤمنًا به! إلا أنهم جهلوا الدين وفوائده الروحية والدنيوية، فأرادوا
التفلت منه مع البقاء على الاستفادة من الانتساب إليه، على ما تقدم بيانه في المقالة
الأولى.
وقد وقع في بعض ما نقلناه في المقالة الثانية من كلام أحمد صفوت أفندي: أن
الخروج عن السنة لمصلحة لا ينافي طاعة الرسول التي فرضها الله تعالى على
المؤمنين. وفيه أن دعوى الخروج للمصلحة يتوقف على معرفة السنة وجعلها
هي الأصل المتبع بعد كتاب الله تعالى , وعدم الخروج عن شيء منها إلا بعد أن يثبت
لأهل الحل والعقد من المؤمنين في بعض المسائل أنه عرض من أحوال العصر ما
يجعل العمل بالسنة في تلك المسألة مُخلاًّ بالمصلحة العامة , ومفضيًا إلى مفسدة
راجحة , أو حرج وعسر مما رفعه نص الكتاب العزيز بحيث يظهر لأهل الحل والعقد
أن ترك السنة - والحالة هذه - منطبق على القواعد الشرعية المقررة في إباحة
الضرورات للمحظورات وتقديرها بقدرها , وارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد
من أحدهما، ولكننا نرى هؤلاء المتفرنجين لا يدرسون شيئًا من كتب السنة ألبتة، بل
يقبلون ما يخالفها من المفاسد ويدْعون إليه , وينسخون به سننًا كثيرةً ونصوصًا في
كتاب الله صريحةً , كقاعدة الحرية الشخصية التي كررنا ذكرها في المقالات السابقة
من جهة إباحتها للزنا واستحسانه وإبطال أحكام شرعية كثيرة لأجله.
على أنه قال بعد ذلك عند الكلام على الكتاب: إن ما زاد عليه من سنة أو
إجماع، فحكمه الجواز: إن شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحةً في ذلك فله العدول
عنه. فجعل السنة وإجماع الأمة، كآراء أفراد الناس وأقوالهم، وإن كانوا من الجهال
والأنذال. فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من حيث وجدها، فهل وجدت أمة من أمم
الأرض تجعل أحكام أنبيائها وحكم حكمائها وإجماع علمائها وحكامها وزعمائها -
كآراء تحوت الناس وغوغائهم يتبع كل فرد فيها رأيه وهواه، فإن رأى مصلحةً له في
شيء منها كان له أن يأخذ به، وإن لم ير له فيه مصلحةً رده؟ أما إنه لو رزئ البشر
بمثل هذا الرأي الأفين من أول نشأتهم لكانوا أدنى منزلة من جميع أنواع الحيوان،
ولم يتكون منهم قبيلة ولا شعب ولا أمة؛ لأن الشعوب والأمم إنما تتكون بما يفعل
ماضيها في مستقبلها، وسنة الارتقاء فيها أن يبني الخلف على أساس السلف ,
فيحفظوا من الماضي أمثل ما اهتدى إليه العلماء والفضلاء , ويزيدوا عليه ما يزيد
مقومات الأمة ومشخصاتها قوةً وتمكينًا.
القرآن أصل الأصول للشريعة
جعل أحمد صفوت أفندي أحكام القرآن المجيد ثلاثة أقسام: المحرم ,
والواجب , والجائز. وقال: إن حكم الأول: أن لا يُتَعَرض له ولا يحكم بشيء
يخالفه في مرماه، ومثَّل له بتحريم نكاح الأم والأخت والجمع بين خمسة أزواج،
وحُكم الثاني: أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه، ومثل له بإيفاء
العدة والإشهاد على الزواج، وحكم الثالث: أن الإنسان مخير فيه، وأن لكل
حكومة أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء، ومثَّل له بتعدد الزوجات.
أما كلامه في حكم الأول - وهو ما حرمه الله في كتابه - فمجمل غامض؛ فإن
قوله: (ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه) يجعله كالقسم الثاني؛ لأن مرمى
الشيء هو الغرض الذي يقصد به , وهو عين حكمته، وإذا كان المراد مراعاة
حكمته دون نصه لا يبقى معنى لقوله: لا يتعرض له، وقد حرم الكتاب الربا والزنا
وجعل للزنا عقابًا بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) الآية، فهل يجعل هذا العقاب على فعل الزنا نفسه , أم على مرمى
تحريمه والغرض الذي حُرم لأجله؟ وما هو ذلك المرمى؟ هل لكل أحد من أفراد
الناس أو من رؤساء الحكام أن يعين ذلك المرمى ويعلق الحكم به؟ فإذا فهم أحد
الأفراد أن الغرض من تحريم الزنا ما يترتب عليه من ضرر اختلاط الأنساب, أو
التعادي بين الناس , أو قلة النسل , أو حدوث بعض الأمراض - فهل له أن يستبيح
منه ما يأمن هو ذلك الضرر فيه؟ وإذا اعترف بعض الناس للقاضي المسلم بالزنا
فهل يوقف إقامة الحد عليه حتى يعلم أن زناه قد ترتب عليه مرمى التحريم؟ وما
يقال في الزنا يقال في محرمات النكاح، كالأم والبنت والأخت، فقد يدّعي أفراد
المكلفين أو القضاة أن لذلك غرضًا ومرمى هو الذي تمتنع مخالفته , وأن التحريم
يزول بزواله، وعند ذلك يمكن استباحة جميع ما حرمه الله تعالى لمن شاء.
وأما حكم الثاني - وهو ما أوجبه الله تعالى في كتابه - فقد بين المراد من
بقاء ما تحقق به الحكمة المقصودة منه بالمثلين اللذين ذكرهما، وهو أن حكمة العدة
براءة الرحم من الحمل , وحكمة الإشهاد على الزواج إعلانه، قال: (فلا حرج
في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) وعَدَّ جعل عقد
الزواج رسميًّا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أكثر مدة الحمل على الطلاق مغنيًا عن
التقيد بالتربص ثلاثة قروء، وقد قلنا في المقالة الثانية: إنه يمكن الاستغناء عن
العدة ألبتة بناءً على قاعدته فيما إذا علم بطريقة فنية براءة الرحم من الحمل ,
كرؤيته خاليًا من الحمل بمثل الأشعة المعروفة بأشعة (رونتجن) .
ونقول: إن الإشهاد على عقد النكاح غير منصوص في الكتاب العزيز،
وإنما أمر في سورة الطلاق بالإشهاد على الرجعة وبت الطلاق , ولا شك في أن
أحمد صفوت أفندي لا يفرق بينهما في حكمه بالاستغناء عن الإشهاد بجعل ما ذكر
رسميًّا مهما تكن حكمة الأمر به، وجمهور أهل السنة على أن هذا الإشهاد مستحب
لا واجب , وأن الإشهاد على عقد النكاح واجب وشرط لصحة العقد، وقد ينازع
في زعمه أن جعل العقد رسميًّا يغني عن الإشهاد، فإن فائدة الإشهاد أن يعلم الناس
بأن زيدًا تزوج، فلا يتهمه أحد بأنه يعاشر امرأة بالفسق، وجعل الزواج رسميًّا لا
يترتب عليه هذه الفائدة؛ لأنه قد يحصل بعلم كاتب العقد وحده.
ثم إنه على تقدير قبول قاعدته الفاسدة ينازع بما زعم أنه هو حكمة العدة، فإن
للعدة عدة حكم وفوائد منها ما هو غير مطرد، وهو ظهور براءة الرحم فإنه خاص
بالحائل المستعدة للحمل , وقد أوجب الله العدة على غير المستعدة له كالصغيرة
واليائسة، ومنها ما هو مطرد كحفظ كرامة الزوج الأول , والتوسعة على المطلق
في الوقت الذي يمكن أن يؤاخذ فيه نفسه لعله يراجع، وبهذا نعلم شيئًا آخر من
مفاسد القاعدة، وهو تحكم الأهواء في اختراع الحِكم التي تراعى ويحافظ عليها
في الأحكام التي أوجبها كتاب الله، فإذا أخطأ الناس في معرفة الحكمة نكون قد
تركنا حكم ربنا لوهم جهلي تراءى لهم {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (الكهف: 50)
وأهواؤهم هذه ليس لها أساس ثابت من الحق ولا من الفضيلة , وما يسمونه
المصلحة تابع للهوى أيضًا، فإن أصل التشريع الأعظم عندهم أن تكون الأحكام
موافقةً لعادات الأمة وأحوالها التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا هم لم
يقفوا عند عقائد الدين وفضائله , ولا غيره من مقومات الأمة السابقة كما علمنا من
أقوالهم وأفعالهم - فلا يبعد أن يُحللوا ما أشرنا إليه آنفًا من نكاح البنات
والأخوات !! فقد نُقل عن بعض كبرائهم الزنا ببنته وأمثال ذلك، وحَكَم قاضٍ من
قُضاتهم في هذه البلاد منذ سنين قليلة ببراءة أستاذ من أساتذتهم في المدارس
الأميرية تصبَّى امرأة متزوجة بما يفتنها عن زوجها , ويزري بكرامتها بمثل قوله
لها في الطريق العام: إن جمالها حرم عليه نوم الليل! ! وعلل القاضي المتفرنج
حكمه بالبراءة بأن الأستاذ لم يأت شيئًا نكرًا , وأن ما صدر عنه ليس إلا الإعجاب
بالحسن والجمال، وهو من آيات الارتقاء في الذوق والخيال، الذي هو منتهى
الكمال! ! وقد اضطربت البلاد لهذا الحكم , ولهجت الجرائد باستهجانه والإنكار
عليه، ونحمد الله أن أبطلته محكمة الاستئناف، فأرضت الصيانة والعفاف.
وأما حكم الثالث - وهو ما جعله القرآن جائزًا - فقد بينه أيضًا، وجعله كأن
لم يكن , فأما كون الأفراد مخيرين فيه عملاً فصحيح، وأما كون الحكام يجوز لهم
أن يحرموا منه ما شاءوا فباطل، إذ ليس الحكام أربابًا حتى يحللوا ويحرموا على
الناس بمحض مشيئتهم، فما أحله الله فليس لأحد أن يحرمه إلا بإذن من الله عز
وجل {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل: 116) والله
أرحم بعباده من أنفسهم، فهو لم يحرم عليهم إلا ما هو خبيث ضار , ولم يحل لهم
إلا ما هو طيب نافع، كما قال تعالى في وصف رسوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) فإذا عرض من حوادث الزمن ما
يجعل بعض الحلال ضارًّا وبعض الحرام ضروريًّا، تغير الحكم بحسب ذلك
العارض وعلى قدره، فقد قال تعالى بعد تحريم محرمات الطعام: {إِلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) فالضرورات تبيح المحظورات وتحظر
المباحات، ولكنها تقدر بقدرها، والرأي في ذلك لأولي الأمر من الأمة , وهم أهل
الحل والعقد ورجال الشورى في المصالح العامة، ويجب على الحكام أن يحكموا
بما يستنبطونه لهم من أمثال هذه الأحكام التي تختلف باختلاف الزمان والمكان،
ومثلهم نواب الأمة عند أمم الحضارة في هذا العصر.
وخلاصة ما يقترحه هذا المتفرنج من الإصلاح في أحكام كتاب الله: أن ما
أحله الله للناس، فلكل حاكم أن يحرمه عليهم إذا شاء، وما حرمه عليهم تراعى فيه
حكمة التحريم بحسب فهم الناس لها، ولهم أن يفعلوا المحرم إذا كان فعله لا يبطل
تلك الحكمة، وكذا ما أوجبه عليهم فليس عليهم إلا ترك الحكم بما يخالف مرماه،
وغرضه من الإيجاب لا نفس الواجب، وصرح بهذه النتيجة في الأقسام الثلاثة
بقوله عقب التصريح بالاستغناء عن عدة النساء والشهادة على عقد النكاح بقوله:
(وبذلك ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ القانونية الواردة في
القرآن) .
وهذا نص صريح في ترك أحكام القرآن كلها، وعدم الرجوع إلى شيء منها
لا للعمل بها ولا للاستنباط منها، ويكفي المسلمين - على هذا الرأي - أن يجمع مثل
أحمد صفوت أفندي ما يفهمه من مرامي الواجبات وحِكم المحرمات في عدة مسائل
أو قواعد تذكر في مقدمات القوانين الوضعية , أو تجعل شروطًا لبعض أحكامها،
كأن يقال: يشترط في صحة زواج المطلقة أو المتوفى زوجها أن لا تكون حاملاً
من الزوج الأول.
ومن المعلوم بالضرورة أن هذا القانوني الذي تصدى لإصلاح شريعة الإسلام
باسم الإسلام يقول بوجوب التقيد بالمعاني الحرفية للقوانين الوضعية التي وضعها
الإفرنج لمصر، فهي مفضلة عنده وعند أمثاله على كتاب الله تعالى، وليس هذا
بعجيب منه , ولكن العجيب الذي ليس وراءه عجب أن يخطب خطبةً في جمهور
كبير من رجال القانون بمصر يدعو فيها المسلمين باسم الإسلام إلى نبذ جميع
أحكام كتاب ربهم وسنة رسولهم وإجماع أمتهم وفقه جميع أئمتهم، ويسمي ذلك
إصلاحًا لشريعتهم ومبدأً لترقيتهم، ثم يطبع ذلك وينشره بين الناس , فيقره جمهور من
رجال القضاء ويسكت عنه الكتاب والعلماء، وحسب هؤلاء تكفير بعضهم بعضًا
بالمسائل الخلافية، ككون الحجة على نبوة آدم وأبوته للناس ظنيةً أو قطعيةً، وإلى
الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(*) تابع لما في المجلد العشرين.
(1) وكيل نيابة الدلنجات بالأمس والسكرتير القضائي لفلسطين اليوم.
(2) رواه أحمد والشيخان , وغيرهما من حديث علي.
(3) براجع تفسيرها في ص 180 - 222 من ج 5 من التفسير.
(4) راجع تفسيرها في ص 232 ج 5 ت.(21/73)
الكاتب: محمد عبده
__________
انتشار الإسلام بسرعة
لم يُعهد لها نظير في التاريخ
هذا فصل من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام - أكرم الله مثواه - قال:
كانت حاجة الأمم إلى الإصلاح عامةً، فجعل الله رسالة خاتم النبيين عامةً
كذلك، لكن يدهش عقل الناظر في أحوال البشر عندما يرى أن هذا الدين يجمع
إليه الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين سنة، ثم يتناول من بقية
الأمم ما بين المحيط الغربي وجدار الصين في أقل من قرن واحد، وهو أمر لم
يعهد في تاريخ الأديان، ولذلك ضل الكثير في بيان السبب، واهتدى إليه المنصفون،
فبطل العجب.
ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان، ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى
حق من باطل، أوذي الداعي صلى الله عليه وسلم بضروب الإيذاء، وأقيم في
وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له
وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسفكت منهم دماء غزيرة، غير أن تلك
الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر، يثبت الله بمشهدها المستيقنين،
ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب،
وهي ذوب ما فسد من طباعهم، فتجري من مناحرهم جري الدم الفاسد من
المفصود على أيدي الأطباء الحاذقين في جهنم {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ
الخَاسِرُونَ} (الأنفال: 37) .
تألبت الملل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على
الإسلام؛ ليحصدوا نبتته، ويخنقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف
للأقوياء , والفقير للأغنياء , ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل والرشد في
ظلمات الأضاليل، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة، وقد وطئ أهل الجزيرة أقوام
من أديان كانت تدعو إليها، وكانت لهم ملوك وعزة وسلطان , وحملوا الناس
على عقائدهم بأنواع من المكاره , ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي نجاحًا، ولا أنالهم
القهر فلاحًا.
ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة لم يعرفها تاريخهم، ولم يعهد لها
نظير في ماضيهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته بأمر ربه إلى من
جاور البلاد العربية من ملوك الفرس والرومان، فهزأوا وامتنعوا وناصبوه وقومه
الشر، وأخافوا السابلة وضيقوا على المتاجر، فغزاهم بنفسه وبعث إليهم البعوث في
حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلبًا للأمن وإبلاغًا للدعوة، فاندفعوا
في ضعفهم وفقرهم يحملون الحق على أيديهم وانهالوا به على تلك الأمم في قوتها
ومنعتها وكثرة عددها واستكمال أهبتها وعددها، فظفروا منها بما هو معلوم، وكانوا
متى وضعت الحرب أوزارها واستقر السلطان للفاتح عطفوا على المغلوبين بالرفق
واللين، وأباحوا لهم البقاء على أديانهم وإقامة شعائرها آمنين مطمئنين، ونشروا
حمايتهم عليهم يمنعونهم مما يمنعون منه أهلهم وأموالهم، وفرضوا عليهم كفاء ذلك
جزءًا قليلاً من مكاسبهم على شرائط معينة.
كانت الملوك من غير المسلمين إذا فتحوا مملكةً أتبعوا جيشها الظافر بجيش
من الدعاة إلى دينها، يلجون على الناس بيوتهم , ويغْشون مجالسهم ليحملوهم على
دين الظافر، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين،
ولم يعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة
يأخذون على أنفسهم العمل في نشره، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير
المسلمين، بل كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم ومجاهدتهم في المعاملة ,
وشهد العالم بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملةً المغلوبين فضلاً وإحسانًا عندما كان
يعدها الأوربيون ضعةً وضعفًا.
رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع
الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير
المسلم، بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام مِن داخلٍ فيه إلا بين يدي
قاضٍ شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا. وصل
الأمر في عهد بعض الخلفاء الأمويين أن كَرِه عمالهم دخول الناس في دين الإسلام
لما رأوا أنه ينقص من مبالغ الجزية، وكان في حال أولئك العمال صد عن سبيل
الدين لا محالة، ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز بتعزير مثل أولئك العمال [1] .
عرف خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب، بل
وغيرهم من المهارة في كثير من الأعمال، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى
المناصب حتى كان منهم من تولى قيادة الجيش في أسبانيا. اشتهرت حرية الأديان
في بلاد الإسلام حتى هجر اليهود أوربا فرارًا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس
وغيرها.
هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم، لم يفعلوا
شيئًا سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته، وألقوا بذلك بين أيديهم
وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه، ولم يقوموا بينهم بدعوة، ولم يستعملوا
لإكراههم عليه شيئًا من القوة، وما كان من الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من
ضربت عليه، فما الذي أقبل بأهل الأديان المختلفة على الإسلام، وأقنعهم أنه الحق
دون ما كان لديهم حتى دخلوا فيه أفواجًا، وبذلوا في خدمته ما لم يبذله له العرب
أنفسهم؟ .
ظهور الإسلام على ما كان في جزيرة العرب من ضروب العبادات الوثنية،
وتغلبه على ما كان فيها من رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال، وسَيره بسكانها على
الجادة القويمة - حقق لقراء الكتب الإلهية السابقة أن ذلك هو وعد الله لنبيه إبراهيم ,
وإسماعيل وتحقيق استجابة دعاء الخليل {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (البقرة: 129) وأن هذا الدين هو ما كانت تبشر به الأنبياءُ أقوامَها مِن بعدهم،
فلم يجد أهل النصفة منهم سبيلاً إلى البقاء على العناد في مجاحدته، فتلقوه شاكرين
وتركوا ما كان لهم بين قومهم صاغرين، أوقع ذلك من الريب في قلوب مقلديهم ما
حركهم إلى النظر فيه، فوجدوا لطفًا ورحمةً وخيرًا ونعمةً، لا عقيدة ينفر منها العقل
- وهو رائد الإيمان الصادق - ولا عمل تضعف عن احتماله الطبيعة البشرية، وهي
القاضية في قبول المصالح والمرافق، رأوا أن الإسلام يرفع النفوس بشعور من
(اللاهوت) يكاد يعلو بها عن العلم السلفي ويلحقها بالملكوت الأعلى ويدعوها إلى
إحياء ذلك الشعور بخمس صلوات في اليوم، وهو مع ذلك لا يمنع من التمتع
بالطيبات، ولا يفرض من الرياضات وضروب الزهادة ما يشق على الفطرة البشرية
تجشمه، ويَعِد برضا الله ونيل ثوابه حتى في توفية البدن حقه، متى حسنت النية
وخلصت السريرة، فإذا نزت شهوة أو غلب هوى كان الغفران الإلهي ينتظره متى
حصلت التوبة وكملت الأوبة. تبدت لهم سذاجة الدين عندما قرأوا القرآن ونظروا في
سيرة الطاهرين من حامليه إليهم، وظهر لهم الفرق بين ما لا سبيل إلى فهمه، وما
تكفي جولة نظر في الوصول إلى علمه [*] فتراموا إليه خفافًا من ثقل ما كانوا
عليه.
كانت الأمم تطلب عقلاً في دين فوافاها، وتتطلع إلى عدل في إيمان فأتاها،
فما الذي يحجم بها عن المسارعة إلى طلبتها والمبادرة إلى رغيبتها؟ كانت
الشعوب تئن من ضروب الامتياز التي رفعت بعض الطبقات على بعض بغير حق،
وكان من حكمها أن لا يقام وزن لشؤون الأدنين، متى عرضت دونها شهوات
الأعلين، فجاء دين يحدد الحقوق ويسوي بين جميع الطبقات في احترام النفس
والدين والعِرض والمال، ويسوغ لامرأة فقيرة غير مسلمة أن تأبى بيع بيت صغير
بأية قيمة لأمير عظيم مطلق السلطان في قطر كبير، وما كان يريده لنفسه، ولكن
ليوسع به مسجدًا، فلما عقد العزيمة على أخذه مع دفع أضعاف قيمته رفعت الشكوى
إلى الخليفة، فورد أمره برد بيتها إليها مع لوم الأمير على ما كان منه !! عدل يسمح
ليهودي أن يخاصم مثل علي بن أبي طالب أمام القاضي، وهو من نعلم من هو،
ويستوقفه معه للتقاضي إلى أن قضى الحق بينهما، هذا وما سبق بيانه مما جاء به
الإسلام هو الذي حببه إلى من كانوا أعداءه، ورد إليه أهواءهم حتى صاروا
أنصاره وأولياءه.
غلب على المسلمين في كل زمن روح الإسلام، فكان من خلقهم العطف على
من جاورهم من غيرهم، ولم تستشعر قلوبهم عداوةً لمن خالفهم إلا بعد أن يحرجهم
الجار، فهم كانوا يتعلمونها ممن سواهم، ثم لا يكون إلا طائفًا يحل ثم يرتحل، فإذا
انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب إلى سابق ما ألفته من اللين والمياسرة،
ومع ذلك - بل وغفلة المسلمين عن الإسلام , وخذلانهم له وسعي الكثير منهم في هدمه
بعلم وبغير علم - لم يقف الإسلام في انتشاره عند حد، خصوصًا في الصين وفي
أفريقيا، ولم يخل زمن من رؤية جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع إلى الأخذ
بعقائده على بصيرة فيما تنزع إليه، لا سيف وراءها ولا داعي، وإنما هو مجرد
الاطلاع على ما أُودِعه، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه، ومن هذا
تعلم أن سرعة انتشار الدين الإسلامي وإقبال الناس على الاعتقاد به من كل ملة،
إنما كان لسهولة تعقله ويسر أحكامه وعدالة شريعته، وبالجملة لأن فطر البشر تطلب
دينًا وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها وأقرب إلى قلوبها ومشاعرها، وأدعى إلى
الطمأنينة في الدنيا والآخرة، ودين هذا شأنه يجد إلى القلوب منفذًا وإلى العقول
مَخلَصًا بدون حاجة إلى دعاة ينفقون الأموال الكثيرة والأوقات الطويلة ويستكثرون من
الوسائل ونصب الحبائل لإسقاط النفوس فيه، هذا كان حال الإسلام في سذاجته الأولى
وطهارته التي أنشأه الله عليها، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف
الأرض إلى اليوم.
قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يعطف على
قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن
بإحدى اليدين والسيف بالأخرى، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل
السيف بينه وبين حياته، سبحانك هذا بهتان عظيم! ما قدمناه من معاملة المسلمين
مع من دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل
الريبة في جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما شهر المسلمون سيوفهم
دفاعًا عن أنفسهم، وكفًّا للعداون عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك
ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم، فكان الحوار
طريق العلم بالإسلام، وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه.
لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به
مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة، مع كثرة الجيوش
ووفرة العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها، وابتدأ ذلك العمل قبل
ظهور الإسلام بثلاثة قرون كاملة , واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة
أجيال أو يزيد، فتلك عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر
مبلغ الإسلام في أقل من قرن، هذا ولم يكن السيف وحده، بل كان الحسام لا
يتقدم خطوة إلا والدعاة من خلفه، يقولون ما يشاءون تحت حمايته، مع غيرة
تفيض من الأفئدة، وفصاحة تتدفق عن الألسنة, وأموال تخلب ألباب المستضعفين،
إن في ذلك لآيات للمستيقنين.
جلت حكمة الله في أمر هذا الدين ! سلسبيل حياة نَبَعَ في القفار العربية، أبعد
بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فأحياها حياةً شعبيةً مليةً، علا مدةً حتى
استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها، وتعلو أهل الأرض بمدنيتها،
زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح، فانشقت عن مكنون سر
الحياة فيها، قالوا: كان لا يخلو مِن غَلَب (بالتحريك) قلنا: تلك سنة الله في الخلق!
لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي، قائمة في هذا العالم إلى أن
يقضي الله قضاءه فيه، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيي ميتها وينقع غلتها
وينمي الخصب فيها، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة فعلاها، أو بيت
رفيع العماد فهوى به؟
سطع الإسلام على الديار التي بلغها أهله، فلم يكن بين أهل تلك الديار وبينه
إلا أن يسمعوا كلام الله ويفقهوه، واشتغل المسلمون بعضهم ببعض زمنًا، وانحرفوا
عن طريق الدين أزمانًا، فوقف وقفة القائد خذله الأنصار وكاد يتزحزح إلى ما
وراءه، لكن الله بالغ أمره، فانحدرت إلى ديار المسلمين أمم من التتار يقودها
جنكيز خان، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل، وكانوا وثنيين جاءوا لمحض الغلبة
والسلب والنهب، ولم يلبث أعقابهم أن اتخذوا الإسلام دينًا، وحملوه إلى أقوامهم
فعمَّهم منه ما عم غيره، جاءوا لشقوتهم فعادوا بسعادتهم.
حمل الغرب على الشرق حملةً واحدةً، لم يَبْقَ ملك من ملوكه ولا شعب من
شعوبه إلا اشترك فيها، واستمرت المجالدات بين الغربيين والشرقيين أكثر من
مائتي سنة جمع فيها الغربيون من الغيرة والحمية للدين ما لم يسبق لهم من قبل،
وجيشوا من الجند , وأعدوا من القوة ما بلغته طاقتهم، وزحفوا إلى ديار المسلمين،
وكانت فيهم بقية من روح الدين، فغلب الغربيون على كثير من البلاد الإسلامية،
وانتهت تلك الحروب الجارفة بإجلائهم عنها، لمَ جاءوا , وبماذا رجعوا؟ ظفر
رؤساء الدين في الغرب بإثارة شعوبهم؛ ليبيدوا ما يشاءون من سكان الشرق، أو
يستولي سلطان تلك الشعوب على ما يعتقدون لأنفسهم الحق في الاستيلاء عليه من
البلاد الإسلامية، جاء من الملوك والأمراء وذوي الثروة وعلية الناس جم غفير،
وجاء ممن دونهم من الطبقات ما قدروه بالملايين، استقر المقام لكثير من هؤلاء
في أرض المسلمين، وكانت فترات تنطفئ فيها نار الغضب , وتثوب العقول إلى
سكينتها تنظر في أحوال المجاورين، وتلتقط من أفكار المخالطين، وتنفعل بما
ترى وما تسمع , فتبينت أن المبالغات التي أطاشت الأحلام وجسمت الآلام، لم
تُصِب مستقر الحقيقة , ثم وجدت حريةً في دين، وعلمًا وشرعًا وصنعةً مع كمال
في يقين، وتعلمت أن حرية الفكر وسعة العلم من وسائل الإيمان لا من العوادي
عليه، ثم جمعت من الآداب ما شاء الله، وانطلقت إلى بلادها قريرة العين بما
غنمته من جلادها، هذا إلى ما كتبه السفار من أطراف الممالك إلى بلاد الأندلس
بمخالطة حكمائها وأدبائها، ثم عادوا به إلى شعوبهم ليذيقوهم حلاوة ما كسبوا ,
وأخذت الأفكار من ذلك العهد تتراسل، والرغبة في العلم تزايد بين الغربيين،
ونهضت الهمم لقطع سلاسل التقليد، ونزعت العزائم إلى تقييد سلطان زعماء
الدين، والأخذ على أيديهم فيما تجاوزوا فيه وصاياه وحرفوا في معناه، ولم يكن
بعد ذلك إلا قليل من الزمن حتى ظهرت طائفة منهم تدعو إلى الإصلاح والرجوع
بالدين إلى سذاجته، وجاءت في إصلاحها بما لا يبعد عن الإسلام إلا قليلاً، بل
ذهب بعض طوائف الإصلاح في العقائد إلى ما يتفق مع عقيدة الإسلام إلا في
التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما هم عليه إنما هو دينه يختلف
عنه اسمًا، ولا يختلف معنًى إلا في صورة العبادة لا غير.
ثم أخذت أمم أوربا تفتَكُّ مِن أسرها، وتصلح من شؤونها، حتى استقامت
أمور دنياها على مثل ما دعا إليه الإسلام، غافلةً عن قائدها، لاهيةً عن مرشدها،
وتقررت أصول المدنية الحاضرة التي تفاخر بها الأجيال المتأخرة ما سبقها من أهل
الأزمان الغابرة.
هذا طَلٌّ من وابله أصاب أرضًا قابلةً فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج
بهيج، جاء القوم ليبيدوا فاستفادوا وعادوا ليفيدوا، ظن الرؤساء أن في إهاجة شعوبهم
شفاء ضغنهم وتقوية ركنهم، فباءوا بوضوح شأنهم وضعضعة سلطانهم , وما بيناه
في شأن الإسلام - ويعرفه كل من تفقه فيه - قد ظفر به كثير من أهل النظر في بلاد
الغرب، فعرفوا له حقه، واعترفوا أنه كان أكبر أساتذتهم فيما هم فيه اليوم، وإلى الله
عاقبة الأمور.
***
إيراد سهل الإيراد
يقول قائلون: إذا كان الإسلام إنما جاء لدعوة المختلفين إلى الاتفاق وقال
كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام:
159) فما بال الملة الإسلامية قد مزقتها المشارب، وفرقت بين طوائفها المذاهب؟
إذا كان الإسلام موحدًا فما بال المسلمين عددوا؟ إذا كان موليًّا وجه العبد وجهة
الذي خلق السموات والأرض، فما بال جمهورهم يولون وجوههم من لا يملك
لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستطيع من دون الله خيرًا ولا شرًّا، وكادوا يعدون ذلك
فصلاً من فصول التوحيد؟ إذا كان أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في
الأكوان وأطلق له العنان يجول في ضمائرها بما يسعه الإمكان، ولم يشرط عليه في
ذلك سوى المحافظة على عقد الإيمان، فما بالهم قنعوا باليسير، وكثير منهم أغلق
على نفسه باب العلم ظنًّا منه أنه قد يرضي الله بالجهل وإغفال النظر فيما أبدع
من محكم الصنع؟ ما بالهم وقد كانوا رسل المحبة أصبحوا اليوم وهم يتنسمونها ولا
يجدونها؟ ما بالهم بعد أن كانوا قدوة في الجد والعمل، أصبحوا مثلاً في القعود
والكسل؟ ما هذا الذي ألحق المسلمون بدينهم , وكتاب الله بينهم يقيم ميزان القسط
بين ما ابتدعوه وبين ما دعاهم إليه فتركوه؟ فإذا كان الإسلام في قربه من العقول
والقلوب على ما بينت فما باله اليوم - على رأي القوم - تقصر دون الوصول إليه
يد المتناول؟ إذا كان الإسلام يدعو إلى البصيرة فيه، فما بال قراء القرآن لا يقرؤونه
إلا تغنيًا، ورجال العلم بالدين لا يعرفه أغلبهم إلا تظنيًا؟
- إذا كان الإسلام منح العقل والإرادة شرف الاستقلال، فما بالهم شدوهما إلى
أغلال أي أغلال؟
- إذا كان قد أقام قواعد العدل , فما بال أغلب حكامهم يُضرَب بهم المثل في
الظلم؟
- إذا كان الدين في تشوف إلى حرية الأرقاء، فما بالهم قضوا قرونًا في استعباد
الأحرار؟
- إذا كان الإسلام يعد من أركانه حفظ العهود والصدق والوفاء، فما بالهم قد
فاض بينهم الغدر والكذب والزور والافتراء؟
- إذا كان الإسلام يحظر الغيلة، ويحرم الخديعة، ويوعد على الغش بأن
الغاش ليس من أهله، فما بالهم يحتالون على الله وشرعه وأوليائه؟
- إذا كان قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فما هذا الذي نراه بينهم في
السر والعلن والنفس والبدن؟
- إذا كان قد صرح بأن الدين النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، خاصتهم
وعامتهم وأن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر، وأنهم إن لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر سلط عليهم
شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم، وشدد في ذلك بما لم يشدد في غيره، فما
بالهم لا يتناصحون ولا يتواصون بحق، ولا يعتصمون بصبر، ولا يتناصحون في
خير ولا شر، بل ترك كل صاحبه، وألقى حبله على غاربه، فعاشوا أفذاذًا ,
وصاروا في أعمالهم أفرادًا، لا يحس أحدهم بما يكون من عمل أخيه، كأنه ليس
منه، وكأن لم تجمعه معه صلة، ولم تضمه إليه وشيجة؟
ما بال الأبناء يقتلون الآباء , وما بال البنات يعققن الأمهات؟ أين وشائج
الرحمة؟ أين عاطفة الرحم على القريب؟ أين الحق الذي فرض في أموال الأغنياء
للفقراء، وقد أصبح الأغنياء يسلبون ما بقي في أيدي أهل البأساء؟
قبس من الإسلام أضاء الغرب كما تقول، وضَوْؤه الأعظم وشمسه الكبرى
في الشرق , وأهله في ظلمات لا يبصرون! أصحَّ هذا في عقل أو عُهد في نقل؟
ألم تر إلى الذين تذوقوا من العلم شيئًا وهم من أهل هذا الدين أول ما يعلق بأوهام
أكثرهم أن عقائده خرافات وقواعده وأحكامه ترهات، ويجدون لذتهم في التشبه
بالمستهزئين ممن سموا أنفسهم أحرار الأفكار وبعداء الأنظار، وإلى الذين قصروا
هممهم على تصفح أوراق من كتبه، ووسموا أنفسهم بأنهم حفاظ أحكامه القوَّام على
شرائعه، كيف يجافون علوم النظر ويهزءون بها، ويرون العمل فيها عبثًا في
الدين والدنيا، ويفتخر الكثير منهم بجهلها، كأنه في ذلك قد هجر منكرًا وترفع عن
دنيئة؟ فمن وقف على باب العلم من المسلمين يجد دينه كالثوب الخلق يستحي أن
يظهر به بين الناس، ومن غرته نفسه بأنه على شيء من الدين وأنه مستمسك
بعقائده، يرى العقل جِنة والعلم ظِنة، أليس في هذا ما يشهد الله وملائكته والناس
أجمعين على أن لا وفاق بين العلم والعقل وهذا الدين؟
الجواب
ربما لم يبالغ الواصف لما عليه المسلمون اليوم بل من عدة أجيال، وربما
كان ما جاء في الإيراد قليلاً من كثير، وقد وصف الشيخ الغزالي - رحمه الله -
وابن الحاج وغيرهما من أهل البصر في الدين ما كان عليه مسلمو زمانهم عامتهم
وخاصتهم بما حوته مجلدات، ولكن قد أتيت في خاصة الدين الإسلامي بما يكفي
للاعتراف به مجرد تلاوة القرآن مع التدقيق في فهم معانيه، وحملها على ما فهمه
أولئك الذين أنزل فيهم وعمل به بينهم، ويكفي في الاعتراف بما ذكرته من جميل
أثره قراءة ورقات في التاريخ على ما كتبه محققو الإسلام ومنصفو سائر الأمم،
فذلك هو الإسلام، وقد أسلفنا أن الدين هدى وعقل، من أحسن في استعماله والأخذ
بما أرشد إليه نال من السعادة ما وعد الله على اتباعه، وقد جرب علاج الاجتماع
الإنساني بهذا الدواء فظهر نجاحه ظهورًا لا يستطيع معه الأعمى إنكارًا، ولا
الأصم إعراضًا، وغاية ما قيل في الإيراد أن أعطى الطبيب المريض دواءً فصح
المريض , وانقلب الطبيب بالمرض الذي كان يعمل لمعالجته، وهو يتجرع
الغصص من آلامه والدواء في بيته وهو لا يتناوله، وكثير ممن يعودونه أو
يتشفون منه ويشمتون لمصيبته، يتناولون من ذلك الدواء فيعانون من مثل مرضه،
وهو في يأس من حياته , ينتظر الموت, أو تبدل سنة الله في شفاء أمثاله، كلامنا
اليوم في الدين الإسلامي وحاله على ما بينا, أما المسلمون وقد أصبحوا بسيرهم
حجةً على دينهم فلا كلام لنا فيهم الآن، وسيكون الكلام عنهم في كتاب آخر، إن
شاء الله.
(المنار)
جمع الأستاذ الإمام - رحمه الله - في هذا السؤال والجواب جملة مساوي
المسلمين المخالفة لهدي الإسلام , بين فيهما كليات محاسنه المفصلة في رسالة
التوحيد بعض التفصيل، ووعد ببيان تفصيل هذه المساوي في كتاب آخر ولكنه لم
يوفق لكتابته، على أنه جاء في كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)
بكثير مما أراد من ذلك.
__________
(1) شكا إليه عامله بمصر ذلك فأجابه (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث هاديًا, ولم يبعث جابيًا) .
(*) الأول كالجمع بين التثليث والتوحيد , والثاني عالم الغيب غير محال.(21/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مستقبل سورية وسائر البلاد العربية [*]
(5) خطب مؤسسي اتفاق سنتي 1916 و1917
خطبة مسيو بيكو في دمشق
ألقى موسيو بيكو معتمد فرنسا السامي في سورية هذه الخطبة في حفلة
أعدت له ولزميله السير مارك سيكس في النادي العربي بدمشق ونشرت
جرائدها ترجمتها , فنقلها المقطم في عدد 23 ربيع الآخر- 25 يناير (ك2)
الماضي عن (المقتبس) الدمشقية، وهذا نصها:
أيها السادة
لم أكن أنتظر بعد أن قضيت أيامًا عديدةً وساعات كثيرةً في السفر على متن
القطارات والسيارات أن أصل إلى دمشق فأشهد هذه الحفلة الجميلة التي ضمت خير
الرجال والشبان، بيْد أني لم أستغرب هذا الأمر من صديقي السير مارك سايكس الذي
عودني أن يفاجئني بهكذا حفلات مستغنمًا هذه الفرصة التي سنحت لأهنئ الحكومة
العربية بما نالته من الاستقلال الذي جاهدت الأمة العربية وقاتلت في سبيله.
انضمت الحكومة العربية إلى الحلفاء زمن الحرب وقاتلت معهم لكونها عرفت
قدسية المبدأ الذي يقاتلون عنه، فهي بعملها هذا تستحق الشكر , وإنني باسم فرنسة
أشكر الأمة العربية والحكومة العربية لجهادهما.
انتهى دور الحرب , ودخلنا في دور جديد دور العمل والاجتهاد , ولا أظن أن
الدور الجديد يقل في خطورة شأنه عن دور الحرب، خصوصًا وأن أعداءنا وأعداءكم
لا يزالون موجودين، فلذلك يجب أن نكون متفقين متحدين.
أخذت برقيةً بالأمس من فرنسة جاء فيها أن الأمير فيصل قابل المسيو
كلمنصو مقابلةً طويلةً انتهت باتفاقهما على جميع المبادئ والآراء ولم يوجد بينهما
أثر من آثار الاختلاف.
اتحدنا زمن الحرب وعملنا معًا للوصول إلى النتيجة، فلذلك يجب أن لا يكون
اتحادنا وقتيًّا , بل ثابتًا وطيدًا لتنال الأمة العربية ثمرة أتعابها وتقطع مع دول الحلفاء
العقبات ويكون مبدأ تمدنها ورقيها.
إننا نرى في الزمن الحاضر زمن المذاكرات الصلحية كثيرًا من الأعداء
ونصادفهم أينما حللنا وذهبنا.
إن هؤلاء الأعداء أتراك يعملون للمصلحة التركية ولقد شاهدناهم يعملون
أعظم الأعمال في أوربة ضدي أنا والسير مارك سايكس.
شاهدناهم في دار نظارة الخارجية يقولون للفرنسويين: لا تؤمنوا للعرب
ولا تصدقوهم , ولا تنتظروا منهم أن يؤلفوا حكومةً , وسمعناهم يقولون للإنكليز:
لا تتفقوا مع الفرنسويين ولا تمدوا يدكم إليهم , ولا تساعدوا العرب. فلذلك يجب
أن نعرف هؤلاء الدساسين فيما يتكلمون به.
قال أحد الخطباء: إننا الآن في دور جديد وعلينا واجبات جمة. لقد صدق أيها
السادة فإن الأمم التي كافحت مع العرب للوصول إلى هذه النتيجة نتيجة الظفر
القطعي , قد ولد فيها فكر جديد وشعور جديد لم يكونا لها من قبل، ذلك الشعور
شعور الاستقلال والحرية للأمم.
يجب أن تقاوموا كل من يخالف هذا المبدأ إن كان تاجرًا يعمل لرواج سلعته ,
أو صحافيًّا يشتغل لترويج صحيفته , وأن تُدكُّوا كل المصاعب والعقبات التي تحول
دون اتفاق الشعوب العربية , أي: كل من ينطق بالعربية؛ لأن الأديان لا تكون
مانعة للاتحاد , ولا تسمعوا للمفسدين الذين يحاولون تفريق وحدتكم وكلمتكم.
إن فرنسا لم تخُض غِمار هذه الحرب لصد دعاية الألمان عن بلادها فقط، بل
لتأييد مبدأ الحرية والاستقلال , ولنرى كل أمة تعيش متمتعةً بالاستقلال وأن يكون
لها الحق باختيار طريقة الحكم الذي تريده.
التحابُّ مطلوب , وخصوصًا بين الأمم التي حاربت جنبًا لجنب , وإن فرنسا
لا تميل قط إلى الرجل الذي يأتيها ويقول لها: إني أحبك أكثر من وطني؛ لأنه
منافق لا يعرف أن يحب , فنرده ونقول له: اذهب وحب وطنك أولاً. وإن أعظم
سرور لفرنسا هو أن ترى الأمة العربية متحدةً متفقةً , والحكومة العربية مستقلةً ,
وإنها - أي: فرنسا - مستعدة لمساعدتها، وإذا كلفت أوربا فرنسا أن تساعد الحكومة
العربية فهي مستعدة لإيفائها بإخلاص , ويسرنا أن نرى الحكومة والأمة العربية
ناجحةً ناميةً بإذن الله اهـ.
***
خطبة السير مارك سيكس في دمشق
وألقى السير مارك سيكس خطبة في تلك الحفلة نفسها , وقد نقل المقطم ترجمتها
في عدد 25 ربيع الآخر 27 يناير عن جريدة البلاغ البيروتية الغراء وهو:
يا سعادة الحاكم , ويا حضرات المجتمعين: سأتكلم بصعوبة هذه الليلة، فقد
سمعت أمرين أوقعاني في الاضطراب , فالأمر الأول: أنني سمعت أحد الخطباء
يقص على حضراتكم تاريخ حياتي , ويظهر أنه حفظ شيئًا منه حتى خشيت أن
يتكلم عن سيئاتي , ولكنني أقول بكل ارتياح: إن معلوماته كانت قاصرة من هذه
الجهة، والأمر الذي أحرج مركزي ذكره أنني طفت البلاد العربية التي تبلغ
مساحتها 7000 ميل ولا أقدر أن أخطبكم باللغة العربية، ووصفني خطيب آخر
بالبطل الساكت وهذا الوصف جيد ومطابق جدًّا إذا كان موجهًا لقائد عسكري، ولا
يكون مطابقًا إذا نعت به أحد السياسيين؛ لأن السياسي متكلم بالطبع.
لا أفيد الشرق بهذا الكلام، وإنني أريد أن ألقي عليكم أمرًا هذه الليلة:
إن يومكم هذا يوم مشهود؛ إذ سيُفتح فيه مؤتمر الصلح (على ما أظن) الذي
ستقرر فيه أعمال مهمة , وتدبر فيه شؤون الكون لمدة قرنين.
منذ أربع سنين والحرب العامة تبتلع كبار العالم ومشاهيرهم وإننا نخون عهد
إخواننا الذين ذهبوا ضحيتها - ولا أظنهم يقلون عن 5 - 6ملايين- إذا لم نعمل
بتؤدة , لا فرق عندي في المحلات والأماكن التي لقوا بها حتفهم فالنتيجة واحدة
وهي مفارقتهم هذا العالم سواء قضى الفرنسوي بفرنسا , أو قضى البريطاني في
فلندر أو في العراق أو في هذه البلاد بلادكم، أو قضى ذلك البحري الذي كان
يقطع أجواز البحار وهو أعزل من السلاح يحمل الميرة إلى المحاربين في أنحاء
المعمورة، في البر أو البحر، أو من رجالكم الذين جاهدوا في سبيلكم، أو كانوا
من النساء والأولاد الذين أخرجوا من ديارهم في المدينة المنورة وأرمينية , وقتلوا
في الصحراء. فإن كل واحد من هؤلاء مات بسبب واحد ولغاية واحدة، وعلينا أن
نعتقد أن هؤلاء الأبرياء لم يكونوا سوى ضحية القصد الذي ماتوا في سبيله وهو أن
الشعوب المظلومة أيامها , وأن العالم ينال سلامًا عامًا دائمًا، تلك هي الغاية
العظمى التي ماتوا لأجلها، ولنأت الآن إلى تشريح أقسام هذه الغاية، ومنها ما هو
أمامنا.
هذه مدينتكم دمشق التي كانت مطلع التمدن في الزمن الماضي أصبحت
متأخرةً خربةً، وبعبارة أخرى متقهقرةً، وهذا المكان ربما كان ملك أحد أولئك
الأقوام الذين ضحوا بأنفسهم، وإذا نظرنا إلى هذه البلاد نظرةً عامةً لا نرى سوى
خرائب , ونشاهد آثار الحكم الجائر خلال 400 سنة تحكم فيها الأتراك، وإذا أمعنا
النظر أكثر من ذلك نجد شيئًا آخر لم يتمكن التركي نفسه من تخريبه.
إن هذا الميل الطبيعي إلى الاتجار والاستثمار الذي بنى تدمر , والشجاعة
والحكمة اللتين اتصف بهما العرب، وتلك الصفات صفات الشجاعة والإقدام التي
كانت ملازمة لخالد بن الوليد - لا تزال للجندي العربي، وإن الرجولية والشهامة التي
اتصف بها صلاح الدين لا تزال للعرب.
إن الميل إلى الشعور والآداب الذي أوجد الشعر القديم , وكان الباعث على
وضع كتب التصوير والنقوش التي تعلمناها نحن منكم لا تزال موجودة عندكم،
وإن الميل إلى العلم الذي شيدت أركانه في بغداد وقرطبة , والذي نقلناه نحن
الأوربيين عنكم لا يزال لكم.
إن الطبيعة قد وهبتكم هذه الهبات التي فطرتم عليها، فلا التركي ولا العفريت
ولا الشيطان يستطيع نزعها منكم.
والآن أنتقل إلى الأمر الآخر، إن هذه الهبات موجودة لديكم أولاً وآخرًا؛ فإن
العرب هم الذين أفاضوا روح التمدن على العالم كله ونشروا ضياء العلم الساطع،
ولكن - ويالسوء الحظ - إن زمن النور الذي انبثق من جانب العرب كان قصير
المدى.
دققوا في التاريخ واسألوا أسفاره تخبركم أن الممالك العربية كانت قصيرة
الأعمار لم يمتد زمن ملكها طويلاً، فلم يَسُد الهاشميون ولا الأمويون ولا
العباسيون أكثر من قرن أو قرنين , وتأملوا أن هارون الرشيد ذلك الخليفة الذي
مات حاكمًا لجميع البلدان قد أباد ولداه ذلك الملك العظيم، فعليكم أن تحاذروا الوقوع
في هذا الأمر , ولا تدعوا نهضتكم تكون قصيرة العمر.
إن تمدنكم السابق كان مثل ينبوع ماء عذب تفجر في الصحراء فوق أرض
رملية صخرية، فلم يمض عليه قليل حتى أنبت أزهارًا ونباتات , ثم علت الغزالة
فأحرقت تلك الأزهار , وعادت تلك القفار إلى حالها , وهذا كان خطؤكم العظيم.
في رايتكم شارة سوداء فلتكن هذه الشارة رمزًا يذكركم بالماضي ويحذركم من
الوقوع فيه , ويدعوكم للاجتماع والاتحاد، فكفاكم 400 سنة قضيتموها في الظلم
والاستبداد، لقد مضى هذا الدور والحمد لله، فقابلوا المستقبل بثبات وعزم وشجاعة
وانظروا إلى باطن الأرض , وتأملوها واستخرجوا كنوزها ومخبئاتها.
انظروا إلى القرى، انظروا إلى كثرة وفيات الأطفال، انظروا إلى هذه
الطرقات الخربة، انظروا إلى هذه العاصمة العظيمة , وإلى أية حال وصلت من
الخراب مع أنها ربما كانت أغنى دولة في العالم.
إذا أحببتم إحياء هذه الأراضي فهي تحتاج إلى جميع قواكم , وقوانا نحن
الحلفاء أيضا؛ لنحيا حياةً طيبةً سعيدةً طويلةً لا قصيرةً تتجاوز المائة أو المائتين
أو الثلاثمائة قرن [كذا ولعل أصله سنة] وأرجوكم بعد ذلك أن تضعوا ثقتكم في
أمر واحد، هذا الأمر هو الفكر الجديد الذي انتشر في أوربا.
اعلموا جيدًا أن السياسة الأوربية قد تغيرت نحو الشرق , وأن السياسة السرية
والاستعدادات الحربية التي قادت أوربا إلى هذه الحرب الطاحنة قد ذهب زمنها ,
وأنه توجد روح جديدة تنتشر في أوربا، وأن الأوربيين لا يفكرون في توسيع
ممالكهم بل في تمدين الأمم الذين حاربوا لاستقلالهم.
وأرجو منكم قبل الجلوس أن تفكروا جيدًا في مستقبل أبنائكم الذين لم يولدوا
بعد، وفي أجدادكم الذين ماتوا من قبل, والسلام عليكم اهـ.
***
خطبتا بيكو وسايكس في حلب
زار علي رضا باشا الركابي الحاكم العسكري للشام والمسيو جورج بيكو مندوب
فرنسا والسير مارك سايكس مندوب إنكلترا مدينة حلب فأقام نادي العرب حفلةً
إكرامًا لمسيو جورج بيكو ممثل حكومة فرنسا حضرها الشريف ناصر , والحاكم
العسكري العام , ورجال الحكومة العربية , وكثير من ممثلي دول الحلفاء وجم من
العلماء والأدباء والرؤساء الروحيين والأعيان، فابتدأ الكلامَ رئيسُ النادي مُرحبًا
بالقوم وتلاه أحمد أفندي الأبري فألقى خطابًا بديعًا , ثم خطب بالفرنسية يوسف
أفندي سركيس , ونهض بعده مسيو جورج بيكو وألقى خطابًا بالإفرنسية عربه
أمين أفندي غريب هذه خلاصته [1] :
خطبة مسيو بيكو
حضرة الحاكم العام وأيها السادة:
أشكركم كثيرًا لأنكم سمحتم لي اليوم بأن آتي وأحمل سلام فرنسا الظافرة
إلى ممثلي الحكومة العربية العظيمة؛ إذ ليس لنا بهجة في هذا الظفر أعظم من رؤية
مثل هذا المحفل، فهو بداية عمل كريم نتج عن الحرب , هو انتهاء الاستبداد التركي
وتقرير الحرية لشعب عظيم يديره رجال عظام.
كل يعلم ما هي الأسباب التي جعلت هذه الحرب حربًا خاصةً بفرنسا، إذ قد
كان منذ سبع وأربعين سنة في جنبنا جرح غير مندمل وكان لا بد لنا من الانتقام،
ولكن كنا نجتنب الحروب لشدة هولها على الإنسانية، فلما جاء اليوم الذي تجمعت به
القوى البربرية في العالم اضطررنا إلى محالفة قوى التمدن إبقاءً عليه من الشر
المحدق به فانضمت إلينا إنكلترا ثم العرب ثم إيطاليا ثم أميركا , وبغية كل منهم
الوصول إلى يوم يأمن فيه كل شعب على حريته واستقلاله (تصفيق حاد) .
لا شيء يرضي فرنسة ويسرُّها كرؤيتها حكومة نشأت بالأمس وأخذت تتقدم
وترتقي يوما بعد يوم في هذه الأماكن المحررة من الاستبداد , وغدًا مع تمام الصلح
لابد أن يزول الحكم العسكري الذي ترونه اليوم مع مناطقه الحاضرة التي اقتضتها
ضرورات الحرب فيطل عليكم نور يوم جديد وعظيم، فليوحد العرب جميعًا كلمتهم
ومساعيهم من حلب حتى أقاصي الصحراء ولينبذوا كل شقاق مهما اختلفت عقائدهم
أو عاداتهم , وليبذلوا ما بوسعهم من الإقدام أمام هذه الغاية المنشودة.
(حاربت فرنسا أربع سنوات توصلاً للنتيجة التي نراها الآن , ولها الطالع
الأسعد بأن ترى الحكومة العربية شديدة الأزر محترمة من الجميع , وتحل بالاتفاق
المتبادل جميع المسائل التي يشكلها عمران سورية وحرية اتصالها بالبحر؛ لأن
اتصالها بالبحر ضروري ولا بد لها منه (؟) ولكن يجب عليكم يا رجال سوريا
ومستقبلها البرَّاق أن توحدوا كلمتكم لتبلغوا هذا النجاح؛ إذ إنكم محاطون بالأعداء
الذين رأيتهم أنا والسير مارك سايكس، حيث كنا نجهر بحقوقكم أمام أوربا , فكانوا
يتذرعون لإحباط مساعينا متلبسين بزي الأصدقاء فما آبوا إلا بالفشل إذ صممت
الحليفتان على الاعتراف بحكومة عربية كبيرة مستقلة) اهـ.
***
خطبة السير مارك سايكس بحلب
ونهض بعده السير مارك سايكس فقال:
أيها السادة الكرام والمسيو جورج بيكو المحترم، أتكلم اليوم وأنا مرتاح
الضمير، إذ حزت الانتخاب في مجلس الأمة، فأصبحت قادرًا على إتمام العمل الذي
زاولته من أجلكم.
(طرق مسامعكم الآن ما قاله المسيو جورج بيكو وأزيده تأكيدًا، أنه قل أن
يشتغل إنسان كما اشتغل هو في معاونة المبدأ العربي وقد ظهرت نتائجه جليةً) .
(تذكرون ما هي الأيام السوداء التي اضطررنا لاجتياز مراحلها , فإن الأيام
السعيدة التي نحن فيها الآن لا تنسينا مكاره تلك الأيام ومتاعبها التي كان يشاطرني
مضغها المسيو بيكو الذي لم يقنط قط من نجاح المبدأ العربي رغم ما كنا نلاقيه من
العراقيل الجمة، وأهول بها من عراقيل؛ لأن العدو إذ ذاك ألمانيا وجيشها الجرار
الذي هو أكثر جيوش العالم انتظامًا) .
(كانت بريطانيا سيدة البحار , وما كان يخطر على بالها ما كانت تدبره لها
عدوتها ألمانيا من المكايد البحرية، ألا وهي الغواصات.
إن العدو الذي كنا نصادمه هو ذاك القادر ذو العظمة والجبروت (ألمانيا)
فمن ذا الذي يستطيع أن يقول سواء كان إنكليزيًّا أو عربيًّا أو إفرنسيًّا أو إيطاليًّا أو
أميركيًّا: أنا الذي أنزلت ألمانيا من حالق عظمتها، وضربت خنزوانة كبريائها؟ لا
يستطيع أحد أن يدعي هذه الدعوى , وأنه لم يقهرها إلا الله وحده , إن القدرة الإلهية
التي منحتنا هبة النصر العظيمة تأمرنا بالمحافظة عليها والانتباه كيف يقتضي أن
نستفيد منها؛ لأننا إذا أسأنا استعمالها فهي تستردها منا.
والآن أريد أن أقدم كلمةً على سبيل النصيحة لكافة الحاضرين هنا ممن يتكلم
بالعربية , وهي قصيدة (إذا) .
وعندها أنشد قصيدةً لأحد شعراء الإنكليز عنوانها (إذا) ضمت من الحِكم
الرائعة ما أصاخ له الجمهور وقابله بالاستحسان.
وعقب ذلك نهض توفيق أفندي شامية وألقى خطابًا بديعًا , وانفضت الحفلة
والجذل بادٍ على أسرة الجميع. اهـ ما في الأهرام.
***
(6) أقوال جرائد الحلفاء
رأي حكومة الحجاز
جاء في آخر مقالة افتتاحية طويلة نشرت في العدد 240 من جريدة القبلة
الذي صدر في مكة المكرمة يوم الخميس 15 ربيع الأول ما نصه:
(وها مقطمنا الأغر ينقل لنا في عدد 9038 الصادر بتاريخ 26 صفر 1337
من تصريحات أم صحف العالم , ولسان حال الشعب البريطاني الذي أثبت فضله
على العالم ومنته على مجتمعه، ولا حرج بمواقفه وثباته واقتداره السياسي
والحربي والمالي , أما أهوال سنيننا هذه الأربع من حسن نواياها وآمالها وما
تريده ثقةً واعتمادًا على معاشر العرب بقوله (من بحث سياستها القديمة التي
كانت ترمي إلى تسنيد تركيا وشد أزرها على أعدائها وأخذنا نحاول البحث عن بديل
حر يحل محل السلطة العثمانية البالية الفاسدة، ومن هؤلاء الأبدال الذين يحلون
محل تركيا العرب، أما سواهم فلسطين الجديدة وأرمينيا الجديدة) .
(نرحب ونؤهل ونسهل بمن أنزلنا محل ثقته، وتوسمنا بالأهلية لمصادقته،
ولا ريب فإن على مثل هذا يتنافس المتنافسون ولمثله فليعمل العاملون) .
(ألف ألف أهلاً وترحيبةً، وأضعافها شكرًا لمحسن الظن، وإنا لا نجيبه
بما قال أحد أشياخ جاهليتنا: أهملني صغيرًا وحملني كبيرًا، ولكن نقول: إن
العرب اليوم هم كالأشبال أو أفراخ الشياهين والبازي المحتاجة لصيانة آبائها) .
(ومع هذا فستجدهم أيها الداعي المحسن الظن - إن شاء الله تعالى - من
حيث تريد، وتراهم بعنايته بيت القصيد , فإليكم بني يعرب ما أوتيتموه من طموح
الأنظار إليكم، وآمال أجل شعوب العالم فيكم، فانظروا ماذا تأمرون بعد ما وصفكم
ذلك الشعب بما وصف، فأجيبوا داعي المكرمات، وحققوا في نجابتكم التصورات
وكونوا خير أمة أحيت مندرس معالم سؤدد أسلافها للناس، ولأنتم أرفع وأسمى
من أن تذكر له نكبات التخاذل وموارد الأتعاس، أو تسيئوا بقولنا الظن وعكس
القصد، وايم الله إنه الحق. ونكرر ما أشرنا إليه في أعدادنا السابقة بأنا معاشر
الحجازيين ولا شيء من الرياسة أو السيادة إن كانت في سوري أو في يمني أو في
حجازي ونحوه، ولا يهمنا، ورب الكعبة إلا توليكم لبلادكم كتولي الشعوب المحررة
لبلادها، وإن داء الشامي هو داء اليماني, وإن في شقاء الآخر شقاءً للأول، وإن ما
يصيب أحدهما يصيب الآخر من خير أو عكسه، ومتى تفطنهم في أن أبسط دليل
على هذا قيام الحجازيين ونهضتهم وهم ولا شيء مما أصاب إخوتهم من الضيم
الذي سارت بأنواعه الركبان، علمتم أنهم أدركوا تلك الغاية الجليلة , واغتنموا تلك
الفرصة لتحليهم بجلائلها، وأن يمتعهم بدعة العيش التي هم بها على مسمع من أنين
المضطهدين من إخوانهم عار عظيم لا يغسله إلا دماؤهم، وكان بفضله ما كان فلا
تعقموا النتيجة , ولا تهدروا تلك الدماء الزكية، والنفوس الأبية) اهـ كلام القبلة
بحروفه.
(المنار)
إن عبارة جريدة القبلة - على ما فيها من الغلط والمعاظلة - صريحة في
اتفاق حكومة الحجاز مع حكومتي الحليفتين إنكلترة وفرنسة في أمر الولايات العربية
العثمانية وأهمها مسألة فلسطين الجديدة، ولكن جاء في جرائد الحلفاء، ولا سيما
جريدتي الطان والتايمس كلام من مذكرة الأمير فيصل التي قدمها للمؤتمر ما يجلي
المقاصد كما ترى.
__________
(*) تابع لما في الجزء الأول.
(1) منقول من عدد 28 ربيع الآخر الماضي 30 يناير (ك2) من جريدة الأهرام.(21/91)
الكاتب: عن جريدة المقطم
__________
الدولة العربية القادمة [*]
هذا عنوان مقالة افتتاحية للتايمس في 7 فبراير عربناها فيما يلي:
(شهد فيصل الأمير الحجازي جلسة المؤتمر في باريس أمس وبسط قضية
أمته , ويندر أن يكون بين المواضيع التاريخية ما يجهله الجمهور في (بريطانيا)
جهله لتاريخ العرب وما قد يكون لهم من الشأن كأمة في المستقبل، وقد كان السير
مارك سيكس أعظم رجال الدولة البريطانية اهتمامًا بوصف البواعث التي حملت
البريطانيين على تعضيد العرب في حربهم الطويلة مع الترك.
إن الإمبراطورية العربية القديمة التي كانت تمتد في أوج عزها من بغداد إلى
قرطبة (المقطم: كذا في الأصل والصواب أنها كانت تمتد من بلاد فارس إلى
قرطبة) كانت أفضل حكومة قامت بين انحطاط الإمبراطورية الرومانية ونشوء
أوربا الحديثة , ولعلها كانت أمتن جسر للحضارة في العصور الوسطى، وكان منشأ
هذه الإمبراطورية في الحجاز الذي تكلم الأمير فيصل باسمه في باريس، وكان
للإمبراطورية العربية تهذيب وحضارة خاصان بها خلافًا للسلطة العثمانية، ومما
اختلفت به عن السلطة العثمانية أيضًا أنها عرفت كيف تنتفع أعظم انتفاع بجميع
العناصر التي اتصلت بها حتى لقد دعي عصر عظمتها وعزها العصر الذهبي
للشعب اليهودي , والحقيقة أن وجوه الشبه بين العرب واليهود لا تقتصر على ما
بينهما من القرابة وصلة الرحم , بل تتناول ما بينهما من الشبه العظيم في تاريخهما،
فقد أضاع اليهود قوميتهم بالنزاع الشديد الذي وقع بينهم وبين الإمبراطورية
الرومانية , فحل العرب محل اليهود , وصاروا قادة الأفكار بين الشعوب السامية،
ثم سقط العرب فريسةً للمغول الذين غزوا بلادهم , واستولى الترك على الميراث
الذي ورثه العرب من اليهود، وقد كان الأنبياء اليهود أنبياءً عربًا , وعند الشعبين
كثير من الأخبار , والأقاصيص التقليدية التي يشتركان فيها , وبينهما شبه كثير في
تاريخهما، فقد فقدا قوميتهما وانفصل الواحد عن الآخر بتبعيتهما السياسية للبلاد
التي اختارها للإقامة فيها.
والمأمول أن يعالج المؤتمر مشكلة التصرف في أملاك تركيا التي أخذت
منها ويعدها وحدةً كاملةً، فهنالك العرب كما تقدم , ويليهم اليهود وآمالهم القومية
في فلسطين , وبعدهم الأرمن، فمستقبل الشرق يتوقف كثيرًا على ما يكون من
الاتفاق بين هذه الأجناس الثلاثة التي سيكون لها أوطان قومية في القريب العاجل ,
ومصير كل منها يهم الآخرين , فإذا أبدل الحكم العثماني الذي حافظ - ولو في
الظاهر- على وحدة تلك الأنحاء مع أنه لم يفعل شيئًا لترقيتها ماديًّا أو أدبيًّا أو
عقليًّا، إذا أبدل هذا الحكم بمنافسات ومناظرات محلية كان هذا الإبدال مصابًا.
إن المرء يتطلع إلى جامعة عربية تمتد من دمشق إلى بغداد , ولها منافذ
تجارية إلى البحر المتوسط والبحار الشرقية، وقد لا تكون إمبراطوريةً واحدةً
متجانسةً , ولكن يمكن أن تكون ولايات متحدة , وتكون هنالك دولة (أجنبية)
منتدبة , ويرجح أن هذه الإمبراطورية الجديدة تستعين كثيرًا بمقدرة يهود فلسطين،
كما استعانت إمبراطورية العرب القديمة بيهود أفريقية وأسبانيا , فيجد اليهود بذلك
لمقدراتهم مجالاً جغرافيًّا أوسع من فلسطين التي هي ليست سوى بلد صغير،
وحينئذ تتحد أعمال الشعبين في إنهاض الشرق من كبوته.
ويشترط لبلوغ هذا الغرض شرطان جوهريان , الأول: أن تنال اليهودية
ميراثها التام في فلسطين فلا يكون في الدنيا مسألة اسمها (فلسطين الشهيدة)
والثاني: أن يتملص يهود فلسطين من نفوذ الأعمال المالية عليهم فلا ينصرفوا إلى
اغتراف موارد الشرق المادية , بل يتخذوا لأنفسهم ضربًا من الحضارة الصحيحة
من البلاد نفسها , ويوجهوا همهم إلى إنشاء تهذيب حقيقي خاص بها يطابق المبادئ
السامية الإنسانية التي وضعتها جمعية الأمم, وتحقيق هذه الأمنية يهم العرب كما يهم
اليهود تقريبًا) اهـ.
__________
(*) منقولة عن المقطم 24 جمادي الأولى - 25 فبراير.(21/100)
الكاتب: عن جريدة المقطم
__________
الأمير فيصل في المؤتمر [*]
نشرت (المورننج بوست) في 8 فبراير التلغراف التالي لمكاتبها الباريسي
وهو:
(ظل الأمير فيصل يتكلم في مجلس العشرة عشرين دقيقةً، فكان أوجز
المندوبين الذين سمع المجلس أقوالهم، وكان وقع كلام الأمير شديدًا في نفوس
أعضاء المجلس حتى قال أحد هؤلاء الأعضاء: إن وقع كلامه كان كوقع كلام
المسيو فنزيلوس، وكان الأمير يتكلم بالعربية، والكولونيل لورنس يترجم كلامه
إلى الإنجليزية , ثم ينقل ترجمان كلام هذا إلى الفرنسوية، وكان الأمير يتكلم
ببلاغة وحكمة وفاز فوزًا كبيرًا؛ لما ذكَّر سامعيه بأن مملكته دامت في عالم الوجود
تسع مائة سنة.
وخلاصة أقواله: أن والده ملك الحجاز لا يطلب أن يضم شبرًا واحدًا من
الأرض إلى مملكته، ولكنه يطلب للعرب - ويريد بالعرب الشعوب التي تتكلم
العربية - حق تعيين مصيرهم بحسب نظام التوكيل الدولي , وهو النظام الذي يعتقد
أن البريطانيين مستعدون لتطبيقه على عرب الحجاز (؟) ولكنه لا يصر على
توكيل دولة دون أخرى , ولا ينطق باسم عرب أفريقية، ولا يعارض الفرنسويين
إلا حيث يحتمل أن يعارض الفرنسويون في مطالب الذين كانوا حلفاء دول الاتفاق
أكثر من ثلاثة أعوام.
ومما هو جدير بالذكر هنا أن فيصلاً طَلَب العِلم في الآستانة في حكم عبد
الحميد وقضى أعوامًا في مدارسها , فهو لا يجهل تاريخ السياسة الأوربية الحديث،
والصحف الفرنسوية تراعي قواعد اللياقة والمجاملة معه إذا استثنينا بضع جرائد لا
يعتد بها.
وليس ثمة تنافر جوهري بين مصالح إنكلترا ومصالح فرنسا، ولكن يجب
حل هذه المسألة بأسرع ما يستطاع , وعندي أن هذا هو تعليل قرار المجلس
الفجائي على أن يسمع أقوال الأمير.
وقد وصفت جريدة (الغلوي) الأمير فيصلاً بقولها: إنه عميل للحكومة
البريطانية , ذكي غيور , وقالت: إنها مقتنعة بأن المستر لويد جورج سيخفف
من حدته، واهتمت به الصحف الأخرى، ولكنها اهتمت أيضا بالكولونيل لورنس
اهتمامها بالأمير.
وحادَثَ الأمير فيصل مندوب جريدة إكسلسيور، فأشار إلى الأقوال غير
الصحيحة التي قالها الصحافيون الفرنسيون والبريطانيون عنه وعن المسألة
العربية بالإجمال , ثم قال: (إن الحجاز لا يطمع بالتوسع وبسط السيادة ولا
يرمي إلى ملك الشرق الأدنى , ولا يروم فتح البلدان) ثم قال: (وجل ما أطلبه
هو تطبيق قاعدة الدكتور ولسن الخاصة بحق الشعوب في تعيين مصيرها على
العرب في آسيا الصغرى، إن تحرير العرب لا يلاشي النفوذ الموجود، أو الذي
يسعون لإيجاده في سورية , ولكنه يرقي هذا النفوذ بالطرق السلمية باجتناب كل
نزاع قد ينشأ عن مقاصد ضم الأملاك المستور بستار كثيف أو شفاف، فالعرب
يطلبون أن يعاملوا كما يُعامَل اليونان والصربيون والبلغاريون الذين خلُصوا مثلهم
من استبداد الترك) اهـ.
__________
(*) عن عدد المقطم المنقول عنه ما قبله.(21/101)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي
تتمة [1]
الموضع الرابع عشر
افتتان آل البيت بالغلاة فيهم
أشار الناقد إلى قولنا في حاشية ص43 من ذكرى المولد بعد الثناء على آل
البيت النبوي العلوي: وإن فتن الكثيرون منهم بغلاة المحبين، فكانت فتنتهم لهم
أعم وأدوم من فتنة الأمراء الظالمين؛ إذ كان من أثرها في ذريتهم أن ترك
أكثرهم العلم والأعمال النافعة استغناءً عنهما بشرف النسب غافلاً عن قول جدهم
علي المرتضى- كرم الله وجهه -: (قيمة كل امرئ ما يحسنه) إلخ، وقال:
(ولعل المناسب: وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه وترك العلم والأعمال
النافعة غافلاً عن قول جده علي، إلخ؛ لأن إثبات الفتنة للأكثرية ينافي آية التطهير
كما لا يخفى) .
ونقول في الجواب: إننا لم نثبت الفتنة للأكثرين منهم، بل للكثيرين، وإنما
ذكرنا أن أكثر ذريتهم - أي: المتأخرين منهم - تركوا العلوم والأعمال النافعة للأمة
استغناءً عنهما بشرف النسب، وهذا أمر مشاهد معروف في الأقطار كلها؛ فإنك قلَّما
تعد في بطن من بطونهم المشهورة المعظمة بنسبها علماءً محققين يؤخذ عنهم العلم
والدين، أو رؤساء جمعيات ومصالح يرجع الناس إليهم في أمور دينهم ودنياهم،
فإذا كان هذا هوالواقع فهو حجة على أن الآية الكريمة ليست بالمعنى الذي يقول
به الناقد، وإن لم يكن هو الواقع فليرده بسرد أسماء العلماء الأعلام منهم في الحجاز
واليمن وسائر البلاد العربية والعجمية، وبيان نسبتهم العددية إلى الجاهلين المثبتة
أنهم هم الأكثرون عددًا، وقد عُلم مما أوردناه في تفسير الآية من الجزء الماضي أن
الآية في أفق غير أفق هذه المسألة.
فالتحقيق أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) إلخ، تعليل لما قبله من الأوامر والنواهي التي
خوطب بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وما قرنت به من الوعد بمضاعفة
الأجر على الطاعة والوعيد بمضاعفة العذاب على المعصية، أي إن الله تعالى
لا يريد بذلك إعناتكم والتضييق عليكم يا أهل البيت، وإنما يريد به إذهاب
الرجس عنكم وتطهيركم بحملكم على امتثال ما أمركم به والانتهاء عما نهاكم عنه،
فهو كقوله تعالى في تعليل الأمر بالوضوء والغسل والتيمم:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) .
خاتمة النقد في العترة والسنة
أشار الناقد إلى ما ذكرناه في تلك الحاشية من اختلاف الرواية في حديث
الثقلين؛ إذ فسر الثقل الثاني في بعضها بالعترة وفي بعضها بالسُّنة، وقال: يظهر
للعاجز أن رواية الأبدال المذكورة على حذف مضاف، أي: حملة سنتي، فتكون
مخصصةً للرواية الأولى، كما أن الأولى مخصصة للثانية، فالمعنى: حملة سنتي
الذين هم من عترتي، أو عترتي حملة سنتي، وأيضًا يظهر أن المراد بالطائفة من
أمته التي لا تزال ظاهرةً على الحق قوَّامة على أمر الله إلى أن تقوم الساعة: هم
عترته الحاملون لسنته، والله أعلم.
أقول: إن هذا الجمع بين الروايتين قوي في المعنى ضعيف في اللفظ؛ فإن
حذف المضاف لا يجوز إلا حيث تدل عليه القرينة، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} (يوسف: 82) وأما قوته في المعنى فظاهرة، وذلك عين ما أردناه بقولنا في
أصل ذكرى المولد: (فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم تاركًا للأمة ما إن تمسكوا
به لن يضلوا من بعده: كتاب الله وسنته في تبيينه، وعترته العاملين بهما من أهل
بيته) وأقول الآن: إنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد هدم الناقد بقوله هذا
جل ما كان بناه من جعل معنى هذين الحديثين وما ماثلهما عامًّا شاملاً للسلالة العلوية
الفاطمية، من وُجد منها ومن يوجد إلى يوم القيامة. حتى إنني استغربت منه قوله في
نقد الموضع الرابع عشر: (وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه) إلخ، بعد ما تقدم
من تعصبه في المواضع السابقة لكفار قريش من أجلها، على أنه وإن أطلق ما يدل
على ذلك بالإجمال، فإنه لا يعتقده إذا فكر فيه بالتفصيل، ولا نعرفه إلا محبًّا للحق
وخادمًا للعلم وساعيًا إلى الإصلاح، وما ذاك إلا أثر شدة الحب، بأَولى الناس
وأجدرهم بالحب.
وإذا كان الصحيح عنده ما قال أخيرًا، فإنني أسأله سؤال مستفيد مخلص أن
يدلني على من يعرف من أفراد هذه الطائفة التي ورد الحديث فيها من أهل هذا
العصر عسى أن يكون لنا بهم من ولاء العلم والأدب وصلة القرابة والنسب، ما
يعيننا على التعاون معهم على خدمة العلم والدين، والله يتولى الصالحين اهـ الرد.
__________
(1) يراجع بقية هذه المسألة في آخر ص 351 من المجلد العشرين.(21/103)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
باحثة البادية
وحفني ناصف
(1)
وفاتهما وترجمتهما
(باحثة البادية) لقب للأديبة الشهيرة (ملك) كريمة حفني ناصف بك،
اختارته لتوقيع ما كانت تنشره من مقالاتها وشعرها في الجرائد كما يفعله كثير من
المتنكرين والمتنكرات في الشرق والغرب، توفيت لعشر خلون من المحرم فاتحة هذا
العام، ثم احتفل بتأبينها في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، وقد كان شهر وفاتها
وما بعده من الفترة التي لم يصدر فيها المنار، وشهر تأبينها ضاق عما أعد له،
فرجونا فيه بأن نكتب شيئًا في ترجمتها وتأبينها في هذا الجزء.
وفي هذه الفترة بين الجزئين توفي والدها الأسيف، وكان قبل وفاتها مريضًا
فضاعف الحزن عليها المرض حتى صار حرضًا انتهى بالموت، وكان سبب موتها
هي الانتقال من الفيوم إلى القاهرة، وهي مصابة بالنزلة الوافدة لأجل مواساته في
إثر انكشاف كارثة كانت سبب مرضه أو سبب شدته، فأصيبت بما ضاعف النزلة،
فكانت القاضية، وقد خسر القطر المصري - بل الأمة العربية - بوفاتهما ركنين من
أركان النهضة العربية للرجال والنساء معًا، كما يتضح ذلك لغير العارف بفضلهما
من أهل الأقطار البعيدة، مما تثبت من ترجمتها الوجيزة.
باحثة البادية
هي كبرى أولاد حفني بك ناصف، عُني بتربيتها وتعليمها وهي في شرخ
الشباب وزمن الجهاد في إصلاح التعليم وترقية الآداب، وضعها في المدرسة
السَّنية، التي هي أرقى مدارس البنات الأميرية، فكانت أول ابنة مصرية نالت
شهادتها الابتدائية، ثم انتقلت من القسم الابتدائي إلى قسم المعلمات العالي، فجدت
حتى نالت شهادة هذا القسم فيه، وكانت الأولى أيضًا، وكان من مبادي التوفيق أن
كان من أساتذتها في القسم الأول الشيخ حسن منصور وفي القسم الآخر الشيخ أحمد
إبراهيم، وهذان الأستاذان في الذروة العليا من مدرسي علوم اللغة العربية وفنونها
في مصر، علمًا وآدابًا وأخلاقًا وحذقًا في التعليم، ثم إنها اشتغلت بالتعليم في
المدرسة نفسها، فكانت خير معلمة كما كانت خير متعلمة، امتازت بالذكاء النادر،
والجد والاجتهاد، والتنزه عما ينتقد من عادات الفتيات في هذه البلاد، فتم لها
بالتعليم ركنان من أركان العلم، أو طوران من أطواره الثلاثة التي لا ينضج عالم
إلا بمجموعها، وثالثها الكتابة والتأليف الذي وجهت إليه عنايتها بعد زواجها،
واختيارها بنفسها شؤون الحياة الزوجية وتدبير المنزل، ولم ينقصها من الخبرة
التي تؤهلها لمرتبة الإصلاح النسائي على وجه الكمال، إلا الحرمان من صفة
الأمومة والقيام على تربية الأولاد، فسبحان من تفرد بالكمال، الذي لم يلد ولم
يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
ثم إن والدها زوَّجها برضاها من عبد الستار بك الباسل أحد زعماء العرب
المصريين وشيوخهم، وهو وأخوه الأكبر حمد باشا الباسل رئيسا قبيلة الرماح
المقيمة بجوار الفيوم، وقد امتاز هذان الأخوان في عربان الديار المصرية وغيرهم
بالجمع بين فضائل البداوة ومحاسن الحضارة، والتنزه عن رذائلهما، فمن الأولى:
الوفاء والسخاء والنجدة والمروءة وقري الضيف وإغاثة الملهوف، ومن الثانية:
محبة العلم والأدب وأهلهما والاطلاع على شؤون الاجتماع والعمران، ولهما
مشاركة في هذا وما يتعلق به من مسائل التاريخ القديم والحديث والقوانين، زادتها
معاشرتهما للطبقة العليا من العلماء ورجال الحكومة والسياحة في أوربة وبعض
البلاد الشرقية اتساعًا وصقلاً، ولكن هذه المزايا التي اجتمعت لزوجها وسعة الرزق
التي هي في نظر أكثر النساء خير منها ومن النبوغ في أي علم من علوم الدين
والدنيا، كان يظن أن سيعارضها ما هو أقوى منها في نظر فتاة مصرية تعلمت
التعليم العالي، وهو زي عبد الستار بك العربي من الشملة البيضاء والطربوش
المغربي، ذلك بأن وجهة التعليم بمصر أوربية يقصد بها فرنجة المصريين كما قال
لورد كرومر، ومن شأن اللواتي يتعلمن ويتربين على هذه الطريقة أن ينفرن من
كل ما هو وطني محض من الزي والعادات، ويفضلن كل ما هو تقليد للإفرنج منها،
حتى إن بعض بنات الوجهاء المتعلمات لا يقبلن زوجًا لأنفسهن إلا من كان حاملاً
لشهادة عالية من أوروبة، لذلك استغرب كثير من الناس رضاء (ملك ناصف)
بقرين لها من شيوخ العرب، وإن كان بيته أرقى من بيت أبيها ثروةً، وأوسع
معيشةً. كما يرى القارئ هذا فيما ننقله في هذه الترجمة من تأبين تلميذة الفقيدة
وصديقتها (نبوية موسى) التي هي تلوها في الذكاء والتحصيل، وما ذاك إلا أن
فطرة (ملك) وتربيتها المنزلية وهدي أستاذيها في المدرسة حالا دون إفساد
التفرنج للبها، واستحواذ زخرفه على قلبها، وبذلك كانت جديرةً بمعرفة قيمة رجل
من كرام أمتها، لم يخطبها إلا لعلمها وحسن تربيتها، ففضلته على الشبان
المتفرنجين المتطرسين، المتورنين الذين انسلوا من شرف الصيانة وفضائل الدين.
وجدت الفقيدة من قصر الباسل أجمل منظر يتجلى فيه ذوق المرأة وعلمها
بتدبير المنزل، ووجدت من عبد الستار أوفى زوج تهنأ معه الحياة الزوجية لأديبة
مثلها يتساهمان تفضيل المزايا المعنوية على المظاهر الصورية , ووجدت من
حريته الأدبية ما مكنها من نشر أفكارها الإصلاحية، ويقل أن يوجد في المسلمين
حتى المتفرنجين منهم من يرضى لزوجه أن تنشر آراءها في الصحف المنتشرة،
وتتصدى لمناظرة أرباب الأقلام فيها، بل أكثر البنات اللواتي يتعلمن في مثل بلاد
أوربة ينتهي بالزواج اشتغالهن بالعلم فلا يجدن بعده وقتًا للتأليف ولا لإنشاء
المقالات للصحف، ولذلك كانت آثار النساء القلمية قليلةً جدًّا بالنسبة إلى عدد
المتعلمات منهن في كل أمة إذا قوبلت بآثار الرجال بالنسبة إلى عددهم، ولكن عقيلة
الباسل لم تجد من بيتها وبعلها إلا التنشيط على الكتابة والنشر.
لآل الباسل هؤلاء ثلاث دور آهلة.
(إحداها) : بجوار مزارعهم وقبائلهم من مديرية الفيوم بالقرب من مدينة
الفيوم وتعرف بقصر الباسل، وهي سكنهم الأصلي، وفيها يكونون في أكثر أوقاتهم.
و (الثانية) : بمدينة الفيوم نفسها.
و (الثالثة) : في القاهرة يقيم فيها حمد باشا أيام انعقاد الجمعيات التشريعية
التي هو أحد أعضائها، ومن يتعلم من ولده في المدارس، ويختلف إليها هو وعبد
الستار بك أيامًا من كل شهر لمصالح لهما في العاصمة، وللقاء أصدقائهما فيها،
ويلم بها أزواجهما أيضًا، وقد حُبب لابنة حفني المقام في قصر الباسل لما فيه من
اجتماع محاسن الحضارة والبداوة، وصفاء العيشة الخلوية مع رفاه العيشة
الحضرية وزينتها، وتسنى لها فيه اختبار حال الفلاحين المقيمين بقرية قصر
الباسل، وسكان الخيام من البدو المخيمين بجواره، فكانت تعاشر نساء الفريقين،
وتتعرف على حال حياتهن الزوجية، ومن ثم انتزعت لنفسها لقب (باحثة البادية) .
ظهر اسم (باحثة البادية) أول مرة في صحيفة (الجريدة) سنة 1326 في
ذيل اقتراح بناء مدفن لعظماء رجال مصر، فرددنا على هذا الاقتراح في المنار
ردًّا دينيًّا رجحنا أن المقترح رجل متنكر فقلنا في أول الرد: نشر هذا الاقتراح بتوقيع
(باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في الحاضرة، أو تمني متفرنج في
العاصمة، إلخ (راجع ص380 م11) وقد أخبرني عبد الستار بك من عهد
غير بعيد أنها أرادت يومئذ أن ترد على المنار، واستشارته في ذلك فأشار عليها
بأن لا تفعل قائلاً: إنك لن تستطيعي أن تجادلي كاتبًا من أئمة الدين في مسألة دينية
كهذه ... ثم إنه علم منها بعد ذلك أنها استنبطت من ذلك أنه يكره لها أن تكتب في
الصحف مطللقًا، فصرح لها بأن ظنها هذا خطأ، وأنه لا يكره أن تكتب ما ترجى
فائدته، فكان هذا بدء حياتها الإصلاحية وخدمتها العامة، فالعامل في هذه الحياة
الاستعداد الفطري، ثم دار النشأة وروحها الوالد الذي نبين كنهه في ترجمته، ثم
المدرسة وروحها من ذكرنا من الأساتذة، ثم دار الزوج وهو روحها، وقد ذكرنا من
أمر هذا العامل الأخير ما يعرف به قدر تأثيره في هذه الحياة، فهذه العوامل هي
التي كونت (باحثة البادية) في حياتها التي تتجلى للقارئ في مقالاتها الخالدة
وآثارها الباقية، ولما لم يجتمع ذلك لغيرها من بنات مصر في هذا العصر كانت في
مسلمات مصر نادرةً شاذةً.
مقالاتها وآثارها القلمية
كتبت مقالات كثيرة، ونظمت بعض القصائد والمقاطع من الشعر، وألفت
عدة خطب في محافل اجتمع فيها مئات من كرائم النساء في القاهرة، وشرعت في
تأليف كتاب في حقوق النساء في الإسلام وفي أوربة لم يتم، وقد نشر أكثر ما كتبت
في الجريدة وجمع بعضه في كتاب سمي (النسائيات) وطبع الجزء الأول منه في
سنة 1328 , فقرظه نفر من الأدباء والعلماء، وقد ذكرت في تأبينها أن آثارها
القلمية تدور على بضعة أقطاب، أو تدخل في ستة أبواب:
(الأول) : تربية البنات، وتعليمهن في البيوت والمدارس.
(الثاني) : المرأة - تأثيرها في العالم - تأثيرها الخاص في زوجها وولدها
وأهلها - ما ينبغي لها في كل طور من أطوار حياتها - أحوال القرويات والبدويات
والمدنيات - المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الإفرنجية - الجمال والعادات
والأزياء.
(الثالث) : الزواج - سنه - حقوق الزوجين والعشرة بينهما - تقصير كل
منهما فيما يجب عليه - تزوج المصريين بالأجنبيات.
(الرابع) : الحجاب والسفور.
(الخامس) : الرجال والنساء - جناية كل منهما على الإنسانية بجنايته على
الآخر - وظائف كل منهما - مزايا كلٍّ ومساويه.
(السادس) : شجون وشؤون عامة، كوصف البحر، والعيشة الخلوية
والجمال، وأقلها شوارد شعرية في الحال الاجتماعية السياسية.
وقيمة هذه الآثار ومزيتها التي استحقت به الفقيدة الترجمة في المجلات العلمية
والإصلاحية، وتأبين فضلاء الرجال لها في حفلة عامة، هي في نظري أنها
إصلاحية جاءت وسطًا بين آراء المحافظين الجامدين على كل قديم، والمتهافتين
كالأطفال على كل جديد، وأن الكاتبة مستقلة فيها غير مقلدة.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(21/105)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(منتخبات في أخبار اليمن)
من كتاب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) لنشوان بن سعيد
الحميري.
أما كتاب شمس العلوم فقد قال صاحب كشف الظنون فيه ما نصه:
(شمس العلوم في اللغة ثمانية عشر جزءًا لنشوان بن سعيد الحميري اليمني
المتوفى سنة 573 ثلاث وسبعين وخمسمائة، سلك مسلكًا عربيًّا يذكر فيه الكلمة من
اللغة فإن كان لها نفع من جهة ذكره، وذكر في كل مادة أبواب الكلمة واستعمالاتها
ثم اختصره ابنه في جزئين وسماه: (ضياء الحلوم في مختصر شمس العلوم)
أول شمس العلوم: (أما بعد مستحق الحمد) إلخ اهـ ولم يتكلم على المختصر،
وفي مقدمات كتاب المنتخبات كلام عنه وعن مؤلفه ونسخه وسماعه، ومما ذكر
فيها عن المختصر: (الجزء الأول) من كتاب المختصر من شمس العلوم، ودواء
كلام العرب من الكلوم، إملاء القاضي السيد أديب الأدباء وقدوة النجباء، إمام
الأئمة وسراج الظلمة: أبي عبد الله محمد بن نشوان بن سعيد الحميري طول الله
تعالى مدته، وأعلى في الدارين درجته) .
وأما هذه المنتخبات فتدل أن الكتاب معجم لغوي أدبي تاريخي، لكن رأينا عناية
صاحب المنتخبات خاصة بما في الأصل من لغة حمير وتاريخها، ولا سيما ملوكها
وأمرائها وشعرائها وسائر تاريخ اليمن، وفي مادة (س ن د) منه صورة
حروف المسند، وهو خط حمير، قال: وهو موجود كثير في الحجارة والقصور،
وكان يكتب حروفًا مقطعةً كالخطوط الإفرنجية، ولكن يفصل بين الكلم بالصفر
عندهم وهو حرف الألف في خطنا.
طبعت هذه المنتخبات في مطبعة (بريل بليدن) سنة 1916، وكتب على
طرتها بعد ما تقدم من اسم الكتاب المنتخبة منه، واسم مؤلفه (وقد اعتنى بنسخها
وتصحيحها عظيم الدين أحمد) وصفحاتها 119، وإذا أضيف إليها صفحات
الفهارس كان المجموع 163 صفحةً، وهو من الكتب التي طبعت على نفقة أوقاف
ذكرى مستر جب الشهير، وله مقدمات وتعليقات على الكتاب بالإنكليزية، وطبعت
في الجانب الأيسر فيها كلام عن مؤلفه ورواته واختلاف نسخه.
***
(كتاب العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية)
الكتاب من تأليف الشيخ علي بن الحسن الخزرجي، وقد عني بتصحيحه
وتنقيحه الشيخ محمد بسيوني عسل المصري، وطبع على نفقة أوقاف ذكرى مستر
جب بمطبعة الهلال بمصر سنة 1332 هـ - 1914، وأهدي إلينا الجزء الثاني
منه منذ أشهر، ولكن لم يرسل إلينا الجزء الأول، وصفحات الجزء الثاني 320
وهي بقطع المنار وبضم الفهارس إليها تبلغ الصفحات 486 وهو يدخل في ثلاثة
أبواب، الأول منها في أخبار الدولة المجاهدية، والثاني: في قيام الدولة
الأفضلية ووقائعها، والثالث: في قيام الدولة الأشرفية الكبرى وبعض أيامها،
وعسى أن لا نحرم من الجزء الأول وأن نوفق إلى كتابة نبذة في بني رسول عند
تقريظه.
***
(حضارة العرب)
كتاب علمي وجيز صغير الحجم، كبير الفائدة، جمع فيه واضعه أسعد أفندي
داغر خلاصةً من تاريخ العرب في الجاهلية والإسلام في أربعة فصول:
(الأول) : في تاريخ عرب الجاهلية، أو العرب قبل الإسلام.
(الثاني) : في تاريخ العرب بعد الإسلام من عصر الخلفاء الراشدين إلى
العصر العثماني التركي وفيه نبذة في صفات العرب وأخلاقهم وعاداتهم وملابسهم
وآدابهم وآداب الأكل عندهم.
(الثالث) : في علوم العرب اللغوية والدينية والأدبية والعقلية والكونية
والرياضية والسياسية والاقتصادية.
(الرابع) : في فنون العرب الحربية والبحرية والعمرانية، والجميلة.
وقد قال المؤلف في خاتمة كتيبه الجميل: (يرى القارئ مما تقدم أننا أوردنا
في هذا الكتاب بعض مفاخر العرب بغاية ما يمكن من الإيجاز، وأننا اقتصرنا على
كليات علومهم دون جزئياتها وفروعها؛ لأننا لو أردنا الإحاطة بها كلها لاحتجنا إلى
مجلدات ضخمة، وقد جعلنا غايتا من هذا المؤلف الصغير الإشارة إلى ما أحدثه
العرب من الاكتشافات والاختراعات، وما لهم من الآثار الخالدة في عالم الفنون
والصناعة، وما وضعوه من العلوم، وما استدركوه فيها على المتقدمين من تصحيح أو
تكميل مما ثبتت صحته وتناوله الخلف من بعدهم، وهو ليس إلا نقطةً من بحر، أو
جزءًا من كل) .
وفي الكتاب زهاء تسعين رسمًا، بعضها للأناسي المشهورين وأولهم حمورابي
صاحب أقدم شريعة عرفت في التاريخ البشري، وبعضها للمدن والقصور
والمساجد، وغيرها من المباني، وبعضها للنقود والكتابة والأواني والنسيج
والآلات الحربية والعلمية، كالمنجنيق والإصطرلاب والمرصد، وبعضها
للأقطار والممالك، وهو ما يسمونه الخرائط، وهو محرف مأخوذ من مادة (خرت
الأرض) وهو معرفة مضايقها وأنحائها.
كل هذه الرسوم وتلك المسائل الكثيرة قد أودعت في أقل من مائة وخمسين
ورقةً من قطع أصغر من قطع المنار، فقال بعض المنتقدين: إن هذا فهرس لا
كتاب، وهذا قول خطأ ليس بصواب، فإن الفهرس عناوين ناقصة، وهذه مسائل
وقضايا تامة، وعندي أن وجود مثل هذا الكتاب في أيدي القارئين من هذه الأمة
العربية ضروري؛ لأنه خلاصة وجيزة لتاريخ أمتهم المدني يسهل فهمهما
وتعميمها بين جميع الطبقات والأصناف حتى يكون جمهور الأمة على علم إجمالي
بمآثر سلفه ومفاخرهم، يُرجى أن يبعثهم على إحياء مجدهم وتجديد عهدهم.
وينتقد على الكتاب أن بعض مسائله غير محررة، وسبب ذلك أنها ذكرت على
سبيل النموذج لا التحرير والتحقيق، ومن ذلك التفرقة بين بعض العلوم والفنون،
وذكر أعظم رجالها وأئمتها، ويتبع ذلك التساهل في التعبير كقوله في الكلام عن
التصوف: قيل: التصوف نسبة إلى الصوف، أراد أن يقول إن التصوف مشتق
من الصوف، أو أن الصوفي منسوب إلى الصوف الذي كان يلبسه. وفيه أغلاط
طبعية لم تذكر في آخر الكتاب من جدول التصحيح ككلمة (الذكاة) وصوابها
(الزكاة) وكلمة (الفاني الباقلاني) وصوابها (القاضي الباقلاني) كلاهما في ص
153 , ومثل هذا غير مقلل من فائدة الكتاب التي بيناها، وقد طبع الكتاب بمطبعة
هندية بالقاهرة سنة 1336 وتوجه مؤلفه باسم الأمير فيصل الشهير - جعله تقدمةً له -
فنال منه جائزةً سَنيةً، وهو يباع في مكتبة المنار وغيرها، وثمن النسخة منه 35
قرشا.
***
شذرات
(لقب السيد والسي)
ابتدع بعض الجرائد العربية المحدثة في زمن الحرب إطلاق لقب: (السيد)
على كل أحد، وجعله بدلاً من كلمة أفندي التركية، و (مسيو ومستر) الإفرنجيتين،
فأنكر ذلك السواد الأعظم من العرب، المسلمين والنصارى جميعًا؛ لأن أكثر المسلمين
يخصون بهذا اللقب آل بيت الرسول عليه وعليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يجعله
للحسينيين منهم، ويخص الحسنيين بلقب (الشريف) ولا يشذ عن هذا التخصيص
إلى استعمال هذا اللقب لتعظيم كل من يراد تعظيمه إلا القليل من الشاميين والأقل من
غيرهم، ويرى بعض الباحثين أن الأصل في ذلك نزعة ناصبية أو يزيدية، وأما
النصارى فيخصون بهذا اللقب سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، وبعض كبراء
رجال الدين كالبطرك والمطران، وقد سبق المغاربة والمصريون إلى استعمال كلمة
(السيّ) في هذا المقام، ويظن كثيرون أنها مختصرة من كلمة السيد، والصواب أن
هذا لفظ مستقل، مكسور السين مشدد الياء، ومعناه: المثل، ومثناه: (سيَّان)
مستعمل، وجمعه: أسواء كشبه ومثل، وأشباه وأمثال، وهو جدير بأن يعمم في
الاستعمال.
***
خسارة سورية من رجال العلم والدين
خسرت سورية في أثناء هذه الحرب أكبر رجال الدين فيها علمًا وهديًا
وأخلاقًا: الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ محمد كمال الرافعي الطرابلسي، وإننا
ننتظر من أوليائهما أن يوافونا بمذكرتين من تاريخهما نستعين بهما على ترجمتهما.
__________(21/109)
شعبان - 1337هـ
مايو - 1919م(21/)
الكاتب: القلقشندي
__________
أعراب الشام
في القرنين السابع والثامن
للهجرة الشريفة
جاء في الكلام على المملكة الشامية من الجزءِ الرابع من (صبح الأعشى) بيان
عن العربان التابعين لها، وبطون العرب أولو الإمرة فيهم، نلخص منه ما يأتي،
قال:
البطن الأول
آل ربيعة من طيئ من كهلان من القحطانية
وهم بنو ربيعة بن حازم بن علي بن مفرج بن دَغْفَل بن جراح، وقد تقدم
نسبه مستوفًى مع ذكر الاختلاف فيه في الكلام على ما يحتاج إليه الكاتب في المقالة
الأولى. قال في (العِبر) : وكانت الرياسة عليهم في زمن الفاطميين - خلفاء
مصر - لبني الجراح، وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح، وكان من إقطاعه
الرملة، ومن ولده حسان وعلي ومحمود وحرار، وولي حسان بعده فعظم أمره، وعلا
صيته، وهو الذي مدحه الرياشي الشاعر في شعره، قال الحمداني: وكان مبدأ ربيعة
أنه نشأ في أيام الأتابك زنكي صاحب الموصل، وكان أمير عرب الشام أيام طغتكين
السلجوقي صاحب دمشق، ووفد على السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب
الشام فأكرمه وشاد بذكره. قال: وكان له أربعة أولاد، هم فضل ومراد وثابت
ودغفل، ووقع في كلام المسبحي أنه كان له ولد اسمه بدر، قال الحمداني: وفي آل
ربيعة جماعة كثيرة أعيان لهم مكانة وأبهة، أول من رأيت منهم مانع بن حديثة ,
وغنام بن الطاهر، على أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب. قال:
ثم حضر بعد ذلك منهم إلى الأبواب السلطانية في دولة المعز أيبك والي أيام المنصور
قلاوون زامل بن علي بن حديثة، وأخوه أبو بكر بن علي، وأحمد بن حجي وأولاده
وإخوته، وعيسى بن مُهنا وأولاده وأخوه، وكلهم رؤساء أكابر وسادات العرب
ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة وصيت عظيم، إلى رونق بيوتهم
ومنازلهم.
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
ثم قال: إلا إنهم مع بعد صيتهم قليل عددهم، قال في (مسالك الأبصار) :
لكنهم كما قيل:
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
ولم يزل لهم عند الملوك المكانة العلية والدرجة الرفيعة، يحلونهم فوق
كيوان وينوعون لهم جناس الإحسان، قال الحمداني: وفد فرج بن حية على
المعز أيبك، فأنزله بدار الضيافة، وأقام أيامًا، فكان مقدار ما وصل إليه من عين
وقماش وإقامة - له ولمن معه - ستةً وثلاثين ألف دينار. قال: واجتمع أيام
(الظاهر بيبرس) جماعة من آل ربيعة وغيرهم، فحصل لهم من الضيافة خاصة في
المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار، وما يَعلم ما صُرف على يدي من بيوت الأموال
والخزائن والغلال للعرب خاصة إلا الله تعالى.
واعلم أن آل ربيعة قد انقسموا إلى ثلاثة أفخاذ هم المشهورون منهم، ومن
عداهم أتباع لهم وداخلون في عددهم، ولكل من الثلاثة أمير مختص به.
(الفخذ الأول: آل فضل) : وهو فضل بن ربيعة المقدم ذكره، وهم رأس
الكل وأعلاهم درجةً وأرفعهم مكانةً، قال في (مسالك الأبصار) : وديارهم من
حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة، آخذين إلى شقي الفرات وأطراف العراق
حتى ينتهي حدهم قبلة بشرق إلى الوشم، آخذين يسارًا إلى البصرة، ولهم مياه
كثيرة، ومناهل مورودة:
ولها منهل على كل ماء ... وعلى كل دمنة آثار
ثم نقل المؤلف بعد هذا نبذةً من (مسالك الأبصار) في تشعب بني فضل إلى
شعب كثيرة، وأن أفضل بيت من بيوتهم في عهد مؤلفه (آل عيسى) وفروعه،
وقوله فيهم: وهؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر فيما بعد واقترب، وسادات
الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب.
قال المؤلف: وأما الإمرة عليهم فقد جرت العادة أن يكون لهم أمير كبير
منهم يولى من الأبواب السلطانية، ويكتب له تقليد شريف بذلك، ويلبس تشريفًا
أطلس أسوة النواب إن كان حاضرًا، أو مجهز إليه إن كان غائبًا، ويكون لكل
طائفة منهم كبير قائم مقام أميره عليهم، وتصدر إليه المكاتبات من الأبواب الشريفة
إلا أنه لا يكتب إليه تقليد ولا مرسوم. قال في (مسالك الأبصار) : ولم يصرح
لأحد منهم بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي
السلطان (صلاح الدين يوسف بن أيوب) .
ثم ذكر بعض أمرائهم، وموالاة بعضهم للتتار، وشؤونهم مع سلاطين مصر.
وبعد انتهاء الكلام على الفخذ الأول من آل ربيعة، قال:
(الفخذ الثاني من آل ربيعة: آل مرا) ، نسبةً إلى مرا بن ربيعة.
وقال في (مسالك الأبصار) : ديارهم من الجيدور والجولان إلى الزرقاء
والخليل إلى بصرى، ومشرقًا إلى الحرة المعروفة بحرة كشت، قريبًا من مكة
المعظمة إلى شعباء إلى نيران مزريد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي، طاب
لهم البر وامتد لهم المرعى أوان خصب الشتاء، فتوسعوا في الأرض، وأطالوا عدد
الأيام واليالي حتى تعود مكة المعظمة وراء ظهورهم، ويكاد سهيل يصير شامهم،
ويصيرون بوجوههم مستقبلين الشام، وقد تشعب آل مرا أيضًا شعبًا كثيرةً، وهم
آل أحمد بن حجي , وفيهم الإمرة، وآل مسخر وآل نمي وآل بقرة وآل شماء.
وممن ينضاف إليهم ويدخل في إمرة أمرائهم: حارثة والخاص ولام وسعيدة
ومدلج وقرير وبنو صخر وزبيد حوران - وهم زبيد صَرخَد - وبنو غني، وبنو
عرقال، ويأتيهم من عرب البرية آل ظفير، والمفارجة، وآل سلطان، وآل غري،
وآل برجس، والحرسان، وآل المنيرة، وآل أبي فضيل، والزراق، وبنو حسين
الشرفاء، ومطين، وخثعم، وعدوان، وغزة. قال: وآل مرا أبطال مناجيد ورجال
صناديد وأفيال) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ((الإسراء: 50) لا يعد منهم عنترة
العبسي , ولا عرابة الأوسي، إلا أن الحظ يحظ بني عمهم (بأكثر) مما يحظهم، ولم
تزل بينهم نوب الحرب ولهم في أكثرها الغلب.
قال الشيخ شهاب الدين أبو التتار محمود الحلبي - رحمه الله -: كنت في نوبة
حمص في واقعة التتار جالسًا على سطح باب الإصطبل السلطاني بدمشق، إذ أقبل آل
مرا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسومة والجياد المطهمة
وعليهم الكرغندات الحمر الأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رءوسهم البيض،
مقلدين بالسياف، وبأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور، أمامهم العبيد تميل على
الركائب ويرقصون بتراقص المهارى، وبأيديهم الجائب التي إليها عيون الملوك
قمورًا، ووراءهم الظعائن والحمول، ومعهم مغنية لهم تعرف بالحضرمية طائرة
السمعة، سافرةً من الهودج وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً ... ليالي لاقينا جذامًا وحِمْيرا
ولما لقينا عُصبة الغلبة ... يقودون جردًا للمنية ضمرا
فلما فزعنا النبع بالنبع [1] بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأسًا سقونا بمثله [2] ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وكان الأمر كذلك، فإن الكرة أولاً كانت على المسلمين، ثم كانت لهم الكرة
على التتار، فسبحان منطق الألسنة ومصرف الأقدار.
(الفخذ الثالث من آل ربيعة: آل علي) وهم فرقة من آل فضل
المقدم ذكرهم ينتسبون إلى علي بن حديثة بن عقبة بن فل بن ربيعة، قال في
(مسالك الأبصار) : وديارهم مرج دمشق وغوطتها، بين إخوتهم آل فضل وبني
عمهم آل مرا، ومنتهاهم إلى الحوف والجبابنة إلى السكة إلى البرادع. قال في
(التعريف) : وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنا
وبقي جار الفرات في تلابيب التتار، قال في (مسالك الأبصار) : وهم آل بيت
عظيم الشأن، مشهور السادات، إلى أموال جمة ونعم ضخمة ومكانة في الدول
علية، وأما الإمرة عليهم فقد ذكر في (مسالك الأبصار) أنه كان أميرهم في
زمانه رملة بن جماز بن محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثه بن عقبة بن فضل بن
ربيعة، ثم قال: وقد كان جده أميرًا ثم أبوه، قلد الملك الأشرف (خليل بن
قلاوون) جده محمد بن أبي بكر إمرة آل فضل، حين أمسك مُهنا بن عيسى، ثم
تقلدها من الملك الناصر أخيه أيضًا حين طرد مهنا وسائر إخوته وأهله. قال:
ولما أمر رملة كان حدث السن، فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر، وقدموا على
السلطان بتقادمهم، وتراموا على الأمراء وخواص السلطان وذوي الوظائف، فلم
يحضرهم السلطان إلى عنده ولا أدنى أحدًا منهم، فرجعوا بعد معاينة الحين
بخفي حنين، ثم لم يزالوا يتربصون به الدوائر وينصبون له الحبائل، والله تعالى
يقيه سيئات ما مكروا، حتى صار سيد قومه وفرقد دهره، والمسود في عشيرته،
المبيض لوجوه الأيام بسيرته، وله إخوة ميامين كبرًا، هم أمراء آل فضل وآل
مرّا، وقد ذكر القاضي تقي الدين ابن ناظر الجيش في (التثقيف) : أن الأمير
عليهم في زمانه في الدولة الظاهرية برقوق كان عيسى بن جماز اهـ المراد منه.
هذا تعريف وجيز بآل فضل وآل مرّا من عرب الشام، ثم ذكر القلقشندي في
الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى في الكلام على من يولى عن الأبواب
السلطانية بمصر ممن هم خارج دمشق أمراء العربان، وأنهم طبقتان، الطبقة
الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف (بالمجلس العالي) وهو أمير
آل فضل خاصةً سواء كان مستقلاًّ بالإمارة أو شريكًا لغيره فيها، وبعد أن ذكر
صورة تقليدين لهؤلاء -أعني أمراء آل فضل- ذكر أن الطبقة الثانية التي تلي
طبقتهم من عرب الشام هي التي يكتب لها بالإمرة مرسوم شريف لا تقليد، وأنهم
مرتبتان، المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف، وهم ثلاثة:
(الأول) : أمير آل علي.
(والثاني) : التقدمة على عربي آل فضل وآل علي.
(والثالث) : أمير آل مراء، وذكرا نموذجًا مما يكتب لكل منهم.
وسننشر من ذلك ما فيه العبرة لمن يقابل أمثال هذا وذاك بما صارت إليه
عرب الشام وغيرهم من بعد استيلاء الترك على مصر والشام إلى هذه الأيام،
فقد كانت قبائل الأعراب قوةً عظيمةً للدول المصرية والشامية فأضعفتها الدولة
التركية، وما كان سبب ذلك إلا محافظة الترك على عجمتهم وتعصبهم لتركيتهم،
على ما كانت عليه من الفقر والعداوة، فإنه لم تدون لها المعاجم ويُبدأ بجعلها لغة
علم إلا في النصف الثاني من القرن الماضي (الثالث عشر للهجرة) بعد ضعف
الدولة ودبيب الانحلال فيها، ولو حافظت على العرب والعربية لما حل بها
وبالإسلام ما يبكيان منه في هذه الأيام، وسنبين ذلك بالجلاء التام.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المراد بالنبع القِسيّ وهو في الأصل شجر تتخذ منه.
(2) الصواب (بمثلها) لأن الكأس مؤنثة.(21/132)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
معاهدة الصلح
(1)
وضع رؤساء وزراء الحلفاء مع الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة
شروط صلح بينهم وبين الحكومة الألمانية في مجلد ضخم، ونشرت خلاصتها
شركة روتر في برقية وردت من لندن في 7 مايو، وهذه ترجمتها العربية:
هذه خلاصة رسمية لمعاهدة الصلح، وهي تتألف من مقدمة وصفية،
وديباجة وخمسة عشر فصلاً:
المقدمة الوصفية للخلاصة
إن نص معاهدة الصلح الذي سلم إلى الألمان الآن، يراد به أولاً: تبيان
الشروط التي بها وحدها يقبل الحلفاء والدول المشتركة معهم أن يعقدوا الصلح مع
ألمانيا , وثانيًا: إيجاد التدابير الدولية التي ابتكرها الحلفاء لمنع وقوع الحروب في
المستقبل وتسوية أمور البشر، ولهذا السبب الأخير أدمج في المعاهدة عهد جمعية الأمم
والاتفاق الدولي الخاص بالعمل والعمال.
على أن المعاهدة لا تبحث إلا نادرًا في المشاكل الناشئة عن تصفية
الإمبراطورية النمسوية، ولا في أملاك الدولتين المعاديتين: التركية والبلغارية، إلا
في ما يقيد ألمانية بقبول التسويات المقبلة التي يستقر عليها قرار الحلفاء فيما يتعلق
بهاتين الدولتين.
وتقسم المعاهدة إلى 15 فصلاً، فالفصل الأول يحتوي على عهد جمعية الأمم
التي عينت لها وظائف في مواضع شتى من المعاهدة، والفصل الثاني يصف حدود
ألمانية الجغرافية ابتداءً من المنطقة الشمالية الشرقية من حدود البلجيك الحالية.
ويتألف الفصل الثالث من 12 مادة يشترط فيها على الألمان قبول التغيير
السياسي الذي تقضي به المعاهدة في أوربا، وهذا الفصل يقضي بإنشاء دولتين
جديدتين: دولة التشك والسلوفاك، ودولة بولندة. وينص على الاعتراف بهما،
وينقِّح قاعدة سيادة البلجيك ويغير حدودها، وينص على إنشاء أنظمة جديدة من الحكم
في لكسمبرج ووادي السار، ويرد الإلزاس واللورين إلى فرنسة، ويقضي باحتمال
إضافة أملاك إلى الدنمرك، ويجبر ألمانية على الاعتراف باستقلال النمسة
الجرمانية , وقبول الشروط التي توضع للدول والحكومات التي نشأت منذ الثورة
الروسية.
ويبحث الفصل الرابع في التعديل السياسي للبلدان الواقعة في خارج أوربة ,
والتي تأثر مركزها بالحرب، وفيه تنازل عام في ألمانية عن أملاكها وحقوقها في
الخارج، وأن تسلم إلى الحلفاء مستعمراتها والحقوق التي اكتسبتها في أفريقية
بالاتفاقات الدولية المختلفة، ولا سيما عقد برلين سنة 1885، وعقد بروكسل سنة
1895 التي عينت نصيب كل من الدول الأوربية في قلب أفريقية، ويتضمن هذا
الفصل اعتراف الدول بالحماية البريطانية على القطر المصري، وينقض عقد
الجزيرة الذي كان خطوةً من خطوات سياسة الاعتداء الألمانية التي أوصلت إلى
الحرب.
ويتضمن الفصل الخامس شروط الصلح العسكرية البرية والبحرية
والجوية، وتحديد جيش ألمانية وأسطولها، ويقضي بإلغاء التجنيد الإجباري في
ألمانية توطئةً لجعل هذا الإلغاء عامًّا.
وينص الفصل السادس على أنه يجب على جميع الدول الموقعة للمعاهدة أن
تصون قبور قتلى الحرب، ويتضمن بيان كيفية إعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم.
والفصل السابع خاص بأمور التبعة والعقاب، وهو ينص على محاكمة
الإمبراطور ولهلم.
وفي الفصل الثامن بيان كيفية التعويض المطلوب من ألمانية، وفيه نصوص
خصوصية عن الأوراق، ومفاخر الحرب التي أخذها الألمان في الحروب السابقة.
ويتضمن الفصل التاسع المواد المالية، وهي تختص بتنفيذ ما اشترط في
الفصل السابق.
والفصل العاشر طويل جدًّا كثير الوجوه، وهو يحتوي على النصوص
الاقتصادية ويؤيد المعاهدات والاتفاقات الدولية المختلفة التي ليست بذات صبغة
سياسية كالمعاهدات الخاصة بالبوستة والتلغراف والقوانين الصحية، وبالإجمال
جميع الاتفاقات التي تقيدت بها الدول المتمدنة قبل الحرب، وقد أضيف إلى هذا
الفصل نصوص خاصة للتحكم في تجارة الأفيون والعقاقير التي تماثله.
وأما الفصل الحادي عشر فخاص بالملاحة الجوية.
وفي الفصل الثاني عشر مواد تبحث في المراقبة الدولية على الموانئ،
والترع والأنهار وسكك الحديد، وفيه نصوص خاصة على قنال كيال.
والفصل الثالث عشر يتضمن الاتفاق الدولي الخاص بالعمل والعمال.
وأما الفصل الرابع عشر فيحتوي على الضمانات اللازمة لتنفيذ المعاهدة.
والفصل الخامس عشر عبارة عن مجموعات من المواد المختلفة، منها
الاعتراف بما يعقد بعد هذه المعاهدة من معاهدات الصلح، وتأييد أحكام محاكم
الغنائم.
والمواد الأخيرة تبحث في إبرام المعاهدة وموعد الشروع في تنفيذها، وقد
جاء فيها أن النص الفرنسوي والنص الإنكليزي للمعاهدة يعدان رسميين يعول
عليهما.
ديباجة المعاهدة
في الديباجة بيان وجيز لأصل الحرب، وطلب ألمانية للهدنة، ويلي ذلك أسماء
الدول الموقعة للمعاهدة، والتي تمثلها الدول الخمس العظمى، أي: ولايات أميركا
المتحدة والإمبراطورية البريطانية وفرنسة وإيطالية واليابان ومعها البلجيك وبوليفية
والبرازيل والصين وكوبا وإكوادور واليونان وغواتيمالا وهايتي والحجاز وهندوراس
وليبريا ونكارغوى وبناما وبيرو وبولندا والبورتغال ورومانية وسربية وسيام والتشك
سلوفاكيا وإرغواي من إحدى الجهتين وألمانية من الجهة الأخرى.
ويلي ذلك أسماء المندوبين عن هذه الدول، وبعدها هذه العبارة: (وبعد ما
تبادل هؤلاء المندوبون أوراق اعتمادهم المعلمة لسلطتهم، ووجدت هذه الأوراق
وافيةً اتفقوا على ما يأتي:
تنتهي الحرب في الساعة التي يبدأ فيها بتنفيذ هذه المعاهدة، وتستأنف
العلاقات النهائية بحسب أحكام هذه المعاهدة مع ألمانيا، ومع كل دولة من دولها من
جانب الحلفاء والدول المشتركة معهم) .
الفصل الأول
في جمعية الأمم [1]
العضوية: يكون أعضاء الجمعية من الدول الموقعة لهذا العهد، وسائر الدول
التي تدعى إلى الانضمام إليه، وعلى هذه الدول أن ترسل طلب انضمامها من
غير قيد ولا شرط في خلال شهرين، ويجوز قبول أي دولة أو مستعمرة مستقلة،
أو كانت مستعمرة إذا وافق على قبولها ثلث أعضاء هيئة الجمعية، ويجوز لأية
دولة كانت أن تنسحب من الجمعية إذا أعلنت عزمها على ذلك قبل الانسحاب
بسنتين، وكانت قد قامت بجميع عهودها الدولية.
كتابة السر: تنشأ هيئة دائمة لكتابة سر (سكرتارية) الجمعية في مركزها
الذي سيكون مدينة جنيف.
هيئة الجمعية: تتألف هيئة الجمعية من مندوبي أعضاء الجمعية، وتجتمع
هذه الهيئة في مواعيد معينة، ويكون الاقتراع بالدول (أي: لا بعدد المندوبين)
ولكل دولة من أعضاء الجمعية صوت واحد، ولا يجوز أن يتجاوز عدد مندوبيها
ثلاثةً.
مجلس الجمعية: يتألف مجلس الجمعية من مندوبي الدول الخمس العظمى
(إنكلترة وفرنسة وإيطالية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان) مع مندوبي أربع
دول أخرى من الدول الداخلة في الجمعية، وتختارهم هيئة الجمعية من وقت إلى
وقت. ويجوز للمجلس أن يُشرك دولاً أخرى معه بالانتخاب، ويجتمع مرةً واحدةً
في السنة على الأقل، وأما الدول الداخلة في الجمعية والتي ليس لها مندوبون في
المجلس، فتُدعى إلى إرسال مندوب عنها متى بحث المجلس في أمور تهم مصالحها،
ويكون الاقتراع في هذا المجلس بالدول، ولكل دولة صوت واحد ومندوب واحد،
ويجب أن تكون قرارات الهيئة والمجلس بالإجماع إلا فيما يختص بطرق العمل
والتنفيذ، وبعض أمور أخرى نص عليها في عهد الجمعية وفي معاهدة الصلح،
ففي هذه تكون القرارات بالأكثرية.
التسليح: يصوغ المجلس الخطط الخاصة باتفاق السلاح؛ لتوضع موضع
البحث والنظر والقبول، وتنقح هذه الخطط مرةً كل عشر سنوات، ومتى تم
الاتفاق عليها لا يجوز لدولة تكون عضوًا في الجمعية أن تتجاوز قدر السلاح المعين
لها من غير موافقة المجلس، ويتبادل الأعضاء المعلومات الوافية عن السلاح
والتسلح والبيانات العسكرية، وتكون للمجلس لجنة دائمة تمده بالمشورة في الأمور
العسكرية البرية، والبحرية.
منع وقوع الحرب: إذا وقعت حرب أو بما خطر من وقوع حرب، فالمجلس
يجتمع للبحث في ما يجب اتخاذه من العمل المشترك، ويتعهد أعضاء جمعية الأمم
بأن يعرضوا مسائل النزاع بينهم للتحكيم أو التحقيق، وأن لا يلجئوا إلى الحرب إلا
بعد صدور الحكم بثلاثة أشهر، ثم إن الأعضاء متفقون على تنفيذ حكم التحكيم،
وعلى عدم محاربة الخصم الذي يذعن له من الفريقين المتنازعين، فإذا أبى أحد
الأعضاء (الدول) تنفيذ الحكم، فالمجلس يعرض التدابير التي يلزم اتخاذها.
ويضع المجلس الخطط لإنشاء محكمة دولية، والمحكمة تحكم في المنازعات
بين الدول وتقدم المشورة، فالأعضاء (الدول) الذين لا يريدون عرض قضاياهم
على التحكيم يجب أن يقبلوا حكم المجلس أو الهيئة، فإذا اتفق أعضاء المجلس -
ما عدا مندوبي الفريقين المتنازعين - اتفاقًا إجماعيًّا على حقوق أحد الفريقين،
فالأعضاء (الدول) يسلمون بأنهم لا يحاربون الفريق المنازع الذي يذعن لما يشير
المجلس به، وفي هذه الحالة يكون لمشورة الهيئة باتفاق جميع أعضائها (الدول)
الممثلين في المجلس، وبأكثرية بسيطة من الباقين (أي: من الدول الصغرى
التي لها 4 مندوبين في المجلس) - ما عدا الفريقين المتنازعين - قوة القرار
الإجماعي من المجلس، وفي كلتا الحالتين إذا لم يتيسر الوصول إلى الاتفاق
المطلوب فالأعضاء يحفظون لأنفسهم الحق في فعل ما يرونه لازمًا لصون الحق
والعدل.
والأعضاء (الدول) الذي يلجأون إلى الحرب غير مكترثين للعهد، يحرمون
كل اتصال وعلاقة بسائر الأعضاء (الدول) وفي هذه الأحوال يبحث المجلس
في الأعمال العسكرية البرية والبحرية التي يمكن للجمعية أن تعملها لحماية العهد،
ويقدم التسهيلات للأعضاء (الدول) التي تعاون في هذه المهمة.
صحة المعاهدات: جميع المعاهدات أو العهود الدولية التي تبرم بعد إنشاء
جمعية الأمم يجب أن تسجل في كتابة السر (السكرتارية) وتنشر، ويجوز لهيئة
الجمعية أن تشير على أعضائها (دولها) من حين إلى حين بإعادة النظر في
المعاهدات التي لم تعد صالحةً للعمل، أو التي يكون في تطبيقها خطر على السلام،
والعهد يقضي بنقض جميع المعاهدات التي تعقد بين الدول الموقعة له، والتي
تناقض نصوصه، ولكن ليس في العهد ما يمس صحة المعاهدات الدولية،
كمعاهدات التحكيم أو الاتفاقات المحلية، كمذهب (منرو) لأجل صون السلام
وتوطيد أركانه.
نظام التوكيل: إن الوصاية على الشعوب التي لا تستطيع حتى الآن الوقوف وحدها
يعهد فيها إلى الأمم الراقية التي هي أصلح من سواها للقيام بشؤون هذه الوصاية،
والعهد يعترف بثلاث درجات من الارتقاء تقتضي أنواعًا مختلفةً من التوكيل وهي:
(ا) : الشعوب التي من قبيل شعوب السلطنة التركية، وهي التي يمكن أن
يعترف باستقلالها مؤقتًا بشرط أن تستمد المشورة والمساعدة من دولة موكلة يسمح
لتلك الشعوب بأن يكون لها صوت في اختيارها [2] .
(ب) : الشعوب التي هي من قبيل أهل أفريقية الوسطى، وهذه تدار
أمورها بواسطة دول موكلة بشروط يوافق عليها أعضاء جمعية الأمم بالإجمال، وفي
بلاد هذه الشعوب يتساوى جميع أعضاء الجمعية في التجارة، ويحظر فيها بعض
المساوئ، كالنخاسة وبيع السلاح والمسكرات، ويمنع إنشاء القواعد العسكرية البرية
والبحرية والخدمة العسكرية الإجبارية.
(ج) : الشعوب الأخرى التي من قبيل سكان القسم الجنوبي الغربي من
أفريقية وجزائر الباسفيك الجنوبي، فهذه تدار أمورها أحسن إدارة بقوانين الدول التي
توكل بها كما لو كانت أجزاءً من أملاك تلك الدول غير قابلة للانفصال عنها، وفي
جميع الأحوال المتقدمة يتعين على الدول الموكلة أن تقدم تقريرًا سنويًّا، والجمعية
تعين لها درجة سلطتها.
نصوص دولية عامة: تهتم الدول أعضاء الجمعية بالإجمال، وتسعى
بواسطة جمعية دولية يؤلفها مؤتمر العمال للمحافظة على شروط الإنصاف مع
العمال من الرجال والنساء والأولاد، في بلدانهم وسائر البلدان، وتتعهد أيضًا
بأن تعدل مع معاملة الأهالي الوطنيين في البلاد التي تحت سيادتها، وكل ذلك طبقًا
لنصوص الاتفاقات الدولية الموجودة أو التي يتفق عليها فيما بعد، وهذه الدول
تعطي الجمعية حق المراقبة العامة على تنفيذ الاتفاقات الخاصة بمنع الاتجار بالنساء
والأولاد، أو تشغيلهم إلخ، ومراقبة تجارة السلاح والذخيرة في البلاد التي
يجب فيها هذه المراقبة، ثم إن هذه الدول تتخذ ما يلزم من التدابير لحرية
المواصلات والنقل والمساواة في معاملة متاجر جميع أعضاء الجمعية مع
المراعاة الخاصة لحاجات البلاد التي خربت في أثناء الحرب، وتسعى لاتخاذ
التدابير والاحتياطات اللازمة لمنع انتشار الأمراض ومراقبتها بالاتحاد الدولي،
وجميع المكاتب واللجان الدولية الموجودة الآن توضع تحت تصرف جمعية الأمم،
وكذلك اللجان والمكاتب التي تنشأ في المستقبل.
تعديل العهد وتنقيحه: ينفذ كل تعديل يعدل به العهد متى وافق عليه المجلس
وأكثر المندوبين في هيئة الجمعية.
الفصل الثاني
في حدود ألمانية
وصفت حدود ألمانيا في مادتين، إحداهما خاصة بألمانية نفسها، والأخرى
بروسية الشرقية , وقد وصفت الحدود بين دولة بولندة الجديدة وألمانية، وبين
بولندة وبروسية الشرقية، والحد الجديد بين بروسية الشرقية ولتوانية وصفًا مفصلاً
في كل ما لم يترك الحكم النهائي فيه للجان التحديد التي أرسلت إلى هناك، أما الحد
الفاصل بين ألمانية والبلجيك فيتبع خطًّا وُصف في فصل آخر عن البلجيك، وأما
الحد الفاصل بين ألمانية ولكسمبرج، وبين ألمانية وسويسرة فهو عين الحد الذي
كان في أغسطس سنة 1914، وأما الحد الفاصل بين ألمانية وفرنسة فهو الحد الذي
كان بينهما في 18 يوليو 1870 مع قيد خاص بوادي السار، والحد الذي يفصل
بين ألمانية والنمسة هو الحد الذي كان بينهما في أغسطس 1914 إلى الموضع
الذي تبدأ منه دولة التشك والسلوفاك الجديدة، ويسير حد هذه الدولة الجديدة على
الحد القديم بين ألمانية والنمسة إلى حيث تبدأ بلاد دولة بولندة الجديدة، وأما التخوم
بين ألمانية والدانمرك وجزء من التخوم بين روسية الشرقية وبولندة، فهذه يحكم
فيها في ما بعد بحسب نتيجة الاستفتاء في الحالين.
الفصل الثالث
في المواد السياسية في أوربة
البلجيك: تقبل ألمانية نقض معاهدة سنة 1839 التي قضت بأن تكون البلجيك
محايدةً، وعينت حدودها إلخ، وتوافق سلفًا على أي عهد يتفق الحلفاء على استبداله
بها، وعلى ألمانية أن تعترف بسيادة (ملكية) البلجيك التامة على بلاد
(مورصناه) المختلف عليها، وجزء من بلاد مورصناه البروسية، وأن تتنازل
البلجيك عن جميع حقوقها على (أوبن وتمليدي) وإنما يحق لسكانهما أن يحتجوا
بعد ستة أشهر [3] على هذا التغيير كله أو بعضه، ويكون الحكم النهائي في المسألة
لجمعية الأمم، ويعهد في تسوية تفاصيل الحدود إلى لجنة.
ويتضمن هذا الفصل قوانين شتى عن تغيير الأفراد لرعويتهم، وتكون البلاد
التي تأخذها البلجيك خالصةً من جميع الديون والأعباء.
لكسمبرج: تتنازل ألمانية عن معاهداتها واتفاقاتها المختلفة مع (غرندوقية
لكسمبرج) وتعترف بأنها لم تعد داخلةً في النظام الجمركي الألماني ابتداءً من أول
يناير الماضي، وتتنازل عن كل حقوقها في استغلال سكك الحديد فيها، وتسلم
بإلغاء حيادها، وتقبل سلفًا الاتفاقات الدولية التي يبرمها بشأنها الحلفاء والدول
المشتركة معهم.
ضفة (الرين) اليسرى: يجب على ألمانيا - طبقًا لما نص عليه في الفصل
العسكري التالي - أن لا تُبقي حصونًا ولا معاقل (استحكامات) في مواضع تبعد
عن ضفة نهر الرين الشرقية أكثر من خمسين كيلوا مترًا، ولا تنشئ في تلك
المواضع معاقل جديدة، ولا يجوز لها أن تبقي في الشقة المذكورة قوات مسلحةً
دائمةً أو وقتية، ولا تجري مناورات عسكريةً، ولا تكون لها مبان أو معامل
تسهل تعبئة الجيش، فإذا خرقت نصوص هذه المادة عدت مرتكبةً عملاً عدائيًّا ضد
الدول الموقعة لهذه المعاهدة، واعتبر ذلك منها عزمًا على تكدير صفاء السلم في
العالم، وعليها بحكم هذه المعاهدة أن تلبي كل استيضاح يرسله إليها مجلس جمعية
الأمم.
السار: تتنازل ألمانية لفرنسة عن الملكية التامة لمناجم الفحم في حوض السار
مع كل ما يتبع هذه المناجم من الأدوات والمهمات والوسائل، ويعد هذا تعويضًا
لفرنسة عن مناجم الفحم التي خربها الألمان في شمال بلادها، وجزءًا من الأموال
التي يتعين على ألمانية دفعها على حساب التعويض، وتقدر قيمة هذه المناجم لجنة
التعويض، وتقيد لألمانية في الحساب، وتكون الحقوق الفرنسوية في هذا الحوض
خاضعةً للقوانين الألمانية التي كانت نافذةً عند عقد الهدنة إلا فيما يختص بالتشريع
الحربي، وتحل فرنسة محل أصحاب المناجم الحاليين، وهؤلاء يأخذون العوض
من ألمانية، وتقدم فرنسة المقادير اللازمة من الفحم لسد الحاجات المحلية،
وتدفع نصيبها الحق من الرسوم والضرائب المحلية، ويمتد هذا الحوض من حدود
اللورين كما أعيدت إلى فرنسة ويسير شمالاً إلى (سان فندل) فيشمل من الغرب
وادي السار إلى (سارهولز) ومن الشرق مدينة (هومبرج) لكي تضمن للأهالي
حقوقهم ورفاهيتهم. ولفرنسة الحرية التامة في استغلال المناجم وتتولى حكم الحوض
المذكور لجنة تعينها جمعية الأمم، وتتألف من خمسة أعضاء، أحدهم فرنسوي والآخر
من أهل السار، والثلاثة الباقون ينوبون عن ثلاث بلدان مختلفة غير فرنسة،
وألمانية، وتعين جمعية الأمم أحد أعضاء اللجنة رئيسًا لها، ويكون صاحب السلطة
التنفيذية فيها، وتكون لهذه اللجنة جميع سلطات الحكم الذاتي التي كانت قبلاً
للإمبراطورية الألمانية وبروسية وبلغارية، وتدير سكك الحديد وسواها من المصالح
العمومية، ويكون لها السلطة التامة في تغيير مواد المعاهدة. وتستمر المحاكم
المحلية، ولكنها تكون خاضعةً للجنة، وتظل الشرائع الألمانية الحالية قاعدةً
للقانون، ولكن يجوز للجنة أن تعدلها بعد استشارة مجلس نيابي محلي تؤلفه، وتكون
للَّجنة سلطة فرض الرسوم للأغراض المحلية فقط، ويجب الحصول على
موافقة هذا المجلس المحلي على فرض رسوم جديدة.
وفي كل قانون يسن للعمل والعمال، تُراعى مشيئة جمعية العمال المحلية،
وبيان جمعية الأمم الخاص بالعمال، ويجوز استخدام العمال الفرنسويين وسواهم
بلا قيد ما، ويجوز أن يكون العمال الفرنسيون الذين يستخدمون في العمل تابعين
لنقابات العمال الفرنسية، ولا يكون في بلاد السار خدمةً عسكريةً، وإنما تؤلف فيها
شرطة محلية لحفظ النظام، ويحفظ الأهالي ما لهم من المجالس المحلية وحرية
الأديان والمدارس واللغة، ولكن لا يقترعون إلا للمجالس المحلية، وتبقى لهم
جنسيتهم الحالية إلا حيث يريد الأفراد منهم تغييرها.
والأهالي الذين يرغبون في مغادرة بلاد السار يمنحون كل تسهيل في ما
يختص بأملاكهم، وتكون البلاد داخلةً في النظام الجمركي الفرنسي، ولا تجبى
ضريبة على ما يصدر من فحمها ومعادنها إلى ألمانية، ولا على المحاصيل
والمواد الألمانية التي يؤتي بها إلى الوادي، ولا تجبى رسوم الواردات على ما
يرسل من السار إلى ألمانية، ولا على ما يأتي من ألمانية إلى السار للمقطوعية
المحلية، وذلك لمدة خمس سنوات، ويجوز تداول النقود الفرنسية بلا قيد ولا
تحديد.
وبعد انقضاء خمس عشرة سنةً تستفتى قوى البلاد للوقوف على رغبة أهلها
وهل يفضلون استمرار النظام المنصوص عليه هنا تحت حماية جمعية الأمم، أو
يريدون الانضمام إلى فرنسة، أو الانضمام إلى ألمانية، ويكون الاقتراع حقًّا لجميع
من كان من السكان فوق العشرين من العمر إذا كانوا مقيمين في البلاد عند إمضاء
هذه المعاهدة، ومتى أفتى أهل البلاد وظهر رأيهم، فجمعية الأمم تحكم في
تابعيتها، فإذا أعيد قسم منها إلى ألمانية وجب على الحكومة الألمانية أن تشتري
المناجم الفرنسوية فيه بثمن يقدره الخبيرون، فإذا لم يدفع الثمن بعد ذلك بستة أشهر
فإن هذا القسم يصير ملكًا لفرنسة، وإذا ابتاعت ألمانية المناجم فجمعية الأمم
تعين مقدار الفحم الذي يرسل منها إلى فرنسة.
الإلزاس واللورين: بعدما تعترف ألمانية بالواجب الأدبي المفروض عليها،
وهو تلافي الضرر الذي ألحقته سنة 1871 بفرنسة وشعب الإلزاس واللورين، فإن
الأملاك التي أعطيت لألمانية بموجب معاهدة فرنكفورت ترد إلى فرنسة الآن،
وتكون حدودها كما كانت قبل سنة 1871، ويعتبر تاريخ ذلك من يوم توقيع الهدنة
وتكون هذه البلاد المردودة خالصةً من الديون العمومية، أما الرعوية فيها فتنظم
بنصوص مفصلة يميز فيها بين الذين يعادون حالاً إلى الرعوية الفرنسية الكاملة،
والذين يجب عليهم أن يطلبوا هذه الرعوية رسميًّا، والذين يفتح لهم باب التجنس
بالجنسية الفرنسية بعد ثلاث سنوات، والفريق الأخير يشمل السكان الألمان في
الإلزاس واللورين تمييزًا لهم عن الذين ينالون حقوق أهل البلاد كما عينت في
المعاهدة، وتنتقل ملكية جميع الحكومة، وأملاك عواهل (أمبراطرة) ألمانية
السابقين في الإلزاس واللورين إلى فرنسة من غير أن تدفع ثمنها، وتحل فرنسة
محل ألمانية في ملكيتها سكك الحديد والحقوق التي لها على امتيازات الترمواي،
وتنتقل ملكية كباري الرين إلى فرنسة، وعليها أن تعنى بصونها، وتظل
مصنوعات الإلزاس واللورين تدخل ألمانية من غير أن تدفع رسومًا لمدة خمس
سنوات بحيث لا يتجاوز المجموع السنوي مما يدخل منها كذلك المتوسط السنوي
في السنوات الثلاث السابقة للحرب، ويجوز استيراد مواد النسج من ألمانية إلى
الألزاس واللورين، وإعادة إصدارها معفاةً من الرسوم، وتجب المحافظة على
العقود الخاصة بالتيار الكهربائي من الضفة اليمنى للرين عشر سنوات، وتكون
إدارة مينائي (كال وستراسبرج) لمدة سبع سنوات ويجوز مدها إلى عشر
سنوات - في يد مدير فرنسي تعينه لجنة الرين المركزية وتراقب أعماله.
وتضمن حقوق الملكية في الميناءين، والمساواة في المعاملة في كل ما يتعلق
بالنقل لسفن الأمم وبضائعها، وتبقى العقود المبرمة بين أهل الألزاس واللورين
والألمان مرعيةً، إلا أن لفرنسة حقًّا في نقضها بحجة المصلحة العامة، وتبقى أحكام
المحاكم نافذةً في بعض القضايا، أما في غيرها فلا بد من مرجع قضائي يعيد النظر
فيها، وأحكام العقوبات السياسية التي صدرت في أثناء الحرب تعد ملغاةً، ويفرض
حق تسديد غرامات الحرب، كما هي الحالة في سائر بلدان الحلفاء.
وفي هذا الباب نصوص عامة في المعاهدة تتعلق بأحوال الألزاس واللورين
الخصوصية، وقد تركت بعض أمور التنفيذ إلى اتفاقات تعقد بين فرنسة وألمانية.
النمسة الجرمانية: تعترف ألمانية بالاستقلال التام للنمسة الجرمانية بلاد
التشك والسلوفاك - تعترف ألمانيا بالاستقلال التام لدولة التشك والسلوفاك وهذا
يشمل بلاد (الروذينيين) المستقلين جنوبي جبال كرباتية، وتقبل أن تكون حدود
هذه الدولة كما ستعين، أما الحدود التي تفصلها عن ألمانية فتتبع حد بوهيميا القديم
كما كان سنة 1914 , ويلي ذلك الشروط المعتادة الخاصة بنيل الرعوية وتغييرها.
بولندة: تتنازل ألمانية لبولندة عن الجانب الأكبر من (سيابزيا) العليا
و (بوزن) وولاية (بروسية) الغربية على الضفة اليسرى من نهر الفستولا ,
وبعد عقد الصلح بخمسة عشر يومًا تؤلف لجنة تحديد من سبعة أعضاء: خمسة
منهم ينوبون عن دول الحلفاء، والدول المشتركة معهم، وواحد لبولندة، وواحد
عن ألمانية؛ لتعيين الحدود، والنصوص الخصوصية اللازمة لحماية الأقليات
القومية أو الدينية توضع في معاهدة تالية تبرم بين الحلفاء وبولندة.
(المنار)
حذفنا من هنا حدود بروسية الشرقية ودنتزج والدنمرك.
هليجرلند: تدمر الاستحكامات والمباني العسكرية والموانئ في جزيرتي
(هليجرلند) وفي الكثيب، ويكون هدمها تحت مراقبة الحلفاء بواسطة عمال ألمان
وعلى نفقة ألمانية، ولا يجوز أن يعاد بناؤها، ولا يسمح بإنشاء استحكامات أو
مبانٍ أخرى مماثلة لها في المستقبل.
روسية: تعترف ألمانيا بالاستقلال التام لجميع البلدان التي كانت جزءًا من
إمبراطورية روسية السابقة، وتحترم هذا الاستقلال، وتقبل ألمانية نهائيًّا إلغاء
معاهدة برست لتوفسك , وجميع المعاهدات والاتفاقات المختلفة التي أبرمتها
ألمانية منذ الثورة في نوفمبر 1917 مع جميع الحكومات أو الجماعات السياسية
في بلاد إمبراطورية روسية السابقة، ويحفظ الحلفاء لأنفسهم بالنيابة عن روسية
حق التعويض والترضي اللذين يطلبان من ألمانية عملاً بمبادئ المعاهدة الحالية.
(لها بقية)
(المنار)
في أوائل هذا الشهر وصل مندوبو الألمان للنظر في شروط الصلح في
باريس , وعددهم مع المساعدين والمترجمين مائة وخمسون نسمةً، واجتمعوا
بمندوبي الحلفاء بقصر (فرسايل) في 4 من الشهر، وفي 7 منه عقد الاجتماع
الرسمي الأول لمؤتمر الصلح فافتتحه الرئيس (كلمنصو) بخطبة وجيزة ذكر فيها
أن دول الحلفاء أُكرهت على الحرب، وأن ساعة الحساب الرهيبة دنت، قال: وهذه
شروط الصلح أقدمها لمندوبي الألمان، فإذا كان لهم اعتراض عليها فليقدموه مكتوبًا
في مدة خمسة عشر يومًا فقط، وناول كاتب سر المؤتمر كتاب معاهدة الصلح -
وهو مجلد ضخم فيه أكثر من ألف مادة - للكونت (بروخدورف هنتز) رئيس
مندوبي الألمان فتناوله وخطب خطبةً معتدلةً وهو قاعد، ثم ترجمت خطبته بالفرنسية
والإنكليزية، وأهم ما ذكره فيها الاعتراف بفشلهم في الحرب، أو خسارتهم لها، وبأن
تبعة الحرب ليست عليهم وحدهم، وأنه مستعد للاعتراف بما ارتكبته دولته في
الحرب، ويعيد ما قاله في مجلس النواب سنة 1914 في شأن الاعتداء على البلجيك،
وأن الألمان مستعدون للتعويض، ونوه برضاء الجميع ببناء شروط الصلح على
قواعد الرئيس (ولسون) ووجوب انضمام ألمانية وجميع الدول إلى جمعية الأمم،
وبأنهم سيفحصون شروط الصلح بحسن النية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) اختار بعض المترجمين كلمة (عصبة الأمم) على جمعية الأمم وهو أصح، ولكننا اعتمدنا في ترجمة المعاهدة وخطب ولسن السابقة على من اعتبزها جمعية.
(2) عبارة المقطم: الشعوب التي هي تابعة للسلطنة التركية والتي يُعترف باستقلالها إلخ، وعبارة الأهرام: الشعوب التي تماثل شعوب السلطنة التركية والتي يمكن الاعتراف مؤقتًا باستقلالها تكون تحت إرشاد ومساعدة الدول المنتدبة التي يجب أن يكون لهذه الشعوب صوت في انتخابها.
(3) ترجمه بعضهم (قبل مضي ستة أشهر) .(21/138)
الكاتب: أحمد نبهان الحمصي
__________
ترجمة
السيد عبد الحميد ابن السيد محمد شاكر
ابن السيد إبراهيم الزهراوي [1]
وُلد هذا الفقيد - رحمه الله تعالى - سنة ألف ومائتين وثمانٍ وثمانين للهجرة
الشريفة بمدينة حمص من أسرة كريمة، ينتهي نسبها إلى الإمام الحسين ابن السيدة
الطاهرة البتول فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - ولما أتم السادسة من عمره
وضعه والده في المكتب فتعلم القراءة والكتابة والحساب واللغة التركية على يد شيخه
الشيخ مصطفى الترك، ثم نقله والده إلى المكتب الرشدي بحمص، فأتقن وبرع في
دروسه حتى أتمها، ففاق أقرانه وتقدم رفاقه وأترابه، وكان في خلال تحصيله موضع
الإعجاب بتؤدته وترويه وحسن خلقه وتحصيله، وبعد إكمال دروسه خرج من
المكتب المُومَى إليه حاملاً شهادة التحصيل، وعكف دائبًا على تحصيل العلوم
بأنواعها، فقرأ فنون العربية بأقسامها على بعض شيوخ بلده، والفقه الحنفي على
أستاذه الشيخ حسن الخوجة، والحديث والتفسير والعقائد على محدث زمانه الشيخ
عبد الساتر أفندي الأتاسبي , ومنه أخذ الإجازة بقراءة الحديث وروايته، وقرأ
الأصول والكلام والمعقول على الشيخ عبد الباقي الأفغاني نزيل حمص المتوفى فيها،
وكان رحمه الله تعالى يجهد نفسه على التحصيل ومطالعة الكتب المطولة في كل فن
حتى بلغ شأوًا قصر عنه أقرانه.
بعد أن أتم دروسه على أساتذته كما تقدم سافر إلى الآستانة سنة 1308 بقصد
السياحة، فأقام فيها برهةً وجيزةً، ثم سافر منها إلى مصر محط رحال العلماء،
فحل نزيلاً في دار نقيب الأشراف وقتئذ السيد توفيق البكري، وهناك اجتمع بكثير
من الفضلاء والأدباء، وجرت بينه وبينهم مطارحات شعرية على البداهة فكان
محل إعجاب الجميع، ثم رجع إلى وطنه حمص عن طريق بيروت فالشام.
بعد مكثه في بلده بضعة شهور أصدر جريدةً سماها (المنير) كان ينشر في
كل عدد منها مقالات في الإمامة وشروطها، وينتقد أعمال الحكومة الجائرة منبهًا
لها على سوء العاقبة إن دام هذا الجور والعسف [2] ، وكان يطبعها على مادة
غروية على حسابه ويرسلها مجانًا إلى البلدان بواسطة البريد، لذلك اتصلت
أبحاثها بمسامع الحكومة، فكانت تصدر التلغرافات الرمزية إلى المراكز بمنع هذه
الجريدة كغيرها مما ينبه الأذهان وينشط الكسلان حسب العادة المألوفة في ذاك
الزمان.
وفي سنة 1313 سافر ثانية إلى الآستانة بقصد التجارة، فاتخذ مخزنًا هناك
في محل يسمى (سلطان أوطه لر) ولما كان مخلوقًا للعلم والحكمة والإصلاح لا
للتجارة، ثقلت عليه أعمال التجارة فتركها وعكف على مطالعة الفنون والعلوم في دور
الكتب العمومية، وقلما خلت منها واحدة من مراجعته لأكثر كتبها.
في غضون تلك الأيام طلبه صاحب جريدة (المعلومات) طاهر بك؛ ليكون
محررًا لجريدته (المعلومات العربية) فباشر العمل بكل همة ونشاط، فكان يكتب فيها
المقالات الأدبية والإصلاحية التي لم يكن يتجرأ أحد في البلاد العثمانية على نشر مثلها
مع شدة المراقبة على الجرائد في ذلك الحين [3] ، ثم أخذ تحت المراقبة من قِبل
السلطان عبد الحميد؛ لأنه زار سفارة إنكلترة هو وإسماعيل كمال بك الألباني الشهير
مع آخرين مظهرين ارتياحهم لانتصاره على البوير، فساء السلطان أن ألف وفد
سياسي في الآستانة لعمل نفذه ولم يعلم هو به إلا بعد وقوعه، ثم عين إسماعيل كمال
واليًا لطرابلس الغرب بقصد إبعاده عن الآستانة إلى حيث لا يستطيع عملاً سياسيًّا،
بل حيث يسهل الانتقام منه، فلم يقبل، فاسترضته الحكومة حينئذ فلم ينخدع، فلما
أعيتهم الحيل فيه صرفوا النظر عنه، وعُين المترجَم في ذلك الوقت قاضيًا لأحد
الألوية فلم يقبل أيضًا، وكان القصد من هذا التعيين كالأول خشية أن تسري كهربائية
أفكاره المتنورة إلى غيره.
وبعد أن أوقف تحت المراقبة أربعة أشهر، أرسل إلى دمشق الشام (مأمور
إقامة) تحت المراقبة براتب خمسمائة قرش كل شهر.
وفي خلال إقامته بدمشق كتب رسالةً في الإمامة، بين شروطها التي ذكرها
الفقهاء والمتكلمون، ورسالةً في الفقه والتصوف نقد فيها بعض المسائل فيهما،
وبَحَثَ في الاجتهاد شأن من سبقه في مثل هذا النقد والبحث، فلما اطلع على هذه
الرسالة بعض المعاصرين الجامدين، أغروا العامة به زاعمين أنه مخالف للدين،
فضج الناس وقتئذ عن غير روية؛ لأنهم أتباع كل ناعق، وكان الوقت عصر جمعة
من أيام رمضان [4] ، وحشدت العامة من كل فج، فكادوا أن يوقعوا بالمترجَم شرًّا
لولا أن تداركته العناية الإلهية، وذلك مما يدل على شجاعته وإخلاص يقينه بربه
حيث كان غريبًا وحيدًا عن عشيرته في بلد غير بلده، وقد أثار بعض المتصفين
بصفة العلم هذه الفتنة باسم الانتصار للدين، والله يعلم المفسد من المصلح.
شاع الخبر فبلغ الوالي يومئذ، وهو ناظم باشا، فخشي أن ينالوا منه نيلاً،
فحسمًا للفتنة وتخليصًا لصاحب الترجمة من شرهم، وتسكينًا لحميتهم استجلبه
محافظةً على حياته وأوقفه (أي: حبسه حبسًا سياسيًّا لا يخل بكرامته) ليقف على
حقيقة الأمر، ثم إنه أحضر أولئك المحرضين، وجمعه بهم في مجلس خاص للمباحثة
في موضوع الرسالة، وطلب منهم إثبات ما زعموه من أنها مخالفة للدين، فما قامت
لهم حجة مقنعة على دعواهم، بل كانت حجته هي الدامغة.
عندما يئسوا من الوصول إليه بالأذى من هذا الطريق، أوحوا إلى الوالي ما
لفقوه من الإيحاءات السياسية بحقه حتى ألجأوا الوالي لمراجعة الآستانة في أمره،
فجاء الأمر بطلبه إليها، فأرسل محفوظًا عن طريق بيروت (وكانت مدة إقامته
بدمشق سنةً وستة أشهر) فبقي في الآستانة تحت الحفظ ستة أشهر، ثم أرسل
محفوظًا إلى وطنه حمص (مأمور إقامة) بالراتب المذكور، وكانت إعادته عن
طريق ميناء الإسكندرونة فحلب فحماه فحمص.
قضى مدةً عند أهله، فضاق صدره، ففر هاربًا إلى مصر - معهد الحرية -
عن طريق طرابلس الشام سنة 1320، وبعد وصوله ببرهة وجيزة رغب إليه
صاحب جريدة المؤيد أن يكون محررًا فيها، فاستلم الوظيفة وكتب ما كتب فيها من
المقالات المفيدة، ثم ألف بعض كبراء القطر المصري حزبًا سموه حزب الأمة،
وأنشأوا جريدةً له سموها (الجريدة) فدعوه إلى التحرير والتنقيح فيها، فلبى طلبهم
وداوم على عمله حتى حصل الانقلاب العثماني وأُعلن الدستور، فطلبه إخوانه
بحمص ليكون نائبًا عنهم في مجلس النواب (المبعوثين) فأجابهم حبًّا بخدمة الأمة
والوطن، فانتخب هو وخالد أفندي البرازي مبعوثين من لواء حماة، فذهب إلى
الآستانة فكان صوته في المجلس من أعلى الأصوات وأقواها في إقامة الحجة
وإيضاح المحجة.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) جاءتنا هذه الترجمة لفقيدنا العزيز من أخلص خلانه وخلاننا الأستاذ الشيخ أحمد نبهان الحمصي , وهي ترجمة تاريخية وجيزة ليس فيها شرح لعمل ولا مبالغة في وصف فنشرناها لتضم إلى ما كتبناه في رثائة وترجمته من قبل، وإن كان بعضها تكرارًا لما تقدم.
(2) كانت تلك الجريدة السرية مؤيدةً لدعوة جمعية الاتحاد والترقي الأولى التي كان أحد أعضائها.
(3) في أثناء تلك المدة أنشأنا المنار بمصر، ونشرنا في آخر عدد من سنته الأولى أصولاً للإصلاح كانت نشرت في جريدة المعلومات، وناقشناها فيها فكان ذلك أول تلاقٍ بين أفكارنا وأفكار ذلك الصديق من حيث لا ندري ولا يدري؛ لأن ما نشر في (المعلومات) بقلمه لم يكن معزوًّا إليه ولأن المنار كان ممنوعًا من البلاد العثمانية.
(4) كان تأليب بعض الجاحدين المفسدين العوام في دمشق على الفقيد في مثل ذلك الوقت من ذلك الشهر مثل تأليبهم إياهم علينا فيها بعد ذلك ببضع سنين، فكان ذلك مما يذكر الفقيد من التناسب والموافقات بيننا، وهذه الرسالة هي التي أشار إليها الأستاذ الإمام في مقالات الإسلام والنصرانية (راجع ص 169، 170 من مجلد المنار التاسع عشر) .(21/150)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ محمد كامل الرافعي
(1)
في أواخر العام الماضي فجعت طرابلس الشام، وهي غارقة مع سائر البلاد
السورية في طوفان مصائبها بوفاة أفضل علمائها وأعلم فضلائها، مَثَل الفضيلة
والإخلاص الأعلى في هذا العصر، وذكرى السلف الصالح في ذلك المصر،
أصدق أصدقائنا وأخلص أوليائنا الشيخ محمد كامل ابن الشيخ عبد الغني الرافعي
الطرابلسي الشهير.
ولد الفقيد في طرابلس الشام سنة 1272 أو 1270 , ولما بلغ سن التمييز
أقرئ القرآن الكريم وتعلم مبادئ الخط والحساب في أحد مكاتب الصبيان، ثم دخل
المكتب الرشدي العثماني، أي: المدرسة الابتدائية الرسمية للحكومة، فتعلم فيها
مبادئ اللغة التركية وما يدرس بها من مبادئ الفنون الرياضية وغيرها، ومنه النحو
والصرف للغتين العربية والتركية، وعلم الحال وهو عبارة عن العقائد والعبادات
الدينية والآداب، ثم تلقى العلوم العربية والدينية على أعلم علماء العصر الذين بذت
طرابلس بهم كل مصر: والده والشيخ محمود نشابه والشيخ حسن الجسر، فقد كان
وجود هؤلاء في طرابلس مصدقًا لقول المتنبي:
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصر عن طرابلس
ولما كانت الرحلة في طلب العلم مزيد كمال في التعليم - كما قال الحكيم ابن
خلدون - لما فيها من حفز الهمة والانقطاع إليه بمفارقة الأهل والأحبة، وكان
حب عشيرة الرافعية للأزهر وتعلقهم به يفوق ما يعرف من ذلك عند غيرهم من
أهل طرابلس وغيرها من البلاد الإسلامية؛ لأن الرافعي الذي يرحل من طرابلس
إلى مصر لا يشعر كغيره بمفارقة وطن ولا بغربة عن الأهل والسكن، لأن أكثر
عشيرته يقيمون في مصر، فهو في الهجرة المؤقتة إليها يجمع بين فوائد الغربة وأنس
القرابة والقربة - رحل الفقيد إلى مصر في سنة 1297 وجاور في الأزهر سنين لم
أقف على عددها، وكان أشهر شيوخه فيه، كبير الرافعية وأفقه فقهاء الحنفية: الشيخ
عبد القادر الرافعي، والشيخ محمد الشربيني الشافعي الشهير الذي أدركنا الناس أخيرًا
يضعونه في الذروة من علماء الأزهر في كل علم وفن يدرس فيه، وفي المحافظة
على أخلاق علماء الدين، والشيخ عبد الهادي الإبياري الشافعي الشهير بالجمع بين
العلوم الدينية والتفنن في أدبيات اللغة العربية، والشيخ أحمد الرفاعي المالكي الشهير
الذي كان خير مزية له أنه كان آخر من قرأ جميع كتب السنة الستة في الأزهر.
وهؤلاء الشيوخ الكبار لم يكونوا يفوقون شيوخه الثلاثة في طرابلس في علم
من العلوم ولا فن من الفنون، ولا في أخلاق الدين وفضائله إلا أن يكون ما
اشتهر عن الشيخ عبد القادر الرافعي من سعة الاطلاع والتحقيق في فقه الحنفية.
وإننا نقدم على ترجمة الفقيد تعريفًا وجيزًا بشيوخه الثلاثة في طرابلس؛ لأننا
رأينا لكل منهم أثرًا واضحًا في سيرته العلمية والعملية والأدبية.
***
الشيخ محمود نشابه
أما الشيخ محمود نشابه فقد أقام في الأزهر زهاء ثلاثين سنةً، طالبًا
ومدرسًا وأتقن جميع ما يدرس فيه حتى علم الجبر والمقابلة الذي هُجر بعد عهده، ثم
قضى بقية عمره المبارك في طرابلس في تدريس تلك العلوم، فتخرج به كثيرون،
وكان شيخ الشافعية والحنفية جميعًا، وقلما أتقن أحد فقه المذهبين مثله، وقد أدركته
في أوائل الطلب وقرأت عليه الأربعين النووية، وأجازني بها قبل الشروع في طلب
العلوم، ثم كنت أحضر درسه لشرح البخاري في الجامع الكبير وأقرأ عليه صحيح
مسلم وشرح المنهج بداره، وحضرت عليه طائفة من شرح التحرير، وهو في فقه
الشافعية كالمنهج، وما عرفت قيمته وتفوقه على جميع من لقيت من علماء الإسلام في
علومه إلا بقراءة صحيح مسلم عليه، فإنني كنت أقرأ عليه المتن فيضبط لي الرواية
أصح الضبط من غير مراجعة ولا نظر في شرح، وأسأله عن كل ما يشكل علي من
مسائل الرواية والدراية، فيجيبني عنها أصح جواب، وكنت أراجع بعض تلك
المسائل بعد الدرس في شرح مسلم وغيره، ولا أذكر أنني عثرت له على خطأ في
شيء منها، وكان إذا راجعه بعض تلاميذه أو غيرهم في غلط وقع فيه، يقبله بدون
أدنى امتعاض لِما تحلَّى به من الإنصاف والتواضع وغيرهما من الأخلاق المحمدية.
أعطاني شرحه للبيقونية في مصطلح الحديث بخطه، فرأيته استعمل في فاتحته لفظ
الفالح بمعنى المفلح، فراجعته فيه فأمرني أن أصلحه وأصلح كل خطأ من قبيله،
ورأيته ارتاح لذلك وسُر به.
وكانت معيشته معيشة الزهاد لا يبالي بزينة الدنيا ولا زخرفها، ولا يحفل
بحكامها وكبرائها، كان في طرابلس متصرف من أهل العلم، اسمه عارف باشا،
وكان يزوره علماؤها إلا الشيخ، فذهب المتصرف لزيارته في داره فرده عن
الباب ولم يأذن له بالدخول.
خرجت مرةً معه للرياضة في ضواحي البلد فما كدنا نحاذي دار الحكومة بجوار
تل الرمل حتى تعب الشيخ، فالتفت إلي وقال: يا سيد رشيد أعندك كِبر؟ قلت:
أرجو أن لا يكون عندي كِبر، قال: إذًا اقعد معي على الأرض هنا لنستريح، فقعدنا
بجانب الطريق.
وقد رثيته بقصيدة، أذكر منها هذه الأبيات للدلالة على ما كان له من المكانة
في نفسي وقتئذ مع القول بأن هذه المكانة لم تتغير إلى اليوم:
شيخ الشيوخ إمام العصر أوحده ... ووارث المصطفى فينا ونائبه
فلك الطريقة أو در الحقيقة في ... يم الشريعة راسيه وراسبه
ومرجع الكل في حمل النصوص وفي ... حل العويص إذا أعيت مصاعبه
رب الحقائق مكشاف الدقائق محـ ـمود الخلائق مَن جلَّت مواهبه
من حلقت هامة الأفلاك همته ... وزاحمت منكب الجوزا مناكبه
من لا تُحدّ بتعريفٍ معارفه ... وليس تحصى بتنقيب مناقبه
من كان عن خشية الله منكسرًا ... ولان عن رفعة للناس جانبه
من أحيت السنة الغرا مآثره ... وأفنت البدعة السودا قواضبه
وما قواضبه إلا يراعته ... والكتب كم ألفت منها كتائبه
ومنها:
خطب أصاب فؤاد الشرق فانفطرت ... مرارة الكون وارتاعت مغاربه
قد مزق الإفك العلمي أطلسه ... ومن مكوكبه انقضت كواكبه
ومنهج العلم أمسى اليوم مسلكه ... وعرًا تجوب مجاهيلاً جوائبه
وصدر (شرح البخاري) ضاق فيه وكم ... قامت على (مسلم) تبكي نوادبه
لئن بكى تابعو النعمان مذهبه ... فالدين من بعده ضاقت مذاهبه
هذا (ابن إدريس) بعد الشيخ قد درست ... دروس مذهبه وارتاع طالبه
ومنها:
لله مثوًى ببطن الأرض مد به ... بحر تفيض بلا جزر ثوائبه [1]
مثوى حوى منه ذا فضل لقد حسدت ... ترابه من أخي العليا ترائبه
مثوى لقد حفظ الثأر الأثير على ... ثراه إذا ظفرت فيه رغائبه
لئن دفنَّا به شخص الكمال ضحى ... فالروح طارت إلى عدن نجائبه
***
الشيخ عبد الغني الرافعي
وأما والد الفقيد الشيخ عبد الغني الرافعي فقد حصل العلوم والفنون الدينية
واللغوية في طرابلس ودمشق الشام , وأشهر شيوخه في طرابلس الشيخ نجيب
الزعبي الجيلاني، ولا أعرف شيوخه في دمشق، ومن المعروف المشهور أنه كان
فيها يومئذ نفر من أكبر علماء الإسلام في العالم، وكان الشيخ لوذعي الذكاء،
يُحصِّل في سنة ما لا يُحصِّله الأكثرون في سنين، وقد امتاز بين فقهاء عصره
بالجمع بين النبوغ في علوم الشرع والتصوف والأدب، فكان فقيهًا مدققًا، وصوفيًّا
مصفًّى، وأديبًا شاعرًا ناثرًا، وله في كل ذلك ذوق خاص. سلك طريق الصوفية
على الشيخ رشيد الميقاتي الشهير سلوكًا صحيحًا بالرياضة الشديدة ومداومة الذكر
حتى رأى من الأسرار والعجائب الروحية ما لا محل لذكر شيء منه في هذا التعريف
الاستطرادي، وكان عالي الهمة قوي العناية شديد المواظبة فيما يأخذ فيه من علم أو
عمل، على غير المعهود من أكثر مفرطي الذكاء أمثاله، سمعت منه أنه قرأ كتاب
(أدب الدنيا والدين) ثلاثين مرةً، وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرةً، لا أذكر
عنه عددها.
أدركناه في شيخوخته قوي الجسم والعقل والذاكرة، وكان جميل الصورة
كأن وجهه ورد يحيط به الياسمين من شيبته الناصعة، وكان يلبس أحسن الملابس
ويأكل أطيب المآكل، ويسكن دارًا مزينةً بالنقش والأثاث الجميل، وتزوج في
شيخوخته بكرًا رزق منها أولادًا، وكان يُرى في سن السبعين أنه لم يفقد من
مزايا الشباب شيئًا، ولم يشغله رخاء العيش عن اشتغال القلب واللسان بذكر الله
ومذاكرة العلم. وَليَ إفتاء طرابلس وهو أعلى منصب لرجال العلم في عرف الدولة
العثمانية، وولي القضاء لولاية اليمن، ولم يكن في مكانه من الرياسة والجاه يمتنع من
وضع يده بيد رجل فقير يلبس الأسمال البالية، ويمشي معه في السوق إذا كان له
مزيةً من علم أو صلاح؛ إذ كانت أخلاقه أخلاق كبار الصوفية، ومظهره مظهر كبار
رجال الدنيا، ولكنه ما كان ليجلس بجانب الطريق العام على التراب أمام دار الحكومة
كما فعل الشيخ محمود نشابه.
أذكر مما سمعت من أخبار تصوفه أنه سافر من بلده - وهو في مقام التوكل -
ولم يكن معه شيء من الدراهم، فيسر الله الأمر ورزقه من حيث لا يحتسب.
ومن أخبار أدبه أنه لما سافر إلى الآستانة، لقي في الباخرة بعض رجال العلم
والأدب، فلما عرف الرجل فضله قال له:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه جرعة الوشل
فأجابه على الفور ببيت من هذه القصيدة (المعروفة بلامية العجم) :
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قِبلي
ولما لم يعرف له رجال الآستانة قيمته أراد التحول عنها إلى مصر، فأرسل
إلى الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري رسالة برقية يتوسل بها إلى توفيق باشا عزيز
مصر في ذلك العهد، وهي هذان البيتان:
قالت لي النفس الأبية مذ رأت ... في الروم ضاع اسمي وضل رشادي
سر بي لدار الفضل مصر لعله ... يهديك للتوفيق عبد الهادي
وأذكر مما رأيت من إنصافه وتواضعه أنه كان عندما يزورنا في القلمون
يعهد إلي أن أقرأ عليه شيئًا من إحياء العلوم؛ لأنني كنت مولعًا بمطالعته من قبل
الشروع في طلب العلم، فانتهيت في القراءة مرةً إلى فصل في الحاكايات التي
يذكرها أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - في بعض الأبواب، كحكايات
المتوكلين والأسخياء، فاستوقفني الشيخ وقال: إنني مستغرب لحشو المصنف -
قدس سره - هذه الحكايات في هذا الكتاب، وكله علم وتحقيق لولا هذه الحكايات!
قلت: إنني أرى هذه الحكايات من أهم مقاصد الكتاب، فإنه كتاب تربية، وإنما تتم
التربية بالتأسي والقدوة، فالترغيب في السخاء بالآثار المروية والحِكم المعقولة لا
يبلغ تأثيره وحده ما يبلغه ما نرى في هذا الكتاب وغيره، من ذكر حكايات الأجواد
من السلف، وإنما كمال التربية في الجمع بين الترغيب بالقول والقدوة بالفعل، فقال
لي: أعيذك بالواحد * من شر كل حاسد * إنني أقرأ هذا الكتاب من قبل أن تُخلَق،
وقد قرأته مرارًا وأنا أفكر في هذه المسألة وأنتقدها على المؤلف، ولم يخطر في بالي
هذا الغرض الواضح الذي لا شك أنه كان يرمي إليه، رضي الله عنه. ولم يكتف
الشيخ - قدس الله روحه - بهذا الثناء بل كان يذكر هذا الجواب في كل مجلس من
مجالسه العلمية والأدبية عقبه، ويقول لمجالسيه وأكثرهم من تلاميذه ومريديه: إنني
كنت مستشكلاً هذه المسألة منذ عشرات من السنين، وقد حلها لي هذا الغلام النابغ
النابه على البداهة، أو ما هذا معناه بالاختصار.
وقد استفاد من إقامته في اليمن فوائد عظيمةً، منها أن مذاكراته ومناظراته
لعلماء الزيدية - مع ما علمت من إنصافه - قوى في نفسه ملكة الاستقلال في فهم
الدين وفقه الحديث، عرف سيرة الإمام الشوكاني فاقتنى كتابه (نيل الأوطال وشرح
منتقى الأخبار) ولما عاد إلى طرابلس كان يقرأه درسًا للنابغين المنتبهين من طلاب
العلم، كنجله الشيخ محمد كامل المترجَم، وقد حضرت بعض هذه الدروس، ولكنني
كنت مبتدئًا لا أفهم شيئًا من الاصطلاحات الأصولية والحديثية فيه، وإنما كان يسمح
لي بحضورها ما كان لي من الكرامة الشخصية عند الشيخ وأهل بيته بموادتهم مع
والدي وأهل بيتنا، ومن أعجب ما سمعناه منه عن أهل اليمن أنه لم يتفق له في مدة
توليه القضاء فيهم أن سمع من أحد منهم شهادة زور أو كذبًا على الحاكم أو الخصوم،
بل كانوا يقولون له: أتحكم بالشرع يا عبد الغني؟ فيقول: نعم، فيصْدُقونه في شرح
منازعاتهم.
توفي حاجًّا بمكة , فرثيته بقصيدة.
مطلعها:
طوبى لمن بجوار الله قد نزلا ... وقد أعد له جناته نزلا
ويا هنيئًا لمن أسقاه سيده ... في معهد القرب من كأس الشهود طلا
ومنها:
نعم لقد مات علم لدين الله وانكسفت ... شمس الرشاد، وبدر الهُدى قد أفلا
نعم لقد قبضت روح التصوف ولا ... نصاف منا وجيد الفقه قد عطلا
نعم قد اخترم التبيين واحتكم التلو ... ين واصطلم التمكن مرتحلا
ومنها:
لئن بكاه بنا علم اليقين فقد ... قرت به عينه مذ كأسها نهلا
وإن غدا فيه كل الفضل مجتمعًا ... فقد تفرق في أبنائه النبلا
فللمعارف والإرشاد كالمهم ... من حالف العلم فيه الهدى والعملا
وفي البلاغة كم (عبد الحميد) سما ... وللتحدي بها آي البيان تلا
***
المقارنة بين الشيخين
أختم هذا التعريف المختصر بالشيخين اللذين انتهت إليهما الرياسة العلمية في
وطننا بمقابلة وجيزة بينهما، فأقول: إن الشيخ نشابه كان أوسع من الشيخ الرافعي
اطلاعًا ومعرفةً لما عدا التصوف والأدب من العلوم المعقولة والمنقولة، وكان
واقفًا عليها تمام الوقوف بفهم تام لكل ما قرأه من الكتب في الأزهر وغيره كتفسير
البيضاوي وغيره، وشروح كتب السنة وكتب الأصول والفقه وفنون العربية إلخ،
ولكنه كان مقلدًا في المسائل وأدلتها غالبًا، قلما يفكر في استعمال فهمه في انتقاد
المعتمد في تلك الكتب، فكان لهذه العلوم والفنون كحُفاظ الحديث غير المستنبطين،
ويا لها من مزية قلما تجد الآن أحدًا من رجالها، وكانت عبادته كعبادة السلف، وهي
النوافل المأثورة وكثرة تلاوة القرآن، وأما الشيخ الرافعي فكان - على ما امتاز به من
علوم الأخلاق والتصوف والأدب - فقيه النفس مستقل الفكر، إذا ظهر له رجحان
مذهب الزيدية مثلاً على مذهب الحنفية الذي نشأ عليه تحصيلاً وعملاً وإفتاءً
وقضاءً - لا يمتنع من القول بترجيحه.
وقد كان بين الشيخين شيء من تغاير المعاصرة في سن الشباب لانتهاء
الرياسة العلمية إليهما، ولكن علو أخلاقهما وقف بهما دون التنافس الذي يجر عادةً
إلى التحاسد والطعن، ومما وقع بينهما من المناظرة أن الشيخ عبد الغني - رحمه
الله - استخرج من قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة:
32) مئة سؤال، وجاء مجلس الشيخ محمود نشابه إذ كان يقرأ تفسير هذه الآية في
البيضاوي درسًا، وشرع يلقي عليه سؤالاً بعد سؤال، وهو يجيبه غير مكترث
ولا شاعر بأنه مناظر مختبر، فلما كثرت الأسئلة تنبه، فأطبق الكتاب ووضع
يديه على صدره، والتفت إلى السائل وقال: أتريد أن تسأل يا عبد الغني؟ اسأل
هيه، اسأل هيه، فما زال السائل حتى فرغ مما عنده، ولم يعجز المسئول، ولا
توقف في سؤال من تلك الأسئلة.
***
الشيخ حسين الجسر
وأما الشيخ حسين الجسر فقد حصل العلوم في طرابلس، وأكبر شيوخه فيها
الشيخ محمود نشابه، وجاور في الأزهر بضع سنين، ومن أشهر شيوخه فيه الشيخ
المرصفي الشهير، وقد امتاز بين علماء الدين بالنظر في العلوم والفنون التي
يسمونها العصرية، وبقراءة الجرائد السياسية والمجلات العلمية، فكان لذلك
يرغب في جعل طلاب العلوم الدينية جامعين بينها وبين الإلمام بتلك العلوم والفنون،
فسعى لحمل بعض الأغنياء على إنشاء مدرسة دينية نظامية تعلم فيها بعض
الرياضيات والطبيعيات على الطريقة الأوربية، واللغتان التركية والفرنسية،
فأنشئت (المدرسة الوطنية) وكان هو مديرها، وقد دخل كاتب هذه السطور في القسم
الداخلي منها سنة 1329 أو 1330 , فكان ذلك أول العهد بطلبه للعلم بعد أن تعلم
القراءة والخط في مكتب الصبيان بالقلمون، وطالع بعض كتب الأدب والتاريخ
والتصوف منفردًا، ولكن لم يطل عمر المدرسة، فإن الحكومة التركية لم تقبل جعلها
من المدارس الدينية التي يعفى طلابها من الخدمة العسكرية، وأصر مديرها - الشيخ
رحمه الله تعالى - على إقفالها إن لم تعترف بها، فأقفلت وطلب للتدريس في المدرسة
السلطانية ببيروت , فأقام فيها مدةً قصيرةً ثم عاد إلى طرابلس وواظب على التدريس
لطلاب العلوم الدينية في المدرسة الرجبية وفي داره، وواظبنا على حضور تلك
الدروس حتى تخرجنا بها وأخذنا الإجازة بالتدريس والتعليم منه سنة 1315 رحمه
الله تعالى، وجزاه عنا خيرًا.
وكانت طريقته في التدريس أن يوجه كل همه إلى حل المسائل بسهولة
وعبارة سهلة يفهمها الطالب، ولم ندرك زمن تلقي المترجم عنه، ولكننا سمعنا منه
أنه قرأ كتاب امتحان الأذكياء، وأن الشيخ محمد كامل الرافعي كان يقول: إننا
عندما نسمع العبارة من الأستاذ نفهمها ونرى أنها ظاهرة، فإذا أردنا بيانها بعد الدرس
تعذر ذلك علينا ورأيناها مغلقةً.
ولشيخنا الجسر مؤلفات مطبوعة مشهورة أشهرها (الرسالة الحميدية في حقيقة
الديانة الإسلامية، وحقيقة الشريعة المحمدية) التي بين فيها عقائد الإسلام وأركان
عباداته وأهم معاملاته الاجتماعية، مقرونةً بحكمها، وأدلتها، وذكر ما يرد عليها من
الشبهات العصرية وأجوبتها، وقد كافأه السلطان عبد الحميد بنسبة الرسالة إليه برتبة
علمية ووسام، فانتقد الناس ذلك عليه؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه قصيدةً بائيةً فيها طعن
شديد على الحكومة، ولا سيما رتبها وأوسمتها، وطلبه السلطان إلى الآستانة ليكون
من شيوخ (يلدز) فأقام بضعة أشهر، ثم طلب الإذن له بالعودة إلى طرابلس معتذرًا
بأن هواء الآستانة لا يوافق صحته - وكان مصدورًا - فأذن له، وأخبرنا بأن العلة
الصحيحة للهرب من الآستانة هي المحافظة على الدين.
وكان - رحمه الله - على سعة اطلاعه وأخذه حظًّا من العلوم العصرية ووقوفه
على طريقتها الاستقلالية، شديد المحافظة على التقليد في جميع العلوم الدينية، وكنت
فتحت في درسه باب المناقشة في أدلة العقائد والمذاهب، فكان ينهاني عن ذلك، وكان
شديد المحافظة على شرفه وصيته، ولما طبعت الرسالة الحميدية أهداني نسخةً منها،
ثم سألني بعد أيام: هل قرأت الرسالة؟ قلت: قرأت بعضها، قال: إنه يعجبني
رأيك، فكيف رأيتها؟ قلت بعد الثناء عليها بالإجمال: إنني انتقدت منها شيئين
(أحدهما) : التعبير عن المسائل العلمية القطعية التي تعتقدون صحتها، ككروية
الأرض بما يدل على الشك أو الإنكار، فاعتذر عن هذا بمراعاة عقول العوام
والمتعصبين الذين يطعنون في دين من يقول بهذه المسائل، فقلت: إذا لم يتجرأ
أمثالك من الموثوق بعلمهم ودينهم على الجزم بهذه المسائل، فمن يجزم بها، ومتى
يكون ذلك؟ (والثاني) : عدم تقسيم الرسالة إلى أبواب وفصول يوضع لكل منها
عنوان يدل عليه على نحو ما هو مفصل في الفهرس؛ للتنشيط على المطالعة وسهولة
المراجعة، فقال: إن اتصال الكلام ببعض كالماء الجاري من حسن الإنشاء وأساليب
البلاغة، قلت: فلماذا جعل القرآن سورًا، وهو أبلغ الكلام وأفصحه؟
هذا وإنني لما أنشأت المنار انتقد علي - عفا الله عنه - الإنحاء على خرافات
أهل الطريق، والشدة والاستقلال في مسائل أخرى في كتاب كتبه لي بعد أشهر
من صدور المنار، قال فيه: (ظهر المنار بأنوار غريبة إلا أن أشعته مؤلفة من
خيوط قوية كادت تذهب بالأبصار) ثم ذكر تلك المسائل في ورقة واحدة من ورق
المخاطبات العادية، فكتبت إليه جوابًا مفصلاً يدخل في بضع ورقات، بينت فيه ما
عندي من الحجة على صحة ما كتبته، وكونه نافعًا وضروريًّا، وقلت فيه ما
معناه: إنني أعرض هذا على مسامع أستاذي معترفًا بأنني لا أزال تلميذًا له، لكن
على ما عهد مني من عدم قبول شيء إلا بعد الاقتناع به، وإنني أنتظر ما يجيب به؛
لأقرره مذعنًا له إذا ظهر لي أنه الصواب، وإلا راجعته فيه كتابةً إلى أن ينجلي
لي الحق، فلم يرجع إلي قولاً في ذلك، وهو لم يكن ينتقد يومئذ إلا الأسلوب، وما
فيه من نشر عيوب المسلمين.
توفي - رحمه الله تعالى - وأنا بمصر، فطلبت من نجله الكبير الشيخ محمد
يمن أن يرسل إلي ما عنده من المواد؛ لأجل كتابة ترجمة حافلة له، وظللت أنتظر
زمنًا طويلاً فلم أظفر منه بشيء، ولم أكتب شيئًا لأنني لم أحب أن أكتب ترجمةً
بتراءَ، وما رثيته؛ لأنني تركت الشعر من قبل الهجرة إلى مصر، ولذلك لم أرثِ
شيخنا الأستاذ الإمام أيضًا، إلا أنني زدت في مقصورتي أبياتًا فيه، وفي السيد جمال
الدين، رحم الله الجميع وجزاهم عنا خيرًا، وسنذكر في النبذة التالية من الترجمة
تأثير كل من هؤلاء الشيوخ في المترجم، رحمه الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مياه المد الذي يعقب الجزر ففي البيت (الاحتراس) من أنواع البديع.(21/153)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
باحثة البادية
تتمة ترجمتها
(2)
حقيقتها النفسية ومذهبها الإصلاحي
إن ما بيناه من خبر نشأتها وتربيتها، وما أشرنا إليه من آثارها القلمية هما
كالعلة والمعلول والمقدمات والنتيجة، في ظهور صورتها النفسية العقلية وسيرتها
العملية، فثبت عندنا أن باحثة البادية ذات رأي ثابت ومذهب كوّنه العلم والبحث في
تربية النساء المسلمات وتعليمهن وما يجب أن يقمن به من الإصلاح الاجتماعي في
العالم الإسلامي في هذا العصر، وإنها كانت داعية إصلاح منبعثةً بِغَيْرَةٍ نفسية إلى
نشر مذهبها، والحمل على اتباعه، ومناضلة المخالفين له.
قبل أن نبين حقيقة هذا المذهب نقول: إن هذه مَنقبة للمُترجَمة لم تسبقها
إليها امرأة في مصرها في عصرها، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: في أمتها العربية كلها،
بل هذا مما يقل في الرجال بله النساء، وقد غفل عن معرفة هذا لها من رثوها
وأبَّنوها في الصحف، وفي حفلة التأبين التي نذكرها بعد؛ لأن مثل هذه الدقائق لا
يلتفت إليها الشعراء والخطباء، ولا أكثر كتاب الصحف.
كتب كثير من الرجال والنساء في المسائل التي كتبت فيها باحثة البادية في
هذا العصر، ولا نجزم بأن أحدًا منهم صاحب مذهب ثابت له حافز من نفسه للدعوة
إليه والدفاع عنه إلا قاسم بك أمين وباحثة البادية، لا أنكر أن من أولئك الكاتبين
من هم أوسع اطلاعًا وأفصح عبارةً من باحثة البادية، وأن منهم من له رأي ثابت
فيما كتب خطأً كان أو صوابًا، ولكنه مقلد فيه لغيره حتى في الاستدلال، ومزيتها
على أمثال هؤلاء أنها قد ارتقت إلى طبقة أهل الإصلاح وأصحاب المذاهب
الاجتماعية.
لما شبت حرب المناظرة والجدال في المسألة التي سموها تحرير المرأة،
وجعل أساس عقيدتها ما سموه السفور أو رفع الحجاب - كنا نرى مقالات كثيرةً
لمقلدة المحافظين على الحجاب، وأخرى لمقلدة التفرنج طلاب السفور، هؤلاء
متهوكون في فتنة التشبه بالإفرنج، ظانين أنهم في التشبه بهم في أهون الأمور
وألذها يكونون مثلهم حتى في غير ما تشبهوا بهم فيه، وأولئك متمسكون بكل ما
تعودوه ودرجوا عليه، ولا سيما إذا كان له شيء من صبغة الدين، خائفون أن
يكون في التحول عنه انحلال أمتهم بذهاب مقوماتها أو مشخصاتها، وإن لم
يكونوا على علم بأن للأمم مقومات ومشخصات تقوى بالاعتصام بها، وتنحل
بانحلالها، وأن ما يحافظون عليه وينافحون دونه منها؛ لأن ذلك الخوف وجداني
مبهم لا علمي مبين، فنرى جمهورهم يظن أن ما جرى عليه أكثر نساء المدن،
وبعض نساء القرى من وضع البراقع على أفواههن هو الحجاب الشرعي.
لم تكن باحثة البادية من هؤلاء ولا من أولئك، بل كان لها مذهب وسط
مبني على أصلين، أحدهما: وجوب التزام النساء جميع ما قرره الإسلام من عقيدة
وأمر ونهي، وثانيهما: اقتباس جميع ما تحتاج إليه المرأة المسلمة من الفنون والنظام
والأعمال؛ للقيام بما يناط بها عند ما تكون زوجًا لرجل وأُمًّا لولد ورئيسةً لمنزل، أو
منقطعةً لإتقان علم أو عمل على ما تقتضيه حالة العصر من مجاراة الأمم العزيزة
القوية في مضمار الارتقاء.
إن تسمية هذا المذهب وسطًا بين نزغات المتفرنجين ورغبات المحافظين
على القديم على علاته، يشعر بتفضيله، وناهيك بقاعدة: (خير الأمور أوساطها)
المسلَّمة عند الجمهور، وقد رويت حديثًا مرفوعًا، أخرجه السمعاني في ذيل تاريخ
بغداد عن علي - كرم الله وجهه - بسند مجهول، ولكن معناه يؤيد بقوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143) مع قوله في آية أخرى {كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) وبما تقرر في علم الأخلاق من كون
الفضائل أوساطًا بين أطراف، هي الرذائل، كالجود بين طرفي البخل والإسراف.
ويمكن بيان ذلك في هذا المذهب بطريقة علمية مستمدة من سنة الله تعالى
في أجساد الناس وأنفسهم وعقولهم، ذلك بأن لله تعالى في تسلسل أفراد الناس
(وغيرهم من الأحياء) بعضهم من بعض، سنتين متقابلتين: سنة التباين،
وسنة التوافق والتوارث، فبمقتضى سنة التوافق يشبه الابن أباه، والفرع أصله،
في بعض صفاته الجسدية والنفسية، وبمقتضى سنة التباين يخالفه في بعض تلك
الصفات، فلا يوجد أحد يماثل أباه أو غيره من أصوله في كل شيء، أو يخالفه
ويباينه في كل شيء، ولولا هاتان السنتان لكان كل فرد من الأفراد التي يتولد
بعضها من بعض مباينًا لغيره، كأنه نوع من جنس لم يوجد منه غيره , أو لكان
جميع البشر كأبيهم الأول في كل شيء، بحيث يتعذر التفرقة بين اثنين منهم في
سن واحدة، فسبحان الخلاق العليم الحكيم.
ثم إن لله تعالى سنتين كهاتين السنتين في سيرة الناس العملية وحياتهم
الاجتماعية، وهما سنة المحافظة والتقليد، وسنة الاستقلال والتجديد، وحكمة الله
تعالى في جعل مقدار ارتقاء البشر في العلوم والأعمال على اجتماع هاتين السنتين،
كحكمته في جعل مدار وجود الأجناس والأنواع على تينك السنتين، ولو قلد كل
أحد مَن قَبله في كل ما وجدهم عليه، لكانت حياتهم العملية متماثلةً كحياة النحل
والنمل من الحشرات التي تعيش بالاجتماع والتعاون، ولو خالف كل أحد مَن قبله
في كل شيء واستقل بجعله جديدًا، لخرج الإنسان بذلك عن كونه عالمًا اجتماعيًّا
يرتقي بالتعاون وبناء الجديد على القديم مع التحسين فيه، ولما تكونت الأمم
والشعوب، ولا ارتقى علم ولا عمل ولا صناعة، فالأمم تتكون بما يشترك
أفرادها فيه من العلوم والأعمال التي تطبع في أنفسها ملكات وأخلاقًا وأذواقًا
خاصةً تكون من أقوى مقوماتها التي تفصلها من غيرها، ولا يتكون للأمة خلق
جديد في أقل من جيل، وقلما يكمل لها خلق أو ذوق خاص في الفنون والصناعات في
أقل من ثلاثة أجيال، كما يقول بعض علماء الاجتماع.
بعد هذا البيان التمهيدي لبيان قيمة مذهب باحثة البادية في مسألة تربية النساء
المسلمات في هذا العصر، أقول: إن أكثر الذين خاضوا في هذه المسألة يجهلون
هذه الأصول، فكان منهم من غلبت عليه سنة التقليد والمحافظة على القديم برمته،
وهو لا يدري أن الاقتصار عليه ضار على أنه محال، ومنهم من غلبت عليه سنة
حب التجديد لكل شيء وإبطال كل قديم، وهو لا يدري أنه مفسدة على أنه مطلب
لا ينال، وجهل الأكثرون من الفريقين أن التطورات الجديدة الطارئة على الأمة
التي تدعوها إلى تغيير شيء من ماضيها، وتحدث التعارض والتدافع بين
الفريقين المذكورين يجب أن يتروى في أمر تيارها، فلا يساعدها على جرفه
للماضي الذي صار من مقومات الأمة، ولا يقاوم بمحاولة منعه من أي تغيير في
شؤونها، وإن كان إزالة ضار واستبدال نافع به، لهذا نرى من المتفرنجين -
طلاب التجديد بغير علم صحيح ولا فطرة معتدلة - مَن يستعجلون في هدم عقائد
الدين وشعائره، وفي التصرف في اللغة تصرفًا يخرجها عن أصولها وقواعدها
وفي تغيير الأخلاق والآداب الاجتماعية بسفور النساء ومخالطتهن للرجال في
المجامع والملاهي والحانات والمراقص، وما الدافع لهم إلى هذا إلا ما يرون فيه من
اللذة والتمتع والتشبه بالإفرنج فيما يشكو منه حكماؤهم وفضلاؤهم.
كان قاسم بك أمين مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التفرنج، وخصمه محمد
طلعت بك حرب مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التدين والتعود، ثم ظهرت باحثة
البادية مستقلةً معتدلةً، تجاذبها الفريقان، كل منهما يعدها من حزبه فيما توافقه
فيه، غير مشدد عليها بالإنكار فيما تخالفه فيه، فبهذا التفصيل الوجيز تعرف قيمة
هذه المرأة المسلمة العربية المصرية الفاضلة، وأنها فوق قيمة من توصف بأنها كاتبة
ناثرة شاعرة، أو خطيبة ماهرة، فمزيتها في نساء قومها أنها مصلحة مستقلة معتدلة.
الاحتفال بتأبينها
تحدث بعض من حضر مأتم الباحثة من المفكرين في استحسان إقامة حفلة
تأبين لها، تكون مظهرًا لتكريم الرجال للنساء، وترغيبًا لهن في العلم النافع،
والسيرة الزوجية الصالحة، ثم تألفت لذلك لجنة برياسة شيخ الأدباء إسماعيل
صبري باشا، كان أول عملها أن عرضت على السير عدلي باشا يكن وزير
المعارف جعل حفلة التأبين تحت رئاسته، فقبل مرتاحًا، ولما كان الراغبون في
التأبين والرثاء كثيرين، اضطرت اللجنة إلى اختيار ثلاثة من الخطباء، وبضعة
من الشعراء الذين يحضرون الحفلة، واختارت من رسائل التأبين والرثاء كلمةً
وجيزةً بليغةً لصديقة الفقيدة نبوية موسى ناظرة مدرسة البنات الأميرية في
الإسكندرية، وقصيدة لأحمد أفندي الكاشف الشهير.
ثم اختارت أن يكون الاحتفال في قاعة الخطابة الكبرى من دار المدرسة
السعيدية التي كانت دار الجامعة المصرية، وضربت موعدًا لذلك الساعة الرابعة
من مساء يوم الجمعة ثاني ربيع الأول، ولم يكد يجيء الموعد حتى غصت تلك
القاعة الفسيحة بأهل العلم والأدب والوجاهة وطلاب الأزهر والمدارس التجهيزية
والعالية، وكان المنظِّم للمكان والمراقب لنظام الاحتفال علي بك حسني ناظر المدرسة
السعيدية وهو عريق في ذلك وأصيل، وقد اعتذر عن حضور الحفلة عدلي باشا
بانحراف ألمَّ بصحته، وحضرها وكيل نظارة المعارف الذي تولى المساعدة نيابةً عن
الوزير في جعلها في أحد معاهد الوزارة.
وكان أول الخطباء إبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير، وموضوع تأبينه
ترجمة الفقيدة، فذكر كل ما ينبغي ذكره في ذلك بفصاحته وطلاقته التي تشبه بالسيل
المدرار وتدفق الأنهار، وألم بما دار من الجدل والمناقشات في تعليم المرأة وحجابها،
وعد باحثة البادية حجةً على المنكرين، وقد اضطرب الحاضرون عند ذكر مسألة
الحجاب، وكاد بعضهم يقاطع الخطيب ويصرحون بأن الفقيدة حجة على طلاب
السفور؛ لأنها فاقت جميع المتعلمات في مصر , وهي محافظة على حجابها الشرعي،
وناصرة للقائلين به.
وتلاه الشيخ مصطفى عبد الرازق كاتب سر مجلس الأزهر والمعاهد الدينية
الأعلى، فتلا خطبةً فصيحة العبارة، موضوعها الغرض من إقامة هذا الحفل،
وهو تكريم النابغين المستحقين للتكريم من الرجال والنساء، لما في ذلك من حسن
الأسوة والترغيب في العلم والعمل النافع للأمة، وألمَّ بذكر النهضة الحديثة في
التعليم وتربية البنات، وما للشيخين الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ عبد الكريم
سلمان من الجهاد واليد البيضاء في ذلك، واستغرب من تقصير أصدقاء الشيخ
عبد الكريم الذين هم من كبراء الأمة فيما كان ينبغي من الاحتفال بتأبينه، وما
كان ينبغي لغيرهم أن يتقدم عليهم في الدعوة إلى ذلك، ونوه بما كان من نجاح
باحثة البادية في العلم والدعوة إلى إصلاح حال المرأة، وما كان من صلاحها في
نفسها واشتهارها بعلو الآداب والتقوى الذي استحقت به مثل هذا الاحتفال.
وتلاه كاتب هذه السطور وكان موضوع خطابته: نبوغ باحثة البادية،
وانتظامها في سلك المصلحين، وآيات ذلك من مقالاتها وخطبها، وقد بدأت بذكر
أولياتها الذي تقدمت الإشارة إليه، وذكرت أن منها أن أول مكان خطبت فيه هو
هذه القاعة التي كان تأبينها فيها أول احتفال في مصر بتأبين امرأة، ثم ذكرت نحوًا
مما تقدم في الترجمة من أخبار نشأتها وتعليمها وتربيتها، واستنبطت منه أن
مدارس البنات الأميرية - وغير الأميرية بالأولى - لا يرجى أن تخرج مثلها؛ لأن
نبوغها كان بمجموع تلك الأسباب التي ذكرتها، لا بالمدرسة السَّنية التي تعلمت فيها،
وإلا لرأينا في كل سنة عددًا من المتخرجات مثلها، ذلك بأن التعليم عندنا تقليدي
آلي - نسبة إلى الآلة - يقُصد به إيجاد آلات للحكومة، وما يشبه مصالح الحكومة من
الأعمال الإدارية والزراعية والتعليمية وغيرها، وإنما يكثر النابغون في معاهد
التعليم الاستقلالي، وهي لم توجد عندنا بعد، لذلك كان كل من ظهر من نابغينا في
هذه العصور الأخيرة - كالسيد الأفغاني والأستاذ الإمام ورياض باشا - من
أصحاب الاستعداد الفطري، وما أتيح له من التوفيق والأسباب العارضة.
ثم بينت أن باحثة البادية لم تصل إلى درجة الطبقة العليا من كتاب العصر،
لا شعرائه ولا خطبائه ولا مصنفيه، بل كانت وسطًا في ذلك، وإنما مزيتها التي
استحقت بها التأبين هي استقلالها بالمذهب الإصلاحي النسائي الذي وجهت قلبها
وعقلها بالدعوة إليه، وأوجزت في بيان مذهبها الذي ذكرته في الترجمة آنفًا، وضاق
الوقت عما كنت عازمًا عليه من شرحه شرحًا علميًّا بالطريقة التي رأيت في الترجمة.
ثم أنشدت قصائد الرثاء، مبتدأةً بقصيدة شاعر العرب الشيخ عبد المحسن
الكاظمي مختتمةً بقصيدة شاعر النيل محمد حافظ بك إبراهيم، وبينهما قصائد
الأساتذة الشيخ أحمد الإسكندري والشيخ مهدي خليل والشيخ أحمد الزين ,
والشاعرين الشهيرين محمد أفندي الهلباوي وأحمد أفندي الكاشف، وبعد انتهاء
الساعة السادسة انفض الاجتماع، ويطبع كل ما قيل في الحفلة وما كتب في الصحف
عقب الوفاة وعقب التأبين مع ما أرسل إلى لجنة الاحتفال مما لم يتسع الوقت لقراءته،
ويجمع في كتاب خاص، فمن عنده شيء منه، فليرسله إلى إدارة مجلة المنار
بمصر.
__________(21/163)
رمضان - 1337هـ
يونيه - 1919م(21/)
الكاتب: القلقشندي
__________
أمراء أعراب الشام في القرن الثامن
وما كان يكتب لهم من تقليد الإمارة من سلاطين مصر
جاء في (ص118) من الجزء الثاني عشر من كتاب (صبح الأعشى)
في بيان ما يكتب من الطبقة الأولى من أمراء عربان الشام ما نصه:
تقليد بإمرة آل فضل
وهذه نسخة تقليد بإمرة آل فضل [1] كتب به للأمير شجاع الدين فضل بن
عيسى عوضًا عن أخيه مهنا، عندما خرج أخوه المذكور مع (قراسنقر الأفرم) ومن
معهما من المنسحبين، وأقام (هو) بأطراف البلاد، ولم يفارق الخدمة، في شهور
سنة اثنتي عشرة وسبعمائة من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي , وهو:
الحمد لله الذي منح آل فضل في أيامنا الزاهرة بحسن الطاعة فضلاً، وقدم
عليهم بتقديم الإخلاص في الولاء من أنفسهم شجاعًا، يجمع لهم على الخدمة ألفةً،
وينظم لهم على المخالصة شملاً، وحفظ عليهم من إعزاز مكان بيتهم لدينا مكانةً،
لا تنقض لها الأيام حكمًا، ولا تنقض لها الحوادث ظلاًّ.
نحمده على نعمه التي شملت ببرنا الحضر والبدو، وألهجت بشكرنا ألسنة
العجم في الشدو والعرب في الحدو، وأعملت في الجهاد بين يدينا من اليعملات ما
يباري بالنص، والعنق الصافنات في الخبب والعدو، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، شهادة ندرأ بها الأمور العظام، ونقلد بيمنها ما أهم من مصالح الإسلام لمن
يجري بتدبيره على أحسن نظام، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث من أعلى
ذوائب العرب وأشرفها، المرجو الشفاعة العظمى يوم طول عرض الأمم وهول
موقفها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كرمت بالوفاء أنسابهم، وأضاءت
بتقوى الله وجوههم وأحسابهم، صلاةً لا تزال الألسن تقيم نداءها، والأقلام ترقم
رداءها، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد فإن أولى من أجنته الطاعة ثمرة إخلاصه، ورفعته المخالصة إلى أسنى
رتب تقريبه واختصاصه، وألف بمبادرته إلى الخدمة الشريفة قلوب القبائل
وجمع شملها، وقلده حسن الوفاء من أمر قومه، وإمرتهم ما يستشهد فيه بقول الله
تعالى: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26) من ارتقى إلى أسنى رتب دنياه
بحفظه دينه، ودل تمسكه بأيمانه على صحة إيمانه وقوة يقينه، ولاحظته عيون
السعادة فكان في حزب الله الغالب وهو حزبنا، وقابلته وجوه الإقبال فأرته أن المغبون
من فاته تقريبنا وقربنا، ورأى إحساننا إليه بعين لم يطرفها الجحود، ولم يطرقها
إعراض السعود، فسلك جادة الوفاء، وهي من أيمن الطرق طريقًا، واقتدى في
الطاعة والولاء بمن قال فيهم بمثل قوله: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} (النساء: 69) .
ولما كان المجلس العالي ... هو الذي حاز من سعادة الدنيا والآخرة بحسن
الطاعة ما حاز، وفاز من برنا وشكرنا بجميل المبادرة إلى الخدمة بما فاز، وعلم
مواقع إحساننا إليه، فعمل على استدامة وبلها واستزادة فضلها، والارتواء من
معروفها الذي باء بالحرمان (منه) من خرج عن ظلها، مع ما أضاف إلى ذلك من
شجاعة تبيت منها أعداء الدين على وجل، ومهابة تسري إلى قلوب من بعد من
أهل الكُفر سوى ما قرب من الأجل - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نمد على أطراف
الممالك المحروسة منه سورًا مصفحًا بصفاحه، مشرفًا بأسنة رماحه.
فرسم بالأمر الشريف العالي لا زال يقلد وليه فضلاً، ويملأ ممالكه إحسانًا
وعدلاً، أن يفوض إليه كيت وكيت، لما تقدم من أسباب تقديمه، وأومئ إليه من
عنايتنا بهذا البيت الذي هو سر حديثه وقديمه، ولعلمنا بأولويته التي قطبها
الشجاعة وفلكها الطاعة ومادتها الديانة والتقى وجادتها الأمانة التي لا تستزلها
الأهواء ولا تستفزها الرقى.
وليكن لأخبار العدو مطالعًا، ولنجوى حركاتهم وسكناتهم على البعد سامعًا،
ولديارهم كل وقت مصبحًا، حتى يظنوه من كل ثنية عليهم طالعًا، وليُدم التأهب
حتى لا تفوته من العدو غارة ولا غِرة، ويلزم أصحابه بالتيقظ لإدامة الجهاد
الذي جرب الأعداء (منه) مواقع سيوفهم غير مرة، وقد خبرنا من شجاعته
وإقدامه وسياسته في نقض كل أمر وإبرامه، ما يغني عن الوصايا التي ملاكها
تقوى الله تعالى، وهي من سجاياه التي وصفت وخصائصه التي ألفت وعرفت،
فليجعلها مرآة ذكره وفاتحة فكره، والله تعالى يؤيده في سره وجهره بمنه وكرمه
إن شاء الله تعالى.
***
مرسوم بإمرة آل فضل
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل فضل، كتب بها للأمير حسام الدين
(مهنا بن عيسى) من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي:
الحمد لله الذي أرهف حسام الدين في طاعتنا بيد من يمضي مضاربه بيديه،
وأعاد أمر القبائل وإمرتهم إلى ما لا يصلح أمر العرب إلا عليه، وحفظ رتبة آل
عيسى باستقرارها لمن لا يزال الوفاء والشجاعة والطاعة في سائر الأحوال
منسوبات إليه، وجعل حسن العقبى بعنايتنا لمن لم يتطرق العدو إلى أطراف البلاد
المحروسة إلا ورده الله تعالى بنصرنا وشجاعته على عقبيه.
نحمده على نعمه التي ما زالت مستحقةً لمن لم يزل المقدم في ضميرنا،
المعوَّل عليه في أمور الإسلام وأمورنا، المعين فيما تنطوي عليه أثناء سرائرنا،
ومطاوي صدورنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً توجب على
قائلها حسن التمسك بأسبابها، وتقتضي للمخلص فيها بذل النفوس والنفائس في
المحافظة على مصالح أربابها، وتكون للمحافظ عليها ذخيرةً يوم تتقدم النفوس
بطاعتها وإيمانها وأنسابها، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث من أشرف ذوائب العرب أصلاً وفرعًا، المفروضة طاعته على سائر الأمم دينًا
وشرعًا، المخصوص بالأئمة الذين بثوا دعوته في الآفاق على سعتها، ولم يَضِيقوا
لجهاد أعداء الله وأعدائه ذرعًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا
بصحبته الرتب الفاخرة، وحصلوا بطاعة الله وطاعته على سعادة الدنيا والآخرة،
وعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، فلم يزحزحهم عن ظلها الركون إلى الدنيا
الساحرة، صلاةً تقطع الفلوات ركائبها، وتسري بسالكي طرق النجاة نجائبها،
وتنتصر بإقامتها كتائب الإسلام ومواكبها، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فإن أولى من تلقته رتبته التي توهم إعراضها بأيمن وجه الرضا،
واستقبلته مكانته التي تخيل صدودها بأحسن مواقع القبول التي تضمنت الاعتداد من
الحسنات بكل ما سلف، والإغضاء من الهفوات عما مضى، وآلت إليه إمرته التي
خافت العطل منه، وهي به خالية، وعادت منزلته إلى ما ألِفته لدينا من مكانة
مكينة، وعرفته عندنا من رتبة عالية، مَن أمنت شمس سعادته في أيامنا من
الغروب والزوال، ووثقت أسباب نعمه بأن لا يروع مريرها في دولتنا بالانتقاص
ولا ظلالها بالانتقال، وأغنته سوابق طاعته المحفوظة لدينا عن توسط الوسائل،
واحتجت له مواقع خدمه التي لا تجحد مواقفها في نكاية الأعداء، ولا تنكر شهرتها
في القبائل، وكفل له حسن رأينا فيه بما حقق مطالبه وأحمد عواقبه وحفظ له
وعليه مكانته ومراتبه، فما توهم الأعداء أن برقه خبا حتى لمع، ولا ظنوا أن
ودقه أقلع حتى همى وهمع، ولا تخيلوا أن حسامه نبا حتى أرهفته عنايتنا،
فحيثما حل من أوصالهم قطع، وكيف يضاع مثله وهو من أركان الإسلام التي لا
تنزل الأهواء ولا ترتقي الأطماع متونها، ولا تستقر [2] الأعداء عند جهادها،
واجتهادها، في مصالح الإسلام حسبها ودينها.
ولما كان المجلس العالي ... هو الذي لا يحول اعتقادنا في ولائه، ولا يزول
اعتمادنا على نفاذه في مصالحنا ومضائه، ولا يتغير وثوقنا به عما في خواطرنا
من كمال دينه وصحة يقينه، وأنه ما رفعت بين يدينا راية جهاد إلا تلقاها عرابة
عزمه بيمينه، فهو الولي الذي حسنت عليه آثار نعمنا، والصفي الذي نشأ في
خدمة أسلافنا، ونشأ بنوه في خدمتنا، والتقي الذي يأبى دينه إلا حفظ جانب الله في
الجهاد بين يدي عزيمتنا وأمام هممنا - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نصرح له من
الإحسان بما هو في مكنون سرائرنا ومضمون ضمائرنا، ونعلن بأن رتبته عندنا
بمكان لا تتطاول إليه يد الحوادث، وتبين أن أعظم أسباب التقدم ما كان عليه من
عنايتنا وامتناننا أكرم بواعث.
فلذلك رسم أن يعاد إلى الإمرة على أمراء آل فضل ومشايخهم ومقدميهم،
وسائر عربانهم، ومن هو مضاف لهم ومنسوب إليهم على عادته وقاعدته.
فليجر في ذلك على عادته التي لا مزيد على كمالها، ولا محيد عن مبدئها في
مصالح الإسلام ومآلها، آخذًا للجهاد أهبته من جمع الكلمة واتحادها، واتخاذ القوة
وإعدادها، وتضافر الهمم التي ما زال الظفر من موادها والنصر من أمدادها، وإلزام
أمراء العربان بتكميل أصحابهم، وحفظ مراكزهم التي لا تسد أبوابها إلا بهم، والتيقظ
لمكايد عدوهم، والتنبه لكشف أحوالهم في أرواحهم وغدوهم، وحفظ الأطراف التي هم
سورها من أن تسورها مكايد العدا، وتخطف من يتطرق إلى الثغور من قبل أن يرفع
إلى أفقها طرفًا، أو يمد على البعد إلى جهتها المصونة يدًا، وليبث في الأعداء من
مكايد مهابته ما يمنعهم من القرار ويحسن لهم الفرار، ويحول بينهم وبين الكرى
لاشتراك اسم النوم وحد سيفه في مسمى الغرار.
وأما ما يتعلق بهذه الرتبة من وصايا قد ألفت من خلاله وعرفت من كماله،
فهو ابن بجدتها وفارس نجدتها وجهينة أخبارها وحلبة غايتها ومضمارها، فيفعل من
ذلك كله ما شكر من سيرته وحمد من إعلانه وسريرته، وقد جعلنا في ذلك وغيره من
مصالح إمرته أمره من أمرنا، فيعتمد فيه ما يرضي الله تعالى ورسوله، ويبلغ به من
جهاد الأعداء أمله وسوله، والله الموفق بمنه وكرمه والاعتماد.
***
مرسوم شريف بإمرة آل علي
ثم جاء في (ص124) مما يكتب إلى المرتبة الأولى من الطبقة الثانية ما
نصه:
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل علي، كتب به للأمير عز الدين (جماز)
بعد وفاة والده محمد بن أبي بكر، من إنشاء المقر الشهابي ابن فضل الله، وهي:
الحمد لله الذي أنجح بنا كل وسيلة، وأحسن بنا الخلف عمن قضى في طاعتنا
الشريفة سبيله، ومضى وخلي ولده رسيله، وأمسك به دمعة السيوف في خدودها
الأسيلة، وأمضى به كل سيف لا يرد مضاء مضاربه بحيلة، وأرضى بتقليده كل
عنق وجمّل كل جميله.
نحمده على كل نعمة جزيلة وموهبة جميلة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له شهادةً ترشد من اتخذ فيها نجوم الأسنة دليلة، وتجعل أعداء الله بعز
الدين ذليلة، وأن محمدًا عبده ورسوله الذي أكرم قبيله، وشرَّف به كل قبيلة،
وأظهر به العرب على العجم، وأخمد من نارهم كل فتيلة، صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه صلاةً بكل خير كفيلة، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فإن دولتنا الشريفة لما خفق على المشرق والمغرب جناحها، وشمل
البدو والحضر سماحها، ودخل في طاعتها الشريفة كل راجل ومقيم في الأقطار
وكل ساكن خيمة وجدار، ترعى النعم بإبقائها في أهلها وإلقائها في محلها، مع ما تقدم
من رعاية توجب التقديم، وتودع بها الصنائع في بيت قديم، وتزين بها المواكب إذا
تعارضت جحافلها وتعارفت شعوبها وقبائلها، واستولت جيادها على الأمد وقد سبقت
أصائلها، وتداعت فرسانها وقد اشتبهت مناسبها ومناصبها ومناصلها، وكانت قبائل
العربان ممن تعمهم دعوتنا الشريفة وتضمهم طاعتنا التي هي لهم أكمل وظيفة، ولهم
النجدة في كل بادية وحضر وإقامة وسفر وشام وحجاز وإنجاد وإنجاز، ولم يزل (لآل
علي) فيهم أعلى مكانة، وما منهم إلا من توسد سيفه وافترش حصانه، وهم من
دمشق المحروسة رديف أسوارها وفريد سوارها، والنازلون من أرضها في أقرب
مكان، والنازحون ولهم إلى الدار بها أقطار [3] وأوطان، قد أحسنوا حول البلاد
الشامية مقامهم، واستغنوا عن المقارعة على الضيفان لما نصبوا بقارعة الطريق
خيامهم [4] وباهوا كل قبيلة بقوم كاثر النجومَ عديدُهم، وأوقدوا لهم في اليفاع نارًا إذا
همى القطر شبتها عبيدهم [5] ، هم من آل فضل حيث كان عليٌّها وحديثه في المسامع
حديثها.
فلما انتهت الإمرة إلى الأمير المرحوم شمس الدين محمد بن أبي بكر - رحمه
الله - جمعهم على دولتنا القاهرة، وأقام فيهم يبتغي بطاعتنا الشريفة رضا الله والدار
الآخرة، ثم أمده الله من ولده بمن ألقى إليه همه، وأمضى به عزمه ونفذ به حكمه
ونفَّل قسمه.
وكان الذي يتحمل دونه مشقات أمورهم، ويتلقى شكاوى آمرهم ومأمورهم،
ويرد إلى أبوابنا العالية مستمطرًا لهم سحائب نعمنا التي أخصب بها مرادهم،
وساروا في الآفاق ومن جدواها راحلتهم وزادهم، وتفرد بما جمعه من أبوته وإبائه،
وركز في كل أرض مناخ مطيه ومرسى خبائه، وضاهى في المهاجرة إلى أبوابنا
الشريفة النجوم في السماء، وحافظ على مراضينا الشريفة فما انفك من نار الحرب إلا
إلى نار القرى. وورد عليه مرسومنا الشريف فكان أسرع من السهم في مضائه، كم
له من مناقب لا يغطي عليها ذهب الأصيل تمويهًا! وكم تنقل من كور إلى سرج،
ومن سرج إلى كور، فتمنى الهلال أن يكون لها شبيهًا، كم أجمل من قومه سيره،
وكم جمل سريره، كم أثمر لها أملاً، كم أحسن عملاً، كم سد خللاً، كم جمع من
مهماتنا الشريفة كل من امتطى فرسًا وركب جملاً، كم صفوف به تقدمت وسيوف
أقدمت حمائم الحمام، وحتوف بها على الأعداء ترنمت.
وكان المجلس السامي الأميري الأجلي الكبيري المجاهدي المؤيدي العضدي
النصيري الأوحدي المقدمي الذخري الظهيري الأصلي، مجد الإسلام والمسلمين،
شرف الأمراء في العالمين، همام الدولة حسام الملة، ركن القبائل ذخر العشائر،
نصرة الأمراء والمجاهدين، عضد الدولة والسلاطين جماز بن محمد - أدام الله نعمته
- هو المراد بما تقدم، والأحق بأن يتقدم، والذي لو أن الصباح صوارم، والظلام
جحافل لتقدم، فلما مات والده - رحمه الله - نحا إلى أبوابنا العالية، ونور ولائه
يسعى بين يديه، ووقف بها، وصدقاتنا الشريفة ترفرف عليه، فرأينا أنه بقية قومه
الذين سلفوا، وخلف آبائه الذين عن زجر الخيل ما عزفوا، وكبيرهم الذي يعترف له
والدهم ووليدهم، وأميرهم الذي ترعى به عهودهم، وشجرتهم التي تلتف عليه من
أنسابهم فروعها، وفريدهم الذي تجتمع عليه من جحافلهم جموعها.
فرسم بالأمر الشريف أن تفوض إليه إمرة آل علي تامةً عامةً، كاملةً شاملةً،
يتصرف في أمورهم، وآمرهم ومأمورهم، قربًا وبعدًا، وغورًا ونجدًا، وظعنًا
وإقامةً، وعراقًا وتهامةً، وفي كل حقير وجليل، وفي كل صاحب رغاء وثغاء
وصرير وصليل، على أكمل عوائد أمراء كل قبيلة، وفي كل أمورهم الكثيرة
والقليلة.
ونحن نأمر بتقوى الله، فبها صلاح كل فريق، وإصلاح كل رفيق، ونجاح
كل سالك في طريق، والحكم فليكن بما يوافق الشرع الشريف، والحقوق فخلصها
على وجه الحق من القوي والضعيف، والرفق بمن وليته من هذا الجم الغفير
والجمع الكبير، وإلزام قومك بما يلزمهم من طاعتنا الشريفة التي هي من الفروض
اللازمة عليهم، والقيام في مهماتنا الشريفة التي تبرز بها مراسمنا المطاعة إليك
وإليهم، وحفظ أطراف البلاد، والذب عن الرعايا من كل طارق يطرقهم إلا بخير،
والمسارعة إلى ما يرسم لهم به ما دامت الأسفار في عصاها سير، والإفراج لعزتك
لا تسمح به إلا لمن له حقيقة وجود، وله في الخدمة أثر موجود، ومنعهم، فلا
يكون إلا إذا توجه منعهم، أو توانت عزائمهم وقل نفعهم، والمهابة، فانشرها
كسمعتك في الآفاق، ودع بوارق سيوفها تشام بالشام، وديمها تراق بالعراق،
وخيول التقادم، فارتد منها كل سابق وسابقة تهف منهما الرياح، ويحسدهما الطير
إذا طار بغير جناح، ولا تتخذ دوننا لك بطانةً ولا وليجةً، ولا تقطع عنا أخبارك
البهيجة، وليعرف قومه له حقه، ويوقره من التعظيم مستحقه فإنه أميرهم، وأمره من
أمرنا المطاع فمن نازع فقد خالف النص والإجماع، والله تعالى يوفقه ما استطاع،
بمنه وكرمه، والخط الشريف.
__________
(1) يراجع ما نشرناه عن آل فضل في الجزء الذي قبل هذا.
(2) لعله: (ولا تستقل) .
(3) المنار: لفظ (أقطار) هنا لا معنى له، فهو محرف عن (أوطار) أخذًا من قول الشريف
الرضي:
لا يذكر الرمل إلا حن مغترب ... له بذي الرمل أوطار وأوطان.
(4) مأخوذ من قول الشاعر:
نصبوا بقارعة الطريق خيامهم ... يتقارعون على قِرى الضيفان
وبعده:
ويكاد موقدهم يجود بنفسه ... حب القرى حطبًا على النيران.
(5) مأخوذ من قول المعري في رائيته:
الموقدون بنجد نار بادية ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر
إذا همى القطر شبتها عبيدهم تحت الغمائم للسارين بالقطر.(21/179)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خلاصة معاهدة الصلح [1]
(2)
الفصل الرابع
في المواد السياسية في خارج أوربا
حقوق ألمانية في خارج أوربة: تتنازل ألمانية في خارج أوربة لدول
الحلفاء والدول المشتركة معها عن جميع الحقوق والامتيازات في البلاد التي لها
أو لحلفائها، وتتعهد أن تقبل التدابير التي تتخذها دول الحلفاء الخمس بشأن ذلك.
المستعمرات والأملاك وراء البحار: تتنازل ألمانية لدول الحلفاء والدول
المشتركة معها عن أملاكها الواقعة وراء البحار، مع كل ما لها من الحقوق
والامتيازات فيها، وتنتقل جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة التي للإمبراطورية
الألمانية أو لأية دولة من دولها إلى الحكومة التي تكون صاحبة السلطة هناك، ولهذه
الحكومات أن تتخذ ما تستصوب من التدابير لإرجاع الرعايا الألمان من هناك إلى
أوطانهم، والشروط التي تشترط على الرعايا الألمان من سلالة أوربية إذا أرادوا
البقاء وامتلاك الأملاك والاتجار، وتتعهد ألمانية بأن تعوض من الخسارة التي
أصابت الرعايا الفرنسويين في الكمرون أو على حدودها بفعل ولاة الأمور الألمان
الملكيين والعسكريين والأفراد الألمان من أول يناير 1900 إلى 1 أغسطس 1914 ,
وتتنازل ألمانيا عن جميع الحقوق التي اكتسبتها باتفاق 4 نوفمبر 1911 و28 سبتمبر
1912 , وتتعهد بأن تدفع إلى فرنسا جميع الودائع والحسابات والسُّلف التي حصلت
عليها بموجب هذين الاتفاقين، وذلك بحسب التقدير الذي تقدره لجنة التعويض،
وتتعهد ألمانيا بأن تقبل وتنفذ النصوص التي تضعها دول الحلفاء، والدول المشتركة
معها للاتجار بالسلاح، والمعسكرات في أفريقية، وعقد برلين العام 1885 وعقد
بروكسل العام 1810 أما الحماية السياسية لأهالي المستعمرات الألمانية السابقة فتناط
بالحكومات التي تدير أمور تلك المستعمرات.
الصين: تتنازل ألمانية للصين عن جميع الامتيازات والغرامات التي نالتها
باتفاق البوكسر المبرم سنة 1901 , وعن جميع المباني والأرصفة والقشلاقات
والحصون وذخيرة الحرب والبواخر وآلات التلغراف اللاسلكي، وسائر الأملاك
العمومية - ما عدا المباني التي للوكالة السياسية والقنصلية - في منطقة امتياز الألمان
في نيان تسن وهنكو , وفي سائر الأملاك الصينية ما عدا كياوتشو وتقبل أن ترد على
حسابها إلى الصين جميع الآلات الفلكية التي أخذتها سنة 1900 , وسنة 1901 على
أن الصين لا تتخذ إجراءات للتصرف بالأملاك الألمانية في حي السفارات في بكين
من غير رضا الدول الموقعة لاتفاق البوكسر، وتقبل ألمانيا إلغاء امتيازاتها في
هنكووتسيان تسن، وتقبل الصين أن تفتحهما لاستعمال الأمم، وتتنازل ألمانية عن كل
دعوى على الصين أو أية دولة أخرى من دول الحلفاء والدول المشتركة معها في ما
يختص باعتقال رعاياها في الصين، أو إخراجهم منها، أو ضبط المصالح الألمانية،
أو تصفيتها هناك في 14 أغسطس سنة 1917 , وتتنازل بريطانية العظمى عن
أملاكها في منطقة الامتياز البريطاني في كنتون , ولفرنسا والصين معًا عن ملكية
المدرسة الألمانية في منطقة الامتياز الفرنسوي في شنغاي.
سيام: تعترف ألمانية بأن جميع الاتفاقات المبرمة بينها وبين سيام , وفي
جملتها حقوق الامتيازات الأجنبية زالت من 22 يونيو 1917, وأن جميع الأملاك
العمومية الألمانية في سيام تنتقل ملكيتها إلى سيام بلا عوض ما عدا دور الوكالة
السياسية والقنصليات، أما الأملاك الألمانية الخصوصية فتعامل طبقًا لنصوص
المواد الاقتصادية (في المعاهدة) وتتنازل ألمانية عن كل دعوى لها على سيام
تختص بضبط بواخرها ومصادرتها وتصفية أملاكها وأموالها واعتقال رعاياها.
ليبريا: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق التي اكتسبتها بالاتفاقات الدولية التي
أبرمت في 1911 - 1912 بشأن ليبريا , ولا سيما الحق في تعيين سنديك
للجمارك، ولا تدخل في كل مفاوضة مقبلة لإرجاع ليبريا إلى سابق منزلتها، وتعد
في حكم المقوض جميع المعاهدات التجارية والاتفاقات المبرمة بينها وبين ليبريا،
وتعترف بحق ليبريا في تعيين شروط إقامة الألمان في بلادها ومنزلتهم فيها.
المغرب الأقصى: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق والامتيازات التي نالتها
بعقد الجزيرة , والاتفاقات الفرنسوية الألمانية في سنة 1909 وسنة 1911,
وبجميع المعاهدات والاتفاقات التي أبرمتها مع السلطة الشريفية (المغربية)
وتتعهد بأن لا تتعرض لأية مفاوضة تدور على المغرب الأقصى بين فرنسة وسواها
من الدول، وتقبل جميع النتائج الناتجة عن الحماية الفرنسوية هناك، وتتنازل عن
امتيازاتها الأجنبية، ويكون للحكومة الشريفية الحرية التامة في التصرف نحو
الرعايا الألمان، ويكون جميع الأشخاص المشمولين بالحماية الألمانية خاضعين
لقانون البلاد، ويجوز أن تباع جميع الأموال الألمانية المنقولة وغير المنقولة، وفي
جملتها حقوق التعدين بالمزاد العلني، ويعطى الثمن للحكومة الشريفية، ويخصم من
المطلوب لها من التعويض، وعلى ألمانية أيضًا أن تتخلى عن مصالحها في بنك
الدولة في المغرب الأقصى، وتتمتع جميع البضائع المغربية التي تدخل ألمانية
بالامتيازات التي للبضائع الفرنسوية.
مصر: تعترف ألمانية بالحماية البريطانية التي بسطت على مصر في 28
ديسمبر 1914 , وتتنازل اختيارًا من 4 أغسطس 1914 عن الامتيازات الأجنبية
فيها، وعن جميع المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينها وبين مصر , وتتعهد أن
لا تتعرض لأية مفاوضة تدور على مصر بين بريطانيا العظمى والدول الآخرى.
وفي هذا القسم نصوص تختص بالقوانين التي تسري على الرعايا الألمان
والأموال الألمانية، وعلى قبول ألمانية لكل تغيير يعمل في مجلس صندوق الدين،
وتقبل ألمانية أن تنتقل إلى بريطانيا العظمى السلطة التي كانت ممنوحةً لسلطان
تركيا السابق لضمان حرية الملاحة في قنال السويس، والإجراءات التي تتبع في
أموال الرعايا الألمان في مصر جعلت مشابهةً للإجراءات المتبعة في المغرب
الأقصى وسواه من البلدان، وتعامل البضائع المصرية الإنكليزية التي تدخل
ألمانية، بمثل المعاملة التي تعامل بها البضائع البريطانية.
تركية وبلغارية: تقبل ألمانية جميع التدابير التي تتخذها دول الحلفاء
والدول المشتركة معها مع تركية وبلغارية في ما يختص بالحقوق والامتيازات
والمصالح التي تطالب ألمانية أو رعاياها بها في تينك البلدين، ولم ينص عليها في
مكان آخر.
شانتنغ: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق والامتيازات التي لها، ولا سيما
في كياوتشا، وعن سكك الحديد والمناجم والأسلاك التلغرافية البحرية التي أحرزتها
بالمعاهدة التي أبرمتها مع الصين في 6 مارس 1898 وباتفاقات أخرى.
أما في شانتنغ , فجميع حقوق ألمانية على سكة الحديد من تسنغ ثاو إلى تسن
انفو , وفي جملتها حقوق التعدين، وحقوق الاستغلال تنتقل إلى اليابان أيضًا،
وكذلك أسلاك التلغراف البحري الممتدة من تسنغ ثاو إلى شنغاي وشيفو , فهذه أيضًا
تنقل إلى ملكية اليابان بلا مقابل، وتستولي اليابان على جميع أملاك الدولة الألمانية
المنقولة وغير المنقولة في كياوتشا، بلا مقابل.
الفصل الخامس
في الشروط العسكرية البرية والبحرية والجوية
إنه توطئة للشروع في إنقاص سلاح الأمم إنقاصًا عامًّا تتعهد ألمانية مباشرةً
بأن تسير على المواد العسكرية البرية والبحرية والجوية التالية، وهي:
الشروط البرية: تنص الشروط العسكرية البرية على تسريح الجيوش
الألمانية، وتنفيذ القيود العسكرية الأخرى بعد إمضاء المعاهدة بشهرين (ويكون
ذلك الخطوة الأولى نحو نزع السلاح الدولي) وتلغى الخدمة العسكرية الإجبارية
في بلاد ألمانية، وتدخل قوانين للتجنيد على قاعدة التطوع في قوانين ألمانية
العسكرية، تقضي بتجنيد صف الضباط والجنود لمدة لا تقل عن 12 سنةً متواليةً،
وتشترط أن يخدم الضباط 25 سنةً، ولا يحالوا إلى المعاش قبل أن يبلغوا
الخامسة والأربعين، ولا يسمح بإنشاء احتياطي من الضباط الذين خدموا في الحرب،
ويكون مجموع رجال الجيش الألماني مائة ألف لا يزيد عدد الضباط فيهم على
أربعة آلاف، ولا يجوز تأليف قوة عسكرية غير هذه القوة، ويمنع منعًا خاصًّا
زيادة موظفي الجمارك والغابات أو البوليس، وتعليمهم تعليمًا عسكريًّا، وتكون
وظيفة الجيش الألماني صون النظام الداخلي ومراقبة الحدود، وعلى قيادته العليا
أن تحصر عملها في المهام الإدارية، ولا يسمح بأن يكون لها هيئة أركان حرب
عامةً، وينقص عدد المستخدمين الملكيين في وزارة الحربية والمصالح المشابهة
لها إلى عُشر ما كان في سنة 1913 , ولا يجوز أن يكون لألمانية أكثر من سبع
فرق من المشاة، وثلاث فرق من الفرسان , وفيلقين من أركان الحرب، ويقفل ما
يزيد عن حاجة الجيش من المدارس العسكرية ومدارس الضباط، وتلاميذ
المدارس الحربية إلخ، ويقتصر في قبول التلاميذ الذين يعينون ضباطًا على سد
المناصب التي تفرغ في الجيش.
أما صنع السلاح والذخيرة ومهمات الحرب في ألمانية، فيقتصر فيه على بيان
يبنى على قاعدة المقدار اللازم لجيش، كالجيش المتقدم، ولا يجوز إنشاء احتياطي من
السلاح والذخيرة، فجميع الأسلحة والمدافع والمهمات الموجودة فوق الحد المعين
يجب أن تسلم إلى الحلفاء للتصرف فيها، ولا يجوز لألمانية أن تصنغ غازات سامةً،
ولا سوائل ناريةً، ولا يسوغ لها استيرادها، ولا يجوز لها أن تصنع دبابات ولا
أتوموبيلات مدرعةً، وعلى الألمان أن يبلغوا الحلفاء أسماء جميع المصانع التي
تصنع الذخيرة والسلاح، ومواقعها وبيان مصنوعها؛ لأجل الحصول على موافقة
الحلفاء عليها، ويجب إلغاء الترسانات التي لحكومة ألمانية، وصرف مستخدميها،
وأما الذخيرة التي تصنع لاستعمالها في الاستحكامات فتقتصر على 1500 طلقة لكل
مدفع من المدافع التي من عيار 10.5 سنتمتر فما دون و 500 طلقة لكل مدفع من
المدافع التي هي أكبر من ذلك، ويحظر على ألمانية أن تصنع السلاح والذخيرة لبلدان
أجنبية، واستيرادها من الخارج، ولا يجوز لألمانية أن تحافظ على الاستحكامات، أو
تنشئ استحكامات في أرض ألمانية واقعة على أقل من خمسين كيلو مترًا شرقي
الرين , ولا يجوز لها أن تُبقي في الشقة المذكورة قوات مسلحةً، لا دائمةً ولا وقتيةً،
ويحافظ على الحالة الحاضرة في ما يختص بالحصون القائمة على الحد الجنوبي
والشرق الأصلي للإمبراطورية الألمانية، ولا يجوز إقامة المناورات العسكرية في
(الشقة المذكورة) ولا إنشاء مبانٍ دائمة للمساعدة على تعبئة الجيش، ويجب نزع
السلاح من الاستحكامات في خلال ثلاثة أشهر بعد المعاهدة.
الشروط البحرية: تنص الشروط البحرية على أنه في خلال شهرين لا يجوز
أن تتجاوز قوات ألمانية البحرية ست بوارج من طراز (ديتشليندا ولوترنجن) وستة
طرادات خفيفة، و12 مدمرةً، و12 نسافةً، أو ما يساوي هذا العدد من السفن التي
تحل محلها، ولا يجوز أن يكون في هذه القوات البحرية غواصات، أما سائر
البوارج فتوضع في الاحتياطي أو تخص بالأعمال التجارية، ويجوز لألمانية
أن تُبقي على قدم الاستعداد عددًا معينًا من السفن التي تلتقط الألغام إلى أن يتم التقاط
الألغام في بعض المناطق المعينة في البحر الشمالي وبحر البلطيق، وبعد انقضاء
شهرين (على إمضاء المعاهدة) لا يجوز أن يتجاوز مجموع رجال الأسطول
الألماني 15 ألفًا، منهم 1500 من الضباط وصف الضباط على أعظم تقدير،
وتسلم (إلى الحلفاء) نهائيًّا جميع البوارج الألمانية التي تسير على سطح الماء،
والمعتقلة في موانئ الحلفاء أو المحايدين، وفي خلال شهرين تسلم في موانئ
الحلفاء بوارج ألمانية أخرى مبينة في المعاهدة، وهي راسية الآن في الموانئ
الألمانية، ويجب على الحكومة الألمانية أن تتعهد بتحطيم جميع البوارج الألمانية
التي تسير على سطح الماء، والتي لم يتم صنعها حتى الآن، وأما الطرادات
المحولة ونحوها فينزع سلاحها، وتُعَد بواخر تجاريةً، وبعد شهر تسلم في موانئ
الحلفاء جميع الغواصات الألمانية والبواخر المستعملة لإخراج الغارق، والحياض
الخاصة بالغواصات والتي يمكن أن تسير في البحر بعددها، أو التي يمكن قطرها
وأما الباقي وما لا يزال يصنع في دور الصنعة، فيجب على ألمانية أن تحطمه
في خلال ثلاثة أشهر، ولا يجوز لألمانيا أن تستعمل حطام هذه السفن إلا للأغراض
الصناعية، ولا يجوز بيعها لبلدان أجنبية إلا بشروط معينة لتعويضها، ويحظر
على ألمانية أن تبني أو تحرز بوارج، ويحظر عليها أن تبني أو تحرز غواصات،
والبوارج التي تبقى لها تعطى قدرًا معينًا من السلاح والذخيرة والمهمات الحربية،
وأما ما يفضل من السلاح والذخيرة والمهمات الحربية، فيسلم ولا يجوز لألمانية خزن
شيء منه أو إنشاء احتياطي.
ويجب أن يؤخذ رجال الأسطول الألماني بالتطوع التام، ولا تقل مدة الخدمة
للضباط وصف الضباط عن 25 سنةً متواليةً، وأما صغار صف الضباط أو البحارة،
فمدة الخدمة لهم لا تقل عن 12 سنةً متواليةً بقيود مختلفة.
ولأجل ضمان سلامة الدخول إلى بحر البلطيك لا يجوز لألمانية أن تنشئ
حصونًا في بقاع معينة، ولا أن تنصب مدافع تشرف على الطرق البحرية بين
البحر الشمالي والبلطيك، ويجب عليها أن تهدم (المعاقل) الاستحكامات القائمة
في تلك البقاع وتنزع ما فيها من المدافع , وأما سائر الحصون الواقعة على بعد
50 كيلو مترًا من شاطئ ألمانية أو القائمة على جزر ألمانية فهذه تبقى؛ لأنها
دفاعية، ولكن لا يجوز إنشاء حصون جديدة، ولا زيادة السلاح في الموجود منها
والحد الأعلى لما يخزن من الذخيرة في هذه المعاقل هو 1500 طلقة للمدفع
الواحد من عيار 1، 4 بوصة فما دون، و500 طلقة لكل مدفع من المدافع التي
هي أكبر من هذا.
ولا يجوز استعمال محطات التلغراف اللاسلكي الألمانية في ناون وهنوفر
وبرلين لإرسال تلغرافات بحرية وعسكرية أو سياسية من غير رضاء الحلفاء،
والدول المشتركة معهم في مدة ثلاثة أشهر، وإنما يجوز استعمالها لأغراض تجارية
تحت المراقبة، وفي هذه المدة لا يجوز لألمانية أن تنشئ محطات كبيرةً أخرى
للتلغراف اللاسلكي، ويجوز لها أن ترمم الأسلاك التلغرافية البحرية التي قطعت،
والتي لا يستعملها الحلفاء، وكذلك أجزاء الأسلاك البحرية التي نقلت بعد قطعها،
والتي لا ينتفع بها الآن، وفي هذه الأحوال تظل الأسلاك المذكورة أو القطع التي
نقلت أو التي استعملت ملكًا للحلفاء والدول المشتركة معهم، وبناءً على ذلك فإن
14 سلكًا، أو أجزاء أسلاك عينت في هذه المادة لا ترد إلى ألمانية.
الشروط الجوية: تنص الشروط الجوية على أن لا يكون في قوات ألمانية
المسلحة أسلحة طيران عسكري أو بحري، ولكن يسمح لها أن تُبقي عندها ما لا
يزيد على 105 طيارة بحرية غير مسلحة لغاية أول أكتوبر 1919 تستعمل للبحث
عن الألغام تحت سطح الماء فقط، ويسرح جميع رجال سلاح الطيران في ألمانية
خلال شهرين ما عدا 1050 رجل بينهم الضباط يجوز إبقاؤهم إلى أكتوبر، وتتمتع
طيارات الحلفاء والدول المشتركة معهم بحرية المرور فوق أملاك ألمانية والنزول
فيها، والنزول في منطقة المياه المحلية التي لها إلى أول يناير 1923 , إلا إذا كانت
ألمانية قد سبق فقُبلت قبل هذا التاريخ في جمعية الأمم أو سُمح لها بالعمل باتفاق الجو
الدولي، ويحظر صنع الطيارات أو أجزائها في جميع أنحاء ألمانية لمدة ستة أشهر،
وتسلم جميع الطيارات العسكرية والبحرية والبلونات المسيرة ومهمات الطيران إلى
الحلفاء والحكومات المشتركة معهم في خلال ثلاثة أشهر إلا الطيارات البحرية المائة
التي تقدم ذكرها.
شروط عمومية: وتنص الشروط العمومية على تعديل القوانين الألمانية
لتصير مطابقةً للمواد المتقدمة، وعلى ألمانية أن تنفذ جميع المواد الواردة في
المعاهدة تحت مراقبة لجنة دولية من الحلفاء يعينها الحلفاء والحكومات المشتركة
معهم، وعلى الحكومة الألمانية أن تمد هذه اللجنة بجميع التسهيلات ونفقات
مصروفاتها، وأما مهمة اللجان العسكرية، والبحرية، والجوية التي للمراقبة، فقد
نص عليها بالتفصيل.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في الجزء الثالث.(21/189)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فائدة في هدي القرآن
في المعاهدة
من عجائب حِكم القرآن وعلومه أن كل زمان يظهر منها ما لم يكن ظاهرًا فيما
قبله كظهوره فيه، كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ
بَعْضٍ} (الأنعام: 65) ، ومن هذا القبيل قوله تعالى بعد الأمر بالإيفاء بعهد الله من
سورة النحل: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ
دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) إلى قوله: {وَلاَ
تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} (النحل: 94) الآية، الأيمان
بالفتح: العهود والمواثيق، والدَّخَل بالتحريك: ما دخل الشيء من أسباب الفساد،
كالخديعة والحيلة، والعبارات التي يراد تأويلها، وتحريفها عن ظواهرها في العهود
وسنبين ذلك بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
__________(21/196)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة السورية والأحزاب
بينما كان العرب في سورية والعراق يُمنون أنفسهم بالنجاة من طغيان
الطورانيين , وما سامهم جلادهم جمال باشا وغيره من سوء العذاب إلى نعيم
الاستقلال الصحيح والحرية التامة، ويتلذذون بما يقرءون في المنشورات والجرائد
التي تنقلها إليهم العيون، أو تنثرها عليهم الطيارات (كالقبلة والمقطم والكوكب) كان
السير مارك سايكس والموسيو بيكو (صديقا العرب) يضعان أصول الاتفاق بين
دولتيهما على اقتسام هذه البلاد بينها، ويضعان لها خارتةً [1] تحدد منطقة كل قسم
منها، كما فعل غيرها من رجال دول الأحلاف في بلاد الترك أيضًا، وقد كان أول
من كشف النقاب عن أسرار هذه المعاهدات السرية، أحرار الروس لما أسقطوا
حكومتهم القيصرية ونشروا أسرارها المطوية.
وقد اشتهر أمر معاهدة تقسيم ولايات سورية والعراق بين فرنسة وإنكلترة ,
وكثر كلام الجرائد الأوربية والعربية فيه، ولما ظهرت شروط الرئيس ولسن
واتفقت الدول المتحاربة على جعلها أساسًا للصلح باعتبار ما فسرها من خطبه التي
نشرنا أهمها من قبل، كان يُظَن أنها تنسخ هذه المعاهدة ونظائرها من المعاهدات
السرية التي وضعت لاستيلاء الأقوياء على بلاد الضعفاء نسخًا تامًّا، ولكننا
وجدنا أن عهد عصبة الأمم الذي يحسب الرئيس ولسن أنه غيَّر به نظام الدول
والأمم، ونقل البشر من طور سافل إلى طور عالٍ من الحرية والسلام - قد أجاز
تقسيم بلاد الشعوب الضعيفة بين الأقوياء، بشرط أن يسمى تصرف كل دولة فيما
تأخذه منها وصايةً وتوكيلاً، لا حمايةً ولا امتلاكًا ولا استعمارًا، وزاد على ذلك أن
الشعوب الراقية من أولئك الضعفاء التي يعترف باستقلالها مؤقتًا بشرط قبول هذه
الوصاية (أي: بشرط أن لا تكون مستقلةً) يسمح لها بأن يكون لها صوت في اختيار
الدولة الموكلة بها؛ ليكون ذلك حجةً عليها، وإذا احتج الضعيف على هذا بأنه مناقض
لما قاله ولسن وأمثاله من كبار رجال دول الحلفاء من أن أحد أغراضهم الرئيسية من
الحرب تحرير الشعوب المغلوبة واستقلالها، إذ هو عبارة عن وضع اسم جديد
للاستعمار والاستعباد يخدع الجاهلين ويصرفهم عن المقاومة - قال له من عساه
يتعطف بالجواب: ليس المراد من تحرير الشعوب غير الأوربية جعلها حرةً
كالأوربيين، كما يفهم البلداء الذين يفسرون الألفاظ بما يرونه في معاجم اللغة المخالفة
لمعاجم السياسة، وإنما المراد منه إنقاذها من حكامها الظالمين، وجعلها تحت سيادتنا
العادلة التي هي أفضل للشعب الضعيف من الحرية المطلقة التي لا يقدر على القيام
بأعبائها وشؤونها، وإذا كان ما قارب الشيء يُعطى حكمه، فما القول في ما هو أفضل
منه؟
فإذا قيل: إن صحت هذه النظرية، فاسترقاق الراقين في الحضارة من
الأفراد لمن دونهم خير لهم من الحرية، فلماذا تحرمون استرقاقهم؟ ثم لماذا تبيحون
حرية الفسق والفجور للشعوب الجاهلة، وأنتم ترون ما يجني عليها فشو الزنا
والسكر من الأمراض والفقر وفساد البيوت (العائلات) والأمة؟ إن قيل هذا سكت
لسان المقال، وصاح لسان الحال:
قتل امرئ في غابة ... جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن ... مسألة فيها نظر
كان أولو الإلمام بالسياسة من السوريين يعتقدون منذ آذن دول الحلفاء الدولة
العثمانية بالحرب، أن انتصارهم يفضي إلى تقسيم بلادها بينهما على قاعدة مطامعهم
القديمة فيها بأن تكون الآستانة لروسية وسورية لفرنسة، والعراق لإنكلترة، ولم
تكن أقوال رجال السياسة منهم أنهم يبغون تحرير الأمم والشعوب مضعفةً
لاعتقادهم هذا، ولكن منهم مَن حسَّن الظن بالرئيس ولسن إذ نادى بهذه الحرية
وبوجوب تعميمها وتعميم العدل وعدم التفرقة بين من يجب أن يعدل فيهم، إذ
حسبوا ذلك ناسخًا لما جرت عليه أوربة من وجوب حصر حرية الشعوب في
أقوامها دون الشعوب الآسيوية والأفريقية، ومنهم من لم يحسن الظن به، ولم
يفضله على ساسة أوربة في شيء، وربما كان هؤلاء السيئو الظن هم الأقلين من
أهل الإلمام بالسياسة، وكان سائرهم على رأي عامة شعبهم، وعامة سائر الشعوب
من حسن الظن والرجاء، إلى أن ظهر عهد عصبة الأمم فقال المتمرسون
بالسياسة: إن قواعد ولسن وخطبه لم تأت بشيء جديد إلا زيادة كليمات في معجم
السياسة الخادع، وظل أكثر العامة يفهمون أن المراد من مساعدة الدول الموكلة
للشعوب ليس إلا عبارةً عن إمدادها بما يعوزها من المال والسلاح وغيره كما
يرون من مساعدة إنكلترة لحكومة الحجاز الموالية لها.
هذا، وإن من المعلوم المشهور أن لكل من الفرنسيس والإنكليز صنائع
وأولياء من السوريين يلقون إليهم بالمودة، فطائفة من الموارنة من صنائع فرنسة
وأوليائها، ولها أفراد من الطوائف أخرى قد اجتهد رجالها في تكثير عددهم بعد
احتلال سورية، وطائفة من الدروز من صنائع إنكلترة وأوليائها، وكذلك اليهود
صاروا من أوليائها بوعدها إياهم بجعل بيت المقدس وما حوله من سورية
الجنوبية وطنًا قوميًّا لهم، يرجون أن يستعيدوا فيه ما فقدوا من الملك، وقد استمال
رجالها بعد احتلال هذه البلاد كثيرًا من أفراد الطوائف الأخرى، واستمال إليها
الأمير فيصل كثيرًا من المسلمين، زد على ذلك أن جمهور المتعلمين بالمدارس
الفرنسية يفضلون فرنسة على إنكلترة، والمتعلمين بالمدارس الإنكليزية والأمريكانية
يفضلون أمريكة وإنكلترة على فرنسة، وللدين والمذاهب تأثير عظيم في تفضيل دولة
على دولة وأمة على أمة، ودعاة الدين والمذاهب ما زالوا يتبارون في جذب قلوب من
يربونهم ويعلمونهم في مدارسهم إلى أنفسهم، وينفرونها من المخالفين لهم.
لم يكن للدولة التركية أدنى عناية بمقاومة دعاة النفوذ الأجنبي في بلادها، ولا
اهتمام بمعارضته بمثله فيها، ولا في بلاد أولئك الأجانب أو مستعمراتهم بالأولى،
وليس لغيرها من أمم المشرق الإسلامية ولا غيرها دولة ولا إمارة لها دعاة
يستميلون الناس باسم الدين، ولا باسم الحضارة ولا المصالح، لهذا كان الذين
ينفرون من الترك بالتأثير الأجنبي أو بسبب الظلم وسوء الإدارة - والذين
يتوقعون إفضاء ما عليه الترك من سوء الإدارة إلى سقوط دولتهم، واقتسام الدول
الكبرى لها - لم يكن أحد من هؤلاء ولا أولئك يفكر في مستقبل بلاده، ولا تتمثل
له إحدى الدول الأوربية الطامعة مسيطرةً عليها، متمتعةً بخيراتها، مستخرجةً
لكنوزها.
كان الأمر كذلك إلى أن قام الاتحاديون الطورانيون من الترك ببث دعوة
الجنسية التركية، ومحاولة تتريك جميع الخاضعين لحكمهم من الأجناس الأخرى
بالقوة القاهرة، حتى دَعُّوا هذه الأجناس دعًّا إلى المحافظة على جنسياتها، وإحياء
ما أماته الجهل والإهمال من لغاتها، ثم إلى التفكر في حريتها واستقلالها، فلما
اتخذ الاتحاديون الحرب ذريعةً إلى تنفيذ خطتهم في القضاء على العرب في سورية
والعراق بالقوة القاهرة، وشرعوا ينكلون بهم تقتيلاً وتصليبًا وتغريبًا ومصادرةً
وتخريبًا - كما فعلوا بالأرمن والروم - واشتعلت نار الثورة العربية في الحجاز ,
وانضوى أميره إلى دول الأحلاف المحاربة للترك والجرمان - تعلقت آمال السوريين
الذين يسامون سوء العذاب في سورية وغيرهم من العراقيين بأن تكون لهم دولة
عربية، يكون المؤسس لها ملك الحجاز، وكان النصارى كالمسلمين في تمني ذلك؛
لأن الشدائد التي ذاقوها بأنهم عرب قد أزالت كل خلاف وشقاق كان بينهم.
ولما احتل الحلفاء سورية بعد جلاء الترك عنها، وأخذ جزء من جنوبيها عنوةً
أقاموا فيها ثلاث حكومات عسكريةً على قاعدة معاهدة سنة 1916: حكومة
إنجليزية في سورية الجنوبية (فلسطين) لأنها منطقة إنكلترة، وحكومة فرنسية
في سواحل سورية الشمالية؛ لأنها منطقة فرنسة، وحكومة عربية في الداخلية؛
لأنها منطقة العرب، وكانت كل حكومة تبث نفوذها في منطقتها حتى اعتقد
المتمرسون بالسياسة من أهل البلاد في كل منطقة أنها صارت ملكًا خالصًا لمحتلها،
مهما يكن الاسم الذي يسمى به هذا الملك، وكانت كل حكومة تشدد في منع الاتصال
بين كل قسم من سورية وبين مصر بشدة المراقبة على البريد، وشدة التدقيق في
منع السفر من أحد القطرين إلى الآخر، إلا لمن يوثق بمشايعته للحلفاء في سياستهم
ثم لمن يوثق بأنه لا يخالفهم ولا يشتغل بسياسة غير سياستهم، ذلك بأن من في
مصر أجدر بمعرفة حقائق السياسة وخفاياها من أهل سورية وسائر أقطار الشرق
الأدنى، ولكن الأخبار والأفكار كانت تنقل بالتدريج بتلقين بعض ضباط الجيش
العربي وغيرهم من خدمة الحكومة العربية الذين كانوا يترددون بين مصر والحجاز
وسورية، ثم بتلقين غيرهم، وبما كان يحمل كل من الرسائل، فعرف بذلك
الكثيرون من أهل سورية حقائق المسائل، وكان مما ترتب عليه قوة رجائهم بما
يحبون من الاستقلال التام، وضعف أملهم وتغير رأيهم في ارتباط سورية بحكومة
الحجاز، فلم يعد يرغب في هذا أحد يعتد به من الذين عرفوا حقيقة الحال، ولكن
الأمير فيصلاً نجح بلطفه وسخائه وبمظاهرة الإنكليز له في تأليف حزب كبير يرغب
في جعله ملكًا لسورية مستقلة.
***
الأحزاب السورية
من فقه ما تقدم لم يعجب مما يراه من كثرة اختلاف السوريين في أمر بلادهم،
كما يعجب من لا يعرف من شؤونهم سوى الظواهر التي تتجلي له في جرائدهم
ومجلاتهم، وبراعتهم في التجارة بمصر وأوربة والممالك الأميركية، وإدارتهم
لبعض أعمال الحكومة المصرية، والسودانية.
قال عالم أوربي لشاب سوري من تلاميذه: إنني وقفت على كثير من شؤون
السوريين الاجتماعية وغيرها، وحضرت بعض أنديتهم ومحافلهم، فلم أر بيننا
وبينهم فرقًا يذكر؛ لهذا أخذ مني العجب مأخذه، لما علمت أن كثيرًا منهم يطلبون
أن يكون وطنهم تحت حماية أو وصاية أجنبية، هذه خطة خسف وضِعة لا
يرضى لنفسه بمثلها من نعلم أنهم أدنى من السوريين في كل علم وعمل، وأقل
شعورًا بمعنى الحرية والشرف. ولو علم هذا العالِم أن مصدر هذا الخسف
والضعة بعض أولئك الذين إذا رآهم تعجبه أجسامهم، وإن يقولوا يسمع لقولهم، دون
الجمهور السوري الأعظم الذي لم يسلبه التفرنج ولا التعصب الديني ما عرف
به السوريون وسائر العرب من الشمم والإباء، ثم علم سائر ما أشرنا إليه من
أسباب الخلاف - لما احتقر السوريين كافةً بما صدر عن الأقلين منهم بعذر من
الأعذار التي أشرنا إليها في هذا المقال أو بغير عذر.
من جراء ذلك ألف السوريون في البلاد وفي الممالك الأمريكية ومصر
عدة أحزاب وجمعيات كلها تطلب الاستقلال لسورية برمتها متحدةً غير متجزئة،
ومنها فلسطين ولبنان، إما وحدها وإما متحدة مع العراق وجزيرة العرب، وبعض
اللبنانيين منهم يطلب أن يكون لبنان مملكةً مستقلةً، ويُضَم إليه معظم ولاية بيروت
وجزء من ولاية الشام مما يكثر فيه النصارى بحيث يكون أكثر الأهالي منهم، فتكون
البلاد السورية مملكتين: الساحلية منهما مسيحية، والداخلية إسلامية. بهذا صرح لي
بعض كبرائهم، وأدبائهم، فما الظن بما يصرح به بعضهم لبعضهم؟ ثم إن طلاب
الاستقلال لسورية من هؤلاء السوريين المهاجرين منهم من يطلبه تامًّا مطلقًا ناجزًا،
كحزب الاتحاد السوري بمصر وبعض الأحزاب والجمعيات في الممالك الأمريكية
الموافقة لهذا الحزب، ومنهم من يطلب استقلالها إداريًّا تحت وصاية إحدى الدول
الأوربية الكبرى، أو الولايات المتحدة.
وأما السوريون الذين في البلاد، فالسواد الأعظم منهم كانوا يطلبون الاستقلال
المطلق الناجز مع الارتباط بالوحدة العربية التي يرغبون أن تتألف من جميع
الولايات العربية العثمانية على قاعدة اللامركزية، وقد بثت فيهم دعوة طلب
الوصاية الأجنبية باسم المساعدات، فراجت بين الكثيرين لاعتقادهم أنها عبارة
عن مساعدة بالمال لا تنافي الاستقلال، لا بتشريع ولا بتنفيذ، فلما فهموا المراد
منها نبذها الأكثرون.
أول حزب ألف بمصر (حزب الاتحاد السوري) وكان أعضاؤه المؤسسون من
المسلمين والنصارى والدروز، وأساس برنامجه الاستقلال التام الناجز، والمراد
بالناجز: الحال، ويقابله الاستقلال المستقبل الذي يتوقف على مساعدة أجنبية، ترشح
الشعب له وتقوده إليه، إن كانت تريد ذلك، وإنما فسرناه لأن بعض الناس لم يفهم
المراد منه، حتى قالت إحدى الجرائد السورية: إن المراد بالناجز: التام، فحسبته
تأكيدًا للتام، والمراد بالتام: ما يشمل السياسي والاقتصادي والقضائي، وإن كان
مؤجلاً.
أُلف الحزب أولاً من فريقي الاستقلاليين والاحتلاليين، وكانت المواد الأولى
التي وضعت له مشتملةً على الجمع بين النقيضين: الاستقلال والاحتلال، فكان كل
فريق يقوي المادة الموافقة لمشربه، ويدعى الاحتلالي أنه استقلالي، وأنه إنما طلب
مساعدةً مؤقتةً للضرورة.
وكل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا
فاشتغلا بالجدال والنضال عدة أشهر، كان الفلج فيها للاستقلاليين، وكان
الاحتلاليون يتسللون منه لواذًا، وينفصلون مثنى وأفذاذًا، وتقرر البرنامج المؤلف
من أربع عشرة مادة بالإجماع في بعضها، وأكثر الآراء في بعض، ورضي كاتب
هذه السطور بأن يكون من مؤسسي هذا الحزب المخالف لمذهبه السياسي في
الجامعة العربية من وجوب اتحاد جزيرة العرب بالولايات العربية العثمانية؛
للحرص على تعاون المسلمين مع النصارى على طلب الاستقلال التام الناجز
لسورية بعد أن أطال الدعوة إلى مذهبه، فلم يستجب له من فضلاء النصارى
بمصر إلا أفراد قليلون؛ ولأن التعاون على استقلال بعض الأقطار العربية لا ينافي
السعي لاستقلال سائرها من طريق آخر، كما صرح به في بعض أيمان الجامعة
العربية، وأنا أصرح هنا بأنني لم أكن موافقًا على كل مواد البرنامج، بل منها ما
أسفر النضال فيه بيني وبين بعض الأعضاء عن فوزي بموافقة الأكثرين من
الأعضاء لي، ثم برجوع بعضهم إلى رأي المخالفين لي إرضاءً لهم؛ لئلا يخرجوا
من الحزب، ولكنهم خرجوا بعد ذلك، على أن كل قانون وكل نظام يشترك في
وضعه كثيرون يتقرر بعض مواده بالاتفاق، وبعضها برأي الأكثرين.
وتلا حزب الاتحاد السوري الحزب الفرنسي الذي يطلب جعل سورية برمتها
(ومنها فلسطين ولبنان) مملكةً واحدةً مستقلةً في إدارتها تحت حماية فرنسة
أو وصايتها، ولم يوجد في مؤسسي هذا الحزب أحد من الطوائف الإسلامية إلا
حقي بك العظم ومختار بك الجزائري، وتلاه الحزب الحر المعتدل الذي يتفق مع
الحزبين السابقين في طلب وحدة سورية وحدودها، ويخالفها في طلب جعل حكومة
الولايات المتحدة وصيةً على سورية ومُساعدةً لها على الاستعداد للاستقلال التام
المطلوب، وليس في مؤسسي هذا الحزب أحد من الطوائف الإسلامية التي تبلغ
أربعة أخماس أهل سورية.
وكان في مصر قبل هذه الأحزاب - بل قبل الحرب أيضًا - جمعية تعرف
بجمعية الاتحاد اللبناني، تطالب الدولة العثمانية بحقوق للبنان المعروف أو الصغير،
فتحولت بعد الحرب إلى مطالبة الحلفاء باستقلال الجبل وتوسيع حدوده وجعله تحت
حماية جميع الدول الكبرى، وكان لمهاجري لبنان في البلاد الأمريكية جمعية أخرى
تعرف بجمعية النهضة اللبنانية، تطالب بتوسيع حدود لبنان وتقوية استقلاله، وجعلة
إمارةً ذات علَم خاص، وجعل أميره أوربيًّا، يُطلب اختياره من الدول الست الضامنة
لاستقلال الجبل، ولهم مطالب أخرى متعارضة نشرناها في المجلد السابع عشر، ثم
كانت هذه الجمعية من طلاب الحماية الفرنسية، وبعد انكشاف الحقائق تغير رأي
مؤسسيها في ذلك، وأشيع أن رئيسها المندوب عنها في باريس طلب الاستقلال التام
وانضم إلى جماعة الأمير فيصل، ولجمعية الاتحاد اللبناني فروع في البلاد الأمريكية
وفي لبنان نفسه، وكان أكثر طائفتي الموارنة والروم الكاثوليك من غير أعضاء هذه
الجمعية يودون أن يكون لبنان وكذا سائر سورية تحت حماية فرنسة، كجمعية النهضة
اللبنانية، ولما انتهت الحرب بظفر الحلفاء، وأعلنوا أن الولايات العربية لن تعود إلى
الحكومة التركية وتألفت الأحزاب السورية للمطالبة باستقلال سورية - على ما تقدم
بيانه - انضم إلى كل من حزبي الاتحاد السوري والحر المعتدل كثير من أعضاء
الجمعيتين، ودخل أناس منهم في أحزاب أخرى استقلالية واحتلالية من طلاب
وصاية الولايات المتحدة، أو وصاية دولة غير معينة، وبقي بعضهم ثابتًا على
المطالبة بفصل لبنان من جسم سورية.
الذي نعلمه أن حزب الاتحاد السوري فاق غيره في بث دعوته في سورية
والمهاجر السورية؛ لأنه على تبرع جميع أعضائه بالعمل وظف له عمال للإدارة
والترجمة والنسخ، واستعان على عمله بسخاء رئيسه ميشيل بك لطف الله ,
وشقيقه جورج بك الذي تبرع له في أول تأسيسه بألفي جنيه مصري، حتى كان
ينفق في بعض الأيام بضع مئين من الجنيهات أجور برقيات إلى أوربة وأمريكة
حيث أجاب دعوته خلق كثير، وبث دعوته في جميع البلاد السورية، ولم يستطع
ذلك غيره، وأما الحزب الحر المعتدل أو الأمريكاني رجع إليه كثير من
الاحتلاليين الذين كانوا راضين بوصاية فرنسة من مهاجري السوريين في مصر
وأمريكة، وقليل من الاستقلاليين، فظلوا السواد الأعظم، ولا سيما في البلاد نفسها
ولم يكن له فروع ولا دعاة فيها، على أن الدعوة إلى طلب مساعدة الولايات
المتحدة قد ظهرت قبل تأسيس هذا الحزب في كل مكان، ونسبتها الجرائد الإنكليزية
إلى الأمير فيصل منذ كان في أوربة، ثم اشتهر أنه بث هذه الفكرة في سورية بعد
عودته إليها، ثم فكرة الدعوة إلى مساعدة إنكلترة إذا لم تقبل حكومة الولايات
المتحدة، وهذا هو الذي وقع، كما سنبينه بعد، ومن البديهي أن السوريين الذين
في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدنيا الجديدة كان كثير منهم قبل ذلك يفضل
مساعدة الولايات المتحدة على مساعدة كل دولة أوربية، بل قلما يفضل دولة أوربية
على الولايات المتحدة في هذا الأمر أو ما يشابهه من كل ما يطلب للخير
والإنسانية إلا جاهل غبي، أو متعصب قوي، أو مستأجَر دني، وما كل من طلب
مساعدة دولة أخرى ابتداءً يفضلها على حكومة الولايات المتحدة في ذلك، بل منهم
من طلب غيرها لليأس منها، ومنهم من نفر منها بإقناعه بأنها ميالة إلى مساعدة
اليهود على امتلاك الأرض المقدسة وجعلها وطنًا قوميًّا لهم، والاستقلاليون
يفضلونها على غيرها أيضًا، ولكنهم لا يرضون أن يكون لها أدنى سيادة أو
سلطان في بلادهم بأي اسم من الأسماء.
وجملة الأقوال في الجمعيات والأحزاب أنها على كثرتها ترجع إلى هذه
الثلاثة الأنواع، وأن تأليفها كان خسارًا على نفوذ فرنسة فقد كان أكثر طوائف
النصارى معها فصار أكثرهم عليها، فما القول في المسلمين، وكلهم استقلاليون إلا
الشاذ النادر الذي لا حكم له؟
***
لجنة الاستفتاء الدولية
كان مؤتمر الحلفاء عزم على إرسال لجنة دولية إلى سورية وغيرها من
بلاد الدولة العثمانية؛ لتقف على رأي أهل البلاد في أمر مستقبلها وشكل حكومتها
والدولة التي تفضل أن تندب لمساعدتها على الاستعداد للاستقلال المعترف لها به
مؤقتًا إلى أن تصير قادرةً على النهوض به وحدها، ثم اكتفى بجعل اللجنة من
فضلاء الأمريكيين فأحسن صنعًا؛ لأن هؤلاء أبعد من الأوربيين عن الهوى في
هذه المسألة.
طافت هذه اللجنة أمهات البلاد في الولايات والمتصرفيات الممتازة
والتابعة للولايات، وقابلت في كل منها رجال الأديان والأحزاب والجماعات
المنتخبة، وممثلي الأندية العلمية والأدبية والجمعيات، فظهر لها أن السواد
الأعظم من الأهالي يطلب الاستقلال التام الناجز، ولا يرضى أن يكون لدولة أجنبية
حماية على بلاده ولا وصاية ولا مساعدة تمس الاستقلال، ويزيد أهل سورية
الجنوبية (فلسطين) التصريح بمنع مهاجرة اليهود الصهيونيين إلى بلادهم، وأهل
سورية الشمالية يوافقونهم على ذلك، كما صرح به الوفد السوري الآتي ذكره
وغيره، وأنه إذا أصر مؤتمر الصلح على ندب دولة من الدول العظمى لمساعدة
الأهالي على النهوض بأمر الاستقلال، فيشترطون أن تكون هذه الدولة هي
الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها غير استعمارية ولا طامعة في البلاد، وأن
تكون مساعدتها مؤقتةً لا تزيد على 15 سنةً، أو 20 , وأن تكون في الأمور الفنية
والاقتصادية التي لا تمس الاستقلال، وصرح بعضهم بعدم قبول المساعدة ألبتة،
وبعضهم بطلبها من الولايات المتحدة دون سواها، وبعضهم من إنكلترة، وأكثر هذا
الفريق من الدروز، وبعضهم من فرنسة، وأكثر هؤلاء من موارنة لبنان
وبيروت، وما كل الموارنة يرضى بوصاية فرنسة ومساعدتها، وأما المسلمون
فقد صرحوا في كل بلد بعدم قبول مساعدتها بحال من الأحوال، وما شذ إلا أفراد لا
يعتد بهم، ولأجل الفرار من مساعدتها أو وصايتها، قال بعض المرجحين
لمساعدة الولايات المتحدة: إنها إذا لم تقبل فإنهم يرجحون إنكلترة على غيرها
بالشروط التي رجحوا بها الأولى، إذا كان لا بد من هذه المساعدة التي احتجوا
عليها وعلى المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الأمم المتضمنة لها.
ذلك بأنه قد ألف في سورية مؤتمر بأمر الأمير فيصل؛ لأجل مقابلة لجنة
الاستفتاء وإطلاعها على رأي أهل البلاد ووضع (مشروع) قانون أساسي لها
انتخب أعضاؤه في أكثر البلاد من قبل المنتخبين الثانويين الذين انتخبوا نواب
البلاد في مجلس المبعوثين العثماني الأخير، ومنهم أعضاء من طوائف لبنان كلها،
لا ندري كيف انتخبوا؟ ولم يمكن إقناع هؤلاء ولا غيرهم بالرضا بمساعدة
الولايات المتحدة ثم إنكلترة بالشروط التي أشرنا إليها، إلا بعد أن بثت الدعوة
فيهم بهذه الصفة: إن انتداب دولة من الدول الكبرى لمساعدة البلاد على السير في
سبيل الاستقلال أمر مقرر في المؤتمر لا مرد له، وإن فرنسة تَمُتُّ إلى المؤتمر
وجميع الدول بدعاوى كثيرة ليندبها لذلك، أهمها أن أهل البلاد يفضلونها، وأن
لها صنائع يصدقونها ويتمنون مساعدتها، فإذا اقتصر الأكثرون على طلب الاستقلال
بدون مساعدةٍ ما، يُخشى أن تُرجَّح فرنسة بحجة أن بعض الأهالي يطلبها،
والآخرون لا يفرقون بينها وبين غيرها، بناءً على هذا وعلى العلم بأن رئيس
الحكومة البريطانية صرح بأن دولته لا تقبل الانتداب لمساعدة سورية؛ لأن ما بينها
وبين فرنسة من عهد وميثاق يحول دون ذلك، وما هو بالذي يجعل قصاصة
ورق، وضع المؤتمر القرار الذي قدمه إلى لجنة الاستفتاء وسنذكره بنصه في
مكان آخر من المنار.
إذا لم يكن جميع أعضاء المؤتمر الذي قرر هذا منتخبين من الأمة لينوبوا
عنها فيه، فقد جعلهم في معنى المنتخبين موافقة أكثر من استفتهم اللجنة لهم كما
شرحته الجرائد السورية في بيانها لأعمال اللجنة في البلاد المختلفة، فجاء ما تقدم
كله مصداقًا لما كنا قلناه مرارًا لبعض الباحثين معنا من الأجانب والوطنيين، وهو
أن السواد الأعظم في سورية يطلب الاستقلال التام المطلق، ولله الحمد من قبل
ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الخارتة في الأصل: اسم فعل من: خرت الأرض يخرتها (من باب نصر) إذا عرف طرقها، ومضايقها، ومنه: الدليل الخريت، وهو العارف بذلك، وفي اللسان عن الكسائي: خرتنا الأرض: إذا عرفناها، ولم تخف علينا طرقها اهـ، فإذا أطلق لفظ (الخارتة) على الصحيفة التي يرسم فيها وجه الأرض وما فيها من جبال وبحار وغير ذلك كان هذا الإطلاق صحيحًا باعتبار أن الصحيفة المشتملة على ذلك كالعارفة به، فهو وصف مجازي يكثر في العربية.(21/197)
الكاتب: أحمد نبهان الحمصي
__________
السيد الزهراوي
تتمة ترجمته
بقلم صديقه الشيخ أحمد نبهان الحمصي
في أول سنة من مبعوثيته وقعت حادثة 31 مارث الشهيرة، فحوصر المجلس
من قِبل العسكر بحجة الارتجاع عن الدستور، وهددوا المبعوثين بالرصاص حتى
إنه قتل أحدهم (محمد بك أرسلان) مبعوث اللاذقية رميًا بالرصاص في باب
المجلس، ومنهم من رمى نفسه من أحد النوافذ العالية حتى تحطم خوفًا على نفسه من
القتل، وفر كثير من المبعوثين حفظًا لحياتهم، وبقي المترجم - رحمه الله تعالى -
مع بضعة أشخاص ثابتي الجأش، غير مبالين بتلك القوة الهائلة التي تهددهم، وهم
يخابرون المراكز بالتلفون ويذكرون الوقعة وما هم فيه، حتى كادت تلك القوة أن
تقضي على بقية المبعوثين، ثم خرج المترجم يخترق صفوف العساكر بلا اكتراث،
حتى وصل إلى منزله وانفض الجمع.
هذا الثبات في مثل هذا الموقف الحرج مما يدل على شجاعته وقوة يقينه.
على أثر هذه الحادثة التي شاع خبرها حتى بلغ الرومللي مكبرًا , زحف
محمود شوكت بجيوشه ليضرب الآستانة؛ لحماية الدستور، ولينكل بالارتجاعيين
وينتقم ممن أثاروا هذه الفتنة، فأرسلت الحكومة إذ ذاك هيئةً مؤلفةً من الأعيان
والمبعوثين لمقابلة الباشا وإبلاغه حقيقة الحال، فكان صاحب الترجمة من أعضاء
تلك الهيئة الموقرة، فاستقبلوه في (إياستفانوس) من ضواحي الآستانة، وأوقفوه
على جلية الخبر الشائع، ولطفوه في سمعه حتى سكت غضبه وسكن جأشه ودخل
بغير إزعاج لأحد.
وفي أثناء تلك المدة - أعني الدورة الأولى لمجلس المبعوثين - أصدر
المترجم جريدةً عربيةً في الآستانة، سماها (الحضارة) بشركة شاكر بك الحنبلي ,
ثم انسحب هذا الأخير منها إذ تعين متصرفًا للواء عكا بعد إنذار الحكومة له.
وكان السبب في إنشاء تلك الجريدة أنه لما بلغ الاتحاديون ما بلغوا من الأثرة
والاستبداد وتسميم الأفكار بالجرائد التي أنشأوها لبث أفكارهم السوءى،
وتصويرهم المحال بصورة الحقائق - تأسس الحزب الحر المعتدل لمعارضتهم،
وكان معظم مؤسسيه من مبعوثي العرب، وحزب الائتلاف وكان معظم مؤسسيه
من الترك، ثم امتزج الحزبان باسم حزب الحرية والائتلاف، وكان المترجَم من
مؤسسي الحزبين المذكورين لمعارضة حزب الاتحاد والترقي، فأصدر جريدته
(الحضارة) باللغة العربية للمحافظة على مبدئه الثابت، وهو الاعتدال المحض
حتى كان رفاقه يلومونه لشدة هذا الاعتدال والتروى، وحتى إن كبار الاتحاديين
كانوا يعجبون من اعتداله مع معارضته لرأيهم، وكان كثير منهم يقول: ليت جميع
المعارضن مثل هذا الحر المعتدل.
... ... ... ... * والفضل ما شهدت به الأعداء *
وفي أثناء تلك المدة أيضًا وقع اضطراب واختلال في الروملي، فعينت
الحكومة يومئذ لجنةً من الأعيان والمبعوثين للكشف عن أحوال تلك البلاد، وكان
المترجم - رحمه الله - من أعضاء تلك اللجنة.
وفي أثناء مدته نشبت الحرب في طرابلس الغرب , فصعد المترجم منبر
الخطابة في المجلس وهيج الخواطر وحرك السواكن ثم أجهش في البكاء، فقال له
بعض الحاضرين من المبعوثين: لا تبكِ فإننا سنستردها، فقال: أنا لا أبكي على
طرابلس الغرب، ولكنني أبكي على الروملي وسورية والحجاز والعراق.
من تأمل هذه الجملة الجوابية منه يعلم أنه قد لمح من وراء حجب الغيب ما
سيكون في المستقبل استنباطًا حدسيًّا من سوء تدبير من بيدهم الحل والعقد، وقد
اتفق مثل هذا لغيره من أصحاب الروية، والحدس، فوقع ما توقعوه، ولله الأمر
من قبل ومن بعد.
في مدة إقامته في الآستانة سواء كان مبعوثًا أو لم يكن، كان بيته مجمع
الفضلاء والأدباء على اختلاف لغاتهم، والكبراء مع تفاوت رتبهم، يستمدون من
آرائه السديدة، عرف هذا من شاهده بالعيان حتى كانت جلساته على مراتب، لكل
فريق وقت يقضيه، فيأتي فريق آخر حتى تنقضي الساعة السابعة بل الثامنة من
الليل.
وكان مع كل هذا لا يأخذه ملل ولا ضجر ولا سآمة مما يدل على سعة صدره،
وحسن مجلسه.
في أواخر هذه الدورة للمجلس حصلت مناقشة بشأن المادة 35 من القانون
الأساسي، ووقع الخلاف الشديد حتى آل الأمر إلى فض المجلس وتجديد الانتخاب
ثانيةً، فعاد المترجم - رحمه الله تعالى - إلى وطنه وزيارة أهله وذويه، فأوحت
الحكومة الاتحادية إلى جميع المراكز، وأوعزت للحكومات أن يكون انتخاب
المبعوثين ممن لا يخالف رأيهم، وكانت تواصل التلغرافات والمندوبين للمراكز
بالوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، ولهذه الأحوال وشدة الضغط ما تمكن الأهالي
من انتخاب المترجم؛ لأن حريتهم سلبت حتى امتنع كثير من التصويت.
على أثر ذلك سافر إلى الآستانة للقيام بأشغال الجريدة، فانعقد المجلس من
مبعوثين صار تعيينهم من قِبل الاتحاديين في الباطن، وإن كان في الظاهر
بالانتخاب.
ثم تغلب حزب الائتلاف على حزب الاتحاد وتشكلت الوزارة، ففضوا ذلك
المجلس الجديد، فعاد المترجَم إلى وطنه، فوقعت حرب البلقان، فصرف النظر
عن الانتخاب إلى أن تضع الحرب أوزاراها.
في ذلك الأوان سافر إلى مصر فانتخب من حزب اللامركزية المؤلف هناك
رئيسًا للمؤتمر الذي انعقد في باريس؛ لأجل مطالبة الحكومة التركية بإصلاح بلاد
العرب وإعطاء هذه الأمة المهضومة حقها القانوني المهضوم، وقد طبعت
مقررات المؤتمر والخطب التي ألقيت فيه، فلا حاجة إلى بيان ذلك.
وفي أثناء إقامته في باريس كان محل إعجاب الجميع في اعتداله، فإذا
طالعت تلك المقررات المطبوعة، وتلوت ما فاه به - رحمه الله - حكمت له بذلك
الاعتدال، وبأن ذلك الإعجاب به كان بحق، وحسبك شهادة الأجانب، فإن جريدتي
المانان والطان - وهما من أكبر الصحف الفرنسية وأشهرها - قالتا كما نقلته
الجرائد المصرية والسورية في ذلك الحين: (إن السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي
كان للمؤتمر بمثابة الدماغ من الجسد) وذلك بمناسبة ترؤسه للمؤتمر وحسن إدارته
له.
وكان مدة إقامته في باريس موضع التبجيل والاحترام، واجتمع بالمسيو
بيشرن ناظر خارجية فرنسة في مقر النظارة، فأعجب به غاية الإعجاب وأنزله
منزلة الإكرام.
بعد إتمام وظيفة المؤتمر انفض أعضاؤه وبقي المترجَم - رحمه الله تعالى -
هناك مع نفر من رفاقه، مطالبين بالإصلاح العربي، فاضطرت الحكومة الاتحادية
للتحيل على جلبهم، فأرسلت مِن قِبلها مدحت باشا شكري البك، الكاتب العمومي
لمركز الاتحاديين، والمرحوم عبد الكريم الخليل للسعي لإرضائهم ورجائهم؛ خدعةً
ومكرًا منها، فعادا بالخيبة وما نالا غايةً ولا مقصدًا، فأعادوهما ثانيةً وأدنوا
لهما بوعد جماعة المؤتمر بإجابتهم إلى ما يلزم من الإصلاحات للبلاد العربية،
فوعدا وأقسما بالأيمان على ذلك، فحضر عندها المترجَم إلى الآستانة اعتمادًا على
أيمانهم الكاذبة المبنية على الخداع والمكر، وعين عضوًا في مجلس الأعيان
ليشرف على إنجاز وعدهم، فبقي ينتظر تلك المواعيد الفارغة (وناهيك بمهارة
الأتراك بالمواعيد) إلى أن نشبت الحرب العامة بسوء تدبير الرؤساء الذين أهلكوا
الحرث والنسل، وضيعوا ذلك الملك العظيم من أيديهم، وكان من لوازم ذلك
إعلان الإدارة العرفية في البلاد، فجعل جمال باشا قائدًا عامًّا في سورية بصلاحية
واسعة لتنفيذ أوامر الجمعية الخادعة بالإصلاح الذي كانت تنويه، وهو الانتقام من
مُتنوري أبناء العرب ونابغيهم، واتخذوا الحرب فرصة لتنفيذ ما تكنه صدورهم
من الضغائن على هذا الجنس الشريف.
صلب المترجم بدمشق الشام مع جملة من وجهاء البلاد السورية بلا محاكمة
ولا سؤال عن شيء، وذلك ليلة السبت رجب سنة 1334 هجرية , و23 نيسان
سنة 1916 ميلادية، وكان لسان حاله يقول:
يا جزع نح وابك واندب جثة خلقت ... من يوم (قالوا بلى) للضنك والمحن
وحي أهلاً وجيرانًا وآونةً ... حي الرفاق وحي سائر الوطن
حبًّا بصالحهم أصبحت فديتهم ... ليقطفوا ثمرًا من راحتي جني
***
(صفاته)
رحمه الله
كان مستجمعًا لصفات الكمال، وقورًا، ذا ذهن حاد وفكرة واسعة وذاكرة
عجيبة، يتوقد ذكاءً، وملامحه أكبر دليل على ذلك، واسع الصدر سليمه، لين
الجانب، بطيء الغضب، لا يقابل أحدًا بمكروه، لا يمل من جليسه كيف ما كان،
ولا جليسه من محادثته، يعاشر كل إنسان على قدر علمه، أكثر أحاديثه في مجالسه
بما يعود بالفائدة، لا يستغيب أحدًا، ولا يحب أن يُغتاب أحد بحضوره، قليل الكلام
الفارغ، كثير التفكر، أبي النفس، شجاعًا، شديد الصبر على الشدائد، قوي
اليقين بربه تعالى، كريم الخلق، جميل الخلق والهيئة، يحبه من يراه لأول وهلة،
عفيف النفس، لا يبالي بزخارف الدنيا، بعيد عن الكلف، شديد البحث والتدقيق
في المسائل، يتتبع الأدلة والمستندات، وقافًا عند الحق، يحب أن تكون الحجة مع
غيره ما أمكن، معتدلاً في شؤونه كلها، متمسكًا بمبادئه، محافظًا عليها، عرف
ذلك منه كل من عاشره حق المعاشرة.
***
مكتوباته، رحمه الله
كتب في مواضيع عديدة كلها فوائد، منها ما حوته جريدته (الحضارة) التي
أصدرها في الآستانة ثلاث سنين، ومنها مقالات في التربية كان ينشرها في جريدة
(ثمرات الفنون) البيروتية قبل إعلان الدستور، ومنها ما نشرته المؤيد، والمعلومات
العربية، والجريدة، والمنبر، وخلافها من الجرائد المصرية والسورية، وكتب في
مجلة المنار عدة مقالات، وله كتاب (نظام الحب والبغض) نشر منه في المنار عدة
فصول، وما أكمله لموانع سياسية، ومنها رسالة في الفقه والتصوف، وهي التي
نوهنا بها قبلاً، وأخرى في الإمامة، ورسالة ترجمة السيدة خديجة، سلك فيها
مسلكًا غريبًا لطيفًا، أبدع فيه كل الإبداع، وأتى بكل ما يستطاع، من طالعها حق
المطالعة يقف على مقدرة هذا المترجم واطلاعه وسلامة ذهنه وسلامة قلمه ودقة فكره
ونزاهة سره، ولا سيما الأبحاث الأخيرة منها، وقد طبعت بمطبعة المنار، وكانت
نيته أن يجعلها الحلقة الأولى لسلسلة تاريخية، فحالت دون ذلك أشغال قامت مانعًا عن
إخراج هذا الفكر إلى حيز الوجود، ومنها رسالة في النحو، وأخرى في المنطق،
وغيرها في علوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، وكتاب في الفقه بأسلوب قريب
المأخذ سهل العبارة يدعم مسائله بالأدلة الدامغة [1] ، وله محاضرات كان يلقيها في
بيروت وحمص أيام ذهابه إلى الآستانة وعودته منها.
وله مكتوبات غير ما ذكر، بقيت مسودةً بخطه، اغتالتها أيدي الأتراك عندما
أرسل من الآستانة إلى (عاليه) مركز الديوان العرفي الذي أسسه جمال باشا
المخذول.
وله شعر لطيف في كل باب من أبواب الشعر، ومساجلات مع بعض
أصحابه، ومراسلات كلها رقاق.
من ألطف شعره، القصيدة العصماء في موضوعها وحسن أسلوبها ورقة
معناها، وقد أثبتُّها برمتها ليقف المطالع على رسوخ قدمه - رحمه الله تعالى - وبعد
أفكاره وحسن يقينه واعتقاده، وهي هذه:
لا تكذبنا يا بصر ... لا تخدعينا يا فكر
إن الحقائق تحت طي النـ ... ـشر فوق المنتظر
لكن برؤيتها دعاوي النـ ... ـاس تعبي من حصر
وسوى سراب لم يروا ... والآل كم غر النظر
أنى التصور يا حجا ... للسر في هذي الصور
الكون مبني على الـ ... ـحركات كل في قدر
مجموع ذر يقتضي ... كل لها ضم الأخر
والأرض تجمعنا فنحـ ... ـسب أنها إحدى الكبر
والشمس تعربنا لنا ... فنظنها المعنى الأغر
صور تغيّر لا نعي ... صفةً لها غير الغير
ويجل مصدر أمرها ... عن أن تحيط به الفكر
هو مصدر بوجوده ... تقضي اشتقاقات الأثر
وتحيرت في ذاته ... وصفاته فطن غرر
والخبرة المثلى التبا ... عد عن دعاوٍ للخبر
كم مدّعٍ لمعارف ... علياء عرف بالنكر
ما أنت يا إنسان هل ... تدري دماغك لم شعر
أفأنت تدرك مَن جميـ ... ـع الكون عنه قد ظهر
لم ذي الدعاوي يا فتى ... أأحاط منك به البصر
أأحاط منك به الحجى ... خُبرًا كما هو فانسبر
أعرفت من قبل المؤثـ ... ـر كل تفصيل الأثر
أعرفت هذا الفضا ... ء وما به من كل ذر
دع عنك دعوى واستمع ... قولاً مفيدًا مختصر
الناس عثّر في الغرو ... ر ولاجئون إلى الغرر
ويرى بنو الإنسان أنـ ... ـهمو خلاصة ما فطر
دعوى بها يسلون ما ... يلقون من تعب وضر
فهمو رهان الكدح ما ... داموا وتلك هي السير
ذو الحال نائب من مضى ... والعمر جملته خبر
سيان ذي الأنعام في ... حاج الحياة وذا البشر
فتسل فيما اسطعت أن ... فكرت فيما قد حضر
واعبر على المقياس من ... ماض إلى ما ينتظر
واعلم بأن المفلحيـ ... ـن بذي الحياة أولو العبر
والكون ظرف جواهر ... والسر فيه ما ظهر
__________
(1) المنار: كان سبب تأليف هذا الكتاب محاورة طويلة دارت بيننا وبين الفقيد من جهة، وأحمد فتحي باشا زغلول أيام كان وكيلاً لوزارة الحقانية بمصر من جهة أخرى، ولو تم على عهد الباشا لسعى إلى طبعه على الحكومة لأجل المحاكم الشرعية.(21/207)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ محمد كامل الرافعي
(2)
ورث المترجم من والده عفة النفس، وحسن الهدي والسمت، والصفاء وحسن
النية، وحب التصوف وإخلاص الصوفية - ولكنه لم يتسن له من السلوك ما تسنى
له، والاشتغال بآداب اللغة، فكان منثوره كمنثوره، وقلت عنايته بالمنظوم، فلم
يبلغ فيه شأو الوالد، وإنما بلغها وفاقها أخوه عبد الحميد بك شاعر طرابلس
المشهور، وقد أشرت إلى ذلك في رثاء الوالد:
وإن غدا فيه كل الفضل مجتمعًا ... فقد تفرق في أبنائه النسلا
فللمعارف والإرشاد كاملهم ... من حالف العلم فيه الهدي والعملا
وفي البلاغة كم (عبد الحميد) سما ... وللتحدي بها آي البيان تلا
وكان أيضًا يحذو حذو والده في التأنق في مطعمه وملبسه، حتى إنه كان
يتولى شراء ذلك بنفسه، وإذا لم يعجبه ما يريد من الخضر والفاكهة، وغيرها في
السوق القريبة من داره يذهب بالخادم إلى سوق أخرى، فكان من أهنأ الناس معيشةً
جامعًا بين التمتع بالطيبات وتقوى الله تعالى، والرضا بما قسمه له، ولكنه ترك
التأنق في الملبس في أواخر عمره.
وورث من أستاذه الشيخ محمود نشابه حب الاستقصاء والتحقيق في العلم،
فكان بعد زمن الطلب والتلقي عن الشيوخ، عاكفًا على مطالعة أشهر الكتب
وأعوصها، إما وحده وإما بالمشاركة مع بعض أصدقائه من أهل العلم، كالشيخ
محمد الحسيني والشيخ محيي الدين الحفار والشيخ عبد اللطيف نشابه نجل الشيخ
محمود نشابه.
لما بدأت بطلب العلم ألفيته يطالع مع صديقه الشيخ محمد الحسيني الذي هو
أشهر علماء طرابلس اليوم، أشهر كتب المنطق والأصول والكلام، كسلم العلوم،
ومسلم الثبوت، والمواقف، والمقاصد، ولم أدرك زمن حضوره دروس الشيوخ إلا
درس (نيل الأوطار) على والده، ولم يتمه.
والفصل بينه، وبين أستاذه الشيخ محمود نشابه أن أستاذه، وأستاذنا هذا وقف
في العلوم عند غاية فهم أشهر الكتب التي تلقاها في الأزهر , والتي قرأها للطلبة،
فرضي لنفسه بما صححه فقهاء القرون الوسطى ومتكلموها ومفسروها ومحدِّثوها،
وغيرهم من علماء اللغة والمعقول، وكان يصرف سائر وقته في العبادة، وأكثر
عبادته تلاوة القرآن، وأما المترجم فقد طلب العلم من سن التمييز إلى منتهى الأجل،
فلم تكن نفسه تقف في العلم عند غاية، وإذا لم تطمئن بما قاله أشهر المدققين، وما
صُحح في أشهر الكتب المتداولة، يظل يبحث وينقب إلى أن يصل إلى ما يرتاح له
ويقتنع به، ولهذا كان يبحث ويسأل دائمًا عما يطبع في مصر والهند من الكتب
الجديدة، ويستحضر ما يعجبه ويرجو فائدته منها، فهو أول من أطلعنا على مؤلفات
السيد حسن صديق خان ملك بهوبال، وعلى (زاد المعاد في هدي خير العباد)
المطبوع في الهند، وعلى (سلم العلوم) و (مسلم الثبوت) و (روح المعاني)
وغيرهما من مطبوعات الهند ومصر.
وورث من أستاذه الشيخ حسين الجسر الميل إلى الوقوف على حالة العصر
العلمية والاجتماعية والسياسية، والعناية بمطالعة المجلات والجرائد والاقتناع بشدة
حاجة المسلمين إلى مجاراة الأمم الغربية في العلوم والفنون التي عليها مدار العمران
والقوة في هذا العصر، مع المحافظة على أصول ديننا وهديه، وآدابه التي تفضل كل
ما عليه تلك الأمم، وغيرها ما لم يخالفها، وكثير مما هي عليه موافق لها أو مقتبس
منها، فكان المترجم بهذه المزايا محبوبًا محترمًا عند العوام والخواص من المسلمين
وغيرهم، ولو أنه وفق لِنزْع قلادة التقليد من عنقه، ووجّه عنايته إلى حل مشكلات
المسائل بالاستقلال التام في الفهم بدلاً من كثرة مراجعة الكتب، لكان بما أوتي من
الجد والاجتهاد والإخلاص والإنصاف في البحث، آية في التحقيق وحل المشاكل!
على أنه كان على مقربة من ذلك.
ولولا أن شغل بعمل الحكومة عن التدريس والتصنيف، لكان للأمة من سعة
اطلاعه وفقه نفسه وحسن بيانه عدد غير قليل من العلماء الذين يجمعون
بالتخرج على يديه بين العلم والعمل للأمة والملة، ومن المصنفات النافعة التي
يخرج بها علمه وفهمه من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، ومن محجبات
الصدور إلى سافرات السطور، فإنه - رحمه الله تعالى - كان من الأولين الذين
طلبوا العلم لله، لا للمال ولا للجاه، وقلما تصدى طلابهم للتدريس والتصنيف
إلا بنيتهما وباعث الرغبة فيهما، وآية ذلك أن ترى أكثر تلاميذهم يهينون العلم في
سبيلهما، وأكثر تصانيفهم خالية من كل ما تصلح به الأنفس وتهذب به الأخلاق،
وفاقد الشيء لا يعطيه.
***
أخلاقه وآدابه
وأما أخلاق الرجل وآدابه، فقد كانت المثل الذي يضرب للأسوة، والإمام
الذي ينصب للقدوة: عفة وصيانة، صدق وأمانة، جود وسخاء، عزة وإباء،
نجدة ومروة، شجاعة وفتوة، رأفة ورحمة، وفاء وعلو همة، وناهيك بصبره
وثباته، وبحبه الخالص، وبإخلاصه لذي رحِمِه وإخوانه، فقد كان للأسرة الرافعية
الكثيرة العدد في القطرين الشامي والمصري كالوالد العطوف والأم الرءوم، يقوم لكل
منهم بما تقتضيه حاله من غنى وفقر، وصحة ومرض. كان من زار طرابلس من
المقيمين في القطر المصري منهم يرى من حفاوته به، وإقامة المآدب النفيسة له،
والعناية بخدمته، والقيام بشؤونه ما لا ينتظر مثله من والد حفي ولا ولد بار تقي، ولا
صديق غني وفي، ولا أمير سخي أبي.
توفي أخوه أحمد أفندي في اليمن , وكان حاكمًا إداريًّا في بعض بلادها
العثمانية، وترك غلامًا وجارية صغيرين حضنتهما أمهما، ثم بلغه أنها تزوجت،
فخاف أن يكون ذلك مضيعةً لهما، فأخذ إجازةً من الحكومة وسافر إلى اليمن؛
لأجل إحضارهما وتولي تربيتهما، وبعد البحث عنهما في اليمن علم أن زوج
أمهما رحل بها وبهما إلى العراق عاملاً للحكومة، فسافر إلى العراق في المحيط
الهندي في فصل الصيف، إذ يشتد اضطرابه واصطخابه حتى إن أمواجه لتجرف
الناس عن ظهور البواخر أحيانًا، فيضطر البحارة العاملون على الظهر إلى ربط
أنفسهم بالحبال، وفي مثل ذلك البحر في ذلك الزمن يظهر للمسافر أنه لا مبالغة في
تشبيه التنزيل للموج بالجبال، فما حدّث به المترجم وغيره أن السفينة عندما تقع
بين موجتين ترى كأنها في واد عميق من أودية الجبال، وقد عجب كل من لقيه في
سفره هذا من أهل اليمن والعراق - كأهل وطنه السوري - من شدة غيرته وعلو
همته وتفانيه في سعيه لكفالة هذين الولدين، وما كان من غبطته وسروره بالظفر
بهما بعد ما كابده في سبيلهما من المشاق والأهوال، وبذل ما يفوق طاقته من المال.
وقد قال فيه أخوه الصغير (وهو لأب) : (والله لم يمضني فقد أبي كفقدي
أخي، فقد كفاني غصص اليتم بعطفه وبره وإحسانه، ثم أدبني فأحسن تأديبي بقوة
روحه وسعة فضله وبيانه) اهـ.
أقول: كذلك كان عطفه ووفاؤه لأصدقائه وإخوانه، يكاد يضاهي بره وإحسانه
بذي قرباه ورحمه، فكانت داره مثابةً لهم في كل وقت من ليل أو نهار، ولكن عنايته
بهم كانت أشد وزيارته لهم أكثر، وقد أجمع على حبه والاعتراف بفضله والثقة
بإخلاصه، النصارى كالمسلمين، ولم نر دارًا من دور علماء الدين في طرابلس
كداره، يتردد عليها أهل الوجاهة والأدب من جميع الطوائف، ولا يظن القارئ أن
سائر علماء طرابلس جفاة أو متكبرون، أو ضُرب على أبواب دورهم حجاب من
التعصب الديني فلا يزورون ولا يزارون، كلا إنهم بالرقة واللطف مشهورون، ولكن
الفقيد كان ممتازًا فيهم وفي سائر الناس بما ذكرنا من الشمائل والصفات، كما أنه كان
ممتازًا بين رجال الدين بالعناية بشؤون السياسة والعمران؛ لأن نفسه كانت تعشق
جميع المعارف والحقائق، وتطلب فيها الكمال.
كتب إليَّ أخوه عمر أفندي صاحب العبارة التي ذكرناها آنفًا، وهو أصغر
إخوته وأشدهم عشقًا لمذهبه واستعذابًا لمشربه، جملةً بمعنى ما تقدم في وصفه،
قال:
كان رحمه الله على صحة موفورة من العلم والفضل ومكارم الأخلاق،
عَزوفًا عن اللغو واللهو، ولوعًا في البحث والدرس، كثير التنقيب عن نفائس
الكتب واقتنائها، والوقوف على نوادر مسائلها، فكانت داره لذلك ناديًا لأهل العلم
ينتابونه من كل جانب للمذاكرة والمحاورة والإفادة والاستفادة، وقد كان - رحمه الله -
شديد الاهتمام بالعالم الإسلامي والأمم الإسلامية لحد لا يوصف، فتراه دائمًا مستطلعًا
طلع أخبارهم، متسائلاً عن أحوالهم وأطوارهم، فكان إذا سمع خيرًا استبشر وتهلل،
وإن سمع شرًّا بات بليلة الملسوع يتأسف ويحوقل، وكان شديد العناية والعطف على
أهله وقرابته، كثير الوفاء لأصدقائه وذوي مودته، وناهيكم بما نُكب به في سبيل
تمسكه بمودة الصديق الوحيد والأستاذ الكامل الرشيد، وذلك في أواخر أيام السلطان
عبد الحميد، وأما إيتاؤه ذوي القربى واليتامى من أهله، فحدث ولا حرج، فقد كان
يلقب نفسه بأبي العشيرة والقبيلة (رحمه الله) نظرًا لكثرة ما كان يهتم للقريب والبعيد
عنه من أهله المنتشرة في سورية ومصر وبلاد الله أجمع.
ولولا تعهده إياي مدة اليتم في الصبا، وأيام نكبتي السياسية في دور الشباب
لهلكت، وايم الله، ولولا غرسه في نفسي حب الفضيلة والالتحاق بأهلها لما كنت
لمثلكم عاشقًا، وبكم طروبًا.
(كان - رحمه الله - صبورًا على اللأواء والضر، ولقد خسرت طرابلس
بوفاته عالمًا كريمًا وبارًّا رحيمًا، بكاه المسلم وغير المسلم؛ لصلابته في دينه
وعلمه وفضله وثباته العجيب في مبدئه الحق، وهو حب الحق ونصرته بكل
وسيلة وذريعة، ولكثير من المسيحيين النبلاء عندنا حب له بوجه خاص نظرًا لما
عرفوا من حريته وشجاعته وصدق وطنيته، ولولا مخافة التطويل لأقمت لكم
على ذلك ألف دليل، وحسبي مع ذلك أن أقول: إن مجاهرة المرحوم بكل ما كان
يعتقد من حق صريح، ووقوفه في وجه الظلمة الطغاة من كبار رجال الحكومة
البائدة في عهد عبد الحميد ومن بعده، بل وإحسانه إلى مواطنيه المسيحيين على
اختلاف طبقاتهم بالتأمين والتطمين لهم أيام الحرب العامة كلما هم بهم شيطان من
شياطين الحكومة، أو طرأ عليهم حادث من حدثان يطرأ على الأمة - قد عرفهم بكثير
من مزايا الإسلام، وفضل علمائه العاملين....) .
(ويلي هذا كلام قطعه المراقب من الكتاب) .
***
مودة المترجَم وولايته لصاحب المنار
كان بين آل بيتنا وبين الرافعية في طرابلس مودة ورثها الأب عن الجد،
ولكنها مع بعض الأفراد أقوى من بعض، فكان الشيخ عبد الغني أحب شيوخهم إلى
والدي، ونجله المترجم أحب شبانهم إليه، لذلك كنت منذ الشروع في طلب العلم
أتردد عليه وأحب مذاكرته على شدة إعراضي عن معاشرة الناس، محافظةً
على سلامة الفطرة والأخلاق، وقد وجدته أقرب المشتغلين بالعلم إلى ذوقي؛ لحبه
التصوف وعنايته بكتبه، وكنت لا أعرف من كتب الصوفية إلا إحياء العلوم
للغزالي - رحمه الله تعالى - فشوقني إلى كتب الشعراني وكان مغرمًا بها،
وأعارني المتن والعهود الكبرى والطبقات، فألفيتها دون الإحياء، فكنت أعرف
منها وأنكر، وكنت أحضر في بعض الأوقات دروس مطالعته الخاصة التي بينتها
من قبل، وألقي السمع إلى بعض المسائل في الكلام والأصول، فإذا فهمتها
ذكرت له ولرفيقه رأيي في الخلاف فيها، فإذا تبين له بعد البحث ومقابلة الدلائل
أن ما قلته هو الراجح، قال لي: من أين جئت بهذا الرأي وأنت لم تحضر درسًا
واحدًا في هذا الفن، ولا سمعت هذه المسألة وأمثالها من قبل؟ فكنت أقول له:
إنني رجعت إلى نفسي، فوجدتها لا تعقل الحق إلا فيما قلته، أو ما هذا ما معناه،
ولما تكرر ذلك صار يبتدأني أحيانًا بالسؤال، فيذكر مسألةً مشكلةً، ويقول بعد بيان
الخلاف فيها: ارجع إلى نفسك، واذكر لي حكمها فيها.
كان هذا مبدأ حسن ظن المترجم بأخيه في الله، ثم نمى الاعتقاد، كما ينمي
في اليد الخضاب، حتى انتهى فيه أخيرًا إلى رأي العالم الناسك الشهير الشيخ عبد
الباقي الأفغاني، إذ كان يقول: إن علم (فلان) لدنِّي، فإن مثل هذا لا يأتي
بالتحصيل الكسبي، فكان المترجم - أجزل الله ثوابه - وليًّا ونصيرًا لي منذ أقدمت
على الدعوة إلى الإصلاح الديني والمدني في عهد طلب العلم إلى أن توفاه الله تعالى
إليه كما أشار إلى ذلك أخوه فيما رويناه عنه آنفًا.
ولا مندوحة لي عن ذكر بعض الأمثلة والشواهد على ذلك؛ لأنها من أهم ما
يكتب في ترجمة الرجل من حيث هو ركن من أركان النهضة الإسلامية الحديثة في
طرابلس:
دعاني بعض إخواننا مرةً إلى حضور حفلة الذكر السنوية الأولي للمولوية في
طرابلس، ويسمونها المقابلة، ولم أكن رأيتها قبل ذلك - ولا رأيتها بعده - فذهبنا
بعد صلاة الجمعة إلى تكيتهم في وادي نهر أبي علي جنوبي القلعة، وإنه لواد وسيم
صح فيه الماء، واعتل النسيم , وإنها فيه لدار من أجمل الديار , في جنات تجري
من تحتها الأنهار , وقد أمها في ذلك اليوم خلق كثير من العلماء والوجهاء وسائر
الطبقات، فجلسنا مع أمثل النظارة (المتفرجين) في منظرة (كُشك) تجاه مكان
المقابلة، فرأينا شيخ المولوية جالسًا على جلد من جلود الضأن أو الماعز، ورأينا
جماعة الذاكرين - بل الراقصين - منهم وقوفًا لابسين جلابيب رقصهم المعروف عند
أكثر الناس في كل بلد يوجدون فيه، ورأيناهم يقبلون على شيخهم الجالس،
فيحيونه بالركوع وتنكيس الرؤوس، وسمعنا العازفين بالناي يعزفون لهم في
موضع معين من تلك (الحضرة) ويخيل إلي أنه كان هنالك معازف أخرى، فلما
رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت، أخذتني صورة الغضب ورأيت - والقوم
كلهم سكوت مقرون لذلك - أنه تعين عليّ القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، فوقفت في وسط النظارة وبينت لهم أن هذه بدع ومنكرات شر ما
فيها أنها جُعلت من الدين، والدين بريء منها إلخ، وأمرت الناس بالخروج؛ لأن
إقرار المنكر كفعله، وخرجت ولم ينبس أحد من الناس بكلمة استحسان ولا استهجان،
ولما بعدت عن المكان قليلاً نظرت ورائي فوجدت أناسًا يتبعونني، ولكنهم قليل
بالنسبة إلى من بقي.
كان هذا الإنكار مثارًا للعجب في طرابلس الشام، وصار حديث الناس في
أنديتهم وسمارهم وملاهيهم، وهم بين مستحسن ومستهجن، ومعترض ومجيب،
وكنت أرى أن أقوى المؤيدين لي، والمدافعين عني صاحب الترجمة على شدة
أدبه مع جميع المنتسبين إلى طرق التصوف وتأثره ببعض خرافات كتب
الشعراني، ومن العجائب أن أستاذي الشيخ حسينًا الجسر وصديقه وصديق
والدي الشيخ عبد الله البركة من العلماء - كانا من المنكرين عليّ الناصحين ليّ
بالسكوت عن مثل هذه الأمور، فقد دعاني معهم في تلك الأيام إبراهيم أفندي السبع
إلى طعام أعده لنا في بستان، وهو ما يسميه أهل طرابلس بالسيران، وهنالك
سألني الشيخان عن حقيقة ما يتحدث به الناس في تلك الحادثة، فنصصت القول
على غره، فصار شيخنا يدافع عن المولوية بمثل ما يؤثر في الكتب من الدفاع
عن الصوفية، وأنا أحتج بالسنة ونصوص الشرع، حتى قال متبرمًا: إن مذهبنا
(يعني الحنفية) أشد من مذهبكم (يعني الشافعي) في تحريم السماع والمعازف
ولكن الصوفية لهم حالة أخرى مع الله، وإني أخاف عليك من عاقبة الخوض فيهم
والطعن عليهم، قلت له: إن هؤلاء القوم ليسوا من الصوفية في شيء حتى يسلم لهم
بأن لهم اجتهادًا وأحوالاً تعرض لهم في بعض الأوقات يعذرون فيها بما لا يعذر به
غيرهم، قال: فما بالك تخص هؤلاء بالإنكار، وتسكت عن مرتكبي المعاصي
الصريحة التي لا تأويل لها، فإن من الناس من يشرب الخمر ومن يلعب بالقمار؟
قلت: إني لم أر من هؤلاء أحدًا، على أن حالهم أهون من حال مَن يجعل البدع
والمنكرات دينًا، قال: لك الحق من الجهة الشرعية، وقد بينت لك رأيي وبذلت
نصحي، فاختر لنفسك ما يحلو، أو ما هذا معناه.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(21/214)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قرار المؤتمر السوري العام
وَعَدنا في مقال (المسألة السورية والأحزاب) بأن ننشر نص قرار المؤتمر
السوري الذي قدمه للجنة الاستفتاء الدولية، وهذا هو النص العربي الأصلي الذي
قدمت ترجمته بالإنكليزية:
(إننا نحن الموقعون أدناه بإمضاءاتنا وأسمائنا أعضاء المؤتمر السوري
العام المنعقد في دمشق الشام , والمؤلف من مندوبي جميع المناطق الثلاث: الجنوبية
والشرقية والغربية، الحائزين على اعتمادات سكان مقاطعاتنا وتفويضاتهم من
مسلمين ومسيحيين وموسويين، وقد قررنا في جلستنا المنعقدة في نهار الأربعاء
المصادف لتاريخ 2 تموز (يوليو) سنة 1919 وضع هذه اللائحة المبينة لرغبات
سكان البلاد الذين انتدبونا، ورفعها إلى الوفد الأميركي المحترم من اللجنة الدولية.
(أولاً) : إننا نطلب الاستقلال التام الناجز للبلاد السورية التي يحدها شمالاً
جبال طوروس , وجنوبًا رفح , فالخط المار من جنوب الجوف إلى جنوب العقبة
الشامية والعقبة الحجازية , وشرقًا نهر الفرات فالخابور , والخط الممتد شرقي
أبي كمال إلى شرقي الجوف، وغربًا البحر المتوسط - بدون حماية ولا وصاية.
(ثانيًا) : إننا نطلب أن تكون حكومة هذه البلاد السورية ملكيةً مدنيةً نيابيةً
تدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الواسعة، وتحفظ فيها حقوق الأقليات على
أن يكون مَلِك هذه البلاد الأمير فيصل الذي جاهد في سبيل تحرير هذه الأمة جهادًا
استحق به أن نضع تمام الثقة بشخصه، وأن نجاهر بالاعتماد على سموه.
(ثالثًا) : حيث إن الشعب العربي الساكن في البلاد السورية هو شعب لا
يقل رقيًّا من حيث الفطرة عن سائر الشعوب الراقية، وليس هو في حالة أحط من
حالات شعوب البلغار والصرب واليونان ورومانيا في مبدأ استقلالها - فإننا
نحتج على المادة الثانية والعشرين الواردة في عهد جمعية الأمم، القاضية بإدخال
بلادنا في عداد الأمم المتوسطة التي تحتاج إلى دولة منتدبة.
(رابعًا) : إذا لم يقبل مؤتمر الصلح هذا الاحتجاج العادل لاعتبارات لا نعلم
كنهها، فإننا بعدما أعلن الرئيس ولسن أن القصد من دخوله في الحرب هو القضاء
على فكرة الفتح والاستعمار - نعتبر مسألة الانتداب الواردة في عهد جمعية الأمم
عبارةً عن مساعدة فنية واقتصادية، لا تمس باستقلالنا السياسي التام، وحيث إننا
لا نريد أن تقع بلادنا في أخطار الاستعمار، وحيث إننا نعتقد أن الشعب الأمريكي
هو أبعد الشعوب عن فكرة الاستعمار، وأنه ليس له مطامع سياسية في بلادنا، فإننا
نطلب هذه المساعدة الفنية والاقتصادية من الولايات المتحدة الأميركية على أن لا
تمس هذه المساعدة باستقلال البلاد السياسي التام، وعلى أن لا يزيد أمد هذه المساعدة
عن عشرين عامًا.
(خامسًا) : إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من قبول طلبنا هذه المساعدة منها،
فإننا نطلب أن تكون هذه المساعدة من دولة بريطانيا العظمى على أن لا تمس
باستقلال بلادنا السياسي التام ووحدتها، وعلى أن لا يزيد أمدها عن المدة
المذكورة في المادة الرابعة.
(سادسًا) : إننا لا نعترف بأي حق تدعيه الدولة الإفرنسية في أي بقعة
كانت من بلادنا السورية، ونرفض أن يكون لها مساعدة أو يد في بلادنا بأي حال
من الأحوال.
(سابعًا) : إننا نرفض مطالب الصهيونيين بجعل القسم الجنوبي من البلاد
السورية - أي فلسطين - وطنًا قوميًّا للإسرائيليين، ونرفض هجرتهم إلى أي قسم
من بلادنا؛ لأنه ليس لهم فيها أدنى حق، ولأنهم خطر شديد جدًّا على شعبنا من
حيث الاقتصاديات والقومية والكيان السياسي، أما سكان البلاد الأصليون من
إخواننا الموسويين، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.
(ثامنًا) : إننا نطلب عدم فصل القسم الجنوبي من سورية المعروف
بفلسطين، والمنطقة الغربية الساحلية التي من جملتها لبنان عن القطر السوري،
ونطلب بأن تكون وحدة البلاد مصونةً لا تقبل التجزئة بأي حال كان.
(تاسعًا) : إننا نطلب الاستقلال التام للقطر العراقي المحرر، ونطلب عدم
إيجاد حواجز اقتصادية بين القطرين.
(عاشرًا) : إن القاعدة الأساسية من قواعد الرئيس ولسن التي تقضي بلغو
المعاهدات السرية، تجعلنا نحتج أشد الاحتجاج على كل معاهدة تقضي بتجزئة
بلادنا السورية، أو كل وعد خصوصي يرمي إلى تمكين الصهيونيين من القسم
الجنوبي من بلادنا، ونطلب أن تلغى تلك المعاهدات والوعود بأي حال كان.
هذا وإن المبادئ الشريفة التي صرح بها الرئيس ولسن لتجعلنا واثقين كل
الثقة في أن رغائبنا هذه الصادرة من أعماق القلوب، ستكون هي الحسم القطعي في
تقرير مصيرنا، وإن الرئيس ولسن والشعب الأمريكي الحر، سيكون عونًا على
تحقيقها فيثبتون الجلاء مصداق مبادئهم السامية وغاياتهم الشريفة نحو البشرية
بنوع عام، وشعبنا العربي بنوع خاص، وإن لنا الثقة الكبرى في أن مؤتمر السلم
يلاحظ أننا لم نثر على الدولة التركية التي كنا وإياها شركاء في جميع الحقوق
التمثيلية والمدنية والسياسية إلا لأنها تحاملت على حقوقنا القومية فيحقق لنا
رغائبنا بتمامها، فلا تكون حقوقنا قبل الحرب أقل منها بعد الحرب، بعد أن أرقنا
من الدماء ما أرقناه في سبيل الحرية والاستقلال، ونطلب السماح لنا بإرسال وفد
يمثلنا في مؤتمر السلام للدفاع عن حقوقنا الثابتة تحقيقًا لرغباتنا، والسلام) اهـ.
__________(21/221)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدولة العثمانية بعد الهدنة
اشترط دول الحلفاء في مهادنة الدولة العثمانية أن يكون لهم الحق في احتلال
جيوشهم للبلاد، والمواقع العسكرية التي يتوقف تنفيذ شروط الهدنة على احتلالها،
كتأمين تسريح الجيش وإعادة الأسرى، وجعلوا هذا الشرط وسيلةً لاحتلال كاد
يكون عامًّا شاملاً لجميع الولايات التركية بعدما احتلوا جميع الولايات العربية في
سورية والعراق , ومن البديهي أن هذا الاحتلال يمكِّنهم من تسريح جميع الجنود
العثمانية إلا ما يراه الحلفاء نافعًا لهم في حفظ الأمن تحت إدارتهم، كالشرطة
وأعوانها، ومن جمع السلاح، بحيث يكون تقسيم البلاد بينهم سهلاً سائغًا، لا مشقة
فيه ولا خسارة، ولم يكتفوا بجعل هذا الاحتلال لجيوش الدول الكبرى الظافرة،
بل انتهوا في إذلال الدولة والشعب التركي إلى الإذن لجيش من اليونان أن يحتل
ولاية أزمير أهم الولايات التركية بعد ولاية الآستانة , فطفق هؤلاء يستذلون أهلها،
فكانت هذه النكاية حافزةً للترك إلى الخروج مما خنعوا له أولاً من احتلال الآستانة
وغيرها، فهاجت الآستانة وماجت، واجتمع مئات الألوف في الميدان بين مسجد
أياصوفيا ومسجد السلطان أحمد , واحتجوا أشد الاحتجاج على عمل الحلفاء،
واحتج السلطان محمد وحيد الدين نفسه عليه بأن أعلن الاستقالة من الخلافة
والسلطنة، وأبى ولي عهده أن يقبل المبايعة لنفسه، واضطر السلطان إلى البقاء
في (دسته) وتألفت العصابات المسلحة في ولاية أزمير وغيرها من الأناضول
لقتال اليونان، فحملتهم خسائر عظيمة، ثم عزم الترك في الأناضول على مقاتلة
كل جيش يحتل بلادهم أو يجعلها تحت حماية أجنبية، وهو المتبادر من عمل
أوربة , وفر أنور باشا وغيره من الضباط إلى القوقاز، فتولوا تأليف العصابات
لقتال الإنكليز الذين احتلوا بعض تلك البلاد، والمساعدة على نشر البلشفية في أمم
الشرق الإسلامية.
بهذه العصابات التي ينتمي أكثر قوادها إلى جمعية الاتحاد والترقي التي لم
تدع في الجيش أحدًا من غير رجالها ذا قيمة، أخذت الجمعية تبني لها مجدًا جديدًا
في البلاد بعد أن ظن أكثر الناس أنه قضي عليها بسوء عاقبة الحرب التي أهلكت
بها الدولة والأمة، وبما تلا الهدنة من فرار أكبر زعمائها واعتقال الباقين، وبما
للسلطان محمد وحيد الدين الذي كان يمقتها أشد المقت من النفوذ الخاص الذي يعرفه
له أهل المكانة من الترك وغيرهم، حتى وصفه عربي وجيه كان مقيمًا في
الآستانة وعرفه حق المعرفة بقوله: إنه جمع بين ديانة أبيه عبد المجيد ,
وشجاعة عمه عبد العزيز , ودهاء أخيه عبد الحميد، وقال عربي آخر مختبر: إن
مشربه تجديد حياة الدولة بالمحافظة على مكانتها الإسلامية والعناية بالترقي
المدني، وإبطال التقاليد الضارة، ويرى العارفون بشؤون الدولة الآن أنه راض في
الباطن من مؤسسي العصابات، كمصطفى كمال باشا وغيره، وإن كانوا غير
خاضعين لحكومة الآستانة الخاضعة لاحتلال الحلفاء.
فالحرب الآن في الأناضول مستعرة كروسية، ونيران الفتن في البلقان
مستورة برماد دقيق تنكشف من تحته تارةً بعد أخرى، وجميع أمم الأرض
مضطربة جائعة، وسبب ذلك كله مؤتمر الصلح الأعرج الأعشى، الذي اكتفى بعقد
الصلح مع ألمانية ليقيدها بقيود تمكنه من التصرف في سائر الأمم بما يهوى،
ومعاهدة الصلح معها لم يُظهر رضاءه عنها أحد إلا الحكومة الإنكليزية الواضعة
لها، ولا يعلم عاقبة ذلك أحد إلا الله تعالى، فنسأله سبحانه اللطف بعباده
المهضومي الحقوق، والإدالة ولهم من ظالميهم الطامعين، آمين.
__________(21/223)
ذو القعدة - 1337هـ
أغسطس - 1919م(21/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذات بين الحجاز ونجد أو الخرمة
والوهابية والمتدينة
في هذا الصيف كثر خوض الجرائد الأوربية والعربية المصرية والسورية
في المسألة العربية، وذكرت أنه وقع بين الوهابيين التابعين لابن سعود أمير نجد
والحجازيين، حرب سببها الخلاف في المذهب، انتصر فيها الأولون انتصارًا فاصلاً
في (تربة) فنكّلوا بجيش الأمير عبد الله نجل ملك الحجاز , وأخذوا جميع ما كان
معه من المدافع والسلاح والذخائر، ثم أذيع أنهم احتلوا مكة المكرمة , وإن
ملكها لما شعر بقرب وصولهم إليها أخلاها لهم وسافر إلى جدة , فأقام فيها
واستجار بحليفته بريطانية العظمى، وكثر حديث الناس في هذا المعنى، وكان مما
ذكرته هذه الجرائد أن الوهابية مصلحون في الإسلام، وتربة هذه (بضم ففتح)
قرية في الشرق الجنوبي من مكة والطائف , وفي الغرب من وادي تربة الشهير
الذي قال فيه صاحب معجم البلدان: إنه وادٍ بالقرب من مكة على مسافة
يومين منها.
أما أخذ النجديين مكة المكرمة فهو كذب، صرح بتكذيبه كل من الوكالة
العربية الهاشمية بمصر , ودار الحماية الانكليزية، وأما وقوع القتال وانكسار
جيش الأمير عبد الله في (تربة) وأخذ جميع أسلحته، فقد ثبت رسميًّا كما فصل
في برقية وردت من عدن.
وأما ما علمناه في المسألة من ثقات الضباط الذين كانوا في الحجاز وغيرهم،
فهو أن النزاع والقتال كان بين حكومة مكة وبين الشريف خالد صاحب
(الخرمة) وهي قرية في الشرق الشمالي من مكة قريبة من وادي تربة، والشريف
خالد هذا من شرفاء مكة وعشيرة الإمارة فيها، وكان قد استنجد لمساعدة الشريف
علي على فتح المدينة المنورة فلبى، وهو الذي أسر أشرف بك أشقى الفدائيين
الاتحاديين إذ كان مرسلاً بمبلغ كبير من الجنيهات المجيدية إلى الأمير ابن الرشيد ,
ثم وقع الخلاف والنفور بين الشريف علي قائد الجيش العربي المحاصر للمدينة
المنورة، وبين الشريف خالد، فعاد الثاني إلى الخرمة، وصار ملك الحجاز يرسل
الحملة بعد الحملة لقتاله فيظفر بها، وينضم إليه الكثير من بدوها ويدخلون في
جماعة الإخوان المتدينة الذين نذكر خبرهم قريبًا، ولما سلّم الترك المدينة المنورة
إلى جيش الأمير علي بعد عقد الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء، ألَّف الشريف
عبد الله حملة من الجيش النظامي الذي كان محاصرًا لها فيها عشرات من الضباط
زيدت مرتباتهم، وجهزت بأنواع الأسلحة الجديدة من المدافع الجبلية والرشاشة
وغيرها وبالديناميت.
قال بعض الضباط الذين كانوا في الحجاز: إن هذه أعظم حملة يمكن لحكومة
الحجاز أن تكافح بها الشريف خالدًا، فإذا كسرها تيسر له الاستيلاء على مكة المكرمة
إذا شاء، ثم بلغنا ما تقدم من أن جيش ابن سعود هو الذي كسر الحملة، ثم نقل إلينا
أن الحملة المنظمة استظهرت على الشريف خالد، فأمرها ملك الحجاز بالزحف على
نجد، فعند ذلك أرسل الأمير ابن سعود بجيوشه لقتالها فظفرت بها، ثم زحفت تقصد
مكة حتى قيل: إنها وصلت إلى وادي الليمون وأن ملك الحجاز استنجد بالحكومة
الانكليزية على ابن سعود، فسألت الأمير ابن سعود عما يريده من الحجاز، فأجاب
بأنه هو أحق بحكم الحجاز من شرفاء مكة، وأن أكثر أهله يفضلونه عليهم لعلمهم
بعدله، وشكواهم من ظلم جميع الشرفاء واستبدادهم مع ما كان من سيطرة الترك
عليهم، وأنه مع هذا لا يبغي الاستيلاء عليه، وإنما يطلب أن يكون (وادي تربة)
هو الحد الفاصل بينه وبين نجد، وأن تعترف به الحكومتان حتى لا تعتدي واحدة
منهما على ما وراءه، وأن يكون لحكومة نجد معتمد في مكة ينظر في مصالح
رعاياها، ويراجع حكومتها في شأنهم، فإن شريف مكة كثيرًا ما يظلمهم، وفي بعض
السنين يصدهم عن أداء فريضة الحج فلا يسمح لهم بها، فرأى الإنكليز أن هذين
المطلبين حق، فوعدوا ابن سعود بأن يتوسطوا بينه وبين ملك الحجاز فيهما بشرط أن
يمتنع هو وجميع أتباعه من المتدينة من التعدي على الحجاز. وبلغنا أيضًا أنهم
خاطبوا ملك الحجاز في ذلك، فأبى أن يعترف لنجد لها بحدود، أو يقبل منها معتمدًا،
والظاهر أن الإنكليز يظاهرونه لإعلانه موافقته لسياستهم في بلاد العرب.
المتدينة والوهابية
يعلم الملايين من البشر - بعضهم بالمشاهدة والاختبار، وبعضهم بالروايات
الثابتة بالتواتر - أن الأعراب (البدو) في الحجاز وغير الحجاز قد عادوا إلى شر
مما كانوا عليه في الجاهلية من الغزو والسلب والنهب والقتل حتى للحجاج المحرمين
في أرض الحرم والأشهر الحرم، وأنهم يستحلُّون ذلك ويسمونه كسبًا، وأن لهم شرائع
وأحكامًا عرفيةً مخالفةً للشرع لا يرضون الحكم بدونها، وأن أكثرهم لا يصلون ولا
يصومون، ومن يحج منهم لا يلتزم أحكام الشرع في الحج ولا يعرفها، ولا يمنعه
الإحرام بالحج عن القتل والسلب والنهب إن قدر عليه، ولا شك في أن من كان
كذلك، فهو ليس بمسلم ولا ذي دين، هذا ما هو مشهور عنهم ويظن كثير من الناس
أنهم كلهم على ذلك، وهذا خطأ عظيم، فإنه يصدق عليهم في هذا العصر ما بينه الله
- عز وجل - من حال أسلافهم في عصر التنزيل، وهو أن منهم الكافر والمنافق
والمؤمن الصادق، ولكن كفر الكافرين منهم كله - أو جله - عن جهل بضروريات
الدين التي لا يعذر أحد بجهلها، ولعله لا يوجد فيهم شيء من كفر العناد والجحود.
وأما الذين عادوا إلى الدين من أعراب الحجاز وما حوله، فالفضل في هدايتهم
لشيوخ السنوسية ودعاة علماء نجد. أما السنوسيون فقد كان لهم في نشر طريقتهم شرة
(أي: نشاط وقوة) تلتها فترة، وأما النجديون فقد بلغنا أن شرتهم ونشاطهم بلغا
أشدهما في هذه السنين الأخيرة، ويسمون من يستجيب لهم: المتدينة، ويقابلهم من لا
دين لهم يهتدون به، وهم الذين لا يعرفون عقيدة الإسلام ولا شرائعه، ويستبيحون
الغزو والسلب والنهب لمجرد الكسب، وبلغنا أن الدعاة يبينون في دعوتهم هذه الحقيقة
لكشف غرور من يظن من أولئك الأعراب أن تسمية أنفسهم مسلمين يغني عنهم شيئًا،
فيذكرون لهم أن الإسلام علم وعمل، فمن لا علم له بحقيقة عقيدته - وأساسها التوحيد
الخالص وتنزيه الله تعالى ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله
صلى الله عليه وسلم - ولا بأحكام أركانه وشرائعه، وأن من لا يذعن لأحكامه بعد
العلم بها، فليس منه في شيء، وأن من مات من آبائهم وأجدادهم غير عالم بذلك ولا
مذعن له بالعمل من مستبيحي القتل والسلب، فقد مات كافرًا.
حال المتدينة
واشتراكيتهم الاختيارية
وبلغنا أن من استجاب لدعوة هؤلاء الدعاة من الأعراب يتوب عن الكسب
بالغزو والنهب، ويتحولون عن البداوة، فيبنون البيوت ويغرسون الشجر
ويزرعون، ويأخذون بتعلم القراءة والكتابة حتى قبل التحضر، فتراهم يحملون
ألواح الكتابة على ظهور الإبل يتعلمون بها، ولا يبعد أن تجد فيهم من يقول، كما
قال أحد أعراب شنقيط:
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسةً ... بها نبين دين الله تبيانا
وإن التعاطف والتعاون بينهم يشبه ما كان في صدر الإسلام بين المهاجرين
والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - فقد روينا عن أحد المختبرين من أهل مكة
المكرمة أن الرجل منهم إذا كان عنده ألف شاة وكان يكفيه لنفسه وعياله نصفها أو
ربعها مثلاً، فإنه يبذل الباقي كله لمصلحة الإخوان.
ولا يمكن حملهم على قتل أحد إلا بحجة دينية، فإذا قنعوا بأن القتال واجب
شرعًا وشرعوا فيه، فإنهم يندفعون بشجاعة واستبسال، وينفق كل في سبيله كل ما
تصل إليه يده من المال، على حين نرى غيرهم لا يقاتل إلا مأجورًا، فإذا وجد من
يزيد في أجره على من يقاتل معه ليقاتله، فعل.
وبلغنا أن دعوتهم تغلغلت في جميع قبائل نجد والحجاز وعسير , وأطراف
هذه البلاد وما جاورها، حتى إن قبيلتي غامد وزهران الحضريتين طلبتا مرشدين من
علمائهم.
ما ينتقد على المتدينة
هذا مجمل ما بلغنا من خبرهم من المختبرين المعجبين بنهضتهم، الذين
يرجون تجديد الإسلام في الجزيرة بهذه الحركة، ولا نجد بدًّا من ذكر انتقاد بعض
رواة خبرهم غلوهم في كثير المسائل، وتشديدهم فيها إلى أنهم يحرمون بعض
المباحات، ويجزُون على بعض الذنوب بأشد العقوبات، وآفة ذلك جهل بعض
الدعاة بالأحكام الشرعية تفصيلاً، وهو جهل لا يرجى تلافيه إلا بالتوسع في العلم
الشرعي، فإن الذي يأخذ الدين بقوة يرجع إلى ما يعلم من أحكامه وهدايته.
وخصوم هؤلاء المتدينة ينبزونهم بلقب الوهابية الذي وضعته السياسة لأهل
نجد وسمته مذهبًا، وقد حدثني ثقة عن عالم من أهل الحديث رآه في مكة، وكان
في نجد أن علماء نجد ينتقدون على المتدينة غلوهم في الدين والجهل بكثير من
أحكامه التي لا غنى لمسلم يقيم دينه عنها، وسبب ذلك أنه لا يوجد في نجد من
الدعاة والمعلمين الراسخين في علم السنة ومذهب الإمام أحمد من يكفي لتعليم هذه
القبائل الكثيرة التي تركت تقاليد الجاهلية، وانتظمت في سلك المتدينة، وإننا رأينا
أكثر الذين ينصفون الوهابية في الأمصار الإسلامية يقولون: لا شك في أنهم مجددون
للإسلام في بلاد العرب، ولكنهم غلاة متشددون، ولشدة تمسكهم بظواهر النصوص
وأخذها بقوة بدوية، لا يشعرون بأنهم غلاة متشددون.
***
حقيقة الوهابية ومذهبهم
ترى في كتب التاريخ الحديث أن لفظ (الوهابية) يطلق على أتباع الشيخ محمد
ابن عبد الوهاب العالم السني الشهير - الآتي ذكره - المجدد للنهضة الدينية في نجد،
وقد اتخذ أمير نجد تلك النهضة في إبان ظهورها وسيلةً للاستيلاء على بلاد الحجاز
التي طال عليها عهد الظلم والجهل، ولم يظهر فيها مصلح علمي ولا إداري.
فانبرت حكومة الآستانة لمناهضته وإخراجه من الحجاز الذي هو مناط عظمتها
وسلطتها الإسلامية، واستعانت على ذلك بحكومة محمد علي باشا الفتاة؛ إذ كانت
عاجزةً عن تولي ذلك بنفسها. وأرادت أن تشوه تلك الحركة الإصلاحية فأذاعت
أنها عبارة عن إحداث مذهب جديد مبتدع في الإسلام مخالف لمذاهب أهل السنة،
وأغرت أنصارها من العلماء الرسميين والمفتين بالرد على هذا المذهب وتضليل أهله
أو تكفيرهم.
وهم ينكرون كل مذهب في الأصول غير مذهب السلف الصالح، ويتبعون في
الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، ولكن الدولة العثمانية والحكومة
المصرية كانتا أقدر منهم على إقناع أكثر أهل بلادهما بأنهم يتبعون مذهبًا جديدًا، وأن
محمد علي باشا كان مجاهدًا ناصرًا للإسلام بقتالهم، وإن كان أصدق مؤرخي عصره،
وهو الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يثبت ضد ذلك في سيرته، وفي وصف جيشه
وجيشهم، فأما كلامه في سيرته فكثير، وأما ما رواه عن المقارنة والمقاتلة بين
الجيشين، فحسبك منه ما ذكره في أول حوادث سنة 1227 عند ذكر الذين انهزموا
من عسكر محمد علي، ورجعوا إلى مصر، وهو:
رواية الجبرتي في الوهابية
وعسكر محمد علي
(ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدَّعون الصلاح والتورع: أين لنا
بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل
مذهبًا؟ وصَحِبتنا صناديق المسكرات، ولا يُسمع في عرضينا أذان ولا تقام به
فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم (يعني الوهابية)
إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع
وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف،
فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك؛
لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته، وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب
المشركين المحلقين الذقون، المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور،
التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات، وكشفوا
عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غير مختونين) اهـ.
نظرة في أقوال الناس في الوهابية
لا يزال كثير من مسلمي الحجاز ومصر وسورية والآستانة والأناضول
والرومللي يظنون أن لأهل نجد مذهبًا مخالفًا لمذاهب أهل السنة؛ لأن بعض الذين
كتبوا عنهم قالوا: إنهم يكفرون غيرهم من المسلمين، ويقولون في النبي عليه أفضل
الصلاة والسلام ما يعد إهانةً، وإنهم عند الاستيلاء على المدينة المنورة أخذوا الكوكب
الدري من الحجرة النبوية مع غيره من الجواهر والذخائر، وإنهم ربطوا الخيل في
المسجد الشريف، وهم لا يحققون هذه التهم، ولا ما يصح أن يعد منها كفرًا وما لا
يعد، وهي تهم خصوم سياسيين، والسياسة تستحل الكذب والبهتان والتحريف وكل
منكر يوصلها إلى غايتها، ثم إنهم يغفلون عما في قوانين حكومتهم من المخالفة
لأصول الدين وفروعه القطعية المجمع عليها، المعلومة من الدين بالضرورة التي
يكفر جاحدها باتفاق مذاهبهم، كإباحة الزنا والربا والقتل لأسباب عسكرية وسياسية
مخالفة للشرع، وعن قول علمائهم: إن الرضا بالكفر كفر، وعما يسمعون من الأقوال
ويرون من الأفعال التي يعدها فقهاؤهم كفرًا أو فسقًا يكفر مستحله، ولا يقولون: لعل
ما يقال عن أهل نجد - إن صح - يكون من جهل بعض أفرادهم لا من مذهبهم، كما
أن ما في بلادنا من أحكام القوانين وأعمال الكثير من الفساق والمرتدين هو من جهل
بعض الناس بالدين أو ترك الاهتداء، وليس عملاً بمذهب أبي حنيفة الذي هو مذهب
الحكومة وأكثر الولايات التركية، ولا بمذهبي مالك والشافعي اللذين ينتمي إليهما
أكثر أهل هذه الولايات العربية.
أهل نجد الذين يسمون وهابيةً كلهم حنابلة، يتلقون من كتب السنة المشهورة،
وكتب مذهب الإمام أحمد رابع الأئمة الأربعة المشهورين، وأوسعهم علما بالسنة،
كما يعلم ذلك أهل الحديث في كل بلاد الإسلام، وهو أستاذ أشهر مدوني كتب السنة
كالبخاري ومسلم صاحبي الصحيحين اللذين هما أصح كتب الإسلام بعد كتاب الله
تعالى، وحكومة نجد لا تحكم إلا بفقه الإمام أحمد، فلا يوجد فيها قوانين غيره،
ولا أحد هنالك يعمل أو يحكم بقول للشيخ محمد بن عبد الوهاب قاله باجتهاده،
ولا يوجد أحد في تلك البلاد يجاهر بمعصية من المعاصي الكبائر.
فهم باستمساكهم بمذهب الإمام أحمد يشبهون أهل أفغانستان في شدة استمساكهم
بمذهب الحنفية والتعصب له وشدة الإنكار على مخالفه، ولكنهم يفضلون سائر
المنتمين إلى المذاهب الأخرى بتقديم نصوص الكتاب والسنة على أقوال علماء
مذهبهم عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ويعذرون من يأخذ بأقوال أي
إمام من المجتهدين، ولكنهم ينكرون على من يأخذ بقول أي مؤلف منسوب إلى
مذهبه فيما يخالف فيه السنة الصحيحة الصريحة، وذلك كثير، وأما الأفغانيون
فيعاقبون من يخالف مذهبهم، ولو إلى قول مجتهد أرجح، أو عملاً بحديث صحيح.
فمن المنقول عنهم أن يعاقبون من يقول: (آمين) بعد الفاتحة حتى إن بعضهم
سمع رجلاً يصلي بجانبه في الصف قال: (آمين) مع تأمين الإمام، فضربه
بمجموع يده على صدره ضربةً وقع بها على قفاه!! وينقل عنهم أنهم إذا رأوا مصليًا
رفع سبابته عند التشهد، فإنهم يعاقبونه بقطعها، وقد سألت عن هذا بعض طلبة
العلم منهم في مسجد لاهور الأثري الكبير بالهند فقالوا: إنه صحيح، وأرادوا أن
يحتجوا عليه، فقصرت الكلام معهم متلطفًا في الإنكار عليهم.
وأخبار تعصب أهل المذهب بعضهم على بعض مشهورة مسطورة في كتب
التاريخ، وكل ما كان ينكره على الحنابلة أهلُ الكلام في العقائد وأهلُ الرأي في الفقه،
هو الاعتصام بظواهر نصوص الكتاب والسنة وترجيح ما كان عليه السلف الصالح
على ما جاء به أذكياء أهل النظر من بعدهم، لذلك كانوا هم أحق بلقب أهل السنة من
الذين ينتحلونه لأنفسهم دونهم.
وأميرهم لهذا العهد من العقلاء المعتدلين، لا من الغلاة المشددين، فقد بلغنا
أن الإنكليز اجتهدوا في أول العهد بالحرب الأخيرة في استمالته لقتال الترك،
فاعتذر عن ذلك بأنهم مسلمون، وأن ما كان من حرب أهل بلاده لهم من قبل، فإنما
هو دفاع لا اعتداء، وكبار علمائهم أولى بالاعتدال وإنصاف المخالف، فلم يبق إلا أن
خصومهم يجعلون شذوذ بعض الغلاة منهم قاعدةً متبعةً ومذهبًا لهم كافةً.
وإنني أذكر لهم شاهدًا على مبالغتهم في سوء الظن بدين أهل البلاد التي
فشت فيها الأقوال الشركية، كدعاء غير الله تعالى، ولا سيما في وقت الشدة،
وعلى كونهم مع هذا يتبعون الدليل إذا ظهر لهم ويقنعون به.
زارني في مكة شاب نجدي يظهر أنه من طلاب العلم، فقال: إنني أريد أن
أسألك عن شيء أشكل علي من عملك، وإنما أسألك عنه لأنك من علماء الحديث
وأنصار السنة ومقاومي البدع، قلت: سل، قال: إنني رأيتك تصلي مقتديًا بأئمة
الحرم، وقد فشا فيهم دعاء غير الله تعالى فيما لا يطلب من غيره، والاستعانة بسواه
فيما هو خارج عن الأسباب التي يتعاون الناس فيها، وغير ذلك من الشرك
الجلي.....، قلت: إنني لم أصلِّ مقتديًا بأحد سمعت منه مثل ذلك أو علمته عنه،
وإنه لا يوجد عمل أدل على إسلام المرء وإيمانه من الصلاة، فأنا أصلي مع كل من
رأيته يصلي إذا لم يكن عندي علم بأنه على عقيدة باطلة، وإذا كان الله تعالى يقول:
{وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94) والسلام أضعف
الأمارات على الإيمان، فهل يصح أن أقول بكفر المصلي والصلاة أقوى أمارات
الإيمان؟ فرأيته قنع بهذا الدليل ورضي به، ولكنني رأيت من المتعذر إقناع أولئك
الطلاب الأفغانيين في لاهور بخطأ قومهم فيما ذكرت آنفًا، ومثلهم من يقلد شيوخ
السوء المفرقين في تكفير من يسمونهم الوهابية.
لا يوجد عالم سني ولا شيعي ولا خارجي يدَّعي العصمة لأهل مذهبه،
فكل فرد من أفراد كل فرقة عرضة للخطأ، وإن بلغ من سعة العلم ما بلغ، وكان
الإمام مالك يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير
إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخير المخطئين من يكون خطأه عن اجتهاد
وحسن نية، سواء كان في تنقيح المناط أو في تحقيقه، وآيته أنه إذا ظهر له
الدليل على خطأه رجع عنه إلى الصواب، وشر المخطئين من يتبع في خطأه من
ليس معصومًا ويصر عليه وإن ظهر له الدليل من الكتاب والسنة على خلافه فما أضاع
الدين وروج بضاعة الجاهلين والدجالين إلا هذا التقليد الأعمى من الشيع والفرق لكل
من ينسب إلى مذهب من يسمونه إمامهم من غير علم ولا بصيرة، حتى إنهم يقلدونهم
فيما يخالف نصوص الأئمة الذين يدعون اتباع مذاهبهم، والشواهد على ذلك كثيرة في
المنتسبين إلى كل مذهب من المذاهب، ولكنهم يتخذون أسماء الأئمة دروعًا يدفعون
بها حجج كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، المثبتة إعراضهم عنهما
واتباعهم سنن من كان قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع مصداقًا للحديث المشهور،
وإنما أرادوا أن يسلبوا أهل نجد مثل هذا الدفاع عن أنفسهم فسلبوهم اسم الحنابلة
وسموهم الوهابية، وإلا فليأتوا بمسألة واحدة مما عليه جمهور أهل نجد لا أصل لها
في الكتاب والسنة ولا في كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كما يأتيهم هؤلاء بكثير
من المسائل المخلة بعقيدة الإسلام وأحكامه التعبدية والقضائية الفاشية في بلادهم مما
ليس له أصل في الكتاب والسنة ولا كلام الأئمة.
تلك حقيقة من يسمون الوهابية، والمتدينة ونسبتهم إلى غيرهم من المنتمين
إلى المذاهب المشهورة لخصناها مما قرأناه في كتبهم، ومما وقفنا عليه بالروية
والاختبار، ومن كتب التاريخ التي خلطت الحق بالباطل، وجمعت بين ما كتبه
المسلمون والإفرنج على اختلاف الروايات والأهواء، كدأب الناس في كل ما
تدخل فيه السياسة وتتنازع فيه الأحزاب والشيع، وإننا ننقل ما كتبه مؤرخ من
أهل العلم الذين صدّقوا - كما كنا نصدّق - ما أذاعته السياسة من تأسيس الشيخ محمد
عبد الوهاب لمذهب جديد، وما ذاك إلا رجوعه إلى مذهب السلف الذي رجع إليه
أكبر حذاق الطرق من أهل الكلام في أواخر أعمارهم، كالأشعري والغزالي
والرازي , وأضرابهم على تفاوت بينهم في معرفة السنة وآثار السلف والتدرج في
الرجوع، وهو:
مذهب الوهابية وعقائدهم
كتب المرحوم الشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي كان مفتي بيروت في عهد
السلطان عبد الحميد في ترجمة السلطان محمود الثاني العثماني من كتابه (تحفة
الأنام، مختصر تاريخ الإسلام) الذي ألف وطبع في بيروت سنة 1325 ما نصه:
(ثم في غضون ذلك ظهرت الطائفة الوهابية في بلاد نجد، واستولوا على
مكة المكرمة والمدينة المنورة وباقي بلاد الحجاز، حتى قاربوا بلاد الشام من جهة
دمشق) .
(وهم قوم كثيرون من عرب نجد اتبعوا طريقة الشيخ عبد الوهاب، وهو
رجل ولد في (الدرعية) بأرض العرب من بلاد الحجاز، طلب أولاً العلم على
مذهب أبي حنيفة في بلاده، ثم سافر إلى أصفهان وأخذ عن علمائها حتى اتسعت
معلوماته في فروع الشريعة وتفسير القرآن الكريم، ثم عاد إلى بلاده سنة
(1170) ثم أدته ألمعيته إلى الاجتهاد [1] , فأنشأ مذهبًا مستقلاًّ، وقرره لتلامذته
وشاع أمره في (نجد) و (الأحساء) و (القطيف) و (عمان) و (بني عتبة) من
أرض (اليمن) ولم يزل أمرهم شائعًا ومذهبهم متزايدًا وجماعتهم تكثر إلى أن صدرت
الإرادة السنية إلى محمد علي باشا عزيز مصر بقتال وردع هذه الطائفة؛ خوفًا من
انتشار شرهم في البلاد الإسلامية، فأطفأ سراجهم [1] وبدد شملهم وأخفى ذكرهم، وقد
توفي زعيمهم سعود سنة (1229) فساد الأمن في طريق الحج، وأتى الناس أفواجًا
لتأدية فريضة الحج، وبهذه السنة حج محمد علي باشا بعد أن لم يكن أحد يتمكن من
أداء هذه الفريضة، وهاك رسالة من كلامهم تدل على مذهبهم ومعتقداتهم:
(اعلموا رحمكم الله أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصًا له الدين،
وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم له كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ
إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فإذا عرفت أن الله تعالى خلق العباد للعبادة،
فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاةً إلا
مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة،
كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم
بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (التوبة: 17) فمن دعا
غير الله طالبًا منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع ضر، فقد أشرك
في العبادة، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ
مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13-14)
فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله، أو: يا ابن
عباس، أو: يا عبد القادر، زاعمًا أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته
إليه [2] , فهو المشرك الذي يهدر دمه، وماله إلا أن يتوب من ذلك، وكذلك الذين
يحلفون بغير الله، أو الذين يتوكلون على غير الله , أو يرجُوا غير الله، أو يخاف
وقوع الشر من غير الله، أو يلتجئ إلى غير الله، أو يستعين بغير الله فيما لا يقدر
عليه إلا الله، فهو أيضًا مشرك، وما ذكرنا من أنواع الشرك هو الذي قاتل رسول
الله المشركين عليه، وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله تعالى، ويصح ذلك - أي
التشنيع عليهم - بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه:
(أولها) : أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله يقرون أن الله هو
الخالق، الرزاق، المحيي، المميت، المدبر لجميع الأمور، والدليل على ذلك قوله
تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن
يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ
أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31) ، وقوله تعالى: ( {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84-89) . إذا عرفت هذه القاعدة وأشكل عليك الأمر، فاعلم أنهم
بهذا أقروا، ثم توجهوا إلى غير الله يدعونه من دون الله، فأشركوا.
القاعدة الثانية:
إنهم يقولون: ما نرجوهم إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم،
ولكن بشفاعتهم، وهو شرك، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ
بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ
هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) إذا عرفت هذه القاعدة فاعرف:
القاعدة الثالثة:
وهي أن منهم من طلب الشفاعة من الأصنام، ومنهم من تبرأ من الأصنام
وتعلق بالصالحين مثل عيسى وأمه والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 57) ورسول الله لم يفرق بين من
عبد الأصنام، ومن عبد الصالحين في كفر الكل، وقاتلهم حتى يكون الدين كله لله) وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف:
القاعدة الرابعة:
وهي أنهم يخلصون لله في الشدائد وينسون ما يشركون، والدليل عليه
قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ
إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد
لغير الله!! فإذا عرفت هذا فاعرف أن المشركين في زمان النبي أخف شركًا من
عقلاء مشركي زماننا؛ لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء يدعون
مشايخهم في الشدائد، والرخاء، والله أعلم) اهـ.
(وهذه الرسالة والقواعد التي أسسها ذلك الشيخ لا شبهة فيها؛ لأن هذا هو
الدين الذي جاء به النبي والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
أجمعين، لكن هذا الشيخ لم يتحقق ولم يحقق هذه المسألة، واتبعه قومه من بعده
فأفرطوا وفرطوا وقصروا، حتى تولد منهم بسبب هذه القواعد تنقيص وتحقير
ما عظمه الله وأمرنا بتعظيمه ومحبته وتوقيره، وقاسوا المسلمين المخلصين في
التوحيد بالمشركين، حتى قاتلوا المسلمين في أفضل البقاع، واستحلوا دماءهم
وأموالهم، كما وأن أكثر العوام من جهلة الإسلام قد تغالوا وأفرطوا وابتدعوا بدعًا
تخالف المشروع من الدين القويم، فصاروا يعتمدون على الأولياء الأحياء منهم
والأموات، معتقدين أن لهم التصرف وبأيديهم النفع والضر، ويخاطبونهم بخطاب
الربوبية، وهذا غلو في الدين القويم، وخروج عن الصراط المستقيم، وقد ورد في
الحديث المرفوع (دين الله تعالى بين المغالي والمقصر) اهـ.
(المنار)
هذا ما كتبه مفتي بيروت - رحمه الله - ولا يخلو كلامه الأخير من تعارض،
لعل سببه محاولة الجمع بين اعترافه بصحة عقيدتهم التي رواها مجملةً،
وبين ما ينقله عنهم خصومهم. على أنه كان مضطرًّا فيما كتبه إلى اتقاء وشاية المفسدين والسعاية به إلى السلطان عبد الحميد الذي كانوا يخوفونه من استعداد الوهابية للخروج عليه، وهؤلاء يقولون في ذلك: إذا كان المؤلف قد اعترف بأن هذه القواعد هي دين الله الذي أرسل بها رسله كلهم، فكيف يكون مؤسسها
واضعًا لمذهب جديد , وهل الجديد إلا مخالفتها؟ وإذا كان قد اعترف أن أكثر العوام
من جهلة الإسلام خالفوا الدين القويم بالاعتماد على الأولياء الأحياء والأموات
إلخ ومن المعلوم أن غير الأكثر الجاهلين أقروهم على ذلك، فكيف يكون من بيَّن لهم
الحق الذي ضلوا عنه وقاتلهم عليه مخطئًا؟ وأين قياس الموحدين المخلصين
بالمشركين؟ وإذا صح قوله: إن هذه القواعد قد تولد منها تنقيص ما عظمه الله،
وهي حق باعترافه، أفلا يكون ذلك من قبيل قوله تعالى في كتابه: {يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: 26) وما المراد بذلك التنقيص؟ إن المؤمن
بالله وبكتابه الغالي في اتباعه لا يصدر منه تنقيص لما أُمر بتعظيمه، ولكن
خصومنا يطلقون ذلك على إنكارنا غلوهم في تعظيم الصالحين بوصفهم بما لا
يوصف به إلا الله خالقهم، ودعائهم واستعانتهم بهم فيما لا يطلب إلا منه تعالى
فإن تجاوز بعضنا هذا الحد إلى ما يُعَد تنقيصًا في عرف الشرع دون عرف أهل البدع
أو الشرك - كما هو مقرر في القواعد - فإننا ننكر عليه، كما ننكر على كل مخالف،
ولا نبرئ كل من انتمى إلينا من الخطأ في فهم قواعدنا أو مخالفتها،وحسبنا أن ما
دعونا إليه وقاتلنا في سبيله من جردوا علينا الحملات العسكرية لأجل المُلك هو دين
الله على لسان خاتم رسله، ودين سائر أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، كما اعترف
بذلك المفتي رحمه الله.
هذا ما يقولونه، وللشيخ محمد عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - رسائل في
رد شبهات المخالفين، ربما ننشر بعضها في المنار ليطلع عليها من لا يعرف عنه
شيئًا إلا من كلام المعترضين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لا يخفى ما في هاتين الجملتين من الإشارة إلى الاستحسان، ولو صرح لعاقبتة السياسية وصادرت الكتاب.
(2) هذا الإجمال يفسره ما بعده، والقوم لا ينكرون الشفاعة، بل يأخذون فيها بنص القرآن كما
صرح به ابن عبد الوهاب في رسائله.(21/226)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوحدة العربية
ودعوة ملك الحجاز إلى قتال الوهابية
قويت في هذا القرن وحدة الأجناس، ولا سيما الذين يجمعهم وطن واحد،
ويتعارفون بلغة جامعة، وتوجهت همم المشتغلين بالسياسة والشؤون العامة إلى
ترقية أقوامهم وجمع كلمتهم ووحدة حكومتهم، وكان من أمر العرب التابعين للدولة
العثمانية في ذلك ما فصلنا القول فيه من قبل.
ونقول الآن: إن ثورة مكة المكرمة وإعلان أميرها الحسين بن علي الخروج
على متغلبة الاتحاديين الطورانيين، ثم على دولة الترك بجملتها في عهد الحرب
الأوربية، بل البشرية الكبرى قد أطمع بعض أهل الغيرة والإخلاص من العرب
باتخاذ ذلك وسيلةً إلى جمع كلمة عرب الجزيرة والاستعانة بوحدتهم واتفاقهم على
إنقاذ عرب سورية والعراق من ظلم الاتحاديين واضطهادهم إياهم في زمن الحرب،
والتعاضد معهم بعدها على ما يرتقي به الجميع سواء انتصر أحلاف الدولة العثمانية
وظلوا مرتبطين بها، أو انكسرت بانكسارهم وفصل بينهم وبينها، وزاد في طمعهم
هذا إعلان الزعيم العربي الثائر أن ثورته عربية جنسية لا تفرق بين المسلمين
وغيرهم من العرب، ومما نقل عنه وعن أنجاله قواد جيوشه، وانتشر في جميع
الأقطار التي يقطن فيها الناطقون بالضاد قوله: إننا كنا عربًا قبل موسى وعيسى
ومحمد , أي: فيجب أن نقيم وحدتنا العربية التي كانت قبلهم، صلوات الله وسلامه
عليهم، فلا تكون مللهم حائلةً دون ذلك.
لهذا سعى إليه بعض هؤلاء الطامعين في جمع الكلمة بأن يعقد اتفاق بين
شريف مكة , والأمير ابن سعود صاحب نجد , والإمام يحيى صاحب اليمن ,
والسيد الإدريسي صاحب عسير على قاعدة الاعتراف لكل منهم باستقلاله في بلاده،
والتعاون بينهم على دفع العدوان الأجنبي ورفع شأن الجنس العربي في بيان كان قد
وضع قبل الحرب، ووصل خبره إلى الشريف بعد إيصاله إليهم واستحسانهم له،
والعلم برغبتهم في الوقوف على تفصيله، والبحث في طريقة تنفيذه، ولم يعلم رأيه
فيه قبل الثورة، ولما عرض عليه بعدها وقد ظهرت شدة الحاجة إليه، وسئل أن
يشرع في تنفيذه، قال: إن سعيه إليه يحمل عندهم على خوفه من الترك وقصد
الاستعانة عليهم لا على الإخلاص، وأنه يرى تأجيله إلى أن يفتح المدينة المنورة ,
ولا يبقى للترك شيء في الحجاز، ولكن روى عنه بعض عماله أنه تكلم بعد هذا
السعي في المسألة، فقال كلامًا حاصله احتقار أولئك الأمراء والأئمة وكون سلطتهم
اليوم ستزول غدًا، أي: سيزيلها هو.
ثم صرنا نرى في أعداد تلقى إلينا من جريدة القبلة (بعد قطعها المبادلة مع
المنار على إثر منع الحكومة الهاشمية دخوله في الحجاز) مقالات ومنشورات في
الطعن في أهل نجد، والدعوة الدينية إلى قتالهم، ثم بلغنا خبر إرسال حكومة مكة
الهاشمية الحملة بعد الحملة لقتال الشريف خالد في الخرمة، ثم بلغنا بعد تسليم
المدينة المنورة بأشهر خبر القتال بين الجيش الذي كان محاصرًا لها، وبين
النجديين أنفسهم، فكان ذلك مثار حزن شديد في قلبنا وقلب كل عربي يحب وحدة
قومهم واتفاقهم، وكل مسلم يكره التعادي والتقاتل بين أبناء دينه , بل ذلك مما يحزن
كل شرقي يكره أن يستعبد الغربيون الشعوبَ الشرقية، وأن تكون هذه الشعوب هي
التي تمهد لهم السبيل إلى ذلك بتعاديها وتقاتلها، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
وإننا نثبت في هذه الفصول التاريخية المحزنة ما نشر في جريدة القبلة من
ذلك، فمنها المنشور الرسمي الذي صدر به عدد القبلة الذي صدر في غرة ربيع
الأول من هذه السنة ننقله عن الجرائد، وهو:
منشور ملك الحجاز
أعلنا في منشورنا الصادر يوم الأربعاء 9 شوال سنة 1336 الذي نشرته
(القبلة) في عددها 202 الصادر يوم الخميس 24 شوال سنة 1336 عن البدع
والزيغ الديني الذي تلقنه أهل الخرمة - القرية المعروفة الكائنة في شرق مكة
المكرمة، وفي الشرق الشمالي من الطائف , وتبعد عنه نحو الثلاثماية فرسخ - من
بقايا منتحلي العقيدة الوهابية من ساكني بعض قرايا نجد المكفرين لكل العالم
الإسلامي بالاحتمالات المعلومة الساقطة عقلاً ونقلاً، التي من جملتها زيارة روضته
صلوات الله عليه وسلامه، كما يشهد عليهم اجتناب كل فرد ينسب إلى اعتقاد تلك
الأضاليل لزيارته صلوات الله عليه وسلامه، وكشارب التنباك وحامل السبحة،
ونحو ذلك، وأن لابد للرجل أن يعترف بأن أباه وجد جده ماتوا على غير الإسلامية ,
وها أن مجتهديهم قد أتونا في هذه المرة أيضًا بتكفير من يضحك أو يروي الشعر أو
من يحدو، إلى غير ذلك من الأباطيل التي تبين ماهية علمهم، وكوقوعهم فيما يرمون
به أهل السنة والجماعة باعترافهم على أنفسهم بالنفع والضر بالعصا، بقولهم: إنها
تنفع وتضر، ومحمد زاده الله شرفًا وتعظيمًا. . . إلخ، وجهلهم أن معاشر أهل السنة
بصرف النظر عن أنهم لا يقولون بذلك - والعياذ بالله - فإنهم يعتقدون ما هو أعم
وأبلغ مما تزعمه المبتدعة المذكورة، كاعتقادنا بأن الماء لا يروي والطعام لا يشبع
والنار لا تحرق، ولا تقطع السكين إلا بقدرته وإرادته جل شأنه وعلا، وإننا لا نريد
إلا فيما أراده الصديق الأكبر والفاروق الأعظم - رضوان الله عليهما - من الإلحاح
في دفنهما عندما أدرك كلاًّ منهما الأجل عند قدميه الشريفين صلوات الله عليه
وسلامه، وهذا على سبيل الاختصار، فليتأمل.
وعليه، وعلى ما أشرنا إليه في منشورنا البادئ الذكر أعلاه من عزمنا على
الرفق في معاملاتهم، والتباعد عن كل ما يؤدي إلى سفك الدماء وصيانتها، ولكن
أبت تلك الضلالة وذلك الزيغ عن منتحليهما إلا الإصرار على المقاومة، كما يعلم
من الوقائع التي نشرتها جريدة (القبلة) من قبيل الحوادث، ولتجاوز جرأتهم
بواقعة يوم السبت الماضي الموافق 20 صفر سنة 1337 على مركز المؤن الكائنة
في (عشيرة) وتشجيعهم بالمدد الوارد إليهم من إخوان بدعتهم برفق سلطان بن
بجاد المعروف لديهم بسلطان الدين، وغيره من عرفائه، رأت الحكومة - وهي لا
تشك بأنها في ضمن قوله صلوات الله عليه وسلم: يؤجر المرء رغم أنفه [1]- أن تقوم
بمقابلة أولئك المبتدعة بالمثل مباشرة، بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن كافة
المسلمين مع مراعاة الرفق أيضًا لمحو هذه البدعة خدمةً للدين، وتنزيهًا له مما في هذا
الزيغ والضلال , وسلامة البلاد من سيئاته، والله ولي التوفيق اهـ.
في هذا المنشور تصريح بأن التخاصم كان أولاً بين الخرمة وحكومة الحجاز،
كما تقدم في أول هذه الفصول، وأن أهل الخرمة ساعدهم غيرهم بعد ذلك، وما ذكر
في المنشور من بدع الوهابية نسب إلى بقايا منهم في بعض قرى نجد، وهذا لا يبيح
إطلاق القول في تكفير أهل نجد كلهم ولا جملتهم ولا يبيح قتالهم، وإنما على حكومتهم
أن تنظر في أمر من ضل منهم، وإن صحت الرواية على ظاهرها.
وقد اطلعنا على منشور صدر بعد هذا العدد الذي صدر من جريدة القبلة في 8
جمادى الأولى ووقع أعلاه (باسم الحسين بن علي) وهذا نصه:
منشور كريم
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [[*]
الحمد لله رب العزة، من استهدى به هداه، ومن توكل عليه كفاه، والصلاة
والسلام على خيرته ومجتباه، وآله الطهر، وأصحابه الميامين الغر، ما كمد حسود
وجحود.
أما بعد فقد ضاق ذرع حسادنا، ونضبت جعبة تلفيقات مخترعات إفكهم،
فأصبحوا لا يجدون ما يقولون، ولا يفقهون بما علينا به يفترون، إلا إشاعتهم في
هذه الخطرة بأن العرب مختلفو الرأي متفرقو الكلمة، أدى بهم اختلافهم إلى
القتال وشبوب نار حربه بينهم؛ لإثبات عدم كفائتنا معاشر العرب أمام العالم الذي
أعلن - والثناء لله - ثقته بنا وحسن ظنه فينا إلى الدرجة التي لا نرى من حاجة
للبحث عنها، كما أنا لا نرى أيضًا البحث عن تلك المختلقات الساقطة بطبعها
بالوفود الذي لا يخلو شهر من قدومهم علينا من أقاصي البلاد على مرأى ومشهد
العامة إلا إن أرادوا تجدد دعوى مبتدعة الوهابية المذكورة الذين نشر أمرهم غير
مرة على صحائف (القبلة) فنحن نحرر منشورنا هذا علاوةً على ما سبق؛ ليعلم
القاصي والداني بأنه متى تحقق لدينا عدم نجاح خطة الدفاع أمام مبادئتهم، فلا بد
للسلطان من قتالهم بكل موجوديته، ويعتبره من أشرف الوظائف وأهمها مصلحة
لا لإرادة ملك أو حرصًا على رياسة كما بيناه في الحفلة العمومية الأخيرة، وصرحنا
لمن حضرها بأنكم إن رأيتم من هو أرشد وأصلح مني للأمر، فهذه يدي ممدودة
لعهده، وأيدنا قولنا هذا بالحجج المعلومة لدى حضارها، ولكن يقاتلهم للقصد والغاية
التي زحفت من أجلها على مركزهم جيوش مولانا محمد علي باشا الأكبر طاب ثراه،
ولسلامة وصيانة البلاد من كفر وفسوق وعدوان أمثال هذه الخارجة، وشوائب
خروجهم عن الإسلامية، فإنه بصرف النظر عن تكفيرهم لمن سواهم من العالم
الإسلامي، ونيلهم من سيد الأولين والآخرين مَن وَصَفَه جلت قدرته بأنه عزيز [2]
عليه، وأنه رحمة للعالمين، فتبجحهم بقولهم: إن العالم سيبعث شاء المولى أو لم يشأ
- والعياذ بالله - وهو عز من قائل يقول: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:
17) نعم - قتل الإنسان ما أكفره - إلى قوله عظمت قدرته: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (عبس: 21-22) الآية، كفاية للمتبصر، لا يبقى بعد هذه
المجاهرة بهذه الشناعة متأمل، فليعتبر وليتهم بعد أن اعتقدوها وأمثالها أكنته
صدورهم، لينظر إليهم كسائر المنتحلين والمعتقدين من المسلمين وسواهم (كذا)
ولكنهم تظاهروا بها، وأباحوا دماء من لم يجب دعاتهم على اعتقادها وأمثالها،
وبدأوهم بالقتال، واستحلوا أموالهم وأنفسهم، فكيف لا يقال والحالة هذه بقتالهم، أم
كيف نتحاشى عن إعلانه بمنشورنا على صحيفة القبلة أولاً , ثم إردافه بأنا على ما
قلناه وصرحنا به المرة بعد الأخرى بأن مبايعتنا بالذات أو بالواسطة إذا رأوا المصلحة
في سوانا، فهذه أيدينا وأولادي لعهد من يريدونه مبسوطة، وإن لم نكن كذلك فنبرأ من
الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ونكن من الذين عليهم لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، وهذا منا كما يعلم الله سبحانه وتعالى حرصًا على رابطة جامعة
أقوامنا أن يفتنهم الأُجراء ومبغضو تجدد مجد وسؤدد علياء الأسلاف باتهامنا ونسبتنا
بحب الرياسة والحرص على الجاه، وهو العليم الخبير، فلا تسألون عما أجرمنا، ولا
نسأل عما تعملون اهـ. في 5 جمادى الأولى سنة 1337.
(المنار)
هذان المنشوران الرسميان قليل من كثير مما نشرته جريدة القبلة التي
هي لسان ملك الحجاز باسمه واسمها في تكفير الوهابية أو النجديين، والدعوة إلى
قتالهم باسم الدين تارةً، واقتداءً بمحمد علي باشا تارةً أخرى، ومن العجيب أن
يسمي ملك الحجاز (محمد علي) مولاه!! ويجعله قدوةً له في قتال أهل نجد، بناءً
على أنه قتال لا يطلب به ملك ولا جاه، كأن محمد علي من الخلفاء الراشدين المهديين
الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين!! فعسى أن يراجع تاريخ
الجبرتي المعاصر له الذي كان يدون أخباره عند حدوثها يومًا بعد يوم ليعلم مبلغ علمه
بالدين وعمله به، وأن يقرأ قانونه (قانون الكرباج) الذي طبع في المطبعة الأميرية
منذ أول العهد بتأسيسها، وهو مع هذا يتكلم في تكفير القوم بلسان العالم المستدل،
ومحمد علي كان أميًّا لا عاميًّا فقط، ويتكلم في وجوب ذلك عليه باسم من ولي إمامة
المسلمين، وخلافة نبيهم صلى الله عليه وسلم ليقيم دينهم، وينفذ أحكامه وحدوده في
المرتدين والبغاة، ومحمد علي كان واليًا لمصر من قِبل السلطان العثماني وبأمره
حارب الوهابية، وملك الحجاز اليوم كان أميرًا من قِبل السلطان العثماني على الحجاز
بسلطة محدودة، فخرج عليه موالاةً لدول الحلفاء، وسمي ملكًا للحجاز باعترافهم له،
ولا يزال الحجاز بحسب القانون الدولي من بلاد الدولة العثمانية، ولن يزال كذلك
حتى يعقد الصلح بين الحلفاء وبين الدولة العثمانية، ويفصل فيه بأمر الحجاز.
وأما أهل نجد فهم مستقلون منذ قرون كثيرة، وحاكمهم يسمونه إمامًا، وما
نظن أنهم يبايعونه بالإمامة (أي: الخلافة) كما يبايع أهل اليمن أئمتهم، وحكومتا
اليمن ونجد شرعيتان، والحكومة العثمانية قد اعترفت باستقلال إماميهما، وليس
فيهما قوانين وضعية، ولا معاهدات تقيدهما بقيود غير شرعية، فإن خرجت
إحداهما عن الشرع، أو ارتد أهلها كلهم أو جلهم عن الدين (فرضًا) فأجدر
بالأخرى أن تكون هي تقيم حكم الله فيها.
وأما تصدي ملك الحجاز - الذي بينا صفة حكومته - لمثل ذلك بمساعدة
حلفائه وأوليائه، فلا يخفى حكمه، وهو يستلزم أن يقاتل أهل الشام إذا تم لهم ما
يطلبونه من الاستقلال دونه، وإنشاء حكومة مدنية إذا خالفت حكومتهم الشرع في
بعض أصوله، وكذا بعض فروعه المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وهو
لا يستطيع ذلك مهما تكن الحالة التي يقر أمر حكومته عليها مؤتمر الصلح، بل ليس
للمسلمين إمام في هذا العصر يستطيع أن يقوم بالأمر الذي تدعو إليه هذه المنشورات
الحجازية، فلم يبق إلا أن المسألة يراها جمهور المسلمين مسألة تنازع وتقاتل بين
طائفتين متجاورتين من المسلمين تكفر كل منهما الأخرى، والواجب إذًا على أصحاب
الاستطاعة منهم أن يحكموا فيهما قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} (الحجرات: 9- 11) .
والمسلمون المستقلون القادرون على هذا هم جيران الحجاز ونجد من أهل
اليمن وعسير، فالمطالَب بذلك شرعًا إمام اليمن والسيد الإدريسي صاحب عسير،
وأما مسلمو سورية والعراق فهم خاضعون الآن لأحكام دول الحلفاء العسكرية،
فليس لهم حرية ولا قوة على عمل شيء باسم الإسلام، ولا باسم الوحدة العربية،
وهمهم في هذه الأيام محصور في درء خطر الاستعمار الأوربي عنهم، ويتمنون لو
يتفق على الوحدة الوطنية مؤمنهم الصادق وملحدهم المجاهر والمنافق، واليهودي
والنصراني، والدرزي والنصيري والإسماعيلي، وإنه ليوجد في مسلمي العرب
ملاحدة كملاحدة الترك من الاتحاديين وغيرهم، ومنهم من يصرحون في خطب
يلقونها ومقالات ينشرونها على الجماهير بوجوب جعل الدين الإسلامي محصورًا
في المساجد لا يتجاوزها إلى دواوين الحكومة أو المحاكم، فما يفعل بهؤلاء مَن
يقاتل الوهابية إقامةً لأحكام الدين؟
وقد نقل إلينا عن هؤلاء الوهابية وعن بعض الحجازيين والترك وغيرهم
أن أمراء مكة من الشرفاء لهم قانون سري وضعه لهم جدهم (أبو نميّ) قد شرع
للشرفاء فيه أحكامًا خاصةً بهم تصادم الكتاب والسنة وما أجمع عليه جميع المسلمين،
ككون الشريف منهم إذا قتل يقتل به أربعة من قبيلة القاتل، وغير ذلك من
الأحكام التي تبيح لهم من أموال الناس ودمائهم ما حرمه الله تعالى، ويدعي
هؤلاء الوهابية أن ملك الحجاز الذي قام يناوئهم يدين بهذا القانون وينفذ أحكامه،
وأن هذا كفر بإجماع المذاهب الإسلامية كلها، وأنه هو يعاقب بالقتل والصلب
والقطع ومصادرة الأموال من غير محاكمة ولا حكم شرعي ولا غيره، وأن
استباحة ذلك كفر صريح بالإجماع.
فالذي ينبغي لمن يتصدى لإصلاح ذات البين أن لا يقبلوا كلام أحد الفريقين
في الآخر، ولا يسمحون له أن يتحكم في عقيدته ومذهبه بالقوة، بل تؤمَّن البلاد
ويجعل الفصل للحجة والبرهان، لا للسيف والسنان.
وأما ابن سعود فلم يبلغنا عنه شيء في مقاومة صاحب الحجاز، إلا ملخص
المنشور الذي أرسله إلى بلاد الشام بعد إعلان حكومة دمشق طلب التطوع لإنشاء
جيش الحجاز، وهذا نصه:
خطاب ابن سعود لأهل الشام
خطاب إلى حضرات كبار ورؤساء (روحيين ومدنيين) أهالي بلاد الشام
مسلمين وسواهم ممن تلزمه الحجة ويتناوله التكليف، السلام عليكم ورحمة الله
تعالى وبركاته.
لقد بلغنا عنكم ما لا يوافق صالحنا وصالحكم، ولا ينطبق على الحق والعدل،
ولذلك فرضنا إلى أحد مريدينا أن يلقي إليكم برسالتنا هذه، وهي في مقام شكوى
وتذكير، فنقول:
إنكم تعلمون أننا منذ مئات من السنين قابضون على زمام حكومة نجد
(وتوابعها) أبًا عن جد مستقلين لا ينازعنا فيها منازع، وليس لدولةٍ ما أدنى
علاقة بديارنا سوى العلاقة الودية التي نتجت عن تحسس ديني لخليفة المسلمين
بالآسانة، والتي أوجبها ورعنا وورع آبائنا العظام، على حين أن بلاد الحجاز
كبلاد الشام كانت في ملكية الدولة العثمانية، حتى جاءت الحرب العامة وانتهت
بما ترونه من تشتت شمل الأمة وتمزق وحدة الملة، وكان ما كان في تلك الأثناء
من أمير مكة المكرمة مما لا شأن لنا به لو أنه قصر عمله وفعلته على الحجاز،
ولكنه - جازاه الله بعمله - عقد عقودًا وأبرم مواثيق رمى بها سائر الأقطار
العربية إلى مهاوي الهلاك، وهي - كما تعلمون - منبع الإسلام، فطوح بها إلى
حضيض الذل والهوان بعد أن عزت آلافًا من الدهور.
إلى أن قال: ذلك تجاوز منه وجرأة على الله والأمة، وأنى له هذا الحق؟
والبلاد العربية فيها ممالك مستقلة ذات خيرات ومبرات وملوك وسلاطين منحدرين
عن أصلاب طَيِّبَةٍ وأرحام طاهرة، هم سادات وأشراف أثبت منه نسبًا وأكرم حسبًا.
هذا، وقد آلينا على أنفسنا - نحن المتحدون بالله وإلى الله - أن لا نرجع حتى
يرجع الحق إلى نصابه، ويشهد الله أن ذلك ليس منَّا انتصارًا لدولة، ولا طمعًا في
توسيع مُلك.
نحن نعلم أن ذلك الأمير يلفق علينا مقولات ويرمينا بالمروق عن الدين
ويدعونا وهابيةً؛ ليستفز ثائرة المسلمين علينا ويجمع الجند منهم ويقاتلنا بهم، فيريد
بذلك نشر الفتنة وتعظيم الخلاف.
فيا أبناء الشام وأهل باب كعبة رب الأنام، نحن مثلكم مسلمون مؤمنون
موحدون، ندين بدين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، ونقر
بترتيب الأصحاب كما جاءوا في الحكم والاستخلاف، ونقلد في عباداتنا الإمام
الأعظم أحمد بن حنبل , ونعترف أن إخوته الأئمة الباقين هم مثله في العظمة
والصدق والصحة، فحذار ثم حذار أن يغركم ويفسدكم ويفتنكم، فتعطوه جندًا
ومالاً، فما أمامكم إلا إخوتكم في الله يجاهدون في الله،ولم يسبق بيننا وبينكم عداوة
ولا نحن طامعون في بلادكم، فبلادكم تعلمون مصيرها، فخلوا بيننا وبينه ليزول
الأعجل، ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً، أما إن كانت لكم كلمة نافذة فاصرفوها في
سبيل إحقاق الحق.
وبعد، فإن من يتجند إلى قتالنا، فحسبنا الله عليه، والسلام على من سمع،
فوعى.
... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود
***
(تذكير المنار للفريقين)
أيها العرب الكرام ليس هذا الوقت وقت التفرق والانقسام والتقاتل بدعوى
تأييد الإيمان وإقامة الإسلام، بل هذا وقت يتفق فيه الأقوياء من دول أوربة على
تقسيم بلاد العرب كلها، ووضعها تحت سيطرتهم، حتى إن حياتها ومعيشتها تكون
رهن أيديهم.
تذكروا أن جميع الممالك العربية التي زالت وزالت دولتها ما زالت إلا
بتخاذل أمرائها وزعمائها، كذلك كان زوال ملك العرب بالأندلس والجزائر
ومراكش وتونس وكذلك زالت أكثر ممالك الشرق في الهند وغيرها، خربوا
بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
__________
(1) المنار: لم يرو أحد من حفاظ السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هذه الجملة، ولكنها مما يدور على الألسنة، وسبب تسمية الكثير من أمثال هذه الجملة حديثًا شبهها بالأحاديث في اختصارها وإفادتها حكمةً أو حكمًا.
(2) المنار: يشير بهذا إلى قوله تعالى: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ] (التوبة: 128) وظاهر عبارة المنشور أن قوله تعالى: [عَزِيزٌ عَلَيْهِ] (التوبة: 128) وصف للرسول مستقل، معناه أنه مكرم عنده تعالى كما يقول الناس اليوم: فلان عزيز علينا، أو عندنا، والصواب أن قوله: [مَا عَنِتُّمْ] (التوبة: 128) معمول له، و (ما) مصدرية، أي: عزيز عليه عنتكم، أي: شديد شاق عليه أن تقعوا في شدة أو مكروه.
(*) (سبأ: 49) .(21/240)