الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أصناف الأقلام العربية في الإسلام
نموذج من كتاب انتشار الخط العربي
في العالم الشرقي والعالم الغربي [*]
بقي الخط العربي على حالته القديمة غير بالغ مبلغه من الإحكام والإتقان في
زمن الرسول، والخلفاء الراشدين؛ لاشتغال المسلمين بالحروب حتى زمن بني
أمية فابتدأ الخط يسمو ويرتقي، وكثر عدد المشتغلين به، وفي أواخر أيامهم تفرع
الخط الكوفي، وكانت تكتب به المصاحف منذ أيام الراشدين إلى أربعة أقلام اشتقها
بعضها من بعض كاتب اسمه قطبة المحرر كان أَكْتَبَ أهل زمانه، ثم اشتهر بعده
في أوائل الدولة العباسية رجلان من أهل الشام انتهت إليهما الرئاسة في جودة الخط
وهما: الضحاك بن عجلان كان في خلافة السفاح، فزاد على قطبة، وإسحاق بن
حماد، وكان في خلافة المنصور والمهدي فزاد بعد الضحاك، وزاد غيره حتى بلغ
عدد الأقلام العربية إلى أوائل الدولة العباسية 12 قلمًا، كان لكل قلم عمل خاص
وهي:
(1) قلم الجليل: كان يكتب به في المحاريب، وعلى أبواب المساجد،
وجدران القصور ونحوها، وهو ما يسميه العامة الآن بالخط الجلي.
(2) قلم السجلات.
(3) قلم الديباج.
(4) قلم أسطومار الكبير.
(5) قلم الثلثين.
(6) قلم الزنبور.
(7) قلم المفتح.
(8) قلم الحرم: كان يكتب به إلى الأميرات من بيت الملك.
(9) قلم المؤامرات: كان لاستشارة الأمراء ومناقشتهم.
(10) قلم العهود: كان لكتابة العهود والبيعات.
(11) قلم القصص.
(12) قلم الخرفاج.
ولما ازدان عصر العباسيين بأنوار العلوم والعرفان، وخصوصًا في أيام
المأمون، أخذت صناعة الخط تنمو وتنتشر وتتقدم كسائر العلوم التي ضرب فيها
المسلمون بسهام نافذة لاحتياجهم إليها؛ فتنافس الكتاب في أيامه في تجويد الخط؛
فحدث القلم المرصع، وقلم الناسخ، وقلم الرياسي [1] نسبة إلى مخترعه ذي
الرئاستين الوزير الفضل بن سهل، وقلم الرقاع وقلم غبار الحلبة [2] ، وكان يكتب
به بطائق حمام الرسائل، وهكذا كان كل قلم معدًّا لنوع من الكتابة، كما تكتب الآن
الإنعامات بالرتب بقلم خاص , والأوراق الديوانية بقلم خاص، وألواح الحجر بخط
آخر، وكتب التعليم بآخر.
فزادت الخطوط العربية على عشرين شكلاً، وكلها تعد من الخط الكوفي فهو
إذ ذاك كان خط الدين والدولة، وقد كان يُكتب به القرآن منذ أيام الراشدين - كما
أسلفنا - حتى أواسط العصور الإسلامية (ش4) ، وأما الخط النسخي فقد كان
مستعملاً بين الناس لغير المخطوطات الرسمية حتى نبغ الوزير أبو علي محمد بن
مقلة المتوفى سنة 328هـ فأدخل في الخط المذكور تحسينًا كبيرًا بعد أن كان في
غاية الاختلال، وأدخله في المصاحف، وكتابة الدواوين، وقد اشتهر بعد ابن مقلة
جماعة كثيرة من الخطاطين هذبوا طريقته، وكسوها حلاوة وطلاوة، أشهرهم علي
بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة 413هـ - 1031م، وقد اخترع عدة
أقلام، وياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى سنة 698هـ وغيرهما
كثير، وقد تفرع الخط النسخي المذكور بتوالي الأعوام إلى فروع كثيرة وأصبحت
الأقلام الرئيسية في الخط العربي اثنين: الكوفي والنسخي، ولكل منهما فروع
كثيرة اشتهر منها بعد القرن السابع للهجرة ستة أقلام بين المتأخرين وهي: الثلث،
والنسخ، والتعليق، والريحاني، والمحقق، والرقاع.
آية من مصحف كتبه أبو بكر الغزنوي سنة 566 هـ، وتوضيحها: (بسم الله الرحمن الرحيم
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى ... } (الإسراء: 1)
برز في هذه الأقلام جملة من العلماء، وما زال الخط يتفرع إلى الآن، فقد
ظهر بعد هذه الستة الأقلام القلم الديواني، والقلم الدشتي، والقلم الفارسي، وغيره،
وبقي الأمر تابعًا لارتفاع الدولة، وانخفاض شأنها (انظر شكل 5) ، فإنه لما
تضعضعت خلافة بغداد، وانتقلت الخلافة إلى مصر والقاهرة انتقل الخط والكتابة
والعلم إليها، وسرى منها إلى مضافاتها من البلاد التابعة لدولتها وإلى ما جاورها،
وما زال الخط في جميع هذه الأماكن آخذًا في الجودة إلى هذا العهد، وصار
للحروف قوانين في وضعها، وأشكالها متعارفة بين الخطاطين، وقد حفظ لنا
القلقشندي بيانات صحيحة عن أواسط عصر المماليك (أواخر القرن الثامن للهجرة)
فذكر في الجزء الثالث [3] من كتابه صبح الأعشى أنواع الخطوط المستعملة في
الدواوين، وعلق عليها معتمدًا على نماذج منها نشرت في هذا الكتاب وهي ستة
أنواع:
(1) الطومار الكامل: ويشتمل على جملة أنواع، وكان يكتب به السلطان
علاماته على المكاتبات، والولايات، ومناشير الإقطاع.
(2) مختصر الطومار: وهو على نوعين: الثلث والمحقق، وكان يكتب
به في عهود الملوك عن الخلفاء، والمكاتبة إلى القانات العظام من ملوك بلاد الشرق.
(3) الثلث: وهو نوعان من الثقيل والخفيف.
(4) التوقيع: وهو على ثلاثة أنواع، وكانت توقع به الخلفاء، والوزراء
على ظهور القصص.
(5) الرقاع: وهو على ثلاثة أنواع أيضًا، وكان يكتب به في الرِّقاع جمع
رُقعة، وهي الورقة الصغيرة التي تكتب فيها المكاتبات اللطيفة، والقصص، وما
في معناها.
(6) الغبار: وهو نوع واحد، وكان يكتب به بطائق الحمام، والملطِّفات،
وما في معناها، ونرى من الكتابات المنقوشة على الأحجار في أيام المماليك جمال
هذا الخط، وبهاءه، وهو وإن كانت حروفه مستطيلة، فهي ربما أجمل مما كانت
عليه في أيام العباسيين.
ولما آلت الخلافة إلى الأتراك بعد زوال دولة المماليك بمصر، ورثوا بقايا
التمدن الإسلامي، فكان لهم اعتناء خاص بالخط، وقد أخذوا في إتقانه على أيدي
الأساتذة الفارسيين الذين اعتمدوا عليهم في الآداب والفنون، وقد حفظ الأتراك عدة
قرون في مصالح حكومتهم، ودوائرهم الملكية، والعسكرية أنواع الخطوط التي
كانت مستعملة في القرون الوسطى، فكان يُعْرَف عندهم في القرن الحادي عشر
للهجرة 30 نوعًا تقريبًا إلا أنه أهمل أكثرها أثناء القرنين الثاني عشر، والثالث
عشر، ولم يبق مستعملاً منها في الوقت الحاضر إلا ما سنذكره في الفصل الآتي،
والأتراك هم الذين أحدثوا الخط الرقعة، والخط الهمايوني، وإليهم انتهت الرئاسة
في الخط على أنواعه إلى عهدنا هذا، وقد أخذنا عنهم الخط المعروف بالإسلامبولي
ولا يزال الخط يتفرع إلى ما شاء الله عملاً بسنة الارتقاء.
***
الأقلام المستعملة الآن
(1) الخط النسخي: أما الآن فقد أُهمل الخط الكوفي، وصار الخط
النسخي هو الأكثر استعمالاً في كتابة اللغة العربية أينما وجدت، وكذلك في كتابة
اللغة التركية، والتترية، والأفغانية، والهندية، وغيرها من لغات العالم الإسلامي،
فإنه يستعمل فيها الخط النسخي في الكتب العلمية، وغيرها، وعلى الخصوص
في المواضيع الدينية والشرعية كما سيأتي.
(2) القلم الفارسي: وهو مشتق من الخط القيراموز المتولد من الخط
الكوفي في صدر الإسلام، وتكتب به الآن اللغة الفارسية، ويستعمل غالبًا عند
الهنود في كتابة لغتهم الهندستانية (الأوردية) ، وسيأتي تفصيل تاريخه وفروعه
عند الكلام على اللغة الفارسية.
(3) القلم المغربي: المستعمل في مراكش، والجزائر، وتونس،وطرابلس
لكتابة العربية والبربرية معًا، وسيأتي ذكره بالتفصيل عند الكلام على
لغات المغرب.
(4، 5) القلم الرقعة والقلم الثلث: الرقعة هو خط الدواوين في تركيا،
وغيرها، ويغلب استعماله أيضًا في المراسلات الاعتيادية، وقد أسلفنا أنه، والقلم
الهمايوني من مستحدثات الأتراك، وهما يُستعملان عندهم إلى الآن، وقد انتشر
الرقعة بسلطة الأتراك في جزء من البلدان العربية، ومع أنه مكروه من بعض
العرب الخلص لأنه خط تركي [4] ، فهو مستعمل في مصر، والعراق، وسوريا
مثل القلم الثلث المستعمل عند الجميع، إلا أن الثلث يستعمل في الزخرفة والتزويق
أكثر من استعماله في الكتابة العادية.
(6) قلم التعليق: أو الكتابة الفارسية المحرفة، وهو يستعمل في تركيا
لكتابة الأوراق، والأعمال القضائية الشرعية، وكذلك في الكتب وخصوصًا في
كتب الأشعار والدواوين (ش6) كما سترى عند الكلام على الخط الفارسي.
ش 6: قلم التعليق
بيت من أشعار الفردوسي الشاعر الفارسي المشهور، ويقرأ هكذا:
(همين جشم دارم زخوانتد كان/كه نامم به نيكوبرند برزبان)
(7) القلم الديواني: الذي اشتق مباشرة من خط التوقيع القديم وهو على
ش 7: القلم الديواني الجلي (القسم الأعلى) والقلم الديواني (القسم الأسفل)
ويقرأ القسم الأعلى هكذا: " نشأن شريف عاليشان سامي مكان وطغراى غراي جهان ستان خاقاني نفذ بالعون الرباني والصون الصمداني حكمى أولدركه "
نوعين: أحدهما كبير قليلاً، وهو المستعمل في الدواوين السلطانية بتركيا
لكتابة المراسيم، والدبلومات Les diplomes (الفرمانات والبراءات) على
جميع أنواعها، والآخر أصغر منه، وهو وإن يكن قد قل استخدامه بعض الشيء
إلا أنه مستعمل كثيرًا في المحاكم الدينية والشرعية التي تستعمل أيضًا خط التعليق،
أما الهمايوني المتقدم ذكره فهو نفسه الخط الديواني الكبير، ويسمى عندهم (جلي
ديواني) أي القلم الديواني الجلي (ش7و8) وهو يستعمل لكتابة الفرمانات
السلطانية المتعلقة بالوسامات.
وتمتد الحروف النهائية في الخط الديواني، وخصوصًا الجيم، والحاء،
والخاء، والعين، والغين إذا جاءت في أواخر الكلم، وكذلك أطراف السين،
والشين، والصاد، والضاد كما ترى في شكل 9.
(8) القلم النستعليق: أو الخط الفارسي المنسوخ، وهو يستعمل عند
الفرس وسيأتي ذكره عند الكلام على الخط الفارسي وفروعه.
(9) قلم الإجازات: وهو يتألف من الخط النسخي، والخط الثلث بتصرف
مع بعض زيادات لا توجد في غيره، وهو يستعمل عند الأتراك أحيانًا.
والخط في تركيا لم يزل مشرفًا، وأعمال الخطاطين الكبار أمثال حمد الله
المتوفى سنة (936 = 1530) ، وحافظ عثمان المتوفى سنة (1110=
1698 - 1669) لم تزل معتبرة كنماذج تُقَلَّد، أما في البلدان العربية،
وخصوصًا في مصر فإن الاعتناء بالخط أخذ في الضعف والإهمال بسبب سرعة
انتشار المطابع.
***
حروف الهجاء العربية وترتيبها
أما ترتيب حروف الهجاء العربية فهو مخالف لترتيب الحروف الأخرى
المرتبة على أبجد هوز ... إلخ، وهو الترتيب القديم المعروف عند أكثر الأمم
السامية، وأما العربية فتبتدئ هكذا: اب ت ث ... إلخ، مع أن التاء في اللغات
الأخرى هي آخر حروفها، وهذا الترتيب حديث في اللغة العربية وضعه نصر بن
عاصم، ويحيى بن يعمر العدواني في زمن عبد الملك بن مروان، وهو مبني على
مشابهة الحروف في الشكل، فابتدأ بالألف والباء؛ لأنهما أول الحروف في ترتيب
أبجد، وعقبا بالتاء والثاء لمشابهتهما الباء، ثم ذكر الجيم من حروف أبجد، وعقبا
بالحاء والخاء للمشابهة، ثم ذكرا الدال، وعقبا بالذال، ولكون الهاء تشبه أحرف
العلة في الخاء أخراها معها لآخر الحروف، وقبل أن يذكرا الزاي ذكرا الراء
المشابهة لها لتكون الزاي مع باقي أحرف الصفير؛ ولذلك ذكرا السين بعد الزاي،
وعقبا بالشين للمشابهة، ثم ذكرا الصاد، وعقبا بالضاد، ثم رجعا للطاء من أبجد،
وعقبا بالظاء وأخرا أحرف (كلمن) حتى يفرغا من الأحرف المتشابهة، وذكرا
العين، وعقبا بالغين، ثم ذكرا الفاء، وعقبا بالقاف، ثم ذكرا أحرف كلمن والهاء
وأحرف العلة.
ولكون ترتيب أبجد يختلف عند المغاربة [5] عن ترتيبها عند المشارقة كان
ترتيب الحروف عند المغاربة بعد ضم كل حرف إلى ما يشابهه في الشكل هكذا:
اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ وي
***
الأحرف الخاصة بالعربية
واللغات الأخرى
وفي الخط العربي فضلاً عن الحروف الشرقية الأخرى ستة أحرف هي:
الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين (ثخذ ضظغ) ، وقد اقتضتها طبيعة اللغة
العربية، وهذه الأحرف لا مخرج لها في اللغات الأخرى إلا بتركيب مع حرف
آخر، والضاد منها خاصة باللغة العربية دون سواها؛ وهذا هو سبب تلقيب العرب
أو المتكلمين بالعربية بلقب (الناطقون بالضاد) ، وتمييزهم بها، وفي الحديث (أنا
أفصح من نطق بالضاد) إشارة إلى ذلك.
وهنا ملاحظة ينبغي الإشارة إليها، وهي أن هذه الأحرف الستة لا تستعمل
غالبًا في اللغات الإسلامية الآتية (التي تكتب بالخط العربي) إلا لكتابة الكلمات
العربية الدخيلة في لغاتهم؛ ولذلك فهم لا ينطقون بها تمامًا إذا قرأوها في نصوص
عربية، بل يشركونها مع حرف آخر، فمثلاً إذا أرادوا النطق (بالطاء) أو
(بالضاد) تكلفوهما، فالطاء تخرج بين التاء والطاء كالسلطان والطوفان، والضاد
تخرج كالزاي المفخمة في نحو رمضان وهكذا: ولما كانت هذه الأحرف معدومة
عندهم فهم يستعملون حروفًا [6] أخرى معدومة في العربية تقتضيها طبيعة لغاتهم،
ولهذا كان من الضروري لنا أن نذكر هذه الأحرف عند ذكر لغاتها؛ لأنها تتكون
بمثابة تكملة لحروف الهجاء العربي عندهم.
***
النقط والحركات في الخط العربي
الحركات:
لما اقتبس العرب الخط من الأنباط والسريان كان خاليًا من الحركات
والإعجام، فالحركات فيه حادثة في الإسلام، والمشهور أن أول من وضعها أبو
الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ، لما كثر اللحن في الكلام؛ لاختلاط العرب
بالأعاجم في صدر الإسلام، فكانت الحركات إذ ذاك نقطًا يميزون بها بين الضم
والفتح والكسر، فكانت النقطة فوق الحرف دليلاً على الفتح، وإلى جانبه دليلاً على
الضم، وتحته دليلاً على الكسر، ولم تشتهر طريقة أبي الأسود هذه إلا في
المصاحف حرصًا على إعراب القرآن، أما الكتب العادية فكانوا يفضلون ترك
الحركات، والنقط فيها لأن المكتوب إليهم كانوا يعدون ذلك تجهيلاً لهم قال بعضهم:
(شكل الكتاب سوء ظن بالمكتوب إليه)
أما استبدال النقط بالحركات الحديثة، فالغالب أنه حدث تنويعًا للحركات عن
النقط التي يميزون بها الباء عن التاء خوفًا من الالتباس، فالحركات الحديثة
وضعت بعد ذلك لتقوم مقام حروف العلة لمشابهة الحركات لها فجعلوا للضمة التي
يشبه لفظها الواو علامة تشبه الواو، والتي يشبه لفظها الألف وهي الفتحة علامة
تشبه الألف؛ لكنها مستقيمة، ومثلها للكسرة من تحت وهكذا [7] .
***
الإعجام
وضبط الحروف العربية
أما الإعجام أو النقط فيظن أنها كانت موجودة في بعض الحروف قبل الإسلام
وتُنُوسِيَتْ، ولكن المشهور أن اختراعها كان في زمن عبد الملك بن مروان، وذلك
لما كثر التصحيف خصوصًا في العراق، والتبست القرءاة على الناس لتكاثر
الأعاجم من القراء، والعربية ليست لغتهم، فصعب عليهم التمييز بين الأحرف
المتشابهة ففزع الحجاج إلى كتابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المتشابهة
علامات، ودعا نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني (تلميذي أبي
الأسود) لهذا الأمر فوضعا النقط أو الإعجام أزواجًا وأفرادًا بعضها فوق الحروف،
وبعضها تحتها، وسمي الإعجام إعجامًا؛ لأن الإعجام في المعنى الأصلي هو التكلم
على طريقة الأعاجم، كما أن الإعراب هو التكلم على طريقة العرب، وكان
الجمهور يكره كما قلنا الإعجام والحركات في الكتابة، وينفر منهما، ولكن الناس
رجعوا بعد ذلك على هذا الرأي حتى كانوا يعدون إهمال الإعجام خطأ في الكتابة،
واستمر الأمر على اتباع هذا الإعجام إلى الآن.
***
الكتابة
واتجاه السطور فيها
لم يتقرر لاتجاه السطور في الكتابة نظام إلا بعد ترقيها؛ ولذلك كانت الكتابة
يدونها الأولون أنى اتفق لا يراعون لها نظامًا في اتجاه سطورها، كما كان عند
قدماء اليونان؛ فإنهم كانوا يكتبون تارة من اليسار إلى اليمين، وطورًا من اليمين
إلى اليسار، وأحيانًا يجمعون بينهما.
فلما ترقت الكتابة، وتقرر نظامها عند الأمم اتخذت كل أمة منها طريقًا
مخصوصًا في كيفية سيرها: فأهل الصين، وأتباعهم صاروا يكتبون من الأعلى
إلى الأسفل، ومن اليمين إلى اليسار على الخط الرأسي؛ ولذلك سميت كتابتهم
(بالمشجر) ، ولهم في ذلك اعتقاد خاص حيث يعتقدون أن الله - سبحانه وتعالى -
موجود في السماء العليا، فكل شيء لا بد وأن يأتيهم من جهته، ولذلك صاروا
يكتبون من أعلى إلى أسفل.
وأهل أوربا صاروا يكتبون من اليسار إلى اليمين لكون الدورة الدموية تبتدئ
من القلب الموجود في الجهة اليسرى، والقلب في بعض الروايات مركز العقل،
فوجب أن تكون الكتابة من الجهة المقابلة للعقل الذي يستمد منه البنان؛ فلذلك
صاروا يكتبون من اليسار إلى اليمين.
أما العرب والسريان وغيرهم من الأمم السامية، فصاروا يكتبون من اليمين
إلى اليسار بالنسبة لكون الطبيعة قضت بأن كل شيء لا يعمله الإنسان إلا بيده
اليمنى، كما وأنه لا ينتقل من جهة إلى أخرى إلا بالرجل اليمنى؛ فلذلك صاروا
يكتبون من اليمين إلى اليسار [8] .
فالكتابة العربية الحالية متصلة من القديم، وتُكتب أينما وجدت من اليمين إلى
الشمال على السطر الأفقي، وقد روى الدكتور بشارة زلزل في كتابه تنوير الأذهان
أنه (لم تزل بعض الأمم كالصومال تكتب الخط العربي من أعلى إلى أسفل (أي
على السطر الرأسي) وتقرؤه من اليمين إلى اليسار [9] ، وهذا غريب يحتاج
لإثبات.
__________
(*) المنار: تجد تقريظ هذا الكتاب في مكان آخر.
(1) يصح أن يقال ريس في رئيس قال الكميت يمدح محمد بن سليمان الهاشمي
... تلقى الأمان عن حياض محمد ... ثولاء مخرفة وذئب أطلس
... لا ذي تخاف ولا لهذا جرأة تهدي الرعية ما استقام الريس
والثولاء النعجة والمخرفة لها خروف يتبعها، ضرب لذلك مثلاً لعدله وإنصافه حتى أنه ليشرب الذئب والشاة من ماء واحد، استشهد به الجوهري، والزبيدي (في تاج العروس) وغيره على ما قلناه أن الرئيس يقال فيه ريس.
(2) كشف الظنون 466 ج 1.
(3) ص 51 وما بعدها من طبعة المطبعة الأميرية سنة 1332هـ.
(4) encyclopedie de l`islam ,art (arabie) page: 393.
(5) ترتيب المغاربة في أبجد يختلف قليلاً عن ترتيبها عند المشارقة فيقولون: (أبجد هوز حطي كلمن صعفض قرست ثخذ طغش) وسبب هذا الاختلاف أن المغاربة يرون الترتيب عن الأمم القديمة على خلاف ما يرويه عنهم المشارقة.
(6) هذه الأحرف عربية شكلاً لا نطقًا، وهم يميزونها بالكتابة عن أشباهها بوضع نقط أو علامات فوق الحرف أو تحته كما سترى بعد.
(7) راجع محاضرات الأستاذ حفني بك ناصف (تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية) .
(8) الكتابة والكتاب للشهيدي وانظر صبح الأعشى (ج3 ص21) .
(9) تنوير الأذهان في علم حياة الحيوان والإنسان ص238.(18/461)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدولة والألمان
والسِّكتان المتضادتان الشبيهتان بالجمع
بين الكفر والإيمان
للسلطان عبد الحميد حسنة عظيمة في البلاد العربية، لا يصدنا عن
الاعتراف بها، ما قيل من نيته فيها وغرضه منها، ألا وهي سكة الحديد الحجازية،
التي كان يظن ويقال إنه كان الباعث له على إنشائها جعل الحجاز كسائر البلاد
العثمانية في الخضوع لحكومته، والتمكن من سوق الجيوش إليها عند الحاجة،
والمعروف من رأي كثير من رجال الدولة إزالة إمارة الشرفاء من الحجاز منهم
أحمد مختار باشا الغازي، ولا يكون ذلك سهلاً مأمون العاقبة إلا بإتمام هذه السكة،
وهذا هو السبب فيما اشتهر من معارضة شرفاء مكة لمد هذه السكة بين الحرمين
الشريفين.
كنا ولا نزال نرى أن هذه السكة من أكبر الحسنات، على علمنا بما هنالك
من الأقوال والظنون والنيات؛ ولكن للسلطان عبد الحميد سيئة من جنس هذه
الحسنة يزيد وزرها على أجر هذه - إن حسنت النية فيها - أضعافًا كثيرة لعلها
تزيد على سبع مئة ضِعْف، ألا وهي سكة الحديد الألمانية بين الآستانة، والعراق.
من شروط هذه السكة أن الشركة الألمانية تملك عشرين ألف متر (20 كيلو)
عن جانبيها ملكًا خالصًا، فعشرون ألف متر تمتد من أقصى مغرب المملكة الشمالي
إلى أقصى مشرقها الجنوبي، يكوِّن مملكة كبيرة في قلب المملكة العثمانية مساحتها
ضعفا مساحة الأرض التي تزرع في المملكة المصرية، وهي منها في أعز مكان،
كالقلب من بدن الإنسان، فكما أن القلب مصدر الحياة للبدن، كذلك تكون هذه السكة
مصدر الثروة والقوة والعمران في المملكة، فكيف يعيش من يكون قلبه في قبضة
أجنبي عنه، وقد كانت بريطانية العظمى على قوتها تعد وصول هذه السكة إلى
الكويت، أو البصرة خطرًا على مصالحها التجارية في العراق وخليج فارس، بل
خطرًا على ممالكها الهندية، أفلا تكون هذه السكة في قلب مملكة خطرًا عليها؟ بل
إنها وهي لغيرنا أعظم الأخطار لو كانت غفلاً عن ذلك الشرط، فكيف تكون مع
ذلك الشرط؟
قرأنا في أثناء هذه الحرب أخبارًا عن الألمان تدل على أن امتلاكهم لقليل من
الأرض في غير بلادهم أعظم خطرًا عليها مما كان لا يستنبطه إلا أبعد السياسيين
رأيًا، وأشدهم فطنة وحذرًا.
قد امتلك بعض الألمانيين أرضًا في فرنسة، وبلجيكة فظهر بعد الحرب أنها
أعدت في وقت السلم لحرب أهل البلاد التي هي فيها، فكان منها خنادق،
وسراديب، ومواضع لنصب المدافع الضخمة، حتى قيل إن مكانًا أعده رجل
ألماني في بلجيكة للعب الكرة في داره ظهر بعد الحرب أنه أعد لنصب أثقل المدافع
وأقواها، وأنه وضع على البعد المناسب بينه وبين الحصون البلجيكية، وما كان
يمكن دكها وتدميرها إلا منه.
كنا قرأنا في المقطم أن من شروط التحالف بين ألمانية، والدولة العثمانية أن
الأولى لا ترضى بعقد صلح إلا إذا اشترط فيه سلامة أملاك الثانية، وأنها تعطيها
خمس الغرامة الحربية التي ترجو أن تأخذها، على كونها هي التي تقدم لها السلاح،
والذخيرة، والمال لأجل الحرب، وقرأنا وسمعنا أنها وعدتها ببلاد القوقاس،
وغير القوقاس من البلاد الإسلامية، وكنا نفضل على كل هذه العطايا الغيبية لو
اشترطت عليها الدولة أن تبطل من شروط سكة الحديد البغدادية امتلاك عشرين
ألف متر عن جانبيها، إذا لم يمكن أن تترك لها هذه السكة كلها، فإن كون قلب
بلادنا خالصًا لنا أهم وأنفع لنا من ضم بلاد أخرى إليها، فلأن أملك مئة فدان من
الأرض ملكًا خالصًا أستطيع أن أعمرها كما يجب، أفضل وأنفع لي من ألف فدان
فيها حقوق للأجانب الذين يستطيعون من عمارتها ما لا أستطيع، ويخشى أن يَئُول
أمرها كلها إليهم، على أن بلاد الدولة أوسع من بلاد عدة دول من الدول الكبرى،
فلو عمرت لكانت غنية بها عن سواها.
فنحن نتمنى لو تقترح الدولة على حليفتها القوية أن تعطيها هذه السكة أو تلغي
من شروط امتيازها ذلك الشرط لتجعل هذا دليلاً على إخلاصها في محالفتها،
ورغبتها في بقائها مستقلة قوية بعد انتصارها معها، وإلا كان الخوف منها أكبر من
الرجاء فيها.
__________(18/472)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(المطبوعات التي باسم دار الكتب الخديوية [1] )
1- صُبْح الأعشى في كتابة الإنشا
هو تأليف الشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي المصري، والمراد بكتابة
الإنشاء الكتابة الرسمية للملوك والسلاطين، وما يحتاج إليه القائم بها من العلوم
والفنون، فهذا الكتاب تاريخ للسياسة، والإدارة العامة، وجميع العلوم، والفنون،
والآداب، ولا يمكن بيان كليات فوائده، والتعريف بمجامع مزاياه، إلا في مقال
طويل لعل المنار يقوم به بعد إتمام طبع الكتاب، وهو يطبع في المطبعة الأميرية
بحروفها الجديدة الجميلة على أجود ورق يوجد بمصر، وقد تم من طبعه أربعة
أجزاء من القطع الكامل.
صفحات الأول 481، والثاني 477، والثالث 532، والرابع 487، وهو
يباع في دار الكتب نفسها، وفي مكتبة المنار وغيرها، وثمن كل جزء منه 15
قرشًا.
وهو لا يكاد يزيد عن نفقة الطبع إلا قليلاً، فنحث كل محب للعلم والأدب
والتاريخ إلى المبادرة لاقتنائه ومطالعته، أو الإحاطة بما في كل باب، وكل فصل
من المباحث النفيسة لأجل الرجوع إليها عند الحاجة لمن لا يتيسر له مطالعة الكتاب
كله، أو مطالعة ما يرى نفسه أحوج إلى معرفته.
ولما كان هذا الكتاب من قَبِيل الموسوعات التي يطلقون عليها اسم (دائرة
المعارف) نقترح على دار الكتب أن تجعل له فهرسًا عامًّا مرتبًا على حروف
المعجم.
***
2- الإحكام في أصول الأحكام
تأليف الشيخ العلامة سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي المتوفى
سنة 551 للهجرة.
طُبع في مطبعة المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد، في أربعة أجزاء
صفحات الجزء الأول 407، والثاني 495، والثالث 437، والرابع 392،
وثمنه 48 قرشًا لكل جزء 12 قرشًا.
الآمدي - رحمه الله - من أعلام العلماء وأساطين الحكماء له اليد الطولى في
الحديث، وعلم النظر، والخلاف، والفلسفة، قال ابن خلكان: ولم يكن في زمانه
أحفظ منه لهذه العلوم، وكان العز بن عبد السلام يقول: ما سمعت أحدًا يلقي
الدرس أحسن منه كأنه يخطب، وإنْ غَيَّرَ لفظًا من (الوسيط) - للغزالي وكان
يحفظه - كان لفظه أمسَّ بالمعنى من لفظ صاحبه، وقال العز أيضًا: ما علمنا
قواعد البحث إلا سيف الدين، وقال أيضًا: لو ورد على الإسلام متزندق يشكك ما
تعين لمناظرته غير الآمدي، وله مؤلفات في غاية الإتقان والتنقيح منها كتابه هذا
(الإحكام) في أصول الفقه، وهو من أبسطها عبارة، وأكثرها تقسيمًا، وأحسنها
ترتيبًا، وأجمعها لمسائل الخلاف ودلائلها.
وهو كالكتابين المذكورين بعده من الكتب التي طبعت بعناية أحمد حشمت باشا
في عهد وزارته للمعارف، وتُطلب كلها من دار الكتب السلطانية ومن مكتبة المنار
وغيرها.
***
3- الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الأعجاز
تأليف (السيد الإمام، إمام الأئمة الكرام، أمير المؤمنين يحيى بن حمزة بن
علي بن إبراهيم العلوي اليمني) المتوفى سنة 459 للهجرة طبع في مطبعة
المقتطف بمصر طبعًا جيدًا على ورق أبيض جيد في ثلاثة أجزاء، صفحات الجزء
الأول 435، والثاني ص 408، والثالث 466، وثمنه 36 قرشًا صحيحًا، لكل
جزء 12 قرشًا.
هذا الكتاب من كتب البلاغة الممتعة، التي ينفق مؤلفوها من سعة، ضم بين
قطريه علوم البيان، وجمع بين دفتيه دلائل إعجاز القرآن، والمراد بعلوم البيان
علوم البلاغة الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، رتبه مؤلفه - رحمه الله -
أحسن ترتيب، وجاء على مسائله بالشواهد والأمثلة، حتى سهل ما تناول من
مسائل الفن من أقرب السبيل؛ ولذلك قال: إنه يرجو أن يكون متميزًا عن سائر
الكتب بأمرين: أحدهما ترتيبه العجيب، وتنسيقه الذي يطلع قارئه من أول وهلة
على مقاصد هذا الفن، وثانيهما ما فيه من التسهيل، والتيسير، والإيضاح للمباحث
الدقيقة، فهو يجري في الإيضاح والبسط على نسق إمام الفن، وواضعه الشيخ عبد
القاهر الجرجاني، وقد اعترف المصنف - رحمه الله تعالى - بأن عبد القاهر هو
الواضع لهذا الفن، وأنه لم يطلع على كتابيه فيه، ولعله لو اطلع عليهما لكان
أحسن بيانًا، وأغزر فوائد، قال:
وأول من أسس من هذا العلم قواعده، وأوضح براهينه، وأظهر فوائده،
ورتب أفانينه، الشيخ العالم النحرير عَلم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك
قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المَشيد، وفتح أزهاره من
أكمامه، وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام، أفضل
الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه
كتابان، أحدهما لقَّبه (بدلائل الإعجاز) ، والآخر لقَّبه (بأسرار البلاغة) ، ولم
أقف على شيء منهما مع شغفي بحبهما، وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في
تعاليقهم منهما. اهـ.
ثم بين موضوع الكتاب وطريقته فيه فقال:
ولما كان كل علم لا ينفك عن مبادئ، ومقدمات تكون فاتحة لأمره،
ومقاصد تكون خلاصة لسره، وتكملات تكون نهاية لحاله، لا جرم اخترت في
ترتيب هذا الكتاب أن يكون مرتبًا على فنون ثلاثة، ولعلها تكون وافية بالمطلوب
محصلة للبغية بعون الله.
فالفن الأول منها مرسوم المقدمات السابقة نذكر فيها تفسير علم البيان، ونشير
فيها إلى بيان ماهيته، وموضوعه، ومنزلته من العلوم الأدبية، والطريق إلى
الوصول إليه، وبيان ثمرته وما يتعلق بذلك، من بيان ماهية البلاغة، والفصاحة،
والتفرقة بينهما، ونشير إلى معاني الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما، إلى غير ذلك
مما يكون تمهيدًا، وقاعدة لما نريده من المقاصد.
الفن الثاني منها مرسوم المقاصد اللائقة، نذكر منه ونشير فيه إلى ما يتعلق
بالمباحث المتعلقة بالمعاني، وعلومها، ونردفه بالمباحث المتعلقة بعلوم البيان
وأقاسهما، ونشرح فيه ما يتعلق به من المباحث بعلم البديع، ونذكر فيه خصائصه
وأقسامه، وأحكامه اللائقة به بمعونة الله تعالى ولطفه.
الفن الثالث نذكر فيه ما يكون جاريًا مجرى التتمة، والتكملة لهذه العلوم
الثلاثة، نذكر فيه فصاحة القرآن العظيم؛ وأنه قد وصل الغاية التي لا غاية فوقها،
وأن شيئًا من الكلام وإن عظم دخوله في البلاغة والفصاحة، فإنه لا يدانيه ولا
يماثله، ونذكر كونه معجزًا للخلق لا يأتي أحد بمثله، ونذكر وجه إعجازه، ونذكر
أقاويل العلماء في ذلك، ونظهر الوجه المختار فيه، إلى غير ذلك من الفوائد
الكثيرة، والنكت الغزيرة، التي نلحقها على جهة الردف والتكملة لما سبقها من
المقاصد.
فالفن الثالث للثاني على جهة الإكمال والتتميم، والفن الأول للثاني على جهة
التمهيد، والتوطئة، والسر، واللباب، والمقصد لذوي الألباب، ما يكون مودعًا
في الفن الثاني، وهو فن المقاصد، وأنا أسأل الله تعالى بجوده الذي هو غاية
مطلب الطلاب، وكرمه الواسع الذي لا يحول دونه ستر، ولا حجاب، أن يجعله
من العلوم النافعة في إصلاح الدين، ورجحانًا في ميزاني عند خفة الموازين، إنه
خير مأمول، وأكرم مسؤول) .
***
4- الخصائص
تأليف أبي الفتح عثمان بن جني طُبع الجزء الأول منه بمطبعة الهلال سنة
1332 هـ، صفحاته 569 ثمنه 15 قرشًا.
ابن جني من أساطين أئمة اللغة، وفحولها، وقد قال فيه الباخرزي في دمية
القصر: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات، ما لأبي
الفتح لا سيما في علم الإعراب، ومن قول المتنبي فيه أيضًا: هذا رجل لا يعرف
قدره كثير من الناس، وقال الأستاذ الإمام من كتاب يُعَرِّض فيه بصاحب له وقع فيه
عندما أخذ بتهمة المسألة العرابية: وأما فلان فقد أكننته كني، وأدنيته مني،
وجعلته في مكان النحو من ابن جني، ثم هو يصرح بسبي ولا يكني.
وكتابه هذا (الخصائص) علم، وأدب، وفقه لغة، وفلسفة، لأنه يعطي
المُطالع علمًا باللغة العربية، وأساليبها، وآدابها، ويلهمه بلاغة بأسلوبه الذي هو
في أعلا ذروة منها.
ومن رأيه في (باب القول على أصل اللغة إلهام أم اصطلاح) ما نصه:
(وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات،
كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب،
وصهيل الفرس، ونزيب [2] الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد،
وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل.
واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا
الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغوّل على
فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة؛ وجدت فيها
من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد
يطمح به أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما
حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبُعْد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا
لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد
الأخبار المأثورة، بأنها من عند الله جل وعز، فقَوِيَ في نفسي اعتقاد كونها توقيفًا
من الله سبحانه، وأنها وحي.
ثم أقول في هذا كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه
الحكمة الرائحة الباهرة. كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خَلَقَ مِنْ قبلنا، وإن
بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانًا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا، فأقف بين
تين الخلتين حسيرًا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورًا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق
الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق) اهـ.
أما المذهب الذي تقبله أولاً فهو الذي يرجحه الباحثون في فلسفة الخلق ولغاتهم،
وأما ما تعارض رأيه فيه بعد ذلك فهو موضوع آخر، وهو أن ارتقاء اللغة
العربية في أبنية كلمها، وقوانين جملها وأساليبها، هل كان بمواضعة واصطلاح
من أناس من الأولين بذُّوا مَن بعدهم في العلم والفلسفة والذوق؟ أم كان بوحي
إلهامي من الله تعالى؟ ولكل رأي وجه، والمعقول أن الله تعالى ألهم تلك النفوس
ذات الذكاء، والذوق أن تجري في كلامها على سنن ترتقي فيها بالتدريج إلى أن
وصلت إلى تلك الدرجات العلى التي بين المصنف خصائصها في كتابه.
***
5- الاعتصام
كتاب الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم اللخمي الشاطبي، ثم الغرناطي
الأندلسي المتوفى سنة 790.
طبع طبعًا حسنًا على ورق جيد في مطبعة المنار في ثلاثة أجزاء، صفحات
الأول منها 388 ما عدا الفهرس، ومقالة التعريف بالكتاب، وترجمة مؤلفه،
وصفحات الثاني 356 ما عدا الفهرس، وصفحات الثالث 280 ماعدا الفهرس،
وخاتمة الطبع، وثمن كل جزء منها 10 قروش، ويُطلب من دار الكتب، ومن
مكتبة المنار.
قد سبق تقريظ هذا الكتاب، وبيان مزاياه في منار العام الماضي، ونقول الآن
إننا لا نعلم أن أحدًا ألف مثله في بيان حقيقة البدع، وأقسامها، وأحكامها، فهو
ركن من أركان الإصلاح الإسلامي لعله لا يقرؤه مسلم إلا ويكره البدع، وينفر منها،
ويحب السنة، ويرغب في الاعتصام بها، على علم وبصيرة تنتفي بهما الشبهات
التي راجت والتبست على كثير من المشتغلين بالفقه، لا على العوام وحدهم، فهذا
الكتاب أعم مطبوعات دار الكتب نفعًا لا يستغني عنه عالم، ولا عامي من المسلمين.
طبعت هذه الكتب للمرة الأولى فهي كنوز علم وأدب قد فُتِحَتْ للطالبين
ورياضُ فضلٍ أُدنيت للناس أجمعين؛ ليجتنوا يانع ثمراتها فجزى الله الساعين
بطبعها خير الجزاء، ونفع بها، آمين.
***
(انتشار الخط العربي)
تأليف عبد الفتاح أفندي عبادة صاحب كتاب (سفن الأسطول الإسلامي)
مزينًا بالرسوم، والخرط طبع سنة 1333 في مطبعة هندية ص 168، ويُطلب
من مكتبة المنار، بمصر، وثمنه 12 قرشًا.
لعبد الفتاح أفندي عبادة عناية بالمباحث التاريخية، والفنية المبتكرة التي لم
تفرد في التأليف في لغتنا من قبل، وقد أتحف أبناء العربية بكتابه (سفن الأسطول
الإسلامي) ، ثم أبرز لهم اليوم هذا المؤلف النفيس الذي أبان فيه منشأ الخط العربي،
وتطوره بتطور المسلمين، وما تفرع منه، وأحصى عدد الذين يكتبون بالخط
العربي من البشر، فإذا هم 243 مليونًا، ولعلهم يزيدون فإن وثنيي الهند يكتبون
بها كالمسلمين، فكتابه هذا كتاب أدب لا تاريخ.
نعم إنه قد اعتمد في معظم مباحثه على ما كتبه علماء أوربة وغيرهم، وربما
أخطأ بعض هؤلاء العلماء، أو ربما أخطأ هو في بعض النقل كتسمية الخط
الديواني الجلبي [الخط الديواني الجلي] (انظر شكل 7 و 8) ؛ ولكنه خطأ يقع في
مثله كثير من الناس، وقد نُشر في المنار نموذج من مباحث هذا الكتاب.
__________
(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.
(1) أُسست دار الكتب العامة في عهد الخديو إسماعيل باشا بعناية محمود سامي باشا البارودي، وسميت الكتبخانة الخديوية، ثم سميت المكتبة المصرية، ثم دار الكتب الخديوية، ثم دار الكتب السلطانية.
(2) النزيب (صوت تيس الظباء عند السفاد) .(18/474)
رمضان - 1333هـ
أغسطس - 1915م(18/)
الكاتب: محمد علي أبو زيد
__________
البرهان على خروج تارك الصلاة
ومانع الزكاة من الإيمان [*]
جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد
الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أنعم علينا بالإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قام
بتبليغ الدين خير قيام.
أما بعد فإن الصلاة والزكاة أهم أركان الدين، وأعظم الشعائر للمسلمين،
بهما تزكية النفوس، وصلاح حال الجمهور.
جمع الله تعالى كل الخير فيهما؛ لأن من اتصف بهما يتصف بكل فضيلة
سواهما.
فمن تركهما فلا حظ له في الإسلام، ولا الإيمان، فهلمّ اسمعْ في ذلك
نصوص القرآن.
ولأقدم لك تعريف الصلاة والزكاة، ومقصود الشارع الحكيم منهما، على
طريق السؤال والجواب، عسى أن تأنس به، وترتاح نفسك إلى تدبره، فأعرني
سمعك، واستعمل عقلك.
س: ما حقيقة الصلاة؟
ج: هي مناجاة الله تعالى، وذكره، ودعاؤه، والخضوع له بالصفة المأثورة
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
س: لم جُعلت الصلاة بالكيفية المخصوصة، ولم تُترك إلى اختيار
المؤمنين؟
ج: لئلا يتشعب الخلاف بين الناس فيها، فيفوت غرض الدين من اتحادهم
عليها، المساعدِ لهم على الاتحاد في غيرها.
فالناس كلما كثر ما يشتركون فيه كان اتحادهم عليه أقوى، وانجذابهم بعضهم
إلى بعض أقرب وأمتن.
س: ما دليل وجوبها، وحكمة مشروعيتها؟
ج: قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى
عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) .
س: كيف تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
ج: انظر إلى نفسك حين تواجه القبلة، وتتهيأ لإقامة الصلاة، فتستفتحها
بقولك: الله أكبر، ألا تراك مُلِئت خشية لذكرك ربك وكبرياءه، وغشيتك السكينة
لوقوفك بين يدي سيدك مستصغرًا كل شيء دونه، وغاضًّا الطرف عما سواه.
فإذا قرأت الفاتحة ذَكَّرتك معانيها بإلهك الذي خلقك بقدرته، وربك الذي رباك
على نعمه - رباك لا ليستبد بك، ولا لينتفع منك، بل ليجعلك موضع رحمته،
ومحل وإحسانه، وهناك ترى سيدًا عظيمًا، ومالكًا للجزاء وحيدًا، جميع الكون في
قبضة يده، وكل العالم تحت تصرفه وقهره، لا إرادة فوق إرادته، ولا ينفع أحد
أحدًا عنده، فبينما أنت ترجو رحمته، إذا بك تخاف عذابه، قوته فوق الأسباب،
فلا تجد ملجأ إلا إليه، ولا تستعين إلا به، فهو الذي يهديك طريقه المستقيم، ويأخذ
بيدك فيه، ما دمت فيه، مرافقًا لأهله الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين،
والشهداء، والصالحين، بعيدًا عن طرق المعاندين، والحيرانين، المغضوب عليهم
والضالين، أضف إلى ذلك ما في ركوعك وسجودك، وقيامك طوع أمره وقعودك،
كل هذا يا مقيم الصلاة يؤثر فيك تأثيرًا، ويأخذ منك مأخذًا كبيرًا، فلا تلبث أن
تتربى في نفسك ملكة المراقبة لله، تثبتك على صراطه، وتقيك الوقوع في عصيانه،
فإذا مسَّك طائف من الشيطان، أو دعاك داعٍ من الشهوة إلى العصيان، ناداك
صوت من ضميرك: اذكر ربك واتقه، واحذر أن يراك حيث نهاك! فإذا أنت من
المبصرين.
س: يظهر من هذا أن المرء إذا حافظ على إقامة الصلاة تصفو نفسه
وتحسن أخلاقه؟
ج: من غير شك، وذلك هو مقصود الدين من تكرار الصلاة كل يوم
خمس مرات، وتدبر القرآن فيها.
وقد علمت أن الله لم يسقطها عن المؤمنين، وهم في مقاتلة أعدائهم، ولا عن
المرضى، وهم في موتهم، وما ذلك إلا لحاجتهم إليها، وعدم استغنائهم عنها،
فإنها تشجعهم، وتجعلهم أكثر تحملاً للمشاق، وأقوى صبرًا على الشدائد، وأقرب
إلى الرجاء، وأبعد عن اليأس.
س: صلينا كثيرًا فلماذا لم تنهنا صلاتنا عما نحن فيه من المنكرات؟
ج: سبب ذلك أننا لم نلاحظ المقصود منها، فغفلنا عن التدبر والخشوع فيها
فما لنا من الصلاة الآن إلا اسمها، وليس في مساجدنا منها إلا صورتها ورسمها.
وإن شئت فقل: إنها أصبحت عندنا عادة من العادات، التي يقلد فيها الولد
أباه، وغيره ممن ينشأ فيهم.
وقد وصل الجهل بناس إلى أن يتركوا الصلاة طول حياتهم، اعتمادًا على أنه
يمكن إسقاطها عنهم بعد مماتهم بالطريقة المشهورة بإسقاط الصلاة - ذلك بأن يؤتى
بمن يسمونهم فقهاء، وهم قراء القبور، الذين اتخذوا القراءة على القبور،
والصياح في الجنازات بنشيد البردة وغيرها صناعة، فيحسبوا ما ترك الميت من
الصلوات في سني عمره، ثم يطاف عليهم بصرة فيها عدد من النقود، فيقبل كل
منهم أن يتحمل عددًا من تلك الصلوات عن الميت نظير مبلغ يأخذه مما في الصرة،
حتى إذا تحمل الجميع ما على الميت من الصلوات فرق عليهم عدد النقود، وبهذا
يزعمون أن الصلاة سقطت عن الميت، وأن الله عفا عمن تحملوها.
وفي هذا من العجب ما ترى، وقد ذكرته ليظهر لك كيف يؤدي الجهل بحكمة
الله إلى إضاعة شرعه، والاستهزاء بدينه، وكأن هؤلاء لم يعقلوا أن تارك الصلاة
قد صدئت نفسه، وتلوثت روحه، فلم يعد يستحق مقام الكرامة، و {أَلاَّ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) فهل
للقبوريين عهد من الله أن يقبل منهم ما يقبلون، ويحط عنهم ما يتحملون؟ فرحماك
اللهم! فإن القوم لا يعلمون وعساهم عن ذلك يرجعون.
س: عرفنا الصلاة، فما معنى الزكاة؟
ج: الزكاة جزء من مال الأغنياء، يصرف في مصالح المسلمين،
كالفقراء والمساكين، وأبناء السبيل، والغارمين، وغير ذلك من مهمات الدين.
س: ما دليل وجوبها، وحكمة شرعيتها؟
ج: قال الله تعالى في سورة براءة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم
بِهَا} (التوبة: 103) .
س: ما معنى التطهير والتزكية بها؟
ج: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) فكلما كثر
جمعه للمال، زاد حبه له، وطمعه فيه، حتى لا يُؤْثِر شيئًا عليه، ولا يكون له
هم في سواه، فتنقطع العلائق بينه وبين الله، فتخبث نفسه، فيكسب المال من أي
وجه حلالاً كان أو حرامًا، فإذا هو جعل نصيبًا من ماله لله على حبه إياه، استحى
أن يكسبه من طريق يبغضه الله، وكان حب الله في نفسه متغلبًا على حب المال،
فهذا ينظف النفس من الأرجاس العالقة بها، ويزكيها بإنماء الفضائل فيها.
وهذه تزكية روحية، وهناك تزكية أدبية اجتماعية - وهي أن الأغنياء الذين
يقبضون أيديهم عن الفقراء يُعَرِّضون أموالهم للسلب، وأعراضهم وأنفسهم للإهانة؛
لأن الفقراء يبغضونهم، ويكيدون لهم، وإذا اشتد الجوع بهم، ولم يجدوا وسيلة لسد
الرمق إلا بالاعتداء على الأموال والأنفس اعتدوا، ولا يخفى ما في ذلك من اختلال
الأمن، وتزعزع النظام، فيمسي الأغنياء ويصبحون لا يهدأ لهم بال، ولا يرتاح
لهم ضمير، فيموتون أو يموت الفقراء جوعًا وذلاًّ، وكل ذلك - كما تعلم - سبب
في ضعف الأمة، وانقراضها، فإذا هم بذلوا، وأنفقوا، حفظوا حياتهم، وهدءوا
روعهم، وجعلوا الفقراء إخوانهم، يهتمون لهم، ويتعاونون معهم، فببسط أيديهم
يتبدل ضعفهم قوة، وتنقلب قلتهم كثرة، أضف إلى ذلك ما يتوفر للأمة فيصرف في
منافعها العامة، ومصالحها المدنية، وما يعود عليها من بسط الأمن في ربوعها،
وتوثيق عرى المحبة بين أفرادها، وحسبك دليلاً على ذلك أن المسلمين لما تهاونوا
في إخراج الزكاة انحلت رابطتهم، وتأخرت مدنيتهم.
س: إذا كان في الزكاة ما ذكرت من رابط الود بين الأفراد، ومن مصالح
جماعة الأمة، وكانت بذلك من أعظم أركان العمران، فما بالنا نرى الإفرنج وقد
استبحرعمرانهم ليس عندهم زكاة مثلنا؟
ج: لعلك لم تنظر إلى ما عندهم من الجمعيات الخيرية، والملاجئ،
والمستشفيات المجانية، وغير ذلك مما يُقصد به تحسين حال الأيتام والفقراء،
وغير ذلك من المنافع، والمصالح، وهل هذا إلا بمعنى الزكاة عندنا؟ وهل تقوم
لأمة قائمة من غير أن يكون فيها هذا الركن الاقتصادي العمراني الجليل؟
ألا تعجب حينما ترى الإفرنج يعرفون قيمة هذا الركن، وقومنا عنه غافلون؟
ألا يزيد عجبك عندما تسمع مقلدة الفقهاء يُعَلِّمُون الناس إسقاط فرضية الزكاة بما
يوحي إليهم الشياطين من الحيل؟ ولعلك شاهدت كثيرًا ممن تجب عليهم زكاة المال
يأتي قبل الحول الذي تجب بحلوله الزكاة؛ فيتنازل لامرأته عن ماله، ثم بعد أن
يفوت الحول يستوهبها إياه، ويزعم أنه بذلك قد خرج عن دائرة المالكين فلم يُكَلَّف
وأن حيلته صحت عند الله.
وأغرب من ذلك أن الرجل يضع زكاة ماله نقودًا في داخل كمية من الحبوب،
ويأتي ببعض المستحقين فيعرض عليه تلك الكمية من الحبوب من غير أن يريه
المال المدفون فيها، فيقول له: هذه زكاة مالي فاقبلها، وبعد قبوله إياها يبتاعها منه
بضعف ثمنها، فيفرح المسكين، ويرجع المكلف بدفع الزكاة زاعمًا أنه قد تخلص
منها، ولم يعد يُسأل عنها.
فيا حسرة على هؤلاء الذين فضلاً عن تضييعهم للشريعة، وقضائهم على
أحكامها، قد هزئوا بربهم، وسخروا بخالقهم، فاكتسبوا جريمتين بعملهم هذا،
إحداهما تضييع دينه، والأخرى الاحتيال عليه، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (إبراهيم: 42)
يوم يتقاضاهم الفقراء والمساكين، ويحكم الله بينهم وبين المستحقين، يوم يحمى
على أموالهم في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ويقال لهم: {هَذَا
مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35) .
حكم تارك الصلاة والزكاة:
س: حسبنا ما وقفنا عليه من معنى الصلاة والزكاة، وما وراءهما من المنافع
وما انطوتا عليه من الحكم، فما حكم تارك الصلاة، أو مانع الزكاة؟
ج: كلاهما مُعْرِض عن الإسلام هادم لأعظم أركانه، وقد ذهب جماهير العلماء
إلى وجوب قتله إن لم يتب - قيل كفرا وقيل عقوبة - وقد أجمع الصحابة رضوان
الله عليهم على قتال مانعي الزكاة، والخلاف في كفر تارك الصلاة أقوى.
س: كيف يعد تارك عبادة من عبادات الإسلام مرتدًّا عن الدين، تاركًا
له؟
ج: لأن الإسلام ليس له معنى إلا الانقياد لله تعالى، فيما يزكي النفوس،
ويصلح الاجتماع، وذلك إنما يتجلى في الصلاة والزكاة - كما علمت - وغيرهما
تابع لهما، بل من أقام الصلاة وحدها، أقام كل أمر بعدها.
س: هذا صحيح وفهمناه مما سبق، فأين الأدلة على أن تارك الصلاة، أو مانع الزكاة خارج عن الملة الإسلامية؟
ج: ذكر الله سبحانه الصلاة، والزكاة في أكثر من خمسين موضعًا من
كتابه، وكلها يدل على الاهتمام بهما، وبناء الإسلام عليهما، غير أننا نكتفي هنا
بذكر الصريح من الآيات في موضوعنا فنقول:
ما جاء في الصلاة وحدها:
من ذلك قوله تعالى في سورة الروم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (الروم: 30-
32) الآية، وفي قراءة (من الذين فارقوا دينهم) ، فانظر كيف أراك عز شأنه أنه
لا يعدل عن إقامة الصلاة إلا المشركون [1] ، ولا يتصف بها إلا المتقون، من أقامها
صاحب الدين، ومن لم يقمها فارق الدين، فهي الصفة المميزة، والحد الفاصل بين
المسلم والمشرك.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) المنار: قرأنا هذه الرسالة كلها، وانتقدنا على كاتبها مسائل منها، وبينا له رأينا في تصحيحها وإصلاحها، قولاً وكتابة، على أن يكون مستقلاًّ في ذلك، يأخذ ما يأخذ، ويترك ما يترك
عن بينة، كما هو شأننا مع تلاميذنا ومريدينا، لأجل هذا نشير في حواشي الرسالة إلى المهم مما
بقي من خطأ أو ضعف فيها.
(1) المنار: الآية لا تدل على هذا الحصر، ولا هو صحيح في نفسه، ولا تدل على الحصر الذي
ذكر بعده، وإن كان معناه صحيحًا.(18/505)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(9)
الراحة والتعب
النوم والرياضة الجثمانية
النوم:
جميع أعضاء الجسم تحتاج للراحة بعد العمل، وذلك بأن المواد الضرورية
لحياتها تقل شيئًا فشيئًا بسبب العمل، وكذلك تتراكم فيها فضلات الاحتراق،
فبالراحة تجمع من الدم مواد أخرى صالحة لتغذيتها، وتخرج إليه تلك الفضلات
المؤذية، وأعظم أنواع الراحة، وأشدها نفعًا للجسم النوم، ففيه يبطل عمل المخ إلا
فيما ندر (كالأحلام) ، ويقل ورود الدم إليه، وتقل مرات التنفس، والنبض
فتستريح الرئتان والقلب، وكذلك يقل إفراز جميع الأعضاء الأخرى كالبول مثلاً
وترتخي جميع العضلات؛ وبذلك تحصل الراحة لها، ولجميع الأعصاب
والأعضاء؛ فتتجدد قوى الجسم وينتعش بسببه.
قال بعض العلماء: إن المخ في أثناء النوم يكون محتقنًا بالدم، ولكن هذا غير
صحيح فإن الدم إنما يكثر وروده إلى الأعضاء وقت العمل، وأما في زمن النوم
فيقل الدم من المخ وغيره، ويهرب السائل الذي تحت العنكبوتية إلى القناة الفقرية.
وإذا أريد جلب النوم لشخص مصاب بالأرق فأحسن طريقة له أن يجتهد
الإنسان في تحويل الدم عن المخ، بأن يترك الشخص التفكير، ويصب الماء البارد
على دماغه، ويغسل جسمه بالماء الساخن، أو يضع قدميه فيه، أو يتعب نفسه
بمثل المشي وغيره؛ فإن ذلك يجذب الدم إلى العضلات والأطراف، ولمثل هذا
السبب يميل الشخص إلى النوم عادة بعد الأكل بسبب ذهاب الدم إلى المعدة.
ومدة النوم تختلف بحسب السن ففي الأطفال المولودين حديثًا تستغرق اليوم
كله تقريبًا، وفي الغلمان قد تمتد إلى 12 ساعة، وفي الفتيان تكون نحو 9 ساعات،
وفي الشبان من 7 إلى 8 ساعات، وفي الشيوخ تكون من 5 إلى 6 ساعات
وأحسن وقت للنوم هو الليل بين ذهاب الشفق وطلوع الفجر، أي بعد صلاة العشاء
وقبل صلاة الفجر فإن هذا الوقت تكون الظلمة فيه أشد، والسكون شاملاً للبلاد فلا
ينبه المخ بمنبه يقلق راحته، ولا يحتاج الإنسان للنوم في النهار إلا في زمن
الصيف؛ وذلك لقصر الليل، وطول النهار، واشتداد الحر فيه؛ فيتوارد بسبب
ذلك الدم إلى الجلد؛ ولذلك يميل الإنسان إلى النعاس في الحر، ويستحسن أيضًا أن
يكون هذا النوم بعد الظهر في مكان بعيد عن الضوضاء، وأن يوجد الإنسان فيه
ظلمة بقدر الإمكان بإرخاء ستائره مثلاً، وهذا النوم هو ما يسمى بالقيلولة.
وفي التبكير في القيام فوائد عظيمة، منها فوائد اقتصادية كمزاولة الأعمال
المختلفة قبل فوات الوقت بسبب قصر النهار في الشتاء، أو فواته بسبب اشتداد
الحر في الصيف، وعدم تمكن الإنسان من العمل، ومنها فوائد صحية أهمها
الخروج من المكان الذي بات فيه الإنسان إلى هواء أصح؛ فينتعش جسمه بشم
نسيم السحر، ومن ذلك تجدون أن فرائض الشريعة الإسلامية في الصلاة موافقة
لمصالح الناس الاقتصادية والصحية، على فوائدها الروحية التهذيبية.
ويجب أن تكون غرفة النوم خالية من الأثاث بقدر الإمكان، وأن تكون
أرضها خشبية، وطلاؤها بالجير فقط، وتكون بعيدة عن الروائح الكريهة، وتدخلها
الشمس بالنهار، وكذلك الهواء ليلاً ونهارًا، ولا يصح طلاؤها بغير الجير أو نحوه؛
فإن المواد الأخرى البيضاء، أو ذوات الألوان تشتمل عادة على الرصاص، أو
الزرنيخ والنحاس، وهذه المواد تنتشر في هواء الغرفة فتسمم جسم الإنسان،
وباستمرار استنشاقها تحدث له أعراض قد تكون خطرة، ويجب أيضًا أن تكون
الغرفة جافة؛ فإن استنشاق هواء الغرف الرطبة يؤدي إلى اعتلال الصحة حتى قد
تصاب الأطفال بالدفتيريا؛ إذا سكنت في بيوت حديثة البناء حديثة الطلاء، فيجب
اتقاء السكنى في هذه المنازل إلا بعد تمام جفافها.
هذا ولا يخفى أن الهواء الذي يُستعمل في التنفس، أو في الاحتراق هو أخف
لسخونته من الهواء الذي لم يُستعمل فلذا يصعد إلى أعلى الحجرات؛ ولذلك كان من
الواجب أن تفتح بعض النوافذ بقرب السقف والتجربة المشهورة المُثْبِتة لصحة هذه
النظرية أن يأتي الإنسان بشمعة مشتعلة، ويمسكها بيده، ويقف على باب الغرفة
المسكونة، ويضعها عند الباب بقرب الأرض؛ فيجد أن الشعلة تندفع إلى داخل
الغرفة بسبب دخول الهواء من هذا المكان، فإذا أمسك الشمعة في أعلى الباب وجد
أن الشعلة تندفع إلى الخارج بسبب خروج الهواء من الغرفة، وإذا أمسك بها في
منتصف الباب وجد أن الشعلة تثبت في مكانها.
ومن ذلك يُعْلَم أن الهواء يدور في الغرف من أعلاها كما قلنا، وينبغي أن لا
ينام الإنسان في تيار الهواء أمام النافذة التي يدخل منها؛ فإن ذلك يُحْدِث برودة
عظيمة في الجسم تؤدي إلى بعض الأمراض، ويستحسن أن تكون النوافذ التي
يدخل منها الهواء أعلى من رأس الإنسان، أي على علو نحو تسع أقدام، وأن
تكون نوافذ التصريف ملاصقة للسقف.
وينبغي أن لا يبقى أحد في غرفة النوم نهارًا لئلا يفسد هواؤها، وأن تُترك
نوافذها مفتحة ليدخل منها الهواء والشمس، ولا يجوز أن يوضع فيها ليلاً أزهار
ولا أشجار، وكذلك لا يجوز أن تكون محاطة بحدائق غناء، فإن النبات من نجم
وشجر - وإن كان ينقي الهواء في النهار - يتنفس في الليل تنفس الحيوان
فيمتص أكسجين الهواء، ويفرز ثاني أكسيد الفحم؛ وبذلك يفسد الهواء، ويجب
عدم وضع حيوانات في غرفة النوم؛ فإنها أيضًا تفسد الهواء بتنفسها، وقد تنقل
إلى الإنسان بعض الأمراض كالقرَع والأَرَضَة الجلدية؛ فإنهما يصيبان القطط
والكلاب، والدفتيريا تصيب القطط كثيرًا، وفي بعض الكلاب ديدان تُخْرِج بيضًا
إذا وصل شيء منها إلى بطن الإنسان أحدث عنده أكياسًا عظيمة في الكبد وغيره.
ومن أوجب الواجبات أن يُطفأ السراج وقت النوم كما وصى بذلك رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فإن النار من أشد ما يفسد الهواء، بل قد تقتل الشخص
بالاختناق، على أنها قد تحدث الحريق، وفي إيقادها إسراف وضرر؛ فإن مجرد
وجود النور في الغرفة مما يقلق راحة المخ.
أما النور الكهربائي الصادر من بعض المصابيح، وهي المغلقة إغلاقًا تامًّا؛
فإنه لا يحدث أي إفساد للهواء، وهو أيضًا أبعد عن إحداث الحريق من سائر أنواع
النور، إلا أن في الاستضاءة به إسرافًا كبيرًا، وهو يقلق راحة النائم أيضًا.
ومن القواعد الصحية أن لا ينام الإنسان إلا على الأَسِرَّة، وحكمة ذلك أن
يكون أبعد عن الرطوبة، والأقذار، وعن الدواب المؤذية كالعقارب، وكذا عن
استنشاق الهواء الفاسد؛ فإن غاز ثاني أكسيد الفحم الذي يتولد من الاحتراق
والتنفس، هو أثقل من الهواء؛ ولذلك يكثر بقرب الأرض، وينبغي أن يحيط
بالأَسِرّة ما يسمى عندنا بالناموسية (الكلَّة) ؛ وذلك لمنع البعوض فإنه يذهب النوم
عن الإنسان، وقد ينقل إليه الملاريا - كما سبق - ولا بد أن يكون الفِرَاش نظيفًا
جدًّا خاليًا من جميع الحشرات لما سبق بيانه في باب النظافة.
وللإنسان أن ينام على أي جنب شاء بحسب راحته؛ ولكن التزام جانب واحد
قد يؤدي إلى ضرر، فإذا التزم الإنسان الجانب الأيمن مثلاً حصل احتقان في
أجزاء الجسم اليمنى؛ فتختل الموازنة التي بين جهتيه، وتتعب الرئة اليسرى
وتكون الجهة اليمنى من الدماغ عرضة للاحتقان، وربما أدى ذلك إلى الفالج إذا
كان الشخص مستعدًّا له، كأن كان كبيرًا وشرايينه متصلبة، وكذلك الحال إذا
التزم النوم على الجهة اليسرى، فالأحسن أن يتقلب الإنسان في الفراش، ولكن
يفضل الإكثار من النوم على الجهة اليمنى خصوصًا إذا كان في المعدة طعام؛ فإن
ضغط الكبد والمعدة على الحجاب الحاجز، وعلى القلب يعوق حركة التنفس،
ويضايق الإنسان، ويتعسر أيضًا خروج الطعام من المعدة؛ لأن البواب في جهتها
اليمنى، والنوم على الظهر يسبب الشخير والاحتلام فالأولى تركه إلا قليلاً، ولا
يجوز النوم على الوجه؛ فإن ذلك يسبب ضغطًا على الأحشاء يضر الإنسان
ويضايقه، ولا بد من وضع الرأس على شيء عالٍ كالمخدة بحيث تكون في محاذاة
الجسم لمنع احتقان الدماغ.
وكذلك ينبغي للإنسان أن لا ينام على طعام كثير؛ فإن النوم يعوق حركة
الهضم، وإفراز العصير المعدي، ويتعب المعدة في وقت يجب أن تستريح فيه
جميع الأعضاء، وهذا فضلاً عن كون ضغط المعدة، وهي ممتلئة بالطعام على
الحجاب الحاجز يحدث ضيقًا يتسبب عنه الكابوس، والأحلام المزعجة، أو
الاستيقاظ فجأة كأن الإنسان يخاف من الموت العاجل، ولا سيما إذا كان مصابًا
بالربو (ضيق النفس) ، أو بمرض في القلب أو الرئتين، والأحسن أن يكون النوم
بعد تمام الهضم في المعدة أي بعد نحو أربع ساعات.
وينبغي أن يكون الرأس مغطى بغطاء خفيف لمنع توارد الدم بكثرة إلى المخ،
ويرى بعض الناس أن الأحسن كشفه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يغطى
الوجه، أما الجسم والأقدام فيجب أن تدفأ جيدًا؛ فإن ذلك يمنع تأثير البرد الضار،
ويجلب النوم أيضًا.
وإذا عرق النائم وجب عليه تغيير ملابسه بغيرها عقب الاستيقاظ مباشرة،
ولا بأس من وضع إناء في حجرة النوم للتبول فيه (مبولة) كما كان يفعل ذلك
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن القيام إلى مكان بعيد لأجل البول قد يحدث
أرقًا، ويعرض الإنسان لضرر البرد وغيره؛ وذلك الضرر لا شك أعظم من
استنشاق بعض تلك الرائحة التي تنبعث من البول.
ومن المستحسن أن يبيت الإنسان في فراش وحده لما تقدم بيانه، وأيضًا فإن
المبيت مع الزوجة في فراش واحد يحرك الشهوة؛ فيضطر الإنسان إلى الإسراف
في الجماع، وفي ذلك ضرر عظيم.
هذا ومن الناس من يقوم ويمشي في أثناء نومه، ويأتي بأعمال عديدة لا يقدر
أن يأتيها في اليقظة كالمشي على حائط مرتفع، وهذه الحالة قلما تحدث إلا
للمصابين ببعض الأمراض العصبية كالمرض المسمى بالهستيريا [1] ، ويسمى هذا
النوع من النوم (بالجولان النومي) (somnambulism) .
الأحلام وعلم الغيب:
الأحلام معروفة، والظاهر من الكتب المقدسة خصوصًا القرآن أن ما يراه
الإنسان في النوم قد يكون مطابقًا للواقع، أو لما سيقع كما يستفاد من سورة يوسف
مثلاً، وورد في حديث أن الأحلام ثلاثة: (1) هواجس النفس، و (2) وسوسة
الشيطان، و (3) الرؤيا الحق، وقال صلى الله عليه وسلم: (رؤيا الرجل
الصالح جزء من ست وأربعين جزءًا من النبوة) أي فهي تشبه أن تكون جزءًا من
الوحي.
وسبب الأحلام الفسيولوجي هو بقاء بعض خلايا المخ يقظة في أثناء النوم.
هذا واعلم أن الغيب حقيقي وإضافي، فالحقيقي هو ما ليس له وجود في
الكون مطلقًا، ولا يمكن الاستدلال عليه بشيء موجود، وهذا الغيب الحقيقي هو
الذي استأثر بعلمه الله تعالى فلا يعلمه أحد إلا بإعلام من الله، وليس كل ما غاب
عنك وهو موجود يعتبر غيبًا حقيقيًّا؛ فإن الإنسان خصوصًا في الأعصر الأخيرة
أمكنه العلم بأشياء غير واقعة تحت حواسه، ومن أمثلة ذلك تلغراف ماركوني [2]
(Marconi) أو التلغراف اللاسلكي، وهو مبني على نظرية شهيرة في العلم
الطبيعي، وهي أن هذا العالم مملوء بالأثير، ولولا وجود هذا الأثير ما أمكن الجسم
أن يؤثر في جسم آخر بعيد عنه، ففي هذا الأثير تحصل تموجات عديدة ينشأ منها
النور، والكهرباء، والأخرى تتأثر به مهما بعدت عنها فإن هذا التأثير الكهربائي
يسري في الأثير.
وكذلك عُرفت الآن أشياء تخترق حجب المادة الكثيفة، وتصل إلى باطنها
بواسطة الأثير أيضًا مثال ذلك أشعة الراديو وأشعة رونتجن Rontgen، وهو
عالم ألماني من مدينة ورزبرج wurrzburg اكتشفها في سنة 1895 م، وهي
عبارة عن أشعة لم يُعرف كُنْهها تنبعث من القطب السالب إذا مرت الكهرباء في
أنبوبة مفرغة، وهي لا تضيء فلا ترى؛ ولكنها تخترق كثيرًا من الأجسام؛
فترتسم صورها على حائل يوضع خلفها، وهذا الحائل مصنوع من لوح زجاجي
مغطى بمادة كيماوية هي بلاتينو - سينور- الباريوم Platino - of Barium أو
البوتاسيوم بدل الباريوم أو غيره، وفوقها غطاء من الورق يوضع عليه الجسم
المراد رؤيته، ومن خواص هذه المادة أنها تضيء إذا مرت فيها تلك الأشعة
المظلمة، فإذا وضعت اليد مثلاً أمام هذه الأنبوبة المفزعة خرجت الأشعة منها،
واخترقت اللحم والشحم وغيره؛ فيرتسم ظل العظم على الوجه الزجاجي للحائل؛
لأن العظم يقاوم مرور الأشعة فيه أكثر من غيره من الأنسجة الرخوة فيظهر مظلمًا،
ويمكن طبع الظل وحفظه بطريقة التصوير الفوتوغرافي حتى بدون واسطة
الحائل المذكور، ومثل هذه الأشعة في تأثيرها أشعة الراديوم، وهو عنصر اكتشف
حديثًا تنبعث منه أشعة متنوعة كالكهرباء، والحرارة، والنور، وأشعة تخترق
الحجب كاختراق أشعة رونتجن، ولجهل مكتشف هذه الأشعة الأخيرة بحقيقتها
سماها أشعة X، أو الأشعة المجهولة كما نقول في اللغة العربية لكمية الحساب
المجهولة في بعض المسائل الرياضية الكمية (س) .
إذا علم ذلك أمكننا الآن أن نشبه مخ الإنسان بآلة كهربائية تنبعث منها في
أثناء العمل تموجات مخصوصة كتموجات تلغراف مركوني، وهذه التموجات قد
تتلقاها مخاخ بعض الناس بعد أن تنفذ إلى باطن جماجمهم، ومن المعلوم في علم
الفسيولوجيا أن جميع أعمال الجسم الكبيرة والصغيرة ليست إلا حركات متنوعة في
ذراته وفي جواهره الفردة، ففي أثناء النوم إذا انقطع عن الإنسان ما يشغله مما
يوجد في هذا العالم، واستراح مخه كان حينئذ صالحًا لتلقي بعض تموجات أثيرية
مما ينشأ من حوادث هذا العالم، فرؤية شخص لشخص يمشي في مكان خطر أو
يسقط في البحر مثلاً قد تكون مطابقة للواقع ونفس الأمر، هذا في الأشياء الحاصلة
في العالم، وقد يستدل من بعضها المخ على البعض الآخر الذي لم يوجد فيخيل له
أنه واقع بالفعل فيراه، ولكن كل ذلك لا يدل على أنه علم الغيب بمقتضى التعريف
السابق.
أما حوادث العلم في المنام بالغيب الحقيقي فلا يمكن تعليلها بهذا التعليل السابق؛
وإنما هي من إلهام الله لبعض النفوس الصافية؛ فإن الغيب الحقيقي لا يعلمه إلا
الله كما نص على ذلك القرآن، وهو الذي يطلع من يشاء من عباده على ما يشاء
فلا يعلمه أحد من ذاته بل بإعلام الله، ومثل ذلك الوحي والنبوة (اقرأ آخر سورة
الجن) .
والأحلام منها ما يحدث بسبب وداعية، ومنها ما يحدث بغير سبب معروف،
والسبب إما أن يكون كثرة اشتغال العقل بشيء في اليقظة، وإما أن يكون شيئًا طرأ
على الإنسان في نومه، كأن توضع شمعة مشتعلة أمام عين النائم؛ فإنه ربما يحلم
بحريق، أو رعد، أو برق، أو نحو ذلك.
ويؤيد ما قلناه في الأحلام، وما تنبئ به من الغيب مسألة التنويم المغنطيسي.
التنويم المغنطيسي:
يحدث هذا التنويم لأنواع الحيوانات المختلفة إذا انحصر فكرها في شيء واحد
مخصوص، وأطاعت النفس شعورها بالميل لهذا النوع من النوم، فإذا حصر
الإنسان أو غيره فكره في جسم مضيء مثلاً حصل له هذا النوم، وكذلك يمكن
تنويم مثل الديكة والخيل وغيرهما، ويُنوم الديك برسم خط طويل أمام عينيه
ويوضع منقاره عليه، ويمسك برأسه في هذا الوضع مدة فإنه ينام نومًا مغنطيسيًا.
ويمكن أحيانًا تنويم الأطفال الرضع بإلقائهم على ظهورهم.
والنائم هذا النوم يمكن إيذاؤه بأشياء كثيرة، وهو لا يشعر بها حتى قد تعمل
له بعض العمليات الجراحية وهو لا يدري.
وهذا النوم له درجات ست (وقسمها بعضهم إلى ثلاث فقط) وآخرها من
أغرب ما يكون، فإن النائم يرى فيها البعيد كما يرى القريب، ويسمي الإفرنج تلك
الحالة (Clairvoyance) ومعناها الحرفي " الرؤيا الواضحة "، وفيها يشعر
الإنسان أيضًا بالأشياء، وإن كانت عيناه مغمضتين، بل يمكنه القراءة بأي جزء
من جسمه، فقد حدث في محاكم مصر بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1913 أن نُومت فتاة
قبطية نومًا مغنطيسيًّا، فكانت تقرأ الساعة بمعدتها أمام القضاة، وكانت ترى من
خلفها، ورأت ما بيد أحد المحامين، وأعينها معصوبة ويد المحامي مقبوضة.
ومن فوائد هذا التنويم أنه قد يُستعمل لشفاء بعض الأمراض، فمثلاً إذا
أُصيب الإنسان بمرض جلد عميرة (الاستمناء باليد) حتى أنه لم يقدر على كبح
جماح نفسه، ونوّم، وأمر أن لا يأتيه؛ فإنه يُشفى من ذلك شفاء تامًّا، وكذلك من
تعود التدخين أو تعاطي الأفيون مثلاً.
وفي التنويم المغنطيسي يمكن للإنسان أن يخاطب غيره إذا كان نائمًا مثله
على بعد شاسع، ويسمى ذلك بالتلغراف الإنساني، أو انتقال الأفكار، وتسميه
الإفرنج (Telepathy) ومعناه الحرفي (الشعور على بُعْد) وهذا التأثير على
البعد قد يحصل حتى للأيقاظ، فإذا اتفق شخصان على التخاطب على بعد في وقت
ومكان معينين أمكن ذلك بالمزاولة، والرياضة الطويلة، وقد يؤثر الشخص في
شخص آخر بعيد عنه بدون اتفاق بينهما أيضًا؛ ولكن ذلك نادر جدًّا.
وهذه المسألة تفهمنا تأثير العين [3] الذي ورد فيه بعض الأحاديث النبوية
وتواترت روايات أمم العالمين على حصوله، وإن أنكره بعض المتأخرين، على
أن إنكار تأثير العين مطلقًا مكابرة، فمن ذا الذي ينكر تأثير نظرة الرضا، والحقد،
أو المحبة، والبغض في النفوس، وتأثير النظر إلى الجميل والقبيح، أو الفَرِح أو
الحزين، وإلى النشيط والكسلان المتثائب، إلى غير ذلك مما هو معروف، ولذلك
قال - صلى الله عليه وسلم - (العين حق) ، وأما ما زاد عن ذلك القدر من
الحديث، فإما أنه لم يثبت عنه عليه السلام، أو أنه يراد به تأكيد ما للعين من
التأثير في النفس، أو المبالغة فيه.
ومثل التأثير على البعد أيضًا بعض أنواع السحر كالنوع المسمى بمصر
(بالشبشبة) .
ومن النوادر التاريخية التي لا تبعد صحتها ما روي أن عمر رضي الله عنه
كان يخطب بالمدينة فصاح في أثناء خطبته (يا سارية الجبل، يا سارية الجبل،
من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم) ثم عاد إلى الخطبة حتى قال فيه بعض
الصحابة: إنه جُنَّ، ولما سئل رضي الله عنه عن ذلك أجاب بأنه رأى جيوش
المسلمين تكاد تفتك بها الأعاجم على أبواب (نهاوند) فصاح بقائدهم - ولم يتمالك
نفسه - ليتحصن بالجبل، وبعد ذلك جاءت الأخبار بأن المسلمين كادوا ينهزمون،
لولا أن سارية القائد سمع مع بعضهم هاتفًا يرشدهم إلى الجبل، فدهش الناس لذلك،
وعلموا منه مقدار نفس عمر وكبر روحه، وهذه من أعظم مناقبه رضي الله عنه.
واعلم أن جميع هذه التأثيرات تصل بين النفوس بعضها ببعض بواسطة
الأثير - كما سبق- والظاهر أن جميع المخلوقات ليس فيها شيء آخر سوى المادة
الكثيفة أو اللطيفة، وهي التي تأتي بكل ما في هذا العالم من المشاهد العجيبة.
أما اعتقاد عامتنا، وبعض خاصة المليين بأن في الإنسان، أو في هذا العالم
شيئًا آخر مخلوقًا يغاير مادة الكون، فأرى أنه بعيد عن الصواب بعيد عن القرآن،
فإن هذا الكتاب الشريف لم يثبت وجود شيء ما يغاير مادة الكون سوى الله (2:
114) حتى أنه نص على أن بعض ما يسمونه بالأرواح كالجن مخلوق من مارج
النار، وهو من مادة هذا الكون [4] .
وإذا لاحظنا أنه نص على أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، ثم استثنى
الشيطان أمكننا الاستدلال بذلك على أن الشيطان كان أحد الملائكة، وقد نص في
آية أخرى (18: 50) على أنه كان من الجن؛ فيستنتج من ذلك أن لفظ الجن
كان يُطلق على جميع ما استتر من هذه العوالم؛ فإن مادته تطلق على كل ما خفي
كالجنين مثلاً، ومما يؤيد كون الملائكة من الجن قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158) ، وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ} (الأنعام: 100) مع أن العرب أشركت بالله الملائكة، فلولا أن لفظ الجن يُطلق
عليهم أيضًا لما صح هذا التعبير في الآيتين السابقتين.
ولا ينافي ذلك نسبة الذرية للشيطان مع العلم بأن الملائكة لا توصف بالذكورة
ولا بالأنوثة (43: 19) فإن الذرية قد تكون بغير اجتماع الذكر بالأنثى، كما
سيأتي بيانه في علم الميكروبات.
نعم إن لفظ الجن إذا أطلق انصرف غالبًا إلى عالم مخصوص معروف في
الذهن غير الملائكة، كما في قوله تعالى عن لسان الملائكة: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
الجِنّ} (سبأ: 41) الآية.
أما مسألة استحضار الأرواح فكثير من العلماء إلى الآن يشكون فيها، وهي
إذا صحت لا تنافي ما ذهبنا إليه؛ الأرواح التي تستحضر لم تخرج عن كونها من
عالم الأثير باعتراف مستحضريها أنفسهم، حتى زعم بعضهم إمكان تصويرها
بالآلة الفوتوغرافية، بل حاولوا ذلك فعلاً، وقد رأيت بنفسي هذه الصورة في
بعض المجلات العلمية.
والأرواح التي تستحضر منها ما هو للبشر، ومنها ما هو من العوالم الأخرى
كالشياطين.
ومسألة استحضار الأرواح - إذا صحت أيضًا - كانت دليلاً على صحة ما
ورد في القرآن الشريف، وصحة الأخبار، والآثار عن الكهانة، فإن الكاهن
العربي، أو غيره كان يسعى في إحداث علاقة بينه وبين الشياطين فيخبرونه عن
بعض أشياء غيبية، أو يعملون له بعض الأعاجيب، كأن يحضروا له شيئًا بعيدًا
عنه.
ويؤيد ذلك أيضًا ما ورد في أسفار موسى - صلى الله عليه وسلم - كما في
سفر التثنية (11: 18) وكذلك القصة الواردة في سفر صموئيل الأول (28:11و
12) فكل هذه الأشياء تضافرت على القول بإمكان الاتصال بذاك العالم الأثيري،
وليس ثَمَّ مانع في العلم الحقيقي منه
واعلم أن الأثير هو مادة العالم الأصلية التي خلقت منها العناصر، والأكوان
وهي لا شك حادثة، كما سيأتي إثباته - إن شاء الله تعالى - في الجزء الثالث.
الرياضة البدنية:
من قوانين الكون أن العضو المستعمل ينمو ويحسن حاله، والعضو الذي
يُهمل يضمر شيئًا فشيئًا، حتى قد يزول من النسل بعد حين من الدهر، لذلك كانت
الرياضة البدنية من أوجب الواجبات لبقاء الجسم في الصحة والعافية، حتى أن
الأطفال يجدون أنفسهم مدفوعين بإلهام إلهي إلى كثرة اللعب، لما في ذلك من
الرياضة لأبدانهم.
وتأثير الرياضة أنها تسرع في دورة الدم فيقوى القلب والعروق، وتكثر تغذية
جميع الأعضاء، ويتم الاحتراق بها، وتذهب عنها الفضلات الضارة التي يكثر
إفرازها في البول، والعرق، وفي الهواء الخارج من الرئتين؛ ولذلك يحتاج
الإنسان إلى الإكثار من الطعام، والشراب، واستنشاق أكسجين الهواء، وتقوى
جميع عضلات الجسم، وتسمن، ويزول التشحم الذي قد يتراكم على القلب حتى
يضعفه بل قد يكون سببًا في الموت الفجائي بالسكتة القلبية.
وتمام الاحتراق الذي يحصل بالرياضة يمنع تراكم حامض البوليك في الدم،
وهذا الحامض هو الذي يسبب أعراض المرض المسمى بالنقرس، وقد يرسب في
بعض الأعضاء كالكُليتين؛ فيتكون فيهما حصيات ضارة جدًّا، وكثيرًا ما تؤدي إلى
الهلاك.
وبالجملة فإن الرياضة تقوي جميع أعضاء الجسم، وتُذْهِب عنها المواد
الضارة؛ فتصح، ويجب أن تكون الرياضة في الهواء النقي، وإلا لاستنشق
الإنسان ما يضره من العفونات.
ولا يصح أن تعمل في وقت الحر الشديد؛ فإن الحر كثيرًا ما يقتل الإنسان،
ولا يجوز أن يتعرض الإنسان بعد الرياضة وكثرة العرق للهواء؛ فإن ذلك من
أعظم الأسباب لإحداث التهاب الأعضاء، والنزلات المتنوعة، كذلك لا يجوز
شرب الماء البارد عقبها؛ فإن من الناس من مات بسبب ذلك لحصول سكتة قلبية له.
وإذا أحس الإنسان بتعب منها فالواجب أن لا يأكل بعد الراحة؛ فإن المعدة
تشترك مع الجسم في التعب، فإذا وُضِع فيها الطعام حينئذ؛ فإنها لا تقدر على
الهضم، وكثيرًا ما يحصل القيء بسبب ذلك، وإن لم يتقايأ الشخص نزل الطعام
الفاسد إلى الأمعاء؛ فأحدث فيها تهيجًا من آثاره المغص والإسهال.
ومن الخطأ الكبير الجماع أيضًا عقب الرياضة مباشرة؛ فإن ذلك يزيد في
إنهاك قوى الجسم، فالواجب أن يتبع الرياضة الراحة، أو النوم فإن ذلك نافع جدًّا
ولا يجوز عمل الرياضة الشاقة عقب الأكل مباشرة كما سبق بيانه.
والاعتدال في الرياضة ضروري جدًّا - كما في سائر الأشياء - ومدتها
للشبان الأصحاء نحو من ساعة في اليوم نصف في أوائل النهار، ونصف في آخره،
هذا إذا كانت بالمشي السريع، أما إذا كان المشي معتدلاً فتكون ساعتين ومن
الأمراض ما لا توافقه الرياضة كأمراض صمامات القلب.
وأنواع الرياضة عديدة منها المشي، ومنها العدو، ومنها السباحة وركوب
الخيل، وغير ذلك، ولا يتوهم أحد أن المشي لا يكفي، وكيف لا يكفي وبه تتحرك
جميع العضلات تقريبًا، ويسرع القلب والتنفس.
***
النبذة الرابعة
في علم الأنسجة أو التشريح الدقيق
الهستولوجيا Histology
الهستولوجيا كلمة يونانية، ومعناها (علم الأنسجة) وبعبارة أخرى علم
التشريح الدقيق للجسم، وقد سبق ذكر أشياء كثيرة منه في النبذة الثالثة
وهذا العلم لا يمكن دراسته إلا بالمجهر المسمى بالميكروسكوب، أي المنظار
الدقيق ليتيسر للإنسان الوقوف على جميع دقائق الجسم.
أما المجهر فهو مبني على الحقيقة الطبيعية الآتية، وهي أن الجسم إذا وضع
على بعد مخصوص من العدسة المحدبة تجمعت الأشعة المنبعثة منه، ورُسم كبيرًا
في الجهة الأخرى، وهذه الصورة الكبيرة تمكن رؤيتها بالعين المجردة، وقد تُرى
بعدسة أخرى؛ فتزداد كبرًا؛ لذلك كان الميكروسكوب عبارة عن أنبوبة معدنية في
طرفها عدسة محدبة، وكذلك في الطرف الآخر، إلا أن الغالب أن تكون العدسة
التي في الطرف الأول محدبة من الجانبين، وفي الطرف الثاني محدبة من الجهة
الداخلية فقط.
وتكون العدستان على أبعاد مخصوصة معروفة في علم الطبيعة، فإذا أُريد
رؤية أي جزء من أجزاء الجسم قُطِعَت منه طبقات رقيقة بآلة كالموسى، وتُوضَع
القطعة منها على لوح من الزجاج بعد أن تلون بألوان مخصوصة أو بدون تلوين.
ثم يُوضع هذا اللوح على حامل في المجهر له ثقب مستدير في وسطه،
وتحت هذا الثقب مرآة لعكس الأشعة لتنفذ خلال القطعة الرقيقة التي فوق اللوح
الزجاجي؛ فتكبر صورتها العدسة الأولى، ثم تكبر هذه الصورة العدسة الثانية
فيراها الإنسان كبيرة جدًّا.
وبهذه الآلة أمكن الوقوف على دقائق عالمي الحيوان والنبات، وبها اُكْتِشَفَتْ
الميكروبات، فلها الفضل الأكبر في علم الطب الحديث.
فإذا نُظِرَ بالمجهر إلى أجزاء الجسم المختلفة وُجد أنها تتركب من الأنسجة
الآتية:
(1) إبيثيليوم (Epithelium) : وهذه كلمة يونانية معناها الغطاء؛ لأن
هذا المنسوج يغطي جميع أجزاء الجسم من الظاهر والباطن كما في الجلد، وفي
قناة الهضم، وغير ذلك.
(2) المنسوج الضام: وهو الذي يربط أجزاء الجسم بعضها ببعض.
(3) المنسوج العضلي: وهو الذي تحصل به الحركة، كما سبق.
(4) المنسوج العصبي: وهو المخ والنخاع وسائر الأعصاب.
وكما أن جميع المنسوجات كالأقمشة مثلاً تتركب من أجزاء دقيقة جدًّا، وهي
الخيوط، كذلك هذه الأنسجة تتركب من خيوط تسمى الألياف، ومن كتل صغيرة
جدًّا تسمى الخلايا، وبينهما مواد تربط الواحد منهما بالآخر، وأصل جميع ما في
الجسم من الألياف وغيرها ناشئ من الخلايا، فالخلايا في الحقيقة هي عنصر
الأجسام الحية نباتية كانت أو حيوانية، إذ من الثابت أن الإنسان يتكون من بيضة
واحدة وهي في الحقيقة خلية حية.
ففي بعض أجزاء الجسم نجد أن هذه الخلايا منضودة صفوفًا بعضها فوق
بعض، ويتكون منها الإبيثيليوم المذكور، وفي الأجزاء الأخرى تمتط هذه الخلايا
فيتكون منها العضلات، أو الأعصاب، أو المنسوج الضام بتغيرات مختلفة تحصل
فيها، وقد يتكون في داخلها مواد دهنية؛ فينشأ من ذلك منسوج الشحم.
ومن الناس من يعتقد أن ألياف المنسوج الضام كانت خلايا فامتطت - كما قلنا-
ومنهم من يرى أنها إفرازات من الخلايا ترسب فيما بينها، كما ترسب بعض
الأملاح في السوائل، والقول بأنها رواسب هو الراجح الآن عند العلماء.
أما الخلية فهي الأصل لجميع الأحياء - كما سبق - وتتركب من البروتبلازم [5]
Protoplasm، وهو مادة يدخل في تركيبها جميع ما ذكرناه سابقًا من
العناصر التي في جسم الإنسان، فهي كإنسان صغير، ففيها الماء، والزلال،
والدهن، والمواد الكربوهيدراتية، وأملاح عديدة، وغير ذلك، ولها جميع خواص
الحياة، وهي التنفس، والتغذي، والإفراز، والحركة، وجميع هذه الأعمال يمكن
لكل جزء من أجزاء جسمها أن يقوم بها على حد سواء، فمثلاً التغذي يحصل بجميع
جسمها، وفي حركتها ترسل من أي جزء من جسمها أذنابًا تتحرك بها كالمجاديف
وكلما ارتقت الحيوانات تخصصت بعض هذه الخلايا بعمل مخصوص كما نرى في
الإنسان، فمثلا نرى أن الحركة في الإنسان خُصت بها أعضاء، وكذلك القول في
التغذية، إلا أن الخواص المذكورة للحياة تبقى لكل خلية، وإن لم تظهر فيها ظهورًا
بينًا، بمعنى أن بعض الوظائف قد يبقى كامنًا في الخلايا، وتظهر بعض الخواص
الأخرى ظهورًا بينًا كالإحساس مثلاً؛ فإن جميع الخلايا الحية تحس إلا أن
الإحساس في المجموع العصبي أظهر بكثير مما هو في المنسوج الضام مثلاً.
وأول الأحياء كانت قطعًا بروتوبلازمية مجردة من كل شيء آخر، وفي
الأحياء التي أرقى من ذلك يتكون في وسط الخلية بقعة قاتمة تسمى (النواة) ، وهي
تغاير في تركيبها بعض التغاير لمواد البروتوبلازم، ويصير لهذه النواة التأثير في
تغذية الخلايا، وفي انقسامها فلا يُبْتَدَأُ الانقسام في الخلية إلا إذا انقسمت نواتها،
وإذا فُصل جزء منها عن النواة أصابه الفساد، وفي وسط هذه النواة نواة صغرى
تسمى النُّوَيَّة.
ويتصلب الجزء الذي على سطح البروتوبلازم، حتى يصير كحائط للخلية.
والخلايا تتكاثر بالانقسام، وهذا الانقسام يبدأ بانقسام النواة، ثم ينقسم
البروتوبلازم؛ فتصير الخلية الواحدة خليتين، والخلايا التي لا نواة لها لا يكون
جزء منها مسيطرًا على الباقي.
ومن الخلايا ما ينقسم داخل الغشاء الكاذب المحيط بالخلية، ومنها ما ينقسم
مع نفس هذا الغشاء، فمثال الأول جنين الإنسان؛ فإن البويضة تنقسم بدون انقسام
الغلاف، ومثال الثاني الحيوان المسمى (الأميبا [6] ) ، وهو مركب من خلية واحدة
تنقسم كلها؛ فيصير الواحد اثنين، ثم أكثر فأكثر، وهو يوجد في بعض المياه
الآسنة.
والفرق بين أبسط النباتات، وأبسط الحيوانات هو عسر التحديد، إلا أنه
يمكن أن يقال فيه ما يأتي:
(1) إن خلايا النباتات محاطة بطبقة من مادة السللولوز، وهي المادة
التي يتركب منها الخشب، وتشبه في تركيبها الكيماوي النشاء، ولكن من الحيوانات
ما فيه هذه المادة أيضًا.
(2) في خلايا النباتات الراقية مادة خضراء تسمى (الكلوروفيل) ، وهي كلمة يونانية معناها (خضرة الورق) .
(3) إن الخلايا النباتية تكوِّن - بواسطة الكلوروفيل مع تأثير أشعة الشمس -
من بعض العناصر البسيطة أجسامًا عجيبة التركيب مثل السكر الذي تُولِّده النباتات
من غاز ثاني أكسيد الفحم الموجود في الهواء، والنباتات تُولِّد أيضًا من
الأملاح النيتروجينية البسيطة- مثل نترات الصوديوم - مواد زلالية معقدة
التركيب، أما الحيوانات فلا يمكنها هذا العمل، وهي تعتمد في غذائها بالمواد
الزلالية، وغيرها كل الاعتماد على النباتات التي لولاها لهلكت جميع الحيوانات.
هذا وقد سبق أن الجسم الإنساني كله مُولَّد من البويضة بانقسام نواتها
وبروتوبلازمها كله، ومن الحيوانات كالدجاج مثلاً ما يتولد بانقسام النواة مع جزء
صغير مما يحيط بها من البروتوبلازم، وتتغذى بالباقي منه.
والإبثيليوم مركب - كما قلنا - من خلايا مرصوص بعضها بجانب بعض،
وقد يتكون منها عدة طبقات أو طبقة واحدة، كما في إبثيليوم البريتون، وفي الجلد
طبقات عديدة منه، وفي غشاء المثانة تكون الطبقات أقل من طبقات الجلد، وفي
بعض أعضاء الجسم يكون لخلايا الطبقة العليا منه أهداب تتحرك بنفسها، وهي
عبارة عن زوائد ممتدة من نفس البروتوبلازم - كما تقدم -
أما المنسوج الضام فيراد به أشياء كثيرة، منها أربطة المفاصل، وأوتار
العضلات، والعظام، والغضاريف، والشحم، ومن الناس من يعد الدم من
المنسوج الضام أيضًا، وأعظم ما يتميز به العظم عن غيره رسوب مواد جيرية في
المادة التي بين خلاياه.
وأما المنسوج العضلي - وهو اللحم - والمنسوج العصبي فقد سبق الكلام
عليهما فلا حاجة إلى التكرار، وتبارك الله الذي خلق الخلق في هذه الأطوار.
(انتهى الجزء الأول)
***
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبي الرحمة، ومعلم
الحكمة، وعلى آله، وصحبه هداة الأمة (وبعد) فقد جعلت هذا الجزء الثاني من
محاضراتي خاصًّا بالكلام على الأحياء التسلقية من ميكروبات، وديدان، وغيرهما،
وما ينشأ عنها من الأمراض المعدية، وأعراضها، وعلاجها، وطرق اتقائها -
إلى غير ذلك من المباحث العالية الضرورية لحياة الأفراد والأمم.
ولما كانت لغتنا العربية في أشد الحاجة إلى مثل هذه المباحث الراقية التي
قتلها الإفرنج بحثًا وتمحيصًا - لم أقتصر في هذا الجزء على ما ألقي منها على
طلبة مدرستنا (دار الدعوة والإرشاد) بل توسعت فيها بما سيكون - إن شاء الله -
نافعًا حتى للخاصة، ونقلت إلى لغتنا الشريفة أهم ما كتبه الإفرنج في هذه المسائل
راجيًا بذلك خدمة اللغة والأمة بإرشادها إلى ما يجب اتباعه لاتقاء شر تلك الأمراض
التي تفني كثيرًا من الناس في كل يوم، وتضعف الأمم التي لم تلتفت إلى سنن الله
تعالى فيها، وأهملتها إهمالاً شنيعًا.
وقد جريت في هذا الجزء على طريقتي في الجزء الأول من التدقيق في
التعريب، واختيار أوضح العبارات، وأقربها إلى تناول جمهور القراء ليسهل على
كل مطلع على الكتاب فهم المراد منها، مراعيًا في كل ما أكتب نصوص الشريعة
الإسلامية الغراء، وأساليبها، ممحصًا لها، وموفقًا بين تلك النصوص، وبين
الحقائق العلمية، والله الهادي إلى أقوم طريق.
***
البكتيريولوجيا
Bacteriology
علم الأحياء الدقيقة الخفية
البكتيريولوجيا لفظ يوناني معناه علم البكتيريا، والبكتيريا معناها العِصِيّ
(جمع عصا) ويراد بها غالبًا الأحياء الدنيئة النباتية، التي أكثرها مركب من خلية
واحدة، وإنما سميت بذلك لكون شكل كثير منها مستقيمًا كالعصا، ولفظ ميكروب
معناه الحي الدقيق [7] ، والذي وضع هذا اللفظ شخص يسمى سيدللوت Sedillot
في سنة 1878م، ويطلق على جميع الأحياء الدنيئة سواء أكانت نباتية، أم
حيوانية، أم في المنطقة التي بينهما، وجمهور العلماء يطلقون لفظ (البكتيريولوجيا)
على علم الميكروبات كلها مع اختلاف أنواعها.
أما علم البكتيريولوجيا الحالي فمؤسسه الحقيقي هو العلامة لويس باستور
Pasteur Louis الفرنسي عاش بين سنة 1822و1895 واشتغل كثيرًا
بالبحث في داء الكلب، والهيضة (الكوليرا) فهذا العلم تأسس في القرن التاسع
عشر، وأما وما كتب فيه من قبل فلم يكن مما يعول عليه كثيرًا.
وممن نبغ فيه أيضًا الأستاذ روبرت كوخ الألماني Koch Robert وكان
من أعلم علماء عصره، واكتشف ميكروب الدرن، وبحث بحثًا دقيقًا في الهيضة،
والطاعون عاش بين سنة 1843 وسنة 1910 م.
وقد عُرِفَ الآن أن الميكروبات هي السبب في أكثر الأمراض، والذي هدى
الناس إلى العلم بهذه الأحياء هو المجهر (الميكروسكوب) ولكن اختراعه الذي
كان في سنة 1590 قد سبق علم البكتيريولوجيا ببضعة قرون، ولم يكن في ذلك
الوقت مرتقيًا إلى حيث يكشف لنا عن أكثر هذه الأحياء الدنيئة، وأقوى أنواعه الآن
ما يكبر الشيء 10000 ضعف.
كيفية دراسة الميكروبات:
لدراسة الميكروبات تُوضع على لوح من الزجاج، ثم تثبت بإحدى الطرق
المشهورة في هذا الفن، ثم تُلون بألوان مخصوصة لإظهارها جيدًا، وإن كان يمكن
رؤيتها حية بدون تلوين، وطريقة ذلك أن يُصنع لوح سميك من الزجاج به حفرة
صغيرة (تقعير) في وسطه، ثم يؤتى بلوح آخر رقيق جدًّا، وتُوضع نقطة من
السائل الذي فيه الميكروب على هذا اللوح، ثم تُغَطَّى الحفرة بهذا اللوح الرقيق،
بحيث تكون النقطة متجهة إلى الأسفل، أي تكون في تجويف الحفرة المغطاة باللوح
الرقيق، ويسمي علماء هذا الفن هذه الطريقة (بطريقة النقطة المعلقة) وفائدتها أن
تحفظ السائل من التبخر، وتوجد هواء محيطًا به لتنفس الميكروب وبهذه الطريقة
يمكن مراقبة نمو الميكروب وحركاته - إن كان متحركًا - وغير ذلك.
أما المادة الملونة، فهي تكون غالبًا مما يسمى بالأنيلين (aniline) وهي
كلمة برتغالية معناها النيلة، وتلك المادة من مستخرجات قطران الفحم الحجري
وسميت بذلك لأنها صنعت في أول الأمر من النيلة التي تستخرج من ورق شجرة
معروفة، وعيدانها، ومادة الأنيلين هذه بتأكسدها يُستخرج منها ألوان عديدة
كالأخضر والأصفر ... إلخ.
تعريف الميكروبات:
أكثر ميكروبات الأمراض أحياء بين عالمي الحيوان، والنبات؛ ولكنها أميل
إلى النباتية منها إلى الحيوانية، وهي في الغالب مركبة من خلية واحدة لا نواة [8]
لها، ومحاطة بغلاف من السللولوز [9] ؛ ولكنها خالية من مادة الكلوروفيل مطلقًا؛
ولذلك اختلفت الميكروبات عن النباتات العالية، فلا يمكنها تحليل غاز ثاني أكسيد
الفحم الموجود في الهواء، فهي في ذلك تشبه المواد الفطرية المركبة من عدة خلايا
نباتية، وأيضًا بعض الميكروبات يمكنها أن تركب مواد أزوتية عضوية من مثل
النوشادر، وحامض النيتريك، وهي مواد غير عضوية، فأشبهت بذلك النبات
شبهًا عظيمًا، وغايرت الحيوان بذلك، وبغلافها السللولوزي، ومنها طائفة تأخذ
الأزوت الضروري لها من الهواء.
والمواد العضوية منسوبة إلى أعضاء النبات والحيوان؛ لأنها تتولد بواسطة
هذه الأعضاء، مثال ذلك غرقئ (زلال) البيض والسكر وغيره.
وأما المواد غير العضوية، فهي التي توجد في الكون بدون واسطة النبات،
أو الحيوان كملح الطعام.
فترى من هذا أن أهم مميزات النبات عن الحيوان أنه يمكنه توليد المواد
العضوية من المواد غير العضوية مباشرة، والحيوان لا يمكنه ذلك البتة، وهو في
غذائه مضطر إلى أكل النبات، ولتوضيح ذلك نقول: يوجد في الأرض أملاح
تسمى النيترات أي يوجد فيها النيتروجين (الأزوت) والأكسجين متحدين معًا
ومع معدن من المعادن كالبوتاسيوم مثلاً، فإذا صُب عليها الماء ذابت فيه؛ فيمتصها
النبات، ويتغذى بها، ويحولها إلى مواد زلالية؛ وبذلك يمكنها أن تعيش بالاستقلال
عن سائر الأحياء الأخرى، وفي الهواء آثار من مادة النوشادر، وهي مركبة من
النيتروجين، والهيدروجين، وسهلة الذوبان في الماء؛ فتذوب في ماء المطر،
وتسقط إلى الأرض؛ فيتغذى بها النبات أيضًا، ويولد منها مواد زلالية.
وأما الحيوان فإذا منعت عنه المواد الزلالية؛ فإنه يهلك بسرعة.
وعليه فأصل الوجود الحيواني متوقف على النباتات، وهي لا شك خُلقت قبله،
ولنرجع إلى ما كنا فيه:
أشكال الميكروبات:
للميكروبات أشكال عديدة أهمها:
(1) الشكل الباسيلي: أي المستطيل، وكلمة باسيل (Bacillus) لاتينية
معناها العُصَيَّة (تصغير عصا) وذلك لأن ميكروبات هذا النوع تحاكي خطوطًا
مستطيلة صغيرة جدًّا، فإذا قيل باسيل الدرن فمعناه عصبات الدرن، أي ميكروبه
الذي شكله مستطيل.
(2) البزور (cocci) : وميكروبات هذا الشكل كنقط صغيرة، وهذه
النقط قد يلتصق بعضها بجانب بعض؛ فيتكون منها خيوط تسمى البزور السلسلية
[Streptococci] ، وقد تجمع مثنى مثل ميكروب الالتهاب الرئوي، والروماتزم
والالتهاب السحائي الوبائي، والسيلان إلا أن هذا الأخير شكل بزوره كلوي (أي
كشكل الكلية) ، وقد تجتمع رباع، وقد تجتمع على أشكال غير منتظمة؛ فيتكون
منها ما يسمى بالبزور العنقودية (Staphylococci) .
والبزور المربعة توجد عادة في القيء الناشئ من تمدد المعدة، والبزور
الأخرى السلسلية، والعنقودية توجد في الالتهابات، والخراجات، ونحو ذلك،
وأشدها خطرًا البزور السلسلية؛ فإنها هي التي تُحْدِث المرض المعروف بالحُمْرَة
وهو من الأمراض المعدية الفتاكة، وتوجد أيضًا في بعض التهابات الرحم العفنة
عقب الولادة.
(3) الشكل الحلزوني (spirilla) :وميكروبه يكون دقيقًا مستطيلاً ملتويًا
على نفسه كالثعبان، ومن هذا الشكل ميكروب الهيضة (الكوليرا) ، وهذا
الميكروب كثيرًا ما يُشاهد مقسمًا إلى قطع صغيرة كل قطعة منها تشبه الضمة، أو
الشولة؛ ولذلك يسمونه بالباسيل الضمي (Comma) ، فإذا اجتمع من هذا
الميكروب اثنان مثلاً؛ فقد يتكون منهما شكل يشبه حرف (s) .
ومن الشكل الحلزوني أيضًا ميكروب الزهري، وميكروب الحمى الراجعة.
والجمهور يعد الآن بعض الحلزونيات من نوع الحيوان لا من نوع النبات، وهو
الراجح.
وبعض الميكروبات لها أهداب (Flaglla) تتحرك بها فمثلا ًميكروب الحمى
التيفودية له أهداب عديدة تبلغ 8 أو 12، وطول كل منها نحو من ضعف طول
الميكروب نفسه، وهو يتحرك بهذه الأهداب حركة شديدة، ولضمة الكوليرا هدب
أو اثنان في طرف واحد منها، وكذلك الأشكال الأخرى قد يكون لبعضها أهداب.
ويقال: إن لميكروب الحمى الراجعة أربعة أهداب، اثنان في كل طرف، ولا
فرق بين طرف وطرف في هذه الميكروبات، بل يمكنها أن تسير بأي شاءت.
تربية الميكروبات:
والميكروبات يمكن تربيتها تربية صناعية، ويسمى ذلك في اصطلاح هذا
العلم (زرع الميكروب) أو إنباته لأنها نباتات كما قلنا.
ومن السوائل المستعملة في تربية الميكروب المرق، واللبن، والبول،
ومصل الدم.
وأما المياه الجيدة فقد شوهد أن الميكروبات لا تعيش فيها أكثر من 14 إلى
40 يومًا، وربما كان ذلك لقلة المواد المغذية لها فيها.
ويمكن تربيتها أيضًا على الجلاتين، وهو مادة تستخرج بغلي العظام،
والأنسجة الضامة كالأربطة وغيرها، وكلمة جلاتين إيطالية معناها الفالوذج،
ويمكن تسمية هذه المادة في لغتنا (بالودك) ، وهي مادة تشبه المواد الزلالية في
تركيبها، أي أنها تشتمل على النيتروجين.
ومن المواد الصلبة أيضًا التي تُرَبَّى عليها الميكروبات، ما يسمى (بالأجار
أجار) (Agar-agar) وهو صمغ يستخرج من نباتات بحرية تنبت في الشرق
كاليابان وجاوة، ومن هذه المواد أيضًا البطاطس، وغرقئ البيض المسلوق
(زلاله) .
والميكروبات المرضية تحتاج في نموها إلى حرارة مثل حرارة الإنسان تقريبًا
(أي نحو 35 - 39) ؛ ولذلك تُوضع في آلة مخصوصة تسمى آلة التفريخ
(Incubator) تكون الحرارة فيها مرتفعة إلى درجة مخصوصة.
ومن الميكروبات ما يحتاج لأكسجين خالص، أي غير متحد بشيء كما في
الهواء ليستنشقه، ومنها ما يضره الأكسجين الخالص ويمنع نموه.
وهذه المسألة من أغرب مسائل العلم الطبيعي؛ فإن الناس كانوا يظنون أن
الهواء ضروري لجميع الأحياء كضرورة الماء لها، وقد ظهر بطلان ذلك، ومن
آيات بيان القرآن للحقائق أنه قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء:
30) ولم يقل في موضع ما منه إن الهواء ضروري للأحياء
ومن الميكروبات ما يعيش في الهواء، وفي غير الهواء، وهذا النوع هو
والنوع الذي يضره الأكسجين يمكن زرعه (تربيته) في الفراغ.
ومن أمثلة ما لا ينمو في الهواء باسيل التيتانوس، وهو مرض يحدث من
دخول هذا الميكروب في أي جرح في الجسم؛ فيصاب الجسم بالتشنج الذي يبتدئ
بتقلص عضلات العنق، وبانقباض الفكين حتى لا يمكن للإنسان أن يفتح فاه؛
ولذلك يسمى هذا المرض بالعربية الكُزاز، وميكروبه يعيش في الطين، والوحل،
والأتربة المختبئة في الأماكن المظلمة، وتعريض هذا الميكروب للهواء يضعفه
ويمنع نموه، أما ميكروب الدفتيريا مثلاً (التي منها الخناق) فإنه يعيش في
الأكسجين، وفي غيره.
تولد الميكروبات:
وأشهر طرائق توالد الميكروبات اثنتان:
الطريقة الأولى:
الانقسام: - وهي عامة في الجميع - فتنقسم كل خلية منها بالعرض [10] إلى
اثنتين والاثنتان إلى أربع، وهلم جرّا.
والطريقة الثانية: تكون بتولد حبيبة (Sqore) في داخل كل ميكروب،
وبعدها ينفلق الميكروب، وتبقى هذه الحبيبة قابلة للنمو مرة أخرى.
وهذه الطريقة تحصل في بعض الأشكال الباسيلية، وفي قليل من الحلزونية.
والحبيبات تقاوم درجة الغليان (100 سنتيجراد) لمدة تختلف من خمس إلى عشر
دقائق، وهي تقاوم المواد المطهرة كالسليماني، والفنيك مقاومة كبيرة؛ ولذلك يجب
أن تكون نسبة السليماني إلى الماء أكبر من النسب المعتادة لإبادة حبيبات تلك
الميكروبات، وكذلك يجب إبقاء الشيء المراد تطهيره في المحلول مدة طويلة.
وطريقة التوالد الأولى تكثر الميكروبات، والثانية تُبْقِي النوع فقط، ولا تكثره.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مرض يصيب النساء كثيرًا، وكان القدماء يظنون أنه من آثار أمراض جهازهن التناسلي؛ فلذلك سموه بهذا الاسم المشتق من اسم الرحم باليونانية.
(2) عالم إيطالي لا يزال حيًّا.
(3) هذا التأثير قاصر على التأثير النفساني، أو العصبي فقط، والذي نعتقده أنه لا يُحْدِث مباشرة مرضًا جوهريًّا عضويًّا، فهو كتأثير وسوسة الشياطين.
(4) المنار: مادة الكون مؤلفة من عناصر كثيرة ما أحاط البشر بها علمًا، ولما اكتشفوا من سنين قليلة الراديوم بدا لهم من العلم الجديد بها ما لم يكونوا يتصورون ولا يصدقون، فرجعوا به عن كثير مما كانوا يظنون، ولا يبعد أن يكون في غير هذه الأرض من عوالم الكون ما ليس فيها، ولم أر فائدة لحرص الكاتب على إثبات أن أرواح البشر، والملائكة، والجن من مادة الكون التي يعد منها الأثير الذي عرف بالعقل لا بالحس، ولم يقل أحد من علمائنا إن هذه الأشياء ليست من مادة الكون، وكيف يقولون ذلك، وهم مجمعون على أن الوجود: واجب أزلي، وهو خالق الكون، وممكن مخلوق، وهو الكون، وأكثرهم يُعَرِّف الملائكة بأنهم أجسام نورانية، فإذا كانوا يعبرون عنهم بالأجسام فهل يمكن أن يقولوا إنهم ليسوا من الكون؟ أما النسبة بين الملائكة والجن فهي العموم والخصوص
المطلق، فكل الملائكة من الجن، وليس كل الجن من الملائكة، وليس المراد بكونهم من الجن أن كل
ما يسمى جنًّا مخلوق من مادة واحدة، بل معناه أن كل ذلك من العوالم الخفية المجتنة، وأما القرآن فإنه يثبت أن العالم قسمان: عالم الغيب، وعالم الشهادة، والملائكة، والجنة، والجحيم من عالم الغيب الذي لا نعلم من أمره إلا ما عرفنا الوحي، وإنما نعرف بكسبنا شيئًا قليلاً من أحوال عالم الشهادة، فعلينا أن نجتهد لنزداد علمًا فيما ينفعنا منه، ونكتفي من أمر عالم الغيب بما صح خبر الوحي به، ولا نقيس ما نجهل كنهه، على ما لا نعلم إلا بعض الشيء عنه.
(5) كلمة يونانية معناها المكون الأول لاعتقاد العلماء أنها أول مظهر من مظاهر الحياة في هذا العالم.
(6) كلمة يونانية معناها المتغير لتغير شكله دائمًا، كما سبق في حاشية ص68.
(7) المنار: اختار بعض كتاب العصر اسم الجراثيم للميكروبات، واستحسنا من قبل إطلاق اسم الجن أو الجنة عليها لخفائها.
(8) يرى الآن بعض العلماء أنها ليست مجردة من النواة خلافًا لما كان قد ذهب إليه الجمهور.
(9) كون هذا الغلاف من السللولوز فيه نظر، حتى أنكر ذلك الآن بعض العلماء.
(10) هذا في الميكروبات النباتية، أما الحيوانية كميكروب الزهري، والحمى الراجعة فينقسم بالطول، وفي البيئة الصالحة قد يحدث انقسام الميكروبات مرة في كل عشرين أو ثلاثين دقيقة.(18/513)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أثارة من تاريخ العرب في الأندلس
تنبئ عن هدي الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله،وجمعه بين الدين
والدنيا، ومكانة علماء الدين في عهده، وقبوله منهم الإغلاظ في وعظه، وعن
سيرة قضاة العدل وعلماء الآخرة الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يخافون
في الحق صولة حاكم، على ورع يزينه ظرف ولطف ودعابة لا مهانة فيها ولا
سخف، يتمثل ذلك كله في ترجمة الوزير الفتح بن خاقان للقاضي البلوطي في كتابه مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس. قال عفا الله عما
تكلف من إبداع، وما صنعه من أسجاع:
الفقيه القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي
رحمه الله تعالى
أية حركة في سكون، وبركة لم تكن معدة ولا تكون! ، وأية سفاهة في تحلم،
وجهامة ورع في طي تبسم، إذا جد تجرد، وإذا هزل نزل، وفي كلتا الحالتين
لم ينزل للورع عن مرقب، ولا اكتسب إثمًا، ولا احتقب، ولي قضاء الجماعة
بقرطبة أيام عبد الرحمن، وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل اشتهر، ومن جور
قبض، ومن حق رفع، ومن باطل خفض، وكان مهيبًا طيبًا صارمًا غير جبان،
ولا عاجز، ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم، واستمر
في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله، ثم ولي ابنه الحكم فأقره، وفي خلافته
توفي، بعد أن استعفى مرارًا فما أُعفي، فلم يُحفظ عليه مدة ولايته قضية جور،
ولا عدت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم كثير الأدب، متكلمًا بالحق،
متبينًا بالصدق، له كتب مؤلفة في السنة والقرآن والورع، والرد على أهل الأهواء
والبدع، وكان خطيبًا بليغًا، وشاعرًا محسنًا، وُلِد سنة ثلاث وعشرين (ومائتين)
عند ولاية المنذر بن محمد، وتوفي يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة
خمس وثلاثين وثلاثمائة.
(ومن شعره في الزهد)
كم تَصابى وقد علاك المشيب ... وتعامى عمدًا وأنت اللبيب
كيف تلهو وقد أتاك نذير ... أن يوم الحمام منك قريب
يا سفيهًا قد حان منه رحيل ... بعد ذاك الرحيل يوم عصيب
إن للموت سكرة فارتقبها ... لا يداويك إن أتتك طبيب
كم تراني [1] حتى تصير رهينًا ... ثم تأتيك دعوة فتجيب
بأمور المعاد أنت عليم ... فاعملن جاهدًا لها يا رتيب
وتذكر يومًا تحاسب فيه ... إن من يذَّكر فسوف ينيب
ليس من ساعة من الدهر إلا ... للمنايا عليك فيها رقيب
الخطابة في الاحتفالات الرسمية:
وذكر أن أول سببه في التعلق في الناصر لدين الله، ومعرفته به وزلفاه، أن
الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم، وصاحب القسطنطينية بقصر قرطبة
الاحتفال الذي اشتهر ذكره، وانبهر أمره، أحب أن تقوم الخطباء والشعراء بين
يديه تذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيأ له من توطد الخلافة، ورمي الملوك
بآمالها، وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء، ويقدمه أمام
نشيد الشعراء [2] ، فتقدم الحكم إلى أبي علي البغدادي [3] ضيف الخلافة، وأمير
الكلام، وبحر اللغة أن يقام، فقام رحمه الله، وأثنى على الله، وصلى على النبي
- صلى الله عليه وسلم - ثم انقطع، وبهت فما وصل إلا قطع، ووقف ساكتًا
متفكرًا، وتشوف لا ناسيًا ولا متذكرًا.
ارتجال العلماء الخطابة حتى في السياسة:
فلما رأى ذلك منذر بن سعيد قام بذاته، بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح
أبي علي البغدادي بكلام عجيب، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كل مجيب،
وقال: أما بعد فإن لكل حادثة مقامًا، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال،
وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأصغوا لي بأسماعكم،
وأمنوا علي بأفئدتكم، معاشر الملأ! إن من الحق أن يقال للمحق صدقت، وللمبطل
كذبت، وإن الجليل تعالى في أسمائه، وتصدق بصفاته [4] أمر كليمه موسى صلى
الله على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أن يذكر بنعم الله - عز
وجل - عندهم، وأنا أذكركم نعم الله تعالى عليكم، وتلافيه لكم، بخلافة أمير
المؤمنين التي آمنت سربكم، ورفعت خوفكم، وكنتم قليلاً فكثركم، ومستضعفين
فقواكم، ومستذلين فنصركم، ولاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت
الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم تشعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة
البعير، مع ضيق الحال ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء
، وانتقلتم بيمن سياسته إلى كنف العافية بعد استيطان البلاء، ناشدتكم يا معشر الملأ
ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها، والسبل مخوفة فأمَّنها، والأموال منتهبة فأحرزها
وحصنها؟ ألم تكن البلاد خرابًا فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها
ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها
بإمامته، حتى أذهب عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يدًا على عدوكم،
بطوية خالصة، وبصيرة ثابتة وافرة، فقد فتح الله عليكم أبواب البركات،
وتواترت عليكم أسباب الفتوحات، وصارت وفود الروم وافدة عليكم، وآمال
الأقصين والأدنين إليكم، يأتون من كل فج عميق، وبلد سحيق، ولا أحد يحيل
بينه وبينكم ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده
، وتلك أسباب ظاهرة تدل على أمور باطنة، دليلها قائم، وغيبها عالم {وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور:
55) وليس في تصديق ما وعد الله - عز وجل - ارتياب، ولكل نبأ مستقر،
ولكل أجل كتاب، فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه، وسلوه المزيد من نعمائه،
فقد أصبحتم بين خلافة أمير المؤمنين أيده الله تعالى بالعصمة والسداد، وألهمه
بخالص التوفيق سبيل الرشاد، فاستعينوا على صلاح أحوالكم، بالمناصحة لإمامكم،
والتزام الطاعة لخليفتكم، وابن عم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فإن من نزع
يده من طاعة، وسعى في فرقة الجماعة، وفر من الديانة، فقد خسر الدنيا والآخرة،
ألا ذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من
ضروب المشركين، وصنوف الملحدين، الساعين في شق عصاكم، وتفريق ملتكم،
وهتك حرمتكم، وتوهين دعوة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع
النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا والحمد لله رب العالمين وأنشد يقول:
مقال كحد السيف وسط المحافل ... فرقت به ما بين حق وباطل
بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعد عند نقش الأناصل
فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ... ولا طار عقلي يوم تلك البلابل
بخير إمام كان أو هو كائن ... لمقتبل أو في العصور الأوائل
وقد حدَّقت نحوي عيونٌ أخالها ... كمثل سهام أثبتت في المقاتل
ترى الناس أفواجًا يؤمون داره ... وكلهم ما بين راضٍ وآمل
وفود مليك الروم وسط فنائه ... مخافة بأس أو رجاء لسائل
فعش سالمًا أقصى حياة معمر ... فأنت غياث كل حافٍ وناعل
فقال العلج: هذا والله كبش الدولة، وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه،
وثبات جنانه، وبلاغة لسانه.
خطبة ارتجالية قربت عالمًا من الخليفة:
وكان الخليفة الناصر لدين الله أشد تعجبًا منه، وأقبل على ابنه الحكم، ولم
يكن يثبت معرفة عينه، وقد سمع باسمه، فقال الحكم: هذا منذر بن سعيد البلوطي،
فقال والله لقد أحسن ما أنشأ [5] ، ولئن أبقاني الله تعالى لأرفعن من ذكره، فضع
يدك يا حاكم واستخلصه وذكرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه، فلما انتهى
الناصر إلى الجامع بالزهراء ولاه الصلاة فيها والخطبة، ثم توفي محمد بن عيسى
القاضي فولاه قضاء الجماعة بقرطبة وأقره على الصلاة بالزهراء.
جهر القاضي بإنكار إسراف الخليفة:
وكان الخليفة الناصر كَلِفًا بعمارة الأرض، وإقامة معاملها، وتكثير مياهها،
واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه، وعزة سلطانه
وعلو همته، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى ابتناء مدينة الزهراء الشائع ذكره،
الذائع خبره، المنتشر في الأرض أثره، واستفرغ وسعه في تنجيدها، وإتقان
قصورها، وزخرفة مصانعها؛ فانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد
الجامع الذي اتخذه، فأراد القاضي منذر بن سعيد رحمه الله وجه الله في أن يعظه،
ويُقَرِّعه في التأنيب، ويقص منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطابة،
والتذكير بالإنابة.
فابتدأ أول خطبته بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ
مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 128-135) ووصل ذلك بكلام جزل، وقول
فصل، جاش به صدره، وقذف به على لسانه بحره، وأفضى في ذلك إلى ذم
المشيد والاستغراق في زخرفته، والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقًا،
وتلا في ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم
مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ} (التوبة: 109-110) وأتى بما شاكل المعنى من التخويف للموت،
والتحذير منه، والدعاء إلى الله - عز وجل - في الزهد في هذه الدنيا الفانية،
والحض على اعتزالها، والتبيين لظاهر معانيها، والترغيب في الآخرة وباقيها،
والتقصير عن طلب الدنيا، ونهي النفس عن اتباع الشهوات، وتلا من القرآن
العظيم ما يوافقه، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله ويطابقه، حتى بكى الناس
وخشعوا، وضجوا وتضرعوا، وأعلنوا الدعاء إلى الله تعالى.
فعلم الخليفة أنه المقصود به، والمتعمد بسببه، فاستجدى وبكى، وندم على
ما سلف منه من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، واستعصمه برحمته: إلا أنه
وجد على منذر بن سعيد للفظه الذي قرعه به، فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد
انصرافه، وقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وأسرف في ترويعي، وأفرط
في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي وصيانتي عن توبيخه، ثم استشاط،
وأقسم أن لا يصلي خلفه الجمعة أبدًا، فقال له الحكم: وما الذي يمنعك عن عزل
منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فزجره وانتهره، وقال: أمثل منذر بن سعيد في
فضله وورعه وعلمه وحلمه - لا أمّ لك - يُعْزَل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد،
سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله تعالى أن لا أجعل
بيني وبينه شفيعًا في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد؛ ولكنه وقذ نفسي وكاد
يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس
حياته وحياتنا فما أظننا نعتاض منه أبدًا.
وعذله قوم من إخوانه لتكنيته لرجل كان يسبه فقال:
لا تعجبوا من أنني كنيته ... من بعد ما قد سبَّنا وهجانا
فالله قد كنى أبا لهب وما ... كناه إلا خزية وهوانا
ومن قوله في الزهد:
ثلاث وستون قد حزتها ... فماذا تؤمل أن تنتظر
وحل عليك نذير المشيب ... فما ترعوي بل وما تزدجر
تمر لياليك مرًّا حثيثًا ... وأنت على ما أرى مستمر
فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر ما اعتضت خيرًا بشر
فما لك لا تستعد إذًا ... لدار المقام ودار المقر
أترغب في فجأة المنون؟ ... وتعلم أن ليس منها وزر
فإما إلى جنة أزلفت ... وإما إلى سقر يستعر
استسقاء القاضي بالناس مع الخليفة:
وقحط الناس في بعض السنين آخر مدة الناصر لدين الله أمير المؤمنين، فأمر
القاضي منذر بن سعيد بالبروز إلى الاستسقاء، فتأهب لذلك، وصام بين يديه ثلاثة
أيام تنفلاً، وإنابة، واستجداء، ورهبة، واجتمع الناس له في مصلى بقرطبة
بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانع
القصر المشرفة ليشرك الناس في الدعاء إلى الله تعالى والضراعة - فلما سرح
طرفه في ملاء الناس، وقد شخصوا إليه بأبصارهم قال:
يا أيها الناس - وكررها مشيرًا بيده في نواحيهم - ثم قال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 54) ، {أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (فاطر: 15-17) فضج الناس بالدعاء، وارتفعت الأصوات بالاستغفار،
والتضرع إلى الله تعالى بالسؤال والرغبة في إرسال الغيث، ووصل الحال [6] ،
ومضى على تمام خطبته، فأفزع النفوس بوعظه، وانبعث الإخلاص بتذكيره، فما
أتم خطبته حتى بللهم الغيث.
وذكروا أن الخليفة الناصر لدين الله جاء غداة ذلك اليوم، فحركه للخروج
وذكر له عزمه عليه، والسابقون متسابقون إلى المصلى، فقال للرسول - وكان من
خواص حلفاء الصفاء إليه-: ياليت شعري! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال
له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا، فإنه لمنتبذ حائر، متفرد بنفسه لابس
أخشن الثياب، مفترش التراب، قد رمى به على رأسه وعلى لحيته، وبكى
واعترف بذنوبه وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية وأنت أحكم
الحاكمين لن يفوتك شيء مني؟ [7] قال: فتهلل وجه القاضي منذر بن سعيد عندما
سمع من قوله، وقال يا غلام! احمل الممطر [8] معك فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا
خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء، وكان كما قال فلم ننصرف إلا عن
السقيا.
استقلال القضاء وإيثار القاضي مصلحة اليتيم على رغبة الخليفة:
قال: وكان القاضي منذر بن سعيد من ذوي الصلابة في أحكامه، والمهابة
في أقضيته، وقوة القلب في القيام بالحق في جميع ما يجري على يديه، لا يهاب
في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه، ومن مشهور ما جرى لفه في ذلك قصته
المشهورة في أيتام أخي نجدة، حدثني بها جماعة من أهل العلم والرواية، وهي أن
الخليفة الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد احتاج إلى شراء دار بقرطبة لحظية
من نسائه تكرم عليه، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة كانت
بقرب النشارين في الربض الشرقي منفصلة عن دور يتصل بها حمام العامة له غلة
واسعة، وكان أولاد زكريا أيتامًا في حجر القاضي، فأرسل الخليفة له من قيمتها
بعدد ما طابت به نفسه، وأرسل ناسًا وأمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم،
فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي، إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته،
فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار، فقال لرسوله: البيع على
الأيتام لا يصح إلا لوجوه، منها الحاجة ومنها الوهي الشديد [9] ، ومنها الغبطة10]
أما الحاجة فلا حاجة بهؤلاء الأيتام إلى البيع، وأما الوهي فليس فيها، وأما
الغبطة فهذا مكانها؛ فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما يستبين به الغبطة، أمرت
وصيهم بالبيع، وإلا فلا، فنقل جوابه هذا إلى الخليفة، فأظهر الزهد في شراء
الدار طمعًا أن تتراخى رغبته فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق
الأولاد سورتها، فأمر وصي الأيتام بنقض الدار، وبيع أنقاضها ففعل ذلك، وباع
الأنقاض، وكانت لها قيمة بأكثر مما قُومت به للسلطان، فاتصل الخبر به فعز
عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على
القاضي أنه أمر بذلك، فأرسل عند ذلك للقاضي وقال له: أنت أمرت بنقض دار
أخي نجدة؟ فقال له: نعم، قال له: وما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت فيها بقول الله
تبارك وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا
وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف: 79) فمقوّمك لم يقدرها إلا
بكذا؛ وبذلك تعلق وهمك، فقد نص في أنقاضها أكثر من ذلك [11] ، وبقيت الدار،
والحمَّام فضلاً، ونظر الله تعالى للأيتام، فصبر الخليفة على ما أتى من ذلك، وقال:
نحن أول من انقاد إلى الحق فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرًا.
الوقار والديانة، مع الظرف والدعابة:
قال: وكان على متانته وجزالته حسن الخلق كثير الدعابة، فربما ساء ظن
من لا يعرفه حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار عليه ثورة الأسد الضاري.
فمن ذلك ما حَدَّث به سعيد ابنه قال: قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم
مع أبينا للإفطار بداره البرانية، فإذا بسائل يقول: يا أهل هذه الدار الصالحين
أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة هذه الليلة، وأكثر من ذلك
فقال القاضي: إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا واحد.
وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني أنه ركب يومًا لحيازة أرض محبسة في
ركب من وجوه الفقهاء وأهل العدالة، فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي، قال: فسِرنا نقفوه
وهو أمامنا، وأمامه يحملون خرائطه [12] وعلى ذويه السكينة والوقار، وكانت
القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشى [13] فعرض له في بعض الطريق كلاب مستوحمة،
وهي تلعق منها وتدور حوله، فوقف وصرف وجهه إلينا وقال: ترون يا
أصحابنا ما أبر الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه، ونحن لا نفعل ذلك! ! ثم لوى
عنان دابته وقد أضحكنا، وبقينا متعجبين من هزله.
وحضر عند الحكم المستنصر بالله يومًا في خلوة له في بستان الزهراء على
بركة ماء طافحة، وسط روضة نافحة، في يوم شديد الوهج، وذلك إثر منصرفه
من صلاة الجمعة فشكا إلى الخليفة من وهج الحر الجهد، وبث منه ما تجاوز الحد
فأمره بخلع ثيابه، والتخفف من جسمه، ففعل ولم يطفئ ذلك ما به، فقال له:
الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك، ولم يكن مع
الخليفة إلا الحاجب جعفر الخادم الصقلي أمينه، والحكم لا رابع لهم؛ فكأنه استحيا
من ذلك وانقبض عنه وقارًا، وأقصر عنه إقصارا، فأمر الخليفة حاجبه جعفرًا
بسبقه بالنزول في الصهريج، وكان يحسن السباحة، فجعل يجول يمينًا وشمالاً،
فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة، فقام وألقى بنفسه خلف جعفر، ولاذ بالقعود
في درج الصهريج، وتدرج فيه بعض تدريج، ولم ينبسط في السباحة، وجعفر
يمر مصعدًا ومصوبًا، فدسه الحكم على القاضي، وحمله على مساجلته في العوم -
فهو يعجزه في إخلاده إلى القعود، ويعاتبه بإلقاء الماء عليه، والإرشاد بالجذب إليه
وهو لا ينبعث معه، ولا يفارق موضعه، إلى أن كلمه الحكم، وقال له: ما لك لا
تساعد الحاجب في فعله وتقفز معه، وتتقيل صنعه، فمن أجلك نزل، وبسببك تبذل؟
فقال له: يا سيدي يا أمير المؤمنين الحاجب - سلمه الله - لا هوجل [14] معه،
وأنا بهذا الهوجل الذي معي يعلقني، ويمنعني من أن أجول معه مجاله، فاستفرغ
الحكم ضحكًا من نادرته، ولطيف تعريضه لجعفر، وخجل جعفر من قوله وسبه
سب الأشراف، وخرجا من الماء، وأمر لهما الخليفة بخلع ووصلهما بصلات سنية
تشاكل كل واحد منهما.
وذكر أن الخليفة الحكم قال له يومًا: لقد بلغني أنك لا تجتهد للأيتام، وأنك
تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم قال: نعم وإن أمكنهم …… أمهاتهم لم يعفوا
عنهن؟ قال: وكيف تقدم مثل هؤلاء، قال: لست أجد غيرهم؛ ولكن أحلني على
اللؤلؤي، وأبي إبراهيم، ومثل هؤلاء فإن أبوا جبرتهم بالسوط والسجن ثم لا
تسمع إلا خيرًا.
إنكار القاضي على الخليفة، وإنصاف الناصر وقوة دينه:
ومن أخبار منذر بن سعيد المحفوظة مع الخليفة عبد الرحمن في إنكاره عليه
الإسراف في البناء - أن عبد الرحمن كان قد اتخذ إلى السطح العتبة الصغرى التي
كانت مائلة إلى الصرح الممرد المعروف بقصر الزهراء المشهور بأن له قرامد
ذهب، وفضة أنفق عليها مالاً جسيمًا، وجعل سقفها صفراء فاقعة، إلى بيضاء
ناصعة، تسلب الأبصار بمطارح أنوارها المشعشعة، وجعل فيها إثر إتمامها لأهل
مملكته مشهدًا، فقال لقرابته ومن حضره من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرًا عليهم
بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة: هل رأيتم قبلي أو سمعتم من
فعل مثل فعلي هذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، إنك لأوحد في
شأنك كله، ولا سبقك في مبتدعاتك هذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره، فأبهجه
قولهم.
وبينا هو كذلك سارٌّ ضاحك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد واجمًا ناكسًا
ذقنه، فلما أخذ محله قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف واقتداره على إبداعه،
فجرت دموع القاضي تنحدر على لحيته، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت
أن الشيطان - أخزاه الله - يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تُمَكِّنه من قيادك هذا
التمكين، مع ما آتاك الله، وفَضَّلَك على العالمين، حتى أنزلك منازل الكافرين! !
قال: فاقشعر عبد الرحمن من قوله، وقال: انظر ما تقول كيف أنزلني منازلهم؟
قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا
لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً
وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} (الزخرف: 33-34) قال: فوجم الخليفة، ونكس رأسه
مليًّا، ودموعه تجري على لحيته خشوعًا لله تبارك، وندمًا إليه، ثم أقبل على منذر،
وقال له: جزاك الله تعالى يا قاضي خيرًا عنا، وعن المسلمين والدين، وكثَّر في
الناس أمثالك، فالذي قلت هو والله الحق وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله
تعالى، وأمر بنقض سقف القبة وأعاد قرامدها ترابًا. اهـ.
__________
(1) كذا وربما كان الأصل " كم توانى ".
(2) يُعْلَم من هذا أن عادتهم في الاحتفالات كعادة أهل هذا الزمان في الخطابة، وكان منظم هذا الاحتفال الحكم ولي عهد الخليفة.
(3) فيه أن وحدة الأمة ما كانت تمنع في ذلك الزمن تقديم الغريب عن البلاد عن أمثاله من أهلها إذا كان أهلاً، وإن كان تابعًا لحكومة أخرى، ولا يكون مثل هذا في مصر الآن، لأن التعصب للبلاد أضعف وحدة الأمة.
(4) لعل الأصل: وتقدس بصفاته.
(5) لعل الأصل: أحسن ما شاء.
(6) لعل الأصل: ووصل الكلام.
(7) إنما لم يقل وأنت أرحم الراحمين مع كونه المناسب لمقام الاستسقاء، لأن مراده أتعذب الرعية بذنبي إذ أنا حاكمهم، وأنت الحاكم علي وعليهم، لو شئت أن تعاقبني على ذنوبي فيهم لفعلت، وإذ عاملتني بالرحمة والفضل فالرعية أولى بذلك، هذا مراده قطعًا.
(8) الممطر: الثوب الذي يتقى به المطر.
(9) الضعف كأن تكون الدار متداعية.
(10) الغبطة تتحقق بما فيه مصلحة الأيتام، وهو الزيادة على ثمن المثل.
(11) يريد أن الذي قوّم الدار للخليفة حاباه، وهو يتوهم أنه قوّمها بما تساوي، مع أن ثمن أنقاضها وحده قد زاد على ذلك، وهو يريد أكثر مما تساوي لمصلحة الأيتام.
(12) لعل اصله: وأمامه خدمه إلخ، والخرائط: أوعية من الجلد، أو غيره لها عرى تشد، وتربط على ما يوضع فيه من المتاع، واحدها خريطة.
(13) أي كانوا يتقدمون الناس فلا يركب ولا يمشي معهم أحد مساويًا لهم.
(14) الهوجل: الأنجر الثقيل الذي ترسى به السفينة، وفي العبارة من حسن الاستعارة، ونزاهة التعريض ما ترى، هذا وقد خجل منه الحاجب، وغضب حتى أنه لم يملك لسانه أن سب القاضي والأشراف على مسمع من الخليفة! وناهيك بهذا برهانًا على نزاهة حاشية الخليفة، وبعدهم عن المجون والخلاعة، وعلى دقة ذلك الأعجمي الأصل في فهم اللغة العربية.(18/537)
الكاتب: أحمد كمال
__________
المقارنة بين
اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*]
(4)
الكلمات المبدوءة بهذا الحرف، وهو نسر يقرأ ألفًا، أو كسرة، أو همزة، أو
واوًا، وهذا الأخير نادر.
أبَّ - أبًّا وأبابَةً وأبابًا: اشتاق إلى الشيء، قالوا: (أبَّ لُبِّي لمئك) أي
اشتاق قلبي إلى رؤيتك (قرطاس رند لوحة 12 سطر 22) ومنها
أبابة - قصد.
أبخَ - يقابلها في العربية عبق؛ لأن الخاء تنوب عن القاف والكاف،
فيقولون خَبٌّ، وكَبٌّ لكف اليد: عبق المكان بالطيب انتشرت رائحته فيه، فيقال
في المصرية (أبَخَ شمَّاماتها) أي عبق وانتشر كل ما يشم من الروائح الطيبة،
عبق به: لزق، وقالوا: (عبق المعبود منتو في حذتك) أي لحمك، و (عبقت
المشاة بالمشاة) أي التصقت والتحمت (عن حجر الملك يعنخي الزنجي) وعبق
بالمكان: أقام، نحو قولهم: (عبق الأرضان في عيشة الملك السليمة) أي بقي
القُطران وهما الوجه القبلي والبحري في عيشة راضية.
أبَخَ - يقابلها في العربية أبَقَ: هرب، قالوا: (تأْبَقُ مُطَوَّل الرِّتْوَة) أي تأبق
حال كونك مطولاً الخطوة في سيرك (عن نقوش الملك تيتي) .
آبدة - ج أوابد، وهي الطير المقيمة بأرض شتاها وصيفها، يكثر ذكرها في
النصوص المصرية، ولا سيما فيما كان على صفائح القبور، ومنه قولهم (آبدة
دئيصة) أي سمينة، و (آبدة مائية) والأثريون يصرفونها إلى جماعة الطير، إذ
وجد بجانبها رسم طيور متنوعة اتباعًا لقاعدة الخط عندهم؛ لأن كل اسم جنس
يرسم بعده بعض أنواعه للدلالة عليه، مثال ذلك كلمة حَمْس - وأصلها في
المصرية حمت؛ لأن التاء تنوب عن السين - واحدته خَمْسة اسم لدواب البحر،
فتراهم يرسمون بعده ثلاث سمكات متنوعة، كما أنهم يرسمون بعد كلمة " أعضاء "
بعض أجزاء الجسم، وبعد كلمة (كراع) - وهو السلاح في اللغتين - بعض أنواع
الأسلحة، وهلم جرّا.
آبي - قيل عنه في كتب اللغة العربية إنه اسم للأسد، وصوابه النمر؛
لوجود صورة هذا الحيوان مرسومة بعد الكلمة في النصوص المصرية.
أتا - عتا عتوًّا: استكبر وجاوز الحد.
أتَّ - وبالعربية أثَّ أثاثًا وأثوثًا وأثاثة: التفّ، وكثر، ويقال لها بالقبطية
أتا.
أتف - وبالعربية عطاف ج عُطُف وأعطفة: السيف (عن العدد 1377)
من الجزء الأول من كتاب الجغرافية) .
أجاب - وبالقبطية أجب - وجب وجوبًا: سقط ومات، وأصل الوجوب
السقوط والوقوع، والوجبة السقطة.
أجاب - إجابة وجاب جوابًا: رد الجواب (عن لوح قبر موجود في متحف
مدينة مِتّرنيخ) .
أجر - وأجراء وأجرية واحده جرو - وهو ولد الكلب.
إجَّانة - ج أجاجين هو مركن من خشب، ومنه قولهم (إجانة ماء تخمد اللوب)
أي الظمأ (عن قرطاس بريس اللوحة 1 والسطر 5) .
آخ أش - مقلوبة ومحرفة عن شيء بالعربية (عن قاموس بروكش الجزء
11 والصفحة 117 والجزء الخامس الصفحة 12) وفي الغالب يقولون: خ - أو
- ش بالإمالة بمعنى شيء.
آخَ - وفي العربية آق عليهم أوْقًا: أتاهم بالشؤم، فيقولون مَعَتْ (أي العدل)
يؤخ عليك لو مشى عن سأوه [1] والمعنى: لو حاد العدل عن وطنه لآق عليك، أي
لأتاك بالشؤم (عن شكاية الفلاح الصحيفة 92) .
أخط - وفي العربية خطا خطوًا واختطى (عن قرطاس في متحف فينا) .
أخط - ويقابله في العربية خطَّ خطًّا: رسم، وخط: كتب، ويقال بالمصرية
خَطَّ أيضًا، وهو الأكثر في آثارهم [2] .
أخُف - قفية: طعام، ومثلها كفية ج كفى.
أدأبهُ - لغة في أتابهُ: أغضبه (عن ورقة بريس اللوحة 6 والسطر
1) .
أدَّ - الرجل في الأرض أدًّا: ذهب وسار سيرًا شديدًا (عن رحلة
أسنوهيت الصحيفة 44) .
أذا - إيذاء: أضر (عن ورقة بريس اللوحة 6 والسطر 1) .
أرُ - ألُو: البعيدة المرعى، ويقال إنها عين واحد العِلّيين، وهو اسم لأعلى
الجنة، وفي المصرية تُكتب بالراء وباللام (عن نقوش هرم أناس السطر
588) .
أرجا - أرجاء جمع رجا، وهو الجانب والناحية، وبالقبطية أفريجو
(راجع قاموس بيّره الصحيفة 3 نقلاً عن كتاب بريس) .
أرض - ج أرضون وأروض وأراضٍ
أرّف - (وتكتب عند المصريين بالعين أيضًا؛ لأن الألف عندهم تنوب عن
العين) عَرّف يقال أرَّف الحبل أي عقده، ويقرب منها في العربية أرَّب العقدة:
شدها لأن الباء تنوب عن الفاء، ويقابلها في القبطية أَرْفٌ أرب (عن نقوش
منتوحُيتِب.
أراق - وريَّق: أسال وأهرق.
أسد - ويقابلها في العربية زأد - فهي مقلوبة وسينها زاي - زأدًا وزؤدًا:
أفزع (عن نقوش هرم أناس السطر 379) ، ويقابلها في اللغتين شَئف وجأف:
خاف، هاد في الشيء هيدا أفزع وأكرب، وحذر: أرهب كلها ألفاظ عربية
ومصرية.
أسْ - هي مقلوب ساء سأوا: عدا، وسأي يسأي سأيًا: عدا في المشي
(عن نقوش هرم بيبي السطر 296) .
أسَّ - أسًّا: سلح (عن قرطاس برلين الطبي 19، 2) وسلَحَ أيضًا كلمة
مصرية وعربية كألفاظ أخرى بمعناها.
أَسِىٌّ -: خرثي الدار أي متاعه (عن نقوش إدفو) .
آشى - أوشى المكان: ظهر فيه وشيٌ من النبات.
أشى - وبالعربية عشا وعسى الليل: أظلم وأغشى يغشي: أظلم.
أصِبَ - وبالعربية عَصِبَ عصْبًا: احمرّ في النار (عن كتاب الموتى) .
أطاب - للضيف إطابة: قدم له طعامًا طيبًا (قاموس ليفي الجزء 8 ص12) .
إطلٌ - وإطالٌ. وأيطل: الخاصرة، الجنب، قال امرؤ القيس في وصف ناقته
لها أيطلا ظبي وساقا نعامة
أفا - مقصور، وبالعربية فاء فيئًا: أخذ الغنيمة، واغتنمها (عن جريدة
السيتشرفت لسنة 1872 ص25) .
أفت - أبت الشمس، وآفت لغة في غابت (عن قاموس بروكش الجزء 1 ص
7)
أف - أوفًا: أضر وأفسد.
أفيَه - كثير الأكل، وبالعربية فَيِّه وفُيَّهَةٌ، والفوه النهم الذي لا يشبع،
واستفاه الرجل اشتد أكله بعد قلة يستفيه في الطعام والشراب (راجع قرطاس بريس
اللوح 1ص8) .
أَقح - وبالعربية أوكح: حفر (عن قرطاس إيرس الطبي عدد 2) .
اكهى - حجر لا صدع فيه.
أقس - عكس، قُلبت عينه همزة، وفُخمت كافه فصارت قافًا، يقال بالعربية
عكس البعير إذا شد حبلاً في خطمه إلى رسغ يده لينزل وعكس الخيل أقذعها (عن تابوت سيتي المحفوظ بمتحف لندرة) .
أقّ - عجّ، يقال عجت المرأة صبيها عجًّا لغة في عجته عجوًا، أي أسقته
اللبن، ورسم بعد الكلمة امرأة تُرْضِع ابنها.
أكَنَّ - الشيء وكنه كنًّا وكنُونا وكننه: ستره في كنه وغطاه وأخفاه وصانه،
واكتنى: استتر (عن نقوش الملك بيبي الأول السطر 146) ومنها الكِنّ، وجمعه
أكنان وأكنة.
أكَّ -: ضاق صدره، ومنه قولهم (أك لبُّه وخسّ حُزَّه) أي ضاق صدره،
ونقص لحمه (عن ورقة بريس اللوحة 8 والسطر 12)
ألب - ولبَّ لبًّا أقام (عن ص43 من رحلة سنوهيت لماسبرو) .
ألَّقَ - وتألق: لمع، وفي المصرية تكتب بالراء أيضًا (عن جريدة مجموعة
أعمال العاديات جزء 5 صحيفة 94) .
ألكِةً - وبالقبطية أليكو، وبالعربية عُلَّيْقٌ عُلَّيقَى: نبت يتعلق بالشجر
(عن القرطاس الثاني السحري) .
ألَّ - ألَّة ألاًّ: طعنه بالألة أي الحربة، عن قرطاس أسوريس بمتحف فينا)
أمَأ- (بين القوم) : أفسد، مقلوب مأى مأيًا ومأوًا (واوي يائي بالعربية)
(عن رحلة سنوهيت السطر 1 من الصفحة 2 لماسبرو) .
أمرَّ - الشيء: شده بالمِرار، وهو الحبل، وبالقبطية مُوز.
أماه - ماه الشيء وأماهه: خلطه، كلمة تُذْكَر كثيرًا في قراطيس الطب
القديمة فيقولون: (يُنْخَز ويماه في المروخ) أي يصحن في الهاون [3] .
أمِي - عمي يعمى: ذهب بصره كله من عينيه، قلبت العين همزة.
أنأى - إناء أبعد (عن القرطاس السحري السطر 7 من ظهره) .
أنأى ونأى وانتأى - حفر أو عمل النؤيا أي الحفرة (عن نقوش مقبرة في
الكاب) .
أهَد - وفي العربية هود تهويدًا: رجع الصوت في لين، وغنّى (عن تتمة
قاموس ليفي ج2) .
أهَد - وفي العربية هدَّ البناء هدًّا وهدودًا هدمه: ويقال هدته المصيبة أي
أوهنت ركنه (عن كتاب نافيل في إبادة الجنس البشري بالشمس) .
أهط - وهط وفي العربية وَهط: الأرض المطمئنة التي تزرع (عن نقوش
معبد دندرة)
أهَّ - أهًّا وآهَةً: توجّع (عن نقوش دندرة وقرطاس بريس - السطر 1 من
اللوح 15) .
أوقم - وقم الرجل ووكمه: قهره وأذله، وحزنه أشد الحزن فهو موقوم،
ووكم له: اغتم وجزع (عن جريدة السيشر فت لسنة 1878 الصفحة 49) ومنه
قولهم (أقوال موكمة لاختلال سخت) [4]
آوى (المنزل أو إلى المنزل) وغيره أويًّا نزل به، ولجأ إليه، وتأوّى اجتمع عن
قرطاس برلين اللوح 15 / 16) .
إي حرف جواب بمعنى نعم (يقع قبل القَسَم في العربية) ويقابله في اللغة العامية
(إيوَ) .
أيَا - تأيّا (المتعدي بعلى) : انصرف في تُؤَدة (عن نقوش الملك مر نرع
السطر
748) .
أيِّل - وأيَّلٌ: الأيِّل (وبالقبطية إيول) ، وهو الحيوان المعروف الذي يشبه الوَعْل
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) مختارات من معجم أحمد كمال بك الأثري المصري للغة المصرية القديمة فيما وافقت فيه اللغة العربية بالنص، أو بضرب من القلب والإبدال، فالكلمة الأولى من هذه الكلم المرتبة على حروف المعجم هي المستعملة في النصوص المصرية القديمة مما هو عربي، فإن كان فيه قلب أو إبدال يذكر بعده الأصل العربي، وما بعد النقطتين هكذا: تفسير لما قبلهما.
(1) المنار: في هذه الجملة المصرية ثلاث كلمات عربية، وهي يؤخ المحرف عن يؤق ومشى والسأو وهو الوطن.
(2) علم من هذه الأمثلة، ومما سيأتي أن معتل العين أو اللام، وكذا الفاء، أو المضاعف بالعربية يقلب حرف العلة، أو المضاعفة فيه بالمصرية همزة، وينقل إلى الفاء إنْ لم يكن هو الفاء.
(3) نحز الشيء دقه بالمنحاز، وهو الهاون، والمروخ (كصبور) ما يمرخ به البدن من دهن وغيره.
(4) سخت معبودة من معبوداتهم.(18/548)
الكاتب: القاسمي
__________
الخطب الدينية
اشتغالنا بانتقادها وإصلاحها:
قد كان مما وفقنا الله تعالى له في أثناء الاشتغال بطلب العلم انتقاد خطباء
المساجد، ودواوينهم التي يحفظون خطبها، ويقرءونها على المنابر غيبًا، أو في
الأوراق المخطوطة أو المطبوعة؛ فإن كل هذه الخطب أو جلها في ذم الدنيا،
والتزهيد فيها، والتذكير بالموت، ومدح الشهور والمواسم حتى المبتدعة منها،
وأكثر ما فيها من الأحاديث ضعيف أو موضوع، وقد عقدت في كتاب (الحكمة
الشرعية) الذي ألفته في ذلك العهد فصلاً طويلاً في الخطابة، بينت فيه حكمتها،
ومنفعتها، وكيفية تحصيل ملكة الارتجال فيها، وما ينبغي أن تشتمل عليه الخطب
الدينية في المساجد، وأنشأت عدة خطب خرجت فيها من المضيق الذي حبس
خطباؤنا فيه أنفسهم، واخترت لأحد الخطباء أحاديث صحيحة وحسنة لديوان أنشأه
عزوتها إلى مخرجيها، فكان أول خطيب سمعناه في بلادنا يلتزم الأحاديث
الصحيحة والحسنة في خطبه معزوة إلى مخرجيها، على أن التزام الأحاديث في
آخر الخطبة غير واجب ولا مسنون، بل هو عادة ينبغي تركها أحيانًا لئلا يظن أنها
مشروعة فيكون الالتزام من البدع التي سماها صاحب الاعتصام البدع الإضافية.
ثم إننا بعد إنشاء المنار نوهنا فيه بهذه المسألة مرارًا، واتفق لنا أن خطبنا في
بعض المساجد خطبًا مرتجلة، مناسبة لحال عصرنا، موافقة لما كان عليه سلفنا
الصالح، فكان هذا وذلك باعثًا لكثير من محبي الإصلاح على مطالبتنا بإنشاء
خطب إصلاحية تُنْشَر في المنار، عسى أن يقتبسها، أو يقتبس منها الخطباء، فلم
نجبهم إلى ذلك؛ لاعتقادنا أن الغرض منه لا يتم إلا إذا جاء من جانب السلطة
الرسمية.
مثال ذلك أننا أنشأنا خطبة في الاقتصاد في المال، وقضاء الدين اقترحها
علينا الشيخ علي يوسف، وأخذها منا، ثم علمنا أنها نُشِرَت في القطر بأمر
الحكومة بعد استحسان شيخ الأزهر، وإجازته.
وكنا قد مهدنا السبيل إلى مثل ذلك في ديوان الأوقاف؛ ولكن علمنا أنه لا ينفذ
إلا إذا اقتنع به الأمير، وأحب تنفيذه، فكنا ننتظر الفرصة لعرض ذلك عليه،
وإقناعه به ولم تسنح لنا، ثم شرعنا فيما هو خير من ذلك إصلاحًا، وهو مدرسة
الدعوة والإرشاد التي يتربى فيها الخطباء المرتجلون، ولا نزال نعاني في هذه
السبيل من تمهيد العقبات، ومكافحة الحساد، وأعداء الإصلاح، ما نرجو أن
ينتصر فيه الحق على الباطل، والإخلاص على النفاق.
***
ديوان خطب المصلح القاسمي
اطلعنا في هذه الأيام على ديوان خطب عالم الشام صديقنا المرحوم الشيخ
جمال الدين القاسمي تغمده الله برحمته، وكان أُهْدِيَ إلينا مطبوعًا منذ أعوام، فلم
يتح لنا التأمل فيه، فرأيناه أفضل ما نُشِر من دواوين الخطب، بخلوه من البدع
والخرافات، ومن الأحاديث الواهية والموضوعات، واشتماله على الموعظة
الحسنة التي يحتاج الناس إليها في جميع الأوقات، ولو كان للخطابة والتأليف حرية
في بلاد الشام أيام إنشائه رحمه الله تعالى لتلك الخطب لَأودعها كثيرًا من المسائل
الاجتماعية والأدبية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر، وقد رأينا أن نقتبس
بعض مقدمات هذا الديوان النفيس وخطبه فيما يلي فهاكها بنصها:
المقدمة الأولى في الهدي النبوي في الخطبة:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد في هديه
صلى الله عليه وسلم في خطبه: كان صلوات الله عليه إذا خطب احمرت عيناه،
وعلا صوته، واشتد غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش، وكان يقصر الخطبة،
ويطيل الصلاة، ويكثر ويقصد الكلمات الجوامع، وكان يعلم أصحابه - في خطبته-
قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي،
وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم
بالصدقة، وحضهم عليها، وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا
اجتمعوا خرج إليهم، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس
بوجهه وسلم عليهم، ثم يجلس ويأخذ بلال رضي الله عنه في الأذان، فإن فرغ منه
قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب، وكان في الجمعة يعتمد على عصا أو
قوس، وكان منبره صلوات الله عليه ثلاث درجات، وكان يأمر الناس بالدنو منه،
ويأمرهم بالإنصات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل إلى منزله
فصلى ركعتين، وفي رواية كان إذا صلى في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في
بيته صلى ركعتين. انتهى ملخصًا.
الثانية في سنن الخطبة:
قال الإمام النووي في الروضة في سنن الخطبة: منها أن تكون على منبر،
والسنة أن يكون المنبر على يمين الموضع الذي يصلي فيه الإمام، ويكره المنبر
الكبير الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسع الخِطة، فإن لم يكن منبر
خطب على موضع مرتفع، ومنها أن يُسَلِّم على من عند المنبر إذا انتهى إليه،
ومنها إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود أقبل على الناس بوجهه،
وسَلَّم عليهم، ومنها أن يجلس بعد السلام، ومنها أنه إذا جلس اشتغل المؤذن
بالأذان، ويديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، ومنها أن تكون الخطبة بليغة غير مؤلفة
من الكلمات المبتذلة، ولا من الكلمات الوحشية، بل قريبة من الإفهام، ومنها أن لا
يطولها، ولا يمحقها، بل تكون متوسطة، ومنها أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس
في خطبتيه، ولا يلتفت يمينًا، ولا شمالاً، ومنها أنه يُستحب أن يكون جلوسه بين
الخطبتين قد سورة الإخلاص، ومنها أن يعتمد على عصا أو نحوه، ومنها أنه
ينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين لا يشتغلون بشيء آخر، حتى يكره
الشرب للتلذذ، ولا بأس به للعطش لا للخطيب، ولا للقوم ومنها أن يأخذ في
النزول بعد الفراغ، ويأخذ المؤذن في الإقامة، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ
المقيم. اهـ.
الثالثة فيما يكره في الخطبة وفروع أخرى:
قال الإمام النووي - رحمه الله - في الروضة، يُكْرَه في الخطبة أمور
ابتدعها الجهلة، منها التفاتهم في الخطبة الثانية، والدق على درج المنبر في
صعوده، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس، ومنها مبالغتهم في الإسراع في
الخطبة الثانية، ويستحب إذا كان المنبر واسعًا أن يقوم على يمينه، ويُكْرَه للخطيب
أن يشير بيده، ويُسْتَحب أن يختم الخطبة بقوله: أستغفر الله لي ولكم، وذكر
بعضهم أن يستحب للخطيب إذا وصل المنبر أن يصلي تحية المسجد، ثم يصعد،
وهو قول غريب وشاذ مردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ولو أغمي على الخطيب
فهل يبني غيره على خطبته، أو يستأنفها؟ قولان. اهـ. ملخصًا.
ويُكْرَه أن يتخطى المصلي رقاب الناس لما فيه من سوء الأدب، والأذى،
ويحرم الكلام في الخطبتين والإمام يخطب، وله الصلاة على النبي - صلى الله
عليه وسلم - إذا سمعها، ويسن سرًّا، ويجوز تأمينه على الدعاء، ورفع الصوت
قدام بعض الخطباء مكروه اتفاقًا كذا في الإقناع [1] .
الرابعة (حكم تعدد الجمعة) :
الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس
للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد
أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد
لمثلها قد هوَّل فيه السبكي في فتاويه؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه
عمل القرون الثلاثة، بل وتسميتها جمعة؛ فإن صيغة فُعُلة في اللغة للمبالغة،
وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها
حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت، والتي لا تعاد
الظهر بعدها، كما أشار له العلامة البجيرمي رحمه الله تعالى، وقد بسطناه في
كتابنا (إصلاح المساجد من البدع والعوائد)
الخامسة: ما يُسن يوم الجُمُعة:
يسن تنظيف يوم الجمعة، وتطيب ولبس أحسن الثياب، وإكثار الصلاة على
النبي - صلى الله عليه وسلم - ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته، والمِنَّة
باقتفاء هديه وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم
الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلى الله عليه وعلى آله ما ذاق عارف
سر شريعته، وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته. آمين.
***
طلائع الخطب النبوية
(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله رواه الإمام أحمد، ومسلم، عن
ابن عباس.
(2)
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد
رشد، ومن يعصْ الله ورسوله فقد غوى، حتى يفيء إلى أمر الله رواه الشافعي،
والبيهقي، عن ابن عباس.
(3)
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله
فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا
عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: 70-71) رواه الإمام أحمد، والترمذي عن ابن
مسعود.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: لأهل هذا العصر بدع ومنكرات أخرى كثيرة قبل الخطبة، وبعدها، وفي أثنائها، بعضها من البدع الحقيقية، وبعضها من الإضافية، فمنها التزام ذكر الخطباء الملوك والسلاطين في الخطبة الثانية بالتعظيم، ورفع المؤذنين أصواتهم بالدعاء لهم، وإطالتهم في ذلك، والخطيب مسترسل في خطبته، وفي ذلك منكرات مبتدعة، ومنها أن بعض الحاضرين يقومون في أثناء الخطبة الثانية فيصلون، ومنها الدعاء برفع الأيدي بين الخطبتين، والاستمرار على ذلك بعد شروع الخطيب في الخطبة الثانية، ومنها صياح بعضهم في أثناء الخطبة باسم الله، أو أسماء بعض الصالحين، ومنها المصافحة عقب السلام من الصلاة إلى غير ذلك.(18/555)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيد محمد شفيع آل رضا
في ضحوة يوم الإثنين أول أيام العَشْر الأخيرة من شهر رمضان المبارك سنة
1333 هجرية قمرية، وأواخر العشر الأول من شهر الصيف الأول (الدرجة
التاسعة من برج الأسد) سنة 1292 هجرية شمسية، الموافق لليوم الثاني من شهر
(تموز) 1915 مسيحية، وهب الله تعالى لصاحب هذه المجلة غلامًا سويًّا أطلق
عليه اسم (محمد شفيع) .
ولد محمد شفيع تام البنية، ممتلئ الجسم، أبيض اللون مشوبًا بصفرة كما هي
العادة، أحمر الشعر، أسود العينين إلى زرقة، بارز الجبهة، طويل الغُرة، رافعًا
إصبعه السبابة، ولم يلبث أن رضعها، ولم ينقض الأسبوع الأول إلا وقد تبدلت
الصفرة حمرة؛ فصار أزهر اللون.
فالله أسأل أن ينبته نباتًا حسنًا، ويوفقنا لتربيته تربية صالحة، ويجعله قرة
عين لوالديه، وآل بيته وأمته، ويستجيب لنا به وبغيره، ما دعوناه وندعو به من
أدعية كتابه {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)
__________(18/560)
شوال - 1333هـ
سبتمبر - 1915م(18/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حال المسلمين مع غيرهم في العصر الأول
إن حالة الأمم الاجتماعية والسياسية، والأدبية لها شأن كبير في تطبيق
الأحكام على الوقائع، وهو ما يسميه علماء الأصول " تحقيق المناط "، ومن عرف
التاريخ، وفَقِهَ قواعد علم الاجتماع منه؛ فإنه هو الذي يفقه سبب إعراض الفقهاء
والحكام عن قبول شهادة غير المسلمين عليهم، وأحق ما يجب فقهه من تلك القواعد
أربع ينبغي التأمل فيها بعين العقل والإنصاف.
(أحدها) ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى للإسلام من الاستمساك
بعروة الحق، وإقامة ميزان العدل، وعدم المحاباة والتفرقة في ذلك بين مؤمن
وكافر، وقريب وبعيد، وصديق وعدو.
(ثانيها) ما كانت عليه جميع الأمم التي فتحوا بلادها، وأقاموا شريعتهم
فيها، من ضعف وازع الدين، وفساد الأخلاق والآداب، وقد قرر ذلك مؤرخو
الإفرنج، وغيرهم، وجعلوه أول الأسباب الاجتماعية لسرعة الفتح الإسلامي في
الخافقين.
(ثالثها) ما جرى عليه الفاتحون من المسلمين من المبالغة في التوسعة على
أهل ذمتهم في الاستقلال الديني والمدني، إذ كانوا يسمحون لهم بأن يتحاكموا إلى
رؤسائهم في الأمور الشخصية وغيرها - فكان من المعقول مع هذا أن لا يشهدوهم
على قضايا أنفسهم الخاصة، وأن يمنعهم نظرهم إلى ما بينهما من التفاوت في
الأحوال الدينية، والأدبية التي أشرنا إليها آنفًا من قبول شهادتهم على أنفسهم، مع
عدم ثقتهم بتدينهم وعدالتهم.
(رابعها) تأثير عزة السلطان، وعهد الفتح الذي كانت الأحكام فيه أشبه بما
يسمونه الآن بالأحكام العسكرية، واعتبر ذلك بأحكام دول الإفرنج في أيام الحرب،
بل في المستعمرات التي طال عليها عهد الفتح، أو ما يشبه الفتح يتبين لك أن أشد
أحكام فقهاء المسلمين وحكامهم على غيرهم هي أقرب إلى العدل والرحمة من أحكام
أرقى أمم المدنية من دونهم.
وقد عُلم من حال البشر أن الغالب قلما يرى شيئًا من فضائل المغلوب، وإن
كثرت، فكيف يرجى أن يرى قليلها الضئيل الخفي؟ والجماعات الكبيرة والصغيرة
كالأفراد في نظر كل إلى نفسه، وإلى أبناء جنسه بعين الرضا، وإلى مخالفه بعين
السخط، مثال ذلك أن امرأة من فضليات نساء سويسرة دينًا، وأدبًا، وعلمًا راقبت
أحوال الأستاذ الإمام، وسيرته مدة طويلة إذ كان يختلف إلى مدرسة جنيف لتلقي
آداب اللغة الفرنسية، وكَلَّمَتْه مرارًا في مسائل من علم الأخلاق والتربية، وكانت
بارعة ومصنفة فيهما، فأعجبها رأيه، كما أعجبها فضله وهديه، ثم قالت له بعد
ذلك: إنني لم أكن أظن قبل أن عرفتك أن القداسة توجد في غير المسيحيين.
فمن تأمل ما ذُكِر تجلت له الأسباب المعنوية والاجتماعية التي صدت الحكام
والفقهاء عن قبول شهادة غير المسلم على المسلم، وتعجب من سعة أحكام القرآن،
التي يتوهم الجاهلون أنها ضد ما هي عليه من الإطلاق وموافقة كل زمان ومكان،
فتراهم ينسبون إلى القرآن كل ما ينكرونه على المسلمين من آرائهم، وأعمالهم،
وأحكامهم بالحق أو بالباطل، ولو كان المسلمون عاملين بالقرآن كما يجب، لَمَا
أنكر عليهم أحد، بل لاتبعهم الناس في هديهم، كما اتبعوا سلفهم من قبلهم، بل
لكانوا أشد اتباعًا لهم بما يظهر لهم من موافقة هدايته لهذا الزمان، وموافقتها لأرقى
ما وصل إليه من نظام وأحكام، وهذا من أجل معجزاته التي تتجدد بتجدد الأزمان.
__________(18/561)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعراب الآية الثانية الذي اضطرب فيه النحاة
قد تبين مما فصلناه أن الذين عدوا الآيتين في غاية الصعوبة لمخالفة مذاهبهم
لهما مخطئون، وأن الواجب رد المذاهب إليهما، لا تأويلهما لتوافقا المذاهب، وأما
الذين استشكلوا إعراب جملة من الآية الثانية، وعدوا لأجلها الآية أو الآيات في
غاية الصعوبة؛ فإنما أوقعهم في ذلك احتمال التركيب لعدة وجوه من الإعراب، بما
فيها من تعدد القراءات، مع اعتيادهم تقديم الإعراب على المعنى، وجعله هو
المبين له، وقد استحسنا بعد إيضاح تفسير الآيات بما تقدم أن نذكر ملخص ما قيل
في إعراب تلك الجملة نقلاً عن " روح البيان " الذي يلتزم تحقيق المباحث النحوية
في جميع الآيات، عسى أن يستغني القارئ به عن مراجعة تفسير آخر، ونبدأ
بجواب الشرط لأنه مبدأ ما استشكلوه من الإعراب، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
{فَآخَرَانِ} (المائدة: 107) أي فرجلان آخران، وهو مبتدأ خبره قوله
تعالى: {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} (المائدة: 107) والفاء جزائية، وهي إحدى
مسوغات الابتداء بالنكرة، ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته، وهو
قوله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 107) وقيل هو
خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة يقومان صفته، والجار والمجرور
صفة أخرى، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من ضمير يقومان، وقيل هو فاعل
فعل محذوف، أي فليشهد آخران، وما بعده صفة له، وقيل مبتدأ خبره الجار
والمجرور والجملة الفعلية صفته، وضمير مقامهما في جميع هذه الأوجه مستحق
للذين استحقا، وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما
هي، بل هو مقام الحبس والتحليف، واستحق بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في
رواية حفص عنه، وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس وأُبيّ -
رضي الله تعالى - عنهم، وفاعله (الأوليان) والمراد من الموصول أهل الميت،
ومن الأوليين الأقربان إليه، الوارثان له، الأَحَقَّان بالشهادة لقربهما واطلاعهما،
وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثمًا، إلا أنه أقيم المظهر مقام
ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف، ومفعول استحق محذوف، واختلفوا
في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة؛ ليظهروا بهما كذب
الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية مالهم وتركتهم، وقال الإمام:
إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما؛ وسبب أولويتهما أن الميت
عينهما للوصية، فمعنى {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 107) خان في
مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما، وعلى هذا لا ضرورة إلى
القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة:
107) ببناء استحق للمفعول، واختلفوا في مرجع ضميره، والأكثرون أنه الإثم،
والمراد من الموصول الورثة؛ لأن استحقاق الأثم عليهم كناية عن الجناية عليهم،
ولا شك أن الذين جُني عليهم، وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل إنه
الإيصاء، وقيل الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل المال، وقيل: إن الفعل مسند إلى
الجار والمجرور، وكذا اختلفوا في توجيه رفع الأوليان؛ فقيل: إنه مبتدأ خبره
(آخران) أي الأوليان بأمر الميت آخران، وقيل بالعكس، واعترض بأنه فيه
الإخبار عن النكرة بالمعرفة، وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل خبر مبتدأ
مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل بدل من آخران، وقيل عطف
بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه
فيه حتى مَنْ جَوَّزَ تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل هو بدل من
فاعل يقومان، وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه، حتى يلزم
خلوّ تلك الجملة الواقعة خبرًا أو صفة عن الضمير على أنه لو طرح، وقام هذا
مقامه، كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطًا، وقيل هو صفة
آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة، والأخفش أجازه هنا؛ لأن النكرة بالوصف
قربت من المعرفة، قيل وهذا على عكس، ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنه يؤول
فيه المعرفة بالنكرة، وهذا أُوِّلَ فيه النكرة بالمعرفة، أو جعلت في حكمها للوصف،
ويمكن - كما قال بعض المحققين - أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما
كالنكرة، وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل (استحق) ، والمراد على هذا
استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة، كما قال الزمخشري، أو إثم الأوليين
كما قيل، وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي على في (عليهم) أوجه
الأول: أنها على بابها، والثاني أنها بمعنى في، والثالث أنها بمعنى من، وفسر
استحق بطلب الحق، وبحق وغلب، وقرأ يعقوب، وخَلَفٌ، وحمزة وعاصم في
رواية أبي بكر عنه (استحق عليهم الأوليين) ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع
أول المقابل للآخر، وهو مجرور على أنه صفة الذين، أو بدل منه أو من ضمير
عليهم، أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة،
وقيل التقدم في الذكر لدخولهم في (يا أيها الذين آمنوا) وقرأ الحسن (الأولان)
بالرفع، وهو كما قدمنا في الأوليان، وقرئ (الأولين) بالتثنية والنصب، وقرأ
ابن سيرين (الأوليين) بياءين تثنية أولى منصوبًا، وقرأ (الأولين) بسكون الواو
وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.
__________(18/584)
الكاتب: محمد علي أبو زيد
__________
البرهان على خروج تارك الصلاة
ومانع الزكاة من الإيمان
جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد
الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد
(2)
يزيدك بيانًا لهذه الآية قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (بين الرجل وبين
الشرك ترك الصلاة) خَرَّجَه مسلم [1] ولا تحتاج بعده إلى شرح وبيان، ومنه قوله
تعالى في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى
الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 45-
46) .
تراه في الآية جعل الصلاة يُستعان بها، ولم يذكر ما يستعان عليه؛ ليشمل
كل الأمور الدينية والدنيوية، وذلك - كما بينا قريبًا - أنها تشغل النفس بذكر الله
تعالى فتصقلها كصقل الجلاَّء للمرآة؛ فيرى صاحبها بقربه من ربه ما لا يراه صديء
النفس؛ فتقوى فيه الروحانية والمرء متى قويت روحه، قويت إرادته، واشتدت
عزيمته؛ فتسهل أمامه كل صعوبة، ويفوز في كل عمل تطلبه الحياة، وهذا كله
هو حظ الشارع الحكيم ممن يخضع لأمره، ويؤمن بثوابه وعقابه.
وقد أفاد جل شأنه بقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة: 45-46) الآية، أن الصلاة إنما تكبر وتثقل على
من لم يؤمن بالآخرة، ومن لم يصدق بملاقاة ربه وجزائه {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ
لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وحده.
وهاهنا نكتة بليغة في قوله: {يَظُنُّونَ} (البقرة: 46) فإنه لم يقل
(يوقنون) ليفيد أن الظن - وإن كان لا يغني من الحق شيئًا - يكفي حاملاً للمرء
على العمل احتياطًا، ما دام يترجح عنده أنه سيرجع إلى الله فيحاسبه ويجازيه، فكأنه
تعالى يقول: إن من يعتقد اعتقاد ظن ورجحان [2] لم يصل فيه إلى درجة اليقين
بالبرهان، أنه سيلاقي ربه فيحاسبه ويجازيه، لم تثقل عليه الصلاة ولا تشق، بل
يقيمها بنشاط على خشوع وراحة.
هذا مبني على سنة الله تعالى في النفس، متى ترجح عندها الأجر والمنفعة
في العمل نشطت إليه، وهشت له، وإن كان سخرة أو ضرًّا، كبر عليها،
وجزعت منه، وإذا كان ذلك حال الظان - لا يترك الصلاة ولا تثقل عليه إقامتها
بل يحافظ عليها ويرتاح بها - فما بالك بالموقن هل يترك الصلاة، أو يثقل عليه
شيء منها؟ أم ينتظر أوقاتها، ويقول كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم:
(أرحنا بها يا بلال) .
ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى
صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام: 92) .
جعل سبحانه المحافظة على الصلوات شأنًا من شؤون أهل الإيمان بالآخرة
وبالقرآن، وجعل هذا الإيمان داعيًا إليها، وباعثًا عليها، وذلك أن قوله: {وَهُمْ
عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام: 92) يفيد أن الذي يؤمن باليوم الآخر،
ويصدق بأن فيه الجزاء الأوفى: الطيب للطيب، والخبيث للخبيث، لا بد أن
يصدق بالقرآن، ولا بد أن يكون على تلك الحالة، ومتصفًا بتلك الصفة:
المحافظة على الصلاة.
واختيار التعبير بالفعل (يحافظون) على الوصف (محافظون) يدل على
الدوام والاستمرار، أي أنه لا ينفك عنها في وقت من الأوقات، والآية وما قبلها
نص في أن الإيمان بالآخرة يستلزم الإيمان بالقرآن، والإيمان به يستلزم إقامة
الصلاة، ومفهومه أن من لم يحافظ عليها كافر، وعلى هذا يكون القرآن قد بين أن
الصلاة هي الفارق بين المؤمن والكافر، ويُجلِّي لك هذا قول النبي - صلى الله
عليه وسلم - (بين الكفر والإيمان ترك الصلاة) رواه مسلم، وأبو داود،
والترمذي، وفي رواية (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) ، وقوله - صلى الله
عليه وسلم - (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه الترمذي،
والنسائي وصححه، فتأمل هذه التصريحات في هذه الأحاديث، وانظر التحقيق
من النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظة (فقد كفر) وكلها في معنى الآيات التي
سمعت.
وأزيدك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ترك صلاة العصر فقد
حبط عمله) رواه البخاري، والنسائي، ومن المعلوم في الشرع أن الذي يحبط
عمله هو الكافر، قال تعالى في سورة المائدة: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5) فإذا كان تارك العصر كافرًا، فما ظنك بتارك جميع الصلوات؟
ولما جاء وفد ثقيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسلموا، قالوا: اسمح لنا
في أن ندع الصلاة، وألا نكسر أصنامنا بأيدينا فقال: صلى الله عليه وسلم (أما
كسر أصنامكم بأيديكم فقد عفوناكم منه، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه،
وأنت ترى أن في قوله (لا خير في دين لا صلاة فيه) أن تارك الصلاة لا يعتد
بتدينه، وعلى هذا قد درج الصحابة، رضوان الله عليهم. فقد روى الترمذي
عن عبد الله بن شقيق [3] أنه قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلا الصلاة؛ وذلك لما قدمنا من أن الصلاة
أصل، فالمحافظة عليها تستلزم المحافظة على كل الدين.
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يكتب إلى عماله:
إن أهم أمركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها
كان لما سواها أشد إضاعة، رواه مالك وغيره.
س: إن ما تقدم من الأدلة كله صريح في أن تارك الصلاة غير مسلم مطلقًا،
ولا أراني أشك بعد في ذلك، إذًا ما معنى قول بعضهم: من تركها كسلاً لا يكفر،
وما معنى التفريق بين من يتركها بكسل أو غيره؟
ج: لا معنى لذلك إلا مخالفة النصوص الصريحة، وعدم تدبر القرآن،
والسنة الصحيحة [4] ، وما دمنا نقول كما قال القرآن: إن المحافظة على الصلوات
من شأن المؤمن، ومن صفاته الملازمة له، فالمجرد منها، المتخلي عنها، غير
مؤمن ضرورة، لكونه عري من صفة الإيمان الفعلية، على أن الله سبحانه قد
صرح بأن الكسل في الصلاة من شأن المنافقين وصفاتهم، فقال عز شأنه في سورة
النساء: {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا
كُسَالَى} (النساء: 142) .
وليس المنافقون بأقل من الكافرين، قال تعالى في سورة براءة: {إِنَّ
المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) -أي الخارجون عن الدين - {وَعَدَ اللَّهُ
المُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (التوبة: 68) .
قرن الله تعالى في هذه الآية المنافقين مع الكافرين، ووعد الجميع معًا الخلود
في جهنم والعذاب الدائم، بل قد حطهم عنهم فقال في سورة النساء: {إِنَّ المُنَافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (النساء: 145) .
إلى هنا انتهينا من أدلة الصلاة وحدها
***
فإليك ما جاء في الزكاة أختها
قال الله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (فصلت: 6-7) فتأمل كيف جعل منع الزكاة من
صفات المشركين وشأنهم، وإنما كان منعها من شأن المشرك بربه؛ لأنه يؤثر
المال على حبه، وقد قرن منع الزكاة بالكفر بالآخرة؛ لأنهم لو كانوا واثقين بخبر
الله، ومؤمنين بجزائه، لأنفقوا من مالهم رغبة في ثوابه، وخوفًا من الكي بناره
وقال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35) .
(وقال) جل ثناؤه في سورة آل عمران: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) علَّق نيل البر على الإنفاق مما يحب، فمن لم ينفق
مما يحب، لا حظ له من البر، والبر نعيم الله ورضوانه فمانع الزكاة - وهي أول
مقصود بالإنفاق - محروم من نعيم الله ورضوانه كافر [5] .
ولعلك تلاحظ الحكمة في تقييده الإنفاق بأن يكون المنفَق منه محبوبًا عند
المنفِق، إذْ المرء لو أنفق لله ما يكره، لا يكون إنفاقه له بسبب حبه إياه، بل
يعتبر غرمًا ومظلمة، أو شيئًا كريهًا رغب الخلاص منه بهذه الطريقة رياء، أما لو
أنفق من شيء محبوب له، يكون حبه الله قد رجح في نفسه على حبه المال، فدعاه
إلى بذل المال على حبه إياه، وهناك يظهر الفضل بالتوحيد والإخلاص.
(وقال) تعالى في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (الأعراف: 156) بيَّن أن رحمته واسعة؛ ولكنها
لا تكتب لكل الناس، بل كتابها وإيجابها خاص بالأتقياء المعطين الزكاة، فالذي
يمنع الزكاة، تمنع كتابة الرحمة له؛ فلا يكون له حظ فيها بل يكون بعيدًا عنها،
ومحرومًا منها.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: رواه مسلم عن جابر بن عبد الله من طريق أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، وهو ثقة عند الجمهور روَوْا له إلا البخاري، فإنه لم يرو له إلا متابعة، وكان ابن حزم يرد من حديثه ما يقول فيه: عن جابر، لأنه مدلس وههنا صرح بسماعه منه، وطعن فيه شعبة ونهى عن الكتابة عنه قال: لأنه لا يحسن يصلي، ولكونه يسيء صلاته، بل قال: إنه كذب على رجل، واعتذر عن ذلك بأنه أغضبه واحتج على الشافعي بحديثه فغضب وقال: أبو الزبير يحتاج إلى دعامة، وقال: أبو زرعة وأبو حاتم: لا يحتج به، ورواه أيضًا من طريق أبي سفيان طلحة بن نافع، وقد روى له الجماعة إلا أن البخاري لم يرو له في الصحيح إلا مقرونًا بغيره، وقال سفيان بن عيينة: حديثه عن جابر إنما هو صحيفة أي لم يسمع منه مع أنه صرح بالسماع في مسلم وقال ابن معين فيه: لا شيء وقال ابن المديني: كانوا يضعفونه، أما لفظ الحديث من الطريق الأول فهو (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) ، ومن الطريق الثاني (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) ، قال النووي في شرحه: هكذا هو في جميع الأصول من صحيح مسلم - الشرك والكفر بالواو - وفي مخرج أبي عوانة الإسفرايني، وأبي نعيم الأصبهاني (أو الكفر) بأو ولكل منهما وجه، ومعنى بينه وبين الشرك ترك الصلاة - أن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل، ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك والله أعلم، وذكر قبل ذلك أن الجمهور من السلف والخلف لا يقولون بكفر تارك الصلاة إلا إذا جحد وجوبها، وحملوا مثل هذا الحديث على ما رأيت في تفسيره له من كون تركها قد يفضي إلى الكفر أو إذا كان جاحدًا، وقال بعض السلف بكفره، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه وعن عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، قال النووي وهو رواية عن أحمد، ووجه لبعض أصحاب الشافعي، وسيأتي جمعنا بين الأقوال.
(2) الظن: الاعتقاد الراجح، ولا يشترط تصور مقابل مرجوح.
(3) المنار: قد كان عبد الله هذا ناصبيًّا يبغض عليًّا عليه السلام، وقد صح الحديث عن مسلم (أنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق) فأخذ الكاتب بظواهر مثل هذا الحديث يقتضي ألا يحتج بما يرويه عبد الله بن شقيق، ولا يعتد بإيمانه، وما تقدم عن النووي يفيد أن جمهور الصحابة لا يعدون مجرد ترك الصلاة كفرًا بمعنى الردة عن الإسلام، وحسب التارك لها أنهم اختلفوا في إيمانه، وسيأتي الجمع بين الأقوال في ذلك.
(4) المنار: هذا تهور عظيم، والصواب أن سببه تعارض النصوص كما سنبينه بعد.
(5) المنار: الآية لا تدل على ذلك، فالعمل بها يتم بما دون الزكاة الشرعية.(18/586)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(10)
سموم الميكروبات:
تحدث بنمو كل نوع من الميكروبات مواد عديدة في السائل الذي تربى فيه،
ومن أضرها مواد زلالية، ومواد آزوتية تشبه المواد الآزوتية النباتية المسماة
[Alkaloids] أي الشبيهة بالقلوية كمادة الإستركنين، وهي مواد تفتك بالأحياء
فتكًا ذريعًا مهما تكن قليلة، وهذه المواد تتولد بطريقتين: الأولى أنها تتولد في نفس
جسم الميكروب، ثم تخرج منه شيئًا فشيئًا، والثانية أنها تتولد في السائل نفسه؛
وذلك بإفراز الميكروب مادة ثم (خميرة) تشبه الخمائر - المذكورة في الجزء
الأول - وهذه الخميرة لها تأثير كيماوي مخصوص في المواد المحيطة بها، فتحدث
فيها تركيبًا وتحليلاً ينشأ منه مواد متنوعة.
ومن الميكروبات ما يبقى جل سمه في جسمه، ولا يخرج إلا إذا استخلص
منه ببعض الطرق العلمية، وذلك مثل ميكروب الطاعون، والكوليرا، والحمى
التيفودية، ويسمى مثل هذا السم (بالسم الكامن) (Endotoxin) وفي الجسم
المريض تنحل بعض هذه الميكروبات، فتخرج منها سمومها وتسري فيه؛ فتُحْدِث
المرض.
ومن المواد التي تتولد في السائل الذي يربى فيه الميكروب ما يقتل الميكروب
نفسه؛ فإنها قد تولد حامض الفنيك أو الغول (الكحول) أو الخل إلى غير ذلك من
المواد التي تُستعمل مطهرات لقتل الميكروبات.
الميكروبات والبيئة:
تنقسم الميكروبات - باعتبار ما تعيش فيه - إلى ثلاثة أقسام: فمنها ما لا
ينمو عادة إلا في الحي [1] ، ومنها ما لا ينمو إلا في الميت، ومنها ما يمكنه أن ينمو
في الاثنين معا، فمثال الأول ميكروب الحمى الراجعة، ومثال الثاني بعض
ميكروبات الحمى النفاسية، وهي التي تعيش في الدم والسوائل المنتنة التي تتخلف
أحيانًا في الرحم عقب الولادة.
ومن هذا النوع الميكروبات التي تُحْدِث تحليل جثث الموتى، والتي تفسد
اللبن فيخثر، ومنها ما يحول البولينا إلى كربونات النوشادر، والخمر إلى خل،
ولهذه الميكروبات فائدة كبرى في العالم؛ فإنها تحول الأجسام المركبة إلى بسائط
فتعود إلى عالمي الحيوان والنبات؛ فينتفعان بها؛ ولذلك وجد العلماء طريقة عظيمة
لتحليل المواد البرازية؛ فإنها تُلقى في مستودعات مخصوصة؛ فيتسلط عليها في
أولاها الميكروبات التي لا تنمو في الأكسجين، وفي الثانية الميكروبات التي تنمو
فيه؛ فبذلك تتحلل جميع المواد البرازية، وتستحيل إلى ماء وغاز ثاني أكسيد الفحم،
وأملاح النيترات.
وهذه الأشياء كلها صالحة للنبات؛ فيسقى بها الزرع، وفيه تتحول مرة
أخرى إلى مواد مضاعفة التركيب ضرورية للحيوان والنبات، فكأن نظام هذا العالم
موقوف على عمل الميكروبات والنباتات، ولولاها لفسد وبطل.
فالنباتات الدنيئة (البكتيريا) تركب قليلاً، وتحلل كثيرًا، والنباتات الكبيرة
تركب كثيرًا، وتحلل قليلاً كتحليلها بعض غازات الهواء، فعلى النبات مدار الحياة
ومثال الميكروب الذي يعيش عادة في الحي والميت باسيل التيتانوس، وكذلك
باسيل الدفثيريا (والتي منها الخناق) فإن هذين الميكروبين يعيشان كثيرًا في الطين،
وقد ينتقلان منه إلى الإنسان، إلا أن ميكروب التيتانوس لا يعيش في جسم
الإنسان بعد ظهور أعراض هذا المرض إلا قليلاً، ومن طرق وصول ميكروب
الدفثيريا إلى الإنسان أنه يكون مختلطًا بالطين؛ فإذا زادت المياه التي في جوف
الأرض كما يحصل عند فيضان الأنهار ضغطت على الهواء الموجود خلال الطين
فيندفع منها إلى جو المدن حاملاً لهذا الميكروب الخبيث؛ فيصاب كثيرون بهذا
المرض.
والميكروبات لا تموت ما لم يقتلها شيء، وأكثرها مقاومة للطوارئ ما كان له
حبيبات، وهذه الحبيبات نفسها تعيش مدة طويلة من الشهور أو السنين حتى في
الأحوال غير المناسبة للحياة كالجفاف والبرد، ولا عجب في ذلك فقد عُرِفَ أن
بعض حبوب النباتات الكبيرة عاش نحو مئة سنة.
ولا يُعْلَم بالتحقيق أن الحبوب يمكنها أن تعيش (أعني تبقى حية) أكثر من
ذلك، وما قيل من أن حبوب بعض الهياكل، أو القبور القديمة نبت بعد ألوف من
السنين فهو كذب محض، وقد ثبت أن حبوب القمح تعيش نحو سبع سنين على
الأكثر، وعليه فالقمح الذي خزنه المصريون في زمن يوسف عليه السلام كان يمكن
إنباته في نهاية السنة السابعة، وأكثر الميكروبات التي لا حبيبات لها تُقْتَل عادة
بحرارة 65 سنتغراد في نحو نصف ساعة.
وميكروبات التعفن تقتل الميكروبات المرضية عادة، وهذه الميكروبات
التعفنية تكون في الغالب من النوع الباسيلي (المستطيل) ، فإذا أصيب إنسان
بالتسمم الصديدي الناشئ على الأكثر من البذور السلسلية ومات، فأراد طبيب أن
يشرح جسمه عقب الوفاة مباشرة، كان من أشد الخطر على هذا الطبيب أن يجرح
ويتلقح جسمه بشيء من الجثة، وأما إذا تركت هذا الجثة زمنًا حتى تتعفن؛ فإن
ميكروبات المرض التي فيها تقتلها ميكروبات التعفن شيئًا فشيئًا، حتى تزول من
الجثة، وحينئذ لا يكون في تشريحها خطر على حياة الطبيب.
أبواب دخول الميكروبات في الجسم:
لدخول الميكروبات في الجسم أبواب عديدة، وهي الرئتان (لمثل ميكروب
الحمى القرمزية) والجهاز الهضمي (لمثل ميكروب الحمى التيفودية) والجلد
(لمثل الزهري) والأغشية المخاطية كأغشية أعضاء التناسل أو العين وغيرها
(لمثل السيلان والدفثيريا) .
ولا يشترط أن يكون سطح الجسم، أو الأغشية المخاطية مجروحة، فقد
يدخل الميكروب من الأماكن ذات الجلدة الرقيقة، أو من مسامها؛ ولكن الجرح أو
السحج مما يسهل دخوله كثيرًا كما هو ظاهر.
فإذا دخل الميكروب من هذه المنافذ، فمنه ما يبقى في مكان دخوله، ومنه ما
يصل إلى الدم، أو المادة اللمفاوية، ويدور معها حيث دارت، وفي كلتا الحالتين
يولد الميكروب سمًّا زعافًا، وهو الذي يقتل الحيوانات، ويحدث فيها جميع
الحميات، إلا أن بعض هذه الميكروبات يحدث أمراضًا ليست الحمى شرطًا فيها
مثل مرض (الكُزاز) .
فمثال ما يدور في الدم ميكروب (التسمم الصديدي وميكروب الحمى الراجعة)
ومثال الذي لا يدور في الدم (التيتانوس والدفثيريا) فإن ميكروبهما يبقى على
الأكثر في مكامن التلقيح إلا أنه بعد الموت قد ينفذ إلى جميع أجزاء الجثة، وإذا نفذ
إلى الدم في أثناء الحياة التهمته كريات الدم البيضاء، أو بقي في بعض الأعضاء
التي تعتقله فيها، وتقتله غالبًا بخلاياها، كالكبد والطحال.
زمن التفريخ:
إذا دخل الجسم أي نوع من الميكروبات لا يحدث المرض فيه في الحال، بل
لا بد من أن يمكث زمنًا يتراوح بين يوم أو عدة أسابيع أو عدة سنين (كما في داء
الكَلَب والجذام) فإنهما أطول الأمراض مدة [2] ، وفي هذا الزمن يتكاثر الميكروب
في الجسم، ويحمل عليه بسمومه فإذا بلغت درجة مخصوصة ابتدأ المرض في
الظهور، فمن الناس من يختلط مثلاً بمصاب بالجدري، ولا يظهر فيه المرض إلا
بعد نحو 12 يومًا عادة، وهذا الزمن يختلف باختلاف الأمراض؛ فإن لكل منها
زمنًا مخصوصًا، ويسمى هذا الزمن بزمن التفريخ أو الحضانة.
وقد عُرفت ميكروبات كثير من الأمراض، ولبعضها ميكروبات لم تُعْرَف إلى
الآن (كالحصبة) ؛ فإن الدلائل تدل على أن لها ميكروبًا لم يُكْتَشَف إلى الآن.
وهذه الأمراض التي عرفت ميكروباتها منها ما له ميكروب مخصوص
كمرض الدرن، ومرض الحمى التيفودية، ومنها ما يشترك فيه عدة ميكروبات
كمرض (التهاب الغشاء المبطن للقلب) ، و (الخراجات) فإنهما يحدثان من
ميكروبات مختلفة.
أمارات اختصاص الميكروب المعين بالمرض المعين:
يدل على اختصاص بعض الميكروبات ببعض الأمراض أمور كثيرة منها:
(1) وجود الميكروب دائمًا في هذا المرض.
(2) إذا حقن حيوان بهذا الميكروب وكان مستعدًّا للمرض حصل له ووجد
هذا الميكروب المخصوص في جسمه.
(3) عدم وجود هذا الميكروب في الجسم السليم أو المريض بغير هذا المرض، ويستثنى من ذلك بعض الميكروبات، كالبزور المزدوجة المسببة للالتهاب الرئوي فإنها توجد في فم الصحيح وأنفه،وتوجد أيضًا في غير الالتهاب الرئوي كما في التهاب الشَّغاف (الغشاء المحيط بالقلب الذي يسمونه الآن التامور) وكذلك تستثنى مسألة حاملي الأمراض التي سنفصلها.
مصادر الميكروبات:
تتصل الميكروبات بالإنسان من عدة جهات (1) الهواء (2) الشراب
(3) الطعام (4) التراب (5) سائر أجسام الأحياء، والجمادات كالملابس مثلاً،
وسيأتي - إن شاء الله - في باب الحميات بيان طرق وصول الأمراض المختلفة
إلى الإنسان تفصيلاً.
شرط تأثير الميكروبات والوقاية منها:
ما كل أحد يتصل به ميكروب مرض يصاب بذلك المرض، بل هناك وقاية
للحيوانات من فتك هذه الميكروبات بها دفعة واحدة، ولولا ذلك لهلكت الأحياء في
زمن قصير.
وهذه الوقاية (وتسمى أيضًا المناعة) منها ما هو فطري (أي يولد بها
الإنسان) ومنها ما هو مكتسب، أما المناعة الفطرية فقد تكون خاصة بالجنس أو
النوع كبعض الأمراض، فالجذام مثلاً خاص بالإنسان لا يصيب أي حيوان آخر،
وبعض الأمراض يصيب بعض الأنواع دون بعض، كالحمى الصفراء فإنها لا
تصيب السود إلا قليلاً، وبعض الأمراض تصيب بعض البيوت (الأسر) أو
الأفراد دون البعض الآخر، وكل ذلك لأسباب لا نعلمها على وجه التحقيق، وخير
الوقاية ما كان فطريًّا:
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عالٍ من الأُطُم
ومما يهيئ الجسم للعدوى التعب، والجوع، والبرد، وكل ما ينهك القوى
والإدمان على الخمور، إلا أن بعض الأشخاص قد يكونون سليمين من كل عيب،
ومع ذلك يصابون ببعض الأمراض، فمثلاً قد نجد أن أسمن الأطفال، وأحسنهم
صحة يصابون بالقرمزية، وتفتك بهم كثيرًا بينما الأطفال الآخرون الضعاف لا
يصابون بها، أو إذا أصيبوا كانت إصابتهم خفيفة.
أما المناعة المكتسبة وما في معناها كالعارضة بسبب يشبه الكسبي
فتكون بما يأتي:
(1) من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان مرة واحدة حمى جسمه من
الإصابة بهذا المرض مرة أخرى كالزهري والحصبة والجدري مثلاً.
(2) من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان حمى جسمه من أمراض أخرى
تغايره بعض المغايرة، فمنها جدري البقر إذا أصاب الإنسان أو لُقح به حماه من
الجدري الإنساني، ومنها الحمى الراجعة إذا أصيب بها شخص حمته غالبًا من
التيفوس؛ ولكنها لا تحميه من نفسها.
(3) بحقن سم الميكروب، أو مصل يُستخرج من الحيوانات بطريقة
مخصوصة، كما في مرض الدفثيريا مثلاً، وبيان ذلك أن يُزرع ميكروب الدفثيريا
في سائل (كالمرق) ، ثم يصفى هذا السائل من الميكروب، ويُحقن حصان بجزء
صغير من هذا السائل المصفى، ونظرًا لوجود سم ميكروب الدفثيريا في السائل
المحقون به يُصاب الحصان ببعض أعراض مرضية خفيفة تزول سريعًا كالحمى
وورم في مكان الحقن، ثم يُحقن هذا الحصان بمقدار من السائل أكبر، فأكبر حتى
يصل الحصان إلى حالة لا يتأثر معها بهذا السم المحقون فيها؛ وعندئذ يتولد في
دمه مادة مضادة لسم الدفثيريا، فإذا أُخذ دم هذا الحصان، واُستخرج مصله كان هذا
المصل نافعًا لإفساد سم الدفثيريا، وإذا حقن به الإنسان وقت انتشار هذا المرض
حفظه منه لمدة ثلاثة أسابيع عادة؛ وكذلك إذا حقن به المصاب بالدفثيريا نفعه نفعًا
عظيمًا، وأدى إلى شفائه.
(4) حقن ميكروب المرض نفسه ميتًا، أو بعد إضعاف تأثيره بطرق
سيأتي الكلام عليها في داء الكلب، وتسمى المادة المحقونة " باللقاح " ومن ذلك حقن
ميكروب التيفود بعد قتله، وحقن ميكروب الكلب بعد إضعافه، وإن كان ميكروب
الكلب إلى الآن لم يُكتشف، بمعنى أنه لم يره أحد؛ ولكننا موقنون بوجوده، فإذا
لُقح الشخص تولدت في جسمه مادة مضادة لهذا الميكروب المحقون، وبذلك لا
يكون له تأثير في إحداث المرض، وقد يحقن الميكروب بدون إضعافه؛ ولكن
بمقادير قليلة جدًّا تزاد تدريجًا.
والميكروبات التي تزرع بقصد الحقن منها ما يفرز سمًّا في السائل المزروع
فيه، ومنها ما يكون سمه كامنًا في جسمه - كما تقدم - وذلك مثل سم ميكروب
الطاعون، ولا بد من ملاحظة هذه المسألة قبل الحقن، فإذا أريد حقن حصان
لاستخراج مصل منه نافع للطاعون، فلا يجوز حقنه بالسائل الذي يربى فيه
الميكروب، فإنه يكاد يكون خاليًا من السم إذا لا يخرج منه شيء يذكر من جسم
الميكروب؛ ولذلك يجب أن تستعمل طريقة أخرى للوقاية من الطاعون، كأن يحقن
الشخص المراد وقايته بنفس السائل بدون تصفيته بعد قتل ميكروب الطاعون الذي
فيه، وذلك بتعريضه مدة ساعة لحرارة درجتها 65 بالمقياس المئيني، ولا يصح
قتل الميكروب بالغلي فإن ذلك يفسد سمه، أو يغيره تغييرًا يجعله غير صالح لما
نريد.
وقد ذهب علماء هذا العلم في تفسير مسألة الوقاية مذاهب عديدة، نذكر
هنا أشهرها:
(1) مذهب القائلين (بنفاد السَّماد) ، ومعنى ذلك أنهم يقولون إن في جسم
الإنسان بعض مواد لازمة لحياة الميكروبات تكون كالسماد لها؛ فإذا أصيب الإنسان
يمرض ما كالجدري مثلاً نفد هذا السماد الضروري لحياة ميكروبه من جسم الإنسان؛
ولذلك لا يصاب به عادة مرة أخرى، وهذا التفسير أصبح الآن مردودًا عند
جمهور العلماء.
(2) مذهب القائلين باحتباس سم الميكروب في جسم الإنسان، وذلك أن
الإنسان إذا أصيب بمرض ما تولد من الميكروب سم يُهلك نفس هذا الميكروب
ويفسرون بذلك سبب شفائه من المرض، ويقولون إن هذا السم يبقى في جسمه بعد
ذلك، ويقتل هذا الميكروب الخاص إذا دخل في جسمه مرة أخرى.
(3) مذهب الفرنسويين، وهم يقولون إن الكريات البيضاء في دم الإنسان
تقتل الميكروبات لاسيما إذا تعودت أكل نوع مخصوص منها؛ فإنها تلتهمه بشراهة
قوية.
(4) مذهب الألمانيين، وهم يقولون: إن الإنسان أو الحيوان إذا أصيب
بمرض ما أفرزت منسوجات الجسم المختلفة مواد تجري في دمه، وهذه المواد منها
ما يهلك الميكروب، ومنها ما يفسد سمه، كالمادة المتولدة في مصل الحصان التي
ذكرت سابقًا للوقاية من الدفثيريا أو لشفائها.
والحق شائع بين مذهبي الفرنسويين والألمانيين، وأحسن المذاهب مذهب من
يجمع بينهما كمذهب بعض علماء الإنكليز، وغيرهم بأن يقول: إن الإنسان إذا
أُصيب بمرض تولدت في جسمه تلك المواد التي قال بها الألمانيون، وهذه المواد
تُفْسِد سم الميكروب أولاً، وتضعف نفس الميكروب أو تقتله ثانيًا؛ حتى تقوى عليه
كريات الدم البيضاء؛ فيسهل عليها أن تلتهمه وتهضمه هضمًا.
وقد عرف من عهد قريب أنه يوجد في دم الإنسان في الحالة الطبيعية مواد
تسمى المواد الإدامية (Opsonins) وهذه المواد تؤثر في الميكروبات تأثيرًا
مخصوصًا حتى تجعلها كأنها طعام لذيذ للكريات البيضاء، ولذلك سميت بهذا الاسم
تشبيهًا لها بالإدام.
ومقدار هذه المواد يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وكلما كثرت كانت
البنية أشد مقاومة للميكروب، وهي تزيد بالحقن باللقاح، وبالمرض إذا قاومته
البنية أو غلبته.
ومدة الوقاية من الأمراض تختلف كثيرًا، فإذا أصيب الإنسان بالزهري أو
الجدري فقل أن يعود إليه هذا المرض طول حياته، وإذا أصيب بالدفثيريا أو
الالتهاب الرئوي فقد يعاوده المرض.
ومن الناس من يجتمع في جسمه مرضان، أو أكثر كاجتماع الدفثيريا مع
الحمى القرمزية، وكانوا يظنون سابقًا أن ذلك غير ممكن؛ ولكن الحقيقة أن الجسم
إذا أصيب بمرض كان أكثر تعرضًا للأمراض الأخرى، مما إذا كان سليمًا، وذلك
لضعف قوة المقاومة.
ومن الأمراض ما تُورَّث إما بنفسها كالزهري، وإما بالاستعداد لها كالسل،
فإذا كان أب الإنسان مثلاً مصابًا بالزهري وُلد ابنه مصابًا به أيضًا، وإذا كان
مصابًا بالدرن الرئوي (السل) كان ابنه غالبًا خاليًا من ميكروب هذا الداء؛ ولكن
جسمه يكون مستعدًّا له كل الاستعداد؛ فيصاب به عادة عاجلاً أو آجلاً.
حاملو الأمراض:
إذا أصيب المرء بمرض كالحمى التيفودية، أو كان جسمه ممتنعًا عليه لسبب
ما، ودخلت الميكروبات في أمعائه فمن الجائز أن تعيش في جوفه أشهرًا عديدة،
أو سنين كثيرة، ربما بلغت الخمسين بدون أن يشعر بمرض منها؛ ولكنه يكون
خطرًا على غيره من المستعدين لهذا الداء، وذلك لأن الميكروب يتكاثر في بعض
أحشائه كالأمعاء، أو المرارة، أو الكلى، والمثانة، ويخرج في برازه أو بوله
فيصل إلى طعام الآخرين أو شرابهم ويوردهم موارد الهلاك، ويسمي العلماء
أمثال هؤلاء الناس (حاملي الأمراض) ومنهم من يتكون عنده حصيات في المرارة
بسبب هذه الميكروبات، ولبعض الأمراض الأخرى حاملون كالدفثيريا والكوليرا
وغيرهما.
ومن ذلك يُعْلَم أن الحاملين نوعان:
(1) الحاملون الأصحاء: وهم الذين لم يصابوا بالمرض مطلقًا؛ وإنما كمن
فيهم ميكروبه من غير أذى.
(2) الحاملون الناقهون: وهم الذين يوجد فيهم الميكروب في أثناء
النقاهة من المرض، أو بعدها بمدة مديدة، ويسمون حينئذ بالحاملين المزمنين.
***
الفطر
نوع من الميكروب له خلايا عديدة، وهو أيضًا من فصيلة النبات، إلا أنه
خالٍ من الكلوروفيل، ويتركب من خيوط دقيقة جدًّا، مشتبك بعضها بالبعض الآخر
بغير نظام - وهو الأكثر - كميكروب القرع، أو ببعض نظام - كما في الفطر
الشعاعي (fungus - Ray) .
وبين هذه الخيوط، أو عند مركزها توجد حبيبات كالتي ذكرت في
الميكروبات السابقة، وهي بزور الفطر، ومن الفطر ما يصيب الجلد فيحدث فيه
أمراضًا متنوعة كالقرع، ومنه ما يصيب الفم أو الرئتين وغير ذلك مما سيأتي بيانه
في باب الأمراض المعدية.
ولخلو الفطر من الكلوروفيل لا يمكنه تحليل غاز ثاني أكسيد الفحم، فهو بذلك
يشبه البكتيريا.
ضرورة الكلوروفيل والشمس للحياة:
اعلم أن الكلوروفيل من أوجب ضروريات الحياة في هذا العالم، إذ بوجوده
في النبات يمكنه تركيب النشاء الضروري لتكوين مواد أخرى كثيرة مما في النبات
وهي ضرورية للحيوانات أيضًا، وذلك بتأثير أشعة الشمس معه في الأجسام،
ويحتاج الكلوروفيل لوجود مادة الحديد في الأرض، وإن كانت لا تدخل في تركيبه،
بخلاف حمرة الدم؛ فإن الحديد داخل فيها.
وإذا تأمل الإنسان في هذا العالم وجد أن الحياة تفاعل في قوى المادة كتفاعل
النار تبعًا لسنن مخصوصة، ومن الصعب أن يضع الإنسان تعريفًا لها جامعًا مانعًا
لدخول مثل النار فيه، فإنها تشبه الأحياء في احتياجها إلى غذاء (وقود) ، وتخرج
منها أجسام كما تخرج إفرازات الأحياء وتنقسم كانقسامها وتتحرك كحركتها إلى غير
ذلك من الصفات المشتركة، إلا أن حركتها لا تدل على شيء من الإرادة كحركة
بعض الأحياء (راجع صفحة 42 و 43 من الجزء الأول) .
هذا - وكان المتقدمون يرون أن الشمس ضرورة لتكون الكلوروفيل في
النبات؛ ولكن وجد أنه قد يتكون بحرارة عالية في الظلام التام، ومن هذا نرى أن
الحرارة أو النار سواء أكانت من الشمس أم من غيرها هي الأصل الأصيل للأحياء
قاطبة، ويصعب فصل مفهوم إحداهما (الأحياء والنار) عن الأخرى بالدلائل
المقنعة.
***
الملائكة
كان القدماء لصغر عقولهم لا يقدرون على الاعتقاد بأن إلهًا واحدًا يمكنه تدبير
هذا الكون العظيم كله؛ فلهذا أشركوا به تعالى غيره فجعلوا لكل شيء إلهًا، وكذلك
لكل قوة من قوى هذا الوجود، حتى جعلوا لبعض أعمال الإنسان آلهة، ومن ذلك
ما نراه من أساطير اليونان مثلاً، فإن لهم إلهًا للرياح، وآخر للحرب، وثالثًا للنوم
ورابعًا للنار، وخامسًا للزواج إلى غير ذلك من الآلهة التي تكاد لا تُعَدّ، ولكل من
هذه الآلهة اسم باليونانية يعرفه العالمون بتلك اللغة.
ولما جاءت الرسل إلى الناس كان من أكبر مقاصدهم أن يردوهم عن الشرك
إلى التوحيد، فأبى أكثرهم ترك ما هم عليه، ومن آمن منهم صعب عليه أن يترك
جميع هذه الآلهة مرة واحدة، فأخذوا يسمونها بأسماء أخرى؛ ولكنهم بقوا معتقدين
بوجودها، وتدبيرها لهذا الكون العظيم، ومن ذلك ما نراه في إسرائيليات اليهود
فإنهم ذهبوا إلى أن لكل شيء في هذا العالم مَلَكًا قائمًا بتدبيره، فقالوا إن للمرض
ملكًا، وكذلك للنار، وللماء، وللوحوش، وللطيور، ولسائر الحيوانات، وللريح
وللرعد، وللشجر لكل منها ملك، وللموت ملكان واحد يقبض أرواح القاطنين
بأرض إسرائيل، وآخر يقبض أرواح غيرهم من الساكنين في سائر البقاع الأخرى
ولم يكفهم ذلك، بل زعموا أن الوباء (الطاعون) إذا انتشر فيهم؛ كان بسبب
ملاك يرسله الله تعالى إليهم، ومن ذلك ما روي في سفر صموئيل الثاني (إصحاح
24: 15 - 17) أن داود رأى الملاك الذي ضرب بني إسرائيل بالوباء فمات
منهم 70 ألف رجل.
وقد دخلت هذه الإسرائيليات في الإسلام مع من دخلوا فيه من أهل الكتاب،
وقال المسلمون بملائكة كملائكة اليهود، مع أن القرآن الشريف لم يثبت إلا وجود
القليل منها كما هو معلوم، على أن لنا في فهم معنى كلمة " مَلَك " وجهًا آخر غير
ما يفهمه أكثر الناس، وذلك أن هذا اللفظ مشتق من (مألك) بضم اللام وفتحها،
وهو اسم الرسالة، وقيل مأخوذ من لفظ (لأك) إذا أرسل، وعليه فكلمة ملك تطلق
على كل رسول [3] .
فما يرسله الله تعالى إلى هذا العالم من المادة، أو قواها يصح لغة أن يسمى
ملكًا بلا نزاع، فالريح يُسمى ملكًا، أو رسولاً من الله؛ ولذلك قال تعالى في الرياح:
{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) والرعد كذلك مَلَك؛ لأنه يرسله الله
تعالى لتخويف عباده، وهكذا مما في هذا الكون من قوى المادة العظيمة كالمغنطيس
والكهرباء، وإلى هذا الرأي يشير قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ} (الرعد: 13) فإن الواجب أن تكون بين المعطوفات مناسبة، فعطف
الملائكة على الرعد يشير إلى أن المراد منها بعض القوى الطبيعية كالكهرباء التي
تحدث الرعد والبرق، ولعدم فهم المفسرين هذه المناسبة في هذا العطف زعموا أن
للرعد ملكًا بالمعنى الذي يفهمونه [4] ، ونحن إذا سمعنا قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) لا يتعين عندنا أن نفهم منه ما
يفهمون فعزرائيل [5] لم يرد ذكر اسمه في القرآن، ولا في سنة صحيحة، وإنما هو
اسم مشهور عند اليهود كانوا يسمون به بعض الناس وله عندهم عدة صيغ أخرى؛
ولذلك لا نؤمن بوجوده.
والذي أراه أن الميكروبات هي من رسل الله في هذا العالم، فيجوز أن تسمى
ملائكة، ومنها ما يحدث الأمراض المختلفة، ولا تتحلل جثث جميع الموتى إلا
بالميكروبات، فإذا انحلت الجثث خرجت منها غازات، وعناصر، وأجسام متنوعة،
وإذا ذهبنا إلى أن الروح عبارة عن جزء من مادة الأثير متحد بالجسم لا نستبعد
خروج الروح عند انحلال الجسم بسبب عمل الميكروبات فيه، وعلى ذلك يحمل
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ} (الأنعام: 93) الآية.
فغمرات الموت من (غمر) ومعناها وجود الجسم في أشد درجات الموت
التي تغمره، وهو وقت انحلال الجثة، وبسط اليد كناية عما تفعله الميكروبات بها
من التحليل والإفساد، وقد ورد مثل هذه العبارة كناية أو مجازًا حتى في حق من
هو منزه عن الأعضاء والجوارح فقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة:
64) (وراجع 17: 30) وقوله: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} (الأنعام: 93) هو ما
تقوله الميكروبات بلسان حالها، كما قالت السموات والأرض {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) والتعبير عن الميكروبات بضمير العاقل هو سنة القرآن من أوله
إلى آخره؛ فإنه يعبر غالبًا عن كل ما يعمل عملاً من أعمال العقلاء بضميرهم،
ومن ذلك قوله تعالى في الكواكب وهي أجرام جامدة: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: 33) ، وقوله في الأَصنام: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} (الصافات: 93) لأن المشركين كانوا يعتقدون أنها عاقلة مدبرة.
ولرفع التناقض الظاهري بين قوله تعالى: {مَّلَكُ المَوْت} (السجدة: 11)
بالإفراد، وبين قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) بالجمع نقول: إن
المفرد المضاف يعم كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} (البقرة: 187) أي
لياليه؛ فكذلك يصح أن يكون المراد من ملك الموت ملائكته، أو رسله أي
ميكروباته، وهي عادة من النوع الباسيلي، كما تقدم.
ومن أمثلة ذلك قولهم (حلت دودة القطن بأرض فلان) أي دُودُه، فالمراد
الجنس لا الفرد.
ولا يتوهم أحد مما ذكر أننا ننكر وجود بعض أنواع أخرى من جنود الله التي
لا يعلمها إلا هو، كلا ثم كلا، فإن الإيمان بالملائكة بالمعنى المشهور فرض على
المسلم، ومما يجب علينا الإيمان به أن للوحي ملكًا (جبريل) وهو ليس من قبيل
ما ذكرناه، وإنما مرادنا أن الميكروبات مما يدخل تحت لفظ الملائكة، وليسوا هم
كل الملائكة.
وآية فاطر التي ورد فيها ذكر الأجنحة للملائكة يمكننا أيضًا تطبيقها على
الميكروبات، فقد سبق أن لبعض الميكروبات أهدابًا مثنى (كما في ميكروبات
الكوليرا) فإن لها هدبين أحيانًا في طرف منها، وإذا اجتمع اثنان منها، والتصقا
معًا جاز أن يكون لهما ثلاثة أهداب، ولميكروب الحمى الراجعة أربعة أهداب،
وللتيفود أهداب عديدة، يزيد في الخلق ما يشاء، ولا شك أن الجناح يُطلق على
الجنب، واليد، والعضد، والإبط ومنه قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} (طه: 22) فلا مانع من إطلاقها على هذه الأهداب التي هي بمثابة الأيدي
للميكروبات، على أننا لسنا في حاجة إلى تطبيق هذه الآية على الميكروبات، فإنه
ليس المراد من كون الميكروبات من الملائكة أن كل ما يسمى ملكًا يكون له أجنحة،
ويكون عاقلاً مكرمًا عند الله، بل المراد أن كل ما هو خاضع لأمر الله يرسله
متى شاء، فهو من ملائكته أي رسله.
هذا - ولا يتوهم من قوله تعالى في سورة العنكبوت مثلاً عن لسان الملائكة
{إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ} (العنكبوت: 31) ونحن أعلم بمن فيها {إِنَّا
مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزاً} (العنكبوت: 34) الآيات أن القرآن -
ككتب الأمم الأخرى - يَنْسب إلى الملائكة الأعمال التي تجري في هذا العالم حسب
السنن الإلهية المعتادة، كنسف القرى، وقلب الأرض بالثورات البركانية؛ فإن
هؤلاء الملائكة كانت وظيفتهم قاصرة على إخبار إبراهيم ولوط بما قدره الله لقوم
لوط ولزوجه، وعلى إرشاده إلى ما يجب عمله حتى ينجو مما سيحل بهم؛ وإنما
عبروا بتلك العبارات التي يُفهم منها أنهم أنفسهم هم الفاعلون لكيت وكيت؛ لأنهم
رسل الله أُرسلوا بأمره وإرشاده؛ ليكونوا نائبين عنه تعالى في تبليغ ما أراد للوط
فهم متكلمون عن الله وبلسانه جل شأنه، فالمهلك والعالم بحال الناس، والمنزل
الرجز هو الله الذي أمرهم أن يقولوا عنه ذلك، وقد تقدم لهذه المسألة نظير في
قصة مريم وجبريل عليهما السلام (راجع صفحة 118 من الجزء الأول) ولذلك
قالت الملائكة للوط {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغَابِرِينَ} (الحجر: 60) كما في
سورة الحجر، مع العلم بأن الله تعالى وحده هو الذي قدر كل شيء؛ وإنما هم
مبلِّغون بأمره عن قدره.
وعليه فالتقدير في سورة العنكبوت هو هكذا: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ
بِالْبُشْرَى قَالُوا} (العنكبوت: 31) تبليغًا عنا {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ} (العنكبوت: 31) .. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} (العنكبوت:
32) أي قالوا عنا إننا نعلم بمن فيها {وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (العنكبوت:
33-35) فالمتكلم الحقيقي في كل هذه الآيات هو الله تعالى كما هو ظاهر من
آخرها، والملائكة إنما يرددون هذه العبارات لتبليغها إلى لوط بالنيابة عن الله تعالى،
فافهم ذلك، ولا تكن من الجاهلين.
***
الجن
هذا اللفظ مشتق من مادة الجيم والنون، وهذه المادة تفيد معنى الستر، ومن
ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} (الأنعام: 76) أي ستره، وأجن
الشيء في صدره أي أكنه، والجنين:المخلوق ما دام في البطن، والجنة:السترة،
والجنان القلب لاستتاره، واستجن أي استتر بستره، والمجن الترس، وكلها تفيد
معنى الخفاء والاستتار، فلفظ الجن يطلق أيضًا على الميكروبات لاستتارها، فهي
ملائكة مرسلة من الله، ومستترة عن أعين البشر.
ومن ذلك حديث (الطاعون وخز أعدائكم من الجن) وفيه إشعار بأن للإنسان
أعداء من غير الجن، وهو صحيح.
ونقول في خلقها إننا إذا لاحظنا أن الميكروبات نباتات، والنباتات سابقة
لجميع الحيوانات، فهي مخلوقة من الأرض بعد أن أخذت في البرودة.
وإذا لاحظنا أن القرآن الشريف نص على أن الله تعالى جعل من الماء كل
شيء حي، أمكننا أن نقول إنها خُلقت باتحاد بعض العناصر مع الماء أو بخاره في
وقت كانت الأرض فيه شديدة الحرارة , أو آخذة في البرودة.
ولا يخفى على المطلعين على العلوم الطبيعية أن الراجح أن الأرض كانت
شعلة من النار مشتقة من الشمس، فإذا قلنا: إن هذه النباتات هي أول ما كُوِّن من
الأحياء في الأرض فهمنا معنَى أنها مخلوقة من النار، إذ ليس معنى هذا الخلق أنها
خُلقت مباشرة منها، بل خلقت أطوارًا، كما أن الإنسان لم يُخلق مباشرة من التراب،
بل خُلق منه طورًا بعد طور، فالحق أن جميع الأحياء مخلوقة من الأرض ,
والأرض مخلوقة من النار، ولما كانت النباتات أول المخلوقات كانت أسبق منا إلى
طور النار، وأقرب بها عهدًا منا، على أنه ليس المراد بكون الميكروبات أو
غيرها من الجن أن كل ما يسمى جنًّا مخلوق من مادة واحدة، بل معناه أن كل ذلك
من العوالم الخفية المجتنة.
***
العدوى
قبل الكلام في هذا الموضوع يجب أن نذكر ما ورد من الأحاديث المثبتة
للعدوى والنافية لها، ثم نجمع بينهما بما يفتح الله به علينا.
فمن الأحاديث المثبتة للعدوى: (قوله صلى الله عليه وسلم) : (كَلِّمْ المجذوم
وبينك وبينه قدر رمح أو رمحين) [6] وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن كان
شيء من الداء يعدي فهو هذا) يعني الجُذام (وقوله صلى الله عليه وسلم) :
(اتقوا المجذوم كما يُتقى الأسد) وقوله (صلى الله عليه وسلم) لرجل مجذوم كان
في وفد ثقيف: (ارجع فقد بايعناك) وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سمعتم
بالطاعون بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه) وهذا الحديث يصح أن يعتبر مبدأ
يجري عليه الناس في مسألة الحجر المسمى باللاتينية (Quarantine) ومعناه
الأصلي (أربعون) لأن السفن الآتية من البلاد الموبوءة كانت تمنع من الاقتراب
من شاطئ البلاد السليمة مدة أربعين يومًا، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يريد
بهذا الحديث أن يعمل المسلمون أيضًا مثل هذا الحجر على البلاد الموبوءة، فلا
يدخلوا فيها لئلا يصابوا، ولا يخرج الناس منها لئلا ينشروا العدوى بين الآخرين.
وورد أن أبا عبيدة قال لعمر حينما خاف من طاعون الشام: أفرارًا من قدر
الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم فرارًا من قدر الله إلى قدر الله،
وورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يُورَدَن مُمرض على مُصح)
وفي لفظ (لا يوردن ذو عاهة على مصح) .
ومن الأحاديث النافية للعدوى: - قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يعدي
شيء شيئا فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها،
ورزقها، ومصائبها) ، وفي حديث آخر (فمن أعدى الأول؟) وقوله - صلى
الله عليه وسلم - (لا عدوى ولا هامة، ولا صفر، ولا يحل الممرض على
المصح، وليحل المصح حيث شاء. قيل: ولم ذاك؟ قال لأنه أذى. وقوله: لا
عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، قيل: يا رسول الله! أرأيت البعير يكون به
الجرب؛ فيجرب الإبل كله؟ قال - ذلكم القدر، فمن أجرب الأول؟) .
هذا شيء مما ورد في هذه المسألة، وقبل الخوض فيها يجب أن نتذكر ما
روي عن أنس أن الرسول قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم فعلى فرض أننا لا يمكننا
تأويل الأحاديث النافية للعدوى، فالمسلم لا يتحتم عليه أن يأخذ بها - كما سبق في
صفحة 165 من الجزء الأول - فإنه أَدْرَى بأمور دنياه يأخذ منها ما ثبت عنده
بالبرهان، على أننا إذا راجعنا جميع هذه الأحاديث ظهر لنا أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - كانوا يعتقدون بالعدوى كما هو صريح
ما ذكرناه منها.
أما نفي العدوى فيقال فيه ما يأتي:
العدوى لغة: هي انتقال المرض من شخص إلى آخر، وكانت العرب تعتقد
أن المرض لا يأتي إلا من مريض؛ ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لهم فمن
أعدى الأول؟ ، ولا يخفى أن المرض عرض لا يمكن أن يقوم بذاته، وعليه
فيستحيل أن ينتقل المرض من شخص إلى آخر، وهذا مما يُفهم من قوله (صلى
الله عليه وسلم) لا عدوى أي لا ينتقل المرض، وهذا حق.
أما انتقال جراثيمه، فهو أمر كانت تجهله العرب، فلم يكن حديثهم، ولا
حديث الرسل فيه، وأيضًا قد ينتقل الميكروب، ولا يحدث المرض كما سبق في
باب الوقاية، فليس انتقال الميكروب شرطًا لحدوث المرض، ومن الميكروبات ما
يكون منتشرًا في الهواء أو الطين أو غيرهما، وهي التي أصابت الأول المذكور
في الحديث [7] ، والميكروبات التي تصل إلى الإنسان لا تحدث فيه المرض إلا إذا
كان مستعدًّا له، والاستعداد يكون بأسباب وأحوال أرادها الله تعالى، وجعل السبب
فيها على قدر المسبب، وذلك ما يسمى بالقدر في الأحاديث، فالأساس الأصيل في
حدوث الأمراض هو القدر، ولولاه لما فعلت الميكروبات بالجسم شيئًا مطلقًا،
وحكمة ذكر هذه الأحاديث بعد نصه (صلى الله عليه وسلم) على وجوب الابتعاد
عن المرضى، وتعليله ذلك بأنه أذى، أي ضرر، هي أن الإنسان يجب عليه أن
لا يتغالى في أمر العدوى بمجرد اقترابه من المريض؛ فإن ذلك يحدث في الجسم
وهمًا، ووسوسة، قد يؤديان إلى ضعف حقيقي في الجسم أو العقل، ويؤدي بالناس
إلى الامتناع عن تمريض المريض، أو معالجته لمجرد الوهم، وفي ذلك ما فيه من
الضرر.
ولذلك تجد الأطباء لا يبالون بالوسوسة في أمر العدوى، ويقابلون كل مريض
ويقتربون منه أشد القرب، بل ويمسكون بأيديهم ما فيه الميكروبات، ولا يجبنون
فإن العاقل يجب أن لا يكون جبانًا، ولولا ذلك لما تقدمت الأبحاث العملية كل هذا
التقدم.
والخلاصة أن الخوف من العدوى يجب أن يكون في دائرة العقل، فلا يجوز
أن يفرط الإنسان فيها، ولا يجوز أن يفرط من الرعب منها؛ فإن ما قدر الله
للإنسان من حيث قوة بنيته أو ضعفها ومقاومتها للأمراض، لا بد أن يكون، وإذا
فرض أن امرأ كان مستعدًّا لمرض لما أتاه المرض من حيث لا يحتسب؛ فلذا كان
الواجب الاعتدال في العدوى كما هو واجب في كل شيء.
وعبارة عمر - رضي الله عنه - السابقة في القدر، صريحة في وجوب
العناية بأوامر الطب وعدم مخالفتها اعتمادًا على القدر، وهي من أعلى الحكم
الفلسفية.
ومن مضار شدة الوسوسة في مسألة العدوى أن الموسوس يمتنع عن ملامسة
كل شيء مما في هذا العالم إلا بشروط مخصوصة توجب الإعياء والإعنات، فمثلا
يتجنب لمس النقود ونحوها كالأوراق المالية، ويتجنب محادثة الناس واستنشاق
الهواء خوفًا من أن يكون مر على مرضى أو موتى، ويتجنب الأكل، أو الشرب،
أو النوم، أو الركوب في الحضر والسفر حيث يفعل الناس كل ذلك، وفيه من
الضرر البليغ ما لا يخفى على المفكر.
أما الصَّفَر (بفتحتين) فهو ما كانت تزعمه العرب من أن في البطن حية
تعض الإنسان إذا جاع، واللذع الذي يجده عند الجوع من عضها , وهذه الحية لا
وجود لها في الإنسان السليم، وإنما قد يوجد في البطن أنواع كثيرة من الديدان،
منها نوع يشبه الثعبان الصغير؛ ولكنه غير موجود في جميع أفراد الإنسان كما
توهموا، وليس هو السبب في الإحساس بالجوع كما كانت تزعم العرب، وقيل:
إن معنى (لا صفر) أن الأمور الرديئة لا تقع في صفر دون غيره من الشهور،
بل هو كغيره، ولاعتقاد العرب أن هذا الشهر مشؤوم كانوا يحرمونه، ويستحلون
المحرم بدله.
فأنت ترى من كلا التفسيرين أن ليس المراد نفي (صَفر) مطلقًا، بل نفي ما
كان تعتقده العرب فيه، سواء أكان اعتقادهم أنه دودة في بطن كل امرئ تحدث
عنده الجوع، أم كان شهرًا مشؤمًا دون الشهور، فكذلك ليس المراد من نفي العدوى
نفيها مطلقًا، بل نفي ما كانت تعتقده العرب فيها من أن الأمراض تنتقل بنفسها،
وأنه يتحتم حصول المرض بمجرد الاقتراب من المريض، وأنه لا مرض يصلح
إلا من مريض سابق، وكلها أوهام باطلة نفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وهو محق في ذلك كل الحق كما نفى الصفر، وكما نفى الهامة.
وأما الهامة فهي لغة الرأس، وطير من طيور الليل يسمى الصدى، وهو ذَكَر
البوم، وهو المراد في الحديث، وكانت تزعم العرب أن روح القتيل الذي لا يُدرك
بثأره تصير هامة، وتصيح على قبره -: اسقوني! اسقوني! ، فإذا أُدرك بثأره
طارت، وهذا أيضًا من الخرافات التي جاء الإسلام بتطهير العقول منها.
***
استدراك على حياة الميكروبات
ظهر مما سبق أن العلماء يعتقدون أن الميكروبات خالدة - كما يعبرون - وهم
كذلك يعتقدون أن المادة وقواها خالدة، أفليس من أعجب العجب بعد ذلك أن يعتقدوا
أن الإنسان غير خالد مع أنه أرقاها، ولم تعتن الطبيعة بمخلوق اعتناءها به؟ -
كما يقولون - أليس في محافظة الميكروبات على نوعها بالحبيبات (Spores)
إشارة لنا إلى أن روح الإنسان هي كحبيبة الميكروب؟ وكما أن الميكروب ينتقل
بذلك من طور إلى طور، فكذلك الإنسان ينتقل بروحه من طور إلى آخر.
فهل بعد ذلك يكون في عقيدة البعث شيء من الغرابة أو المنافاة لسنن الكون
حتى ينكرها المنكرون؟ ! .
***
الأحياء الطفيلية أو التسلقية
هي التي تتسلق غيرها (أي تعلوه) ، وتتطفل عليه فتتغذى منه، وهي نباتية
وحيوانية، والنباتية أكثرها فتكًا بالإنسان وغيره، وأشدها خطرًا.
النباتية:
تشمل بعض أنواع البكتيريا التي يتركب أكثرها من خلية واحدة -كما سبق-
والفطر الذي يتركب من خلايا متعددة - وقد تقدم البيان الشافي عنهما - ويلاحظ
في هذه الأحياء النباتية والحيوانية أنها كلما دقت وصغرت كانت أشد خطرًا من
الكبيرة، ولله في خلقه شؤون، فكأنه تعالى قد وضع سره في أصغر خلقه (كما
تقول العامة) .
الحيوانية، وأشهر أنواعها:
(1) ذوات الخلية الواحدة، وتسمى بالإفرنجية (Protozoa) ، وهو
لفظ يوناني معناه الحرفي (الحيوانات الأولى) ، وأشهر أمثلتها جرثومة (الملاريا)
وتسمى بالعربية (النافض) أي ذات الرعدة، وأحد نوعي (الدوسنطاريا) وتسمى
بالعربية (الزحار) أي التي تحدث الزحير، وبعض الحلزونيات كحلزوني
الزهري، والحمى الراجعة، وهذه هي التي تنقسم بالطول - كما قلنا - بخلاف
البكتيريا؛ فإنها تنقسم بالعرض، وذلك من أهم ما يميز الواحد منهما عن الآخر.
(2) حشرات صغيرة مركبة من خلايا عديدة، تكوِّن حيوانًا صغيرًا مثل
أكروس الجرب والقردان، كما في بلاد السودان (Ticks) ، وهو جمع قُراد،
وكلاهما من الفصيلة العنكبوتية.
(3) حشرات كبيرة كالقمل والبراغيث والبق.
(4) النَّغف: وهو الذي يسميه الأطباء المحدثون (اليرقات) ، وهي الدود
الذي يخرج من بيض بعض أنواع الذباب، ويعيش في جلد الإنسان أو أذنيه، أو
أنفه.
(5) الديدان بأنواعها والأكياس الدودية: ومن أشهر أنواع الديدان: ... ...
(أ) المعوية: كالدودة الشريطية.
(ب) الدموية: كالبلهارزية وهي دودة اكتشفها في مصر الباحث الشهير
ثيودور بلهارز (Bilharz Theodor) سنة 1851، وهي توجد في بعض
أوردة الإنسان (كالوريد الباب) وهي السبب في ما يصيب أكثر المصريين من
البول الدموي، أو البراز الدموي أيضًا.
(ج) اللمفاوية: كالفلاريا (Filaria) وهي كلمة مأخوذة من اللاتينية
ومعناها الخيط، وهذه الدودة هي السبب في البول اللبني، وداء الفيل.
(د) الصفراوية: كالدودة الورقية (Hepaticum Distoma) التي
توجد في مرارة البهائم، ومجرى المِرّة (الصفراء) فيها، وقد توجد في الإنسان
نادرًا، وهي تشبه الورقة الصغيرة شبهًا تامًّا، وطولها نحو 25 مليمترًا، وعرضها
12 مليمترًا، وتكون مطوية على نفسها، وقد تسد مجرى الصفراء في الإنسان؛
فتحدث عنده اليرقان، وتنزل الصفراء في بوله.
(هـ) الجلدية: كالعرق المدني، وهو نوع من الفلاريا يسكن تحت جلد
الإنسان خصوصًا في أرجله، وهي كثيرة الوجود في سكان المدينة المنورة، وبلاد
الهند، وغينيا (بأفريقية) ، والسودان.
(و) العضلية: كدودة الشعرة الحلزونية (Spiralis Trichina) طول
الذكر منها 1.5 مليمتر، وطول الأنثى نحو 3 مليمترات، وهذه الدودة تسكن
كبارها في أمعاء الإنسان، وصغارها في عضلاته، وإنما ذُكرت على حدة؛ لأن
وجودها في الأمعاء لا ينشأ عنه ضرر يذكر، وكل الضرر من وجود صغارها في
العضلات؛ فإنها تحدث ألمًا شديدًا، وحمى تشبه الحمى التيفودية، والمرض
الناشئ منها شديد الخطر على الحياة، وصغار هذه الدودة التي تسكن العضلات
تُرى فيها بالعين المجردة كنقط مبيضة صغيرة جدًّا، طولها جزء من ثمانية وسبعين
جزءًا من البوصة، وهذه النقط هي الديدان، وما أحاط بها من الغلف، وتصل هذه
الدودة إلى الناس من أكل لحم الخنزير، ويكثر وجودها بعض الكثرة في بلاد ألمانية
لكثرة أكل أهلها لحم الخنزير، وتصاب الفئران بهذه الدودة أيضًا؛ فتنتشر في
عضلاتها، والفئران يأكل بعضها البعض الميت؛ فتنتشر الدودة بينها، وهي تأوي
إلى زرائب الخنازير، وتموت فيها، والخنازير مولعة بأكلها أيضًا؛ فينتشر فيها
المرض لذلك، ومنها يصل إلى الإنسان، وسيأتي - إن شاء الله - البيان الشافي
عن جميع هذه الديدان، وتواريخ حياتها، والأمراض التي تنشأ عنها تفصيلاً.
***
الأمراض التي تنشأ من الأحياء الطفيلية
(مقدمة في الحمى)
ذكرنا في الجزء الأول (صفحة 11و12) حقيقة الحمى، ومنشأها، وغير
ذلك مما يتعلق بها إجمالاً، ونريد الآن أن نفصل القول فيها تفصيلاً، فنقول:
الحمى هو ارتفاع حرارة الإنسان عن الدرجة الطبيعية، وتكون مصحوبة
بأعراض كثيرة تصيب أجزاء الجسم المختلفة، وإليك تفصيلها:
الجلد:
يكون ساخنًا وجافًّا غالبًا، وقد يُندى بالعرق، وفي بعض الحميات يكون
العرق غزيرًا، ولون الوجه محمرًّا، وفي بعضها يظهر في الجلد ما يسمى
(بالطفح) وهو أنواع كثيرة، منها نقط حمراء تزول بالضغط عليها، أو نقط ناشئة
من نزف تحت الجلد، وهذه لا تزول بالضغط، ومنها بثور كما في الجدري،
والظاهر أن سموم الميكروبات تحدث شللاً في الأوعية الدموية للجلد أثناء محاولتها
الخروج من البنية أو تحدث تهيجًا أو التهابًا في الجلد؛ فينشأ من ذلك الشلل، أو ذلك
التهيج أو الالتهاب أنواع من الطفح تختلف باختلاف كل مرض، وسيأتي بيانها، وفي
بعض الحميات التي يكثر فيها العرق كالحمى التيفودية والرثية (الروماتزم) تشاهد
حبوب صغيرة جدًّا في الجلد ممتلئة بسائل رائق، وهي تتكون من ارتفاع الطبقات
العليا للبشرة بتراكم العرق تحتها.
الجهاز الهضمي:
يكون اللسان مغطى في أول الأمر بطبقة بيضاء، ثم يجف، وتزول هذه
الطبقة من مقدم اللسان وحوافيه؛ فيرى لونه أحمر، ثم يشتد الجفاف، ويسمر لون
اللسان، ويتشقق، وتجتمع عليه وعلى الأسنان والشفتين أوساخ مسودة، ويفقد
المصاب شهوة الطعام، وقد يصيبه القيء، ويكون الهضم ضعيفًا جدًّا، ويمسك
البطن، ويعظم حجم الطحال.
الدورة الدموية:
يسرع القلب في ضرباته في أول الأمر، ثم يضعف، ويصل النبض إلى 80
أو 120 فأكثر في الدقيقة، وتتمدد عضلة القلب بسبب الضعف.
التنفس:
يسرع أيضًا التنفس، فيصل إلى 30 أو 40 مرة في الدقيقة، وإذا طالت مدة
الحمى تحتقن قاعدتا الرئتين، وتكثر النزلات الشعبية أو الرئوية.
البول:
يقل مقداره، ويشتد لونه، وترسب فيه أملاح حمراء من حامض البوليك،
وتكثر البولينا، وتكون أملاح الكلوريد (كملح الطعام) قليلة عادة خصوصًا في
التهاب الرئة، أما في الملاريا فتزيد هذه الأملاح عند ارتفاع الحرارة فيها.
الجهاز العصبي:
يكثر الصداع في أول الحمى، ويشعر الإنسان بتكسر في جميع الجسم،
ويسأم كل عمل جثماني أو عقلي، وبعد قليل يصيبه ضعف في قواه العقلية، ويميل
إلى النعاس، وإذا نام ابتدأ يهذي، وبعد ذلك يكثر الهيجان، ويزول النوم ويشتد
الهذيان؛ فيكثر المريض من اللغو، ويصاب بما يشبه الجنون، وقد يقوم من فراشه،
ويتشاجر مع ممرضيه أو أطبائه، وقد يحاول أن يلقي بنفسه من نافدة المكان، ثم
تهمد قواه، ويصاب بالغيبوبة؛ فيفقد كل شعوره، وقبل تمام الغيبوبة يصاب
بارتعاش في حركاته، وتقلص في العضلات (يسمى بالاهتزاز الوتري) ويلتقط
أشياء وهمية يراها أمامه في الهواء، وينتهي الأمر به إلى أن يتبرز بدون شعوره،
ولعدم إحساس المثانة بما فيها يتراكم البول حتى تُفْعَم به.
(اختلاف الحرارة اليومي)
كما أن الحرارة الطبيعية تختلف في المساء عن الصباح [8] ، كذلك حرارة
المحموم تكون غالبًا في المساء أعلى منها في الصباح، وفي بعض الأمراض تكون
بالعكس؛ فترتفع صباحًا، وتنخفض مساء، ويسمى ذلك (بالطراز المقلوب)
(Inversus Typus) كما في الدرن العام المسمَّى بالدرن الدخني.
ومن الحرارة ما يكون دائم الارتفاع بكثير عن الدرجة الطبيعية، ومنها ما
يقرب في الصباح من الدرجة الطبيعية، ومنها ما تصل في الصباح إلى الدرجة
الطبيعية أو تحتها؛ ولكن ترتفع في المساء كثيرًا، وعند ارتفاعها يزداد التنفس
والنبض كما سبق، وقد تحصل للمحموم قشعريرة لإحساسه بالبرد، وإن كانت
درجة الحرارة في الحقيقة عالية؛ ولكن لانقباض أوعية الدم التي في الجلد يحصل
له هذا الإحساس بالبرد.
ومن الحميات ما يزول بالتدريج؛ فتأخذ الحرارة في النقص يومًا بعد يوم
حتى تصير طبيعية، ومنها ما يزول دفعة واحدة؛ فيشفى الإنسان في ظرف 12
ساعة أو 36 ساعة، وعندئذ قد يصاب الإنسان بالإسهال، أو بالعرق الغزير أو
يحصل له الرُّعاف، ويسمى انخفاض الحرارة الفجائي (بالبحران) وبعد انخفاض
الحرارة قد تبقى بضعة أيام أقل قليلاً من الدرجة الطبيعية.
(درجات الحرارة المختلفة)
درجة الهمود أو الهبوط ... ... ... 35.5ْ أو أقل
الدرجة التي تحت الطبيعية ... ... 36.4 ْ
الطبيعية ... ... ... ... ... 36.5ْ إلى 37.2ْ
الحمى الخفيفة ما كانت فوق ... ... 37.5 ْ بقليل
الحمى الشديدة ... ... ... ... ... 39ْ إلى 40ْ
الحممى الأشد ... ... ... ... ... 40ْ إلى 43ْ وفي النادر جدًّا 44ْ
فإذا زادت الحرارة على 44 درجة، فلا أمل في الحياة غالبًا، ما لم تُستعمل
أشد العلاجات الفعالة، وهي التبريد السريع بالماء والثلج.
(الموت بالحميات)
يحصل الموت - إما من نهك الحمى للقوى بسمها، مع طول المرض أو بشدة
تسمم الدم في أيام قليلة - أو من زيادة الحرارة زيادة فاحشة كأن تصل إلى 44 مثلاً،
واعلم أن طول التعرض لحرارة فوق 40ْ سنتجراد يقتل (البروتوبلازم) ويجمده،
ويسمى ذلك بتيبس الحرارة Heat Rigor)) (انظر ص 15 من كتاب
فسيولوجيا هليبرتون) (Hallibtrton) - أو من شلل القلب - أو من
المضاعفات الرئوية، أو غيرها.
ويكون الدم بعد الوفاة رقيقًا مسودًّا، وتقل كرياته الحمراء، وتكثر البيضاء
وتشاهد أنزفة نقطية كلدغ البراغيث (Petechiae) ، أو أكبر في الأغشية
المصلية كالبليورا أو الشفاف، أما الأحشاء (الكبد والحال والكُليتان) فتكون كبيرة
رخوة، ويحصل في خلاياها استحالات [9] حبيبية أو دهنية، وكذلك تصاب
العضلات بتلف في منسوجها، سنتكلم عليه في بحث الحمى التيفودية.
(المضاعفات والعواقب)
كثيرًا ما يطرأ على الإنسان في أثناء الحمى بعض أعراض أخرى مرضية
تزيد المرض شدة فوق شدة، وقد يصاب الإنسان أيضًا بعدها ببعض أمراض تكون
كالنتيجة لها، ويسمى النوع الأول بالمضاعفات، ومثاله التهاب البريتون في الحمى
التيفودية، ويسمى النوع الثاني بالعواقب أو العقابيل، كالشلل عقب الدفثيريا؛ فإنه
يصيب المريض بعد شفائه منها ببضعة أيام أو أسابيع.
(معالجة الحمى)
يوضع المريض على فراشه ليستريح راحة تامة في مكان صحي طلق الهواء
وتخفف عنه أغطيته وملابسه - بعكس ما يتوهم الجاهلون - نعم ينبغي أن تدفأ
الأطراف السفلى خصوصًا إذا ضعفت قوى المريض، وأصابتها البرودة.
والغذاء يكون من السوائل المغذية السهلة الهضم مثل اللبن والمرق [10] ، وماء
الشعير، ولا بأس من طبخها بقليل من دقيق بعض الحبوب أو بمسحوق ناعم من
الخبز الإسفنجي الهش، ويحسن تحلية اللبن بالسكر، أو عسل النحل المصفى،
ويعطى للمريض أيضًا المياه الغازية؛ فإنها نافعة للمعدة، ومن المستحسن أيضًا
إعطاؤه بعض الأشربة الحلوة كشراب التمر الهندي، والسكر مع الليمون، وعصير
البرتقال المصفى، ويشترط في هذه السوائل الحامضة أن يُفصل بينها وبين تعاطي
اللبن بنحو ساعتين لئلا يتجبن؛ فيتقيأه المريض، وليشرب من الماء ما يريد فإنه
منعش مغذٍّ غاسل للسموم، واللبن الخاثر (لبن الزبادي) نافع جدًّا، ومن أسهل
الأغذية هضمًا وأنفعها أن يُمزج بياض بيضتين بنحو ربع لتر من ماء راشح،
ويحلى بعسل النحل النقي، ويضاف عليه جزء من عصير الليمون، ثم يثلج
ويشرب منه المريض، ويجب أن تعطى هذه السوائل المغذية بمقادير صغيرة في
فترات قصيرة متعددة، كأن يعطى له اللبن قدر ملء خمسة فناجين كل ساعتين مرة،
ويكون مقداره في اليوم نحو ثلاثة أرطال (مصري) أو أربعة، وتبريده بالثلج
محمود كثيرًا.
ولا يتوهمن أحد أنه يوجد لأكثر هذه الحميات الآن دواء قاطع لسيرها في
الحال [11] ، بل لا بد أن تتم أطوارها، وإنما يمكننا تخفيف وطأتها، وإضعاف شدتها
لكيلا تفسد الأحشاء، وكذلك يمكننا ملافاة كثير من أعراضها الخطرة كالتهاب الرئة
أو ضعف القلب، أو ما ينشأ من بعضها من الأنزفة كالنزف المعوي في الحمى
التيفودية.
ومن الأدوية ما يخفض الحرارة مؤقتًا بعد استعماله بساعتين أو ثلاث
ككبريتات الكينين (من 20 إلى 30 قمحة) ولكن استعمال الماء البارد أفضل من
جميع هذه الأدوية، وطريقة ذلك أن تؤخذ حرارة المريض كل 3 ساعات مرة،
وكلما وُجدت 39ْ فأكثر يوضع في الماء البارد مدة 10 دقائق أو 15 دقيقة، ثم
يُرفع منها، وينشف جيدًا، ويوضع على فراشه بالراحة، فنجد أن الحرارة صارت
طبيعية، أو أقل؛ ولكنها لا تلبث إلا قليلاً وترفع، وكلما عادت عدنا، ويجوز أن
يُلف المريض مدة ربع ساعة بمثل ملاءة بعد غمسها في الماء المثلوج، لا يخيفنا
من استعمال الماء البارد إلا أشياء قليلة جدًّا، وهي الهمود الشديد، والنزف المعوي
، والمضاعفات الرئوية البالغة، وظاهر أنه في حال الهمود أو النزف الشديد تكون
الحرارة منخفضة، وإذًا يكون استعمال الماء البارد لا مسوغ له من أول الأمر،
وفائدة هذا التبريد تحسين الأعراض عمومًا، وتقليل حدوث المضاعفات،
والاستحالة الحبيبية للأعضاء.
وإذا أصاب المريض همود في قواه يتعين استعمال المنعشات، وأقربها إلينا
القهوة والشاي والخمر؛ ولكن يشترط في استعمال الخمر أن لا تعطى بمقادير كبيرة
لأيام كثيرة، وإلا حدث منها سرعة في النبض، وشدة في الهذيان، ومقدارها
المعتاد من 2-8 أواقي (أو فناجين قهوة) في اليوم.
ومن الأدوية التي يستعملها الطبيب النافعة في الهمود الديجيتالا [12] ،
والنوشادر، والأثير، والإستركنين، ويستحسن إعطاء شيء من الببسين مع
حامض الهيدروكلوريك [13] لتقوية هضم المعدة لقلة إفراز هذين الجوهرين في
الحميات، ويجب عند ابتداء المرض في جميع الحميات أن يعطى مسهلاً كالملح
الإنكليزي، أو زيت الخروع لتنظيف القناة الهضمية والجسم.
وإذا تعذر تغذية المريض في أثناء الغيبوبة غُذي بالحُقن الشرجية المغذية،
وحقن بالمنبهات، وبمحلول ملح الطعام الطبيعي؛ فإنه منعش مدر للبول مزيل
لبعض سموم الميكروبات، وغرقئ (بياض) البيضة إذا حقن في الشرج مع جرام
ملح امتص منه، ونفع المريض.
(تنبيهان)
الأول: في جميع الحميات يجب عزل المريض في مكان خاص، بحيث لا
يختلط به أحد من الناس مطلقًا إلا القائمون بتمريضه أو مداواته، ولا يُسمح لأحد
بزيارته، وذلك واجب طبًّا وقانونًا منعًا لانتشار العدوى بين الناس، وليس فيه
مخالفة لآداب الإسلام في عيادة المريض، فقد ذكرنا من الأحاديث، ومن أقوال
الصحابة كعمر - رضي الله عنه - ما يدل صريحًا على أن الإنسان إذا خشي
العدوى وجب عليه أن يتَّقي القرب من المريض، على أن الحميات إذا اشتدت
أحدثت ذهولاً عند المريض، بحيث لا يقدر على تمييز زائريه أو محادثتهم بالعقل
والحكمة، وأيضًا فمن آداب عيادة المريض في الإسلام أن لا يُطيل العائد المُكث
عنده حتى لو كان مرضه غير معدٍ؛ لأن ذلك يكون سببًا في مضايقة المريض،
وفي الحديث أن قومًا شكوا إليه صلى الله عليه وسلم وباء أرضهم فقال: (تحولوا فإن
من القرف التلف) .
والقرف مداناة المريض، فصريح هذه الحديث يدل على وجوب البعد عن
المرض لاجتناب التلف.
الثاني: الواجب أن يطهر الطعام الذي يعطى للمرضى بالغلي جيدًا، ثم يبرد
بسرعة؛ فإن من الميكروبات ما يسمى (محب الحرارة) (Thermophilic) ؛
وذلك لأنها تتكاثر في حرارة 60ْ إلى 70ْ سنتجراد، فإذا لم يطهر اللبن مثلاً بالغلي،
ولم يُبرَّد سريعًا انتهزت هذه الميكروبات فرصة سخونة اللبن إذا تُرِك يَبرد بنفسه؛
فتتكاثر فيه، وتُحْدِث مواد تؤذي الصحة، وهذه الميكروبات توجد في الطين
والماء وغيرهما، ومنهما تصل إلى اللبن، فلذا يجب قتلها بالغلي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا لا ينافي أن أكثرها يمكن تربيته تربية صناعية على أشياء غير حية كالمرق، كما تقدم.
(2) قد تمتد مدة التفريخ في الجذام إلى عشر سنين، وفي الكلب إلى عشرين سنة.
(3) المنار: ما قاله الكاتب في هذا البحث ضعيف لغة وشرعًا، إلا أنه مذهب له واصطلاح خالف فيه الناس كما قال؛ ولكن له فائدة لأجلها أجزنا نشره، وهي أن المغرورين بما أصابوا من علم البشر القليل بشؤون الكون يتوهمون أنهم بذلك القليل من القليل قد أحاطوا علمًا بهذا العالم العظيم وبخالقه أيضًا، وأن ما لا ينطبق على علمهم لا يكون صحيحًا، وإن كان ممكنًا في نفسه، فمثل هذه التأويلات تقطع ألسنة هؤلاء الواهمين المغرورين دون الاعتراض على النصوص، أو تزيل شبهاتهم فلا يصعب عليهم الجمع بين علمهم، وبين الدين، ولأن يكون أحدهم متدينًا مؤولاً، خير من أن يكون زنديقًا معطلاً أما بيان ضعف ما ذكر لغة فلأن الألفاظ التي صارت حقيقة شرعية أو عرفية لا يجوز أن يدخل في مفهومها كل ما يناسب الأصل الذي اشتقت منه، وأما ضعفه شرعًا فهو أظهر، والملائكة من عالم الغيب الذي يجب على كل مؤمن الإيمان به كما ورد في خبر الوحي من غير تأويل ولا تحريف، ويكفي في ذلك كونه ممكنًا عقلاً، والإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، والأول هو الإيمان بالله تعالى، فهل يدخل في مفهومه هذه الميكروبات التي يصفها الكاتب بالدنيئة الحقيرة؟ كلا، وأما إدخالها في مفهوم كلمة الجن فليس ببعيد لغة، ولا ممنوع شرعًا، فقد ورد في الآثار أن الجن أنواع ومنه ما هو من خشاش الأرض، ولا مانع في العقل، ولا العلم من كون بعض عوالم الغيب من الملائكة موكلاً ببعض شؤون الكون، وسببًا له، وتفصيل هذا البحث لا تتسع له هذه الحاشية.
(4) إن قول بعض المفسرين بأن الرعد ملك لم يكن مخترعًا ومستنبطًا بسبب عدم فهم ما فهمه الكاتب، بل هي رواية نقلها أهل التفسير المأثور الذين ينقلون كل ما بلغهم، وتلك منة لهم علينا وهم لم يصححوها، وتسبيح الرعد من قبيل تسبيح الجبال في سورة ص، وتسبيح كل شيء في سورة بني إسرائيل.
(5) معناه في العبرية من يعينه (يهوه) أي الله.
(6) يقول الأطباء إن ميكروب السل يندر وجوده في الهواء حول المصاب بعد متر ونصف منه، وربما كان الأمر كذلك في الجذام.
(7) المنار: إن من يمرض بوصول الميكروب إليه من الهواء أو الطين لا ينطبق عليه تعريف العدوى السابق، فإن قيل: إن الميكروب الذي كان في الهواء أو الطين قد انتقل إليهما من شخص مصاب نقول: ومن أعدى أول من أصيب بذلك المرض من البشر أو من الحيوان؟ لا يمكن الجواب عن هذا السؤال إلا بنفي حصر المرض بالعدوى المعروفة، وإثبات أن من المرض ما حدث بأسباب أخرى، إلا إن أمكن إثبات أن أول البشر مثلاً كان مصابًا بجميع الأمراض المعدية، ولن يثبت هذا أبدًا.
(8) سبب ذلك أن عمل جميع أعضاء الجسم في هذا الوقت يكون أقل بكثير من عملها في سائر الأوقات، وإذا عكس الحال بأن اشتغل الناس ليلاً تصير الحارة مرتفعة صباحًا إلى الثانية بعد الظهر وتبقى على حالتها إلى السابعة أو الثامنة مساء، ثم تنخفض إلى الثانية بعد نصف الليل، وتبقى كذلك إلى الساعة السابعة صباحًا.
(9) وذلك بتحول بروتوبلازم الخلايا إلى حبيبات دقيقة جدًّا، وهي خطوة في سبيل الاستحالة إلى شحم وبذلك يبطل عمل هذه الخلايا.
(10) يقال إن المرق قد يزيد الإسهال في بعض أحوال الحمى التيفودية , وإنما تستعمل السوائل السهلة المغذية في الحميات لضعف المريض عن المضغ والبلع، ولجفاف الأعضاء وضعفها وقلة العصارات الهاضمة.
(11) ولكن في مثل الحمى الراجعة تقطع سيرها حقنة 606 في 7-20 ساعة، والكينين يزيل حمى الملاريا في الغالب.
(12) هي كلمة لاتينية معناها الإصبع لأن أزهار هذا النبات كالأصابع.
(13) لذلك كان اللبن الخاثر (لبن الزبادي) من أفضل الأغذية للمحموم لوجود حامض اللبنيك فيه فيسهل هضمه لذلك؛ ولقلة مائه، فلا يضعف العصير المعدي، وهو مطهر بحموضته، ونافع لنزلات المثانة، والميكروبات التي تحدث حموضته مطهرة للأمعاء نافعة في أمراضها خصوصًا في التهاب الأمعاء الغليظة؛ فتمنع نمو الميكروبات فيها، وما تحدثه من حامض اللبنيك بتأثيرها في سكر اللبن أو العنب قاتل للمكروبات أيضًا، وسكر العنب هذا يوجد في الأمعاء بعد أكل النشاء أو سكر القصب (راجع صفحة 82 من الجزء الأول) .(18/593)
الكاتب: القاسمي
__________
الخطب الدينية
(2)
شذرة من الخطب النبوية
(مقتبس من مقدمة ديوان خُطب القاسمي)
والحواشي له إلا ما زدناه بعد اسم المنار
(1)
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرى كلمة التقوى،
وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله تعالى،
وأحسن القَصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها،
وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة
بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدي ما اتُّبِع، وشر العمى عمى القلب،
واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة
حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا
دَابرًا [1] ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هُجْرًا [2] ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب،
وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى،
وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية،
والغُلول من جثاء جهنم [3] ، والكنز كيّ من النار، والشِّعر من مزامير إبليس [4] ،
والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر
المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وُعِظ بغيره، والشقي
من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر بآخره،
وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب [5] ، وكل ما هو آت قريب،
وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله [6] وحرمة
ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه [7] ، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف
يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله
ومن يتبع السمعة يسمع الله به [8] ، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله
يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم
رواه البيهقي عن عقبة بن عامر، والسجزي عن أبي الدرداء، وابن أبي شيبة
عن ابن مسعود.
***
(2)
أما بعد فإن الدنيا خضرة حُلوة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف
تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء،
ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه، وانتفاخ
أوداجه؟ فإذا وجد أحدكم شيئًا من ذلك فالأرض الأرض، ألا إن خير الرجال من
كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء
الرضا، فإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء، وسريع الغضب سريع
الفيء فإنها بها [9] ، ألا إن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب، وشر
التجار من كان سيئ القضاء سيئ الطلب، فإذا كان الرجل حسن القضاء سيئ
الطلب، أو كان سيئ القضاء حسن الطلب فإنها بها، ألا إن لكل غادر لواءً يوم
القيامة بقدر غدرته، ألا وأكبر الغدر غدر أمير عامة، ألا لا يمنعن رجلا مهابة
الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند أمير جائر.
رواه الإمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد.
***
(3)
إنما هما اثنتان: الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي [10]
هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة
بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إن كل ما
هو آتٍ قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ، إنما الشقي من شقي في بطن أمه، وإنما
السعيد من وُعِظَ بغيره، ألا إن قتال المؤمن كفر وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن
يهجر أخاه فوق ثلاثة، ألا وإياكم والكذب، فإن الكذب لا يصلح لا بالجد ولا
بالهزل، ولا يَعِد الرجل صبيه ولا يفي له، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن
الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة،
وإنه ليقال للصادق: صدَقَ وَبَرَّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، ألا وإن العبد يكذب
حتى يكتب عند الله كذابًا. رواه ابن ماجه عن ابن مسعود.
***
(4)
يا أيها الناس كأن الموت على غيرنا فيها كُتِبَ، وكأن الحق على غيرنا
وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سَفْرٌ عما قليل إلينا راجعون، نأويهم أجداثهم،
ونأكل تراثهم كأنا مخلدون، قد نسينا كل واعظة، وأمِنَّا كل جائحة، طوبى لمن شغله
عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت
علانيته، واستقامت طريقته، طوبى لمن تواضع لله من غير منقصة، وأنفق مالاً
جمعه من غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة،
طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم يَعْدُ
عنها إلى البدعة. رواه أبو نعيم عن علي.
***
(5)
إن الحمد لله أحمده وأستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا،
من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه،
وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على من سواه من أحاديث الناس، إنه
لأحسن الحديث وأبلغه، أَحِبُّوا من أحب الله، أحبوا الله تعالى من قلوبكم، ولا
تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسى قلوبكم، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه
حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله عز وجل
بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، فالسلام عليكم ورحمة الله. رواه هناد عن
أبي سلمة مرسلاً.
***
نُخَب من الخطب النبوية
في غير يوم الجمعة
كان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يخطب في غير يوم الجمعة لمصلحة
تَعْرِضُ، أو منكر يظهر، أو أمر بصدقة أو إصلاح، كما هو معروف في دواوين
السنة ولخدمتها (؟) فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
(أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من
الذي أعطي؛ ولكن أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِل
أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب) رواه
الإمام أحمد، والبخاري وغيرهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان شرط
ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله
أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) رواه الشيخان في صحيحيهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(أما بعد فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول هذا من عملكم وهذا أُهدي لي،
أفلا قعد في بيت أبيه وأمه؛ فينظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا
يغل أحدكم منها (أي الزكاة) شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه) الحديث
(رواه الشيخان) .
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(أيها الناس اتقوا الله فوالله لا يظلم مؤمن مؤمنًا إلا انتقم الله تعالى منه يوم القيامة) . رواه ابن حميد في مسنده.
***
من خُطَب الصديق
رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق
بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، لينذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين،
ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل ضلالاً مبينًا، أوصيكم
بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به، فإنه جوامع هدى
للإسلام بعد كلمة الإخلاص، السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، فإنه من يطع
والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أفلح، وأدى الذي عليه من الحق،
وإياكم واتباع الهوى، فقد أفلح من حُفظ من الهوى والطمع والغضب، وإياكم
والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو
اليوم حي، وغدًا ميت؛ فاعملوا يومًا بيوم وساعة بساعة، وتوقوا دعاء المظلوم،
وعُدُّوا أنفسكم في الموتى، واصبروا فإن العمل كله بالصبر، واحذروا فالحذر ينفع،
واعملوا فالعمل يُقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم
الله من رحمته، وافهموا تفهموا، واتقوا توقوا، وإن الله قد بيَّن لكم ما أهلك به من
كان قبلكم، وما نجا به من نجا قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما
يحب من الأعمال وما يكره، فإني لا آلوكم ونفسي، والله المستعان ولا حول ولا
قوة إلا بالله، واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم
واغتبطتم، وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم، تستوفوا بسلفكم، وتعطوا
جزاءكم حين فقركم وحاجتكم إليها، ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم
الذين مضوا، قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه، وأحلوا في الشقاء والسعادة فيما
بعد الموت، إن الله ليس له شريك، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به
خيرًا، ولا يصرف عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره؛ فإنه لا خير في خير بعده
النار، ولا شر في شر بعده الجنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلوا
على نبيكم محمد، صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته.رواه ابن أبي الدنيا
وابن عساكر عن موسى بن عقبة.
***
من خطب الفاروق
رضي الله عنه [11]
أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي بطاعته
يكرم أولياءه، وبمعصيته يضل أعداءه، فليس لهالك معذرة في فعل ضلالة حسبها
هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالة، تعلموا القرآن تعرفوا به، واعملوا به
تكونوا من أهله، فإنه لم تَبْلُغْ منزلةُ ذي حق أن يطاع في معصية الله، واعلموا ن
بين العبد وبين رزقه حجابًا؛ فإن صبر أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم
يدرك فوق رزقه، فأدبوا الخيل وانتضلوا وانتعلوا وتسوكوا وتمعددوا [12] ، وإياكم
وأخلاق العجم، ومجاورة الجبارين، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر
وتدخلوا الحمَّام بغير مئزر، وإياكم والصَّغار أن تجعلوه في رقابكم، واعلموا أن
سباب المسلم فسوق وقتاله كفر [13] ، ولا يحل لك أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام،
ومن أتى ساحرًا أو كاهنًا أو عرافًا فصَدَّقَه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد -
صلى الله عليه وسلم - لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءَتْه
سيئته، وسرته حسنته فهو أمارة المسلم المؤمن، وشر الأمور مبتدعاتها، وإن
الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه
أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم
تعرضون لا تخفى منكم خافية، عليكم بهذا القرآن؛ فإن فيه نورًا وشفاء، وغيره
الشقاء، وقد قضيت الذي عليّ فيما ولاني الله عز وجل من أموركم ووعظتكم
نصحًا لكم، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم رواه الحاكم، وابن عساكر.
***
من خطب ذي النورين
رضي الله عنه
أيها الناس اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الكيس من دان نفسه
وعمل لما بعد الموت [14] ، واكتسب من نور الله نورًا لظلمة القبر، وليخش عبد
أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرًا، وقد يكفي الحكيم من جوامع الكلم، والأصم
يُنَادى من مكان بعيد، واعلم أن من كان الله معه لم يخف شيئًا، ومن كان الله عليه
فمن يرجو بعده - رواه ابن عساكر -
***
من خطب الإمام أبي الحسن علي
كرم الله وجهه
أما بعد فإن المضمار اليوم وغدًا السباق، ألا وإنكم في أيام عمل، من ورائه
أجل، فمن قَصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خيب عمله، ألا فاعملوا لله في
الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام
هاربها، ألا وإن من لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى جار به
الضلال، ألا وإنكم قد أُمرتم بالظعن ودُللتهم على الزاد، ألا أيها الناس إنما الدنيا
عَرَض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك
قادر، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر، ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه
وفضلاً والله واسع عليم، أيها الناس أحسنوا في عمركم تُحفظوا في عقبكم، فإن الله
تبارك وتعالى وعد جنته من أطاعه، ووعد ناره من عصاه، إنها نار لا يهدأ
زفيرها، ولا يفك أسيرها، حرها شديد، وقعرها بعيد، وماؤها صديد، وإن
أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، ألا لا يستحي الرجل أن يتعلم
ومن يُسْأل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. رواه ابن عساكر.
ومن خطبه كرم الله وجهه:
حمدت وعظَّمت من عظمت مِنَّته، وسبغت نعمته، وسبقت غضبَه رحمتُهُ،
وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، حَمْدَ عَبْدٍ مُقِرٌ بربوبيته، متخضع لعبوديته،
ويستعينه، ويسترشده، ويستهديه، ويؤمن به، ويتوكل عليه، وشهدت له تشهد
مخلص موقن، وبعزته مؤمن، ووحدت له توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في
ملكه، ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون معين
ونظير، وشهدت ببعث محمد عبده ورسوله، وصفيه، ونبيه، وحبيبه، وخليله،
صلى الله عليه صلاة تحظيه، وتزلفه وتعليه، وتقربه وتدنيه، بعثه في خير عصر،
وحين فترة وكفر، رحمة منه لعبيده، ومنة لمزيده، ختم به نبوته، ووضح به
حجته، فوعظ ونصح، وبلغ وكدح، عليه رحمة وتسليم، وبركة وتكريم.
وصَّيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم، وذكرتكم سنة نبيكم، فعليكم
برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقاة تنجيكم، قبل يوم يذهلكم
ويبليكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته، ولتكن مسألتكم
وتملقكم مسألة ذل وخضوع وشكر وخشوع، وتوبة ونزوع، وندم ورجوع،
وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشبيبته قبل هرمه وكبره، وسعته قبل
فقره، وفرغته قبل شغله، قبل أن تُجذب نفسه، ويحفر رِمْسه، وينفخ في الصور،
ويدعى للنشور، في موقف مهيل، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم، بكل
صغيرة وكبيرة عليم، حينئذ يلجمه عرقه فعبرته غير مرحومة، وضرعته غير
مسموعة، وحجته غير مقبولة، فورد جهنم بكرب وشدة، ندم حيث لم ينفعه ندمه،
نعوذ برب قدير من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة مَنْ قَبِلَ
منه، فمن زُحزح عن تعذيب ربه جُعل في جنة بقربه، وخلد في قصور مشيدة،
وملك حور عين وحفدة، وطِيف عليه بكؤوس، وسكن حظيرة قدس في فردوس
وتقلب في نعيم، وسُقي من تسنيم، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه، وتلك
عقوبة من عصَى مُنْشِئَهُ، وسولت له نفسه معصيته، لهو قول فصل، وحكم
عدل، خير قصص قص، ووعد نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس
على قلب نبي مهتدٍ رشيد، صلت عليه سفرة، مكرمون بررة، يتضرع متضرعكم،
ويبتهل مبتهلكم، وأستغفر رب كل مربوب لي ولكم، ثم قرأ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:
83) رواه الخفاف في مشيخته [15]
***
مختارات من خطب القاسمي
(خطبة في الحذر من التطير والتشاؤم
يخطب بها أول صفر)
الحمد لله الذي بسط لنا موائد كرمه وأفضاله، وعمنا بجوده وغمرنا بنواله،
فسبحانه من إله تاهت العقول في سبحات جلاله، أحمده وأشكره، وأتوب إليه
وأستغفره، وأسأله أن يجعلنا ممن وفقه لصالح أعماله، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له شهادة موحد له في غده وآصاله، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده
ورسوله نبي ميّز حرام الشرع من حلاله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
صلاة تمنح قائلها الفوز في مآله، وسلم تسليمًا.
أما بعد أيها الناس فاتقوا الله، واعلموا أن جميع ما يتقلب فيه الإنسانُ طول
عمره، إنما هو بمحض قضاء الله وقدره، ألا وإنه قد دخل عليكم شهر مباركة
أوقاته، ميمونة ساعاته، لا ينسب إليه شر ولا ضير، بل هو صفر الخير، وقد
كانت الجاهلية يتشاءمون به وهو مبارك، ويتطيرون منه وليس لله جل جلاله في
مشيئته وتقديره بمشارك، وإنما هو إلى شركهم وشرهم، وسخافة عقولهم، ومحض
كفرهم، وكيف ينسب فعل إلى شهر أو زمان، والله خالق الزمان والمكان، وقد
بطل التطير والتشاؤم ولم يبق له أثر، بما رواه البخاري في صحيحه عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - سيد البشر، أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا صفر)
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا
حسدتم فلا تبغوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا) وعن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنه قال: (إن سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب
فسُئل صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: هم الذين لا يَكْتَوُونَ، ولا يسترقون، ولا
يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) [16] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الطيرة
شرك) فمن اعتقد ما يتشاءم به سببًا مؤثرًا في حصول المكروه، فقد أشرك،
ولعقيدة التوحيد والموحدين ترك، إذ لا فاعل إلا الله، ولا مؤثر في الكائنات سواه،
وإنما الزمان ليالٍ وأيام، تختلف بتقدير العزيز العلام، فلا شؤم لصفر، ولا جمود
لجمادى، ولا بلاء، ولا نحس ليوم أربعاء، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (التغابن: 11) ، وقال جل
جلاله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51)
خطبة لأول ربيع في وجوب تعظيم النبي
صلى الله عليه وسلم
وعلائم محبته
الحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو
كره المشركون، ومنَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم
آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في جلال إلهيته، ولا مثيل له في عز
ربوبيته، ولا كفوء له في أحديته، ولا كيف له في صفات مجده وصمديته، وأشهد
أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي دعا إلى ثوابه وبشر، وحذر من عقابه وأنذر،
وأوضح سبيل الرشاد، وجاهد فيه حق الجهاد، حتى ظهر دين الله وعلت كلمته،
وشملت رحمته وتمت نعمته، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار،
وسلم تسليمًا.
أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن الله تعالى أكمل المنة على المؤمنين،
وأتم نعمته عليهم بإرسال خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، فهداهم من الضلالة،
وأنقذهم بمكانه (؟) من الجهالة، وفتح به أعينا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا
منة وطَوْلاً، وأرشد به السبيل، وأقام به معالم البرهان والدليل، نعمة وفضلاً،
ورفع به للتوحيد أعلامًا، ومحا به من الشرك ظلامًا، ثم جعل محبته مشروطة
بمحبته، وطاعته منوطة بطاعته، وذكره مقرونًا بذكره، وبيعته مقرونة ببيعته،
فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31)
وقال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} (النساء: 80) وقال تعالى:
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ
اللَّه} (الفتح: 10) ثم بين جل جلاله أن مخالفة أمر نبيه ضلال وخسران،
وأوعد عليه بالعذاب والخسران [17] فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) وقال سبحانه: {فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فحذر سبحانه وأوعد، وأقسم، وأكد،
ليعلموا أن من شُعب الإيمان، وكمال الإسلام، والإيقان، اتباع سنته، والتسليم
لقضيته، وتوقيره وتعظيمه، وإجلاله وتكريمه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45) ، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (الفتح: 9) قال ابن عباس: وغيره: أي تبالغوا في
تعظيمه، ألا وإن من تعظيمه وتوقيره المطلوب، إيثار حبه على كل محبوب، فقد
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده
والناس أجمعين) ومن توقيره وحبه ذكر شمائله التي تهز أعطاف المحبين، ونشر
فضائله التي تزيد في إيمان المؤمنين، وإيراد سيرته وما كان عليه من الأخلاق
تسليكًا للمتَّبِعين، ثم هل تدرون مَنْ المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم -
والصادق في محبته وإجلال قدره المعظم؟ المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم -
هو القائم بامتثال أوامره، ونشر هديه الأكمل، والاعتصام بسنته، والحض عليها،
وإحيائها بالطلب والعمل، المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المتخلق
بأخلاقه الجليلة، والمتحقق بآدابه الجميلة، المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم -
هو من تظهر علامات الحب على أحواله، من الاقتداء به واتباع أقواله وأفعاله،
فليتخلق بأخلاقه الطاهرة من كان صادق الحب، مخلص اليقين، سليم القلب؛
ولكن ما أكثر المدعين، وما أقل المخلصين، عجبًا لابن آدم يفهم ما يضره مما
ينفعه، ويسمع ولكن قلما يعمل بما يسمعه، ويحضره العزم في مجلس الذكر، إلا
أنه يقوم ويدعه، فإلى كم تهزه العبر وهو كالطفل كلما حُرِّك نام، ويقتحم المعاصي
الكبر، ويقول إن الله ذو مغفرة، وينسى أنه ذو انتقام، فواخجل المقصرين من
التوبيخ في محفل القيامة، ويا سوء منقلب الظالمين عند حلول الندامة، ويا
حسرات الهالكين إذا عاينوا أهل السلامة، ويا هوان المتكبرين إذا حرموا دار
الكرامة، فرحم الله امرأ رجع إلى ربه سريعًا، قبل أن يقع لجنبه صريعًا، وألقى
إلى الموعظة قلبًا وسمعًا سميعًا، قبل أن لا يسمع في مقام السؤال إلا توبيخًا
وتقريعًا، اللهم تداركنا برحمتك إنك أرحم الراحمين، وجُد علينا بمغفرتك إنك خير
الغافرين.
***
خطبة في شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخلاقه المأثورة
الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، نبي أدَّبه ربه فأحسن
تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه، ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من
أراد تهذيبه، وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه، فصلَّى الله عليه وآله
الطيبين الطاهرين وسلم تسليمًا، أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن آداب
الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال
نتيجة أخلاق، ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه، ومن لم يكن صدره مشكاة
الأنوار الإلهية، لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية، وقد أُدِّبَ صلوات الله
عليه بالقرآن، وأُدِّب الخلق به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق " ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق، ولما أكمل تعالى خلقه أثنى
عليه فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) فكان صلى الله عليه
وسلم أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعف الناس، لم تمس يده قط
امرأة لا يملك رقها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه، وكان أسخى
الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم، ولا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه، ويضع
سائر ذلك في سبيل الله، ولا يُسْأَل شيئًا إلا أعطاه، وكان يخصف نعله، ويرقع
ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، وكان أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد،
ويجيب دعوة العبد الحر، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، يأكل ما حضر، ولا
يرد ما وجد، يركب ما أمكنه، ويردف خلفه، يحب الطيب ويجالس الفقراء
ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل
رحمه، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، ولا يقول إلا حقًّا، يضحك
من غير قهقهة، يخرج إلى بساتين أصحابه ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم، ما
لعن خادمًا ولا امرأة، ولا ضرب بيده أحدًا إلا في سبيل الله، يبدأ من لقيه بالسلام
والمصافحة، يكرم من يدخل عليه، حتى ربما بسط له ثوبه يجلسه عليه، وكان
أفصح الناس منطقًا، وأحلاهم كلامًا، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يتكلم في غير حاجة،
إذا سكت تكلم جلساؤه، وكان أحسن الناس نغمة، يعظ بالجد والنصيحة، وكان
إذا لبس ثوبًا جديدًا أعطى خلق ثيابه مسكينًا، وكان أرغب الناس في العفو مع
القدرة، أبعد الناس غضبًا، وأسرعهم رضاء، يمر على الصبيان فيسلم عليهم،
وكان أزهر اللون ليس بالطويل ولا بالقصير، بين كتفيه خاتم النبوة، وكان لا
يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد منه من صلاح نفسه، وبالجملة
فأخلاقه الكاملة لا تحصى، وشمائله الحسنى لا تستقصى، وكل من أصغى إليها
علم علو منصبه، وعظم مكانته، وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما استفاضت به
الأخبار، وكان أعظمها معجزة القرآن الكريم، والذكر الحكيم، أعجز البلغاء عن
مماثلته في عبارته، وأفحم الحكماء عن محاكاته في عظته وهدايته وتشريعه للناس
أحكامًا تنطبق على مصالحهم ما دامت الدنيا، وانتظام السعادة بالمحافظة عليها في
الأولى والأخرى، ولما لم يدع قاعدة من أصول الفضائل إلا جلاها، ولا أما من
أمهات الصالحات إلا أحياها، ختمت النبوات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -
وانتهت الرسالات برسالته، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ
وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) ،
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164) .
(للخطب بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بفتحتين، وتسكين الياء وضَمها لحن كما في القاموس، أي في آخر وقتها.
(2) بضم فسكون وهو القبيح من الكلام (المنار: ضبطوه بفتح الهاء وفسروه بالترك) والاستثناء
منقطع.
(3) الجثا بضم الجيم وكسرها ثم مثلثة، ما اجتمع من الحجارة والجذوة (المنار: الجثى الأكوام
والمعنى أن ما يؤخذ من الغول وهو الخيانة في الغنيمة، إنما هو أكوام من النار أي ليس ربحًا بل
خسارة؛ لأنه سبب لدخول النار، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10)
(4) يعني بالشعر معهودًا من أفراده، وهو ما يتغنى به في محرم أو عليه أو ما يدفع إليه.
(5) جمع راوية مبالغة في راوٍ، وهو من يروي الحديث (المنار: رجح ابن الأثير أن الروايا جمع
روية، وهي التروي والتفكير في الأمر، وإذا كان الكذب عن روية كان أشد إثما وأشد ضررًا) .
(6) كناية عن اغتيابه وذكره بما يكره، وفي تصوير الاغتياب بأكل لحمه إبراز له على أفحش وجه
وأشنعه طبعًا وعقلاً وشرعًا.
(7) تألى أي أقسم به بأنه يفعل كذا ألبتة.
(8) السمعة: الشهرة ونشر الذكر.
(9) المنار: أي واحدة بواحدة جزاء فخير الخلصتين يكفر شرهما.
(10) المنار: الهدي بفتح فسكون: السيرة والطريقة.
(11) خطبها في الجابية قاعدة بلاد حوران في عهده رضي الله عنه، وإليها ينسب باب الجابية
أحد أبواب مدينة دمشق الشام؛ لأن المسافر إلى الجابية يخرج منه، وقد خربت وانتقل عمرانها إلى
ما جاورها من قرية نوى والشيخ سعد.
(12) المنار: في حاشية الأصل (أي تَزَيَّوْا بزِيّ معد في تخوشنهم وتقشفهم) والمراد كونوا مثل
مَعْد بن عدنان فيما ذكر فاستعمل التزيي في التشبه والزي في الشبه.
(13) المنار: هذا وما بعده بضعة جمل مقتبسة من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم.
(14) المنار: مقتبس من حديث مرفوع رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
(15) المنار: الظاهر أن هذه الخطبة موضوعة على أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فأين هذا
السجع المتكلف من خطبه التي تعد في أعلى مراتب البلاغة بعد كلام الله ورسوله.
(16) الخطبة من أولها إلى هنا من ديوان جد جدتي لأبي الإمام الكبير والولي الشهير السيد محمد
الدسوقي نسبًا الدمشقي إمام جامع حسان وخطيبه المتوفى 1241 بمنزلة هدية قبيل المدينة المنورة
ذهابًا إلى الحجاز، وقد بسطت ترجمته في تاريخي) تعطير المشام في مآثر دمشق الشام.
(17) المنار: لعله أراد أن يقول (وافتتان) فسبق القلم، أو قاله فحُرف في الطبع.(18/621)
الكاتب: أحمد كمال
__________
المقارنة بين
اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*]
(5)
وصفتان طبيتان مصريتان
(الأولى) ورد في القرطاس الطبي الذي نقلت عنه الوصفة الطبية التي
نُشرت في الجزء السادس من المنار وصفة أخرى بمعناها، وهي الثالثة والتسعون
بعد المئة، وهذا نصها ويليه تفسيره:
تمييز ست تمشأ عن ست لا تمشأ
بطيكا [1] ينت [2] ويخمط [3] على إرُد [4] التي مشأت ذكرًا يؤري [5] مثل سعم [6]
تسعم الست، إن كرأت [7] مشأت وإن زعت [8] (؟) لا تمشأ إلى نح [9] .
(المعنى)
لتمييز المرأة التي تلد عن المرأة التي لا تلد، يدهق البطيخ، ويخلط على لبن
امرأة ولدت ذكرًا، ويجعل طعامًا تأكله المرأة المراد اختبارها؛ فإن قاءت ولدت،
وإن حصل لها رياح في المعدة لا تلد ألبتة.
(الثانية) وورد فيه أيضًا وصفة أخرى، وهي الرابعة والتسعون بعد المئة،
وهذا نصها ويليه تفسيره:
بطيكا يخمط على إرُد التي مشأت ذكرًا ويتوج [10] في قطاتها [11] فإن جشأت
مشأت، وإن قاست [12] لا تمشأ.
(المعنى)
بطيخ يخلط على در (أي لبن) امرأة ولدت ذكرًا، ويوتح في فرجها أي
يحقن فيه؛ فإن غاثت وتقيأت ولدت، وإن وجدت في جوفها رياحًا لا تلد.
__________
(*) لعلامة الآثار المصرية أحمد بك كمال.
(1) بطيخ.
(2) أي يلتّ، فاؤها لام، من لتّ الشيء إذا دقه أو سحقه.
(3) خمط يقابله في العربية شمط بمعنى خلط.
(4) إرد مقلوب در وهو اللبن جعل أحد حرفي المضاعفة همزة في أول الكلمة كما مر نظيره في الجزء السابع.
(5) أرَّى: جمع الطعام.
(6) سعمه: غذاه وسعمه تسعيمًا: غذاؤه المسعم حسن الغذاء، والغين المعجمة لغة فيه، والعين في المصرية تنوب عن الغين، فيقال عني بمعنى غني غناء.
(7) كرأت يقالها في العربية كرعت بمعنى أمطرت " السماء " وهنا تفيد القيء.
(8) زع فعل يقصد به خروج الريح الذي يوجد في المعدة، ومنه في العربية الزعزاع وهي الريح الشديدة.
(9) نح مقلوب حان يحين حينًا وإلى حين، أي إلى دهر مديد.
(10) وتح: أعطى قليلاً أي شيئًا فشيئًا.
(11) قطاة: ما بين الوركين والعجز ومقعد الرديف من الدابة وتدل هنا على الفرج.
(12) قاس أي غاث وغثي وجأش أو جشأ؛ لأن القاف تقلب غينًا أو جيمًا، كما أن السين تقلب تاء أو شِينًا، فيقال في العربية الديس (عراقية) مقلوب الثدي فالسين فيها بدل الثاء وبالمصرية الشدي بالشين المعجمة، ومن هنا يعلم أن التاء والشين والسين ينوب بعضها عن بعض.(18/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عدل الإسلام
مقالة لإنكليزية مسلمة ترجمت للمؤيد عن مجلة (إسلاميك ريفيو - أي المجلة
الإسلامية) التي تصدر في وكنج بإنكلترة فنشرناها مع تصحيح لبعض الألفاظ
وهي:
إذا أخلص قلب الإنسان (ضميره) في مطالعة تعاليم الدين الإسلامي وجدها
أشد الأديان عدلاً وصدقًا، وقد قضت تعاليم هذا الدين بأن العبد يخلق مجردًا من كل
خطيئة، فهو لا يرث ذنوب والديه، ولا خبث أجداده.
الإسلام يُعَلِّم أهله الاستقلال الشخصي (الاعتماد على النفس) ويجرد من
نفس الإنسان حكمًا عليها، فهو يمكنه خلاص نفسه، أو إهلاكها بأعماله، فإذا عمل
الخير، وتحرى الصواب جنى ثمار الجزاء الحق، وإذا عمل سوءًا، يُجزى به.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر:
38) وينطوي في معنى هذه الآية كل ما يقتضيه العدل؛ لأن من الظلم أن
يتحمل الإنسان أوزار غيره، ويسأل عما ارتكب سواه، وقد قررت جميع الشرائع
العادلة الجديرة بهذا الوصف أن من الظلم أن يعد أحد مجرمًا بجريمة غيره، وهذا
من أصول الشرعية المحمدية أيضًا، ولا يزال هذا المظهر مظهر السيد المسيح
الذي ينظر إليه المسيحيون باعتباره المُخَلِّص للعالم.
وإذا ولد الشخص من غير إرادة خاصة فيه، وعجز عن تعرّف مواطن
الصواب، ومقاومة الخطأ، كان في عقابه أو إثابته كل ما يتصوره الخيال من
الظلم، وكان من العبث نفخ روح العقل والضمير فيه، ولكن تعاليم الإسلام
صريحة في أن خالق العالم - وهو ربهم الحق - خلق للإنسان إرادة واختيارًا
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) وسيُسْأَل عن نتائج الطريق الذي فضله وسار فيه،
فإذا اهتدى صفا ضميره وصفت سعادته، وإذا شقي وسار في الطريق المعوج
كانت عاقبة أمره خُسرًا، ولكن الحكم على طفل صغير لا يفرق بين الغث والسمين
لا يمكن أن يقال إنه عدل، نعم إنه ليس من العدل ولا من الشجاعة أن يحمَّل أحد
أوزار غيره، ثم يُسْأَل عنها، ومتى؟ وُكِّلَ الإنسان بأمر نفسه تعلم وجوب الاعتماد
عليها، ومن المحتمل أن العبد إذا علم بأن غيره سيُسْأَل عما اقترفه هو أطاع هواه،
ولم يحترم نفسه، فكيف يكون فخورًا بمولده وحياته؟
والجواب على هذا أنه يوجد نوعان من الفخر: الفخر الوهمي الخاطئ،
والفخر الصحيح، والأول منهما هو فخر الغطرسة وغش النفس، وهو مقبول
الطعم يجعل صاحبه أو صاحبته ينظر إلى الناس بغير العين التي ينظر بها إلى
نفسه، ثم يحتقر الجار والفقير، وهي خطيئة فظيعة طالما حض النبي - صلى الله
عليه وسلم - على اجتنابها.
أضف إلى هذا أن الفخر الخاطئ؛ يكون مجلبة للغيرة والطمع الكاذب، ويملأ
أوداج صاحبه بالفخفخة الخارجة عن الحد.
والفرق بين هذا الفخر، وبين الفخر الصحيح هو أن الذي يبذل مجهوده في
أداء الواجب بإرضاء الله، ومساعدة النوع البشري يثبت في قلبه حب السلام الذي
لا يعطيه الله إلا للمجتهدين من عباده، وإذا عمل العبد نهاية الخير لم يسأله الله أكثر
من ذلك، ولم يؤاخذه إذا قصر طوقه عما ليس في مقدور أمثاله من البشر، وهو
القائل على لسان نبيه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)
الإسلام دين حق يُعَلِّم الناس العدل، وأُسست مبادئه على العدل، فهو يحرم
الخمر والمقامرة والزنا.
__________(18/636)
الكاتب: إسماعيل بك عاصم
__________
تاريخ ميلاد ولدنا محمد شفيع
(لصديقي الوفي شيخ الخطباء والمحامين (وكلاء الدعاوي) إسماعيل بك
عاصم) .
تاريخ ميلاد محمد شفيع نجل حضرة صديقي العزيز الأستاذ العلامة السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزهراء:
سر يا بشير التهاني للرشيد وقل ... (بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا)
قد لاح نور ابنه نعم الشفيع به ... (وكوكب السعد في أفق العلا صعدا)
فرع نما عن أصول طاب عنصرها ... أنعم بمولده أكرم بمن ولدا
وكان في رمضان يمن طالعه ... كليلة القدر فيها للنفوس هدى
محمد دام يسمو للفضائل عن ... أب يقر به عينًا وقد حمدا
عساه يأتي بنفع مثل والده ... وإنه يتحرى مثله رشدا
وعاصم عن رضاء عنه أرَّخه ... رشيد بُشراك في نجل سناه بدا
سنة 1333 ... ... ... ... ... 514 523 90 83 116 7
الشطران اللذان كل منهما بين قوسين هما مطلع أحسن قصيدة قيلت تهنئة
لأحد الخلفاء بميلاد ولده، كما قال صاحب كتاب خزانة الأدب، وقد ضمنهما هنا
أحسن تضمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل عاصم
__________(18/637)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(كتاب كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)
تأليف الشيخ الإمام العالم الزاهد أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي
وهو شرح لحديث (بدأ الإسلام غريبًا) وقد قام بطبعه واعتنى بتصحيحه الشيخ
أحمد محمد شاكر، فطبعه بمطبعة النهضة طبعًا نظيفًا على ورق متوسط صفحاته
30، وثمنه قرش واحد، ويُطلب من مكتبة المنار خاصة.
***
(كتاب المبادئ النافعة في تصحيح المطالعة)
ألفه الأستاذ الشيخ هارون عبد الرازق شيخ رواق الصعايدة بالأزهر عندما
كان مدرسًا للعلوم العربية بالمدارس الأميرية، وقد قرر المجلس العالي في اللائحة
الداخلية للمعاهد الدينية تدريسه لطلبة السنة الأولى.
طبع في المطبعة المصرية في الإسكندرية، وصفحاته 40، وثمنه قرشان.
***
(عنوان الظرف في فن الصرف)
للأستاذ الشيخ هارون عبد الرازق المذكور ثمنه نصف قرش.
***
(الدروس الأولية في العقائد الدينية)
طبع للمرة الثانية في المطبعة السابقة الذكر سنة 1326 هجرية، وصفحاته
46 بالقطع الصغير، وثمنه قرش واحد، ومباحثه هي:
1- في حقوق الأستاذ والوالدين.
2- في حقوق الله تعالى.
3- في حدوث العالم.
4- في الوحدانية.
5- إجمال الصفات.
6- أول ما يجب على الخلق لخالقهم.
7- في الوجود والقدم والبقاء إلى آخر مباحث الصفات.
8- في الصفات والأسماء الحسنى.
9- في معرفة الله وطاعته، وفي بعثة الرسل وصفاتهم إلى آخر المباحث التوحيدية المشهورة.
***
(الدروس الأولية في السيرة النبوية)
طبع للمرة الثانية بمطبعة الجمالية بمصر صفحاته 47 بالقطع الصغير،
ومباحثه هي:
نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأته، وبعثته، وخروجه من الشِّعْب
إلى دخول الأنصار في الإسلام، وبيعتي العقبة إلى الهجرة، والهجرة والغزوات
وصلح الحديبية، ومرضه صلى الله عليه وسلم، وموته، والاهتداء بهديه،
وخلافة الصديق وعمر وعثمان وعليّ، ثم دول الإسلام الكبرى، وفي ولاية مصر
من فتحها إلى الآن.
***
(الدروس الأولية في الأخلاق المرضية)
طبع للمرة الأولى بمطبعة جاليتي بالإسكندرية صفحاته 48 بالقطع الصغير
ومباحثه هي: نصيحة الأستاذ لتلميذه، الوصية بتقوى الله، حقوق الله ورسوله،
حقوق الوالدين، حقوق الإخوان، آداب طلب العلم، آداب المطالعة والمذاكرة،
آداب الرياضة والمشي في الطرقات، آداب المجالس والحديث، آداب الطعام
والشراب، آداب العبادة والمساجد، وفضيلة الصدق والأمانة والعفة، والمروءة
والشهامة وعزة النفس ... إلخ.
هذه الرسائل تأليف الأستاذ الشيخ محمد شاكر الذي كان شيخ علماء
الإسكندرية، ثم وكيل مشيخة الأزهر، وثمن كل منها 1 قرش، وتُطلب من مكتبة
المنار وغيرها.
***
(ديوان غصن النقا)
من نظم الشاعر الذكي اللوذعي، الشيخ رشيد مصوبع اللبناني، طبع بمطبعة
المقتطف سنة 1915، على ورق جيد صفحاته 88 بالقطع الوسط، ويطلب من
مكاتب مصر، ومن ناظمه.
عرفنا الناظم من أذكى شعراء العصر، وباريس من أجمل مدن العالم كما هو
معلوم بالتواتر، وناهيك بشاعر ذكي عربي أمَّ هذه العاصمة الزاهرة فجمع في
مخيلته جمال التصوير المعنوي والحسي، فنظم هنالك ديوانًا فاق ما نظم قبله من
الدواوين.
جعل الناظم ديوانه هذا هدية إلى الموسيو دلكاسيه نابغة ساسة فرنسة ووزير
خارجيتها، وقد نظم معظمه في باريس، فمن قصائده ما مدح به الموسيو بيشون
والموسيو دلكاسيه، ومنها ما عنوانه (باريس والجمال) ، و (وداع باريس) ،
و (وصف باري وانتقادها) ، و (المحل وباريس) ، و (باريس ووقتها) ،
و (في مفتون في باريس) ، و (موحش باريس) وغير ذلك.
وحسبنا نموذجًا من الديوان هذه الأبيات التي مدح بها صاحبه الموسيو دلكاسيه
ناظر الخارجية الفرنسية، فإنها على كونها تعد من المقاطيع لا القصائد تمثل ذوق
الناظم في الغزل والرثاء والمدح والفخر قال:
تحكي الإمام اليازجيّ بطلعة ... تزهو وبالقد الرشيق العادل
فإذا حزنت عليه قمت مقامه ... فأعدت لي فرحي بذاك الراحل
يا طرف إبراهيم أذبلك الثرى ... أسفي على طرف الحبيب الذابل
قم وانظر اليوم الرشيدَ فإنه ... يختال مثل السمهري المائل
يختال في أكناف دلكاسه الذي ... هز الحسام بوجه ذاك العاهل
هذا بفضلك يا حبيب ولم أصل ... لولا التفاتك للوزير الفاضل
قلدتني سيف البيان فكان لي ... يوم المنى أمضى جميع رسائلي
إن كان بدر الوجه عني آفلاً ... فبدور علمك فيّ غير أوافل
حاكاك في الشكل الوزير ودونه ... في ود قلبك كان خير مشاكل
فرنا إليّ بأعين مملوءة ... عطفًا علي وكان أكرم باذل
وأجل منزلتي وأعجب بي كما ... أُعجبت بي وأشدت بي بمحافل
إن كان ركن العلم مال فلا هوى ... ركن السياسة والعلى والنائل
__________
(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.(18/638)
ذو القعدة - 1333هـ
أكتوبر - 1915م(18/)
الكاتب: محمد علي أبو زيد
__________
البرهان على خروج تارك الصلاة
ومانع الزكاة من الإيمان
جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد
الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد
(3)
فها أنت ذا قد سمعت من الآيات ما يدلك على أن مانع الزكاة مشرك بالله،
لأنه آثر المال على الله [1] ، وكافر بيوم المعاد؛ لأنه لو كان عنده جزم بل ظن به
لَحَمَلَهُ على الإنفاق، فلا أخالك تشك في أنه محروم من الجنة، وأن {مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ المَصِيرُ} (الأنفال: 16) .
وهاك أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على ما قلنا،
المؤيدة لما ذكرنا.
أخرج ابن عساكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أقسم
الله تعالى ألا يدخل الجنة بخيل) وفي رواية للخطيب (يحلف الله بعزته وجلاله
ألا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل) .
وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، والنسائي، والحاكم، والبيهقي عنه -
صلى الله عليه وسلم - (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا) ، وفي رواية
لابن عدي: (لا يجتمع الإيمان والبخل في قلب رجل مؤمن أبدًا) .
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين للدين، الناطق عن الله،
أراك أن البخيل لا يدخل الجنة، ولم يأت بالخبر إلا مؤكدًا بالقسم عن الله تعالى.
ولا يخفى أن البخل خلق في النفس يمنع صاحبه من بذل فضله لمن يحتاج
إليه، والشح أشد من البخل، فهو أكثر منعًا منه لصاحبه، وكلاهما ضد للإيمان
الذي يحمل صاحبه على بذل روحه في سبيل ربه، فضلاً عن بذل ماله وفضله،
فكيف يكون المانع للزكاة مؤمنًا، وهو لم يمنع الزكاة إلا حرصًا على المال،
وإيثارًا له، وشحًّا به على الله؟ فلا شك في كفره وحرمانه من الجنة كما أخبر الله
ورسوله.
وهنا ربما تقول: أتيتنا بآيات في الصلاة وصفت تاركها بالشرك والكفر
والنفاق، ولم تصف آيات الزكاة مانعها إلا بالشرك والكفر فقط، فأقول لك: قد جاء
في القرآن أيضًا وصف المنافقين بمنع الزكاة، قال عز شأنه في سورة التوبة:
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (التوبة: 67) فقبض اليد هو إمساكها عن الإنفاق الواجب من
زكاة وغيرها، وقد علمت حال المنافقين ودرجتهم مما سبق، فلا حاجة إلى الإعادة،
وإلى هنا ننتهي من أدلة الزكاة وحدها.
وإني أتلو عليك آيات في الصلاة والزكاة معًا
(قال) الله تعالى في سورة البقرة: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (البقرة: 177) إلى أن
قال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي
البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة:
177) فانظر كيف جعل البر الإيمان بالله واليوم الآخر، وإقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وتراه قد ابتدأ بالإيمان، وعقَّبه
بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة لأنهما تابعان له، لا ينفكان عنه، ثم ذكر بعدهما
الوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وهما من الأخلاق التي تدعو إليها الصلاة،
وتثبتها في النفس، وقد عرفت ذلك فيما تقدم من الحكمة.
ولما كان الإيمان يستلزم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وما يتبعهما من
الأعمال والأخلاق، وكان محالاً - بحسب سنة الله تعالى - أن يوجد الإيمان في
قلب المرء، ويستقر من غير أن يحرك الجوارح لتلك الأعمال، ذيل الآية بقوله:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة: 177) أي أولئك الذي أقاموا
الصلاة، فأتوا بها معدلة مقومة، وآتوا الزكاة لمستحقيها بنفس طيبة، واتصفوا
بهذه الأخلاق الفاضلة، هم الذين صدقوا في إيمانهم، وهم الذين فعلوا ما يقيهم
عذاب ربهم، دون غيرهم، وهذا نص صريح في أن من يدعي الإيمان من غير أن
يكون مصليًا لله مزكيًا، تكون دعواه باطلة كاذبة، إذ لم يأت عليها من أعماله
بشاهد أو بينة [2] .
وقد قضت حكمة الله تعالى أن يكون الإيمان حياة للروح، كما أن الدم حياة
للجسم، وكلاهما يحتاج إلى ما يمده ويقويه، فكما أن الدم يطلب بطبيعته أن تأتي
له الأعضاء بمواد تجهزها له، وتمده بها ليقوى ويزاد صلاحًا لتقوية الجسم على
حاجاته، كذلك الإيمان يطلب عملاً صحيحًا تقوم به الجوارح من الصلاة والزكاة
وغيرهما ليغذيه ويزيده قوة؛ فتقوى بقوته الروح، وتستعد بزيادته النفس لأن تكون
ملكية صالحة لجوار الله تعالى، وأهلاً للتمتع بجناته ورضوانه.
وهذا هو السر في أن الإيمان متى قام بالنفس صرّف الجوارح في العمل
حتمًا، وأن الإيمان لا يوجد في قلب امرئ لا يصلي أو لا يزكي، كما سمعت من
الآيات التي تقرن الإيمان بالعمل على الدوام، وتكذب من يدعي الإيمان ولا يعمل؛
لأنه لو كان صادقًا لأتى بالصلاة والزكاة التي تصدقه وتشهد له، وقد علمت أن
غير الصلاة والزكاة من الفضائل هو تابع لهما بالضرورة؛ ولذلك تجد الآيات
تقرنهما بالإيمان، وتذكر غيرهما بعدهما، وفي كثير من الآيات يُستغنَى بذكرهما
بعد الإيمان، للإشارة إلى ذلك.
(قال) تعالى في وصف المؤمنين في سورة النساء: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 162) .
س: لِمَ قال (والمقيمين) فأتى بها منصوبة على غير المألوف لنا من قواعد النحو في العطف؟
ج: لتنبيه الذهن، فهو تخصيص يظهر لك به قيمة المقيم للصلاة، وتأكيد للعناية بها،إذ هي الأصل للفضائل كما أسلفنا، والناهية عن الفحشاء والمنكر، وقد أردفها بأختها الزكاة وجعلهما معًا وسطًا بين الإيمان بالكتب المنزلة من السماء وبين الإيمان بالله وبالجزاء، ليفيد أنهما مظهر الإيمانين، وأن المؤمن لا بد أن
يتصف بالصفتين.
وكأنه يقول: إن من لم يتحل بالصلاة والزكاة، لا يكون مؤمنًا بالله، ولا
خائفًا من عذاب الله، اسمع قوله تعالى في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ
بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ
وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} (النور: 36-
38) الآية.
تجد أنه جعل خوف هؤلاء الرجال من يوم القيامة وهوله، وما يلاقيهم هناك
من حسابه، سببًا في ذكرهم ربهم، وإقامة صلاتهم، وإيتاء زكاتهم، كما أن فعلهم
الصلاة والزكاة نتيجة ثقتهم بأن الله يشكرهم على فعلهم، ويمتعهم بثمرة أعمالهم،
فالآيات تنادي بأن من لم يقم الصلاة، ولم يؤت الزكاة، ولا يخاف ذلك اليوم - يوم
الدين - ولا يثق بثواب رب العالمين، إذ النفس مفطورة على فعل الشيء متى
ترجح لها فيه الخير، والابتعاد عنه إذا علمت منه الضرر، وهذه قاعدة نفسية،
تجرى عليها جميع الأعمال البشرية، فمن ادعى خلافها فهو كاذب، ألا تراك حين
تعلم أنك إذا وضعت يدك في جحر الثعبان؛ فإنه يلدغك، أو أكلت طعامًا فيه سم؛
فإنه يقتلك، لا تستطيع بحسب فطرتك أن تقدم عليه البتة، اللهم إلا إذا زال من
نفسك هذا العلم بالضرر، أو أصابك شيء في العقل؛ فترجح لك النفع في الموت،
ولكن ما دام العقل سليمًا، والضرر مرجحًا؛ فإنك لن يمكنك الإقدام عليه، فارجع
إلى وجدانك، وحقق منه ذلك، فإنك لا تشكّ في أن تارك الصلاة ومانع الزكاة، لم
يمنعه من أدائهما، إلا ما قام بنفسه من ترجيح الخير في تركهما، وعدم يقينه بأنه
سيعذب على عدم المبالاة بهما، ولو قرأت قوله تعالى عقب هذه الآية مباشرة:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: 39) الآية؛ لرأيت أنه يقابل الآية
التي قبلها، ومن المعلوم في سنة القرآن أن يذكر الكافرين، في مقابل المؤمنين،
فيريك أن من يتخلى عن تلك الصفات إنما هم الكفار، ولا بد للمؤمنين من
الاتصاف بها، فبها يعرفون، وبها يميزون.
قال تعالى في سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (المؤمنون: 1-4) .
جعل الفلاح للمؤمنين الخاشعين في صلاتهم، الفاعلين لزكاتهم، فافهم ألا
فلاح لغير المؤمن، كما أنه لا إيمان لمن لا يصلي خاشعًا، ويزكي محبًّا.
س: عهدنا من القرآن أن يذكر الزكاة بعد الصلاة من غير فصل، فلماذا فصل بينهما هنا بقوله: ( {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3)
ج: لينبهك إلى نكتة جميلة وحكمة جليلة، وهي أن الصلاة التي ليس فيها خشوع لا يعبأ بها وأنها لغو يتنزه المؤمنون عنها، فليكن لك من كلام الله عبرة
ترجع فيما تطالبك به نفسك إليه، وتقيس أخلاقك وما تأتي به من الأعمال عليه،
فما لك من قسطاس مستقيم يزن الأعمال بالضبط غيره، ولا مقياس صحيح يحدد
الصفات بالحق سواه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ} (الجاثية: 29) ،
{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (المؤمنون: 62) .
(وقال) تعالى في سورة النمل: {طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ *
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ} (النمل: 1-3) .
(وقال) في سورة لقمان: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً
لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ
عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (لقمان: 1-5) .
تراه هنا قد حصر الفلاح فيهم، وأفادك أمرًا آخر، وهو أن الصلاة والزكاة
مع ملازمتهما للإيمان بالآخرة، قد يأتي بهما المرء عن غير داعية الإيمان، إما
للرياء أو الإكراه، وحينئذ لا يكون له حظ في هداية القرآن، ولا البشرى بالجنة
والرضوان، ومن كان هذا حاله، لا تنفعه صلاته، ولا تقبل منه نفقاته.
(قال) تعالى في سورة براءة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
* فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ
أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 54-55) .
أنزل الله ذلك في شأن المنافقين الذين لم تكن صلاتهم عن إيمان؛ فينشطوا
إليها، ويرتاحوا بها، ولم تكن نفقاتهم عن إخلاص؛ فينفقوا عن طيب نفس ورغبة
في القبول؛ فبذلك كفروا، وجعل الله أموالهم وأولادهم فتنة لهم، ووبالاً عليهم،
وسينتقم منهم {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 88-89) من عيوب الشرك والنفاق.
هذا وقد تضافرت الآيات الناطقة بأن الصلاة والزكاة هما علامتا الإيمان بالله،
ودليلا الإخلاص له، وأنه لا يصح إيمان بدونهما، كما أنهما لا تقبلان من غير
أن يكون الإيمان باعثًا عليهما، وها أنا ذا أزيدك على ما تقدم منها ما تقطع بعد
تدبره بأن تارك الصلاة ومانع الزكاة لم يمس الإيمان قلبه.
قال العزيز الحكيم في سورة السجدة الم: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا
بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 15-16)
(وقال) تعالى في سورة الأنفال {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ} (الأنفال: 2-4) وقد
أتى في الآيتين بلفظ (إنما) الذي يدل على الحصر، كأنه يقول سبحانه: إنه لا
يوجد الإيمان الصحيح إلا فيمن يكون هذا شأنهم، وتلك صفاتهم، فمن لم يهتز قلبه
لذكر الله، ولا يخضع ويذعن لأوامره، فيرجو ثوابه، ويخاف عقابه، فليس بمؤمن،
وإن سمى نفسه مؤمنًا؛ لأن المؤمن يدور دائمًا بين خوف ورجاء، فخوفُه عذابَ ربه
يزجره عن المنكرات، ورجاؤه ثوابه يدعوه إلى المسارعة في الخيرات، فمن لم يك
كذلك، فاعتقد كذبه في دعوى الإيمان، وحسبك شهادة الله لمن يقيم الصلاة ويعطي
الزكاة بعد ما تقدم بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ} (الأنفال: 4) بالحصر
المؤكد بالحق، فهل بعد هذه أدلة، تشفي من الغلة، أو ينتظر برهان، أرقى من
القرآن؟
ولنختم الموضوع بآيات أخرى ودلائل، ولا تدع بعدها قولاً لقائل، فنتلو
قول الله الكريم: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ} (التوبة: 1) الآيات، ففيها يقول الله للمسلمين {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا
المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 5) ،
وفيها يقول: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7) - إلى أن قال -:
{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 10-11) .
أمرهم بألا يَعْتَدُّوا بتوبتهم من الشرك والاعتداء، إلا إذا اتبعوا التوحيد بإقامة
هذين الركنين للدين؛ لأنهم بهما يصيرون مسلمين متآخين، وعلى هذا سار
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وقتال الخليفة
أبي بكر بإجماع الصحابة لمانعي الزكاة، وعده إياهم خارجين بتركها مشهور، وبه
علم أن الإسلام أركانه متضامنة، لا يقام إلا بإقامتها جميعها، وينهدم بهدم أي ركن
منها، وقد عزز ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا بالحديث الذي خرَّجه
الإمام أحمد [3] (أربع فرضهن الله في الإسلام فمن جاء بثلاثة لم تغنين عنه شيئًا
حتى يأتي بهن جميعًا: الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت) ، وقد علمت
مما تقدم أن من يقيم الصلاة بالخشوع، ويؤتي الزكاة بالإخلاص، لا يسعه أن يترك
غيرهما من الفروض، ولا يمتنع عن تقوى الله ما استطاع، ولذلك اختصرنا
عليهما إذ يوشك أن تضيع كل فضيلة بضياعهما، وعدم المبالاة بهما.
فاتقوا الله يا معشر المسلمين، واعملوا أنكم لستم بمأجورين، حتى تحذوا
حذو سلفكم الصالحين، فتكونوا بالصلاة والزكاة آمرين مؤتمرين، وعلى يد
التاركين لهما ضاربين، ( {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ} (التوبة: 11) تتعاونون على نشره، وتتكاتفون في إحياء شعائره،
فتعلون كلمته، وتجنون ثمرته.
هذه نصيحتي أقدمها إليكم، عسى أن تكون وسيلة لديكم، فتطلبوا الحق من
القرآن، ولا تستبدلوا التقليد بالبرهان.
هداني الله وإياكم
... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي أبو زيد
(المنار)
عنوان هذه الرسالة، والكثير من عباراتها مخالف في ظاهره لمذهب أهل
السنة في عدم تكفير المسلم بترك فريضة أو فعل معصية، وموافق لمذهب الخوارج
في تكفير مرتكب الكبيرة، كترك أحد أركان الإسلام، أو اقتراف القتل، أو الزنا،
أو شرب الخمر، وقد تعارضت ظواهر نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب،
فأطلق اسم الكفر في بعض أحاديث صحيح مسلم على ترك الصلاة، وعلى الطعن
في النسب والنياحة على الميت، وفي حديث الصحيحين " سباب المسلم فسوق
وقتاله كفر " (وفيهما) (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) ،
وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات:
9) فسماهما مؤمنين، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فجمع أهل السنة بين هذه النصوص وأشباهها
بأن لفظ الكفر - ومثله الفسق والظلم - ورد في الكتاب والسنة بالمعنى اللغوي،
فأطلق على كفر النعمة، وعلى الشرك، وما في معناه من منافيات الإيمان بالله
ورسوله، وتصديق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى،
وكذلك الفسق والظلم، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) ،
{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) ، {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ
فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 33) ، وقال {َ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ
فِي الحَجِّ} (البقرة: 197) فهذا الفسق دون ما قبله، وكذلك لفظ الشرك، وهو
أقبحها أطلق على ما دون اتخاذ إله مع الله فسمي الرياء شركًا.
وجملة القول: إن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من المسلمين بمعصية يرتكبها
فعلاً كانت أو تركًا وإن كانت من الكبائر، إلا أن بعض أئمة أهل السنة من
الصحابة والتابعين قالوا بكفر تارك الصلاة كما تقدم في تعليقنا على حديث مسلم في
أول هذه الرسالة، وأطلق جمهورهم كلمة (المرتدين) على مانعي الزكاة بعد وفاة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أطلقوه على من رجعوا عن الإسلام إلى
الشرك أو الإيمان بنبوة الكذابين مسيلمة والأسود العنسي؛ ولكن قال علماء السنة:
إن الذين منعوا الزكاة تأولاً بأن أخذها خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يسموا مرتدين إلا بالتبع لغيرهم، أو بمعنَى الارتداد اللغوي، وإن الإجماع انعقد في
عهد الصحابة بأن من منع الزكاة متأولاً - ومثله من جحد ما في معناها وحكمها -
تقام عليهم الحجة أولاً فإن اعترفوا بوجوبها ولم يؤدوها لا يحكم بكفرهم بل يقاتلون
قتال البغاة لا الكفار، كما قاتل الصحابة الخوارج ولم يكفروهم، ولا عاملوهم معاملة
الكفار في القتال.
هذا، وإن وراء هذه المسالة بحثًا آخر وهو: أنه لا يعقل أن يكون المرء
مؤمنًا بالله تعالى، وبرسوله، وباليوم الآخر على الوجه الحق الذي دعا إليه القرآن،
ومسلمًا مذعنًا في ظاهره وباطنه لما جاء به النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو
يترك الصلاة التي هي عماد الإسلام، وركنه الأعظم للعبادات الشخصية، والزكاة
وهي ركنه الأعظم الذي تقوم عليه حياته الاجتماعية، غير مبال بنصوص الكتاب
والسنة التي قرنتهما بالإيمان، وعدتهما أعظم أركان الإسلام، وقد عد السلف العمل
بما أمر الله ورسوله داخلاً في مفهوم الإيمان، والإذعان شرط لصحة الإيمان
بالاتفاق، وكيف يكون مذعنًا من لا سلطان للأمر والنهي على قلبه، ولا يظهر لهما
أثر في عمله؟
لقد أحسن من عبر عن المسألة بقوله (لا نكفر أحدًا من أهل القبلة) أي من
ثبت إسلامه بإذعانه لما جاء به نبينا، بأن كان يصلي معنا إلى قبلتنا، ويلتزم
أحكامنا وشعائرنا؛ فإننا لا نحكم بكفره لذنب يقترفه بجهالة كثورة غضب، أو نزوة
شهوة، أو فريضة يتركها بشغل عارض، أو برد قارس، ثم يتوب من قريب،
إذعانًا لمقتضى الوعد والوعيد {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (النساء: 17) ، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135) لا إيمان لمن لا إذعان
له، ولا إذعان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا عمل له، وأعمال الإسلام
قسمان أركان كأركان البيت يتوقف عليها وجوده، وواجبات ومندوبات يتوقف عليها
كماله، فهذا هو الإسلام الديني.
وهناك إسلام آخر هو عبارة عن جنسية سياسية أو اجتماعية تنال بالوراثة،
أو بالانتماء إلى قوم يسمون مسلمين، وهذا الإسلام لا يشترط فيه العلم بعقائد
الإسلام الديني، ولا القيام بأركانه وشعائره الظاهرة، ولا ترك محرماته المجمع
عليها، ولا استقباحها، ولا ينافيه إنكار شيء من القرآن، ولا استقباح شيء من
شرعه كتحريم تبرج النساء والخمر والقمار، وإنما يُعْرَف بالاسم وبمشاركة
المسلمين في بعض احتفالات أعيادهم، ومواسمهم المشروعة والمبتدعة، وبعدم
التزام شعائر دين آخر، وإننا نرى بعض الملاحدة من هذا الجنس يريدون هدم
الإسلام الديني بالإسلام الاصطلاحي الجنسي، حتى أنهم يبيحون جحد المجمع عليه
المعلوم منه بالضرورة، وأولئك هم المرتدون المنافقون.
__________
(1) المنار: مثل هذا القول لا يمكن حمله على الشرك في الاعتقاد؛ وإنما هو من باب حديث (تعس عبد الدينار) وباب [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] (الجاثية: 23) .
(2) المنار: الاستدلال بعدم الإتيان بالبينة، وباستلزام الإيمان للعمل يجادل فيه المشتغلون بالعلم بقولهم إن عدم الإتيان بالدليل لا يقتضي عدم المدلول، وعدم البينة لا يقتضي كذب الدعوى، وعدم الملزوم يقتضي عدم اللازم دون العكس، ويعدون هذا الاستدلال من الخطابيات، وستعلم أن له وجهًا صحيحًا.
(3) المنار: رواه عن زياد بن ربيعة بن نعيم مرسلاً.(18/662)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(11)
أنواع أمراض الأحياء
الطفيلية الميكروبية
هذه الأمراض نوعان: منها ما عُرِفَ ميكروبه باليقين، ومنها ما لم يُعْرَف
إلى الآن، ومن أسباب ذلك أن جميع المجاهر أو النظارات المكبرة
(الميكروسكوبات) الحالية لا تكشف إلا ما بلغ طول قطره 16.0 من
الميكرومليمتر أو أكثر، أما ما قل عن ذلك فلا يمكن رؤيته إلى الآن مطلقًا،
ويسمى (بما وراء المجهر) (Ultra-microscopic) وهذه الميكروبات تمر
خلال أحكم النواضح (المرشحات) مثل ميكروب الكَلَب وجدري البقر.
أما الميكرومليمتر المذكور هنا، ويسمى أيضًا (الميكرون) فهو جزء من
ألف من المليمتر، ويُرمز إليه بهذه العلامة (u) في الإفرنجية، وبحرف (مك)
في العربية.
والميكروبات المعروفة إما نباتية أو حيوانية، كما سبق.
الأمراض التي تنشأ من الميكروبات النباتية
الحمى التيفودية fever Typhoid:
لفظ التيفود يوناني معناه (شبه التيفوس) ، ومعنى كلمة (تيفوس) الصاعقة سميت بذلك الحمى المعروفة؛ لأنها تصعق المريض.
هذه الحمى من الحميات الشهيرة المعدية، وتمكث عادة نحو ثلاثة أسابيع،
وقد يُنكَس فيها المريض مرة أو أكثر، وأهم مميزاتها طفح قرنفلي، وإسهال مع
التهاب، وتقرح في بقع (بايير) ، وفي الغدد المنعزلة للأمعاء، ولإصابة الأمعاء
فيها بالتقرح تسمى أيضًا بالحمى المعوية.
الأسباب:
هذه الحمى لا تُمَيز إلا قليلاً بين الذكر والأنثى، ولكن للعمر تأثيرًا كبيرًا فيها
فهي تكثر في سن الشباب إلى 30 سنة، وبعد ذلك تقل كثيرًا، غير أنها قليلاً ما
تصيب الأطفال والشيوخ، وإذا أصابت الأطفال كانت الإصابة خفيفة، ومدتها
قصيرة، وإضرارها بالأمعاء أقل مما في الشبان.
تكثر هذه الحمى بين شهري أغسطس ونوفمبر، أو في فصل الحر والجفاف،
وإذا أصيب بها المرء مرة وَقَتْهُ من الإصابة بها مرة أخرى، وميكروبها من
الشكل الباسيلي، كثير الحركة بأهدابه، طوله ميكرونان أو ثلاثة، ويتكاثر
بالانقسام، ولا حبيبات له، ويوجد بكثرة في البراز وفي البول [1] ، وفي اللعاب
أيضًا (في المضاعفات الرئوية) وفي العرق، ويوجد كذلك في قيح الخراجات
التي تنشأ من هذه الحمى، وقد ينتقل من الأم إلى جنينها.
فإذا وصل هذا الميكروب إلى أي شيء مما يأكله الإنسان، أو يشربه انتشر
المرض بين الناس، والذي اكتشفه هو (إيبرت Eberth) سنة 1880، وهذا
الميكروب يعيش حتى في الثلج، ولا يقتله عصير المعدة الحامض ويقاوم درجة 44
إلى 45 سنتيجراد مدة طويلة جدًّا؛ ولذلك قد يصل إلى الإنسان من مثل القشدة
المثلوجة وغيرها، ويدخل هذا الميكروب كثيرًا في الأسماك الصدفية أي المحار
(كأم الخلول) التي تؤكل عادة بلا طبخ، ويعيش فيها الميكروب وهي حية لغاية 18
يومًا بدون أن يظهر عليها عرض ما، وإذا جف الطين وصار بحيث تثيره الريح
عاش الميكروب فيه 25 يومًا؛ فينتقل بذلك إلى طعام الإنسان وشرابه، وكذلك
الذباب ينقله أيضًا، وقد يعلق هذا الميكروب بالخضروات كالفجل والجرجير
ونحوها مما يؤكل غضًّا، فكل هذه الأشياء هي مما ينقل المرض من شخص إلى
آخر، وكثيرًا ما تتلوث الآبار، أو الأنهار، أو أنابيب المياه من المراحيض التي
يُلقى فيها إفراز المرضى، وقد ثبت أنه يعيش في قذارة المراحيض من 3 إلى 5
أيام؛ ولكن يوجد في هذه المواد القذرة من الميكروبات ما يقتله بعد ذلك.
وإذا عُرِّض هذا الميكروب لنور الشمس مات بعد 4 ساعات، وقد يبقى إلى
8 ساعات، وإذا وجد في الأرض مختبئًا عاش شهرين كاملين.
ومن الناس من يحمل الميكروب في جسمه عدة أشهر، بل عدة سنوات بعد
الشفاء من الحمى، ويكون سببًا في عدوى الكثيرين ببوله وبرازه [2] ، ومن المحقق
أن المرارة هي غالبًا مسكن الميكروب في هؤلاء الحَمَلَة (خصوصًا من النساء)
وفيها يتكاثر بعد الشفاء (راجع 16 و 17 من هذا الجزء) .
والطريق الوحيد للعدوى بهذا المرض هو الجهاز الهضمي؛ فإذا وصل إلى
أي جزء منه كالفم مثلاً إذا ذرته الرياح فدخل غباره في جوف الإنسان فمن الجائز
أن يصاب بهذا المرض، وإن كان الغالب في العدوى أن يزدرده الإنسان في الطعام
أو الشراب.
الأعراض:
مدة التفريخ تكون في أكثر الأحوال نحو أسبوعين، وقد تكون 5 أيام فقط،
أو 22 يومًا، ويبتدئ المرض بإحساس المريض تدريجًا بضعف وتكسر في الجسم،
ويسأم العمل، ويشعر بصداع، وآلام في الأطراف والظهر، وبالإقهاء (فقد
شهوة الطعام) وقد يحصل له غثيان أو قيء، وفي أغلب الأحوال لا يمكن
للمريض أن يعين بالضبط مبدأ لهذه الأعراض بخلاف بعض الحميات الأخرى التي
تبتدئ فجأة ويكون الصداع شديدًا (وأكثر شكوى المريض منه) وفي كثير من
الأحوال يحصل له إسهال، وقد يحاول المريض في أول الأمر أن لا ينقطع عن
عمله إلا أنه في أواخر الأسبوع الأول يضطر إلى ذلك، ويلجأ إلى الفراش، وكذلك
تبتدئ الحرارة بالتدريج حتى تصير بعد أيام قلائل نحو 40، ويسرع النبض،
وتزداد مرات التنفس، وفي نحو اليوم السابع أو العاشر يكون عند المريض ذهول،
وضعف شديد، ويحتقن خداه، ويجف اللسان، ولا يزال يشتكي من الصداع،
ويحصل له أحيانًا عرق غزير، أو رعاف، ومن اليوم السادس إلى اليوم الثاني
عشر يظهر الطفح القرنفلي المخصوص، وهو نقط أو بقع صغيرة وردية مستديرة
مرتفعة قليلاً عن سطح الجلد تزول بالضغط عليها، ولا يحصل فيها نزف كما في
التيفوس، وتشاهد هذه النقط على البطن والصدر، وقد تُرى أيضًا على الجنبين
والظهر، أو العضدين والفخذين، ويتراوح عددها بين 6 إلى 20 أو 30، وقد
تزيد على ذلك بكثير، وفي بعض الأحوال لا يكون لهذا الطفح وجود خصوصًا في
مصر، وهو لا يظهر دفعة واحدة بل تدريجيًّا، وتمكث كل نقطة 3 أو 4 أيام، ثم
تزول، ويخلفها غيرها حتى نهاية الأسبوع الثالث أو بعده، وبعد الموت تزول هذه
النقط.
وفي الأسبوع الثاني يكون البطن منتفخًا، وبه آلام، وبالضغط على الحفرة
الحرقفية اليمنى يشعر المريض بالألم القليل، وقد يحس الطبيب بقراقر مخصوصة،
ويشتد الإسهال؛ ولكن في بعض الأحوال خصوصًا في مصر يكون البطن معتقلاً
من أول المرض إلى آخره، وللبراز في هذا المرض رائحة كريهة مخصوصة،
ولون أصفر يشبه حساء (شوربا) العدس المصري، وقد يحصل نزف من البطن
يكون سببًا في الموت أحيانًا، ويكبر الطحال، ويقل البول.
أما الصداع فإنه لا يمكث عادة بعد اليوم العاشر، وقد يصاب بالصمم الوقتي،
وفي أواخر الأسبوع الثاني تبتدئ الحرارة في النزول تدريجيًّا حتى تصبح طبيعية،
هذا في الأحوال الحسنة.
أما في الأحوال السيئة؛ فيشتد الهذيان والنعاس الذي تعقبه الغيبوبة ويحصل
الاهتزاز الوتري، وتجتمع الأوساخ على الأسنان والشفتين وغيرهما ويضعف القلب،
ويكثر السعال، ويعسر الشفاء.
وقد يُنْكَس الإنسان بعد الشفاء من هذا المرض، فإنه لوحظ أن نحوًا من 11
مريضًا في المئة يُنْكَسون، وقد تكون الفترة بين المرة الأولى والثانية 11 يومًا،
وفي الغالب تكون مدة النكس مثل المدة في طولها؛ ولكنها أخف منها، وقد ينكس
ثانية وثالثة ورابعة.
وأهم تغير يحصل في الجسم بهذا المرض هو التهاب بقع (بايير) المذكورة
والغدد المنعزلة، وفي اليوم العاشر أو بعده بقليل تتقرح هذه الأجزاء، وقد ينثقب
البريتون؛ فتخرق الأمعاء، ويحصل التهاب بريتوني شديد يعقبه الموت، أما
التغيرات في بقية الأعضاء فهي كما ذكر سابقًا في المقدمة، وكثيرًا ما يشاهد في
التيفود إذا طالت مدته تغير العضلات الذي ذكره (زنكر zenker) فتستحيل
أليافها إلى مادة شفافة كالشمع، ثم تتفتت، وتصير حبيبات صغيرة، وبذلك تفسد
العضلات، وقد يتولد فيها خراج.
المضاعفات والأشكال المختلفة:
مضاعفات هذا المرض كثيرة، منها النزلة الشعبية، والالتهاب الرئوي، أو
البليوراوي، أو البريتوني، أو السحائي، وغير ذلك كثير.
ومن أنواعها ما لا يمكث إلا عشرة أيام، ويسمى بالنوع المجهض
(abortive) أو يطول إلى 6 أسابيع، ومن الناس من لا يشعر بالمرض لشدة
خفته؛ ولكنه قد تُثقب أمعاؤه فجأة فيموت، وإذا شفي المريض لا تعود إليه قواه
العقلية والجسمية إلا تدريجًا؛ فيحتاج في الأحوال البسيطة إلى ثلاثة أشهر من مبدأ
المرض إلى تمام نقاهته، أما في الحالات الشديدة، أو المتضاعفة، أو ذات النكس
فيحتاج إلى5 أو 6 أشهر من مبدأ المرض.
الإنذار [3] :
عدد الوفيات بهذا المرض هو من خمس إلى عشرين في المئة، ومن أشد
الأشياء خطرًا على الحياة ثقب الأمعاء، والنزف.
المعالجة:
هي كما سبق في باب الحميات، إنما نُذَكِّر هنا بعدة مسائل:
(1) أن لا يُعطى المريض مسهلاً إلا في أول المرض، وأفضل المسهلات
عندئذ زيت الخروع، ولا يجوز بحال من الأحوال إعطاء مسهل شديد
ألبتة.
(2) يجب التزام الراحة التامة على الظهر؛ حتى يتبرز المريض في
إناء مفرطح منعًا لكل حركة، ويجب بقاء المريض على الغذاء السائل مدة 10 أيام
على الأقل بعد نهاية المرض، والغرض من ذلك كله منع الانثقاب والنزف.
(3) من الأطباء من يعطي أدوية مطهرة للأمعاء (كالسالول) والزئبق
الحلو بمقادير صغيرة، ولكن نفع هذه الأشياء قليل، وغاية الأمر أنها قد تقلل
الإسهال والرائحة الكريهة للبراز.
(4) إذا زاد الإسهال عن أربع مرات يوميًّا، وجب العلاج وإلا
فلا.
(5) لا بأس من شرب الماء بكثرة؛ فإنه منعش، ويغسل سموم الجسم في
العرق والبول، وماء الجير نافع جدًّا إذا مُزج باللبن؛ فإنه يسهل هضمه، ويمنع
الغثيان، والقيء، ويمسك البطن، ويقوي خلايا الجسم؛ فإن الجير لازم لحياة جميع
الخلايا.
(6) يُعالج الصداع بوضع الماء المثلوج على الرأس، أو بتعاطي
الفيناستين (بقدر5 - 10 قمحات) أو غيره.
للوقاية:
(1) تطهر جميع مواد البراز والبول وغيرهما بوضع مثل الفنيك عليها
بنسبة 5 في المئة لمدة ساعتين على الأقل قبل إلقائها في المراحيض.
(2) يُغلى كل ما يستعمله المريض من ملبس، وفرش، وأواني، وغيرها
مدة نصف ساعة على الأقل.
(3) يجتنب إلقاء أي شيء مما يخرج من المريض، أو يمسه في مجاري
ماء الشرب، أو تركه مكشوفًا بحيث ينقله الذباب أو الريح، بل يجب تغطية
أواني البراز بخرقة مغمسة بمحلول الفنيك بنسبة 5 في المئة أيضًا منعًا لانتقال
الميكروب بواسطة الذباب إلى أهل المنزل.
(4) يجب غسل يدي كل من خالط هذا المريض بالماء والصابون، ثم
بمحلول السليماني 1 في 1000، أو بمحلول الفنيك، أو بالغول (الكحول)
النقي بوضعهما فيه خمس دقائق قبل أن يمس أي شيء من طعامه.
(5) في وقت انتشار هذا الوباء يجب غلي كل طعام وشراب، وأحسن
طريقة لتطهير الخبز ونحوه إمراره في لهب الكحول، أو وضعه على الفحم
الملتهب، وينبغي أيضًا الامتناع عن أكل الخضر كالفجل والجرجير والفاكهة إلا
إذا غسلت جيدًا بالماء الغالي، وأزيلت قشورها، وكذلك يجب اجتناب أكل
الحيوانات البحرية المذكورة سابقًا واللبن المثلوج.
(6) يُلقح السليم بالحقن تحت الجلد بميكروب الحمى التيفودية بعد قتله،
وذلك بأن يربى ميكروب التيفود لمدة 42 ساعة، ثم يوضع في محلول الطعام 1
في 100 ويقتل بعد ذلك بحرارة درجتها 53 سنتيجراد لمدة ساعة، وليحترس من
رفع الحرارة أكثر من ذلك؛ لأنها تفسد مادة التطعيم، ويحقن المريض مرتين
بينهما فترة عشرة أيام، وعدد الميكروبات التي يجب أن تحقن في المرة الأولى
500 مليون، وفي الثانية نحو 1000 مليون، ويوصي بعضهم بحقنة ثالثة من
2000 مليون، وللحقن في زمن انتشار الوباء عيب، وهو أن القابلية للمرض
تزداد بعد الحقن لمدة قصيرة؛ فيكون الإنسان عُرضة للإصابة، وأحسن الأوقات
للحقن ما كان قبل قيام المسافر ونحوه إلى مكان الوباء ببضعة أيام.
(7) تطهر الأواني إذا تعسر غليها بمحلول حامض الكبريتيك بنسبة 2 في
المئة ومزيته أن الآثار التي تبقى منه لا تضر صحة الإنسان مطلقًا بل إن طعمه
الحمضي مما يحرض شهوة الطعام، ويعين على الهضم.
(8) لا يجوز للناقهين التبول، أو التغوط في الطرقات، ولذا يجب
تقصير الثياب وخلع المرء نعليه عند دخوله حجرات منزله، ولا يخفى أن من
آداب الإسلام تقصير الثياب فإن في إطالتها إسرافًا وخيلاء وضررًا صحيًّا
عظيمًا.
(9) تتقى مخالطة الناقهين مدة ثلاثة أشهر على الأقل أو إلى أن يُظْهِر
البحث البكتيريولوجي طهارتهم من الميكروبات تمامًا بعد عمله عدة مرات متباعدة،
وإلا وجب منعهم عن مس أي طعام أو شراب، وتطهير أيديهم، وملابسهم،
وفرشهم، أو مفرزاتهم دائمًا، وغلي كل طعام أو شراب مسوه قبل تناوله.
***
طريقة فيدال لتشخيص الحميات
TEST WIDAL'S
هذه الطريقة مبنية على أن مصل دم المرضى بالتيفود يبطل حركة ميكروباته
في بعض دقائق، ثم يتراكم بعضها على بعض؛ فيتكون منها أكوام، وذلك ما يسمى
بالإفرنجية (Agglutination) وهي كلمة لاتينية معناها الحرفي (التغرية) ؛
لأن الميكروبات في اجتماعها تكون كأنها غريت بعضها ببعض بعد أن بطلت
حركتها، والأحسن أن نسمي ذلك (بالارتكام) والميكروبات في هذه الحالة لا تكون
ميتة كما يتوهم بعض الناس، وملخص هذه الطريقة عملاً أن يؤخذ جزء من دم
المريض في أنبوبة دقيقة مطهرة، ثم تمزج نقطة من مصله بجزء أكبر من السائل
الذي ربي فيه الميكروب بنسبة مخصوصة أفضلها ما كان (من 1 إلى 30)
وينظر إليه بالميكروسكوب بطريقة (النقطة المعلقة) فبعد نصف ساعة أو ساعة لا
يشاهد غالبًا ميكروب واحد منفردًا، وقد فسر العلماء ذلك بعدة تفاسير لا حاجة
لذكرها؛ لأن الحقيقة مجهولة، وهذه الطريقة لا تنجح إلا بعد مضي بضعة أيام من
المرض، والأحسن أن يؤخذ الدم بعد الأسبوع الأول، وفي بعض الأحوال لا تنجح
مطلقًا وتكون الحمى حينئذ شديدة ومميتة، وفي البعض الآخر يستمر نجاحها لعدة
أشهر بعد انتهاء المرض، وهي تستعمل في الحميات الأخرى التي عُرِف ميكروبها
باليقين كالحمى المالطية، ويؤخذ الدم من شحمة الأذن أو الإصبع بالوخز بإبرة أو
نحوها.
ولا يتعين استعمال المصل في طريقة فيدال هذه، بل يجوز أن تعمل بدم
متجمد؛ فيذاب بقليل من الماء المقطر، ويستعمل كالمصل، ويجوز أيضًا استعمال
الميكروب الميت؛ فإنه يتراكم أيضًا، وكذلك الميكروبات غير المتحركة.
الحمى الباراتيفودية typhoid - para:
كلمة (بارا) يونانية معناها (قريبة) ؛ لأن هذه الحمى تقرب جدًّا من
التيفودية في أعراضها وسيرها، بل في جميع مميزاتها تقريبًا غير أنها تكون عادة
أخف وطأة، وأقصر مدة، والبطن يكون - في النوع الأول منها - غالبًا معتقلاً،
وهي غير مميتة إلا نادرًا، وتنتشر أحيانًا بشكل وبائي، وقد تحصل في جميع بقاع
الأرض، وأهم الأسباب في انتشارها الماء الملوث، وميكروبها كميكروب الحمى
التيفودية إلا في بعض أشياء قليلة من الوجهة البكتريولجية، أما في الشكل والحركة
فهما سيان، وهذا الميكروب لا يتراكم بمصل دم الحمى التيفودية، وهو نوعان:
النوع الأول يسمى (أ) والثاني (ب) أما (أ) فإنه أشد شبهًا بميكروب التيفود،
وأما (ب) فإنه أضر، إذا مات الشخص بسبب هذه الحمى كان غالبًا مصابًا
بميكروب (ب) وقد تخرق أمعاء المصاب بسبب تقرح اللفائف؛ ولكن تكون بقع
بايير سليمة وفي بعض الحالات لا يوجد شيء في الأمعاء، وفي إصابة واحدة
شوهدت ضخامة غدد المساريقا، وفي كثير من الإصابات يكبر الطحال.
أما المعالجة والوقاية فهي كالتيفودية سواء بسواء، هذه الحمى تقي من أصيب
بها من مثلها، ولا تقي من التيفود.
الحمى المالطية Fever Malta:
تسمى هذه الحمى أيضًا بحمى البحر الأبيض المتوسط؛ لأنها كثيرة الحصول
في شواطئه، وفي جزائره؛ ولكنها توجد أيضًا في جنوب أفريقية، والهند،
والصين، وغير ذلك.
الأعراض:
طور التفريخ يتراوح بين بضعة أيام و 3 أو 4 أسابيع، وتبتدئ الأعراض
تدريجيًّا كما في الحمى التيفودية؛ ولكن لا يظهر فيها طفح، ويكون البطن ممسكًا،
ولا تتقرح فيه بقع (بايير) ولا تضخم، والوفيات فيها قليلة (نحو 2 في المئة) ؛
ولكنها تطول جدًّا فقد تمتد إلى 9 أشهر، ويشفى منها المريض بالتدريج، ويصير
ضعيفًا أصفر اللون وقد تلتهب مفاصله أو خصيتاه.
أسبابها:
لهذه الحمى ميكروب من النوع البزري، وهو لا حركة له، ولا أهداب (وإن
ادعى بعض الباحثين أن له أهدابًا) أما ما يُشاهد فيه من الحركة فهي حركة برون
(Brown) وهو اسم امرئ نباتي يسمى (روبرت برون) شاهدها في قطرات
الندى؛ ولكنها ظاهرة طبيعية يمكن مشاهدتها في كل سائل فيه ذرات دقيقة؛ فتهتز
هذه الذرات مع حركة رحوية قليلة حول نقطة معينة، وسببها اختلاف درجة
الحرارة في السائل بالتبخر القليل الذي يحصل من سطحه.
وأعظم ما ينقل ميكروب هذه الحمى إلى الإنسان هو لبن الماعز فإن الماعز
تصاب كثيرًا بهذا الميكروب في جزائر البحر الأبيض، وفي جنوب أفريقية
وغيرها بدون أن يظهر فيها عرض ما لهذا المرض (إلا ضعفًا في بعضها أو
التهابًا في ضروعها) ؛ ولكنها تفرز في لبنها كثيرًا من هذا الميكروب.
وللوقاية منه يجب اجتناب أكل أو شرب هذا اللبن أو ما يصنع منه كالزبدة أو
الجبن الحالوم إلا إذا كان اللبن غلي قبل صنع الجبن منه، ويجوز أن يدخل
الميكروب من جرح بالجلد إذا مسه هذا اللبن، أو ينتقل بواسطة الحشرات الماصة
للدم كالبعوض مثلاً فإن الميكروب يعيش فى جسمه أربعة أيام أو خمسة.
وهذه الحمى تصيب الذكر والأنثى على السواء تقريبًا، وهي أكثر حدوثًا في
سن الشباب منها في الكبر، ويكثر حصولها في أيام الحر.
***
الدفثيريا
Diphtheria
الدفثيريا كلمة يونانية معناها الغشاء، وهي عبارة عن مرض معدٍ رديء،
أهم مميزاته أنه يصيب الأغشية المخاطية للفم، أو الحلق، أو الأنف، أو الحنجرة،
أو غير ذلك فيتكون غشاء أبيض فوق هذه الأجزاء الملتهبة، وقد يصيب هذا
الغشاء أيضًا سحجات الجلد أو جروحه، وإذا أصاب الملتحمة (غشاء العين) أتلفها
في 24 ساعة.
الأسباب:
هذا المرض يصيب الأطفال خصوصًا بين السنة الثانية والعاشرة أو الثانية
عشرة، ويندر حصوله لغيرهم، وهو ينتشر بالهواء لمسافات قصيرة، ويخرج
الميكروب في إفرازات المصاب أثناء عطاسه أو سعاله مثلاً، أما نَفَسه الهادئ فلا
يضر، ويعيش ميكروب الدفثيريا مدة طويلة إذا سكن في طيات الثياب، وهي مما
ينقله إلى مسافات أبعد من مسافة انتقاله في الهواء، ويعدي هذا المرض حتى في
مبدئه قبل أن تظهر جميع أعراضه، ورطوبة المنازل، والأهوية الفاسدة مهيئات
له، وكذلك أمراض الحلق كالتهاب اللوزتين، وقد ينتقل الميكروب بالطعام أيضًا
إلى مسافات بعيدة، وتصاب بعض الحيوانات به خصوصًا القطط والبقر؛ فيعدي
لبنها حينئذ إذا لم يُغلَ، ويصاب الحمام، والدجاج، والخيل، والغنم بمرض يشبهه
والقول الراجح عند العلماء الآن إن مرض هذه الحيوانات المذكورة أخيرًا لا علاقة
له بمرض الإنسان، ولا ينتقل إليه، ولكن لا خلاف بينهم في إصابة القطط والبقر
به؛ فتظهر بثور وقروح دفثيرية في ضروعها، والفئران لا تصاب به، أما تلك
الحيوانات الداجنة التي لا تصاب به فقد تتلوث بميكروب دفثيريا الإنسان، وتكون
كحاملي الأمراض؛ فتنقله من مكان إلى آخر، ومن إنسان إلى إنسان.
ويرى بعض العلماء أن ميكروبها يعيش مدة طويلة في الطين، والهواء
المحتبس في جوف الأرض يخرجه منها إذا ارتفعت مياهها - كما سبق - ويكثر
هذا المرض في فصلي الخريف والشتاء، وهو الزمن الذي تكثر فيه القرمزية،
والتهاب الحلق، أو الحنجرة، أو اللوزتين.
ويجوز أن يعود المرض للمرء بعد شفائه، وميكروب هذا المرض يوجد في
الطبقات العليا للأغشية المذكورة، وإذا طال المرض وجد في الرئة والطحال
والكليتين، بل ربما وجد في الدم أيضًا، وهو من الشكل الباسيلي اكتشفه كل من
(كلبز klebs) سنة 1883 (ولفلر loiffler) سنة 1884، وهما عالمان من
علماء الألمان، وطول هذا الميكروب يختلف من 3 إلى 4 ميكرون، وهو غير
متحرك، ولا حبيبات له، بل يتكاثر بالانقسام، ويعيش في الهواء؛ ولكنه يمكنه
أن يعيش في غير الهواء حتى في الفراغ، ويبقى في السوائل المغذية وغيرها من
المزارع مدة شهر، وإذا جفف عاش 3 أو 4 أسابيع، ويقف نموه إذا زادت
الحرارة عن 40ْ أو نقصت عن 20ْ سنتجراد.
وإذا شفي المصاب وجد الميكروب في حلقه في نصف عدد الناقهين لمدة 3
أيام، وفي أحوال قليلة يبقى 3 أسابيع، وقد يستمر إلى 5 أشهر، بل 15 شهرًا،
ومن ذلك يُعلم خطر الإسراع في خلط المصاب بغيره من الأطفال قبل مضي مدة
طويلة، والأفضل أن يفحص حلق الطفل أو أي موضع آخر للإصابة مرتين أو
ثلاثًا فحصًا بكتيريولوجيًّا بأخذ جزء من إفرازاته، فإذا لم يوجد الميكروب بعد
الفحص مرتين أو ثلاث مرات متفرقة يؤذن للطفل بأن يختلط بغيره.
وممن يختلط بالمصاب أناس (8-30%) أصحاء يحملون الميكروب في
حلوقهم وأفواههم [4] لغيرهم ويبقون أصحاء؛ ولكن بعد زمن يصبح ميكروبهم غير
خطر غالبًا على غيرهم لفقده قواه السامة، ويسمي الأطباء مثل هؤلاء الناس
بالحملة الأصحاء، ويرى بعض العلماء أن باسيل هوفمان (Hofmann) الكاذب
الذي يوجد أحيانًا في حلوق الأصحاء وأنوفهم قد ينقلب فيصير صادقًا محدثًا
للدفثيريا الحقيقية.
الأعراض:
مدة التفريخ تختلف من يومين إلى ستة أيام، وقد تكون يومًا أو ثمانية،
ويبتدئ المرض بالإقهاء، وبسآمة وصداع، أو بغثيان وقيء ورعدة، ثم لا يلبث
المريض أن يشتكي من ألم في الحلق، فإذا نظر إلى حلقه في هذا الوقت شوهد
احمرار فيه وفي اللهاة، وانتفاخ أو احمرار والتهاب في اللوزتين، وبعد وقت
قصير يرى الغشاء يتكون على سطح الأغشية الملتهبة، وقد يظهر في وقت واحد
على اللوزتين معًا، وقد يبدأ بواحدة منهما قبل الأخرى، ومن الجائز أن يظهر على
غيرهما من أجزاء الحلق؛ وبسبب هذا الالتهاب تلتهب بعض الغدد اللمفاوية التي
في العنق [5] ، وقد يحدث من ذلك خراج فيها، أو تموت الغدد، وتسقط.
وحرارة الدفثيريا لا نظام لها، فقد تزيد عن 40ْ، ولكن الأغلب أنها تكون
أقل من ذلك، وهذا الارتفاع تصحبه الأغراض الأخرى للحمى، وفي كثير من
الإصابات يشتمل البول على زلال في وقت اشتداد المرض، أما إذا أصابت الأنف
فيعسر التنفس منه، وينتفخ غشاؤه المخاطي، ويسيل منه مخاط وقيح، أو دم
وصديد؛ فيتقرح بذلك جانبا الأنف وما جاورهما من الشفة، وخطر الالتهاب الأنفي
الغشائي نادر جدًّا ولا عواقب له، ويندر أن يعدي الآخرين، ولو أن الميكروبات
تكون فيه كثيرة كغيره.
وإذا أصابت الدفثيريا الحنجرة (وهذا ما يسمى بالخُناق) كثر السعال،
وصار له صوت مخصوص، وعسر التنفس، وبح الصوت، وكثيرًا ما يشتد
الضيق حتى يختنق المريض.
وفي الأحوال الحنجرية يكون هذا الضيق غالبًا هو السبب في الموت، وإذا
عُمل للمريض فتح في القصبة الهوائية؛ فقد يموت بسبب المضاعفات الرئوية أو
الضعف العام مع شلل القلب.
أما في الأحوال الحلقية فالموت فيها يكون بشلل القلب، وهو يحصل بسرعة
عجيبة.
المضاعفات:
كثيرة منها التهابات الرئة، والبليورا، والالتهاب الكلوي، والشلل الدفثيري،
وأهم أعراضه شلل في سقف الحلق الرخو؛ فيرجع الماء وغيره من السوائل من
الأنف ويصاب المريض بالحُنة أو الغُنة - وهي خروج صوته من أنفه - وتضعف
رجلاه فلا يقوى على المشي طويلاً، ولا القيام، ويصاب بالحَوَل لشلل بعض
عضلات العين، إلى غير ذلك من الأعراض التي تصيبه بسبب تأثير سم المرض
في الأعصاب، وهذه الأعراض تبتدئ بعد الشفاء الظاهري بأيام أو أسابيع.
المعالجة:
يُعْزَل المريض، وتعطى له السوائل المغذية، والمنعشات المنبهة للقلب؛ فإنه
عرضة لأن تحصل فيه استحالة شحمية، وتجب المبادرة إلى حقن المريض بمصل
الدفثيريا، وذلك من اختصاص الطبيب الذي يقدر الكمية المناسبة لحالة المريض،
ويجري عمل الحقن طبق الأصول الطبية.
والمبادرة إلى حقن المريض من أوجب الواجبات؛ لأن التأخير يفسد خلايا
الأعضاء وخصوصًا القلب، حتى إذا عُمل للمريض الحقن بعد ذلك لا ينفعه شيئًا،
والمصل يبقى نافعًا مدة سنة على الأقل إذا لم تفتح زجاجاته، وحفظ في مكان مظلم
بارد.
ويطهر الحلق بطرق كثيرة، ومن أحسنها استعمال أقراص (الفرمانت)
(Formamint) لسهولة تعاطيها عند الأطفال، وإذا احتيج إلى تطهير أقوى
ونزع لتلك الأغشية من الحلق، فالأَوْلَى أن يخدر الطفل بالكلورفورم لينظف حلقه
تنظيفًا تامًّا بغير إجهاد له.
أما الشلل الذي يعقب المرض؛ فإنه يزول من نفسه في شهرين، أو أربعة
أشهر، ومما يعجل في شفائه الراحة، والمقويات، والكهرباء، والأغذية الجيدة،
والهواء النقي.
الوقاية:
تُعرف من الكلام على أسباب هذا المرض، وإذا حقن الطفل الذي اختلط
بمريض وَقَتْهُ الحقنةُ لمدة 3 أسابيع تقريبًا، والكمية اللازمة للوقاية هي 500 إلى
1000 وحدة، أما الوحدة وتسمى وحدة (إرليخ [6] Ehrlich) وهو عالم ألماني
يهودي - فهي الكمية التي إذا مُزجت بمائة ضعف للكمية الكافية لقتل خنزير الهند
البالغ وزنه 250 جرامًا في 4 أيام وَقَتْهُ من الموت إذا حقنت تحت جلده.
***
سوء استعمال الحقن الواقي من الدفثيريا وغيرها
سبق قولنا إنه إذا أصيب طفل بهذا المرض بقي الميكروب في حلقه مدة
مختلفة بعد شفائه قد تمتد إلى عدة شهور، فقد روى العلَّامة هيولت الإنكليزي
(Howleltt) حادثة وجود الميكروب في أحد المصابين بعد شفائه بخمسة عشر
شهرًا.
فالواجب إذًا عزل المصاب عن غيره عزلاً تامًّا، وتطهير كل ما لامسه، أو
خرج منه تطهيرًا تامًّا، وعدم السماح له بالاختلاط بغيره إلا بعد فحص حلقه فحصًا
بكتيريولوجيًّا دقيقًا نحو ثلاث مرات متفرقات، والتيقن من عدم وجود الميكروب.
أما الحقن بمصل الدفثيريا للوقاية فله عيب كبير، ذلك أن الوقاية به لا
تتجاوز ثلاثة أسابيع، فإذا أصيب الطفل الذي عُمل له هذا الحقن بمرض الدفثيريا
بعد نهاية الثلاثة الأسابيع مثلاً، وعالجناه من مرضه بالحقن فقد يصاب الطفل فوق
مرضه بمرض آخر يسمى (مرض المصل) (Serum disease) أو (زيادة
التأثر بالحقن) (Supersensitiveness) وهذا المرض كثيرًا ما يكون خطرًا،
ولعله أحد أسباب كثرة المتوفين من الأطفال حتى بعد الحقن بمصل الدفثيريا.
وأعراضه هي: غثيان وقيء، وضعف في النبض مع سرعته، وإحساس
بالضجر والاختناق، وسرعة في التنفس مع ضيقه وهمود (هبوط) وتشنجات،
بل وغيبوبة، وهذه الأعراض تزول عادة بعد ساعة أو ساعتين؛ ولكنها قد تميت
الشخص خصوصًا بالاختناق لانقباض الشعب الرئوية الصغيرة، هذا ولو كان
الشخص المحقون مرتين سليمًا فما بالك إذا كان مصابًا مع هذه الأعراض بالدفثيريا
فإن الوفاة تكاد تكون محققة.
والمراد بهذا المرض المذكور هنا هو غير ما يحدث من الحقن (لنحو 7%)
في نهاية الأسبوع الأول، أو بعده مثل ظهور طفح متنوع الشكل، وألم في
المفاصل مع تورم فيها، وحمى خفيفة؛ فإن هذه الأعراض لا أهمية لها، وتزول
في نحو ثلاثة أيام، ولا خطر منها عادة.
أما المرض الذي نحن بصدده فيحدث إذا حقن شخص مرة للوقاية مثلاً من
الدفثيريا، ثم مضت مدة بعد حقنه نحو 12 يومًا أكثر، ثم عدنا إلى الحقن مرة ثانية،
وقد يحدث هذا المرض حتى إذا كانت الفترة بين الحقنين أربع سنوات، أو أكثر.
وهذا المرض لا ينشأ عن سم في المصل، بل عن نفس المصل، بحيث إذا
حقن مصل أي حيوان سليم مرتين متفرقتين بتلك الفترة، فقد يحدث هذا المرض،
لذلك ولغيره لا يجوز معاجلة النزف بالحقن بالمصل، أو بالدم كما سبق في صفحة
49 من الجزء الأول.
ومن طرائق اتقاء المرض المذكور أن يحقن نوعان مختلفان من المصل،
أعني أن يحقن للوقاية مصل مستخرج من الثور مثلاً، وللعلاج مصل آخر
مستخرج من الحصان كما هو المعتاد، وكذلك استعمال لبنات الكالسيوم قبيل الحقن
أو في أيام استعماله؛ فإن هذا الملح كثيرًا ما يمنع هذه الأعراض الخطرة، أو
يخفف من وطأتها، بل قد يمنع الأعراض الأخرى المذكورة كالطفح، وألم المفاصل،
وغيرهما أيضًا، ومقدار هذا الملح في كل جرعة من 10 إلى 30 قمحة أي
يختلف باختلاف السن، وهو يذوب في الماء، ويسهل امتصاصه في البنية، وإذا
تعسر إعطاؤه من طريق الفم كما في الدفثيريا أذيب في الماء، وحقن في الشرج،
أو أعطي مع اللبن؛ فإن المريض لا يشعر به.
ومن الطرق أيضًا لاتقاء تلك الأعراض التخدير العام بالأثير مثلاً وقت الحقن
الثاني؛ ولكنها طريقة رديئة جدًّا، وغير ميسورة في أكثر إصابات الأطفال
خصوصًا إذا أصابت الدفثيريا حناجرهم.
ويقال: إن الحقن بالمصل الذي أزيل منه بعض المواد الزلالية الأولية
(Proteins) يقلل التعرض للإصابة بتلك الأعراض، واعلم أن المصل الرقيق
الذي لم يتكاثف بالتبخر أسهل امتصاصًا من الغليظ، هذا ولا يتوهم القارئ أني أنفر
الناس من الحقن في الدفثيريا لعلاجها كلا! ثم كلا! بل الواجب المبادرة إلى الحقن
بالمصل المشتمل على وحدات كثيرة بحسب ما يراه الطبيب في الحالة [7] وإنما
كلامي السابق هو لبيان مضار الحقن للوقاية لا للعلاج.
وكذلك يجب حقن مُصُول أخرى كالمصل المضاد لسم البزور السلسلية إذا
وجدت في الحلق بالبحث الميكروسكوبي، أو عرفت بمثل الأعراض الآتية:
وهذه الميكروبات تصاحب ميكروب الدفثيريا في بعض الأحوال، فتكون
الحمى فيها شديدة، ورائحة الحلق كريهة جدًّا، فإن لم يعمل هذا الحقن أيضًا كان
مصل الدفثيريا وحده غير وافٍ بالغرض.
***
الطاعون
Plague
الطاعون - وقانا الله منه - داء اشتُهر كثيرًا حتى بين الأمم الغابرة، وكانوا
يخشونه أشد خشية لشدة فتكه بهم وسرعة انتشاره بينهم، ومن أشهر أوبئته التي
حدثت في أوربة ما حدث في عصر يوستنيانوس الروماني في القرن السادس بعد
الميلاد.
الأسباب:
هذا المرض ينشأ من ميكروب باسيلي اكتشفه (كيتاساتو) (Kitasato)
الياباني سنة 1894، وهو يوجد أثناء حياة المريض في الدم، وفي الغدد الملتهبة،
وفي البراز، والبول، وفي اللعاب إذا التهبت الرئة، وبعد الموت يوجد في جميع
أعضاء الجسم تقريبًا، طول هذا الميكروب من 1 إلى 1. 5 ميكرون، وهو لا
حبيبات له، ولا حركة، وإن زعم بعضهم أن له أهدابًا.
ينتقل هذا الميكروب من شخص إلى آخر بسرعة عظيمة، خصوصًا إذا
ساءت الأحوال الصحية بالازدحام، ونقص التهوية، وزيادة القاذورات في الأماكن
والملابس وغيرها، وهو يصيب الناس في جميع الأعمار إلى الخمسين، وبعد ذلك
يقل كثيرًا، والإصابة به مرة تحمي عادة من الإصابة ثانية، وشدة الحر تعوق
سيره أكثر من البرد.
هذا المرض يصيب كثيرًا من الحيوانات مثل القردة، والقطط، والجرذان
(جمع جُرَذ وهو الفأر الكبير) أما الخيل والأنعام فهي لا تصاب به إلا قليلاً، وكذلك
الطيور.
أهم مدخل لميكروب هذا المرض في الجسم طريقان: وهما طريق الرئة
وطريق الجلد، أما طريق المعدة، أو الأمعاء فهو من الندرة بمكان بحيث لا يستحق
الذكر.
وكيفية وصوله من طريق الرئة أن يستنشقه الإنسان مع الهواء الملوث به من
نفثات المصاب بالطاعون الرئوي، أما طريق الجلد فهو من أعظم الطرق لنشر هذا
المرض، ولإيضاح ذلك نقول: إن الفئران كثيرًا ما تصاب به فتموت، والفئران
يأكل بعضها بعضًا - كما سبق - فينتشر المرض بينها لهذا السبب ولغيره،
وللفئران براغيث تنتقل منها إلى الإنسان؛ فتلقحه بها، وكذلك تلقح الفئران الأخرى،
وقد تلقح شخصًا من شخص؛ ولكنه نادر، واسم هذا النوع من البراغيث
بالإفرنجية (Cheopis Pulex) وهو أشهر أنواع البراغيث التي تعيش بدم
الفئران في البلاد الحارة، ويتكاثر الميكروب في معدة البرغوث وأمعائه، ويخرج
في برازه فقط، فإذا علق بخرطومه، ووخز به إنسان لقحه بالمرض، وقد يتلوث
مكان الوخز من الإنسان ببراز البرغوث الذي فيه كثير من ميكروبات الطاعون،
ويبقى البرغوث قادرًا على التلقيح لمدة تتراوح بين سبعة أيام، و15 يومًا، وقد
ينقل البق أيضًا ميكروب الطاعون، ويُحتمل أيضًا أن يدخل الميكروب من بعض
الجروح والسحجات كما في الأقدام الحافية، فإن لم تُوقِف الغدد اللمفاوية
الميكروبات وصلت إلى الدم، وأحدثت تسممًا عامًّا كما سيأتي.
الأعراض:
مدة التفريخ من يومين إلى خمسة:
ولهذا المرض ثلاثة أشكال شهيرة وهي: الطاعون الدملي، والطاعون
الدموي، والطاعون الرئوي.
أما أعراض الشكل الأول - وهو أكثر حدوثًا - فهي الإحساس بالضعف العام،
والكلل، والصداع، والدوار، والرعدة التي يعقبها ارتفاع في الحرارة، وفي
بعض الأحوال يُصاب المريض في هذا الطور بشيء من الذهول، مع مشية كمشية
النشوان، وارتعاش في حديثه، وقد يصاب بتهيج ورعب لا يُعْرَف سببه، أو
يصاب بالغثيان، والقيء، أو الإسهال.
وتكون الحمى في هذا المرض عالية، ويصاحبها باقي أعراض الحمى
كجفاف اللسان واسوداده، ثم يصير المرء في حالة تشبه المصاب بالتيفوس،
فيهذي كثيرًا، ثم تصيبه الغيبوبة، وتكثر الأوساخ على الشفتين والأسنان،
ويضعف النبض، وتبرد الأطراف، ويقل البول، بل قد لا يُفْرَز مطلقًا في بعض
الأحوال المميتة، وبعد يومين أو ثلاثة تضخم الغدد اللمفاوية في الأُرْبيّة، أو الإبط،
أو العنق.
والغالب أن تصاب الغدد في جهة واحدة وهي الأربية، وحجم الورم الناشئ
من ذلك يكون كحجم بيضة الدجاجة، ويصحبه ألم شديد، وإذا طالت حياة المرء
حصل له خُراج في تلك الغدد في اليوم السابع عادة، وفي هذا الوقت قد تظهر
دمامل في الجلد أو جمرات خصوصًا في الأطراف السفلى، أو الأَلْيَتَيْنِ، أو القفا،
وفي الأحوال الشديدة جدًّا يحصل نزف تحت الجلد قُبيل الموت، أو يكون النزف
كنقط صغيرة كلدغ البراغيث، وكلاهما قد يعم الجسم كله، أو يكون ظاهرًا حول
الغدد الملتهبة، وقد يصاب المرء أيضًا بالرعاف، أو النزف الرئوي، أو المعدي،
أو المعوي.
والموت يحصل عادة قبل اليوم السادس، والشفاء يبتدئ من اليوم السادس
إلى العاشر؛ ولكن إذا تقيحت الغدد قد تطول مدة المرض بسبب المدة التي فيها.
أما أعراض الشكل الدموي فيصاب المرء فجأة بأعراض الحمى البالغة، وقد
يموت في ظرف 24 ساعة لتسمم دمه، وفي هذا الشكل قد تَرِمُ الغدد قليلاً؛ ولكن
لا تصل إلى حجم النوع الأول مطلقًا، ويسمى هذا النوع بالطاعون الصاعق؛ فإن
المريض يُصعق به فجأة؛ فيغيب عن الوجود، وترتفع حرارته؛ فيموت سريعًا.
أما أعراض الشكل الثالث فتبتدئ كالشكل الأول؛ ولكن بعد يوم أو يومين
تظهر الأعراض الرئوية؛ فيسرع التنفس، ويكثر السعال مع النفث الكثير المشوب
بالدم، ويزول النوم، ويكثر الهيجان والهذيان، ويموت المريض في ظرف ثلاثة
أيام، وتكون الرئة في هذا النوع مصابة بالتهابات متعددة في فصيصاتها.
ولا توجد الخيرجلات (وهي التهاب الغدد اللمفاوية) عادة في هذا الشكل،
وفيه يوجد الميكروب في القطع الملتهبة من الرئة، وفي البصاق.
وهناك نوع آخر لا يهمنا كثيرًا لقلته، وفيه تكون الحمى قليلة، والأعراض
خفيفة بحيث يمكن للمريض أن يغدو ويروح مدة من أيام مرضه، ويسمى هذا
الضرب بالطاعون الجولاني.
الإنذار:
عدد الوفيات في هذا المرض كثير جدًّا، فقد تصل إلى 50%، بل إلى
80 %، والموت بين الجنس الأبيض في الظروف الصحية الجيدة أقل منه في
غير ذلك.
المعالجة:
تُعالج الأعراض كل بما يناسبه حسب الأصول الطبية، وللطاعون مصل
كمصل الدفثيريا [8] يحقن منه في اليوم الأول ثلاثة مقادير كل منها خمسون سنتي
مترًا مكعبًا تحت الجلد أو في الأوردة - وهو الأفضل في الأحوال الشديدة -
ويتكرر بعد ذلك حقن مقادير صغيرة بضعة أيام، ومن أحسن أنواع هذا المصل
مصل) يرسين Yersin) ، ولكن فائدته ليست بكبيرة.
الوقاية:
تكون بأشياء كثيرة أهمها ما يأتي:
(1) عزل المصاب.
(2) النظافة التامة في كل شيء
(3) إبادة الفئران، وأحسن طريقة لذلك أن تُصطاد بالأشراك، أو تسمم
بالزرنيخ أو الفسفور، إما اصطيادها بالقطط فعيبه أنها هي نفسها قد تصاب
بالطاعون؛ فتكون من العوامل الناشرة للمرض بدل المقللة له.
(4) تنظيف الملابس ليتقي وجود البراغيت فيها.
(5) إبادة الحشرات الأخرى بقدر الإمكان كالبق؛ فإنه قد ينقل الميكروب
من شخص إلى آخر.
(6) يُحقن الأصحاء مرتين إذا حصل الوباء بلقاح الطاعون، وهو
ميكروبه المقتول بالحرارة؛ فتحصل المناعة بسرعة حتى لا يخشى كثيرًا من
حصول المرض قبلها.
(7) يُطهر كل ما يوجد في غرفة المريض بالغلي، أو الحرق، أو غيرهما
وقتل الميكروب الذي يوجد في إفرازاته بالأدوية المطهرة وبالحرق.
(8) لا يختلط المريض بالأصحاء إلا بعد شهر من شفائه؛ لأن الميكروب قد
وجد في دم المطعون بعد النقاهة بثلاثة أسابيع.
(9) على الممرِّض للمطعون بالنوع الرئوي أن يتكمم بالقطن المنفوش ليحول
دون وصول الميكروب إلى رئته، ثم يحرق القطن.
(10) تسد شقوق وفروج المنازل لكيلا تأوي إليها الجُرذان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) وجوده في البول كثير خصوصًا في الأسبوع الثالث، وفي طور النقاهة، بل بعدها بسنين.
(2) خروج الميكروب مع البراز ليس متتابعًا، بل متقطعًا، فإذا وقف زمنًا ما فقد يعود ثانية؛ ولذلك فمن المتعذر القطع بطهارة الحامل منه، وعدم عدواه لغيره.
(3) لفظ اصطلاحي يراد به الإنباء بمصير المرض، وذلك مبني على ما يُذْكَر في الكتب الطبية - تحت هذ1 العنوان - من الإحصائيات والمشاهدات ونحوها.
(4) خصوصًا في أسنانهم لا سيما إذا كانت مصابة بداء ريج (راجع ص 68 من الجزء الأول) ، وهو الذي يحدث سيلان قيح من السِّنخ (الحفرة التي فيها السن) .
(5) إذا أصابت الحنجرة، أو الحلق، أو اللوزتين، أو الحفر الأنفية التهبت لهم الغدد العنقية العليا الغائرة، وإذا أصابت لثة الأسنان السفلى مثلاً أو مقدم اللسان (وذلك نادر) التهبت الغدد التي تحت الفك.
(6) توفي هذه السنة (1915م) فجأة بينما هو يعمل في معمله.
(7) في أحوال الدفثيريا الشديدة، أو التي تأخر علاجها يجب البدء بحقن 10000 إلى 30000 وحدة (Units) ، ويتكرر الحقن كل 6 أو 12 ساعة بحسب حالة المريض، وسرعة انفصال الأغشية، ولا يراعى في ذلك سن الطفل.
(8) وإنما يختلف عنه بأنه يُستخرج من الحصان بعد حقنه بالميكروب المقتول لا بسم منه مصفى.(18/673)
الكاتب: القاسمي
__________
الخطب الدينية
(3)
خطبة من خطب القاسمي
في النهي عن الحلف بالله والطلاق
الحمد لله الذي خلق الخلق على الإطلاق، فاطر السموات والأرض، وباسط
الأرزاق، فسبحانه هو العلي الرزاق، لا تنفد خزائنه بكثرة الإنفاق، أحمده وأشكره،
وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الخلاق،
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد العالمين بالاتفاق، صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم التلاق، وسلم تسليمًا.
أما بعد أيها الناس، عليكم بالتقوى فإنها ترضي الملك الخلاق، واحذروا من
أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم؛ فإن أيمان الحنث تمحق بركة الأرزاق، واحذروا
من الحلف بالطلاق؛ فإنه يمين الفسَّاق، فمن حلف بغير الله فقد عظمه، ومن عظم
غير الله صار من أهل النفاق، وخالف الكتاب والسنة، ومن خالفهما فليس له في
الآخرة من خلاق، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إن الله ينهاكم
أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال صلى الله عليه
وسلم: (لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) ، وقال صلى الله عليه
وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا حلفت
على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير) واعلموا
أن من حنث في يمينه؛ فعليه أداء الكفارة وهي عتق رقبة، أو إطعام عشرة
مساكين، أو كسوتهم، فإن عجز فصوم ثلاثة أيام، ولا يجب التتابع في الصيام،
ويكفي في الكسوة ثوب أو سراويل أو قميص، يوزع من كل عشرة على المساكين
الذين ورد فيهم التنصيص، ومن طلَّق زوجته ثلاث تطليقات شرعيات غير
بدعيات فلا تحل لهإلا بنكاح جديد، ومن أمسكها بعد الثلاث فقد خالف أمر الله المجيد،
وتعرض للوعيد الشديد، ومن لعب بالطلاق، أو طلق امرأته من غير ما بأس فقد
نقض الميثاق، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته
ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان، ثم قال أتلعبون بكتاب الله، وأنا بين أظهركم،
وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس
فحرام عليها رائحة الجنة) وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وقال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً} (النساء: 34) أي بالفراق، فاتقوا الله عباد الله في النساء وحقوق
الزوجية، وقوموا من مكارم الأخلاق مع الأهل بالسنة النبوية، فقد قال صلى الله
عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) واشكروا نعمة الله في
الأزواج أيها المؤمنون، فقد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) .
***
خطبة أخرى له
في آداب الكسب والمعاش
الحمد لله الذي رفع السماء لعباده سقفًا مبنيًّا، ومهد الأرض بساطًا لهم وفراشًا،
وكور الليل على النهار، فجعل الليل لباسًا، وجعل النهار معاشًا، لينتشروا في
ابتغاء فضله وينتعشوا به عن ضراعة الحاجات انتعاشًا، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي يصدر المؤمنون عن
حوضه رواء بعد وردهم عليه عطاشى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين
لم يدعوا (؟) في نصرة دينه تشمرًا وانكماشًا.
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن رب الأرباب، ومسبب الأسباب،
جعل الآخرة دار الثواب والعقاب، والدنيا دار التمحل والاضطراب، والتشمر
والاكتساب، وليس التشمر في الدنيا مقصورًا على المعاد دون المعاش، بل المعاش
ذريعة إلى المعاد ومعين عليه، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومدرجة إليها، والناس
ثلاثة: رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين، ورجل شغله معاده عن
معاشه فهو من الفائزين، والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده
فهو من المقتصدين، ولن ينال رتبة الاقتصاد، من لم يلازم في طلب المعيشة منهج
السداد، ولم ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة، ما لم يتأدب في
طلبها بآداب الشريعة، وقد ورد في فضل الكسب والحث عليه آيات وأخبار، قال
الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 198) ،
وقال تعالى: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) ،
وقال صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصديقين
والشهداء) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يسعى على نفسه ليكفها عن
المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى على أبوين ضعيفين،
أو ذرية ضعاف ليغنيهم، ويكفيهم فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى تفاخرًا
وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان) ، وقال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن
طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة،
ويجب على التاجر أن ينصح في المعاملة، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يحل
له أن يثني على السلعة بما ليس فيها، ولا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا،
ولا يكتم في وزنها ومقدارها شيئًا، ومن خالف ذلك كان ظالمًا غاشًّا، والغش حرام،
قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وقال تعالى: {وَيْلٌ
لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1-3) ، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (الإسراء: 35) وعلى التاجر
الرفق في التعامل والإحسان فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ سهل
البيع، سهل الشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء) وقال صلى الله عليه وسلم:
(من أَنْظَرَ معسرًا، أو ترك له أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)
وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56) .
***
خطبة له
في فضل الأخوة والصحبة والألفة
الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولاً وامتنانًا، وألف
بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا
أصدقاء وأخدانًا، وفي الآخرة رفقاء وخلانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلى الله عليه،
وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولاً وفعلاً وعدلاً وإحسانًا.
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن التحاب في الله تعالى، والأخوة
في دينه من أفضل القربات، وألطف ما يُستفاد من الطاعات في مجاري العادات،
وقد ورد في فضل الأخوة آيات كريمات، وأخبار عاليات، قال الله تعالى: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن
أَلِفٌ مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف) ، وعنه صلى الله عليه وسلم:
(من أراد الله به خيرًا رزقه خليلاً صالحًا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه) ، وعنه
صلى الله عليه وسلم: (ما زار رجل رجلاً في الله شوقًا إليه، ورغبة في لقائه،
إلا ناداه مَلَك من خلفه طبت وطاب ممشاك، وطابت لك الجنة) ، واعلم أن لأخيك
عليك في أخوته وصحبته حقوقًا يجب الوفاء بها، فمنها حق في المال، بأن تقوم
بحاجته من فضل مالك، أو تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه
رتبة الصديقين، وحق في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات مع البشاشة وإظهار
الفرح، وحق على اللسان في السكوت عن عيوبه، وفي ترك مماراته، وفي
النطق بالمحاب توددًا إليه، وتفقدًا لأحواله، وحق في العفو عن الزلات والهفوات،
وحق في الدعاء له في حياته ومماته كما يدعو لنفسه، وحق في الوفاء والإخلاص،
وذلك بالثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه،
وحق في التخفيف، وترك التكلف والتكليف، فلا يكلف أخاه ما شق عليه، بل
يروح سره من مهماته وحاجاته، وجملة حقوق المسلم أن تسلم عليه إذا لقيته،
وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات،
وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا
غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتحاسدوا،
ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله) فاتركوا
الضغائن من قلوبكم والأحقاد، وتصافحوا على المحبة وسلامة الصدر والإيثار
وصدق الوداد، وليعتذر كل منكم لأخيه عما فرط منه، ليفوز برضاء الله عنه،
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس،
واصطناع المعروف إلى كل بَرّ وفاجر) ، وقال صلوات الله عليه لمعاذ: (أوصيك
بتقوى الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ
الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وخفض الجناح) .
__________(18/692)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
المعرفة بالله تعالى
بيَّن ابن القيم في باب المعرفة من الجزء الثالث من (مدارج السالكين)
الفرق بين المعرفة والعلم لغة وشرعًا من خمسة وجوه، ثم بيَّن معناها في اصطلاح
الصوفية، وكلام أئمتهم فيها، ثم شرح ما قاله شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي
فيها، ونحن ننقل ما هو خاص بالتصوف،أي ما بعد الفروق الخمسة وهذا نصه:
والفرق بين العلم والمعرفة عند أهل هذا الشأن، أن المعرفة عندهم هو العلم
الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده، بل
لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالمًا بالله، وبالطريق الموصل إليه، وبآفاتها،
وقواطعها، وله حال مع الله، فتشهد له بالمعرفة، فالعارف عندهم من عرف الله
سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في
قصوده ونياته، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه
ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه
وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله، ولم يشبها بآراء الرجال
وأذواقهم، ومواجيدهم، ومقاييسهم، ومعقولاتهم، ولم يزن بها ما جاء به الرسول
عليه من الله أفضل صلواته، فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة، إذا سمي
به غيره على الدعوى والاستعارة [1] .
وقد تكلموا على المعرفة بآثارها وشواهدها فقال بعضهم: من أمارات المعرفة
بالله حصول الهيبة منه، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. وقال أيضًا:
المعرفة توجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته، وقال لي بعض
أصحابنا: ما علامة المعرفة التي يشيرون إليها؟ فقلت له: أنس القلب بالله، قال
لي: علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله فيجده قريبًا منه، وقال الشبلي: ليس
لعارف علاقة [2] ، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا
لأحد من الله فرار، وهذا كلام جيد، فإن المعرفة الصحيحة تقطع من القلب العلائق
كلها، وتعلقه بمعروفه، فلا يبقى فيه علاقة بغيره، ولا تمر به العلائق إلا وهي
مجتازة، لا تمر مرور استيطان، وقال أحمد بن عاصم: من كان بالله أَعْرَفَ،
كان له أخوف، ويدل على هذا قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له
خشية "، وقال آخر: من عرف الله تعالى ضاقت عليه الدنيا بسعتها، وقال غيره:
من عرف الله تعالى اتسع عليه كل ضيق، ولا تنافي بين هذين الأمرين؛ فإنه
يضيق عليه كل مكان لا يساعد فيه على شأنه ومطلوبه، ويتسع عليه ما ضاق على
غيره؛ لأنه ليس فيه، ولا هو مساكن له بقلبه، فقلبه غير محبوس فيه، والأول
في بداية المعرفة، والثاني في نهايتها التي يصل إليها العبد، وقال آخر: من
عرف الله تعالى صفا له العيش، فطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه
خوف المخلوقين، وأنس بالله، وقال غيره: من عرف الله قرت عينه بالله، وقرت
به كل عين، ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات، ومن عرف الله لم
يبق له رغبة في سواه، ومن ادعى معرفة الله وهو راغب في غيره كَذَّبَتْ رغبتُهُ
معرفتَهُ، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به، وخافه، ورجاه، وتوكل عليه
وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجلَّه، وعظَّمه على
قدر معرفته، وعلامة العارف أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها رأي فيها الغيب الذي
دُعي إلى الإيمان به، فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها الله سبحانه، والدار
الآخرة، والجنة، والنار، والملائكة، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
كما قيل:
إذا سكن الغدير على صفاء ... وجُنب أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي ... يُرَى في صفوها الله العظيم
وهذه رؤية المثل [3] الأعلى كما تقدم، ومن علامات المعرفة أن يبدو لك
الشاهد، وتفنى الشواهد، وتنحل العلائق، وتنقطع العوائق، وتجلس بين يدي
الرب تعالى، وتقوم وتضطجع على التأهب للقائه، كما يجلس الذي شد أحماله
وأزمع السفر على التأهب له، ويقوم على ذلك، ويضطجع عليه، كما ينزل
المسافر في المنزل فهو قائم وجالس ومضطجع على التأهب، وقيل للجنيد: إن
أقوامًا يدعون المعرفة يقولون إنهم يصلون بترك الحركات من باب البر والتقوى،
فقال الجنيد: هذا قول أقوام تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي
يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن
الله، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن
يحال بيني وبينها.
ومن علامات العارف أنه لا يطالب، ولا يخاصم، ولا يعاقب، ولا يرى له
على أحد فضلاً، ولا يرى له على أحد حقًّا، ومن علاماته أن لا يأسف على فائت
ولا يفرح بآت؛ لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال؛ لأنها في الحقيقة
كالظلال والخيال، وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفًا، حتى يكون كالأرض
يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يُظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا
يحب، وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولم يَقْضِ وطره من شيئين:
بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه، وهذا من أحسن الكلام؛ فإنه يدل على معرفته
بنفسه، وعيوبه، وآفاته، وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله، فهو شديد الإزراء
على نفسه، لهج بالثناء على ربه، وقال أبو زيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم
والوقوف مع ما له، يريد تضييع حظوظهم والوقوف مع حقوق الله سبحانه تعالى؛
فتغنيهم حقوقه عن حظوظهم.
وقال آخر: لا يكون العارف عارفًا حتى لو أعطي مُلك سليمان لم يشغله عن
الله طرفة عين، وهذا يحتاج إلى شرح، فإن ما هو دون ذلك يشغل القلب لكن
يكون اشتغاله بغير الله لله، فذلك اشتغال به سبحانه؛ لأنه إذا اشتغل بغيره لأجله لم
يشتغل عنه، قال ابن عطاء: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة والحياء والأنس،
وقيل لذي النون: بم عرفت الله ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما
عرفت ربي، وقيل لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال بأنه فوق سمواته
على عرشه بائن من خلقه، فأتى عبد الله بأصل المعرفة التي لا يصح لأحد معرفة
ولا إقرار بالله سبحانه إلا به، وهو المباينة، والعلو على العرش.
ومن علامات العارف أن يعتزل الخلق بينه وبين الله حتى كأنهم أموات لا
يملكون له ضرًّا، ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا، ويعتزل نفسه بينه
وبين الخلق حتى يكون بينهم بلا نفس، وهذا معنى قول من قال: العارف يقطع
الطريق بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، وقيل: العارف ابن
وقته، وهذا من أحسن الكلام وأخصره، فهو مشغول بوظيفة وقته عما مضى
وصار في العدم، وعما لم يدخل بعد في الوجود، فَهَمُّهُ عمارة وقته الذي هو مادة
حياته الباقية، ومن علاماته أنه مستأنس بربه، مستوحش ممن يقطعه عنه، ولهذا
قيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول، يعني أن العالم علمه أوسع من
حاله وصفته، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره، وقال أبو سليمان الداراني:
إن الله تعالى يفتح للعارف على فراشه ما لم يفتح له وهو قائم يصلي، وقال غيره:
العارف تنطق المعرفة على قلبه وحاله وهو ساكت، وقال ذو النون: لكل شيء
عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله.
وقال بعضهم: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين، وهذا كلام ظاهره
منكر جدًّا يحتاج إلى شرح، فالعارف لا يُرائي المخلوق طلبًا للمنزلة في قلبه،
وإنما يكون رياؤه نصيحة وإرشادًا وتعليمًا ليقتدي به، فهو يدعو إلى الله بعلمه كما
يدعو إليه بقوله، فهو ينتفع بعمله وينفع به غيره، وإخلاص المريد مقصور على
نفسه، فالعارف جمع بين الإخلاص والدعوة إلى الله، فإخلاصه في قلبه، وهو
يظهر عمله وحاله ليُقتدى به، والعارف ينفع بسكوته، والعالم إنما ينفع بكلامه،
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائق.
وقال ذو النون: الزهاد ملوك الآخرة، وهم فقراء العارفين، وسئل الجنيد
عن العارف فقال: لون الماء لون إنائه، وهذه كلمة رمز بها إلى حقيقة العبودية،
وهو أن يتلون بتلون أقسام العبودية، فبينا تراه مصليًا إذ رأيته ذاكرًا، أو قارئًا،
أو معلمًا، أو متعلمًا، أو مجاهدًا، أو حاجًّا، أو مساعدًا للضعيف، أو مغيثًا
للملهوف، فيضرب في كل غنيمة من الغنائم بسهم، فهو مع المتسببين متسبب، ومع
المتعلمين متعلم، ومع الغزاة غازٍ، ومع المصلين مصلٍّ، ومع المتصدقين متصدق،
فهو ينتقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية، وهو مقيم على معبود واحد لا
ينتقل عنه إلى غيره.
وقال يحيى بن معاذ: العارف كائن بائن، وهذا يُفسر على وجوه (منها) أنه
كائن مع الخلق بظاهره، بائن عنهم بسره وقلبه، و (منها) أنه كائن بربه، بائن
عن نفسه و (منها) أنه كائن مع أبناء الآخرة، بائن عن أبناء الدنيا، و (منها)
أنه كائن مع الله بموافقته بائن عن الناس في مخالفته، و (منها) أنه داخل في
الأشياء خارج منها، فإن من الناس من هو داخل فيها لا يقدر على الخروج منها،
ومنهم من هو خارج عنها لا يقدر على الدخول فيها، والعارف داخل فيها خارج
منها، ولعل هذا أحسن الوجوه.
وقال ذو النون: (علامة العارف ثلاثة: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه،
ولا يعتقد باطنًا من العلم ينقضه عليه ظاهر من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله
على هتك أستار محارم الله) ، وهذا من أحسن الكلام الذي قيل في المعرفة، وهو
محتاج إلى شرح، فإن كثيرًا من الناس يرى أن التورع عن الأشياء من قلة المعرفة؛
فإن المعرفة متسعة الأكناف، واسعة الأرجاء، فالعارف واسع موسع، والسعة
تطفئ نور الورع، فالعارف لا تنقص معرفته ورعه، ولا يخالف ورعه معرفته،
كما قال بعضهم [4] العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسر الله في القدر، فعنده أن
مشاهدة القدر والحقيقة الكونية هو غاية المعرفة، وإذا شاهد الحقيقة عذر الخليقة؛
لأنهم مأسورون في قبضة القدر، فمن يعذر أصحاب الكبائر والجرائم، بل أرباب
الكفر فهو أبعد خلق الله عن الورع، بل ظلام معرفته قد أطفأ نور إيمانه
قوله [5] : باطن العلم الذي ينقضه ظاهر الحكم، فإنه يشير به إلى ما عليه
المنحرفون ممن ينسب إلى السلوك؛ فإنهم يقع لهم أذواق ومواجيد وواردات تخالف
الحكم الشرعي، وتكون تلك معلومة لهم لا يمكنهم جحدها فيعتقدونها ويتركون
ظاهر الحكم، وهذا كثير جدا، وهو الذي نفاه أئمة الطريق على هؤلاء وصواحبهم
من كل ناحية، وبدعوهم وضللوهم به، قوله (ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك
محارم الله) كثرة النعم تطغي العبد، وتحمله على أن يصرفها في وجوهها وغير
وجوهها، وهي تدعو إلى أن يتناول العبد بها ما حل وما لا يحل، وأكثر المُنْعَم
عليهم لا يقتصرون في صرف النعمة على القدر الحلال بل يتعداه [6] إلى غيره
وتسول له نفسه أن معرفته بالله ترد عليه ما انتهبته منه أيدي الشهوات والمخالفات،
ويقول: العارف لا تضره الذنوب كما تضر الجاهل، وربما يسول له أن ذنوبه
خير من طاعات الجهال، وهذا من أعظم المكر، والأمر بضد ذلك، فيُحتمل من
الجاهل ما لا يحتمل من العارف، وإذا عوقب الجاهل ضِعْفًا، عوقب العارف
ضِعْفين، وقد دل على هذا شرع الله وقدره، ولهذا كانت عقوبة الحُر في الحدود
مثلي عقوبة العبد، وقال تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ
النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (الأحزاب:
30) فإذا كملت النعمة على العبد فقابلها بالإساءة والعصيان كانت عقوبته أعظم
فدرجته أعلى، وعقوبته أشد.
وقال أيضًا [7] ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند
أبناء الدنيا؟ يريد أنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أهلها سواء كانوا عبادًا
أو من أبناء الدنيا.
وقال أبو سعيد: المعرفة تأتي من عين الوجود [8] ، وبذل المجهود، وهذا
كلام حسن يشير إلى أن المعرفة ثمرة بذل المجهود في الأعمال، وتحقق الوجود في
الأحوال، فهي ثمرة عمل الجوارح، وحال القلب لا ينال بمجرد العلم والبحث،
فمن ليس له عمل ولا حال فلا معرفة له، وسئل ذو النون عن العارف فقال: كان
ها هنا فذهب، فسئل الجنيد عما أراد بكلامه هذا فقال: لا يحصره حال عن حال،
ولا يحجبه منزل عن التنقل في المنازل، فهو مع كل أهل منزل بمثل الذي هم فيه،
يجد مثل الذي يجدون، وينطق بمعالمها لينتفعوا، وقال محمد بن الفضل:
المعرفة حياة القلب مع الله، وسئل أبو سعيد: هل يصل العارف إلى حال يجفو
عليه البكاء؟ فقال: نعم! إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله؛ فإذا نزلوا بحقائق
القرب، وذاقوا طعم الوصول من بره زال عنهم ذلك، وقال بعض السلف: نوم
العارف يقظة، وأنفاسه تسبيح، ونوم العارف أفضل من صلاة الغافل: إنما كان
نوم العارف يقظة لأن قلبه حي فعيناه تنامان وروحه ساجدة تحت العرش بين يدي
ربها وفاطرها، جسده في الفرش، وقلبه حول العرش، وإنما كان نومه أفضل من
صلاة الغافل؛ لأن بدن الغافل واقف في الصلاة وقلبه يسبح في حشوش الدنيا
والأماني؛ ولذلك كانت يقظته نومًا لأن قلبه موات، وقيل: مجالسة العارف تدعوك
من ست إلى ست: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة
إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع،
ومن سوء الطوية إلى النصيحة.
***
فصل
قال صاحب المنازل (المعرفة على ثلاث درجات، والخلق فيها على ثلاث
فرق: الدرجة الأولى معرفة الصفات والنعوت، وقد وردت أساميها بالرسالة،
وظهرت شواهدها في الصنعة، بتبصر [9] النور القائم في السر، وطيب حياة
العقل لزرع الفكر، وحياة القلب بحسن النظر بين التعظيم وحسن الاعتبار، وهي
معرفة العامة التي لا تنعقد شرائط اليقين إلا بها، وهي على ثلاثة أركان: إثبات
الصفات باسمها من غير تشبيه، ونفي التشبيه عنها من غير تعطيل، والإياس من
إدراك كنهها، وابتغاء تأويلها) .
قلت: الفرق بين الصفة والنعت من وجوه ثلاثة (أحدها) أن النعت يكون
بالأفعال التي تتجدد كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} (الأعراف: 54) ، -وقوله:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا
وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (الزخرف: 10-12) ونظائر ذلك،
والصفة هي الأمور الثابتة اللازمة للذات كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ
القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ} (الحشر: 22-23) ،
ونظائر ذلك.
(الفرق الثاني) أن الصفات الذاتية لا يطلق عليها اسم النعوت كالوجه
واليدين والقدم والأصابع، وتسمى صفات، وقد أطلق عليها السلف هذا الاسم،
وكذلك متكلمو أهل الإثبات سَمَّوْها صفات، وأنكر بعضهم هذه التسمية كأبي الوفاء
بن عقيل وغيره، وقال: لا ينبغي أن يقال نصوص الصفات بل: آيات الإضافات؛
لأن الحي لا يوصف بيده، ولا بوجهه؛ فإن ذلك هو الموصوف، فيكف تسمى
صفة؟ وأيضًا فالصفة معنى يعم الموصوف، فلا يكون الوجه واليد صفة،
والتحقيق أن هذا نزاع لفظي في تسميته، فالمقصود إطلاق هذه الإضافات عليه
سبحانه، ونسبتها إليه، والإخبار عنه بها منزهة عن التمثيل والتعطيل، سواء
سُميت صفات أو لم تسمْ.
(الفرق الثالث) أن النعوت ما يظهر من الصفات، ويشتهر، ويعرفه
الخاص والعام، والصفات أعم، فالفرق بين النعت والصفة فرق ما بين الخاص
والعام، ومنه قولهم في تحلية الشيء: نعته كذا وكذا - لما يظهر من صفاته، وقيل:
هما لغتان لا فرق بينهما، ولهذا يقول نحاة البصرة (باب الصفة) ، ويقول نحاة
الكوفة (باب النعت) ، والمراد واحد، والأمر قريب ونحن في غير هذا.
فلنرجع إلى المقصود، وهو أنه لا يستقر للعبد قدم في المعرفة، بل ولا في
الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل
بربه، فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان وشجرة ثمرة
الإحسان، فمن جحد الصفات؛ فقد هدم أساس الإسلام، والإيمان وثمرة شجرة
الإحسان، فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان، وقد جعل اللهُ سبحانه منكر صفاته
مسيء الظن به، وتوعده بما لم يتوعد به غيره من أهل الشرك والكفر والكبائر
فقال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ
وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ
أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ} (فصلت: 22-23) فأخبر سبحانه أن إنكارهم
هذه الصفة من صفاته من سوء ظنهم به، وأنه هو الذي أهلكهم، وقد قال في
الظانين به ظن السوء: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (الفتح: 6) ولم يَجِئْ مثل هذا الوعيد في غير من ظن
السوء به سبحانه، وجحد صفاته، وإنكار حقائق أسمائه من أعظم ظن السوء به.
ولما كان أحب الأشياء إليه حمده ومدحه والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله
كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر به، وهو شر من الشرك، فالمعطل شر
من المشرك؛ فإنه لا يستوي جحد صفات الملك، وحقيقة ملكه، والطعن في
أوصافه هو، والتشريك بينه وبين غيره في الملك، فالمعطلون أعداء الرسل بالذات،
بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل؛ فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن
السوء به لما أشرك به، كما قال إمام الحنفاء وأهل التوحيد لقومه: {أَئِفْكاً آلِهَةً
دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الصافات: 86-87) أي فما
ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟ وما [10] الذي ظننتم به حتى جعلتم معه
شركاء؟ أظننتم أنه يخفى عليه أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها
كالملوك؟ أم لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاسٍ
فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من
القلة، ويتعزز به من الذلة؟ أم يحتاج إلى الولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه؟
تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرًا، والمقصود أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه،
فلا تجد معطلاً إلا وشركه على حسب تعطيله، فمستقل ومستكثر.
***
فصل
والرسل من أولهم إلى خاتمهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أرسلوا
بالدعوة إلى الله، وبيان الطريق الموصل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم
إليه، فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول فعرفوا الرب
المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفًا مفصلاً، حتى كأن العباد يشاهدونه
سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه يكلم ملائكته، ويدبر أمر مملكته،
ويسمع أصوات خلقه، ويرى أفعالهم وحركاتهم، ويشاهد بواطنهم كما يشاهد
ظواهرهم، يأمر ويَنْهَى، ويرضى ويغضب، ويحب ويسخط، ويضحك من
قنوطهم وقرب غيره، ويجيب دعوة مضطرهم، ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم،
ويجبر كسيرهم، ويغني فقيرهم، ويميت ويحي، ويمنع ويعطي، يؤتي الحكمة
من يشاء [11] ، وينزع المُلك ممن يشاء ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير
وهو على كل شيء قدير، كل يوم هو في شأن، يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويفك
عانيًا، وينصر مظلومًا، ويقصم ظالمًا، ويرحم مسكينًا، ويغيث ملهوفًا، ويسوق
الأقدار إلى مواقيتها، ويجريها على نظامها، ويقدم ما يشاء تقديمه، ويؤخر ما
يشاء تأخيره، فأزمَّة الأمور كلها بيده، ومدار تدبير الملك كلها عليه، وهذا مقصود
الدعوة، وزبدة الرسالة.
(القاعدة الثانية) تعريفهم بالطريق الموصل إليه، وهو صراطه المستقيم
الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده
ووعيده.
(القاعدة الثالثة) تعريف الحال بعد الوصول، وهو ما تضمنه اليوم الآخر
من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب والحوض والميزان والصراط.
فقعدت المعطلة والجهمية على رأس القاعدة الأولى فحالوا بين القلوب وبين
معرفة ربها، وسموا إثبات صفاته وعلوه فوق خلقه واستوائه على عرشه - تشبيهًا
وتجسيمًا وحشوًا، فنفروا عنه صبيان العقول، وسموا نزوله إلى سماء الدنيا،
وتكلمه بمشيئته، ورضاه بعد غضبه، وغضبه بعد رضاه، وسمعه الحاضر
لأصوات العباد، ورؤيته المقارنة لأفعالهم ونحو ذلك - حوادث، وسموا وجهه
الأعلى ويديه المبسوطتين وأصابعه التي يضع عليها الخلائق يوم القيامة - جوارح
وأعضاء، مكرًا منهم كُبارا بالناس، كمن يريد التنفير عن العسل فيمكر في العبارة
ويقول: مائع أصفر يشبه العذرة المائعة، أو ينفر عن شيء مستحسن، فيسميه
بأقبح الأسماء فعل الماكر المخادع، فليس مع مخالف الرسل سوى المكر في القول
والعمل.
فلما تم للمعطلة مكرهم وسلك في القلوب المظلمة الجاهلة بحقائق الإيمان وما
جاء به الرسول - ترتب عليه الإعراض عن الله، وعن ذكره ومحبته والثناء عليه
بأوصاف كماله ونعوت جلاله، فانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه.
وجاء أهل الآراء الفاسدة، والسياسات الباطلة، والأذواق المنحرفة، والعوائد
المستمرة، فقعدوا على رأس هذا الصراط، وحالوا بين القلوب وبين الوصول إلى
نبيها وما كان عليه وأصحابه، وعابوا من خالفهم في قعودهم عن ذلك ورغب عما
اختاروه لأنفسهم، ورموه بما هم أولى به منه كما قيل: رمتني بدائها وانسلَّتْ.
وجاء أصحاب الشهوات المعتنون بها الذين يعدون حصولها كيف كان الظفر
في هذه الحياة والبغية فقعدوا على رأس طريق المعاد والاستعداد للجنة ولقاء الله،
وقالوا: اليوم خمر، وغدًا أمر، اليوم لك ولا تدري غدًا لك أو عليك، وقالوا: لا
نبيع ذرة منقودة، بدرة موعودة.
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وقالوا للناس: خلوا لنا الدنيا، ونحن قد خلينا لكم الآخرة، فإن طلبتم منا ما
بأيدينا أحلناكم على الآخرة.
أناس [13] يُقضون عيش النعيم ... ونحن نحال على الآخرة
فإن لم تكن مثلما يزعمون ... فتلك إذا كرة خاسرة
فالإيمان بالصفات، ومعرفتها، وإثبات حقائقها، وتعلق القلب بها، وشهوده
لها هو مبدأ الطريق ووسطه، وغايته، وهو روح السالكين، وحاديهم إلى الوصول،
ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على
الشواهد، فمن كان لا شاهد له فلا سير ولا طلب ولا سلوك له، وأعظم الشواهد
صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا
إليه، كما قالت عائشة رضي الله عنها (من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقد رآه غاديًا رائحًا لم يضع لبنة على لبنة، ولكن رفع له علم فشمر إليه) ولا
يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله عز وجل له بفضله ومنه علَمًا
يشاهده بقلبه فيشير إليه ويعمل عليه، فإن عطلت شواهد الصفات ووضعت أعلامها
عن القلوب، وطمست آثارها وضربت بسياط البعد، وأسبل دونها حجاب الطرد،
وتخلفت مع المتخلفين، وأَوْحَى إليها القدر أن اقعدي مع القاعدين، فإن أوصاف
المدعو إليه ونعوت كماله وحقائق أسمائه هي الجاذبة للقلوب إلى محبته وطلب
الوصول إليه؛ لأن القلوب إنما تحب من تعرفه وتخافه وترجوه، وتشتاق إليه،
وتلتذ بقربه، وتطمئن إلى ذكره، بحسب معرفتها بصفاته، فإذا ضرب دونها
حجاب معرفة الصفات، والإقرار بها، امتنع منها بعد ذلك ما هو مشروط بالمعرفة
وملزوم لها، إذ وجود الملزوم بدون لازمه، والمشروط بدون شرطه ممتنع.
فحقيقة المحبة والإنابة والتوكل ومقام الإحسان ممتنع على المعطل امتناع
حصول المغلّ من معطل البذر، بل أعظم امتناعًا، كيف تصمد القلوب إلى من
ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، ولا مباينًا له
ولا محايثًا، بل حظ العرش منه كحظ الآبار والوهاد والأماكن التي يرغب عن
ذكرها؟ وكيف تأله القلوب من لا يسمع كلامها، ولا يرى مكانها، ولا يحِب ولا
يحَب، ولا يقوم به فعل البتة، ولا يتكلم ولا يكلم، ولا يقرب من شيء ولا يُقْرَب
منه شيء، ولا يقوم به رأفة ولا رحمة ولا حنان، ولا له حكمة ولا غاية يفعل
ويأمر لأجلها؟ فكيف يتصور التوكل على ذلك، ومحبته والإنابة إليه، والشوق إلى
لقائه، ورؤية وجهه الكريم في جنان النعيم، وهو مستوٍ على عرشه فوق جميع
خلقه؟ أم كيف تأله القلوب من لا يحب ولا يحب، ولا يرضى ولا يغضب ولا
يفرح ولا يضحك؟ فسبحان من حال بين المعطلة وبين محبته ومعرفته والسرور
والفرح به، والشوق إلى لقائه، وانتظار لذة النظر إلى وجهه الكريم، والتمتع
بخطابه في محل كرامته ودار ثوبه! فلو رآها أهلاً لذلك لمَنَّ عليها به، وأكرمها به،
إذ ذاك أعظم كرامة يُكْرِم بها عبده، والله أعلم حيث يجعل كرامته، ويضع نعمته
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: 53) ، {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ
مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) ، - {أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32) وليس جحودهم صفاته سبحانه، وحقائق أسمائه في الحقيقة تنزيهًا،
وإنما هو حجاب ضرب عليهم فظنوه تنزيهًا، كما ضرب حجاب الشرك، والبدع
المضلة، والشهوات المردية على قلوب أصحابها، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوها
حسنة.
عدنا إلى شرح كلامه، قوله: (وقد وردت أساميها بالرسالة) إلى آخره،
ذكر أن إثبات الصفات دل عليها الوحي الذي جاء من عند الله على لسان رسوله،
والحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة؛ فاستدل بها على صفات صانعها،
والعقل الذي طابت حياته بزرع الفكر، والقلب الذي حيي بحسن النظر بين التعظيم
والاعتبار، فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتًا مفصلاً على وجه أزال
الشبهة، وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقيني، ورفع الشك والريب، فثلجت له
الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه، ففصلت الرسالة
الصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل
تقرير في أبلغ لفظ وأبعده من الإجمال والاحتمال وأمنعه من قبول التأويل، وكذلك
كان تأويل آيات الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات
المعاد وأخباره، بل أبعد منه لوجوه كثيرة ذكرتها في كتاب (الصواعق المرسلة،
على الجهمية والمعطلة) بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائقها كتأويل
آيات الأمر والنهي، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصوده واحد،
وهو إثبات حقائقه، والإيمان بها.
ولذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم وقالوا: فعلنا فيها كفعل المتكلمين في
آيات الصفات، بل نحن أعذر؛ فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو
وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير، فإذا ساغ لكم تأويلها، فكيف
يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد؟ وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات
الأمر والنهي وقالوا: فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها وتنوعها.
وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية - قالوا - وما يظن أنه معارض من
العقليات لنصوص الصفات فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد من جنسه أو
أقوى منه، وقالوا [14] متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها وظواهرها [15] التي
سوغ لنا [16] هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا، وجعلتموها أصلاً نرجع
إليها فلما طردناها كان طردنا أن الله ما تكلم بشيء قط ولا يتكلم، ولا يأمر ولا
ينهى، ولا له صفة تقوم به، ولا يفعل شيئًا، وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات
الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب.
وقد ذكرنا في كتاب (الصواعق) أن تأويل آيات الصفات وأخبارها بما
يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين، وزوال الممالك، وتسليط أعداء
الإسلام عليه إنما كانت بسبب التأويل، ويعرف هذا من له اطلاع وخبرة بما جرى
في العالم، ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم لصحته؛ لأنه سبب
لفساد العالم، وتعطيل الشرائع، ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن
والسنة علم قطعًا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها؛ فإنها وردت على وجه لا
يحتمل معه [17] التأويل بوجه، فانظر إلى قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ
المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: 158) هل يحتمل
هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته؟ وهل
يبقى مع هذا السياق شبهة أصلاً أنه إتيانه بنفسه؟ وكذلك قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163) - إلى أن قال: {وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: 164) ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص،
وجعلهما نوعين، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون،
وكذلك قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً} (الشورى: 51) فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة، وتكليم بغير واسطة،
وكذلك قوله لموسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} (الأعراف: 144) ففرق بين الرسالة والكلام، والرسالة إنما هي بكلامه،
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنكم ترون ربكم عيانًا، كما ترون القمر ليلة
البدر في الصحو ليس دونه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوًا ليس
دونها سحاب) [18] ومعلوم أن هذا البيان والكشف والاحتراز تنافي إرادة التأويل
قطعًا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين.
قوله: (وظهرت شواهدها في الصنعة) هذا هو الطريق الثاني من طرق
إثبات الصفات، وهو دلالة الصنعة عليها؛ فإن المخلوق يدل على وجود خالقه
وعلى حياته، وعلى قدرته، وعلى علمه ومشيئته؛ فإن الفعل الاختياري يستلزم
ذلك استلزامًا ضروريًّا، وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه ما
يدل [19] على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع ووصول المنافع
العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار
الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال، وخالق الأسماع
والأبصار والنطق أحق بأن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا، وخالق الحياة والعلوم
والقدر والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات شيء [20]
من أنواع التخصيصات من أدل شيء [21] على إرادة الرب سبحانه ومشيئته وحكمته
التي اقتضت التخصيص، وحصول الإجابة عقيب سؤال المطلوب على الوجه
المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبيده وعلى
قدرته على قضاء حوائجهم، على رأفته ورحمته بهم، والإحسان إلى المطيعين
والتقرب إليهم، والإكرام، وإعلاء درجاتهم، يدل على محبته، ورضاه، وعقوبته
للعصاة والظلمة، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب
والسخط، والإبعاد والطرد والإقصاء يدل على المقت والبغض، فهذه الدلالات من
جنس واحد عند التأمل، ولهذا دعا سبحانه في كتابه عباده إلى الاستدلال بذلك على
صفاته، فهو يثبت العلم بربوبيته ووحدانيته، وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة.
والقرآن مملوء بذلك، فيظهر شاهد اسم الخالق من نفس المخلوق، وشاهد
اسم الرازق من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة
المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة
واحدة، واسم الحليم من حِلْمه عن الجناة والعصاة وعدم معاجلتهم، واسم الغفور
والتواب من مغفرة الذنوب وقبول التوبة، ويظهر شاهد اسمه الحكيم من العلم بما
في خلقه وأمره من الحكم والمصالح ووجوه المنافع، وهكذا كل اسم من أسمائه
الحسنى له شاهد في خلقه وأمره يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، فالخلق
والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته، وكل سليم العقل والفطرة يعرف قدر
الصانع وحذقه وتبريزه على غيره، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة
صنعته، فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي، وهذه المخلوقات
من بعض صنعه.
وإذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت
والصفات وحقائق الأسماء الحسنَى، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمًى
بمكابرة، ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ
تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 21) فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب جل جلاله
ونعوته وأسمائه، فهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها، وتنادي عليها،
وتدل عليها، وتخبر بها بلسان النطق والحال كما قيل:
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل
فلست ترى شيئًا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها
ونعوت كماله وحقائق أسمائه، وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها، فهي تدل عقلاً
وحِسٍّا، وفطرة، ونظرًا، واعتبارًا [22] .
قوله (بتبصير النور القائم في السر) يعني أن النور الإلهي الذي جعله الله
لعبده، ويلقيه إليه، ويودعه في سره هو الذي يبصره بشواهد صفاته، فكلما قوي
هذا النور في قلب العبد كان بصره بالصفات أتم وأكمل، وكلما قل نصيبه من هذا
النور، وطُفئ مصباحه في قلبه، طُفئ نور التصديق بالصفات، وإثباتها في قلبه.
فإنه إنما يشاهدها بذلك النور، فإذا فقده لم يشاهدها وجاءت الشبه الباطلة مع تلك
الظلمة فلم يكن له نصيب منها سوى الإنكار.
قوله (وطيب حياة العقل لزرع الفكر) أي يدرك الصفات بذلك النور القائم في
سره وطيب حياة عقله التي طيبها زرع الفكر الصحيح المتعلق بما دعا الله سبحانه
عباده إلى الفكر فيه بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (آل
عمران: 191) ، - وقوله {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} (الروم: 8) ، - وقوله - {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (البقرة: 219-220) [23]
فيتفكرون في الآيات التي بَيَّنَها لهم فيستدلون بها على توحيده، وصفات كماله،
وصدق رسله، والعلم بلقائه، ويتفكرون في الدنيا وانقضائها واضمحلالها وآفاتها،
والآخرة ودوامها وبقائها وشرفها، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) فالفكر الصحيح المُؤَيَّد بحياة القلب، ونور البصيرة يدل على إثبات
صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأما فكر مصحوب بموت القلب، وعمى
البصيرة؛ فإنما يعطي صاحبه نفيها وتعطيلها.
قوله (وحياة القلب بحسن النظر بين التعظيم وحسن الاعتبار) يعني أنه
ينضاف إلى نور البصيرة، وطيب حياة العقل حياة القلب بحسن النظر الدائر بين
تعظيم الخالق جل جلاله، وحسن الاعتبار بمصنوعاته الدالة عليه، فلا بد من
الأمرين؛ فإنه إن غفل بالتعظيم عن حسن الاعتبار، لم يحصل له الاستدلال على
الصفات، وإن حصل له الاعتبار من غير تعظيم الخالق سبحانه لم يستفد به إثبات
الصفات، فإذا اجتمع له تعظيم الخالق وحسن النظر في صنعه أثمر له إثبات
صفات كماله ولا بد، والاعتبار هو أن يعبر نظره من الأثر إلى المؤثر، ومن
الصنعة إلى الصانع، ومن الدليل إلى المدلول، فينتقل إليه بسرعة لطف إدراك،
فينتقل ذهنه من الملزم إلى لازمه، قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) والاعتبار افتعال من العبور، وهو عبور القلب من الملزوم إلى
لازمه، ومن النظير إلى نظيره، وهذا الاعتبار يضعف ويقوى حتى يستدل
صاحبه بصفات الله تعالى وكماله على ما يفعله لحسن اعتباره، وصحة نظره،
وهو اعتبار الخواص واستدلالهم؛ فإنهم يستدلون بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وأنه
يفعل كذا ولا يفعل كذا، فيفعل ما هو موجب حكمته وعلمه وغناه وحمده، ولا يفعل
ما يناقض ذلك، وقد ذكر سبحانه هذين الطريقين في كتابه فقال تعالى في الطريق
الأول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
53) ، - ثم قال في الطريق الثانية [24] {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ} (فصلت: 53) فمخلوقاته دالة على ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأسماؤه
وصفاته دالة على ما يفعله ويأمر به، وما لا يفعله ولا يأمر به.
مثال ذلك أن اسمه الحميد - سبحانه - يدل على أنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر،
واسمه الحكيم يدل على أنه لا يخلق شيئًا عبثًا، واسمه الغني يدل على أنه لم
يتخذ صاحبة ولا ولدًا، واسمه الملك يدل على ما يستلزم حقيقة ملكه من قدرته
وتدبيره، وعطائه ومنعه، وثوابه وعقابه، وبث رسله في أقطار مملكته، وإعلام
عبيده بمراسيمه وعهوده إليهم، واستوائه على سرير مملكته الذي هو عرشه المجيد،
فمتى قام بالعبد تعظيم الحق جل جلاله، وحسن النظر في الشواهد والتبصر
والاعتبار بها صارت الصفات والنعوت مشهودة لقلبه قبلة له.
قوله (وهي معرفة العامة التي لا تنعقد شرائط اليقين إلا بها) لا يريد بالعامة
الجهال الذين هم عوام الناس، وإنما يريد أن هذه هي المعرفة التي وقف عندها
العموم ولم يتعدوها، وأما معرفة أهل الذوق والمحبة الخاصة فأخص من هذا كما
سيأتي.
قوله: وهي على ثلاثة أركان إثبات الصفة من غير تشبيه إلى آخره - هذه
ثلاثة أشياء:
(أحدها) إثبات تلك الصفة فلا يعاملها بالنفي والإنكار.
(الثاني) أنه لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم
كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة ولا يغير اسمها ويعيرها اسمًا آخر، كما
تسمي الجهمية والمعطلة سمعه، وبصره، وقدرته، وحياته، وكلامه أعراضًا،
ويسمون وجهه، ويديه، وقدمه سبحانه جوارح وأبعاضًا، ويسمون حكمته،
وغاية فعله المطلوبة عللاً وأغراضًا، ويسمون أفعاله القائمة به حوادث، ويسمون
علوه على خلقه واستواءه على عرشه تحيزًا، ويتوصلون بهذا المكر الكبار إلى
نفي ما دل عليه الوحي والعقل والفطرة وآثار الصنعة من صفاته، فيسطون بهذه
الأسماء التي سموها هم وآباؤهم على نفي صفاته وحقائق أسمائه.
(الثالث) عدم تشبيهها بما للمخلوق، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا
في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فالعارفون به المصدقون لرسله
المقرون بكماله يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات،
فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم
حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين، فصراطهم صراط المنعم عليهم،
وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا
نُزِيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين، وقال التشبيه أن تقول: يد
كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
قوله (والإياس من إدراك كنهها، وابتغاء تأويلها) يعني أن العقل قد يئس من
تعرفه كنه الصفة وكيفيتها؛ فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف،
(بلا كيف) أي بلا كيف يعقله البشر؛ فإن من لا يعلم حقيقة ذاته وماهيته كيف
يعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها،
فالكيفية وراء ذلك، كما أنَّا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم
الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق، فعجزنا عن معرفة
كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم، فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود
في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها،
والعظمة كلها، والكبرياء كلها، من لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سُبُحاته
السموات والأرض، وما فيهما، وما بينهما، وما وراء ذلك، الذي يقبض سمواته
بيده، فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا، الذي نسبة علوم الخلائق كلها إلى
علمه أقل من نسبة نقرة عصفور من بحار العالم، الذي لو أن البحر يمده من بعده
سبعة أبحر مداد، وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام، فني
المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته، الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى
آخرها، إنسهم وجنهم، وناطقهم وأعجمهم، جعلوا صفًّا واحدًا ما أحاطوا به
سبحانه، الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع
والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك.
فقاتل الله الجهمية والمعطلة! أين التشبيه هاهنا، وأين التمثيل؟ لقد اضمحل
هاهنا كل موجود سواه فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه
فيه، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاها ما تولت من وقوفها مع
الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها، ولما فهمت هذه الطائفة من
الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين فرت إلى إنكار حقائقها، وابتغاء
تحريفها، وسمته تأويلاً، فشبهت أولاً، وعطلت ثانيًا، وأساءت الظن بربها
وبكتابه وبنبيه وبأتباعه، أما إساءة الظن بالرب؛ فإنها عطلت صفات كماله ونسبته
إلى أنه أنزل كتابًا مشتملاً على ما ظاهره كفر وباطل، وأن ظاهره وحقائقه غير
مرادة، وأما إساءة ظنها بالرسول فلأنه تكلم بذلك، وقرره وأكده، ولم يبين للأمة
أن الحق في خلافه وتأويله، وأما إساءة ظنها بأتباعه فنسبتهم لهم إلى التشبيه
والتمثيل والجهل والحشو، وهم عند أتباعه أجهل من أن يكفروهم، إلا من عاند
الرسول، وقصد نفي ما جاء به، والقوم عندهم في خفارة جهلهم قد حجبت قلوبهم
عن معرفة الله، وإثبات حقائق أسمائه وأوصاف كماله.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) في ب (فإذا سمي به غيره فعلى الدعوى والاستعارة) .
(2) في ب (علامة) .
(3) في ن (المثال) .
(4) كتب في هامش الأصل (قوله (بعضهم) أي الملاحدة القائلين بوحدة الوجود، أعاذنا الله من الزيغ والضلال) .
(5) أي ذو النون.
(6) مقتضى ما قبله أن يقول: يتعدونه، أو: يتعداه أحدهم إلخ.
(7) كتب في هامش الأصل (لعله الجود) .
(10) في المتن (بتبصير) .
(11) لعل الأصل (أو ما) لأنه وجه آخر في تفسير الآية.
(12) لعله سقط من هنا: ويؤتي الملك من يشاء.
(13) في ب (أناس) وفي سائر النسخ الناس.
(14) لعل الأصل (قال) وما بعده فاعله.
(15) وفي ب (فظواهرها) ، وهو غير ظاهر.
(16) هذا مقول المقول، وصوابه: الذي سوغ لنا هذا القول القواعد ... إلخ أي هو القواعد.
(17) في ن وح (منه) .
(18) ليس من التأويل ما قالوه في شرح الحديث من أن التشبيه فيه للرؤية لا للمرئي الذي لا يشبهه قمر ولا شمس ولا غيرهما] ليس كمثله شيء [ولا قولهم إن كيفية هذه الرؤية لا تعرف في الدنيا، بل ما دونها من أمر الآخرة لا يمكن أن يعرف في الدنيا أيضًا.
(19) (ما) زائدة إما هنا، وإما في أول الجملة.
(20) لعل كلمة شيء زائدة.
(21) لعل الأصل: أدل شيء، أو: من أدل الأشياء.
(22) هذه الجملة من قوله: (من دلالة المخلوقات) إلى هنا سقطت من ن وح فنقلناها من ب.
(23) كذلك حذفت هذه الآيات منهما فنقلت من ب.
(24) الطريق يذكر ويؤنث، وما أرى التأنيث هنا والتذكير قبله إلا من النساخ.(18/696)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(الخلق)
مباحث علمية في النفس والعقل، وقواهما، وكُنْه الأخلاق، والعوامل المغيرة
لها، وتأثير العقل، والبيئة، والوراثة فيها، وماهية الفضيلة، وتنوع درجاتها في
أدوار الحياة، وأنواعها وحدودها، والرذيلة ونشأتها، وأقسامها، ودرئها.
تأليف حسن أفندي فتوح بنظارة (وزارة) المعارف، طبع بمطبعة الجمالية
بمصر سنة 1330 طبعًا نظيفًا على ورق متوسط بحرف بنط 24، صفحاته 144
بالقطع الصغير، وثمنه خمسة قروش، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(عظة الناشئين)
كتاب أخلاق، وآداب، واجتماع، تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني أستاذ
اللغة العربية في المدرسة السلطانية في بيروت، طُبع بمطبعة الثبات في بيروت
سنة 1330، صفحاته 66 بالقطع الصغير.
ومن مباحثه: الإقدام، الصبر، الإخلاص، الشجاعة، الشرف، الهجعة
واليقظة، الثورة الأدبية الأمة، والحكومة، الغرور، التجدد، الدين، المدنية،
الحرية، الزعامة والرئاسة، السعادة، القيام بالواجب، الثقة، التعاون، التعصب
ورثاء الأرض ... إلخ.
***
(كتاب الإرشاد إلى تربية العقل)
تأليف الدكتور محمود علي السركي طبيب مستشفى المنيا الأميري، طُبع
سنة 1913 بمطبعة (الآداب الشرقية) بالمنيا على ورق متوسط، صفحاته 148
بالقطع الوسط، وثمنه 12 قرشًا.
من مباحث هذا الكتاب: الفهم والمعرفة، كيفية تحصيل الأعمال، كيفية
الملاحظة، كيفية الحكم، كيفية الإحساس، كيفية العمل، الإرادة، كيف تكون
علاقة الإنسان مع غيره؟ ، كيف يجب أن يكون الإنسان؟ ، كيف يتجنب الضرر؟
معنى الحياة.
***
(جمال الزوجة)
تأليف الأستاذ الشيخ مهدي أحمد خليل، طُبع بمطبعة الجمالية بمصر سنة
1333، صفحاته 152 بالقطع الصغير ثمنه 3 قروش، ويُطلب من مكتبة المنار
بمصر.
جدير بالطلبة والشبان والشابات مطالعة هذا الكتاب فإنه من أفيد ما كتب في
هذا الموضوع، وقد توخى كاتبه فيه استعمال المفردات العربية لحلل النساء
وحليهن وغير ذلك وشرح هذه المفردات، كما هو دأبه في تصانيفه التعليمية المفيدة
فصول الكتاب: نصائح للأمهات، ما يلزم للمولود المنتظر، الاعتناء بصحة
الأولاد، التسنين، غذاء الطفل، الإرضاع المختلط، الإرضاع الصناعي، تخفيف
اللبن، غلي اللبن وتعقيمه، الفطام، الاعتناء بثدي الأم عند الفطام، وفي كل فصل
من هذه بيان وإيضاح وشرح ولا يستغني عنه من يعلم ما يجب عليه لأولاده وأمته
ونوعه.
***
(قبل الزواج وبعده)
تأليف الدكتور دنيسون لايت، الإنكليزي، وترجمه بالعربية محمد أفندي
عبد العزيز الصدر وطُبع بالمطبعة الحميدية المصرية بمصر طبعًا نظيفًا، صفحاته
70 بالقطع الصغير، وثمنه 3 قروش.
مباحث هذا الكتاب: مستقبل الطفل، متى أتزوج، الميل الشهواني فوائده
ومضاره، التشريح الجنسي، الولادة، قانون الزوج، قانون الزوجة، وفي الكتاب
جدول لأوقات إرضاع الطفل ومقدار كل رضعة من الماء واللبن من أول عمره إلى
الشهر الثاني عشر، فنحث الأمهات والآباء على اقتنائه.
***
(تدبير حياة الرضيع الصحية من يوم ولادته إلى يوم الفطام)
تأليف الدكتور نجيب أفندي قناوي طبيب عيادة اللادي كرومر للأطفال
بالإسكندرية طُبع بمطبعة محمد الكلزه بالإسكندرية سنة 1329 طبعًا نظيفًا على
ورق جيد وثمنه ثلاثة قروش، وهو من أنفع الكتب في هذا الباب.
***
(جرجي زيدان)
كتاب فيه ترجمة حياة جرجي بك زيدان صاحب الهلال، ومراثي الشعراء
والكتاب، وحفلات التأبين، وأقوال الكتاب والمجلات والجرائد في الفقيد وآثاره
ومكانته العلمية الأدبية، وفي الكتاب رسوم الفقيد شابًّا وكهلاً طُبع بمطبعة الهلال
بمصر على ورق جيد سنة 1915 وصفحاته 147.
***
(تاريخ آداب اللغة العربية لزيدان الجزء الرابع)
طبع بمطبعة الهلال على ورق متوسط سنة 1914 صفحاته 328 بقطع
المنار، وثمنه 20 قرشًا، ويُطلب من مكتبة الهلال، ومكتبة المنار بمصر.
هذا الجزء هو تتمة أجزاء الكتاب، وبه تمت حياة المؤلف المملوءة جِدًّا
ونشاطًا وعملاًً.
يشتمل هذا الجزء على تاريخ آداب اللغة العربية، وعلومها، وتراجم العلماء
والأدباء والشعراء، ووصف مؤلفاتهم، وأماكن وجودها، من عهد دخول الفرنسيين
إلى مصر سنة 1213هـ إلى هذه الأيام، وقد قرظ المنار أجزاء هذا الكتاب الثلاثة،
ونشر انتقاد الأستاذ الإسكندري له، وأنصف مؤلفه فيما كتبه عن مؤلفاته.
ألحق المصنف بهذا الجزء جدولاً استغرق 6 صفحات في تصحيح الأغلاط
التي استفادها من المنتقدين على الأجزاء التي قبله، وذكر منهم الأب لويس شيخو،
والأب أنستاس الكرملي، والشيخ أحمد عمر الإسكندري وأحد آل كاشف الغطاء،
وعيسى أفندي المعلوف، وهؤلاء نُشرت انتقاداتهم في مجلات المشرق، ولغة
العرب، والمنار، والعرفان، وذكر من المنتقدين الذين كاتبوه أحمد بك تيمور،
ولكنه لم يذكر الشيخ شبلي النعماني فإنه كاتبه وكتب انتقادًا على تاريخ التمدن
الإسلامي في المنار، غير أنه كان في انتقاده شدة غلظة ضاق بها صدر جرجي بك
زيدان على سعته.
وفي هذا الجدول استدراكات استفادها المؤلف من المطالعة، وفي ذيله ترجمة
حياته، وذكر جميع مؤلفاته، وفيه فهرس للأجزاء الأربعة.
***
(كتاب أصول علم الاقتصاد)
تأليف الأستاذ ووكر الأمريكي، وتعريب محمد حمدي بك السيد من قضاة
المحاكم الأهلية، يطبع بمطبعة المنار طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وقد صدر الجزء
الأول منه في أواخر سنة 1333 وصفحاته 258، وثمنه 20 قرشًا، ولتلاميذ
المدارس العليا 15 قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
إن الحالة المالية والاقتصادية بمصر جعلت الحاجة ماسة إلى وجود كتب في
علم الاقتصاد، وإلى مدرسين يدرسونه في المدارس، ولا سيما في هذه البلاد التي
كثرت فيها الشركات الزراعية والتجارية والصناعية، واتسعت دائرة الأعمال
المالية، وإن بلادًا كالبلاد المصرية في حالتها المدنية، وتغلغل الإفرنج فيها،
وإدارتهم للمصارف والشركات فيها لا يمكن أن يحفظ أهلها ثروتهم أو أرضهم،
فضلاً عن أن ينموها إلا إذا كثر فيهم العارفون بهذا العلم، وبنوا أعمالهم المالية كلها
على أصوله التي بنى عليها غيرهم، فوجب على المصريين خاصة، والعرب
عامة تناول هذا الفن؛ لأن مصر اليوم هي أرقَى بلاد العرب ثروة؛ فإذا ارتقى هذا
العلم فيها يكون ذلك مقدمة لارتقائه في غيرها.
يظن كثير من الناس أن الاقتصاد كل الاقتصاد أن لا تنفق كثيرًا، أو أن
تدخر من كسبك شيئًا لوقت حاجتك، وهذا وَهْم منشؤه الجهل؛ فإن متناول علم
الاقتصاد أوسع من ذلك، وأكبر من أن ينحصر بالتقتير والتضييق على من وسع
عليهم في الرزق.
وأقل ما يقال فيه إنه علم يبحث في (إيجاد الثروة) وهذه الكلمة تتضمن
معرفة طبيعة الأرض، واستعدادها، وكيفية توزيع محصولاتها، وتكوُّن الصناعة
وارتقائها، وتأثير العوامل الطبيعية والسياسية والإدارية والمركز السياسي في ذلك،
ثم هو يبحث في (إنماء الثروة) وما يلزم لذلك من تأثير الصناعة وإتقانها،
وتصرف مديري المصانع، وعمل الصناع، ورأس المال، والقيمة الاعتبارية
للنقدين، أو ما يقوم مقامها، والمبادلة، والأرباح، والأقوات، وقيمة الإيجار،
والتوزيع، والاشتراك، ومعاملة الدول، وتبادل بعضها مع بعض، ثم ما
لاعتصاب العمال، وتأثير القوانين الإدارية والسياسية في ذلك.
فالاقتصاد هو ما يُوجِد ثروة الأمة والفرد وينميهما، أي أن تعلم كيفية كسب
المال، وكيفية إنفاقه بما يعود عليك وعلى أمتك بالثراء ونعمة العيش.
ولما أحس الناس بالحاجة إلى هذا العلم في السنين الأخيرة، كتب فيه بعض
الكتاتبين مقالات في الجرائد والمجلات، وترجم آخرون بعض المختصرات، وكان
آخر ما ارتقت العناية إليه أن انبرى محمد حمدي بك السيد القاضي بالمحاكم الأهلية
إلى ترجمة (أصول علم الاقتصاد السياسي) فأفرغ جهد المستطاع في نقله إلى
العربية، مع ما يلزم لذلك من تعريب الاصطلاحات الفنية فأنجزه ترجمة، وأتم
طبع الجزء الأول منها، وقد أوشك أن يتم طبع الجزء الثاني، ومن مميزات هذا
الكتاب أن المؤلف قد وفى المسائل حقها، وأعطاها من الإيضاح قسطها، وأبرزها
في لغة العرب بعبارة سهلة المتناول صحيحة التعبير واضحة المعنى غير متنطع،
ولا متقعر.
***
(كتاب دروس سنن الكائنات
في مدرسة دار الدعوة والإرشاد)
دروس علمية طبية إسلامية في الكيمياء، والطبيعة، والتشريح، ووظائف
الأعضاء، وقانون الصحة، وعلم الأنسجة للدكتور محمد توفيق صدقي نشرتها
مجلة المنار، وطبعتها على نفقتها بمطبعتها على ورق جيد، وقد تم طبع الجزء
الأول، فبلغت صفحاته 186 بقطع المنار، وثمنه 5 قروش، ويُطلب من مكتبة
المنار وإدارته بمصر.
الدكتور محمد توفيق صدقي بحَّاثة منقب، مؤلف محقق، عرفه قراء المنار
بآثاره من أول عهده بالكتابة العلمية؛ لأنه قلما كتب شيئًا في غير المنار، ودروسه
هذه مبنية على البحث والاطلاع والتحقيق، والجمع بين العلم والعمل، فهي كتاب
علمي طبي جدير بأن يدرس في المدارس العربية، ولا سيما الدينية منها؛ لأنه
يقرب هذه العلوم من ذهن التلميذ بعبارة عربية سلسلة، التزم فيها تعريب
الاصطلاحات العلمية، والتوفيق بين مسائل العلم المحققة ونصوص القرآن
والحديث عند الحاجة إلى ذلك، لا لأن المراد مزج العلم بالدين في التعليم كما يتوهم
من يرى أن الفصل بينهما بتعليم كل منهما وحده أولى، بل لأن الغرض الأول من
هذه الدروس أن يكون لرجال الدين الذين يعدون للإرشاد والتعليم إلمام صحيح
بالعلوم التي يحتاجون إليها في التربية والإرشاد من وجهين (أحدهما) تقوية
الإيمان بما ترشد إليه هذه العلوم من الآيات على قدرة الله تعالى، وعلمه، وحكمته،
ورحمته، ووحدانيته (وثانيهما) العلم بأن الانتفاع بها مطلوب شرعًا لا ممنوع
كما يتوهمه الجاهلون، مثال هذا أن توقي ميكروبات الأمراض، والآفات التي
تصيب الإنسان والحيوان والنبات، لا ينافي الإيمان بالله ولا التوكل عليه ولا ما
نقل في كتب الدين من نفي العدوى الجاهلية، فإذا لم يكن رجال الدين على بصيرة
في ذلك، لا يسهل عليهم القيام بوظيفة الإرشاد الإسلامي الذي يجب أن يكون جامعًا
بين حقوق الأرواح والأجساد، ومصلحتي المعاش والمعاد.
***
(الألفاظ الكتابية)
لعبد الرحمن بن عيسى بن حماد الهمذاني، هذا الكتاب غني عن التعريف
والتقريظ، وهو أشهر من نار على علم، وقد طُبع مرات بأشكال مختلفة، ولعل
آخر طبعة طُبعها هي هذه التي طبعها محمد أمين، ومحمود توفيق بمطبعة الجمالية
بمصر سنة 1329 على ورق أبيض بقطع رسالة التوحيد، وجعلا ثمنه أربعة
قروش، ويُطلب منهما، ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه)
رسالة مقتبسة من كتاب يتيمة الدهر الشهير تأليف أبي منصور الثعالبي،
طبعه علي عطية بمطبعة الجمالية بمصر على ورق أبيض صفحاته 112 بقطع
الإسلام والنصرانية، وثمنه 1.5 قرش ويُطلب من مكتبة المنار بمصر.
موضوع الرسالة ما قيل في شعر المتنبي انتقادًا وتقريظًا وهو ما كتبه الثعالبي
في اليتيمة عند الكلام على أبي الطيب وقال في آخره إنه يصلح أن يكون كتابًا
مستقلاًّ، وهو القائل في المتنبي: إنه نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة
الشعر.
***
(ديوان عبد الرحمن شكري)
طبع الجزء الثالث من هذا الديوان في مطبعة غرزوزي بالإسكندرية سنة
1915، فبلغت صفحاته 74 فيها من القصائد والمقاطيع 55 ثمنه 5 قروش،
ويُطلب من مكتبة المنار بمصر.
شعر عبد الرحمن شكري معروف لقراء العربية، فهو يطرق أبوابًا لم يطرقها
غيره؛ لأنه يقول الشعر للشعر، لا للسعر، فإذا كان الكون في نظر الشاعر قصيدة
- كما يقول شكري - فإن قصائده أبيات من تلك القصيدة كما يعلم من عناوين هذا
الجزء ومنها: الربيع والصبا، بين الحقيقة والخيال، الشعر والطبيعة، سحر
الربيع، الحسن مرآة الطبيعة، وغير ذلك.
ومن قصائده الأخلاقية قصيدة تحت عنوان (صوت النذير) تمثل غيرته
وشاعريته.
__________
(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.(18/715)
ذو الحجة - 1333هـ
نوفمبر - 1915م(18/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خلاصة سورة المائدة
انفردت هذه السورة بعدة مسائل في أصول الدين وفروعه، وبتفصيل عدة
أحكام أُجملت في غيرها إجمالاً، وأكثرها في بيان شؤون أهل الكتاب ومحاجتهم،
ونحن نُذَكِّر قارئ تفسيرنا بخلاصتها مراعين مناسبة بعض المسائل لبعض، لا
ترتيب ورودها في السورة، وجعلنا ذلك على قسمين:
القسم الأول
ما هو من قَبِيل الأصول والقواعد الاعتقادية أو العملية
(1) أهم الأصول التي انفردت بها السورة، بيان إكمال الله تعالى للمؤمنين
دينهم الذي ارتضى لهم بالقرآن، وإتمام نعمته عليهم بالإسلام (راجع ص 154 -
167 ج 6) [*] .
(2) النهي عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من شأنها أن تسوء
المؤمنين إذا أُبديت لهم، لما فيها من زيادة التكاليف مثلاً (راجع ص125 - 209
ج7) .
وقد علم من الآيات التي نزلت في هاتين المسألتين المتلازمتين أن كل حكم
ديني من اعتقاد، أو عبادة، أو حلال، أو حرام لم يدل عليه النص دلالة صريحة
ولم تمض به السنة العملية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فليس من الدين
الذي هو حجة الله على كل من بلغتهم دعوة الرسول بحيث يطالبون به في الدنيا،
ويسألون عنه في الآخرة، كما فصلنا ذلك في تفسيرهما، مع بيان الفرق بين
الأحكام الدينية والدنيوية، وأما ما دل عليه الكتاب أو السنة دلالة غير صريحة -
ومنه أكثر ما اختلف أئمة العلم في دلالته - فهو حجة على من فهم منه الحكم، لا
على كل أحد كما بيناه في تفسير آية تحريم الخمر.
(3) بيان أن هذا الدين مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد والهداية في
الأخلاق والأعمال، وأن التقليد باطل لا يقبله الله تعالى، كما هو صريح الآية
107 (راجع ص 205 ج7) وتقدم مثلها في سورة البقرة.
(4) بيان أن أصول الدين الإلهي على ألسنة الرسل كلهم هي الإيمان بالله،
واليوم الآخر، والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أية ملة - من ملل
الرسل كاليهود والنصارى والصابئين - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم في
الآخرة ولا هم يحزنون (ص 476 ج6) وتقدم مثل ذلك في سورة البقرة.
(5) وحدة الدين واختلاف شرائع الأنبياء ومناهجهم فيه.
(6) هيمنة القرآن على الكتب الإلهية (ص 410 ج 6) .
(7) بيان عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بالتبليغ العام،
وكونه لا يكلف من حيث كونه رسولاً إلا التبليغ، وأن من حجج رسالته أنه بيَّن
لأهل الكتاب كثيرًا مما كانوا يخفون من كتبهم، وهو قسمان: (أحدهما) ما ضاع
منه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بناء على الأصل المبين في هذه السورة،
وهو أنهم نسوا حظًّا عظيمًا مما ذكرهم الله به بإنزاله فيها (وثانيهما) ما كانوا
يكتمونه من الأحكام اتباعًا لأهوائهم مع هذه السورة، ولولا أن محمدًا الأمي مرسل
من عند الله لما علم شيئًا من هذا ولا ذاك.
(8) عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناس أن يضروه، أو يقدروا
على صده عن تبليغ رسالة ربه، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أيضًا
فكم حاولوا قتله فأعياهم وأعجزهم (ص473 ج6) .
(9) بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفرادها وجماعتها،
وأنه لا يضرهم من ضل من الناس إذا هم استقاموا على صراط الهداية، أي لا
يضرهم ضلاله في دنياهم؛ لأن الله تعالى لم يكلفهم إكراه الناس على الهدى والحق
ولا أن يخلقوا لهم الهداية خلقًا، وإنما كلفهم أن يكونوا مهتدين في أنفسهم بإقامة دين
الله تعالى في الأعمال الفردية والمصالح الاجتماعية، ومنها الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
(10) تأكيد وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بما بينه الله
تعالى من لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود، وعيسى بن مريم،
وتعليله ذلك بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
(11) نفي الحرج من دين الإسلام (258 و 269 ج6) .
(12) تحريم الغلو في الدين، والتشدد فيه، ولو بتحريم الطيبات، وترك
التمتع بها، وتحريم الخبائث والاعتداء، والإسراف في الطيبات (488ج 6و17 -
32ج7) .
(13) قاعدة إباحة الاضطرار للمحرَّم لذاته فيما يضطر إليه كالطعام، ومنه
أخذ الفقهاء قولهم: الضرورات تبيح المحظورات (راجع ص167 ج6) .
(14) قاعدة التفاوت بين الخبيث والطيب، وكونهما لا يستويان في الحكم
كما أنهما لا يستويان في أنفسهما، وفيما يترتب عليهما، وهذا أصل عظيم من
أصول التحليل والتحريم في الطعام وغيره يدل على تعليل الأحكام الشرعية بالحكم
والمصالح، وعلى عدم استواء جزاء الخبيث والطيب من الناس عند الله عز وجل
(ص122ج7) ، وما كان تعليل الأحكام، وبيان حكمتها، وفائدتها إلا لأجل
توخيها- كأحكام الطهارة، وتحريم الخمر، والميسر، وبعض الطعام، وأحكام
الوصية، والشهادة، وإقسام الشهداء اليمين - وإنك لتجد الذين يجهلون ذلك
لإعراضهم عن حكم القرآن، وأسرار السنة قد جعلوا أمر الوضوء والغسل تعبديًّا
محضًا لا يستلزم النظافة فعلاً ولا قصدًا، وزعموا أن تحريم الخمر تعبدي لا يدل
على تحريم كل مسكر بناء على رأيهم أن الخمر ما كان من عصير العنب خاصة،
فما القول في فهمهم لسائر الأحكام.
(15) تحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم؛ لأنه يجب على
المؤمنين أن يلتزموا الحق والعدل، ولا يكونوا كأهل السياسة المدنية ص128
و274 ج6) .
(16) وجوب الشهادة بالقسط، والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين
كالمسلمين، ولو للأعداء على الأصدقاء، وتأكيد وجوب العدل فيها، وفي سائر
الأحكام والأعمال (ص276 و273 و394 و412 و420 ج6) .
(17) الأمر المطلق العام في أول السورة بالوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس
عليها في جميع معاملاتهم الدنيوية من شخصية ومدنية، وهذه قاعدة عظيمة من
قواعد الشريعة الإسلامية، وهي أن الله تعالى وَكَلَ أمر العقود التي يتعاملون بها
إلى عرفهم ومواضعاتهم؛ لأنها من مصالحهم التي تختلف باختلاف الأحوال فلم
يقيدهم في أحكامها وشروطها بقيود دائمة إلا ما أوجبه الشرع مما لا يختلف
باختلاف الأحوال والعرف كتحريم أكل أموال الناس بالباطل كالربا والقمار، فكل
عقد يتعاقد عليه الناس لم يحل حرامًا، ولم يحرم حلالاً مما ثبت بالنص فهو جائز.
(18) إيجاب التعاون على البر والتقوى، ومنه تأليف الجماعات الخيرية،
والعلمية، وتحريم التعاون على الإثم والعدوان 0
(19) بيان أن الله تعالى جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس في أمر
دينهم ودنياهم، فهو جعل تكويني باعتبار، وشرعي باعتبار آخر، وهو يدل على
علمه الواسع المحيط بالأشياء والحكم والمصالح والمنافع 0
(20) مسألة موالاة المؤمنين للكافرين، وبيان أن من آيات النفاق،
ومرض القلب المسارعة في موالاتهم من دون المؤمنين خوفًا أن تدور الدائرة على
المؤمنين فتكون لهم يد عند أعدائهم يستفيدون بها منهم (ص423ج6)
(21) تفصيل أحكام الوضوء والغسل والتيمم، مع بيان أن الله تعالى يريد
أن يُطَهِّر الناس ويزكيهم بما شرعه لهم من أحكام الطهارة وغيرها، وشمول
الطهارة في آية الوضوء لطهارة الظاهر والباطن، وهذا يدل على أن أحكام الطهارة
كلها معقولة المعنى، كما أشرنا إليه في المسألة الرابعة عشرة، فيجب أن يتحرى
بأداء ما ورد به الشرع ما تتحقق به الحكمة منه، ويدل على أن الوسوسة في
الطهارة مذمومة مخالفة لنص الشرع ومقصده.
(22) تفصيل أحكام حلال الطعام وحرامه، وما حرم منه لكونه خبيثًا في
ذاته كالميتة وما في معناها والخنزير، وما حرم لسبب ديني كالذي يُذبح للأصنام.
(23) تحريم الخمر، وهو كل مسكر، والميسر وهو القمار ومنه ما يسمى
في عرف الناس اليوم بالمضاربات.
(24) أحكام محرمات الإحرام.
(25) تفصيل أحكام الصيد للحِلِّ والحُرُم في أوائل السورة وأواخرها.
(26) حدود المحاربين الذين يفسدون في الأرض، ويخرجون على أئمة
العدل، وحد السرقة، وما يتعلق بالحد كسقوطه بالتوبة بشرطه.
(27) أحكام الأيمان وكفارتها، وأيمان الأمناء والشهود.
(28) تأكيد أمر الوصية قبل الموت وأحكام الشهادة على الوصية، وفي
قضاياها وشهادة غير المسلم على المسلم، والفرق بين الشهادة والإشهاد، وإننا بعد
الإطالة في تفسير الآيات في الوصية والشهادة فيها لخصنا مسائلها في 15 مسألة.
(29) الأمر بالتقوى في عدة آيات من هذه السورة تدخل في جمع الكثرة؛
لأن صلاح أمور الدنيا والدين يتوقف على التزامها، وإنما يُرجى بتكرار الأمر بها
في كل سياق بحسبه.
(30) بيان تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله تعالى وحده كما حكاه
سبحانه من قول المسيح في ذلك اليوم مقرونًا بتعليلها ودليله، وكون النافع في ذلك
اليوم هو الصدق في الظاهر والباطن، جعلنا الله من أهله.
***
القسم الثاني
ما ورد من الأخبار والحِجاج والأحكام في شأن أهل الكتاب
من الآيات في هذا القسم ما نزل في شأن أهل الكتاب عامة، ومنه ما هو في
أحد الفريقين خاصة، فمن المشترك وَصْفهم بالغلو في دينهم المستلزم للتعصب
الضار، وباتباعهم أهواء من ضل قبلهم من الوثنيين وغيرهم، وبالغرور في دينهم
وزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وبأنهم مع ذلك نقضوا ميثاق ربهم، ونسوا حظًّا
عظيمًا مما ذكرهم الله به على ألسنة أنبيائهم، ولم يقيموا التوراة والإنجيل كما
أوجب الله عليهم، وقد فند دعواهم أنهم أبناؤه وأحباؤه بما يأتي ذكره قريبًا، وبيَّن
الله لهم حقيقة الأمر، وهي أنهم بشر ممن خلق الله، لا مزية لهم على سائر البشر
في أنفسهم وذواتهم؛ لأن البشر إنما يمتاز بعضهم على بعض بالعلوم الصحيحة
والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة، لا بالنسب والانتماء إلى الأنبياء والصالحين
وإن كانوا مخالفين لهم في هدايتهم.
وذكر من جزائهم على سوء أعمالهم في الدنيا إلقاء العداوة والبغضاء بينهم،
وأنه يعذبهم في الدنيا بذنوبهم الشخصية والقومية كغيرهم، وأن ذلك يدحض دعواهم
أنهم أبناء الله وأحباؤه، ودعاهم كافة إلى الإسلام، والإيمان بخاتم الرسل عليه
الصلاة والسلام، الذي بيَّن لهم حقيقة دينهم الذي كان عليه سلفهم، ودحض ما
زادوا فيه بالبرهان، وبيَّن بعض ما كانوا يخفون أو يجهلون منه أحسن بيان.
ووَصَف التوراة والإنجيل أحسن وصف، وذكر من أخبار التوراة قصة ابني
آدم بالحق، ومن أحكامها عقوبات القتل وإتلاف الأعضاء والجروح، ومن أخبار
الإنجيل والمسيح ما هو حجة على الفريقين، وبيَّن أن الكتابين أُنزلا نورًا وهدى
للناس، وأنهم لو كانوا أقاموهما لكانوا في أحسن حال، ولسارعوا إلى الإيمان بما
أنزله الله على خاتم رسله مصدقًا لأصلهما، ومبينًا لما طرأ عليهما، ومكملاً لدين
الأنبياء جميعًا، على سنة الله في النشوء والارتقاء، التي هي أظهر في البشر منها
في سائر الأشياء؛ ولكنهم اتخذوا الإسلام هزؤًا ولعبًا في جملته وفي صلاته، ووالوا
عليه المناصبين له من أعدائه، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم لذلك.
ومما جاء في اليهود خاصة نعيًا عليهم وبيانًا لسوء حالهم - أنهم نقضوا ميثاق
الله الذي أخذه عليهم في كتابهم ونسوا حظًّا عظيمًا مما ذُكِّروا به، وحرفوا الكلم عن
مواضعه، وتركوا الحكم بالتوراة وأخفوا بعض أحكامها، وحكَّموا الرسول ولم
يرضوا بحكمه الموافق لها، وأن من صفاتهم الغالبة عليهم قساوة القلب، والخيانة
والمكر، والكذب، وقول الإثم، والمبالغة في سماع الكذب، وأكل السحت،
والسعي بالفساد في الأرض، وفي إيقاد نار الفتن والحرب، وأنهم كانوا يقتلون
الأنبياء والرسل بغير حق، وتمردوا على موسى إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة،
وقتال الجبارين فعاقبهم الله بالتيه في الأرض، وأنهم كانوا أشد الناس عداوة
للمؤمنين، حتى أنهم يوالون عليهم المشركين، بسبب ما ورثوه من تلك الصفات
عن الغابرين، وذكر أنه عاقبهم على ذلك باللعن على ألسنة الرسل، وبالغضب
والمسخ، وهذه الصفات التي غلبت عليهم في زمن البعثة وقبله تثبتها تواريخهم
وتواريخ غيرهم، ومن المعلوم أنها لم تكن عاملة فيهم، ولا شاملة لجميع إفرادهم،
فقد أنصفهم الحكم العدل في هذه السورة وغيرها بالحكم على الكثير منهم أو أكثرهم،
ومنه قوله في هذه السورة: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة: 66) وبيَّنا في الموضوع ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من
مساعدة اليهود للمسلمين في الشام، والأندلس.
ومما جاء في النصارى خاصة أنهم نسوا - كاليهود - حظًّا مما ذُكِّروا به،
وأنهم قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وقالوا إن الله ثالث ثلاثة، ورد عليهم هذه
العقيدة بالأدلة العقلية، وببراءة المسيح منها ومن منتحليها يوم القيامة، وبيَّن لهم
حقيقة المسيح، وأنه عبد الله ورسوله وروح منه، وما أيده به من الآيات، وحال
حواريه وتلاميذه في الإيمان، وبيَّن أنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين، {ذَلِكَ بِأَنَّ
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) فليُراجع تفسير ذلك
في أول الجزء السابع.
وجملة الآيات الواردة في أهل الكتاب تشهد لنفسها أنها من عند الله تعالى، لا
من عند محمد بن عبد الله العربي الأمي الذي لم يقرأ شيئًا من تلك الكتب، على أن
تلك الآيات ليست موافقة لها ولهم موافقة الناقل للمنقول عنه، وإنما هي فوق ذلك
تحكم لهم وعليهم وفيهم وفي كتبهم حكم المهيمن السميع العليم.
***
أحكام السورة الخاصة بأهل الكتاب
لو كان هذا القرآن من وضع البشر لشرَّع معاملة أهل الكتاب الموصوفين بما
ذُكر - ولا سيما الذين ناصبوا الإسلام العداء عند ظهوره - بأشد الأحكام وأقساها؛
ولكنه تنزيل من حكيم حميد، أمر في هذه السورة بمعاملتهم بالعدل، والحكم بينهم
بالقسط، وحكم بحِلِّ مؤاكلتهم، وتزوج نسائهم، وقبول شهادتهم، والعفو والصفح
عنهم، وهذه الأحكام التي شرعت هذه المعاملة الفضلى لهم نزلت بعد إظهار اليهود
للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منتهى العداوة والغدر، وبعد أن ناصبوه مع
المشركين الحرب، وهي تتضمن تأليف قلوبهم، واكتساب مودتهم، (راجع ص
195 ج6) .
وقد ختم الله تعالى السورة بذكر الجزاء في الآخرة بما يناسب أحكامها كلها،
كما بيناه في تفسير آخر آية منها.
روى أحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه البيهقي في سننه وبعض رواة
التفسير عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ
المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال
فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، وروى أحمد، والترمذي، وحسَّنه
والحاكم، وصححه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو قال: آخر سورة
نزلت سورة المائدة والفتح، وقد تقدم في آخر تفسير سورة النساء بعض ما ورد في
آخر ما نزل من القرآن من السور برمتها ومن الآيات، وكان كل يروي ما وصل
إليه علمه، والله أعلم.
(تم تفسير سورة المائدة)
***
يقول محمد رشيد مؤلف هذا التفسير: (قد وفقني الله تعالى لإتمام تفسير هذه
السورة في أوائل شهر ربيع الآخر سنة 1334، وكنت بدأت بتفسيرها في مثل هذا
الشهر من سنة 1331، وسبب هذا البطء أنني أكتب التفسير ليُنشر في مجلة المنار
فتارة أفسر في الجزء منه بضع آيات، وتارة أفسر آية واحدة في عدة أجزاء، وقد
يمر شهر أو أكثر ولا أكتب في التفسير شيئًا، وأسأل الله تعالى أن يوفقني لإتمام
هذا التفسير بمنع العوائق والمباركة في الوقت وأن يؤيدني فيه بروح من عنده) .
__________
(*) الإشارة بحرف ج لأجزاء التفسير المطبوع على حدته لا لأجزاء المنار.(18/737)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
مكان الأسباب من الدين
فصل من مدارج السالكين
في رد ما قاله صاحب المنازل في باب التلبيس
قد عرفت أن هذا الباب مبناه على محو الأسباب، وعدم الالتفات إليها،
والوقوف معها، ولهذا سمى المُصَنِّف نصبها تلبيسًا، ونحن نقول: إن الدين هو
إثبات الأسباب، والوقوف معها، والنظر إليها، والالتفات إليها وإنه لا دِينَ إلا
بذلك كَمَا لا حقيقةَ إلا به، فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها لا على محوها،
ولا ننكر الوقوف معها؛ فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم لا يتم إسلامه
وإيمانه إلا بذلك، والله تعالى أمرنا بالوقوف معها بمعنى أنا نثبت الحكم إذا وُجدت
وننفيه إذا عُدمت، ونستدل بها على حكمه الكوني، فوقوفنا معها بهذا الاعتبار هو
مقتضى الحقيقة والشريعة، وهل يمكن حيوانًا أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع
الأسباب؟ فينتجع مساقط غيثها وموقع قطرها، ويرعى في خصبها دون جدبها،
ويسالمها ولا يحاربها، فكيف وتنفسه في الهواء بها، وتحركه بها، وسمعه وبصره
بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهداه بها، وسعادته وفلاحه بها، وضلاله وشقاؤه
بالإعراض عنها وإلغائها، فأسعد الناس في الدارين أقومهم بالأسباب الموصلة إلى
مصالحهما، وأشقاهم في الدارين أشدهم تعطيلاً لأسبابهما، فالأسباب محل الأمر
والنهي، والثواب والعقاب، والنجاح والخسران، وبالأسباب عُرف الله، وبها عُبد
الله، وبها أُطيع الله، وبها تقرب إليه المتقربون، وبها نال أولياؤه رضاه وجواره
في جنته، وبها نصروا حزبه ودينه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع
شرائعه، وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي، فالوقوف معها
والالتفات إليها والنظر إليها هو الواجب شرعًا كما هو الواقع قدرًا.
ولا تكن ممن غلظ حجابه، وكثف طبعه فيقول: لا تقف معها وقوف من
يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير، وأنها أرباب من دون الله، فإن وجدت أحدًا
يزعم ذلك أو يظن أنها أرباب وإله مع الله مستقلة بالإيجاد، أو أنها عون لله يحتاج
في فعله إليها، أو أنها شركاء له فشأنك به، فمزق أديمه وتقرب إلى الله بعداوته ما
استطعت، وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله! والإلغاء لما اعتبره! والإهدار لما حققه!
والحط والوضع لما نصبه! والمحو لما كتبه! والعزل لما ولاه! ! فإن زعمت
أنك تعزلها عن رتبة الإلهية فسبحان الله! من ولَّاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك
في عزلها عنها.
ويا لله ما أجهل كثيرًا من أهل الكلام والتصوف، حيث لم يكن عندهم تحقيق
التوحيد إلا إلغاءها ومحوها وإهدارها بالكلية، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى
ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما، ولا في النار حرارة ولا إحراق، ولا في
الدواء قوة مذهبة للداء، ولا في الخبز قوة مشبعة، ولا في الماء قوة مروية، ولا
في العين قوة باصرة، ولا في الأنف قوة شامَّة، ولا في السم قوة قاتلة، ولا في
الحديد قوة قاطعة، وأن الله لم يفعل شيئًا بشيء، ولا فعل شيئًا لأجل شيء، فهذا
غاية توحيدهم الذي يحومون حوله، ويبالغون في تقريره، فلعمر الله لقد أضحكوا
عليهم العقلاء، وأشمتوا بهم الأعداء، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم،
وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية، وقالوا نحن أنصار الله ورسوله
الموكلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل، ولعمر الله لقد كسروا الدين وسلطوا
عليه المبطلين، وقد قيل " إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك "
فقف مع الأسباب حيث أُمرت بالوقوف معها، وفارقها حيث أُمرت بمفارقتها، كما
فارقها الخليل وهو في تلك السفرة من المنجنيق (إلى النار) حيث عرض له
جبريل أقوى الأسباب، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، ودُر معها حيث
دارت ناظرًا إلى مَنْ أَزِمّتها بيديه، والتفت إليها التفات العبد المأمور إلى تنفيذ ما
أمر به والتحديق نحوه، وارعها حق رعايتها، ولا تغب عنها، ولا تفن عنها، بل
انظر إليها وهي في رتبتها التي أنزلها الله إياها، واعلم أن غيبتك بمسببها عنها
نقص في عبوديتك، بل الكمال أن تشهد المعبود، وتشهد قيامك بعبوديته، وتشهد
أن قيامك به لا بك، ومنه لا منك، وبحوله وقوته لا بحولك وقوتك، ومتى خرجت
عن ذلك وقعت في انحرافين لا بد لك من أحدهما: إما أن تغيب بها عن المقصود
لذاته لضعف نظرك وغفلتك وقصور علمك ومعرفتك، وإما أن تغيب بالمقصود
عنها بحيث لا تلتفت إليها، والكمال أن يسلمك الله من الانحرافين؛ فتبقى عبدًا
ملاحظًا للعبودية ناظرًا إلى المعبود، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(18/744)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حرب أمم المدنية لا الملل الدينية
تسمي الجرائد العربية والأوربية هذه الحرب المشتعلة في أوربة حرب الأمم،
ولا نرى لها مخالفًا في صحة هذه التسمية، فقد أجمع الناس على أن جميع الأمم
الأوربية المتحاربة موافقة لدولها على الاستمرار على هذه الحرب إلى أن يفنى آخر
رجل يقدر على استعمال السلاح فيها، ويُنفق آخر دينار في صناديقها، أو تقهر
عدوها قهرًا يخضع به لحكمها، ويذعن صاغرًا لشروط الصلح التي تضعها
حكومتها، وينقلون لنا أن النساء موافقات للرجال في هذا الأمر، وأن القسيسين
والرهبان والاشتراكيين أيضًا متفقون فيه مع رجال الحرب، إلا ما تنقله الجرائد آنًا
بعد آن عن بعض النساء والاشتراكيين في ألمانية من الرغبة في عقد الصلح كراهة
للحرب، وأطيطًا من أوزارها، وأنينًا من أهوالها وسوء آثارها، ولعل هذا من
قبيل ما كانت تنقله في أول الحرب من كراهة الشعب الألماني كله لها ورغبته عنها،
وكون عاهله هو الذي ساقه إليها سوقًا، بل دعَّه إليها دعًّا، وكنا أول من خالفهم
في ذلك.
على أن المعقول الذي لا يُعقل غيره هو أنه يوجد في كل أمة مُحارِبة كثيرٌ
حتى من أهل الرأي يكرهون الحرب لذاتها، ويتمنون الصلح على علاته،
والمعقول أن يكون أكثر هؤلاء الناس من أفراد الحكماء الراسخين، ومن النساء
والاشتراكيين، ومن المتدينين الذين يفهمون أن الديانة المسيحية ديانة سلم وتواضع
وزهد في المال والجاه والرياسة والملك - وما أكثر المنتمين إليها على هذا الفهم -
فحيث يكثر هؤلاء يكثر الميل إلى الصلح، والجنوح إلى السلم، وإن لم تعن
الجرائد بنقل أخبار هؤلاء في بلادها وبلاد أحلافها، لئلا يغتر أعداؤها ويظنون أن
أممهم غير متفقة على تأييد حكوماتها، وهي إنما تنقل عن شعوب أعدائها الميل إلى
الصلح في سياق ذمها بالعجز والضعف، لا في سياق مدحها بكراهة القسوة
والوحشية والإفساد في الأرض، واستقباح الطمع المفضي إلى إهلاك الحرث
والنسل؛ ولذلك كانت تقول في أول الحرب: إن الشعوب الجرمانية كارهة له مُكْرَهة
عليه، ويوشك أن تخرج على حكومتها وتثور عليها، ثم رجعوا عن ذلك،
ووصفوها بضده، فالجرائد السياسية لا تكتب إلا ما يمليه عليها الهوى، فهي تابعة
لمهابّ أهوائه تميل معها كيفما أمالتها.
إلا أنها صادقة في قولها إن السواد الأعظم من الأمم الأوروبية مؤيد لدولها
بمالها ورجالها وإجماعها على الاستمرار في الحرب، إلى أن تنال ما ترجو من
النصر، وتكون كلمتها هي العليا، وكلمة أعدائها هي السفلى؛ فإن من يوجد في كل
منها من محبي السلم بباعث الدين، أو حب الإنسانية والميل إلى التواضع والقناعة
مغلوبون على أمرهم، ووجودهم لا ينافي ما أجمع عليه الكتاب من أن هذه الحرب
هي حرب الأمم لا الدول؛ فإن العبرة بالغالبِ، والنادرُ لا حكم له، وقد جرت عادة
الناس أن يطلقوا على جملة الأمة ما فشا فيها وثبت لأكثرها من الأعمال، أو
اتصفت به من الصفات والأخلاق، ولن تستطيع دولة من دول أوربة الاستمرار
على الحرب إذا كان الرأي الغالب في الأمة لا يؤيدها، إلا أن تكون الدولة الروسية
التي ليس لأمتها رأي غالب.
ومن أعجب ما نقل إلينا عن الحكومة الإنكليزية - ويحسن عده في هذا المقام
من فضائلها التي تجري فيها على عرق - أنها حكمت أخيرًا بوجوب التجنيد
الإجباري على العزاب، إلا من يرى ذلك مخالفًا لوجدانه واعتقاده، وقد سبق لسلفها
مثل ذلك في قانون وجوب التلقيح للوقاية من الجدري، وهذه الفضيلة مما امتاز به
الإنكليز على غيرهم، وهم موافقون فيه لقاعدة من قواعد الإسلام تركها حكام
المسلمين منذ قرون.
إن ما أجمع عليه الناس من تسمية هذه الحرب حرب الأمم قد استثنوا منه
الأمة العثمانية بالنقل، كما استثنينا منه بعض الأفراد من كل أمة بحكم العقل، فقد
نقلت إلينا بلاغات دول الحلفاء الرسمية، والبرقيات العامة والجرائد الغربية
والشرقية، أن الشعب العثماني كاره لهذه الحرب، بل قالوا مرارًا إن السلطان
وولي عهده، وسائر أهل بيته، وأكثر رجال دولته كانوا معارضين فيها، وما زالوا
كارهين لها، بل قالوا أيضًا إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي كانوا وما
زالوا كذلك، وإن السبب المباشر لإيذان دول الأحلاف الدولة بالحرب - وهو
اعتداء البارجتين الألمانيتين (غوبن وبرسلو) على ثغور روسية - لم يكن بإذن
من السلطان، ولا الصدر الأعظم، بل لم يعلما به إلا بعد وقوعه، وقد وعدا سفراء
دول الأحلاف بعدم العود إلى مثله، وإن أنور باشا ناظر الحربية هو الذي اتفق مع
ألمانية على ضم الدولة إليها في هذه الحرب، فغلب نفوذه على نفوذ غيره من
زعماء جمعيته بمساعدة الألمان، الذين كان قد وكل إليهم أمر إصلاح الجيش
العثماني بعد حرب البلقان. ولا تزال الجرائد تتخوَّلنا بأخبار كراهة العثمانيين لهذه
الحرب في عاصمة الدولة وولاياتها، وما يأتمرون به لإسقاط الحكومة الاتحادية
وإنشاء حكومة جديدة تصالح الأحلاف وتتفق معهم، وبسعي صباح الدين أفندي -
ابن أخت السلطان - إلى ذلك واتفاق حزبه أخيرًا مع حزب المشير شريف باشا
وبعض رجال حزب الحرية والائتلاف على ذلك.
أنا لم أُصَدِّق كل ما نشرته الجرائد في هذا الموضوع، وإن كان بعضه رسميًّا،
ولا أكذبه كله، وإن كان سنده ضعيفًا واهيًا، وأعتقد أن أهل الحل والعقد من
زعماء جمعية الاتحاد والترقي كانوا وما زالوا متفقين مع الألمان، وأن السواد
الأعظم من العثمانيين كاره لهذه الحرب في كل مكان، فهي حرب الدولة التي يتولى
إدارتها الاتحاديون، لا حرب الأمة العثمانية وإن أقرها المبعوثون، فإن المبعوثين
في هذا العهد لا يمثلون الشعوب العثمانية، ولا يعبرون عن رأيها، بل أكثرهم
ألسنة لجمعية الاتحاد والترقي، ومظهر لإرادتها.
إذا تمهد هذا فاعلم أيها القارئ أنني لم أقصد به المدح أو الذم للأمم المتفقة
على الحرب أو المختلفة فيها، ولا التخطئة أو التصويب لموقدي نارها، وإنما أريد
أن أثبت أنها حرب المدنية الأوربية الحديثة، لا حرب دينية ولا مذهبية، وهذه
المدنية مادية لا روحية، دنيوية لا دينية، وغاية أصحابها ومقصدهم منها هو
التمتع بالشهوات البدنية، والعلو والعظمة في الأرض، والتكاثر في الأموال
وضروب الزينة، فهي لا تتفق مع شرعة المسيح (عليه السلام) في ورد ولا
صدر، ولا تسير في منهاجه في مبدأ ولا غاية، ولو كان روح المسيحية الحق له
سلطان غالب في أوربة لما وقعت هذه الحرب البتة، كلا إن روح المسيحية مغلوب
على أمره لسلطان المدنية المادية، فموقدو نار الحرب إما من خلص الماديين، وإما
من متبعي أهوائهم في فهم الدين، ولكن أهوال الحرب قد أيقظت في جمهور كل
أمة منهم شعور الدين، وكثر فيهم من يصلون ويدعون الله أن ينصرهم على
أعدائهم، كما هو شأن البشر في حال الكروب والخطوب {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ
كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ
بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) * {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا
لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس: 12) .
فهل يَعْتَبِر بهذه الحرب أولئك الخادعون المخدوعون الذين كانوا يعيبون
الأديان، بزعمهم أنها مثار البغي والعدوان، ومسعر نيران الحرب بين الإنسان
وأخيه الإنسان، وأنه لولاها لآخت المدنية بين الناس، وجمعت بين ما تفرق من
الأجناس؟ كلا إن الحياة المدنية هي التي تولد في النفوس المطامع التي لا حد لها،
وتقرن التنافس بالتحاسد، وتسوق الحسد إلى البغي والتقاتل، وإن الدين ينهى عن
ذلك كله، ولكن الناس كثيرًا ما يخطئون في فهمه، وكثيرًا ما يتعمدون تحريف
كلمه عن مواضعه، فهم يسيئون استعماله كما يسيئون استعمال الحواس والعقل
وغير ذلك من نعم الله تعالى، فمن مقاصد الدين إزالة الخلاف من بين الناس
فاتخذوه سببًا من أسباب الخلاف {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19) فالحرب سُنة من سنن الاجتماع، قد
يخفف الدين شرورها بقدر ارتقائه واستمساك أهله به كما بيناه في مقالة نشرناها في
الجزء الثالث عنوانها (حرب المدنية الأوربية، والمقارنة بينها وبين المدنية
الإسلامية والفتوحات العربية) .
وليس للمدنية المادية مثل هذا التأثير في نفسها، فإن وجد في أمم المدنية من
يقبح الحرب، أو يقبح ارتكاب القسوة فيها غيرة على العمران، ومحافظة على
حقوق البشر غير مهتدٍ في ذلك بتربية الدين، ولا متأثر بفضائله، فهو لا يكون إلا
كالتاجر الخوَّان لا يحجم عن صفقة إلا خوفًا من الخسارة، فمتى غلب على ظنه أنه
فيها لا يبالي ما يفعل، اللهم إلا الأفراد من الحكماء الذين رجح العقل والفضيلة في
نفوسهم على الأهواء، كالفيلسوف هربرت سبنسر الإنكليزي الذي أهدى إليه عاهل
الألمان وسامًا علميًّا فلم يقبله منه؛ لأنه قيصر حرب، وهو عدو للحرب، وإياك
أن تظن في هذا الحكيم الكبير أنه كان يبغض الألمان بغضًا سياسيًّا لمناظرتهم لقومه،
فليس عليهم وعلى الناس بما ادعاه من سبب رفض الوسام، فكان ذلك من الرياء
الفِرّسي الذي يغمز به الإنكليز منتقدوهم كما صرحوا به في هذه الأيام [1] ، فإن هذا
الحكيم الكبير قد نصح لليابانيين بأن لا يولوا قومه الإنكليز شيئًا من شؤون بلادهم؛
لأن ذلك يكون ذريعة لعبثهم باستقلالهم، فأي استقلال في الرأي وإخلاص في
النصح أدل على الحكمة والفضيلة من هذا؟
على أن هذا الفيلسوف لم يكن ماديًّا بل كان يشكو من انتصارالمطامع المادية
في البلاد الأوربية - حتى في بلاده - على الفضيلة كما حدثنا عنه شيخنا الأستاذ
الإمام، وإننا نذكر في هذا المقام بعض ما دار بين حكيمي الشرق والغرب في
زيارة الأول للثاني بداره في 10 أغسطس سنة 1903: بدأ المزور الزائر بسؤاله
عما رأى من تغير الأفكار في إنكلترة، وعما دخل الشرق من الأفكار الأوربية،
وشكا إليه من سريان الأفكار المادية إلى قومه، وما يخشى من إضعافها للفضيلة،
ثم دار بينهما ما يأتي.
قال الفيلسوف: الحق عند أوربة للقوة، قال الأستاذ الإمام: هكذا يعتقد
الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين فيما لا
يُفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها، قال الفيلسوف: مُحي الحق بالمرة من
عقول أهل أوربة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض ليتبين من هو الأقوى فيكون
سلطان العالم، قال الأستاذ: عندي أمل أن همم الفلاسفة واجتهادهم في تقرير
مبادئ الحق يحول دون ذلك، فقال الفيلسوف كلامًا يدل على يأسه من ذلك، وقد
كتب الأستاذ في مذكرته بعد الإشارة إلى هذه المذاكرة ما نصه:
(ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف (الحق للقوة) إلخ؟ جاءت منه مصحوبة
بشعاع الدليل، فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، لو جاءت من ثرثار غيره كانت
تأتي مقتولة ببرد التقليد، فكانت (تكون) جيفة تعافها النفس فلا تحرك إلا
اشمئزازًا وغثيانًا.
هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان،
وتوفير راحته، وتغزير نعمته (أعجزهم) أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها
على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من
الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة
الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟ حار الفيلسوف
في حال أوربا، وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء؟ الرجوع إلى الدين إلخ،
الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية، وعرفها إلى أربابها في كل زمان؛ لكنهم
يعودون فيجهلونها) . اهـ.
الظاهر أن الأستاذ كان يريد أن يتوسع في هذا الموضوع كما يشير إلى ذلك
قوله في مذكرته (إلخ) ولعله كان ينتظر فرصة مناسبة للمقام سواء كانت عملية
كهذه الحرب، أو قولية كمقال ينشر في الصحف في تفضيل المدنية المادية على
المدنية الدينية؛ فيكتب مقالاً يبيِّن فيه الحق ويزيل فيه الالتباس مُؤيَّدًا بالحكمة
الصحيحة وشواهد التاريخ، وقد بيَّنا شيئًا من المقابلة بينها وبين المدنية الإسلامية
في المقالة التي أشرنا إليها آنفًا.
إن أصحاب النظر والاستقلال من هؤلاء العشاق للمدنية المادية - وقليل ما
هم - كانوا يغرقون في حسن الظن بالمدنية المادية وبأهلها إغراقًا بعثهم على الجزم
بأن فكرة الحرب قد قضي عليها في أوربة قضاء مبرمًا، فلن تُوقد لها هنالك نار،
وكانوا يقولون: إن وجد من الملوك والرؤساء من يسعى لها سعيها، ويحاول أن
يقدح لها زندها؛ فإن شعبه هو الذي يضرب على يده، ويفت في عضده، وقد كنا
نخالف هؤلاء في الرأي، ومنهم من هو أعلم منا بحال القوم؛ ولكن رأيهم في ذلك
خالف رأي من هو أعلم منا ومنهم بحال أوربة وفلسفتها، ألا وهو شيخ فلاسفتها
الأكبر، هربرت سبنسر.
كان أولئك المحسنون للظن، من ذوي الاستقلال في الرأي، لا ينكرون
كالمقلدين سيئات هذه المدنية المادية؛ ولكنهم يقولون إنها إذا قيست بسيئات المدنية
الدينية كانت أقل منها وأخف ضررًا، ونحن نخالفهم في هذا أيضًا، ونقول ما كل
سيئات المدنية القديمة صادرة عن الدين والفلسفة الروحية، وما كل حسنات المدنية
الحديثة صادرة عن الإلحاد والفلسفة المادية، ولا تضاد بين العلوم والأعمال المادية،
وبين العقائد والأعمال الدينية، وإنما نعني بالمدنية المادية المذمومة ما كان مبنيًّا
على جحود حياة بعد هذه الحياة الدنيا، وحصر ثمرات أعمال البشر في التمتع
باللذات الدنيوية من طعام وشراب وفراش وزينة ورياسة، وإنما نعني بالمدنية
الدينية ما كان مبنيًّا على أن للإنسان حياتين يجب عليه أن يأخذ حظه من أولاهما
الدنيا بالمعروف، ويستعد فيها للأخرى بالعمل الصالح، على حد قوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ
إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: 77) فإن
أصول الدين التي دعا إليها الرسل هي الثلاثة المنصوصة في قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) .
من البديهي أن من لم يكن له حظ من وجوده، إلا التمتع بلذات الدنيا وزينتها
لا يكون له هم من حياته إلا تحصيل المال والجاه الموصل إليها بحق أو بغير حق،
وأن الحق يكون عنده تابعًا للقوة دون العكس، فإن وجد في أهل هذه المدنية المادية
من يعترف بحق لضعيف؛ فإما يعترف به لمنفعة يراعيها، أو لمفسدة يتقيها، ولو
تنازع أقوياء هؤلاء على الضعفاء، لما سلم ضعيف من الإيذاء، وقد كان من
المصالح جعل بعض الدول الصغيرة في أوربة حاجزًا بين الكبيرة المتعادية منها،
وتعاهدوا على أن تكون حرمًا آمنًا لا يُجْنَى عليها؛ ولكنهم لم يَرْعَوْا هذه العهود
ولا غيرها عند حاجتهم إلى نقضها في هذه الحرب، والدين لا يبيح ذلك، قال
تعالى في العهود بين المسلمين والمشركين: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ
يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَّقِينَ} (التوبة: 4) ، وقال في المؤمنين الذين لم يهاجروا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال: 72) .
__________
(1) من الشواهد على هذا ما في مقالة (آراء الأميركيين في الحرب) المنشورة في جزء يناير سنة 1915 من المقتطف، وأوضح منه مقالة لكاتب قصصي إنكليزي كتبها لصديق له فرنسي، ونُشرت في المقطم.(18/746)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الألقاب
بحث لغوي تاريخي في الألقاب الرسمية وغير الرسمية
منقول من الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الثالثة من الجزء الخامس
من كتاب صُبح الأعشى، وللكلام فيه طرفان، قال:
الطرف الأول
في أصول الألقاب وفيه جملتان
الجملة الأولى
في معنى اللقب والنعت، وما يجوز منه ويمتنع
أما اللقب فأصله في اللغة النبز، بفتح الباء، قال ابن حاجب النعمان في
(ذخيرة الكتاب) : والنبز ما يخاطب به الرجلُ الرجلَ من ذكر عيوبه، وما سَتْرُهُ
عنده أحب إليه من كشفه، وليس من باب الشتم والقذف.
***
وأما النعت فأصله في اللغة الصفة، يقال: نعته ينعته نعتًا إذا وصفه، قال
في (ذخيرة الكتاب) : وهو متفق على أنه ما يختاره الرجل ويؤثره ويزيد في
إجلاله ونباهته، بخلاف اللقب، قال: لكن العامة استعملت اللقب في موضع النعت
الحسن، وأوقعوه موقعه لكثرة استعمالهم إياه، حتى وقع الاتفاق والاصطلاح على
استعماله في التشريف والإجلال والتعظيم والزيادة في النباهة والتكرمة.
قلت: والتحقيق في ذلك أن اللقب والنعت يُستعملان في المدح والذم جميعًا
فمن الألقاب والنعوت ما هو صفة مدح، ومنها ما هو صفة ذم، وقد عرَّفت النحاة
اللقب بأنه ما أدى إلى مدح أو ذم، فالمؤدي إلى المدح كأمير المؤمنين، وزين
العابدين، والمؤدي إلى الذم كأنف الناقة وسعيد كرز، وما أشبه ذلك، والنعت تارة
يكون صفة مدح، وتارة يكون صفة ذم، ولا شك أن المراد هنا من اللقب والنعت
ما أدى إلى المدح دون الذم، وقد اصطلح الكُتاب على أن سموا صفات المدح التي
يوردونها في صدور المكاتبات ونحوها بصيغة الإفراد كالأمير والأميري، والآجل
والآجلي، والكبير والكبري، ونحو ذلك ألقابًا، وصفات المدح التي يوردونها على
صورة التركيب، كسيف أمير المؤمنين، وظهير الملوك والسلاطين، ونحو ذلك
نعوتًا، ولا معنى لتخصيص كل واحد منهما بالاسم الذي سموه به إلا مجرد
الاصطلاح، ولا نزاع في إطلاق اللقب والنعت عليهما باعتبارين: فمن حيث إنها
صفات مؤدية إلى المدح يطلق عليها اسم اللقب، ومن حيث إنها صفات لذوات
قائمة بها يطلق عليها اسم النعت.
***
وأما ما يجوز من ذلك ويمتنع، فالجائز منه ما أدى إلى المدح مما يحبه
صاحبه ويؤثره، بل ربما استحب، كما صرح به النووي في (الأذكار) للإطباق
على استعماله قديمًا وحديثًا، والممتنع منه ما أدى إلى الذم والنقيصة مما يكرهه
الإنسان، ولا يحب نسبته إليه، قال النووي: وهو حرام بالاتفاق، سواء كان صفة
له، كالأعمش، والأجلح، والأعمى، والأحول، والأبرص، والأشج، والأصفر،
والأحدب، والأصم، والأزرق، والأشتر، والأثرم، والأقطع، والزمِن،
والمُقْعَد، والأشل، وما أشبه ذلك، أو كان صفة لأبيه: كابن الأعمى، أو لأمه:
كابن الصوراء ونحو ذلك مما يكرهه قال تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ
الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} (الحجرات: 11) قال: واتفقوا على جواز ذكره بذلك على
جهة التعريف لمن لا يعرفه إلا بذلك، ودلائل ذكره كثيرة مشهورة، وهو أحد
المواضع التي تجوز فيها الغيبة.
***
الجملة الثانية
في أصل وضع الألقاب والنعوت المؤدية إلى المدح
واعلم أن ألقاب المدح ونعوته لم تزل واقعة على أشرف الناس، وجلة الخلق
في القديم والحديث، فقد ثبت تلقيب إبراهيم عليه السلام بـ (الخليل) ، وتلقيب
موسى عليه السلام بـ (الكليم) ، وتلقيب عيسى عليه السلام بـ (المسيح) ،
وتلقيب يونس عليه السلام بـ (ذي النون) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُلقب
قبل البعثة بـ (الأمين) ووردت التواريخ بذكر ألقاب جماعة من العرب في
الجاهلية: كذي يزن، وذي المنار، وذي نواس، وذي رعين، وذي جدن،
وغيرهم مما هو مشهور شائع، وكذلك وقعت ألقاب المدح على كثير من عظماء
الإسلام وأشرافه كالصحابة رضوان الله عليهم، فمن بعدهم من الخلفاء والوزراء
وغيرهم، فكان لقب أبي بكر (عتيقًا) ثم لُقِّب بـ (الصدِّيق) بعد ذلك، ولُقِّب
عمر (الفاروق) ، ولُقِّب عثمان (ذا النورين) ، ولُقِّب علي (حيدرة) ، ولُقِّب
حمزة بن عبد المطلب (أسد الله) ، ولُقِّب خالد بن الوليد (سيف الله) ، ولُقِّب
عمرو بن عمرو [1] (ذا اليدين) ، ولُقِّب مالك بن التيهان الأنصاري (ذا السيفين) ،
ولُقِّب خزيمة بن ثابت الأنصاري (ذا الشهادتين) ، ولُقِّب جعفر بن أبي طالب بعد
استشهاده (ذا الجناحين) .
وأما الخلفاء، فخلفاء بني أمية لم يتلقب أحد منهم، فلما صارت الخلافة إلى
بني العباس، وأخذت البيعة لإبراهيم بن محمد لقب بـ (الإمام) ، ثم تلقب من
بعده من خلفائهم، فتلقب محمد بن علي بـ (السفاح) لكثرة ما سفح من دماء بني
أمية، واختلف في لقبه بالخلافة، فقيل (القائم) ، وقيل (المهتدي) ، وقيل
(المرتضي) ، وألقاب الخلفاء بعده وإلى زماننا معروفة مشهورة على ما مر ذكره في
المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى.
ثم تعدت ألقاب الخلافة إلى كثير من ملوك الغرب بعد ذلك، وتلا الخلفاء في
الألقاب الوزراء، لاستقبال الدولة العباسية وما بعد ذلك، فلُقِّب أبو سلمة الخلال
(وزير السفاح) بـ (وزير آل محمد) ، ولقَّب المهدي وزيره يعقوب بن داود بن
طهمان (الأخ في الله) ولَقَّب المأمون الفضل بن سهل حين استوزره (ذا الكفايتين) ،
ولَقَّب أخاه الحسن بن سهل (ذا الرياستين) ولَقَّب المعتمد على الله وزيره صاعد
بن مخلد (ذا الوزارتين) إشارة إلى وزارة المتعمد والموفق، وكان لقب إسماعيل
بن بلبل الشكور (الناصر لدين الله) كألقاب الخلفاء.
وكذلك وقع التلقيب لجماعة من أرباب السيوف وقواد الجيوش، فتلقب أبو
مسلم الخراساني صاحب الدعوة بـ (أمير آل محمد) ، وقيل (سيف آل محمد) ،
وتلقب أبو الطيب بن الحسين بـ (ذي اليمنين) ، ولقب المعتصم بالله حيدر بن
كاووس بـ (الأفشين) لأنه أشروسني، والأفشين لقب على الملك بأشروسنة، ولقب
إسحاق بن كيداح أيام المعتمد بـ (ذي السيفين) ولقب مؤنس في أيام المقتدر
بـ (المظفر) ، ولقب سلامة أخو نجح أيام القاهر بـ (المؤتمن) ، ولقب أبو بكر
بن محمد طغج الراضي بالله [2] بـ (الإخشيد) والإخشيد لقب على الملك بفرغانة.
ثم وقع التلقيب بالإضافة إلى الدولة في أيام المكتفي بالله، فلقب المكتفي أبا
الحسين بن القاسم بن عبد الله [3] (ولي الدولة) وهو أول من لُقِّب بالإضافة إلى
الدولة، ولقب المقتدر بالله علي بن أبي الحسين [3] المتقدم ذكره (عميد الدولة) .
ووافت الدولة البويهية أيام المطيع لله والأمر جار على التلقيب بالإضافة
للدول، فافتتحت ألقاب الملوك بالإضافة إلى الدولة، فكان أول من لقب بذلك من
الملوك بنو بويه الثلاثة: فلقب أبو الحسن علي بن بويه بـ (عماد الدولة) ، ولقب
أخوه أبو علي الحسن بـ (ركن الدولة) ، وأخوهما أبو الحسين بـ (معز الدولة)
ثم وافى [عضد الدولة] من بعده فاقترح أن يلقب بـ (تاج الدولة) فلم يجب إليه
وعدل به إلى (عضد الدولة) فلما بذل نفسه للمعاونة على الأتراك، اختار له أبو
إسحاق الصابي صاحب ديوان الإنشاء (تاج الملة) مضافًا إلى عضد الدولة، فكان
يقال (عضد الدولة وتاج الملة) ولقب أبو محمد الحسن بن حمدان أيام المتقي لله
(ناصر الدولة) ، ولقب أخوه أبو الحسن علي بن حمدان (سيف الدولة) .
وبقي الأمر على التلقيب بالإضافة إلى الدولة إلي أيام القادر بالله فافتتح
التلقيب بالإضافة إلى الدين، وكان أول من لقب بالإضافة إليه أبو نصر بهاء الدولة
ابن عضد الدولة بن بويه، زيد على لقبه بهاء الدولة (نظام الدين) فكان يقال (بهاء
الدولة ونظام الدين) قال ابن حاجب النعمان: ثم تزايد التلقيب به وأفرط، حتى
دخل فيه الكتاب والجند والأعراب والأكراد، وسائر من طلب وأراد، وكره (؟)
حتى صار لقبًا على الأصل، ولا شك أنه في زماننا قد خرج عن الحد حتى تعاطاه
أهل الأسواق ومن في معناهم، ولم تصر به ميزة لكبير على صغير، حتى قال
قائلهم.
طلع الدين مستغيثًا إلى الله وقال: العباد قد ظلموني يتسمون بي، وحقك لا
أعرف منهم شخصًا ولا يعرفوني!
أما الديار المصرية فكان جريهم في الألقاب على ما ينتهي إليهم خبره من
ألقاب الدولة العباسية ببغداد، فتلقب خلفاء الفاطميين بها بنحو ألقاب خلفاء بني
العباس ببغداد فكان لقب أول خلفائهم بها (المعز لدين الله) ، وثانيهم بها (العزيز
بالله) وعلى ذلك إلى أن كان آخرهم (العاضد لدين الله) على ما تقدم في المقالة
الثانية في الكلام على ملوك الديار المصرية.
وتلقب وزراؤهم وكتابهم بالإضافة إلى الدولة، وممن لقب بذلك في دولتهم
(ولي الدولة) ابن أبي كدينة وزير المستنصر، وأيضًا (ولي الدولة) ابن خيران
كاتب الإنشاء المشهور، ولما صارت الوزارة لبدر الجمالي تلقب بـ (أمير
الجيوش) ، ثم تلقب الوزراء بعده بنحو (الأفضل) و (المأمون) ، ثم تلقبوا
بالملك الفلاني، كـ (الملك الأفضل) و (الملك الصالح) ، ونحو ذلك على ما
سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وكان الكتاب في أواخر الدولة الفاطمية إلى أثناء الدولة الأيوبية يلقبون بـ
(الفاضل والرشيد والعماد) وما أشبه ذلك. ثم دخلوا في عموم التلقيب بالإضافة إلى
الدين، واختص التلقيب بالإضافة إلى الدولة كولي الدولة بكتاب النصارى، والأمر
على ذلك إلى الآن.
***
الطرف الثاني
في بيان معاني الألقاب وفيه تسع جمل
الجملة الأولى في الألقاب الخاصة بأرباب الوظائف المعتبرة التي بها انتظام
أمور المملكة وقوامها، وهي قسمان (القسم الأول) الألقاب الإسلامية، وهي
نوعان:
(النوع الأول) الألقاب القديمة المتداولة الحكم إلى زماننا، هي صنفان:
الصنف الأول
ألقاب أرباب السيوف، وهي سبعة ألقاب
الأول - الخليفة: وهو لقب على الزعيم الأعظم القائم بأمور الأمة، وقد
اُختلف في معناه، فقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، وقتيل
بمعنى مقتول ويكون المعنى أنه يخلفه من بعده، وعليه مثل قوله تعالى: {إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) على قول من قال: إن آدم عليه السلام
أول من عمر الأرض، وخلفه بنوه من بعده، وقيل: فعيل بمعنى فاعل، ويكون
المراد أن يخلف من بعده [4] وعليه حمل الآية من قال إنه كان قبله في الأرض الجن
وإنه خلفهم فيها، واختاره النحاس في (صناعة الكتاب) وعليه اقتصر البغوي في
(شرح السنة) ، والماوردي في (الأحكام السلطانية) قال النحاس وعليه خوطب أبو
بكر الصديق رضي الله عنه بخليفة رسول الله.
وقد أجازوا أن يقال في الخليفة: خليفة رسول الله، لأنه خلفه في أمته،
واختلفوا هل يجوز أن يقال فيه خليفة الله؟ فجوز بعضهم ذلك لقيامه بحقوقه في
خلقه محتجين بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام:
165) وامتنع جمهور الفقهاء من ذلك محتجين بأنه إنما يُستخلف من يغيب أو
يموت، والله تعالى باقٍ موجود إلى الأبد لا يغيب ولا يموت، ويؤيد ما نقل عن
الجمهور بما روي أنه قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال لست
بخليفة الله؛ ولكني خليفة رسول الله، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا خليفة
الله - فقال: ويلك! لقد تناولت متناولاً بعيدًا! إن أمي سمتني عمر، فلو دعوتني
بهذا الاسم قبلت، ثم كبرت فكنيت أبا حفص، فلو دعوتني به قبلت، ثم وليتموني
أموركم فسميتموني أمير المؤمنين، فلو دعوتني به كفاك، وخص البغوي جواز
إطلاق ذلك بآدم وداود عليهما السلام، محتجًّا بقوله تعالى في حق آدم: {إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) ، وقوله في حق داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: 26) ، ثم قال ولا يسمى أحد خليفة الله
بعدهما، قال في (شرح السنة) ويسمى خليفة، وإن كان مخالفًا لسيرة أئمة العدل.
ثم قد كره جماعة من الفقهاء منهم أحمد بن حنبل إطلاق اسم الخليفة على ما
بعد خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما حكاه النحاس وغيره، محتجين
بحديث (الخلافة بعدي ثلاثون) يعني ثلاثين سنة، وكان انقضاء الثلاثين بانقضاء
خلافة الحسن، ولما انقضت الخلافة صارت ملكًا قال المعافى بن إسماعيل في
تفسيره: وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل طلحة، والزبير،
وكعبًا، وسلمان عن الفرق بن الخليفة والملك، فقال طلحة والزبير: لا ندري فقال
سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة
الرجل على أهله، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله تعالى، فقال كعب:
ما كنت أحسب أن في هذا المجلس من يفرق بين الخليفة والملك، ولكن الله ألهم
سلمان حكمًا وعلمًا.
واختلف في الهاء في آخره، فقيل: أدخلت فيه للمبالغة كما أدخلت في رجل
داهية وراوية وعلامة ونسابة وهو قول الفرَّاء، واستحسنه النحاس ناقلاً له عن
أكثر النحويين، وخطأه علي بن سليمان محتجًّا بأنه لو كان كذلك لكان التأنيث فيه
حقيقيًّا، وقيل: الهاء فيه لتأنيث الصيغة، قال النحاس: وربما أسقطوا الهاء منه
وأضافوه فقالوا (فلان خليف فلان) يعنون خليفته.
ثم الأصل فيه التذكير نظرًا للمعنى؛ لأن المراد بالخليفة رجل وهو مذكر،
فيقال أمر الخليفة بكذا على التذكير، وأجاز الكوفيون فيه التأنيث على لفظ خليفة
فيقال أمرت الخليفة بكذا، وأنشد الفراء: أبوك خليفة ولدته أخرى
ومنعه البصريون محتجين بأنه لو جاز ذلك لجاز (قالت طلحة) في رجل
اسمه طلحة، وهو ممتنع فإن ظهر اسم الخليفة تعين التذكير باتفاق، فتقول قال أبو
جعفر الخليفة، أو: قال الراضي الخليفة ونحو ذلك، ويجمع على خلفاء ككريم
وكرماء , عليه ورد قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: 69) وعلى خلائف كصحيفة وصحائف، وعليه جاء قوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض} (الأنعام: 165) والنسبة إليه خلفي كما ينسب
إلي حنيفة حنفي، وقول العامة درهم خليفتي ونحوه خطأ، إذ قاعدة النسب أن
يحذف من المنسوب إليه الياء وهاء التأنيث على ما هو مقرر في علم النحو، وممن
وهم في ذلك المقر الشهابي بن فضل الله رحمه الله في كتاب (التعريف) حيث قال:
وأول ما نبدأ بالمكاتبة إلى الأبواب الشريفة الخليفتية، ولعله سَبْق قلم منه، وإلا
فالمسألة أظهر من أن يجهلها أو تخفى عليه.
الثاني - الملك: وهو الزعيم الأعظم ممن لم يطلق عليه اسم الخلافة، وقد
نطق القرآن بذكره في غير موضع كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طَالُوتَ مَلِكاً} (البقرة: 247) ، {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} (يوسف: 50)
إلى غير ذلك من الآيات، ويقال فيه ملك بكسر اللام، وملك بإسكانها ومليك بزيادة
ياء، ومنه قوله تعالى: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) قال الجوهري:
والملك مقصور من مالك أو مليك، ويجمع على ملوك وأملاك، ويقال لموضع
الملك المملكة.
الثالث - السلطان: وهو اسم خاص في العرف العام بالملوك، ويقال: إن
أول من لقب به خالد بن برمك وزير الرشيد، لقبه به الرشيد تعظيمًا له، ثم انقطع
التلقيب به إلى أيام بني بويه فتلقب به ملوكهم، فمن بعدهم من الملوك السلاجقة
وغيرهم وهلم جرّا إلى زماننا.
وأصله في اللغة الحجة قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ} (سبأ:
21) يعني من حجة، وسمي السلطان بذلك لأنه حجة على الرعية يجب عليهم
الانقياد إليه.
واختلف في اشتقاقه: فقيل إنه مشتق من السلاطة، وهي القهر والغلبة، لقهره
الرعية وانقيادهم له، وقيل مشتق من السليط، وهو الشيرج في لغة أهل اليمن لأنه
يستضاء به في خلاص الحقوق، وقيل من قولهم لسان سليط أي حاد ماضٍ لمضي
أمره ونفوذه، وقال محمد بن يزيد البصري السلطان جمع واحده سليط كقفيز
وقفزان، وبعير وبعران.
وحكى صاحب (ذخيرة الكتاب) أنه يكون واحدًا ويكون جمعًا، ثم هو يذكر
على معنى الرجل، ويؤنث على معنى الحجة، وحكى الكسائي والفراء على
التأنيث عن بعض العرب: قضت به عليكم السلطان قال العسكري في كتابه
(الفروق) في اللغة: والفرق بينه وبين الملك أن الملك يختص بالزعيم الأعظم،
والسلطان يطلق عليه وعلى غيره، وعلى ما ذكره العسكري عرف الفقهاء في كتبهم،
إذ يطلقونه على الحاكم من حيث هو حتى على القاضي، فيقولون فيمن ليس لها
ولي خاص يزوجها السلطان ونحو ذلك، ومن حيث إن السلطان أعم من الملك يقدم
عليه في قولهم السلطان الملك الفلاني، ليقع السلطان أولاً على الملك وعلى غيره،
ثم يخرج غير الملك بعد ذلك بذكر الملك.
الرابع - الوزير: وهو المتحدث للملك في أمر مملكته، واختلف في اشتقاقه:
فقيل مشتق من الوَزَر بفتح الواو والزاي وهو الملجأ، ومنه قوله تعالى: {كَلاَّ
لاَ وَزَرَ} (القيامة: 11) سمي بذلك لأن الرعية يلجئون إليه في حوائجهم، وقيل
مشتق من الأوزار وهي الأمتعة، ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ
القَوْمِ} (طه: 87) سمي بذلك لأنه متقلد بخزائن الملك وأمتعته، وقيل مشتق من
الوِزْر بكسر الواو وإسكان الزاي وهو الثقل، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ
الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) سمي بذلك لأنه يتحمل أثقال الملك، وقيل مشتق
من الأزر: وهو الظهر، سمي بذلك لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر،
وتكون الواو فيه على هذا التقدير منقلبة عن همزة، وقد أوضحت القول في ذلك في
(النفحات النشرية في الوزارة البدرية) قال القضاعي في (عيون المعارف في
أخبار الخلائف) وأول من لقب بالوزارة في الإسلام أبو سلمة حفص بن سلمان
الخلال وزير السفاح، قال وإنما كانوا قبل يقولون كاتب، ثم هو إما وزير تفويض:
وهو الذي يفوض الإمام إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، كما
كانت الوزراء بالديار المصرية من لدن وزارة بدر الجمالي وإلى حين انقراضها،
وإما وزير تنفيذ: وهو الذي يكون وسيطًا بين الإمام والرعايا معتمدًا على رأي
الإمام وتدبيره، وهذه هي التي كان أهل الدولة الفاطمية يعبرون عنها بالوساطة،
أما الوزارة في زماننا فقد تقاصرت عن ذلك كله حتى لم يبق منها إلا الاسم دون
الرسم، ولم تزل الوزارة في الدول تتردد بين أرباب السيوف والأقلام تارة وتارة إلا
أنها في زماننا في أرباب الأقلام.
الخامس - الأمير: وهو زعيم الجيش أو الناحية، ونحو ذلك ممن يوليه
الإمام، وأصله في اللغة ذو الأمر، وهو فعيل بمعنى فاعل، فيكون أمير بمعنى
آمر، سمي بذلك لامتثال قومه أمره، يقال: أُمِّر فلان، إذا صار أميرًا، والمصدر
الإمرة والإمارة بالكسر فيهما، والتأمير تولية الأمير، وهي وظيفة قديمة.
السادس - الحاجب: وهو في أصل الوضع عبارة عمن يبلغ الأخبار من
الرعية إلى الإمام، ويأخذ لهم الأذن منه، وهي وظيفة قديمة الوضع كانت لابتداء
الخلافة فقد ذكر القضاعي في (عيون المعارف) لكل خليفة حاجبًا من ابتداء الأمر
وإلى زمانه: فذكر أنه كان حاجب أبي بكر الصديق رضي الله عنه (شديدًا) مولاه،
وحاجب عمر (يرفأ) مولاه، وحاجب عثمان حمران مولاه، وحاجب علي
قنبرا مولاه، وعلى ذلك في كل خليفة، ما عدا الحسن بن علي رضي الله عنهما
فإنه لم يذكر له حاجبًا، وسمي الحاجب بذلك؛ لأنه يحجب الخليفة أو الملك عمن
يدخل إليه بغير إذن، وقال زياد لحاجبه (وَلَّيْتُكَ حجابي وعزلتك عن أربع: هذا
المنادي إلى الله في الصلاة والفلاح فلا تعوجنه عني ولا سلطان لك عليه، وطارق
الليل فلا تحجبه فشَرٌّ ما جاء به ولو كان خيرًا ما جاء في تلك الساعة، ورسول
الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة، فأدخله علي وإن كنت في لحافي،
وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد) .
ثم تصرف الناس في هذا اللقب ووضعوه في غير موضعه، حتى كان في
أعقاب خلافة بني أمية بـ الأندلس ربما أطلق على من قام مقام الخليفة في الأمر،
وكانوا في الدولة الفاطمية بالديار المصرية يعبرون عنه بصاحب الباب كما سبق بيانه
في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب دولتهم، أما في زماننا فإنه عبارة عمن يقف
بين يدي السلطان ونحوه في المواكب، ليبلغ ضرورات الرعية إليه، ويركب
أمامه بعصا في يده، ويتصدى لفصل المظالم بين المتداعيين خصوصًا فيما لا
تسوغ الدعوى فيه من الأمور الديوانية ونحوها، وله ببلاد المغرب والأندلس
أوضاع تخصه في القديم والحديث، على ما سيأتي ذكره في الكلام على مكاتباتهم
في المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى.
السابع - صاحب الشُرطة: بضم الشين المعجمة وإسكان الراء، وهو المعبر
عنه في زماننا بالوالي، وتجمع الشرطة على شُرَط بضم الشين المعجمة وفتح الراء،
وفي اشتقاقه قولان: أحدهما أنه مشتق من الشَرَط بفتح الشين والراء، وهي
العلامة، لأنهم يجعلون لأنفسهم علامات يُعرفون بها، ومنه أشراط الساعة يعني
علاماتها، وقيل من الشرط بالفتح أيضًا: وهو رُذَال المال، لأنهم يتحدثون في
أراذل الناس وسفلتهم ممن لا مال له من اللصوص ونحوهم.
__________
(1) في كتب اللغة والحديث أن اسمه الخرباق فلعل فيه خلافًا.
(2) معنى طغج عبد الرحمن كما في ابن خلكان.
(3) لم يذكر في الضوء لفظ الأب في المحلين.
(4) كذا في الضوء أيضًا وفي نسخة أخرى، وإلا ظهر من قبله.(18/753)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلاميةللدكتور محمد توفيق صدقي
(12)
الهيضة أو الكوليرا
cholera
داء وبيل، سريع الانتشار، وأوبئته تفتك بالأمم فتكًا ذريعًا، وكلمة كوليرا
من كلمة يونانية معناها المِرّة (وهي إفراز الكبدالمعروف الآن بالصفراء) لأن القيء
والبراز يشتملان في أول الأمر على الصفراء، ويسمى هذا المرض باللغة العربية
(الهيضة) ويسميه المتأخرون من العرب (الهواء الأصفر) لأنهم توهموا أنه ينشأ
من تغير في الجو أو الهواء.
ومنبع هذا الداء بلاد الهند بآسية ولذلك يسمى بالهيضة الآسيوية، ومنها انتشر
في أقطار المسكونة، وقد دخل مصر عدة مرات.
الأسباب:
لهذا المرض ميكروب خاص يشبه الضمة اكتشفه (كوخ) سنة 1883، وهو
لا يصيب عادة غير الإنسان، وطول هذا الميكروب (ميكرون) واحد أو اثنان،
وقد يجتمع منه اثنان فأكثر فيتألف منهما حلزون، وهو متحرك وله هدب واحد
غالبًا في أحد طرفيه، ولا حبيبات له وإنما يتوالد بالانقسام.
يوجد هذا الميكروب في براز المصابين، وقد يوجد أحيانًا في القيء أيضًا ولا
يوجد في الدم، ولا في الأعضاء، ولا الأنسجة، وقد يستمر خروجه مع البراز
حتى بعد الشفاء بمدة، وهو يسكن في الأمعاء وأغشيتها المخاطية، وبعد الوفاة قد
يوجد في جميع أجزاء الجسم لأنه ينفذ من الأمعاء إليها.
يعيش هذا الميكروب في الهواء وفي غيره، والجفاف التام يقتله، وقد يعيش
في الطين الرطب إلى 68 يومًا، وفي ماء الشرب عدة أشهر، وفي البراز عدة
أسابيع.
وحامض العصير المعدي يقتله، ولكن هذا العصير لا يفرز إلا مع وجود
الطعام فإذا شرب الإنسان ماء على الجوع خيف عليه العدوى لعدم وجود هذا
الحامض حينئذ؛ فيصل الميكروب إلى الأمعاء، وأمراض الجهاز الهضمي أو
اضطراباته تهيئ المرء لقبول العدوى به.
ولا يميز هذا الداء بين الذكر والأنثى، ويصيب الناس في جميع الأعمار.
والفاقة والضعف والإدمان على الخمر مما يهيئ له، وكذلك الإفراط في الطعام
الكثير، ويكثر انتشاره في فصلي الخريف والصيف، ولكن البرد يوقف سيره.
والإصابة به مرة تحمي غالبًا من الإصابة به ثانية.
ولا يصل هذا الداء إلى الإنسان بطريق القناة الهضمية فهو في ذلك كالحمى
التيفودية سواء بسواء، ومما ينقله إلى الطعام أو الشراب الذباب والنمل وغيرهما.
الأعراض:
مدة التفريخ هي يومان عادة أو ثلاثة أيام، وقد تكون أكثر من ذلك أو أقل.
وقد يسبق جميع الأعراض إسهال، أو يصاب المرء بخمول وصداع ودوار
وطنين وغير ذلك، وتستمر هذه الحالة يومًا أو اثنين أو ثلاثة، ثم يشتد الإسهال
دفعة واحدة، وتزول الصفراء من البراز؛ فيصير لونه كحساء الأرز (أي مرق
الأرز المغلي) وتسمع في بطن المصاب قراقر كثيرة قلما يكون معها ألم، وبعد
الإسهال بساعة أو أكثر يبتدئ القيء؛ فلا يبقى في المعدة شيء ويصير لونه كلون
البراز، أي كحساء الأرز أيضًا، ويشتد العطش ويجف اللسان ويبيض، ويتألم
المريض من جس معدته، ويصاب بتقلص مؤلم جدًّا في عضلات الساقين والقدمين
أو الأيدي والجذع (أي باقي الجسم) ، ثم يصاب المرء بالهمود (الهبوط) فيبرد
الجسم ويزرق، وتغور العينان، ويبرد النفس، وتنخفض الحرارة، ويسرع
النبض، ويضعف جدًّا، ولا يقدر المريض على الكلام، ويزول الإسهال غالبًا،
ولكن القيء يستمر، ويقل إفراز البول أو ينقطع مطلقًا لشدة ضعف الدورة الدموية
ولنقص مائية الجسم بالقيء والإسهال، وكثيرًا ما يموت المصاب في هذا الطور.
فإذا جاوزه ترتفع الحرارة تدريجيًّا، ويعود لون الجلد إلى أصله، وترتفع
العينان بعد الغؤور، ويتحسن النبض، ويفرز البول ويزول الخطر شيئًا فشيئًا،
حتى يشفى المريض.
المضاعفات والعواقب:
كثيرة منها: الالتهاب الرئوي أو البليوراوي، وموت بعض الأجزاء
(غنغرينا) وسقوطها كالصفن والقضيب أو الأنف، وظلمة القرنية وتقرحها.
الإنذار:
تختلف الوفيات من 40 - 60 (في المائة) ، والمرض شديد الخطر على
الصغار والشيوخ، ومن كان ضعيف البنية أو سكيرًا.
المعالجة:
عند ظهور أعراض المرض الأولى تُعطى الأدوية القابضة، وأحسنها الأفيون
فإذا اشتد الإسهال والقيء وألم الساقين حُقن المريض بالمورفين [1] تحت الجلد
وأُعطي قطعًا صغيرة من الثلج لمصها.
أما في طور الهبوط فيُعطى المنعشات المنبهات، وما يملأ العروق مما سبق
ذكره في باب النزف (صفحة 55 من الجزء الأول) إما حقنًا تحت الجلد، أو في
الشرج، أو في الأوردة، وإما شربًا، ويُدفأ تدفئة جيدة بزجاجات الماء الساخن
والأغطية الثقيلة، وبالدلك للأطراف.
وقد وجد الماجور (ليونارد روجس Rogers Leonard) أن الحقن بمحلول
ملحي في الأوردة، وإعطاء البرمنجنات من الفم قد قلل الوفيات إلى 23 في المئة،
وفائدة هذا الحقن أن يزيل الهمود ويقوي القلب، ويعوض الجسم ما فقده من الأملاح،
وأما البرمنجنات فيظن أنها تؤكسد سموم ميكروب الكوليرا، وبذلك تبطل عملها
وتركيب هذا المحلول الملحي هو 120 قمحة من ملح الطعام، و6 قمحات من
كلوريد البوتاسيوم، و4 قمحات من كلوريد الكلسيوم، تذاب كلها في نصف لتر من
الماء العقيم، ثم يحقن منها نحو لترين في أحد أوردة الذارع (أعني عرق الباسليق
الأوسط وهو الأكحل بالعربية) وتكفي عادة حقنة واحدة، فإذا عاد الهمود عدنا
بأخرى، ولكن إذا كان الهمود قليلاً فالأولى الحقن تحت الجلد، وتكون حرارة
الحقنة أعلى بقليل من حرارة الجسم الطبيعية.
أما طريقة إعطاء البرمنجنات فهي أن يشرب المريض مقادير قليلة من
محلول برمنجات الكالسيوم بنسبة نصف قمحة في كل 500 جرام ماء، وتزاد هذه
النسبة تدريجًا إلى 4 أو 6 قمحات.
الوقاية:
خير من العلاج، وتكون بأمور:
(1) عزل المرضى، وتطهير مواد قيئهم وبرازهم وسائر ما يستعملونه من
ملبس وآنية وفراش إلخ، وإلقاء تلك المواد حيث نأمن تلويثها لأي شيء آخر.
(2) غسل الأيدي قبل مس أي طعام، وتطهير جميع ما يأكله الأصحاء،
أو يشربونه، أو يستعملونه في ذلك كله من أواني وغيرها بالغلي وخصوصًا ماء
الشرب؛ فيجب غليه دائمًا، ويجب تجنب التخم وكل ما يفسد الهضم.
(3) إبادة الذباب والنمل ومنعهما من الوصول إلى مفرزات المرضى، ثم
إلى طعام الأصحاء وشرابهم.
(4) عدم أكل شيء غير مطبوخ في زمن الوباء.
(5) عدم الإذن للناقهين بالاختلاط بغيرهم إلا بعد خلو مفرزاتهم من
الميكروب بأن يعلم ذلك بالبحث البكتيريولوجي الدقيق، وبعد ذلك يستحمون وتغلى
ملابسهم، ويلبسون غيرها جديدًا، وكذلك يبحث عن (الحملة الأصحاء) وهم
الذين خالطوا بعض المرضى فوصل الميكروب إلى أمعائهم، ولم يصابوا بالمرض،
فهؤلاء يُعزلون وتطهر مفرزاتهم حتى تخلو من الميكروب.
(6) أن تدفن الموتى بعيدًا جدًّا عن الأماكن المسكونة بشرط أن لا يتلوث
بجثثهم ماء الشرب أو غيره، ويغتسل (المغسِّل) ويطهر يديه بالمحاليل المطهرة،
وكذلك تطهر ملابسه بالغلي.
هذا ويرى بعض أئمة الدين وجوب الغسل بعد تغسيل الميت لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ)
ولعل المراد بالوضوء هنا غسل اليدين كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
(الوضوء قبل الطعام حسنة، وبعد الطعام حسنتان) وهذا كله مما يوافق قواعد
الصحة كل الموافقة، ومثل (المغسِّل) كل من قام بدفن الميت أو بتمريضه قبل
الوفاة فيجب عليه غسل يديه خصوصًا قبل أكله.
(7) يعمل التلقيح الواقي لمن شاء بميكروبات الكوليرا حسب طريقة
هافكين (haffkine) فيحقن أولاً سنتيمتر مكعب، وبعد أربعة أيام أو خمسة يحقن
غيره أقوى منه، ويصاب الإنسان بعد الحقن بصداع وحمى وانحطاط مدة ثلاثة أيام
أو أربعة عقب كل حقنة منهما، وما قيل في عيب الحقن الواقي من التيفود يقال
مثله هنا أيضًا.
***
الكُزاز - التيتانوس
tetanus
التيتانوس كلمة يونانية معناها التشنج أو التقلص، وهو اسم داء يسمى
بالعربية (الكزاز) .
ينشأ هذا الداء من باسيل مخصوص يوجد في الطين وغيره كأوساخ الحدائق
والإسطبلات، طوله 4 أو 5 ميكرونات، وثخنه 4. من الميكرون وله أهداب،
غير أنه قليل الحركة، ولا ينمو في جو فيه أثر من الأكسجين الخالص، ويتكون
في داخله حبيبات عند أحد طرفيه، وهي كروية الشكل، وأغلظ منه حتى شبه
العلماء هذا الميكروب عند تكون الحبيبة بمطرقة الطبل.
الأسباب:
يصيب هذا المرض الإنسان في جميع الأعمار حتى الأطفال الرضع عقب
ولادتهم بقليل، وهو كثير في البلاد الحارة، والجنس الأسود أو الأسمر أكثر
عُرضة له من غيرهما، وأهم سبب لدخول الميكروب في الجسم إنما هو الجرح أو
السحج صغيرًا كان أو كبيرًا حتى لو كان كوخز الإبرة.
أما إصابة الأطفال الرضع به فسببها الغالب قذارة ما يقطع به الحبل السري،
أو تعرض السرة لشيء قذر.
وقد يصيب بعض الناس بدون أن تُشاهد في أجسامهم إصابة، ولعل السبب
في ذلك دخول الميكروب من سحج بسيط جدًّا لم يلتفت إليه أحد، أو دخوله من
بعض الأغشية المخاطية، فقد شاهد بعض الباحثين حبيباته في رجيع الإنسان،
وفي رجيع الأنعام والخيل وغيرها، والإنسان والخيل أكثر الحيوانات إصابة به.
وإذا دخل الميكروب من الجرح عاش حيث دخل مدة قصيرة ومات بعد بضعة
أيام، وهو لا ينتشر في البنية البتة، وغاية ما يمكنه الوصول إليه هو بعض الغدد
اللمفاوية القريبة من الجرح، وجميع الأعراض إنما تنشأ من امتصاص سمومه
وحبيبات هذا الميكروب تعيش عدة سنين ولو جفت، وتقاوم درجة 80 سنتجراد
مدة ساعة، ولكن درجة الغليان تقتلها بعد خمسة دقائق وحامض الفنيك بنسبة
1 / 20 لا يهلك هذه الحبيبات في أقل من 15 ساعة؛ ولذلك يجب تطهير الآلات
الجراحية بالغلي مدة طويلة حتى يُؤمن شره، فقد شوهد كثرة الإصابة بهذا الداء بعد
عمل الخزام أو عقب الحقن تحت الجلد أو في العضلات خصوصًا بمادة الكينين
لتأثير هذه المادة في كريات الدم البيضاء، وإعاقتها عن قتل هذا الميكروب؛ فيجد
بيئة صالحة لنموه، لا سيما وأن الأكسجين الخالص غير موجود في تلك البيئة.
وسكان جزائر سليمان في المحيط الأعظم في الشمال الشرقي من أسترالية قد
عرفوا شيئًا من هذه الحقائق؛ فلذلك يصنعون سهامًا ويغمسون طرفها في مادة لزجة،
ثم يلوثونها بقذارة المستنقعات ويجففونها فتوجد فيها بذور هذا الميكروب اللعين؛
فإذا أصابت شخصًا كانت السبب في موته غالبًا.
الأعراض:
بعد دخول هذا الميكروب في الجرح ببضعة أيام يشعر المريض بيبس في قفاه،
وفي فكيه بحيث يتعسر عليه المضغ، أو أن يفتح فاه، وقد تستمر الحال يومًا أو
يومين، وقد ينتقل إلى الطور الثاني بأسرع من ذلك، فتيبس عضلات الجذع يبسًا
شديدًا، وتيبس عضلات الأطراف يبسًا قليلاً، ثم يشتد تيبس الظهر وانقباض
عضلاته حتى يتقوس، ويكون تقعيره إلى الخلف، وتيبس كذلك عضلات البطن
والصدر حتى يتعسر التنفس وعضلات الأطراف السفلى، وأما الأطراف العليا
فيكون تيبسها حول الكتفين والمرفقين وتبقى حركة الأصابع ميسورة، وفي هذا
الوقت يشتد تقلص الفكين، حتى لا يمكن فتحهما إلا بشق الأنفس، ومع ذلك لا
يمكن الفصل بينهما بأكثر من ¼ بوصة، وتتقلص كذلك عضلات الوجه حتى ينشأ
من تقلصها ما يشبه الضحك، ويسمى هذا الضحك المؤلم عند الأطباء (ضحك
سردينية) وهي تلك الجزيرة المشهورة في البحر الأبيض المتوسط لوجود عشب
سام فيها يُذْهِب العقل، ويحدث تشنجًا في عضلات الفم يشبه الضحك.
فإذا وصل المرض إلى هذا الحد صار المريض عُرضة لاشتداد تقلص
العضلات كلما مسه أي شيء، ولو أطراف الأصابع، أو كلما هز سريره، ومدة
اشتداد هذا التقلص لحظات يتعسر عدها بالثواني وفيها يخشى عليه من الاختناق،
والفترات بين هذه النوب تكون من نصف ساعة إلى ساعة أو أكثر، وكلما طال
المرض نقصت وازدادت شدة التقلصات، ويكون المريض في تلك الفترات متألمًا
جدًّا من انقباض عضلاته، ويكون تنفسه عسيرًا، وصوته ضعيفًا، ونبضه صغيرًا
سريعًا، ولكن حرارته تكون عادة طبيعية غير أنها قد ترتفع ارتفاعًا فاحشًا قبيل
الوفاة، وتستمر في الارتفاع حتى بعد الوفاة فتصل إلى أكثر من 43 درجة ويحتبس
البول أيضًا، ويكون إحساس المريض طول مدة المرض على أتمه، وكذلك عقله
إلا قُبيل الوفاة فقد يعتريه الهذيان، وأكثر إصابات الكزاز (التيتانوس) تنتهي
بالوفاة بعد يوم أو 12 يومًا , وسبب الموت إما نهاكة قوى المريض أو اختناقه
لتشنج عضلات التنفس أو الحنجرة أو طروء بعض المضاعفات عليه كالالتهاب
الرئوي أو الشعبي، وقد تطول الحياة إلى 3 أو 4 أسابيع، وقد يشفى المريض.
الإنذار:
عدد الوفيات في الأحوال ذوات الجرح نحو 90%، وفي الأحوال التي لم
يُشاهد فيها جرح نحو من 50%، والكزاز من الأمراض القتالة جدًّا خصوصًا عقب
الإجهاض أو الوضع، وكلما كان الجرح شديدًا أو متسعًا كان الأمل في الحياة
ضعيفًا جدًّا.
المعالجة:
يوضع المريض في الفراش في مكان مظلم لا حركة فيه ولا صوت، ويغذى
بالسوائل، وإن اضطررنا إلى تغذيته بأنبوبة من أنفه أو بالحقن الشرجية،
والأحسن أن تدخل الأنبوبة من بين أسنانه إذا كان بعضها مفقودًا، ومن الأطباء من
يقلع بعضها من أجل ذلك؛ ولكنه عمل غير محمود.
ومن الواجب تنظيف الجرح قبل كل شيء، وتطهيره طهارة تامة لكي نقتل
أو نزيل بقدر الإمكان تلك الميكروبات منه؛ ولكن مما يوجب الأسف أن ظهور
الأعراض دليل كافٍ على أن السم قد وصل إلى المراكز العصبية واتحد بها.
وتُعطى المسكنات بمقادير كبيرة، ومن أحسنها بروميد البوتاسيوم، والأفيون
أو المورفين، ومن الأطباء من ينشق المريض الكلوروفورم مرة أو مرتين في اليوم
لتخديره حتى ترتخي عضلات الفكين، وحينئذ يمكن تغذيته.
وللكزاز مصل يستخرج بطريقة استخراج مصل الدفثيريا، وتجب المبادرة
بحقنه بمقادير كبيرة جدًّا، فيحقن منه 10 آلاف إلى 20 ألف وحدة في الأوردة أو
10 آلاف إلى 50 ألف تحت الجلد، ويتكرر الحقن يوميًّا حتى تتحسن الحالة،
ومن الناس من يحقن هذا المصل في النخاع، أو في المخ بإحداث ثقب في عظام
الجمجمة يسمى عند الجراحين بالتربنة (TREPHINING) ؛ ولكنه عمل عسير
مشكوك في نفعه.
والسبب في عسر شفاء هذا المرض أن سم الميكروب يسري في الأعصاب
المحركة، ويلتصق بالمراكز العصبية التصاقًا شديدًا بحيث يتعذر إزالته منها بعد
تمكنه، زد على هذا أن بعضه يدور في الدم، ويصل معه إلى المراكز العصبية
أيضًا.
الوقاية:
عقب إصابة أي شخص بأي جرح يجب تنظيفه جيدًا، ثم تطهيره بكل
الوسائل الممكنة، وإذا ظن أن الجرح تلوث بشيء قذر مما يحتمل وجود الميكروب
فيه وجبت المبادرة إلى الحقن قبل أن تبتدئ الأعراض؛ فيحقن 1500 وحدة تحت
الجلد؛ ولذلك بادرت الحكومة الإنكليزية باتباع هذه القاعدة مع جنودها، فترى
الأطباء الإنكليز يحقنون كل جريح اشتبه في جرحه في أقرب وقت ممكن في ميدان
القتال.
وتطهير الجرح بالكي عقب حدوثه مباشرة كما تفعل العرب عمل محمود.
***
الحمرة
اسم لداء يسمى باللغات الإفرنجية (Erysipelas) ، وهو لفظ يوناني معناه
الحرفي (الجلد الأحمر) ، ويسمي الإنكليز هذا المرض أيضًا بنار القديس
أنطونيوس (anthony) لتوهم عامتهم أنه قادر على شفائها، وهو من الأمراض
المعدية الشديدة، وينشأ من ميكروب من الشكل المسمى (البروز السلسلية)
(streptococcus erysipelatis) .
الأسباب:
أعظم الأسباب المهيئة لهذا المرض وجود أي جرح بالجسم يدخل منه هذا
الميكروب الخبيث مهما صغر الجرح، وفي أحوال قليلة جدًّا يحدث هذا المرض
بدون جرح ظاهر، ولكن إذا دقق في البحث فلا بد من وجود أي منفذ إلى الجسم
ولو سحج بسيط جدًّا، أو دمل صغير، أو خدش كخدش الدبوس، والعدوى لا تنتقل
إلا إلى المسافات القصيرة.
وهو يصيب الأطفال الرضع والكبار فوق الأربعين أكثر من غيرهم؛ ولكنه
لا يميز بين الذكر والأنثى.
ومما يجعل الشخص أكثر تعرضًا له من غيره إدمان الخمر، وأمراض الكبد
والكلى المزمنة، والضعف، أو الفاقة، وكذلك البرد، والرطوبة، وكثرة الازدحام
خصوصًا إذا كان المكان رديء الهواء أو قذرًا، ومن الأسباب أيضًا استعداد
مخصوص في الشخص نجهل حقيقته؛ فإن هذا المرض كثيرًا ما يعاود شخصًا عدة
مرات، فالوقاية منه لا تطول مدتها.
أما ميكروبه هذا البزري فهو عديم الحركة، وقطر كل بزرة نحو ميكرون
واحد، ويحصل الانقسام فيه في جهة واحدة فقط؛ ولذلك تتكون منه السلاسل
المذكورة، وهو يموت إذا بلغت الحرارة 53ْ إلى 55ْ سنتجراد وعرض لها 10
دقائق.
الأعراض:
في الأحوال التي يتعسر فيها مشاهدة الجرح أو السحج نرى أن هذا المرض
يصيب الوجه على الأكثر؛ ولذلك كان وصفنا الآتي قاصرًا على وصف هذا العضو
إذا أصيب به.
ومدة التفريخ أيام معدودة، فهي في أكثر الأحوال من 3 إلى 6، وإن كانت
تطول في بعضها، ويبتدئ المرض عادة بقشعريرة أو رعدة وصداع وغثيان
ويبيض اللسان، ويحس المريض بآلام عامة في جسمه، وبعد بضع ساعات تظهر
على الوجه بقعة حمراء مؤلمة خصوصًا حيث يلتقي الجلد بالغشاء المخاطي كفتحة
الفم أو الأذن أو الأنف، ثم تكبر هذه البقعة وترم ويشتد احمرارها وألمها، وإذا
ضغط عليها انبعجت، ثم يمتد الورم بسرعة متفاوتة؛ فترى أن السطح العالي
الأحمر كأنه يسير في باقي الجلد، وفي بضعة أيام قد يتغطى الوجه كله فتراه
منتفخًا جدًّا، وكذلك الجفون حتى تتدلى، وترم الأذنان والشَّواة (فروة الرأس)
وتتكون غالبًا فقاعات أو نفاخات ممتلئة بسائل مصلي صديدي على الخدين أو
الجفون، وقد تنفجر؛ فتزيد المصاب تشويهًا حتى تتعذر معرفته، وتضخم الغدد
اللمفاوية القريبة من المكان الملتهب وتكون مؤلمة، ويقال إنها تلتهب حتى قبل
ظهور التهاب الجلد.
وتكون الحمى عالية جدًّا حتى تزيد عن الأربعين في اليوم الثالث والرابع،
وفي السادس تميل للانخفاض فجأة ما لم يستمر التهاب الجلد، أو يظهر التهاب
جديد، فهي تابعة لحالة الالتهاب، وتكون الحمى مصحوبة بباقي أعراضها
المعروفة.
وهذا الالتهاب يمتد أيضًا إلى الأغشية المخاطية كأغشية الحلق أو اللوزتين
وأحيانًا إلى أغشية الحنجرة حتى يتعسر التنفس والازدراد، ويعتري المريض
الهذيان، وقد تطرأ عليه الغيبوبة، وبينما نرى الالتهاب يمتد في جهة قد نشاهده
يشفى حيث ابتدأ.
وسبب الموت نهاكة القوى مع الهذيان والغيبوبة خصوصًا في الشيوخ ومدمني
الخمر وغيرهم ممن ذكرنا من قبل.
وإذا شفي المريض تقشرت البشرة مكان الالتهاب، ويستمر التقشير بضعة
أيام، وكثيرًا ما نشاهد سقوط شعر الشواة.
المضاعفات والعواقب:
منها: الخراجات وموت الجلد، وسقوطه، وضخامة الغدد اللمفاوية أو
تقيحها في النادر والاختناق من تورم الحنجرة والالتهاب الرئوي أو البليوراوي في
بعض الأحوال، وكذلك الالتهاب السحائي.
ويقال إن امتداد هذا المرض في الجلد تابع لسير الأوعية اللمفاوية، ويقف
الالتهاب في الغالب حيث يلتصق الجلد التصاقًا شديدًا بالأنسجة التي تحته كما
يحصل في الأربية عن رباط (بوبارت Poupart)
وإنذار هذا المرض في أكثر الأحوال حميد، ولكن يختلف خطره باختلاف امتداد الالتهاب، وهو قاتل غالبًا للشيوخ والسكيرين وغيرهم ممن ذكرنا.
المعالجة:
المبدأ العام في معالجة هذا المرض هو استعمال المنعشات والمقويات للمريض،
فيعطى كثيرًا من اللبن والمرق وغيرهما من السوائل المغذية، وبعض المنعشات
كالخمر إذا لم يوجد ما يغني المسلم عنها والنوشادر والأثير والإستركنين وغيره،
وصبغة فوق كلوريد الحديد نافعة جدًّا في هذا المرض حتى كانوا يعدونها شفاء
قطعيًّا له، فيعطى منها من 30 40 نقطة للشبان والكهول كل 3 أو 4 ساعات، وقد
وصل بعضهم أيضًا باستعمال الكنيين، وظهرت حسنة من استعمال المصل المضاد
لبروز هذا المرض (SERUM ANTI-STREPTOCVVUS) فيحقن منه
تحت الجلد مرة أو مرتين يوميًّا 15 أو 20 سنتيمترًا مكعبًا، وهذا المصل يستخرج
من الحصان بطريقة تشبه استخراج مصل الدفثيريا، غير أنها تختلف عنها في أنه
في مصل الدفثيريا يحقن الحصان بسم الميكروب؛ ولكن هنا يحقن الحصان بنفس
الميكروب حيًّا؛ لأن ميكروب الدفثيريا يفرز سُمًّا في السائل الذي يُربى فيه، وأما
ميكروب هذا المرض فسمه كامن في جسمه، فإذا حقن السائل الذي يربى فيه لا
يفيد، وطريقة ذلك أن يُقوى ميكروب الحمرة بحقنه في عدة أرانب فيكون ما حقن
في الأخير أقوى مما حقن في الأول، ويزرع من كل منها جزء من الميكروب؛
فتكون قوته متفاوتة، ثم يحقن الحصان بأضعف الميكروبات سُمًّا، ونترقى منه
تدريجًا إلى أقواه، وفي نهاية سنة الحقن يؤخذ مصل هذا الحصان فيكون فيه سم
قاتل لميكروب الحمرة، فإذا حقن المريض به أفاده فائدة عظيمة.
وإذا اشتدت الحمى كان استعمال الماء البارد أو الفاتر نافعًا فيها أيضًا،
وعلاج مكان الحمرة نفسه قليل الجدوى، وغاية ما يعمل له أن يدهن ببعض
المراهم أو نحوها كمرهم البوريك، وإذا اشتد توتر الجلد جاز تشريطه قليلاً.
***
النزلة الوافدة الأنفليونزا
(INFLUENZA)
الأنفليونزا اسم إيطالي أو لاتيني لمرض كانوا يظنون أنه من تأثير الكواكب
في الإنسان؛ فلذا سموه بهذا الاسم الذي معناه (التأثير) ويسمي الأطباء المحدثون
من العرب هذا المرض بالنزلة الوافدة.
الأسباب:
هذا المرض كثيرًا ما ينتشر في البلاد بشكل وبائي سريع خصوصًا إذا كانت
القرى مزدحمة؛ فيصاب به في وقت واحد مئات من الناس.
وميكروب هذا المرض من النوع الباسيلي (المستطيل) اكتشفه (بفيفر
PFEIFFER) في سنة 1892م، وهو يوجد في بصاق المصابين وأنوفهم، وقل
أن يوجد في دمهم، وهو أدق الميكروبات وأصغرها حجمًا فإن طوله 0.5 إلى 1.5
ميكرون، وهو ساكن لا حركة له ولا حبيبات، ولا يعيش إلا في الأكسجين، وكثيرًا
ما يصاحبه ميكروبات أخرى في هذا المرض، وإذا شفي المريض زالت منه
الميكروبات بسرعة فلا يعدي بعد النقاهة كالدفثيريا مثلاً، وهو ينتقل من شخص إلى
آخر إذا اقترب منه بحيث يصل إليه بعض إفرازات الأنف أو الفم، والاستعداد لهذا
المرض يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يعاوده مرارًا، ومنهم من لا يمسهم مرة
واحدة في حياتهم.
وكثير من الناس يطلقون اسم (أنفليونزا) على كل النزلات التي تعقب البرد
كالزكام أو السعال، ولكنه خطأ.
الأعراض:
مدة التفريخ ساعات معدودة، ويبتدئ هذا المرض فجأة بألم شديد في الجبهة،
ومؤخر العينين، وألم في عضلات القطن والفخذين، وقل أن تحدث فيه رعدة،
والحرارة ترتفع في ساعات قليلة إلى 39ْ أو 40ْ، وتكون مصحوبة بباقي أعراض
الحمى، ويلتهب الحلق واللوزتان وتصير رائحة النفس كريهة، وقد يكثر العرق
ولكن الغالب أن يكون الجلد جافًّا، وتضعف قوى المريض، ويشتد به الأرق والتألم،
وقد يقتصر المرض على هذه الأعراض، وتزول الحرارة فجأة بعد يوم أو يومين
غير أن آلام الأطراف تستمر بعدها مدة وكذلك الضعف، وقد تطول مدة الحمى
بضعة أيام، أو ينكس المريض، ومن الناس من يصابون فوق ذلك بالنزلات
الشعبية أو الرئوية، ومنهم وهم الأقل من يصابون باضطراب في الجهاز الهضمي
فيعتريهم مغص وقيء وإسهال وأحيانًا اليرقان، ومنهم أيضًا من يصابون في
جهازهم العصبي؛ فيعتريهم النعاس في أول الأمر والهذيان، ثم يزول عنهم النوم،
ويحل محله الأرق، وتشتد عندهم الآلام العصبية والعضلية.
وقد يحصل في المرض طفح في الجلد.
وإنذار هذا المرض في الغالب حميد.
والعلاج:
كعلاج باقي الحميات سواء بسواء.
أما الزكام والسعال العاديان:
فينشآن غالبًا من ميكروب آخر من الشكل البزري يسمى (البزور الصغيرة
النزلية) (micrococcus catarrhalis) وهو يوجد كثيرًا في الأنف والحلق في
إصابات البرد، وفي البصاق بعد السعال الناشئ من النزلات الشعبية، وقد يوجد
في الأشخاص الأصحاء، ويوجد أيضًا في الأطفال إذا أصيبوا بالنزلات الشعبية
الرئوية.
***
الحمى المخية الشوكية
أو الالتهاب السحائي الوبائي
هذا المرض عُرف أولاً في (جنيفا geneva) سنة 1805 ومنذ سنة 1860
صار منتشرًا في الولايات المتحدة، وألمانية وغيرهما، وهو كثيرًا ما يُشاهد أيضًا
في مصر خصوصًا في الأماكن التي يكثر فيها الازدحام كالسجون والمعاهد العلمية.
ينشأ هذا المرض من (بزور مزدوجة diploccus) تسمى البزور السحائية
(menigococci) تُشاهد في الكريات البيضاء التي توجد في السائل المستخرج
من النخاع في هذا المرض، وقد توجد هذه البزور أيضًا خارج الكريات في السائل
نفسه، وأحيانًا في دم المصاب، وفي مفاصله إذا التهبت وكذلك في الرئتين إذا
التهبتا، وفي الأنف والحلقوم والأذن الوسطى، وهذا الميكروب اُكتشف سنة 1887
هو يشبه ميكروب السيلان، ولا ينمو إلا بوجود الأكسجين، ولا في حرارة أقل من
25ْ سنتجراد.
الأسباب:
يدخل هذا الميكروب من الحلقوم سواء أوصل إليه من الفم أو من الأنف،
ويوجد في حلقوم المرضى والناقهين كذلك، وفي حلقوم بعض الأصحاء المخالطين
للمريض، وهو يصيب الصغار أكثر من غيرهم، حتى أن 80% من المصابين
منهم تجد أن عمرهم أقل من 16سنة، و5% فقط فوق 25 سنة، ولا يميز بين
الذكور والإناث، وهذا المرض كثير الحصول في أزمنة البرد؛ لأن الناس في تلك
الأزمنة يضطرون إلى السكنى في أماكن محتبسة الهواء؛ فيفسد وترتفع حرارته
وتكثر رطوبته؛ وبذلك يصير بيئة صالحة لنمو هذا الميكروب الخبيث، وإن كان
البرد الشديد يقتله؛ ولذلك لم يعرف هذا المرض بين سكان المنطقة القطبية؛ ولهذا
الهواء الفاسد تأثير سيئ في بنية المستنشقين له، وهو يجذب بسخونته الدم من
الأحشاء إلى ظاهر الجلد، وذلك أيضًا مما يضعف البنية ويعوق الأعضاء عن
إتمام وظائفها، فكأن الهواء الفاسد السُّخْن سبب للعدوى من وجهتين:
(1) كونه بيئة صالحة لنمو الميكروب.
و (2) كونه مضعفًا للبنية عن مقاومته، مفسدًا للصحة، ولولا ذلك لما
كثر انتشار المرض في أزمنة الشتاء.
ومن أمثلة المشاهدات العجيبة في العدوى بهذا المرض أن الأشخاص الذين
يكونون في جهة معينة من المريض يصابون به، بينما غيرهم في الجهة الأخرى لا
يصابون، وما ذلك إلا لكون الهواء يهب على المريض من تلك الجهة التي فيها
السليمون فيمر عليهم أولا، ثم على المريض ويحمل ذرات فيها الميكروب من نفسه
أثناء الكلام أو السعال ونحوهما إلى الذين في الجهة الأخرى.
وقد وجد أن نحوًا من 40% ممن يخالطون المريض قد يصيرون من (الحملة
الأصحاء)
الأعراض:
في أحوال قليلة يتقدم المرض أعراض بسيطة كالصداع والغثيان، ولكن في
أكثر الأحوال يبتدئ هذا المرض فجأة بألم شديد في الدماغ، ورعدة أحيانًا؛
فيضطر المريض في الحال لملازمة الفراش، وترتفع الحرارة بسرعة حتى تصل
إلى 40ْ، ويشتد الصداع خصوصًا في مؤخر الرأس، وتيبس عضلات القفا حتى
يتعسر على المريض الانحناء إلى الإمام، ويبقى شاخصًا ببصره إلى السماء،
وكذلك يقعنسس المصاب، أي يتقوس الظهر، ويكون تقعيره إلى الخلف وتتشنج
الأيدي والأرجل، وتكثر الآلام في الظهر والأطراف، ويكون الجلد حساسًا
وقد يرتخي الجفنان أو أحدهما لشلل فيهما، وربما يشعر المريض بألم في أذنه
وطنين أو صمم، ويقل شمه، ويعتريه النعاس فالهذيان فالغيبوبة، وقد يصاب
بنوبات تشبه الصرع فيتخبط كما يتخبط المصروع، وفي كثير من الأحوال يظهر
على وجهه ما يسمى بالنملة (Herpes) وهي فقاعات صغيرة ممتلئة بسائل،
وتلتهب المفاصل أحيانًا وقد تتقيح، ويتقعر البطن حتى يصير كالزورق، ويعظم
الطحال ويكثر البول، وقد يوجد فيه زلال قليل أو أثر من السكر، وإذا رُفع فخذ
المريض - وهو ملقى على ظهره - بحيث يكون مع جسمه زاوية قائمة تعذر مد
الساق حتى تكون مع الفخذ على خط مستقيم، وهذه العلامة - وتسمى علامة
(كرنج Kernig) - من أهم ما يعرف به الالتهاب السحائي، وإذا مررت بإصبعك
على جسم المريض ظهر خط أحمر حيث مرت الإصبع، ويستمر نحو خمس دقائق
أو أكثر، ويسمى هذا الخط بالفرنسية (Tache Cerébrale) ومعناه (البقعة
المخية) وهي من أهم علامات الالتهاب السحائي أيضًا، وتنشأ من شلل في أوعية
الدم.
وهذا المرض خطر جدًّا على الحياة، وكثيرًا ما يموت به المصابون، بل
منهم من يموت في بضع ساعات أو بضعة أيام، وعدد الوفيات يختلف من 30 إلى
70%.
ويوجد نوع آخر منه يصيب الأطفال الرضع فيقتلهم غالبًا.
وإذا شُفي المريض منه قام غالبًا بصمم أو عمى أو استسقاء في الدماغ، مع
صداع وتشنجات وضعف شديد في العقل أو الجسم أو شلل بعض الأعضاء، وإذا
أصاب الصمم الأذنين قبل أن يتعلم الطفل الكلام بقي طول حياته أبكم أصم.
وقليل من الناس من يشفى منه ولا يصيبه شيء.
الصفة التشريحية:
إذا شُرِّحَت الجثة بعد الوفاة من هذا المرض يُشاهد التهاب حاد في الأم الحنون
للمخ والنخاع الشوكي، فترى الصديد والمواد اللمفاوية متراكمة على سطح المخ في
شقوقه (أي ما بين التلافيف) ، ويكون السطح الخلفي للنخاع ملتهبًا أكثر من
السطح الأمامي، وخصوصًا القسم القَطَني منه، وفي بطينات المخ يُشاهد مصل
عكر أو صديد، وفي القشرة السنجابية نقط نزفية أو بثور.
وترى الرئتين والكبد والطحال والكُليتين جميعًا محتقنة، مع استحالة شحمية
في خلايا الكلية واستحالة حبيبية في ألياف العضلات الاختيارية، وقد نرى أيضًا
نقطًا نزفية في الشغاف والبليورا وأحيانًا تقيحًا في المفاصل.
وكل هذه التغيرات المرضية التي تُشاهد في الأحشاء ما عدا المخ والنخاع هي
تابعة لالتهاب السحايا، وليست من أصل المرض؛ وإنما تنشأ من سموم الميكروب،
ومن شدة ارتفاع الحرارة ونحو ذلك.
المعالجة:
أحسن علاج لهذا الداء استعمال المصل الخاص به؛ فيصفى جزء من السائل
الذي في النخاع بالبزل القطني، ويستعاض عنه بحقن 30 سنتيمترًا مكعبًا كل يوم
أو كل يومين بحسب شدة المرض.
والبزل القطني وحده نافع في هذا المرض لتخفيف الضغط على المراكز
العصبية بسحب بعض المواد الالتهابية، ولإزالة بعض سموم المرض.
وباقي علاج هذا المرض كعلاج سائر الحميات، ومن النافع فيه أيضًا
استعمال مركبات الزئبق ويودور البوتاسيوم في بعض الأحوال.
الوقاية:
عزل المريض كما تقدم في الحميات، وتطهير كل إفرازاته، واتقاء القرب
منه.
والسكنَى في الأماكن النقية الهواء ذات النوافذ الكثيرة من أحسن ما يتقى به
هذا الداء؛ فلذا يجب تهوية الأماكن المسكونة ليلاً ونهارًا، صيفًا وشتاء، ولا
يتوهم أحد أن الهواء المطلق الذي نرغب فيه هو مما يسمونه (بتيار الهواء)
ويقولون إنه يجب اتقاؤه، بل التيار الضار يكون بتعريض جزء من الجسم لهواء
يغاير باقي الهواء المحيط بالجسم في سرعته، وفي درجة حرارته، كالجلوس أمام
إحدى النوافذ من بيت دافئ مع تعريض جزء من البدن لهواء النافذة البارد، وأما
خروج الإنسان إلى الأماكن الطلقة الهواء كالفلوات والبحار والمكث فيها زمنًا ما؛
فإنه لا يضر الصحيح البنية خصوصًا إذا كان جسمه مدفأ جيدًا بالملابس الكثيرة
الجافة؛ ولكن إذا ابتلت هذه الملابس بالعرق أو بالماء خيف على المرء من ضرر
البرد بالمكث في الهواء البارد.
***
الجُذام
Leprosy
مرض شهير منذ العصور الغابرة، سمي بذلك في العربية؛ لأنه يبتر
بعض الأعضاء، وهو من الأمراض المزمنة المتعذرة الشفاء، ينشأ من
ميكروب من الشكل الباسيلي اكتشفه (هانسن Hansen) سنة 1879م يشبه
ميكروب الدرن من عدة وجوه، وحقن هذا الميكروب في الحيوانات لم ينجح في
إحداث المرض فيها ما عدا القردة؛ فإنها تصاب بإصابة موضوعية وقتية،
ويوجد الميكروب في دم المجذوم، وفي الجلد والأغشية المخاطية والأعصاب
والغدد اللمفاوية والحنجرة والكبد والطحال والخصيتين والكُليتين، ونادرًا في
الرئتين، ولا يوجد في العظام ولا المفاصل ولا العضلات.
الأسباب:
هذا المرض قليل الوجود في أوربة ماعدا بلاد النرويج ويوجد في كثير من
البلدان الأفريقية والآسيوية والأمريكية وكثير من جزائر المحيط الهادئ، وهو
يصيب الذكور أكثر من الإناث، والصغار قبل سن الثلاثين أكثر من غيرهم، ومن
النادر جدًّا أن يصيب الأطفال، وللوراثة بعض التأثير في إحداثه.
يدخل ميكروب هذا الداء إلى الجسم من منفذ أو أكثر من المنافذ الآتية: الأنف،
أو أعلى الجهاز التنفسي، أو الفم، أو اللوزتين، أو سحجات الجلد، أو الجهاز
التناسلي.
ومن العلماء من يرى أن بعض الحشرات تنقل هذا المرض من شخص إلى
آخر فقد وجد ميكروبه في البعوض (الناموس) والبق، ولم يُشاهد ميكروبه في
الأرض، ولا في الهواء [2] ، ولا في الطعام، ولا في الشراب.
ويرى بعض العلماء أن الإفراط في أكل السمك خصوصًا الفاسد مما يهيئ
الجسم لقبول هذا الميكروب الخبيث.
ويسكن هذا الميكروب في جميع أجزاء الجسم المصاب، حيث توجد أنسجة
مريضة به، ويخرج من جسم المجذوم في مخاطه ودموعه ولعابه ولبنه ومنيه
وإفرازات الإحليل والمهبل، وفي البرازيل يخرج أيضًا مع خلايا البشرة التي
تنفصل بالتدريج من الجلد، هذا فضلا عن خروجه بالضرورة مع ما ينسكب من
قروح المريض.
ولكن أهم الأشياء التي يوجد فيها الميكروب هو إفراز الأنف؛ فإنه يوجد فيه
بكثرة عند أقل بحث فيه.
الأعراض:
يبدأ هذا المرض بتوعك عام مع حمى خفيفة، وتكسر في الجسم، ثم تظهر
بقع حمراء في الجلد قطرها يبلغ من نصف بوصة إلى ثلاث أو أربع بوصات
منتفخة قليلاً ومستديرة أو غير منتظمة، وقد يتكون من هذه البقع الحمراء حلقات
وذلك بشفاء الجلد الذي في وسطها، وتزول هذه البقع الحمراء أيضًا إذا زالت
الحمى، وكثيرًا ما تترك خلفها آثارًا ملونة أو بيضاء، وقد تعود الحمى وتظهر هذه
البقع آنًا بعد آن، وبعد ذلك تنقسم أعراض المرض إلى قسمين: فيصاب المريض
إما بالجذام الدرني، أو بالجذام الخدَري، وقد يجتمع فيه النوعان.
أما في الجذام الدرني فتظهر في الجلد درنات مرتفعة حجمها قدر حبة الحمص
أو البندق أو أكبر - تظهر أثناء ظهور البقع الحمراء أو بعدها بقليل، وهذه الدرنات
قد تمكث زمنًا طويلاً، وقد تزول تاركة خلفها بقعًا ملونة، وكثيرًا ما تتآكل؛
فيتكون منها قروح يسيل منها صديد (أي سائل رقيق) قليل، وهذه الدرنات تظهر
على الأكثر في الوجه، وفي ظهر اليدين والقدمين وغير ذلك، فتشوه الوجه،
وتغلظ الحواجب والأنف والخدود والآذان، ويكون شكل الوجه كوجه الأسد، ولذلك
يسمى هذا المرض عند المصريين بالأسد أيضًا.
وكثيرًا ما تتقرح الجفون حتى يصل المرض إلى طبقات العين، وإن كان
العصب البصري والشبكية والزجاجية والبلورية كلها تنجو منه عادة، وتصيب
الدرنات أيضًا الأغشية المخاطية للفم والحلق والحنجرة والأنف؛ فيغلظ الصوت أو
يضعف، وهذه القروح قد يزداد تآكلها حتى تصيب الأوتار فتقطعها، والعظام
فتنخرها، والمفاصل فتفتحها، وبذلك تبتر بعض الأجزاء.
أما الجذام الخدري: فتكون إصابة الأعصاب فيه أكثر، وفي أول الداء
يحصل إحساس في بقع كثيرة من الجسم يشبه الإحساس بمشي النمل، ووخز الإبر
يعقبه خدر، ويكون الجلد في البقع المصابة، إما أكمد (باهتًا) ، أو ملونًا ويضعف
الشعر ويزول لونه، ويكون سطح الجلد ناعمًا براقًا، وتضخم الأعصاب حتى
يمكن الإحساس ببعضها بغاية السهولة؛ وذلك لالتهابها بسبب المرض. وبسبب
مرض الأعصاب تضمر العضلات خصوصًا ما بين مشط اليدين والقدمين،
وترتخي الأيدي والأقدام ويكون شكل اليد كبرثن الأسد [3] ، وقد يحصل في هذا
النوع من الجذام قروح فوق المفاصل أيضًا؛ فتبتر الأعضاء خصوصًا أطراف
الأيدي والأقدام، وينجو من هذا البتر السلاميات الأولى للأصابع غالبًا، وكثيرًا ما
تشفى هذه القروح؛ فتبقى اليد بالسلاميات الأولى فقط.
وسير هذا الداء موجب لليأس، ويجعل الشخص المجذوم مكروهًا عند الناس
مخيفًا لهم بمنظره وبعد زمن قد يمتد إلى 15 سنة أو أكثر يموت المصاب
غالبًا بمضاعفات المرض، أو بطروء السل الرئوي، أو التهاب الكُلى، أو
بالدوسنتاريا وغير ذلك.
الإنذار:
هذا المرض لم يعرف أن أحدًا أُصيب به وشفي منه، غاية الأمر أنه قد
تتلطف الأعراض ويقف الداء مدة ما.
المعالجة:
تُعالج الأعراض بالطرق الطبية المعروفة عند الأطباء، وتُعطى للمريض
الأغذية الجيدة السهلة الهضم، ويوضع في مكان نقي الهواء بمعزل عن الناس.
ومما ينفع فيه بعض النفع زيت كبد الحوت، وزيت (حب الشلمغرا
chaulmoogra) وجرعته في اليوم تبتدئ من 20 نقطة إلى درهمين، ويجب
تعاطيه لمدة سنتين على الأقل، وهناك علاجات أخرى كالحقن باللقاح ونحو ذلك؛
ولكنها غير محقق نفعها.
ويجب مدة المرض استعمال المطهرات للقروح وتضميدها جميعًا.
الوقاية:
لما كانت كيفية العدوى بهذا الداء غير معروفة بالضبط وجب عزل المرضى
والاحتراس من كل من يلامسهم أو يوجد معهم، وهذا غاية ما يمكن أن يقال الآن
في أسباب الوقاية من هذا الداء، وفي الحديث (فر من المجذوم فرارك من الأسد) [*]
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو أهم الأصول الفعالة في الأفيون، سمي بذلك من كلمة يونانية معناها (إله الأحلام) لأنه يحدث نومًا مريحًا، وأحلامًا لذيذة.
(2) اللهم إلا ما كان حول المريض مباشرة، فقد توجد فيه ذرات من مخاطه حاملة لهذا الميكروب.
(3) البراثن للسباع بمنزلة الأصابع للناس.
(*) المنار: رواه البخاري من حديث أبي هريرة معلقًا أو موصولاً على طريقة ابن الصلاح ووصله آخرون، وأخرج ابن خزيمة له شاهدًا من حديث عائشة ويؤيد ما في صحيح مسلم من حديث عمر بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف مجذوم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا قد بايعناك فارجع) واختلف العلماء في الجمع والترجيح بين هذه الأحاديث، وما في معناها كحديث أبي هريرة في الصحيحين (لا يوردن ممرض على مصح) (الممرض بصيغة اسم الفاعل صاحب الإبل المريضة بالجرب مثلاً، والمصح صاحب الإبل الصحيحة) وحديث النهي عند دخول أرض فيها الطاعون وبين حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيره (لا عدوى) ، وحديث جابر أن النبي أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: (كل) رواه الترمذي، فبعضهم يرجح العدوى ويؤول ما يعارضها، وبعضهم يعكس ومما قاله هؤلاء أن أبا هريرة رجع عن حديث (لا عدوى) وأنكره كما في البخاري، وبأن الترمذي ذكر الاختلاف في حديث جابر على راويه ورجح وقفه على عمر، وأقرب ما قالوه إلى الطب والعقل قول البيهقي، وغيره إن العدوى المنفية ما كانت تعتقده الجاهلية لا العدوى التي تحصل بالأسباب بقدر الله تعالى، وقول ابن قتيبة ومن وافقه: إن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، حكاهما الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، وذكر أن جمهور الفقهاء أثبتوا الخيار لكل من الزوجين في فسخ النكاح إذا وُجد الجذام في الآخر.(18/763)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
المعرفة بالله تعالى
(2)
فصل
قال: (الدرجة الثانية معرفة الذات مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات،
وهي تثبت بعلم الجمع، وتصفو في ميدان الفناء، وتستكمل بعلم البقاء، وتشارف
عين الجمع) نشرح كلامه ومراده أولاً، ثم نبين ما له وعليه فيه، فكانت هذه
الدرجة عنده أرفع مما قبلها؛ لأن التي قبلها نظر في الصفات وهذه متعلقة بالذات
الجامعة للصفات، وإن كانت الذات لا تخلو عن الصفات فهي قائمة بها، ولا نقول:
إن صفاتها عينها ولا غيرها، لما في لفظ الغير من الإجمال والاشتباه، فإن
الغيرين قد يراد بهما ما جاز افتراقهما ذاتًا أو زمانًا أو مكانًا، وعلى هذا فليست
الصفات مغايرة للذات، ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر؛ فيفترقان
في الوجود الذهني لا في الوجود الخارجي، فالصفات غير الذات بهذا الاعتبار؛
لأنه قد يقع الشعور بالذات حال ما يغفل عن صفاتها فتتجرد عن صفاتها في شعور
العبد لا في نفس الأمر، وقوله (مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات) التفريق
بين الصفات والذات في الوجود مستحيل، وهو ممكن في الشهود بأن يشهد الصفة
ويذهل عن شهود الموصوف، أو يشهد الموصوف ويذهل عن شهود الصفة،
فتجريد الذات أو الصفات إنما يمكن في الذهن فالمعرفة في هذه الدرجة تعلقت
بالذات والصفات جميعًا، فلم يفرق العلم والشهود بينهما، ولا ريب أن ذلك أكمل
من شهود مجرد الصفة أو مجرد الذات، ولا يريد الشيخ أنك تسقط التفريق بين
الذات والصفات في الخارج والعلم بحيث تكون الصفات هي نفس الذات [1] فهذا لا
يقوله الشيخ وإن كان كثير من أرباب الكلام يقولون إن الصفات هي الذات، فليس
مرادهم أن الذات نفسها صفة، فهذا لا يقوله عاقل، وإنما مرادهم أن صفاتها ليست
شيئًا غيرها، فإن أراد هؤلاء أن مفهوم الصفة هو مفهوم الذات فهذا مكابرة، وإن
أرادوا أنه ليس هاهنا أشياء غير الذات انضمت إليها وقامت بها، فهذا حق.
والتحقيق أن صفات الرب جل جلاله داخلة في مسمى اسمه، فليس اسمه الله
والرب والإله أسماء لذات مجردة لا صفة لها البتة، فإن الذات وجودها مستحيل،
وإنما يفرضها الذهن فرض الممتنعات، ثم يحكم عليها، واسم الله سبحانه والرب
والإله اسم لذات لها جميع صفات الكمال ونعوت الجلال، كالعلم والقدرة والحياة
والإرادة والكلام والسمع والبصر والبقاء والقدم وسائر الكمال الذي يستحقه لذاته،
فصفاته داخلة في مسمى اسمه، فتجريد الصفات عن الذات والذات عن الصفات
فرض وخيال ذهني لا حقيقة له، وهي أمر اعتباري لا فائدة فيه، ولا يترتب عليه
معرفة ولا إيمان، ولا هو علم في نفسه، وبهذا أجاب السلف الجهمية لما استدلوا
على خلق القرآن بقوله الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الرعد: 16) فأجابهم
السلف بأن القرآن كلامه، وكلامه صفاته، وصفاته داخلة في مسمى اسمه كعلمه
وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويديه فليس " الله " اسمًا لذات لا نعت لها ولا
صفة ولا فعل ولا وجه ولا يدين، ذلك إله معدوم مفروض في الأذهان، لا وجود
له في الأعيان كإله الجهمية، الذي فرضوه غير خارج عن العالم ولا داخل فيه،
ولا متصل فيه ولا منفصل عنه، ولا محايث له ولا مباين، وكإله الفلاسفة الذي
فرضوه وجودًا مطلقًا لا يتخصص بصفة ولا نعت، ولا له مشيئة ولا قدرة ولا
إرادة ولا كلام، وكإله الاتحادية الذي فرضوه وجودًا ساريًا في الموجدات ظاهرًا
فيها هو عين وجودها، وكإله النصارى الذي فرضوه قد اتخذ صاحبة وولدًا،
وتدرع بناسوت ولده، واتخذ منه حجابًا، فكل هذه الآلهة مما عملته أيدي أفكارها،
وإله العالمين الحق هو الذي دعت إليه الرسل وعرفوه بأسمائه وصفاته وأفعاله فوق
سماواته على عرشه بائن من خلقه، موصوف بكل كمال، منزه عن كل نقص، لا
مثال له ولا شريك ولا ظهير، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) ، غني بذاته عن كل ما
سواه، وكل ما سواه فقير إليه بذاته.
قوله: (وهي تثبت بعلم الجمع، وتصفو في ميدان الفناء) يعني أن هذه
المعرفة الخاصة تثبت بعلم الجمع، ولم يقل (بحال الجمع ولا بعينه ولا مقامه) فإن
علمه أولاً هو سبب ثبوتها، فإن هذه المعرفة لا تنال إلا بالعلم فهو شرط فيها،
وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في الجمع عن قريب، فإذا علم العبد انفراد الرب
سبحانه بالأزل والبقاء والفعل وعجز من سواه عن القدرة على إيجاد ذرة أو جزء
من ذرة، وأنه لا وجود له من نفسه فوجوده ليس له ولا به ولا منه، وتوالي هذا
العلم عن القلب لا يُسقط ذكر غيره سبحانه عن البال والذكر، كما سقط غناه
وربوبيته وملكه وقدرته، فصار الرب سبحانه وحده هو المعبود والمشهود المذكور،
كما كان وحده هو الخالق المالك الغني الموجود بنفسه أزلاً وأبدًا، وأما ما سواه
فوجوده وتوابع وجوده عارية ليست له، وكلما فني العبد عن ذكر غيره وشهوده
صفت هذه المعرفة في قلبه، فلهذا قال (وتصفو في ميدان الفناء) استعار الشيخ
للفناء ميدانًا، وأضافه إليه لاتساع مجاله؛ لأن صاحبه قد انقطع التفاته إلى ضيق
الأغيار، وانجذبت روحه وقلبه إلى الواحد القهار، فهي تجول في ميدان أوسع من
السماوات والأرض، بعد أن كانت مسجونة في سجون المخلوقات، فإذا استمر له
عكوف قلبه على الحق سبحانه، ونظر قلبه إليه كأنه يراه، ورؤية تفرده بالخلق
والأمر والنفع والضر والعطاء والمنع استكملت في هذه الدرجة معرفته، واستكملت
بهذا البقاء الذي أوصله إليه الفناء، وشارفت عين الجمع بعد علمه، فغاب العارف
عن معرفته بمعروفه، وعن ذكره بمذكوره، وعن محبته وإرادته بمراده ومحبوبه
فلذلك قال:
(ويستكمل بعلم البقاء ويشارف عين [2] الجمع) ولهذه المعرفة ثلاثة أركان [3]
أشار إليها الشيخ بقوله: (إرسال الصفات على الشواهد، وإرسال الوسائط على
المدارج، وإرسال العبارات على المعالم) شواهد الصفات هي التي يشهد بها ويدل
عليها من الكتاب والسنة وشهادة العقل والفطرة وآثار الصنعة، فإذا تمكن العبد في
التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه، لم يعرفها العبد
من ذاته ولا بغير تعريف الحق له بما أجراه له سبحانه على قلبه من معرفة تلك
الشواهد والانتقال منها إلى شهود [4] المدلول عليه، فهو سبحانه الذي شهد لنفسه في
الحقيقة، إذا تلك الشواهد مصدرها منه فشهد لنفسه بما قاله وفعله وجعله شاهدًا
لمعرفته فهو الأول والآخر، والعبد آلة محضة ومنفعل ومحل لجريان الشواهد،
وآثارها وأحكامها عليه ليس له من الأمر شيء، فهذا معنى إرسال الصفات على
الشواهد، فإذا أرسلها عليها تبين له أن الحكم للصفات دون الشواهد، بل الشواهد
هي آثار الصفات فهذا وجه.
ووجه ثانٍ أيضًا، وهو أن الشواهد بوارق وتجليات تبدو للشاهد، فإذا أرسل
الصفات على تلك الشواهد توارى حكم تلك البوارق والتجليات في الصفات، وكان
الحكم الصفات، فحينئذ يترقى العبد إلى شهود الذات شهودًا علميًّا عرفانيًّا كما تقدم
قوله: (وإرسال الوسائط على المدارج) الوسائط هي الأسباب المتوسطة بين
الرب والعبد التي بها تظهر المعرفة وتوابعها، والمدارج هي المنازل والمقامات
التي يترقى العبد فيها إلى المقصود، وقد تكون المدارج الطرق التي يسلكها إليه
ويدرج فيها، فإرسال الوسائط التي من الرب على المدارج التي هي منازل السير
وطرقه توجب كون الحكم لها دون المدارج؛ فيغيب عن شهود المدارج بالوسائط
وقد غاب عن شهود الوسائط بالصفات؛ فيترقى حينئذ إلى شهود الذات، وحقيقة
الأمر أن يعلم أن الرب سبحانه ما أطلعه على معرفته إلا بشواهد منه سبحانه
وبوسائط ليست من العبد، فهو قادر على قبض تلك الشواهد والوسائد، وعلى
إجرائها على غيره؛ فإن الأمر كله له وتلك الوسائط لا توجب بنفسها شيئًا قال الله
تعالى لرسوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً
* إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} (الإسراء: 86-87) وقال للأمة على لسانه: {قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} (الأنعام: 46) وقال تعالى: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} (يونس: 16) ويعلم العبد أن ما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله من شواهد
معرفته والإيمان به هي معالم يهتدي بها عباده إليه، ويعرفون بها كماله وجلاله
وعظمته، فإذا تيقنوا صدقه ولم يشكوا فيه، وتفطنوا لآثار أسمائه وصفاته في
أنفسهم، وفي سواهم انضم شاهد العقل والفطرة إلى شاهد الوحي والشرع، فانتقلوا
حينئذ من الخبر إلى العيان، فالعبارات معالم على الحقائق المطلوبة، والمعالم هي
الأمارات التي يعلم بها المطلوب، فإذا أوصل العارف كل معنى مما تقدم ذكره على
مقصوده وصرف همته إلى مجريه وناصبه ومصدره، اجتمع همه عليه، وتمكن
في معرفة الذات التي لها صفات الكمال ونعوت الجلال، ومقصوده أن يبين في هذه
الأركان الثلاثة حال صاحب معرفة الذات، وكيف ترتب الأشياء في نظره ويترقى
فيها إلى المقصود.
مثال ذلك أن الشواهد أرسلته إلى الصفات بإرسالها عليها فانتقل من مشاهدتها
إلى مشاهدة الصفات والوسائط التي كان يراها آية على المدارج انتقل فانتقل منها
إلى المدارج ولم يلقها وإنما تعلق بما هي آية له، والعبارات التي كانت عنده ألفاظًا
خارجة عن المعبر عنه صارت أمارات توصله إلى الحقيقة المعبر عنها، فبهذه
الأركان الثلاثة يصير من أهل معرفة الذات عنده.
قوله: (وهذه [5] معرفة الخاصة التي تؤنس من أفق الحقيقة) أي تُدرك
وتُحس من ناحية الحقيقة، والإيناس الإدراك والإحساس قال الله تعالى: {فَإِنْْ
آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6) ، وقال موسى: {إِنِّي
آنَسْتُ نَاراً} (القصص: 29) والمقصود أن العارف إذا علق همه بأفق الحقيقة،
وأعرض عن الأسباب والوسائط لا إعراض جحود وإنكار بل إعراض اشتغال
ونظر إلى عين المقصود أوصله ذلك إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
فصل
قال: (الدرجة الثالثة معرفة مستغرقة في محض التعريف، لا يوصل إليها
الاستدلال، ولا يدل عليها شاهد، ولا تستحقها وسيلة، وهي على ثلاثة أركان:
مشاهدة القرب [6] والصعود عن العلم، ومطالعة الجمع، وهي معرفة خاصة
الخاصة) إنما كانت هذه المعرفة عنده أرفع مما قبلها؛ لأن ما قبلها متعلقة بالوسائط،
والشواهد متصلة إلى المطلوب، وهذه متعلقة بعين المقصود فقط، طاوية
للوسائط والشواهد، فالوسائط صاعدة عنها إليه، وهي غالبة على حال العارف
وشهوده، وقد استغرقت إدراكه لما هو فيه بحيث غاب عن معرفته بمعروفه وعن
ذكره بمذكوره، وعن وجوده بموجوده.
فقوله: مستغرقة في محض التعريف والمعرفة صفة العبد وفعله، والتعريف
فعل الرب وتوفيقه، فاستغرقت صفة العبد في فعل الرب وتعريفه نفسه لعبده وقوله:
(لا يوصل إليها بالاستدلال) يريد أن هذه المعرفة في الدرجة الثالثة لا يوصل
إليها بسبب؛ فإن الأسباب قد انطوت فيها، والوسائل قد انقطعت دونها، فلا يدل
عليها شاهد غيرها، بل هي شاهد نفسها، فشاهدها وجودها ودليلها نفسها , ولا
تعجل بإنكار هذا فالأمور الوجدانية كذلك ودليلها نفسها وشاهدها حقيقتها، فتصير
هذه المعرفة للعارف كالأمور الوجدانية، كاللذة والفرح والحب والخوف وغيرها من
الأمور التي لا يطلب من قامت به شاهدًا عليها من سوى أنفسها.
ولعمر الله إن هذه درجة من المعرفة منيفة ورتبة شريفة تنقطع دونها أعناق
مطايا السائرين؛ فلذلك لا يوصل إليها بالاستدلال ولا يدل عليها شاهد ولا تستحقها
وسيلة، والأعمال والأحوال والمقامات كلها وسائل، وهي لا تستحق هذه الدرجة
من المعرفة، وإنما هي فضلُ مَنْ الفضلُ كله بيده وهو ذو الفضل العظيم؛ وكون
الوسائل المذكورة لا تستحقها لا تمنع من القيام بها على أتم الوجوه، وبذلك الجهد
فيها، ومع ذلك فلا تستحقها الوسائل.
قوله: (وهي على ثلاثة أركان: مشاهدة القرب والصعود عن العلم ومطالعة
الجمع) إنما كانت هذه الثلاثة أركانًا لها لأن صاحب هذه المعرفة قد وصل من
القرب إلى مقام يليق به بحسب معرفته فكلما كانت معرفته أتم كان قربه أتم؛ فإن
شهود الوسائط والوسائل حجاب عن عين القرب، وإلغاؤها وجحودها حجاب عن
أصل الإيمان، وأما صعوده عن العلم فليس المراد به صعوده عن أحكامه؛ فإن ذلك
سقوط ويزول إلى الحضيض الأدنى، لا صعود إلى المطلب الأعلى، وإنما المراد
أنه يصعد بأحكام العلم عن الوقوف معه وتوسيطه بينه وبين المطلوب؛ فإن
الوسائط قد طوي بساطها في هذا الشهود والعرفان، أعني بساط الوقوف معها
والنظر إليها؛ فيدرك مشهوده ومعروفه به سبحانه لا بالعلم وبالخبر، بل بالمشاهدة
والعيان، وإن كان لم يصل إلى ذلك إلا بالعلم والخبر؛ لكنه قد صعد من العلم إلى
المعلوم المخبر عنه.
وأما مطالعة الجمع فهي الغاية عند هذه الطائفة، ونحن لا ننكر ذلك لكن: أي
جمع هو؟ هل هو جمع الوجود كما يقوله الاتحادي؟ أم جمع الشهود كما يقوله
صاحب الفناء في توحيد الربوبية؟ أم هو جمع الإرادة كلها في مراد الرب تعالى
الديني الأمري؟ فالشأن في هذا الجمع الذي مطالعته من أعلى أنواع المعرفة، نعم
ها هنا جمع آخر مطالعته هي كل المعرفة، وهو جمع الأفعال في الصفات، وجمع
الصفات في الذات، وجمع الأسماء في الذات والصفات والأفعال، فمطالعة هذا
الجمع هي غاية المعرفة وأعلى أنواعها، وهي لعمر الله معرفة خاصة الخاصة،
والله المستعان، وبه التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله) . اهـ.
(المنار)
إن أكثر الناس يرون هذا الكلام غريبًا لا يكاد يُفْهَم، ويعدون هذه المعرفة
خيالية لا تكاد تُعقل، ومثل هؤلاء العارفين في نظر جمهور أهل العلوم النظرية
والفنون العملية كمثل خواص الأدباء الذين يتمتعون بجمال المعاني الدقيقة، متجلية
في العبارات الرشيقة، في نظر عوام أهل البلادة ذوي العي والفهاهة، أو كمثل
بعض أهل الذوق السليم، العاشقين لجمال هذا الكون العظيم يؤمون روضة غناء،
أو غابة غبياء، يسابقون إليها أشعة الشمس، ليمتعوا بجمالها الحس والنفس، في
نظر مجرم فظ، غليظ الطبع، لا يرى حظًّا من تلك الروضة إلا أن يجتث
أزهارها ويقطع أشجارها؛ ليتخذ الأولى علفًا لحماره، والثانية وقودًا لناره، أو
كمثل المغرمين بآلات الطرب، وسماع الألحان في العشق والأدب، في نظر
المتبتل أو العجوز الثاكل.
على أن جميع اللذات المعنوية ما أشرنا إليها منها وما لم نشر إليه، هي
مبادئ ووسائل لتلك اللذة الروحية العليا التي يجدها العارفون بالله تعالى، فكل ما
في الكون من الجمال والكمال فهو بعض جماله وكماله عز وجل، إذ هو صنع الله
الذي أتقن كل شيء، وكل طائفة من طوائف البشر المرتقية تتمتع بنوع من أنواع
جمال الكون والعارفون بالله هم الذين يتمتعون بكل نوع من تلك الأنواع تمتعًا أرقى
وأعلى من تمتع المنفردين بالارتقاء فيه، ويتمتعون بما هو أعلى من ذلك وأجل
وأكمل، وقد ضربنا لذلك المثل، والله أعلى وأجل.
__________
(1) في ب (بحيث تكون الذات هي نفس الصفات) .
(2) في المتن (بعين الجمع) .
(3) في المتن (وهي ثلاثة أركان: إرسال) … إلخ.
(4) في ب (المشهود) .
(5) في المتن (وهي معرفة) إلخ.
(6) في المتن (القلوب) ولعلها غلط.(18/781)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شرف العلم وشمائل العلماء
نبدأ هذا الباب بقصيدة القاضي عبد العزيز الجرجاني الشهيرة في شرف العلم
وأخلاق العلماء وشمائلهم قال:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أَقْضِ حق العلم إن كان كلما ... بَدَا طمَعٌ صيَّرته لي سُلَّما
وما زلت منحازًا بعرضي جانباً ... من الذل أَعْتَدُّ الصيانة مغنما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
أنزّهها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العِدَا فيمَ أو لِما
فأُصبحُ عن عيب اللئيم مُسلَّما ... وقد رحت في نفس الكريم معظما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أُقلِّب فكري إثره متندما
ولكنه إن جاء عفوًا قبلته ... وإن مال لم أتبعه هلا وليتما
وأقبض خطوي عن حظوظ كثيرة ... إذا لم أنلها وافر العِرض مكرما
وأُكرم نفسي أن أضاحك عابسًا ... وأن أتلقَّى بالمديح مذمما
وكم طالبٍ رقّي بنعماه لم يصل ... إليه وإن كان الرئيس المعظما
وكم نعمة كانت على الحُرّ نقمة ... وكم مغنم يعتده الحر مغرما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما
أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة ... إذا فاتِّباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظَّما
ولكن أهانوه فهان ودنَّسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من في الأرض أرضاه منعما
ولكن إذا ما اضطرني الضر لم أبت ... أقلب فكري منجدًا ثم مُتْهما
إلى أن أرى ما لا أغصُّ بذكره ... إذا قلت قد أسدى إليَّ وأنعما
ومما يروى عن الإمام الشافعي في معنى هذا الشعر قوله:
العلم مِنْ شرطه لمن خدمه ... أن يجعل الناس كلهم خدمه
وواجب صونه عليه كما ... يصون في الناس عرضه ودمه
فمن حوى العلم ثم أودعه ... بجهله غير أهله ظلمه
وكان كالمبتني البناء إذا ... تمّ له ما أراده هدمه
المراد من البيت الأول: أن من خدم العلم حق الخدمة ساد الناس، وكان إمامًا
وقدوة لهم، وبذلك يجعلهم خدمًا له باختيارهم، وإنما يكون هذا في الأمم الحية التي
تعرف قدر العلم وأهله، وكذلك كان المسلمون في عصر الإمام الشافعي، وهو ما
نرى مثاله في أمم الإفرنج اليوم على كثرة علمائهم المبرزين، وقد نهى أحد ملوكهم
ولده أن يخاطبه بنعت (الجلالة) في حضرة شاعر الفرنسيس المفلق (فيكتور
هيجو) .
والمراد من صون العلم في البيت الثاني المفسر في البيت الثالث أن إيداعه
غير أهله هو أن تصان العلوم الكمالية التي هي فروض كفاية عن السفهاء فاسدي
الأخلاق، فلا يلقن هؤلاء إلا ما يجب عليهم شرعًا لأداء عباداتهم وتصحيح
معاملاتهم، ثم يصرفون إلى الأعمال اللائقة بهم؛ لأنهم إذا لُقِّنوا العلوم العالية
يتخذونها ذرائع لمفاسدهم، ويضلون الناس بحيلهم وسوء سيرتهم، كما نرى مثاله
في رعاع الناس الذين يتعلمون ولا يتهذبون، ثم يصيرون حكامًا أو معلمين.
وللإمام شعر آخر في هذا المعنى رواه السبكي في طبقات الشافعية بسنده إلى
أبي عمر العثماني قال: لما دخل الشافعي إلى مصر كلمه أصحاب مالك فأنشأ يقول:
أأنثر دُرًّا بين راعية الغنم ... وأنثر منظومًا لراعية النعم
لئن كنت قد ضُيِّعت في شر بلدة ... فلست مضيعًا بينهم غرر الكلم
فإن فرّج الله الكريم بلطفه ... وأدركت أهلاً للعلوم وللحِكم
بثثت مفيدًا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لدي ومكتتم
ومن منح الجهال علمًا أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وروى السبكي بسند آخر بيتين عن الشافعي ذكر لهما سببًا يدل على قدم
التعصب لهؤلاء الأئمة، فقد نقل عن الحافظ ابن منده أن الربيع قال رأيت أشهب
بن عبد العزيز ساجدًا وهو يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي، وإلا يذهب علم
مالك، فبلغ الشافعي ذلك فتبسم وأنشأ يقول:
تمنى رجال أن أموت فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيّأ لأخرى غيرها فكأن قد
ومما روي عنه من الشعر، عند إرادة الهجرة إلى مصر، قوله:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المهامه والقفر
فوالله ما أدري أَلِلْفَوْز والغنى ... أُساق إليها أم أُساق إلى قبري
ومن شعره الذي يذكر في السفر ولوازمه ما روي عن صاحبه المزني قال:
قدم الشافعي بعض قدماته من مكة فخرج إخوان له يتلقونه، وإذا هو قد نزل منزلاً
وإلى جانبه رجل جالس، وفي حجره عود، فلما فرغوا من السلام عليه قالوا له:
يا أبا عبد الله أنت في مثل هذا المكان؟ فأنشأ يقول:
وأنزلني طول النوى دار غربة ... يجاورني من ليس مثلي يشاكله
فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
ويروى أحامقه مكان فحامقته، ومعنى حامقته ساعدته على حمقه كما قال
الجوهري , وابن منظور، وأما عاقله فمعناه غالبه في العقل، فيفهم من البيت أن
الإمام كان يجاري رفيقه العوّاد في هوسه بضرب العود، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان
يرى إباحته.
أكثر شعر الإمام الشافعي في الحِكم والأخلاق، وروي عن أبي يعقوب
البويطي أنه قال له: قلت للشافعي: قد قلت في الزهد فهل لك في الغزل شيء؟
فأنشدني:
يا كاحل العين بعد النوم بالسهر ... ما كان كحلك بالمنعوت للبصر
لو أن عيني إليك الدهرَ ناظرةٌ ... جاءت وفاتي ولم أشبع من النظر
سقيًا لدهر مضَى ما كان أطيبه ... لولا التفرق والتنغيص بالسهر
إن الرسول الذي يأتي بلا عِدَة ... مثل السحاب الذي يأتي بلا مطر
ومن كلامه في الشكوى من الأغنياء الأغبياء البخلاء:
وأنطقت الدراهم بعد صمت ... أناسًا بعد أن كانوا سكوتا
فما عطفوا على أحد بفضل ... ولا عرفوا لمكرمة بيوتا
وجدير بهذا القول من عبر عن حاله بعد إنفاق جميع ماله بهذين البيتين:
يا لهف نفسي على مال أجود به ... على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني ... ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
وقال في الصداقة:
صديق ليس ينفع يوم بأس ... قريب من عدو في القياس
وما يبغي الصديق بكل عصر ... ولا الإخوان إلا للتأسي
عمرت الدهر ملتمسًا بجهدي ... أخا ثقة فأكداه التماسي
تنكرت البلاد عليّ حتى ... كأن أناسها ليسوا بناس
وقال في مثل ذلك:
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وأننا لا نرى ممن نرى أحدا
إن الكلاب لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا
فانْجُ نفسك واستأنس بوحدتها ... تلفى سعيدًا إذا ما كنت منفردا
__________(18/789)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حال المسلمين اليوم
وجماعة الدعوة والإرشاد
حضرة السيد الإمام العالم البصير والمصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا.
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد طرق سمعي ما وصلت إليه حال جمعية
الدعوة والإرشاد ومدرستها من الضعف بسبب نفاد المال القليل الذي جُمع لها وبُخْل
المسلمين؛ فأثَّر ذلك في قلبي تأثيرًا محزنًا لقعودنا عن العمل في الوقت الذي
نهضت فيه أمم العالم قاطبة، وحيث إن حبل رجائي مع ذلك لم ينقطع من ترك
المسلمين لهذه الغفلة وهذا الجمود اللذين أحرجا مركزهم أشد الحرج في الهيئة
الاجتماعية - رأيت أن أبعث إليكم بهذه الكلمة راجيًا نشرها في مجلتكم المنيرة قيامًا
بالنصيحة الواجبة على كل مسلم، وتذكرة للمستعدين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ
المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) :
أتى على المسلمين حين من الدهر كانوا فيه أعزاء ترفرف فوقهم أجنحة الأمن
والسعادة، وكانوا خيرًا على أنفسهم وعلى البشر بما وضعوا من النظام القويم،
والقوانين العادلة، وبما كانوا يقومون به من الأعمال النافعة لأنفسهم وللناس، ولا
عجب فقد كانوا في ذلك متبعين أوامر دينهم الحنيف؛ فلما انحرفوا عنها - كما هو
حالهم الآن - شقوا وصاروا شرًّا وبلاء على أنفسهم وعلى البشر، وأصبحوا عالة
على الأمم الأخرى في جميع مقومات الحياة، وعبرة لمن يعتبر.
على أن أعظم ما تركه المسلمون من هداية دينهم، وكان له الأثر السيئ في
عامة شئونهم هو فريضتا (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، و (الدعوة إلى
الدين) ، فقد أدى إغفال الفرض الأول إلى انتشار المنكرات والفجور بالتدريج بين
المسلمين كافة، وفشو الجهل فيهم بأقبح أشكاله، وأنْ صار الدين غريبًا عن كل
أعمالهم، وهذه الأعمال أثرت فيهم أعظم تأثير بالمواظبة عليها، وعدم وجود من
يقاومها أو ينكرها، فأَلِفَتْها نفوسهم واستأنست بها، فكانت ملكات وتقاليد وعادات،
ولم يقف الشر عند هذا الحد بل بالغ المسلمون في الأمر فالتمس بعضهم نصوصًا
من الشرع يستبيحون بها ما أحدثوا في الدين؛ فلما أعياهم ذلك تأولوا كتاب الله
وسنة ورسوله بغير ما يؤديان إليه، وطبقوا بعض محدثاتهم عليهما موهمين أنفسهم
والناس أنها من الدين وما هي من الدين، وإن هم إلا يكذبون.
وكان من عاقبة إهمالهم الفرض الثاني انتشار الأكاذيب عن الدين الإسلامي
وتشويه أعدائه لسمعته، وقلبهم لحقيقته، حتى خفيت هذه الحقيقة عن مريديه أو
المستعدين لقبوله، وقد فطنت لفوائد الدعوة إلى الدين الأمم المسيحية العظيمة الحية؛
فتألفت عندهم الجمعيات ذات رؤوس الأموال الضخمة التي أوفدت رجال الدين
إلى مشارق الأرض ومغاربها وزودتهم بالمال الوفير، وعضدتهم بنفوذها؛ فنجحت
أعمالهم في نشر الدين المسيحي حتى بين المسلمين.
ألا إن البلاء الذي نزل بالمسلمين لعظيم , وما ينتظرهم منه إن لم يفيقوا من
غفلتهم أعظم، وقد صاروا الآن أمام أحد أمرين: إما العمل العاجل السريع، وإما
الهلاك الأكيد والسقوط المريع، ولا مخرج من هذا البلاء إلا بالإقلاع عن هذه
الخطة الذميمة الضارة، والعمل بقواعد الدين الإسلامي الذي نعتقد أن فيه فلاحنا
وسعادتنا في الدنيا والآخرة، وإن أعظم ما ينبغي البدء به منها إنما هو قيامنا بهذين
الفرضين العظيمين (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى ديننا القويم)
ولكن لذلك وسائط لابد من إعدادها وتوفيرها في الأمة، إذ إنه لا يستطيع القيام
بذلك الواجب إلا أناسي يتخصصون له من أفراد المسلمين، يكونون واسعي
الاطلاع بعلوم الدين، واقفين على حقائقه، ملمين بطرف من العلوم الاجتماعية
والعصرية على قدر حاجتهم منها؛ كي يمكنهم تقريب ما يريدون من أذهان
مخاطبيهم على اختلاف درجاتهم في العلم والاستعداد وتباينهم في الأخلاق والعادات،
ولما كان أمثال هؤلاء لا وجود لهم الآن في الأمة الإسلامية أو ما يوجد منهم ليس
بالعدد الكافي - قضت الضرورة بإعداد هؤلاء الهداة إعدادًا وإنشائهم إنشاء، وهذا
ما فكر فهي أستاذنا زاده الله توفيقًا فاقترح تأسيس جمعية (جماعة الدعوة والإرشاد)
ومدرستها الجليلة، وبذلك وصف الدواء لداء الأمة الدفين الذي كاد يودي بحياتها.
إن مهمة تعليم فئة من المسلمين ذلك التعليم الخاص، وتربيته تلك التربية
الدينية المحضة بين زوابع الفساد التي اكتسحت البلاد لَمِنْ الأعمال التي تتطلب
كفاءة عظيمة، واستعدادًا خاصًّا - ولكن الأستاذ الذي لا ينثني له عزم أخذ على
عاتقه القيام بإنفاذ المشروع، وحق للمسلمين أن يفرحوا ويتهللوا وقد جاءهم الطبيب
الماهر، ولكن ماذا حصل؟
نشر المقترح دعوته بين المسلمين في أنحاء المعمورة كافة، فلبتها طائفةٌ كلٌّ
على قدر استعداده وقبوله للمشروع، فكان المال الذي جمع كان قليلاً جدًّا لا يفي
بجزء مما يلزم لهذا العمل العظيم، وانقبضت أيدي سائر المسلمين.
وأما الأستاذ فقد بسط يده للعمل على قلة وسائله؛ فوُلد المشروع، وقرت
برؤيته عيون المخلصين؛ ولكن ذلك المولود ككل مولود حي يحتاج إلى عناية
وغذاء كي ينمو ويشتد، غير أن ضنّ المسلمين بالمال كان سببًا في سريان الضعف
إليه حتى أشرف على الاضمحلال والعياذ بالله تعالى.
ولا يفوتني في هذا المقام ملاحظة التفاوت العظيم في إقبال الشعوب الإسلامية
على المشروع، فمع أن المكان الذي اُختير ليكون مقرًّا للجمعية ومدرستها هو مصر
فإن قومي المصريين لقلة ما ساعدوا كانوا كأنهم غير مقصودين بالدعوة، حتى أنه
ليصح أن يقال مع الخجل العظيم إن الجمعية أسست والمدرسة أنشئت من أموال
غيرهم.
فأنتم يا مسلمي مصر بوجه خاص أعنيكم بالمقال، إنه غير خليق بكم أن
تقفوا ساكنين أمام أعظم مشروع إسلامي، وهو قد أنشئ بينكم واحتمى بجواركم
ولكم ثماره وشرفه قبل غيركم، إن اضمحلال هذا العمل - لا قدر الله - يسيء
سمعة المصريين كثيرًا، كما أن نجاحه يشرفهم ويرفع قدرهم، ففي هذه الأزمة
الكبرى التي يجتازها العالم أجمع، وتدوس فيها الأمم الكبيرة بأقدامها ظهور الأمم
الصغيرة أو الضعيفة، ينبغي للشعب المصري الكريم الذي آتاه الله من الاستطاعة
على خدمة دينه ما لم يؤت غيره أن يقوم بالعمل الذي ينتظره منه العالم الإسلامي
الذي يعده في مقام الإمام المرشد، وهو تعضيد هذا المشروع الذي إذا قوي وعاش
سيكون - بإذن الله تعالى - ينبوع حياة للإسلام والمسلمين وأساسًا لسعادتهم
المستقبلة.
إن المصريين يستطيعون أن يحرزوا هذا الفخر الخالد بالتبرع بشيء من
مالهم لا يضرهم إنفاقه، ولا يغنيهم إمساكه، إن المشروع ضروري حيوي ونجاحه
يدل على حياة كامنة في جسم الأمة الإسلامية طالما أنكرها عليها محتقروها
وحاسدوها، كما أن موته - لا قدر الله - يشمت فينا أعداءنا، ويجعلنا عرضة لهزأ
العالم أجمع وسخريته، تقوم الأمم الحية كل يوم بالأعمال العظام والمشروعات
الكبرى لأغراض ثانوية أو كمالية، ونجد الأموال تتدفق على القائمين بها من
جيوب أهل الغيرة من أهلها، فلا يمضي وقت قصير حتى تُوضع لها أسس وطيدة
ودعائم ثابتة، ويجني القريب والبعيد من أفراد الأمة ثمارها، وهذا مشروع واحد
أساسي لحفظ حياتنا الدينية والمدنية، وسلاح لدرء الخطر الذي يتهدد كيان الملة
الإسلامية، ونور لمحو الظلمة التي خيمت على العقول والقلوب، ورحمة لمنع ما
حل بنا من الشقاء والخطوب، فهل يموت رضيعًا وفي جيوبنا درهم؟ وهل
نستطيع بعده أن ندعي المروءة والشمم؟ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15) .
أي قوم، إن المشروع كبير ولا يقوم به إلا أعظم الرجال استعدادًا، وأبعدهم
همة، ومثل هؤلاء قليل ظهورهم في الأمة، وإن الأستاذ صاحب الاقتراح بما هو
عليه من التقوى والصلاح، وما امتاز به من العلوم الشرعية، وما كسبه من
المعلومات الثمينة والاختبار العظيم بسياحاته العديدة في بلاد المسلمين، وما وهبه
الله من الاستعداد الفطري النادر المثال، لا ريب أنه أقدر الناس على تنفيذه على
الوجه الأكمل، ووضع أسسه الكفيلة ببقائه حتى يستطيع من يخلفه فيه أن يتبع
خطواته بغير عناء.
إن الرجل ثالث ثلاثة نوابغ لم يوجد لهم نظير من عدة قرون، وقد شهد
الأستاذ الإمام بكفاءته وجعله موضع رجائه، فعلى المسلمين كافة والمصريين
خاصة أن يستدركوا ما فاتهم من الانتفاع بمواهب سلفيه (جمال الدين) و (محمد
عبده) بأن لا يضيعوا الفرصة السانحة الآن، إنكم إن أضعتموها يخشى أن لا تعود
قبل عدة قرون.
أقول وقولي هو الحق، إنه لو علم المسلمون حق العلم بقدر رجلهم الذي
ضحى أمواله وحياته ونفسه في سبيل مصلحتهم، لفدوه بالأولاد قبل الأموال،
وبالأنفس قبل الأولاد، لا مراء في أن الأمة الإسلامية أشد الأمم تأخرًا في مضمار
الحياتين الدينية والمدنية، وهي لذلك أشدهم افتقارًا للعمل، فإن كنتم أيها المسلمون
لا تعملون الآن فمتى تعملون، وإن لم يعجبكم مشروع إمامكم الرشيد، فماذا أنتم من
وسائط الحياة والعمل النافع تعدون، وإن كنتم مقتنعين بصلاحية المشروع فمن ذا
الذي يقدر على تنفيذه كما ينبغي من بعده أفلا تذكرون؟
أيها المسلمون إن الله غني عني وعنكم وعن العالمين، ولا يتوقف نصر حق
على مساعدتنا، فالله يختار لنصرة دينه من يشاء، فإن لم نكن من الموفقين،
فيوشك أن يخرج الأمر من أيدينا ويوكل الله به قومًا آخرين، والله غيور على دينه
وحافظ له من الزوال، ولا بد أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فظهور الدين محقق
فإن لم يكن على أيدينا فسيكون على أيدي غيرنا {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ
وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) ، {إِن يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (إبراهيم: 19-20)
فمن ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا يضاعف له القدر؟ ومن يسارع إلى جنة
عرضها السماوات والأرض؟ هذا أوان العمل فاعملوا أيها المسلمون، وهاكم
طريق النجاح فاسلكوه لعلكم تهتدون 0
يا قوم: أنذرتكم ونصحت لكم وأنا منكم، واقع في التقصير مثلكم، وأنا
أدعوكم وأدعو نفسي قبلكم، بالتبرع بما نقدر عليه من مالي ومالكم، لا يستقل مقل
عطاء وإن قلَّ، ولا يستكثر مكثر ما يستطيع أن يبذل، وها أنا ذا أخطو الخطوة
الأولى في هذه الكَرَّة الثانية، فأدفع على قلة ثروتي خمسة عشر جنيهًا مصريًّا
أبغيها ذخرًا عند من خلقني ولم أكن شيئًا، فأقبِلُوا على تجارة لن تبور، وهلموا إلى
التبرع بالقليل والكثير، وانظروا إلى ما نحن فيه من المحنة، وادرؤوا السيئة
بالحسنة، وأحرزوا بالقيام بتنفيذ المشروع شرفًا تحفظه لكم الأجيال المقبلة، فلا
يضيع، ويكون لكم عند الله خير شفيع يوم يقوم الناس وتحشر الجموع 0
هذا وإنصافًا لمجلة المنار الإسلامية، وتقديرًا لخدمتها في سبيل الغرض
المقصود للجمعية، أدفع اشتراك خمس سنين سلفًا، وأتبرع باشتراك سنة لمن يبرز
في إنشاء أحسن مقالة في أحسن خدمة إصلاحية لخدمة الإسلام والمسلمين، فسدِّدْ
اللهم أعمالنا، وأنِر لنا سبيلنا، آمين 0
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ن
(المنار)
نشكر للكاتب غيرته على دينه وملته، وشعبه المصري وسائر أمته، كما
نشكر له حسن ظنه فينا، ونسأل الله ألا يجعل إطراءه فتنة لنا، ولا مدعاة إلى
ترجيح ظنه فينا على ما نعلمه من ضعفنا وعجزنا، ونرجو أن يعذرنا إذا نحن لم
نقبل منه الاشتراك عن خمس سنين سلفًا، فحسبه من الوفاء للمنار ما جرى عليه من
دفع اشتراك كل سنة سلفًا، فهو من السابقين بالخير اشتراكًا وأداء 0
هذا - وإن الكاتب قد كتب مقالاً قبل هذا في معناه أكثر ما فيه المبالغة
والإغراق في المدح والثناء على صاحب المنار، فكان استحياؤنا من نشره، بل من
قراءته أقوى وأشد من استحيائنا من رده، مع يقيننا بإخلاص الكاتب واعتقاده أنه
كتب الحقيقة بلا غلو ولا مبالغة، وقد قلنا له إننا لا نظن أن نشره يأتي بالفائدة التي
ترمي إليها، وان كنت أحسن منا ظنًّا، ولا بد أن تكتب في هذه الدعوى شيئًا
فاجْعَلْ الكلام في موضوع العمل دون مدح العامل، فجاءنا بهذا المقال، فلم نر بدًّا
من نشره؛ لأن ذلك من حق كاتبه علينا إذ لا نعرف أحدًا من الناس أشد غيرة،
وإخلاصًا منه لربه ودينه وأمته، وأي دليل أدل على الغيرة والإخلاص من بذل
المال في سبيل الله؟ وقد علمنا علم اليقين أننا لو قبلنا أن نأخذ منه جميع ما بيده
لإنفاقه في مشروع الدعوة والإرشاد لبذله مرتاحًا، بل طالما عرض علينا بذل ماله
ووقته فيما نراه من خدمة الدين وإقامة السنة؛ ولكننا نعلم أن عياله أحوج إلى ذلك
من مشروع لا يتوقف نجاحه على هذا المال القليل، ولا يسقط بفقده، وقد كان ما
بذله كتابة بهذه المقالة أكثر مما أثبتناه فيها بتصحيحه، فسكت بعد مناقشة ومراجعة
وإننا نستحسن أن نعيد بعض ما سبق لنا من الكلام في أسباب نشر بعض الرسائل
والأسئلة المشتملة على الثناء وألقاب المدح لنا بنصها، على خجلنا مما في بعضها
من المبالغة وانتقاد كثير من الناس لنشر مثله، وأهم تلك الأسباب الأمانة وبيان
آراء الكاتبين في الإصلاح الإسلامي والقائمين به لأهل عصرهم ولمن بعدهم وموافقة
سلفنا الذين كانوا ينشرون مثل ذلك بنصه كما تراه في كتب الفتاوى، وكان كثير
من هذه الفتاوى ينسخ في عصور العلماء الذين كتبوها وينشر في الأقطار.
إن بيان ما ذكر من الأسباب لنشر ما اشتمل على المدح باب من أعظم أبواب
التاريخ، وأعمها فائدة، وليس هو من قبيل تدوين المدائح الشعرية في شيء، وإنا
نكره المدائح الشعرية المحضة، ويقابل هذا الباب في تاريخ الإصلاح باب الانتقاد
وقد التزمنا نشر ما يجيئنا من الانتقاد على أقوالنا وأعمالنا، حتى أننا ندعو الناس
إلى ذلك في منار كل عام، ولم ندع أحدًا قط إلى المدح والتحبيذ، وإن كان من
قبيل التعاون على البر والتقوى الذي يقصده صاحب هذه الرسالة.
كتب الكاتب هذه الرسالة معبرًا بها عن بعض ما في نفسه من وجدان واعتقاد،
راجيًا أن يشعر بشعوره، ويعتقد اعتقاده كثير من المسلمين؛ فينهضوا بمشروع
الدعوة والإرشاد، ويجود كل له بما يستطيع على قدر ما آتاه الله من السعة والثروة،
ولولا ذلك لما كتب حرفًا، وقد نشرنا له ما كتب احترامًا لشعوره، واعتقاده لما
فيه من التعاون على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف الذي تصدينا له، ولكننا لا
نظن أن دعوته تجاب، ولا أن أمنيته تصدق، وإن كنا من القائلين بتأثير الكلام في
الجملة، وإنما يكون التأثير بقدر استعداد من يقرأ الكلام ويسمعه، ولا يزال استعداد
الأمة الإسلامية للقيام بالأعمال الاجتماعية ضعيفًا جدًّا، وهو في البلاد التي لها
حكام من أهلها، أضعف منه في غيرها، وإن كان هؤلاء الحكام صُوريِّين لا
استقلال لهم في سياسة ولا إدارة، فأرقى مسلمي الهند ووثَنِيِّيها هم أهل الولايات
التي يتولى حكمها الإنكليز بأنفسهم، وأبعدهم عن الترقي والإصلاح من لهم حكام
من أنفسهم، وسنبين رأينا في أغنياء بلادنا وأمتنا وأصناف الناس في الجزء الآتي
إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(18/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الثامنة عشرة للمنار
وحاله في السنة الجديدة
بحمد الله نختتم السنة الثامنة عشرة للمنار، كما افتتحناها بحمده وهو الذي
يحمد في السراء والضراء وحين البأس، فله الحمد والشكر، والثناء الحسن عودًا
على بدء، فقد لطف بنا هذه في العسرة العامة، ورحمنا في هذه الفتنة الطامة، التي
لم تصب الذين ظلموا منا خاصة، وغاية ما أصاب إدارة المنار ومطبعتها من تأثير
هذه الحرب أن قل دخلها، وفقدت أكثر أصناف الورق بضعة أشهر لقلة الوارد من
أوربة، ومضاعفة ثمنه أضعافًا، حتى أن هذه الجزء من المنار بدئ بطبعه في أواخر
شهر ذي الحجة سنة 1333، وطُبع بعضه في ربيع الآخر، والكراسان الأخيران منه
في شهر رجب سنة 1334.
ونحن قد كنا ابتعنا أول سنة 1333 ورقًا يزيد عن حاجة المنار فيها بعد أن
أمرنا المطبعة بأن تنقص ألف نسخة مما كان يطبع منه في مقابلة انقطاعه عن
الممالك العثمانية وبعض البلاد التي تعذر إيصاله إليها، ثم علمنا في أواخر السنة
أن الورق قد نفد؛ لأن الأمر بإنقاص المطبوع ما نفذ، وما ذاك إلا ذهول ونسيان،
وما قُدِّر كان، فعهدنا إلى من يجلب لنا الورق من أوربة بطلب طائفة منه، فلم
يصل إلينا بعض ما طلبنا إلا بعد بضعة أشهر، وهو لا يكفي لإصدار عشرة أجزاء
من المنار، وإن نقصنا من المطبوع ألف عدد أو أكثر.
فنحن مضطرون لقلة الورق، وخشية انقطاع وروده كما يتوقع تجار الجلب
أن نجعل كل جزء ثمانية كراريس (ملازم) فإذا يسر الله لنا ورقًا نُتِمُّ السنة اثني
عشر شهرًا؛ فيكون المجلد التاسع عشر كالثامن عشر، وإلا جعلناها عشرة أشهر
فقط، على أن ورقها أغلى ثمنًا من ورق المجلدات الكاملة.
هذا وإن قراء المنار في مصر يعلمون أن دخله قد انقطع من عدة ممالك
تعذر إرساله إليها في زمن الحرب، فلم يبق له مورد يعتد به إلا منهم، ويعلمون أيضًا
أن النفقات قد زادت، وأن كل شيء صار يُشترى بالنقد، فنرجو من مروءتهم العالية
أن يتفضلوا بأداء ما عليهم من قيمة الاشتراك؛ فيكون جل الفضل لهم باستمرار هذه
الخدمة للإسلام والإنسان، وقد دفعتنا هذه الحاجة إلى تذكير من لم يدفعوا للمنار شيئًا
مما عليهم منذ عشر سنين أو أقل أو أكثر، فمنهم من بادر إلى أداء جميع ما عليه،
ومنهم من جعله أقساطًا، ومنهم من مطل ولوى، ومن أعرض بجانبه ونأى، وسنبين
أحوال هؤلاء في المقالة التي وعدنا بها في تعليقنا على الرسالة المنشورة قبل هذه
الخاتمة.
ولم يرد علينا في هذه السنة نقد على المنار، ولا نزال نطالب القراء بأن
يتعاهدونا بالنصيحة، والحمد لله أولاً وآخرًا.
__________(18/800)
المجلد رقم (19)(19/)
شعبان - 1334هـ
يونيه - 1916م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك اللهم وبحمدك أنت المحمود على كل حال، عالم الغيب والشهادة
الكبير المتعال، قوي المِحال عظيم النوال، تعطي من تشاء ولو بغير سؤال،
وتحوّل ما شئت من حال إلى حال، قوة بعد ضعف، وغنى بعد فقر، وعز بعد ذل
وكل ضد يعقبه ضد، فما رفع الله شيئًا إلا وضعه، ولا وضع شيئًا إلا رفعه، وكل
شيء عنده بمقدار {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .
نحمدك اللهم بالغدوّ والآصال، ونصلي ونسلم على محمد خاتم رسلك وآله
وصحبه خير صحب وآل، وعلى من تقدمه وتقدمهم من النبيين والمرسلين، ومن
تأخر عنهم من الصديقين والشهداء والصالحين، واهدنا اللهم صراطهم المستقيم في
الدنيا من الأخلاق والأعمال، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ} (إبراهيم: 31) .
أما بعد: فإن المنار يذكر قُراءه على رأس عامه التاسع عشر، بأن يعتبروا
بما نزل بأقوى أمم البشر، من آثار عزته تعالى وقوته، ومظاهر عدله وحكمته،
الدالة على أنه هو الذي يغير ولا يتغير، ويبدل ما شاء بما شاء ولا يتبدل وأن
الأمن من مكره غرور ووبال، والقنوط من رحمته كفر وضلال، وأن القوة لا تغلب
الحق، ولكنه قد تكون بالحق وللحق ومن الحق، وأن الحق ليس بمجرد دعوى
اللسان، ولا مجرد ما يجري عليه الناس من عرف واصطلاح، فحقق الملك وسياسة
العباد، لا يجب أن يورث عن الآباء والأجداد، وإنما أحق الناس بأمر الناس، من
كان أنفعهم للناس، وإقامة سنن الله تعالى في الاجتماع {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ
زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال} (الرعد: 17) .
ثم يذكرهم على عادته بما طرأ على سير الإصلاح، بعد أن خفتت أصوات
المعارضة في جميع الأقطار، وهو شيء حدث في هذه الديار، ذلك بأن فيها
كغيرها أناسًا اغتروا بمظاهر القوة المادية، فاحتقروا قوى العقائد والفضائل
الروحية، وفتنوا بتقليد الأقوياء بما هو من آفات القوة ومفاسدها، لا من أسبابها ولا
من محامدها، كالسرف في الزينة والترف، والانغماس في الشهوات واللذات،
وأعجب أمرهم أن منهم من يدعون الدعوى إلى الإصلاح، والصعود بالضعفاء إلى
مستوى الأقوياء، أولئك هم الملاحدة المتفرنجون، الذين يفسدون في الأرض ولا
يصلحون، وإنما حجتهم على عامة المسلمين، سوء حال كثير من المعممين،
وتذللهم للأمراء والحاكمين، وذمهم بعصبية الدين، وإن لهؤلاء الملاحدة لقوة من
غيرهم لا من أنفسهم ولكنهم يعتزون بها، وإن منهم من يكيد للمؤمنين مكايد لا
يفطنون لها، وإن للمؤمنين لقوة ذاتية ولكنهم غافلون عنها، وإنما بقاء الباطل في
غفلة الحق عنه، فإذا قذف عليه دمغه، وإن بقاء الباطل لإلى زوال {وَمَا كَيْدُ
الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} (غافر: 25) .
قد كان ملاحدة قطرنا هذا أجبن ملاحدة المسلمين وأخوفهم من إظهار الكفر،
على كونهم أجرأهم على الجهر بالفسق، ثم تجرأ أفراد منهم منذ سنين على
التصريح به أو ببعض لوازمه في الجرائد، بعد طول العهد على تصريح الكثيرين
بذلك في المجالس، ومنهم من ألف كتبًا أو رسائل في ذلك؛ ثم بلغنا في العام
الماضي أنهم ألفوا جمعية لأجل التعاون على تشكيك الناس في الإسلام وجذبهم إلى
الإلحاد، والطعن في عقائد الدين وآدابه وأحكامه ولا سيما الآداب والأحكام الخاصة
بالنساء. وأنشئوا لهم صحيفة لدسّ الدسائس، وبث الوساوس، وتوجيه العناية فيها
إلى نابتة المدارس، وبناء دعوتهم على قاعدة التشويه للقديم والصد عنه، والتنويه
بالجديد والترغيب فيه، وإن لهم لأنصارًا في القصور والدواوين، وفي المدارس
وأكبر معاهد الدين، وقد استفادوا من تقييد حرية المطبوعات بسبب الحرب، ما
كفوا به أقلام من تصدّى لإحباط بعض دسائسهم من أهل الحق، وإنهم ليختلبون
ألباب المختبلين من الشبان والشابات، بما ينمقون من زخرف الشبهات {وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ
* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ
الفَسَادَ} (البقرة: 204-205) .
فبهذا قد وجب على أهل الإصلاح أخذ الأهبة لجهاد جديد، هو أشد من جهاد
أصحاب الخرافات والتقاليد، فإن أصحاب الخرافات عزل وهؤلاء الملاحدة
مسلحون، وأولئك ضعفاء متفرقون، وهؤلاء أقوياء مجتمعون، وأولئك غافلون
متواكلون، وهؤلاء أيقاظ حذرون، فإذا جاهد أهل الإصلاح أباطيلهم بمثل ما
يجاهدون به الحق، من الاجتماع والتعاون والحزم، كانوا حزب الله الغالبين
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) , {إِنَّا
لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر: 51-52) .
إن هؤلاء الملاحدة لا يخافون من الأزهر وما يَتْبعه من المعاهد الدينية ما
داموا يدّعون الإسلام بألسنتهم، بل لا يعدمون هنالك أولياء وأنصارًا لهم، لما بين
نفاق الاعتقاد ونفاق الأعمال، من رابطة التناسب والاتصال، ويقال: إن لجمعية
الإلحاد الجديدة ركنًا في الأزهر ركينًا، وإنهم بذلك أوشكوا أن يحدثوا فيه حدثًا مبينًا
ولكنهم لم يصيبوا به إلا خذلانًا وفشلاً مهينًا، ولأن كلاً منهما يؤثر المنافع الخاصة
ويتوسل إليها بما في يده من المصالح العامة؛ ولأن أكثر الأزهريين، لا يعنون
بالنظر في مكتوبات المتفرنجين، وما كل من ينظر فيها، يفهم المراد منها، وما
كل من يفهم أن فيها طعنًا على الدين يهتم بالدفاع عنه، وما كل من يهتم منهم بذلك
يقدر عليه، وما كل من يقدر عليه يقوم به. لأجل ذلك كله لا يحسب هؤلاء
الملاحدة للأزهريين حسابًا، وقد يكذّب الأزهر ظنهم فيه كِذابًا، وإنما يخافون من
رجال الإصلاح سواء كانوا من الأزهر أو من غير الأزهر؛ لأنهم أقدر الناس على
إظهار عوارهم، وتقليم أظفارهم، ولأن كل ما يزعمونه ويتقربون به إلى الأمة من
السعي إلى ترقيتها وتمدينها، قد سبقهم إليه طلاب الإصلاح الإسلامي مع المحافظة
على مقوّمات الأمة ومشخصاتها، وإنما أركانها الدين واللغة والعادات والأزياء،
وهم يحاولون هدم ذلك كله بلا استثناء.
واضرب لهم مثلاً ما قاله أحد الظرفاء مفاكها للأستاذ الإمام - وهو في مرض
موته - قال: إن طريقتك في تفسير القرآن قد أضرت الأمة أعظم الضرر! قال
الأستاذ لماذا؟ قال: لأنها أبانت للناس أن الدين موافق للعقل والعلم وركن من
أركان المدنية، فتعذر علينا ما كنا نحاول من هدمه بدعوى أنه عقبة في سبيل
ترقينا في دنيانا. فمن هذه الجملة التي عبر قائلها عن خدمة الأستاذ الإمام العليا
للدين وللمسلمين، ينجلي لنا رأي هؤلاء الملاحدة في الإصلاح والمصلحين {يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27) .
من أجل هذا كانت مدرسة الدعوة والإرشاد قذًى في أعينهم، وشجًى في
حلوقهم، وطخًا على قلوبهم، وما زالوا يكيدون لها، حتى حالوا دون أعظم إعانة
كانت تنتظرها، وقد كان أشدهم سعيًا وسعاية، أشدهم استهزاء بالدين وزراية،
ذلك الذي كلما عنّ مطعن يلوي عنقه ويهز أكتافه، ويُنغض رأسه ويثني أعطافه،
ويتبسم ساخرًا، أو يُغرب ضاحكًا - ذلك الذي يعلم رئيسه الآن، أنه يأكل لحم
الخنزير جهرًا في نهار رمضان، ولو زدنا في وصفه لعرفه كثير من الناس، وإنما
الغرض بيان الصفات والأعمال، وعلى هذه الشاكلة كل أولئك الصّلال، الذين لم
يرضوا بسكوت المسلمين لهم على الضلال، حتى تصدوا للعدوان والصيال،
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ} (إبراهيم: 46) .
فهم على ما هم، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
القَوْلِ} (محمد: 30) وفيما يوجهون إليه القوة والحول، فمنهم من يحاول هدم
الإسلام، بالدعوة إلى استبدال لغة العوام بلغة القرآن، ومنهم من يبتغي التشكيك فيه
بنشر آراء الماديين، من القدماء والأوربيين، ومنهم من يصد عن مَحَجَّته،
بتفضيل ما عرفوا من القوانين على ما جهلوا من شريعته، ومنهم من ينفر عما
حُرِمَه من آدابه الروحية والاجتماعية، تلذذا بما حرَّمه من الشهوات الضارة
والعادات البهيمية، ومنهم من هم أقصر من هؤلاء نظرًا، وأظلم بصيرة وأفسد ذوقًا،
وهم الذين يحتقرون مشخصات أمتهم (كالجبة والعمامة) ويهزءون بها،
ويرغبون في الاستعاضة بالأزياء الغربية عنها، ويتوهمون أنهم قد عرجوا بذلك
إلى مستوى من فلسفة الذوق والجمال، لا يعرفه إلا من حلق في جو الخيال إلى
أوج الكمال، كمخترعات الأزياء الجديدة (المُودَه) من ربات الغنج والدلال، ولو
عقلوا ما تجره هذه الفلسفة النسائية أو الصبيانية من الخزي والنكال، أو قرءوا
وفهموا ما قاله الدكتور سنوك الهولندي في خطبته في مستقبل الإسلام، لودوا لو
كانوا من ربات الحِجال، راجعين عن مذهب السفور ومخالطة نسائهم للرجال،
وإنما يلوذ هؤلاء وأولئك بخلابة المقال {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ
مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة: 212) .
وجملة القول أننا بعد أن فرحنا بنصر الله - تعالى - لحزب الإصلاح على
المبتدعة والدجالين , قد ابتلينا بتكوين حزب للملاحدة المارقين، يواليه أفراد من
أغرار الشبان وكهول المنافقين، فإذا ترك هؤلاء وشأنهم، وسكت لهم أهل الحق
على ما ينفثون من سموم أباطيلهم تعظم جرأتهم، وتنتشر دعوتهم، وتكبر فتنهم،
وليس الاستظهار عليهم بالأمر العسير، فإن حجتهم داحضة، وغواياتهم متناقضة،
وغاياتهم متعارضة، يخافون الردة الصريحة، أن تحرمهم احترام الأمة وبعض
مناصب الحكومة، فالجريء منهم على التصريح بالكفر على رءوس الأشهاد قليل،
وإنما يصرحون غالبًا بما يظنون أنه يحتمل التأويل، كزعمهم أن النبي عليه الصلاة
والسلام، أقرَّ العرب على بعض عباداتهم الوثنية؛ لأجل استمالتهم كما فعل بعض
البابوات، وهذان من أقبح البهتان، فإن ما أقره الإسلام من مناسك الحج كان من
شريعة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فهو الذي بنى بمساعدة ولده إسماعيل
البيت العتيق، وطهره للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأذنَ في الناس بالحج
فلبوه من كل فج عميق ومن دعائه عليه الصلاة والسلام، {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ
آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) .
هذا وإن سواد المصريين الأعظم يغار على دينه، ويذب عنه بشماله ويمينه
حتى إن أكثر المتعلمين في المدارس المتفرنجة والإفرنجية، ليتعصبون له عصبية
سياسية اجتماعية، لا يشعر بمثلها المتعلمون في المعاهد الدينية، فهم يمقتون من
يجعل نفسه داعية للكفر، ويلفظونه كما تلفظ النخامة من الفم، ويعلمون أن ما
يتوخاه هؤلاء من نباهة الذكر عند الأوربيين، والتشبه بمن ناهضوا الكنيسة
ورجال الدين، ليس بالغرض الصحيح الذي يعذرون فيه، ولا العمل المفيد للدنيا
فيساعدهم من لا يؤمن بالآخرة عليه، فهم لا يجدون في الإسلام، ولا في رؤسائه
تلك الأسباب التي حملت بعض كُتاب أوربا وجمعياتها السياسية على مجاهدة
الكنيسة ورجالها والطعن في نفس النصرانية، فالإسلام نفسه أرشد البشر إلى العلوم
العقلية والكونية، وأوجب الفنون والصناعات المدنية، وأخرج البشر من رق
رؤساء الدين والدنيا إلى فضاء الحرية، وأما رجال الدين الرسميين في مصر فلا
مجال لاتهامهم بعصبية دينية، ولا بمقاومة الحرية العلمية ولا العملية، أنَّى وشيخ
الأزهر ومفتي الديار المصرية، وشيخ مشايخ طرق الصوفية، قد اشتركوا في جمع
الإعانة لجمعية الصليب الأحمر، حتى فرضها الأول على جميع أصحاب الرواتب
في الجامع الأزهر، وحضروا ما كانوا يتحامون من المحافل، في معاهد التمثيل
والفنادق؟ وقد حضر المفتي حفلة الصلاة على روح لورد كتشنر في هذه الأيام،
كما حضر الصلاة على روح بطرس باشا منذ أعوام، فلم يبق لهؤلاء الملاحدة ما
ينقمونه من هؤلاء العلماء، إلا عدم مشايعتهم إياهم على السفور ومخالطة النساء،
ولعلهم لا يرضونه منهم إلا أن يغيروا هذه الأزياء {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ
رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ} (آل عمران: 8-9) .
... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(19/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السنة وصحتها والشريعة ومتانتها
رد على دعاة النصرانية بمصر
تمهيد: في بيان حالنا مع المبشرين:
لا يزال دعاة النصرانية (المبشرون) يطعنون على الإسلام بما ينشرون
من الرسائل والمقالات، وإنني أتعمد ترك قراءة ما يصل إلي من مجلاتهم
ورسائلهم حتى لا أفتح على نفسي باب الرد عليهم، إذ رد الشبهات الموجهة إلى
الإسلام إنما يجب على من علمه وجوبًا كفائيًا، وقد كنت أكره الرد عليهم لولا ذلك،
وإن كانوا يظنون أنه من مقاصد المنار ومشروع الدعوة والإرشاد الذي أكبروا أمره،
على أنه لم ينلهم منه أذًى بقول ولا فعل، وجميع الطلبة في دار الدعوة والإرشاد
من قسم المرشدين الذين يعدون لإرشاد العوام لمقاومة الشرور والمعاصي الفاشية
فيهم، فقد كثرت في هذه البلاد جناياتهم في الأنفس والأموال والزروع، وفشا
فيهم السكر والقمار والفحش.
نعم: إن من مقاصد المنار، رد الشبهات عن الإسلام مقاومة للشك والتشكيك
فيه، وإنما أكره الجدل، وأكره تعمد مناقشتهم أو فتح بابها عليّ؛ لأنهم هم الذين
يتعرضون لها وينتفعون بها، وما أكثرت من محاجة أهل الكتاب في سنتي المنار
الأخيرتين إلا في التفسير؛ إذ اتفق بلوغي فيه إلى سورتي النساء والمائدة
المدنيتين، وأكثر ما في القرآن من محاجة أهل الكتاب في هاتين السورتين وأقله
فيما قبلهما. على أن فيه أيضًا ما أوجبه الإسلام من إنصافهم والعدل فيهم، وبيان
مودة النصارى منهم. وقد انتهينا من ذلك، ووصلنا إلى تفسير السور المكية التي
خوطب بها المشركون وقلما يذكر فيها أهل الكتاب إلا في سياق بيان سنة الله تعالى
في الرسل وأممهم.
لهذا كنا نظن أن باب محاجة أهل الكتاب يكون مقفلاً في المنار إلى ما شاء
الله، ولكن مجلة المبشرين العربية (الشرق والغرب) نشرت في العدد الذي صدر
منها في أول الشهر الماضي (أبريل) مقالة عنوانها (السنة وصحتها) طعنت فيها
على السنة النبوية، وزعمت أن طعنها يوجب الريب في الشريعة، وترك العمل
بها، وأنها لا قيمة لها في نفسها، وقد جاءتنا المجلة فلم نفتحها، ثم علمنا بتلك
المقالة فلم نقرأها، ثم رأينا لهذه المقالة تأثيرًا سيئًا في المسلمين حتى إن منهم من
نقلها عن المجلة وطبع كثيرًا من نسخها بمطبعة الجلاتين، ووزعت على الناس،
ووصلت إلينا نسخة منها، واقترح علينا كثيرون أن نرد عليها فوجب شرعًا إجابة
طلبهم.
ومما أكد وجوب الرد ما رأيناه في المقالة من مطالبة ثلاث مئة مليون من أهل
السّنّة بالجواب عنها! فلا ندع لهم مجالاً أن يقولوا للمسلمين: إنه لم يستطع أحد من
علمائكم أن يدافع عن سننكم وشريعتكم، ولا يرد شيئًا من حججنا عليها!
فها نحن أولاء نرد عليهم ردًّا يعلمون ويعلم الناس به أنهم لم يتحروا الأمانة فيما
نقلوا من كتبنا، ولم يفهموا ما قرءوا منها وما نقلوا عنها، وأن طعنهم في أبي
هريرة - رضي الله عنه - خطأ، وأنه لو صح لم يترتب عليه بطلان الثقة بالسنة،
ولا ما رتبوه على ذلك من عدم وجوب طاعة الشريعة، وإنما قصاراه أنهم افتحروا
دعاوى نسبوها إلى الإسلام، وردوا عليها بما لا يصلح أن يكون ردًّا.
وقد رأينا أن ننقل كلامهم برمته على ما فيه من الركاكة واللغو والضعف،
وإطلاق بعض الكلم على غير المعاني التي نطلقها عليها، ولكن لا نناقشهم في شيء
من الألفاظ لذاتها، ولا في العبارة من حيث ضعفها، بل في المسائل والمعاني، وقد
كان الغرض الأول من نقل عبارتهم بنصها، وعدم تلخيص مسائلها والرد عليها،
أن لا يتوهم أحد منهم أو من غيرهم أننا تصرفنا في التلخيص تصرفًا يخل بالمعنى
المراد، أو حذفنا منه ما لا يمكن ردّه بنقض ولا انتقاد، واستتبع ذلك بيان أن القوم
لا يوثق بنقلهم ولا بفهمهم.
ومن المعلوم بالضرورة أنهم ليسوا كالفلاسفة، الذين يبحثون في المسائل؛
لأجل استبانة الحق في ذاته، وإنما يتحرون بالبحث ما يرون فيه سبيلاً للطعن
والاعتراض، ومجالاً للتشكيك وإثارة الشبهات، كما يعلم مما يأتي.
***
الجملة الأولى من مقدمة الطاعن
افتتح طاعنهم مقالته بجملة تتضمن عدة دعاوى هذا نصها:
(إن صحة الشريعة قضية لا بد لكل مسلم سني من التسليم بها وذلك متوقف
على صحة السنة، فإذا ارتاب أحد في صحة السنة، فليس ثمة داعٍ منطقي يوجب
إطاعة الشريعة؛ لأن جانبًا قليلاً منها فقط يتوقف على القرآن، والجانب الأكبر
يتوقف على السنة التي اجتمعت في الأحاديث. فإذا ثبت الريب في هذه الأحاديث
تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها من حنفيّ ومالكيّ وشافعيّ وحنبليّ.
وعددهم لا يقل عن ثلاث مئة مليون من الأتباع) .
نلخص هذه الجملة من كلامه في ثلاث قضايا ونبين ما فيها.
***
القضية الأولى
(زعمه إذا ارتاب أحد في السنة ينتفي وجوب طاعة الشريعة)
هذه القضية بديهيّة البطلان، فإن الإطلاق في جزاء الشرط يدل على أن
المراد من القضية الشرطية أن ارتياب فرد من الأفراد في صحة السنة، يستلزم
انتفاء وجوب اتباع الشريعة على جميع الأفراد، وإنما المعقول الموافق للمنطق أن
ارتياب الفرد أو ظنه أو علمه، يترتب عليه ما يستلزمه في حق نفسه، ولا يكون
ذلك مؤثرًا في غيره ممن لم يرتب ارتيابه أو لم يعلم علمه، وكذلك ارتياب الأفراد
الكثيرين.
وقد ارتاب بعض علماء أوربة الأحرار في وجود المسيح - عليه السلام -،
وزعموا أنه شخص خيالي - أو متخيل - لم يوجد، كما زعم بعض المؤرخين مثل
ذلك في هوميروس شاعر أساطير اليونان، فهل استلزم ارتياب أولئك المرتابين فيه
انتفاء إيمان مئات الملايين من المسلمين والنصارى وغيرهم بوجوده عليه السلام.
***
القضية الثانية
(زعمه أن أكثر الشريعة يتوقف على الأحاديث)
هذه القضية غير مسلَّمة، فإن الشريعة عندنا تشمل العقائد والعبرة فيها بالدلالة
القطعية، وجميع العقائد التي تتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بنصوص القرآن
وإجماع المسلمين، وإثبات الألوهية والنبوة منها مؤيد بالبراهين العقلية، ولا يوجد
شيء منها يتوقف على أحاديث الآحاد التي يمكن الارتياب في بعضها، وكذلك
أصول العبادات كلها قطعية، ثابتة بالقرآن والسنة العملية المتواترة التي لا تتوقف
على أحاديث الآحاد.
وما ثبت من أحكام العبادات بأحاديث الآحاد ولم يجمع عليه أئمة العلم فلا
تتوقف عليه صحة الإسلام، وإن كان صحيحًا في نفسه، وإنما هو مزيد كمال في
علم السنة، أما أحكام الشرع في المعاملات، فأكثرها مأخوذ من القواعد والأصول
وكذا الفروع الواردة في القرآن، إما بالنص وإما بدلالة النص وفحواه، ومن القياس
الذي توسع فيه بعضهم كالحنفيّة فالشافعيّة، والمصالح العامة التي توسع فيها المالكيّة
والحنابلة. وأقلها من حديث الآحاد.
وما بقي من أركان الشريعة بعد العقائد والأحكام العملية إلا الأخلاق والآداب،
وجميع ما ورد في الأحاديث من الحكم والفضائل والآداب فهو مستمد من القرآن
الحكيم وشرح له، بل السنة كلها بيان للقرآن لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة
-رضي الله عنها- أنها وصفت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقولها: كان
خلقه القرآن.
وقد اختلف العلماء في أحكام السنة التي لا تستند إلى نص من القرآن فقيل:
إنها بوحي من الله - تعالى -، وإن الوحي لا ينحصر في القرآن، ولكن للقرآن
مزايا ليست لغيره من وحي الله إلى خاتم رسله ولا إلى الرسل قبله، أعظمها
إعجازه والتعبد بتلاوته. وقيل: إن الله - تعالى - أذن لرسوله بأن يحكم، ويشرع
برأيه واجتهاده.
ومن تأمل كثيرًا من الأحكام التي استدلوا عليها بالسنة وحدها، يرى لها مآخذ
من القرآن، كتحريم الجمع بين المرأة وبين عمتها أو خالتها إلى الزواج، وكتحريم
الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقد بيّنا ذلك في المنار، كما بينا تفاوت
الأفهام في الغوص على دول القرآن، وأين أفهام الناس كلهم فيه من فهمه - عليه
الصلاة والسلام -؟ وقد ثبت مع ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي في
المسائل السياسية والإدارية باجتهاده، ويستشير فيها أصحابه.
***
القضية الثالثة
(زعمه أنه إذا ثبت الريب في الأحاديث تزلزلت أركان الشريعة)
هذه القضية غير مسلَّمة أيضًا، وفيها إجمال وإيهام، فإذا أراد بثبوت الريب
في الأحاديث ما أفادته جملته الأولى من ارتياب بعض الأفراد، ولو واحدًا فقد بينا
أن هذا لا يترتب عليه إلا ما يستلزمه الارتياب في نفس المرتاب وحده، وإذا أراد
ارتياب جميع الناس أو جميع المسلمين في جميع الأحاديث، فهذا ما وقع، ولن يقع
ولا يعقل أن يقع، وسنشرح ذلك على وضوحه في نفسه، فإن فرضنا جدلاً أنه يقع
فإنما يترتب عليه حينئذ الاكتفاء في الدين بما في القرآن والسنة العملية المنقولة
بعمل مئات الألوف وألوف الألوف منذ العصر الأول، ككيفية الصلاة والصيام
والحج وغير ذلك، وبما ثبت بالإجماع والقياس الصحيح، ولا ينقص من كتب
الشريعة حينئذ إلا الأحكام والحكم التي ثبتت بأحاديث الآحاد وحدها كما بيناه في
الكلام على القضية الثانية.
وبهذا وذاك يظهر لك بطلان قوله: (تزعزعت أركان الشريعة وأركان
تابعيها) ، فإن أراد بأركان الشريعة أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها
المرء مؤمنًا، فقد علمت أنه لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد، وإن أراد
أركان الإسلام الخمسة فكذلك، فإن معرفة هذه الأركان لا تتوقف على ثبوت
الأحاديث الواردة فيها، فإنها مُجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة، سواء صح
ما ورد فيها من الحديث أم لم يصح، على أنه صحيح، ولله الحمد، وإن أراد
بأركان الشريعة أو أركان تابعيها أصولها المستمدة منها عند الأئمة الأربعة فقوله
أظهر بطلانًا، فإن هذه الأركان أربعة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس-، وما
ألحق بها عند بعضهم كالمصالح والاستحسان، فالأحاديث جزء من السنة التي هي
ركن من الأركان، فالارتياب في هذا الجزء لا يوجب الارتياب في الجزء الآخر
منها، وهو ما ثبت بالتواتر عملاً أو قولاً، فكيف يوجب الارتياب في القرآن وكله
متواتر، وفي الإجماع والقياس؟
قلنا: إن ارتياب جميع الناس أن جميع المسلمين في جميع أحاديث الآحاد ما
وقع، ولن يقع ولا يعقل أن يقع، وبيان ذلك أن المعهود من البشر في كل زمان
ومكان أن يصدقوا خبر كل مخبر؛ لأن الأصل الغالب في أخبار الناس الصدق،
إلا إذا وجدت علة في الخبر أو المخبر تقتضي الارتياب، كأن يكون الخبر غير
معقول أو يكون المُخبِر معروفًا بالكذب. على أننا نرى الناس يصدقون أكثر أخبار
الجرائد السياسية والشركات البرقية على كثرة ما عرفوا من كذبهما، واعتقادهم أن
لأصحابهما أهواء سياسية يحاولون تأييدها بالحق وبالباطل.
فإذا كان هذا شأن البشر في أمثال هذه الأخبار التي تحوم حولها الشبهات في
أنفسها، وفي سيرة رواتها، فكيف يعقل أن يرتابوا في صحة جميع الأحاديث التي
صححها حفاظ المحدّثين بعد نقد متونها، وإقامة ميزان الجرح والتعديل لكل فرد من
أفراد رواتها، وقد علم أنهم لا يقبلون في الاحتجاج حديثًا منقطع الإسناد، ولا حديثًا
في رواته مجهول، أو أحد ثبت عليه الكذب أو سوء الحفظ أو النسيان أو مخالفة
الثقات الأثبات في روايته؟
ها أنتم أولاء تصدقون أخبار أناجيلكم الأربعة وغيرها من كتبكم، وليس
عندكم سند متصل لشيء منها، وقد اختلف علماؤكم ومؤرخوكم في كُتّابها، وفي
اللغات التي كتبت بها، وفي التواريخ التي كتبت فيها، فلم يتوفر لكم فيها شيء من
النقد والتمحيص الذي توفر لنا في نقل الحديث، أفتعقلون مع هذا، أن نرتاب في
تصديق جميع الأحاديث التي نقلت لنا بدقة، لم يعهد لها البشر نظيرًا في تاريخهم
القديم ولا الحديث، وأنتم ترون أنفسكم، وسائر البشر يصدقون أكبر ما يروى لهم
بلا سند ولا بحث في رواته، بل كثيرًا ما يصدقون أخبار من ثبت عليهم الكذب
مرارًا، كرواة البرقيات والجرائد؟
***
الجملة الثانية من كلام الطاعن
قال: (وسنثبت في الفصول التالية أن من السهل إثبات الشبهات الملقاة على
تلك الأحاديث. ونحن مثبتون في هذا الفصل وهن الاعتماد على بعض الصحابة
التي تتوقف مئات من الأحاديث على شهادتهم حتى قامت عليها الشريعة، ومنها
نشأت السنة، على أن البخاري الذي اشتهر بنقد رجال الحديث، لم يخطر له أن
يرتاب في صدق الصحابة؛ لأنهم كانوا في نظره معصومين من الكذب، وهذا يدلك
على ضعف حجته، فقد ثبت بوجه لا يقبل الشك أن أبا هريرة وابن عباس لم
يكونا مُمَحِّصيْن في رواية الأحاديث.
وغرضنا الآن أن نبين أن الريب في أحاديث أبي هريرة تسرب إلى نفوس
معاصريه ونفوس الذين جاءوا بعده، ومع ذلك فقد نقل عنه البخاري الأحاديث
بالمئات، فتداولتها ألسنة المجتهدين الذين أسسوا المذاهب الأربعة، وبنوا عليها
نظامهم الشرعيّ) .
أقول: نلخص هذه الجملة في قضايا تابعة في العدد لما تقدم، ونبين ما فيها
من الخطإ والأباطيل.
***
القضية الرابعة
(زعمه وهن الاعتماد على رواة المئات الأحاديث من الصحابة كأبي هريرة)
هذه القضية باطلة، فإنها توهم القارئ أن الكاتب يثبت في هذا الفصل مطاعن
في عدالة عدة من الصحابة الذي رووا المئات الكثيرة من الأحاديث حتى إذا ما قرأ
الفصل كله لم يجد فيه إلا روايات في واحد منهم، وهو أبو هريرة - رضي الله
عنه - ويرى أن هذه الروايات لا تسقط عدالته كما نبسطه في هذا المقال. وهذا
مما يؤيد قولنا: إن هؤلاء الناس يكتبون ما لا يفهمون؛ لأنهم اعتادوا الجرأة على
إلقاء المطاعن من غير تفكير ولا روية، فهم ينقضون ما يبنون ولا يشعرون.
***
القضية الخامسة
زعمه أن البخاري
لم يخطر بباله الارتياب في صدق الصحابة لاعتقاده عصمتهم
هذه القضية باطلة أيضًا لأنها حكم بعموم السلب، على شيء يتعلق بالقلب لا
يعلمه إلا الرب، فإن مثل هذا الكاتب لا يناقش في مثل هذا التعبير؛ لأنه لا يفرق
بينه وبين القول بأن البخاري لا يتهم أحدًا من رواة الصحابة بالكذب، ولا بغيره من
العلل القادحة في الرواية، وإنما نريد بيان بطلان زعمه أن البخاري كان يرى أن
رواة الصحابة معصومون.
والصواب أنه كان يرى ويقول: إنهم عدول صادقون ولا معصومون، وما
قال هذا القول هو وغيره من نقاد المحدثين إلا بعد تتبع تاريخهم، كغيرهم من
الرواة، وقد نقل عنه الطاعن ما أراد أن يسقط به عدالة أبي هريرة، وشيئًا من
تمحيصه لما يرويه، فالبخاري كان أعلم من الطاعن بكل ما قيل في أبي هريرة،
وبما رواه أبو هريرة، ولم يره مُسقطًا لعدالته، ولو رآه مسقطًا لها لما روى عنه
في صحيحه.
وقد كان البخاري من أئمة أهل السنة الذين لا يقولون بأن أحدًا من البشر
معصوم من الكذب إلا الأنبياء - عليهم السلام -، وصدق الرواية لا يتوقف على
العصمة، وإلا لما قبل أحد من البشر قول أحد بعد تبليغ أنبيائهم الوحي، وإنما
يكتفى في تصديق الرواية العلم بعدالة الراوي، وجوده حفظه وضبطه لما يرويه،
ولم ينقل عن أحد من مؤرخي البشر، ونقلة الأخبار مثلما نقل عن البخاري من شدة
التحري في كتابه الجامع الصحيح، فليأتنا هذا الطاعن بمثله أو بما يقرب منهم من
علمائهم، كيف، وكتبهم المقدسة تنسب الكذب وغيره من كبائر المعاصي إلى
الأنبياء - برأهم الله تعالى، وصلى الله عليهم وسلم -؟
وهؤلاء المبشرون وأهل نحلتهم لا يقولون بعصمة الأنبياء، دع عصمة ناقلي
كتبهم بغير أسانيد متصلة، ولكنهم يقبلون ما عزي إليهم، وسنشير إلى المقابلة بين
رجالنا ورجالهم في هذا المقال، ولا حاجة إلى تفنيد قوله بضعف حجة البخاري،
الذي بناه على زعمه أن البخاري، يعتقد عصمة الصحابة، فهو ساقط في نفسه،
وأضعف منه وأسقط ما بناه عليه.
***
القضية السادسة
(زعمه أن الأئمة الأربعة أسسوا مذاهبهم
على ما رواه البخاري عن أبي هريرة)
هذه القضية الباطلة، تدل على مبلغ علم المبشرين الناشرين لهذا المقال،
وعلى درجة تحريهم وصدقهم فيما يقولون وينقلون.
الحافظ البخاري متأخر عن الأئمة الأربعة، أدرك رابعهم الإمام أحمد بن
حنبل وتلقى الحديث عنه. وقد جاء في تهذيب التهذيب عن العقيليّ أن البخاريّ لما
ألف كتابه الصحيح عرضه على علي بن المَدينيّ ويحيي بن مَعين وأحمد بن حنبل
(وكلهم من كبار شيوخه) وغيرهم، فامتحنوه، وكلهم قال: كتابك صحيح إلا
أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.
والشاهد في هذا النقل أن البخاري أخذ عمن أدرك من الأئمة الأربعة، ولم
يأخذ أحد منهم عنه شيئًا، ولم يكن أحد من المجتهدين يقلد أحدًا في رواية ولا دراية
وإنما يأخذ كل منهم بما صح عنده من الرواية.
ولد الإمام أبو حنيفة سنة 80 وتوفي سنة 150 وولد الإمام مالك سنة 93
وتوفي سنة 179 وولد الإمام الشافعيّ سنة 150 وتوفي سنة 204 وولد الإمام أحمد
162 وتوفي 241 وولد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري سنة 194 وتوفي سنة
256 وقد رحل من بلاده لطلب العلم سنة 210 أي: بعد وفاة الإمام الشافعيّ ببضع
سنين وبعد وفاة مالك بإحدى وثلاثين سنة، وبعد وفاة أبي حنيفة بستين سنة.
فكيف أجاز لهذا الطاعن في السنة والشريعة، دينه وعقله أن يقول: إن
الأئمة الأربعة أخذوا عن البخاري ما رواه من الأحاديث عن أبي هريرة، وبنوا
عليه نظامهم الشرعي؟ وكيف توهم أنه جاء بعلوم وحقائق، تزعزع هذه الشريعة
التي هي أثبت من الجبال الرواسي؟ أبمثل هذه الدعاوى المخترعة تهدم الحقائق
الثابتة؟
***
الجملة الثالثة من كلام الطاعن
الشبهات في أبي هريرة
الشبهة الأولى
(1) قال الطاعن: الارتياب العام في أبي هريرة (بشهادة نفسه) حدثنا
عبد العزيز بن عبد الله ... عن أبي هريرة قال: (إن الناس يقولون: أكثر أبو
هريرة، ولولا آيتان من كتاب ما حدثت حديثًا ... إن إخواننا من المهاجرين كان
يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم،
وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه، ويحضر
ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون) .
(البخاري جزء أول كتاب العلم صفحة 37) وكتب في الحاشية ما نصه:
(جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7: 23 قوله: (إنكم تزعمون أن أبا هريرة
يكثر الحديث عن رسول الله وقد علل هذا الإكثار برواية غريبة) اهـ كلام
الطاعن.
***
الجواب عن هذه الشبهة
استدل الطاعن بهاتين الروايتين على ما سماه الارتياب العامّ في أبي هريرة،
ويفهم من هذا أنه يوهم قارئ مقالته أن جميع أهل عصره، أو أكثرهم كان يرتاب
في صحة روايته، وهذه دعوى باطلة، ولفظ الناس يصدق بالقليل والكثير، قال
الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران:
173) .
روي في التفسير المأثور أن الذي قال ذلك هو نعيم بن مسعود قال: إن أبا
سفيان يجمع لكم الجيش ... إلخ، وقيل: إن القائل ركب عبد القيس، فالناس اسم
جنس يطلق على الواحد كما يقال: فلان يركب الخيل: وإن لم يركب إلا فرسًا
واحدًا، ويطلق على الكثير.
وقد ثبت أن بعض الصحابة أنكروا إكثار أبي هريرة من التحديث كما هو
صريح، هذا الحديث الذي اختصره الطاعن من البخاري، وقد صرح في رواية
أخرى له بزيادة ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل حديثه ووجه
الإنكار أن أبا هريرة من متأخري الصحابة، فينبغي أن يكون أقل سماعًا منهم.
ومن المعلوم بالبداهة المتفق عليه من العقلاء، الذين يقضون به في محاكمهم
أن الاستنكار والاستغراب في مثل هذا لا يقتضي الاتهام بالكذب، وأن التهمة لا
تقتضي بمجردها سلب العدالة؛ لأن من التهم ما يبنى على شبهات وأوهام، ومنه ما
هنا.
وقد أجاب أبو هريرة عن الإكثار هنا بأنه كان يلزم الرسول - صلى الله عليه
وسلم - لا يكاد يفارقه؛ إذ لا تجارة له كالمهاجرين، ولا حرث له كالأنصار،
فيشغله هذا أو ذاك، فكان بهذه الملازمة يسمع ما لا يسمعون ويحفظ ما لا يحفظون
ويضاف إلى هذا الجواب أنه حدث بما سمعه وبما رواه، وأجوبة أخرى سيأتي
بيانها، وأجاب عن أصل التحديث بالآيتين الدالتين على وجوب إظهار العلم وحرمة
كتمانه، وهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} (البقرة: 159) إلى قوله: {التُّوَّابُ
الرَّحِيم} (البقرة: 160) وقد حذف ذلك الطاعن.
وأما الرواية الثانية، وهي ما نقله الطاعن في الحاشية عن الإصابة لابن
حجر فهي رواية أخرى لهذا الأثر نفسه، رواهما البخاري عن الأعرج -عبد
الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة، وقال الطاعن: إنه علل الإكثار برواية غريبة؛
أي: علل كثرة تحديثه بعلة غريبة أي: عند الطاعن، ولم يذكر هذه العلة! وهي
عين العلة التي في الرواية الأخرى مع زيادة تعدّ من آيات النبي - صلى الله عليه
وسلم - ودلائل نبوته؛ ولذلك لم يذكرها الطاعن، وهي: فحضرت من النبي -
صلى الله عليه وسلم - مجلسًا فقال: من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه
إليه فلن ينسى شيئًا سمعه مني فبسط برده عليّ حتى قضى حديثه ثم قبضتها إليّ،
فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئًا سمعته منه بعد، وروى هذا الحديث أحمد ومسلم
والنسائي وغيرهم من طرق.
وقد فهم أبو هريرة من الحديث عموم السلب المطلق، وصدق عليه ذلك،
وإن كان لفظ الحديث يحتمل تقييد العموم بما يقوله - صلى الله عليه وسلم - مدة
بسط الرداء، وسنذكر بعض ما قاله الأئمة النقاد في حفظ أبي هريرة، ولم يرو عنه
في الصحيح أنه نسي شيئًا حدث به إلا حديث (لا عدوى) فإنه أنكره بعد أن روى
ما يدل على ثبوت العدوى، ولعله كان من مراسيله لا من سماعه، فلا يتعارض مع
قوله: إنه ما سمع شيئًا ونسيه، أي: بعد مسألة الرداء، أو كان من سماعه قبل
بسط الرداء.
***
الشبهة الثانية
(2) قال الطاعن: تهمة أبي هريرة بالكذب (بشهادة نفسه) : (عن أبي
الرزين قال: خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده على جبهته فقال: ألا إنكم
تحدثون أني أكذب على رسول الله لتهتدوا وأضل، ألا وإني أشهد لسمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى
حتى يصلحها (جزء 4: 440) لا يخفى ما في هذا من الضعف) .
(3) ونقل ابن حجر عن أحمد بن حنبل (جزء 7 صفحة 205) قوله:
(قيل: له أكثرت فقال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع أي: الجلود) وقد
أردف هذا بشكوى أخرى وهي قوله: (أكثر علينا أبو هريرة) .
(4) نقل ابن حجر عن عائشة (جزء 7 صفحة 205) ما يأتي: قالت
عائشة لأبي هريرة: (إنك تحدث بشيء ما سمعته) فأجابها أبو هريرة بما مؤداه
أنها كانت مهتمة بزينتها فلم تسمع ما سمعه هو.
(5) عبد الله بن عمرو بن العاص جاء في كتاب أخبار مكة للأزرقي
صفحة 135 قوله: حدثنا أبو الوليد. عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن
عمرو بن العاص المسجد الحرام والكعبة محرقة حين أدير جيش الحصين بن نمير
والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف، ومعه ناس غير قليل، فبكى حتى إني لأنظر إلى
دموعه تحدَّر كحلاً في عينيه , فقال: يا أيها الناس والله لو أن أبا هريرة أخبركم
أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرِّقو بيت الله ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب
من أبي هريرة.
(6) عبد الله بن عمر جاء في الترمذي جزء 1 صفحة 281 قوله: حدثنا
ابن عمر فقال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلا
كلب صيد، أو كلب ماشية. قيل له: إن أبا هريرة كان يقول: أو كلب زرع.
فقال: إن أبا هريرة له زرع) , ولا يخفى ما في هذا من التقريع اللطيف.
(7) عن الإصابة لابن حجر جزء 7 صفة 205. كان أبو هريرة قد روى
حديثًا عن الصلاة لم يعجب مروان فسأل عبد الله بن عمر فقال عبد الله: لقد أكثر
أبو هريرة، فقال له: أتنكر شيئًا مما يقولون؟ فقال: لا، ولكن اجترأ وجبنا.
وبلغ ذلك أبا هريرة، فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟ . ولا نظن قوله:
(اجترأ وجبنا) من قبيل الازدراء، فإن ابن عمر ما كان ينسب الجبن إلى نفسه،
أما الجرأة التي نسبها إلى أبي هريرة، فمعناها التهجُّم والتحدي.
لعل في هذا ما يميط لنا اللِّثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا على عظم
الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن ليجسر
على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء.
(8) جاء في الإصابة لابن حجر جزء 7 صفحة 205 أن مروان استاء
من كلمة قالها أبو هريرة، فاتهمه بالإكثار من الرواية، وأردف ذلك بقوله: (إنما
قدم أبو هريرة قبل وفاة رسول الله. . بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله
بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت حتى مات) .
(ملاحظة) : كان محمد في خيبر في سنة سبع هجرية، أي: قبل موته بنحو
أربع سنوات، فالحادثة المذكورة هنا تبين، أن معاصري أبي هريرة أنفسهم كانوا
يرون المدة قصيرة جدًّا، لا تعلل إكثاره من رواية الأحاديث التي كان يستشهد بها
كلما شاء. اهـ كلام الطاعن بحروفه وإشاراته ورموزه، وحذفه من الروايات
وغلطه فيها وهو كثير، ومنه قوله (أتنكر شيئًا مما يقولون) وصوابه (مما يقول)
يعني: أبا هريرة، وقوله: (أجرأ وجبنا) وصوابه (اجترأ وجبُنَّا) ولعل هذا
الخطأ من الطبع، لا من تحريف الناقل، ولكن بعض غلطه من سوء الفهم قطعًا،
كقوله بعد الحديث الذي عزاه إلى أحمد: وقد أردف هذا بشكوى أخرى..إلخ،
والصواب أن هذه الزيادة ليست من حديث أحمد. ومنه ما فهمه من كلام
ابن عمر.
***
الجواب عن هذه الشبهة
نقول: أولاً: ليس في هذه الروايات التي أوردها الطاعن، تصريح من أحد
بأن أبا هريرة قد ثبت عليه الكذب.
وثانيًا: إن التهمة لا تثبت إلا بالبينة والدليل، باتفاق الشرائع والقوانين،
وعرف أهل العقل والعدل من البشر أجمعين، ولم يُقم أحد دليلاً، ولا بينة على أن
أبا هريرة كذب، وإنما عرض لبعض الصحابة شبهة في رواية أبي هريرة، ولو
ثبتت الشبهة، وظلت مجهولة وسببها خفيًّا لصح أن تجعل علة، لعدم إلحاق روايته
برتبة الصحيح احتياطًا، ولكن سبب الشبهة معروف، وهو لا يقتضي سلب العدالة
ولا عدم الثقة بالرواية.
وثالثًا: إن لتلك الشبهة سببين (أحدهما) خاص بكثرة الرواية، وفيه ورد
أكثر الروايات، وحاصلها أن مدة صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثلاث
سنين وأشهر، وهي لا تتسع للأحاديث الكثيرة التي كان يتوقع التكذيب بها، أو
الإيذاء أو القتل إذا حدث بها؛ لأنها من أخبار الفتن التي أخبر بها النبي - صلى
الله عليه وسلم - قبل وقوعها، وهي ما يسميه النصارى بالنبوات، ولما عرف أهل
الحديث سبب الشبهة ظهر لهم أنها لا تدل على أدنى طعن في عدالة أبي هريرة،
وبيان ذلك من وجوه.
***
أسباب كثرة حديث أبي هريرة
لكثرة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أسباب، استخرجناها من عدة
روايات (أحدها) أنه قصد حفظ أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وضبط
أحواله؛ لأجل أن يستفيد منها، ويفيد الناس، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله،
وكان أكثر الصحابة لا يجترئون على سؤاله إلا عند الضرورة، وقد ثبت أنهم كانوا
يسرون إذا جاء بعض الأعراب من البدو وأسلموا؛ لأنهم كانوا يسألون النبي -
صلى الله عليه وسلم -.
ومن الدلائل على هذا السبب ما رواه عنه البخاري قال: قلت: يا رسول الله
من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد
أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث) وما رواه أحمد عن أُبيّ بن كعب:
أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
أشياء لا يسأله عنها غيره.
(ثانيها) أنه كان يلازم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتبعه حتى في
زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه، ولو في أثناء الطريق، فكانت السنين القليلة
من صحبته له كالسنين الكثيرة من صحبة كثير من الصحابة، الذين لم يكونوا
يرونه - صلى الله عليه وسلم - إلا في وقت الصلاة، أو الاجتماع لمصلحة
يدعوهم إليها أو حاجة يفزعون إليه فيها، وقد صرح بذلك لمروان، وكما سنبين
ذلك في كلامنا على الشاهد السابع من شواهد الطاعن.
وأخرج البغويّ بسند جيد كما قال الحافظ ابن حجر: عن ابن عمر أنه قال
لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه
وفي الإصابة عنه أنه قال: أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث، وعن طلحة
بن عُبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ما لم نسمع.
(ثالثها) أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة، وهذه مزية امتاز بها أفراد من
الناس كانوا كثيرين في زمن البداوة، وما يقرب منه؛ إذ كانوا يعتمدون على
حفظهم، ومما نقله التاريخ لنا عن اليونان أن كثيرين منهم كرهوا بدعة الكتابة
عندما ابتدءوا يأخذونها، وقالوا: إن الإنسان يتكل على ما يكتب فيضعف حفظه،
وإننا نفاخر بحفاظ أمتنا جميع الأمم وتاريخهم ثابت محفوظ، قال الإمام الشافعيّ:
أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال البخاري مثل ذلك، إلا أنه قال
عصره بدل دهره. وأعظم من ذلك ما رواه الترمذي عن عمر - رضي الله عنه -
أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأحفظنا لحديثه.
(رابعها) بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بعدم النسيان، كما ثبت
في حديث بسط الرداء المتقدم، وهو مروي من طرق متعددة في الصحاح والسنن.
(خامسها) دعاؤه له بذلك كما ثبت في حديث زيد بن ثابت عالم الصحابة
الكبير -رضي الله عنه- عند النسائي وهو: (أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت،
فسأله فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في
المسجد، ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى
جلس إلينا فقال: عودوا للذي كنتم فيه قال زيد فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: إني أسألك
مثل ما سأل صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى , فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي) .
(سادسها) أنه تصدى للتحديث عن قصد؛ لأنه كان يحفظ الحديث؛ لأجل
أن ينشره، وأكثر الصحابة كانوا ينشرون الحديث عند الحاجة إلى ذكره في حكم،
أو فتوى أو استدلال، والمتصدي للشيء يكون أشد تذكرًا له، ويذكره بمناسبة
وبغير مناسبة؛ لأنه يقصد التعليم لذاته، وهذا السبب لازم للسبب الأول من أسباب
كثرة حديثه.
(سابعها) أنه كان يحدث بما سمعه وبما رواه عن غيره من الصحابة كما
تقدم، فقد ثبت عنه أنه كان يتحرى رواية الحديث عن قدماء الصحابة فروى عن
أبي بكر وعمر، والفضل بن العباس وأُبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد وعائشة،
وبصرة الغفاري، أي: أنه صرح بالرواية عن هؤلاء، ومن المقطوع به أن
بعض أحاديثه التي يصرح فيها باسم صحابي كانت مراسيل؛ لأنها في وقائع كانت
قبل إسلامه، ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور.
وقد روى أيضًا عن كعب الأحبار وهو من علماء يهود، أسلم في أيام أبي
بكر، وقيل: في أيام عمر، ووثقه المحدثون، ولكن روى البخاري عن معاوية أنه
قال فيه: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن
كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. ولم يروِ البخاري في صحيحه شيئًا لكعب. وقد كان
في نفسي شيء من رواية كعب قبل أن أرى ما قاله فيه معاوية، وأعلم أن كثيرًا من
الناس يتهمونه بالكذب. ثم رأيت للحافظ ابن كثير كلامًا في ذلك.
فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة، ولم ير استنكار
أفراد من أهل عصره لها موجبًا للارتياب في عدالته وصدقه؛ إذ علم أن سبب ذلك
الاستنكار عدم الوقوف على هذه الأسباب.
على أن جميع ما أخرجه البخاري في صحيحه له 446 حديثًا بعضها من
سماعه، وبعضها من روايته عن بعض الصحابة، وهي لو جمعت لأمكن قراءتها
في مجلس واحد؛ لأن أكثر الأحاديث النبوية جمل مختصرة. فهل يستكثر عاقل
هذا المقدار على مثل أبي هريرة أو من هو دونه حفظًا، وحرصًا على تحمل
الرواية وأدائها، فيجاري هذا الطاعن في الشريعة على الطعن في الإمام البخاري
لتخريجها؟ كيف، وهذا الطاعن لا يوثق بنقله ولا بفهمه، ولا بقصده إلى بيان
الحقيقة، بل نعلم علم اليقين أنه يريد التشكيك والطعن؛ لأن هذا هو عمله الذي
يعيش له وبه؟
***
سبب استنكار بعض حديث أبي هريرة:
نقل الطاعن في الشاهد الثاني عن أبي رزين أن أبا هريرة قال على مسمع منه:
(ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وعزى
هذا إلى (جزء 445: 4) ولم يذكر اسم الكتاب، وظاهر عزوه الشاهد الذي قبله إلى
البخاري أنه يعني أن هذا في البخاري أيضًا، وإنما نعرفه من رواية مسلم. وذكر في
الشاهد الثالث أنه قال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع. وصوابه: لو
حدثتكم بكل ما سمعت، وذكر في الشاهد الخامس عن كتاب أخبار مكة للأزرقي أنه
قال حين رأى الكعبة محرقة بعد انصراف جيش الحصين بن نمير: يا أيها الناس
لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتِلو ابن نبيكم بعد نبيكم ومحرّقو بيت ربكم، لقلتم ما
من أحد أكذب من أبي هريرة. يعني لو حدثهم قبل إحراق بني أمية للكعبة
بذلك لكذبوه؛ لأن الخبر مما يستبعد تصديقه. فعلم من قوله أنه كان يعلم بهذا الحديث
قبل وقوعه؛ لأنه سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودليل هذا أنه قرنه
بخبر مثله في بعده عن الوقوع، ولم يكن قد وقع، وهو أنهم سيقتلون ابن
نبيهم يعني: الحسين -عليه السلام- وقد وقع ذلك بعد وفاته - رضي الله
عنه-.
كان أبو هريرة يعلم أن كثيرًا من الناس لا يصدقون الروايات التي تستبعد
عقولهم وقوعها، وإن كانت جائزة في نفسها، فيتوقع أن يكذبوه إذا هو حدث بها،
ويظنون أنه عزاها إلى الرسول؛ لأجل قبولها، وكان يعتقد أن بني أمية يقتلونه إذا
هو حدث بكل ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحداثهم ومفاسدهم،
وهذا هو مراده بقوله الذي رواه عنه البخاري في صحيحه: حفظت من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وعاءين من العلم، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو
بثثته لقُطع مني هذا البلعوم - يشير إلى عنقه.
قال الحافظ في الفتح: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي
فيها تبين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه،
ولا يصرح خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة
الصبيان. يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة،
واستجاب الله دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من
ذلك في كتاب الفتن اهـ.
وقد وفَّى الحافظ بوعده هذا في شرح حديث أبي هريرة في أوائل كتاب الفتن
من صحيح البخاري، وهو قوله لسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم بن أبي
العاص بن أمية: سمعت الصادق المصدوق يقول: (هلكة أمتي على يدي غلمة من
قريش) [1]- وفي رواية أحمد والنسائي (إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء
من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول
بني فلان وفلان لفعلت. أي: ولم يكن مروان يعلم حين لعنهم أنهم قومه
وأبناؤه، ولكن أبا هريرة هو الذي يعلم ولم يصرح.
وذكر الحافظ في شرحه لهذا الحديث حديثًا آخر له من المرفوع في بيان معناه
أخرجه علي بن معبد، وابن أبي شيبة عنه وهو: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان-
قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم في دينكم، وإن عصيتموهم
أهلكوكم في دنياكم) .
فتبين بهذا أن الأحاديث التي كان يتوقع أبو هريرة تكذيب بعض الناس له فيها
هي ما كان من هذا النوع، وظهر بهذا أن ما أورده الطاعن من الشواهد على اتهامه
بالكذب لا يفيد شيء منه إثبات التهمة، وقد بينا آنفًا أن رواية أبي رزين عند مسلم،
والرواية التي عزاها إلى أحمد، وهي من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة،
ورواية عبد الله بن سعد عن الأرزقي - كلها صريحة في أن أبا هريرة كان يعتقد،
أو يظن أن بعض الناس يكذبونه في بعض أحاديث الفتن إذا هو حدث بها قبل
وقوعها لغرابة موضوعها.
بقي من شواهد الطاعن أربعة (أحدها) قول عائشة له: إنك لتحدث بشيء
ما سمعته. وقد عزا الحافظ هذا إلى تخريج ابن سعد وكتابه ليس في أيدينا، فلا
ندري أذكر سببه بعينه أم لا، والظاهر من جواب أبي هريرة أنها أنكرت حديثًا
رواه؛ لأنها لم تسمعه هي من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذا وقع لها
في أحاديث غير واحد من الصحابة لهذه العلة كارتيابها في حديث المعراج، وفي
حديث الرؤية في الآخرة، وفي حديث وفي موت العلماء، واتخاذ الرؤساء الجهال
الذين يَضلون ويُضلون.
ففي صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سمع هذا الحديث من عبد الله بن
عمرو، فأخبر به خالته عائشة، فأعظمت ذلك وأنكرته وقالت له: أحدثك أنه سمع
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا؟ على أنها هي التي أرسلته إليه ليأخذ
عنه الحديث قال: (قالت لي عائشة: يا ابن أختي بلَغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ
بنا إلى الحج فسائله، فإنه قد حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمًا كثيرًا)
ثم إنها مع هذا ومع ما تعلم ويعلم كل الصحابة من ورع عبد الله وعدالته، قد
ارتابت في هذا الحديث، وبقيت مرتباة فيه مدة حول كامل- قال عروة: فلما كان
قابل (أي العام الذي بعد ذلك العام) قالت له: إن ابن عمرو قد قدم فالقه، ثم فاتحه
حتى تسأله عن الحديث الذي ذكر لك في العلم، قال: فلقيته فساءلته، فذكره لي
نحو ما حدثني به مرته الأولى. فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق،
أراه لم يزد فيه شيئًا ولم ينقص. والجواب المشهور عند العلماء في مثل هذه
المسألة أن من حفظ حجةٌ على من لم يحفظ.
(ثانيها) حديث عبد الله بن عمر في قتل الكلاب، نقله الطاعن عن
الترمذي، وهو في صحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجه أيضًا. وقد قال العلماء:
إن مراد ابن عمر بقوله: (إن لأبي هريرة زرعًا) هو أن أبا هريرة كان محتاجًا
إلى معرفة حكم اتخاذ الكلب للزرع؛ لأن له زرعًا فسأل عن ذلك وحفظه وعمل به.
ويؤيد هذا ويفند زعم الطعن أنه يريد التقريع ما صح عن ابن عمر من
تفضيل أبي هريرة على نفسه، وتقدم بعض كلامه في ذلك، ومنه الشاهد الآتي
الذي عده الطاعن تكذيبًا لأبي هريرة، وهو عين التصديق والتعديل - وهو -:
(ثالثها) ما نقله عن الإصابة -وهو الشاهد السابع- من أن رواية سمع من
أبي هريرة حديثًا لم يعجبه ... إلخ ما تقدم، وقد حرف الطاعن الرواية. وهذا
نصها:
وروينا في فوائد المزكي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر
فليضطجع على يمينه فقال مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى
يضطجع على يمينه؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة. فقيل
لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا ولكنه اجترأ وجبنا اهـ بحروفه [2] .
وعبارة المبشر الطاعن توهم أن ما أورده هو نص ما في الإصابة، ولعله
يريد بقوله في الحديث: (لم يعجب مروان) إيهام القارئ أن موضوع الحديث قبيح
أو منكر أدبًا، ثم إنه فسر الجرأة التي وصف ابن عمر بها أبا هريرة بالتهجم
والتحدي، وهذا من أكبر الجرأة على القول بغير علم، فالتحدي معناه المباراة
والمعارضة، ولا محل له هنا، فالطاعن أثبت بهواه معنى غير صحيح، ونفى
معنى صحيحًا، وهو وصف ابن عمر نفسه بالجبن، والمراد به كما تقدم في بيان
السبب الأول من أسباب كثرة حديث أبي هريرة، أنه كان جريئًا على سؤال النبي
- صلى الله عليه وسلم -، وكان أكثر الصحابة يهابون سؤاله، فلا يكادون يسألونه
إلا لضرورة.
فهذا معنى قول ابن عمر: اجترأ وجبنا. وهو قد صرح هنا بأنه لا ينكر شيئًا
من قول أبي هريرة، ولكن القسيس المبشر يريد أن يقنعنا مع هذا التصريح بأنه
أنكر كلامه وكذبه!! ، وقد فسر ابن الأثير (اجترأ وجبُنا) بقوله: يريد أنه أقدم
على الإكثار من الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجبنا نحن عنه،
فكثر حديثه، وقلَّ حديثنا اهـ.
هذا وإن هذا الحديث عن أبي هريرة مطعون في سنده، فإن رواية عبد الواحد
بن زياد ليس ثقة فيما يرويه عن الأعمش عن أبي صالح كما صرح به الذهبيّ في
الميزان، وذكر هذا الحديث من مناكيره عنه، وأما جملة التحدّي التي كتبها
الطاعن بغير فهم، فهي مصحفة عليه من أثر في الإصابة عن عبد الله بن عمر.
قال الراوي: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما تقول
ولكنا نجبن وتجترئ. أي: نجبن عن كثرة التحديث، وتجترئ أنت عليه. فيكون
هذا بمعنى رواية عبد الواحد على الوجه الذي فسرها به ابن الأثير. ولكن كلمة
تجترئ صحفت في طبعة الهند للإصابة هكذا (نحتزي) ، ولعل الطاعن رآها في
طبعة مصر مصحفة أيضًا بفعل من التحدي، أو ما يقرب منه، وأنى له أن يعرف
الأصل؟
وهذا يُثبت قولنا: إن هذا الطاعن يكتب ما لا يفهم، وإنه لا ثقة بنقله، ولا
بفهمه، ومن الغريب أنه ترجى أن يكون هذا التفسير الباطل لتلك الكلمة المحرفة
من تلك الرواية المنكرة أصلاً للطعن في جميع الأحاديث، لا لتكذيب أبي هريرة
وحده، فقال: (ولعل في هذا ما يميط لنا اللثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا
على عظم الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن
ليجسر على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء) اهـ.
فليهنأ المسلمون بهذا الطاعن بشريعتهم بمثل هذا الخبط والخلط والتحريف
والدعاوي المضحكة، ومن ذا الذي لا يضحك من ادعاء هذا المبشر أن عبد الله بن
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين القرشي ما كان يجسر على تخطئة أبي هريرة
الدوسي الضعيف؟ .
كان ينبغي لك أيها القس المحترم أن تلمَّ قبل تصديك لتشكيك المسلمين في
دينهم، وتهجمك على الطعن بشريعتهم، أن تلمَّ قليلاً بتاريخهم، فإننا نرى عوام
نصارى بلادنا العربية، يعلمون كخواصهم أن حرية النقد واستقلال الرأي عند
الصحابة رضي الله عنهم قد بلغت أوج الكمال، وأن أرقى الأوربيين حرية
كالإنكليز لم يبلغوا درجتهم في ذلك، إنهم يعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب الذي كانت تخشى بأسه ملوك الأرض، وتهابه الإنس والجن كان يقول
الكلمة على المنبر في المسجد الجامع فتخطئه بها المرأة أو الأعرابي، فيعترف
بخطئه إذا كان مخطئًا، فهل يقال في هؤلاء: إن أعظمهم مكانة في العلم والشرف لا
يجسر أن يصرح برأيه في تخطئة أضعفهم؟ على أنه كان يكفيك أن تفهم شاهدك
الآتي -وهو-:
(رابعها) ما نقله عن الإصابة محرفًا ناقصًا كالذي قبله -وهو الشاهد
الثامن- ونحن ننقله بنصه ليقابله القراء بما نقله [3] ويروا درجة أمانته.
قال الحافظ: (وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح: سمعت أبا
هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك.-
وكان الأمير يومئذ غيره- ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان، وقال: إن
الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، وإنما قدِم قبل وفاة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين فأقمت معه حتى مات، و (كنت)
أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحج، فكنت أعلم الناس بحديثه،
وقد - والله - سبقني قوم بصحبته فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديث
كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة،
ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه. قال: فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافًّا عنه) .
فخلاصة هذه الرواية أن مروان بن الحكم غضب لإنكار أبي هريرة عليه أمرًا
كان لأهل بيته (بني أمية) فيه سياسة -والدولة دولتهم- فلم يجد كلمة يشفي بها
غيظه إلا قول بعض الناس: أكثر أبو هريرة، فلما بين له أبو هريرة سبب إكثاره
أذعن له، ولم يعد إلى مثل ذلك، أليس من العجائب أن يعمد هذا القس المبشِّر إلى
هذه الرواية فيحرِّفها ليستدل بها على كذب أبي هريرة أو تكذيب الناس له، وما هي
إلا حكاية لشبهة الإكثار التي فندها أبو هريرة، وأجبنا نحن عنها بما استنبطناه من
مجموع الروايات المبينة لأسبابها، وهي سبعة؟
وجواب أبي هريرة يدل على جرأته، وعلى سعة حرية العرب حتى في عهد
معاوية أيضًا، فإنه ذكر لمروان نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لوالده الحَكَم،
وسيأتي بيان ذلك.
***
الجملة الرابعة من كلام الطاعن
شبهات أخرى في أبي هريرة
قال: (1- جاء في مجموعة الرسائل للغزالي في كتاب المؤمل للرد إلى
الأمر الأول صفحة 32 قوله: أقلد جميع الصحابة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا
ثلاثة نفر أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب. . وأما أبو هريرة كان
يروي كلما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من
المنسوخ) .
(اقتبس كولدزير هذا القول في كتابه (الظاهرية) صفحة 79، ولكن بدون
إشارة إلى القيد المذكور، فأبو حنيفة لم يَرْتَبْ في وثائق أبي هريرة، ولكنه ارتاب
في قيمة أحاديثه باعتبارها أركانًا للشريعة) .
(2- حلقة أبي حنيفة: على أن ارتياب أبي حنيفة، وأتباعه في قبول كلام
أبي هريرة كان مبنيًّا على ارتيابهم في وثائقه، فقد نقل الدميري في كتاب الحيوان،
أنه وقع خلاف بين بضعة من رجال الإفتاء في جامع بغداد، فأنكر الحنفيّون
الاستشهاد بأبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق روايته، وكان الخليفة هارون الرشيد
في جانب الفريق المرتاب) اهـ.
هذا ما قاله الطاعن بنصه على ما فيه من الغلط، والتحريف والإيهام من
وجوه:
(منها) أن مجموعة الرسائل ليست للغزالي، وإنما هي رسائل لكثير ممن
قبله وبعده.
(ومنها) أن كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ليس للغزالي كما توهمه
عبارته.
(ومنها) أن قوله: (أقلد جميع الصحابة) ... إلخ منقول في كتاب المؤمل
عن أبي حنيفة , وظاهر عبارة الطاعن أنه للغزالي؛ لأنه هو الذي سبق ذكره في
كلامه؛ ولهذا يتعجب من يرى لاحق كلامه، وذكره فيه لأبي حنيفة.
(ومنها) أن الأصل (يروي كل ما سمع) لا (كلما سمع) كما كتب
الطاعن، والفرق بينهما معروف لكل من له إلمام بالعربية.
(ومنها) أنه أورد شبهة واحدة؛ وإنما عقد العنوان لشبهات متعددة، ولكنه
قسم هذه الشبهة إلى قسمين:
(أحدهما) ادعاؤه أن أبا حنيفة لا يَحتجّ بالأحاديث التي يرويها أبو هريرة.
(والثانية) أن أتباعه كذلك لا يحتجون بها.
ولعلنا لو راجعنا عبارة حياة الحيوان لاستخرجنا من نقله لها بالمعنى الذي
أراده أغلاطًا، وتحريفات أخرى، والغرض من هذا بيان ما قلناه أولاً من أنه لا
يوثق بنقله، ولا بفهمه، مع القطع بأنه يقصد الطعن لتشكيك المسلمين في الإسلام
لا تمحيص الحقيقة، ولكن بعض خطئه مما لا يهتدي عاقل إلى تعليله، كنسبته
كتاب المؤمل، ومجموعة الرسائل إلى الغزالي!! .
أما الجواب عن هذه الشبهة فهي أن أبا حنيفة لم يطعن في رواية أبي هريرة
بهذه العبارة ولا بغيرها، ولم يتهمه بالكذب، وهذه العبارة التي فسرها الطاعن
بهواه لا بما تدل عليه في عرف الفقهاء لا تنهض حجة له، فالتقليد عند علماء
الشرع هو العمل برأي المقلَّد (بفتح اللام) لا بروايته، لا خلاف بين المذاهب في
هذا. فأبو حنيفة يقول في هذه الرواية عنه: إنه يقدم رأي الصحابي على رأيه -
أي: رأيه الذي يستنبطه من الكتاب أو السنة بالقياس - إلا رأي هؤلاء الثلاثة،
وعلل ذلك بقوله: (أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يفتي من عقله وأنا لا
أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى،
ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ) فقد صرح بأنه كان يروي ما سمعه، وهذا
ينفي اتهامه بأنه يكذب، وصرح بأنه ما كان يقصد من الرواية استنباط الأحكام منها
بالتأمل في معاني الأحاديث، والبحث عن الناسخ والمنسوخ منها؛ ليقدم الأول عند
التعارض.
وحاصل ذلك أنه راوٍ غير مستنبط فيؤخذ بروايته لا برأيه وفهمه. وهذا
صحيح، فإن أبا هريرة كان يقصد بحفظ الحديث أولاً روايته والاهتداء به بنفسه،
وثانيًا نشر السنة وإيصالها إلى الناس ليهتدوا بها بحسب اجتهادهم عملاً بوصية
النبي - صلى الله عليه وسلم -، المشهورة في خطبة حجة الوداع؛ إذ قال (ليبلغ
الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه (وفي رواية: رُب
مبلَّغ أوعى من سامع) وكلتاهما في البخاري وغيره. وفي معنى هذا الحديث ما
رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا (نضَّر الله امرءًا سمع
منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب
حامل فقه ليس بفقيه) .
والرواية الأخرى عن أبي حنيفة، وهي الأشهر أنه قال: أقلد من كان من
القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة،
ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر. -وذكرهم- والمراد بالعبادلة الثلاثة عبد
الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وقد ترك الطاعن نقل هذه
الرواية من كتاب المؤمل؛ لأنها أظهر في المراد الذي بيناه، وأبعد عن التحريف
الذي ادعاه.
وما زعمه من رد الحنفيّة للاستشهاد بحديث أبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق
روايته اعتمادًا على حكاية محرفة نسبها إلى حياة الحيوان، فهو باطل، وهذه كتب
الحنفيّة في الحديث والفقه، تكذب هذه الدعوى، وصاحب الدار أدرى، ومذهب
السواد الأعظم من الفقهاء المجتهدين أن رأي الصحابة ليس بحجة في الشريعة سواء
كانوا فقهاء مستنبطين، أو رواة ناقلين، وإنما الحجة في الرواية إذا صحت.
***
خلاصة الطعن في أبي هريرة، والأجوبة عنه
ينحصر طعنه في أبي هريرة في ثلاثة أشياء:
1- استكثار بعض الصحابة لروايته، وقد بيّنّا أسبابها المزيلة لاستغرابها.
2- توقع أبي هريرة لتكذيب بعض الناس له، إذا هو صرح بكل ما سمعه.
وقد بينا أن هذا خاصّ بما سمعه من أخبار الفتن التي أسرّ إليه النبي - صلى
الله عليه وسلم - شيئًا كثيرًا منها، ومثله في ذلك حُذيفة بن اليمان وقد ذكر كل
منهما بعض ما سمع تصريحًا أو تلويحًا، فوقع كما قالا، فكان من دلائل النبوة
التي لا تحتمل التأويل.
3- أن الحنفيّة لا يحتجون بروايته، وأنهم يعتقدون أنه كان كاذبًا، وهذه
دعوى باطلة تكذبها الألوف من كتب المذهب والملايين من أتباعها، ويعارض هذه
الشبهات الباطلة إجماع أئمة الفقه، ومنهم الأربعة المشهورون على الاحتجاج بما
صح عندهم من أحاديث أبي هريرة المرفوعة -وكذا المرسلة عند الجمهور- وثناء
كثير من الصحابة ومن بعدهم على سعة حفظه وجودة ضبطه، وقد ذكرنا بعضها،
ومن الغريب أن أبا هريرة أغضب مروان بن الحكم الأموي -الذي كان أمير المدينة،
ثم صار أمير المؤمنين، وعرّض أمامه تعريضًا يقرب من التصريح بأن عشيرته
هي التي تفسد على المسلمين أمرهم، ولم يجد مروان كلمة يقولها فيه إلا حكاية قول
من قال: أكثر أبو هريرة. ولما جبهه بتذكيره بنفي النبي - صلى الله عليه وسلم -
لوالده (الحكم) من المدينة لم يعد إلى تلك الكلمة ولا غيرها، ولو وجد فيه مطعنًا
لما قصر في التشنيع عليه به.
وقد ورد أن مروان امتحنه لعله يعثر عثرة يؤاخذه بها, قال الحافظ في
الإصابة: وقال أبو الزُّعيزعة كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل
يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به، حتى إذا كان في رأس
الحول أرسل إليه، فسأله وأمرني أن أنظر فما غير حرفًا عن حرف اهـ.
فيا ليت شِعري، ماذا كان يقول هذا الطاعن لو نُقِلَ أن أبا هريرة غيَّر أو بدَّل
أو زاد أو نقص في الأحاديث التي حدث بها مروان؟ - وإذًا لعاقبه مروان وشهر
به حتى لا يقبل أحد حديثه- أو لو طعن في دينه وإيمانه غير مروان؟ بل ماذا يقول
هو وسائر دعاة النصرانية، لو نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرده كما
طرد المسيح - عليه السلام - بطرس وسماه شيطانًا، وهو كبير تلاميذه ورسله؟
ففي الفصل 16 من إنجيل متى أنه طوبه، وجعله الصخرة التي يبني عليها كنيسته،
وقال له: (19 وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض
يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات) .
قال متى: (20 حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد: إنه يسوع المسيح
21 من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر بتلاميذه، أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم
ويتألم كثيرًا من الشيوخ، ورؤساء الكهنة والكتبة.
ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم 22 فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك
يا رب 22 فالتفت، وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لا تهتم
بما لله، لكن بما للناس.
فهذه الشهادة على بطرس، وهذا اللقب كان على رواية متى بعد تلك المنحة
والخصوصية التي خصه بها، فهل نسختها أم يجوز الجمع بينها؟ ونحن نجل
حواريّ المسيح، ولا نؤمن بهذه الرواية حتى نحتاج إلى الجواب عنها، وفي متى
(14: 31) أن المسيح قال لبطرس أيضًا: (يا قليل الإيمان) وفي 17: 20
وصف التلاميذ كلهم بعدم الإيمان، وأنه ليس لهم منه، ولا مثل حبة خردل. ومثل
هذه الشهادة متعددة في غيره من الأناجيل. حتى إن منها ما جاء بصيغة المستقبل
كقوله لهم بعدما رأوا آية إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة:
(إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون) ، (يوحنا 6: 36) ، وكما وصفهم بعدم
الإيمان، وصفهم بأنهم أشرار وروى ذلك لوقا في (11: 13) من إنجيله.
ثم يا ليت شِعري، لو وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة بمثل
هذين الوصفين - أو لو وصف بذلك في كتاب الله المجيد - ماذا كان يقول فيه في
روايته هذا المبشِّر المحترم والقس الجدل الذي وضعته جمعيته في أشهر البلاد
الإسلامية بالعلم لينصر المسلمين فيها؟
وهل يقبل منا أن نقول له: لماذا تقبل رواية تلاميذ المسيح بلا سند مع
وصف المسيح لهم بما ذكر وهو المعصوم من الخطإ، ولا تسمح لنا بقبول رواية
أبي هريرة، ولم يجرحه من دون المسيح بمثل ذلك؟
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو جمع غلام، ولم يقولوا غلمة مع كونه القياس استثناء عنه بغلمة كما في الفتح، وفي رواية أغيلمة تصغير غلمة والغلام الصبي من حين يولد إلى أن يحتلم قال الحافظ: وقد يطلق الصبي والغُلَيّم بالتصغير على الضعيف العقل والتدبير والدين، ولو كان محتلمًا، وهو المراد هنا فإن الخلفاء من بني أمية لم يكن فيهم من استخلف، وهو دون البلوغ، وكذا من أقروه على الأعمال اهـ المراد منه.
(2) يراجع نقل الطاعن لهذا الحديث وتحريفه في ص36.
(3) يراجع نقل الطاعن لهذا في ص36.(19/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعريف بكتابي
منازل السائرين، ومدارج السالكين
وترجمة مؤلفيهما
بيان وجه الحاجة إلى تحرير التصوف
ومكانة الكتابين والشيخين منه
علماء الإسلام أربعة أصناف: أهل الأثر والمتكلمون والصوفية والفقهاء
والتفسير مشترك بينهم، ففي كل صنف منهم مفسرون. ونقول باعتبار
آخر: إن علماء الإسلام صنفان: علماء الأثر وغيرهم، أو علماء المنقول
وعلماء المعقول، ومن كل صنف مفسرون وفقهاء، ولا يكاد يكون الأثري متكلمًا،
وقد يكون صوفيًا في النادر. والأثري الفقيه إذا احتج بالقياس، فإنما يحتج بما
كانت علته ثابتة في الكتاب أو السُّنة.
ثم إن علم الأثر ينقسم إلى علم الرواية، وعلم الدراية، ولا يتم نفع أحد
العلمين إلا بالآخر، فمن أتقن علم الرواية بحفظ الأثر أو الحديث، وضبطه ومعرفة
رواته وعلله والتمييز بين الصحيح وغيره منه، ولم تكن له دراية بفهمه والاستنباط
كان جل النفع بعلمه لغيره، وهو إذا خاض في معاني الحديث بغير استعداد تام للفهم،
فإنه ربما يضل ويُضل كثيرًا، وفي مثله ورد الحديث الصحيح (نضَّر الله امرءًا
سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب
حامل فقه ليس بفقيه) رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت. وفي
معناه حديث (نضَّر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمعه فرُب مبلَّغ أَوْعَى من
سامع) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان من حديث ابن مسعود. وأما من لم
يتقن علم السُّنة من المتكلمين والفقهاء والصوفية فضلالهم، وإضلالهم أشد.
وقد وجد في كل طائفة علماء أعلام خدموا الإسلام أجل خدمة، فصالِحو
المتكلمين خدموه بدفع شبهات الملاحدة، وكثير من المبتدعة، على أن بعض الشبه
والبدع ما جاءت إلا مِن علمهم المبتدَع، وإنما ينتفع بعلمهم مَن جمع بينه وبين علم
السُّنة.
وصالِحو الصوفية خدموا الإسلام ببيان حِكَم الشريعة وأسرارها وتربية
الأخلاق والآداب، ولكن البدع التي حدثت من قِبَلِهِمْ أكثر وأرسخ من سائر البدع
التي حدثت في الإسلام، وسبب ذلك الجهل بالسُّنة.
والفقهاء خدموا الإسلام باستنباط أحكام العبادات، والحلال والحرام والأحكام
المدنية والسياسية والتأديبية، وقد جنى الجاهلون بالسُّنن منهم على الإسلام جناية
عظيمة بما أحدثوا بأقيستهم البعيدة عن نصوص الشريعة ومقاصدها من الأحكام
الكثيرة المنافية ليُسر الدين، ورفع الحرج منه.
تفرق المسلمون بهذه العلوم إلى فرَق وأحزاب كثيرة، كلٌّ ينتحل مذهبًا ينتصر
له ويدافع عنه، فكانت جناية الخلاف على الإسلام وأهله أشد ضررًا مما أخطأ
به كل فريق منهم. وقد رد بعضهم على بعض ردودًا كان يعدها كل منهم من
التعصب أو من باب (مَن جهل شيئًا عاداه) والحق أنه قَلَّمَا يخلو رد طائفة على
أخرى من ذلك.
ومنشأ الخطأ والضرر الأكبر هو التزام مذهب والرد على مخالفه، فإن هذا
هو اتباع الهوى، وأهله هم أهل الأهواء، وإن سموا أنفسهم بأفضل الأسماء، أما
أهل الحق الذين لا يدخلون في عموم {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 32) فهم الذين يجعلون كتاب الله - تعالى - وما بيَّنه
من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق الخلاف، بل هو الحَكَم العدل في
الخلاف؛ لأنه - تعالى - أخبرنا أنه أنزل الكتاب {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .
وأجدر هؤلاء المهديين ببيان التحقيق الذي يزيل الخلاف من كان جامعًا بين
المنقول والمعقول غير متعصب لمذهب من المذاهب التي تُعزى إلى أفراد العلماء.
ولم نر في هذا الصنف أوسع علمًا، وأنهض حجة وأقوى عارضة من شيخ الإسلام
أحمد ابن تيمية، وتلميذه الإمام المحقق محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم، وابن
قيم الجوزية، فقد جمع الله لكل منهما بين الرسوخ في علوم السُّنة حفظًا وفهمًا
واستحضارًا واستنباطًا، وبين التمكن من سائر العلوم التي دونت بالعربية،
ومذاهب الفرق وأدلتها، فبيَّنا في كتبهما الممتعة ما أخطأ فيه الذين انحرفوا عن
الكتاب والسنة من أهل هذه المذاهب، وقد كان ابن تيمية السابق إلى تحرير تلك
المسائل، وتلاه ابن القيم، فكان الموضح المكمل لها، والمستدرك لما فاته منها.
وأهم ما انفرد به ابن القيم - فيما نعلم - الإطالة بتحرير علوم الصوفية
ووضع الموازين القسط لمعارفهم، وأذواقهم ومقاماتهم وأحوالهم بشرحه لكتاب
(منازل السائرين) لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي.
الصوفية ثلاث: صوفية الأرزاق، وصوفية الرسوم، وصوفية الحقائق، وبدع
الفريقَيْن المقلدَيْن يعرفها كل من له إلمام بالسُّنة والفقه. وإنما الصوفية صوفية
الحقائق الذين خضعت لهم رءوس الفقهاء والمتكلمين، فهم في الحقيقة علماء حكماء،
ولكن ضل بما دخل في الإسلام من باب فلسفتهم الروحية أضعاف من ضل بما
دخل على المتكلمين، وغيرهم من باب الفلسفة العقلية، من إلهية وطبيعية.
وسبب ذلك ما بيناه آنفًا من جهل بعض شيوخهم بالسنة النبوية، فمن أصول
الضلالة التي دخلت على المسلمين من باب التصوف المقابَلة بين الحقيقة والشريعة،
وجعل الأمر الكوني القَدَريّ كالأمر الشرعي في كون كل منهما يجب الرضاء به
والإذعان والاستسلام له، ومن مفاسد هذا الأصل قولهم: (من نظر إلى الخلق
بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم) ومن مفاسده الرضاء
بعدم مقاومة الأمراض والظلم، وهُضِمَ حقوق الأفراد وحقوق الأمة. ومن مفاسده
الجبر وسلب الاختيار، وناهيك بما يتبعه من المفاسد والمضارّ.
ومن أصول الضلالة التي دخلت من ذلك الباب جعل الذوق والحال من قَبِيل
دلائل الشريعة وأصولها، بل هو عند كثير من غلاتهم الركن الأعظم المقدم على
كل ما يعارضه، ومن فروع هذا الأصل ما ابتدعوه من الأذكار والأوراد والسماع،
وتعظيم القبور وجعلوه من شعائر الإسلام، فإن عمدتهم فيه أنهم ذاقوا ما أثمره لهم
من الحب، والوَجد والخشوع والبكاء والرغبة في الآخرة، ومن أمثالهم (من ذاق
عرف) ، وجهلوا أن مثل هذا الذوق حاصل للكفار فيما يأتونه في عبادتهم من
الأغاني والأناشيد وآلات الطرب، وما يشاهدونه في معابدهم ومقابرهم من الصور
والتماثيل، التي وضعت لسلفهم من النبيين والكهنة وغيرهم من الصالحين عندهم،
فإذا كانت العبادة تشرع بالذوق، فقد هُضِمَ حق الوحي، وعُدِمَ أساس الشرع.
ومن أصول تلك الضلالات دعوى أن للدين ظاهرًا، وباطنًا مخالفًا لما يفهم
الجمهور منه، وهذه الضلالة من ابتداع زنادقة الباطنية، وقد كانت سببا لارتداد
كثير من المسلمين، فكونت منهم طوائف، الإسماعيلية والنُّصيرية والدُّروز،
والبابية البهائية، والأزلية وغيرهم.
ومنها أصل الأصول عند غُلاتهم، وهو ما يعبرون عنه بوحدة الوجود
بالمعنى الذي يمثله الكتاب المسمى (بالإنسان الكامل) وأمثاله، هذا الأصل مخالف
لنصوص القرآن الصريحة، ولنصوص السنة الصحيحة، وفيه مفاسد كثيرة جدًّا،
ولكن من الناس من يفهم وحدة الوجود على غير هذا الوجه.
قد افتتنت كل فرقة انشقت من جماعة المسلمين، وأهل كل مذهب خالفوا
السنة، وما جرى عليه سلفها الصالح بفتنة تأويل، ما يخالف مذاهبهم وآراءهم من
آيات الكتاب العزيز ومتون الأحاديث، حتى إنهم ليؤوّلون السنن العملية، أو
يعارضونها بروايات قولية شاذة أو منكرة، وغلاة الصوفية أبرع الفِرَق في التأويل،
وأشدهم إسرافًا فيه بعد الباطنية، الذين يشتبهون بهم كثيرًا؛ ذلك لأنهم لا
يلتزمون في التأويل ما يلتزمه المتكلمون والفقهاء من عدم الخروج باللفظ عن حقيقته
إلا إلى ضرب من ضروب المجاز أو الكناية، بل يزيدون على ذلك باب الكشف،
وباب الإشارة وباب الرموز؛ ولذلك نرى كلامهم ممزوجًا بالآيات والأحاديث محرفة
عن معانيها الصحيحة التي تدل عليها في اللغة؛ ولأجله نرى كلامهم مقبولاً عند
الجماهير من غير تأمل ولا تفكُّر، حتى إن المتكلمين والفقهاء ما عادوا ينكرون
عليهم شيئًا كما كان السلف ينكرون على كل من يخالف ظواهر النصوص، أو
يبتدع في الدين ما لم يكن في الصدر الأول.
فمن تدبر ما ذكرنا عَلِمَ أن تحرير علم التصوف شيء لا يستطيعه إلا من
كان راسخًا في علم الكتاب والسنة أتم الرسوخ، وعارفًا بالتصوف معرفة علم وذوق
وعمل، وقد ادخر الله - تعالى - هذا للعالِمين العاملين الذائقين المفسرين
المحدِّثين- شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري، ومحقق الإسلام ابن القيم
الدمشقي- فالأول عالم أثري، غلب عليه التصوف، والثاني صوفي ذائق، غلب
عليه علم السُّنة، جمع الأول زُبدة التصوف جمعًا موجزًا في كتابه (منازل
السائرين) وشَرَحه الثاني وبيَّن ما له وما عليه في كتابه (مدارج السالكين) وها
نحن أولاء ننقل من كتب العلماء ترجمة وجيزة لكل من الشيخين، ونقفي عليها
بالتعرف بكل من الكتابين:
***
ترجمة شيخ الإسلام الهروي
جاء في حوادث سنة 481 من كتاب (شذرات الذهب) ما نصه:
وفيها توفي أبو إسماعيل الأنصاري الحنبلي، عبد الله بن محمد بن علي الهروي،
الصوفي القدوة الحافظ أحد الأعلام، توفي في ذي الحجة، وله ثمانون سنة وأشهر.
سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي منصور محمد بن منصور الأزدي
وخلق كثير، وبنيسابور من أبي سعيد الصيرفي، وأحمد السليطي صاحبي الأصم،
وكان قذى في أعين المبتدعة وسيفًا على الجهمية، وقد امتحن مرات. وصنف
عدة مصنفات، وكان شيخ خراسان في زمانه غير مدافَع، قاله في العبر.
ومن شعره:
سبحان من أجمل الحسنى لطالبها ... حتى إذا ظهرت في عبده مدحا
ليس الكريم الذي يعطي لتمدحه ... إن الكريم الذي يثني بما منحا
وجاء في أول حرف العين من (الكواكب الدرية) في طبقات الصوفية
للمُناوي:
(عبد الله بن محمد بن علي شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي
الحافظ العالم العارف الصوفي صاحب (منازل السائرين) كان إمامًا في التفسير
والحديث، حسن السيرة [1] في التصوف والعربية والتاريخ والأنساب، وغير ذلك
وكان لا يخاف في الله لومة لائم؛ ولذلك.. [2] في هلاكه مرارًا، فحفظ منهم.
وكان آية في التذكير والوعظ. مات سنة إحدى وثمانين وأربعمائة) اهـ.
وذكره الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) وجعل عنوانه (شيخ الإسلام
الأنصاري) ولقبه بالإمام الكبير، على كونه لم ينقم منه سوى تأليفه لكتاب
المنازل، وقال فيه ما نصه:
(كان أبو إسماعيل آية في التفسير، رأسًا في التذكير، عالمًا بالحديث
وطرقه، بصيرًا باللغة، صاحب أحوال ومقامات، فيا ليته لا ألف كتاب المنازل،
ففيه أشياء منافية للسلف وشمائلهم، قيل: إنه عقد على تفسير {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى} (الأنبياء: 101) ثلاث مئة وستين مجلسًا. وقد هدد بالقتل
مرات ليقصر من مبالغته في إثبات الصفات، وليكف عن مخالفيه من علماء الكلام،
فلم يَرْعَوِ لتهديدهم، ولا خاف من وعيدهم، ومات في سنة إحدى وثمانين
وأربعمائة، وله خمس وثمانون سنة، سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي
سعيد الصيرفي وطبقتهما) .
***
ترجمة محقق الإسلام ابن القيم
قال العلامة السيد نعمان خير الدين بن الآلوسي البغدادي في كتابه (جلاء
العينين) :
العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي،
ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي المفسر النحوي الأصولي المتكلم الشهير بابن قيم
الجوزية. قال في الشذرات: بل هو المجتهد المطلق.
قال ابن رجب: ولد شيخنا سنة إحدى وتسعين وستمائة، ولازم الشيخ تقي
الدين ابن تيمية، وأخذ عنه وتفنن في كافة علوم الإسلام، وكان عارفًا في التفسير
لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيه المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه
ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية، وله فيها اليد
الطُّولى، وبعلم الكلام والتصوف.
حبس مدة لإنكاره (جد الرحيل إلى قبر الخليل) .
وكان ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، ولم أشاهد مثله
في عبادته وعلمه بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان، وليس هو بالمعصوم، ولكن
لم أر في معناه مثله.
وقد امتحن وأوذي مراتٍ، وحبس مع شيخه شيخ الإسلام تقي الدين في المرة
الأخيرة بالقلعة منفردًا عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ؛ وكان في مدة
حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن، وبالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير،
وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على
الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم وتصانيفهم ممتلئة بذلك،
وحج مرات كثيرة وجاور بمكة.
وكان أهل مكة يتعجبون من كثرة طوافه وعبادته، وسمعت عليه قصيدته
(النونية) في السُّنة وأشياء من تصانيفه غيرها، وأخذ عنه العِلم خَلق كثير في حياة
شيخه، وإلى أن مات وانتفعوا به. قال القاضي برهان الدين الزرعي: وما تحت
أديم السماء أوسع علمًا منه، ودرس بالصدرية، وأم بالجوزية، وكتب بخطه ما لا
يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرة جدًّا في أنواع العلوم، وحصل له من الكتب
ما لم يحصل لغيره.
فمن تصانيفه: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، وسفر الهجرتين،
ومراحل السائرين، الكلم الطيب، وزاد المسافرين، وزاد المعاد أربع مجلدات،
وهو كتاب جليل، وكتاب نقد المنقول، وكتاب أعلام الموَقِّعين عن رب العاليمن،
ثلاث مجلدات، وكتاب بدائع الفوائد، مجلدان، النونية، الشهيرة بالشافية الكافية،
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح،
ونزهة المشتاقين، وكتاب الداء والدواء، وكتاب مفتاح دار السعادة، مجلد ضخم
غريب الأسلوب واجتماع الجيوش الإسلامية، وكتاب الطُّرق الحُكمية، وكتاب عُدّة
الصابرين، وكتاب إغاثة اللهفان، كتاب الرُّوح، وكتاب الصراط المستقيم، والفتح
القدسي، والتحفة المكية، والفتاوى، وغير ذلك.
توفي ثالث عشر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ودُفن بمقبرة الباب
الصغير بعد أن صُلِّي عليه بمواضعَ عديدة، وكان قد رأى - قبل موته - شيخه
تقي الدين في النوم، وسأله عن منزلته فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر، ثم
قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة، - رحمهم الله
تعالى- انتهى باقتصار.
***
مكانة كتاب منازل السائرين
جاء في كشف الظنون ما نصه:
(منازل السائرين) أوله (الحمد لله الواحد الأحد) ... إلخ وهو لشيخ
الإسلام عبد الله بن محمد بن علي أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي
المتوفى سنة 481 إحدى وثمانين وأربعمائة. وهو كتاب في أحوال
السلوك.
قال فيه: هذه المقامات يجمعها رُتب ثلاث: الأُولى: أخذ المريد في السير،
الثانية: دخوله في الغربة، والثالثة: حصوله على المشاهدة الجاذبة إلى عين
التوحيد، ألفه حين سأله جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين إلى
الحق من أهل هَراة فأجاب، ورتبه لهم فصولاً وأبوابًا، وجعله مائة مقسومة على
عشرة أقسام، كل منها يحتوي على عشر مقالات.
(وقد شرحه جماعة منهم الشيخ كمال الدين عبد الرزاق الكاشي المتوفى سنة
730 ثلاثين وسبعمائة لغياث الدين محمد بن رشيد الدين محمد بن محمد بن طاهر
الوزير، أوله (الحمد لله الذي خص العارفين بمعرفة ما لا يعرفه إلا هو) ... إلخ
وذكر الكاشاني أن النسخ كانت مختلفة، وألفاظها متباينة حتى ساق إليه القدَر
نسخة مقروءة على المصنف موشحة بإجازة بخطه، قال: وهو كتاب فاق على كل
ما صُنِّف في هذه الطريقة.
وشرحه المولى شمس الدين محمد البتادكاني الطوسي المتوفى سنة 891
إحدى وتسعين وثمانمائة، وهو شرح ممزوج بالفارسية، سماه (تسنيم المغربين في
شرح منازل السائرين) .
وشرحه محمود بن محمد الدركزيني المتوفى سنة 743 ثلاث وأربعين
وسبعمائة، سماها تنزل السائرين، ولأحمد بن إبراهيم الواسطي المتوفى سنة
711 إحدى عشرة وسبعمائة شرح نافع.
(ولشمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الدمشقي
المتوفى سنة 751 إحدى وخمسين وسبعمائة شرح سماه (مدارج السالكين) وهو
شرح مبسوط. وعلق عليه أبو طاهر محمد بن أحمد الفيشي المتوفى سنة 747
سبع وأربعين وسبعمائة، وترجمه الشيخ مصلح الدين، المعروف بابن نور الدين
المتوفى سنة 981 إحدى وثمانين وتسعمائة بالتركية، واختصرته الشيخة عائشة
بنت يوسف الدمشقية وسمته (الإشارات الخفية في المنازل العلية) ، وشرحه
الشيخ الإمام عبد الغني التلمساني.
وشرحه أيضًا الشيخ الإمام سليمان بن علي بن عبد الله التلمساني الصوفي
المتوفى سنة 690 تسعين وستمائة بأمر الشيخ الزاهد ناصر الدين أبي بكر بن فليح،
وهو شرح أوله (الحمد لله الذي روحنا بالحمد) ... إلخ اهـ.
***
مكانة كتاب مدارج السالكين
مصنفات ابن القيم في كتب علماء الإسلام نادرة، وكتاب مدارج السالكين في
كتب ابن القيم نادرة، فإذا كان كل كتاب منها ممتازًا بتحقيق وإحاطة في مباحث
العلوم، فلا يُستغنى عنه بغيره في الجملة، فكتاب المدارج أولى بأن لا يُستغنى عنه
بغيره في الجملة، ولا في التفصيل. ذلك بأن مباحث كل كتاب من تلك الكتب قد
توجد مجملة أو مفصلة في كتبه الأخرى أو كتب شيخه وغيرهما من المحققين ,
وأما مباحث المدارج فما يوجد منها في تلك الكتب قليل جدًّا، فهو الكتاب الذي قد
انفرد بتحرير علوم الصوفية، ووزنها بميزان الكتاب العزيز والسنة النبوية، وما
كان عليه صفوة المسلمين في الصدر الأول.
قدر الله - تعالى- أن يجمع مباحثها له إمام من أكبر أئمتهم المعتدلين في
أوجز عبارة، وألطف إشارة، يعزّ على غيره الحكم له أوعليها، بل يقلّ في الناس
مَن يفهم الغايات التي ترمي إليها، وإنما أحجم غير ابن القيم من علماء السنة
الأعلام عن شرح كتاب المنازل بمثل ما شرحه به، أو إنشاء كتاب مستقل في
موضوعه؛ لأن الصوفي القح منهم - وهو قليل - لا يُرجى منه أحسن مما جاء به
الهروي، والبعيد عن التصوف منهم لا يفهم رموزهم ومقاصدهم، ولا يدرك
أحوالهم وأذواقهم، فهو إما أن يحكم عليهم بالتضليل، أو يعذرهم بضرب من
التأويل؛ ألم تر إلى الحافظ الذهبي كيف تمنى لو لم يؤلف الأنصاري كتاب المنازل؟
ولو لم يكن من أكبر علماء التفسير والحديث، ومقاومي الجهمية وغيرهم من أهل
التعطيل والتأويل، لضلله بهذا الكتاب تضليلاً.
إذا كان لكتاب المدارج عيب يوقيه من العين، فعيبه أن أكثر ما فيه من
الأحاديث غير معزوٍّ إلى مواضعه من دواوين السنة، خلافًا لعادة مؤلفه وأمثاله،
كأن العَدْوى سَرَتْ إلى مصنّفه من كُتب التصوف، ولكن لم يصل فعلها فيه إلى
إيراد الأحاديث الموضوعة، أو الاستدلال بالأحاديث المنكرة والضعيفة، فإن هذا لا
يأتي من أثري محقق مثل ابن القيم.
وجملة ما نقول في هذا الكتاب أنه أفضل ما عرفنا وسمعنا به من كتب
التصوف والأخلاق الدينية، وقد فند ما ذكرنا، وما لم نذكر من دخائل كتب
التصوف وبِدعها، فهو غاية الغايات في هذا الباب، والله أعلم بالصواب. والحمد
لله الذي وفقنا لطبعه ونشره، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) لعله: سقط شيء من هنا.
(2) ههنا كلمة ممحوة في الأصل لعلها: سعى علماء الكلام.(19/50)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أعظم معركة بحرية
بين أعظم أساطيل العالم
نشرت الحكومة الإنكليزية في3 يونيو1916 بلاغًا رسميًّا في مصر هذا نصه:
كما نشر في المقطم وغيره:
أعلنت وزارة البحرية البريطانية أنه بعد ظهر يوم الأربعاء في 31 مايو
حاول الأسطول الألماني الأكبر أن يخترق نطاق الحصر البحري الذي ضربناه على
ألمانيا فجاء من جهة بحر كاتغات قاصدًا دخول البحر الشمال، وكان هذا الأسطول
مؤلفًا من أساطيل الدردنوطات والطرادات الكبرى والطرادات والمدمرات ... إلخ.
فانبرى له أسطول من الطرادات البريطانية الكبرى تعززه الطرادات
والمدمرات واحتدم القتال بين الفريقين وأسفرت المعركة عن خسارة عظيمة من
الجانبين.
وبعد مدة وجيزة وصل أسطول الدردنوطات البريطانية إلى مكان المعركة
فكف العدو عن القتال وعادت بوارجه قاصدة الموانئ الألمانية.
وقد أُغرقت البوارج الألمانية التالية وهي:
بارجة دردنوط من طرز (كيزر) نسفت نسفًا، وبارجة أخرى من الطرز
عينه أُغرقت بنار المدافع.
أما الطرادات الألمانية الثلاثة الكبرى التي قاتلت في المعركة - وبينها الطراد
العظيم لنزوف، والطراد العظيم درفلنجر على ما يظن - فقد نُسف واحد منها
وعُطل الثاني، ووقف عن الحركة، ورُئِيَ الثالث مصابًا بعطل كبير.
ورُئِيَ طراد ألماني من الطرادات الخفيفة وهو يغرق، ومما يجدر ذكره أن
الألمان اعترفوا بضياع ثلاثة من طراداتهم الخفيفة، وهي فرونلوب وفسبادن
وبومون، وغرقت ست مدمرات ألمانية، ونطحت غواصة ألمانية فأغرقت.
هذه الخسارة التي أرسل القائد العام للأسطول البريطاني خبرها كما رُئِيَتْ
ولكن ثلاث بوارج ألمانية من البوارج الكبرى أصيبت بعطب كبير، والمرجح أن
العدو أصيب بخسارة أخرى لم يستطع أسطولنا رؤيتها بسبب صعوبة الرؤية من
جراء الأحوال الجوية.
والظاهر أن المعركة دارت في آخر الأمر والبوارج الألمانية تجدّ في السير،
وقد ساقها البريطانيون أمامهم من السكو إلى مصب نهر الألب.
أما خسارة الأسطول البريطاني فهي من الطرادات الكبرى (كوين ماري)
و (أندفيتجابل) و (أنفنسبل) ، والطراد (واريور) و (وسبرهوك)
و (أردنت) وثلاث مدمرات أخرى ضاعت، ولم يغرق للبريطانيين شيء من
بوارج الدردنوط ولا من الطرادات الخفيفة.
وقد وقع عبء القتال قبل وصول الأسطول البريطاني الأكبر على قسم من
أسطول الطرادات الكبرى البريطانية، فقاتل هذا القسم أسطول العدو الأكبر
وأصيب بالخسارة المتقدمة، وهو يقاتل أسطولاً يفوقه كثيرًا في قوة البوارج
وعددها اهـ.
وقد شرح كل من المقطم والأهرام هذا البلاغ شرحًا، صرحا فيه بأن
الطرادات الكبرى التي غرقت من نوع الدردنوط أيضًا، وقد آثرنا شرح الأهرام
للخسائر، وهذا نصه:
***
خسائر الألمان
جاء في البلاغ البريطاني أن الألمان فقدوا بارجتين من طراز (كيزر) [1]
إحداهما نسفت نسفًا، والأخرى أغرت بنار المدافع. ومحمول كل بارجة من هذه
البوارج 24700 طن، وهي من بوارج الدردنوط الألمانية وسلاحها 10 مدافع
قطر 12 بوصة، و14 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12مدفعًا ثقل 24 رطلاً و4
ثقل 24 رطلاً، وهي لمقاومة الطيارات، وفيها 5 أنابيب، للطوربيد (الواحدة
20 بوصة) مغمورة بالمياه 4 منها في جانبها، وواحدة في المؤخرة.
وقد بنيت بوارج الدردنوط الألمانية التي من طراز (كيزر) (لقب
الإمبراطور) سنة 1912- 1913 وعددها خمس، وهي (كيزر) و (فردريك
درجروس) و (كيزرين) و (برنس رجنب لويتبولد) و (كوينج ألبرت) ، فإذا
كانت اثنتان قد دمرتا على ما جاء في البلاغ يكون الباقي عند الألمان من هذا
الطراز ثلاث.
وليس عند الألمان أكبر من هذه البوارج سوى ثلاث، محمول الواحدة منها
28 ألف طن، وهي (أرزتس فردريك الثالث) ، وأرزاتس ورث و (T) وأربع
محمول الواحدة 25 ألف طن، وهي (أرزاتس براندنبرج) و (كوينج)
و (جروس كورفرست) و (مرجراف) .
وأما الطرادات الألمانية التي يقول البلاغ إن منها لنزوف ودرفلنجر، فهي من
طرادات القتال الكبرى، وليس لدى ألمانية منها سوى ثلاثة وهي (درفلنجر)
و (لنزوف) و (أرزاتس هرثا) ، ومحمولها 28 ألف طن وسلاحها 8 مدافع قطر
12 بوصة و12 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12 مدفع ثقل 24 رطلاً و5 أنابيب للطوربيد (22بوصة) مغمورة بالمياه أربعة منها في الجوانب وواحدة في
المؤخرة.
أما الطرادات الثلاث التي يعترف الألمان بضياعها فهي.
1- بومرن ومحمولها 12200 طن، وسلاحها 4 مدافع قطر 11 بوصة و14
مدفعًا قطر6,7 بوصة و 20 مدفعا ثقل 24 رطلا و4 ثقل رطل واحد (أي ثقل
مقذوفها) وأربع مدافع رشاشة و6 أنابيب للطوربيد مغمورة بالمياه، في جوانبها
وفي المقدمة والمؤخرة. وللألمان من هذا الطراز أربع بوارج أخرى، وهي
(دتشلند) و (هنوفر) و (شلسويج هولستين) و (شلسين) .
2- فرونلوب وهو طراز صغير محموله 2715 طنا وسلاحه 10 مدافع 4
بوصات و10 مدافع ثقل رطل، و4 مدافع رشاشة، وأنبوبان للطوربيد مغموران
تحت الماء
3- (وستفالن) وهي دردنوط كبيرة ومن طراز (نساو) ومحمولها 1800
طن وسلاحها 12 مدفعًا قطر 11 بوصة و12 قطر 6 بوصات و16 ثقل 24 رطلاً
و6 أنابيب للطوربيد في المقدمة والمؤخرة والجانبين مغمورة تحت الماء.
ولألمانيا من هذه الطراز أربع بوارج فقط وهي (وستفالن. ونساو. وبوزن
ورينلاند) .
وخسر الألمان عدا ما تقدم ست مدمرات لم تُذكر أسماؤها، هذه خسارة
الأسطول الألماني ولا نستطيع تقدير خسارة الأنفس لعدم التحقق من عدد البوارج
والطرادات التي أغرقت تماما بمن فيها، على أنا إذا سلمنا بأنه لم يغرق سوى
بومرن وفرونلوب ووستفالن، وهي الثلاث التي اعترف الألمان أنفسهم
بضياعها فلا تقلّ خسارتهم في الرجال عن ألف رجل في وستفالن و800 في بومرن
و250 في فروتلوب (أي 2050) .
***
خسارة البريطانيين
أما خسارة الاسطول البريطاني، فإذا بحثنا فيها فإنما نذكر أمورا صحيحة
إعتمادا على البلاغ الذي لدينا، فلا وجه للحدس والتخمين وللظن والشك، وهذا
بيان الخسائر على ما جاء في البلاغ. وقد ذكرنا سلاحها منذ يومين فلا نعود إلى
ذكره اليوم.
محمولها ... ... ... ... ... سرعتها ... ... عدد
طن ... ... ... ... ... ... عقدة ... ... رجالها
كوين ماري ... 28000 ... ... ... 28 ... ... 1000
أنديقا تجبل ... 18750 ... ... ... 25 ... 790
انفنسيل ... 17250 ... ... 26 ... ... 780
دفنس ... 14600 ... ... 23.5 ... ... 850
بلاك برنس ... 13550 ... ... 32.65 ... ... 704
وريور ... 13550 ... ... 22,9 ... ... 704
ــــــــــــــــــ
... ... ... ... ... ... 4828 ...
والبارجة كوين ماري هي من أحدث الدردنوطات الكبرى، ولا يوجد أكبر منها
في الأسطول البريطاني من حيث المحمول سوى ثلاث قطع، وهي البارجة (ثيجر)
ومحمولها 28 ألف طن والبارجة (وورسبيت) والبارجة (فليانت) والبارجة
(كوين إليزابث) ومحمول كل منها 27500 طن على أن (كوين ماري) تمتاز عن
الثلاث بوارج الأخيرة بسرعتها، فهي تجتاز 28 عقدة في الساعة بينما (كوين
إليزابث) و (وورسبيت) و (فليانت) سرعة الواحدة منها لا تزيد على 25 عقدة
مثل (كوين ماري) وقد كانت البارجة (كوين ماري) من فرقة الطرادات الكبرى
في الأسطول الأكبر.
ويظهر أن عبء القتال في هذه المعركة، وقع على الأسطول البريطاني الذي
كان في البحر الأبيض المتوسط وهو الآن في البحر الشمالي فإن الطرادات
(انديفاتجبل) و (انفنسبل) و (دفنس) و (بلاك برنس) و (ووريور) جميعها
كانت من هذا الأسطول، ولضباط هذه البوارج أصدقاء عديدون في الإسكندرية
وبورسعيد والسويس وغيرها من موانئ البحر المتوسط، سيحزنون لِما أصابهم،
ويأسفون أشد الأسف لفقدهم.
وقد ظل (بلاك برنس) مدة طويلة في مياه البحر الأحمر وخليج السويس
بعد شبوب هذه الحرب وأسر جملة بواخر من بواخر الأعداء في أوائلها.
أما المدمرات الإنكليزية التي غرقت وهي (فرتشون) و (سباروهوك)
و (أردنت) و (تيبراري) ، فهذه جميعها من المدمرات الأوقيانوسية، وقد بنيت
عام 1913 وطول الواحدة منها 260 قدما، ومحمولها 935 طنا، وسرعتها 3.7
عقدة في الساعة وسلاحها 3 مدافع قطر 4 بوصات وأنبوبان للطوربيد، وعدد
رجال الواحدة منها مئة رجل.
ولعل الثلاث المدمرات الأخرى التي ضاعت، ولم يذكر اسمها في البلاغ من
نوعها أيضًا فتكون خسارة البريطانيين من الرجال في المدمرات نحو 700 اهـ
شرح الأهرام.
(المنار)
ظاهر البلاغ الرسمي أن خسارة الأسطول الإنكليزي أكبر من خسارة
الأسطول الألماني. وقد ورد في البرقيات أن الألمان تبجَّحوا وافتخروا بهذه المعركة،
وخطب قيصرهم خطبة قال فيها: الآن ألقينا الرعب في أعماق قلوب أعدائنا. ثم
وردت برقيات أخرى بأن خسارة الألمان كانت أعظم مما ورد في البلاغ الإنكليزي،
وفي بلاغاتهم الرسمية.
وقد قال ناظر البحرية البريطانية: إنه جازم بأن خسارة العدو لم تكن أقل من
خسارتهم، وإن لم يسهل بيان ذلك بالتفصيل. وصرح هو وغيره بما لا مراء فيه
وهو أن الأسطول البريطاني لا يزال صاحب السلطان الأعلى على البحار.
***
المنار
الدعوة إلى انتقاده
جرت عادتنا بأن ندعو قراء المنار في أول كل سنة إلى انتقاد ما يرونه
منتقدًا فيه بالشروط التي كررنا بيانها، ونعني بقراء المنار هنا كل من اطلع
عليه وقرأ شيئًا فيه، لا المشتركين خاصة، ونعِد بأن ننشر كل ما يكتب إلينا
في ذلك بشروطه، وأهم الشروط أن ينتقد القارئ للكلام ما يراه خطأ، ويبين
ذلك بالدليل من غير استطراد ولا تطويل.
***
حجم المنار في هذه السنة
ذكرنا في الجزء الماضي بأن قلة الورق اضطرتنا إلى أن نجعل كل
جزء من أجزاء هذه السنة ثمانية كراريس (ملازم) وأننا إذا ظفرنا في أثناء
السنة بورق كافٍ نجعل السنة اثني عشر شهرًا، فيكون حجم مجلد هذه
السنة من سني الحرب كمجلد التي قبلها.
***
مباحث هذا الجزء
ضاق هذا الجزء عما وعدنا به فيما قبله، من كتابة مقالة في حال
المسلمين الاجتماعية، وحال أغنيائهم وسائر أصنافهم في التعاون على
الأعمال النافعة، وسننشر المقالة - إن شاء الله - في الجزأين الثاني
والثالث.
__________
(1) المنار: تعريب كيزر قيصر، والألمان يطلقون لقب قيصر على عاهلهم كالروس.(19/59)
رمضان - 1334هـ
يوليو - 1916م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العصبية الجنسية التركية
وعاقبة قتل نابغي العرب بسورية
لعلنا قد سبقنا جميع الكتَّاب إلى بيان خطر العصبية الجنسية على الدولة
العثمانية في عصر الدستور فإننا أشرنا إلى ذلك في أول مقالة كتبناها عند حدوث
الانقلاب وإعلان الدستور إذ كان جميع العثمانيين يصفقون طربًا ويحسبون أنهم نالوا
السعادة صفوًا من كل كدر، آمنينَ من كل خطر، تلك المقالة التي جعلنا عنوانها
(عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية) ، ونشرناها في (ج 6 م 11) الذي
صدر 29 جمادى الآخرة سنة 1326 (28 يوليو و15 تموز) أي بعد إعلان
الدستور بأربعة أيام، وقد جاء فيها بعد بيان مزايا هذه النعمة ما نصه:
إن أمامنا عقبات كثيرة (منها) ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام
الظالمين للحرية الجميلة التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا ويهيمون بها
شغفًا (ومنها) ما هو أقرب إلى الوقوع كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين
المتعصبين والمقلدين، (ومنها) مسألة الجنسية العثمانية، وما يقف في
طريقها من جنسيات الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العلية، فمن
المطالب بالنظر في ذلك؟ .
ثم أنشأنا بعد شهر مقالة أخرى نشرناها (ج7 م 11) أوضحنا فيها
خطر اختلاف الأجناس وشدة الحاجة إلى تكوين جنسية عثمانية تتحد فيها
جميع الأجناس والملل، وبينا أن الواجب على أحرار الترك وعقلائهم أن يبدأوا
بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية (اللغوية) ولا سيما زعماء جمعية الاتحاد
والترقي منهم، لأن دعوتهم هي التي يرجى أن تسمع ويستجاب لها، ثم
كررنا الكتابة في ذلك كثيرًا.
وقد راءى الاتحاديون عقب الانقلاب بإظهار الرغبة في الوحدة العثمانية
وكراهة العصبية الجنسية فحمدنا ذلك لهم كتابة وخطابة ولكنهم ما عتموا أن
نزعوا ثوب الرياء الشفاف بعد أن استقرت سلطتهم، فنبذوا الجنسية العثمانية
وراء ظهورهم، ونهضوا بالجنسية التركية بغلو وإسراف وعجلة خارجة عن
طور العقل، فنصحنا لهم أولاً بالكتابة وبينا لهم أن تحويل العربي عن عربية
والألباني عن ألبانيته والأرمني عن أرمنيته والرومي عن روميته مما يستحيل
في هذا العصر، وأنه لو كان ممكنا لعذرناهم في محاولة تتريك جميع الشعوب
العثمانية سياسة لا دينًا.
ثم قصدت إلى الآستانة للسعي إلى منع التفرق بين العرب والترك
وتأسيس مدرسة الدعوة والإرشاد فيها، ونشرت في جرائدها مقالات العرب
والترك المعروفة لقراء المنار فجعلتها تمهيدًا للسعي في الوفاق ومنع سريان
التفرق الجنسي، إذ بينت فيها ضرورة اتحاد هذين العنصرين مع محافظتهما
على لغتهما، وأنه يجب أن يكونا كعنصري الهواء أو الماء في تكوينهما لحقيقة
واحدة، أعني الجنسية السياسية العثمانية، وبينت فيها أسباب الخلاف
ومثاراتها في الآستانة، وما أخطأَتْ به وزارات الدولة وجرائد العاصمة
وجمعياتها في ذلك فنقم العرب منها، فكان أول من شكر لي هذا السعي،
واهتم به ووعد ببذل نفوذه لتلافي الخلاف حسين حلمي باشا الصدر الأعظم
في ذلك العهد، وكان من سوء الحظ أن أجل صدارته لم يطل، ولا تزل،
أزمة الحكومة بيده، فكان يعدني بتخصيص وقت للبحث معي في هذه المسألة
وانقضت السنة التي قضيتها في الآستانة ولم يف بوعده، على أنه وفى لي
بعدة جلسات في داره وفي الباب العالي للنظر في المسألة الأخرى، أي
مشروع التعليم والإرشاد، ولكن لم يكن لذلك ثمرة.
وقد علمت في أواخر أيامي في الآستانة أن الاتحاديين قد صمموا على
حل مسألة الجنسيات بالقوة القاهرة، وأنهم بدأوا بالتنكيل بالأرنؤط وسيتلوهم
الأرمن والعرب والأكراد، وقد كان هذا أحد الباعثين لي على تلك الحملات
الشديدة التي حملتها على جمعية الاتحاد والترقي في المنار، والباعث الثاني
هو الديني ولا أبحث فيه الآن.
لم أكن أنا الذي قاومت الجمعية بالكلام وحدي بل كانت المقاومة لهم
بالقول والعمل على أشدها في الآستانة وسائر بلاد الترك حتى آلت إلى تسلل
الألوف من جمعيتهم، ثم إلى قيام الأحزاب في مجلس الأمة عليهم، ثم إلى
تأييد الجيش لحزب الحرية والائتلاف في إسقاط وزارتهم، ومما يجب أن يذكر
أنهم اعترفوا في أثناء ذلك الجهاد وبعده بأنهم كانوا يريدون تتريك جميع
عناصر الدولة وأنهم رجعوا عن ذلك.
ولما عادت الوزارة إليهم باغتيال ناظم باشا ناظر الحربية في الباب
العالي والقبض على كامل باشا الصدر الأعظم فيه هالنا الأمر وخفنا من وقوع
الفوضى في الآستانة والدولة في حال حرب مع البلقان غُلبت فيه على أمرها،
ولكن وزارة كامل باشا لم يكن لها حزب يؤيدها، إذ كان حزب الحرية
والائتلاف غير متفق معها، ثم عقدت الوزارة الاتحادية الصلح وأنشأت تعقد
مع الدول الكبرى الاتفاق تلو الاتفاق على جعل البلاد العثمانية مناطق نفوذ
اقتصادي لهن، وتقترض عشرات الملايين منهن، وبدأت بالعراق العربي
فاعترفت للإنكليز فيه بما طلبوا من النفوذ والحقوق، فأنكرنا ذلك عليهم أشد
الإنكار، ولم يمنعهم ذلك طبعًا من الاتفاق مع فرنسة على نفوذها في سورية
إلخ.
على أننا لما رأينا البلقانيين قد انتصروا على الدولة في الحرب حتى
كادوا يستولون على الآستانة علمنا أن الخطر على الدولة أقوى وأسرع مما
كنا نخشى، وأن الدولة إذا كانت قد عجزت عن حفظ الرومللي وهو سياج
الآستانة وحصنها أمام البلقان، ومعظم قوتها الحربية هنالك وباقيها على حدود
الروس، فلا بد أن تعجز بالأولى عن الدفاع عن بلادنا العربية إذا هجمت
عليها دولة قوية. إذ ليس في بلادنا حصون ولا سلاح، وكان هذا الأمر منبها
لكثير من أهل الغيرة والفهم من العرب إلى ما سبقهم بعض أذكياء الترك إلى
الدعوة إليه وهو وجوب إدارة الدولة من نوع اللامركزية؛ لأن ذلك أدعى إلى
عمران كل قطر واستعداده للدفاع عن نفسه عند عجز المركز العام عن الدفاع
عنه.
تأسس حزب اللامركزية بمصر في أثناء حرب البلقان وسرت دعوته في
المملكة العثمانية كلها، ولم يكن للحكومة الاتحادية وجه للشكوى منه؛ لأنه
حزب عثماني يحاول الوصول إلى غايته من الطريق القانوني الذي ينتهي إلى
مجلس الأمة، وتأسست في أثناء ذلك الجمعية الإصلاحية في بيروت بإذن
الحكومة فشذت في موضوع ما طلبته من تعيين مستشارين ومراقبين للحكومة
من الأجانب وأنكرنا عليها شذوذها في المنار، ثم أنشئت جمعية أخرى في
البصرة صارح رئيسها طالب بك النقيب حكومة الاتحاديين بالإنكار بل بالعداء،
وقد كادت الجمعية له فحاولت اغتياله فلم تظفر، ثم حاسنته وكلفته السعي
للتوفيق بينها وبين الأمير ابن سعود فبذل جهده في ذلك.
ثم تعلقت رغبة كثير من أذكياء العرب بعقد مؤتمر عربي في باريس
لإظهار مطالب العرب الإصلاحية للعالم كله، وعهدوا بذلك إلى حزب
اللامركزية فعقد المؤتمر وحضره مندوبون من البلاد العربية والجمعيات
العربية واختير لرياسته السيد عبد الحميد الزهراوي أحد مندوبي حزب
اللامركزية، وكان المؤتمر في غاية الاعتدال في مباحثه وقراراته.
حينئذ اهتمت جمعية الاتحاد والترقي وحكومتها بأمر العرب وأوفدت
مندوبا من زعمائها إلى باريس للاتفاق مع رئيس المؤتمر على إجابة العرب
إلى ما يطلبونه من الإصلاح المعقول، وعقدا ذلك الاتفاق المشهور، ثم قرر
مجلس الوكلاء، وصدرت الإرادة السلطانية ببعض مواد ذلك الاتفاق مع الوعد
بأن تعطى العرب حقوقًا أخرى بالتدريج، وكل ذلك مدون في كتاب (المؤتمر
العربي الأول) ونشر في المنار وفي الجرائد العربية المشهورة، ولكن ما
تقرر من ذلك لم يرض جمهور المطالبين بالإصلاح من العرب، وقد عده
أكثرهم خديعة مؤقتة من الاتحاديين، وكان فريق منهم أشهرهم الزهراوي
وعبد الكريم قاسم الخليل يرجحون إخلاص الاتحاديين وعزمهم على إرضاء
العرب دائما، وقد كان من إظهار الاتحاديين الميل إلى العرب أن صار أكبر
زعمائهم كطلعت بك يحضرون الاحتفالات التي يقيمها أعضاء المنتدى الأدبي
في الآستانة.
هذه خلاصة ما كان من أمر الخلاف والوفاق بين العرب والترك أو
الاتحاديين منهم خاصة قبل هذه الحرب، فلما وقعت الحرب بين الدول الكبرى
وعلم طلاب الإصلاح من العرب أن دولتهم تريد أن تستفيد منها وتوقعوا أن
تدخل فيها، كفوا جميعًا عن المطالبة بالإصلاح، وأظهروا الميل إلى تأييدها
في كل ما تقرره وإن لم يعتقدوا أنه الصواب حذرًا من المنازعات الداخلية،
وقد حبذنا عملهم هذا بمقالة نشرناها في جريدة الأهرام التي صدرت في سادس
ذي القعدة 1332 (16 سبتمبر سنة 1914) أي قبل دخول الدولة في الحرب،
ثم في منار ذي الحجة أي بعد دخول الدولة في الحرب، وقد قلنا في أول تلك
المقالة وهي خطاب لمسلمي سورية ما نصه:
ثم أشكر لكم ما أظهرتموه من النجدة والهمة، في الإخلاص والطاعة
للدولة، وبذل الأنفس والأموال والثمرات لها، والكف المؤقت عن طلب
الإصلاح منها، وتقديركم الحال الحاضرة قدرها، حتى أنكم ساهمتم في هذا
أرقى أمم الأرض التي سكتت عن جميع مطالبها ومنازعاتها الداخلية. إلخ.
وماذا جرى بعد ذلك؟ ولى الاتحاديون جمال باشا أحد زعمائهم منصب
القيادة العامة في سورية فأظهر الميل التام إلى العرب وصار يقرب إليه أذكياء
المتعلمين منهم ويحثهم على الاستمساك بعروة عروبيتهم وعثمانيتهم معا،
فصدقوه وازدادوا حماسة ورغبة في بذل دمائهم وأموالهم في سبيل الدولة،
حتى إذا ما تم له ما أراد من الاختبار، نزع عنه ثوب الرياء والمكر، ولبس
لهم جلد النمر، وقتَّلهم تقتيلاً، ونكل بهم أحد عشر شابًّا من خيار شبان
المسلمين منهم النابغة محمد الحمصاني وأخوه عبد الكريم قاسم الخليل الذي
كان رئيس المنتدى الأدبي في الآستانة، ثم اتصل بالاتحاديين وجعل جُل سعيه
إقناع العرب بالإخلاص لهم، فلم نصدق الخبر إلا بعد أن وصل إلى مصر
بعض الفارين من الشنق وبعض الأسرى من الجيش وأثبتوا لنا الخبر، ولكننا
مع ذلك لم نكتب كلمة إنكار على جمال باشا ولا على شيعته لأجل العلة التي
أشرنا إليها آنفا.
ثم تواترت الأنباء بشنق أناس آخرين من دمشق وغيرها بتهمة السياسة
وقتل آخرين بالرصاص ونفي بيوت كثيرة إلى الأناضول، فثبت عندنا حينئذ
أن الاتحاديين اغتنموا فرصة الأحكام العرفية في البلاد، والقبض على
الأرزاق والأعناق، لأجل القضاء المبرم على النهضة العربية وإكراه العرب
بالقوة القاهرة على ترك لغة أمتهم ودينهم، وعدم المطالبة بحق من حقوقهم،
ولكن الثابت في سنن الاجتماع وتاريخ الأمم أن هذه الطريقة من الاضطهاد
تؤدي إلى ضد ما يراد منها، وقد كنا قلنا من قبل: إن الإسلام قد أمات
العصبية الجنسية في بلاد العرب الحضرية فلا يقدر على إحيائها أحد إلا
حكومة الآستانة، ويمكننا أن نقول الآن إنها قد كونت الجنسية العربية الجديدة
وجعلتها خالدة، لأنها زرعتها في البدو والحضر وسقتها بالدم، وبالدم استقل
من استقل من جميع الأمم، وكنا نخاف منهم هذه العجلة في هذه الأيام لئلا
تجيء منافية لمصلحة الإسلام، إذ يخشى أن تكون هذه القسوة في اضطهاد
العرب في سورية سببًا ليأس الأمة العربية كلها من الدولة وجزمهم بأنه
يستحيل عليهم أن يحافظوا على وجودهم تحت سيادتها، وأن يحمل ذلك عرب
الجزيرة على الخروج عليها، خوفًا أن يحل بهم شر مما حل بغيرهم، فإن
الترك يحاربون اليمن وعسير ونجد منذ قرون فكل حكامها الحاضرين قد
قوتلوا، وأمير مكة لا ينسى لهم ما فعله معهم وهيب بك قبل هذه الحرب إذ
حاول الفتك به وسلب امتياز الشرفاء من الحجاز وجعله كولايات الشام، ولما
ظهر عليه الأمير أظهرت الدولة الاستياء مما حصل ونسب إلى الدفتردار.
واسترضى الصدر الأعظم الشريف بالاعتراف له بجميع حقوق أمراء مكة
التي كانت في عهد السلطان سليم، ولكن الشريف يعرف ظواهر هذه الأمور
وبواطنها، بل لا يخفى على أحد من العقلاء أن الدفتردار لا يجرؤ على إحداث
أمر كبير في الحجاز بدون أمر رئيسه (الوالي) وأن الوالي لا يجرؤ عليه
بدون أمر الآستانة، وأوامر الآستانة في عهد الاتحاديين قسمان: أوامر
الجمعية وهي الحاكمة، وأوامر الحكومة وهي المنفذة، على أنه يقيس وفاء
الحكومة بما كتبه إليه الصدر الأعظم على وفائها العرب بالاتفاق الذي عقد مع
رئيس المؤتمر العربي وما قررته في مجلس الوكلاء وصدرت به الإرادة
السلطانية من المطالب العربية.
كان يجب على دولة الاتحاديين في هذا الوقت أن تتودد للعرب أكثر مما
كانت تتودد اليوم بعد حرب البلقان، وأن تتم بالفعل ما بدأ به أنور باشا من
استمالة أمراء الجزيرة بالكتابة، وذلك بإرسال السلاح والذخيرة والضباط من
العرب إليهم لأجل أن يكونوا ذخرًا لها إذا استظهر الروس عليها في الأناضول،
فإذا كان مثل إنكلترة وألمانية تحسب الحساب لوصول أعدائها إلى بلادها
وتعد الآلات والجيوش لأجل الدفاع عنها، أفليس الترك أجدر بذلك وهم لولا
الألمان لم يستطيعوا حربًا في ميدان ما من ميادين هذا القتال، وحسبهم أنهم
فقدوا بحرب البلقان كل ما كان عندهم من ذخيرة وسلاح، وهل يوجد لهم ملجأ
يلجئون إليه إذا غلبوا في بلادهم إلا العرب وبلاد العرب، بل العرب وبلاد
العرب هي الملجأ للإسلام، ولذلك جاء في الحديث الصحيح (إذا ذلت العرب
ذل الإسلام) وأنى يبالي بالإسلام وعز الإسلام، من ينشرون في دار سلطتهم
أمثال كتاب (قوم جديد) و (صوك كتاب) التي يفضلون فيها زعانفهم
الغاوين، على الخلفاء الراشدين وعلى من دونهم من الأولياء الكرام، ومن
فوقهم من الأنبياء حتى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام.
وأما العرب الذين أوجد الله بهم الإسلام، فإنهم أجدر الناس بالغيرة على
المسلمين ودار الإسلام، ولولا ذلك لما سكتوا على الضيم كل هذا الزمان،
ونخشى أن يكون قد زال ما كانوا يحذرون، ويئسوا من كل خير كانوا
يرجون، فيبدو للمنافقين ما كانوا يحذرون، كما نخشى أن تكون عاقبة ذلك
لغيرهم وهم لا يشعرون.
إنما يحرص سواد المسلمين الأعظم على حياة هذه الدولة؛ لأنه يهم كل
مسلم أن يكون للإسلام دولة مستقلة قوية وهي أمثل دول المسلمين في ذلك،
وإن كانت لا تقوم بدعوة الإسلام ولا تحيي علومه ولا تحمي شعوبه ولا أفراده
ممن يريد بهم سوءًا، ولكن لا يرضي أحدًا من المسلمين أن تجني على لغة
القرآن، وأن تضطهد العرب وتذلهم، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام:
(إذا ذلت العرب ذل الإسلام) رواه أبو يعلى من حديث جابر بسند صحيح،
وهذا الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ظهرت في هذا الزمان
ظهورا بيناه فإن الدولة قد تعرضت لخطر الزوال وفقد الاستقلال غير مرة،
وإنما كان يقيها منه تنازع أوربة على اقتسامها، فإذا زال التنازع بزوال
التوازن عقب هذه الحرب زالت الدولة بزواله، وأكبر المصائب على الإسلام
حينئذ أن تعد بلاد العرب تابعة لها، ومعدودة فيما يقسم بين الغالبين من تراثها،
إذ يكون المسلمون حينئذ أدنى حالاً من اليهود، إذ يزول استقلالهم الديني
والسياسي وهم في فقر مدقع لا يستطيعون معه عملاً، ولا توجد بقعة في
الأرض تمثل استقلال الإسلام غير بلاد العرب، ولولا جعل جزيرة العرب
تحت سيادة الدولة العثمانية بعضها بالاسم وبعضها بالفعل لما تسنى لها أن
تجعل نفسها دولة الخلافة ويعترف لها الناس والدول بذلك.
فجملة القول أن مصلحة المسلمين عامة أن تكون بلاد العرب قوية بنفسها،
غير محتاجة إلى قوة من خارجها لحمايتها، وقد بينا ذلك مرارًا، ولا خطر
في ذلك على الدولة إذا كان فيها من جراثيم الحياة ما يكفي لبقاء استقلالها،
وإنما الخطر كل الخطر في إضعاف العرب وجعل بلاد العرب عالة على
غيرها، وستظهر الأيام صدق هذا الكلام، ونسأله تعالى أن يكون بما فيه عز
الإسلام.
حاشية: كتبنا هذه المقالة لجزء الشهر الماضي فلم يتيسر نشرها فيه، ثم
جاءنا روتر بنبأ إظهار أمير مكة الشريف حسين الاستقلال في الحجاز
وسنفصل القول فيه في الجزء التالي لهذا إن شاء الله.
__________(19/75)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم الصيام
وجناية تاركيه على أنفسهم
وعلى المسلمين والإسلام
الصيام عبادة روحية جسدية، قد شرع لما فيه من المنافع الشخصية
والاجتماعية، فهو يروض الأجساد، كما تعطش الزروع وتضمر الجياد، فيفني
الرطوبات والمواد الرواسب فيها، التي تصلب الشرايين وتعيق حركة الدم فيها،
ويعيد المِعَد المصابة بالتمدد إلى تقلصها وتغضنها، حتى قال بعض الأطباء: إن
صيام شهر واحد (كرمضان) يصلح ما أفسده التمدد طول العام، ويمرن المرء
على احتمال الجوع والعطش بالاختيار، فيسهلان عليه إذا ألجأه إليهما الاضطرار،
في سفر أو سجن أو مجاعة أو قتال، ويشعر الأغنياء المترفين بحاجة الفقراء
المعوزين، ويساوي بينهم في هذه العبادة وآثارها كما يساوي بينهم في سائر شعائر
الدين.
وهو فوق ذلك المربي الأعظم للإرادة، وإنما يتفاضل أعاظم الرجال بما في
الإرادة من قوة العزيمة، فلولاها لما استسهل صعب، ولا ثبت شجاع في حرب،
ولما أقدم المصلحون على تغيير المنكرات، ولا سيما مقاومة الظلم والاستبداد، ولما
ثبت عامل على عمل حتى يتقنه، ولما صبر ذو مصاب على مصابه حتى يأمن
خطره، ولما احتفظ أمين بالأمانة، إلا بقدر ما يخاف في الدنيا من عقوبة الخيانة،
وناهيك بأمانة الأعراض، والمحافظة على شرف النساء.
وهو فوق ذلك مراقبة لله عز وجل وتقرب إليه بما يرضيه من تزكية النفس،
وتوجه إلى الكمال الأعلى، والحياة الروحية الفضلى، حياة النبيين والصِّدِّيقين، بل
الملائكة المقربين.
إن الصائم المسلم هو الذي يحكم سلطان الإرادة بقانون الإيمان على هوى النفس
فيمنعها من التمتع بأعظم الشهوات شأنًا عندها، فينال منه الجوع والطعام بين يديه،
ويبرح به الظمأ والماء البارد أمام عينيه، ويشتد شوقه إلى ملامسة زوجه وهي
منه على طرف التمام وحبل الذراع، فيعرض عن كل ذلك ويتركه بوازع الإيمان،
ابتغاء لمرضاة الله تعالى وتحصيلاً للفوائد التي شرع لها الصيام.
ألم تر أن الذي يربي إرادته ويحكمها في أشد شهواته وأقواها مدة شهر كامل
في كل عام على الأقل جدير بأن لا تنزعه نفسه أكل شيء من أموال الناس بالباطل
ولا العبث بشيء من أعراضهم، أو ليس الذي يقدر على ترك أعظم ضروريات
الحياة مما أحد الله له وقرب منه متناوله يكون أقدر على ترك ما حرم الله عليه من
جنسها ومما هو أدنى منها، وأجدر بأن يغلب هوى النفس الذي يغريه بها، بلى،
وإن من الأمثال الإسلامية المشهورة في بعض الأقطار، (إن الذي يزكي لا يُسرق)
وهذا أمر معقول كسابقه، فإن الذي يخرج المال من جيبه أو صندوقه طائعًا
مختارًا ويؤتيه الفقراء والمساكين ويضعه في غير ذلك من المصارف الشرعية لوجه
الله وابتغاء مرضاته بنفع عباده، جدير بأن لا يعصي الله تعالى بتكلف سرقة مال
غيره، وهو يعلم أن ذلك سبب لسخط الله تعالى، ولو كان لا يبالي بسخط الله ولا
برضوانه بل يؤثر عليه حب المال لحفظ ماله في صندوقه ولم يخرج زكاته فذلك
أسهل من إحراز المال بالسرقة.
علل الله تعالى فرض الصيام علينا، بأنه هو الذي يعدنا ويؤهلنا للتقوى،
فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) وإنما التقوى ملكة يقدر صاحبها بوازعها النفسي على
اتقاء كل ما يدنس نفسه ويدسيها من ترك واجب، أو اقتراف محظور، ولذلك قالوا:
إنها عبارة عن القيام بالواجبات وترك المحرمات، وهذه الملكة كسائر الملكات،
تكتسب بالأعمال النفسية والبدنية التي يقوى بها سلطان الإرادة على نزعات الأهواء
كما سبق القول، وقد فطن لهذا بعض حكام الغرب، فقال في كتاب صنفه في
(تربية الإرادة) : إنه لا مربي للإرادة كالصيام، ولأجل هذا شرع في جميع
الأديان.
إن أحق الناس بتحصيل هذه الملكة وبسائر فوائد الصيام الروحية والاجتماعية
والجسدية من جمعوا بين حكم الله وحكمته فيه وراعوا ذلك حق رعايته، فالإسلام
علم وتربية، بنيا على أساس الحكمة والفلسفة، وذلك نص قوله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم
مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) وقد يستفيد كثير من الناس حكمة العبادة
ويجنون ثمرتها، وإن لم يتلقوا بالتعليم أن ذلك هو المصلحة التي شرعت لأجلها،
كما يستفيد بعض الناس من شيء يأكله أو يشربه، فيكون من حيث لا يدري شفاء
من مرض ألمَّ به أولئك الذين أخلصوا دينهم لله فكان لهم من العلم بكل عبادة أنها
تُرضي الله تعالى وأنَّ ترْكها يؤدي إلى سخطه واستحقاق عذابه.
ومن الناس من يؤدي العمل تقليدًا ومجاراة لمن نشأ فيهم فيكون عادة له كسائر
العادات الشخصية والاجتماعية، لا ينوي به قربة، ولا يشعر له بفائدة، ولا يفكر
في حكمة الشارع فيه، فلا يكون لصيامه أثر كبير في عباداته ولا معاملاته ولا
عاداته، قد يصوم ولا يصلي، وقد يصوم ويصلي وهو مصرّ على المعاصي، فهو
الذي يصدق على صيامه ما قاله بعض الأوربيين في تعريف الصيام، من أنه عبارة
عن تغيير مواعيد الطعام، بجعلها في الليل بدلاً من النهار، وإنما كمال الصيام
بجعله جنة ووقاية من جميع الآثام، قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة فإذا
كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني
صائم إني صائم) رواه الشيخان في الصحيحين وأصحاب السنن الأربعة، والرفث
صريح الكلام في الوِقاع أو ما يتحدث به الزوجان في تلك الحال، والصخب الجلبة
والصياح، فإذا كان مثل هذا مما يمنع في الصيام، فما شأن اقتراف كبائر الآثام؟
على أن مثل هذا الصائم خير من تارك الصيام ولا سيما المجاهر به، فإذا كان مثله
كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، فإن مثل تاركي الصيام من أمثال الفساق كمثل من
يهدمون القصور والأمصار.
يترك الصيام في هذه البلاد أناس كثيرون من طبقتين أو ثلاث طبقات، تتفق
وتختلف في بعض الأعمال والصفات: طبقة تحوت الغوغاء الأرذلين، وطبقة
أسرى الشهوات المترفين، وطبقة أدعياء المدنية المقلدين، فأما أولئك التحوت
السفهاء فإنهم لا يشعرون بقيمة لأنفسهم يشاركون بها سائر طبقات الأمة في
شعائرهم الدينية، دع ما هو أرقى من ذلك كالشعور بما يجب من شكر رب العالمين
الرحمن الرحيم والتقرب إليه والاستعداد للرضوان الأكبر في دار الكرامة عنده،
وغاية ما ورثوه من تقاليد الأديان التي كان عليها آباؤهم الأولون والآخرون تعظيم
بعض الموتى ذوي الأضرحة التي خذلت سنة الدين بتشريف بنائها، وجعلها مساجد
يصلى إليها ويطاف بها، وبناء القباب عليها واحتفالات الموالد التي هي أعياد
ومواسم يحشر الناس إليها بجوار تلك القباب، وزيارة الجماهير للمقابر في ليالي
الأعياد وجمع رجب وأيام أخرى من السنة، يرحل فيها إلى القرافات النساء
والرجال والأطفال، مشاة حفاة ركبانًا على الحمير والجمال، وما في ذلك من
المنكرات الكثيرة المعروفة.
وأما هؤلاء المترفون (فمنهم) ملاحدة المتفرنجين الذين هم شر على هذه
الأمة من كل عدو لها (ومنهم) أسرى الشهوات الذين ليس لهم من قوة الإرادة ما
يقدرون به على مغالبة الهوى وعصيان داعي اللذة، أو حبس النفس على عمل شاق،
وهم أشد الناس حاجة إلى الصيام، فإن هذا الإفراط في الترف يضعف البدن كما
يضعف النفس، وإذا كثر هؤلاء في أمة فقدت الاستعداد لدفع الأعداء عنها، وللقيام
بالأعمال المتبعة التي ترقى بها الأمم والثبات عليها، وقضي عليها أن تكون
مستعبدة لغيرها، وأي عار على الفتى الجذع، أو الكهل أو الشيخ الذي لم يدركه
الهرم، أكبر من عار الاعتراف بعدم الطاقة على احتمال الجوع والعطش بضع
عشرة ساعة يعد له بعدها الشراب المبرد وألوان الطعام الفاخرة، أيها الجذع الناشئ
أيها الكهل القارح، أولى لك فأولى، وغير هذا كان بك أولى، كان أولى بك أيها
الفتى أن تفخر بالتربية على صفات الرجولية، واعتياد التقشف الاختياري في
المعيشة، ومنه أن لا تسرف في التعميم المباح في ليالي رمضان، وأن تصوم من
كل شهر عدة أيام، كان أولى بك أيها الكهل أن تكون قدوة صالحة لولدك وأولاد
المسلمين، في المحافظة على شعائر الدين، وعلى الآداب والأعمال، التي يبلغون
بها درجة الكمال، وأهمها ركوب الصعب، واكتساب ملكة الصبر، وتوطين النفس
على مصارعة الحوادث، ومقارعة الكوارث ألا وإن الصيام جد الصيام أول
مقدماتها، وأيسر وسائلها.
وأما أدعياء المدنية المقلدون فهم الذين يفطرون جهرًا ليقول فيهم غير
المسلمين والمنافقون من المسلمين: إنهم (متمدنون) وهذه الطبقةأخس الطبقات
فلا ينتحل لها عذر ولا يوجه إليها برهان.
عذر الملحد المارق عند نفسه في ترك الصيام أنه فقد الباعث الديني، ولم
يترجح عنده باعث تهذيبي، وعذر المترف الشهواني عند نفسه، عجزه عن كبح
جماح لذاته، لتحكم الهوى فيها، وضعف الوازع الديني عنها، والجهول السافل من
تحوت الناس له عذر هذين الفريقين وعذر آخر وراءهما، وهو أنه لا يخطر في
باله ولا يصل علمه إلى ما يعلمه كثير من أفرادهما من معنى كون الصيام ركنًا
للدين الذي ينسب إليه، وشعارًا للأمة التي هو منها، وإن العاقل الذي يرى لنفسه
قيمة في الوجود يرى شرفه بشرفهما وذله بمهانتهما، وأنه مطالب دينًا وعقلاً
بحقوق لهما عليه، وأن دين الأمة من مقومات وجودها، فمن فاته الإيمان الباعث
على إقامة أركانه لأجل سعادة الآخرة، لم يسقط عنه احترام شعائره التي هي أقوى
روابط الأمة؟ فبهذا العلم يؤاخذ ويطالب كل من أوتي نصيبًا منه، وترتفع المؤاخذة
عمن كان نصيبه منه الجهل المطلق حتى إن نفسه لا تتوجه إلى طلبه، ومنهم من
يعتذر بأن الصيام يضره وإن كانوا أصحاء الأجسام، بترك ما اعتادوا من النظام في
مواعيد الطعام، والصواب أن ما يتوهمون من الضرر في ذلك هو عين النفع؛ لأن
التزام تلك العادات أضعف أبدانهم وأنفسهم، حتى صار تغييرهما يؤلمهم أو
يضجرهم، وإنما هذا الألم والضجر عرضان لمرض الترف، والصيام علاج له لا
مضاعفة.
إذا صح أن يكون في الإلحاد عذر للملحد، وفي ضعف الإرادة عذر للمترف،
وفي تغيير العادة إيلام للمهفهف، فيا ليت شعري بم يعذر نفسه أو يعتذر عنها من
يجاهر منهم بالفطر؟ المجاهرة بالذنب شر من ارتكاب الذنب، لأن ارتكابه سرًّا
يجعل ضرره قاصرًا على من اقترفه، وأما المجاهرة به فضررها يتعدى المذنب
إلى غيره؛ لأنه يكون قدوة سيئة لمن كان مستعدًّا لاقتراف ذلك الذنب تجرئه على
اقترافه، ولأن في الجهر به إذا كان من الشعائر الملّية، كالصيام، احتقارا للملة
والأمة التي ينسب المفطر إليها، وإضعافًا لرابطة قوية من الروابط التي تمتاز بها
الأمة على غيرها.
ها هنا يضحك القارئ من هؤلاء الملحدين، لا تضحكوا إلا على أنفسكم بل
ابكوا عليها إن كنتم تعقلون يقولون: إن الملحد ليس من أهل الملة ولا من أفراد
الأمة فيُرمى بهذا اللوم ويطالب بالاعتذار عن عمل لا يراه واجبًا عليه، وإنه يعدّ
الجهر بالإفطار في رمضان من الشجاعة الأدبية والإسرار به من الضعف والنفاق
ونقول: كيف يصدق هذا الكلام على ملاحدة بلادنا وكلهم منافقون يدعون الإسلام
ويلتزمون من أحكامه وشعائره، وعادات أهله ما لا ينافي أهواءهم، ولا يعارض
شهواتهم، كالأحكام والشعائر، وكذا العادات المتعلقة بالزواج والموت والأعياد،
ويخضعون لشريعته في أحكام الزواج والإرث، فإذا ادعى أحد منهم الشجاعة
المعنوية بهتك شعار الصيام، فقل له كذبت في دعواك، فإن كنت شجاعًا فصرح
على رءوس الأشهاد بالردة عن الإسلام واترك كل ما هو إسلامي، ولا تتزوج نساء
المسلمين ولا تأكل تراثهم، ولا تتول الأعمال والوظائف الخاصة بهم بدعوى أنك
منهم، وأما إخفاء معصية الإفطار فليست مع صحة العقيدة من النفاق، بل من
إخفاء العيوب والعورات.
قد يقول بعضهم: إن الإسلام جنسية اجتماعية كجنسية اللغة وجنسية النسب،
وإن العقائد الدينية والعبادات البدنية من الشئون الصحية التي يجب أن يكون الناس
أحرارًا فيها، ولا ينبغي أن يتوقف عليها تحقق الجنسية بعد أن ينالها صاحبها
بالوراثة أو بتسمية نفسه مسلمًا.
ونحن نقول: إن هذا الكلام مغالطة بديهية البطلان فإن الإسلام في الحقيقة
دين وهو جنسية لمن يدينون الله به، ولو في الظاهر كإقامة أركانه من صلاة
وصيام وزكاة وحج وتحليل حلاله وتحريم حرامه، فهو من حيث هو دين لا تحقق
له إلا بصحة العقيدة وما يتبعها من الأعمال، ومن حيث هو جنسية يتحقق بالتزام
شعائره وأحكامه الظاهرة إلا ما يقع من الإخلال بها شذوذًا كما كان المنافقون يعملون
في الصدر الأول فمن لا يؤمن بما جاء به رسوله ولا يقيم شيئًا من أركانه فلا حظ
له من جنسيته، فكيف إذا كان مع هذا مجاهرًا بهدم هذه الأركان بلا خوف من الله
ولا احترام لأهل هذه الجنسية.
على أن كل منتمٍ إلى جنس يجب عليه أن يعد جميع من يشاركونه فيها
إخوانًا له وأن يحترم كل ما يشترك فيه معهم من مقومات الجنسية ومشخصاتها،
وإلا كان عاقًّا لها، مستحقًّا للطرد والإبعاد عنها، بدلاً من مشاركة أهلها في منافعها
الصورية والمعنوية، وهؤلاء المجاهرون بالفطر في رمضان لا يشعرون بمعنى
الأخوة الإسلامية العامة، ولا يقومون بشيء من حقوقها، كما أنهم لا يحترمون
الشعائر والأعمال التي لا تعرف الجنسية الإسلامية إلا بها.
الحق أقول: إن لبعض الذين يفطرون في رمضان عذرًا طبعيًّا، ولا يحمد
عذر طبعي إلا أن يكون شرعيًّا، كعذر المريض والمسافر والعاجز عن الصيام لهرم
مثلاً، ولكن لا عذر لأحد في الجهر بالإفطار؛ لأنه احتقار للإسلام وإهانة لأهله،
لا تصدر اختيارًا إلا من عدو له ولهم، أو ممن لا شعور له بمعنى الأمة والملة
وشرفهما كبعض الكناسين والزبالين لا كلهم، وكم يوجد من أمثالهم في المتعلمين
المتفرنجين الذين يظنون أنهم ممتازون في الأمة بارتقائهم في الشئون الاجتماعية،
وأنهم يشعرون من ذلك بما لا يشعر به الجمهور، وأن الخير للأمة أن تكون مثلهم
في ترك أركان الدين وامتهان شعائره والاهتمام بالتمتع بالشهوات، وحسبهم شرفًا
وارتقاء ما يتوهمون من عدّ غير المسلمين لهم من المتمدنين أو المتنورين ويا شقاء
أمة يكثر فيها أمثال هؤلاء المترفين، فإنها لا ترتقي بهم إلا إلى أسفل سافلين.
__________(19/82)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حال المسلمين الاجتماعية
ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [1]
(1)
الإنسان عالم اجتماعي لا يصل فرد من أفراده ولا شعب من شعوبه إلى كماله
المقدر له إلا بالأعمال الاجتماعية التي يتعاون عليها أفراد العشيرة وأهل البلد
والوطن وسائر الناس، وعلى قدر هذا التعاون يكون أقرب من الكمال الاجتماعي
والبعد عنه، فالأمم بالأفراد والأفراد بالأمم، فهنيئًا للأمة التي تتسم بسعي أفرادها
غارب العز والسيادة، وتتنسم ريح القوة والسعادة (ويا ويْح الرجل الذي ليس له
أمة) [2] وما كل جمع كبير يستحق أن يسمى أمة، لولا سعة المجاز في الكلام،
كقولنا في صور الناس وتماثيلهم: هذا فلان وهذا فلان.
المسلمون جمع كبير يطلق عليه اسم الأمة الإسلامية بحسب صورته أو
باعتبار ما كان عليه، وإن كان لا يقوم بالأعمال الاجتماعية التي تتحقق بها مقومات
الأمم ومشخصاتها، وتحفظ بها مصالحها ومنافعها، وللمنار مقالات كثيرة في بيان
هذا الموضوع يطلب أقدمها عهدًا من المجلد الأول منه، ومن أشهرها مقالة في
المجلد التاسع عنوانها: حال المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة
السلاطين، كان لها تأثير في الشرق والغرب، وترجمها بالتركية أحد فضلاء
الآستانة وطبعها في رسالة مستقلة باللغتين.
وقد نطلق على المسلمين اسم الأمة باعتبار ما نرجو أن تئول إليه حالهم،
فباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الكون بينَّا غير مرة في تلك المقالات أن
الإصلاح الإسلامي ينحصر في كلمة تكوين الأمة إذ لا أمة في الحقيقة، وباعتبار
أن ذلك الاستعمال من مجاز الأول يتسع مجال الإطلاق، وكثيرًا ما بينا الكلام على
تحقق الرجاء، وصرحنا بأن الأمة قد ولدت ولادة جديدة، وأنها الآن في سن
الطفولة، وأن ما تتصدى له من الأعمال الاجتماعية إنما كان صغيرًا وعرضة
للفشل في الأكثر؛ لأنه من قبيل أعمال الأطفال، وقد شرحنا هذا الموضوع في
مقالات نشرت في المجلد الثاني وغيره) [*] وذكرنا في المجلد الرابع أمثلة لطفولية
الأمة، وقد حدث بعد ذلك ما هو أعظم منها، وناهيك بسقوط جريدة اللواء العربية
وأختيها الفرنسية والإنكليزية، وموت مصطفى كامل باشا مؤسسهن بأموال الأمراء
والأغنياء غارقًا في الدَّيْن، وبيع أثاثه ورياشه بالمزاد، ثم سقوط جريدة المؤيد
وموت صاحبها غارقًا في الدين أيضًا، ثم سقوط الجريدة وهي جريدة حزب كبير
من الأغنياء.
فهذه أكبر الجرائد التي أسسها المسلمون في مصر، وكان لكل منها شركة
وحزب ورأس مال مؤلف من ألوف الجنيهات وأنصار من أغنياء الأمة وأصحاب
الأقلام فيها، وقد بينا وجه العبرة في شأن هذه الجرائد بعد موت الأولى وتبريح
الداء بالأخريين في ترجمة الشيخ علي يوسف من المجلد السابع عشر ص 69.
وما لي لا أذكر وأذكر في هذا المقام بتلك الفاتحة الوجيزة للمنار التي كانت
أول ما كتب منه، ونحمد الله تعالى أنها كانت صورة مصغرة له، قد ارتسمنا ما
رسمناه له فيها فلم نخرج عنه، وقد أشرنا فيها إلى سوء حال المسلمين ورغبة
سوادهم الأعظم عن ما نقصد إليه بإنشاء المنار من الجد والإصلاح، وإلى وجود
أفراد تنبهت أنفسهم لإصلاح الخلل، وتوجهت هممهم لمداواة العلل، وإلى أن
الغرض من إنشاء المنار أن يكون لسان حال هؤلاء وحادي ركبهم في سبيل التجديد
المطلوب. ثم ظهر لنا أن رجالنا في هذه الفئة كان أكبر منها في نفسها.
تيسر لنا بهذا المنار أن نختبر حال المسلمين اختبارًا لا يكاد يتيسر بوسيلة
أخرى، وقد كان هذا الاختبار الطويل والعلم التفصيلي مؤيدًا لما كنا عليه قبلهما من
الوقوف بين الخوف والرجاء وترجيح الأمل على اليأس ترجيحًا يبعث على الجهاد
والثبات على العمل، وهو ما صرحنا به في فاتحة المنار في العدد الأول للسنة
الأولى.
كان موضوع ذلك الأمل الأول مَنْ أيقظتهم حوادث الزمان وأثرت في قلوبهم
آثار حكيم مصر وحكيم الأفغان، ومن على مشربهما من دعاة الإصلاح.
ثم زاد عدد هؤلاء المحبين للإصلاح بتأثير المنار، ومنهم صاحب الرسالة
التي نشرناها في آخر الجزء الماضي فاستتبعت كتابة هذا المقال، فهو قد اشترك
في المنار منذ أنشئ وكان تلميذًا في المدارس، وقد أُشرب قلبه حب الإصلاح فهو
فيه على علم ووجدان وإخلاص، ولكنه على علمه وسعة اختياره لما في هذه البلاد
من الفسق وفساد الأخلاق أقوى منا رجاء في مسلميها وفي غيرهم، وإننا نخشى أن
يضعف ويضمحل هذا الرجاء أو يزول ويحل محله اليأس إذا رأى أن رسالته لم
تؤثر، ودعوته لم تجب، فأحببنا أن نذكره بما أشرنا إليه آنفًا مما نشرنا في خوالي
السنين، ونؤيده بما في معناه من بيان حقيقة حال المسلمين، لعله يذهب بغرور
المبالغ في التفاؤل، ويمسك رمق الرجاء على المهوي إلى اليأس، وينفخ نسمة
الرجاء في اليأس، فنقول:
إن في المسلمين كثيرًا من بقايا الفضائل الموروثة التي هي تعد من دلائل
الحياة الاجتماعية، وكثيرًا من الرذائل والأمراض الروحية الموروثة والحادثة التي
هي سبب ما حل بدولهم وأممهم من الرزايا التي يئن منها كل من شعر بها بقدر
شعوره، وقد استيقظ في بعضهم هذا الشعور منذ مئة سنة أو أكثر، وتصدى
بعض حكامهم وبعض أفرادهم إلى إصلاح ما فسد، وتجديد ما اخلولق وبناء ما انهدم،
كما بينا ذلك في فاتحة المجلد السابع عشر، وإنما لم يفلح أحد منهم؛ لأن
الحكام القادرين على تنفيذ الإصلاح لا يعرفون طريقه، والأفراد الذين يعرفون
كُنْه الإصلاح لا يقدرون على تنفيذه.
إنما تنهض الأمة بالإصلاح إذا وجد الاستعداد في الجمهور، ووجد الزعيم
القادر على استخدام ذلك الاستعداد، ويمكن بيان هذا الاستعداد العظيم بكلمة واحدة
من اصطلاح كتاب الجرائد وغيرهم من المعاصرين وهي التضحية، وما التضحية
إلا بذل الأموال والأنفس في سبيل المصلحة العامة وهو ما يعبر عنه القرآن بكلمة
الجهاد.
ما قام أمر اجتماعي عظيم كالدين والدولة إلا ببذل المال والنفس فمن لم يبذل
في سبيل دينه أو دولته ووطنه ما يحتاجان إليه من مال أو نفس فلا دين له ولا دولة
ولا وطن، ولذلك جعل الله تعالى هذا الجهاد آية الإيمان بمثل قوله: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
نحن لسنا بصدد إصلاح يحتاج فيه إلى بذل النفس، والتعرض لإراقة الدم،
وإنما الإصلاح الذي أسس له المنار ثم مدرسة الدعوة والإرشاد إصلاح علمي
تهذيبي يقوم بالمال، وإنما أنشأنا هذه المقالة لبيان حال من دعاهم ذلك المخلص
الغيور في رسالته إلى النهوض بمشروع الدعوة والإرشاد ومساعدة المنار.
ألا وإن الأغنياء أول من يخطر بالبال، في كل مقام يذكر فيه بذل المال وإن
أكثر أغنياء بلادنا بل أمتنا كلها أغبياء سفهاء الأحلام، مسرفون في الفسق، بخلاء
حتى بما وجب من الحق، أشحة على الخير، لا يكاد يخرج المال من أيديهم إلا
على مائدة قمار، أو في حانة خمَّار، أو لبغي وقواد، أو رشوة لحاكم شرير، أو
تزلفًا إلى سلطان أو أمير أو مدير، فأكثر ما بذله أغنياؤنا في هذا العصر للجمعيات
الخيرية أو المدارس أو جمعية الهلال الأحمر أو جمعية الصليب الأحمر فهو رياء،
وتزلف للحكام والأمراء، وهذا مما يعلمه الكاتب وغير الكاتب علمًا ضروريًّا أو
كالضروري.
وأما غير الفساق المرائين من الأغنياء فهم كسائر الناس، والناس فيما نحن
بصدده فريقان: فريق لا يرجى منه خير للإسلام بل يخشى شره، وفريق قلما
يُرجى الخير من غيره، فأما الفريق الأول فثلاثة أصناف: ملاحدة المتفرنجين،
ومنافقو المعممين، وتحوت الفقراء الجاهلين، الذين لا يكادون يفقهون حديثًا، ولا
يعقلون للأمة والملة معنى، وقد بينا في فاتحة هذه السنة من الجزء الأول أن من
أولئك الملاحدة والمنافقين من تصدى لمقاومة مدرسة الدعوة والإرشاد ينفث سموم
السِّعاية لمنع إعانة وزارة الأوقاف وغير الأوقاف، كما سعى أمثالهم وأقنالهم من
قبل في الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى زعموا أنها تمد مهدي السودان بالمال
لقتال مصر والدولة البريطانية.
وأما الفريق الثاني وهو الوسط في شئونه العقلية والنفسية، أو شئونه
الاجتماعية أو المعاشية، فيتألف من أصناف يقل فيها الغني الموسع، كما يقل فيها
الفقر المدقع، والأغنياء منه ثلاثة أصناف.
صنف تربى تربية إسلامية بحسب ما عليه جمهور المسلمين في القرون
الأخيرة من مزج السنن بالبدع، والخرافات بالحقائق، فهم لا يفقهون من بذل المال
في سبيل البر إلا بناء مسجد ولو في مكان تزيد فيه المساجد على حاجة المصلين،
وإنما يكون هذا من الخير إذا لم يبن المسجد على قبر أحد من الصالحين، وإلا كان
صاحبه ملعونًا على لسان خاتم النبيين، أو وقف أرض تنفق غلتها على تشييد
القبور أو البناء عليها أو حولها وما يكون من المواسم عندها في الأعياد وجمع
رجب، وكل ذلك من المعاصي وبدع الضلالة المنكرة التي لا يجوز الوقف عليها،
وإن تضمنت إطعام بعض الفقراء الطعام المبتدع لأجلها، فهذا الصنف قلما يرجى
منه الآن فائدة للأعمال الإصلاحية كمشروع الدعوة والإرشاد.
وصنف آخر تربى أفراده على التفرنج ولكن لم يكونوا كجماهير المتفرنجين
الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا تقليد الإفرنج في عاداتهم الخاصة بالزينة والطعام
والشراب والتمتع باللذة واللهو واللعب كتربية الكلاب والسير بها والركوب معها،
بل أودع في نفوسهم الميل إلى الاقتداء بهم في بذل المال للمنافع العامة، لا رياء
للجمهور، ولا تزلفًا لحاكم أو أمير، بل لأن ذلك عندهم من اللذات النفسية، أو
الشرف والكمال الإنساني، وبهذا ارتقوا عن جمهور الأغنياء الأغبياء السفهاء،
ولعل هذه البلاد لا تخلو من أفراد منهم، ومن عساه يوجد منهم فقد يبذل المال
للمساعدة على تعليم الموسيقى والتصوير أو الألعاب الرياضية، وقلما يحفل
بالإصلاح الديني العلمي إلا إن كان له نزعة دينية أو تهذيبية، وأنى لجماعة الدعوة
والإرشاد بالاهتداء إلى مثل هذا وإقناعه بأن مقصدها الأول من مدرستها بث
المرشدين في أنحاء البلاد لتعليم العوام ما يزجرهم عن المعاصي والمنكرات،
ويزكيهم من أدران البدع والخرافات، حتى تستفيد المدرسة من مساعدته؟
وصنف ثالث هم الوسط الصحيح وهم الذين أوتوا نصيبًا من التربية الدينية
والعلم الإسلامي الصحيح، ونصيبًا من حال هذا العصر وما يحتاج إليه المسلمون
فيه من الإصلاح، والغني في هذا الصنف أندر منه في سائر الأصناف، والرجاء
في مثله لمساعدة الدعوة والإرشاد، أقوى وأشد منه في سائر الناس، إلا أن يغلبه
على دينه وعقله البخل الفاحش والشح المطاع، وإيثار وعد الشيطان بالفقر على
وعد الله بالمغفرة والإخلاف، وإذا كان الصنفان المذكوران قبل هذا وهما كالطرفين
له، مما يصعب إقناع أفرادهما بوجوب المساعدة على الإصلاح الديني العلمي فهذا
الصنف لا يحتاج إلى إقناع، ولا يخفى عليه وجود ما يوجد منه في البلاد.
ومن أغنياء هذا الصنف من غلب عليهم الترف ودب إلى دينهم الوهَن،
فضعفت غيرتهم على إسلامهم الديني، دون إسلامهم الاجتماعي والسياسي، فهم
يودون إصلاح حال المسلمين، ويعتقدون أن ذلك لا يرجى إلا من طريق الدين،
وإنما يودون أن ينهض بالإصلاح غيرهم، ولا تسمو بهم الهمة إلى المساعدة عليه
بأموالهم ولا بأنفسهم.
تلك أصناف الأغنياء الذين يصح أن يتعلق بهم الرجاء، بما في أنفسهم من
هدي الدين أو علو الهمة، أو العناية بأمر الأمة، وقد علم أن من يوجد في هذه
البلاد منهم قليل، وأن الرجاء في هذا القليل ضعيف.
فلم يبق من فريق المعتدلين الذين يرجى رفدهم إلا المستورون الذين لا
يقدرون على مساعدة الإصلاح إلا بما يوفرون من كسبهم بالاقتصاد في النفقة اللائقة
بأمثالهم، كصاحب الرسالة التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال، ولا غناء في مساعدة
هذا الصنف إلا إذا كثر أفراد الباذلين منه، وفاقًا للقاعدة المقررة: القليل من الكثير
كثير، وما أظن أن الظفر بهذا الكثير عندنا ميسور.
فعلم مما شرحناه أن من يرجى منهم بذل شيء من فضول أموالهم في سبيل
الإصلاح الديني والاجتماعي قليلون، وأن ما يرجى بذله من هؤلاء القليلين في
بلادنا قليل لا غناء فيه، لأن أكثر الأنفس أُحضرت الشح، واستحوذ عليها الصَّغار
والذل، وكذبت وعد الله بالإخلاف على المنفق، وصدقت وعد الشيطان له بالفقر،
ثم إن بذل المال الكثير في هذه السبيل إنما يصدر عن عرفان ووجدان، عرفان
بالمصلحة فيه وشدة الحاجة إليها، ووجدان إيمان راسخ تنال به سعادة الدنيا
والآخرة، أو وجدان شرف باذخ تنال به سعادة الأولى فقط، على أن باعث الشرف
وباعث الإيمان قد يتلاقيان ويتصافحان، وإنني أوضح هذا المقام بأمثال، أشير
بها إلى أعظم من رجوت هنا من الرجال.
كان أرجى أغنياء مصر عندي لمشروع الدعوة والإرشاد ثلاثة أصرح باسم
واحد منهم وهو رياض باشا تغمده الله برحمته، ذلك الرجل الذي انفرد في كبراء
مصر وأغنيائها بأنه لم يكن يخيب فيه رجاء، ولا يفوته مساعدة عمل من أعمال
الخير، ولو عرف كنه مشروع الدعوة والإرشاد لما اكتفى بالتبرع له بمائة جنيه،
وإنما عرف منه أنه مدرسة خيرية، فنفحه بمثل ما نفح به مدرسة محمد علي
الصناعية، وهي المدرسة التي تولى رياسة جمع الإعانات لها، على أن الخديوِ
وارث ملك محمد علي التي أنشئت المدرسة إحياء لاسمه وتذكارًا لمرور مائة سنة
على ملكه لم ينفحها بأكثر من ذلك، فهذا عذر رياض باشا في عدم صدق رجائي
كله في مساعدته لهذا العمل.
وأما اللذان لا أصرح باسمهما فقد كان رجاؤنا في أحدهما أكبر من رجائنا في
رياض باشا، وهو أوسع منه ثروة، وفهم من كُنْه المشروع ما لم يفهمه، بل قال
فيه كلامًا يؤثر ويدون له (منه) أنه طالما فكر فيه، وتعجب من إحجام المسلمين
عن القيام به إلى اليوم، وأنه يود لو يكون عضوًا عاملاً فيه، وإنما يمنعه من
وضع يده في أيدي أعضاء إدارته عدم ثقته بثباتهم، اللهم إلا واحدًا منهم، وعلل
ذلك بأن أهل بلادنا هذه يقولون ولا يفعلون، ويبدأون بالأعمال ولا يَثبتون (ومنه)
أن هذا العمل سيلقى صعوبات، وتوضع في طريقه العقبات، وأنه لا يقول هذا
تثبيطًا أي بل تنبيهًا، ولا تنصلاً من المساعدة فإنه سيساعد بالمال، ثم إنه أكد هذا
الوعد غير مرة لنا، وذكره لغيرنا، وقد كان آخر عهدنا بالسعي لاستنجازه شهر
رجب الماضي.
وأما الثالث فهو غني معروف بالعلم والفضل والتدين، وقد كان منانًا لأحد
أصدقائه بأنه سيتبرع للمدرسة بمائة جنيه غير ما يفرضه على نفسه من الاشتراك
السنوي، وذكر لنا صديق آخر له عزمه على المساعدة من غير تحديد، وقد بلغنا
أن ما يجب عليه من زكاة النقد كل سنة أضعاف ما يملكه صاحب الرسالة التي
نتكلم في موضوعها، وقد ذكرناه في هذا العام بشدة حاجة المدرسة إلى ما تنتظر من
مساعدته لانقطاع إعانة الأوقاف عنها، ونفاد ما قد جمع لها، فاعتذر بما يعتذر به
أكثر الناس في هذا العهد، وهو العسرة التي جاءت بها هذه الحرب.
فإذا كان وعد أرجى من نرجو من أغنى أغنيائنا، واشتراك من يشترك في
مثل هذا المشروع من أفضل فضلائنا، لا يوثق بهما ولا يتكل عليهما في استئجار
دار لمدرسة خيرية، فهل يظن (م. ن) صاحب تلك الرسالة أن ما جاء به من
النصيحة والتذكير يبسطان الأيدي المغلولة، وينبهان [3] الأنفس المفسولة [4] ، فتتدفق
الدنانير على مدرسة الدعوة والإرشاد اليوم كما تدفقت على جمعية الصليب الأحمر
بالأمس، وعلى جمعية الهلال الأحمر من قبل؟ إن كان يظن ذلك فما نحن بظانين،
ولا نحن من فضل الله وحياة المسلمين يائسين، ولكننا بعد طول اختبار لا نغتر
بوعد واعد، ولا بثبات متبرع ولا واهب، وإن كان هذا أو ذاك، ممن اشتهروا
بالسخاء، فإن أكثر أصحاب هذه المظاهر، مصداق لقول الشاعر:
يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما ... لكنها خطرات من وساوسه
كلا إنه لا يرجى في هذا القطر جمع مال كثير بالتبرع يكون رأس مال
لمدرسة كمدرستنا أو مدرسة دونها إلا بنفوذ الأمراء والحكام، وقد كان بعض
هذا ممكنا لنا من قبل ولم نطرق بابه، وأما اليوم فلا يرجى كله ولا بعضه، فأما سبب
بذل المال تقربًا إلى الأمراء والحكام فمعروف، وأما إمساكه عن المصالح العامة
فسببه ضعف الإيمان، وضعف وجدان الشرف وحب الكمال، والحرمان مما يولدان
من المقاصد العالية والآمال العظيمة، وليس في تربية الأمة ما يحيي ذلك
في نابتتها.
هذا وإننا بعد هذا البيان نقول لصاحب تلك الرسالة وغيره من أهل الغيرة: إن
هذا المشروع لا يرجى أن ينفذ بحسب نظامه المعروف إلا إذا نجحنا فيما سعينا إليه
في الآستانة ثم في مصر من تقرير إعانة له كبيرة ثابتة من وزارة الأوقاف فبهذا
يستقر ويوثق بثباته واستمراره ويشتهر نفعه في الأمصار والأقطار، ويرجى بعد
ذلك أن يتبرع له ويقف عليه العقار والأراضي كثير من أهل الخير، ولا سيما بعد
أن يتخرج في مدرسته من يحسنون القيام بما فرضه الله تعالى على المسلمين بقوله:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فإذا ظفرنا بإعانة ثابتة من وزارة
الأوقاف فذاك، وإلا جعلنا المدرسة خارجية، وأنفقنا عليها مما آتانا الله من كسب
ومساعدة أهل المروءة والإخلاص مهتدين بقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ
وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذه المقالة الموعود بها.
(2) هذه الكلمة لشيخنا الإمام.
(*) راجع مقالة (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة) في ص737 م2 ومقالة (الحيرة والغمة ومناشئها في الأمة) في ص753 م2.
(3) للتنبيه هنا معنيان أحدهما جعل الخامل نبيه الشأن، وثانيهما: إيقاظ الغافل.
(4) المفسول الضعيف الخامل الذي لا مروءة له.(19/89)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السنة وصحتها والشريعة ومتانتها
رد على دعاة النصرانية بمصر
(2)
(تتمة واستدراك - استنكار المتأخرين لبعض متون أبي هريرة)
قد علم مما تقدم أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوية ثقة عدل وأنه من
نوابغ البشر في الحفظ والضبط لما يحفظ وقوة الذكر (الذاكرة) وعلم أيضا أنه
انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظِنَّته لغرابة موضوعها
كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي تقع بعده،
ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد بمثله غير
صحابي لعُدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته، كما هو المعهود عند نقاد الحديث
أهل الجرح والتعديل، ولذلك ترى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي
هريرة كما رأى القراء في دروس سنن الكائنات للدكتور محمد توفيق صدقي، وأول
كلمة طرقت سمعي في ذلك كانت من تلميذ مسلم في مدرسة غير إسلامية ببلاد الشام،
وكان ذلك في أوائل العهد بطلبي للعلم، ومن عرف ترجمة أبي هريرة معرفةً تامةً
يجزم بعدالته وبراءته من الكذب على أحد من الناس، بله الكذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي روى هو وغيره عنه أنه قال: (من كذب علي متعمدًا
فليتبوأ مقعده من النار) وقد صرحوا بأن هذا الحديث متواتر.
ولعل قراء المنار يتذكرون ما علقته على كلام محمد توفيق صدقي في حديث
الذباب، وتطرقه فيه إلى الارتياب في رواية أبي هريرة، إذ بينت بالإيجاز أنه لا
مجال للطعن في أبي هريرة نفسه وأن حديث الذباب وأمثاله مما يستبعد أن يكون
مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يظهر علة نقلها عن أبي هريرة إلا إذا
أحصيت تلك الروايات ولا سيما ما انفرد به أبو هريرة منها، ودقق النظر في
أسانيدها ومتونها، وما يمكن طروؤه من الاحتمالات فيها، وأمهات هذه الاحتمالات
أربعة:
أحدها: أن يكون في رجال السند إلى أبي هريرة من هو مجروح وإن صُحح.
ثانيها: أن يكون ذلك الحديث أو الأثر مرويًّا عنه بالمعنى، وقد وقع الغلط
من أحد الرواة في فهمه فنقله كما فهمه.
ثالثها: أن يكون ما روي حديثًا رأيًا لأبي هريرة أو غيره ممن روى عنه
وعده بعض الرواة حديثًا لاجتهاده بأن مثله لا يقال بالرأي، فما قاله العلماء من أن
قول الصحابي إذا كان لا يقال مثله بالرأي له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم لا يصح على إطلاقه، والناس يتفاوتون في فهم ذلك، فما يعده بعضهم منه لا
يعده الآخر منه.
رابعها: أن يكون رواه عن أهل الكتاب بالسماع ممن أسلم منهم ككعب
الأحبار أو رآه في كتبهم وهو مما لا مجال للرأي فيه فيعده من قَبيل المرفوع من
يأخذ ذلك القول قاعدة عامة، وقد ثبت أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار وأن
معاوية قال في كعب الأحبار: إنهم كانوا يبلون أي: يختبرون عليه الكذب، وقد
تقدم ذلك في هذا المقال نقلاً عن البخاري، وإنني كنت أسيء الظن في روايات
كعب الأحبار قبل أن أرى ما رواه البخاري عن معاوية فيه، وكذا وهب بن منبه.
ثم إنني بعد كتابة ما تقدم وقبل طبعه رأيت في تفسير سورة النمل من تفسير
الحافظ ابن كثير بعد ذكر عدة روايات عن الصحابة في قصة ملكة سبأ مع سليمان
عليه السلام ما نصه:
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها مُتلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في
صحفهم كراويات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من
أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن، ومما
حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ
ولله الحمد والمنة اهـ.
فجملة القول في هذه الأحاديث المشكلة إذا كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أو موقوفة على أحد رواة الصحابة رضي الله عنهم أبي هريرة أو غيره
أن يدقق النظر في أسانيدها أولاً، فإذا كان في الاحتجاج ببعض رجالها مقال كُفينا
أمرها، وكذا إذا كان فيها انقطاع أو إرسال، وإلا نظرنا إلى غير ذلك من الوجوه
التي يكون بها المخرج كغلط الرواة بسبب النقل بالمعنى أو غيره من الأسباب،
وأدهى الدواهي أن يكون الحديث مأخوذًا عن بعض أهل الكتاب بالقبول ولم يُعز
إليه، ولا يغرنك قولهم: إن مراسيل الصحابة حُجة، وإن الموقوف الذي لا مجال
للرأي فيه له حكم المرفوع، فإذا ثبت أن أبا هريرة مثلاً كان يروي عن كعب
الأحبار وأن الكثير من أحاديثه مراسيل، فالواجب أن يتروى في كل غريب لم
يصرح فيه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان من الإسرائيليات أو ما
في معناها احتمل أن يكون قد رواه عن كعب وكان هذا الاحتمال علة مانعة من
ترجيح إسناد كلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يوقع في الإشكال.
لا يتسع هذا الموضع لتحرير هذا البحث بالتفصيل، ولكنا نذكر أهل العلم
بحديث يرون فيه أكبر عبرة في هذا المقام وهو حديث الجساسة الذي حدث به تميم
الداريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم في صحيحه مرفوعًا من
طرق يخالف بعضها بعضًا في متنه، فهذا الخلاف في المتن علته من بعض رواة
الصحيح، ولا يظهر حمله على تعدد القصة، ثم إن رواية الرسول صلى الله عليه
وسلم له عن تميم الداري إن سلم سندها من العلل هل تجعل الحديث ملحقًا بما حدث
به النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فيجزم بصدق أصله، قياسًا على
إجازته صلى الله عليه وسلم أو تقريره للعمل إذ يدل حله وجوازه؟ الظاهر لنا أن
هذا القياس لا محل له هنا، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب فهو
كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدق
المنافقين والكفار في أحاديثهم، وحديث العُرَنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على
ذلك، وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي أو ببعض طرق الاختبار أو
إخبار الثقات، ونحو ذلك من طرق العلم البشري، وإنما يمتاز الأنبياء على غيرهم
بالوحي، والعصمة من الكذب وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين وما يتعلق
بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به، وتصديق الكاذب ليس كذبًا، وحَسْبك أن تتأمل
في هذا الباب عتاب الله لرسوله إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف
عن غزوة تبوك وما علله به، وهو قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) .
وإذا جاز على الأنبياء المرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين
ولا يترتب عليه حكم شرعي ولا شيء ينافي منصب الرسالة، أفلا يجوز على من
دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه، ومن صدَّق
شيئًا يجوز أن يحدِّث به من غير عَزْو إلى من سمعه منه، ولكن هذا كان قليلاً في
الصدر الأول من الإسلام، فقد ظل المسلمون عدة قرون ينقلون كل شيء بالرواية
وإن كان بيت شعر أو كلمة مُجون.
تنبيه مهم:
إن الأحاديث المشكلة الصحيحة الإسناد قليلة فما رواه أبو هريرة منها قليل من
قليل، وما انفرد به منه أقل من ذلك القليل، ولا يتوقف على شيء منها إثبات
أصل من أصول الدين، والحمد لله رب العالمين.
***
الجملة الخامسة الخاتمة لكلام الطاعن
(استنتاجه من جملة دعاويه أن الشريعة لا قيمة لها في نفسها ولا في روايتها)
قال بعد سرد ما تقدم عن الشبهات على رواية أبي هريرة ما نصه:
هذا هو الرجل الذي وضع مع ابن عباس الشريعة، ولكن ما هي قيمتها؟ إن
السؤال مهم جدًّا، ويطلب الجواب عليه من الثلاث مائة مليون سُنّي الموجودين في
العالم اهـ بحروفه.
اشتملت هذه الخاتمة على دعوى باطلة، واستفهام إنكاري تهكمي، ووجه هذا
السؤال فيها إلى ثلاث مئة مليون سني [1] أي إلى كل فرد من أفراد أهل السنة الذين
يسكنون في جميع الأقطار، ويتكلمون بعشرات من اللغات، ولماذا؟ لأن السؤال
مهم جدًّا في نظر القسيس المبشر المتصدي هو وجمعيته لتنصير كل هؤلاء
المسلمين بعد عجزهم عن هذا السؤال المهم جدًّا، بَخٍ بَخٍ.
***
الجواب عن الدعوى
هذه الدعوى ظاهرة البطلان عند المسلمين وعند من له أدنى إلمام بشريعتهم
وتاريخهم من النصارى وغيرهم، سواء أراد بأساس الشريعة أصول أدلتها التي
تستنبط منها، وهو الأقرب، أو أصول مقاصدها وهي العقائد والأحكام والآداب،
ونستغني عن بيان ذلك بما قلناه في مسألة أركان الشريعة الذي فندنا به القضية
الثالثة من قضايا الجملة الأولى من مقاله راجع ص 28 ج1 ثم نقول:
إن أبا هريرة وابن عباس ما وضعا أساس الشريعة ولا أركانها، ولا أصولها،
ولا فروعها، وإنما رويا لنا كغيرهما من الصحابة الكرام الكثير الطيب من سنة
الرسول، وهي ثابتة الأسس والأصول.
وقد بينا أن البخاري خرَّج لأبي هريرة 446 حديثًا في صحيحه، ونقول هنا:
إنه خرَّج فيه لابن عباس 217 حديثًا، وهذا القدر من روايتهم للأصول
الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما،
ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه
قليلاً جدًّا، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئًا كثيرًا، وأن ما
عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية،
كقاعدة رفع الحرج والعسر، وإثبات اليسر وترجيحه، وقاعدة كون الأصل براءة
الذمة وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة، وفي كل الطيبات الحِلّ،
وكون الضرورات تبيح المحظورات، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله في هذا الرد.
***
قيمة الشريعة الإسلامية
الجواب عن الاستفهام التهكمي
لا أرى شبهًا لسؤال القس الطاعن عن قيمة الشريعة الإسلامية إلا السؤال عن
الشمس وما فائدتها للدنيا؟ وعن العافية ما فائدتها للناس؟ وعن الماء والهواء ما
فائدتهما للنبات والحيوان؟ سواء كان السؤال سؤال إنكار وتهكم أو سؤال استفهام،
وإننا نجيب عن هذا السؤال بجواب مجمل وجيز؛ لأن التفصيل لا يأتي إلا
بتصنيف كتاب كبير، فنقول:
(1) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ثبتت نبوة من جاء بها
بالبرهان العقلي العلمي الثابت الدائم، وملخصه أنه رجل أميّ نشأ بين قوم أُمِّيين بلغ
الكهولة ولم يقرأ كتابًا، ولم يكتب سطرًا ولا حرفًا، ولا قال شعرًا ولا ارتجل
خُطبة، ولا رَأَسَ قبيلة ولا ساس قرية، ولا انتحل كهانة ولا عَرافة، ولا عرف
شيئًا من شرائع الأمم وأديانها، ثم قام في سن الكهولة بدعوى النبوة، وأيد دعواه
بكتاب اشتمل على أخبار الغيب الماضية والمستقبلة، وسنن الله في الدين والمدنية،
وعلى أصح علوم العقائد الإلهية، المؤيدة بالبراهين العقلية والعلمية، وأصلح
علوم الأخلاق والفضائل النفسية والعبادات الجامعة بين المنافع الروحية
والجسدية، وأعدل قواعد الشرائع السياسية والمدنية إلخ، ثم إنه اجتث بهداية
هذا الكتاب جراثيم الوثنية، وطهَّر الأمم من الخرافات التقليدية وأخلاق الجاهلية،
فكان للناس بذلك دين كامل وشريعة عادلة وأمة مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل،
ودولة أحيت الحضارة وامتدت من المشرق إلى المغرب في جيل واحد.
فكان مثل محمد النبي الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم كمثل رجل جاء بلدًا مصابًا
بالأوبئة المجتاحة والأمراض المعضلة، وادَّعى أنه طبيب وأيد دعواه بكتاب في
الطب والعلاج طهَّر به ذلك البلد كلها من الأمراض والأوبئة، فأصبح أهله متمتعين
بكمال الصحة والعافية.
فكما يجزم كل عاقل بأنه يستحيل على غير الكامل في علم الطب أن يؤلف كتابًا
في الطب يزيل بالعمل به الأوبئة ويشفي المرضى، كذلك يستحيل بالأولى أن
يقدر رجل أمي على الإتيان بأخبار الغيب وعلوم الدين والشرائع والآداب فيصلح
بها أديان أمم كثيرة وآدابها وأخلاقها وأحكامها وسياستها، إلا أن يكون نبيًا مؤيدًا
بوحي الله وعنايته العليا، بل يستحيل صدور مثل هذه العلوم والأعمال من واحد
أو من جماعة تعلموا جميع علوم البشر وعلوم الأديان في أعلى مدارس هذا العصر
الجامعة، دع إعجاز القرآن ببلاغته وأسلوبه وسائر معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم.
(2) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة الجامعة بين هداية الدين الإلهي
الحق، وبين ثمرات عقول العلماء المجتهدين، الواقفين على مصالح البشر وما
يقوم به العدل بينهم، وما سواها فإما ديني محض لا مجال فيه لعقل ولا رأي، وإما
وضعي ناقص لا يحترم في السر كما يحترم في الجهر.
(3) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي تواتر كتابها تواترًا حقيقيًّا،
ورويت سنتها رواية متصلة الإسناد، ودُوِّنَ تاريخ رواتها تدوينًا مبنيًّا على ركني
النقد والتمحيص، الذي يميَّز به بين الصحيح وغير الصحيح.
(4) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي حررت البشر وأعتقتهم من
رق رؤساء الدين، الذي أرهق الغابرين، فلم تجعل لأحد سيطرة روحية على أحد،
فليس فيها كهنة ولا قسيسون يمتازون بمناصبهم الدينية على غيرهم، أو تتوقف
إقامة شيء من أمر الدين عليهم، وإنما خوطب البشر بها على سواء فهم يتفاضلون
فيها بعلومهم وأعمالهم الكسبية، لا بمناصبهم الموروثة ولا أنسابهم الشريفة.
(5) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي أعتقت البشر من رق
الملوك المستبدين الذين انتحلو لأنفسهم حق الحكم بمحض الهوى والإرادة، وحق
وضع الشرائع والقوانين بالذات أو بالنيابة، وحق الامتياز في الحقوق الشرعية
على غيرهم من أفراد الأمة، فجعلت أمر الأمة شورى بين أهل الحَلّ والعقد، ومن
أهل العلم والرأي، الذي يولون عليها من يرونه أصلح لتنفيذ شريعتها، ولم تجعل
للخلفاء أو السلاطين امتيازًا على أحد من الفقراء والصعاليك، لا في حكم من
الأحكام المدنية، ولا في عقوبة من العقوبات الجزائية، وقد وافقتها بعض الأمم في
بعض هذه الأصول أو اقتبستها منها، بعد أن ترك المتغلبون على المسلمين إقامتها،
ولكن لم يبلغ أحد شأوها إلى هذا اليوم، وإنما صار بعضهم أقرب إليها ممن يسمون
أنفسهم أهلها.
(6) هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ساوت بين أهلها المؤمنين بها،
وبين الكافرين بها إذا تحاكموا إليها، سواء كانوا من أهل ذمتها، أو من الأجانب
المعاهِدين لحكومتها، أو الحربيِّين الداخلين في أمان أحد من أهلها فلا فرق بين
أحكامها القضائية بين أبناء الرسول وأمراء المؤمنين، وبين أضعف أهل الكتاب
الوثنيين، ونحن نرى أرقى الإفرنج وأشهرهم بالعدل يميزون أنفسهم على غيرهم،
فلا يرون المصري والهندي مساويًا للإنكليزي، ولا الآسيوي مساويًا للأمريكي.
(7) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي رفعت شأن النساء
وأعطتهن حقوق الاستقلال التام في التصرف بأموالهن، وساوت بينهن وبين
أزواجهن في جميع الحقوق بالمعروف، إلا رياسة المنزل وزعامة الأسرة، وإن
كلمة وجيزة من كلمات القرآن الحكيم في ذلك لأبلغ من كثير من الأسفار التي ألفت
في المطالبة بحقوق النساء أو ما يسمونه تحرير المرأة، ألا وهي قوله عز وجل:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228)
وهذه الدرجة التي أعطيت للرجل بحق، وهي رياسة البيت؛ لأنه أقدر على الكسب
والحماية، والمطالَب بجميع النفقة، تشبه الرياسة العامة فيما شرع فيها من الشورى
كما يدل عليه قوله عز وجل في مسألة إرضاع الولد وفطامه: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً
عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 233) وقد اهتدى كثير من
الأمم ببعض هدي هذه الشريعة في هذه المزيَّة ولم يبلغ أحد منها شأوها، ولكن
أهلها قصروا في إقامتها، حتى صاروا حجة عليها عند من يجهلها.
(8) هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي وضعت للحرب نظامًا حُرِّم فيه
العدوان والتمثيل والتخريب، وقتل من لا يقاتل من النساء والشيوخ والأطفال
والمنقطعين للعبادة، فجعلتها ضرورة تتقدر بقدرها، وأمرت بالجنوح للسلم إن جنح
العدو لها، وقد بين المنار فضلها في ذلك على قوانين أوربة وفضل أهلها في
حروبهم على الأوربيين في مقالة نشرت في مجلد السنة الماضية، وقد أنصفنا أحد
حكماء الإفرنج بقوله: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .
فأين منها شريعة التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهي التي أوجبت
في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع استعباد جميع أفراد الشعب المسالم الذي
يختار الصلح على الحرب، وقتل جميع ذكور الشعب الذي يحارب عند الظفر به
وجعل جميع نسائه وأطفاله وما يملكه غنائم، هذا إذا كان من المدن البعيدة جدًّا عن
شعب التوراة التي لا يسهل عليه سكناها، وأما الشعوب القريبة التي يسهل عليه
امتلاك بلادهم فهذا نصها فيهم: (16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب
إلهك نصيبك فلا تَسْتبق منها نسمة ما) .
(9) هذه هي الشريعة الوحيدة التي فرضت على الأغنياء نصيبًا معلومًا مما
يزيد من أموالهم عن نفقاتهم يصرف لإعانة الفقراء والمساكين العاجزين عن كسب
ما يكفيهم، ولمساعدة الغارمين على ما يحملون من الغرامات للإصلاح بين الناس،
ولأبناء السبيل الذين يسيحون في الأرض فتنفد نفقاتهم قبل عودتهم إلى أوطانهم،
ولغير ذلك من المصالح العامة، ولو أقام المسلمون في هذا العصر هذا الركن كما
كان يقيمه سلفهم الصالح لما وجد فيهم فقير مهين، ولكانت حالهم الاجتماعية أفضل
من حال أرقى الأمم، ولكان السائحون لاكتشاف مجاهل الأرض وخَرْت بقاعها
والاعتبار بأحوال الأمم فيها أكثر من سائحي غيرهم من الأمم، إذ حثهم الله في
كتابه العزيز على السياحة النافعة بمثل قوله في سورة الحج: {أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) وقوله
في سورة المؤمن: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ} (غافر: 82) وقوله في سورة آل عمران: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) إلخ.
(10) إن الشريعة هي خاتمة الشرائع الإلهية، وحكمة ذلك أن الله تعالى قد
أكمل بها الدين الحق، فجعلها جامعة بين مصالح الروح والجسد، ومنح الأمة حق
الاجتهاد واستنباط الأحكام، بما وهب لها من فضيلة الاستقلال، بعد أن أعد لذلك
بسنة الارتقاء، وبهذين كانت موافقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان، خلافًا لما
يجنيه عليها الصديق الجاهل، وما يتجناه عليها العدو العاقل، وقد بينا هذه المسألة
في التفسير وفتاوى المنار ومقالاته مرارًا، كمقالات المصلح والمقلد، والفتاوى
الباريزية، وتفسير: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) وتفسير: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وتفسير:
{لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) وطالما فندنا شبهات
المنكرين لذلك.
فهذه بعض مميزات هذه الشريعة التي يعرف قيمتها المنصفون من غير أهلها،
فإن أمكن لهذا المجادل فيها أن يشكك أهلها فيها بما زعمه من ارتياب بعض الناس
في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أو بغير ذلك من الدعاوي (ولن يمكن) فلا
يجني من ذلك إلا انصراف ثلاث مئة مليون سني ربما يتبعهم زهاء ثلاثين مليونًا
من الشيعة وسائر الطوائف الإسلامية عن الإيمان بأن المسيح عليه السلام رسول الله
المعصوم وكلمته التي ألقاها إلى مريم الطاهرة البَتُول، إلى مثل اعتقاد ملاحدة
الأوربيين من الإنكليز وغيرهم كمؤلف كتاب (نشوء فكرة الله) ومؤلف كتاب
(أضرار تعليم التوراة والإنجيل) ، وغيرهم من الماديين الذين يطعنون فيه وفي أمه
الطاهرة، ويزعمون أن آداب إنجيله مفسدة للبشر؛ لأنه تعلم الناس الذل بالخضوع
لكل سلطة وإن كانت أجنبية جائرة، وإدارة الخدين لكل من يريد صفعهما، وتدفعهم
إلى الفقر بتحريم الادخار والاهتمام بالمستقبل وحرمان الأغنياء من ملكوت السماء.
لو كان الشك في الشريعة الإسلامية يفضي إلى تنصر الشاكّ فيها حتمًا لكان
للطاعن المشكك فيها، وهو داعية لدينه عذر ظاهر في التشكيك، ولكن لا تلازم
بين الأمرين، بل علمنا بالتجارب والاختبار أن أكثر الذين يمرقون من الإسلام
يكونون ملاحدة معطلين، وأن الأفراد القلائل من المسلمين الذين دخلوا في
النصرانية لا يكاد يوجد واحد منهم كان مسلمًا حقًّا ثم صار نصرانيًّا ظاهرًا وباطنًا،
بل هم في الغالب من العوام الفقراء، الكسالى الذين يظهرون النصرانية للمبشرين
لأجل أن يطعموهم، وهم على جهلهم بحقيقة الإسلام لا يفضل أحد منهم تقاليد
النصرانية على ما عرف من تقاليد قومه، وقلما يفتح لأحد منهم باب للرزق عند
المسلمين إلا ويفر إليه مفضلاً له على الارتزاق بالنفاق، وطالما سعوا إلى ذلك
وطرقوا له الأبواب كلما فتح لأحد منهم باب منها تاب وأناب، فأين هؤلاء الغوغاء،
ممن يدخلون في الإسلام من كبراء الإنكليز وفضلائهم وغيرهم من نصارى
الغرب والشرق كاللورد هدلي.
قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: إن المسلم لا يمكن أن يصير مسيحيًّا
وعلل ذلك بقوله: لأن الإسلام مسيحية وزيادة، أي يتضمن الإيمان بالمسيح
صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بالإجمال، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبما جاء به بالتفصيل، وعللناه نحن بأن دين الله واحد في أصوله من التوحيد
والإخلاص والفضيلة، إلا أنه سار كسائر الشئون المتعلقة بالبشر على سنة النشوء
والارتقاء فكان كماله في آخره {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فالمسلم ينظر إلى ملة كل من نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ينظر الإنكليزي إلى
القوانين التي كان عليها قومه في القرن السادس عشر والسابع عشر، إلى القرن
العشرين، ولكنه لا يترك ما ارتقى إليه من القوانين المناسبة لحال زمنه هذا إلى ما
ارتقى عنه من قوانين القرون الخالية، ولا يَعُدّ نفسه بما ارتقى إليه قد خرج عن
كونه إنكليزيا، وكذلك المسلم يؤمن بجميع الأنبياء وبحقية أديانهم وشرائعهم
ومناسبتها لأزمانهم وبأن الشريعة المحمدية كانت هي الخاتمة المتممة المكملة
الناسخة، والمسلمون يعظمون جميع الرسل {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) ولكنهم يتبعون الأخير منهم.
وإننا نرى المبشرين يحاولون إقناع المسلمين بدلالة القرآن على تفضيل
عيسى على محمد عليهما الصلاة والسلام، ولو تم لهم هذا لما أفادهم شيئًا، فإن
المسلمين لا يفرقون بين الرسل من حيث إنهم رسل، وإنما فضل الله بعضهم على
بعض بكثرة المزايا ودرجة انتفاع البشر برسالتهم، وقد فَضَلَهم خاتمهم محمد صلى
الله عليه وآله وسلم بعموم بعثته وإكمال الدين المطلق بما جاء به وكثرة من اهتدى
به، ونعتقد أن عيسى لم يبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة كما قال عن
نفسه (مت15: 24) ولو فرضنا أن عيسى أفضل بما امتاز به في خلقه
وخصائصه لما كان ذلك موجبا لترك الثابت عندنا من شريعة محمد صلى الله عليه
وسلم العامة المكملة الخاتمة الناسخة لما قبلها إلى ما لم يثبت عندنا من شريعته
الخاصة المنسوخة، وعلماء الأصول منا يفضلون إبراهيم على موسى وعيسى
صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يقولون: إنه كان يجب على بني إسرائيل
ترك شريعة التوراة إلى ما خلافها من شريعته كما أن من يفضل محمد علي باشا
الكبير على أحفاده بخصائصه الفطرية لا يرى ذلك موجبًا لترك قوانينهم إلى
قوانينه، على أن القاعدة عندنا أنه قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد
في الفاضل كما يفضل بعض أحفاد محمد عليّ جدَّهم بالعلم وبعض الأخلاق
والأعمال.
الحق أقول لكم أيها المبشرون المحترمون إن مجادلاتكم وطريقتكم في دعوة
المسلمين إلى دينكم قد جاءت إلى اليوم بضد ما تريدون وتريد جمعياتكم، فهي تزيد
المسلمين استمساكًا بدينهم وبعدًا عن دينكم، وأكبر ضررها الديني في المسلمين أنها
حملت كثيرًا منهم على ضد ما يجب عليهم شرعًا من حب سيدنا عيسى وأمه
وحواريه والثناء عليهم بما أثنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا
من العوامّ صاروا يعتقدون مما يسمعون منكم ويقرءون أو يُقرأ عليهم من كلامكم
ضد ما يقرره الإسلام من كون الرسل إخوة يجب الإيمان بهم وحبهم جميعا، بل
أرى هذا التأثير قد دب إلى خواص المتعلمين على الطريقة الإفرنجية حتى
المشهورين منهم بالتساهل الديني.
ومن العجيب أن واحدًا من كبار هؤلاء علمًا ورتبة صرح أمامي بأنكم بغضتم
إليه المسيح، فقلت له: لا ينبغي لمثل سعادتك أن يسترسل مع وجدانه إلى هذا الحد،
ولا يخفى عنك أن بغض المسيح عليه السلام كفر، فقال: إن هذا قد ثبت في
نفسه ولا يستطيع دفعه.
أيها المبشرون المحترمون إنكم تريدون تشكيك الناس في الشريعة بالطعن في
عدالة أبي هريرة، وقد علمتم أن الطعن في أبي هريرة لو كان صادقًا ما حط من
قدر هذه الشريعة شيئًا فكيف وهو باطل، ولو لم يُخلق أبو هريرة لما نقصت
الشريعة شيئًا، ولكن كثيرًا من المسلمين المتعلمين على المنهج الإفرنجي يرون أن
أكبر الشبهات على الإسلام، ما أثنى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم به على
المسيح وأمه عليهما السلام، حتى إنني قلت منذ سنين: إن أقوى الحُجج للمسيح
شهادة القرآن له، وأقوى الشبهات على القرآن شهادته للمسيح، فهل رأيتم قول
القرآن فيه: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء: 171) قليلاً حتى طمعتم بإقناع المسلمين بأن يقولوا كلمة
أكبر من ذلك، ورأيتم قوله فيه: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 87) قليلاً
أيضًا فطمعتم بأن نقول فيه كما تقولون , وإن لم نفعل ذلك ولم يقم عليه برهان
مبين.
أيها المبشرون الغيورون إنكم تعلمتم أن اشتغال الناس بالفلسفة المادية والمدنية
المادية قد فَتن كثيرًا من المسلمين بملاحدة الأوربيين الماديين الذين مرقوا من
النصرانية وطعنوا فيها أشد الطعن لأن تعاليم الأناجيل أشد التعاليم وأقساها على
الماديين إذ هي روحانية محضة، وأما الإسلام فهو دين وسط، جامع بين حقوق
الروح وحقوق الجسد، فلا تؤثر فيه دعوة النصرانية؛ لأنه كما تقدم مسيحيةٌ وزيادةٌ
وإنما يخشى على الجاهلين بحقيقته من تيار المادية، وحرية الشهوة الحيوانية،
فمدارسكم الإفرنجية الدينية منها وغير الدينية، هي التي تكفل لكم التشكيك في
الإسلام، لا الطعن في أبي هريرة، ولا ابن عباس، فتعالوا نتعاون على مجاهدة
هذه التعاليم المادية، التي كانت آفتها شديدة على الإسلامية ولكنها على النصرانية
أشد، ودليل ذلك أنها لم تمنع كثيرًا من المتعلمين الباحثين من ترك النصرانية إلى
الإسلام، وأن الملاحدة منا أقل من الملاحدة منكم.
ما رأيت كلامًا لأحد من الأوربيين المستشرقين في الإسلام والمسلمين بني
على الخبرة والمعرفة ككلام الدكتور سنوك الهولندي، وقد بيّن في خطبته التي
ألقاها منذ سنين في مدرسة كليفورنية الجامعة في الولايات المتحدة أن القضاء على
الإسلام الديني بالتبشير المسيحي محال، وأن المسلمين لن يكونوا نصارى أبدًا،
وإن طريقة اللاتينيين في بث التعليم المادي في المسلمين، أفعل في زلزال الإسلام
من طريقة البروتستانت في بث دعوة الدين، واعتبروا مع هذا ما ترونه من
تفضيل أكثر المسلمين للإنكليز والأمريكان على اللاتين.
أنا لا أخاف على المسلمين من مجلاتكم ولا من كتبكم ورسائلكم، إنما أخاف
على المسلمين من الفلسفة المادية والمدنية الشهوانية، ومن منافقيهم وعباد الشهوات
منهم، فهم الذين يجنون على دينهم ودنياهم، وإنما أوصيكم بأن تتجنبوا فيما تقولون
في مجامعكم التبشيرية، وما تطبعون في رسائلكم وصحفكم الدورية، كل ما يثير
العصبية ويخدش المودة الوطنية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) .
__________
(1) قد اشتهر منذ عشرات من السنين أن المسلمين ثلاث مئة مليون وأول أوربي اشتهر عنه هذا القول عاهل ألمانية غليوم الثاني، والظاهر أن أهل السنة وحدهم صاروا يبلغون هذا العدد كما قالت مجلة الشرق والغرب، وثم عشرات الملايين من الشيعة وغيرهم.(19/97)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المجمع اللغوي المأمول
دعوة إلى هذه الأمنية وخطوة جديدة على ذكرى بلوغ المقتطف سن الأربعين
من حياته المفيدة
طالما تشوفت أنفس أهل العلم والأدب من المشتغلين بالتصنيف والإنشاء
والترجمة بلسان العرب إلى إنشاء مجمع لغوي للتعاون على خدمة اللغة العربية
بالطرق التي تقتضيها حال هذا العصر، وطالما تحدثوا بهذا في أنديتهم وسمارهم،
وكثر ما هموا ولم يفعلوا، وما أقدموا ثم أحجموا، وما بدأوا ثم لم يثبتوا، وقد كان
عدم تيسر المكان اللائق بهذا العمل من الموانع العائقة لكثير من الذين تمنوه وتحدثوا
بشأنه عن مواصلة المذاكرة فيه ومعاودة الاجتماع لأجله، فلما أنشأ الأساتذة
المتخرجون من مدرسة دار العلوم ناديهم منذ سنين قليلة تعلقت آمال كثير من الناس
بهم، وكان اختيار حفني بك ناصف رئيسًا لناديهم، مقويًا للرجاء فيهم، ثم ما عتم
هذا النادي أن خبت ناره، وأطفئت أنواره، ولكن بعد ترك حفني بك لإدارته
ومغادرته مدينة القاهرة مرتقيًا في منصبه.
لاح لنا أمس بارق أمل جديد، عسى أن نصل في نوره إلى ما نريد، فيكون
ذلك من بركات المقتطف المفيد.
صدر الجزء الأول من مجلة المقتطف في مثل هذا اليوم أول مايو من سنة
1876 فتم له أمس أربعون سنة، وقد كان مما يخطر على بال كثير من أهل
العلم وأنصار النهضة العربية أن يجعلوا هذا اليوم عيدا للمقتطف يحتفلون به
الاحتفال اللائق بخدمته للعلوم والفنون بهذه اللغة الشريفة التي لا حياة لنا إلا بحياتها
العلمية والفنية، ولكن الحرب الأوربية العامة جعلت العالم كله في مأتم ولا تكون
المآتم أعيادًا.
وقد كان في مقدمة الذين شعروا بوجوب الاحتفال بالمقتطف صديقنا الأديب
الخطيب الشهير إسماعيل بك عاصم المحامي، وقد رأى أن ما يمنع من إقامة
الاحتفالات العامة، لا يمنع من اجتماع خاص لتهنئة خاصة، فأعد أمس في دارها
الزاهية مأدبة لصاحبي المقتطف دعا إليها صاحب الدولة رئيس الوزارة حسين
رشدي باشا وصاحب المعالي عدلي باشا يكن وزير المعارف وصاحب الفضيلة
الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وصاحبي السعادة يحيى باشا إبراهيم رئيس
الاستئناف الأهلي وأحمد زكي باشا كاتب سر مجلس النظار وحضرة صاحب العزة
أحمد بك لطفي السيد مدير دار الكتب السلطانية، وبعض أصحاب المجلات العربية
المشهورة.
انتظم عقد هذه الجماعة عشاء في تلك الدار، المتألقة بالأنوار فكانت سامرًا
علميًّا من أرقى السمار، افتتحها حضرة صاحب الدعوة بهذه الأبيات:
يا بدورًا قد تجلى ... في سماء العليا سناكم
حاكت الأفلاك داري ... حين حياها نداكم
فاقبلوا مني دعاء ... أسعد الله مساكم
وبعد مسامرات كان جلها في مناقب العرب وما سبق لهم من ترقية العلوم
والفنون تحلقوا حول تلك المائدة، فأصابوا مما طيف عليهم به من ألوانها الفاخرة، ثم
نهض الداعي الوفي الكريم فألقى خطبة نفيسة في الثناء على المقتطف المفيد، وعلى
منشئيه الفيلسوفين الكبيرين الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر، بين فيها
خدمته الجليلة للعلم والعربية وذكر أنه أنشئ في بيروت ثم جذبته مصر إليها، وذكر
مقالتين نشرتا في الجزء الأول كانتا كالمرآة التي تجلى فيها كماله، مقالة في عمل
الزجاج ومقالة في القمر وتشكله منذ يبدو هلالاً إلى أن يكون بدرًا كاملاً، قال:
وكذلك كان المقتطف فإنه كالزجاج في صفائه وبهائه، وهو كالقمر بدأ
هلالاً ثم صار بدرًا كاملاً وأسأل الله حفظه من المحاق.
ثم ذكر بدء معرفته لمنشئ المتقطف من زهاء ثلاثين سنة، وذكر من فضلهما
وأخلاقهما ما هو معروف، وأشار في خطابه إلى ما سبق من احتفاله المشكور
ببلوغ مجلة المنار عشر سنين، وذكر المنار في سياق الاستدراك على وصف
المقتطف بالسبق في خدمة العلوم، ثم قام كاتب هذه السطور فاستأذن الوزير الأكبر
بإلقاء كلمة في الموضوع خلاصتها:
ورد في الحديث الشريف (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) وقد رأيت
صديقنا الفاضل إسماعيل بك عاصم استدرك على ما وصفه المقتطف بأنه المجلة
العربية الوحيدة التي قامت بما قامت به من خدمة العلم فذكر المنار وقرنه بالمقتطف
وقال: إن للمقتطف فضيلة السبق وذكر أنني أعترف له بذلك كما اعترف لابن
معطٍ ابنُ مالك إذ قال في فاتحة الألفية:
وهو بسبق حائز تفضيلا ... مستوجب ثنائي الجميلا
نعم أعترف للمقتطف بالسبق والتبريز في العلم، وأزيد على ذلك
الاعتراف بأنني قد استفدت من المقتطف من أول عهدي بطلب العلم ولا أزال
أستفيد منه.
إنني لما دخلت المدرسة الوطنية في طرابلس الشام وذلك أول عهدي بطلب
العلم رأيت أستاذنا الشهير الشيخ حسينًا الجسر مشتركًا في المقتطف ومواظبًا على
قراءته، فكانت تلك أول معرفتي بالمقتطف وصرت أستعيره بعد ذلك وأقرؤه،
فاستفدت من مباحثه فوائد عقلية وصحية واجتماعية، ولا أزال أعتمد على ما يكتبه
في معرفة أطوار التجدد العلمي العصري.
إن المقتطف في نظري مدرسة جامعة سيارة يستفيد منها العالم العربي في كل
بلد يقرأ فيه فإن الذين يتعلمون مبادئ العلوم العصرية باللغة العربية، يحتاجون إلى
الوقوف على ما يتجدد فيها بالبلاد الغربية، ولا سبيل إلى هذا إلا بالاطلاع على
الكتب والمجلات الأوربية التي تصدر في كل عام وهذا لا يتيسر إلا لبعض الأغنياء
المتقنين لبعض لغات العلوم الأوربية، فالمقتطف يلخص لنا في كل شهر ما لا
يستغني عنه قراء العربية.
من حق المقتطف على الأمة العربية أن تحتفل به في الوقت المناسب ونرجو
أن يكون ذلك على رأس الخمسين من حياته النافعة.
احتفل فريق من المصنفين ببلوغ مطبعة المعارف سن العشرين في خدمة
الصناعة وإتقانها فإذا جرينا على سنتهم كان علينا أن نقيم للمقتطف عشرات من
الاحتفالات. كان على مروِّجي الصناعة أن يقيموا للمقتطف مثل هذا الاحتفال لا
لأن له مطبعة أخرجت للناس من المطبوعات النافعة ما لم يخرجه غيرها فحسب،
بل لأن للصناعة بابًا في المقتطف فهو مرشد إلى ترقيتها بجميع فروعها، وكان
على المجتهدين في ترقية الزراعة أن يقيموا له احتفالاً آخر لأن للزراعة بابًا فيه
مثل باب الصناعة، ومثل هذا يقال في كل علم وفن ولكن صديقنا إسماعيل بك
عاصم جمع لنا في هذه الليلة صورة مجملة لما يجب على الأمة مفصلاً.
إن أكبر منقبة للمقتطف ومنشئيه أنهما حجة اللغة العربية على من يتوهمون
أنها لا تتسع لجميع العلوم العصرية ولا يسهل تعليمها بها، فهذان العالمان الكبيران
تعلما العلوم باللغة العربية واشتغلا بالكتابة والتأليف فيها مدة أربعين سنة فأفادا العلم
ما لم يفده أحد من المتعلمين منا باللغات الأجنبية.
هذا ملخص ما قلته، ثم ألقى أحمد زكي باشا خطبة نفيسة في فضل المقتطف
ومنشئيه في خدمة العلم باللغة العربية افتتحها بما هو معروف في الفقه الإسلامي من
تقسيم الواجب إلى فرض عين وهو ما يطلب من كل فرد من الأفراد كالصلاة
والصيام، وفرض كفاية وهو ما إذا قام به بعض الأفراد سقط الطلب عن الباقين
كالفنون والصناعات التي لا يستغني الناس عنها في معايشهم، وقال: إن صاحبي
المقتطف هما اللذان قاما بفرض الكفاية من خدمة العلوم والفنون، ثم ذكر أول عهده
بالمقتطف وأنه أرسل إليه سؤالاً إلى بيروت ثم عهده برؤية منشئيه وما يحمد من
صحبته لهما.
وقام أيضا الشاب النجيب إميل أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال الغراء فأثنى
على المقتطف وذكر أنه تلميذ لتلاميذ منشئيه العلامتين وذكر أن والده وهو أستاذه
الأول كان تلميذهما، وكذلك كان أساتذته في المدرسة الكلية من تلاميذهما.
ثم قام صاحب مجلة المفتاح الغراء توفيق أفندي عزوز فخطب خطبة أثنى
فيها على المقتطف بما هو أهله وذكر استفادته منه كغيره وقال: إن منشئيه
العلامتين الفاضلين قد أفادا بأخلاقهما كما أفادا بمجلتهما فهما باتفاقهما وتكافلهما
وإخائهما قدوة صالحة لهذه الأمة التي تشكو من التفرق والاختلاف وقلة الثبات ما
هو أعظم عائق لها عن القيام بالأعمال النافعة.
وبعد ذلك قام العلامة الدكتور فارس نمر فألقى خطابًا بليغًا قال في فاتحته:
إنه بلسانه ولسان شريكه وأخيه الدكتور صروف يشكر أولاً لسعادة إسماعيل بك
عاصم عنايته بهذه الدعوة ويعتب عليه أنه جعلها بصورة احتفال ومما قاله:
إن حضرة رب هذه الوليمة شرف إدارتنا منذ بضعة أيام وهنأنا بمرور أربعين
عامًا على مجلتنا المقتطف ودعانا إلى تناول الطعام مع جماعة من علماء مصر
وأرباب المجلات العربية الذين دعاهم احتفالاً بذلك فأبنا لحضرته أن الوقت لا
يصلح للاحتفالات ولا خدمتنا تستحق هذه العناية ولكن أبت مكارمه ومكارمكم أيها
السادة إلا أن تخصونا بالنصيب الأوفر من محاسن هذه الليلة وأن تتحفونا بهذا المدح
الذي لا نستحقه فلحضرة صديقنا الفاضل صديق العلم والأدب رب هذه الدار ولدولة
الوزير الكبير رئيس الوزراء ولمعالي وزير المعارف ولفضيلة مفتي الديار
المصرية ولسعادة رئيس الاستئناف الأهلي ولسعادة سكرتير مجلس النظار وسائر
الذين تكرموا بالثناء على المقتطف وذكروه بالخير ولبوا هذه الدعوة إكرامًا له جزيل
الشكر من هذين العاجزين.
ثم قال: إن المقتطف وإن كان قد أنشئ في القطر السوري فقد كان معظم
انتشاره في القطر المصري، وقد لقي من أعاظم مصر أعظم عضد وأرحب صدر
حتى أن وزير مصر الشهير المرحوم رياض باشا كان يكاتبه منذ بدء إنشائه، ولما
نقلناه من سورية إلى مصر رحب به رحمه الله كما رحب به الوزير الكبير شريف
باشا والعالم المرحوم شفيق بك منصور وغيرهم من أعاظم مصر وأكابر علمائها،
والأمل وطيد أن خدمة المقتطف على ما بها من الضعف تجد من تأييدكم أيها السادة
ما يقويها ويزيدها أضعافا مضاعفة بمؤازرة سائر المجلات والجرائد العربية في
عصر مولانا السلطان المعظم الذي حق لنا أن نباهي به سلاطين الشرق والغرب
معا على حبه للعلم وإكرامه للعلماء ورغبته في إعلاء منار الأدب وغيرته على نشر
المعارف وجوده في سبيل التربية أدامه الله للأمة العربية فخرًا وأدامكم للغة العربية
فخرًا.
ثم دارت بعد ذلك المذاكرة في مسائل علمية ولغوية أفضت إلى الكلام في شدة
الحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي في مصر فقال أحمد لطفي بك السيد مدير دار الكتب
السلطانية إن أحمد زكي باشا كان قد اقترح علي أن أخصص مكانًا من دار الكتب
لذلك، وإني أجبت إلى ذلك فلديّ الآن في المكتبة مكان لائق كانت الجرائد ذكرت
أننا فرشناه وأعددناه لراغبات المطالعة من السيدات وليس عندنا سيدات يغشين دار
الكتب للمطالعة فنعد لهن مكانًا.
فسر جميع الحاضرين بهذا وقابلوه بالثناء ورأوا أن قد زالت به عقبة من
عقبات الشروع في تأسيس المجمع اللغوي الذي بينا مكانته من النفوس في أول هذه
النقلة وزادهم سرورًا ما رأوه من ارتياح الوزير الأكبر ووزير المعارف للشروع في
تأسيس المجمع اللغوي بدار الكتب السلطانية، وأرجو أن نبشر قراء العربية في
مقال آخر بتأسيس هذا المجمع بالفعل.
وقد امتد هذا السمر المفيد إلى منتصف الليل فانصرف السامرون مثنين على
رب المنزل أطيب الثناء.
__________(19/110)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمال باشا السفاك
كان جمال باشا من آحاد الضباط الكثيرين المنتمين إلى جمعية الاتحاد والترقي
فلم يلبث أن ترقى فوق الهام والرءوس إلى مقام الزعماء على حين قد تدهور أمير
الألاي صادق بك عن منصة الزعامة العليا لها وسقط كثير من الضباط وغيرهم
ممن مكاناتهم عالية، وإنما ترقَّى جمال بك ببراعته وجرأته على سفك دماء خصوم
الجمعية، فهو الذي دبر مكيدة المذبحة الأولى في أدنه إذ كان واليًا لها بعد الدستور،
وهو الذي قتل الجم الغفير من كبراء الآستانة المخالفين للجمعية عقب اغتيال
محمود شوكت باشا، ولأجل هذا اختارته الجمعية لقيادة فيلق سورية بعد الحرب
على كونه لا يزال ناظرًا للبحرية، وما سمعنا في أخبار دولة من الدول أن أحد
وزرائها يعطى وظيفة دون الوزارة في بلاد بعيدة عن العاصمة فيكون فيها عدة
سنين في أشد أوقات الحاجة إلى قيامه بشئونها وناهيك بوزيري الحربية والبحرية
في وقت الحرب ولكن زعماء الجمعية يأخذون المناصب العليا بعلومهم في الجمعية
لا بخدمتهم للدولة.
نعم إن الجمعية اختارت جمال باشا لأجل أن يتم تنفيذ ما توعدت به سورية
من بضع سنين في جريدتها طنين وعبرت عنه بالدش البارد وإنما كانت مذبحة
الكرك وتعذيب العرب برضخ رءوسهم بالصخور هي الرشة الأولى من هذا الدش
وإننا على علمنا بهذا الإنذار وبما هو أشد منه وأوضح وعلى ذكرنا بعض تلك النذر
في مقالات العرب والترك، وغيرها في المنار، قد ارتبنا في أول خبر بلغنا عن
شنق جمال باشا لبعض نابغي المسلمين في بيروت، ولا يزال أكثر المصريين
يكذبون أخبار التقتيل والنفي التي تكررت بل تواترت، وقد ظفرت جريدة المقطم
ببيان لجمال باشا نفسه نشرته في اليوم السابع من شهرنا هذا يصرح فيه بعمله
ويحتج له، وهذا ما نشرته:
***
بيان من جمال باشا
نشر جمال باشا القائد العثماني في سورية البيان التالي بإمضائه في 5 رجب
سنة 1334 الموافق 7 مايو سنة 1916 وهذا هو نصه العربي كما نشر بحروفه:
لما جرى القصاص على بعض الأشخاص المنتسبين في الحزب المتشكل في
مصر والممالك العثمانية تحت تمويه عنوان حرب اللامركزية والذين حوكموا في
ديوان الحرب العرفي بعاليه كنت كتبت في البيان الذي نشرته في أوائل أوغستوس
سنة 1331 أن التحقيقات جارية بصورة دقيقة بحق أعوانهم الأشرار الذين لم يكن
قبض عليهم قبلا.
إن الوثائق السياسية التي عثرنا عليها واعتراف عبد الغني العريسي صاحب
المفيد الذي ألقي القبض عليه أخيرًا بعد أن ذكرنا في البيان قراره واعتراف سيف
الدين الخطيب عضو محكمة بداية حيفا السابق ورفيق رزق سلوم ضابط الاحتياط
ورفقائهم الآخرين قد نور المسألة من جميع أطرافها وسيق إلى ديوان حرب عاليه
الأشخاص الذين ظهر أن لهم علاقة في هذه المسألة بدرجات متفاوتة مع من تبين أن
لهم دخلاً في المساعي الخائنة بتنفيذهم ترتيبات الجمعية وتشبثاتها وأعمالها، وفي
ختام التحقيقات والمحاكمات التي أجراها الديوان العرفي في عاليه صدرت الأحكام
المقتضاة بحق المظنون فيهم من الموقوفين والفارين كل على حسب اشتراكه في
ترتيبات هذه الجمعية التي غايتها ومقصدها سلخ سورية وفلسطين والعراق عن
راية السلطة العثمانية وجعلها إمارة مستقلة، فحكم على شفيق بن أحمد مؤيد العظم
والأمير عمر ابن الأمير عبد القادر، وعمر بن مصطفى حمد، ورفيق بن موسى
رزق سلوم، ومحمد بن حسين الشنطي، وشكري بن بدري علي العلي، وعبد
الغني بن محمد العريس، وعارف بن محمد الشهابي، وتوفيق بن أحمد البساط،
وسيف الدين بن أبي النصر الخطيب، والشيخ أحمد بن حسين طبارة، وعبد
الوهاب بن أحمد الإنكليزي، وسعيد بن فاضل عقل، وبتروباولي، وجريج بن
موسى الحداد، وسليم بن محمد سعيد الجزائري، وعلي بن محمد حاجي عمر،
ورشدي بن أحمد الشمعة، وأمين لطفي بن محمد حافظ، وجلال بن سليم البخاري
بالإعدام لثبوت اشتراكهم في هذه التشبثات بالدرجة الأولى بصورة فعلية، وعلى
من تبين دخولهم في الدسيسة بصورة فرعية سالم بن مصطفى مظلوم بالاعتقال
بالقلعة خمس سنين وتوفيق بن محمد الناطور ويوسف بن نحيبر سليمان بعشر
سنين، وحسين بن خليل حيدر بخمس عشرة سنة، وعلى رياض بن رضا الصلح
بنفي مؤبد، وعلى الأمير طاهر بن أحمد الجزائري بعشر سنين في الكريك، وعلى
الذين مع كونهم لم يقيموا المقصد والتشبث الحقيق وثبت وجود مساع لهم مع هذه
الجمعية بصورة محسوسة إما بسائق الجهل أو التصلف وإنما لم يوجد عليهم وثائق
تنور وجدان الهيئة الحاكمة وتثبت مجرميتهم واشتراكهم وهم رضا الصلح وأسعد
حيدر بإعادتهما إلى منفاهما، وأعطي القرار بمنع محاكمة وبراءة كل من محمد
أفندي كامل الهاشم، إبراهيم القاسم سامي العظم، الشيخ جمال الدين الخطيب، عبد
الحميد معلم الرسم، محيي الدين فريحة البيطار حسين صبري، رشدي الغزي،
عاصم بسيسو الغزي، عزت الأعظمي، مصطفى الكيلاني، عبد الرحيم حنون،
الدقتور حسام الدين، نجيب شقير، الشيخ فتح الله، الدقتور أحمد قدري، سليم
الطبارة، جميل الحسيني، المفتي سعيد أفندي الباني، سليم الشمعة، سليم البخاري،
فائز الخوري، رشيد الخشيمي، عمر الأتاسي، البكباشي علي رضا، الدقتور
أمين قازما، سعيد عدوه، الدقتور عبد الحفيظ اليوزباشي جميل، فريد باشا اليافي،
عثمان العظم.
ومن الذين صدر بحقهم حكم الإعدام وهم شفيق المؤيد، الأمير عمر، شكري
العسلي، عبد الوهاب الإنكليزي، رشدي الشمعة، رفيق رزق سلوم، جرى
إعدامهم هذا الصباح في الشام، والآخرون جرى إعدامهم في بيروت، وسائر
المجرمين صار سَوْقهم إلى منفاهم وحبوسهم وعلى هذه الصورة تقرر إذًا في سورية
وفلسطين السكون والأمن المحتاج إليهما إلى الأبد.
وها أنا ذا أنشر الآن من الوثائق المهمة التي كانت أساسًا لهذه التحقيقات ما
يكشف الغطاء عن حزب اللامركزية الحقيقي وسيُنشر كتاب حاوٍ جميع الوثائق على
حدة مع اعترافات المجرمين المهمة وتاريخ صغير لهذه المسألة.
ومن إمعان النظر في هذه الوثائق يفهم أولاً أن هؤلاء الأشخاص قد ضحوا بلا
تردد جميع ما لديهم من المقدسات الدينية والوطنية لقاء منافعهم الخسيسة والمادية،
إن هؤلاء الأشخاص قد أشركوا مساعيهم ونفوذهم وقدرتهم أعداء الدولة وسعوا في
إعداد الطاعة في الداخل تجاه تجاوزات الأعداء في الخارج.
ومما هو جدير بالتقدير أن إدارة هذه التشبثات لم تتسع بالنظر لما جبل عليه
العنصر العربي النجيب من الصداقة والطاعة والصلابة الدينية العارية عن شوائب
الظنون والشكوك بأسرها، بل حصرت بين بعض أشخاص مسلمين ومسيحين لا
أهمية لهم ولا يكاد يتجاوز عددهم المائتين من المحكوم عليهم حديثًا وقديمًا وجاهًا
وغيابًا.
وبناءً على الصلاحية التي تخولني إياها المادة الثانية من القانون المؤرخ في
14 مايو سنة 1331 المتضمن التدابير التي ينبغي للجهة العسكرية التوسل بها في
وقت النفير العام ضد الخارجين على الحكومة وإجراءاتها فإني ساعٍ في إبعاد أولئك
الأشخاص الذين يتخذون حقوق الدولة ومقدساتها ملعبة في سبيل منافعهم الشخصية
مع من لهم علاقة معهم من أسرهم وعائلاتهم من قريب أو بعيد إلى بعض ولايات
الأناضول، وقد اتخذت الأسباب الكافلة لإعاشة هذه العائلات ورفاهيتهم في المحال
التي ينفون إليها تحت عناية الحكومة السنية وعاطفتها، وسيعطون هناك أراضي
وأملاكًا قيمتها تعادل أملاكهم وأراضيهم التي يملكونها في سورية، وإني أوصي
جميع الأهلين في سورية وفلسطين بالسكينة والطمأنينة، على أنه من الآن فصاعدًا
لم يبق محل لإجراء التعقيبات والإبعاد إلى الولايات العثمانية في حق أحد مطلقًا ما
لم تظهر وثائق قوية تدل على خيانته.
... ... قومندان الفيلق الرابع وناظر البحرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جمال
(المنار)
كل ما احتج به جمال باشا لسفكه الدماء وإجلائه الناس عن أوطانهم
أباطيل، وقد قتل بعد من ذكرهم هنا عددًا ليس بقليل، منهم السيد عبد
الحميد الزهراوي الشهير، وأول أباطيله تسمية القتل برأيه ورأي ديوانه العرفي
قصاصًا، وإنما القصاص في شرع الله أن يقتل الجاني بمن قتله بغير حق، ومعناه
في اللغة يدل على المساواة والمماثلة.
ثم إنه يقول: إن التهمة الموجبة للقتل والنفي هي الاشتراك في جمعية غايتها
جعل العراق وسورية وفلسطين مملكة مستقلة بعد سلخها من راية الدولة، ونحن
نعتقد بطلان هذه التهمة بأدلة كثيرة (منها) أن الحزب الذي جعله أصلاً، للتهمة
التي رمى بها هؤلاء الناس له برنامج معروف مطبوع ينطق بكذب تلك التهمة،
(ومنها) أن هؤلاء الذين اعترف الباشا بقتلهم في هذا البيان لا يوجد فيهم إلا واحد أو
اثنان من الداخلين في هذا الحزب، (ومنها) أننا نعلم باختبارنا لبعضهم واختبار
من تثق به للآخرين أنهم لا يجمعهم رأي ولا مودة ولا سكنى ولا معرفة فكيف
يتفقون مع ذلك على أمر عظيم كالذي اتهموا به؟ وأما الجرم الأكبر الذي يجمعهم
وبه استحقوا العقاب هو أنهم من أذكياء العرب الذين يقولون بوجوب محافظة قومهم
على لغتهم وأن يكون لهم حظ من مشاركة الحكومة في إدارة بلادهم، وأن لبعضهم
ذنوبًا سابقة لا يغفرها الاتحاديون كإهانة شفيق بك لطلعت بك، والسعي لعدم
إقراض أوربة للاتحاديين عشرات من الملايين، يضيعونها وتبقى البلاد رهينة بها
للدائنين، وتوثيق أعضاء المنتدى الأدبي في الآستانة عُرى الإخاء بين طلبة العرب
في مدارس الحكومة فيها، وإهانتهم لصاحب جريدة إقدام التركية في نشر تلك
المقالة التي قال فيها كاتبها: إن الطريقة المثلى للتنكيل بعرب الجزيرة إغراء
بعضهم بقتال بعض بالمال؛ لأن العرب تبيع كل شيء بالمال حتى العرض
والناموس.
ثم إنه يصرح بأنهم أُخِذُوا بالظن فلم تثبت عليهم تلك التهمة باليقين، ولو
ثبتت لما جاز قتل أحد منهم بها شرعًا ولا قانونًا؛ لأنها عبارة عن رأي سياسي لم
يدع قاتلهم أنهم شرعوا في تنفيذه بالخروج على الدولة في أثناء النفير العام الذي حاكمهم بقانونه، وكيف يعقل أن يقوم نفر قليل كهؤلاء بالخروج على الدولة والسواد
الأعظم من قومهم يخالفهم فيه باعتراف جمال باشا نفسه والدولة تحكم بلادهم
بالأحكام العرفية القاسية وجميع شبان الأمة وكهولها جنود مسلحون بين يديها؟ ويا
ليت شعري ما تلك المنافع المادية الخسيسة التي ضحى أولئك الأذكياء الفضلاء دينهم
ووطنهم لأجلها؟ إن كانت ما ذكره من غاية جمعيتهم المزعومة، فتلك غاية
سياسة عالية لا مادية خسيسة، وإن كانت غيرها فما هي؟
__________(19/115)
الكاتب: أبو الأشبال
__________
الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فكثير ما طبعت كتب ونسبت إلى أكابر علماء الإسلام، وهم براء منها،
إما غلطًا وإما قصدًا لتكون نافقة في البيع أو لإدخال أشياء في دين الإسلام ليست
منه، ولا يكون لقائلها من ثقة المسلمين به ما يؤهله لقبول قوله عندهم، فيختبئ
وراء اسم أحد الأئمة المقبولين عند المسلمين، وينحله كتابه، وذلك لما ضاق
بالزنادقة الأمر وحصرت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين
معروفة، وبين فيها الصحيح من غيره، فلم يتمكنوا من وضع الأحاديث عليه كما كانوا يفعلون في أول الإسلام قبل تدوين الحديث، ومفسدة هذه الكتب ظاهرة
للعيان.
رأيت كل هذا فعزمت بحول الله تعالى وقوته على بيان الأغلاط الواقعة في
نسبة بعض الكتب المطبوعة إلى غير أهلها نصيحة للمسلمين، وتزكية لأئمة الدين،
وخدمة للتاريخ، فكلما عثرت بشيء منها نشرته في مجلة المنار الغراء.
ثم إني لا أقصد ببياني هذا طعنًا في أحد من طابعي هذه الكتب فلا يحرجنهم
ذلك فإنما قصدي بها وجه الله تعالى، والله الموفق لا هادي إلا هو.
(1) من الكتب الدخيلة الموضوعة قصدًا كتاب يسمى (سر العالمين) [1]
ألفه أحد الزنادقة من الفرقة الباطنية، ونحله حجة الإسلام أبا حامد الغزالي رضي
الله عنه، وأدخل فيه كثيرًا من عقائد الباطنية التي كان الغزالي أشد أعدائها، ومن
أكثر العلماء ردًًا على معتقديها، وأدخل فيه كثيرًا من علوم السحر، ثم أراد أن
يحقق نسبة الكتاب إلى الغزالي فصار دائما يحيل في بعض المسائل على كتب
الغزالي كالإحياء والرد على الباطنية وغيرهما، ويقول: فيما كتبناه في كتاب كذا،
أو نحوه، ويذكر كتابًا من تصانيف الغزالي، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن
يفضحه ويبين كذبه كرامة للغزالي وغيرة على حجة الإسلام فإنه قال في صحيفة
83 من الطبعة المصرية: أنشدني المعرِّي لنفسه وأنا شاب، إلخ، وهذا كذب
فاضح، فإن أبا العلاء المعري مات سنة تسع وأربعين وأربعمائة، أي قبل أن يولد
الغزالي بسنة أو سنتين، فإنه ولد سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين
وأربعمائة فليحذر الناس من الثقة بهذا الكتاب وأمثاله فهي مفسدة للدين، وليتق الله
طابعوها ولا يغرروا بعامة المسلمين وليتحر أحدهم صحة نسبة الكتاب إلى المنسوب
إليه.
(2) من الكتب المنسوبة قصدًا للنِّفاق كتاب يسمى (كتاب الفوائد المشوق
إلى علم القرآن وعلم البيان) نسب إلى الإمام الجليل شمس الدين ابن القيم رضي
الله عنه، وهو كتاب لا بأس به فيه فوائد أدبية، ونكت بلاغية، فصيح العبارة،
ويظهر أن مؤلفه كان من الكتاب المنشئين، لا العلماء المحققين، أمثال إمامنا ابن
القيم، فإن له في بعض المسائل تحقيقات واختيارات سخيفة لا يقولها من شام للعلم
بارقة.
لو لم يكن لشمس الدين ابن القيم بين أيدينا كتب غير هذا لقلنا كاتب يتسخف
ويظن أنه محقق، وأحمق يتكايس ويظن أنه عاقل، ولكن كتب ابن القيم تنادي بقوة
نظره، ودقة بحثه، وكثرة علمه، وبُعد غوره، ولله دره من إمام جليل، وحاش
لله أن يقول في إعجاز القرآن كما قال مؤلف هذا الكتاب فإنه قال في صحيفة
(255) بعد أن حكى الأقوال في وجه الإعجاز ما نصه: قال المصنف عفا
الله عنه: والأقرب من هذه الأقاويل إلى الصواب قول من قال: إن إعجازه
بحراسته من التبديل والتغيير والتصحيف والتحريف والزيادة والنقصان، فإنه ليس
عليه إيراد ولا مطعن، هذا اختياره وحكايته مثل هذا تُغْني عن رده وضرب
الأمثال على بطلانه [2] .
وأغرب من هذا القول قوله في الصحيفة نفسها بعد أسطر: وقال قوم:
إعجازه من جهة أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة قائمة بالذات وأن
العرب إذا اتحدوا بالتماس معارضتهم له والإتيان بمثله أو بمثل بعضه كلفوا ما لا
يطاق، ومن هذه الجهة وقع عجزهم وهذا القول أيضا حسن، هذا كلامه بنصه،
وإني أترك للقارئ فهم معنى التحدي بالصفة القديمة فذلك مما يقصر على من أدركه.
وقد اتصل بي أن النسخة الخطية التي طبع عنها هذا الكتاب كانت نسبته فيها
إلى ابن القيم مكتوبة عليها بخط جديد غير خط الأصل فقيل لطابعه لا تنسبه لابن
القيم فلعل كاتب هذه لم يتحر النسبة خصوصًا وأن الكتاب غير معروف في كتب
ابن القيم، فأبى ونسبه إليه فحسبنا الله ونعم الوكيل.
(3) ومما يلحق بهذا وإن لم يكن منه تمامًا ما وقع في مختصر البخاري
للزبيدي المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، فقد كتب على طرته في
النسخ المطبوعة بالمطبعة الأميرية والمطبوعة بالمطبعة الخيرية والمطبوعة
بالمطبعة الميمنية ما نصه: للحسين بن المبارك الزبيدي، وهذا غلط فإن مؤلفه هو
أحمد بن المبارك الزبيدي فشيخ ذكره المؤلف نفسه في خطبة كتابه في إسناده إلى
البخاري، وبين المؤلف وبينه ثلاثة شيوخ، والغريب أن كاتب الحواشي التي
بهامش النسخة الأميرية ذكر في أول صحيفة منها اسم المؤلف على الصواب، فلا
أدري كيف كتب هذا وغفل عما في طرة الكتاب، وأما المطبعتان الأخيرتان فتبعتا
المطبعة الأميرية من غير تحرٍّ ولا نظر، وحصل مثل هذا في نسخة شرح الشرقاوي
عليه الذي طبع بالمطبعة الميمنية فإنهم طبعوا بهامشه المتن ونسبوه في طرته
إلى الحسين بن المبارك الزبيدي مع أن الشارح في أول الخطبة ذكر اسم المؤلف
على الصواب انتهى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو الأشبال
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفا الله عنه
__________
(1) طبع في الهند ثم طبع في مصر سنة 1327.
(2) طبع أيضًا في مصر سنة 1327.
(3) المنار: مزية حفظ القرآن من التغيير لم تظهر بمرور الزمن، فلا يتحدى النبي صلى الله عليه وسلم بها العرب.(19/120)
الكاتب: أحمد زكي أبو شادي
__________
دعوة اللجنة التحضيرية
لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن
تتشرف اللجنة التحضيرية لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن بتوجيه
نظركم إلى منافع هذا العمل المسطورة بإيجاز في ذيل هذا الكتاب آملاً من غيرتكم
التعضيد المادي والأدبي قدر جهدكم حتى إذا اجتمعت الإعانات الضامنة للنجاح منكم
ومن أمثالكم أبرز المشروع إلى حيز الوجود في القريب العاجل تحت رعاية الجمعية
الملوكية الآسيوية التي هي من أعظم الهيئات العلمية الباحثة في آداب الشرق، ولا
يخفى على حضرتكم المظهر الجليل والفائدة الكبرى من تحقيق هذه الأمنية في أكبر
عواصم العالم، وقد لاحظنا أن للمعضدين ميولاً مختلفة ما بين عامل أدبي أو علمي
أو وطني وديني، فلعلكم مدفوعون بعامل أو أكثر من هذه العوامل لخدمة آداب اللغة
الفصيحة العربية، والسعي في نشرها بواسطة هذه الجمعية الدولية التي تعمل
اللجنة على تأسيسها وتوطيد دعائمها.
هذا ولو أن الظروف الحاضرة الاستثنائية ربما عدت غير ملائمة، إلا أن
فَلاح مثل هذا العمل كما تبين لنا بعد درسه يستدعي بذل مجهولات كثيرة تستغرق
زمنًا غير وجيز فمن الصواب إذن عدم التأجيل فحبذا لو ظفرنا بمؤازرتكم لنا،
فجلائل الأعمال إنما تقوم بمساعي الجماعة وتساند الأفراد.
رئيس اللجنة التحضيرية ... كاتب سر اللجنة ...
د. س. مرجليوث ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي
مقاصد الجمعية
(1) أن تخدم آداب اللغة العربية بجميع الوسائل التي تسمح بها مالية
الجمعية.
(2) أن تشجع تعلم العربية السليمة في بريطانيا العظمى وأن تنمي في
أعضاء الجمعية ملكة الترجمة من وإلى العربية وسواها من اللغات حبًّا في الفائدة
العامة.
(3) أن تكون واسطة تعارف بين الناطقين بالضاد في بريطانيا العظمى
والمستعربين بها، وكذلك بينهم وبين علماء العربية في جميع أقطارها وبين
المستعربين في الممالك الأخرى لتبادل المنفعة الأدبية اهـ.
__________(19/123)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصابنا بالزهراوي والكيلاني
فجعتنا الجرائد المصرية في يوم واحد بنعي الصديقين الوفيين المصلحين
السيدين الجليلين عبد الحميد الزهراوي شهيد بغي الاتحاديين، ومحمد وجيه
الكيلاني شيخ إسلام الفلبين، جاءتنا بذلك في إثر تلك الأنباء التي شقت المرائر،
واستنفدت الدموع من المحاجر، أنباء تقتيل جمال باشا لصفوة أبناء سورية
وأركان النهضة الاجتماعية فيها، فالآن قد صار الفؤاد في غشاء من نبال، فإذا
أصابته سهام أخرى تكسرت النصال على النصال.
خسرت أمة الإسلام وديار الشام وحزب الإصلاح بالزهراوي والكيلاني
رجلين من أفضل رجال العصر عقلاً وذكاء، وأخلاقًا وعلمًا وأدبًا واهتمامًا
بالمصلحة العامة وتقديمًا لها على المصالح الخاصة، وبهذه المزايا تنهض الأمم،
وبفقدها تسقط في مهاوي العدم.
نبت كل منهما في بيت من أكرم بيوتات القطر السوري شرفًا وسؤددًا
وعلمًا ومجدًا، وتربى كل منهما في نشأته الأولى تربية علمية دينية، وأوتي
نصيبًا من العلوم والفنون العصرية، واختبر حال الزمان وأهله، وعرف شدة
حاجة بلاده إلى التأليف بين المختلفين فيها بالأديان والمذاهب والآراء والمشارب
فكانا ركنين من أركان الوفاق، وعاملين من أنفع عوام الإصلاح.
فهذا ما اتفق معنا فيه هذان الصديقان الكريمان، وأما ما اختلف فيه
نشأتهما وسيرتهما فهو أن السيد الزهراوي قد تمرس بالسياسة في حداثته فغلبته
على الاشتغال بغيرها مما كان مستعدًا له كالتوسع والتصنيف في الفلسفة وعلوم
الأخلاق والاجتماع، فكان أفضل ما يرجى نفعه فيه ما وصل إليه من انتخاب
أهل بلاده إياه نائبًا عنهم في مجلس المبعوثين، ولا أقول ثَمَّ تعيين الحكومة إياه
عضوًا في مجلس الأعيان، لأن هذا قد كان بعد جعل الاتحاديين مجلس الأمة
بقسميه آلة لجعل ما تقرره جمعيتهم قوانين نافذة، وأعمالاً منسوبة إلى الأمة،
وكان الغرض منه خديعته وخديعة العرب به، إلى أن تسنح الفرصة لتنفيذ ما
قررته الجمعية من قبل من التنكيل بالعرب والفتك بزعمائهم كما أشرنا إليه في
موضع آخر وسنعود إلى بيانه.
وأما السيد الكيلاني فقد تخرج بالأعمال الإدارية الشرعية فكان من موظفي
مشيخة الإسلام في الآستانة، وبهذا وما سبق من مزاياه كان أفضل من يختار
لما اختير له من جعله شيخا للإسلام في جزائر الفلبين، وكان يتقي شر السياسة
بالمداراة حتى إنه لما عرج على مصر في ذهابه إلى الفلبين تجاهل معرفة
المنار وصاحبه، وهو على مذهبه الإصلاحي ومشربه، لأنه كان يرجو
المساعدة من الخديو وحكومته، وكان الخديو مغاضبا لصاحب المنار من بضع
سنين، وقد أخبرني بعد ذلك أنه كان يفضل طلب المنار من صديقنا السيد محمد
بن عقيل المقيم في سنغافورة على طلبه من مصر، وأنه قد تجدد له من الحاجة
إليه في منصبه الجديد ما لم يكن يعلمه من قبل، وسنعود إلى الكلام في سيرة
هذين الصديقين إن شاء الله.
__________(19/124)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة الأزياء والعادات
من مشخصات الأمم
زي الأمة من مشخصاتها ينبغي لها أن تحافظ عليه وأن تحترمه وتحتقر من
يحتقره كما تحترم العلم الذي هو شارة حكومتها، فالعلم لا يحترم لشكله ولا للونه أو
ألوانه، وليس من العقل ولا من الحكمة أن تذم الأعلام أو تُمدح لشكلها أو ألوانها،
وكذلك أزياء الأمم من حيث هي أزياؤها، ولكن بين الزي والعلم فرقًا واحدًا وهو أن
الزي يُقصد به من المنفعة ما لا يقصد بالعلم، فإذا اشترك مع العلم في أن كلاً
منهما مشخص للأمة مهما يكن شكله ولونه وصفته فإنهما يفترقان في أن بعض الأزياء
لا تفي بما يقصد بها من وقاية الجسم من أذى الحر أو البرد أو سهولة القيام
بالأعمال العسكرية والصناعية والزراعية.
ومن الناس من يرجع في اختيار الأزياء إلى مراعاة الذوق والجمال، ولكن
هذا ليس له قاعدة ثابتة، وإنما يستحسن جماهير الرجال في كل أمة ما يختاره
كبراؤها وحكامها، وإنما يعنى بالذوق والجمال في زي النساء وهن في كل آونة
يستحدثن زيًّا جديدًا يبطلن به ما كان قبله مستحسنًا، ولا يرجع ذلك إلى فضيلة في
زي اليوم على زي أمس تثبت بدليل علمي أو عقلي، وإنما فائدة الجديد لهن جذب
الأنظار إلى السابقات إليه، وفائدته المالية لتجار الأنسجة وصناعة الخياطة لا تخفى
ويقابل ربح هؤلاء من الأزياء خسارة المسرفات فيها، فكم من بيوت خربت بمثل
هذا الإسراف.
من أكبر جنايات الأفراد على أمتهم أن يحتقر أحد منهم زيها، ويستبدل به
زي أمة أخرى تقليدًا وتفضيلاً لها، فإذا كان بعض أزيائها ضارًّا بها، فالواجب في
استبدال غيرها به أن يكون برأي أهل الحل والعقد فيها، الذين يراعون في التغيير
المنفعة دون التقليد الذي يبث في الأمة الشعور بمهانتها وتفضيل غيرها عليها، وقد
وفينا هذا الموضوع حقه من البيان في المنار وقبل المنار في كتابنا الحكمة الشرعية
الذي كتبناه في عهد طلب العلم، واقتبسنا منه نبذا في المنار إذ طرقنا باب هذا
البحث مرارًا.
ولست أبحث الآن في أزيائنا هل يحسن تغيير شيء منها وكيف ينبغي أن
يكون التغيير، وإنما أريد أن أقول: إن بعض الإفرنج ينفرون من أزياء الشرقيين
ويكرهون أن يأكل في مطاعمهم الخاصة بهم وبالأغنياء المتفرنجين منا من لا يلتزم
عاداتهم وآدابهم في الطعام، ومنهم من يرى أن كل من لا يلبس الزي الإفرنجي لا
ينبغي أن يأكل في تلك المطاعم، ولهم في ذلك أعذار ومآرب، وقد روت جريدة
وادي النيل الإسكندرية أن اثنين من المعممين دخلا مطعمًا إفرنجيًّا فطُردا منه لأنهما
معممان , وقالت في لومهما: إنه لا يبعد أن يكونا ذهبا منه إلى آخر مثله لعله
يقبلهما. وأشارت أيضا إلى انتقاد صاحب المطعم الإفرنجي، أما نحن فإننا نختص
باللوم فريقين من أمتنا: فريق الذين يتصدون لمؤاكلة الإفرنج في مطاعمهم، وهم
لا يلتزمون آدابهم وعاداتهم , ومنهم من لا يلتزم الآداب الإسلامية التي هي أرقى
الآداب، وفريق المتفرنجين الذين يحتقرون زي أمتهم وعاداتها وآدابها، ويستبدلون
بها غيرها تقليدًا للأغيار وتفضيلاً لهم على أنفسهم، ويكونون آلة لإضعاف
مشخصات أمتهم ومقوماتها وهم لا يشعرون بما وراء ذلك كما يشعر به غيرهم،
ومن أراد أن يعرف رأي الإفرنج في ذلك فليقرأ خطبة الدكتور سنوك المستشرق
الهولندي في الإسلام ومستقبله التي ألقاها في جامعة كولومبيا من الولايات المتحدة،
وقد نشرنا ترجمتها في المجلد السابع عشر من المنار مع تعليق طويل عليها [1] ،
ومن أراد أن يعرف قيمة هؤلاء المتفرنجين في نفس الإفرنج فليقرأ ما كتبه في
شأنهم لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) .
من أهان أمته باحتقار شيء من مقوماتها أو مشخصاتها بإزاء احترام ما يقابل
ذلك من أمة أخرى فقد احتقر نفسه أشد الاحتقار، وما قيمة الرجل الذي ليس له أمة
محترمة في نفسه، ومن ذا الذي يكرم من يحتقر نفسه باحتقار أمته.
ومن لم يكرم نفسه لم يكرم ...
إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
يجب على كل من أوتي نصيبًا من الفهم أو حظًّا من الشرف أن يقاوم جهد
طاقته كل ما فيه احتقار لأمته مهما يكن رأي المحتقر وقصده، ومن ذلك أن لا يأكل
أحد من المصريين في مطعم يهين أصحابه مصريًّا لزيه أو عادته أو غير ذلك، ولا
أن يشتروا شيئًا من تاجر يهين مصريًّا، ويجب على أمثال هؤلاء أن يبذلوا جهدهم
لمنع الإهانة عن أمتهم وإغنائها عن معاملة كل من يقصر في احترامها، وإنما
يتيسر هذا بتعاضد الأندية والجمعيات الأدبية والشركات التجارية.
كانت شركات البواخر الإفرنجية في الخط الذي بين الهند وخليج فارس
وشط العرب تحتقر المسافرين فيها من العرب والفرس ولا تسمح لهم بالأكل على
مائدة الدرجة الأولى فلما أنشأ تجار العرب في بومبي شركة البواخر العربية زال
ذلك الاحتقار وبطلت تلك المعاملة.
واتفق لي منذ بضع عشرة سنة أنني دخلت مطعمًا سوريًّا في القاهرة وقت
العشاء وجلست إلى مائدة من موائده فطلب رجل إنكليزي أن أترك تلك المائدة؛ لأنه
يجلس إليها للطعام ولا يحب أن يأكل مع شيخ أزهري، فلم أبالِ بطلبه، فطلب من
صاحب المطعم ذلك فاعتذر إليه بأنه لا يمكنه ذلك، وقد سألت عن اسم الرجل
وعمله وذكرت ذلك لصديقي مستر متشل أنس الذي كان وكيلاً لنظارة المالية وقتئذ
فاستاء من ذلك وكتب كتابًا إلى رئيس ذلك الرجل في مصلحة السكة الحديدية كلفه
فيه أن يلزمه الاعتذار إليّ، وأخذت الكتاب بنفسي وعدت راضيًا مكرمًا.
ولا يخفى على عاقل أن ما نحتاج إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها
وصناعاتها لا يقتضي هذا التفرنج الذي نذمه ولا يأتي من طريقه بل ينافيه؛ لأن
التفرنج تقليد في الأزياء والعادات يحدث التفرق في الأمة وانحلال روابطها واقتباس
العلم النافع والعمل الرافع يجب أن يكون بطريق الاستقلال لا التقليد، وأن تراعى
فيه حاجة الأمة في العمل ويقصد به ترقية ثروتها وعزة دولتها، ولم نرَ هؤلاء
المتفرنجين من الترك والمصريين ساروا على ذلك الدرب وصلوا إلى هذه الغاية،
بل هم الذين نسفوا ثروة بلادهم وقطعوا روابطها حتى وصلت إلى ما هي عليه،
وليس في بلادهم شيء من العمران إلا وقد كان بعمل الأجانب ومعظم فائدته لهم،
وإنما سار على ذلك شعب اليابان الذي شرع في اقتباس الفنون الأوربية بعد الترك
والمصريين منا، فكل طلاب العلوم منهم في أوربة يتلقون العلوم العملية، إذ يتلقى
الطلاب منا العلوم النظرية والسياسية، وكانوا مثال الجد والعمل والاقتصاد، إذ كان
أكثر طلابنا مظهر الفسق والسرف والفساد.
وإليك من العبرة هذا المثال: كان بعض الأوربيين والأوربيات مع بعض
اليابانيين في بلاد اليابان فخلع ياباني نعله في المجلس، فأنكر عليه ذلك بعض
الأوربين؛ لأن خلع النعال أو الجلوس بغير نعلين مستهجن في عاداتهم ولا سيما
حيث يوجد النساء، فقال الياباني: أنا ياباني لا أوربي وهذه البلاد يابانية لا أوربية
فبأي حق تطالبوننا باتباع عاداتكم في بلادنا والواجب عكسه؟ أو قال كلاما بهذا
المعنى، فهذه هي الوطنية لا ما يتشدق به المتفرنجون الذين لا يعقلون عاقبة ما
يأتون وما يدعون.
قلنا: إن اقتباس الفنون النافعة من الغربيين، وكذا ما يستلزمه من اعترافنا
بجهلنا وبحاجتنا إلى علمهم، لا يعد احتقارًا للأمة بل إصلاحًا، ونقول أيضًا: إننا
في حاجة إلى الإصلاح في كثير من العادات الضارة، وإن ذلك لا يعد احتقارًا للأمة
وطالما كتبنا في ذلك، ومن أبواب المنار الواسعة باب: البدع والخرافات والتقاليد
والعادات، وإنما الواجب أن نعتمد في هذا الإصلاح على شريعتنا وهي أكمل
الشرائع وآداب ديننا وهي أكمل الآداب.
__________
(1) راجع ص201 و268م17.(19/125)
شوال - 1334هـ
أغسطس - 1916م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آراء الخواص في المسألة العربية
واستقلال الشريف في الحجاز
في ليالي رمضان وأيام عيد الفطر، تيسر لي أن أعرف من آراء أهل العلم
والرأي بمصر في المسألة العربية، واستقلال الشريف أمير مكة في الحجاز ما لم
يكن يتيسر في وقت آخر من السنة، لكثرة التزاور في هذه الليالي والأيام، وتوسّع
الناس فيها بالكلام كتوسعهم بالطعام، وقد جرت فيما بيننا وبين كثير من أساتذة
الأزهر والمدارس العليا وكبار القضاة والمحامين والأطباء، وغيرهم من أهل الرأي
مذاكرات، ومحاورات طويلة في هذه المسألة جديرة بأن تنشر وتدون؛ لأنها ربما
كانت أهم مسائلنا الحاضرة، ووقائع تاريخنا التي نحفظها لأعقابنا الآتية، فرأينا أن
ننشر في المنار أطول محاورة منها وأجمعها للمقاصد، ثم نلخص في الخاتمة صفوة
الآراء كلها، وبذلك تتم الفائدة من تلك الأحاديث بغير تكرار ولا عبث، وهذه
المحاورة كانت بيننا وبين أستاذ معروف باعتدال الفكر واستقلال الرأي؛ وقد وقعت
في اليوم الثاني بعد عيد الفطر، وها هي ذي - ونعبر عن الأستاذ بحرف (ذ)
وعن نفسنا بحرف (د) .
ذ - ما رأي الأستاذ في استقلال الشريف أمير مكة بالحجاز، فإني رأيت
كثيرًا من إخواننا، ومعارفنا لا يعد ذلك أمرًا ذا بال، ومنهم من لم يصدق أخبار
الجرائد، حتى إن أخانا الشيخ (أ) قال لي في إحدى ليالي رمضان عقب نشر
البلاغ الرسمي عن استقلال الشريف: إنه لا يعرف أحدًا صدق هذا الخبر من قبل،
أو؛ لأنه هو لم يصدقه أيضًا إلا بعد نشر البلاغ الرسمي.
وإن من الناس من لا يصدق البلاغ الرسمي نفسه! وما أظن أن الأستاذ على
رأي هؤلاء، ولا أنك تقول: إن هذا الأمر ليس بذي بال.
د- صدقت، إن هذا الأمر لذو بال، وإنه قد شغل مني البال، وهيج البلبال.
وإنني مخالف لهؤلاء الناس الذين أصبحوا لا يهتمون بشيء من الأشياء، ولا
يصدقون من الأنباء إلا ما يلذ لهم، ولا يقبلون من الآراء إلا ما يوافق أهواءهم؛
ولذلك راج بينهم رأي تلقوه بالقبول، وهو أن الشريف لم يعلن الاستقلال إلا
لضرورة إنقاذ البلاد من المجاعة، التي أوقعها فيها الحصر البحري أو كاد؛ فقد
امتنع بذلك وصول الأقوات إليها من مصر والسودان والهند، وجل قوتها من هذه
البلاد، حتى قيل: إن إردب القمح صار في مكة ببضعة جنيهات، فعذر الشريف
في إظهار دعوى الاستقلال جلي ظاهر؛ وهو لا يزال مخلصًا للحكومة التركية في
الباطن، وليس له غرض في إيجاد حكومة عربية، ولا طمع في خلافة قرشية،
ولولا ذلك لقاتلته الدولة، هذا هو الرأي الرائج في البلد.
أما أنا فلا أجزم بقبول هذا الرأي ولا برده، وإن كان معقولاً في نفسه؛ لأني
أعلم أنه قد وجد في عالم السياسة مسألة تسمى المسألة العربية، ولكن لم أقف
على كنهها، ومبلغ قوتها، ولا على مكانها من الشريف، ومكان التشريع منها،
وأعلم أيضًا أن الحجاز ليس فيه الاستعداد المطلوب لإنشاء دولة، ولا القوة التي
يتوقف عليها استقلال الخلافة، وحياة أهله موقوفة على الدولة التي تملك التصرف
في البحار، والدولة ذات السيادة على بلاد الشام، فإذا مُنع عنه القوت من هنا
وهناك مات أهله جوعًا، ثم إن المشهور أن أمراء جزيرة العرب وزعماءها
متحاسدون متباغضون {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: 14) ولولا سيطرة الدولة
العثمانية عليهم لأفنى بعضهم بعضًا.
والشريف - إذا كان يأمن بطش الدولة الآن، فهو لا يجهل أنها إذا بقي لها
استقلالها بعد هذه الحرب أمكنها الانتقام منه، وإزالة إمارة الحجاز، وجعلها ولاية
عثمانية محضة. وإذا زال استقلالها، وفرضنا أنه أمن على استقلاله من صاحب
عسير وصاحب نجد فإنه ليس بالذي يكون الملك المستقل الذي يطلبه العرب، ولا
بالذي يجدد الخلافة الإسلامية التي يحرص على استقلالها جميع مسلمي الأرض؛
لأن الاستقلال بأمر الملك والخلافة يتوقف على الثروة والقوة، وأين هما من الحجاز
وأين الحجاز منها؟
فلهذه الأفكار تراني مضطربًا في هذه المسألة، وأنا أعلم أن عند (السيد) من
أخبار هذه المسألة والاختبار فيها ما ليس عندي، ولا عند أحد من المصريين، فهو
أعلم منا بشئون جزيرة العرب وشئون أمرائها، وأعلم منا بظاهر الحركة العربية،
وباطنها وأحوال أحزابها وجمعياتها.
كما أنه أوسع منا علمًا بأحوال الدولة العلية، وأوسع اختبارًا لها وأكثر تتبعًا
لما يتجدد من أخبارها، يعترف له بهذا من يقرأ بروية وإمعان ما يكتبه في هذه
المسائل في مجلته، وإنني أود أن أقف على ما عنده في مسألة الحجاز من رأي
ورواية بالتفصيل، وقد تعرضت لهذا غير مرة فلم تكن حالة المجلس أو الوقت مما
يسمح للسيد بالإفاضة في ذلك؛ فعسى أن نستفيد الآن ما فاتنا من قبل.
د - لم أنس أن باب الحديث في هذه المسألة قد فتح بيننا مرتين قبل هذه المرة،
فكان الكلام فيها وجيزًا لضيق وقته، على أن الحديث شجون، والإنسان يتذكر
في وقت ما ينساه في آخر، فإذا ذكره محدثه تذكر، وإنني لا أبخل على الأستاذ بما
عندي في هذه المسألة من رأي أو خير أرى فيهما فائدة له، فإذا حدثته بشيء لم يره
كافيًا فله أن يستزيدني من الحديث بالسؤال عما يريد منه، ولا بأس بإعادة شيء
مما كنا ألهمنا به من قبل؛ وأبدأ ببيان ما عندي في مسألة استقلال الشريف فأقول:
إن الشريف لم يدَّع ملكًا ولا خلافة، فلا كلام لنا في ذلك، وما ذكرته لي من
الرأي الذي دار بين كثير من المصريين في سبب استقلاله في الحجاز وتلقوه
بالقبول، قد سمعته من غيرك أيضًا. وهو رأي - كما قلت - معقول، وعذر
الشريف فيه مقبول، ولا سيما إن كان الاستقلال صوريًّا كما تظنون، فإنه مسئول
عند الله، وعند الناس عن إنقاذ سكان حرم الله - تعالى - وحرم رسوله - صلى
الله عليه وسلم - من الهلاك، وإزالة الموانع التي منعت أكثر المسلمين من الحج
إلى بيت الله الحرام، ولا سبيل إلى هذا وذاك إلا بإزالة الحصر البحري عن ثغور
الحجاز، الذي كان سببه وجود الجنود التركية فيها، فإن دولة إنكلترا كانت
صرحت باستثناء سواحل الحجاز من الحصر البحري الذي ضربته على جميع
السواحل العثمانية؛ وسمحت بنقل الأقوات من الهند، وغيرها إلى تلك البلاد
المقدسة , ثم إنها لما علمت بإرسال أنور باشا لكثير من الجنود التركية إلى الحجاز
منعت إرسال الأقوات إليه؛ لأن الجنود يستفيدون منها، وقد كان من المستغرب
تموينها لبعض بلاد أعدائها، ولكن تموينها لجيوشها غير معقول، وإنما المعقول
ضده، ولولا احترامها للبلاد المقدسة لضربت سواحلها بمدافع أسطولها ولجعلتها من
ميادين الحرب أيضًا، ولكن إزالة الشريف أمير مكة للسبب الذي أوجب الحصر،
ومنع القوت والحج، مناوأة للدولة التركية أو الاتحادية؛ لأنه تصدٍ لقتال جنودها،
ورفع سيادتها عن البلاد التي هو أميرها.
فالشريف قد اضطر إلى الاستقلال بالأمر في الحجاز ونبذ سيادة هذه الحكومة
الاتحادية ظهريًا، ونحن نخالف مَن يرى أن هذا الاستقلال صوري وأنه كان
بالتواطؤ بينه وبين الدولة، ومن يرى أنه لا يزال مخلصًا لهذه الحكومة، وأنها هي
راضية عن فعله وعاذرة له فيه؛ لأننا نعلم أن إزالة منع القوت ومنع الحج ليس هو
الباعث على هذا الاستقلال، ولكنه من لوازمه، وهنالك بواعث وأسباب أخرى له
سنلم بها في حديث.
ذ - إذاً لماذا لم تجرد الدولة جيشًا لقتاله؟ ولماذا حاصر هو الجيش التركي
حصارًا، ولم يناجزه القتال؟
د - أما الشريف فيمنعه دينه من الإقدام على سفك الدم في أرض الحرمين
الشريفين من غير ضرورة ملجئة لا مندوحة عنها، وأما الدولة فالمانع لها من
إرسال جيش جديد لقتاله، إما العجز وإما العقل. أما العجز فهو الآن غير بعيد؛
لأن جنود الدولة متفرقون في عدة ميادين من أوربة وعدة ميادين في الأناضول
وإيران والعراق وسورية وسيناء فهي لا تستغني عن جيش كبير يصلح ما عطل
من سكة حديد الحجاز، ويبقى قسم منه في مواضع متفرقة من الطريق لحمايتها،
ويسير قسم منه لإنقاذ حامية المدينة، ثم الزحف منها إلى مكة مع حفظ طرق
مواصلاته من مركز تموينه وإمداده في الشام إلى مكة.
وأما العقل فيقتضي عدم التصدي لقتال الشريف الآن، حتى في حال القدرة
وانتفاء العجز؛ لأن قتاله يُضعِف الدولة في الميادين الأخرى، وربما يستتبع خروج
عرب الجزيرة كلهم أو جلهم عليها، فيتسع الخرق على الراقع والسكوت عنه لا
يضر الدولة الآن، فإن انتهت الحرب بظَفَرها مع أحلافها، أمكنها أن تتصرف في
الحجاز بما تشاء، وإن انكسرت مع أحلافها فلا معنى لاهتمامها بأمر استقلال
الحجاز، يفرق المنتصرون حينئذ شمل وحدتها، ويخشى أن يزيلوا ما كان من
استقلالها، بل المعقول أن يتمنى كل مسلم من تُرك الدولة كعربها أن تسلم بلاد
الحجاز، وسائر بلاد العرب في أيدي الاتحاديين لرجحنا أن العقل يمنعها من قتال
الشريف إن لم يمنعها العجز.
وأما الاتحاديون فقد جعلوا من أصول سياستهم إضعاف العرب حتى لا يكون
لهم حقوق مع الدولة إن بقيت، ولا استعداد للاستقلال بأنفسهم إن سقطت؛ ولسان
حالهم مع العرب في هذه الحالة يقول:
اقتلوني ومالكًا ... واقتلوا مالكًا معي
وقد سمع من أفواههم كثير من طلاب الإصلاح من العرب ما يدل على مثل
هذا من مقاصدهم عندما كانوا يتكلمون معهم في حقوق العرب في الدولة وفي أحوال
أخرى، ألا ترى أنهم اتخذوا حالة الحرب ذريعة لتنفيذ مقاصدهم في العرب؟ فكان
المعقول أن يثبتوا لعرب الولايات صدق وُعودهم بالإصلاح ويفوا لهم بعهودهم التي
عقدوها مع السيد الزهراوي عقب عقد المؤتمر العربي، ويزيدوهم على ذلك من
الإصلاحات الداخلية ما يملكون به قلوبهم كما ملكوا أبدانهم وأموالهم، فاستعملوها
في هذه الحر ب كما شاءوا وفي أمثالنا العربية (عند الشدائد تذهب الأحقاد) ولكن
أمثالها لا تصدق على طباعهم وأخلاقهم، بل تضادها وتناقضها، فالشدائد كانت
عندهم مظهرة للأحقاد في أقبح مظاهرها وأشنع مناظرها، فبعد أن جنّدوا جميع
شبان سورية والعراق وفرقوهم في الميادين البعيدة عن بلادهم كالدردنيل والبلقان
والأناضول.
وبعد أن صادروا الأموال والغلال في تلك البلاد، طفقوا يقتلون أولي العلم
والعرفان وكبار الضباط، وسائر أرباب العقول والأفكار في كل من القطرين)
السوري والعراقي (وينفون الكبراء والأغنياء، ويستولون على ديارهم وأموالهم.
وبعد أن رأوا مأربهم هذا قد تحقق بغير معارضة ولا مقاومة ولَّوْا وجوههم
شَطر الحجاز، لا لأجل الصلاة إلى المسجد الحرام، ولا لأجل الطواف بين الرُّكن
والمقام، فإنهم لم يكونوا من الطائفين ولا المصلين، ولكن ليفعلوا في الحجاز ما
فعلوا في العراق والشام، حتى إذا تم لهم هذا الأرب، أجهزوا على بقية جزيرة
العرب.
ذ - إني أعلم أن السيد سيئ الاعتقاد في دين هؤلاء الاتحاديين، وفي
سياستهم، وقد قرأت كل ما كتبه في السنين الخالية عنهم، ولكنني رأيته قد سكت
عن ذلك الطعن الشديد فيهم بعد حرب البلقان، ثم تنسمت عطفه عليهم من بعض ما
كتبه قبيل دخولهم هذه الحرب وفي أثنائها، وكنت أظن أنه كجمهور المصريين لم
يصدق أخبار المقطم والأهرام، عن فظائع جمال باشا في بلاد الشام، حتى قرأت
المقالة التي نشرتموها في الشهر الماضي، فعلمت أنكم مصدقون لتلك الأخبار،
وتتوقعون أن يكون لها تأثير سيئ في الحجاز، وسائر جزيرة العرب.
د - نعم: إنني تركت تلك الحملات على الاتحاديين بعد حرب البلقان، وفي
أثناء هذه الحرب؛ لأن الحملة عليهم تعد حملة على الدولة، ولا ينبغي ذلك في
أثناء الحرب، وإن كان بِنية صالحة، وبقصد الإصلاح كما بينت ذلك في المقالة
التي نصحت بها بمثل هذا لمسلمي سورية قبيل دخول الدولة في الحرب، ثم إنني
صدقت ما أتوه من التنكيل بالعرب في الشام؛ لأنه ثبت عندي بالتواتر، فكتبت تلك
المقالة، وأطلعت عليها بعض إخواننا قبل أن تجيئنا البرقيات بنبأ استقلال الشريف،
وإن نشرت بعد ذلك، ثم علمت بعد نشرها أن أنور باشا ما زار سورية والحجاز
في أوائل هذا العام إلا ليتولى بنفسه إرسال الجند والسلاح إلى الحجاز للقضاء على
سلطة الشرفاء فيه.
وإن قيل: إنه جاء بصنيعة جمعيته الشريف علي حيدر من الأستانة إلى الشام
أو المدينة ليجعله خلفًا للشريف حسين أو أميرًا للحجاز في المدينة، فإذا هذا الخبر،
فالغرض الصحيح منه أن يضربوا الحديد بالحديد لما في ذلك من المفاسد الكثيرة
التي يطلبونها، فإذا أمكن للشريف حيدر وأخيه الشريف جعفر أن يؤلبا بعض عرب
الحجاز على الشريف حسين بمال الدولة الذي يؤيدان به نفوذهما، سهل على قائد
الجنود التركية بعد إضعاف عرب الحجاز أن يستبد بالنفوذ في الحجاز من غير
خسارة تذكر ولا صيت قبيح ينشر، ثم إنهم بعد الفتك بالشريف حسين، وأولاده
يفتكون بالشريفين حيدر وجعفر، كما فتكوا بصديقي الشريف حيدر (عبد الكريم
قاسم الخليل والسيد الزهراوي) بالمجيء من باريس إلى الأستانة بعد أن أنذر المرة
بعد المرة، بأن في ذهابه إليها خطرًا على حياته، ولم يكن الشريف ضامنًا له الأمن
على حياته فقط، بل كان ضامنًا له الإصلاح الذي وعد به الاتحاديون وأكثر مما
وعدوا، وقد رغب إلي هو وعبد الكريم أن أكتب إلى الشريف حيدر كتاب شكر
لحُسن سعيه في هذا السبيل.
إنني على ما أعلم من سوء نية الاتحاديين، وخبث ما أضمروه للعرب قد
كنت أحسنت الظن بأنور باشا عند ما جاءنا المقطم بخبر زيارته لسورية والمدينة
المنورة، ولعل الأستاذ يتذكر أنني قلت له حينئذ: إن أنور باشا ما جاء سورية
وفلسطين والمدينة إلا ليصلح ما أفسده جمال باشا حتى لا يصل سوء تأثيره إلى
جزيرة العرب، وليستعين بعرب الحجاز وغيرهم على هذه الحرب، فإن أنور باشا
هو الذي تولى في أول هذه الأزمة استمالة عرب الجزيرة بما كتبه إلى أمرائهم
وزعمائهم من المكتوبات العربية المزينة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد
اطلعت على صور بعض هذه المكتوبات العامة والخاصة، ومنها الكتاب الذي حمله
رسول خاص إلى عدوهم الذي لم يعترفوا له بصفة رسمية قط -أعني السيد
الإدريسي - وهو يعظمه فيه ويبجله، ويظهر الثقة به.
ثم علمت في هذه الأيام أنه كان طلب من الشريف أمير مكة المكرمة نجدة
عربية لمساعدة حملة سيناء على مصر، وأن الشريف أرسل الحملة إلى المدينة
المنورة، وهي التي تحاصرها الآن، فإن الشريف لما رأى الجنود التركية ترسل
إلى الحجاز بعشرات الألوف، وتوزع في مدنها وثغورها، وهو يعلم كما نعلم وتعلم
الدولة أن الحجاز ليس عليه أدنى خوف من الدول الأوروبية، فلم يبق لإرسال
الجنود إليه سبب يُعقل -والدولة في أشد الحاجة إلى الجنود - إلا التنكيل بعربه
والفتك بشرفائه إتمامًا لبرنامج جمعية الاتحاد والترقي الذي يعرفه الشريف كما
نعرفه، وقد كانوا حاولوا البدء بالشريف قبل هذه الحرب؛ إذ أرسلوا الضابط
وهيب بك أحد غلاتهم المتحمسين خفية إلى الحجاز، وبعد وصوله إلى مكة أظهر
التقليد الرسمي الذي معه بولاية الحجاز، وقيادة حاميتها، وكان من أمر خذلان
عسكره في التحرش بقتال العرب ومحاولة الفتك بالشريف ما هو مشهور؛ فلهذا
تحولت الحملة الحجازية التي ألفت إجابة لطلب أنور باشا للقتال مع جنوده في
سيناء إلى حملة تحاصر جنوده في المدينة المنورة، وتقاتلهم إذا قاتلوها.
ذ - إذا كان الشريف عالمًا من قبل بما تضمره جمعية الاتحاد والترقي للعرب
عامة، وله ولأهل بيته خاصة، فلماذا كان ينصر الاتحاديين حتى إنه حارب السيد
الإدريسي لأجلهم، وكاد يحارب أمير نجد ابن السعود كذلك.
د - لا أدري متى عرف ذلك معرفة لا تحتمل التأويل، وقد كان أولاً يتأول
للاتحاديين، ويرجو صلاحهم حتى كان بعض رجال النهضة العربي يتهمونه
بمشايعتهم وبكراهة السيد الإدريسي أن يكون ذا سلطة في عسير، وينقل عنه،
وعن أهل بيته أنهم يقولون: إنهم لا يؤيدون الاتحاديين فيما تقوم به جمعيتهم من
الأعمال، وإنما يؤيدون الدولة نفسها فيما تقرره ويرون أن الاعتصام بها، وإن
جارت على العرب، وغيرهم أرجح من مقاومتها، ولو سرًّا لئلا تفضي المقاومة
إلى التفرق الذي يضيع به العرب مع الترك، وإن الطريقة المثلى لتلافي ما يرى
ضارًا من أعمالها، إنما هي طريقة السعي لديها والاجتهاد في إقناعها بضرر الضار
ونفع النافع، وهذا الرأي والمسلك لم يكن مرضيًا عند الأحزاب السياسية العربية
من كل وجه، بل كانوا يرون أنه كان يجب أن يكون الشريف أمير مكة مخلصًا
للدولة ومؤيدًا لها فيما صار في حيز الأمور التنفيذية فقط إلا قتال العرب.
وأما ما لم يصل إلى حيز التنفيذ فينبغي أن يكون حزبه فيه معارضًا لحزب
الاتحاديين بعد ظهور عصبيتهم الجنسية وظلمهم للعرب، ولكن نجله مبعوث مكة
المكرمة كان مع سائر مبعوثي الحجاز من الاتحاديين، وكذلك أخوه الشريف ناصر
العضو في مجلس الأعيان من حزبهم ولم يغن كل هذا شيئًا، ولا صد الاتحاديين
عن محاولة تنفيذ ما كانوا يضمرون للشريف الأكبر وأهل بيته، وإنما يكرهون هذا
الشريف وأولاده؛ لأن لهم من النفوذ في عرب الحجاز ما ليس لغيرهم من الشرفاء.
قلت آنفًا: إننا لا ندري متى عرف الشريف الأكبر حقيقة حالهم، ويئس من
صلاحهم؟ وقد ظهر لنا أنه يئس من بقاء الدولة العثمانية أيضًا، ولعله لولا هذا
اليأس ما نهض بهذا الأمر.
ذ - إن من الناس من يرى أن الدولة ما سلمت من خطر اليأس، وعظم
الرجاء فيها إلا بدخولها في هذه الحرب؛ إذ صارت به ركنًا من أركان أحد
الحِلفين العظيمين الذيْن تتألف منهما الدول الأوروبية الكبرى، ومشايعاتها من الدول
الصغرى، وقد نقل إلينا (المقطم) أن من شروط محالفتها لألمانية أن لا تقبل هذه
صلحًا إلا بشرط حفظ استقلالها، والصلح لا بد فيه من رضاء الفريقين، وإن كان
أحدهما مغلوبًا، فاستقلال الدولة العلية مضمون على كل حال؛ فكيف يعقل أن
ييأس منه الشريف، وهو من أركان الدولة الذين هم أعلم منا بحالها وبشروط
محالفتها التي منها ما ذكر.
د - إذا كان في الناس من يرى أن استقلال الدولة مضمون، وإن غلبت مع
أحلافها في هذه الحرب، وكان أعداؤها هم المقررين لشرط الصلح، فإن في الناس
من يرى أن هذا الاستقلال قد زال بالفعل، وإن انتصر الألمان مع أحلافهم،
وتحكموا في شروط الصلح، أما بقاء استقلال الدولة بعد انكسارها وانكسار أحلافها
فغير معقول، وأما الرأي الذي يقابله في الغرابة، وهو زوال استقلالها في حال
انتصارها وانتصارهم، فلأصحابه وجه جدير بالتأمل، وهو أن الدولة قد غرقت
في بحر لجِّيّ من الديون، وخسرت أكثر الشبان العاملين في المملكة، وأفقرت
الأمة كلها بمصادرة أموالها واستنزافها بأسماء متعددة، وكان عجز ميزانيتها قبل
حرب البلقان، وهذه الحرب اللتين أفقرتاها وأفقرتا أمتها يسد باقتراض الملايين في
كل عام؛ وقد زادت ديونها الآن زيادة كبيرة حتى صار ربا الديون يستغرق معظم
الميزانية، التي لا بد أن تنقص عما كانت نقصًا فاحشًا.
ومن البديهي أنها لا تجد بعد الحرب من يُقرضها كما كانت تجد قبلها؛ وليس
أمامها من الأمم الغنية إلا الأمة الألمانية، وقد ذهبت قروض الحرب لدولتها ودول
أحلافها بمعظم ثروتها، فلن تُقرَض دولة وصلت ماليتها إلى حد الإفلاس ما تلم به
شعثها إلا إذا جعلت مالية الدولة، وجميع موارد الثروة في المملكة تحت تصرف
دولتها، يديرها الألمان الماليون والفنيون.
فإذا تدبرنا هذا وعلمنا أيضًا أن الدولة قد جعلت حربيتها وبحريتها في أيدي
الألمان، وجعلت تعلم لغتهم إجباريًّا في جميع مدارس المملكة الأميرية وغيرها،
وتذكرنا أن الألمان يملكون عشرين كيلو مترًا على جانبي سكة حديد بغداد في خط
يمتد من ضفاف البوسفور إلى بغداد، فأي استقلال يكون للدولة بعد قبض الألمان
على إدارة المالية والحربية، والمعادن والمناجم مع امتلاك هذه الأراضي الواسعة
التي تضاهي مساحة مملكتهم؟
كان لبعض الألمان المقيمين في بلجيكا قبل الحرب ملعب أو ملاعب للكرة
يلعب فيها أهل البيت والعيال، فلما اقتحم الجند الألماني بلاد البلجيك المضمون
استقلالها منهم، ومن سائر الدول الكبرى ظهر أن ملعب الكرة إنما بُني بطريقة فنية
هندسية، ليكون مركزًا للمدافع الضخمة المكتوم خبرها عن غير أركان الحرب من
الألمانيين، وأن المسافة بين الملعب، وبين الحصون البلجيكية هي مسافة مرمى
تلك المدافع التي دَمرت تلك الحصون.
فإذا كنا قد استفدنا من عبر هذه الحرب أن ملعب الكرة لعيال ألماني في زمن
السلم كان خطرًا على الدولة التي ملك الألماني في بلادها ذلك الملعب مع أن دولته
ضامنة لاستقلالها، فهل نتصور أن تسلم من الخطر دولة يملك الألمان التصرف في
جميع قواها المالية والحربية والعلمية والفنية، ويملكون في قلب مملكتها تلك الألوف
من الأميال، التي هي محل العمران المنتظر فيها؟
ولدينا عبرة أكبر من هذه العبرة، وهي ما نقله إلينا (المقتطف) في جزء
مارس من هذه السنة من مقالة للكونتس ورك (الأميرة الإنكليزية) عنوانها (ملك
الإنكليز وإمبراطور الألمان) قالت فيها عن الملك إدوارد ما نصه:
(وزارني مرة قبل وفاته بثلاثة أشهر لتناول الشاي عندي؛ وتكلم عن
الإدارة الألمانية، فقال: (لو كانت بلادنا تدار كما تدار ألمانية لاستفدنا فائدة كبيرة،
ويا حبذا لو حَكَمَنَا الألمان المدة الكافية لإصلاح إدارتنا) ، قال ذلك وصمت قليلاً،
ثم قال وهو يضحك: (ولكن المصيبة أنهم إذا أتوا ليحكمونا تعذر علينا الخلاص
منهم) وهذا آخر حديث جرى لي معه؛ لأني لم أره بعد ذلك) اهـ واستدلت
الأميرة بهذا الحديث على أن الملك لم يكن يضمر العداء لألمانية. وإثبات هذه
القضية هو الذي كتبت لأجله المقالة.
فإذا كان هذا الملك السياسي العظيم، يقول: إن دولته التي هي أعز الدول
وأعظمها دعاءً وتدبيرًا، يتعذر عليها الخلاص من الألمان إذا دخلوا عاصمتها
لتنظيم الإدارة، وهي في جزيرة يحميها أقوى أسطول عرفته البحار منذ خلقها الله -
تعالى -، فهل يتيسر للدولة العثمانية الضعيفة الخلاص منهم بعدما ذكرنا من
تصرفهم المنتظر بعد الحرب إن كان لهم الظفر، وما تصرفهم فيها الآن بقليل؟
هذا وإن علة الحرب الحقيقية هي التنازع الاستعماري، ولم يبق للبلاد القابلة
للاستعمار ما يُشبع مطامع ألمانيا، ويتسع مجاله لشعبها الكثير، وفنونها وصناعاتها
إلا البلاد العثمانية، وقد كانت دول الأحلاف تعارضها في استعمارها الاقتصادي مع
إبقاء الدولة العثمانية على استقلالها السياسي الصوري، فإذا انتصرت في هذه
الحرب لم يبق لها معارض من الترك ولا من الأوربيين.
ذ- والله إن هذا الكلام معقول في نفسه، ولكن لا يعقل أن يجهله الاتحاديون،
فكيف رضوا إذًا بموالاة الألمان؟ أيعقل أن يكون في يد أناس ملك عظيم فيبذلوا
دماءهم وأموالهم لأجل إضاعته؟
د- لو كان رجال البيت السلطاني، وكبراء علماء الدولة وسرواتها من قدماء
الوزراء والأعيان، هم الذين قرروا بالتشاور بينهم القتال مع ألمانية وتحكيمها في
الدولة لكان هذا السؤال أكثر اتجاهًا، والجواب عنه متعسرًا ولا أقول متعذرًا. أما
وزعماء الاتحاديين هم القائمون بذلك، وهم أوثاب لا تُعرف لغير الإسرائيلي
الأصل منهم أنساب، وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاستبداد بهذا الملك بمساعدة
اليهود الجرمانيين - فالجواب سهل، وللناس فيهم رأيان يؤخذ من كل منهما
جواب.
***
سبب تسليم الاتحاديين الدولة للألمان
(الرأي الأول) : رأي سمع كثيرًا من خصومهم، وهو أنهم جماعة من
طلاب المال والثروة، علَّمهم أعلم البشر بطرق تحصيلها -وهم اليهود- كيف
يكونون من أغنى أهل العصر بسلب ثروة هذه الدولة، ثم ببيعها لدولة الألمان
الغنية؟ ويستشهد أصحاب هذا الرأي على صحته بأنهم لو كانوا يريدون بقاء
الدولة وتعزيزها، لبدءوا علمهم فيها بوضع ماليتها على أساس ثابت، يكثر به
الدخل، ويقل الخرج، ولو أرادوا ذلك لكانوا أقدر الناس عليه بمساعدة أساتذتهم
وإخوانهم من اليهود الأصليين والدونمة (الذين منهم جاويد بك الذي جعلوه ناظر
المالية، وفوضوا إليه عقد القروض) ولكنهم اغتنموا فرصة ما سموه (حركة
الارتجاع) فعزلوا السلطان عبد الحميد ونهبوا من أمواله وجواهره وتحفه ما
تقدر قيمته بالملايين الكثيرة، وقد حدثني الثقات من أهل الأستانة، أنهم كانوا
يدخلون قصر (يلدز) فيملئون جيوبهم من تحفه المرصعة بالجواهر، حتى إن
بعض ضباطهم رئي بعد امتلاء جيوبه يضع العلب والمسدسات المرصعة،
وأمثالها في حذائه الطويل (جزمة السواري) ثم اغتنموا فرصة وصول جيش
البلغار إلى شطاجة فسلبوا ما هو أعظم من ذلك من جواهر ملوك آل عثمان وتحفهم
المحفوظة في قصر قسطنطين إذ زعموا أنهم إنما يريدون إخراجها من مأمنها،
وإرسالها إلى الأناضول لئلا يدخل البلغار الأستانة فيغتنموها، وقد عقدوا القروض
بعشرات الملايين، ولهم من كل قرض سمسرة مشهور أمرها، وكثر الكلام في
الأستانة فيها، ثم إن ما يصل إلى الخزينة منها يتصرفون فيه بضروب من
التصرف منها النفقات السريعة التي لا تذكر في الميزانية، وأعظمها ما يخصص
للحربية والداخلية، وهم يشترون السلاح والذخائر والثياب والأحذية للعسكر بثمن،
ويقيدونه في دفاتر الحربية بثمن آخر فيربحون من ذلك مبالغ كبيرة.
والدليل على هذا أنهم أنفقوا في نِظارة الحربية خمسين مليونًا من الجنيهات
قبل حرب البلقان، ثم كان أهم أسباب انكسار جيش الدولة في البلقان قلة الذخائر،
وقلة الطعام وسائر ما يتوقف عليه القتال. وقد أذكرتنا مصادرتهم للأمة في هذه
الأيام بما كانوا يصادرون به الأغنياء منذ صار أمر الدولة في أيديهم - إذ كانوا
يهددون كل غني بالانتقام منه؛ لأنه من الحزب الحميدي الارتجاعي - إلا أن يفتدي
نفسه بما يناسب مقدار ثروته (فأخذوا من علي رضا باشا الذي كان ناظر الحربية
في العهد الحميدي مئتي ألف ليرة، ومن زهدي باشا 30 أو 40 ألف ليرة وعلى
ذلك فَقِسْ) ثم إنهم فوضوا على كل من دخل جمعيتهم دفع اثنين في المئة من جميع
دخله، وذلك فوق ما فرضه الله من الزكاة على الأغنياء فيما فضل عن نفقاتهم،
وبلغ النصاب وحال عليه الحول.
نعم: إن الألوف من الذين انتسبوا إلى الجمعية، كانوا يكتمون عنهم ما يمكن
كتمانه من دخلهم، ومما لا يمكن كتمان شيء منه، رواتب موظفي الحكومة، وقد
دخل كلهم أو جلهم في الجمعية، وقد باعوا البوسنة والهرسك وطرابلس الغرب
بعدة ملايين.
فالذين يعرفون سيرتهم هذه بالتفصيل يعتقدون أن زعماء الجمعية، لا هَمَّ لهم
من حياتهم إلا جمع الثروة، وهم لا يضمنون بقاء الدولة لهم ولذريتهم من بعدهم؛
فلذلك باعوها للألمان بهذه الصفة التي استعملوا فيها جميع قوى الدولة في قتال
أعدائهم، وستكون كذلك في أيدي الألمان إن انتصروا يستعملون نفوذ الاتحاديين،
وقوتهم على السلطان ودولته في استعمار المملكة العثمانية، ويؤيدون الاتحاديين
على خصومهم السياسيين من الترك والعرب إلى أن تنشب براثنهم في كل شيء،
ويستغنون عن الاستفادة من اسم الدولة ونفوذها الديني، ويأمنون معارضة الدولة
فيصرحون بإزالة هذا الاستقلال الصوري الخادع.
(الرأي الثاني) : رأي أصدقاء الاتحاديين - وهو مبني على رواية لا يكاد
يعرفها إلا قليل منهم، سيذكرها في بيان هذا الرأي - وهو أنهم لم يبيعوا المملكة
بيعًا، ولم يفرطوا بشيء من حقوقها، وكل ما أخذوه من الأموال للجمعية، قصدوا
به أن تكون الجمعية غنية؛ لتتمكن بقوة الثروة من الفوز على خصومها من رجال
العهد القديم المحافظين على التقاليد العتيقة المنافية لما يريدون من التجديد المدني
للدولة والأمة، وخصومها من الأحزاب السياسية المخالفة لها في مذهبها السياسي
والاجتماعي، كتتريك العناصر وغير ذلك، وأما ما أعطي لبعض زعماء الجمعية
كالدكتور ناظم وأحمد رضا فهو تعويض عما خسروا في سبيل الجمعية، وما عدا
ذلك، كسمسرة القروض والامتيازات فهو قانوني.
ولما رأوا أن الدولة ضعيفة فقيرة لا يُرجى أن تنهض بنفسها، والأمة التركية
جاهلة متعصبة للقديم، ولا سيما إذا كان من أمر الدين فلا يُرجى أن يكون نهوض
الدولة من قبلها، ولا يمكن ترقيتها هي أيضًا من قِبل الدولة، والدولة كلها
على هذه الحالة - لما رأوا أن الدولة والأمة - كما ذكر - جزموا بأن العلاج الوحيد
للدولة التركية، والأمة التركية هو أن تتولى دولة أوروبية قوية تنظيم الدولة وترقية
الأمة وجعلها كالدول الأوروبية والأمم الأوروبية من كل وجه، ولم يجدوا دولة من
الدول العظمى، ترضى بأن تقوم بهذه الخدمة للترك إلا ألمانية - وهي أرقاهن علمًا
وقوة عسكرية - فمازالوا يخطبون ودها حتى عقدوا معها اتفاقًا سريعًا قبل هذه
الحرب بسنين على تكوين دولة تركية جديدة على طراز الحكومات، وغيرها مما لم
نعلم تفصيله، وإنما نعلم منه بالإجمال أن الترك يكونون من الألمان بمنزله أبناء
عمهم المجر من النمسا ولذلك تُكثر جرائدهم من المقابلة بين الترك والمجر،
وتتساءل عما قدم أولئك وأخّرهم، وهم من أصل واحد!
ومن المعلوم بالبداهة أن مثل هذا الإنفاق لا يمكن تنفيذه بصفة رسمية إلا إذا
صدق عليه مجلس الأمة من المبعوثين والأعيان، وأن الاتحاديين ما كانوا يتجرءون
على عرضه على المجلس، خوفًا من انتقاض أكثر أفراد حزبهم عليهم،
وانضمامهم إلى الأحزاب المعارضة، وبذلك يقضى عليهم قضاء لا مرد له، فكانوا
يمهدون السبيل إلى جعل مثل هذا رسميًّا بأعمال كثيرة لا تتم عادة إلا في سنين
كثيرة؛ لأن السواد الأعظم من الأمة يراه خطرًا بل قضاءً على استقلال الدولة،
وعلى دين الأمة، وقد كان المعارضون في المجلس أقوياء، ومعظم الأمة على
مذهبهم؛ ولذلك أسقطوا الاتحاديين وانتزعوا منهم السلطة، ولكن حزب الحرية
والائتلاف الذي انتزعها لم يتول أمرها، ولا تيسر له أن يكفل وزارتي الشيخين
مختار باشا وكامل باشا، فلذلك تيسر للاتحاديين بقوة ثروتهم وتكافلهم، ومساعدة
اليهود وألمانيا لهم أن يعودوا إلى انتزاع السلطة من وزارة كامل؛ ومن الغريب أن
إنكلترا وروسيا وفرنسا المعارضات لسياسة ألمانية في الدولة لم ينصرن الأحزاب
المعارضة للاتحاديين، ولا وزارتي مختار باشا، وكامل باشا، فكان هذا ضعفًا
منهن من حيث هو رجحان للسياسة الألمانية في الدولة، وقد كان الميالون إلى
تفضيل مودة إنكلترا، ومن عساه يكون معها من الدول على مودة ألمانيا وأحلافها
أكثر عددًا وأرسخ في الدولة قدمًا، ولكنهم خذلوا بخذل الدول التي يميلون إليها
للدولة في حرب البلقان.
والكلام في إيضاح هذا الرأي وتفصيل المسائل التي تتعلق به يطول فنكتفي
منه بما لا نخرج به من موضوعنا، وملخصه أن الاتحاديين متفقون مع الألمان من
قبل هذه الحرب بسنين على وضع زمام الدولة بأيديهم ليرقوها بعلومهم وفنونهم
العسكرية وغيرها، فكانت هذه الحرب وسيلة لتنفيذ ذلك الاتفاق السري الذي كان
يُظن أنه لا يمكن تنفيذه إلا بعد تمهيد السنين الطوال كما قلنا آنفًا. وإنني قد سمعت
خبر هذا الاتفاق السري في الأستانة؛ إذ كنت فيها سنة 1328 ممن يظن اطلاعهم
على مثل ذلك وهم قليل، والمخالفون منهم للاتحاديين كانوا يظنون أن تنفيذه
مستحيل؛ ولهذا كنت جازمًا عند وقوع الحرب بأن الدولة ستدخل فيها قطعًا؛ إذ
كان سفير الإنكليز في الأستانة ورجال حكومتهم في لندن يظنون أن بين زعماء
الاتحاديين خلافًا في ذلك، وأن بعضهم يميل إليهم وإلى أحلافهم، كما علمنا ذلك من
الكتاب الأبيض بعد فكان خداعهم للأحلاف في هذه الحال وخداعهم لفرنسا قبله؛ إذ
أقرضتهم عشرات الملايين مما يفخرون به، وما هم في هذا الفخر بملومين.
***
مكان زعماء الاتحاديين من الدين
ذ- يظهر أن زعماء الاتحاديين قد أوتوا حظًّا عظيمًا من الذكاء فكيف خفي
عنهم ما قررت من الخطر على الدولة في تسليم أزمَّة أمورها للألمان؟ وكيف خفي
عنهم الفرق بين الترك والمجر، حتى ظنوا أنهم يمكن أن يكونوا من الألمان بمنزلة
المَجريِّين من النمسا؟ ألم يعلموا أن المجر يشاركون النمساويين بأعظم المقومات
الاجتماعية، وهو الدين؟ فلا يمكن أن يكون الترك المتعصبون في الإسلام الذين
تمثل دولتهم الخلافة الإسلامية متحدين بالألمان المتعصبين في دينهم المجدين في
تنصير المسلمين في مستعمراتهم الإفريقية، ومنع انتشار الإسلام فيها كما علم ذلك
من الأوراق التي اكتشفها الإنكليز هذا العام في تواصي الحكام الألمان بذلك؛ وقد
تذكرت بها كلامًا لقيصر الألمان في هذا المعنى، نشرته الجرائد منذ سنين أظن أنه
في الحث على اتفاق مبشري الألمان البروتستنت مع الكاثوليك على تنصير
المسلمين [1] .
د- اعلم أيها الأستاذ أن زعماء الاتحاديين الذين كلامنا فيهم ملاحدة لا يدينون
دين الإسلام ولا غيره، وهذا ثابت من أقوالهم وأفعالهم يعرفه جماهير العلماء
والكبراء في الأستانة وغيرها، وجميع السياسيين في أوروبا، وهم يتمنون خروج
الشعب التركي من الإسلام، ولو بالتدريج الممكن إلى الوثنية بشرط أن يبقى تركيًّا؛
لأنهم يظنون أن الإسلام هو العلة المانعة من مساواته للشعب المجري وغيره من
الشعوب الأوروبية. ويشاركهم في هذا الرأي غيرهم من ملاحدة الترك.
ولما كنت في الأستانة نشرت جريدة (إقدام) الشهيرة -وكانت معارضة
للاتحاديين- مقالة في المقابلة بين الترك والمجر، وتساءلت عن سبب ما بينهما من
الفرق في العلم والمدنية مع الاتفاق في النسب، ورغَّبت الترك في التشبه بالمجر،
وسلوك طريقتهم والاتحاد بهم.. وقد رغبت يومئذ إلى السيد الزهراوي - رحمه الله
تعالى - في كتابة ردّ عليها يقال فيه: إن أعظم الفروق بينهما الدين واللغة، فهل
تنصح الترك بأن يتركوهما معًا ليكونوا كالمجر في كل شيء أو يتركوا الدين
الإسلامي أو اللغة التركية لأجل ذلك؟
فقال: إن الحكومة لا ترضى بنشر مثل هذا. وكان الاتحاديون يتقربون إلى
الأوربيين بالإلحاد وبمكاشفتهم باعتقادهم، أن البقاء على الإسلام مانع من ترقي
الترك. واجتهدوا في استمالة نصارى السوريين إليهم بهذا وبإيهامهم أن العرب
المسلمين لن يتفقوا معهم لتعصبهم الديني.
أما مذهب الاتحاديين السياسي فهو إنشاء دولة تركية محضة متحدة بالتحالف
الجرماني، وأن الترك لا يمكن أن يندغموا في الجرمان بسبب هذا الاتحاد بحيث
يفنون فيهم، لأن المحافظة على اللغة التركية تمنع من فناء الشعب التركي المؤلَّف
من عشرات الملايين في الشعب الألماني أو غيره.
ذ- أين عشرات الملايين من الترك والمشهور أنهم لا يكادون يبلغون في
الدولة ستة ملايين؟
د- إنهم يعدون مسلمي القوقاز وتركستان منهم، ويظنون أنهم سيأخذون هذه
البلاد بقوة ألمانية، وأنهم لا بد أن يكرهوا جميع الشعوب العثمانية على ترك لغاتهم
إلى اللغة التركية حتى العرب، وبذلك يكون لهم إمبراطورية كبيرة منظمة على
النمط الألماني، ومن أمانيهم في هذا الخيال أن يملكوا مع الألمان الشرق كله أو
العالم كله. وأما الخلافة الإسلامية فيستخدمون نفوذها الديني في سياستهم وحروبهم
إلى أن يتم لهم إفناء الأمة العربية وتكثير النابتة التركية التي يربونها على الإلحاد
وتحريف الإسلام عن أصله بجعل القرآن تركيًّا وتفسيره بمثل ما رأيناه في كتاب
(قوم جديد) وغيره من كتبهم، ويستغنوا عن مخادعة المسلمين والاستفادة منهم باسم
الخلافة والإسلام، فعند ذلك ينبذونها نبذ النواة، ويجعلون يوم إلغائها عيدًا من
الأعياد، فحاجتهم إليها مؤقتة كحاجة أحد ظرفاء السوريين إلى البرنيطة.
ذ- بعيشك فَكِّهْنَا بخبر برنيطة هذا السوري الظريف، لعله يدفع عني الرعب
الذي كاد يساورني من تصور هذا الخيال التركي الاتحادي الغريب.
د- هو الدكتور.. قال: إنه يلبس البرنيطة، لأنها تزيد في ربحه، وفي
احترامه، كما ثبت له ذلك بالتجربة، وإنه يتمنى أن يستغني عنها، وقد وعد
أصدقاءه بأن يدعوهم عندما يثبت عنده ذلك الاستغناء إلى احتفال عظيم حتى إذا ما
انتظم عقد اجتماعهم يوقد نارًا يحرق بها البرنيطة أمامهم ويرثيها بأحسن مما رثى
به الفارياق حماره، ويسمى ذلك الاحتفال احتفال إحراق البرنيطة.
ذ- أود أن تخبرني ببعض ما لديك من الدلائل التي لا تحتمل التأويل على
كفر زعماء الاتحاد، فإن بعض ما يدل على ذلك قد يحتمل التأويل، وهذه مسألة لا
يجوز الأخذ فيها إلا باليقين.
د- إن ما عندي في ذلك كثير جدًّا، إذا أردت بسطه ودفع ما يمكن أن يورد
عليه من الشبهات فلا يتم لي ذلك إلا بتأليف سِفْر كبير.
وإذا أردت أن أحصي في هذا الباب جميع ما أعلم من أقوالهم وأفعالهم للدين،
وما نشروه في كتبهم الجديدة وصحفهم من العبارات المنفِّرة عن الإسلام أو الدالة
على مذهبهم السياسي الذي ذكرته آنفًا - فلا بد لي من تأليف عدة أسفار، ولا بد أن
تكون قد قرأت ما ترجمناه من كتاب (قوم جديد) في - ص539-544 م17 -
سنة 1322 من المنار [2] ورأيت كيف حرَّف فيه القرآن، وجعل القيام والصلاة
والحج والزكاة، والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة، هو دين قدماء المسلمين الذين
يعبر عنهم بكلمة (قوم عتيق) ، وصرح بعدم جواز العمل بتلك الكتب، وعلل ذلك
بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وبين في مقابل ذلك أركان دين (قوم جديد) وهي
العقل وكلمة الشهادة والأخلاق الحسنة والجهاد مالاً وبدنًا والسعي لإعداد لوازم
الحرب بالاتحاد تحت راية الخلافة الإسلامية العثمانية.
وصرح بكفر جميع المسلمين من رعايا دول النصارى، والذين تحت حمايتهم،
وبأن المسلمين الحقيقيين هم الذين حاربوا في البلقان (تحت إمرة أنور ورضا
وأسعد وجاويد ورءوف - صلى الله تعالى عليهم - وبقية رجال جمعية الاتحاد
والترقي المقدسة) ثم صرح بأن عدد الذين ينتمون إلى الجمعية في حرب البلقان لا
يتجاوز مئة ألف، وهم المسلمون الحقيقيون.
قال (أما الباقون فكانوا من المرتدين المنتمين إلى الائتلاف) أي: حزب
الحرية والائتلاف (والبطر كخانات، وهو بفضل أنور وطلعت وجمال وغيرهم
من زعماء الجمعية على الخلفاء الراشدين، وجميع الأئمة والأولياء الصالحين، بل
هو يقدس جميع الترك التابعين لهؤلاء الزعماء بمثل ما تراه في تلك النبذة المترجمة
منه (ص 54 م17) فإنه بعد مخاطبته للترك بأن الله قدمهم، وبأن تعظيمهم لخلفاء
العرب، ووضع أسمائهم في المساجد يعد إذلالاً لخلفاء الترك) الذين قدستهم
الأحاديث النبوية - بزعمه -، وبعد إنكاره عليهم تعظيم الأولياء من العرب
كالجيلاني، والبدوي وغشهم للترك بأنه سيخرج من العرب مهدي.
بعد تفصيل هذا، وزعمه أنه تحقير للترك قال (أما سمعتم الآية
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} (العاديات: 1) فإن الله قدس بهذه الآية الجيوش التركية،
فخيل هذه الجيوش هي أشرف وأقدس أضعافًا مضاعفة من شرافة وقداسة رؤساء
وأشراف الشعوب الأخرى الذين تقدسونهم وتحترمونهم) اهـ وليس هنالك الذين
ذكر أنهم يعلقون أسماءهم في المساجد وهم: النبي - صلى الله عليه وسلم -
والخلفاء الراشدون. الأربعة والحسن - رضوان الله عليهم-.
وقد جعل الاتحاديون عبيد الله أفندي مؤلف هذا الكتاب مدرسًا في جامع آيا
صوفية لينشر هذه الأفكار في شهر رمضان، وجعلوا حوله الجلاوزة والشُّرَطَة
(البوليس والضابطة) يحمونه من اعتداء المسلمين عليه، ولكن من يطعن في
جمعيتهم أو بعض زعمائهم فلا جزاء لهم إلا القتل اغتيالاً، أو صبرًا أو بمحاكمة
قضائية أو عُرفية.
ذ- إن مؤلف هذا الكتاب مجنون أو معتوه، وتحريفه للقرآن أشد تشويهًا
وأظهر بطلانًا من تحريف الباطنية، فكيف يظن هو وزعماء الاتحاديين أن مسلمي
الأتراك يتلقونه بالقبول فيؤثر في نفوسهم؟
د- حقًّا إن هذا الرجل يكاد يكون مجنونًا، ويحتمل أن يكون سبب غلوه هذا
عن خبث ودهاء، والذي يظهر لي أن لهم في مثله غرضين (أحدهما) فتح باب
الجرأة للملاحدة الترك على التصريح بالكفر قولاً وكتابة، ليكون مجال القول عندهم
واسعًا في الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الخلفاء الراشدين، وأئمة
آل البيت النبوي، وأئمة الفقه والصوفية، ولهم كُتّاب آخرون سلكوا غير هذه
الطريقة في هذا الباب، كالدكتور عبد الله بك جودت صاحب مجلة (اجتهاد)
التركية، وأحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي الأولى، فإنه يترجم بالتركية
مطاعن (كايتاني) المؤرخ الإيطالي في النبي - صلى الله عليه وسلم - ونشر
كتابه في هذه السيرة التي شوه جمالها، وانتقص كمالها ببهتانه وسوء تأويله، فكان
له رواج وتأثير قبيح عند طلبة مدرسة الطب وغيرهم في الأستانة.
(والغرض الثاني) نشر ذلك بين عوام الترك الذين لا يعرفون من الإسلام
إلا اسمه؛ لعلمهم بأنهم يقبلون كل كلام يقرأ عليهم في كتاب، وتؤيد فيه المسائل بما
يسند إلى الله ورسوله من الآيات والأحاديث مهما تكن محرمة والكلام في هذه
المسألة يطول، فأكتفي منه في هذا المجلس الذي طال عليك بروايتين من علماء
الأستانة، وبعض القضاة الاتحاديين.
(الرواية الأولى) كان إسماعيل حقي المناسترلي - رحمه الله تعالى - من
أشهر علماء الترك في الأستانة في دار الفنون (المدرسة الجامعة التركية) وهو
الذي صلى بالسلطان محمد رشاد إمامًا للجمعية في (قصره) عند زيارته لها،
وكان استماله الاتحاديون بعد الدستور بجعله عضوًا في مجلس الأعيان، وجعل ولده
كاتب السر لطلعت بك، فكان جمهور علماء الأستانة يصفونه بالنفاق بدعوى أنه
مال إلى الاتحاديين، وأنه لا ينكر عليهم، فيظن العوام أنه راضٍ عنهم، ولكن هذا
الشيخ الكبير لما عرفني حق المعرفة، ووثق بي كان لا يعبر عن الاتحاديين في
الحديث معي بداره إلا بلقب (الملاحدة) .
وقد سألني عن رأيي في فطين أفندي: أمسلم هو أم زنديق ملحد؟ فقلت: ما
الذي أثار هذه الشُّبهة في نفسك حتى شككت في إيمان رجل من أهل العلم؟ قال: يا
سيدي يظهر لنا أن الجمعية تثق به ثقة تامة. فهذا العالم الجليل المختبر لهم حق
الاختبار كان يعتقد أنهم لا يثقون ثقة تامة بمؤمن مسلم، فصار مديرًا للمرصد
الفلكي الذي أنشئ في ضواحي الأستانة وهو ذو همة ونشاط.
وظني فيه أنه كان يريد استخدام نفوذ الجمعية لبعض المقاصد التي يراها نافعة
فيخدمها لهذا خدمًا نافعة، ويتوهم أنه قد يقوّم بعض اعوجاجها كما يعلم من
الواقعة التي أقصها عليك:
لقيت فطين أفندي مرة يتكلم مع (الدكتور ناظم) المرخص المسئول للجمعية،
وأعظم رجالها نفوذًا فيها، فلما أقبلت عليهما. قال الدكتور: هذا فلان يحكم بيننا،
ثم قص علي أنه اختلف مع الدكتور في مسألة مهمة قال: الدكتور يقول: إنه
يستحيل علينا الترقي المطلوب إلا إذا نبذنا كل قديم، واتبعنا خطوات فرنسة (؟)
في تجديد شباب الدولة والملة 0 أي: الأمة) وأنا أقول: إننا محتاجون إلى اقتباس
الفنون عن الأوروبيين عامة، لا من فرنسا خاصة؛ لأجل ترقية صناعتنا وحربيتنا
وماليتنا، وأما الأمور المعنوية كالآداب والفضائل والشرائع، فإننا نقتبسها من ديننا وما عندنا فيه أكمل مما عند غيرنا، وهو خير لنا.
ولكن الدكتور قال: إن هذا كله قد صار رثًّا باليًا لا ينفع فلا بد من التجديد
في كل شيء، هذا ملخص حديثهما، ولا حاجة إلى بيان ما أيدت به رأي فطين
أفندي، بل أقول لك: إنني أكبرته من ذلك اليوم، ولكن العبرة في شك الشيخ
إسماعيل حتى في عقيدته؛ لأنه رأى أن زعماء الجمعية يثقون به وإن لم يعرف
درجة هذه الثقة، وقد عرفت رأي جمهور علماء الأستانة في إسماعيل حقي هذا،
وكذلك رأيت كثيرًا من المتدينين يعتقدون أن زعماء الجمعية كلهم ملاحدة، لا دين
لهم، ومن هؤلاء كثيرون كانوا محافظين على الانتساب إلى الجمعية، يرون أن في
هذا خيرًا لهم أو مصلحة للدولة والأمة، ومنهم ألوف تركوها إلى حزب الحرية
والائتلاف.
(الرواية الثانية) لما جئت بيروت عائدًا من الهند إلى مصر من طريق
العراق، وسوريا زارني قاض من قضاة الترك الأهليين ببيروت اسمه (شوكت
بك) كان كثير اللهج بالجامعة الإسلامية، وإيهام مسلمي بيروت وغيرهم أن
الاتحاديين يرمون بسياستهم إلى هذه الجامعة، وكان ذلك في عهد وزارة مختار باشا،
والناس يجاهرون بلعن الاتحاديين، ولا سبيل إلى استمالتهم إليهم إلا بإيهامهم أنهم
يخدعون الإسلام ويجتهدون في جمع كلمة أهله، فكان أول حديث شوكت بك معي -
بعد مجاملة السلام - السؤال عن مسلمي الهند، وإظهار الاهتمام بشأنهم.
وانتقل من ذلك إلى مسألة الجامعة الإسلامية، وما يزعمه من ميل الاتحاديين
إليها، فقلت له: إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان الاتحاديون أنفسهم ملاحدة غير
مسلمين إلا في الاسم فقط، فكيف يقومون بهذه الخدمة في الإسلام؟
قال: إن الحكم عليهم جميعهم بالإلحاد فيه مبالغة، ولعل الملحدين منهم لا
يزيدون على ثلاثين في المائة. قلت: الظاهر أنك أسوأ ظنًا مني فيهم، فأنا أعني
بمن حكمت عليهم بالإلحاد زعماءهم لا جميع من انتمى إلى الجمعية، فإن لي
أصدقاء كثيرين ممن دخلوا في هذه الجمعية لا ريب عندي في إسلامهم ولا في
صلاحهم، منهم من تركها بعد العلم بحقيقة حالها ومنهم من يرى من المصلحة
العامة أو الخاصة بقاءه فيها. وقد صرح لي بذلك كثير منهم. وذكرت له أنني
اختبرت أكبر أولئك الزعماء بنفسي في الأستانة، ووقفت على ما كان من اختبار
أصدقائهم وغير أصدقائهم لهم، وذكرت له رأي الزعيم الأكبر الدكتور ناظم الذي
ذكرته في الرواية الأولى، قال: نعم؛ إن الزعماء لا دين لهم (دين سر) ولكن
مسألة الجامعة الإسلامية تفيد الدولة فائدة سياسية عظيمة، فهم لذلك يهتمون بأمرها
قلت: إنني أعلم أنهم يشتغلون بتأسيس جامعة تركية لا إسلامية عامة، وقد بثوا
دعاتهم لهذه الجامعة في القوقاز وتركستان.
ولو كانوا يريدون الجامعة الإسلامية لاهتموا بتعليم اللغة العربية ونشرها،
ولكنهم يجتهدون على إماتتها، وكيف يتعارف المسلمون بغير لغة يتفاهمون بها.
إنني طفت كثيرًا من ممالك الهند فلم أدخل بلدًا منها إلا ووجدت فيه كثيرين يتكلمون
معي بالعربية، ولا يكاد يوجد فيها أحد يعرف التركية، ولا توجد داعية تحفِّزهم
لتعلمها، وأما اللغة العربية فداعية تعلُّمها الدين، وهي تزداد في هذه الأيام انتشارًا
في الهند وجاوه ... إلخ.
***
خلاصة المحاورة، وفصل الخطاب فيها
ذ- لقد أطلت عليك، وأخذت حظًّا عظيمًا من وقتك، وقد اقتنعت مما سمعت
منك بأن هؤلاء الاتحاديين ملاحدة لا يدينون بدين، وأنهم مقهورون يسول لهم
الغرور أنهم يستطيعون أن يهدموا بناء هذه الدولة وهذه الأمة، ثم يبنونهما بناء آخر
زينه لهم اليهود، ووضع رسمه لهم الألمان، وأن ذلك يتم لهم في سنين معدودة،
ولذلك لم يسلكوا طريقة التدريج التي مضت بها سنة الله في خلق الأرض
والسماوات؛ وأحب أن تلخص لي كلامك بجمل مختصرة.
د - (1) إن الشريف أمير مكة المكرمة يعتقد أن الاتحاديين ملاحدة يكيدون
للدين الإسلامي على ما لهم فيه من المنافع السياسية والمالية، فمثلهم كمثل المعتصم
في حصن لعدو له، وهو يرى أنه لا بد له من تركه ويخشى أن يصير إلى عدوه،
فهو على انتفاعه ببنائه وبما فيها من الخبرات يضع الألغام تحته لينسفه عند إرادة
تركه.
(2) إنه يعلم أيضًا أنهم أشد الناس عداوة للعرب، وأن بغضهم لهم أشد من
بغضهم للروم والأرمن لسببين، أحدهما: أنهم أعظم أركان الإسلام وأنصاره،
وثانيهما: أنهم أكبر الشعوب العثمانية وأكثر عددًا، وأنه قد وجد في بلادهم
الحضرية كثير من أصحاب المعارف العصرية والأفكار النيرة، وما زالت بواديهم
والبلاد التي هي أقرب إلى البداوة ذات بأس شديد وقوة حربية لا يستهان بها. فلا
يتم لهم ما يتخيلونه من تأسيس دولة تركية لا دين لها لأمة تركية محضة إلا إذا
أبادوا هذا الشعب العربي الكبير الناصر للإسلام ولذلك عقدوا النية على ترك بلاده
الخصبة المتعلمة بالقوة القاهرة، وعلى إذلال أهل الجزيرة العربية الأشداء
بإضعافهم، ونزع السلاح منهم وإلقاء العداوة بينهم، وجعل بلادهم المقدسة تحت
سلطة عسكرية اتحادية لا دين لها حتى لا يستطيعوا أن يقوموا بعمل ديني ولا
دنيوي.
(3) إن الشعب التركي غيور على الإسلام، وشديد التعصب له، وقد
عرف عنه المبالغة في التعصب ما لم يُعرف مثله عن العرب، ولكن خضوعه للقوة
التي تسود عاصمة بلاده أتم من خضوع سائر الشعوب العثمانية؛ بل هو شعب لا
يعمل إلا بالقوة العسكرية، ولا تعمل به إلا القوة العسكرية، وقد غلب حزب ملاحدة
الاتحاديين حزب العلماء، وجميع الأحزاب السياسية العثمانية بقوة الجند والمال،
كما علم من كلامنا السابق، فلم يعد الشريف يرجو من إسقاط قوة الاتحاديين أعداء
الإسلام والعرب بقوة الأحزاب التركية ما كان يرجوه من قبل، فانحصر وجوب
مقاومتهم في العرب وحدهم.
(4) إن الشريف يعلم، كما يعلم العارفون وكل من له إلمام بأموال الدولة
أن ملاحدة الاتحاديين قد سلبوا سلطان الدولة وخليفتها نفوذه وجميع حقوقه، حتى ما
هو مدوّن في قانونهم الأساسي، فأصبح المسلمون بغير إمام شرعي لا حقيقي
مستوفٍ للشروط الشرعية، ولا متغلب يطاع لضرورة جمع الكلمة، وإنما
المتصرف في الدولة جمعية الاتحاد والترقي الملحدة، فالسلطان محمد رشاد لا نفوذ
له الآن في المملكة ولا في قصره، ويسميه أهل الأستانة (المهردار) للجمعية؛ أي:
صاحب الختم الذي وظيفته أن يختم لها كل ما تأمر بختمه من الأوراق، وهم لا
يسمحون له بأن يختار رئيس الكتاب وأمين السر له.
حدثني سعدي بك أحد سَراة الأستانة الكبار عن رجل من أصحاء البيت
السلطاني أنه كان يقرب السلطان في حفلة قراءة المولد النبوي الشريف في قصر
(ضولمه بغجه) فرأى (الباشكاتب) قد جلس متكئًا، والسلطان منتصب بغاية الأدب
على سمته وكِبر سنه، فلما رآه السلطان قد اتكأ قال متبرمًا: إذا كان هذا ...
(نسيت اللقب القبيح الذي ذكره به) لا يحترمني، أفلا يحترم حضرة فخر
الكائنات- صلى الله عليه وسلم -؟
(5) إن الشريف يعلم أن هؤلاء المتهورين، قد عرَّضوا استقلال الدولة
للزوال، وأن الخطر عليها في انتصار الألمان أشد من الخطر عليها في انتصار
الحُلفاء، فإن الظواهر أن الحلفاء يرضون باستقلال بلاد العرب، ويظن أيضًا أنهم
يرضون بجعل الولايات التركية إمارة، أو سلطنة تركية مستقلة، فغاية انتقامهم من
هذه الدولة أن يجعلوها أجزاء بعضها مستقل بنفسه تمام الاستقلال، وبعضها مستقل
تحت حماية بعض الدول، كالولايات الأرمنية، الظاهر أنها تكون تحت حماية
روسية، ويقال: إنهم لا بد من أخذ شيء منها لأنفسهم، وتختلف الآراء في مصير
الأستانة، وليس هذا موضوع حوارنا.
(6) إن ملاحدة الاتحاديين شرعوا في تنفيذ خطتهم بإذلال العرب التي هي
مقدمة، أو علة لإذلال الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عند أبي يعلى (إذا
ذلت العرب ذل الإسلام) فبدءوا بالعراق والشام، ثم مدوا براثنهم إلى الحجاز،
فاضطر الشريف إلى دفع شرهم عن العرب بمقاومتهم في الحجاز، واستقلاله
بالسلطة فيه من دونهم لمجموع ما تقدم من الأسباب.
ذ - يظهر مما قررته أنه لا يعد مقاومته للاتحاديين خروجًا على السلطان ولا
عداء للدولة نفسها؛ لأنه يرى أنهم جانون على الدولة والسلطان قبل جنايتهم على
العرب في الحجاز وغيره.
د - نعم: هذا هو الظاهر بل المتيقن، ومن وقف على الحقائق يرى أن
الشريف قام بأعظم خدمه للإسلام والمسلمين، وذلك أنه لما رأى الخطر قد أحاط
بالدولة، كما هو واضح مما شرحناه كان من الضروري أن يخاف وقوع القضاء بها
فجأة، فيكون حرم الله وحرم رسوله، وسياجهما من جزيرة العرب مما يسقط
بسقوطهما، وتزول السلطة الإسلامية عنهما وعن غيرهما مدة أطول منها يكون
الحَرَمان وغيرهما فيها من قبيل التراث الذي يحكم فيه الفاتحون بما يشاءون.
فهو باستقلاله هذا قد جعل الحجاز تحت سلطة إسلامية خالصه، ويوشك أن
يكون هذا مقدمة لدولة عربية إسلامية كبيرة، وما ذكره الأستاذ في أوائل حديثه من
تعادي أمراء جزيرة العرب، وكونه يحول دون تأسيس دولة عربية عزيزة غير
مسلَّم، فالموادة بين أمراء الجزيرة، وزعمائها لم تكن منذ قرون كثيرة منها الآن،
فلم يبق بين أحد منهم شيء من ذل العداء إلا ما بين إمام اليمن والسيد الإدريسي،
ويُرجى أن يقدر الشريف على تلافي ذلك، وعقد اتفاق بين الجميع على قاعدة
(اللامركزية) .
وصفوة القول أن استقلاله هذا لا ضرر فيه على الدولة العثمانية، ولا على
الأمة التركية، وإنما هو كبح لجِماح هذه الجمعية الباغية على الإسلام والدولة
والعرب، فإن سقطت الدولة في هذه الحرب لم يكن استقلال أمير الحجاز أحد
أسباب سقوطها، وإن سلمت من الحرب ومن هؤلاء الملاحدة وعادت دولة إسلامية
قوية لم يكن ما تقدم من استقلال الشريف مانعًا من العودة إلى الوفاق والاعتصام،
وهذا ملخص ما عندي في هذه المسالة، فإذا كان لديك أسئلة أخرى فلتكن في زيارة
أخرى,.
انتهت المحاورة مع الأستاذ بما ذكرنا من الإقناع، وكذلك المحاورات الأخرى
في الجملة.
فخلاصة ما وقفنا عليه من الآراء في المسألة العربية واستقلال الشريف الأكبر
أن المسلمين هنا لا يرتاحون إلى هذا الاستقلال إلا إذا أمكن أن يستتبع تأسيس
دولة عربية قوية مستقلة تمام الاستقلال لا نفوذ فيها لدولة أجنبية يضعف استقلالها،
ولكن منهم من يشك في إمكان ذلك، ومنهم من يشك في سهولة حصوله دون إمكانه،
ولكل منهم دلائل نظرية لا يتسع هذا الجزء لبسطها، إن كان من الممكن نشرها.
ثم إن كل فرد ممن تكلمنا معهم أنصف الشريف في استحسان وقوفه بهذا
الاستقلال عند حد منع الضرر عن أهل الحرمين وغيرهم من العرب عملاً بما ثبت
عنده من سوء نية الاتحاديين بحيث كان استقلاله غير مضعف للدولة إلا بقدر ما
يجني عليها الاتحاديون، إذا أرادوا الاستمرار على قتاله بجيوشها المنظمة وتيسر
لهم ذلك، فعمل الشريف يصدق عليه أنه إما أن ينفع نفعًا عامًّا أو خاصًّا بالحجاز،
وإما أن لا يضر؛ ولا يوجد عاقل ينكر مثل هذا أو يذمه، وكل مسلم عرف كنه
سياسة الاتحاديين في الإسلام صار عدوًّا لهم، وأقدم أعدائهم في هذا، علماء
الأستانة والمتدينون فيها، وفي سائر بلاد الترك، وما كان صلحوا العرب إلا
متأخرين عنهم في ذلك. وكل عربي مصري أو غير مصري عرف كُنْه سياستهم
في العرب صار عدوًا لهم، وأقدم من عرف ذلك السوريون المسلمون، ثم غيرهم
عنهم ومن العرب، ولو كان المصريون يصدقون أخبار (المقطم والأهرام) عن
فظائعهم في سورية لأجمعوا على ذلك وقد انفتحت لهم أبواب أخرى للاقتناع. وما
قلت لأحد منهم إن ما أتاه جمال باشا من التقتيل والتصليب والترغيب عن الوطن
ثبت عندي من طريق الأسرى العثمانيين، ومن طريق أمريكه وأوربه، ثم من
طريق الحجاز إلا قبلوه مذعنين، ولعنوا جميع الاتحاديين، وسيأتي يوم يصدق فيه
الجميع هذه الأخبار، ولعله ليس ببعيد.
__________
(1) المنار: إننا نشرنا في ص 720 م7 أنه كتب إلينا من بعض المستعمرات الألمانية أن ألمانية تُكره الناس هنالك على التنصر، وتغري العداوة بين العرب المهاجرين إلى تلك المستعمرة وبين الأهالي؛ لأن العرب أشد تمسكًا بالإسلام وجذبًا إليه، وجعلنا هذا العمل مرشدًا إلى تفضيل إنكلترا على ألمانيا ثم نشرنا في ص 799 منه أنه كتب إلينا من دار السلام أن حكومتها الألمانية هدمت مسجدين للمسلمين، وتضطهد العرب وتمنعهم من ركوب السيارات الحسنة ومن الغريب أن الوكالة الألمانية السياسية بمصر بلغتنا بعد نشر ما ذكر ببضعة اشهر أنها كتبت إلى دار السلام تسأل حكومتها عن حقيقة ما عُزي إليها، وأنها أجابت بأن منع العرب من ركوب المركبات لا أصل له، وأن هدم المسجد كان بطلب المسلمين لبعده عن بيوتهم، وأن الحكومة بدلتهم به مكانًا آخر قريبًا وأعطتهم مالاً وفيرًا ولكنها لم تكذب خبر التنصير بالإكراه الذي نشر في جزء آخر.
(2) نشر المقطم مقالة لبعض العرب العثمانيين في هذه السنة ذكر فيها بعض الجمل من هذا الكتاب فظن بعض الناس أن ذلك قول مخترع، وقد ذكر هذا الكتاب في الجزء الثاني من منار سنة 1322 الذي صدر في يناير سنة 1914.(19/144)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيد عبد الحميد الزهراوي
كان الشهيد السعيد نابغة من نوابغ السوريين، لا يكاد يلزّ به في مجموعة
مزاياه قرين، ما عرفت بلاده كنهه، ولا قدَّرته قدره على أنها لم تقصر في تعظيمه
وتكريمه، وفي الاحتفال له والحفاوة به أيام سفره وأيام قدومه، إذ عرف الجمهور
منه في أواخر سِنِي حياته كما كان يعرف الآحاد.
إنه أحد أشراف البلاد المنصرفين لخدمة الأمة بكفاءة، واستعداد من معرفة
المصلحة وفصاحة اللسان، والحجة وجرأة الجنان، وما كان لعقل الجمهور أن يدرك
كُنه المزايا والفضائل التي بها كان الزهراوي في حقيقة جوهره من الحكماء
الربانيين، والفلاسفة الاجتماعيين؛ وإن قضت عليه الأيام بالانتظام في سلك
السياسيين، تلك الفضائل التي عرفها له كل من عرفه من العقلاء المنصفين؛ وهي
استقلال الرأي وصدق القول وقوة الإرادة والإخلاص في العمل وإيثار الحق على
الهوى، وتوجيه الهمم والهمة إلى المصالح العامة، وترجيحها عند التعارض على
المنافع الخاصة، بل لم نعلم عنه أنه اشتغل في طور من أطوار حياته لمنافعه
الخاصة، وإنما نعلم عنه أنه بدأ حياته العملية منذ بلوغ الرشد بإنشاء (جريدة
المنير) السرية التي كان يطبعها في حمص بمطبعة الجلاتين، ويوزعها في البلاد
السورية سرًّا لخدمة جمعية الاتحاد والترقي الأولى والسعي معها لإنقاذ الدولة من
الإدارة الحميدية المستبدة، فتعلق بالسياسة من ذلك الحين، وظل مشتغلاً بها طول
حياته.
كان بيننا وبين هذا الصديق العزيز تشابه في النشأة والتربية، ومشاكلة في
الاستعداد والغريزة، وتقارب الفكر والرأي، تعارفنا به بالمكاتبة قبل اللقاء ثم كان
بعد اللقاء كالمحبة والوِداد، ولم يزدد بالمُعاشرة إلا ثباتًا ورسوخًا، كان كل منا ميالاً
إلى الاشتغال بالصلاح الديني والاجتماعي، وعلاقة ذلك بالسياسة لا تخفى، ولكن
تيسر لكل منا من أمر الاشتغال بالسياسة أو الإصلاح ما لم يتيسر للآخر، إذ كانت
هجرتنا إلى مصر وهجرته إلى الأستانة.
وفي سنة 1315 التي أنشأنا فيها المنار كان محررًا في إدارة جريدة
(معلومات) العربية في الأستانة؛ وكان ما يكتبه فيها موافقا لمشرب المنار، ووقع
بيننا ما يشبه المناقشة في المسائل الإصلاحية (راجع ص 950 من الطبعة الثانية
لمجلد المنار الأول) ثم نفته أفكاره من الأستانة إلى وطنه، وفي سنة 1319 كتب،
وهو في دمشق الشام تحت المراقبة السياسية رسائله الاصلاحيه الثلاث (الفقه
والتصوف) التي نشرنا أولها في المجلد الرابع من المنار، ثم قرظنا فيه المجموع
لما طبع على حدته في مصر، وقد كانت هذه الرسائل أشد مما كنا نكتبه في
موضوعها نقدا على سعة الحرية هنا، وشدة الضغط هنالك، فهاجت عليه حَمَلة
العمائم في دمشق، وأشد ما أنكروا عليه فيها القول بالاجتهاد وبطلان التقليد،
فهيجوا عليه الحكومة فاعتقلته في الشام، ثم أُرسل إلى الأستانة.
ولم يكن سبب ذلك التشديد عليه، والإغضاء عمن اتهموا بالقول بالاجتهاد
وإبطال التقليد معه غيرة من الحكومة على الفقهاء والصوفية أن يوجَّه إليهما انتقاد،
ولا مجرد الإرضاء لمصبية الحشوية الجامدين في الشام، وإنما سببه الباطن أنه
كان نشر في المقطم مقالة في الخلافة بإمضاء (ع. ز) وهو إمضاؤه الرمزي لكل
ما كان ينشره بمصر، وقد وُجِدَتْ تلك المقالة معه عند القبض عليه، وحاول
تمزيقها. وقد أشار الأستاذ الإمام إلى هذه الواقعة في فصل (الإسلام اليوم) من
كتاب (الإسلام والنصرانية) وإننا نذكر عبارته هنا لما فيها من تأييد هذا الصديق
الشهيد وهي:
ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية، كتب مقالاً في
الاجتهاد والتقليد، وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافه، ومقالاً بيَّن فيه
رأيه في مذهب الصوفية، وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام، بل قد يكون مما
رُزِئَ به، أو ما يقرب من هذا، وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله، فلما
طبع مقاله في مصر تحت اسمه، هاج عليه حَمَلة العمائم وسَكَنة الأثواب والعباعب
وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين ثم رفع أمره إلى الوالي،
فقبض عليه، فألقاه في السجن، فرفع شكواه إلى عاصمة الملك، وسأل السلطان أن
يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلق عليه بين يدي عادل لا يجور،
ومهيمن على الحق لا يحيف إلى آخر ما يقال في الشكوى، فأجيب طلبه لكن لم
ينفعه ذلك كله، فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه، ولم يُعف عنه إلا بعد شهر،
مع أنه لم يقل إلا ما يتفق مع أصول الدين، ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل
والشارب) اهـ. أرسل الرجل إلى الأستانة، فاعتقلته السلطة الحميدية هناك أشهرًا،
بعد جعله تحت مراقبة الجواسيس زمنًا، ثم أرسل إلى بلده (حمص) ليكون مقيمًا
فيها تحت المراقبة لا يبرحها (ويسمى مثله في عرف الدولة الرسمي (مأمور إقامة)
فبقي فيها إلى أن فر إلى مصر سنة 1324 وبقي فيها يشتغل بالتحرير في
(المؤيد) ثم في الجريدة إلى أن أُعلن الدستور سنة 1327 فعاد إلى سورية
فانتخب مبعوثا عن لواء حماه وكان من أمره في المجلس وبعده ما كان.
لو كان الزهراوي من طلاب المنافع الشخصية لأمكنه أن ينال منها في عهد
عبد الحميد ما نال من كانوا دونه من أرباب الأفكار، وحملة الأقلام الذين استمالهم
السلطان عبد الحميد وأعوانه وغمروهم بالأموال والرتب وأوسمة الشرف، ولم يكن
جهاده القانوني للاستبداد الذي انقلبت إليه جمعية الاتحاد والترقي بعد الدستور
بأضعف من جهاده للاستبداد الحميدي مع الجمعية في إبان صلاحها، ومع غير
الجمعية أيضا نصرها في الأيام الأولى من عهد الدستور كما نصرها قبله، وجاهدها
بعد أن صار أمر الدولة كله في يدها.
ولو كان من طلاب المنافع الشخصية لنال بمسايرة الجمعية منها ما كان يعلم
أنه لا ينال بمعارضتها، وما كنت أرى - وأنا في الآستانة - أحدًا من المعارضين
للجمعية يرى قوتها فوق ما كانت عليه إلا الزهراوي، كان من أشدهم معارضة
لحزب الجمعية في المجلس، وفي جريدة الحضارة التي أسسها في الأستانة، على
كونه من أشدهم اقتناعًا بقوة الخصم وبُعدًا عن الغرور بما كان يروى عن ضعفه،
فجمله القول فيه: أنه بدأ حياته بخدمة الأمة والدولة، وثبت على ذلك طول
حياته، وأن جل عمله كان مع جمعية الاتحاد والترقي؛ فهو بعد تلك المعارضة في
زمن المبعوثية، اعتقد أن الدولة صارت بعد الجمعية؛ وأنه لا يوجد في الأمة
حزب يُرجى أن ينتزعها منها، فلم يَبق من طريق لخدمة الدولة والأمة إلا طريقها،
وهذا الاعتقاد هو الذي حمله على قبول منصب الأعيان أخيرًا، كما سنبينه
بالبرهان، وكان جزاؤه من الجمعية التي أفنى حياته في خدمتها أن قتلته شر قتلة،
وأبقت جثته مصلوبة في الشام 12 ساعة ليعلم كل عربي يراها، أو يسمع خبرها
كيف تكون عاقبة العربي العالم المفكر والخطيب المؤثر والكاتب المحرر عند هؤلاء
القوم، الذين جعلوا من أصول سياستهم محو العربية من سورية والعراق، وحتم
البداوة على عرب الجزيرة وإيقاع الشقاق الدائم بينهم إلى أن يبيد بعضهم بعضًا؟
كان قبول السيد الزهراوي لمنصب الأعيان من الحكومة الاتحادية مثيرًا
لاستياء جمهور طلاب الإصلاح ومحبي الإصلاح للأمة العربية العثمانية وسببًا
لسوء الظن فيه، وكثر القول بأنه تحول عن سيرته التي كان عليها طول عمره،
فآثر منفعته الشخصية على مصلحة أمته العربية، فتحول ذلك الجمهور الذي كان
ينوه به ويصفق له إلى الخوض فيه، ولو كان عقل الجمهور يدرك كثيرًا تلك
الفضائل التي وصفناه بها بحق، لما صدق أن مثله يتحول بعد سن الخمسين من
عمره إلى ضد ما ثبت عليه من أول نشأته، وما الذنب على العامة في ذلك، وإنما
الذنب ذنب خواص الأذكياء والمتعلمين الذين سارعوا إلى الخوص فيه فتبعتهم
العامة، وكان يجب عليهم التروي والتثبت في أمر هذا الحدث الجديد.
ألهذا العامل المستقل عذر فيه واجتهاد أم لا؟ ثم التثبت والتروي في الطعن
بمثل هذا الرجل منهم، إن ثبت لهم أنه مجرم سياسي متعمد، لا مجتهد مصيب أو
مخطئ، فإن أول نتائج الطعن في مثله- وقل أن يوجد مثله في طهارة سيرته
الشخصية والسياسية- هي زوال ثقة الأمة من زعمائها بقياس أنزه الصادقين على
أخس المنافقين، وما أولئك الطاعنون إلا حاسد يذم من الزهراوي ما يتمنى مثله
لنفسه، أو نفعي ساء ظنه لسوء نيته وفعله، أو غيور شديد العصبية، قليل الروية،
يبادر إلى إرضاء حميته، ولا يحسب حسابًا لعاقبة قوله وعمله.
لم يكن الزهراوي من أهل الأهواء، الذين يجعلون مصلحة الأمة والدولة تبعًا
للأغراض، وعرضة للعواطف والأحقاد، بل كان يحب العمل المبني على القواعد
المعقولة والرغائب المأمولة، فلما رأى أن الاتحاديين يحاولون إصابة أغراضهم
الضارة بالأمة العربية وبوحدة عناصر الدولة، بقوة مجلس المبعوثين، أحب أن
يحاربهم بسلاحهم، فكان من المؤسسين للحزب المعتدل ثم لحزب الحرية والائتلاف
الذي تكون من هذا الحزب الذي أكثر أفراده من العرب، ومن حزب الأهالي الذي
أكثر أفراده من الترك، وكان الزهراوي وكيل الرئيس في هذا الحزب، وقد ظفر
هذا الحزب بالاتحاديين، فجذب إليه الجم الغفير من مفكريهم وضباطهم، ثم أسقط
وزارتهم، واستبدل بها وزارة مختار باشا التي لم تكن هي ولا وزارة كامل باشا
التي جاءت بعدها ائتلافية ولا اتحادية، وإنما كانتا على كراهتهما لسيرة الاتحاديين
غير معتصمتين بعروة الائتلافيين، ولا موافقتين لهم في كل شيء، ولذلك سهل
على الاتحاديين إسقاط وزارة كامل باشا، وقد أخطأ الائتلافيون بعدم جعل الوزارة
من حزبهم.
وقعت حرب البلقان في أيام وزارة مختار باشا، فانكسرت الدولة فيها، وألفت
وزارة كامل باشا لتتدارك أمر الدولة بالصلح، وفي أثناء ذلك جاء الزهراوي مصر
قاصدًا الذهاب إلى الأستانة لقرب موعد فتح مجلس المبعوثين وقد أقنعناه بأن لا
يتعجل السفر، لما يُخشى من وقوع الفتن بالأستانة، وقد وقع ما كنا نتوقعه بهجوم
الاتحاديين على الباب العالي، وقتلهم ناظر الحربية فيه وإسقاطهم وزارة كامل باشا،
والقبض على أزِمَّة الحكومة، ولكن صاحبنا كان يصر على السفر، يظن ظنًا كاد
أو كان يسميه يقينًا بأن الاتحاديين لا يثبتون أسبوعًا حتى تسقطهم الأمة، وتستبدل
بهم غيرهم فأقنعناه بأن يصبر حتى تصدق الأيام ظنه أو تكذبه، وما اقتنع منا إلا
بإدلال الصداقة، على أنه كان يرجع عن رأيه إلى رأي صديقه، هذا كما نص على
ذلك في كتابه الآتي وإنما صرحت بهذا؛ لأنه من مقدمات الحجة التي أذكرها بعد
نشر ذلك الكتاب.
وفي أثناء حرب البلقان تأسس حزب اللامركزية بمصر، ولم يدخل هو في
الحزب؛ لأنه لم يكن ينوي الإقامة بمصر، وإنما رشحه الحزب لرياسة المؤتمر
العربي، لمكانته العلمية والاجتماعية، وموافقته للحزب في مقاصده الإصلاحية،
فانتخب رئيسًا في باريس، وعقد معه الاتحاديون ذلك الاتفاق المشهور.
كان في مدة إقامته في باريس أيام المؤتمر، وبعدها يكاتب حزب اللامركزية
ويعمل برأيه، ولم يسافر إلى الأستانة إلا بعد إذنه، فقد استشار الحزب فخيره بين
مصر والأستانة، وكان هو يرجح الثانية، والحزب يرجح الأولى، وكان يكتب من
الأستانة إلى رئيس الحزب كل ما يدور هناك في مسألة إعطاء العرب حقوقهم من
الإصلاح والوظائف، ويكتب إلى صديقه (كاتب هذا) مثل ذلك، وما وراء ذلك
مما كان يكتمه عن البعض، أو عن كل أحد، كما يعلم من كتابه المطول الآتي.
كان من فضائل الزهراوي الشخصية التي تُعد عيوبًا في السياسيين أنه لحُسن
نيته وصفاء سريرته، يبالغ في حسن الظن بكل أحد يُظهر له إرادة الخير والحق،
فلما قال الاتحاديون: إنهم يعترفون بما كان من خطئهم في تنفير العرب منهم، وفي
محاولتهم تتريك جميع العناصر العثمانية، وأنهم يرغبون في إصلاح ما أفسدوا في
ذلك؛ لتوقف تجديد قوة الدولة عليه- صدقهم في ذلك؛ لأنه معقول عنده، وعد
توجيههم منصب الأعيان إليه على ما كان من شدة معارضته لهم برهانًا على صدقهم،
وصار يرى أنه ينبغي لطلاب الإصلاح المخلصين أن يمدوا أيديهم إليهم،
ويساعدوهم على الإصلاح وأنهم إذا أحجموا حل محلهم المنافقون وطلاب المنافع،
وكان متفقًا مع صاحبه عبد الكريم الخليل على ذهاب المنار ورفيق بك العظم إلى
الأستانة لهذا الغرض.
أما أنا فكان يغلب على ظني أن جعله من الأعيان أحبولة يريدون بها اصطياد
المخلصين من طلاب الإصلاح في خارج المملكة؛ ليفتكوا بهم بعد جلبهم إليهم جملة
واحدة، وإن وجوده وحده هنالك واقٍ له، وفيه فوائد منها أنه تجربة للاتحاديين،
وحجة عليهم.
قبل منصب الأعيان بتلك النية الصالحة من غير مشاورة للحزب، ولا لأحد
من أصدقائه، وإنما أخبرنا بما كان ونيته فيه، فلُمْناه على تعجله، ولكن الحزب
أجاز عمله، واتفق الرأي على أن يمضي في هذه التجربة، وأن لا ينضم إليه أحد
من المقيمين خارج المملكة، وكان أول ما كتبه إلي في ذلك قوله من كتاب مؤرخ
في 6 صفر سنة 1322 (6 يناير سنة 1914) ما نصه:
(أخوكم عُيِّن - بعون الله وعنايته - عضوًا لمجلس الأعيان فبشروني بأنكم
راضون عن قبولي بها، والله يشهد إنني إنما قبلت؛ لإتمام العمل، وتعلمون قلة
الرجال عندنا يا أخي، يعترض بعض المعجلين، فالأمر في هذا متروك لحكمتكم
وهمتكم. بل أرى أن تقديم شكر للصدارة يكون مؤيدًا لإتمام العمل، ومَنَّ الله
سبحانه التوفيق) .
وقد كتب إلى الحزب بنحو هذا، فأجيب طلبه؛ لأن غرض الحزب الإصلاح لا
المشاغبة ولا عداوة الدولة، ولكن لم يكن يحسن الظن بالاتحاديين أحد، وقد دار
بيننا وبين هذا الصديق في هذه المسألة، وما يتعلق بها مكاتبات ومعاتبات لم تخل
من عدة مغاضبات، وإنني أنشر الآن منها كتابًا مطولاً، كتبه في 16 صفر سنة
1332 وكتب في أعلاه (مكتوم كله عن كل أحد) وهذا نصه بعد العنوان:
***
كتاب سري من السيد الزهراوي
سيدي الأخ الرشيد الولي الحميم الحميد:
تحية من الله ومن أخيك، ولا برحت المكرمات تحييك، لقد عظم شوقي أيها
الأخ، ومضت الأيام، وأنا أمني النفس بقرب التلاقي، ومازلت راجيًا ذلك.
يظهر يا عزيزي أن عتبك على تأخري هنا عظيم، عرفت هذا من كتابك إلى
الأخ الأستاذ.. . ويظهر أن قطعك الكتاب عني عمد، استنبطت هذا من طول مدة
القطع، وقد حملت هذا على كثرة عملك التي أعرفها، ثم تذكرت ما أعهد من وفرة
نشاطك - والحمد لله -، وأن كثرة عملك من تلك الوفرة من النشاط لا تقف في
سبيل ما تعزم عليه، فاستنتجت من هذا القياس- سامحني الله على رأي ابن حزم -
أنك تعمدت عدم العزم في الكتابة أو عزمت على عدم الكتابة.
وقد ظهرت هنا شائعة أن اللامركزيين في مصر مشمئزون من بقائي هنا،
وأنهم قطعوا علاقتهم بي ومكاتبتهم لي، أنا لم أصدق هذه الشائعة، وإنما خشيت أن
يكون بعض العجولين هناك يصرح ثمة مثل هذه التصريحات وكدت أخشى أن
يكون.. . مثلاً قد شاهد شيئًا من تأففكم لتأخري فبنى على مشاهدته كلامًا كتبه إلى
بعض معارفه هنا، فشطّر ههنا وخمّس.
هذه كلها ظنون، وأستغفر الله - تعالى - منها، وأرجوكم مسامحتي عليها،
ومن الشرح يظهر لكم سر تقديمها بين يدي هذه التفاصيل المهمة التي جاء أوانها:
كنت قد فصلت لكم؛ إذ جئت باريس كيف وجدت أمر مؤسسي فكرة المؤتمر
فوضى؟ وكيف تعبنا في ستر الأمر وإيجاد المؤتمر مرونقًا - وبتوفيق من الله
تعالى - فوق المأمول؟ وبعد انقضاء المؤتمر تفرق الجمع الذي لفق تلفيقًا، ثم بعد
قليل نفد صبر البيروتيين فذهبوا إلى بلادهم عن طريق إستنبول، وبقيت - يا
عزيزي - وحدي أمثل الفكرة، وبقي خليل زينية وأيوب ثابت وهما لم يرشفا من
مشرب الجامعة العربية ولا قطرة واحدة، حتى ولا من الجامعة السورية، وإنما
همهما بيروت وحدها لا شريك لها، ولكن لأنهما متعلمان سايراني وسايرتهما،
وتوادينا جيدًا حتى سفري، ولم يكن مثل هذا التواد، ولا رُبعه بينهما وبين رفقتهم
البيروتيين المسلمين.
لو عجلت تلك الأيام، ورجعت على الفور إلى مصر لبقيت المسألة مقطوعة
بَتْراء، إذًا يكثر استهزاء الأفراد والجماعات والأقوام بأشخاصنا وبجماعتنا وقومنا،
لكن الله - سبحانه - سلم من هذا، وأقدرني على الصبر هناك ممثلاً للفكرة مدة
خمسة أشهر- وما هي بالقليلة ولا الكثيرة - ونِعمت المدة كانت، وقفت فيها على
كثير، وعظم فيها اختباري لأوروبا، وما أحوجنا إلى مثل هذا الاختبار، جئت بعد
ذلك إلى إستنبول؛ لأرى ما جدَّ فيها لأن المعرفة بالقديم لا تغني، والمعرفة عن بُعد
كثير من مآخذها غير صحيح، وما أضر العلم المبني على مأخذ غير صحيح.
بعد وصولي بقليل عرفت كثيرًا من الأحوال الحاضرة هنا، وبعد مدة أخرى
عرفت أكثر، وكدت أظنني اكتفيت، وأحطت كل الإحاطة، ولكن الآن تبين لي أنه
لولا الصبر والتأني اللذان مكنني الفاطر - سبحانه - منهما لرجعت بمعرفة غير
كافية؛ ولذلك أصبحت لا أجسر أن أقول: تمت إحاطتي وإنما أقول: أصبحت
يجوز لي أن أفصل، وأشرح بشيء من الطمأنينة، وإن تأخير هذا التفصيل
والشرح كان أنفع، وجاء اليوم في وقته.
الشرح ههنا يتعلق بثلاثة مواضيع (أو موضوعات) :
(1) أوربا والعثمانية.
(2) الاتحاديون وغيرهم.
(3) رجال الإصلاح الحقيقي وأبناء العرب هنا، وفي الجهات الأخرى.
وإني أبدأ لكم بالأول لقِصر البحث فيه، وأشفع بالثاني، وأخرت الثالث لطوله
وطوَّلته لتوقف التفاهم وكثير من أعمالنا على الإحاطة بهذه الحقائق المشروحة فيه.
(أوربا والعثمانية) لقد كشفت أوروبا آخر ستار من ستر السياسة في
المسألة العثمانية، وقررت التداخل في سائر شئونها، وإنما لا يزالون مختلفين
بعض الاختلاف في كيفية هذا التداخل وكميته وصورة توزيعه فيما بينهم، وليس
في أوروبا اليوم موضوع مقدم على هذا الموضوع، ولا يمضي ثلاثة أشهر حتى
تتمخض الليالي، فتلد ذلك الشكل الجديد الذي يتفقون عليه، والذي أظنه أن الدولة
ستبقى بعد ذلك، وتعيش أحسن مما كانت عائشةً؛ لأن بعض التداخل طب، ولست
مغاليًا إذا ذهبت إلى أن الموت أقرب إليها مع عدم التداخل ألبتةَ منه مع شيء من
ذلك، فإنا إذا قلنا بعدم التداخل ألبتة؛ فحينئذ تخلق كل واحدة سببًا لنشوب الحرب
عليها، فتؤخذ بداء السكتة دفعةً واحدةً.
الاتحاديون وغيرهم: الاتحاديون معروفون، فمن غيرهم لا يوجد الآن حزب
سياسي آخر إلا أن يكون خفيًّا، ولم أشم شيئًا من هذا، وحينئذ لا نجد مقابل
الاتحاديين إلا جماعات الأجناس، كجماعات الروم وجماعات الأرمن وجماعات
العرب.
نعرف أن للروم جماعات وللأرمن جماعات، فهل للعرب مثل هذا؟ هلم
ننظر:
أولاً: الروم كلهم جماعة واحدة، يرأسهم البطرك، ولكيلا يستبد ربطوه
بمجلسين روحاني وجسماني، وهكذا الأرمن، أما العرب فليس لهم مثل ذلك.
ثانيًا: الروم والأرمن لهم جمعيات سياسية منظمة مرتبة غنية، وليس للعرب
مثل ذلك، اللهم إلا جماعتنا في مصر وجماعتنا في بيروت؛ إذن غير الاتحاديين
هم الروم والأرمن، وجماعتنا في مصر وجماعتنا في بيروت.
فالاتحاديون هم أولياء الأمر مباشرة، وهم اليوم يتسلحون بعزائم شديدة
ماضية، وناوون نيةً قاطعة أن يجددوا شباب الدولة بقدر ما تسمح الظروف،
ويشتهون أن يخلص إليهم العرب ويساعدهم فضلاؤهم في هذا السبيل، ويعترفون
بخطيئاتهم الماضية، وينوون أن لا يعودوا إلى مثلها بقدر الإمكان أنا مؤمن بنيتهم
وأقوالهم هذه كل الإيمان، لأدلة كثيرة ظهرت لي، ولكنني مرتاب من جهة قابليتهم
لتطبيق العمل على النية، وعلى كل حال أرى أن عدم تركهم وحدهم خير من
تركهم، ويرجى به أن تقوى قابليتهم، فإن شئتم أن تخطئوني بتحسين الظن إلى
هذه الدرجة- كما أشرتم إلى ذلك في كتاب. فإني لا أخطئكم بالتخطئة؛ لأني أُجِلُّ
رأيكم أكثر من رأيي، وإنما أرجو أن يكون في خطئي شيء من البركة، أرجو ذلك
من مصداق قوله سبحانه: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) هذا وصف الاتحاديين بما هم عليه اليوم.
أما الروم فقد قلوا في المملكة، وقصاراهم أن يحافظوا على ما بيدهم من
امتيازات البطركية وحق المبعوثية، وسيقل الالتفات إليهم، وأما الأرمن فهم اليوم
آلة بيد روسية وسيتم لهم في المبعوثية حظ قريب مما يأملون، وأما نحن معشرَ
العرب، فإن أخاكم الآن يعتبر ممثل جماعتنا، وقد فصلت ما تم على يدي في
الكتاب الذي أرسلته إلى الأخ الرفيق في البريد الماضي، وههنا سأزيد.
(3) رجال الإصلاح الحقيقي وأبناء العرب هنا وفي الجهات
الأخرى:
ما أظنكم- أستغفر الله - ما أعتقد أنكم في حاجة إلى بيان أن رجال الإصلاح
الحقيقيين غير كثيرين، وما أعتقد أنكم تعرفون منهم أكثر من ثلاثة أو أربعة،
أعني برجال الإصلاح الحقيقيين، من جمعوا في موضع الإصلاح بين صدق النظر
وصدق العمل، مَن كثرت تجاربهم، ومرنت رويتهم وصحت عزيمتهم، وشهد
ماضيهم، مَن كثر اختلاطهم بمختلف الطبقات، ووقوفهم على متباين النزعات،
وصبرهم على متنوع العقبات، من امتزجت روحهم بحب النظام الذي يحبه الله،
وكره الفساد الذي يكرهه الله، وامتزجت سيرتهم بأخبار مَعَامِع الجهاد الإصلاحي،
من أُشربت أفكارهم فهم معنى الرابطة، وأفئدتهم محبتها وتعشقها.
فنحن لقلة هؤلاء واقعون أمام حاجتين عظيمتين (الحاجة إلى تكثيرهم،
والحاجة إلى اشتغال هؤلاء مع من ليس من جنسهم وطبيعتهم) . ثم نحن مع قلتهم
وصعوبة اشتغالهم مع غيرهم أمام مشكلين عظيمين، الأول السُّبات الذي الأمة فيه،
والثاني الجشع الذي أوروبا فيه.
أترك تفصيل هذا الإجمال لحكمتكم، وحسبُنا هي في كل موضوع، وآخذ
الآن بحكاية حال أبناء العرب هنا، لأنكم علقتم الأمل مرارًا على صنف منهم ههنا.
العرب هنا ثلاثة أصناف: متاجرون ومتعلمون ومأمورون، فالصنف الأول
لا في العير ولا في النفير من جهة السياسة والإصلاح، ثم هو في غاية القلة،
والصنف الثاني أولاد في ناشئة العمر لا يليقون للسياسة ولا تليق لهم، والصنف
الثالث أربعة أقسام: الضباط والمأمورون المنصوبون في بعض الوظائف
والمأمورون المتقاعدون المقيمون هنا والمأمورون المعزولون الذين جاءوا لينصبوا.
فأما الضباط فلا تجربة لهم في هذه المسالك ألبتة والأَوْلى عدم دخولهم فيها،
فإن هذه التجربة القليلة التي سأقصها الآن زهدتني في كل سياسة يشترك فيها
الضباط منا: ذلك أن.. . ناقم اليوم على الحكومة، فيشتهي لأجل هذا زعزعة
الدولة ونسفها نسفًا، وهو لأجل ذلك ناقم على ائتلافنا مع الحكومة ومضاد له؛ لأنه
على زعمه يؤخر حركات العرب، ولا أدري ما هي حركات العرب، وأين تسير
وأين ترسي، وهذا يجتهد أن يجمع حوله بعض أولئك الأولاد وينفرهم منا، ومن
صنيعنا، ولكن لا ينجح بحوله - تعالى -، ومن جهة أخرى هو يحافظ على ظاهر
الصداقة بيننا، وقد أردت اختباره فوجدته يجنح إلى مصالحة أولياء الأمور،
وحينئذ يرضى عن كل شيء، فانظر يا عزيزي إلى الذين يعدون أنفسهم في
مصاف رجالنا.
أما المأمورون المتقاعدون، فمثلهم كمثل العجائز لا يرضيهن شيء ولا
يستطعن عمل شيء، وأما المأمورون المنصوبون فلا هَمَّ لهم إلا حفظ المنصب.
وأما طلاب المأموريات فَجِيَاع مساكين لا يفهمون من الإصلاح إلا المأمورية،
إن جاءت فقد جاء الإصلاح، وإن لم تجئ فقد منع الإصلاح، ومن هذا التفصيل
يظهر لك أن العاصمة في حالتها الحاضرة ليس فيها أبناء عرب تستطيع جماعتنا أن
تعتمد على أحد منهم، أو أن تعمل صلة أو رابطة مع أحد منهم، اللهم إلا أن يكون
(فلان وفلان) وكل ما أخبركم عنه (فلان) فهو سراب بِقِيعة جاءه أخوكم الظمآن
فلم يجده شيئًا. وبعض أولئك الأولاد يحسدون الشاب عبد الكريم، وبعضهم لم
يتمكن من إنالتهم أربًا لأبيهم أو أخيهم أو ابن عمهم مثلاً، فمِن هنا أكثروا عليه من
قيل وقال، وكله هُراء وهواء.
وأما العرب في الجهات الأخرى، فهم أهل سورية وأهل العراق وأهل
الجزيرة الخُلَّص، فالسوريون والعراقيون حَضَر قد ألفوا الذل وتعودوا الاستخذاء
والاستكانة لا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا، لا يساعدون ولا ينوون أن يساعدوا،
لا يهبون ولا يَرُوق لهم أن يُوقَظوا. وأما أهل الجزيرة الخُلَّص، فهم الأهل -
وفاهم الله الخير وشد سواعدهم - أولئك يجب وصل الرابطة بهم من غير أن نقطعها
من الحضر على قلة غنائهم. وقد فهمت من كتاب الأخ (فلان) كثيرًا واستنبطت
كثيرًا.
ولو كان في وسع البشر أن تتوزع أرواحهم على أمكنة متعددة لكانت روحي
أوزاعًا على اليمن وعسير والحجاز ونجد وحضرموت، ولكن نظرية الصوفية
في هذا الباب لا يمكن تطبيقها [1] . انظر يا عزيزي، أنا لازم لهناك كما تشير،
ولازم إلى هنا، فإن هنا محل عمل ليس بقليل، فإني أرجو أن يكثر بوجودي هنا
عدد رجالنا الذين يعتمد عليهم، فإن رضيت عن هذا الرأي فعليك عملان مُعَجَّلان
وعمل يمشي مع الزمان، وأنا معك فيه على بعد المقر، فالأول من المُعَجَّلين
تبشيري بتلغراف عن رضائك خاصة وهو الأهم، ورضاء الرفاق عامة وهو مهم،
والثاني منهما حملك الرفاق على تقديم تلغراف للصدارة، يحبذون فيه هذا التعيين
ويجعلونه دليل إقدامهم على تنفيذ الرغائب كلها بعبارة رقيقة تشويقية، أما الثالث،
فهو ما بيننا من أمر إيجاد الرجال الذين يعتمد عليهم وتوزيعهم بقدر ما يساعد
الزمان والمكان لبث الإصلاح العلمي والعملي.
وإن لم ترض عن هذا الرأي فاكتب إليّ مفصلاً ومبينًا كل جهة من جهات
الموضوع، وأنا من عهدت مَنْ يَدَعُ رأيه أخيرًا إلى رأي وليه.. هذه هي
الخلاصة المفصلة، وإليك خلاصة الخلاصة، وهي أن اليأس لا يجوز بحال من
الأحوال، ولكن الأمة في كل أطرافها ليست بحالة يُعتمد عليه في شيء، وأنه مع
هذا لا يجوز إهمالها، وكذا لا يجوز إهمال من بيدهم أمر المملكة وتركهم وحدهم،
وأنه لا بد لنا من رجال ههنا، وأن أكثر ما يتصرف به الرواة من الأخبار غير
صحيح، وإني منتظر أمركم بسرعة، وإن شوقي عظيم.
والسلام على الأخ السيد صالح وجميع المعارف، سلم الله - تعالى - الجميع.
عبد الحميد الزهراوي
(المنار)
من هذا الكتاب وكتب أخرى بمعناه يعلم رأي الرجل الذي يبني عليه اجتهاده
ومنه أنه مؤمن بحسن نية الاتحاديين، وتمنيهم الاتفاق مع العرب، وبهذا كان
يحاول إقناعنا، ولم يكن يخفي هذا على الاتحاديين؛ ولذلك نجزم بأنهم قتلوه، لأنه
من أنجب نجباء العرب لا لذنب آخر {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 4) .
وإنما نشرت هذا الكتاب السري من كتبه بنصه، فلم أحذف منه إلا أسماء
الأحياء ليكون حجة على فريقين من الناس- فريق الذين قد يظنون أن الاتحاديين ما
قتلوا مثل هذا السيد الجليل بعد أن رفعوه إلى مقام الأعيان إلا لأنهم عرفوا له ذنبًا
كبيرًا كالخيانة للدولة أو للجمعية المتصرفة في الدولة. وفريق الذين ظنوا أنه خان
قومه العرب بتركه الدفاع عن حقوقهم بمنصب الأعيان الذي رشاه به الاتحاديون،
وإنما يتم ظهور هذه الحجة، ببيان ما كان بيني وبين هذا الصديق الصدّيق من
الصلة والرابطة.
يرى قارئ كتابه أنه قال لي فيه عن نفسه: (وأنا من عهدت من يدع رأيه
أخيرًا إلى رأي وليه، وقد أشرت إلى هذه الكلمة في المقدمة التي قدمتها على هذا
الكتاب، وأقول: إنه يعني بهذا أنني إذا حتمت بعد المناقشة معه في الموضوع
وجوب تركه لمنصب الأعيان، واشتغاله بعمل آخر في غير الأستانة فإنه يقبل ذلك.
وقد كانت طريقتنا فيما يختلف رأينا فيه أن يدلي كل منا بحجته، فمن نهضت
منا حجته قبلها الآخر، فإذا لم ترجح إحدى الحجتين، وكانت المسألة مما يترتب
عليها عمل يرجع هو في العمل إلى رأي أخيه. ويدل على مكانة هذا الأخ عنده
جعله رضاءه عنه في هذا الأمر أهم من رضاء الحزب الذي كان سبب ذلك، وهو
صادق في قوله هذا وقوله ذاك، لا ريب عندي في صدقه، وما قلت هذا في بيان
كلمتيه إلا ليعلم المطلع عليه أن الرجل لو كان يكذب ويخدع لم يكن يكذب علي ولا
يخادعني، ولو كان يفعل ذلك لحاول إرضائي بأنه يعامل الاتحاديين بمثل ما
يعاملوننا به من الخِلابة السياسية ليستفيد منهم في طور ضعفهم وحاجتهم إلى
استرضاء العرب بعض الحقوق، وما كان يكتب إليَّ- وهو معتقد أنني ساخط عليه،
ومتعمد ترك الكتاب إليه- أنه مؤمن بحسن نية الاتحاديين وصدقهم في هذه المرة
ولكنه كتب هذا وهو يعلم أنني أعدّه سذاجة منه وغلوًّا في حسن الظن.
وأزيد على هذا أنني عاتبته على بعض ما جاء في هذا الكتاب وغيره عتابًا
ثقيلاً جاءت فيه كلمة جارحة، فكتب إلي رقعة أوْدعها كتابًا له قال فيها ما نصه:
كلمات بيننا
(في كتابكم الأول كلمة لا أكتم عنكم أنها كسرت قلبي، إذ لو كتبت هذا لكان
خيانة للإخاء النظيف الصافي، ذلك أنكم بنيتم على نظرية إغراقي بحسن الظن
بالقوم أن هواء الأستانة طمس على عقلي وقلبي.
أخوكم يا عزيزي قد عرفتموه بعد أن كان عاش في هذا البلد سنين،
وعرفتموه في الآستانة نفسها، فلولا ذلك لرجعت إلى نفسي؛ لأرى تغلغل أثر
البوسفور فيها.
ولكن كما لم أكتمكم هذه الحقيقة أتحدث أمامكم بما مَنَّ الله - تعالى - به من
حَمْل حدتكم القلمية هذه على ما يشابهها من حدتكم اللسانية التي نأنس بها أنسنا
بِحِلْمِكُمْ الذي هو أغلب وأصدق دلالة على كرم قلبكم. على أنني أؤكد بشرفكم أن
انكسار القلب الذي أشرت إليه كان أنينًا وأعقبه تذكر حقيقتكم العالية. أما تأخير
كتبنا فقد كان عامًّا حتى شمل الوالد، فلا تحملوه على ذلك السبب، ولكن أبى
كرمكم إلا يطيب القلب فأخصكم بشكر على هذا) اهـ.
فمن كان بينهما مثل هذه الحرية في الخطاب والعتاب لا يغش أحدهما الآخر، لو
كان من دأبهما الغش. وأحمد الله - تعالى - أنني لم أُبْتَلَ بهذه الرذيلة،
وإنني أبرئ منها صديقي الشهيد السعيد كما أبرئ نفسي.
هذا وإنني لم أكتف بما دار بيني وبينه - قدس الله روحه - من المكاتبات في
هذه المسألة بل دعوته إلى زيارتنا بمصر فأجاب، وكنت أعقد معه مجلسين
للمناقشة في كل يوم وليلة: مجلسًا قبل النوم ومجلسًا في الصباح. فرأيته بعد ذلك
كله معتقدًا أن الاتحاديين عازمون على إرضاء العرب، وأنه يحب مسايرة العقلاء
منا لهم على ذلك، وأننا ننال بهذا من الحقوق ما لا يُرجى أن نناله بالسعي مع
مجافاتهم.
وقد وافقته على بقائه في منصب الأعيان والاستمرار على هذا السعي؛ لأنه
إما أن ينفع وإما أن لا يضر.
***
المشانق في سورية - شنق الزهراوي
جاء في جريدة الأهرام تحت هذا العنوان ما نصه: تلقت المقدمات التي يوثق
بروايتها أن السيد عبد الحميد الزهراوي حوكم في دمشق أمام المجلس العسكري،
فحكم عليه بالموت شنقًا، فشنق. ولربما خفف من لوعة الأسى عليه، شنق من
تقدموه من عظماء الأمة السورية وأمراء المسلمين على وجه التخصيص كالأمير
عمر الجزائري ابن الأمير عبد القادر وشفيق بك المؤيد من أكبر رجال سورية
ورشدي بك الشمعة من صفوة أعيانها، وشكري بك العسلي، وعبد الوهاب بك
ومحمد المحمصاني، وسليم بك الجزائري وعبد الغني العريسي.. . إلخ.
ولكن الزهراوي كان يمثل طائفة خاصة، وفكرة نابتة وحياة جديدة تتراوح
بين طائفة علماء الدين الإسلامي وغيره من الطوائف الراقية، والبحث في شئون
طائفة الزهراوي في سورية، وبلاد العرب من المباحث الخطيرة الجليلة التي تبين
الصلة بين الماضي والحاضر والقديم والحديث، بل تظهر التدريج الذي كان ينتظر
على يد أولئك الذين أزهقت الحبال أرواحهم، وأودت بعملهم وعلمهم، وأماتت
غرسهم قبل أن ينبت وبما نبت منه قبل أن يزهر ويثمر.
فالمسلمون في سورية تأخروا عن إخوانهم النصارى واليهود والدروز في
طلب العلم؛ لأن القدماء من أكابرهم وأغنيائهم كانوا يعتقدون أن طلب العلم إنما
يراد لطلب الرزق، والوجيه الكبير المتوافر رزقه كان يعد من العار على أبنائه أن
يطلبوا العلم للارتزاق (من شق القصبة) وضاعف في ذلك أن المدارس كلها كانت
نصرانية، إما للأجانب وإما للمسيحيين، الذين تأدبوا بآداب الأوروبيين فحذوا
حذوهم، وساروا في العلم سيرتهم. وقد لقيت هذه الفكرة تشجيعًا من الحكومة، بل
ربما غرست الحكومة نفسها هذه الفكرة في الصدور حتى يظل المسلمون على حالهم
فلا يطلبون إصلاحًا ولا يطالبون بحق، وليس للمسيحيين وسواهم ممن يتعلمون
تأثير أو نفوذ؛ لأنهم الأقلية، ولهذا السبب لم يتمتع أحد من أبناء مسلمي سورية
بذلك الإنعام الذي أنعم به إبراهيم باشا بن محمد علي باشا على لبنان وسورية بأن
يعلم طائفة منهم في مدارس مصر العالية، وانحصرت تلك النعمة حتى عهد
الاحتلال بأبناء المسيحيين السوريين وحدهم.
وظلت الحال على هذا المنوال، ولا مدارس ولا مكاتب للمسلمين في سورية
حتى إن دَخْل أوقاف المدارس والمكاتب فيها كان يجيء للآستانة، إلى أن زاد
احتكاك القوم بالأوروبيين، ورأوا بأعينهم ومسوا بأيديهم فائدة التعليم فطلبوه لأبنائهم
إما في مدارس الأجانب في بلادهم، وإما في مدارس الأستانة، حتى إن بعض
طلبة العلوم الدينية، سبقوا إلى ذلك سواهم أو ماشوهم في هذا السبيل، ولكن على
غير رغبة الحكومة وإرادتها، فكانت تسبغ النِّعَم على من يذم العلم وعلماء الأجانب
كالشيخ النبهاني الشهير بذم مدارس النصارى.
ومن هؤلاء الطلبة الدينيين السيد عبد الحميد الزهراوي من أشراف حمص،
وسلالة بهوتها الكبيرة. بدأ علمه في بلده، وأتمه في الأستانة، وتعلم هناك من
السُّفطاء الترك الاهتمام بالشئون السياسية والاجتماعية، فكان أول ظهوره برسالة
ألفها في المعتقد الديني لم تَرُقْ في عيون مشايخ الطرق، فسعوا به إلى السلطان عبد
الحميد حتى نفاه، وأقصاه إلى دمشق [2] .
ولكن الوسطاء توسطوا له - وكان الظلم في ذلك العهد يدفع بالوساطة خلافًا
لما نراه اليوم - فتركه حرًّا، وأطلقه من كل يد، فعاد السيد الزهراوي إلى الأستانة،
وأشترك بالمظاهرة الودية التي قام بها فريق من العلماء والكتاب أمام السفارة
الإنكليزية بعد انتصار الإنكليز على البوير في الترنسفال، فلم يغفر له ولرفاقه
السلطان عبد الحميد تلك المظاهرة، لا لأنهم هنئوا إنكلترا بنصرها، بل لأنهم مثلوا
الأمة العثمانية والشعب، ولم يكن يُغضبه أمر كهذا الأمر، حتى إن رقباء الصحف
والمطبوعات (المكتوبجيه) حذفوا من قواميس اللغة كلمة (وطن) و (شعب)
و (أمة) و (جمهور) .. . إلخ، وما شاكل ذلك من الألفاظ، فصبر السلطان على
أولئك المتظاهرين مدة، ثم فرق شملهم وأرسل كل واحد منهم إلى جهة، إلى أن
تمكن السيد الزهراوي من الفرار إلى مصر كما فر قبله السيد عبد الرحمن الكواكبي
وكل حر في تلك البلاد من عربي وتركي وغيرهم.
ويمتاز الزهراوي وأمثاله من رجال الدين المصلحين على سواهم، من
المتعلمين أنهم خير صلة بين طوائف الشعب وفرقه، فهم يحترمون التقاليد المقدسة
لكل طائفة، وهم في الوقت ذاته يؤيدون المصلحين في إصلاحهم، فقد كانت طائفة
الإسماعيلية في سورية تَجْمَع العُشور والنذور وترسلها إلى أغاخان في الهند لأن
معتقدها ومذهبها يقضي عليها بذلك، فحدث بعد إعلان الدستور أن هذه الطائفة
الصغيرة جمعت ما تبلغ قيمته نحو عشرة آلاف ليرة فصادرتها الحكومة، ولكن
السيد الزهراوي الذي كان يومئذ من أعضاء مجلس النواب انتصر لتلك الطائفة
وقاوم الحكومة، وجاهد في هذا السبيل حتى قرر مجلس النواب أن تنفق تلك
الأموال في تعليم تلك الطائفة، ولا تصادر لخزانة الحكومة كما فعلت وزارة
الداخلية، ولكن القرار لم يتجاوز الورق.
وكان السيد الزهراوي يقول باتحاد الطوائف العربية بعامل اللغة والمنفعة
والأصل والسلالة، فأنشأ جريدة الحضارة لهذا الغرض، وكان من محرري جريدته
رزق أفندي سلوم الذي شُنق في دمشق، وهو فتًى من حمص كان قد ترهب، ولكنه
خلع ثوب الرهبنة، وسار على آثار مواطنه بحتة، ووحد الاثنان كلمتهما في هذا
السبيل، فكأنهما جمعا لسانين دينين على دعوة واحدة وطنية، وكان الزهراوي ككل
أديب في بلاده اتحاديًّا بحتًا على مذهب الاتحاديين الأولين الذين نالوا الدستور
(للاتحاد والترقي وللنجاح) ولكن لما ذهب أولئك الاتحاديون الأولون، ومُزق شملهم
وخولفت مبادئهم ومذاهبهم، اتفق مع الخوجة شكري أفندي الذي تُوفي في مصر منذ
عهد قريب على تأليف حزب الأهالي.
ثم ضُمَّت الفرق كلها وأُلف منها حزب الائتلاف على قواعد ومذاهب فرقة
الاتحاد والترقي، كما كانت هي عهد زعامة صادق بك وإخوانه وأقرانه، إلى أن
فشلوا في مهمتهم، فوجه نظره شطر العرب حيث لا أحزاب ولا فرق، بل مطالب
قاعدتها انتفاع البلاد بما يُجْبَى منها من الضرائب وبأوقافها، فرأس المؤتمر العربي
الذي عقد في باريس- لأنه لم يسمح لهم بعقده في بلاد الدولة- وهناك كتب الوثيقة
المشهورة مع مندوبي الاتحاد، وعاد إلى الأستانة مع رسول الاتحاديين عبد الكريم
قاسم الخليل الذي كان أول المشنوقين في سوريا، والهادي الذي تلاه والشيخ أحمد
طباره الذي حكم عليه بالإعدام، فعين الزهراوي في مجلس الأعيان إلى أن شُنق.
ومما امتاز به هؤلاء جميعًا شدة عصبيتهم العربية، وشدة عصبيتهم الجنسية
العثمانية، حتى كان الزهراوي يقول عند ذكر مطمع دولة من الدول في أملاك
الدولة العثمانية: (إن هذا ينال منا بعد أن تزهق أرواحنا) وله في ذلك مغاضبات
شديدة مع أصدق أصدقائه (الصواب مع بعض معارفه لا أصدق أصدقائه) .
نقول هذا لا تأبينًا للسيد الزهراوي بل بيانًا للحقيقة عن تلك البلاد وأهلها
وميول زعمائها الذين ذهبوا جملة لا لجريرة إلا أنهم طلبوا إصلاحًا يقيهم البلاء،
واتقاء مطامع الطامعين في أرضهم وبلادهم، حتى إن الشيخ أحمد طباره لما عاد
من أوربا غيَّر منهج سياسته وبعد أن كان يمتعض لذكر المدنية الأوربية، أخذ
يكتب ويحث أمته على الاقتباس من محاسنها، فكان يكرر قوله: (إنا لا ننقذ بلادنا
ووطننا إلا بالسير على مناهجهم) تلك طائفة ذهبت اليوم، ولكن لهذه الطائفة
مذاهب ومبادئ إذا بقي في قومها وعشيرتها من يحبها ويعمل بها قد تكون نتيجتها
خيرًا وإلا فقد ذهبت الرءوس وبقي القوم كالقطيع من الأغنام بدون راعٍ تُساق فتسير
إلى حيث يراد منها لا إلى حيث تريد؛ لأنها بعد قطع رءوسها باتت بلا إرادة.
(المنار)
هذا ما نشر في جريدة الأهرام عند وصول نبأ شنق السيد الزهراوي إلى
مصر، وفي بعضه نظر أو إبهام، تختلف فيه الأفهام، وقد رأينا من حق صديقنا
رفيق رزق سلوم الذي ذكرته الأهرام في كلامها عن السيد الزهراوي أن نقول في
نشأته كلمة وجيزة، تحفظ في تاريخه ويظهر بها سبب شنقه وشنق جورج الحداد
من شبان نصارى سورية مع من شُنق من زعماء المسلمين ونابغيهم بتهمة السياسة
العربية.
***
رفيق رزق سلوم المحام
نبت هذا الفتى في بيت من أكرم بيوت الروم الأرثوذكس في حمص، وتلقى
التعليم الابتدائي في إحدى مدارس الطائفة فيها، ثم أرسل إلى دير البلمتد بالكورة
(لبنان) فألبس لباس خدمة الدين، ودخل مدرسة الدير الدينية، ولكنه لم يُخلق
مستعدًّا للرهبانية والخدمة الكنيسية، وإنما خُلق كبير الاستعداد للحياة الاجتماعية
السياسية، فلم يُتم مدة المدرسة، بل خرج منها، ودخل المدرسة الكلية الأمريكية
في بيروت، ثم سافر إلى الأستانة بعد الانقلاب العثماني، فدخل أحد مدارسها
الإعدادية، ثم مدرسة الحقوق، وقد أخذ الشهادة الدراسية منها، واختار أن يكون
محاميًا.
كان رفيق مريدًا وتلميذًا للزهراوي في أفكاره الاجتماعية، عاشره فعلم منه،
وهو أنبغ رجل من أشرف بيت في حمص أن في مسلمي البلاد فئة تسعى للإصلاح
الوطني سعيًا لا شائبة فيه للعصبيات والأحقاد الدينية، ولما جاء الأستانة بمساعدة
الزهراوي رأى جميع طلبة المدارس الرسمية العالية، وكلهم من المسلمين على هذا
المشرب الذي شرب كأسه الأُولى من يد الزهراوي، فانتظم في سلك أعضاء
المنتدى الأدبي، وانتخب وكيلاً للرئيس فيه، وكان حظه من اللغة العربية أوفر من
حظوظ جمهور إخوانه أعضاء المنتدى الذين لم يتعلموا شيئًا في غير مدارس الدولة،
فكان خطيبًا مفوهًا وشاعرًا مؤثرًا، ورغَّبه السيد الزهراوي في الكتابة إنشاءً
وترجمة، وكان يصحح له ما ينشره في جريدة الحضارة فحسنت كتابته.
تمكنت النزعة العربية من نفس هذا الشاب المهذب بما كان يسقي غرسها في
نفوسه مما كان يسمعه من كلام مدرسي الترك وطلابهم في مدارس العاصمة من
الحث على العصبية التركية، وما يقولون في العرب والعربية، وما كان يقرؤه في
جرائدهم وكتبهم، وما يقف عليه من أخبار جمعياتهم، فكان يقابل غلو متعصبي
الترك بجنكيز خان وهلاكو خان المفسدين اللذين دمرا المدنية العربية الإسلامية
بنظم القصائد في مدح النبي العربي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وإنشادها في
احتفال المولد النبوي الشريف في المنتدى الأدبي، فهذا هو السبب الحامل لجمال
باشا السفاك الاتحادي على شنق رفيق رزق سلوم مع السيد الزهراوي وإخوانه
وأخدانه من مصلحي العرب، ولا نعلم له ذنبًا إلا هذا، فإنه قضى حياته السياسية
كلها في الأستانة، وكان على رأي أستاذه الزهراوي في وجوب السعي إلى ترقي
العرب في حجر الدولة العثمانية. وكان جورج حداد على هذا المشرب أيضًا.
ولكنه كان من أعضاء حزب اللامركزية، وكفى بذلك ذنبًا عند جمال باشا يقتضي
القتل والصلب.
__________
(1) كنت كتبت إلى الأخ الذي أشار إليه ثم إليه هو أن عرب الجزيرة هم صفوة العرب وأعظمهم استعدادًا، فإن هنالك إصلاحًا عربيًّا فيجب أن يكون لهم حظ منه وأن نعتني بشأنهم أكثر من غيرهم.
(2) (المنار) الصواب في هذه المسألة ما بيناه في هذا الجزء.(19/169)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البلاغ الإنكليزي الرسمي
في شأن العرب والسلطة الإسلامية
أرسل قلم المطبوعات البلاغ الآتي إلى الجرائد في القطر المصري
مصر في 28 يوليو سنة 1916 نشر في لندن اليوم البلاغ التالي:
(منذ سنين والعرب المعذبون بسوء الحكم التركي ينتظرون اليوم الذي
يتمكنون فيه من استرجاع حريتهم السابقة، وقد قاموا في الماضي بثورات عديدة
ضد الاستبداد التركي في البلاد العربية.
وقد أدى سوء تصرف الحكومة الحالية في الآستانة وخضوعها التام لسلطة
الألمان إلى دخول تركيا مضطرة في حرب مشئومة، أوصلت الأحوال فيها إلى حد
النهاية، فرأى شريف مكة وغيره من الزعماء في البلاد العربية أن الأوان قد آن
لخلع النِّير التركي عن أعناقهم والمناداة باستقلالهم.
وكانت بريطانيا العُظمى تعطف دائمًا على العرب في أمانيهم، ولكن
صداقتها التقليدية لتركيا اضطرتها في الماضي إلى البقاء على الحياد. أما الآن،
وقد انضمت تركيا إلى صف الدول الوُسطى، فقد أصبحت بريطانيا العظمى حرة
في إظهار عطفها على أولئك العرب الذين انخرطوا في جانب الحلفاء ضد العدو
المشترك.
على أن بريطانيا العظمى ستبقى محافظةً على سياستها الثابتة في الابتعاد عن
أية مُداخلة في الشئون الدينية، وعلى بذل جهدها في بقاء الأماكن المقدسة أمينة من
كل طارئ خارجي.
ومن النقط التي لا تقبل التغيير والتبديل في سياسة بريطانية العظمى هو أن
تبقى هذه الأماكن المقدسة في أيدي حكومة إسلامية مستقلة.
ولا يخفى أن أحوال الحرب الحاضرة تلقي العقبات الكثيرة والأخطار في
سبيل الراغبين في القيام بفريضة الحج، ولكن العمل الذي قام به شريف مكة يجعل
الأمل كبيرًا في اتخاذ التدابير اللازمة التي تمكن الحجاج في المستقبل من زيارة
الأراضي المقدسة بسلام واطمئنان) اهـ.
(المنار)
قد أسمعتنا العاصمة البريطانية عدة أصوات في المسألة العربية والبلاد
الإسلامية المقدسة كان أولها برقية لروتر يؤكد فيها أن إنكلترا لا تنوي أن تأخذ شيئًا
من بلاد العرب، ولا تسمح لأحد بالاعتداء على شيء من البلاد الإسلامية المقدسة.
ثم دار في هذا المعنى، وفي مسألة الخلافة كلام كثير بين أعضاء مجلس الأعيان
والنواب، ولكن لم يكن شيء من ذلك بلاغًا رسميًّا في معنى قطعي يوثق بعدم
الرجوع عنه كالبلاغ الذي نشرناه اليوم دون جميع ما سبقه مما هو جدير بأن يحفظ
أيضًا، وإن لم يبلغ درجة هذا البلاغ في الاعتبار.
في هذا البلاغ تصريح قلما يصدر عن دولة، وهو قد صدر عن أدق الدول
في تحرير العبارات الرسمية وجعلها مقيدة لغيرها بقيود قلما يستطاع التفلت منها مع
بقائها هي في عالم الإطلاق. ألا وهو التصريح بأن من أصول السياسة البريطانية
التي لا تقبل التغيير والتبديل بقاء الأماكن الإسلامية المقدسة في يدي حكومة إسلامية
مستقلة. ومعنى كون هذا لا يقبل التغيير والتبديل أنه متفق عليه من جميع أحزاب
الأمة لا أنه رأي الحكومة الحاضرة، أو حزبها - حزب الأحرار- وحده، فيكون
عُرضة للرجوع عنه بتغير الوزارة أو تحولها إلى حزب المحافظين. وبهذا التفسير
يظهر غلط الذين قالوا: إنه لا يوجد في السياسة شيء لا يقبل التغيير والتبديل،
فيكون هذا النص لغوًا لا معنى له حتى نغتر به. ونقول لهؤلاء: حسبنا أنه لا
يتغير ولا يتبدل إلا بتغير رأي الأمة الإنكليزية كلها وهي أثبت الأمم وأبطؤها تغيرًا
وتحولاً في كل شيء.
على أن أهم ما في هذا التصريح فَحْواه لا نصه، وأعني بفحواه اعتراف
الدولة البريطانية باستقلال الدولة الإسلامية التي تستولي على هذه البلاد إذا زالت
سيادة الدولة العثمانية عنها بما يُخشى أن يحل بها من قدر الله - تعالى -، فهو
يتناول مسألة السلطة الإسلامية في هذه الحالة، وهي أهم ما يهم جميع مسلمي
الأرض، وسنكتب فيها مقالاً نبين فيه ما يسمح لنا الوقت ببيانه - إن شاء الله
تعالى -.
__________(19/188)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
سيدي الأستاذ محرر (المنار) : اطلعت على دعوتكم إلى نقد (المنار)
وعلى فاتحة المجلد التاسع عشر فلم يسعني إلا تحرير هذا الكتاب لفضيلتكم ورائدي
الإخلاص وتعضيد ما ينفع الناس.
فأما عن نقد (المنار) فحسبي أن أقول: إن المجلة التي كادت تبلغ ربع قرن
من حياتها لا بد وأن تكون قد جمعت من أسباب الحياة ما فيه الكفاية، وإن ما ألم بها
أخيرًا من العسر المالي الذي يرجع بعضه إلى أزمة الحرب ليس غير مجرد مرض
عادي إذا عُولج علاجًا ناجعًا عادت إلى المجلة نضرتها السابقة، وعندي أن هذا
المرض محصور في اضطراب إدارة المجلة، وفي عدم تمشيها مع الزمن بخلاف
عادتها في سالف السنين، ولبيان ذلك أقول: إن إدارة المجلة على ما يظهر لي
كثيرة التساهل مع المشتركين، فإني لا أتذكر أني تلقيت أخيرًا من حضرة مدير
(المنار) طلبًا بدفع الاشتراك كما هي عادة جميع المجلات الراقية عربية كانت أم
إفرنجية.
وقد كنت أباهي بشدة تدقيقي في حسابي، ولكن شواغل الحياة متى تعددت
أصابت الإنسان بالنسيان وسلبته بعض نظامه مهما يكن يقظًا، فبت ولا أدري بماذا
أدين إليكم؟ والنفقة التي تنفقونها في سبيل تذكير كل مشترك مرة في السنة بموعد
تجديد اشتراكه لا يساوي شيئًا في جنب الفائدة المادية التي تحصلون عليها. ولولا
أن هذه الطريقة الإدارية ذات نتيجة محسوسة لما استمرت على اتباعها جميع
الصحف المعتبرة، زد على ما تقدم أن المجلة لا تُرسل إليّ بانتظام وهذا ضار
بمصلحتها؛ لأني إذا كنت لا أتردد لحظة في دفع ما تطلبون إلى دفعه حتى، ولو
استلمت عددًا واحدًا فقط منها في السنة كلها. معتمدًا على جميع بقية الأعداد منكم
متى عدت إلى القاهرة، فلا شك عندي أن كثيرين غيري يتنصلون من الدفع بهذه
الحجة، فتكون خسارتكم حينئذ غير قليلة. وهذه نقطة جوهرية يحسن بسادتكم
النظر فيها، لأن نظام العمل من أقوى الدعائم لنجاحه.
مباحث المجلة في تعريفكم ليست قاصرة على فلسفة الدين بل هي تشمل أيضًا
شئون الاجتماع والعمران، ولكنكم قلما تطبقون ذلك. لا أنكر أنكم أحسنتم كثيرًا
بنشر المقالات الصحية المفيدة التي وضعها الدكتور توفيق صدقي، كما أن لكم
جولات رائقة في غير مباحث الدين، ولكني لا أعرف لكم أبوابًا ثابتة في كل عدد
سوى باب تفسير القرآن، بخلاف ما أشاهده في مثل (المقتطف) أو (رعمسيس)
أو (الهلال) وبخلاف ما أشاهده في المجلات الدينية المسيحية الراقية التي تصدر
بالإنكليزية، حتى كأن تلك المجلات الدينية، تخوض في كل علم، وترمي إلى
تطبيق العلم على الدين.
ومثل هذا التطبيق في رأي بعض المفكرين تضليل. ولكني لا أرى ذلك إذا
كان المطبق مخلصًا في عمله؛ لأن رجل الدين متى اعتقد أن العلم هو أحد أركان
الدين، وجب عليه أن يجمع بينهما حتى يخلِّص المعتقدات الدينية من خرافات
الجهلاء المدعين الذين يتاجرون باسمها أو يبنون شهرتهم الكاذبة على حسابها، وقد
لاحظ كثيرون تحاشيكم إيضاح (المنار) بالصور حتى رسوم من تُوُفُّوا من علماء
الإسلام، فعد ذلك دليلاً على كره الإسلام للتصوير في العصر الحاضر أيضًا.
وأما عن دار الدعوة والإرشاد التي تقصدون بها تربية أساتذة لتهذيب العامة،
ونشر المبادئ الأدبية النافعة والقضاء على أباطيل الأولين، فلا يحاربها رجل بعيد
النظر، حتى ولا من أنكر ذات الخالق؛ لأني إذا قلت: إن الطبقة المتعلمة من
الأمة قد تجد من تعليمها العالي المبادئ الأدبية الكافية لصيانة أخلاقها، ولو كانت
غير متدينة بدين سماوي، فيصعب علي جدًّا أن أتصور جواز هذا الحكم على عامة
الناس الذين لا تثمر مبادئ الإلحاد بينهم إلا فوضى أدبية مريعة. فيجب إذن تعضيد
رؤساء الأديان الذين يسيرون بها دائمًا إلى الأمام، وقصدهم التعليم والتربية: وإذا
عد نفر من السنين يتحقق هذا الحلم.
فإذا فرضنا أن تحقيقه في حكم المستطاع - والناس كثيرًا ما يختلفون حتى
على البديهات. وفي خلال كل هذا الزمن، يلبث الدين قرين اللغة من مشخصات
الأمة ومظهر من مظاهرها - فحري بكل ذي وطنية صحيحة أن يمعن النظر في
هذه المسألة الحيوية.
هذا وإني لا أذهب مذهب مكاتبكم الفاضل في خاتمة المجلد السابق، بل لا
أشك في حسن مستقبل الشرق، ولكل أمة دور من صعود وهبوط، ولا خوف
عندي على مثل (المنار) أو (دار الدعوة والإرشاد) فلا بد أن يأتي وقت قريب،
يُعطى فيه خليفة الإمام محمد عبده حقه من الإنصاف على ما خدم به الأمم الإسلامية
من الإرشاد النافع حتى صارت فتاويه مرجع كل مصلح اجتماعي جريء.
وبات (تفسير المنار) معدودًا أعظمَ تفسير للقرآن الشريف لجمعه بين علوم
السلف والخلف، ولما تضمنه من خلاصة العلوم الحديثة، التي يجب أن تكون هُدى
المفسر لكتاب يعد قانون الله الذي خلق الكون ودبره. فما العلوم الطبيعية إلا
خلاصة ما وصل إليه العقل الإنساني في دروس سنن الكائنات بتدقيق وأمانة؛ لهذا
كانت تفاسير القرآن التي خطها الجاهلون بهذه العلوم أولى بالتلف منها بالصيانة،
فإنها عار للعلم والدين معًا.
فاسمح لي إذًا يا سيدي الأستاذ أن أهنئكم على استقبال (المنار) لسنة جديدة
من سِنِي حياته المباركة، راجيًا أن تكون فاتحة رقي متواصل له ونجاح ثابت
ونصرة للفضيلة والآداب.
... ... ... ... ... ... نادي، مستشفى سانت جورج بلندن
... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي
... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب)
(المنار)
نشرنا رسالتكم برمتها، وإن كان موضوع باب الانتقاد على المنار خاصًّا
بانتقاد مسائله دون إدارته. ونشكر لكم تهنئتكم وثناءكم، وكل ما كتبتم بمداد
الاستقلال والإخلاص، ولا أنكر ما عرض من الخلل على إدارة المنار ولا سيما
إهمال التحصيل، وأذكر من سببه خيانة بعض الوكلاء وتركي الأشراف عليها،
وتعدد من تولى أمرها منذ الانقلاب العثماني الذي فتح لي أبواب الأسفار إلى سورية
ثم الآستانة، ثم الهند وعمان والعراق، والاشتغال بمشروع الدعوة والإرشاد،
وستعود إلى الانتظام في هذا العام - إن شاء الله تعالى -.
وأما سبب قلة تنوع موضوعات المنار كتنوع غيره من المجلات فهو أن
محرره واحد له أعمال كثيرة أخرى، ومحرروها كثيرون. ولا يتسع هذا الجزء
للخوض معكم في سائر المسائل التي أودعتموها في رسالتكم المفيدة.
__________(19/190)
ذو القعدة - 1334هـ
سبتمبر - 1916م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناسك الحج
أحكامه وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) , {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197) .
أما بعد: حمدًا لله والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فيقول محمد رشيد بن علي رضا صاحب مجلة المنار: إنني في شهر ذي
القعدة سنة 1334 عزمت على أداء فريضة الحج في خدمة والدتي، وكنت أتمنى
ذلك منذ سنين، ولم يتيسر لي لموانع بعضها من قِبَلها، وبعضها من قِبلي، وقد
خطر لي قبل السفر من مصر بثلاث ليال أن أكتب شيئًا مختصرًا في أحكام المناسك
وحكمها، سهل العبارة، مأخوذًا مما صح في السنة، مع الإشارة إلى أقوى مسائل
الخلاف، وأن أطبعه وأوزعه على من أسافر بصحبتهم من الحجاج، تعليمًا للجاهل،
وتذكيرًا للغافل، ولكن لم يتيسر لي الشروع فيه إلا في منتصف النهار من اليوم
الثاني والعشرين من الشهر - وموعد السفر 24 منه -.
***
الحج والعمرة
الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة بدنية مالية، والصلاة عبادة
بدنية فقط، وكذلك الصيام، والزكاة عبادة مالية فقط، ومعناه القصد إلى بيت الله
الحرام بمكة المكرمة؛ لأداء النسك فيه وفيما جاوره من الأماكن الشريفة، وهذا
النسك منه أركان وواجبات، وسنن مندوبات ومستحبات.
والعمرة كالحج في أركانه وواجباته وسننه إلا الوقوف بعرفة فإنه ركن من
الحج غير مشروع في العمرة، وتكون في أشهره وفي غير أشهره كما سيأتي.
وهي واجبة عند بعض أئمة العلم، وسنة عند الآخرين ويجوز الجمع بين الحج
والعمرة بأن ينويهما، ويلبي الله - تعالى - بهما معًا عند الإحرام، ويسمى هذا
(قِرانًا) وأن ينوي الحج وحده ويلبي به ثم يدخل عليه العمرة، ويسمى
(إفرادًا) وأن ينوي العمرة وحدها أو مع الحج ثم يتحلل منها بعد أداء أركانها، ثم
يُحرم بالحج بمكة، ويسمى هذا (تمتعًا) لأن صاحبه يتمتع بعد التحلل من إحرامه
بها ويتمتع به غير المُحْرِم من لبس الثياب والطيب وغير ذلك من محرمات الإحرام،
وعليه فدية، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع من
الحج، أو إطعام ستة مساكين من أوسط طعامه، ككفارة اليمين وزكاة الفطر.
واختلف علماء السلف والخلف في الأفضل، وأقوى الأقوال في ذلك أن التمتع
أفضل مطلقًا، أو لمن لم يَسُق (الهدي) إلى الحرم. و (الهدي) ما يُهدى إلى
الحرم من الأنعام ليُذبح فيه تقربًا إلى الله - تعالى -، فمن ساقه من بلده أو
طريقه فالأفضل له القِران. وعلى هذا يكون التمتع هو الأفضل والأيسر لأمثالنا -
من الحجاج المصريين وغيرهم ممن لا يسوق معه هديًا - أن نُحْرِم بالعمرة وحدها
أو مع الحج، ثم نأتي بأركان العمرة كما يأتي بيانه، ثم نتحلل منها فنستبيح
كل ما يباح لغير المحرم، ونذبح شاة إذا كان يوم (التروية) - وهو الذي قبل يوم
عرفة - نُحْرِم بالحج من مكة، ولمن أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة معًا أن
يتحلل بعمرة، ثم يحرم بالحج كذلك.
***
الإحرام والتلبية
لكل قطر من الأقطار مكان يسمى (ميقات الإحرام) لا يجوز تجاوزه بغير
إحرامٍ الحاجُّ ولا المعتمر، وفي غيرها كقاصد الحرم للتجارة خلاف، فمتى بلغ
الميقات أحرم عنده، بأن ينوي الحج والعمرة أو أحدهما، ويلبي بما نواه بأن يقول:
لبيك اللهم عمرة أو بعمرة، أو لبيك اللهم حجًّا، أو لبيك اللهم حجًّا وعمرة، أو
بحج وعمرة.
وتقدم أن الأفضل لأمثالنا الإحرام بالعمرة فقط. ومن أحرم إحرامًا مطلقًا
قاصدًا النسك الذي فرضه الله - تعالى - في حرمه من حيث الجملة جاهلاً هذا
التفصيل صح إحرامه، وعند أداء المناسك يأتي بواحد من الثلاثة التي ذكرناها.
والإحرام بالمعنى الذي ذكرناه - وهو نية النُّسك من حج وعمرة فرض فيهما، وهو
ركن عند الجمهور وشرط على الراجح عند الحنفية.
ويستحب الاغتسال للإحرام، ولو لحائض ونُفَساء، وكذلك التطيب قبله،
وأن يكون بعد صلاة، إما صلاة فرض، وإما صلاة تطوع، وأن يحرم في ثوبين
نظيفين - وكونها أبيضين أفضل - وفي نعلين لا يستران الكعبين، وأن يكون أحد
الثوبين إزارًا، يُلف على النصف الأسفل من البدن والآخر رداء، يوضع على
العاتق ويستر النصف الأعلى منه دون الرأس فإنَّ ستره حرام على الرجال. فلا
يجوز للمحرِم لُبس العمامة ولا غيرها مما يوضع على الرأس، ولا لبس القميص
والقباء (القُفطان) والبرنس والجُبَّة والسراويل والخف والحذاء، الذي يسمى
الجزمة أو الكندرة. ولا ما في معنى ذلك من الثياب المفصلة المخيطة، ومن لم
يجد الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه
سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بعرفات يقول: (السراويل لمن
يجد الإزار والخفان لمن يجد النعلين) ولا فِدية عليه عند الشافعي وأحمد لأنه لبس
ذلك للضرورة، فإذا زالت الضرورة في أثناء النسك، بأن وجد الإزار والنعلين
وجب عليه نزع السراويل والخف ونحوهما، فان لم ينزعها وجبت عليه الفدية،
وهي شاة يذبحها. وعند أبي حنيفة ومالك تجب عليه الفدية، وإن لبس ذلك
للضرورة. ولا بأس بشد المنطقة أو الهميان الذي توضع فيه النقود في الوسط.
ولا بأس بعقد الإزار في وسطه أيضًا، وإذا كان يخاف سقوطه بغير عقد يتأكد العقد.
والأصل في هذه المسألة حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال: لا يلبس القميص
ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس
الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين. ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا
الورس هذا لفظ مسلم. وفي حديث ابن عباس المرفوع، أنه - صلى الله عليه
وسلم - لم يشترط في ترخيصه بلبس الخفين لمن لم يجد النعلين قطعهما. فبعض
العلماء حل هذا الإطلاق على حديث ابن عمر، وقال: لا بد من قطعهما، وبعضهم
قال: إن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر؛ لأنه بعده.
ولا يجب على الرجل كشف غير الرأس من بدنه، ويجوز له أن يستظل
بالمظلة (كالشمسية) وغيرها مما لا يمس رأسه، ولكن يستحب له أن يعرض
رأسه للشمس ما لم يتأذَّ بذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه -
رضي الله عنهم - لم يكونوا يستظلون في الإحرام، وقد رأى ابن عمر رجلا ظُلِّلَ
عليه قال له: أيها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له. أي ابرز للشمس لأجل من أحرمت
له، ويقال: ضَحَى الرجل، يَضْحَى ضُحًى، وضحا، يضحو، ضَحْوًا، وضَحْيًا،
إذا برز للشمس أو أصابته الشمس.
وأما المرأة فلم ينهها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن وضع النِّقاب
على الوجه، ولبس القُفّازين في اليدين، فإحرامها في وجهها ويديها والنقاب ما
تستر به المرأة وجهها، فلا يبدو منه إلا محاجر العينين، ومثله البُرْقُع.
قال العلماء: فإن سترت وجهها بشيء لا يمسه فلا بأس. وأما ستره عن
الرجال بمظلة ونحوها فلا شبهة في جوازه، ويجب إذا خِيفت الفتنه من النظر.
ومن أَضَرّه لباس الإحرام، فله أن يتقي الضرر، ولو بتغطية الرأس، ومتى زالت
الحاجة إلى ذلك تركه.
وأما التلبية فصيغتها المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يلبي من حين يحرم، يرفع بها صوته، فرفع
الصوت سُنة للرجل، فيرفع المحرم صوته بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع
صوتها بحيث تسمع نفسها، وكذا جارتها.
ومعنى التلبية المبالغة في إجابة دعوة الداعي إلى الحج، ولا يزال العرب
يجيبون من يدعوهم إلى شيء بكلمة لبيك، وأول من دعا الناس بأمر الله إلى هذه
العبادة إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والسلام -. وذلك قوله تعالى له: {وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:
27) والرجال هنا جمع رَاجِل، وهو الماشي على رجليه، أي يأتوك مشاةً
وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة.
فمعنى (لبيك اللهم) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها
إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة. والتلبية واجبة عند المالكية، ومسنونة عند
الجمهور.
وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك
إلى الانتهاء منه. ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط
والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق.
***
دخول مكة والطواف
يستحب الاغتسال لدخول مكة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يغتسل له وكان يبيت (بذي طُوى) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها: آبار
الزاهر، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة.
والأفضل دخول مكة نهارًا، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا، والأفضل أن
يدخل من باب بني شيبة؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة -: (اللهم زد هذا البيت
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من شرفه وكرّمه، ممن حجه أو اعتمر
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا) وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا نظر
إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام) .
واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء، وما يلقنه المطوفون
للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما
هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى -
ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك. فعُلم من ذلك
أن ما لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع
منه، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة؛
لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس
ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه. ويُسن أن يصلي بعد الطواف
ركعتين.
والثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ
بالطواف، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم، وهو واجب
عند المالكية، وسنة عند الأئمة الثلاثة.
ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر
العورة، لما رواه الشافعي والترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون
فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في
الطواف، أي: وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع
في هذه العبادة.
ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف، امتنع الطواف على الحائض
والنفساء، فهي تؤدي جميع أعمال الحج سواه، فتتربص به إلى أن تطهر، ويبتدئ
من الحجر الأسود: يستقبله ويستلمه ويقبّله، إن أمكن من غير إيذاء نفسه أو إيذاء
أحد بالمزاحمة، وإلا اكتفى باستلامه بيده - أي مسحه بها - وتقبيلها، فإن لم يمكن
أشار إليه بيده. ثم يشرع في الطواف فيجعل البيت عن يساره، فيطوف به سبعة
أشواط أي: مرات. ويستلم من الأركان الركنين اليمانيين؛ لأنهما على قواعد
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - دون الشاميين؛ لأنهما في داخل البيت.
والركنان اليمانيان هما الجنوبيان، ويسمى الذي فيه الحجر الأسود منهما
(الركن الأسود) إذا ذُكر وحده، وإذا ذُكر الآخر وحده قيل: الركن اليماني.
والشاميان هما الشماليان، فإذا ذُكر كل منهما وحده قيل: (الركن الشامي) وهو
المقابل لبلاد الشام (والركن العراقي) وهو المقابل لبلاد العراق، وإنما يقال في
تثنيتهما: اليمانيان والشاميان من باب التغليب.
هذا، وإن في الحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم الذي ذكرناه، وطواف
الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج باتفاق الأئمة، ووقته بعد الوقوف بعرفة،
وطواف الوداع، وهو واجب عند الجمهور ومندوب عند المالكية، وللحاجّ وغيره
أن يكثر من طواف التطوع ما استطاع.
***
السعي بين الصفا والمروة
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور، وعند
الحنفية واجب غير ركن، ويشترط أن يكون بعد الطواف. وعند الملكية يجب ذلك
وليس بشرط، ويجب عندهم الموالاة بينه وبين الطواف، وقال الجمهور: إنه سنة
لا واجب. ويطلق على السعي اسم الطواف والتطوف، كما ثبت في القرآن
والأحاديث؛ واختار الفقهاء اسم السعي للتفرقة بينه وبين الطواف بالبيت.
وكيفيته أن يبدأ بالصفا فيصعد إليها ويستقبل البيت (الكعبة) فيهلل ويكبر
ويدعو الله - تعالى - ثم ينزل ويذهب إلى المروة فإذا انتهى إليها توجه إلى جهة
المسعى ليكون مستقبلاً للبيت ويدعو الله - تعالى - كما دعاه عند الصفا؛ فهذه مرة،
ثم يعود إلى الصفا ثم المروة إلى أن يتم سبعة أشواط، يرمل في ثلاثة منهن بين
الميلين الأخضرين (وهما عمودان في جدار الحرم) .
والرمَل سرعة في السعي، ولا يشترط في السعي ما يشترط في الطواف من
الطهارة ولكن يستحب، ويجوز السعي راكبًا وماشيًا والمشي أفضل للقادر عليه.
روى مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنا
من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) وقال: أبدأ
بما بدأ الله به، وفي حديثه عند النسائي (ابدءوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا، فرقي
عليه حتى إذا رأى البيت استقبل القبلة فوحد الله، وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده،
أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بعد ذلك، فقال مثل هذا،
ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة) الحديث.
وفيه أنه فعل في المروة كما فعل في الصفا. فينبغي أن يحفظ هذا، وأن
يدعو الساعي بعده بما يفتح الله به عليه لنفسه وأهله وإخوانه وأمته.
***
تنبيه
إن المكان الذي كان يرقى النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه على الصفا،
قد بُني عليه، والصعود إليه ليس شرطًا لصحة السعي، فمن وصل إلى أسفل البناء
هناك وسعى ولم يصعده أجزأه ذلك، ولكن الأفضل أن يصعده لموافقة السنة في
الصعود.
***
الوقوف بعرفة
يخرج الحجاج من مكة (يوم التروية) وهو الذي قبل عرفة ويسميه العوامّ
بمصر والشام (يوم العرفة) ويسمون يوم عرفة (يوم الوقفة) محرمين؛ لأن من
كان متمتعًا يحرم في ذلك اليوم كإحرامه من الميقات، والسنة أن يحرم كل واحد من
المكان الذي هو نازل فيه، وله أن يحرم من خارج مكة إن كان غير مكي، فإن
المكي إنما يحرم من أهله، والسنة أن يبيتوا بمِنًى، ولا يخرجوا منها حتى تطلع
الشمس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يسيروا منها إلى
(نمرة) عن طريق (ضب) من يمين الطريق، وهو موضع في حدود عرفة
(ببطن عُرنة) . فيقيموا فيها إلى الزوال ثم يسيروا منها إلى بطن الوادي، وهو
الذي صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الظهر والعصر قصرًا وجمعًا،
وخطب، فيصليها الحُجَّاج كذلك ويخطب بهم الإمام.
وهناك مسجد يقال له: مسجد إبراهيم بني في أول دولة بني العباس ثم
يذهبون إلى عرفات والعدول عن هذه الطريق إلى طريق (المأزمين) ودخول
(عرفة) قبل الزوال كلاهما مخالف للسنة، ولكن لا يجب به شيء لأنه ليس تركًا
لشيء من واجبات الإحرام.
ويقفون بعرفات إلى غروب الشمس، فإذا غربت خرجوا من بين العلمين أو
من خارجها. ويجتهد الحاجّ في الذكر والدعاء في هذه العشية فهي أفضل الأوقات
لهما وأرجاها للمغفرة والرحمة. ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفة
دعاءً ولا ذكرًا ليجتهد كل إنسان في ذلك بقدر معرفته وحسب حاجته. فيهلل ويكبر
ويدعو ما شاء الله من الأدعية الشرعية. ويُسن الغُسل يوم عرفة، ولا يسن
الصعود إلى الجبل الذي هناك الذي يسمى جبل الرحمة، - وهو جبل إلال - ولا
دخول القبة التي فوقة، التي يقال لها: قبة آدم ولا الصلاة فيها.
والسُّنة أن يُفيضوا من عرفات عند الخروج على طريق (المأزمين) فإن
النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج منها على هذه الطريق؛ لأنه دخلها من
طريق (ضب) فسنته في المناسك كسنته في الأعمال والمواسم، إذا جاء من طريق
رجع من أخرى، كما كان يدخل المسجد من (باب شيبة) ويخرج بعد الوداع من
(باب حرورة) .
***
المبيت بمزدلفة
ورمي الجمار بمنى
يُسن المبيت بمزدلفة بعد عرفة، فهي المشعر الحرام الذي قال الله فيه:
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة: 198)
والوقوف عند (جبل قزح) أفضل، ثم يفيضون من المزدلفة بعد صلاة الفجر،
فإذا أتوا منى رموا (جمرة العقبة) بسبع حصيات، ولا يرمون يوم النحر غيرها.
وكيفية الرمي أن يستقبل الجمرة بحيث يكون البيت عن يساره ومنى عن
يمينه، ويرفع يديه بالرمي ويكبر مع كل حصاة. وإن شاء قال مع ذلك: اللهم
اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا. ويستحب تكرار التلبية بين
المشاعر كالذهاب من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى، ولم يصح في السنة
التلبية في عرفة ولا مزدلفة، فإذا شرع في رمي الجمرة استبدل التكبير بالتلبية -
أي: جعل التكبير للعيد بدلاً من التلبية للحج؛ لأنه حينئذ يشرع في التحلل الذي
تنتهي به المناسك. ومتى رمى جمرة العقبة، نحر هديه إن كان معه هدي. وكل
ما سيق من الأنعام من الحِل إلى الحرم فهو هدي بالاتفاق، ويسمى أُضْحِيَّة أيضًا،
وأما ما يُشترى في منى أو غيرها من أرض الحرم، ويذبح فيها فهو ليس بهدي عند
المالكية، وعند الأئمة الثلاثة يسمى هديًا. ويقول عند نحر الإبل وذبح غيرها:
بسم الله والله أكبر. اللهم منك ولك، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك.
***
الحلق أو التقصير
بعد رمي جمرة العقبة يحلق الرجل شعر رأسه أو يقصره، بأن يقص منه
مقدار الأُنملة أو أقل أو أكثر، وتقص المرأة ولا تحلق ولا تزيد على قدر الأنملة.
والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج لا يتم إلا به في مذهب الشافعي، وعند
الجمهور واجب لا ركن. وبالحلق أو التقصير يكون التحلل الأول من الإحرام فيحل
به للمحرم ما كان محرمًا عليه بالإحرام إلا النساء.
وبعد هذا يأتي الحاجّ مكة فيطوف طواف الإفاضة، الذي هو طواف الركن
كما تقدم، فإذا طاف هذا الطواف حل له كل شيء مما ذكر حتى النساء.
ثم يرجع إلى منى فيرمي بقية الجمرات، والأفضل أن يرميها في أيام
التشريق الثلاثة، وله أن يرميها في يومين لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (البقرة: 203) .
ويستحب في رمي الجمار أن يكون بعد الزوال، وأن يبدأ بالأُولى وأن يكبر
مع كل حصاة. ويدعو فيطيل الدعاء. وإذا قال في دعائه: اللهم اجعله حجًّا
مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا - فهو حسن.
***
طواف الوداع
تقدم حكمه، وينبغي أن يكون هذا الطواف آخر عهد حجاج الآفاق بمكة ليكون
مسك الختام.
انتهت الأحكام ولم نشأ نشر (حِكَم المناسك وأسرارها) في هذا الجزء من
المنار؛ لأنها منشورة في (باب الفتوى) من المجلد السادس عشر فليرجع إليها من
شاء في ص 675.
__________(19/213)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(13)
الدرن
TUBERCUlOSiS
يراد بهذا الداء تكوُّن أجسام صغيرة في عضو أو أكثر من أعضاء الجسم [1]
ويسمي الأطباء المحدَثون هذه الجسيمات بالدرنات أو الدرن [2] وهي تنشأ من باسيل
اكتشفه العلامة الألماني كوخ سنة 1882 ميلادية.
أوصاف هذا الباسيل: هو عصيات مستقيمة أو منحنية قليلاً طولها نحو 3
ميكرونات وعرضها 5و0 من الميكرن. ذات أطراف مستديرة في كل منها نقطة
لامعة أو أكثر ظُن سابقًا أنها حبيبات للميكروب، والحقيقة أنه لا يتوالد إلا بالانقسام
وهو عديم الحركة ولا أهداب له (خلافًا لما ذهب إليه بعض الباحثين) ويعيش في
الهواء وفي غيره من الغازات، بل في الفراغ، وأحسن حرارة تناسبه ما كانت
درجتها 37 سنتجراد، ولكن نموه بطيء جدًّا.
تركيب الدرن: تتكون كل درنة من خلايا تحيط بها تشبه كريات الدم البيضاء
وفي داخلها خلايا تشبه خلايا البشرة، وفي مركزها خلية أو أكثر كبيرة ذات نويات
عديدة. وقد يوجد بين هذه الخلايا منسوج آخر دقيق جدًّا يؤلف بينها. ويوجد
الميكروب بين هذه الخلايا أو فيها خصوصًا حول الخلية المركزية الكبرى أو فيها
كما في درن الحيوانات. وفي بعض الأحوال تكون هذه الخلية معدومة، وفي
البعض الآخر تكون الخلايا البشرية، كذلك فتتكون الدرنة من خلايا كالكريات
البيضاء فقط. وقطر الدرنة الواحدة عادة مليمتر واحد أو اثنان. وتشاهد الدرنات
في هذا المرض بوضوح في الرئتين أو الكبد أو الكليتين.
وكلما كبرت الدرنة مات وسطها، وذلك إما لعدم وصول أوعية الدم إليه أو
لسموم الميكروب أو للسببين معًا، فإذا مات الوسط صار مصفرًا وقوامه كالجبن،
وهذا الوسط الميت يزداد اتساعًا بينما محيط الدرنة يُغِير على ما أحاط به من
الأنسجة، وهلم جرًّا. وهذه الدرنات تنشأ بسبب تهيج العضو بالميكروب فتتكاثر
الخلايا حوله بانقسامها إلى عدة أقسام. وتهرع إليها الكريات البيضاء لمقاتلتها
فتحيط بها فيصيبها ما ذكر. وباجتماع هذه الدرنات بعضها مع بعض تتكون درنات
كبرى فينشأ من ذلك أخرجة (جمع خراج) في العضو المصاب.
وقد تتحول إلى مادة كلسية (جيرية) برسوب فسفات الكلسيوم فيها على
الأكثر فيموت الباسيل ويُشفى العليل.
وهذه الدرنات تحدث تهيجًا في الأعضاء، وقد يكثر حولها المنسوج الليفي
الضام. ويجوز أن يغير هذا المنسوج على الدرنة ويطبق عليها فتضمر وتتناقص
حتى تستحيل إلى نقطة ليفية، وبذلك يُشفى الدرن أيضًا.
أما إذا كانت قوى المريض ضعيفة فتلتهب الأنسجة حول الدرنات وتزداد حالة
العليل سوءًا فوق سوء، وفي آخر الأمر تتقيح الدرنات وما حولها ويشترك مع هذا
الميكروب ميكروبات أخرى فتتكون أخرجة وكهوف كما يحصل كثيرًا في رئة
المسلولين.
الأسباب: ميكروب هذا الداء منتشر كثيرًا بين الناس وبعض الحيوانات.
ولمعرفة كيفية العدوى به يجب أن نقسم البحث هنا إلى مسألتين:
(الأولى) الاستعداد الشخصي: للوراثة تأثير عظيم في العدوى بهذا الداء
فإنه يغلب حدوث هذا المرض في أولاد المسلولين. ولا يتوهم أحد أن الذي ينتقل
من الوالد إلى ولده وهو الميكروب، بل استعداد خاص فقط، اللهم إلا في أحوال
نادرة جدًّا، ولذلك كثيرًا ما يولد الولد في صحة لا بأس بها أو جيدة، ثم يصاب بعد
ذلك بالدرن وهناك مهيئات كثيرة للعدوى تسبب نهاكة القُوى فيضعف الشخص عن
مقاومة الميكروب فيقهره، وأهم هذه الهيئات:
(أ) الازدحام وفساد الهواء بأي سبب كان.
(ب) قلة الأغذية.
(ج) إجهاد قوى الجسم فوق طاقته بأي عمل كان ككثرة العدْو أو الانهماك
في الجماع أو في السهر وجلد عميرة، أو المطالعات الطويلة والمباحث العقلية
العنيفة خصوصًا إذا صاحبها الفقر وفساد الهواء.
(د) كثرة الحمل والولادة أو الإرضاع.
(هـ) كثرة التردد إلى الأماكن الرطبة المظلمة التي يندر دخول الشمس
فيها.
(و) الحمى التيفودية.
(ز) الإسراف في شرب الخمور.
(ح) البُوال السكري.
(ط) الزُّهَري إذا أهمل حتى أفسد البِنية.
هذه هي المهيئات العامة هناك مهيئات أخرى خاصة بالعضو المصاب
ويسمونها بالمهيئات الموضعية مثل، كثرة النزلات الشعبية أو الرئوية، وتهيج
الرئة ببعض الغازات أو بغبار بعض المعادن وغيرها كما يحصل في المصانع.
وللعمر تأثير كبير أيضًا في العدوى، فترى أن الدرن كثيرًا ما يصيب الصغار
ففي الأطفال تشاهد كثيرًا إصابتهم بدرن السحايا أو البريتون أو الغدد اللمفاوية أو
العظام أوالمفاصل، وفي الشبان كثيرًا ما نشاهد الدرن الرئوي (وهو المسمى
بالعربية السل أو الهُلاس) وأما الأشخاص الذين عمرهم فوق الأربعين فتقل
إصابتهم بالدرن ولا ينافي ذلك أنه يصيب الشيوخ أحيانًا قليلة، وفي تلك الحال
يغلب أن تكون إصابتهم مزمنة أي أن المرض بدأ فيهم قبل الأربعين.
(المسألة الثانية) مدخل الميكروب: يدخل الميكروب الجسم من طريق
الجلد أو الرئتين أو القناة الهضمية.
(أ) طريق الجلد وهو نادر الوقوع غير أنه يشاهد أحيانًا ثُؤلول في أيدي
المشرحين لجثث المسلولين، وفي هذا الثؤلول توجد ميكروبات الدرن وقد تنتشر
منه إلى الرئتين أو غيرهما.
وهناك درن الجلد يسميه الإفرنج [لوبس LUPUS] آخذًا من كلمة لاتينية
معناها (الذئب) لأن هذا الداء يصيب كثيرًا الوجه فتتآكل أجزاء كثيرة منه تآكلاً
يشبه نهش الذئب، ولكن هذا الدرن الجلدي قل أن ينتشر ميكروبه في الأحشاء.
وهذا الطريق الجلدي غير مهم في الغالب.
(ب) طريق الرئة وهو طريق مهم جدًّا. ولا يكفي لحصول الداء من هذا
الطريق مجرد استنشاق بعض نَفَس المسلول أحيانًا، ولكن يحدث المرض إذا كثر
الاختلاط بالمريض والقرب منه حتى يستنشق الإنسان الهواء المشتمل على ذرات
تخرج من صدر المسلول أثناء سُعاله فتنتشر في الهواء المحيط به، أما نفسه الهادئ
فلا يوجد فيه الميكروب. وإذا بصق المريض على الأرض أو غيرها وجف
البصاق تطايرت منه أجزاء فيها الميكروب وتكون خطرًا شديدًا على مستنشقيها.
ويكثر وجود الذرات التي فيها الميكروب على بعد نصف متر من فم المصاب
فإذا بعدت عنه مترًا ونصف متر فقلَّ أن يصيبك منها شيء.
وهناك بعض الحيوانات الداجنة التي تصاب بالدرن كالببغاء، وتكون أيضًا سببًا في
العدوى بهذا الداء من هذا الطريق.
ومن الحيوانات الأخرى الداجنة التي تكثر إصابتها به الخيل، ويقل وجوده
في الكلاب والقطط.
(ج) طريق القناة الهضمية، وهو أهم الطرق، فإن كثيرًا من الحيوانات
التي تؤكل يوجد فيها هذا الداء؛ إذ إنه كثيرًا ما يصيب البقر والخنازير والدجاج
والأرانب وخنازير الهند، أما المعز فقلَّ أن تصاب به، وكذلك الضأْن.
ولبن هذه الحيوانات يشتمل كثيرًا على باسيل الدرن إذا أصيبت ضروعها به
ولما كانت معرفة الضروع المصابة عسيرة في أول الأمر كان من الواجب اتقاء
شرب اللبن إلا بعد غليه مدة خمس دقائق على الأقل. وقد يوجد الميكروب في لحم
هذه الحيوانات وأحشائها. ونظرًا لانتشار الدرن في البقر يُشاهد هذا الداء كثيرًا في
بطون الأطفال الذين يربون بلبنها، وقد دلت التجارب أن الحيوانات الصغيرة إذا
ابتلعت ميكروب الدرن نفذ في جدر أمعائها، وأصاب غدد المساريقا فينشأ عنه
مرض هذه الغدد. أو تدرن معوي أو بريتوني، وقد يصل بعد مضي زمن إلى
أجزاء الجسم الأخرى فيصيب الغدد العنقية ويحدث داء الخنازير، وقليلاً ما يصيب
رئتي الصغار.
أما الشبان فإذا نفذ الميكروب خلال أمعائهم لم يصبها بشيء حتى يصل إلى
الرئتين فيحدث السل الرئوي. وهذا الفرق يشاهد أيضًا بين الصغار والشبان إذا
حقنوا بذرات من الكربون (الفحم) فتبقى في بطن الصغار وتصل إلى رئة الكبار،
ومن ذلك استدل بعض العلماء على أن الرئتين قد تصابان بالسل من طريق البطن
إذا أكل الشخص لحمًا أو لبنًا مصابًا، بل رجح هؤلاء العلماء أن إصابة الرئتين
بالسل من هذا الطريق هي أكثر حدوثًا من طريق التنفس.
وفي أكثر الأحوال تكون الإصابة بالدرن موضعية في أول الأمر يعني أنها
تكون قاصرة على عضو واحد، ومن ثم قد تنتشر تدريجيًّا إلى الأعضاء الأخرى
إما بسير الميكروب خلال الأنسجة أو بسيره في الأوعية اللمفاوية. وهناك درن عام
تصاب به فجأة أعضاء كثيرة من الجسم دفعة واحدة، ولكن يكثر في مثل هذا النوع
أن يكون مسبوقًا أيضًا بإصابة صغيرة موضعية كدرن الخُصية مثلاً، أو غدد العنق
أو غير ذلك.
ومما سبق يعلم أن أهم أنواع الدرن اثنان - الدرن العام والدرن الرئوي.
***
الدرن العام أو الدخني
سمي هذا النوع بهذا الاسم؛ لأن الدرنات تكون منتشرة في جميع أجزاء
الجسم تقريبًا وتشبه حبات الدَّخن إذا نثرت فيها.
الأعراض: هذه الأعراض تكون في أول الأمر مبهمة فيشتكي المريض من
ضعف عام ونحافة وإقهاء (فَقْد شهوة الطعام) وصداع وحمّى، وقد يوجد أثر من
الزلال في البول وتسوء حال المريض شيئًا فشيئًا، ثم تظهر أعراض أخرى تعين
إصابة الرئتين ككثرة السُّعال والبصق، أو يصاب الشخص بأعراض تعين إصابة
البطن كالإسهال المتعاصي والمغص، أو بأغراض أخرى تعين إصابة السحايا
كالتشنجات والشلل. والمراد بذلك أن تكون أعراض انتشار الدرن في الأعضاء
المذكورة أظهر من انتشارها في غيرها، وإن كانت كلها مصابةً به.
ويحصل الموت في مدة تتراوح بين 3 أسابيع إلى 10، ولا يعلم باليقين أن
أحدًا أصيب بهذا الداء وشُفي منه.
المعالجة: عديمة الجدوى، وإنما تعالج الأعراض فقط، ويعطى المريض
السوائل المغذية وبعض المنعشات مع بعض مرَكَّبات الأفيون لتسكين الألم والسعال،
ومن المنعشات النافعة جدًّا النوشادر، ويجب أيضًا أن تكون سُكنى المريض في
الأماكن التي تكون طلقة الهواء وتتخللها الشمس كثيرًا.
***
الدرن الرئوي أو السل
هذا الداء يصيب الرئتين بسبب تهييج باسيله لمنسوجها فتتكون الدرنات
ويلتهب ما حولها فيتصلب منسوج الرئة، ثم يتقيح ويتحول إلى تجاويف ممتلئة
بمِدة وصديد تسمى بالكهوف. ويكون ميكروب الدرن مصحوبًا بميكروبات أخرى
من الأنواع البزرية غالبًا إذا حدثت هذه التغييرات المذكورة أخيرًا فإنها تساعده في
إحداثها.
الأعراض: سير هذا الداء مختلف فبعضه يكون سريعًا والبعض الآخر يكون
بطيئًا فيمكث عادة من ستة أشهر إلى بضع سنين.
وأهم أعراضه السعال وضيق النفس والبصق الصديدي والنحافة الزائدة
والحُمَّى ونزف الدم من الصدر.
وتبدأ هذه الأعراض بطرق مختلفة، ففي كثير من الإصابات تبدأ بالسعال
وبصق المخاط مع الصديد زمنًا ما، وكثيرًا ما يتوهم الشخص أن داءه من البرد فلا
يَعْبأ به كثيرًا في أول الأمر، وفي حالات أخرى تبدأ بالنزف الرئوي، وفي هذه
الحالات قد يكون الشخص متمتعًا بالصحة فيندهش بمفاجأة النزف الرئوي له بعد
سعال خفيف فيخرج منه بضعة دراهم أو أوقية، وقد يزيد الدم إلى نصف لتر وبعد
زمن تظهر باقي الأعراض، وقد يعاوده النزف عدة مرات. وفي حالات قليلة يبدأ
المرض بشكل التهاب رئوي أو التهاب بليوراوي مع انسكاب في الصدر.
وهناك بعض الحالات التي تبدأ باضطراب في الجهاز الهضمي فيصاب الشخص
بالإقهاء مع القيء المتكرر والنحافة، ثم تتم باقي الأعراض المذكورة.
***
مضاعفات هذا الداء
الجهاز التنفسي: يصاب بالتهاب الحنجرة، فيُبَح صوت المريض، وفي
بعض الأحوال النادرة قد يكون ذلك أول ما يلاحظ على المريض. ويصاب هذا
الجهاز أيضًا بالتهاب البليورا، كما سبق مع الانسكاب المصلي أو الانسكاب
الصديدي أو الدموي أو تخترق الرئة فيدخل الهواء في تجويف الصدر، وبذلك
يبطل تنفس الرئة المصابة.
الجهاز الدوري: يصاب القلب بالضعف والتمدد في الأحوال المزمنة. وقد
يصيب الدرن بعض شرايين الرئة فيفجرها، ويحصل بسبب ذلك نزف شديد قد
يكون سببًا في الموت العاجل.
الجهاز الهضمي: يصاب - كما قلنا - بالإقهاء والغثيان والقيء وعُسر
الهضم والإسهال، وهو كثير الحصول في درجات المرض الأخيرة. وقد يصاب
البريتون أيضًا بالتدرن، وقد تصاب الكبد والطحال والكُليتان والأمعاء
بتغير مخصوص في أنسجتها يسمى عند الأطباء (الارتشاح الشمعي
degeneration waxy) ويُشاهَد أحيانًا ناسور في الشَّرَج بسبب هذا الداء
أيضًا.
الجهاز العصبي: قد يصاب بدرن في السحايا.
وقد تصاب أعضاء أخرى بالدرن فتزيد المرض شدة فوق شدته.
نهاية المرض: يحصل الموت بهذا الداء بالطرائق الآتية: نهاكة القُوى أو
النزف أو اختراق الرئة أو التهاب السحايا أو انثقاب الأمعاء أو التسمم البولي.
الإنذار: إذا اكتشف هذا الداء في أول درجاته فقد ينجح فيه العلاج ويُشفى منه
المريض غير أن أثر الدرنات يبقى في الرئة. وفي بعض الأحوال يسرع الموت
إلى المريض في أشهُر قليلة، وقد يمكث المصاب به عدة سنين قد تمتد إلى
الخمسين.
المعالجة: لا يوجد دواء لهذا الداء محقق النفع، وإنما يتلخص العلاج في
الكلمات الآتية: يوضع المريض في أصح الأهوية وأجودها وأكثرها تعرضًا
للشمس، ويُكثر من الراحة والنوم لتوفير قواه، وكذلك يُكثر من الأغذية الجيدة
السهلة الهضم كاللبن والبيض والعسل واللحوم بأنواعها إلى غير ذلك، وإذا اشتدت
الحمى أو أصاب المريض الإسهال وجب عليه الاقتصار على الأغذية السائلة.
وبالاختصار يجب اتباع جميع القوانين الصحيحة حتى تتقوى البنية فتتغلب على
المرض. ويُعطى المريض الأدوية المقوية كزيت السمك والحديد (بشرط أن لا
تكون حرارة المريض مرتفعةً جدًّا) والزرنيخ والكينين وغير ذلك، وهناك أدوية
مطهِّرة للصدر يعرفها الأطباء فلا حاجة لذكرها هنا.
ويجب أثناء المرض أن يبادر الطبيب بعلاج كافة الأعراض والمضاعفات
بجميع الوسائل الممكنة السريعة التأثير حتى لا تنهك قوى المريض.
الوقاية: تكون بما يأتي:
(1) يتجنب المريض البصق على الأرض أو في أي مكان يمكن أن يتصل
منه الميكروب إلى الأصحَّاء. ومن أحسن الوسائل أن يُكلَّف المريض بالبصق في
مباصق خاصة (منها ما يحمل في الجيب) ويوضع فيها محلول مطهر كحامض
الفنيك بنسبة 1/20 من الماء. وإذا بصق في منديل وجب حرقه أو غليه غليًا
طويلاً قبل أن يمسه أحد.
(2) يجب على كل شخص أن يتقي القرب من المريض حتى لا يكون في
طريق الذرات التي تتطاير منه أثناء السعال وغيره، فلا يجوز النوم معه في
الفراش أو الجلوس بالقرب منه. ويجب على المريض أن يتحاشى الزواج خدمة
لنفسه حتى لا تضعف قواه، ولا يأتي بنسل ضعيف وخدمة للأمة بعدم عدوى النساء
وبعدم إيجاد ولد له ضعيفًا أو مصابًا بالسُّل مثله.
(3) يجب تهوية الأماكن التي يسكنها المسلولون وتعريضها لشعاع الشمس
كثيرًا وتنظيفها دائمًا بالمحاليل المطهرة، وغلي كل ما فيها من أواني وملاءات
وغيرها.
(4) يجب أن تتقي الأمهات المسلولات إرضاع أبنائهن.
(5) يجب على الناس كافة طبخ لحوم الحيوانات طبخًا جيدًا وتقطيع اللحم
إلى قطع صغيرة مع إطالة مدة الغلي حتى تصل الحرارة إلى ما قد يكون في باطنها
من ميكروب الداء، فقد ثبت أنه إذا زادت قطعة اللحم عن ستة أرطال فلا تكون
درجة الحرارة في باطنها كافية لقتله. وكذلك يجب غلي اللبن غليًا جيدًا مدة خمس
دقائق على الأقل.
وإذا عُلِمَ أن حيوانًا مصابًا بالدرن وجب اجتنابه وتحاشي أكله أو شرب لبنه
وإبعاده عن الحيوانات الأخرى السليمة. وهناك طريقة لتمييز الحيوانات المصابة
بالدرن عن غيرها، وذلك باستعمال (التيوبركيواين) وسيأتي الكلام على ذلك
تفصيلاً ولْيُلاحَظ عدم الغلو في غلي اللبن كأن يوضع في إناء مغلق وتطول مدة
الغلي فإنه قد ثبت أن ذلك يُفسد بعض مواده الضرورية لحياة الجسم، فإذا اقتصر
الشخص على شرب مثل هذا اللبن المبالَغ في تعقيمه كالأطفال مثلاً فقد يصاب بداء
الكُساح أو بالإسكربوط، فلذا يجب الاعتدال في تطهير اللبن.
وإذا خيف على الطفل من هذين الداءين فيحسن تغذيته بالأشياء الآتية مع اللبن
وهي، القشدة وزيت السمك وعصير البرتقال المُحَلَّى بالسكر أو بالعسل ومرق
اللحم، وإذا كان للطفل بعض أسنان فلا بأس في إعطائه قليلاً من الموز بعد عجنه
ولو باليد النظيفة.
(6) يجب على كل شخص أن يتجنب كل ما يُنهك القوى ويفسد الصحة
كالسكنى في الأماكن الفاسدة الهواء أو الانهماك في الدخول إلى الأماكن المكتظة
بجماهير الناس كالمسارح و (دور الصور المتحركة) ونحو ذلك ويتجنب السهر
الطويل وإجهاد الجسم أو العقل وكثرة الجِماع أو جلد عميرة وإدمان الخمور،
وينبغي الإكثار من الرياضات البدنية مع الاعتدال، واستنشاق الأهوية النقية-
كالتي في الفلوات والبحار- وتعاطي الأغذية الجيدة السهلة الهضم، والإكثار من
النوم واتقاء شرب الدخان واستنشاق الغازات والأبخرة المتصاعدة من النيران
والمصانع وغيرها، وبالجملة فالواجب التزام قواعد الصحة كافة وعدم التهاون في
شيء منها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قد يصيب أي عضو من الجسم أو أي جزء منه، وتكثر إصابته للرئتين ويقل للشِّغاف (الغشاء المحيط بالقلب) .
(2) أصل معنى الدرن في اللغة: الوسخ.(19/225)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العرب والإسلام
والترك الاتحاديون
إن قراء المنار بعد الانقلاب العثماني يعلمون أن الجرائد الإسلامية الهندية أول
من رمى الاتحاديين بالكفر والإلحاد، وأن المنار كان أول الصحف الإسلامية دفاعًا
عنهم، ولما كثر الخلاف في أمرهم رحلنا إلى الأستانة بعد تمهيد مع جمعية الاتحاد
والترقي المركزية للقيام بمشروع الدعوة والإرشاد في الأستانة وللسعي في التوفيق
بين الترك والعرب، وكانت نواجم الخلاف والتخاصم قد نجمت، وامتدت من
العاصمة إلى الولايات. وقد أقمت في الأستانة سنةً كاملة، اختبرت فيها الاتحاديين
اختبارًا تامًّا لا أزال أرى في كل سنة من الآيات ما يؤيده، وتقنعني بأنني قد سبقت
إلى إدراك ما لم يدركه كله العثمانيون ولا الأجانب.
ولو كنت ممن يبيع دينه وقومه بالمال والجاه كالشيخ عبد العزيز جاويش
لأمكنني أن أنال في الأستانة من الاتحاديين أنفسهم ما لا مطمع لعربي في نيل مثله،
فقد منّاني الاتحاديون أعظم الأماني؛ لأنهم كانوا يظنون أنني ما دافعت عنهم
ورددت على من سبق إلى رميهم بالكفر والإلحاد وإفساد هذه الدولة إلا لأن إسلامي
سياسي يدور مع المنفعة الشخصية أنَّى دارت.
ويعلم قراء المنار أني قد حملت على الاتحاديين بعد عودتي من الأستانة
حملات منكرة لم يحمل عليهم أحد بمثلها في الشدة، كما يعلمون أنني لم أكتب شيئًا
ينافي مصلحة الدولة العثمانية نفسها، ولا شيئًا ينافي الإخاء الديني بين العرب
والترك، فأنا لم أعادِ الدولة ولا التُّرك ببيان فضائح الاتحاديين. بل أعتقد أن كل ما
كتبته كان خدمة للإسلام وللدولة، وأن الموافقين لي عليه من علماء الترك وجمهور
المتدينين فيهم أضعاف الموافقين لي عليه من العرب؛ لأن الذين كانوا يعرفون
مقاصد الاتحاديين الإلحادية من العرب قليلين جدًّا، ولعلهم لم يكثروا إلا بعد أن رأى
من رأى خواص العرب في سورية مصلوبين في أعظم مدنها عُمرانًا، وسمع من
سمع بأخبارهم ثم بما كان من أمرهم مع الشريف الأكبر أمير مكة المكرمة.
وقد كتب بعض العرب العثمانيين من أسرى الحرب وغيرهم مقالاتٍ في
مقاصد الاتحاديين وعداوتهم للعرب وللإسلام نشروها في المقطم والأهرام، ظن
كثير من المصريين أنها مقالات مصنوعة افتحرها كُتَّاب الجريدتين حتى إن منهم
من لم يصدق ما نقل عن كتاب (قوم جديد) وكتاب (اتحاد إسلام) وإنما لم يصدق
هؤلاء هذه الأخبار؛ لأنهم لا يريدون أن يصدقوا ما لا يلذ لهم تصديقه، ولو كانوا
ذوي غَيْرَة على الدولة والدين وحرص على بقائهما كحرصهم على لذتهم وراحة
بَالِهم لتحرّوا وبحثوا عن أصل كل ما يقال في هذا الموضوع؛ ليكونوا على بصيرة
من أمر أعظم الأشياء موقعًا من أنفسهم وأهمها لديهم.
كان مقصد الاتحاديين خفيًّا ثم عُرف رويدًا رويدًا، ثم اشتُهر وتواترت أخباره
في جميع الأمم. وإننا ننقل من ذلك عن جريدة الأهرام ما يأتي:
***
الإسلام والجامعة الطورانية
كيف يسعى الاتحاديون لملاشاة الحضارة الإسلامية؟ [
*]
كتب مراسل شركة (سنترال نيوز) الخاص يقول:
في خلال بضع السنوات الأخيرة بدت في بلاد تركيا طلائع حركة جديدة
تعرف بنهضة (بني طوران) أو (الطورانية الحديثة) ، وغرضها هدم المدنية
الإسلامية وإحياء العصبية التركية على أنقاضها والجمع بين العناصر التركية
التترية والشعوب المنتمية إليها، ومنها الأمة البلغارية. أما القائمون بهذا الحركة
فهم قوم مشهورون بعدائهم للإسلام وتعصبهم عليه، وكثيرًا ما يجاهرون بأقوالهم
وكتاباتهم بذلك الكُره، بحجة أن الإسلام يسعى لقتل العصبية القومية ويحول
دون نشوء المدنية التركية؛ ولذلك فهم يسعون لجعل الجنسية التركية مستقلة عن
الإسلام كل الاستقلال.
ومما يقولونه: إن الإسلام لا محل له في المدنية ولا يمكن أن يعيش طويلاً إلا
إذا أدخلت عليه تنقيحات عديدة تلائم المذاهب التركية القومية.
ولهذه النهضة وجهتان إحداهما أدبية والأخرى سياسية، فغاية الوجهة الأولى
تمجيد الشعوب الطورانية، ونشر تاريخها المجيد، وغاية الوجهة الثانية القضاء
على العصبية العربية. فجنكيز خان هو في نظرهم نموذج الملوك ورجال السياسة
فكل مملكة ينشئونها يجب أن تقوم على المثال الذي رسمه، وأما العرب في
نظرهم فهم مصيبة على الأتراك؛ ولذلك يجب القضاء عليهم أو إدماجهم في
العنصر التركي حتى ينسى العالم تاريخهم وتقاليدهم. أما لغتهم فلا بد من محوها
وإحلال اللغة التركية محلها في كل صقع وناد.
والغريب أن كُتاب الأتراك الحاليين الذين يدّعون بأنهم وطنيون بكل معنى
الكلمة ينشرون اليوم المقالات الضافية ويحثون أبناء قومهم على الطواف بجميع
أنحاء السلطنة للمناداة بهذه البدعة الجديدة، ومن أغرب ما يُروى من هذا القبيل أن
أحد الأتراك طاف حديثًا بسوريا وهو ينادي بهذه الضلالة.
والحكومة الاتحادية تؤيد الآن جمعية (بني طوران) وتعززها بالإعانات
المالية العديدة، وتسمي تلك الإعانات (بإعانات المالية التركية) وجميع كبار
الاتحاديين أعضاء فيها، وهم بعيدون عن الإسلام بُعد الأرض عن السماء،
والمسلمون ينكرونهم لما يرون منهم من الاعتداء على حدود الشريعة الغراء.
ولا يخفى أن الألمان هم الذين يؤيدون الاتحاديين في هذه السياسة الخرقاء،
فقد ثبت لهم الآن أنهم لا يستطيعون إخضاع الإسلام لسياستهم ولا هم نجحوا في
إثارة المسلمين الخاضعين لفرنسا وإنكلترا على هاتين الحكومتين. فانقلب زعمهم
العطف على الإسلام إلى كره شديد له، وأخذوا يسعون ضده مستعينين على ذلك
بالجامعة الطورانية الجديدة. وقد علم العالم أجمع ما كان من أمر المنشورات
الألمانية التي اكتشفها الجنرال (سمطس) في موشي والتي كان غرضها سحق
الإسلام في المستعمرات الألمانية، ولذلك فألمانيا هي أكبر خطر على الإسلام مع
أنها تتظاهر بالغيرة على المسلمين.
ليس من ينكر فضل الإسلام على العالم، وما كان لمدنيته من الآثار المجيدة
أما الشعوب الطورانية فليس في التاريخ ما يدل على أنها عملت عملاً واحدًا أفاد
الإنسانية، بل بالعكس كانت جميع أعمالها تدميرًا وتخريبًا، فالطورانيون لم
يستنبطوا شيئًا للمنفعة، بل كانوا حيثما حلوا أخربوا معالم المدنية ومحوا آثارها،
واستعبدوا الشعوب التي يقهرونها بأساليب هي في غاية الهمجية.
أما ادعاء دعاة الجامعة الطورانية بأن الإسلام قد حال دون نشوء المدنية
التركية فغير صحيح، ولا يخفى أن المدنية العثمانية هي خليط من آثار المدنيات
العربية والفارسية والبيزنطية، والشعوب الطورانية التي لم تدخل في الإسلام لا
مدنية لها على الإطلاق، وإنما هي استعارت شيئًا من الحضارة الصينية، ولو أن
السلطة العثمانية قد اعتمدت على المدنية التركية لكانت قد أصبحت في خبر كان منذ
أجيال عديدة؛ لأن المدنية التركية كما قلنا، هي تخريبية لا تعميرية، والشيء
الوحيد الذي يفوق به الطوراني غيره هو الظلم والجور واضطهاد جميع العناصر
التي لا تسبح بحمد الطورانية وتُحَمْدل. وسبب ذلك اعتقاده بأن جميع تلك العناصر
وقفت حائلاً بينه وبين تركمان آذربيجان، والقوقاز.
هذه رسالة شركة سنترال نيوز، وقد نشرت الصحف الإنكليزية كلها هذه
الرسالة وبسطت فيها الكلام بسطًا ضافيًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشرت في العدد الذي صدر من الأهرام في يوم الخميس 16 ذي القعدة - 14 سبتمبر.(19/233)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام والطورانية الحديثة
ما يفعله الاتحاديون لمقاومة الإسلام [*]
نشرنا منذ بضعة أيام فصلاً عن الإسلام والطورانية الحديثة ضمّناه ما نشرته
الصحف الإنكليزية نقلاً عن شركة (سنترال نيوز) الصحافية. وقد وقفنا الآن
على مقالة ضافية في هذا الموضوع، نشرتها مجلة الشرق الأدنى فرأينا أن نورد
خلاصتها لحضرات القراء، قال الكاتب:
بدت طلائع الطورانية في الأستانة في عام 1913 ثم أخذت تمتد وتزداد جلاء
حتى أصبحت نهضة عامة في جميع أنحاء السلطة العثمانية. وخلاصة ما يعرف
عن هذه النهضة أنها تركية محضة غرضها الأصلي الانفصال عن الإسلام، ولها
أغراض أخرى عديدة ينحصر أهمها في ما يأتي:
(1) جعل الجنسية التركية مستقلة عن الإسلام.
(2) ترقية الروح العسكري في الأتراك.
(3) إنشاء علاقات تجارية وغيرها مع مسلمي آذربيجان وروسيا الأسيوية
وروسيا الجنوبية.
(4) تطهير اللغة التركية من كل ما هو عربي أو فارسي.
(5) محو الجنسية العربية وإدماجها في الجنسيات الأخرى.
ويرمي القائمون بهذه الحركة إلى جعل التركي يعتقد أنه تركي قبل كل شيء
ومسلم بعد ذلك. ويقوم بمساعدة هذه النهضة جمعية (الملة التركية) التي تؤيدها
الحكومة الاتحادية بالإعانات المالية.
ومن مبادئ هذه النهضة تربية الأجيال الحاضرة والمستقبلة على الروح
الطوراني بإنشاء مدارس طورانية بحتة , وبناءً عليه يجب التوسع في تعليم التاريخ
باللغة التركية وإنشاء فرقة كشافة (سكوتس) من الأولاد الأتراك تحت
إشراف أنور باشا. وقد أُنشئت الآن هذه الفرقة، وشرع الأولاد الذين يتربون تربية
عسكرية توطئة لدخولهم في الجيش، أما شارات الفرقة وراياتها فمأخوذة عن رموز
ترجع إلى ما قبل الإسلام والأولاد الذين لهم أسماء عربية تُستبدل أسماؤهم
بأسماء تركية بحتة.
ولهذه النهضة وجهة لغوية أيضًا؛ ولذلك أخذ زعماؤها يترجمون كثيرًا من
المؤلفات العلمية والتاريخية إلى اللغة التركية البسيطة، وقد كان في نيتهم أن
يترجموا القرآن أيضًا، ولكن علماء الإسلام قاوموا تلك الفكرة بكل عزم وحالوا دون
تنفيذها.
ويُعزى نشوء هذه النهضة إلى عدة أسباب منها السببين الآتيين وهما:
(1) اللغة.
لا يخفى أن أحرف اللغة التركية مأخوذة عن الأحرف العربية والاصطلاحات
التركية تزداد كل يوم تعقدًا وصعوبة في نظر الطبقة الساذجة.
(2) كتاب المسيو (ليون كاهون) عن تاريخ الترك والمغول من أقدم
الأزمنة إلى سنة 1405 للميلاد، وقد توجت الأكاديمية الفرنسية هذا الكتاب. واتفق
أن ناظم بك سكرتير جمعية الاتحاد والترقي العام، قد قرأ هذا الكتاب فوضع
أساسات النهضة الطورانية التي نحن بصددها.
ولا شك أن نهضة كهذه مما تهم العالم الإسلامي قاطبةً، وتهم أيضًا إنكلترا
وفرنسا وروسيا وإيطاليا اللواتي يحكمن على الملايين من المسلمين، والذي يشجع
الاتحاديين على ترويج هذه النهضة اعتقادهم صحة النظرية التي ابتدعها
(فمبيري) وهي أن الإسلام يناقض فكرة الجنسية.
فالاتحاديون يقولون: إن الإسلام بالاتحاد مع العوامل العربية والفارسية
والرومية والبيزنطية قد جعل الأتراك (مسلمين ليفانتيين) وحال دون نشوء
حضارتهم. على أن هذه الدعوة هي عكس الحقيقة تمامًا، فإن الأتراك الذين جاءوا
أصلاً من حدود الصين وانتشروا في مجاهل آسيا حتى ضفاف (الأوكسوس) لم
يكن لهم دين معروف أو حضارة راقية؛ لأنهم كانوا قبائل رُحَّل يؤجرون سيوفهم
لكل من يطلب معونتهم. ولم يحاول أحد من قواد الأتراك أن يخضع جميع القبائل
التركية. نعم: إن (جنكيز خان) كان يحلم بنشر سلطته عليها، ولكنه لم يفعل.
وقد اشتهر بأنه كان يقتبس عن الصين والعجم والعربية وبيزنطة وجرمانيا كل
ما كان يروقه فيها من آثار الحضارة. ولاشك أن أهم ما اقتبسه هو الاسلام فالإسلام
لم يحُلْ دون نشوء الحضارة التركية؛ إذ لم يكن للأتراك حضارة خاصة بهم وكل ما
لدى الأتراك من حضارة هو بفضل الإسلام. ولما كان التركي مشهورًا بروح
الخضوع العسكري لمن يقوده، فقد جعل نفسه سيفًا في قبضة الإسلام.
إن العنصر الطُّوراني لم يشتهر بشيء من قوة الابتداع. وما تاريخه سوى
تاريخ تدمير. فقبائل (بوشي) أخربت مستعمرات بكتريا اليونانية. وقبائل
(الهون) اجتاحت رومية الشرقية ورومية الغربية اجتياحًا همجيًّا وقبائل (أفار)
سعت لسحق الشعوب السُّلافية في مهدها، و (هولاكور) ردم أقنية بابل، وجعل
أخصب بقاع الدنيا بلادًا قاحلة حتى الآن، والعثمانيون أبادوا الحضارة البيزنطية
التي ربوا عليها واكتسبوا منها شيئًا من العلم والمعرفة.
هذه هي القبائل الطورانية التي تباهي (بأتيلا) الذي كان نقمة الله على العالم،
وجنكيز خان الذي سمى نفسه (غضب الله - تعالى -) ولما شرع الألمان
يحاربون البلجيك وغيرها من دول أوروبا رأوا أن يقتبسوا أساليب جنكيز وأتيلا
وتيمورلنك.
ومما يدل على أن العقل التركي ليس عقلاً مستنبطًا أنه لم يأت بمستحدَث في
الإسلام. بل هو اتخذ الإسلام ودان به كما هو، ولو كان مخلوقًا مفكرًا لرأيناه بعد
انتحاله الإسلامية يزيد عليه أو ينقص منه، ولكنه لم يفعل شيئًا من ذلك لعجز
مخيلته عن الاختراع.
إمبراطورية تركية
ومما تسعى إليه نهضة الطورانية الحديثة إنشاء إمبراطورية حربية واسعة
الأرجاء، تضم تحت ألويتها جميع قبائل التتر والمغول الخاضعة لروسيا أو لأية
دولة أخرى. (أما الجنسية العربية فيجب إبادتها وإدماجها في الجنسية التركية
المحضة؛ لأنها خطر كبير على الجنسية التركية ومن،أمثلة الأتراك من هذا
القبيل قولهم: وإذا لم نعامل العرب كما نريد عاملونا بما نستحق) لذلك تراهم
يسعون (لتتريك) العناصر العربية بحسب الأساليب البروسية.
ومما يستحق الذكر أن جلال نوري بك الكاتب التركي الشهير قال في كتاب
حديث ألفه ما يأتي: (إن بلاد العرب ولاسيما اليمن والعراق يجب تحويلها إلى
مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي يجب أن تكون لغة الدين. ومما لا
مَندوحة لنا عنه للدفاع عن كياننا أن نحوّل جميع الأقطار العربية إلى أقطار تركية؛
لأن الجيل العربي الحديث قد صار يشعر الآن بعصبيته، وهو يتهددنا بنكبة
عظيمة، فيجب أن نحتاط للأمر من الآن) .
وكتب أحمد شريف بك مقالة في (طنين) جاء فيها ما يأتي: (لا يزال
العرب يلهجون بلغتهم، وهم يجهلون اللغة التركية جهلاً تامًّا، كأنهم ليسوا تحت
حكم الأتراك. فمن واجبات (الباب العالي) أن يجعلهم ينسون لغتهم ويجبرهم على
تعلم لغة الأمة التي تحكمهم.
فإذا أهمل الباب العالي هذا الواجب كان كمن يحفر قبره بيديه؛ لأن العرب
لن ينسوا لغتهم وتاريخهم وعاداتهم. بل سيسعون لاسترجاع مجد مملكتهم وإعادة
ترميمها على أنقاض دولة الأتراك) .
وجاء في نبذة وزعها الأتراك في القوقاز: (إن العرب هم بلية علينا مع أن
حصان التركي خير من أي نبي ظهر في العالم) .
هذا وقد علقت مجلة الشرق الأدنى على هذه المقالة بتوجيه نظر العالم
الإسلامي إلى الخطر الذي يتهددهم إن هم تباطئوا عن الاحتياط لدرء ذلك الخطر.
__________
(*) نشرت في العدد الذي صدر من الأهرام في يوم السبت 18 ذي القعدة - 16 سبتمبر.(19/237)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منشور شريف مكة وأميرها
نشرت الجرائد المصرية اليومية في آخر الشهر الماضي منشور شريف مكة وأميرها الذي وجهه إلى العالم الإسلامي، وإنه لَمنشور كُتب بمِداد الحكمة
وأصالة الرأي وشرف الغاية، وملخصه أن الشرفاء (أمراء مكة المكرمة) كانوا
أول من اعترف بسلطة سلاطين آل عثمان الكرام، لما كانت أحكام دولتهم قائمة
على أساس الشرع الإسلامي، حبًّا في الوحدة الإسلامية وكراهة للشقاق وتفرق
الكلمة، وأن صاحب المنشور نفسه قد بالغ في الاستمساك بعُروة الدولة حتى إنه
حمل بجُنده من العرب على العرب وقاتلهم لأجل الدولة.
ثم انتقل من ذلك إلى سيرة فئة الاتحاديين الباغية، فبين أنها قد جنت على
الدين والدولة والأمة فانحرفت عن صراط الشريعة، وأبطلت بعض أركان الإسلام
وغيرت أحكام القرآن، وحجرت على السلطان حتى منعته من التصرف بشئون
خاصته وقصره. ونكلت بالأمة، فلم ترعَ حقوق الإسلام ولا عهود الذمة، وخصت
العرب بالاضطهاد، فصلبت في الشام كثيرًا من أهل العلم والرأي والفضل،
واستحلت مصادرة الأموال وإخراج النساء المخدَّرات والأطفال من ديارهم وأموالهم
ونفتهم إلى بلاد الأناضول من غير ذنب وبغير قيم شرعي. ثم ذكر تقحمهم بالدولة
في هذه الحرب وتعريضهم إياها للخطر، وما جنوه على البلاد بذلك، وذكر ما حل
بالحجاز من جراء ذلك، وأن الضيق قد بلغ بأهل الدرجة الوسطى إلى بيع أثاثهم ثم
بيع خشب بيوتهم حتى الأبواب والسقف.
ثم بيَّن أن بلاد الحجاز اضطرت بسبب تلك الجرائم والمفاسد العامة التي
اخترعها الاتحاديون إلى إعلان استقلالها بنفسها دونهم حرصًا على دينها وعلى
جنسيتها العربية؛ لأن الاتحاديين يتعمدون فساد هذا الدين ومحو هذه الأمة العربية
من لوح الوجود.
وذكر أن الخاصة التي وضعها الاتحاديون بمكة أرادت ألا تتقدم من أهل البلاد
فألقت قذائف مدافعها من حصن جياد على الحرم الشريف فأصابت بيت الله - عز
وجل - وقتلت كثيرًا من الطائفين والمصلين فيه.
قال (وحسبنا برهانًا على ما تكنه صدورهم نحو الدين والعرب رميهم للبيت
العتيق الذي أضافته العزة الأحدية لذاتها السبحانية في قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ} (الحج: 26) وهي قبلة المسلمين وكعبة الموحدين بقنبلتين من قنابل
مدافعهم التي بحصن جياد أثناء قيام البلاد بالمطالبة باستقلالها، وقعت إحداهما تحت
الحجر الأسود بنحو ذراع ونصف، والثانية تبعد عنه بمقدار ثلاثة أذرع التهبت
بنارهما أستار البيت حتى هرع الألوف من المسلمين لإطفاء لهيبه بالضجيج
والنحيب، واضطرهم الحال إلى فتح باب البيت والصعود إلى سطحه للتمكن من
إطفاء اللهيب، وما انتهى أمرهم بهذا حتى عززوا الاثنين بثالثة في مقام إبراهيم،
وهذا عدا ما وقع منها في بقية المسجد الذي اتخذوه هدفهم الوحيد في غالب
مقذوفاتهم بالقنابل والرصاص، وما زالوا يقتلون الثلاثة والأربعة في نفس المسجد
كل يوم حتى تعذَّر على العباد القرب من البيت، وفي هذا من الاستخفاف والازدراء
بالبيت وتعظيمه وحرمته ما نترك القول والحكم فيه أيضًا لعموم المسلمين في مشارق
الأرض ومغاربها) .
وهذا المنشور يؤيد ما شرحناه مرارًا في المنار من سيرة هذه الجمعية الباغية
في الدولة والأمة، ومن اطلع عليه من قراء المنار يعجب؛ إذ يرى أكثر مسائله في
المحاورة التي نشرناها في الجزء الماضي، وسبب ذلك أنها حقائق يعرفها جميع
خواص العثمانيين وكثير من عوامهم، فكيف تخفى على أمير مكة المكرمة على
مكانته في الذروة العليا من الأمة والدولة، وأهل بيته منهم الأعضاء في مجلس
المبعوثين كنجله الشريف عبد الله وفي مجلس الأعيان كأخيه الشريف ناصر.
وقد أعجب أهل الفضل بنزاهة المنشور ومحافظته على كرامة الدولة العثمانية
وسلاطينها العِظام، وكرامة الشعب التركي أيضًا وحصره السيئات التي يشكو منها
جميع العثمانيين وكل غيور على الدولة في سيرة الاتحاديين فيها.
ومن حكَّم الروية والإنصاف في سيرة الاتحاديين، يستدل من موافقة هذا
المنشور لكثير من المطاعن التي قيلت على أن أخبارها قد بلغت حد التواتر بكثرة
مصادرها، فالشريف الأكبر لم يستمد ما ذكره في منشوره من الجرائد المصرية ولا
الأوربية، ولعله لم يطلع على شيء منها قبل كتابته، بل يستمد بيِّناته من الأقوال
والأعمال الرسمية. مثل ذلك ما ذكره من الشواهد على جنايتهم على الدين
وجرأتهما على هدم أركانه والعبث بأحكامه. فإنه ذكر منه أمر سلطتهم العسكرية
بإلزام جنودهم المقيمة في الحجاز وغيره من الأمصار الفطر في رمضان، وأمرهم
لقاضي مكة بعدم الاعتداد بشهادة المسلمين، بعضهم على بعض إلا ما كتب منها في
محكمته، وأما أخبار فَتْكهم بأهل الفضل والنيل من مسلمي سورية تقتيلاً وتصليبًا
ومصادرة الأموال، ونفي النساء والأطفال، فلا شك في أخذه إياه من الجرائد
السورية الرسمية وغير الرسمية، وإن لم يصرح بذلك. ودليلي على ذلك أن أول
كتاب جاءني من وكيل المنار في الحجاز قد نقل فيه عن تلك الجرائد أسماء من
قُتِلوا وصُلبوا في الشام من كبراء العرب، ومنهم السيد الزهراوي وشفيق بك
المؤيد وغيرهما.
وقد تذكرت بهذا أنه لما ذكرت الجرائد المصرية أول نبأ عن صلب فضلاء
العرب ببيروت وهم الأحد عشر الذين منهم النابغة محمد الحمصاني وعبد الكريم
قاسم الخليل أرسل لي فؤاد برقية من الخرطوم ذكر فها ارتياعه واستفظاعه للخبر،
وشكه في صحته والرغبة إلي في إرسال برقية إليه ببيان رأي فيه، وقال: إنه لا
يثق به إلا إذا كنت مصدقًا له. فأرسلت إليه برقية قلت فيها: إنني لا أثق بشيء
من ذلك. ثم جاءت جرائد أوروبا فجرائد أمريكة تثبت الخبر، وفي جرائد أمريكة
العربية السورية نقل له عن جرائد سورية. ثم إنني كنت مارًّا مرة بنظارة
الحربية، فرأيت فيها رجلاً قد أسره الإنكليز من سيناء، فسألته عن بلده وعن
أخبار سورية فقال: إنه من القدس، وأخبرني بخبر الذين صلبوا في بيروت،
فقلت هل تعرفهم؟ قال: لا بل أعرف بعضهم بالاسم، قلت: ممن علمت بخبر
شنقهم؟ قال من جريدة القدس الرسمية. لأجل هذا قلت في المحاورة التي نشرت
في الجزء الثالث: إن خبر صَلب من صُلب في سورية، قد ثبت عندي بالتواتر.
لقيت أول من أمس صديقًا لي من رجال القانون، أعرف منه استقلال الرأي
فتكلمنا في هذا الموضع، فقال: إنه يجب أن يجعل نفسه كالقاضي في هذه القضية
فلا يحكم فيها. قلت: بل يجب أن تجعل نفسك بمكان المؤرخ المنصف الذي
يمحص الأخبار، ثم يجزم بالنفي أو الإثبات، فأنا لم أكن خصمًا للاتحاديين بل
كنت صديقًا لهم قبل الدستور وبعده، وكنت أول من دافع عنهم لما حملت عليهم
جرائد الهند الإسلامية ورمتهم بالكفر والإلحاد، وإسقاط خليفة المسلمين السلطان عبد
الحميد لأجل إبطال الحكم الإسلامي، ولما شاع أمر عَبَثهم بالدين وتعصبهم على
العرب وغيرهم تثبت في الحكم عليهم، وذهبت إلى الأستانة فأقمت فيها سنة كاملة
معهم ساعيًا في خدمة الإسلام عامة، وفي التأليف بيت الترك والعرب، وعلمت
بالاختبار الطويل أن كل ما قيل فيهم، دون الواقع كما بينته في المنار.
وجملة القول أن منشور الشريف الذي كان قبل استقلاله في الحجاز أعظم
الأمراء العثمانيين هو أعظم الحُجج على ملاحدة الاتحاديين، كما أنه تأييد من سيد
العرب لطلاب الإصلاح من العرب، لأنهم بنوا سعيهم على أساس المحافظة على
الدولة العثمانية، ومن قواعدهم أن لا يكونوا سببًا من أسباب ضعف الدولة ولا
تمزيق وحدتها. وقد انسلخ من الدولة عدة ممالك وولايات بسوء سياسة الاتحاديين:
البوسنة وهرسك وطرابلس الغرب ألبانية ومكدونية وكريت وجزائر الأرخبيل
الرومي، - دع ولاية البصرة. والولايات الأرمينية والأناضولية التي ذهبت في
هذه الحرب - ولم يكن العرب سببًا في زوال شيء منها. فهذه أكبر حججنا على
هؤلاء المخربين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(19/241)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
حال المسلمين الاجتماعية
وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
للفاضل الغيور- م. ن - صاحب الرسالة التي نشرت (في ج 10 م 18) .
حضرة حكيم الإسلام السيد الإمام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الإسلامية.
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد: فلست صحفيًّا ولا من المشتغلين بالتحرير ولا
يسع وقت فراغي كتابة المقالات، وتنسيق العبارات، فإن في أعمالي اليومية لَشُغلاً
شاغلاً. فإن أكتب إليكم فإنما أكتب مدفوعًا بعامل القيام بفريضة (الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر) التي عفا أثرها بين المسلمين؛ إذ لولا صوت المنار الحي
المرتفع الذي يدوِّي في الآفاق فيفتق أغشية الآذان، ويرقق حُجُب القلوب ويفتح
الأذهان، ويوقظ النائم، وينبه الغافل - لولا ذلك الصوت المنعش للنفوس المحرك
للهمم، لصح أن يقال، ولا عتب في المقال: إن الأمة الإسلامية شبح بلا روح.
كتبت رسالتي الماضية في موضوع الدعوة والإرشاد، ولم يكن لي غرض
سوى العمل بهذه الفريضة، وإقامة الحجة أمام الله - تعالى - على المسلمين الذي
تهاونوا فيه وفي كل عمل إسلامي. وإنه وإن لم يكن لدي كبير أمل في أن يقدّم
المسلمون في الحال، ما يحتاج إليه المشروع من المال، فقد كان رجائي عظيمًا في
النجاح التدريجي الذي يؤدي إلى النجاح التام. ولكني ما كنت أظن أن يكون نصيب
هذه الدعوة الصمت والجمود، اللذان يدلان على شدة ما تعاني الأمة الإسلامية من
أدوائها الاجتماعية.
لذلك حدثتني نفسي بعد طول الانتظار بأن أبعث إليكم بهذه الرسالة الثانية
زيادة في التذكير، وتأكيدًا للإنذار والتحذير، ولأبين أن المسلمين غير معذورين في
البقاء في هذه البؤرة النتنة، وأن وسائل النجاة والحياة في أيديهم والأمر كله متعلق
بمشيئتهم. وهذه هي الرسالة:
دعوت المسلمين في رسالتي الماضية لتنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد وما كنت
لأدعوهم إلا إلى حق وأوضحت لهم خطورة الحالة التي نحن فيها وما كان لي أن
أكذب. وأقمت لهم الدليل على أن المشروع كافل لإصلاح الحال، وما كنت إلا
صادقًا. وانتظرت ماذا يكون من أمر هؤلاء وأطلت الانتظار، فألفيتهم صموا عن
النداء، واختاروا البقاء في الشقاء، وما كنت مكرهًا لهم على ما تثاقلت عنه نفوسهم
ولا إكراه في الحق.
إنه لَيحزنني أن تخيب دعوتي، وليس ذلك أنها صادرة مني، فما هي إلا
صدًى لأصوات صاحب المشروع ومن نصروه فيه من قبلي. وإنما حزني وأسفي
لحرمان الأمة الإسلامية من الخير العظيم الذي كان ينتظرها، إن هي أجابتها،
ولكن ما حيلتي، وقد دعوت ونصحت وما فرطت، والأمة أعرضت وجمدت
واستكبرت. وقد فشلت دعوة الكثيرين من أهل الغيرة والإخلاص من قبل فلم ينقص
إعراض الناس عنها من قدر الحق ولا من قيمة ما دُعُوا إليه شيئًا؛ إذ الحق حي بذاته
لا يضره أن يكفر الناس به كما لا يرفعه أن يغلوا فيه. وإن في ضياع صوت أستاذنا
العظيم في فضاء غفلة هذه الأمة الجاهلة لَعبرة، وذكرى للمتشائمين المتسرعين.
إنه لَيقع الإنسان في الحيرة ويأخذه العجب لخيبة دعوة الحق بين المسلمين،
وفيها خيرهم وفلاحهم ونجاح دعوة الشر فيهم، وفي إجابتها هلاكهم وشقوتهم.
فما أشد ظلمهم لأهل الحق الذين يغارون على الأمة ويريدون لها الرشاد
وظلمهم لأنفسهم باتباعهم أهل الضلال الذين يسعون في الأرض بالفساد. ولقد ودّ
المصلحون لو أن الأمة عرفتهم فأنزلتهم منزلتهم وسمعت لقولهم، واقتفت أثرهم
فنهضت بهم.
لا يسأل هؤلاء الأمة أجرًا على عملهم، فالحق والعمل الصالح أعلا من أن
يقوّما بشيء من حُطام الدنيا. وإن أخذوا أجرًا في الظاهر فليس هو في الحقيقة بأجر
وما هو من قبيل ثمنٍ لشيء مباع، ولكنه مال يسدون به عَوَزَهم ويستعينون به على
عملهم الذي يقومون به لخير الأمة وسعادتها. إنما أجرهم على الذي هو
فطرهم، وهو وحده الذي يقدِّر عملهم ويكافئهم عليه في دار غير هذه الدار.
أما أهل الباطل والضلال فهم ينفثون السم في النفوس والأرواح بما ينشرون
من رأي، ويدعون إليه من عمل، ويسلبون أموال الأمة أجرًا على هذه الضلالات،
إنهم لا يرجون عند الله ثوابًا ولا بعد هذه الحياة حياة. فهم لذلك يحتالون على
جمع المال بأي وسيلة تمكنهم منه، فهو غرضهم الذي إليه ينتهي الأمل، والسبب
الوحيد الذي يحركهم للعمل. هؤلاء هم رسل الشهوات وأعوان الهوى وأولياء
الشيطان، وأولئك هم دعاة الفضيلة وناصروا الحق وحزب الرحمن.
فيا ليت شِعري، أي الفريقين خير مقامًا وأهدى سبيلاً، ومن منهما أولى
بالاتباع وأقوم عملاً وأحسن قيلاً؟ فيا خلف خير أمة أخرجت للناس أتستبدلون
الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وتندفعون إلى الأوهام والضلالات مختاريين
وتستسلمون إلى الشر.
وَدَّ كثير من الناس لو يعرفون سبب هذا الجفاء بين المسلمين وأهل الحق
والصلاح وهم المحبون الصادقون، وعلة هذه المودة بينهم وبين أهل الباطل
والفساد وهم الأعداء الظاهرون. فإنه لا بد لذلك من سبب، ومتى عُرف السبب
زال العجب.
ليس العيب الذي تقدم ذكره هو الوحيد في المسلمين. وإلا فلماذا يعادي هؤلاء
المسلمون أنفسهم، ويعطفون على أعدائهم؟ ولِم يعرضون عن مصالحهم
ويسارعون إلى هلاكهم؟ وما الذي حسَّن إليهم الباطل وبغَّضهم في الحق؟ وأي
شيء سوغ إليهم ارتكاب السيئات وترك الحسنات؟ ولأي سبب يصافحون الشيطان
ويُغضبون الرحمن؟ وما السبب الذي هبط بهذه النفس الإنسانية إلى درك
الحيوانية؟
إنه يوشك أن تكون جميع تصرفات المسلمين مخالفة للعقل والنقل وأحوالهم
مرذولة غريبة الشكل. وإنما هذه التصرفات والأحوال هي أعراض للمرض العام
الذي سكن في جسم هذه الأمة فأضعف قوتها الحيوية وأسدل الحجب على بصيرتها
قبحت ما ليس بالقبيح ورأت حسنًا ما ليس بحسن. فمرض الأمة هو سبب كل ما
ننكر من ميولها وحركاتها وسكَناتها. فإذا عُرف المرض عُرف السبب.
المرض أو السبب هو كما قال السيد الإمام: ضعف استعداد الأمة
وحرمانها من الزعيم. وهو قول حق لا ريب فيه؛ إذ لو وُجد الاستعداد والزعيم
معًا لنهضت الأمة من كَبْوتها وحييت حياتها الطيبة ولفارقها الشقاء، وزال عنها ما
نزل بها من البلاء، ولكن إلى متى نسكت على هذا الضعف فينا ولا نباشر علاج
أنفسنا؟ الآن وقد عرف كُنْه المرض الذي أصابنا وسبب الضعف الذي أنهك قوانا،
فمن السهل معرفة علاج هذه الحالة أيضًا. إنه وقد أمكن تشخيص الداء، فما علينا
إلا أن نَصِف الدواء.
لا علاج لضعف استعداد الأمة إلا في أمر واحد، وهو العلاج القديم الذي ثبت
صلاحه وتأكد نجاحه واتبع في كل زمان وفي كل مكان، وسار على سننه الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام في تبليغ رسالات ربهم -عز وجل - وكذلك الصالحون من
بعدهم. ذلك العلاج هو إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
إن الناس أفلحوا وسعدوا ما عملوا بهذه الفريضة، وخابوا وشقوا ما أهملوها.
فكما أن داءنا في تركها، كذلك علاجنا في إقامتها. وقد جعل الله - تعالى - العمل
بهذه الفريضة شرطًا ضروريًّا لصحة الإيمان، ولهي أعظم ما فرض العليم الحكيم
على أتباع أنبيائه - عليهم السلام -، فكانت ولا تزال إقامتها عنوانًا على هداية
الناس وسعادتهم، وإهمالها دليلاً على ضلالهم وخسرانهم واستحقاقهم لِلَعْنَتِهِ (لتأمرنّ
بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا
يُستجاب لهم) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) .
تركت الأمة الإسلامية العمل بفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
من عدة أجيال، ففقدت بذلك قوتها الحقيقية التي كانت تحمي بها الأموال
والأعراض والعقول والقلوب والأخلاق والدين من فتك الشهوات وهجمات الشياطين
وماذا يفعل الأعزل من السلاح، في ميدان النِّزال والكفاح؟ صار أفراد المسلمين
بعد ذلك - وقد خفَت صوت الأمة، وارتفع صوت الشهوات والهوى والشيطان، كالعِقد الذي تبعثرت حباته، أو كذرات الرمال التي تتجاذبها الرياح والأهواء المختلفة، فضلّ الناس في الفهم والرأي والعمل ولا مُنْكِر ولا مرشد، وانحلت الرابطة وتفرقت الكلمة، وتناكرت العقول والقلوب، وضاعت الفضيلة، وحلت محلها الرذيلة، واستُبدل الجهل بالعلم، وأوشك أن يكون الدين المعمول به عند الجماهير الآن مجموعة خرافات وأوهام وضلالات، وبدع ومنكرات وتقاليد وعادات.
وبالجملة إن الحال قد تحوّل إلى ما يرى كل إنسان، وليس الخبر كالعيان.
تلك عاقبة الذين نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به بإهمال هذه الفريضة فتوالدت بذلك في
الأمة الأمراض والعلل، التي أضعفت استعدادها للفهم والعمل، فضل فيها صوت
المصلح، وخابت دعوة الحق {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
وإن تعجب فعجب أن يعتذر القادرون على الإصلاح عن إغفالهم ذلك الواجب
العظيم بإعراض الأمة عن الحق والخير وانصراف عقول أفرادها وقلوبهم إلى
الباطل والشر، ونسوا أن الأمة ما سقطت في هذه الهُوة السحيقة إلا بسبب إهمال
هذه الفريضة، كما غفلوا كونها أحوج إلى الإرشاد في هذه الحالة منها في سواها؟ !
إن ما وقع من الأمة من التفريط في جنب الله لا ينبغي أن يُسأل عنه سواها،
وإن عليها أن تتحمل وحدها أثقله وتتجرع مرارته {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) . فلا يصح أن يؤدي تفريط الأمة في واجبها إلى تفريط المؤمن
في واجب سواء استجاب له الناس أم لم يستجيبوا. ما كان ضعف استعداد الأمة
للحياة، أو بعبارة ثالثة ضعف قوتها الحيوية الذي هو نتيجة طبيعية لما كسبت
أيديها، كما تقدم ليغير من موقف المصلح أمامها، فهو مطالب على الدوام بأن
يصدع بالحق، وإن كان غريبًا عن عقول وقلوب أكثر سامعيه، وأن يقرر الحقيقة،
وإن لم يفقهها إلا نفر قليل منهم، ولدعوته مع ذلك حُجة على الطائع والفاسق،
وما الأخير لقلة استعداده بمعذور {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14) {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 88) {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272)
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ} (المائدة: 99) .
وقد دعا كثير من أنبياء بني إسرائيل قومهم إلى الحق فكذبوهم وقتلوهم. وما
كذبوهم، وما قتلوهم إلا لأنهم لم يفقهوا دعوتهم أو لم يقبلوها، وكذلك كان شأن
الناس مع كثير من المصلحين. فما من دعوة إلى حق إلا وصادفت في أول أمرها
إعراضًا عظيمًا ومقاومة كبيرة ممن جاءتهم، حتى قيل: إنه لا أمل في قبولها.
ومع ذلك لم يكن ذلك الإعراض وذلك التكذيب وتلك الشدائد لتؤثر في همة أولئك
الهداة وعزمهم، أو تُرجعهم عن قصدهم، فمن ذا الذي يجسر أن يقول: إن عملهم
كان لغوًا؛ لأن الناس لم يكونوا مستعدين له؟ كلا بل هو كل الحق والصواب
وعين ما أمر الله به وأوجبه عليهم، وهو سبب كل ما وجد وما يوجد من خير
وإصلاح في العالمين وعلة الحركة والحياة في الناس أجمعين.
إن كل دعوة لحق تصيب الغرض سواء أجيبت في الحال أم لم تجب وسواء
أدرك لداعي نجاح دعوته في حياته، أم حصل النجاح بعد وفاته، فهي محدثة
أثرها على كل حال. فمَثل الكلم الطيب والعمل الصالح وتأثيرهما في النفوس كمثل
التفاعلات الكيماوية سواء بسواء، فإن التفاعل الكيماوي حاصل، وإن كان أحيانًا
يسير ببطء تبعًا لحالة المواد وطبيعتها وقوة تأثيرها بعضها في البعض الآخر.
وكثيرًا ما تجري الحوادث الكونية بحيث لا تدركها الأبصار ولا تتناولها الحواس،
فإذا مضت الأيام أو الشهور أو السنون أو القرون فوجئ الغافلون بالنتائج الصغيرة
أو الكبيرة التي نشأت عنها. وبالجملة: إنه كما أن لكل حركة أثرًا في مجموع ما
يحيط بها من الأشياء، كذلك لكل كلمة طيبة أو كلمة خبيثة فِعلها في رَدْع الناس عن
الشر أو إغرائهم به. أفليس من الوجوب علينا الإكثار من الكلم الطيب دعوة للخير
ومقاومة لدعوة الشر التي كثرت واستفحل أمرها؟
إن الباطل عدو الحق كما أن الحق عدو الباطل. وهذه العداوة قديمة من عهد
أن عرف حق وباطل، وستبقى مستمرة إلى ما شاء الله - تعالى -. فعلينا أن نفهم
هذه الحقيقة ولا يطمعن أحد في التوفيق بين عدوين هما أكبر خصمين في الوجود.
إنه لا ضرر على الحق من هذه العداوة أو المخاصمة التي لا مفر منها، فالباطل
أضعف من أن يقف أمام حق، والحق أقوى من أن ينازل باطلاً، وما كان لباطل
أن يوجد مع حق في ساحة، فأين وجد حق لا يوجد باطل، وإن الباطل ليتضاءل
أمام أشعة الحق كلما اقترب منه كما تتضاءل الظُّلمة أمام الضوء.
إن الحق ثابت بنفسه والباطل ساقط بذاته أو بعبارة أخرى، إن حياة الحق
مستقلة باستقلال الحق ولا حياة للباطل إلا باستناده إلى الحق فهو أشبه بالخيال منه
بالحقيقة. إنه لا يغلب الباطل إلا الحق، فالباطل قوي ما غاب عنه الحق، وكما
أنه لا سلطان لحق على حق كذلك لا نفوذ لباطل على باطل وكما أن الباطل يذهب
لقدوم الحق فإنه لا يترك مكانه لباطل مثله. فيلزم مواجهة الباطل بالحق على الدوام
فموت الباطل في قرب الحق منه، وحياة الحق في خفاء الباطل.
إن الحق حق ولا يمكن أن يكون إلا حقًّا، والباطل باطل ولا سبيل إلى جعله
حقًّا، فلا بد من الخلاف والتصادم بينهما. ولما كانت مهمة الحق إزهاق الباطل،
ودأب الباطل الفرار من أمام الحق والانتشار في الساحات التي لا سلطان له فيها،
وجب أن يتعقب الحق الباطل أينما حل وسار، ليتم له الانتصار.
لا عيب في الحق، وإنما العيب فيمن يدَّعون أنهم أهله إذا قصروا في القيام
به ونصره، وإلا ففيم يَخشى أهل الحق الباطل، وهؤلاء ضعفاء بضعف ما لديهم
من باطل، وأولئك أقوياء بما لديهم من الحق؟ لا يجوز لأهل الحق أن يَدَعوا
هؤلاء المبطلين آمنين مغرورين بزخرف الباطل مفتونين بظواهره الكاذبة حتى لا
يكون ذلك إقرارًا منهم لباطلهم، بل إن الواجب إقلاق بالهم وقذفهم بالحق دائمًا بدون
رأفة أينما ذهبوا أو حلوا أو وجدوا، في غدوهم ورواحهم، في نومهم ويقظتهم،
في أعمالهم وراحتهم، إلى أن يذهب نور الحق بظلمة الباطل، ويعرفوا أنهم لم
يكونوا إلا واهمين. إن نور الحق متى ظهر للناس لا يستطيعون نكرانه، وإن
استطاعوا إنكاره فلا يقدرون على المجاهرة به.
وإن الإصرار على الباطل بعد أن يفضحه الحق قليل في الناس، وإنما يصر
الأكثرون منهم على ما يصرون جهلاً منهم وتوهمًا أنهم على حق، لا عذر في
السكوت على الباطل، فيجب أن لا يصد داعيًا إلى الحق صادٌّ مهما عظمت المهمة
وبعُدت الشُّقة، وإذا بعُد الناس عن الحق أو قلَّ عدد الراغبين فيه منهم أو فُقدوا في
بعض الأزمنة أو الأمكنة، فإن ذلك لا يجعل الحق غير حق، ولا ينبغي أن يكون
مانعًا من الدعوة إليه؛ إذ الباطل لا يصح أن يُرضى به على أي حال.
إن الحالة قاضية بتنبيه المسلمين إلى الخطر المحدِق بهم، وأن يقال لهم في
وجوههم بصوت جهوري: إنكم في هوة انحطاط سحيقة تجب المبادرة إلى إنقاذ
أنفسكم منها. ولا يمكن أن يقال لهم غير ذلك. ينبغي أن يقال للمسلمين: يا معشر
النساء ويا معشر الرجال، أنتم على باطل وضلال. وإن تقاليدكم وعاداتكم التي
تدينون بها وتحرصون غاية الحرص عليها، إنما هي من مخترعاتكم ومخترعات
آبائكم، وإن العقل ينكرها، وشرع الله يتبرأ منها. وهذه القبور وما حوت من
عظام، والأشجار والأحجار لا يمكن أن تُتَّخذ وسيلة إلى العليم العلام، ولا سببًا
لقضاء الحاجات أو شفاء الأسقام.
وهذه الأفكار الفلسفية والنزعات المادية التي اتبعتم فيها سفهاء الإفرنج
بدعوى المدنية لم تكن إلا نزغات شياطين. وإن خطتكم التي تسيرون عليها لخطة
عوجاء، وهي سبب ما نزل بكم من البلاء. فارجعوا إلى أصل الدين تكونوا من
المهتدين يجب أن يقال ذلك وما شاكله للمسلمين، وأن يبين لهم ما يقال؛ تقريبًا
للعقول والأفهام.
فمن قام بذلك فقد قام بواجبه وليس عليه أن يبحث في مبلغ تأثير كلامه في
نفوسهم فليس عليه هداهم، وإنما الهُدى هُدى الله.
قد يفقه المسلمون القول، ويدركون الغرض المقصود منه في الجملة فيهمون
أن يفتحوا عيونهم للنظر ويتحركوا للعمل، ولكن تغلبهم الشهوات فيعرضون،
ويُوسوس لهم الشيطان فينكِصون، وعن اتباع الحق يعدلون. إنهم عصوا لضعف
استعدادهم، ولكن ما حيلة الداعي وأمر استعدادهم بأيديهم إن شاءوا أصلحوه، وإن
شاءوا زادوه ضعفًا؟ وما ذنبه، والمرء لا ينفعه زجر زاجر ما لم يكن له من نفسه
وازع {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .
إن الناس مسئولون عن ضعف استعدادهم كما أنهم مسئولون عن ضياع كلمة
الحق بينهم. وإن ضعف استعداد الأمة ناشئ عما ارتكبته من السيئات، فيكفي منها
الإقلاع عنها وعمل الصالحات ليبدلها الله - تعالى - من فضله حسنات. ما عُذر
هؤلاء المسلمين في هذا الانحطاط الذي انفردوا به، وفيهم كتاب الله - تعالى -
وأمامهم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبين أيديهم آثار أهل الحق ورجال
الإصلاح، وتحت أنظارهم الأمثال الحسية على قيمة العمل وعلو الهمم فيما
يشاهدونه حولهم من المجهودات العظيمة التي تقوم بها الأمم العزيزة القوية.
إن المريض، وإن اشتد به المرض قد يجد إلى الشفاء سبيلاً باتباع أوامر
الطبيب والعمل بإرشاده. فلماذا لا تطلب هذه الأمة شفاءها في القرآن الذي ما فرط
الله فيه من شيء ففيه شفاء للناس؟ ولِمَ لا تستوضح ما أشكل عليها من سنة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمأثور عن السلف الصالح؟ كل ذلك ميسور
لها سهل عليها. بل ما الذي يمنعها من الإصغاء لنداء أهل الحق والإصلاح الذين
يمن الله - تعالى - بهم على المسلمين من وقت إلى آخر رحمة بهم إذا اشتدت
الحاجة إليهم، وزاد الكرب وضاع اللُّب وبلغت الروح التراقي؟
لقد رزق الله الأمة الإسلامية من هؤلاء في أقل من نصف قرن ثلاثة أقطاب
كل واحد منهم يكفي للنهوض بالأمة وإسعادها، لو وجدوا منها سميعًا وناصرًا مطيعًا
إنه قضى منهم اثنان، وها هو ذا الثالث يقرع بالحُجة ويصدع بالحق تسعة عشر
عامًا، فهل وزن قوله بميزانه، وعُرف له حتى الآن قدره؟
إن صوت المنار لهو حجة الله الناطقة في الناس في هذا العصر، وإنه وإن
ضاع حتى الآن بين أهل الزمان، فإنه لا يضيع عند الله ولا في مستقبل الأزمان.
أفلا ينظر المسلمون إلى حالتهم ويرجعون إلى أنفسهم ليجدوا أنهم ضلوا
ضلالاً بعيدًا! وهل شيء أدل على ضعف دينهم وانحلال قوتهم من قيام قسيس في
هذين اليومين يطعن في السُّنة وأشهَر رواتها وحمَلتها وينشر شبهته في مجلة سيارة
ويدعو إلى الرد عليها ثلثمائة مليون من المسلمين؟
فأي برهان على فقر الأمة من الرجال أقوى وأظهر من سكوت علمائها عن
رد مزاعمه وإبطال شبهاته سوى رجل الإصلاح الأوحد ناصر الإسلام السيد الإمام؟
إن القسيس ما كان ليتحدى برسالته صاحب المنار فهو يعرف من هو، وكان
يتمنى - طبعًا - لو لم يرد عليه بحرف واحد. فهل الأمة كلها صاحب
المنار؟ وهل عدم المسلمون وهم يعدون بمئات الملايين من يستطع إبطال الشبهة
ورد الفِرية سواه؟ قد يكون ذلك صحيحًا، ويا للأسف وقد لا يكون صحيحًا. ولكن
الذي يلزم الاعتراف به هو أن الأمة سكتت لمن ادَّعى أنه هدم الأصل الثاني من
أصول دينها وهو السنة النبوية، وقد وقف أمامها يدعو أفرادها كافة إلى الكلام،
ويطلب منهم، وهو فرد ضعيف الخروج جميعًا إلى الميدان!
فهل نصدق بعد هذا دعاوى من تصدروا لإرشاد الأمة وسموا أنفسهم رجال
الدين وأئمته؟ وهل يغتر الغافلون بتظاهر أهل العمائم والفَرَجيات من علماء هذا
الزمان بالتقوى والصلاح والغيرة على الدين والعمل لمصلحة المسلمين؟ ألا ليت
شِعري، بماذا يعللون سكوتهم، وقد وجب النطق واستنصر الحق؟ وبأي شيء
يؤولون إهمالهم فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهم أولى الناس
بإقامتها؟ لا جواب على ذلك إلا أن الهمم مصروفة إلى غير تلك السبيل، وحسبنا
الله ونِعْم الوكيل.
لم تفقد الأمة الإسلامية استعدادها للعمل فقدًا تامًّا؛ إذ هي لا تخلو من استعداد
لقبول دعوة الخير إلى حد ما وإلا لكانت شرًّا محضًا. ولا يوجد في الكون محض
شر، وإلا لزال على الفور. فالذي نشكوه وعناه السيد الإمام هو ضعف الاستعداد لا
فقده تمامًا. وإنما ترفض الأمة الضعيفة الاستعداد دعوة الحق ولا تلبيها في وقتها
لقصر في النظر وقلة في الفهم، وضعف في القلب، وليست معذورة في ترك العمل
لضعف استعدادها وحرمانها من الزعيم أو الزعماء كما تقدم، فإن ذلك الضعف،
وذلك الحرمان منها وهي التي ولدتهما كما تلد الأم ولدها.
ألا إن الاستعداد لا يوجد في الأمة من نفسه ولا يوهب لها كما يوهب المتاع.
ولكن الأمة هي التي توجده بتمهيد الأسباب له كما أن وجود الزعماء تابع لحركة
الحياة فيها، فهم أبناؤها، وهي التي تلدهم. فالأمة هي التي توجد استعدادها كما تلد
زعماءها، وقد يكون الزعيم موجودًا وهي لا تراه لعلة في باصرتها أو بصيرتها،
فإذا زالت العلة بتقوية الاستعداد للإصلاح والتوجه لطلبه وجدته بين يديها وأمام
عينيها.
فالأمر كله راجع إلى الأمة، وهي التي عليها أن تحضِّر الدواء، وهي التي
عليها أن تتعاطاه. فهي المريض ومنها الطبيب. وبعبارة ثانية إن الأمة متى وجد
فيها الاستعداد للحياة أوجدت طبيبها، واستعدت لقبول دوائه، فهي المطالبة بإعداد
الطبيب أو الأطباء، وهي المطالبة بتجهيز الدواء وباستعماله في مقاومة الداء. إنها
هي المطالبة وحدها بإقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإن
عجزت فقد عجزت عن الحياة، ولا دواء ولا شفاء.
لست أعني بهذا أني يئست من حياة هذه الأمة، بل مرادي أن أقول: إن
حياتها لا تكون إلا في العمل بهذا الفريضة التي هي العلاج الوحيد لمرضها.
إنه ما كان للسيد الإمام، وهو طبيب الأمة الأوحد أن يباشر علاجها إلا من هذا
الطريق الطبيعي الأمين، وأن يستعمل سلاحًا لقطع عرق الفاسد من أصوله غير
ذلك السلاح الماضي. فلقد أحيا هذه الفريضة ونصرها بلسان المنار، الذي أنشأه،
وبلسانه على منابر الخطابة وفي الجمعيات والحفلات وفي مجالسه العامة والخاصة،
وقد ربى المنار رجالاً يحبون الإصلاح. ولكنه على ارتفاع صوته وعظيم قوته
المستمدة من قوة الحق لا يزال عدد من رباهم قليلاً واستعدادهم ناقصًا. ولا يدل ذلك
على تقصير المنار، بل هو علامة على استفحال الداء في جسم الأمة. ولما رأى
الرجل زاده الله علمًا وهدى أن تيار الفساد يشتد اشتدادًا، وأعوان الضلال وأولياء
الشيطان يزدادون ازديادًا، أدرك أن الأمر يقضي بتربية فئة من المسلمين تربية
علمية أخلاقية دينية عصرية ليجعل منهم سدًّا أمام ذلك السيل الجارف الذي ينذر
بأمر خطير وشر مستطير.
إنه أراد بتأسيسه (جمعية الدعوة والإرشاد) أن يهب الأمة كنزًا ثمينًا لا نفاد
له لتأخذ منه على الدوام حاجتها من الرجال القادرين على إقامة هذه الفريضة التي
لا قوام لها بدونها.
إنه كان حقيقًا بالمسلمين، وقد أصبحوا على حافة الهاوية أن يشتروا حياتهم
بإحياء هذا المشروع. إن الحياة أغلا من أن تقوَّم بالمال. فهل كثُر على المسلمين
أن يشتروا حياتهم بلفس، لو قستم على كل فرد منهم ما أصاب الفرد بارة واحدة؟
إنهم بخلوا بهذه الدُّريهمات؛ ولذلك مات المشروع فماتت بموته آمال عظام. إنه مات
صدقًا، ولكن ذلك لا يفزعنا فسيخلقه الله خلقًا جديدًا، وما ذلك عليه بعزيز.
نعم: مات المشروع بعد أن عاش أربع سنين عيشة مضطربة، ولكنه سيعود
بإذن الله - تعالى - على أيدي أناس آخرين جديرين بإحراز فخر القيام به، إنه
مات ولكنه في الحقيقة لم يمت، فقد مات بشكله الذي أنشئ عليه، وعاد للحياة بعد
تحوير في شكله الأول بقدر ما سمحت به الوسائل لصاحبه وسيبقى - ما شاء الله
تعالى - حاكمًا على الأمة بالضعف وللأستاذ بعلو الهمة والإخلاص. مات المشروع
ليحيا المشروع. مات وحقيقة الأمر أنه حي؛ لأنه من الحق، والحق لا يموت أبدًا
ليكن مات في الظاهر، ولكن صاحبه بفضل الله لم يمت وسيبقى بتوفيق الله تعالى
بالرغم من حسد الحاسدين سيفًا مسلولاً فوق رقاب المفسدين، وحجة الله - تعالى -
على المجرمين.
ليس غرضي الآن أن أعود فأدعوكم إلى نصرة المشروع، وقد رفضتم الدعوة
من قبل وما أغنتكم النذر، وإنما أدعوكم إلى إقامة فريضة (الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر) فانظروا ماذا أنتم صانعون. إني أطالبكم بإقامة هذه الفريضة
التي لا مجال فيها للتأويل، ولا للقال والقيل، إنه في إقامة هذه الفريضة علاجكم
الوحيد، فلا يصح أن تتوانوا في طلبه، وإلا فقدتم حياتكم.
إن الحالة وإن اشتدت وتعاظمت لا يجوز أن ييأس باشتدادها المؤمنون، فإنه
{لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) نعم: إنكم قطعتم
في سبيل الضلال شوطًا بعيدًا وسقطتم في مهواة الخيبة والخسران سقوطًا شديدًا،
وصرتم أحط أهل الشرق والغرب، وضجت من أفعالكم الأرض، واستغاثت
السماء، وغضب الرب، ولكن العلاج لازال ممكنًا وطريق السلامة أراه مفتوحًا آمنًا
ولا يعوزكم إلا السرعة في العمل، قبل ضياع الأمل.
فإن نار الشهوات والهوى التي أحرقت أجسامكم وأرواحكم تكاد تأكل ما بقي
من رمق فيكم، فاحفظوا هذا الرمق، وانجوا بأنفسكم وإلا هلكتم كما هلك من كان
قبلكم، {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} (الأنعام: 134) .
يؤلمني أنه إذا دعا المسلمين داعٍ لا يعرفون مَن المقصود منهم بالكلام، فكل
ينتحل لنفسه الأعذار ويرى أنه غير معنيّ بقول ولا مكلف بعمل! ذلك بأنه لا
جامعة تجمعهم ولا سائل ولا مسئول! ولكن الله يعلم ورسوله وملائكته وأهل الحق
يعلمون أن لا وظائف في الإسلام ولا رسوم، فكل مسلم مخاطب بكلمة الحق مطالب
بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمة كلها متضامنة في مسئولية الرضاء بالحالة
الحاضرة، وعلى ذلك فأنا أوجه خطابي إلى الأمة جميعها، وأعني به كل فرد من
أفرادها، وأقصد بنوع خاص أهل العقل والفهم الذين لهم آذان يسمعون بها وقلوب
يفقهون بها.
إني أدعو هذه الأمة إلى إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
وأخاطب في شخصها المسلمين كافة، صغيرهم وكبيرهم سواء منهم المعمم
والمطربش، الكبير والحقير، الغني والفقير، التاجر والصانع، صاحب الملك
والمزارع، الخاصي والعامي، البدوي والحضري، العربي والعجمي، إني أطالبكم
جميعًا بإقامة هذه الفريضة، فإن أجبتم فإن الله يعدكم من لدنه مغفرة وأجرًا عظيمًا،
وأن يرفع عنكم هذا البلاء، ويفيض عليكم رزقًا ورحمة من السماء، وإن تتولوا
فحسبكم ما أنتم فيه جزاء في الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 127) .
أدعوكم أيها المسلمون إلى إقامة هذه الفريضة ولا أخيركم بين إجابة الدعوة
ورفضها؛ لأنه ما كان لي أن أخيركم بين الصحة والاعتدال، والهدى والضلال.
ولكم فيما عدا ذلك أن تعدوا وسائل العمل بحسب ما يروق لكم. ولكن ذلك لا
يمنعني أن أكرر النصح لكم بأن أقرَب الطرق إلى إقامتها على وجهها هو تنفيذ
مشروع (الدعوة والإرشاد) الذي دعوتكم إلى تعضيده في رسالتي الماضية. فإن
كنتم في ريب منه فأتوا بمشروع خير منه أو مثله للقيام بهذا الواجب الأكبر،
وتخليص الأمة من هذا الكرب العظيم، إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا فاعلموا أن
ما دعاكم إليه إمامكم هو الحق المبين، وإني لم أكن في ترديده غير ناصح أمين.
نشرنا هذه الرسالة ومنشئ المنار قد ذهب إلى أداء فريضة الحج، فنوجه إليها
نظر المسلمين ونخص صاحب (الانتقاد على المنار) ص 190 ج 3.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح رضا
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(19/244)
ذو الحجة - 1334هـ
أكتوبر - 1916م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فوائد شتى [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
العمل بالحديث الصحيح
قال السِّندي في حواشيه على فتح القدير من كتب الحنفية: الحديث حجة في
نفسه، واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به، وهو
منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا
يَعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان، فإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ
أم لا؟ . أما إذا كان الحديث قد اختلِفَ في نسخه، فالعامل به في غاية العذر، فإن
تطرُّق الاحتمال إلى خطإ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من
الحديث. قال ابن عبد البر: يجب على من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه
حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية
القلة حتى عده بعضهم أحدًا وعشرين حديثًا، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول
المفتي، بل يجب عليه مع احتمال خطإ المفتي فكيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا
فهم معناه وإن احتمل النسخ؟
ولو كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوغ العمل بها بعد
صحتها حتى يعمل بها فلان، لكان قولهم شرطًا في العمل بها، وهذا من أبطل
الباطل.
وقد أقام الله - تعالى - الحجة برسوله - صلى الله عليه وسلم - دون آحاد
الأمة، ولا يعرض احتمال الخطإ لمن عمل بالحديث، وأفتى به بعد فهمه إلا
وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه، ويجري
عليه التناقض والاختلال، ويقول القول ويرجع عنه، ويحكى عنه في المسألة عدة
أقوال.
وهذا كله فيمن له نوع أهلية، أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله -
تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وإذا جاز
اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه، وإن علا فَلأَنْ
يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أولى بالجواز، ولو قُدِّر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل
من يعرفها، فكذلك الحديث. انتهى كلام السندي ملخصًا، وقد أطال من هذا النفس
العالي - رحمه الله تعالى ورضي عنه -.
***
الفقه في الدين والاجتهاد
قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية في خطبة (شرح الإلمام)
كما نقله عنه السبكي في طبقاته في ترجمته: إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى
شرفها وعُلاها، ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواؤها، وأرفعها بعد فهم
كتاب الله المنزَّل، البحث عن معاني حديث نبيه المرسل؛ إذ بذاك تثبت القواعد
ويستقر الأساس، وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس، لكن شرط ذلك عندنا أن
يحفظ هذا النظام، ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام، وترد المذاهب إليه،
وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه.
وأما أن يُجعل الفرع أصلاً، ويرد النص إليه بالتكلف والتحيّل، ويحمل على أبعد
المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل. ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذّلول،
ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول، فذلك عندنا من أردأ
مذهب وأسوأ طريقة، ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة،
وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه؟ وأنَّى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه؟
ومتى يُنصف حاكم ملَكَته غضبة الصبية؟ وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة
بالحمية؟ .. . إلخ (الفتوى في الإسلام صحيفة 44) .
***
السؤال عما لم يقع
قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم
يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد
إنما أُبيح للضرورة، ولا ضرورة قبل الواقعة، وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا
يغنيهم ما مضى من الاجتهاد، واحتج في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) انتهى (الفتوى في الإسلام
صحيفة 45) .
***
معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)
سئل أحمد بن عطاء أبو عبد الله الروزبادي المتوفى سنة 369 قال الحافظ
ابن عساكر: وفي مروياته أحاديث وهم فيها وغلط غلطًا فاحشًا عن قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - (إن الله خلق آدم على صورته) فقال: إن الله جل ثناؤه
خلق الخلق مرتبة بعد مرتبة، ونقله من حال إلى حال كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون: 12-
13) - إلى قوله- {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) وخلق آدم
ليس على هذه الأحوال، وإنما خلق صورته كما هي، ثم نفخ فيه من روحه؛
فلأجله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق آدم على صورته)
اهـ مختصر تاريخ ابن عساكر جزء صحيفة 394) .
***
نشوء علم الفلسفة
قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في آخر الكلام على الطبقة السادسة من
طبقاتهم: وكان في زمان هؤلاء خلائق من أئمة الحديث ومن أئمة المقرئين كوَرْش
واليزيدي والكسائي وإسماعيل بن عبيد الله المكي القسط، وخلق من الفقهاء كفقيه
العراق محمد بن القاسم، وخلق من مشايخ القوم كشقيق البلخي وصالح المري
الواعظ والفضيل والدولة لهارون الرشيد والبرامكة ثم بعدهم اضطربت الأمور،
وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين - رحمه الله - فلما قتل واستخلف المأمون على
رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته، وبَزَغ فجر الكلام، وعُرِّبت حكمة
الأوائل ومنطق اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مُهلك
لا يلائم عِلم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين، قد كانت الأمة منه في عافية.
وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق
القرآن ودعاهم إليه فامتحن العلماء، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ إن من البلاء أن
تعرف ما كنت تُنكر وتُنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة، ويعزل منقول
أتباع الرسل، ويُمارى في القرآن، ويتبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة،
فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول،
{وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (آل عمران: 101) (تذكرة
الحفاظ جزء 1 ص 300) .
***
كتاب المهذب للذهبي
وجدت بدار الكتب المصرية كتاب (المهذب) للذهبي بخطه، وعلى ظهر
المجلد الأول ما نصه بخطه - رحمه الله تعالى -: (المجلد الأول من كتاب
المهذب في اختصار السنن الكبير، تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين
بن علي البيهقي - رحمه الله تعالى - اختصار كاتبه محمد بن أحمد بن عثمان
بن الذهبي غفر الله له) وتحت ذلك بخطه - رضي الله عنه - أيضًا ما نصه:
قال ابن الذهبي: لم أختصر من أحاديث الكتاب شيئًا بل اختصرت الأسانيد،
فإن بها طال الكتاب، وبقيت من السند ما يُعرف به مخرج الحديث، وما حذفت من
السند إلا ما قد صح إلى المذكور، فأما متونه فأتيت بها إلا في مواضع قليلة جدًّا من
المكرر، قد أحذفها إذا قرب الباب من الباب، وآتي ببعض المتن، وقد تكلمت على
كثير من الأسانيد بحسب اجتهادي، والله الموفق.
وقد رمزت على الحديث بمن خرجه من الأئمة الستة (خ م د ت س ق) ولم
أتمم هذا، فإن فَسَحَ الله في الأجل طالعت عليه الأطراف لشيخنا أبي الحجاج الحافظ
إن شاء الله - تعالى -، وهذا أمر بيِّنٌ هيِّن، كل من هو محدث فإنه يقدر على
رمز أحاديث الكتاب من الأطراف، وما خرج عن الكتب الستة فقد بينت لك إسناده
ومخرجه، فاكشف عليه، إن شئت من كُتب الجرح والتعديل، فالرجال ثلاثة، إما
موثَّق مقبول، وإما مضعَّف غير حُجَّة، وإما مجهول، لكن كل قسم من الثلاثة
على مراتب في القوة واللِّين والجهالة، انتهى. والنسخة نفيسة جدًّا، كلها بخطه
خمسة مجلدات تنقص الثاني، والموجود منها أربعة، وفق الله لنا من يطبعه،
وينشره آمين.
***
كتاب الجمع بين الصحيحين
وجدت بدار كتب رواق الأروام بالأزهر جزءًا من الجمع بين الصحيحين
للحميدي وهو السادس، وقد أحببت نقل خاتمته لما فيها من النفائس، قال - رحمه
الله تعالى -:
(تم جميع الكتاب بحمد الله وعونه، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصًا
لوجهه، إنه ولي التوفيق، وهو على كل شيء قدير، وهو حسبي ونِعم الوكيل،
ثم قال عقب ذلك:
(وهذه الأصول تتصل بآخر ما في الصحيحين من مسند الصحابة - رضي
الله عنهم - وهو آخر ما قصدنا إليه من الجمع بين الصحيحين، وتمييز ما اتفقا
عليه من المتون المخرَّجة فيهما، وما انفرد به أحدهما منها مستقصًى على شرطنا
مرتبًا على ما بدأناه به وبيناه مع الاختصار المعِين على سرعة الحفظ والتذكار، ولم
يبق للباحث المجتهد إلا النظر فيها والتفقه في معانيها، ومراعاة حفظها وإقامة
الحُجّة بها، فإلى هذا قصد المتقدمون من أئمة الدين في حفظ إسنادها للمتأخرين؛
لتكون حاكمة بين المختلفين وشواهد صدق للمتناظرين - رضي الله عنهم أجمعين
ووفق التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين -.
فأما إسنادنا في هذين الكتابين فقد روينا كتاب الإمام أبي عبد الله البخاري
بالمغرب من غير واحد من شيوخنا بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمد بن
يوسف بن مطر الفربري عن البخاري، ثم قرأته بمكة - أعزها الله - على المرأة
الصالحة كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي غير مرة لعلو إسنادها فيه،
كأنا قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم بن المكي بن محمد بن
زراع الكُشميهني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشير بن
إبراهيم الفربري عن أبي عبد الله محمد بن الفرج بن عبد المولى الأنصاري، وهو
روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي، سمعه منه بمكة سنة ست
وأربعمائة.
قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قال:
أنا الفقيه أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، قال: سمعته من الإمام
أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنه -.
***
فصل
(وقد استشرف بعض الطالبين إلى معرفة الأسباب الموجبة للاختلاف بين
الأئمة الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - مع إجماعهم على الأصل المتفق
المستبين، حتى احتيج إلى تكلف التصحيح في طلب الصحيح، وقرَّبت على هذا
الطالب معرفة بعض العُذر في اختلاف المتأخرين لبُعدهم عن المشاهدة، وإنما تعذر
عليه معرفة الوجه في اختلاف الصحابة - رضوان الله عليهم - مع مشاهدتهم نزول
التنزيل وأحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على الحضور لديه،
والكون بين يديه، والأخذ عنه والاقتباس منه، وهذا الذي وقع لهذا الطالب الباحث
قد وقع لمن قبله الخوض فيه والبحث عنه.
وخرّج في هذا المعنى بعض الأئمة من علماء الأمة فصلاً رأينا إثباته ههنا
(كذا) [1] هذا الشبه عن هذا الطالب الباحث وغيره ممن يخفى ذلك عليه ويتطلع
إلى معرفة الوجه فيه، وبهذا الفصل يتصور (كذا) لك كل [2] صورة وقوع ذلك
منهم وكيفية اتفاقه لهم، حتى كأنه شاهده معهم) .
وهذا أول الفصل المخرّج في ذلك أوردناه بلفظ مصنفه -رحمة الله عليه-
(قال لنا الفقيه الحافظ أبو محمد بن علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي
-رضي الله عنه- في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه) .
***
سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة
(تطلعت النفس بعد تيقُّنها أن الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد
لا يختلف وهو ما جاء عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - إما في القرآن،
وإما من فعله أو قوله، الذي لا ينطق عن الهوى فيه، لما رأت وشاهدت من
اختلاف علماء الأمة في ما سبيله واحدة وأصله غير مختلف فبحثت عن السبب
الموجب للاختلاف، ولترك من ترك كثيرًا مما صح من السنن، فوضح لها بعد
التفتيش والبحث أن كل واحد من العلماء ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الرجل
الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يَعرِض هذا في آي القرآن.
(ألا ترى أن عمر - رضي الله عنه - أمَر على المِنبر ألا يُزاد في مهور
النساء على عدد ذكره مَيلاً إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد على ذلك
العدد في مهور نسائه حتى ذكرته امرأة من جانب المسجد بقول الله - عز وجل -:
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً} (النساء: 20) فترك قوله، وقال: كل أحد أعلم منك
حتى النساء.
وفي رواية أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. علمًا منه - رضي الله عنه
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يزد في مهور النساء فإنه لم يمنع
مما سواه والآية أعم، وكذلك أمر - رضي الله عنه - برجم امرأة ولدت لستة أشهر
فذكَّره علي قول الله - تعالى - {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف:
15) مع قوله - تعالى - {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} (البقرة:
233) فرجع عن الأمر برجمها، وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ جفا عليه حتى
ذكره الحُر بن قيس بقول الله - عز وجل - {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) فأمسك عمر. وقال - رضي الله عنه - يوم مات رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا حتى
قُرئت عليه {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30) فرجع عن ذلك، وقد كان
علم الآية، ولكنه نسيها لعظيم الخطب الوارد عليه، فهذا وجه عمدته [3] (كذا)
الخلاف للآية أو للسنة بنسيان لا بقصد.
وقد يذكر العامل الآية أو السنة لكن يتأول فيها تأويلاً من خصوص أو نسخ
أو معنًى ما، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل، ولا شك أن الصحابة - رضي الله
عنهم - كانوا بالمدينة حوله - عليه السلام - مجتمعين، وكانوا ذوي معايش،
يطلبونها، وفي ضَنْك من القوت فمن متحرف في الأسواق ومن قائم على نخله،
ويحضره - عليه السلام- في كل وقت منهم طائفة إذا وجدوا أدنى مما هم بسبيله،
وقد نص على ذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال: إن إخواني من المهاجرين
كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على
نخلهم وكنت امرءًا مسكينًا أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء
بطني.
وقد قال عمر - رضي الله عنه -: ألهاني الصفق في الأسواق في حديث
استئذان أبي موسى، فكان - عليه السلام - يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم،
ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيحفظه من حضره ويغيب عن من غاب عنه، فلما
مات - عليه السلام - وولي أبو بكر - رضي الله - عنه كان إذا جاءت القضية
ليس عنده فيها نص، سأل من بحضرته من الصحابة فيها، فإن وجد عندهم نصًا
رجع إليه، وإلا اجتهد في الحكم فيها، ووجه اجتهاده واجتهاد غيره منهم - رضي
الله عنهم - رجوع إلى نص عامّ أو إلى أصل إباحة متقدمة أو إلى نوع من هذا
يرجع إلى أصله.
ولا يجوز أن يظن أحد أن اجتهاد أحد منهم هو أن يشرع شريعة باجتهاده،
أو يخترع حُكمًا لا أصل له، حاشَ لهم من ذلك، فلما ولي عمر - رضي الله عنه -
فُتحت الأمصار وتفرق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو
بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نص حُكِمَ به، وإلا
اجتهدوا في ذاك، وقد يكون في تلك القضية نص موجود عند صاحب آخر في بلد
آخر- وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر
الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر
الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المدني.
كل هذا موجود في الآثار وتقتضيه الحالة التي ذكرنا من مغيب بعضهم عن
مجلسه -عليه السلام- في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر
وحضور الذي غاب، فيدري كل واحد منهم ما حضره ويفوته ما غاب عنه، وقد
كان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر، وابن مسعود حتى قالا: لا
يتيمم الجُنُب ولو لم يجد الماء شهرين، وكان حكم المسح على الخفين عند علي
وحذيفة ولم تعلمه عائشة ولا ابن عمر ولا أبو هريرة على أنهم مدنيون، وكان
توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب عن أبي موسى، وكان حكم
الاستئذان عند أبي موسى وأُبيّ وغاب عن عمر، وكان حكم الإذن للحائض في أن
تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سلمة ولم يعلمه عمر وزيد بن ثابت،
وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهلية عند علي وغيره، ولم يعلمه ابن عباس،
وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة وابن
عباس وابن عمر، وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس
وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر بذلك فذكره فأجلاهم، ومثل هذا كثير.
فمضى الصحابة - رضي الله عنهم - على هذا.
ثم خَلَفَ بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي
ذكرنا، فإنما تفقَّهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدَّون فتاويهم، لا
تقليدًا ولكن لأنهم أخذوا وروَوْا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في
بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن
عمر، واتِّباع أهل مكة فتاوى ابن عباس، واتِّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن
مسعود، ثم أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسُفيان، وابن أبي
ليلى بالكوفة وابن جُريج بمكة، ومالك وابن الماجِشون بالمدينة، وعثمان البَتِّي
وسوَّار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجرَوْا على تلك الطريقة، من
أخذ كل واحد من التابعين من أهل بلده وتابعوهم عن الصحابة - رضوان الله
عليهم - في ما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند
غيرهم ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها.
وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه أجرين ومأجور فيما خفي عليه،
ولم يبلغه أجرًا واحدًا. قال الله - تعالى - {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام:
19) .
وقد يبلُغ الرجل ممن ذكرنا نصان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما
بضرب من الترجيحات، ويميل غيره إلى النص الذي ترك الآخر بضرب من
الترجيحات أيضًا، كما رُوي عن عثمان في الجمع بين الأختين: أحلَّتهما آية
وحرَّمتهما آية. وكما مَالَ ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله -
تعالى - {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) وقال: لا أعلم
شِركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربُّها. وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة
في الآية الأخرى، ومثل هذا كثير.
فعلى هذه الوجوه ترك بعض العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات،
وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم لأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك
هؤلاء، لا قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها كذا، ولكن لأحد الأعذار
التي ذكرنا، إما من نسيان، وإما أنها لم تبلغهم، وإما لتأويل ما، وإما لأخذ بخبرٍ
ضعيفٍ، لم يَعلم الآخذ به ضعف رواته وعلمه غيره، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه أو
بظاهر آية.
وقد يشتبه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى، ويلوح له حكم بدليل ما
ويغيب كذا غيره، ثم كثرت الرِّحل إلى الآفاق، وتداخل الناس وانتدبت أقوام لجمع
حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيد إلى
من لم يكن عنده، وقامت الحُجة على من بلَغه شيء منه، وجمعت الأحاديث المبينة
لصحة أحد التأويلات المتأولة في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف
الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ترك
عمله، وسقط العُذر عمن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغها إليه، وقيام الحُجة بها
عليه، فلم يبق إلا العِناد والتقليد.
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة - رضوان الله عليهم - وكثير من التابعين
يرحلون في طلب الحديث الأيامَ الكثيرةَ طلبًا للسُّنن والتزامًا لها، وقد رحل أبو
أيوب من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد إلى عقبة بن عامر، وقد رحل
علقمة والأسْوَد إلى عائشة وعمر، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام، وكتب
معاوية إلى المغيرة اكتب إليّ بما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -
ومثل هذا كثير.
(قال أبو عبد الله) : فقد بيَّنَّا - والحمد لله - وجه من ترك بعض الحديث،
والسبب الموجب للاختلاف، وشفينا النفس مما اعترض فيها، ورفعنا الإشكال عنها،
والله - عز وجل - المعين على البحث والهادي إلى الرشد بمنِّه.
وبهذا البيان كشف به هذا الإمام في هذا الفصل صورة الحال في أسباب
الاختلاف الواقع بين الصحابة فمن دونهم، صح للأئمة المتقدمين - رضي الله عنهم
أجمعين - وجوب طلب التصحيح للنصوص الواردة في شرائع الدين، لتقوم الحُجة
بما صح منها على المختلفين، وقد قام الكل منهم في ذلك بما قدر عليه، وانتهت
استطاعته إليه، إلى أن انفرد بالمَزِيَّة في الاجتهاد، والرحلة إلى البلاد، في جمع
هذا النوع من الإسناد، بعد التَّتبُّع والانتقاد، الإمامان أبو عبد الله البخاري وأبو
الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنهما -، فحازا قَصَب السَّبْق
فيه في وقتهما، ولفَرْط عنايتهما وبلوغهما غاية السعي والتشمير فيه قويت هممهما
في الإقدام على تسمية كتابيهما بالصحيح، وعلم الله - عز وجل - صِدق نيتهما فيه
ومشقة قيامهما به وحُسن انتقادهما له، فبارك لهما فيه ورزقهما القبول شرقًا
وغربًا، وصرف القلوب إلى التعويل عليهما والتفضيل لهما، والاقتداء في شروط
الصحيح بهما، وتلك عادة الله فيمن أحبه، أن يضع له القبول في الأرض كما جاء
في الخبر الصادق عن المبعوث الحق - صلى الله عليه وسلم -، فهنيئًا لهما،
ولمن اهتدى في ذلك بهُداهما، والواجب علينا وعلى من فهم الإسلام، وعرف قدْر
ما حَفِظَا من الشرائع والأحكام، أن يخلِص الدعاء [4] لهما، ولسائر الأئمة الناقلين
إليهما وإلينا قواعد هذا الدين، وشواهد أحكام المسلمين. ونحن نبتهل إلى الله -
تعالى - في تعجيل الغُفران لهما ولهم، وتجديد الرحمة والرضوان عليهما وعليهم،
وأن يبوئ الكل منهم في أعلى درجات الكرامات، من غُرُفات الجنات، وأن يوفقنا
أجمعين للاقتداء بهم، والسلوك في سبيلهم، والدعاء إليه وإلى رسوله، والانقياد
لمحكمات تنزيله، والتفقه في دينه، والإخلاص في عبادته، والانقطاع إليه،
وصِدْق التوكل عليه، حتى يتوفانا مسلِمين مسلَّمين، غير مبدِّلين ولا مغيِّرين، وأن
يغفر لنا ولآبائنا ولجميع المسلمين.
تم الجزء السادس وبتمامه تم الكتاب. والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا
محمد نبيه، وآله وصحبه وسلامه. وافق الفراغ من نسخه لخمس ليالٍ بَقِين من ذي
القَعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
__________
(*) من جمع الشيخ أحمد شاكر بن محمد شاكر والحواشي والعناوين من وضع صالح رضا.
(1) ربما سقط من الأصل كلمة هي (لإزالة) أو ما في معناها وأن (هذا) محرَّف عن هذه.
(2) لعل كلمة (كل) زائدة من النُّسَّاخ.
(3) ربما كان الأصل (فهذا وجه ما عمدته الخلاف) إلخ.
(4) في نسخة الأصل (للدعاء) .(19/266)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من القليوبية
(س 1-7) مِن صاحب الإمضاء بأبي زعبل (من القليوبية) .
أستاذي الفاضل، الشيخ محمد رشيد رضا:
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو،
وقد علمنا وعلم الناس أنكم - حفظكم الله - خليفة الأستاذ الإمام في القيام بأمر الدِّين
الخالص، ودحض الباطل عنه، فإن العِلم الدليل، وليس العِلم بالكُمِّ الطويل، وقد
طوحتني المقادير إلى بلدة ألعن بلاد الله تربة، يسكنها قوم أحلامهم دِقاق، ودينهم
نِفاق، يأخذون من العِلم القشور، ومن الأخبار الموضوعة، ومن العقائد الخُرافية،
فهم أشباه الرجال ولا رجال، يُكَفِّرون مَن قال بالمعراج بالروح، ومن أنكر وجود
الجنة والنار، ومن نفى رؤية الإله في الآخرة، ومن منع رجوع الشمس بعد مغيبها
عند إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم العير، وعدم مجيء بيت المقدس
بين يديه - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجود الزُّناة وأكلة الربا بين مكة وبيت
المقدس، ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ليلة الإسراء كل ذلك لحُجج
عنده من أن هذه عقائد لا تثبت إلا بالقطع، وبعض هذه الأشياء لم يجد (كذا) فيه
دليل أصلاً، وبعضها قام عليه دليل غير يقينيّ مع قيام دليل العقل على خلافه،
ولما كنتم - بارك الله فيكم - أوقفتم أنفسكم على تحقيق مثل هذه المسائل نفعًا للأمة
وخدمة للدين، وقد شاهدنا غزارة علمكم وسعة فِكركم وكثرة اطلاعكم ورسوخ
ملكتكم العلمية التي قلَّ أن توجد لأحد من مُعاصريكم رجوت أن تكشف لي بَقِيت
أبدًا (؟) عن غطاء هذه المسائل وتُرجعها إلى أصولها، وتبرزها في صورتها
الحقيقية غير مشُوبة بخرافات المخرِّفين، بأدلتها من العقل أو الكتاب أو السنة
المتواترة أو المشهورة، كما هو شأنكم في جميع المسائل، لا زلت ينتفع بك الإسلام
والمسلمون.
... ... ... تحريرًا في يوم الثلاثاء 5 شعبان سنة 1334 هـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ولدكم: محمد عليوه
(المنار)
يؤخذ من هذا الكتاب بضع مسائل، ينبغي بيان الحق فيها، وها
نحن نتكلم عليها واضعين لكل واحدة منها عنوانًا.
(1)
تكفير المسلم بما لم يصح عنده
من مسائل الدين
قد اعتاد الناس الجرأة على التكفير بغير علم حتى إن بعض المؤلفين في الفقه
توسعوا في المكفِّرات، فزادوا الناس جُرأة على تكفير من يخالف مذاهبهم وتقاليدهم،
وإن لم تكن من الدين في شيء. وقد بيَّنَّا من قبل أن الأصل في ارتداد المسلم عن
دينه هو جَحْده أو تكذيبه شيئًا في حقية شيء يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
جاء به من أمر الدين؛ إذ يكون بذلك غير مؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله
عليه وسلم - ولما كان الجهل في دار الإسلام غير عُذر جعل العلماء أمور الدين
قسمين:
(أحدهما) ما لا يُعذر أحد في دار الإسلام بجهله، وإن كان عاميًّا وهو
المُجْمَع عليه، المعلوم من أمر الدين بالضرورة، كفريضة الصلاة والزكاة والحج،
وكتحريم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، كالقتل والزِّنا وشرب الخمر والسرقة
والكذب والخيانة، فمن جَحَد من هذا القسم شيئًا كفر وعُدَّ مرتدًّا عن دين الإسلام.
وإنما يُعذر بجهل بعض هذه المسائل من كان قريب عهد بالإسلام لم يمرَّ عليه من
الزمن بعد إسلامه ما يكفي لوقوفه على ذلك، ومن نشأ بعيدًا عن دار الإسلام
كشاهق جبل - كما يقولون -.
(الثاني) ما شأنه أن لا يعرفه إلا المشتغلون بعلم الدِّين من فروع المسائل
وأصول الأحكام وأدلتها، فهؤلاء العلماء يؤاخذون بحسَب عِلمهم، فمن جحد منهم
شيئًا من الدِّين يعلم أنه ثَبَت في كتاب الله أو سنة رسوله أو أجمع عليه الصحابة،
ولم يكن متأولاً في جحده كان بذلك مرتدًّا كما هو ظاهر.
وأما من جحد أو أنكر شيئًا مختلَفًا في أصله أو دليله أو في دلالة ذلك الدليل
عليه؛ لأنه لم يصحَّ عنده أو لمعارض رآه أرجح منه بضرب من التأويل فلا يُعدُّ
مرتدًّا بذلك، ولكنه إذا انتهى به التأويل إلى مخالفة جماعة السلف الصالح من أهل
الصدر الأول عُدَّ مبتدعًا، وإن كان موحِّدًا مقيمًا لأركان الإسلام.
ولم يُكفِّر أهل السنة من أنكر خبر المِعراج، ولا من قال: إنه كان بالروح
فقط، بل قال بذلك بعض أهل السنة، ولا من قال إن الجنة والنار لم يُخلقا بعدُ
وإنما يُخلقان يوم القيامة، ولا من قال: إن المؤمنين لا يرون ربهم في الجنة، فقد
قال بذلك جمهور من الجهمية والمعتزلة ولم يكفرهم علماء السلف به، كما ترونه في
أشهر كتب العقائد التي تُدرَّس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في
جميع الأقطار.
وإذا كانوا لا يُكفِّرون من يُنكر أصل المعراج إلا إذا أنكر الإسراء المنصوص
في القرآن، ولا يكفرون من ينكر رؤية الباري - تعالى - في الآخرة المصرَّح بها
في الأحاديث المتفق عليها، فكيف يكفرون من ينكر رجوع الشمس للنبي - صلى
الله عليه وسلم - بعد غروبها، والحديث فيه غير صحيح، أو ينكر مجيء بيت
المقدس إلى الحجاز وكون المذنبين الذين رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
يعذَّبون كانوا موجودين بأجسادهم بين مكة وبيت المقدس، ولا نُصَّ على هذا في
كتاب ولا سنة، وما عهدنا أحدًا من علماء المسلمين يجعله من عقائد الدين،
وسترى معنى ذلك في المسائل الآتية:
***
(2)
المعراج روحي أم جسدي
قد فصَّلنا القول في مسألة المعراج في المجلد الرابع عشر من المنار فلْيُراجع
في ص 644 و 732 منه، وفيه أن عُمدة من قال إن المعراج كان في المنام،
حديث شريك عند البخاري.
***
(3)
رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- بيت المقدس
إن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيت لمقدس، ووصفه إياه
للمشركين وهو بمكة ليس معناه أن بيت المقدس انتقل إلى مكة، وإنما معناه أنه مَثَل
له كما مَثَلت له الجنة في عُرض الحائط، ولفظ الحديث في ذلك كما ورد في حديث
جابر في الصحيحين أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لما
كذبتني قريش قمت في الحِجْر فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن
آياته وأنا أنظر إليه) هذا نص حديث الشيخين، ومعنى جلاه أظهره.
وقال بعض العلماء: معناه كشف الحُجُب بيني وبينه حتى رأيته. قال
الحافظ في الفتح: ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد (فخُيِّل إليَّ البيت
المقدس) [1] فطفقت أخبرهم عن آياته فإن لم يكن مغيَّرًا من قوله: (فجلَّى) وكان
ثابتًا، احتمل أن يكون المراد أنه مَثَل قريبًا منه كما قدّم نظيره في حديث: أُرِيت
الجنة والنار وتأول قوله: (جيء بالمسجد) [2] أي: جيء بمثاله - والله أعلم.
ووقع في حديث شدَّاد بن أوس ما يؤيد الاحتمال الأول، ففيه ثم مررت بِعِير
لقريش - فذكر القصة - ثم أتيت أصحابي قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين
كنت الليلة؟ فقال: (إني أتيت بيت المقدس) فقال: إنه مسيرة شهر فصِفْه لي،
قال: (ففُتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه)
اهـ المراد من عبارة الفتح.
وأما لفظ حديث أم سلمة عند مسلم (فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه)
فيتفق مع ما تقدم بمعنى أنه رفع إليه مثاله، وقد غفل من زعم أن بيت المقدس نُقل
من مكانه إلى مكة عما يترتب على ذلك من استحالة وجوده عند دار عقيل كما ورد
في رواية ابن عباس؛ لأن وضع الجسم الكبير في المكان الصغير الذي لا يبلغ عُشره
مُحال، ومن كون وجوده بمكة يستلزم أن يراه جميع الناس، ولو وقع ذلك لَتواتر،
ومن كون نقله يستلزم عِلم جميع أهله ومَن حولهم به، ولو وقع ذلك لَتواتر نقله
عنهم.
وقد غفل من مال إلى ترجيح ذلك اللفظ على ما هو أصح منه وأقرب إلى
المعقول عن كل ذلك، واكتفي بأن هذا أبلغ في المعجزة، وأن الله قادر عليه، وهو
لم يكن مما وقع به من التحدي، ولا ترتب عليه إيمان أحد. فهل يُبطل الله -
تعالى - سنته في الكون عبثًا؟
وهذا التوجيه يحتاج إليه في رؤية بيت المقدس من اعتمد قول الجمهور: إن
الإسراء فقط أو الإسراء والمعراج معًا كانا في حال اليقظة بالروح والجسد كمن قال:
إن ذلك رؤيا منامية، أو مشاهدة روحية وقعت حال اليقظة؛ لأن سؤال قريش
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصف لهم بيت المقدس إنما كان في اليقظة قطعًا
بغير خلاف.
***
(4)
رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - المذنبين يعذبون
إذا كانت رؤية النبي لبيت المقدس من قَبِيل الكشف الذي يحصل بإدراك
النفس للشيء بغير واسطة العينين، أو بجعل الله - تعالى - مثال ذلك أمام العينين
فالظاهر أن رؤية من رآهم يعذّبون بذنوبهم من قبيل رؤية المثال بالأولى؛ لأن
بيت المقدس من عالم الشهادة، وعذاب المذنبين بما رُوي في الحديث من عالم
الغيب ليس له مكان في الدنيا يشاهد بين مكة وبيت المقدس. وكل ذلك من آيات الله
التي أراه إياها في ليلة الإسراء.
ومن هذا القبيل رؤيته الجنة والنار، وهو يخطب كما رُوي في الصحيحين.
وتعبيره عن ذلك في بعض الروايات بأنهما مثلَتا له في الجدار. وقد وصفت الجنة
في القرآن بقوله - تعالى - {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الحديد: 21) فهل
تجتمع هي والنار في جدار المسجد؟ وورد أن من أولئك المعذَّبين من تتثاقل
رءوسهم عن أداء الصلوات - والصلاة لم تكن شرعت - فقد تمثل له - صلى الله
عليه وسلم - عذابهم قبل وقوعه بالنسبة إلى أمته.
إن رؤية البشر الروحية لبعض الموجودات الغائبة عن أبصارهم قد تثبت
بالتجارب الكثيرة في جميع الأقطار، ومنها ما ثبت للدكتور شبلي شميل من علماء
العصر الماديين، وقد ذكرنا في بعض مجلدات المنار خبره مع المريض الذي كان
يعالجه، ويسمع منه الأخبار الكثيرة عما يدركه بنفسه غائبًا عن حسه كإخباره عن
قريب له في الإسكندرية بأنه سافر منها إلى القاهرة في القطار الذي يتحرك من
الإسكندرية في ساعة كذا، ثم إخباره بوصوله إلى محطة القاهرة، وركوبه العربة
منها قاصدًا دار المريض، ثم بوصوله إلى باب الدار، وكان الأمر كما قال.
وأذكر مما وقع لي من ذلك في الصغر أنني هربت مرة من الكُتَّاب واختبأت
في بستان لجدتي، أم والدتي، وكنا نحن مصطافين في بستان لنا يبعد عن هذا
البستان مسافة زُهاء ربع ساعة، وكانت جدتي في بستاننا فتمثلت لي خارجة منه
حتى كأني أنظر إليها متتبعًا خطواتها من أول الطريق إلى آخره حتى أنني ناديتها
عندما وصلت إلى مدخل بستانها وقبل أن تدخله ويقع بصري عليها فأجابتني،
وكنت أعتقد أنها تحمل إليّ ما يطيب لي أكله فكان كذلك. ومثل هذا كثير.
ولكن ما يقع للأنبياء من ذلك فوق ما يقع لبعض البشر، كذلك المريض
وبعض الصوفية، وأكمل منه؛ لأنه يشمل عالم الغيب وما لا يصل إليه غيرهم من
عالم الشهادة.
***
(5)
رجوع الشمس بعد غروبها
أو وقوفها للنبي -صلى الله عليه وسلم-
يرى السائل تفصيل القول في هذه المسألة في ص 70 من مجلد المنار التاسع
وحسبُك منه قولنا هنالك: (إن مسألة رد الشمس له - صلى الله عليه وسلم - قد
ورد في رواية ضعيفة من أحاديث المعراج، وورد في رواية أقوى منها في مناقب
علي - كرم الله وجهه -. وهذه الرواية وثَّقها الطحاوي في (مشكل الآثار) وتبعه
القاضي عياض في الشفاء، وقد تكلم فيها بعض الحُفَّاظ، بل أوردها ابن الجوزي
في الموضوعات، وتعقبه في اللآلئ (فإن شئت الزيادة وما قيل في الطعن في
الرواية فارجع إلى المجلد التاسع أو إلى الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة
للإمام الشوكاني.
***
(6)
وجود الجنة والنار
ظواهر نصوص الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة المتفق عليها، تدل على
أن الجنة والنار داري الجزاء للأبرار والفُجَّار هما عالَمان مخلوقان، ولا نرى ما
يعارض هذه الظواهر من الدلائل العقلية ولا النقلية، فإن كان لدى السائل ما
يعارض ذلك فليذكره لنا لنبين رأينا فيه.
***
(7)
رؤية الباري -سبحانه وتعالى-
في الآخرة
إن من أصول العقائد القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن نعيم الآخرة
قسمان، رُوحاني وجسماني؛ لأن البشر لا تنقلب حقيقتهم في الآخرة بل يبقون
بشرًا أُولي أرواح وأجساد، ولكن الرُّوحانية تكون هي الغالبة على أهل الجنة،
فيكون النعيم الروحاني عندهم أعلى من النعيم الجسماني. ومن الثابت بالاختبار
والتجارب أن العلماء الراسخين والحكماء الربانيين، والفلاسفة الماديون [3]
والرؤساء السياسيين، كلهم يفضلون اللذات العقلية الروحية والحياة المعنوية، على
اللذات المادية الجسَدية، فترى أحدهم يزهد في أطايب الطعام، وكئوس المُدام،
ويتجافى جنبه عن مضجعه، ذاهلاً عن حقوق حَليلته، تلذُّذًا بحَل مشكلات المسائل،
واكتشاف أسرار الكون، أو بالنفث في عُقَد السياسة، وما تقتضيه أعباء الرياسة؛
ألا وإن أعلى العلوم العقلية والمعارف الرُّوحية في هذه الدنيا هو معرفة الله -
سبحانه وتعالى - والعلم بمظاهر أسمائه وصفاته في خلقه، والوقوف على سُننه
وأسراره فيها، وكشْف الحُجُب عما أُودع فيها من الجمال والجلال، وفي النظام
الذي قامت به من آيات الكمال، التي هي مُجلَّى صفات بارئها، منتهى الجمال
والجلال والكمال {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} (الرعد: 9) .
وما زال أصحاب الهمم العالية من العلماء والحكماء، يستدلون بما ظهر لهم من
تلك السنن والآيات على كمال مبدعها ومبدئها ومصرِّفها، وتتطلع عيون عقولهم إلى
كيفية صدور الوجود الممكن الحادث، (وهو مجموع هذه العوالم العلوية والسفلية)
عن الوجود الأزلي الواجب، ويهتمون بارتقاء الأسباب بعد ذلك، بتّحوُّل البسائط
وتولُّد بعضها من بعض، قبل وجود هذه المركَّبات المعروفة من السماء والأرض،
طمعًا في معرفة حقيقة ذلك الوجود الأعلى، على عجزهم عن إدراك كُنْه أدنى هذه
الموجودات السُّفلى، وقد اختلف الحكماء في إمكان وصول العِلم البشري إلى حقيقة
الوجود الأول الأزلي، وكيفية صدور الموجودات الممكنة عنه - فقال بعضهم
بإمكان ذلك وتوقع حصوله في يوم من الأيام، وقال آخرون بأنه فوق استعداد الأنام.
والحق في ذلك ما هدانا إليه دين الله الحق، وهو أن إدراك أبصار الخلق
له - سبحانه وتعالى - وإحاطة علمهم به من المُحال الذي لا مَطمع فيه {لاَ تُدْرِكُهُ
الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الأنعام: 103) , {يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) ولكن العَجْز عن
الإدراك والإحاطة، لا يستلزم العجز عما دون ذلك من العلم والمعرفة، التي ترتقي
إلى الدرجة التي عُبِّر عنها بالتَّجلي والرؤية، فإن كانت ظواهر الآيات في ذلك
متعارضة، فالأحاديث والآثار الصحيحة المبينة له جلية واضحة.
إنما وقع المِراء بين المتكلمين والمتفلسفين، وبين علماء الآثار في كلمة
(الرؤية) فأثبتها أهل الأثر؛ لدلالة ظواهر القرآن ونصوص الأحاديث عليها،
ومنعوا قياس رؤية الباري - تعالى - على رؤية المخلوقات، بدعوى استلزامها
التحيز والحدود، وغير ذلك من صفات الأجسام، وقالوا: إننا لا نبحث في كيفيتها
كما أننا لا نبحث في كيفية ذاته ولا صفاته - تعالى -، فإننا نجزم بأن له علمًا
وقدوة وسمعًا وبصرًا، ولكن علمه ليس كعلمنا ناشئًا عن انطباع صورة المعلومات
في النفس، ومكتَسَبًا لها بالحواس أو الفكر، وكذلك قدرته وسائر صفاته.
فنحن نجمع بين الإيمان بالنصوص في أسماء الله وصفاته وأفعاله وسائر
شئونه، وبين تنزيهه عما لا يليق به من مشابهة خلقه الممنوعة بدلائل النقل
والعقل، كما قال - عز وجل -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) .
ونفاها أهل الكلام والفلسفة بناءً على قياس الخالق - سبحانه وتعالى - على
المخلوق، ودعوى منافاة الرؤية للتنزيه، الذي هو أصل العقيدة وركنها الرَّكين.
ولكنهم لا يستطيعون إنكار الحقيقة التي أثبتها أهل السنة والجماعة إذا عبر عنها
بغير لفظ الرؤية كأن يقال: إن أعلى نعيم أهل الجنة لقاء الله - تعالى - بتجليه
عليهم، تجليًا يحصل لهم به أعلى ما استعدت له أنفسهم وأرواحهم من المعرفة،
وإن أعظم عقاب لأهل النار حَجْبهم عن ربهم، وحرمانهم من هذا التجلي والعِرفان
الخاص بدار الكرامة والرِّضوان، فإنهم لا يعتنون بتأويل مثل قوله - تعالى -
في المتقين: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} (الأحزاب: 44) وقوله في الكافرين:
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 15) كما يعتنون بتأويل
قوله: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22-23) بأن النظر
معناه الانتظار والرجاء، وما ردَّ به بعضهم على بعض في الآية يُطلب من الكشَّاف
والبيضاوي وحواشيهما، وسائر كتب التفسير، ومن كتب الكلام، وشروح
الأحاديث.
وكم بين حُذَّاق الجِدال تَنَازُع ... وما بين عُشَّاق الجمال تَنَازُع
ومن غرائب جدالهم أن كلاً منهم يستدل على مذهبه بطلب موسى - عليه
السلام - رؤية ربه، وقوله - تعالى -: {لَن تَرَانِي} (الأعراف: 143) الآيةَ
فأهل السُّنة يستدلون على جواز الرُّؤية بسؤال الكليم إياها، وعدم إنكار الباري -
تعالى - عليه هذا السؤال كما أنكر على نوح - عليه السلام - سؤاله نجاة ولده الكافر
بناءً على أنه من أهله الذين وعده بنجاتهم - وبتعليق الرؤية على جائز وهو
استقرار الجبل، والمعتزلة يستدِلون بالآية على عدم الرؤية بعدم إجابة الكليم إليها،
وتعليقها على ما عَلِمَ الله أنه لا يكون.
وإذا كانت الآيات التي استدل بها كل فريق ليست نصًّا قاطعًا في مذهبه، ففي
الأحاديث المتَّفَق عليها ما هو نصّ قاطع، لا يحتمل التأويل في الرؤية وتشبيهها
برؤية البدر والشمس في الجَلاء والظهور، وكونها لا مضارَّة فيها ولا تضامّ ولا
ازدحام.
وفي كتاب التوحيد من صحيح البخاري أحد عشر حديثًا في ذلك، وجمع ابن
القيم في (حادي الأرواح) ما ورد في ذلك من الأحاديث، فكان ثلاثين حديثًا. قال
الحافظ ابن حجر عند إشارته إلى ذلك: وأكثرها جِياد. وزاد ابن القيم ما ورد عن
الصحابة والتابعين وأئمة علماء الأمصار في ذلك، وحملهم إياه على ظاهره مع
تنزيه الله - تعالى - فكان بعض ما قالوه تأويلاً أبعد من تأويل المنكرين.
قال الحافظ في الكلام على تفسير {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22-23) من شرح كتاب التوحيد من البخاري ما نصه: واختلَف مَنْ
أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم يحصل للرائي العلم بالله - تعالى - برؤية العين
كما في غيره من المرئيات، وهو على وَفْق قوله في حديث الباب: (كما ترون
القمر) إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية، وذلك أمر زائد على العلم.
وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم، وعبَّر عنها بعضهم بأنها حصول
حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة، نسبة الإبصار إلى المرئيات. وقال
بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا
أقرب إلى الصواب من الأول اهـ.
ثم ذكر ما تعقب به من قال: إن المراد بالرؤية العلم. وإنما قال في القول
الأخير: إنه أقرب إلى الصواب، لما فيه من التفويض وعدم التحديد، وهذا المعنى
هو الذي قال به الغزالي وأوضحه في كتاب المحبة من (الإحياء) بما يَعْهد من قرأ
الإحياء من بيانه وفصاحته.
هذا وإن إحصاء ما ورد في هذا الباب مما استدل به على الرؤية إثباتًا ونفيًا
من الآيات والأحاديث، وسرد كلام المثبتين والنُّفاة، وبيان الراجح منه والمرجوح
يستغرق عِدَّة أجزاء من المنار، ولن يُرضي ذلك منا أكثر القراء، وجملة القول
في المسألة أن الآيات القرآنية فيها ليس فيها نص قاطع لا يحتمل التأويل، ولكن
الأحاديث الصحيحة والحسنة صريحة في ذلك لا تحتمل التأويل، والمرفوع منها
مروي عن أكثر من عشرين صحابيًّا دَعْ الموقوف والآثار.
ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة المتفَق عليه عن
مسروق قال: قلت لعائشة: - رضي الله عنها - يا أمتاه هل رأى محمد - صلى
الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قفَّ شَعري مما قلت! أين أنت مِن
(ثلاث مَن حدثكهن فقد كذب) مَن حدثك أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى
ربه فقد كذب، - وفي رواية (فقد أعظم على الله الفِرية) - ثم قرأت:
{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الأنعام: 103) ,
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: 51)
ومَن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ
غَداً} (لقمان: 34) ومن حدثك أنه كتم - أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كتم شيئًا من الدين - فقد كذب، ثم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ} (المائدة: 67) - الآية- ولكن رأى جبريل في صورته مرتين اهـ.
وقد ذكر النووي في شرح مسلم أن عائشة لم تنفِ وقوع الرؤية بحديث
مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر
الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة ... إلخ.
وذكر الحافظ في الفتح أنه قال ذلك تبعًا لابن خُزَيمة ذاهلاً عما ورد في
صحيح مسلم الذي شرحه، وذكر أن في حديث مسروق عنده زيادة عما ذكرناه من
لفظ البخاري، وهي: قال مسروق: وكنت متكئًا فجلست وقلت: ألم يقل الله:
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (النجم: 13) فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: إنما هو جبريل ... إلخ.
فعلم من هذا أن عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي - صلى الله
عليه وسلم - لربه بالحديث المرفوع، وتنفي جواز الرؤية مطلقًا أو في هذه الحياة
الدنيا بالاستدلال بقوله - تعالى -: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: 103) ،
وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: 51) ويعارض هذا الاستدلال أنه ليس نصًّا في النفي حتى يُرَجَّح
على الأحاديث الصريحة في الرؤية، وقد قال بها بعض علماء الصحابة.
وقال بعض العلماء: إن عائشة ليست أعلم عندنا من ابن عباس الذي أثبت
الرؤية للنبي ليلة المعراج، وفي هذا القول بحث، فإن ابن عباس استنبط إثبات
الرؤية في الدنيا من الآيات، وقد انفرد بذلك دون سائر الصحابة، وأما من رُوي
عنهم إثبات الرؤية في الآخرة، فليس فيهم أحد يقال: إنه أعلم من عائشة إلا والدها
الصدِّيق وعليُّ المرتضى وزيد بن ثابت وقد يذكر في طبقتها منهم العبادلة. ولكن
الحديث عن أبي بكر وزيد بن ثابت في هذا الباب ضعيف، وعن علي موضوع
حتى إن ما رُوي عنها نفسها فيه أقوى سندًا.
ويقول النفاة: لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج لما
خفي نبأ ذلك عن عائشة مع ما علم من حرصها على العلم، وسؤالها إياه عن آية
النجم؟ وقد يقول النفاة أيضًا: لو كانت الرؤية في الآخرة عقيدة يطالب المسلمون
بالإيمان بها لما جهلتها عائشة. ولكن هذا القول لا ينهض لمعارضة إثبات المثبتين
لها بالأحاديث الصريحة، وإنما قصاراه أن يعد دليلاً على أن المسألة من أمور
الآخرة التي كان يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا لبعض الخواص؛ إذ
لا يضر العامة جهلها، فلم يقصد أن تكون عقيدة يدعى إليها مع التوحيد.
وأحسن ما يجاب به عن استنباط عائشة وأقواه عند المثبتين أن يقال: إنها
تريد به نفي الرؤية في الدنيا كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شئون البشر في
الآخرة على شئونهم في الدنيا؛ لأن لذلك العالم سُننًا ونواميس تخالف سنن هذا العالم
ونواميسه حتى في الأمور المادية كالأكل والشرب والمأكول والمشروب. فماء الجنة
غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره في مَقره أو جوّه، وخمرها
ليس فيها غَوْل يغتال العقل ولا يُصَدَّعون عنها ولا يُنْزِفون، ولبنها لا يعتريه فساد
ولا تخالطه (ميكروبات) أمراض، وكذلك فاكهتها وثمراتها هي على كونها أعلى
وأشهى مما في الدنيا لا تفسد. قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة
إلا الأسماء.
وكذلك أمزجة أهلها، هي أصح وأسلم من أمزجة أهل الدنيا حتى إنهم يأكلون
ويشربون فيكون هضمهم بالتبخر ورشح العرق، ففي الحديث الصحيح أنه جشاء
ورشح، لها ريح المسك ولا عجب في ذلك، فإن علماء العصر الذين يظنون أن في
كوكب المريخ أحياء عقلاء كالبشر يجزمون بأنهم لا بد أن يكونوا أكبر منا أجسامًا
وأسرع من الخيل العادِيَة في حركتهم العاديّة، هذا وعالم المريخ لا يُعرف فيه من
الحياة الرُّوحانية العالية مثل ما ورد في حياة الجنة، ولكن ما ذكره علماء العصر
في شأنه يقرِّب تصوُّر ما ورد في صفة الآخرة من الأذهان المقيدة بالمألوفات، فإن
بعض الناس إنما ينكرون أخبار الآخرة؛ لأنها مخالفة لما جمدوا عليه من المألوفات،
ولو أنهم أخبروا بما اكتشف من أسرار الكون في هذا العصر كخواص الكهربا
والراديو قبل أن يصير مشهودًا مقطوعًا به لَمَا صدقوه.
قال الله - عز وجل- في بيان جزاء المؤمنين القائمين بأعمال الإيمان حق
القيام: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17) ووضح ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث قدسي رواه
الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال - صلى الله عليه وسلم - (قال الله عز
وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر) وروى أهل الكتاب مِثل هذا عن سيدنا عيسى - صلى الله عليه وسلم -
فإذا ثبت لنا أن كل ما في دار الكرامة أعلى وأسمى مما في الدنيا حتى الأجسام،
وصفات الناس وغرائزهم وأنه لا يشارك ما في الدنيا إلا بالاسم. الذي عبر به
لضرورة تقريب تلك المعاني الغيبية من الفهم، فهل يصح بعد ذلك أن نعمد إلى
أعلى ما هنالك من الشئون الإلهية المعنوية فنشبهه بشئون الدنيا فنجعل تجلي
الرب - سبحانه وتعالى - لأولئك العباد المكرَمين الذين رقاهم وكمَّلهم وأهَّلَهم
لكمال معرفته تحيُّزًا ومشابهة الخلق؟ ونجعل ما يحصل لهم من ذلك التجلي من
العلم الأكمل والمعرفة العُليا التي تستغرق أرواحهم، وجميع مشاعرها الظاهرة
والباطنة إدراكًا لكُنْهه -عز وجل - وإحاطة علم به - تعالى - عن ذلك؟ ثم نعذر
أنفسنا على هذا الجهل بأن ذلك قد سمي رؤية ومعاينة، ولا بد أن تكون الرؤية
هنالك كرؤيتنا التي نعهدها هنا؟
سبحان الله! أيكون كل ما هنالك من أعيان المخلوقات وصفاتها وأحوالها
مخالفًا لما له اسمه منها هنا إلا ما يتعلق بشأن الخالق - عز وجل - فهو الذي يجب
أن يكون مشابهًا لشئون المخلوقين بعضهم مع بعض؟ أهذا هو المذهب الذي يدعي
أصحابه اتِّباع المعقول، ويسخرون من أهل السنة بزعمه أنهم جمدوا على بعض
أحاديث الآحاد من المنقول؟ وهم الذين قد جمدوا على ما دون ذلك من الألفاظ
العربية التي استعملت في صفات الباري - تعالى - وشئونه وأخبار عالم الغيب
فتراهم يصرفونها عن معانيها، ويعطلون مدلولاتها المقصودة لتوهمهم أنها لا تكون
صحيحة إلا إذا كانت مدلولاتها في عالم الغيب كمدلولاتها في هذا العالم من كل وجه
ثم تحكموا فأثبتوا بعض صفات البارئ - تعالى - بدون تأويل، كالعلم والقدرة
والإرادة، وأوَّلوا أكثرها، كالكلام والرحمة والمحبة والغضب والرضا والعُلُوّ،
والوجه واليدين ... إلخ وهذا عين التشبيه، وهذا عين التعطيل - وأهل السنة
يُثبتون له - تعالى - كل ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ويُنزهونه فيه كله عن مشابهة خلقه، ولا يَرَوْن فارقًا بين العلم
والرحمة والكلام، فكلها من صفات الكمال الثابتة له مع التنزيه.
فعلمه ليس كعلم البشر منتزعًا من صور المعلومات بالحس أو الفكر، وكلامه
ليس كيفية عرَضِيَّة تحصل بتموج الهواء بتأثير الصوت الذي يخرج من الفم،
وكذلك سائر شئونه - تعالى -، فتجلِّيه لخواص خلقه في دار كرامته ليس كظهور
بعضهم لبعض، وإذا قد عرفنا بالمُشاهدة في عالم الحِسّ أن إيقاد مصباح الزيتون أو
زيت البترول لا يشبه إيقاد مصباح الكهرباء بوجه من الوجوه، ولا يشترط في
الثاني ما يُشترط في الأول - ونجزم بأن هذا الفرق لا يمكن أن يتصوره من لم
يعرف الكهرباء ألبتة - فيجب علينا أن لا نستغرب ما هو أبعد من هذا الفرق بين
عالم الغيب والشهادة في اختلاف الكيفية لحقيقة واحدة كالرؤية.
ومَن كان له حظّ من معرفة الله - تعالى - في الدنيا لا يحتاج إلى الأمثال،
وحسب المحروم منها أن ينتفع بالأمثال، {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا
إِلاَّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) خيل إليه بمعنى له أي: رأى خياله ومثاله وفي رواية لها عند أبي يعلى وابن عساكر (فأتاه جبريل فصوره له في جناحه) .
(2) أي في حديث ابن عباس الذي ذكره قبل ذلك، وهو عند أحمد والنسائي والبيهقي وفيه أنه جيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل.
(3) أي وكذا الفلاسفة الماديون وهو استعمال يعد بليغًا إذا كان لما رفع خصوصية في السياق ككون الماديين هنا مظنة لمخالفة الروحيين ويقابل هذا الاستعمال في نصب ما هو في مقام الرفع ما نصب على الاختصاص أو المدح والذم.(19/276)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(14)
التيوبر كيولين
Tuberculin
زيادة الياء والنون في هذا اللفظ اللاتيني هي - كما قلنا - للدلالة على المادة
أو الأصل الفعال في الدرن [Tubercle] أعني أنه اسم الخلاصة تستخرج من
باسيل الدرن نفسه أو مما يربى فيه. فهي نوعان، يسمى بالتيوبر كيولين العتيق
والآخر بالتيوبر كيولين الجديد. وأول من أدخل هذا الصنف من العلاج في الطب
هو العلامة كوخ سنة 1890 محاولاً بذلك إيجاد دواء شافٍ للدرن بكافة أنواعه،
ولكنه لم يتحقق غرضه إلى الآن.
أما التيوبر كيولين العتيق فهو عبارة عن السموم التي يفرزها ميكروب الدرن
في السائل الذي يربى فيه كالمرق مع الجليسرين، ويتحصل عليه بالتصفية خلال
المرشحات لفصل الميكروب عنه فهو في الحقيقة سموم الميكروب التي تخرج من
جسمه في السائل المذكور، ويكون لونه أصفر أدكن وقوامه غليظًا , وفائدة
الجليسرين حفظه من الفساد.
وإذا حقن هذا السائل في الشخص السليم لا يحدث منه شيء، ولكن إذا حقن
في إنسان أو حيوان مصاب بدرن في أي عضو من جسمه ارتفعت حرارته
وأصابته رِعدة وأحس بتوعك وآلام في مفاصله، وقد يُفْرَز زلال في بوله أو يظهر
طفح على جلده ويلتهب المكان المصاب بالدرن. ونظرًا لشدة هذه الأغراض لم
يستحسن الأطباء معالجة الدرن بهذه الطريقة، واقتصر بعضهم على استعمالها في
معالجة الدرن الجلدي المسمى لوبس (داء الذئب) لأن ما يصيب الجلد من الحقن
يمكن مراقبته وتلافيه. زد على ذلك أن تنبيه الجلد المريض بهذا الداء قد يكون
نافعًا فيه، ومع ذلك يأبى كثير من الأطباء استعماله حتى في هذا الداء، فاقتصرت
فائدة التيوبر كيولين على استعماله في تشخيص الدرن في الأنعام كالبقر فإن السليم
منها إذا حقن به لم يصبه بشيء، ولكن إذا حقنت البقرة المسلولة ارتفعت حرارتها
أي أصابتها الحمى. واستعماله لتشخيص الدرن في الإنسان لا مسوغ له مع أن
هناك طرقًا أخرى تفضله.
أما التيوبر كيولين الجديد فهو عبارة عن خلاصة تستخرج من نفس جسم
الميكروبات الدرنية، وبعبارة أخرى هو السم الكامن في أجسامها فهو غير السم
الذي تفرزه في السائل الذي تُربى فيه. وإذا حقن هذا التيوبر كيولين الجديد أيضًا
في السليم لا يحدث منه شيء، وإذا حقن في المريض حدثت أعراض كالأعراض
المذكورة آنفًا غير أنها لا تكون عادة مصحوبة بالانفعال الموضعي في مكان الدرن
فلا يتنبه ولا يلتهب. وهو قليل الاستعمال لتشخيص مرض الأنعام، ولكن بعض
الأطباء يستعملونه في معالجة الدرن الإنساني، وإن خالفهم الآخرون في نفعه، بل
منهم من يرى أن ضرره أكبر من نفعه.
وإذا حقن تحت الجلد حدث منه خراج، ولذلك اضطر بعض المصانع إلى
إزالة بعض المواد التي تشبه الدهن منه، وهي التي يظنون أنها السبب في التقيح
وفي عسر امتصاصه.
وهناك عدة طرائق لاستعمال التيوبر كيولين العتيق للتشخيص أشهرها أربع
وهي:
(1) الحقن تحت الجلد.
(2) وضعه على الملتحمة عند المُوق، ويبقى الجفنان مفتوحين بضع
دقائق، فإذا كان في جسم الشخص أي درن احمرت ملتحمة الجفن الأسفل، وكذلك
اللحيمة الدمعية التي في الموق بعد ثلاث ساعات، ويزداد الاحتقان بعد ست ساعات
وتَرِم اللحيمة ويكثر الدمع، وتغطى العين ببعض الإفراز (الرمص) ويصل
هذا الالتهاب إلى أقصاه بين 6 ساعات و13 ساعة، ثم يأخذ في الزوال بعد يومين
أو أكثر، وهذه الطريقة ليست خالية من الخطر على العين. ومحلول التيوبر
كيولين الذي يستعمل فيها يكون بنسبة 5. 0 في المائة من الماء المقطر
العقيم.
(3) بطريق الجلد، وذلك بتلقيح الجلد كما يلقح لأجل الوقاية من
الجدري فيحصل التفاعل باحمرار الجلد وتورمه في 24 ساعة ويشتد بعد يومين،
وفي اليوم الثالث يبدأ في الزوال، ويتم ذلك في اليوم الرابع. وهذه الطريقة تُستعمل
كثيرًا في الأطفال الذين يقل عمرهم عن خمس سنوات.
(4) يعمل مرهم من التيوبر كيولين مع [اللانولين Lanoline] [1]
(دهن يستخرج من صوف الغنم) بنسبة (1 إلى 1) ويدهن به جزء من الجلد
فيلتهب بعد يوم أو اثنين، وقد يظهر فيه دمل أو بثرة. واعلم أنه قد يتأثر
الحيوان من التيوبر كيولين ويكون سليمًا إذا سبقت أصابته بالدرن وشُفي منه. وإذا
حقن تحت الجلد بمقدار كبير (0.01 السنتيمتر المكعب) ولم يحصل انفعال
دل على السلامة من المرض مطلقًا أو على الأقل من المرض الفعال في البنية فلا
ينافي ذلك وجود مرض سابق شُفي منه المَحقون.
***
الجمرة الخبيثة
Anthrax
يعرف هذا المرض في الحيوانات باسم (الحمى الطحالية) وهو يصيب
الإنسان أيضًا. وينشأ من ميكروب باسيلي يوجد في العضو المصاب وفي الدم
والأحشاء والإفرازات، ولا حركة له، وطوله يختلف من 5 مك [2] إلى 20 مك
وقد يكون مستقيمًا أو منحنيًا قليلاً، ويتكاثر بالانقسام ويتكون في داخله أيضًا
حُبيبات، وهذه إذا انفصلت منه استطالت ونشأ منها الباسيل، ولكن التكاثر بهذه
الطريقة الحُبيبية لا يحصل إلا في خارج أجسام الحيوانات. وهذه الحُبيبات تقاوم
درجات كبيرة جدًّا من الحرارة فلا يسهل قتلها ولو بالغلي إلا بعد بضع دقائق.
يصيب هذا الداء الحيوانات إذا لُقحت بالميكروب بالعض أو بلدغ الحشرات،
وقد تصاب أيضًا به إذا أكلت من مرعى تلوث ببراز الحيوانات المريضة.
أما إصابة الإنسان به فتكون إما من الحيوانات الحية، ولذلك تصاب به
الرعاة كثيرًا وإما من جثث الموتى بهذا الداء - وهو الأكثر - كما يحصل للقصَّابين
(الجزارين) والدباغين بتلقيح أجسامهم بالميكروب إذا مست شيئًا من جثة الحيوان.
وقد تحصل العدوى من أكل اللحوم المصابة أو من مس الصوف والشعر
المأخوذين من الحيوانات المريضة، وقد يصل أيضًا هذا الداء بطريق التنفس بأن
يستنشق ميكروبه مع التراب والغبار الذي يتطاير من البضائع الصوفية ونحوها إذا
لم يطهر الصوف قبل صناعته.
ومن النادر أن ينتقل هذا المرض من إنسان إلى آخر بمجرد اللمس، وقد
شوهد المرض بين تجار الخِرق البالية التي تستعمل في صناعة الورق.
والحيوانات التي تصاب به هي الإنسان والغنم والمعز والأرانب وخنازير
الهند والفئران، وكذلك الخيل والخنازير، أما الكلاب والقطط فلا تصاب به.
***
الأعراض
لهذا المرض ثلاثة أشكال (1) الشكل الموضعي (2) الشكل الداخلي
الرئوي (3) الشكل الداخلي المَعِدي المَعَوي. وفي كلا الشكلين الأخيرين قد
يصاب ظاهر الجسم أيضًا، وإنما نشأت هذه الأشكال المختلفة بحسب مدخل
الميكروب، فإنه قد يدخل من الجلد أو من الرئة في الهواء المستنشق أو من الجهاز
الهضمي مع الطعام أو الشراب.
أما الشكل الأول فيشاهد كثيرًا في الوجه أو العنق أو الأيدي بعد جرح أو
سحج (خدش) فبعد زمن التفريخ الذي يتراوح بين بضعة أيام وبضع ساعات
يحدث أكَلان ولهيب في المكان الملقَّح، ويظهر دمل صغير يمتلئ بسائل رقيق، ثم
ينفجر وتموت قاعدة هذه الدمل فتكون سوداء اللون ويتلهب ما حولها من الجلد
فيحمرّ ويرم ويتصلب ويمتد تورمه إلى [بوصة] ونصف أو بوصتين أو أكثر،
ويتكون حول البقعة السوداء فقاعات صغيرة تستمل على مصل، وتتضخم الغدد
اللمفاوية القريبة وتلتهب. وقد يستمر الشخص في عمله ثلاثة أيام أو خمسة ثم
يشعر بالحمَّى مع الضعف والانحلال. وقد يعتريه الهذَيان أو العرق الغزير أو
الإسهال وينتهي أمره بالموت الذي يسبقه همود شديد.
أما الشكل الداخلي فتختلف أعراضه باختلاف الجهاز المصاب، ويتقدمه
اضطراب وضيق تنفس واضمحلال وآلام في الأطراف، ثم ترتفع الحرارة فجأة مع
أعراضها المعروفة. فإن كانت الرئتان مصابتين إصابة ضيق شديد في التنفس مع
إحساس بالاختناق، ويزرقّ جسمه، وتخور قواه، ولكن يكون السُّعال خفيفًا، وإذا
بصق فقد يكون البصاق ملوثًا بالدم، ثم يعتريه الهذّيان والغيبوبة فيموت.
وفي بعض الحالات قد يبقى إدراك المريض إلى النهاية. وإذا كان الجهاز
الهضمي هو المصاب حدث قيء وألم بالبطن وإسهال وخرج بالبراز دم وقد يحصل
عسر في الازدراد أو نزف من الحلقوم والفم، وتكون الحمى غير عالية،
ويزرق جسم المريض أيضًا ويضيق نفسه ويصاب بالضجر وقد يتخبط
كالمصروع قبيل الوفاة.
الإنذار: هو سيئ جدًّا خصوصًا في الأشكال الباطنية.
المعالجة: تعالج الجمرة الظاهرية باستئصالها كلها وكيّ موضعها إما بالنار
وإما بالأدوية الكاوية مثل كلوريد الزنك (الخارصين) أو بالفنيك النقي فتتحسن
حالة المريض، وقد يشفى سريعًا.
أما الشكل الداخلي فعلاجه قليل الجدوى. ويعالج بالكينين والمنعشات
والسوائل المغذية.
الوقاية:
تكون بالابتعاد عن المصاب وحرق أو تطهير مفرزاته وكل ما لامسه
وخصوصًا صوف الأغنام وملابس المرضى، وبقتل الحيوانات المصابة بأيسر
الطرق، ثم إحراق جثثها أو دفنها في مكان عميق مع وضع الجير حولها.
ومما تجب العناية به أن لا يؤذَن للعمال في مصانع الصوف أو الجلود بمس
شيء منهما إلا بعد تطهيره بالطرق الطبية كأن يطهر الصوف مثلاً في أفران البخار،
وتُطهَّر الجلود بوضعها في بعض المحاليل المطهرة التي لا تضر بها , واعلم أن
كلامنا هذا في مس الجلود قبل دبغها، فإن الدبغ وحده كافٍ لتطهيرها , ويجب
على الممرض ومن شاكله تطهير يديه جيدًا قبل الطعام والشراب وتغيير الملابس
قبل ذهابه إلى منزله أو مخالطته الأصحَّاء.
***
السقاوة والسراجة
Glanders
مرض عُرف قديمًا حتى وصفه أطباء اليونان والرومان في كتبهم، وهو
يصيب الخيل والبِغال والحَمير وبعض الحيوانات الأخرى الداجنة ومنها ينتقل إلى
الإنسان أيضًا وسببه ميكروب مستقيم الشكل اكتُشف سنة 1882م يعيش هذا
الميكروب في الهواء وفي غيره، وطوله يختلف من ميكرونين إلى خمسة.
وهذا الداء قلما يصيب الإنسان، وأكثر من يصاب به خَدَمة الخيل أو
الاصطبلات. وكيفية العدوى به أن يلقّح جزء من جلد الإنسان بميكروب هذا الداء
في أثناء تنظيف الخيل المصابة أو كشط جلود الموتى منها، وقد يصاب الشخص
بسبب عض حيوان له وتلقيحه بلعابه، أو يصاب بسبب عُطاس الحيوان في وجهه
فيدخل جزء من مخاط أنفه في عين الإنسان أو أنفه أو فمه. وقيل: إنه ينتقل أيضًا
بأكل اللحوم النيئة من الحيوانات المصابة. ومن الجائز أن ينتقل هذا الداء من
شخص إلى آخر.
الأعراض: لهذا الداء شكلان:
(الشكل الأول) الحاد هو المسمى بالعربية السقاوة. يبتدئ ظهور أعراضه
بتوعك وصداع وغَثَيان وآلام في الأطراف حتى قد يظن أن الداء هو الرثية
[الروماتزم] أو الحمى التيفودية، وقد يوجد ألم بالجنب وضيق في التنفس. وإذا
كان الميكروب دخل من الجلد التهب مدخله وورم وصار مؤلمًا حتى يشبه الجلد
مرض الجمرة ثم يتقرح وتضخم الغدد اللمفاوية القريبة، وبعد أسبوع أو أكثر يظهر
طفح من دمامل صغيرة حمراء تعلوها فقاعات، وهذه تكبر حتى تصير نفاخات
كبيرة أو بُثور مختلفة الحجم يسيل منها دم ومدة وصديد، وتلتهب قاعدة هذه البثور
وما حولها، ثم تسقط قشورها فيتكون منها قروح، وقد تتكون عقد تحت الجِلد
تستحيل إلى خراجات غالبًا. وكثيرًا ما تظهر هذه العقد أيضًا في العضلات.
وقد يصيب الداء أيضًا الأغشية المخاطية، وتكون أعراضه سيلان مخاط
رقيق في أول الأمر، ثم يغلظ وتصحبه المدة أو الدم وتكون رائحته منتنة، ويكون
في الأغشية أيضًا عقد تتقرح حتى تثقب بعض الأجزاء أو تأكل بعض العظام
الرقيقة كما يحصل في داخل الأنف. وقد تصاب أيضًا الملتحمة أو الحنجرة أو
أغشية الشُّعب وغير ذلك. وتكون حرارة المريض عالية جدًّا مصحوبة بأعراض
الحُمَّى المعتادة، ولكن ارتفاعها قد يتذبذب، ويُفرز زلال في البول ويُصاب
المريض بالهَذَيان والارتعاش فالغيبوبة فالموت. ومدة الداء من أسبوعين إلى
ثلاثة.
ويكثر وجود باسيل المرض في العقد المذكورة وفي القروح وما يسيل منها،
فأعظم الخطر منها في العدوى.
(أما الشكل الثاني) فهو المزمن ويسمى بالسراجة، وتكون أعراضه قاصرةً
على الإصابات الموضعية على الأكثر، كأن تظهر قروح أو خراجات حول
المفاصل أو تلتهب مواضع مختلفة تحت الجلد أو في العضلات، وإذا حدثت بثور
كان تكوُّنها بطيئًا. وقد تصاب أغشية الأنف المخاطية. وفي بعض الحالات ينحف
المريض ويُبَحّ صوته ويصيبه السعال أو النزف الرئوي. ومدة هذا الشكل المزمن
قد تكون أربعة أشهر.
الإنذار: غير حميد. وفي الأحوال الحادة لا ينجو إلا القليل، ويُشفى نحو
نصف الحالات المزمنة.
المعالجة: لا يوجد لهذا الداء دواء مقطوع بنجاحه، وإنما تعالج الأعراض
كالمعتاد.
***
الرثية السيلانية
أو الروماتزم السيلاني
سبق الكلام على مرض السيلان في الجزء الأول، وإنما نريد أن نصف هنا
ميكروبه وأعراض إصابته للمفاصل.
أما ميكروبه فهو من الشكل البرزي ويسمى بالإفرنجية [Gonococcus]
ومعناها حرفيًّا في اليونانية [بزور المني] فهي من الأسماء التي أخطئوا في أصل
وضعها. يوجد هذا الميكروب كثيرًا في إفراز الإحليل إذا كان الشخص مصابًا
بالسيلان، ويشاهد على الأكثر داخل الكريات الصديدية البيضاء، وهو من
الميكروبات التي يتعسر زرعها في الخارج، ويعيش بوجود الهواء أو بغيره، وفي
البيئة القلوية قليلاً أو الحمضية، ولكنه لا يعيش خارج الإنسان إلا ببعض الوسائل
الصناعية العلمية الدقيقة. ولا يصيب هذا الداء غير الإنسان. ويشاهد ميكروبه في
إفراز الإحليل والفرج وتقل مشاهدته في إفراز الرحم، ويندر أو لا يشاهد مطلقًا
وجوده في إفراز المهبل. أما في الذَكَر فيوجد أولاً في إحليله، وقد يمتد منه إلى
الخصيتين أو المثانة أو الغدد الأربية (فينشأ منه الخيرجل) وفي بعض الحالات قد
يصل الميكروب في الذكر والأنثى إلى الأعضاء الباطنية كالمِبيض أو البليورا أو
البريتون أو الغشاء المبطّن للقلب أو الأغشية الزلالية المبطنة للمفاصل، وغير ذلك
كثير.
وإصابة المفاصل هي المقصودة بالكلام هنا.
تبدأ هذه الإصابة بعد 14 يومًا أو 3 أو 4 أسابيع من مبدأ ظهور سيلان
الإحليل حينما يكون هذا السيلان قيْحًا أو حينما يكون صديدًا (رقيقًا) وهو الأكثر
أي في زمن [النقطة العسكرية] [3] .
الأعراض: في الحالات الحادة تصاب عدة مفاصل في أول الأمر بالألم
والورم، وبعد قليل يقتصر المرض على مفصل واحد وهو المرفق في الغالب، وقد
يكون الرُّكبة أو الرّسغ أو غير ذلك. ويمتد احمرار المفصل إلى مسافة بعيدة،
وتَرِم المنسوجات في تلك المسافة كلها حتى قد يُظن أن بها خراجًا. ويتألم المريض
ألمًا شديدًا عند أقل حركة، ولكن تكون الحمى غير شديدة. ويزول الالتهاب
بالتدريج البطيء جدًّا ويترك وراءه يبسًا في المفصل. وقلّ أن يتقيح. ومن النادر
أن تصاب أغشية القلب. وهذا الداء يصيب الذكور والإناث على حد سواء.
وهناك إصابات بهذا المرض أخف مما ذُكِر فيكون احمرار المفاصل فيها أقل
وكذلك ورمها، ولكن تصاب عدة مفاصل في وقت واحد خصوصًا الركبتين
والمرفقين والرسغين، وكثيرًا ما يكون هناك ألم في الصفاقات وفي الأغشية المغلفة
لأوتار العضلات، وتغلب إصابة صفاق أخمص القدم. وقد تصاب أيضًا الملتحمة
بالالتهاب، وكذلك الصلبة وغيرهما. وفي تلك الحالات الخفيفة يكون زوال الالتهاب
أيضًا تدريجيًّا، وقد تطول مُدته إلى ثلاثة أسابيع أو أكثر ويخلفه كذلك يبس في
المفاصل.
وسبب تلك الالتهابات كلها هو وجود ميكروب السيلان في الأعضاء الملتهبة
وقد تصاحبه أيضًا ميكروبات الصديد وذلك إذا وُجدت المِدَّةُ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كلمة لاتينية معناها حرفيًّا (دهن الصوف) .
(2) مك مختصر كلمة ميكرون.
(3) اصطلاح يراد به السيلان المزمن كما يحصل لكثير من الجنود وهو عسير الشفاء جدًّا يكاد يكون متعذرًا.(19/289)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
حال المسلمين الاجتماعية
ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [*]
وفيه بيان حال مشتركي المنار ومساعديه
ورأي الأستاذ الإمام والشيخ علي يوسف فيه
(2)
قد فصَّلنا القول في المقالة الأولى في الغرض الأول الذي رمى إليه (م. ن)
في رسالته وهو إعانة جماعة الدعوة والإرشاد. وأما الغرض الثاني مما رمى إليه
وهو مساعدة المنار، فقد علم رأينا فيه مما علقناه على رسالته، وهو أننا لا نقبل
تبرعه للمجلة ولا تبرع غيره لأنفسنا، فمساعدة المنار تنحصر في أمرين أدناهما أن
يؤدي كل مشترك ما عليه من قيمة الاشتراك في كل سنة، وأعلاهما الدعوة إلى
الاشتراك فيه واقتناء مجلداته وأداء حقه الذي هو عبارة عن قيمة الاشتراك.
وقد وُجد أفراد قاموا بما تيسر لهم من أعلى المساعدة كالنابغة الشهير السيد
محمد بن يحيى بن عقيل في سنغافورة، وشهيد العربية السيد الزهراوي الشهير
وصديقه الشيخ أحمد نبهان من علماء حمص وفضلائها في بلاد سورية، والكاتب
اللوذعي الهادي السبعي في تونس، والفاضل الغيور محمد أفندي عمر في القطر
المصري. وإنما ذكرت الهادي السبعي وقد كان وكيلاً للمنار بالعمولة؛ لأنه من
الأفراد الذين يقل نظيرهم في علو الهمة وقوة التأثير، وإننا لم نأسف لاضطرارنا
إلى ترك معاملة أحد أسفنا لاضطرارنا إلى ترك معاملته لتأخيره المحاسبة والمكاتبة
عن أوقاتها زمنًا طويلاً، على أننا لم نهتد بعده سبيلاً إلى تحصيل حقوق المنار من
أكثر التونسيين، على ما تفضل به من التبرع بتحصيلها الوجيه الأمثل عبد الجليل
الزاووش.
وأما أدنى المساعدة وهي أداء حق المنار فمن المشتركين السابقون بالوفاء وهم
الذين يؤدون الاشتراك في كل عام وأفضلهم الذين يؤدونه في أوائل السنين وإن لم
يُطَالَبُوا أو يُذَكَّرُوا، ويليهم الذين إذا ذُكِّرُوا أو طُولِبُوا أدَّوْا، وإن تُرِكُوا نَسَوْا أو
تَنَاسَوْا، ومنهم الذين يلوون ويمطلون، ومنهم من لا يخرج الحق من يده - إلى
أمثالنا في حسن التقاضي - إلا نكدًا، وقد يكون أبسط الناس لمن يخاف أذاه أو
هجوه يدًا، وقد بينا من قبل أحسن أقطار المسلمين وأصنافهم وفاء وأشدها مطلاً.
وإننا نقاسي من مطل الناس أو هضمهم للحق ما هو أوضح برهان على
انحطاط أمتنا، وضعف تأثير العلم الديني والدنيوي في نفوس أفرادها، فلا ينبغي
أن يغتر أحد بشهرة أحد في علم ولا فلسفة، ولا بظهوره في مظهر صلاح ولا
عدالة، بل يجب أن يزن الجميع بميزان النقد، فالناس- كما قال الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم- معادن كمعادن الذهب والفضة، أي والنحاس والحديد والزنك
وغير ذلك، فالمظاهر العلمية أو العملية كالصقال قد يجعل النحاس أو الحديد
المصقولين أبهج من الذهب أو الفضة غير المصقولين، ولكنهما إذا تُرِكَا زمنًا طويلاً
بغير صقل علاهما الصدأ، وأفسدهما الطبعُ، ولا يضر الحجرين الكريمين ترك
صقلهما، فإن صُقِلاَ كان مزيد كمال في جمالهما وبهائهما. وأنشد الغزالي في
الإحياء أبياتًا في اختبار مُدَّعِي الزهد والتصوف بالمال:
لا يغرنك من المر ... ء قميص رقعه
أو إزار فوق عظم ... الساق منه رفعه
أَرِهِ الدرهم تعرف ... حبه أو ورعه
فإن شئت مثلاً من عِبَر المنار، وما اتفق لنا من مبكيات الاختبار، فأعظم
الأمثال التي يجب أن تُضْرَب في هذا المجال رجل من الأغنياء العلماء الشرفاء،
يشرح الكتب الشهيرة، ويتحلى بالحجارة الكريمة، ويركب المركبات الفاخرة،
تجرها الخيول المطهمة، ثم هو يلوي ويُسَوِّف في اشتراك المنار عدة سنين ثم يقول
لوكيل التحصيل بعد المطل الطويل: إنه لا يدفع قيمة الاشتراك؛ لأنه عالم من
علماء الدين! فيا لله العجب هل يوجد خزي أخزى من وصف العلم أو الدين بأنه
يقتضي هضم حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، أليس الجهل أفضل من مثل هذا
العلم؟ بلى وأستغفر الله من الزيادة على ما قلت.
هذا، وإن صنف العلماء المعممين قلما يشترك أحد منهم في جريدة أو مجلة أو
جمعية خيرية، ويقل فيمن يشترك في صحيفة لغرض ما أن لا يسعى في السماح له
بنصف قيمة الاشتراك أو ما دون النصف، كأنهم يرون أن الصحف يجب أن تُهْدَى
إليهم، وإن لم يفيدوا أصحابها بعلمهم ولا بجهلهم، إن كان لهم علم ينفع، أو جاه
يشفع، ولكن يقل فيهم أيضًا من يأكل حقًّا ثابتًا عليه لأحد.
ومن أغرب ما وقع لنا معهم أن واحدًا منهم كان قد أعجبنا حياؤه وتدينه،
فساعدناه في مصلحة من مصالحه مساعدة ذات شأن عنده، فعرض علينا جزاءها أو
مكافأة عليها عدة جنيهات، فقلنا: إننا لا نأخذ أجرًا على المساعدة فاشترى بها
مجلدات من المنار، ثم إنه تأخر عليه اشتراك عدة سنوات فلما طُولِبَ بها في هذا
العام قال: إنه كان دفع الاشتراك عنها سلفًا في تاريخ كذا، فقيل له: إن ما دفعته
يومئذ إنما كان ثمن المجلدات السابقة فقال- ويالله العجب مما قال- بل كانت تلك
المجلدات هدية من صاحب المنار! ! فإن كان قد قال هذا القول معتقدًا صحته فهل
تفكر في السبب الذي حمل صاحب المنار على مساعدته مساعدة تستحق المكافأة
وعلى ترك أخذ ما عرضه عليه منها ثم على إهدائه عدة مجلدات من المنار؟ ولعله
يتفكر فيعلم أن لا سبب يقتضي ذلك ثم ينصف من نفسه.! ! على أننا مع العلم
بهذا الشذوذ من هذا العالم الحيي، وذلك المؤلف الغني، نقول: إن علماء الدين
أمثل من علماء الدنيا وفاء، وأسهل قضاء.
ذكرت في بعض مجلدات المنار السابقة أن علماء الحقوق من القضاة
والمحامين أحسن وفاء من غيرهم. وأن أقل المتعلمين وفاء كتبة الدواوين، وكم من
كاتب صغير خير من قاض أو محام كبير، وإنما الناس معادن، يتفاضلون
بالأخلاق لا بالعلم ولا بالمناصب، أضرب لذلك مثلاً قاضيًا اشتهر بدقة الفهم،
واستقلال الرأي، وحسن الذوق، وانتظام الفكر، وفصاحة القول، وسلاسة الإنشاء،
والجمع فيه بين إقناع الفلسفة وتأثير الخيال، حتى صار يعده المدنيون من رجال
الإصلاح، وكان مع هذا كله يمنع ما عليه من حقوق الأفراد والجمعيات عامدًا
متعمدًا: طلب الاشتراك في المنار بلسانه، ومات وعليه اشتراك عدة سنين أعيا
وكيل المنار تحصيلها منه، وكان مشتركًا في الجمعية الخيرية ومن كبار أعضائها
فأمر الأستاذ الإمام رئيس الجمعية بمحو اسمه من دفاترها بعد امتناعه من دفع قيمة
الاشتراك عدة سنين.
وإن لنا الآن عند بعض القضاة والمحامين اشتراك عدة سنين يئس جابي
المنار منهم، وطلب من الإدارة قطع المنار عنهم، وقد ساءني ذلك؛ لأن منهم مَن
أُجِلُّ نبوغَه ومروءتَه، وألتمس له عذرًا فيما شكا الجابي منه، ويعز عليَّ أن يحشر
في زمرة الماطلين، أو يُدَوَّنَ في سجل الهاضمين.
وأما الماطلون من الأغنياء الذين لم يصقلهم العلم الديني ولا الدنيوي فهم
كثيرون ومطلهم خشن مُشَوَّه. مثاله قول غني من الفيوم اشترك بضع عشرة سنة
لجابي المنار في القاهرة: إنني ابتليت بمصائب تمنعني من المطالعة منها موت
امرأتي، ومجموعات سني المنار محفوظة عندي في الفيوم فأعطني أجرة البريد
لأحضرها لك! !
ولا يسعني السكوت في هذا المقام عن كلمة ثناء على فضل من أنبتت أرض
مصر في هذا العصر، بل على من يندر وجود مثلهم في أي مصر وأي عصر،
وهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والوزير الكبير مصطفى رياض باشا والنابغة
الهمام حسن باشا عاصم، فأما الوزير فقد بينت في فاتحة المجلد الخامس عشر أنه
كان أول من أراد التبرع للمنار فاشترك بعشر نسخ تُوَزَّع على الفقراء ثم جعلها
خمس عشرة نسخة، وقد أقرها بعده ولده محمود باشا سنة ثم قطعها، وفضل
رياض باشا على الأهرام والمؤيد والمقتطف والمقطم مما يعرفه جمهور الأدباء،
وأما حسن باشا عاصم فقد كان على وقف حياته على خدمة الأمة أحسن الناس وفاء
حتى إنه كان يتحرى أن يكون أول من يدفع الاشتراك للجمعية الخيرية في كل عام
على أنه أكثر أعضائها خدمة لها، وكان يدفع اشتراك جميع الجرائد في أول كل
عام أيضًا وكان يجيء في إدارة المنار في بعض السنين حاملاً الدراهم بيده.
وأما الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فقد كان أحرص الناس على مساعدة المنار
بكل ما تصل إليه طاقته، وكان كثير من الناس يظن في مساعدته له الظنون البعيدة
حتى إن منهم من كان يظن أنه هو الذي يكتب ويحرر أكثر ما ينشر فيه، وقد علمنا
هذا مما كاشفنا به بعض القراء حين كتبنا في المجلد الرابع أن كل ما ينشر في
المنار غير معزو إلى أحد فهو لمنشئه، ومن الناس من لم يرجع عن هذا الظن إلا
بعد وفاة الأستاذ.
بعد كتابة ما تقدم نظرت في مذكراتي التي كتبتها قبل إنشاء المنار فإذا فيها
أنني جئته على موعد في مساء اليوم السادس من شعبان سنة 1315 فعلمت منه أن
سليم أفندي الأنسي أخبره بأن بعض الناس جاءوا من طرابلس الشام لإنشاء جريدة.
وأنه أجابه بقوله: هل علموا أن الجرائد هنا قليلة؟ وكتبت يومئذ في ذلك ما يأتي:
(فعند ذلك كاشفته بعزمي وأخبرته أنه جاءني خبر من طرابلس بأن والي
بيروت بلغه أني جئت مصر لأنشئ جريدة أطعن فيها بوكلاء (وزراء) الدولة.
وقلت له: المقصد أعلى من الكلام في الشخصيات وإن وكلاء الدولة مُدِحُوا كثيرًا
وذُمُّوا كثيرًا فماذا كان من نتيجة المدح والذم؟
(فشرح لي الأستاذ حالة الجرائد في مصر (كما فهمته واختبرته) وقال:
إن المصريين أقامتهم الظروف في حالة جعلت أفكارهم موجهة إلى شيء واحد من
الجرائد وهو أخبار الحكومة المحلية، وماذا يقال عن الخديوي، وعن الإنكليز ولا
يلتفتون إلى ما وراء هذا. وهذا الأمر قد قامت به ثلاث جرائد المقطم والمؤيد
والأهرام ... [1] وإذا كتبت في المواضيع الأدبية كالتربية والتعليم أو آداب اللغة لا
يلتفت إلى كلامك الناس، فإني لا أعرف أحدًا في مصر من طلبة الأزهر أو
المدارس مشتغلاً باللغة وآدابها إلا أن يكون في الزوايا مَن لم يعرف. نعم إن هذا
الأمر مهم ومفيد لكنه لا يأتي منه ما يكفي لنفقاته ولا ينبغي التعب وإنفاق المال هكذا.
(وفيها أنني ذكرت له هنا ما ذكره لي صاحب الهلال من كثرة مشتركيه
وأنه ارتاب في ذلك، وقال: إن المشتركين الذين يدفعون الدراهم قليلون وما كل
من يكتب اسمه في دفاتر أصحاب الصحف كذلك. ثم كتبت ما نصه) :
(ثم انتقلنا إلى موضوع الأمة ومرضها وأن أنفع الوسائل في معالجتها
التربية والتعليم ونشر الأفكار الصحيحة، فقلت: هذا ما حدا بي لإنشاء الجريدة،
وإني أسمح أن أنفق عليها سنة وسنتين من غير أن أكسب شيئًا ... فقال: إن كان
هذا فهو حسن، وهذا أشرف الأعمال وأفضلها، وأنا إذا كنت على ثقة من مشرب
الجريدة فإني أساعدها بكل جهدي) اهـ.
ولما كتبت فاتحة العدد الأول أعجبه ما بينته فيها من خطة المنار ومقاصده ولم
ينتقد منها إلا كلمة واحدة في حقوق (الأمة على الإمام) قال: إن المسلمين ليس
لهم الآن إمام إنما إمامهم القرآن. فتركت تلك الكلمة لأجله. ولم أطلعه على شيء
قبل طبعه مما لا يتعلق بشخصه والحكاية عنه إلا بتلك الفاتحة. ثم كانت تزداد ثقته
بالمنار وصاحبه (ولا محل لشرح ذلك هنا) ولكنه لعزة نفسه ومحافظته على قيمة
كلامه كان يكتفي من الترغيب في المنار غالبًا بمدحه، والشهادة بفائدته ونفعه،
دون التصريح بالدعوة إلى الاشتراك فيه، وقلما كان ذلك يجدي؛ لبُعْدِ الناس
الموسرين عن الاهتمام بأمر الإصلاح الديني والاجتماعي، قد اشترك في المنار
عقب ظهوره الأفراد من أصدقائه ومريديه بترغيبه، واشترك المئات من غيرهم
بغير ترغيب من أحد ولم يكن في ذلك غناء، وما زاد دخل المنار على نفقته إلا في
السنة الخامسة، وقد كان لمقالاته (الإسلام والنصرانية) تأثير في ذلك. ولم أعلم
أن عشرات من المشتركين طلبوا الاشتراك بتأثير ثنائه عليه إلا في تلك السنة وكان
هؤلاء المشتركون من مديرية الدقهلية وما جاورها، سمعوا منه ذلك الترغيب في
بلادهم أيام كان فيها يوزع الإعانات على الذين نكبوا بالحريق، ولا أتذكر أني
طلبت منه المساعدة تصريحًا ولا تلميحًا إلا في أوائل تلك الأيام، فإنني كتبت إليه
كتابًا أشرت فيه إلى الشكوى من قلة الإقبال على المنار- وكان في المنصورة-
فكتب إليَّ كتابًا قال فيه هذه الكلمة التي كانت أحب إليَّ من كل ما تجدَّد من طلب
الاشتراك؛ لأنها بينت رأيه في المنار كتابة وهي:
(الناس في عماية عن النافع وفي انكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم
يسرعوا بالاشتراك في المنار، فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى الحاضر،
بما هو أصلح للآجل وأعون على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال الميل في
الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاًَ، ولكن ذلك لا يضعف الأمل،
في نجاح العمل) .
وأذكر أيضًا أن وجيهًا من أسرة كبيرة غنية في بعض المديريات كان يُعَدُّ من
حزب الأستاذ طلب مني بحضرته إرسال المنار إلى بضعة عشر مشتركًا من أقاربه
وأصحابه على أنه هو الكافل لهم، والملتزم لتحصيل قيمة الاشتراك منهم، فأرسلناه
إليهم، وبقي عدة سنين لا يدفع عن نفسه ولا عن أحد منهم شيئًا حتى في حياة
الأستاذ، ثم بعد المطالبة وصل إلينا منه ومن غيره اشتراك بعض السنين من
بعضهم، ويئسنا من الآخرين فمحونا أسماءهم.
وأما أصحاب النفوذ والوجاهة من أصدقائه- الذين كانوا أقدر منه على نشر
المنار لو أرادوا؛ لتصريحهم بما لا يصرح هو بمثله- فلم أعلم لأحد منهم مساعدة
تُذْكَر إلا من مصطفى بك الباجوري رحمه الله تعالى طلب المنار لجماعة في طنطا
أكثرهم من أصدقائه المحامين. على أن كثيرًا من جماعة الأستاذ ما كانوا يدفعون
قيمة الاشتراك ولا كنا نحن نطالبهم بها لأجله، وهو لم يأمر بإرساله إلى أحد بغير
ثمن إلا إلى اثنين من أصدقائه (أحدهما شيخ صوفي صالح مشهور في الوجه القبلي
(وثانيهما) قاض شرعي من إخوانه مريدي السيد جمال الدين في الوجه البحري،
(رحمهم الله أجمعين) .
وجملة القول أن الأستاذ قدس الله روحه صرَّح لي بما حقيقته أنه لم يعمل
للمنار ما يحب عمله له، بل قال لي مرة أو أكثر من مرة: إنني لم أعمل شيئًا.
أي ما يعده هو شيئًا يُذْكَر. ولا سيما بعد ما رأى من مقاومة أعدائه له، وعدم قيام
أصدقائه بما كان يحب من مساعدته، على ما رأوا من شدة ميله ورغبته، وقد كان
هو يقوم بموافاة رغائبهم وقضاء حوائجهم بمجرد الشعور بها، ولا ينتظر منهم
إلحاحًا ولا تصريحًا بطلبها، وكان يجب أن يكون كل فرد منهم أولى بذلك بِمَنِّه؛ لا
لأنه له الفضل عليهم، والمقام الأعلى فيهم، بل لأنه أشدهم حياء وأرقهم شعورًا.
فلا ينبغي لمن عرف طباعه وأخلاقه العالية أن يكلفه ما لا يليق بها، كالتصريح
بطلب الشيء بلسان المقال، مع العلم به من دلالة الحال، على أنه هو لم يكن
يكلف صديقه مثل ذلك، وإن كان ذلك الصديق لا يستحي منه، ولا يثقل مثله على
طباعه وأخلاقه.
من أجل هذا كانت مقاومة أعداء الأستاذ للمنار أعظم من مساعدته له، وإنما
كانوا يقاومونه لتنويهه به، وإذاعته لعلمه وفضله، وإنني أذكر في هذا المقام كلامًا
للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد عفا الله عنه فيه عبرة لصاحب الرسالة التي
أوجبت كتابتنا لهذا المقال، ولغيره ممن يعتبرون بوقائع الأحوال.
قال لي الشيخ علي يوسف مرة: إنك أنت رجل غير عادي فلقد أوتيت من
العلم والبصيرة ومعرفة حكم الدين وأسراره وما يحتاج إليه المسلمون من الإصلاح
في هذا العصر ومن حسن البيان ما جعل مجلتك من الحاجات الضرورية التي لا
غنى للمسلمين عنها إذا أرادوا أن يرتقوا في هذه الدنيا مع المحافظة على دينهم،
وكان يجب أن يوجد المنار في كل بيت من بيوت المسلمين، ومصر مستعدة لرواج
هذه الأفكار فيها، وأنت ههنا غريب ليس لك أعداء ولا حُسَّاد؛ إذ لا يعدك أحد فيها
مزاحمًا له في جاهه وَصِيته. إلا أنك التزمت في المنار إطراء الشيخ محمد عبده
والتنويه به، وهو أهل لذلك إلا أنه غير محتاج إليه؛ إذ لا يزيد في قدره عند
عارفي فضله الكثيرين ولا يقنع غيرهم من مبغضيه، وإن للشيخ أعداء كثيرين لهم
نفوذ في البلاد، وأنت بهذا التنويه به تجعلهم خصومًا للمنار يقاومونه وينفِّرُون
الناس منه، وأكثر من يسمع ذلك منهم يأخذه بالقبول، فخير لك أن تترك هذه
الخطة وتسلك في ذكر الشيخ طريق المؤيد بأن تعبر عنه إذا اقتضت الحال ذكره
بأحسن ما يقرن بأسماء كبار العلماء وهو لقب (فضيلة الأستاذ فلان- أو بزيادة-
العلامة فلان) فبهذا تأمن كيد أعداء الشيخ لك المفضي إلى حرمان أكثر المسلمين
بمصر من الاستفادة من المنار. اهـ.
فقلت له: إنني أعلم قدر ما في هذا الكلام من النصيحة، وإنني قد علمت
بالاختبار أن أعداء الشيخ يصدون عن المنار، وقلما يوجد من يعارضهم في ذلك.
ولكن المنار أنشئ للإصلاح لا للتجارة، ودعوة الإصلاح لا يُرْجَى أن تنجح وتبقى
إلا إذا كان للإصلاح زعيم يُرْجَع إليه ويُعَوَّل عليه، ولا أعرف أحدًا من المسلمين
أهلاً لهذه الزعامة بعلمه وبصيرته وإخلاصه وأخلاقه إلا هذا الرجل، فأنا أقصد
بالتنويه به ترشيحه لزعامة الإصلاح في العالم الإسلامي كله لا في مصر فقط.
وهذا الغرض ركن من أركان الإصلاح يرجح على كثرة قراء المنار في القطر
المصري. فقال إذا كان الأمر كذلك فأنت أدرى بشأنك.
هذا، وإن هذا القول من الشيخ علي يوسف قد كان قبل اشتداد غضب الأمير
على الأستاذ الإمام وإظهاره للناس وما ترتب على ذلك من التقاطع الأخير بين
الأستاذ والشيخ علي، ومن سعي كثير من كبار المقربين للأمير للتفريق بيني وبين
الأستاذ رحمه الله تعالى، إذ كان ممن كلَّمه في ذلك الوزير الشهير بطرس باشا
غالي، وممن كلَّمني فيه نقيب الأشراف وشيخ مشايخ الطرق الشيخ توفيق البكري.
ولا حاجة إلى شرح ذلك في هذا المقال.
إن صاحب الرسالة (م. ن) يعلم ما لا يعلمه إلا الأقلون من تاريخ المنار
وما لقي من المقاومة، وكونها على قوتها لم تكن مانعة من انتشاره واحترام كبراء
الأمة - حتى خصومه- له ولمنشئه، وأنه على كثرة ما كان يَنْتَقِد العلماء ويُلْقِي
عليهم من تبعة فساد دين الأمة ودنياها لم يتصد أحد منهم للرد عليه مع دعوته إياهم
إلى انتقاد ما يرونه منتقدًا فيه على رأس كل عام، ويعلم أيضًا أن مقاومة الأمراء
والكبراء من العلماء وزعماء الحزب الوطني وغيرهم لم تكن صادَّة لمن دونهم في
الجاه كمحمد أفندي عمر من الدعوة إلى الاشتراك في المنار ومن استجابة كثير من
الناس له، ذلك بأن الحرية الشخصية قد رسخت في البلاد، حتى صارت مستعدة
لقبول كل دعوة وانتشارها بقدر من يقتنع بفائدتها من الأفراد. ولكن الدعوة لا تنجح
بنشر مقالة أو مقالات معدودة، بل يشترط لنجاحها أن يكون لها دعاة دائبون،
وتأثير القول فيها أكبر من تأثير الكتابة، ولا بد من المواظبة والتكرار، كما علم
من سنن الله تعالى في كل دعوة إلى إصلاح أو إفساد، فهذا هو سبب حكمنا على
رسالته بأنها لا تفضي إلى نَيْل المُرَاد، فالأقوال والأفعال العارضة المؤقتة ضعيفة
التأثير في الأمور العامة، وإنما العمدة فيها على الدعوة الدائمة، فقد أيَّد المنار أقوى
من أنبتت هذه الديار حجة وتأثيرًا روحيًّا ولم يكن نجاحه بتأييده وتنشيطه، وخذله
وثبط عنه أعظم من فيها نفوذًا ولم يخب بخذله وتثبيطه، وقد زالت ولله الحمد تلك
المناهضة، فلا يخشى أن يلقى الداعي بعدُ أذًى ولا معارضةً.
ثم ليعلم صاحب تلك الرسالة أن المنار ثابت بفضل الله تعالى وإن انقطع عنه
منذ بدأت الحرب الأوروبية كل مدد كان يأتيه من البلاد العثمانية والروسية ومن
المغرب الإسلامي، وكذا من المشرق والجنوب إلا قليلاً - وإن محت إدارته أيضًا
أسماء مئات من مشتركي القطر المصري، بعضهم بحق وبعضهم بغير حق بل
بشهادة غير عادلة من الجباة- وكان هذا في فترة بضع سنين لم أنظر فيها شيئًا من
أمر الإدارة وقد قضيت كثيرًا منها في الأسفار- وأن المتأخر من مال الاشتراك على
الثابتين من المشتركين يزيد على ألف جنيه مصري. وإني لأعترف بأن جُلَّ التبعة
في ذلك على تقصير الإدارة وتركها مطالبة الكثيرين منهم لا على من طُولِبُوا فلووا
ومطلوا، وإنا لنرجو أن توفق إدارتنا فيما شرعتْ فيه من الإصلاح إلى اقتضاء
حقوقنا بالحسنى، فقلما يوجد في مشتركي المنار من يستحل أكل ماله بالباطل
وهضم حقه بغير عذر، ولكن يثقل على بعض من عليهم اشتراك عدة سنين أن
يؤدوها دفعة واحدة، ولا يضرنا تأديتها أقساطًا متعددة، وإن منهم أفرادًا يطمعون
بأن نترك لهم شيئًا مما عليهم برضًا منا، ومن هؤلاء من يتوسل إلى ذلك بأن بعض
الأجزاء لم يصل إليهم، وحجتنا أنه كان ينبغي لهم أن يطلبوها في وقتها وإذًا
لأرسلت إليهم بغير ثمن حسب الشرط، وإنا نعلم بالاختبار أن كثيرًا من المشتركين
تضل عندهم الأجزاء أو يأخذها بعض أصدقائهم من مكاتبهم أو بيوتهم من حيث
يدرون أو من حيث لا يدرون، أو تضيع بانتقالهم من مكان أو بلد إلى غيره، ثم
يتوهمون أنها لم تصل إليهم ألبتة.
وقد عزمنا على أن نبذل جهدنا في حسن الاقتضاء، راجين من الأكثرين
حسن القضاء، وعلى أن نكتب بعد ذلك ما نرى فيه الفائدة من الاختبار، ومنه
التصريح بأسماء المحسنين والمسيئين في القضاء، ليكونوا عبرة للمعتبر بحال
المسلمين، ونؤكد البشارة لأخينا (م. ن) الداعي إلى مساعدة المنار خوفًا من
سقوطه بما أحدثته الحرب من العسرة أن ما على خيار المشتركين في القطر
المصري وحده يزيد على ما يحتاج إليه من النفقات فلا يضره انقطاع المدد عنه من
الخارج، فإذا كان يحب زيادة انتشاره لأجل تعميم فائدته فالطريق إلى ذلك هي
الدعوة إلى منهجه الإصلاحي، ولكل دعوة أهل، ولكل مجتهد نصيب، ودعوة
الإصلاح بالحق أحق أن تستجاب، ولا سيما إذا رُوعِيت فيها الحكمة وفصل
الخطاب، {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس: 35) .
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء الثاني ص 89.
(1) هذا نص ما في المذكرة بحروفه ونقطه وأتذكر أنه ذكر لي مشرب هذه الجرائد فأشرت إليه بالنقط لأنه لا ينسى.(19/297)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله - تعالى - أن وفقني في هذا العام لتلبية دعوة أبينا إبراهيم - عليه
وعلى آله الصلاة والتسليم - بأداء فريضة الحج وإكمال المناسك بالعَجّ والثَّجّ، ثم
أحمده عودًا على بدء أن وفقني للوفاء لوالدتي بالحج معها. بعد أن حالت دونه
الأقدار بالأعذار تارة من قِبَلي، وتارة من قِبلها، بل أحمده قبل ذلك كله أن سخّر
من سخّر من الدول لإزالة ما أحدثته الحرب الأوروبية العامة من موانع السفر
بالبحار إلى الحجاز، ولتكلف إعداد السفن لحمل الحُجاج، بعد أن وُفق الشريف
أمير مكة للقيام بأمر استقلال العرب في تلك الأقطار، ولمعاهدة تلك الدول
المتصرفة في جميع البحار، فسبحان من سخّر من شاء لما شاء بتوفيق أقدار لأقدار
وأظهر حُجته على الخلق في كل عصر من الأعصار، من آيات يزداد بها إيمان
المؤمنين، ويحق بها القول على الجاحدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم
النبيين والمرسلين، الأمي الذي أرسل لتعليم الأُميين والكاتبين، العربي المبعوث
لتوحيد الأمم باللغة والدين، وعلى آله وأصحابه الكِرام، الذين أخذوا عنه المناسك
وأحيوا شعائر الإسلام.
أما بعد: فإن ركوب الألوف من المسلمين لمُتون البحار، وجذبهم من أقصى
المغرب والمشرق لأداء فريضة الحج في هذا العام، يصح أن يُعد من تأييد الله -
تعالى - للإسلام، ومن المعجزات الدائمة لخليليه إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة
والسلام - ومصداقًا لحديث (إن الله سيؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله) وقد
ورد بلفظ آخر صرحوا بصحة سنده.
أوليس خِذلانه - جلت قدرته - لحكومة الاتحاديين الملحدين، بما أقدموا عليه
من التنكيل بالعرب، وانتهاك حرمات الدين، وتوفيقه - عمت رحمته - لأمير مكة
ومن معه من المسلمين، بالخروج على البُغاة المارقين، وتسخيره - بهرت حكمته -
لدولتي الفرنسيس والبريطانيين الكتابِيِّين، بحمل الحجاج من الغرب والشرق إلى
البلد الأمين؟ أليس هذا كله أقدارًا تتابعت وأسرارًا تشايعت، فانجلت عن استجابته -
سبحانه وتعالى - لدعوة إبراهيم خليله، وإحياء شريعة محمد عبده ورسوله، بعد
ما كاد يظن أن أسباب الحرب الظاهرة، حالت دون تلك الدعوة الطاهرة؟
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) بلى، وإنها لتؤيد ما روي عن ابن عباس، من تلبية الناس
لتلك الدعوة في عالم الأرواح، إذ قام -عليه الصلاة والسلام - بعد فراغه من بناء
البيت العتيق، ممثلاً قول الله له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 27-28) [*] فقد روي عنه ما معناه أن الله تعالى أمره أن ينادي بذلك،
وقال له: عليك النداء وعلي البلاغ، وأنه قام في مقامه (المعروف إلى الآن بمقام
إبراهيم) وقيل: في الحِجر وقيل: على الصفا وقيل: على أبي قُبيس فنادى يا أيها
الناس إن الله قد اتخذ بيتًا فحجوه، فأجابه كل من كتب الله له الحج إلى يوم القيامة
قائلين: (لبيك اللهم لبيك) فإن لم تكن هذه الإجابة حقيقية في عالم الأرواح،
ولا عبارة عن الإجابة بالقوة ولسان الاستعداد، فهي تمثيل لما تظهره مجاري
الأقدار، ومن وراء حُجب الاستقبال، فتشاهده الأجيال في كل حول من الأحوال.
لقد كان النزوع إلى حج بيت الله الحرام، هوى ساكنًا في القلب يحركه
الموسم في كل عام، وتحول موانع الأقدار دون جذبه البدن إلى تلك المشاعر العِظام،
وأهمها ما كان أولى من عدم الأمن على النفس من ظلم الحكومة الحُميدية، ثم ما
هو شر منه وأنكى من إلحاد الحكومة الاتحادية، ومنها ما كان في بعض السنين
من عدم استطاعته السبيل، أو عَجْز السيدة الوالدة عن الرحيل.
فلما دعت الحكومة المصرية المسلمين في هذا العام إلى الحج بألسنة الصُّحف
المنتشرة، والتزمت حمل من يحج إلى جدة ذهابًا وإيابًا بأجرة قليلة، تاركة ما كانت
تتقاضاه من كل مريد للحج من التأمين المالي، وعلمنا أن هذه الدعوة مبنية على
تأمين الشريف أمير مكة للبلاد، وإزالته كل ما كان هنالك من أسباب العبَث والفساد،
صادفت هذه الدعوة في أنفسنا أتم الاستعداد والاستطاعة، وانتفاء جميع الموانع
دون هذه الطاعة، بل تأكدت داعية الفريضة، بما يُرجى في أثناء أدائها من واجب
النصيحة، التي تقتضي الحال الحاضرة أداءها لله ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم، فقد علمنا أن طريق الحج، قد مُهّد لمسلمي الشرق والغرب، الذين حالت
بيننا وبينهم الحرب، فلا سبيل للتواصل بيننا وبينهم من الطاق ولا من الباب، ولا
للتناصح بخطاب ولا كتاب، ونحن الآن أحوج ما كنا إلى التناصح والتواصي
بالحق والتواصي بالصبر، والتعاون على ما يجب من التقوى والبر. فهل نتوانى
في أداء هذه الواجبات، وقد أبيحت لنا في أشرف الأمكنة وأفضل الأوقات، إذ
نؤدي المناسك في بيت الله ومشاعره العِظام منى والمزدلفة وعرفات؟
نعم: إن حكومة هذه البلاد آذنتنا بإباحة الحج في هذا العام، فذكرتنا بإيذانها
به أذان أبينا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فلبى القلب داعي الله قبل تلبية
اللسان وسعي الأقدام،: (لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك) فلم نكن ممن يُثنيهم عن هذه التلبية إرجاف
المُرجفين، ولا خَرْص الخرَّاصين، ولا إفك المذّاعين. الذين أذاعوا في طول
البلاد وعرضها أن من يقصدون الحج في هذا الأوان، يُلقون بأيديهم إلى التهلكة بما
أُعد لهم من مدافع التُّرك وطيارات الألمان، ولا قولهم: إن صاحب المنار مرسل مع
وفد العلماء الذين أرسلهم سلطان مصر لمبايعة شريف مكة بالخلافة، ولا قول
بعضهم: إنه هو الذي يريد ذلك دون العلماء ولا قول بعضهم بالعكس، فالفرائض
والواجبات لا تترك لتقوُّل غوغاء الناس، ولا لأوهام العوام والخواص، وحسبي أن
أعلم أنني أحجّ لوجه الله - تعالى - منفقًا من مالي الذي أعتقد حله، وقد ادخرته
لذلك في هميان منذ سنين، وإنني أبتغي زيادة الأجر عند الله - تعالى - بصحبة
والدتي وخدمتها في هذه السبيل، وبما أبغيه من الازدياد من العلم النافع
والاختبار والاستفادة من أهل العلم والبصيرة، وبما أنويه من النصيحة لكل من أرى
الفائدة في نُصحه من إخواني المسلمين في تلك البِقاع الطاهرة الشريفة، بما
أرى فيه الخير والمصلحة لأمتي في أمري دينها ودنياها، لا أُحابي في ذلك شريفًا ولا
أميرًا، ولا أغش فيه سُوقة ولا فقيرًا، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما
نوى. كما قال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -.
على أن حبل الكذب - كما تقول العامة - قصير، ولا سيما إذا كان في شيء
كالحج موعده قريب، فسفر الحج في هذا العام كان أقل من خمسة أسابيع، فما
أسرع ما ظهر كذب تلك الأقاويل.
لم يبق أحد في مصر إلا وقد علم أن حجاج بلاده قد دخلوا المسجد الحرام
بمشيئة الله - تعالى - آمنين، وأدوا مناسكهم وقضوا تَفَثَهم محلِّقين رءوسهم
ومقصِّرين، وعادوا إلى أوطانهم سالمين مغبوطين، وأن الشريف لم يدْعُ أحدًا من
الحُجاج إلى مبايعته، ولا يزال الخطباء يدعون للسلطان العثماني في بلاده، وإن
صاحب المنار لم يكن بينه وبين وفد العلماء السلطاني خلاف في أمر المبايعة
المخترعة بمصر ولا في غيره، وإنه عاد مع والدته إلى أهله وولده وموطن عمله
كسائر الحاجّ؛ إذ لم يذهب مدعو إلى منصب قاضي القضاة ولا مشيخة الإسلام،
وها هو ذا يقُصّ خبر رحلته، على جميع من يطلع على مجلته، بما يعهد قراؤها
من صدقه وصراحته؛ إذ كان - ولا يزال - يشرح ما طرأ من الفساد على
الرؤساء والحكام، وما سرى من الضلال والخرافات إلى العوامّ، غير مبالٍ بسخط
الخاصة، ولا مهتم باستمالة العامة {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) التأذين والأذان بالشيء النداء للإعلام به، والرجال جمع راجل وهم المشاة، والمعنى يأتوك
مشاة وركبانًا على كل ضامر من الإبل وغيرها وهو المهزول من طول السفر، ويأتين صفة لكل
ضامر، والفج الطريق والمسلك المنفرج بين الجبال ونحوها، والعميق البعيد الغور أو المدى،
والأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق بعده، وكذا يوم عرفة في قول، والأمر بالأكل من لحوم
ذبائح الهدي التي تذبح بمنى في تلك الأيام - ومثلها الأضاحي في سائر البقاع - للندب عند الجمهور
وللوجوب عند طائفة، والتفث المناسك، أو التحلل من الإحرام الذي يزال به الوسخ بالخلق والطيب
إذ أصل التفث الوسخ، والمراد بالطواف هنا طواف الإفاضة الذي تتم به أركان الحج فيتم التحلل منه.(19/307)
الكاتب: محمد توفيق علي
__________
قصيدة في مدح الرسول
قال محمد توفيق علي [1] من قصيدة له في مديحه - عليه الصلاة والسلام -:
هل مر يوم لم يلح في أفقه ... شمس تضيء لنا من القرآن
هل هزت الأجيال دين محمد ... فرأته غير مثبت الأركان
هل ينكر الثقلان أن نبينا ... كنز العلوم وكعبة العرفان
ومثبت التوحيد في أركانها ... بالمعجزات وساطع البرهان
ولربما جعل الحُسام نصيره ... في ردع أهل الظلم والطغيان
وأعادها نورًا وكانت ظلمة ... دهماء سابغة على الأكوان
لو أننا متمسكون بدينه ... لم يرض منا مؤمن بهوان
ولَمَا هُزمنا لو تجمعت العدا ... لقتالنا واستظهروا بالجان
لكننا فشت المعاصي بيننا ... وتحكمت فينا يد الشيطان
توبوا إلى الله الكريم وأصلحوا ... أعمالكم خافوا من النيران
وقال في أصحاب السوء:
لي أصحاب إذا عاشرتهم ... لا تقل إن عثروا يومًا لعَا [2]
يأكلون السحت فيما بينهم ... ليس من جوع ولكن جشعَا
يمزجون الخمر بالماء فهل ... مزجوا أن شربوها أدمعَا
قعدوا عن كل فخر وعلاً ... لا يحبون التقي الورِعَا
كم نهيناهم عن الخمر فلم ... يجدوا من دونها منتجعَا
كم زجرناهم عن الفُحش فلم ... يجدوا في غيره متسعَا
إنهم قد ظلموا أنفسهم ... فاصفح اللهم عمن رجعَا
وقال في ذم الخمر وضررها:
خذوا كأسها عني فما أنا شارب ... ولا أنا عن ديني ودنياي راغب
لقد حرم الله المُدام وإنني ... إلى الله مما تستحلون تائب
لئن بت جبارًا على الأرض قاهرًا ... فلست لجبار السماء أحارب
أأشرب سمًّا ناقعًا في زجاجة ... تحوم حوالي شاربيه المصائب
لئن شبهوا كاساتها بكواكب ... فكم أنذرتنا بالنحوس الكواكب
وإن عصروها من خدود كواعب ... فكم من بلايا جرَّهن الكواعب
وقال في تفضيل الماء على الخمر:
إذا طاف بالكأس الدِّهاق عليكم ... فما أنا منكم يبرأ الله منكمُ
لي الماء وحدي لا أبالي بجمعكم ... رضيتم غضبتم خنتم أو وفيتم
فصفق أباريق المداد وهاتها ... زلالاً فنفسي أوشكت تتضرَّم
فتلك مدامي لا بنات دنانهم ... وذاك زجاجي لا الزجاج المفدم [3]
إذا رقرقت في الكأس ألفيت فضة ... تدفق أو ذوبا من الدر يسجم
يقطرها الدن الحلال [4] كأنما ... تتابعها عقد من الدر ينظم
يرن رنين العود في كل قطرة ... كأن قيانا تحته تترنم
وشتان بين الماء والخمر في فم ... ولكن ذا حِلّ وهذا محرم
فمن شاء أن يلقى جهنم قبل أن ... يموت ففي حان المدام جهنم
تجاذب روح الشاربين بنشوة ... تكاد لها أحشاؤهم تتضرم
ومن خاف ناب الأفعوان ينوشه [5] ... ففي كأسها ناب خفي مسمم
يمزق أستار النفوس لُعابه ... ويلطم ناب الشاربين فيهتم [6]
منابع أدواء موارد ريبة ... تطول بها البلوى ويقذى بها الفم
وطاب لأصحابي من الخمر نتنها ... وأوهمهم شيطانها فتوهموا
يقولون: شرب الخمر باب فريضة ... علينا فلسنا إن تركناه نهضم
فهلا ترى أنا نموت بتركها ... فقلت لهم موتوا فلا خير فيكم
ألم يكفيكم وِردًا كئوس مزاجها ... من الذل والحرمان صاب وعلقم
وتضييعكم عز البلاد وهدمكم ... بناء حقيقًا إنه لا يهدم
أقامته أطراف العوالي وصانه ... قرونًا على الدنيا الحديد المثلم
إذا مالت الدنيا به قام ركنه ... يناصح روق النجم والدهر مرغم
ألا أبلغوا أهرام مصر توجعي ... وإن تك لا ترثي ولا تترحم
وقولوا لرمسيس بن سيتي أفق لنا ... أتتركنا في ذا الشقاء وتنعم [7]
__________
(1) هو ضابط (يوزباشي) في الجيش المصري وكان رفيقًا لنا في سفر الحج وسيأتي ذكره في الرحلة.
(2) يقال للعاثر (لعًا لك) دعاء له- أي أنعشك الله وأقامك من عثرتك وإذا دعي عليه يقال له: لا لعا لك.
(3) الإناء المفدم ما وضع على رأسه الفدام وهو بفتح الفاء وكسرها ليف يُصفى به ما يصب منه في الأكواب يقال فدمه بالتخفيف والتشديد وإفدامه.
(4) الدن بالفتح وعاء كبير للشراب ووصفه بالحلال باعتبار ما فيه وتقطير الماء إسالته قطرة بعد قطرة ولعله أراد بالدن المفدم ما توضع عليه المصفاة (الفلتر) وإسناد التقطير إليه مجاز.
(5) الأفعوان بالضم ذكر الأفاعي، وينوشه يتناوله ويأكل منه استعمله بمعنى ينهشه.
(6) يعني أن لعاب الكأس وهو الخمر يفسد الإنسان ويتلفها فعبر عن ذلك بلطم الناب وهتمه أي كسره.
(7) لا ندري من أين علم الناظم أن رمسيس سعيد ناعم.(19/311)
الكاتب: أحمد زكي أبو شادي
__________
جمعية آداب اللغة العربية
بلندن
سيدي الأستاذ محرر (المنار)
لا أرى بُدًّا- إذا سمحت مكارمكم- من نشر كتابي هذا في (المنار) ولي من
ظاهر عنايتكم بهذا المشروع شفيع بذلك، ومن تكرار تحريري في المجلات
الأخرى عذر في الركون إليكم، فإن من الضروريات في جميع الأعمال العامة
الكبيرة كسب تعضيد مجموع الصحافة لا بصفة وقتية بل بصورة دائمة. فلابد إذن
لقلمي العاثر من تكرار الإعلان عن هذا المشروع، ومن أمثال فضيلتكم ترجى
المؤازرة الأدبية الوجيهة فيما يذهب بضرر ويجلب فائدة للشعوب المستضعفة التي
تذودون عن كرامتها وتناضلون عن حقوقها.
أغراض المشروع واضحة جلية، وقد سبق لكم نشرها في (دعوة اللجنة
التحضيرية) ، وكلها تدور حول نقطة جوهرية، وهي خدمة اللغة العربية بجميع
الوسائل الميسورة، وتحت هذا تنطوي عدة مسائل أدبية اجتماعية وقومية حيوية لا
يخطئ في تقريرها المفكر البصير.
يتساءل بعض النقاد: لماذا أشركنا معنا- نحن العرب- المستشرقين في عمل
كهذا جدير بنا أن نستقل به؟ وهو سؤال غريب؛ إذ ما سمعت أن العلم مقيد بقيود
الجنسية، وما من مطلع إلا ويقر مؤلف (تاريخ آداب اللغة العربية) على قوله في
مميزات النهضة الأدبية الأخيرة منذ سنة 1798 م إلى الآن: (من العوامل
الرئيسية في إحياء آداب اللغة العربية في هذه النهضة اشتراك الإفرنج في درسها
ونشر كتبها والتنقيب عن تلك الكتب في مظانها. وليس اهتمام الإفرنج بالآداب
العربية حديثًا فإنه يرجع إلى الأجيال الوسطى قبل نهضتهم الأخيرة لإنشاء تمدنهم
الحديث) فقوم هذا شأنهم وتلك آثارهم يجب أن تنزلهم منزلة الإكرام، إن لم يكن
لحرمة العلم والأدب عامة فلحرمة لغتنا التي هي ديوان أخلاقنا وحضارتنا وآدابنا.
فمن الاعتساف ونكران الجميل أن يُنعى علينا هذا التصرف وأن نعاب به. ومن
الفكاهة المرة أن يشترط على الطالب علم إفادته عن سيرة رئيس (اللجنة
التحضيرية) وسيرة كل عضو من أعضائها قبل أن يتبرع بمليم واحد لهذا العمل
(وإن راق لديه كثيرًا) ..! ! ألهذا الحد بلغ بنا التحفظ والتهيب وسوء ظن
بعضنا بالبعض الآخر؟
يكفي في الرد على مثل هذا السؤال أن يقال: ليس بين أعضاء اللجنة
التحضيرية إلا من يغار على نهضة اللغة، وكلنا طلبة علم نريد ترقية معلوماتنا
وتمرين أنفسنا على الترجمة ثم التأليف، وتعويد أقلامنا على لغة مهذبة نقية مع
تعيين الكلمات الاصطلاحية العلمية والفنية متحدين لغة الكتابة السليمة التي هي في
كل أمة غير لغة العامة. وبعبارة أوضح إننا من أوساط المتعلمين لا ميزة لنا غير
اجتهادنا وإقدامنا على أداء واجب تناساه من هم أقدر منا، فلسنا بالفلاسفة ولا
بالفحول، كما لا أعرف أننا وضعنا في درجة العوام والغوغاء. ولسنا ممن
يصطادون الأموال لنفع جيوبهم، ولا ممن صدرت عليهم أحكام المحاكم الجنائية ولا
غيرها، فعلام يتخوف من يروقه العمل من التبرع، وكل قرش وكل جنيه يرسل
باسم اللجنة يودع فورًا في (المصرف الأهلي المصري) بلندن؟
وأما الأستاذ مرجليوث فلعل شهادة سواي فيه أولى بالاعتبار. قال مؤسس
(الهلال) وقد أوجز كثيرًا كعادته: (ليس بين قراء العربية من لا يعرف الأستاذ
مرجليوث لما نذكره من آثار قلمه في خدمة اللغة العربية بالتأليف أو النشر. وقد
تلقى علومه في جامعة أوكسفورد وتولى تعليم اللغة العربية فيها من سنة 1889 م،
وهو يمتاز على الخصوص بسعة معرفته في اللغة العربية وآدابها. يكاتب أصدقاءه
من العرب بأسلوب عربي خالص من شوائب العجمة. وقد نشر رسائل أبي العلاء
مع ترجمتها الإنكليزية، وهو عمل لا يستطيعه إلا القابض على ناصية اللغة
العربية؛ لأن هذه الرسائل لا يفهمها العربي إلا بمراجعة المعاجم، ونشر آثارًا
عربية تاريخية وشعرية، وقطعة بابيروس عربي كانت في مكتبة أوكسفورد.
وألف في مشاهد أورشليم ودمشق كتابًا حافلًا بالرسوم والشروح. وله كتاب في
سيرة النبي بالإنكليزية. وترجم الجزء الرابع من تاريخ التمدن الإسلامي إلى
الإنكليزي، وله مقالات عديدة في المجلة الأسيوية الإنكليزية وغيرها) اهـ.
وكتب إلي أحد الفضلاء يسألني عن مزية العمل من الوجهة السياسية (حيث
إن مركزنا السياسي الحاضر هو في نظره أهم المسائل) .. مع أننا أبَنَّا مرارًا أنه
ليس لهذا المشروع أي صبغة سياسية، وما تطرقت السياسة إلى عمل كهذا إلا
أفسدته. ولن يبدل حالتنا السياسية جمعية ولا جمعيتان، فإن العليل لا يبرأ بالإعلان
زورًا عن عافيته، بل باستئصال دائه وعلته. ولكن إذا كنا ومعظم الإفريقيين
والشرقيين والعرب عامة معدودين في نظر الأوروبيين بمرتبة البهائم، ألا يعد من
الحكمة إذن تخفيف هذه الوطأة بإظهار فضائلنا في أدوار نهضتنا العلمية والأدبية
وتصحيح الغلط الفاحش الشائع عنا، فكل هذا يمكن تحقيقه بهذا العمل الجامع أيضًا
لمزاياه الأدبية البحتة.
لو كانت لنا في هذه الديار منزلة من الاحترام لما راجت على حسابنا رواية
(قسمة) التي كانت ظلمًا وفضيحة اجتماعية وتاريخية كبرى لنا. ولئن انتقد بشدة
تمثيلها مثل القائد الإنجليزي السير سمث دروين رحمة بالآداب العامة، فلعله ولعل
كثيرين سواه من علية القوم يعتقدون صحة ما تمثله القصة الخيالية من الكبائر
آسفين على حالنا الشائنة.. فيا لَلمصائب! ! وإذا كانت كل من روسيا واليابان
رغمًا عن تحالفهما مع إنكلترا يقدرون أن أصدق التحالف ما كان بين الشعوب
بعضها مع البعض لا ما بين الحكومات فقط، فأصبحت جريدة (التيمس) تصدر
من حين إلى آخر بفضل المساعدة المالية التي تهبها كل من تينك الحكومتين ملحقات
ضافية شارحة الحياة الروسية واليابانية بكل أسلوب ووسيلة جذابة للرأي العام
الإنكليزي، أيُنعى علينا نحن المرموقين بالازدراء والسخرية الذين لا تربطنا
مخالفة ولا جامعة حرة راقية بأوروبا- أيُنعى علينا إقدامنا على عمل كهذا يشمل ما
بين أغراضه إزالة سوء التفاهم بين الغرب والشرق أو بالأحرى بين الفرنجة
والعرب؟
يقول كولردج: (اللغة عُدة العقل الإنساني الجامعة لغنائم فتوحاته السابقة
وأسلحة انتصاراته المستقبلة) ويقول وليم سميث: (اللغة هي ذكرى النوع
الإنساني هي عصب حياة ممتد بين جميع العصور يربطها بالوجود المشترك
الطويل المترقي) . ويقول هير: (اللغة مقياس الفكر والخلق القومي) ويقول
السير هدافي: (ليست اللغة ناقلة الفكر فقط بل هي أيضًا عدة عظيمة صالحة في
التفكير) . وفي كل هذه الحكم الغالية الصائبة أحسن جواب لمن تبلغ بهم المغالاة
في الانتقاد إلى (الجزع) من غيرة الشبان على لغتهم، قائلين: إن اللغة وسيلة لا
غاية (وحرام) أن نُعنى بها هذه العناية..! لا أنكر أني أعتبر اللغة وسيلة لا غاية
وإن صلحت أيضًا لأن تكون غاية مطلقة كفن جميل، وما أنا من يدعو إلى الكلام
المتوعر المعقد الذي يكلف الذهن المشقة في فهمه ويختم العقل به، ولكن من
الواجب علينا أن نصون لغتنا عن الابتذال الذي تدلى إليه معظم المعربين، ومن
المفروض علينا أن نتمشى مع الزمن في ترقية الوسيلة التي نتلقى بها العلم دائمًا
غريبًا عنا، ومن الحكمة أن نُظهر لغتنا في مظهر عزيز لائق بها (لأنها مقياس
الفكر والخلق القومي) على حد قول هير. وفي إغراء الشبان العرب في أوروبا
بالعناية بعمل أدبي علمي اجتماعي كهذا ما يصرفهم عن مضيعات الوقت والصحة
والمال، وما يساعدهم في دراستهم وفي تهيئة أنفسهم لخدمة أممهم في الحاضر
والمستقبل.
لا يكابر أحد في أن الأمة إذا ترقت نهضت معها لغتها ونالت احترام الأجنبي
لها، لكن اللغة كذلك من أقوى دعائم الرقي، ونهوضها من نتائجه كما أنه من
وسائل النهوض العام للأمة، فنهوض الأمة ونهوض اللغة على ذلك حالتان لا
تفترقان، وأمران متساندان ونهضتان مرتبطتان.
... ... ... ... ... ... نادي مستشفى سانت جورج بلندن
... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي
... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب)
(المنار)
إن هذا المشروع جليل ونفعه للعرب ظاهر لا يماري فيه إلا أصحاب
الوساوس السياسية ولا يصعب إقناع المستقل منهم بالرأي والفهم بفائدته، وإنما
يستحيل إقناع أصحاب الأهواء بما يخالف أهواءهم.
__________(19/313)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(السيد محمد وجيه الكيلاني)
(راجع ص 124 من الجزء الثاني)
جاء في جريدة الهدى العربية التي تصدر في نيويورك ما نصه:
شيخ الإسلام بالفيلبين ووفاته
عند منتصف ليل خامس مايو قضى إلى رحمة مولاه في ريتشمند من أعمال
ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة السيد محمد وجيه الجيلاني شيخ الإسلام بجزر
الفيلبين، وقد كان قدم هذه البلاد منذ سنة ونصف، وقام أكثر هذه المدة في فيلادلفيا
وتردد أحيانًا على واشنطون وعلى نيويورك إلا أن صحته لم تكن حسنة فأقعدته عن
التجول كثيرًا، وهذا ما أخر في إتمام مساعيه.
كان السيد الجيلاني عالمًا فقيهًا وعلى كثير من التساهل الديني ولد في دمشق
وانتقل إلى الآستانة حيث أسندت إليه مراتب دينية عالية. ولما أن بعثت حكومة
الولايات المتحدة بعد احتلالها الفليبين وفدًا إلى الآستانة للاتفاق مع سلطان تركيا
على تعيين شيخ إسلام يتولى رعاية المسلمين عين السيد الجيلاني لهذه الوظيفة
فذهب إلى الفليبين عن طريق سوريا وبلاد العرب وبلاد العجم والهند وكان هناك
يقابل أمراء وعلماء الإسلام ويستنهض هممهم في مشروع تهذيبي افتكر به لترقية
شؤون مسلمي الفليبين الأدبية. والتقى في مكة بجماعة من هؤلاء المسلمين قادمين
للحج فعاد وإياهم، وكانوا يؤدون له إكرامًا أشبه بالعبادة فيسجدون أمامه شأن
البرابرة فنهاهم عن ذلك. وحين وصل إلى بلادهم أخذ ينتقل من جزيرة إلى أخرى
في الأرخبيل ويدعو قوم المورو المسلمين إلى عقد الاجتماعات فيخطب فيهم حاثًّا
على الإقلاع عما يفهمون من الجهاد الديني وهو أن يحلق الواحد منهم شعر رأسه
ويحمل سلاحه ويخرج بقصد الإيقاع بالبيض الكفرة ولا يعود حتى يقتل عددًا
مفروضًا أو يُقتل هو.
وكان السيد الجيلاني مدة إقامته في تلك الجزر على تفاهم تام مع رجال
الحكومة الأمريكية الذين كانوا يرجعون إليه في كل مشاكلهم مع الوطنيين المسلمين
وساء السيد الجيلاني ما وجد أبناء دينه عليه من الهمجية فأخذ يفتكر في طريقة
لتهذيبهم إلا أنه لم يوافق رجال الحكومة الأمريكية هناك على إنشاء مدارس عمومية
للحكومة فقال: إن المسلمين لا يطمئنون إلا إذا كان لهم مكتب ملاصق للجامع
يدرسون فيه كتابهم الشريف بادئ ذي بدء. ولأجل تحقيق هذه الفكرة قدم إلى
الولايات المتحدة وأخذ ينشر المقالات عن أحوال الفليبين في بعض الصحف
الأمريكية، وفي الوقت نفسه سعى إلى تأليف جمعية تهذيبية تتولى أمر إنشاء
المدارس الإسلامية في الفليبين يكون مركزها الرئيسي في الولايات المتحدة وذات
فرع إداري في الفليبين يتولى هو رئاسته نظرًا إلى انقياد المسلمين هناك إليه
وتحققهم حسن مقاصده فلا تداخلهم ريبة من مساعي الأمريكيين أو عمد هؤلاء إلى
القيام بالمشروع مستقلين.
وقد كان السيد الجيلاني يتردد إلى إدارة الهدى حين يزور نيويورك فعرفنا
عنه ما سبق بيانه من مقاصده ومساعيه، ولكن وطأة المرض اشتدت عليه في
الأشهر الأخيرة فلم نجتمع به أو نعرف شيئًا عن مشروعه. وكان من أمره أخيرًا
أنه اضطر لأسباب صحية إلى مغادرة هذه البلاد، وبينما هو في الطريق اشتدت
عليه علته في ريتشمند فرجينيا وهناك توفي -تغمده الله بواسع رحمته- اهـ.
* * *
(إشراف أهل سورية على الفناء والزوال)
لقيت في مكة المكرمة الضابط الحر الصدوق خالد أفندي الحكيم الحمصي
وكان وصل إليها قبلي بأيام قلائل فارًّا من بلاده بطريق البادية، فسألته عما وصل
إلينا من مصادر متعددة من أخبار المجاعة والغلاء ومصادرة السلطة العسكرية
للأموال والغلال في طول البلاد السورية الفلسطينية وعرضها، وتنكيلها بالأهالي
تقتيلًا وتصليبًا ونفيًا من الديار- هل هو حق كما سمعنا أم هو مبالغ فيه؟
وذكرت له ملخص ما وصل إلينا من ذلك. فقال: إن ما بلغكم دون الواقع
وليس الخبر كالمعاينة، وإنني أقدر أنه لم يبق في البلاد من أهلها إلا العُشر. اهـ
فإذا طال الأمد على هذه الحال، فسورية صائرة إلى الفناء والزوال، ولا يبعد أن
ينقرض أهلها الذين فيها من الأرض قبل انقضاء هذه الحرب. فلا شك في أن
مُصابها بحكومتها الطاغية الباغية أعظم من مصاب بلاد البلجيك والصرب والجبل
الأسود باجتياح الجرمان لها، وثلها عروش ملوكها، فيجب على السوريين المقيمين
في مصر وأوربا وأمريكة أن يسارعوا إلى البحث عن أقرب الوسائل إلى إنقاذ
البقية الباقية من أهل وطنهم لعلهم يهتدون إليها ويدخلونها من بابها بعد أن علموا أن
دولة الإنسانية (الولايات المتحدة) لم تقدر- وكذا غيرها من الدول التي على
الحياد- على ما أحبت من إغاثة هذا الشعب المسكين بالقوت والعلاج، ولا دول
الحلفاء المحاربون لدولة الاتحاديين قدروا على إنقاذه بالحرب والكفاح، فإن كان في
هؤلاء السوريين من ينتظر هذا الإنقاذ بعد النصر النهائي المأمول، فليعلموا أن أمد
الحرب سوف يطول، وأن لسان حال وطنهم ينشد صاحب هذا الأمل ويقول:
فلك البقا فلرُبَّ يوم أن تسل ... حتى تراجعني فلا تلقاني
* * *
(متى تنتهي الحرب وكيف تنتهي)
قد أكثر الناس من حديث الصلح في هذه الأيام ونقلت الجرائد لنا عن كثير من
قواد دول الأحلاف وساستهم أنهم يرون أن الحرب تنتهي بانتهاء ربيع العام القابل
(1917) أو صيفه بناء على أن مد القوة الألمانية قد تحول إلى جزر، وجزر
دول الأحلاف قد تحول إلى مد تتدفق ثوائبه، ولا تنتهي عجائبه.
كنت التقيت في شهر شوال الماضي بوكيل شركة روتر البرقية في القاهرة
فسألني- وقد ذكرت هذه المسألة- عن رأيي فيها فقلت له إذا أصرت إنكلترا على ما
عزمت عليه من قهر ألمانية وإرغامها على قبول ما تشترطه مع أحلافها للصلح،
وحافظ هؤلاء الأحلاف على عهدهم بأن لا ينفرد أحد منهم بقبول الصلح، فالرأي
الراجح أن هذه الحرب تستمر عدة سنين، تنهد فيها قوى جميع المتقاتلين، وتخسر
أوروبا الملايين الكثيرة من أفلاذ كبدها، وألوف الملايين من دنانيرها، وعشرات
المدن ومئات البلاد من ممالكها. فإن أصغر الأمم الأوروبية وأضعفها تختار الفناء،
على قبول الذل والقهر والاستخذاء.
وأرى أن الأحلاف لا يمكنهم أن ينتزعوا من ألمانية ما بيدها من مملكة بلجيكة
وولايات فرنسية إلا أن تكون خرابًا يبابًا لا حجر فيها ولا مدر، ولا شجر ولا بشر،
وبعد أن يُنفق على تخريبها الملايين من الرجال، والقناطير المقنطرة من الأموال،
وإذا كنا نرى المحاربين يخربون بلادهم بأيديهم إذا اضطروا إلى تركها لأعدائهم،
ولو مؤقتًا كما فعلت روسية وغيرها، فهل ينكر على الألمان العتاة ألا يتركوا بلاد
أعدائهم إلا قاعًا صفصفًا؟
أما تقصير أجل الحرب فليس له طريق معقول عندي- إذا أصرت الحكومات
على عزمها- إلا قيام الشعوب الأوربية من الفريقين على دولهما. وإلزامها إياهن
بصلح يعود فيه كل شيء إلى أصله ولا يتضمن إذلال دولة لأخرى؛ لأن كل دولة
وكل أمة أوربية تفضل الفناء على الذل وخدش الاستقلال التام لا الألمان وحدهم.
هذا معنى ما قلته يومئذ، ولكن قيام الشعوب على حكوماتها لا يرجى ما دام
كل منهم يرجو النصر التام. فصدق على الفريقين قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} (الأنفال: 44) .
* * *
(تأخر صدور هذا الجزء من المنار)
يصدر هذا الجزء بعد يوم تاريخه بشهر وأيام بسبب غيبتنا في سفر الحج مثل
هذه المدة ثم اشتغالنا بلقاء المهنئين أسبوعين أو أكثر وعطل حصل بآلة الطبع.
__________(19/317)
المحرم - 1335هـ
نوفمبر - 1916م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
8- الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد
وتحقيق معنى الظن واليقين والتواتر [*]
قال المتكلمون: إن العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد؛ لأن المطلوب فيها القطع
وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، وقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ
شَيْئاً} (يونس: 36) وإنما تثبت بالأحاديث المتواترة؛ لأنها هي التي تفيد اليقين
الذي هو شرط الإيمان. وقد فهم كثير من الناس من هذا القول ما لم يرده المحققون
من قائليه فأخطأوا في فهم المراد وفي فهم كلمتي الظن واليقين، فظنوا أن الأحاديث
الصحيحة التي رواها الآحاد من الثقات العدول في صفات البارئ -عز وجل- وفي
أمور الآخرة لا يجب الإيمان بها شرعًا ولا يضر المسلم تكذيبها، وإن لم يكن عنده
شك في صحتها، وبناء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد في نفسها إلا الظن الذي لا
يجوز الأخذ به في العقائد؛ لأنه لا يغني من الحق شيئًا. وهذا الظن الذي فهموه من
عبارة المتكلمين هو الذي لا يغني من الحق شيئًا وما أظن أن مسلمًا يُعتد بعلمه يقول
به، ولعل أول من قال تلك الكلمة أراد بها أن أحاديث الآحاد لا تقوم بها الحجة في
العقائد على المنكر لورودها، وإنما تقوم بالتواتر؛ لأنه لا سبيل إلى إنكاره.
الظن ضرب من ضروب التصديق بغير الحسي ولا الضروري من المدركات
فهو مما تتفاوت أفراده بالقوة والضعف، فمنه ما يكون يقينًا لا تردد فيه، ومنه ما
يكون راجحًا مع ملاحظة مقابل مرجوح تارة ومع عدمها تارة، وقيل: إنه يشمل
المرجوح أيضًا. فالتصديق المبني على الأدلة النظرية الذي يجزم به المستدل مع
عدم ملاحظة احتمال النقيض يسمى ظنًّا، ولكن إدراك الحواس لا يسمى هنا، ولا
العلم الضروري كقولنا: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهذا الحد الذي شرحنا
به معنى الظن هو تفسير لقول الأزهري في التهذيب: الظن يقين وشك. وقول
ابن سيده في المحكم: هو شك ويقين إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر،
فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم. هذا قول أئمة اللغة.
وأما قول الفيروزبادي في القاموس: الظن: التردد الراجح بين طرفي
الاعتقاد غير الجازم- فهو مأخوذ عن اصطلاح علماء المعقول كالمناطقة والفلاسفة
ومثله قول المناوي: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ولكن الفيروزبادي
لم يسعه إلا أن يزيد على تعريفه قوله: وقد يوضع موضع العلم: بمعنى أنه
يستعمل في اللغة بمعنى اليقين. فإن أراد أنه يوضع موضع العلم حتى في الحسيات
والضررويات فقوله غير صحيح. واليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر،
وهو نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل. قاله في لسان العرب. ثم قال:
وربما عبروا بالظن عن اليقين وباليقين عن الظن.
وقال الراغب: الظن: اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم،
ومتى ضعفت جدًّا لم يتجاوز حد الوهم. ثم ذكر أن من اليقين قوله تعالى: {وَظَنَّ
أَنَّهُ الفِرَاقُ} (القيامة: 28) وقوله تعالى: {أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ *
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين: 4-5) وقوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} (يونس: 24) وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (ص: 24) وإنما يظهر هذا
في اليقين اللغوي وهو الاعتقاد الجازم المبني على الأمارات والاستنباط
والاستصحاب دون الحس والضرورة - لا اليقين المنطقي المبني على الضرورة أو
الحس أو ما يؤدي إليهما بحيث لا يحتمل النقيض. وقد فسر الراغب اليقين بقوله:
هو سكون الفهم مع ثبات الحكم. وقال: إنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية.
فعلم من قولهم أن اليقين في الأصل هو الاعتقاد الثابت الذي لا شك فيه ولا
اضطراب. وأما قولهم بالتعبير به عن الظن والعكس فليس معناه أن كل يقين ظن
يقين وإنما معناه أن الظن على مراتب منها ما يرادف اليقين، ومنها ما هو دونه،
فبينهما العموم والخصوص بإطلاق، والمشهور في تعريف اليقين عند علماء الدين
أنه الاعتقاد الجازم المطابق. واشتراط المطابقة للواقع اصطلاحي خاص باليقين في
الإيمان الصحيح، ولعل المطابقة تشترط في العلم فيسمى الجازم بغير الواقع مؤقنًا
به لا عالمًا.
إذا فقهت هذا فاعلم أن كل اعتقاد يستفاد من السماع يطلق عليه في اللغة اسم
الظن باعتبار مأخذ لذاته، واسم اليقين إن جزم صاحبه به، وكذا اسم العلم أن
مدلوله حق، ولكن نفس السماع، أي: إدراك الأصوات المحقق لا يسمى ظنَّا بل
علمًا. وخبر التواتر إنما يفيد العلم القطعي بضرب من الاستدلال النظري، وإن
اعتمدوا أنه يفيد الضروري فإن من شروطه أن يخبر كل واحد من المخبرين
الكثيرين عن حسي، أي: عما سمعه بأذنه أو رآه بعينه مثلاً، وأن يقوم الدليل أو
القرائن على أنهم لم يتواطؤوا على الكذب، وأن يتحقق ذلك في كل طبقة من
الطبقات. وقد اختلف العلماء في العدد الذي يحصل بخبره التواتر مع توفر الشروط
التي ذكروها. فاكتفى بعضهم بالآحاد كسبعة وعشرة، واشترط بعضهم العشرات.
ولكنهم اتفقوا على أن آيته حصول العلم الجازم بمدلول الخبر. ومثل هذا العلم
كثيرًا ما يحصل بخبر الواحد وإن لم يكن متصفًا بالصفات التي اشترطها المحدثون
في راوي الحديث الصحيح كالعدالة والضبط وعدم مخالفة الثقات المشهورين فضلاً
عن مخالفة الأمور القطعية التي عدوا مخالفتها علامة الكذب ووضع الحديث.
مثال هذا النوع من خبر الواحد الذي يحصل به الاعتقاد الجازم وإن لم يكن
المخبر به متصفًا بعدالة رواة الحديث أكثر ما نسمعه كل يوم ممن نعاشر ونخالط من
أصدقائنا ومعاملتنا وأهل بيوتنا وخدمنا من الإخبار عن أمور معيشتنا كقولهم:
حضر الطعام وهيئ الحمام وجاء للزيارة فلان. ومن هذا القبيل كل خبر لا مجال
للتهمة فيه. وأما إخبارهم فيما يتهمون فيه فهي التي يُرتاب فيها، ويحتاج إلى
القرائن والأدلة في تمييز راجحها من مرجوحها، مثال ذلك مدح النفس والدفاع عنها
والطعن في الخصوم، ورواية الغرائب والعجائب، فالأخبار في مثال هذه المسائل
يكثر فيها الكذب والخلط، إما بالعمد أو بعدم الضبط أو بسوء الفهم والاستنباط، أو
بضعف البيان، أو بتقليد الآباء أو الأموات، وما يتبع ذلك من الوهم، ومن خطأ
الحس والرأي.
فمن وعى ما ذكرنا وتدبره يعلم منه ما يعلم من نفسه إذا هو فكر في مصادر
علمه، والأخبار التي يحدث بها والتي يتلقاها عن غيره، وهو الأصل في إخبار
جميع الناس الصدق، وأن الكذب إنما يقع لأسباب عارضة، وأنه هو وسائر الناس
يصدقون في كل يوم كثيرًا من أخبار الآحاد حتى غير العدول وتصديقًا جازمًا لا
يزاحمه شك ولا احتمال، ولا يخطر لهم فيها النقيض على بال، ومنها ما يجزمون
باستحالة وقوع نقيضه عادة وإن جاز عقلاً، كبعض أخبار العدول الثقات الضابطين
الخالية من الشبهات، ورجال الحكومة المسئولين في الرسميات.
بل أقول: إن من هذه الأخبار ما يجزم العقل بصدقه وامتناع نقيضه، وأعني
بالعقل هنا العقل البشري الذي يبني حكمه على الاختيار، ويزنه بميزان رعاية
المصالح ودفع المضار، لا عقل واضعي المنطق والفلسفة، الذي يجيز وقوع كل
ما يمكن تصوره، ويحصر وقوع المحال في اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وما
يؤدي إلى مثل ذلك حتمًا.
وقد تحير هؤلاء في تعريف العلم حتى قال بعضهم: إنه لا يمكن تعريفه.
ومن أشهر أقوال مدققي متكلمينا في ملكة العلم: إنها صفة توجب انكشافًا لا يحتمل
النقيض. فالعلم بالشيء عندهم لا يمكن نقضه ولا الرجوع عنه، فلو كان هذا العلم
شرطًا في كل مسألة من مسائل العقائد لكان الكفر بعد الإيمان محالاً، ولكن قد ثبت
وقوع الكفر بعد الإيمان بنص القرآن، فالعلم الذي لا يحتمل النقيض ليس شرطًا
لصحة الإيمان، وإنما الشرط أن يكون المؤمن جازمًا بما يعتقد، غير مرتاب ولا
متردد، وقول الأستاذ الإمام: الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق
كلاهما قليل في الناس. أراد به اليقين المنطقي، وأراد بالرجوع عنه إظهار
الجحود والمخالفة كبرًا واتقادًا، فإن اعتقاد نقيض المتيقن ليس في استطاعة الموقن
إلا إذا اختلط عقله، واختل فهمه، هذا قليل الوقوع كالرجوع عن الحق كبرًا وعنادًا
بعد الإذعان له، إذ أكثر المعاندين للحق المستكبرين عنه الذين قال الله في بعضهم:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ} (النمل: 14) لم يكن ذلك الجحود
منهم بعد إذعان، أو لم يكن استيقانهم على شرط علم الكلام وفلسفة اليونان.
وإذا فكر السائل في العلوم النقلية وطريقة أدائها وتعليمها عند البشر من جميع
الأمم رأى أن أكثر أخبارها المقطوع بها يتلقاها الآحاد بعضهم عن بعض، فإذا
اشترطنا فيها ذلك العلم الكلامي واليقين المنطقي، وأن لا نعد شيئًا منها حقًّا ثابتًا إلا
إذا تلقيناه بالتواتر اللفظي، فكيف تكون حالنا في معارفنا التاريخية، وما يُبنى عليها
من علومنا الاجتماعية وأعمالنا السياسية، وفي سائر العلوم التي ينقلها بعضنا عن
بعض؟
بعد هذا كله أقول: إنه لم يعرف عن أحد من شعوب البشر مثل ما عرف عن
المسلمين من العناية بنقد الأخبار النبوية وتمحيصها، وضبط متونها وحفظ أسانيدها،
بل كانوا ينقلون الأخبار التاريخية والأدبية والشعر والمجون بالأسانيد المتصلة،
ووضعوا كتب التراجم لجميع أصناف العلماء والأدباء كما وضعوها من قَبْل لرجال
الحديث، ليسهل طريق العلم بالصحيح وما دونه من ذلك، ولكنهم دققوا في نقد
رجال الحديث ما لم يدققوا في شيء آخر، فإذا كان ما صح من الحديث عندهم متنًا
وسندًا لا يجزم به فبماذا نثق من أخبار البشر، وإذا كان المسلم منا يصدقها فكيف
يمكنه أن يرد مضمونها إذا كان في عقائد الدين، بناء على كلمة عرفية للمتكلمين؟
الحديث الصحيح عند المحدثين: ما ثبت بنقل عدل تام الضبط متصل السند
غير معلَّل ولا شاذ وينافي العدالة عندهم ثبوت الكذب، وكذا الاتهام به والفسق
والغفلة وكثرة الغلط والجهالة - أي: كون الراوي مجهولاً عند علماء الجرح
والتعديل، ولولا هذا الشرط لاخترع الكذّابون أسانيد كثيرة لا أصل لها وخدعوا
الأمة بها - وكذا البدعة، فمن كان مبتدعًا لشيء من أمر الدين لم يكن عليه أهل
الصدر الأول ليحكم بصحة حديثه، قيل: مطلقًا وقيل: فيما يؤيد بدعته وهو
المعتمد، بل لا بد لثبوت ذلك من روايته عن غيره.
والضبط عندهم ضبط الصدر وضبط الكتاب، فالأول الحفظ عن ظهر قلب
بحيث يتمكن من استحضار ما حفظه متى شاء، فإن غلط أو أخطأ في الأداء لا يعد
حديثه صحيحًا، والثاني حفظ الكتاب منذ سمع فيه وصححه على من تلقاه عنه إلى
أن يؤدي منه، فإذا غاب عنه غيبة أمكن أن يعرض فيها التغيير والتحريف أو
الزيادة أو النقصان لا تعد روايته له ولا منه صحيحة.
واتصال الإسناد سلامته من سقوط فيه بحيث يكون كل فرد من رواته قد سمع
ذلك المروي من شيخه، ويقابله الانقطاع، وهو أقسام، فالحديث (المنقطع)
وهو ما سقط من سنده بعض الرواة لا يعد صحيحًا، إلا أنهم اختلفوا فيما سقط منه
من بعد التابعي ويسمونه (المرسل) وذلك كأن يقول التابعي: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- كذا.
فالجمهور يتوقفون فيه، وبعضهم يحتج بمراسيل من عُلم من حاله أنه لا
يروي إلا عن الصحابة أو ثقات التابعين كسعيد بن المسيب، دون مَن يروي عن
غيرهم كالحسن البصري ومن (الانقطاع) عندهم (التدليس) وهو رواية الراوي
عمن فوق شيخه الذي سمع منه بلفظ يوهم السماع منه إيهامًا لا تصريحًا، كأن يقول
المدلس: قال فلان - أو عن فلان، وقد اختلفوا في حديث المدلس فقيل: لا يُقبل
مطلقًا وقيل: إلا فيما صرح فيه بالسماع، والجمهور على قبول حديث من لا
يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة.
ولأجل هذا شددوا في قبول الحديث (المعنعن) أي الذي يقال فيه: عن فلان
عن فلان. فقالوا: عنعنة المدلس غير مقبولة، واشترط مسلم في العنعنة معاصرة
الراوي لمن روى عنه، والبخاري اشترط العلم باللقي ولم يكتف بمجرد المعاصرة
فإذا قال العدل الثقة الضابط: عن فلان أو قال: قال فلان: كذا لا يعتد البخاري
بروايته هذه إلا إذا كان قد علم أنه قد لقي ذلك الرجل واجتمع به، ولكن مسلمًا
يكتفي بالعلم بأنهما وُجدا في عصر واحد، ومن الممكن أن يكون لقيه وروى عنه.
ومن أقسام الحديث عندهم (المضطرب) وهو ما يقع في إسناده أو متنه
اختلاف من الرواة بتقديم وتأخير أو زيادة ونقصان أو اختصار أو حذف أو إبدال
راوٍ براوٍ أو متن بمتن أو تصحيف في أسماء الرواة أو ألقابهم أو أنسابهم أو في
ألفاظ المتن. فإن أمكن الجمع وعرف الأصل وإلا توقف في قبول الحديث
والاحتجاج به.
ومنها (الشاذ) وهو ما خالف راويه فية من هو أوثق منه فإن لم يكن
المخالف للثقة ثقة سُمي حديثه (المردود) وإن كان ثقة رجح عليه مخالفة الذي هو
أوثق منه وسمي حديثه (المحفوظ) فهو مقابل الشاذ. ومنها (المنكر) وهو ما
خالف رواية الضعيف فيه من هو أضعف منه، ويقابله (المعروف) وكلاهما
راويه ضعيف لا يحتج بحديثه. ومنها (المعلّل) وهو ما فيه علة خفية كوصل
المنقطع ورفع الموقوف وإدخال حديث في آخر أو إدراج كلام الرواي في المتن
أو الإدراج في سياق الإسناد.
ولو شئنا أن نبين تدقيق علماء الجرح والتعديل في نقد رواة الحديث لرأى فيها
غير المطلعين عليها من القراء ما لم يخطر لأحد من أمثالهم على بال. ولعلموا منه
أن أكثر من يعدونهم من الثقات الصدوقين من أهل هذا العصر، ولو كانوا في
أزمنة أولئك النقاد لما عدوا روايتهم صحيحة ولو لعدم إتقان الحفظ والضبط. ومن
تدقيقهم أنهم يعدون بعض الرواة ثقات في الرواية عن أهل قطر دون آخر، كقولهم:
فلان غير ثقة في المصريين أو الشاميين؛ لأنه كان عرض له عند الرواية عنهم
اختلاط في العقل، أو هرم خانته به الذاكرة وفقد جودة الضبط.
وقد وضعوا كتبًا ببيان الأحاديث الموضوعة خاصة بينوا فيها وفي غيرها
أسباب وضع الحديث والكذب فيه وعلامته وأسماء الوضّاعين والكتب والنسخ
الموضوعة برمتها التي لا يصح منها شيء كما وضعوا عدة كتب للأحاديث التي
اشتهرت على الألسنة وبينوا درجاتها، وميزوا بين الصحيح والحسن والضعيف
والموضوع منها. ولكن عناية العلماء بنقد المتون وعرض الأحاديث القوية الأسانيد
على القواعد التي بينوا بها علامات الوضع كانت أقل من العناية بنقد الأسانيد، وقلّ
أن يهتم المنتمون إلى المذاهب بنقد متون الأحاديث إلا إذا كانت مذاهبهم مخالفة لها
فكان هذا من سيئات التعصب للمذاهب.
***
نتيجة البحث وخلاصة الجواب
فمن فقه ما شرحناه علم أن أكثر الأحاديث الأحادية المتفق على صحتها لذاتها
كأكثر الأحاديث المسندة في صحيحي البخاري ومسلم- جديرة بأن يجزم بها جزمًا لا
تردُّد فيه ولا اضطراب، وتعد أخبارها مفيدة لليقين بالمعنى اللغوي الذي تقدم، ولا
شك في أن أهل العلم بهذا الشأن قلما يشكون في صحة حديث منها، فكيف يمكن
لمسلم يجزم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر بكذا ولا يؤمن بصدقه فيه؟
أليس هذا من قبيل الجمع بين الكفر والإيمان؟ وليعلم أنني أعني بالمتفق عليه هنا ما
لم ينتقده أحد من أئمة الفقهاء وغيرهم، ومن غير الأكثر ما تظهر فيه علة في متنه
خفيت على المتقدمين أو لم تنقل عنهم وذلك نادر. وقد عدَّ بعضهم هذه الأحاديث
المتفق على صحتها مفيدة للعلم اليقيني الاصطلاحي إذا تعددت طرقها،
قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر ما نصه:
(فائدة) ذكر ابن الصلاح أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم يعز وجوده
إلا أن يدعي ذلك في حديث: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وما
ادعاه من العزة ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة
الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن
يتواطئوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقًا، ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر
موجودًا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا
وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث
وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطأهم (فيه) على الكذب إلى آخر الشروط أفاد
العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ.
__________
(*) هذه تتمة الأجوبة عن الأسئلة المستنبطة من الكتاب الذي نشر في الجزء الذي قبل هذا.(19/342)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الزار
وهل اعتقاد تأثير الولي
والعِفريت فيه شرك جلي؟
(س9) مِن أحد المشتركين في القاهرة - ع. م
حضرة الأستاذ العلامة المفضال السيد رشيد رضا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أهنئكم أولاً بسلامة العودة من الأقطار الحجازية المباركة وأدعو
لكم الله -سبحانه وتعالى- أن يجعله حجًّا مبرورًا إن شاء الله.
سيدي استشكل علي أمر بخصوص ما يسمونه (الزار) الذي يستشفي به
بعض (الجاهلات) من النساء من أمراضهن العصبية فأحببت أن أعرضه عليكم
راجيًا التكرم بالإجابة ولو تأشيرًا على هذا بصفة خصوصية.
(إحدى السيدات مصابة بمرض عصبي: يأتيها غالبًا على نوبات ربو وآلام
شديدة بالمعدة والكليتين مع الصداع وسُعال وضعف عمومي شديد، وخصوصًا في
ابتداء كل مرة من الحمل، عَرَتها هذه الحالة منذ خمسة عشر عامًا بعد زواجها بقليل
ثم إنها على صلاح وتقوى، وقد كانت لا تعتقد بمسألة الزار ولكنها تحت تأثير
كلام النساء خصوصًا أقاربها من والدة وأخوات اعتقدت أخيرًا وتوهمت أن أحد
الأولياء أو أحد العفاريت هو الذي أصابها بهذا المرض الهستيري من زمن
وصممت على عمل حفلة الزار بمصاريف من عند أهلها في منزلهم لا في منزل
زوجها الذي عارض في ذلك بشدة لعدم اعتقاده بمثل هذه الخرافات، ولم يرضَ
بخسارة دينه في مصاريف باطلة على عقيدة باطلة) .
والآن ألا ترى سيادتكم أن اعتقاد هذه السيدة تأثير الولي الفلاني أو العفريت
الفلاني يؤدي بها إلى الشرك الجلي، وفي هذه الحالة تصبح محرمة على زوجها
المسلم الصحيح (غير الجغرافي أو السياسي) الذي لا يعتقد بتأثير وليّ أو نبيّ؟
فتفضلوا بإفادتي عن ذلك ولو كلفكم الجواب شيئًا من التفصيل. وتفضلوا بقبول
مزيد تشكراتي وجزيل ممنونيتي سلفًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(ج) يذكر جمهور علماء الكلام أن الإيمان بوحدانية الأفعال عبارة عن
التصديق الجازم بأنه لا فعل لغير الله -تعالى- في الحقيقة، فكل ما يقع في
الكون من خير وشر ونفع وضر فهو من فعل الله -تعالى- وحده، ويصرح
الأشعرية في كتب العقائد بأن الأسباب الظاهرة للحوادث - ومنها كسب الإنسان
وغير الإنسان من الملائكة والجان - لا تأثير لها في نفسها، وإنما يخلق الله
المسببات والمكسوبات عندها لا بها، فلا فرق بين النار والماء في حصول
الإحراق والإرواء، إلا أن عادة الله قد جرت بخلق الإحراق عند مس النار
واتصالها بالجسم القابل للاحتراق وخلق الإرواء عقب خلق شرب الماء، ولكن
الشرع أمر بالكسب، كالتداوي والأكل والشرب، فينبغي القيام بالمشروع منه
وهو ما جرت سنة الله -تعالى- بجعله سببًا مطردًا، وما كان سببًا غير مطرد
كرُقية الملسوع وما في حكمه فإتيانه ينافي التوكل وكمال الإيمان والتوحيد،
وما كان دون ذلك مما لم يثبت كونه سببًا ألبتة أو قامت عليه شبهات وهمية
باطلة اغتر بها بعض العوام في بعض البلاد -كالزار في بلاد مصر
والسودان فلا عذر لمؤمن في الإقدام عليه أي لأنه من الجبت [1] الذي هو
عبارة عن خرافات الكهنة والسحرة، ومن اعتقد أن ولي الزار أو شيخه ينفع،
ولو بقدرة خلقها الله فيه ومزية أعطاه إياها وأن عفريتة يضر ولو بقدرة خلقها
الله فيه أيضًا - فهو عند هؤلاء المتكلمين مشرك بالله -تعالى- فالخطر
على منتحلي خرافات الزار وغيرها شديد في مذهب هؤلاء المتكلمين الذين
ينتمي إليهم أكثر الخرافيين.
وأما مذهب غير هؤلاء من المتكلمين ومحققي أهل الأثر من الحنابلة وغيرهم
فهو أن الله -تعالى- جعل الأسباب مؤثرة بخواص من خلقها فيها كالإحراق في
النار والإرواء في الماء، ومقاومة سير المرض في الدواء، ومنها إرادة
الإنسان وعمله الاختياري، ولكن هؤلاء يقولون كغيرهم: إن الأسباب تعرف
بالتجارب والاختيار، وتكون مشتركة بين جميع المجربين من الناس،
واتخاذ الأسباب الوهمية مذموم شرعًا وعقلاً، وأنه لا تأثير لمخلوق فيما وراء
الأسباب التي جرت سنة الله في الخلق بربط المسببات بها، فمن اعتقد أن غير
الله -تعالى- ينفع أو يضر بذاته دون ما جرت به سنته -تعالى- في الأسباب أو
بتأثيره في إرادة الله -تعالى- وقدرته، بأن يفعل الله -تعالى- بتأثيره عنده
شيئًا لم يكن لولاه ليفعله بمحض إرادته حسب علمه الأزلي- فهو مشرك بالله
كافر بوحدانيته، لاعتقاده أن لغيره فعلاً وتأثيرًا معه بقدرته الذاتية - وهو
المنفرد بذلك- أو بتأثيره في إرادته - والإله الخالق القديم لا يكون محلاًّ
للتأثيرات الحادثة، ويستحيل أن تكون إرادته تابعة لإرادة أحد من خلقه، الذين هم
تحت تصرف قدرته وقهره.
إذا تدبر السائل هذا ظهر له أن التصديق بخرافة الزار خطر على الدين،
وأنه ليس من شأنه أن يقع من أهل التوحيد الصحيح، لا على مذهب المتكلمين،
ولا على مذهب الأثريين، وإنما يقع مثله ممن يأخذون دينهم عن أمثالهم من
الجاهلات والجاهلين، كغوغاء العوام الذين يقلد بعضهم بعضًا في أمور الدنيا
والدين، كالعادات السخيفة والعلاجات الضارة، المبنية على تجارب فاسدة
ناقصة.
ولكننا مع هذا كله لا نجزم بكفر امرأة تصدق ببدعة الزار، ولا نجعلها
به مشركة بالله -عز وجل-، بل يجب أن نحتاط في مثل هذا الحكم، وندفع
الجزم به قبل العلم بحقيقة اعتقاد المرأة ولو بالشبهات، كما يجب أن تحتاط
تلك المرأة باتقاء التصديق بهذه الخرافات، التي يخشى أن تكون شركًا جليًّا أو
خفيًّا ولو على بعض الأقوال، فنقول نحن عملاً باحتياطنا: يجوز على هذه
المرأة أن تؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله -تعالى- خالق كل شيء وهو على كل
شيء وكيل، وأن ما اقتضته إرادته وجرى به قَدَره من ربط الأسباب
بالمسببات، هو عامّ مطرد في المخلوقات، وأنه لا قدرة لمخلوق على شيء
خارج عن سنته -تعالى- في الكائنات. بل جميع الخلق سواء في العجز عما
وراء الأسباب، كما أنهم سواء في جريانها فيهم وخضوعهم لها، وانحصارهم
في حظيرة قهرها. ويجوز أن يعرض لها وهي على هذا الاعتقاد مرض
فيخبرها من تظن فيهم الصدق وعلم التجربة والاختبار، أن سبب هذا المرض
ملابسة عفريت من الجن لها، وأن غيرها قد أصيب بمثله قبلها، وأنهم جربوا
له كل علاج فلم ينجح فيه إلا تلك الفعلة الشنعاء وحدها، وأن علة نفعها أن
العفريت الذي يلابس المريض في هذا المرض يزعجه ما يكون في حفلة الزار،
من الذنوب والأوزار، حتى يلجئه إلى الفرار، بين تلك الأغاني والمعازف،
والعزائم والعزائف، والقرابين والذبائح، وما في التضمخ بدمها من الفضائح،
ويجوز على هذا المرأة أن تصدق هؤلاء المخبرين الضالين المضلين، ولا سيما
بعد اليأس من معالجة الأطباء المشهورين، وأن تعتقد أن ذلك لا ينافي
الإيمان؛ لأن طرد الشياطين من الأبدان، كطرد الجراد ونحوه من المزارع
والغيطان، فهو من الأسباب الكسبية، التي جرت بها السنن الإلهية، ويجوز
أيضًا أن تعلم أن عمل الزار حرام، وأن المستحل لما يعتقد حرمته يعد مرتدًّا
عن الإسلام، كالجاحد للمعلوم من الدين بالضرورة من مسائل الإجماع، ثم
تقول: إنني لا أستحله، ولكنني آخذ بقول من قال: إن التداوي بالمحرم جائز
إذا لم يوجد غيره.
فإذا جاز أن تعتقد المرأة ما ذكرنا، وإن كان باطلاً في نفسه فكيف تتجرأ
على الإفتاء بردتها، وبطلان عقد نكاحها، وسائر ما يترتب على الردة من
الأحكام؟
أما ما يحسن أن توعظ به امرأة تدرك ما ذكرنا فهو أن خرافة الزار القبيحة
المنكرة ليست سببًا من أسباب الشفاء من هذا المرض، وإن ما يُدعى من التجربة
المثبتة لنفعه باطل، وأنه عُمل لكثيرات فلم يفد، وأن من اتفق أنهن شُفين
بعده لم يكن شفاؤهن به بل بأسباب أخرى حقيقية أو وهمية، وأنه لو
كان علاجًا نافعًا بالتجربة الصحيحة لعملت به جميع الشعوب التي فاقت غيرها
في العلوم والمعارف، المبنية على إتقان التجارب، ولكننا نرى هؤلاء
يسخرون من هذه الخرافة وأهلها، التي هي محصورة في مصر والسودان بل
في الطبقة الجاهلة من أهلهما، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تقدم العمل بخرافة
أدنى ما يقال فيها: إنها مشتملة على عدة بدع محرمة في الدين، محتقرة عند
جميع المرتقين.
__________
(1) راجع تفسير (يؤمنون بالجبت والطاغوت) في ص 156 ج 5 من التفسير.(19/349)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(15)
المعالجة- يجب البدء بعلاج مدخل هذا الميكروب في الجسم، بأن يعالج
الإحليل في الذكر مثلاً علاجًا فعالاً، وتعالج المفاصل بالقلويات وبيودور البوتاسيوم.
وينبغي مراعاة القوانين الصحية باستنشاق الأهوية الجيدة وتعاطي الأغذية السهلة
الهضم والمقويات كمركبات الحديد وزيت السمك ونحوهما، ويدلك المفصل ببعض
المراهم المسكنة أو الزئبقية، أو يدهن بصبغة اليود. وتجب إراحته من الحركة
مطلقًا، ولكن بعد زوال الالتهاب الحاد ينبغي دلك المفصل وتكبيسه وتليينه باليد.
والعلاج باللقاح أفاد في بعض الأحوال خصوصًا في الإصابات المزمنة أي
التي طالت مدتها، والأفضل أن يؤخذ الميكروب من نفس المريض، ولكن هذا
العلاج يحتاج إلى مدة طويلة.
ويجب البدء بحقن مقادير صغيرة من اللقاح ثم تُزاد بالتدريج، ولا يجوز
الحقن الثاني إلا بعد تمام زوال كافة الأعراض التي قد تنشأ من الحقن الأول.
وهناك مصل لعلاج هذا الداء أيضًا لا يخلو من الفائدة.
***
استدراكان
(الأول) جاء في مجلة [اللانست Lancet] الطبية الإنكليزية الصادرة في
12 أغسطس سنة 1916 رأي لأحد أطباء الإنكليز في عدوى الالتهاب السحائي
الوبائي، وملخصه: أن ميكروب هذا الداء هو عين ميكروب السَّيَلان- لا شبيهًا به
فقط كما قلنا سابقًا- وأن قمل الجسم هو الذي ينقله من شخص إلى آخر إما
بامتصاص دم المصاب بالالتهاب السحائي وتلقيح الآخرين به إذا انتقل القمل إليهم.
أو بتلوث القمل به مما يسيل من المصاب بالسيلان في ملابسه من الصديد ونقله إلى
غيره فيدخل الميكروب تحت الجلد ويسير في الأوعية اللمفاوية إلى السحايا وغيرها
كالمفاصل التي قد تلتهب أيضًا في هذا المرض، وأنكر هذا الطبيب انتقال
الميكروب في الهواء ودخوله من الفم والأنف.
وقال: إن المصاب بالسيلان ذاته عنده شيء من المناعة فلا تصاب سحاياه
إلا قليلاً. فإذا صح هذا الرأي- والغالب أنه صحيح- سهلت مقاومة هذا الداء
الخبيث وتيسر اجتنابه. ومن هذا الرأي تفهم بعض حكم الاستنجاء وطهارة الثوب
ونظافته، ونظافة الجسم بالغسل والحلق، وغير ذلك من شرائع الديانة
الإسلامية الغرَّاء التي شرحناها سابقًا. وترى مما تقدم أن القمل يقتل بالحمى
التيفوسية والراجعة وبالالتهاب السحائي أكثر مما تقتل العقارب والثعابين. وذلك
يحقق أيضًا المثل العامي القائل: (وضع -تعالى- سره في أضعف خلقه) وترى
منه أيضًا مقدار الخطر الذي يتهدد كل من يتردد إلى مواخير الفسق، فإن أكثر
الزواني مصابات بالسيلان الحاد أو المزمن، وبعضهن يُرى بملابسه وفراشه القمل.
(الثاني) إن من أسهل الطرق لتطهير الماء والخضر ونحوها من
الميركوبات أن يذاب في الماء [بي سلفات الصوديوم] وتسمى أيضًا [كبريتات
الصوديوم الحمضية] بنسبة 2: 1000 ويترك الماء مدة نصف ساعة، فإن حامض
الكبريتيك الذي يوجد فيه يقتل تلك الأحياء الدنيئة وأجنة ديدان [البهارسية
Mieracidia Cercariae] ولا ضرر من شرب هذا الماء...... وإذا نقعت
فيه الخضر مدة نصف وساعة تطهرت كذلك. ويجوز أن تطهر به الأواني الخزفية
والزجاجية ونحوها ما عدا المعدنية فإن الأفضل تطهيرها بالغلي. وهذه الطريقة
نافعة جدًّا إذا اتبعت في زمن انتشار أوبئة الحمى التيفودية والكوليرا والدوسنطاريا
وغيرها مما يتلوث به الماء والخضر، فإنها كافية للتطهير بدل الغلي الذي لا يحسن
لبعض الخضر والفاكهة.
***
تسمم الدم
لهذا الداء ثلاثة أشكال:
(الشكل الأول) : أن تدور سموم الميكروبات في الدم، ويسمى ذلك
باليونانية [سيريميا Sapraemia] ومعناها حرفيًّا: الدم الفاسد.
(الشكل الثاني) : أن تدور الميكروبات مع سمومها في الدم، ويسمى ذلك
باليونانية [سبتيسيميا Sepaticaemia] ومعناها حرفيًّا: الدم المتعفن.
(الشكل الثالث) : مثل الشكل الثاني غير أنه يزيد عليه بتكون أخرجة في
عدة أجزاء من الجسم، ويسمى ذلك باليونانية [بيميا Pyaemia] ومعناها حرفيًّا:
الدم الصديدي.
وجميع هذه الأشكال تنشأ من ميكروبات الصديد وهي على الأكثر من الشكل
البزري، ومنها ما يكون عنقوديًّا أو سلسليًّا. والسلسلية هذه أشدها خطرًا كما سبق
ومن الميكروبات العنقودية ما يكون لونه أبيض أو أصفر، ويشاهد ذلك إذا
تجمعت منها جموع كثيرة في المزارع الصناعية. وهناك بعض ميكروبات لها
أشكال أخرى تحدث الصديد كباسل الصديد الأزرق [Pyocyaneus] ومن
ميكروبات الأمراض الأخرى ما يحدث الصديد أيضًا كميكروب الحمى التيفودية
والدرن.
والميكروبات البزرية المذكورة منتشرة كثيرًا وهي من أكبر ما يخشاه
الجراحون في عملياتهم فيتقونها بالتطهير التام بالغلي وغيره، فإنها إذا وجدت أي
سحج أو جرح في الجلد أو الأغشية المخاطية دخلت فيه وأحدثت التهابًا فتقيحًا،
وتذوب الأنسجة ويتجمع بسببها عدد لا يحصى من الكريات البيضاء فينشأ من ذلك
المدة والصديد ونحوهما. فإذا أصابت سطح الجلد نشأت منها الدمامل والبثور
ونحوها، وإذا أصابت الأنسجة الغائرة نشأت الأخرجة وما شاكلها، وإذا أصابت
الأغشية المخاطية التهبت وحدث منها الزكام ونحوه.
وإذا كانت الإصابة صغيرة ومحدودة ولم يدخل الميكروب إلى الدم قل حصول أي
توعك أو حمى؛ لأن السموم التي تمتص في البنية تكون حينئذ قليلةً جدًّا، ولكن إذا
كان موضع الالتهاب كبيرًا نشأت الحمى بسبب امتصاص سموم الميكروبات في
البنية، ونشأ الشكل الأول المذكور هنا، فإذا دخلت هذه الميكروبات إلى الدورة حدث
الشكل الثاني، وقد تدخل من أي جرح مهما يكن صغيرًا، وإذا رسب بعض هذه
الميكروبات الممتصة في أجزاء الجسم المختلفة تكونت حولها وبفعلها أخرجة. وهذا
هو الشكل الثالث. وطريق امتصاص الميكروب في الشكل الثاني هو الأوعية
اللمفاوية وفي الثالث الأوردة، وفيها يدخل أيضًا بعض مواد التهابية عفنة مع
الميكروب.
أما أعراض الشكل الأول فهي ارتفاع حرارة الجسم مع سائر الأعراض
الأخرى للحمى، وكذلك أعراض الشكل الثاني والثالث، غير أن المعتاد فيهما أن
تبتدئ الحمى برعدة شديدة ويشتد المرض على المريض حتى يكون كالمصاب
بالتيفوس، فيعتريه الهذيان والذهول والهمود وكافة الأعراض الشديدة لتلك الحمى،
وتكون مدة المرض في هذين الشكلين قصيرة وتنتهي بالموت غالبًا. وفي التسمم
الصديدي تكثر الرعدة وتحصل يوميًّا مرة أو مرتين، وفي كل مرة تظهر التهابات
فأخرجة جديدة ويكثر العرق عقب كل رعدة ويصاب المريض بالهمود وينحف
جسمه بسرعة ويصفر لونه وقد يصاب بالقيء الكثير أو الإسهال، وقد تزول
الرعدة بعد خمسة أيام أو ستة. وتكون الحمى في هذا الشكل متقطعة مرتفعة في
المساء ومنخفضة في الصباح عادة، وقد تصل إلى الدرجة الطبيعية خصوصًا في
أول المرض. وتختلف باقي الأعراض لاختلاف العضو المصاب بالأخرجة، فإن
لكل عضو مصاب بها علامات وأعراضًا مخصوصة. ومدة هذا المرض لا تزيد
عن ستة أيام غالبًا ولا تمتد إلى ما بعد العاشر كذلك، اللهم إلا إذا أزمن المرض
وحينئذ لا تصاب الأحشاء، وإنما تتكون الأخرجة في المفاصل أو تحت الجلد. وإذا
شُقَّت كلها وعولجت قد يشفى المريض بعد عدة أسابيع أو أشهر.
ومما يساعد على حدوث تلك الأشكال المذكورة عدم الاعتدال وغيره مما
يضعف البنية كبعض الأمراض المزمنة مثل التهاب الكلى أو البول السكري، ولكن
لا يحصل أي شكل منها ما لم يوجد في الجسم مدخل للميكروب.
العلاج - تفتتح الأخرجة وتتطهر وتمض يوميًّا فإن كانت الحمى ناشئة عن
امتصاص السموم فقد شفي الجرح وشفي المريض أيضًا، وإن كانت الميكروبات
دائرة في الجسم تعثر الشفاء أو تعذر، ويعطى المريض المنعشات والمغذيات
وتراعى معه جميع الوسائل الصحية.
أما الأدوية فهي قليلة الجدوى، ولكن استعمال الحقن بالمصل المتعدد القوى
[Polyvalent] أي المُحضَّر بحقن عدة أنواع من الميكروب أفاد في كثير من
الأحوال، وتجب تجربته إذا دخل الميكروبات البنية سواء أحدثت أخرجة أم لم
تحدث.
الوقاية - من تسمم الدم بجميع أنواعه- أن يتقي الإنسان كل ما يحدث جرحًا
أو سحجًا في الجسم وإن كان صغيرًا. فإذا حدث بالرغم من احتياط الإنسان وجبت
المبادرة إلى تطهير الجرح وتضميده والمواظبة على ذلك يوميًّا حتى يشفى.
ويراعى في ذلك اتباع جميع قوانين علم الجراحة في تطهير الأيدي والآلات
والضمادات وغيرها مما يمس الجرح. وإذا تكون خراج في الجسم وجب الإسراع
إلى شقه وتطهير جوفه وتصريف ما يتكون فيه من المدة والصديد بأسرع ما يمكن
بحيث لا يتراكم فيه شيء منها خوفًا من امتصاص الميكروب أو سمه في البنية.
ولعلم الجراحة في ذلك من الوسائل العلمية المعقولة ما فيه الكفاية من شر هذا الداء
وقانا الله منه.
***
السعال الديكي
Whooping Cough
مرض يصيب الأطفال كثيرًا بين السنة الأولى والثامنة، وحدوثه للبنات أكثر
منه للذكور. وتقل إصابته لمن كان عمره فوق ذلك؛ لأن أكثر الناس يصابون به
في صغرهم وهو يحميهم من الإصابة به مرة أخرى بل هو في ذلك أكثر وقاية من
الحميات الأخرى ذوات الطفح. ويحدث انتشاره بشكل أوبئة لا تأثير لحرارة الجو
أو غيرها فيها، وكثيرًا ما تكون هذه الأوبئة عقب أوبئة الحصبة.
هذا المرض ينتقل من شخص إلى آخر بطريق العدوى، فإذا كثر اختلاط
الأطفال بالمصابين به انتشر المرض بينهم، وقد يتنقل بواسطة الملابس الملوثة
بميكروب هذا الداء إذا أصابها شيء من بصاق المصاب.
وكان القدماء يعتقدون عدوى هذا الداء نظرًا لما يشاهدونه من انتشاره بين من
يخالط المصاب، ولكن لم يكتشف ميكروبه إلا سنة 1906 والذي اكتشفه باحثان
اسمهما [بورديه Bordet] و [جنجو Gengou] .
وهذا الميكروب من الشكل الباسيلي يشبه كثيرًا ميكروب النزلة الوافدة غير
أنه أطول منها وأغلظ منها، ولا حبيبات له ولا حركة. يشاهد كثيرًا في أوائل
المرض في المخاط الثخين الخارج في آخر النوبة من الشُعب الرئوية الصغيرة،
وكثيرًا ما يكون مختلطًا بميكروب النزلة الوافدة.
الأعراض: - مدة التفريخ نحو عشرة أيام، ويبدأ المرض بإصابات بسيطة
بالسعال تشبه السعال الناشئ من التعرض للبرد. وقد يكون هذا السعال مصحوبًا
بحمى خفيفة ويستمر إلى نحو سبعة أيام أو عشرة. ثم يُسمع هذا الصياح
المخصوص الذي يشبه صياح الديك، ولذلك شبه هذا المرض به، فبينما يكون
الطفل المصاب في لعبه تنتابه نوبة من السعال تمتاز بحصول نحو 15 أو 20 مرة
من الشهيق المتوالي في زمن 7 أو 10 ثواني ثم يعقبها زفير له هذا الصوت
المخصوص، ويتكرر ذلك مرة أو أكثر حتى يخرج من صدر المصاب قطعة
صغيرة من البلغم اللزج أو يتقايأ ما في جوفه. والسبب في حصول هذا الصوت
اقتراب الحبلين الصوتيين أحدهما من الآخر فيضيق ما بينهما، أو أنهما لا يتسعان
بالسرعة المطلوبة حين حصول الزفير. وفي أثناء هذه النوبة يحتقن الوجه أو
يزرق وينتفخ وتكاد تخرج العينان منه، ويتدلى اللسان، وقد تخرج الثنايا قيده
فيبصق المريض الدم. ويكون الطفل في أثناء ذلك غير قادر مطلقًا على منع هذا
السعال، وقد يصاب من شدته بنزف من الأنف (الرعاف) أو من فمه أو يحصل
النزف تحت الملتحمة؛ وفي أحوال نادرة يصاب بنزف في مخه، وهذه النوب
تحصل بلا سبب معروف وإنما قد يهيجها بكاء الطفل أو إغضابه أو نزع ملابسه.
ويقال: إن النوب أكثر في الليل منها في النهار. وعدد مراتها في الليل يتراوح
بين مرة واحدة وستين مرة. وفي أكثر الأحوال لا تزيد عن ثلاثين في كل 24
ساعة. ويكون الطفل في الفترات التي بين النوب كأنه في صحة تامة ولا حمى
عنده ما لم يتضاعف المرض، وقد تكون شهوة الطعام عنده جيدة. ومدة هذا الطور
من الداء تمتد إلى ثلاثة أسابيع أو ستة بل قد تطول إلى ثلاثة أشهر أو أكثر، ثم
تأخذ النوب في القلة تدريجيًّا حتى تزول تمامًا أو يعقبها سعال بسيط كالسعال الأول
بدون صياح ويمكث بضعة أسابيع. وهذا المرض قل أن يميت ما لم يشتد تشنج
المزمار أو يحصل نزف في المخ. وقد يحصل الموت بسبب مضاعفات هذا الداء.
المضاعفات والعقابيل (العواقب) - من مضاعفات هذا الداء النزلة الشعبية
أو الشعبية الرئوية فترتفع الحمى ويضيق نفس المريض كثيرًا، وفي كثير من
الأحوال يزول حينئذ هذا الصياح المخصوص كما أنه يزول في كافة المضاعفات
الحمية الأخرى. ومنها التهاب الأذن والتشنجات. ومن العقابيل استمرار النزلة
الشعبية والأمفيزيما [1] الرئوية (أي تمدد حويصلاتها وفقدانها مرونتها وانفتاح
بعضها في البعض الآخر) والدرن الرئوي وهو قليل الحصول في هذا المرض.
الإنذار- هذا المرض قد يطول جدًّا ولكنه في الغالب يُشفى منه المريض ومن
النادر أن يموت به الشخص غير أن الموت قد يحدث بسبب بعض المضاعفات أو
العقابيل المذكورة.
المعالجة- يسكن المصاب في غرفة دافئة متجددة الهواء، ولا يجب عليه
التزام الفراش ما لم يتضاعف المرض. وهناك أدوية كثيرة لتقصير مدة المرض
وتخفيف وطأته، ومن أحسنها [البلادونا [2] Belladonna] فيعطى من صبغتها
نقطتان أو ثلاثة ثلاث مرات في اليوم للطفل الذي يبلغ عمره سنتان ولمن هو أكبر
نقطًا أكثر بحسب السن، وهناك مواد تستعمل أيضًا استنشاقًا لتطهير الشعب؛
ولكنها قليلة الفائدة، ومن أحسن العلاجات تغيير الهواء والسكنى بجوار البحار فإن
ذلك مما يقصر مدة المرض.
***
الالتهاب الرئوي
Pneumonia
هذا المرض نوعان: (1) نوع يصيب حويصلات الرئة يسمى الالتهاب
الفصيصي (2) ونوع يصيب جزءًا عظيمًا منها ويسمى الالتهاب الفصي،
ويختلف النوعان اختلافًا كبيرًا من الوجهة الميكروبية والمجهرية والعرضية.
أما النوع الأول فقد يكون ابتدائيًّا أو تابعيًّا لمرض آخر، وهو كثير الإصابة
للأطفال والشيوخ، وليس له ميكروب مخصوص بل يوجد فيه أنواع عديدة،
منها: ميكروبات الصديد المعتادة، أو ميكروبات المرض الذي سبب هذا الالتهاب
الرئوي كالدفتيريا أو الحمى التيفودية أو الأنفليونزا أو الطاعون.
وأما النوع الثاني وهو كثير الحصول للشاب، وقد يصيب أيًّا كان غيرهم،
وهذا المرض يشبه كثيرًا الحميات الأخرى العفنة كالحمى التيفوسية وينتهي مثلها
بالبحران. وينشأ غالبًا من ميكروب من النوع البزري المزدوج اكتشف في معمل
باستور في ديسمبر سنة 1880 وهذا المرض هو المقصود بالكلام هنا، ومنه نوع
خطر ينشأ من باسيل اكتشفه [فردلندر Friedlander] سنة 1880 ولكنه قليل
الحصول فإن 95% من الإصابات بهذا الداء تنشأ من الميكروب الأول البزري.
الأسباب- يحدث هذا المرض للذكور أكثر من الإناث بنحو الضعف،
ويصيب الناس في جميع الأعمار من سن الطفولية إلى سن الشيخوخة، ولكنه أكثر
حصولاً للشبان إلى أن يصلوا إلى متوسط العمر (من 35 - 50) ينتشر هذا
المرض في فصلي الشتاء والربيع حينما يكثر تغير درجة حرارة الجو فجأة،
وحينما يكون الهواء مشبعًا بالرطوبة أو البرد.
ومما يساعد على حصوله كثرة التعرض لتيار الهواء وضعف البنية وإجهاد
العقل وقلة التغذية، والانهماك في السُّكْر أو الجِماع.
وهذه الأشياء تجعل المصاب به ضعيف المقاومة جدًّا بحيث يكون شفاؤه
متعسرًا، والوفاة به كثيرة الحصول. والإصابة به لا تحمي من معاودته، فقد
شُوهد أن بعض الأشخاص أصيب به نحو 15 أو 20 مرة، ولكن في الغالب أن لا
يصاب به الشخص سوى مرتين.
يوجد ميكروب هذا الداء حتى في لعاب السليم وفي حفر أنفه، فإذا ضعفت
البنية بمثل الأسباب المذكورة هاجمها الميكروب وأحدث بها المرض. وقد يتصل
بالإنسان أيضًا من شخص آخر مصاب بالالتهاب الرئوي ويكون حينئذ أقوى وأضر
وهذا الميكروب يحدث التهابات في أعضاء الإنسان الأخرى مثل البليورا والشغاف
والمفاصل والسحايا، وقد يحدث أخرِجة بالأحشاء وتحت الجلد.
ولم يجزم العلماء إلى الآن إن كان وصول الميكروب إلى الرئة من طريق
الشعب أو من طريق الدم، فقد شوهد وجوده في نفس الدم، فإذا ضعف عضو
بسبب ما رسب الميكروب من الدم فيه. وهو يصيب عدة حيوانات كالفئران
والأرانب والكلاب. أما الحمام والدجاج فلا يصيبها بشيء. وطوله يتراوح بين 5. .
من الميكرون و75. 0 منه. ويظهر تحت المجهر كأنه محاط بغلاف أو هالة
صافية اللون يكون فيها عادة بزرتان أو أربع.
الأعراض- يبتدئ المرض فجأة برعدة شديدة، وترتفع الحمى بسرعة زائدة
إلى 39 أو 40 مع كافة أعراضها الأخرى المعروفة وأحيانًا (تشاهد النملة على
الشفتين) ثم يشعر المريض بضيق في نفسه، وآلام في الجنب المصاب، ثم يكثر
السعال، ويكون بصاقه صديئًا- كأن به صدأ من الحديد لاحمرار لونه- ويكون
شفافًا خاليًا من فقاقيع الهواء لزجًا بحيث يشتد التصاقه بالأواني ويشاهد في هذا
البصاق الميكروب.
وللأطباء علامات خاصة لتشخيص هذا الداء تدرك بالقرع والسمع وغيرها
من طرق البحث الشهيرة.
وتستمر الحرارة عالية مدة المرض كلها، ويكون خد المريض وجبهته محتقنة
يعلوها قليل من الصفرة أحيانًا، ويكون تنفسه سريعًا جدًّا حتى قد تصل مراته إلى
80 في الدقيقة، ويسرع نبضه ويقل بوله، وقل أن يعتريه الهذيان بخلاف الحميات
الأخرى، إلا في بعض الحالات الشديدة فقد يهذي ليلاً، وبعد اليوم السادس أو
الثامن تنخفض الحرارة فجأة في مدة 12 أو 18 ساعة، بحيث تصير طبيعية،
ويبتل اللسان بعد الجفاف ويحس المريض بالتحسن العام، ولكن هذا البحران قد
يصحبه إسهال أو عرق كثير وفي أكثر من نصف الإصابات تنخفض الحرارة
بالتدريج، فتصير طبيعية بعد 4 أيام أو 5، وفي كلتا الحالتين يتحسن النبض
والتنفس حين انخفاض الحرارة، وتزول العلامات الطبيعية التي يعرف بها المرض
من الصدر، ويزول لون البصاق الأحمر فيصير مصفرًّا أو مخضرًّا، ويكون به
صديد وتقل لزوجته، ثم يصير بالتدريج طبيعيًّا.
والموت يحصل غالبًا من وقوف القلب، أو من إصابة الرئة الأخرى السليمة
فيسرع التنفس والنبض، ويزرق الوجه، ويكثر الهذيان ويعقبه الغيبوبة فالموت،
ويكون الموت عادة بين اليوم الخامس والعاشر، ومن المرضى من يموت في اليوم
الثاني أو الثالث.
والالتهاب الرئوي يصيب قاعدة الرئة أكثر من قمتها، والجهة اليمنى أكثر من
الجهة اليسرى، وقد يصيب الرئتين معًا، ولكنه يعجل بإحداهما قليلاًعن الأخرى.
وإذا أصاب الرئة احتقنت بالدم، وثقل وزنها، واحمر لونها، وصار قوامها
هشًّا بعد الوفاة، وامتلأت حويصلاتها بكريات الدم الحمراء والبيضاء وغير ذلك من
مواد الدم بحيث تكون خالية من الهواء، ثم تمتص الكريات الحمراء، وتزدحم
الحويصلات البيضاء فيتغير لون الرئة من الحمرة إلى اللون السنجابي، وفي كلتا
الحالتين يكون قوام الرئة كمنسوج الكبد حتى سماه الأطباء (بالتكبد) .
المضاعفات- جميع المضاعفات تنشأ على الأكثر من انتشار ميكروب
الالتهاب الرئوي في الأعضاء الأخرى فقد تلتهب البلورا، وقد ينسكب في تجويفها
مصل أو صديد. ومن المضاعفات أيضًا التهاب الشغاف أو العصاب أو الكليتين أو
البريتون أو السحايا أو المفاصل وغير ذلك.
الإنذار- عدد الفويات في هذا المرض نحو 17% من الإصابات. والمرض
خطر جدًّا لغير المعتدلين ولضعفاء البنية. ومما ينذر بسوء العاقبة الهذيان الشديد أو
الذي يحصل في أوائل المرض، وضعف النبض والزرقة والتهاب الرئة كلها أو
امتداده إلى الرئة الأخرى.
المعالجة- يجب على المريض أن يلتزم الفراش في الحال. وفي وقت شدة
المرض يبقى معتمدًا بظهره على شيء بحيث يكون رأسه مرتفعًا على الفراش قليلاً.
ويجب أن تكون الغرفة متجددة الهواء نقيةً، والغذاء من السوائل السهلة
الهضم المغذية كاللبن والمرق ونحوها، تعطى بمقادير صغيرة متكررة. وينبغي أن
تطلق الأمعاء بالمسهلات، وتعطى للمريض المواد المعرقة مع قليل من المسكنات
لتخفيف ألم الجنب والسعال. ومما يخففه أيضًا اللبخ الساخنة على الجنب الملتهب
أو ورق الخردل الصناعي، ومن الناس من يضع على الرئة الملتهبة أكياسًا فيها
ثلج لتخفيف الألم وخفض الحرارة، وهذا العلاج المذكور كافٍ في الحالات البسيطة
فإذا اشتدت وطأة المرض وضعف القلب وكثر الهذيان وجب إعطاء المريض
المنعشات كالإستركنين والديجينالا والنوشادر أو قليلاً من الخمر (مثل 3 أو 4 أواق
في اليوم) . وكلوريد الكلسيوم (10 قمحات كل 4 ساعات) يقال عنه: إنه مقو
للقلب فإن أكثر الخوف هو من وقوفه.
فإذا ازرق المريض وضاق نفَسه وخيف عليه من الاختناق أو من وقوف
القلب وجبت المبادرة إلى فصده أو على الأقل تركيب العلق على الصدر لسحب
جزء من الدم. ولا خوف من سحب 10 أو 12 أوقية من الدم إذا كان الشخص
قوي البنية ممتلئًا به. واستنشاق الأكسيجين نافع جدًّا في هذا المرض، وكذلك
كربونات النوشادر (5 إلى 7 قمحات كل 3 أو 4 ساعات) لإخراج المواد
المتراكمة في الشعب.
أما استعمال المصل أو اللقاح فلم تظهر له فائدة كبيرة.
فإذا جاوز المريض طور البحران وجبت مساعدته بالأدوية المقوية والأغذية
الجيدة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لفظ يوناني معناه: إدخال الهواء أو النفخ لانتفاخ الرئة في هذا المرض.
(2) كلمة إيطالية معناها حرفيًّا (السيدة الحسناء) تطلق على نبات شهير عند الأطباء كان نساء إيطالية يستعملنه لتجميل وجوههن، ومن أصوله الفعالة مادة سامة جدًّا تمدد الحدقة فتجعل العين نجلاء.(19/353)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بلاد العرب
وأحوالها منذ الأعصر الخالية
نشرت مجلة الشرق والغرب التي أنشأها دعاة النصرانية (المبشرون) لبثّ
دعوتهم بمصر مقالة تحت هذا العنوان قالت: إن ما أوردته فيها هو نتيجة ما
وصلت إليه مباحث العلماء الذين بنوا أقوالهم على ما اتصل بهم من أشتات
الروايات ذات الطرق العديدة القديمة (فأخذوها وطبقوها على اعتبارات جغرافية
وجيولوجية- قالت- ولعل أشهر علماء الإفرنج الذين عالجوا هذا الموضوع البحاثة
(قيطاني) - أو كاتياني كما يعربه آخرون- الإيطالي الذي اشتهر بتصنيفاته
العديدة عن العرب والإسلام من وجهة تاريخية اقتصادية، وقد بنينا هذه العجالة
على ما جاء في مؤلف من أحدث مؤلفاته) .
ونقول نحن: إن هذا المؤرخ الإيطالي قد اشتهر عند الترك وبعض العرب
بتشويهه لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أشرف سير البشر؛ لأن
الاتحاديين ترجموا ما كتبه فيها بالتركية كما بينا ذلك في منار هذه السنة (ص 163
ج 3) ولكن مباحث هذا المؤرخ المدقق في تاريخنا مما لا نستغني عنه ونود لو
تترجم كلها، ونحن ننقل عن هذه المجلة ما اقتبسته عنه من المباحث المهتمة بحالة
جزيرة العرب الجيولوجية وطبيعتها الجغرافية، ومهاجرة أهلها منها إلى حيث
أقاموا بناء الحضارة القديمة، وهذه عبارة المجلة بنصها لم نصحح منها إلا عبارات
قليلة.
لقد أثبتت المباحث الحديثة أن الإنسان وجد على الأرض قبل المسيح بألوف
من السنين، وأن بلاد العرب كانت مأهولة كأقدم بلاد العالم، فكيف كانت حالة
العرب في ذلك العهد الخالي يا ترى؟
لا ريب في أنها كانت تختلف كل الاختلاف عما هي عليه الآن. والمعروف
عنها الآن- ومنذ عدة مئات من السنين أيضًا- أنها برِّية قاحلة ذات أرض جرداء
خالية من الماء [1] على أنها في الأعصر الجيولوجية كانت على خلاف ذلك. فقد مر
على قارتي آسيا وأوروبا زمن كان فيه قسماهما الشماليان أشد بردًا مما هما عليه
الآن. وكان الفرق بين الصيف والشتاء أشد وضوحًا مما هو الآن. فكان الهواء في
الصيف أكثر امتصاصًا للرطوبة فيزداد به هطل الثلوج في الشمال وهطل الأمطار
في الجنوب. وبناء عليه كانت أجزاء عديدة من آسيا وإفريقيا بقاعًا مخصبة جدًّا
وهي الآن قفار جرداء، وما الأودية الكاشفة سوى بحار كانت تتدفق فيها الأنهار.
ومن تلك البلاد بلاد العرب، فقد كانت سلسلة الجبال التي في غربها تتقي
رياح السَّموم وتجري منها أنهر على هضاب أواسط بلاد العرب وتصب في خليج
العجم. ومن تلك الأنهار نهر الدواسير الذي كان يجري في وادي الدواسير، وكان
منبعه في الهضاب المكية. وكذلك نهر الرماح الذي كان يصب مع نهر الدواسير
في خليج العجم.
ولا يخفى أن للحالة الجوية تأثيرًا عظيمًا في السكنى، وهذا يبين لك لماذا
كانت بلاد العرب مهد الشعوب السامية. وخلاصة ذلك أنه في تلك الأزمنة الطيبة
كانت البلاد غاصّة بالسكان بخلاف حالتها الآن.
ثم بدأت الأحوال الجوية في نصف الكرة الأرضية الشمالية تتغير بالتدريج
فقل امتصاص الهواء للرطوبة وقل هطل الأمطار. وأصبحت البلاد التي بين أوربا
والمنطقة الحارة تشعر بذلك التغيير العظيم. وبتمادي الزمن بدأ شمالي إفريقيا وبلاد
العرب يجف، فصارت الملاين التي تسكن بلاد العرب تشعر بعدم ملاءمة
البلاد لسكناها.
ولا حاجة إلى القول بأن الرحيل عن بلاد العرب استغرق ألوفًا من السنين
وكان تدريجيًّا، وبهذه الطريقة يمكن تعليل توالي هجرة الشعوب السامية. ولم تكن
كلها غزوات أي هجرات ناشئة عن اعتبارات حربية بل كان معظمها ناشئًا عن
اعتبارات سلمية بحتة كهجرة الإيرلنديين اليوم إلى أمريكا، وكانت آخر تلك
الهجرات أعظمها شأنًا وقد حدثت عند ظهور الإسلام يوم فتحت أبواب بلاد العرب
وأخذ سيل المهاجرة يتدفق منها شرقًا وشمالاً وغربًا.
وكان لتلك الحركة غايتان تتفقان مع طبيعة البلاد الجغرافية؛ إذ لا يخفى أن
شبه جزيرة العرب مقسومة إلى قسمين:
(1) البلاد العربية الغربية (وهي اليمن والحجاز) ومنفذها سورية إلى
الشمال الغربي ومصر والحبشة على سواحل البحر.
(2) الوسط الشرقي ومنفذه الطبيعي العراق وما بين النهرين. أما القسم
الجنوبي من بلاد العرب (أي حضرموت) فقائم بنفسه.
فسيل المهاجرة من بلاد العرب كان يتدفق إذًا شمالاً إلى فلسطين وسوريا أو
غربًا إلى مصر والحبشة. أو شمالاً شرقيًّا إلى العراق ووادي دجلة والفرات.
وقد وقعت أول هذه المهاجرات عند أول فجر التاريخ. ثم تبعتها المهاجرات
الأخرى في الأزمنة التاريخية المعروفة.
(1) المهاجرة الأولى- قبيل فجر هذا التاريخ قام بهذه المهاجرة شعوب
سامية نزحوا إلى العراق ومعهم شعوب سومريون فتألفت منهم الأمة البابلية، ويعتقد
العلامة (قيطاني- أو- كاتياني) أن المصريين القدماء الذين دخلوا وادي النيل عن
طريق البحر الأحمر واستعمروا أولاً مصر العليا كانوا ساميين، وقد هاجروا في
نفس الزمن الذي هاجر فيه مواطنوهم إلى العراق. ومما يؤيد هذا الرأي أن في
اللغة المصرية القديمة آثار سامية عديدة منها الكاف ضمير المخاطب المفرد
المضاف إليه [2] .
(2) أما المهاجرة الثانية فقد وقعت في أول عهد التاريخ المعروف أي بين
ستة آلاف و2500 قبل المسيح، وكان اتجاه سيل هذه المهاجرة أيضًا إلى شمال
العراق وجنوبه ويتضمن حروب سرجون الملك السامي الشهير.
(3) وأما المهاجرة الثالثة فقد وقعت من سنة 2500 إلى سنة 1500 قبل
المسيح وفي أثنائها نزح الآشوريون الساميون من بلاد العرب وأسسوا مملكة أشور
وعاصمتها نينوى على أعالي دجلة، وفي ذلك الزمن عينه نزح الرعاة (الهكسوس)
من غربي البلاد العربية إلى مصر وغزا الفينيقيون غربي سوريا واجتاح
الكنعانيون فلسطين.
(4) هجرة الآراميين: بعد سنة 1500 قبل المسيح وانتشر الأراميون في
وادي الفرات وسوريا فأصبحت لغاتهم لغة التجارة؛ إذ كان بيدهم طريق التجارة المار
بحلب ومن الشعوب السامية التي لم تنزح من بلاد العرب القبائل الصائبية
والحميرية والعرب الذين كانوا يتكلمون العربية الحديثة. وكانت هذه اللغة قد نشأت
بتمادي الزمن نشوءًا بطيئًا جدًّا. أما سبب عدم هجرة هذه الشعوب فهو لأن غربي
بلاد العرب كان أكثر خصبًا من شرقيها، وقد كان طريقًا للتجارة بين الهند والبحر
المتوسط يمر باليمن والحجاز وينتهي إلى غزة وهذا يأتي بنا إلى:
(5) ظهور الإسلام. وليس هذا أول مرة ظهرت فيها القبائل المتكلمة
باللغة العربية لتستوطن البلاد المجاورة فإن بعضها سبق فاستوطن غسان والحيرة
والعراق ومهَّد الطريق للعرب الذين كانوا في أيام محمد -صلى الله عليه وسلم-
فعودوها المهاجرة والاستيطان، وكانت بلاد العرب قد ضاقت مرة أخرى بأهلها
الساميين الذين اشتهروا بالقوة والبأس والذكاء وكثرة النمو. ومما يدل على ضيق
الوسائل الاقتصادية في تلك البلاد بأهلها فقرهم المدقع وعوزهم وعادة وأد البنات
عندهم. أما قواهم المتزايدة فكانوا ينفقونها في محاربة بعضهم بعضًا وفي شن
الغارات والغزوات إلى أن بدت طلائع تلك النهضة الدينية فجمعت بين القبائل
المتخاصمة وجعلتهم يوحدون قواهم ويوجهونها إلى الخارج. وهكذا فتحت أبواب
العربية وخرج العرب ليغزوا البلدان في سبيل الله وسبيل الجامعة العربية.
وقد كان بين أولئك العرب رجال ذوو صفات ومآرب مختلفة، فمنهم الشديد
القوي كعمر، والقائد المحنك كخالد، ومنهم المجازف، ومنهم المسوق إلى الحرب
بطمع الأسلاب [3] . على أن عامل الدين هو الذي فتح لهم السبيل ومهده ومنحهم قوة
ولكن كان للعوامل الاقتصادية التي أشرنا إليها والتي كانت تؤثر في بلاد العرب
منذ أقدم الأزمنة شأن يذكر وكان الجانب الأكبر من جيش محمد -صلى الله عليه
وسلم- رجالاً قد دانوا حديثًا بالإسلام فكانوا يقبلون عليه أو يرتدون عنه بسرعة
عظيمة؛ لأن معرفتهم كانت ناقصة، ولا شك أن أمثال أولئك ما كانوا ليتمسكوا
بعروة الإسلام لولا ما رأوه من الانتصارات التي يؤتاها جيش المسلمين، ولولا
انقلابهم من ضيق العيش إلى سعته [4] . وكان في جيش الميدان الغربي مئات من
المكيين الذين أيدوا الأمويين فيما بعد ولا يزال المسلمون يقولون حتى اليوم:
إنهم لم يكونوا على شيء من الإسلام وأمثال أولئك كانوا يعتبرون أنفسهم في بيئة
هي عربية أكثر منها إسلامية.
أما حروب الإسلام التي أفضت إلى مزج العرب بأهالي البلاد التي افتتحوها
من بخارى شرقًا إلى أسبانيا غربًا فقد كانت عبارة عن مهاجرة هي آخر المهاجرات
السامية من شبه الجزيرة بلاد العرب ولم تحدث مهاجرة بعد ذلك أو بمقدار صغير
جدًّا لا نزال نشاهد آثاره حتى اليوم وهو ناتج عن نفس الأسباب التي أفضت إلى
المهاجرات السابقة أي إمحال بلاد العرب.
أما النتيجة فهي ظهور القوة الكامنة في الأمة العربية ظهورًا بيِّنًا واتخاذها
مجرى جديدًا وبيئة مثمرة.
وقد ذكر الأستاذ هركرونجه أن عرب حضرموت الذين هم أفقر سكان تلك
البلاد فكوا القيود التي كانت تربطهم ببلادهم وهاجروا إلى الهند وجزائر الهند
الشرقية حيث أظهروا همة عالية ونشاطًا غريبًا. فقد أصبحوا خبيرين بأمور
التجارة مع أنهم كانوا يجهلونها في موطنهم الأصلي ولا تزال الأعمال والأشغال
تنتقل إلى قبضة يدهم حتى لقد أصبح بعضهم من كبار الأغنياء , ولا ينحصر
تفوقهم في الأعمال والمتاجر فقط بل في الأمور العقلية أيضًا.
وهذه صورة مصغرة للعرب الذين نزلوا بسوريا وبلاد فارس في المائة
الأولى للهجرة. وهي تنطبق على حالة العرب عمومًا منذ ألوف من السنين حتى
اليوم، وقد أظهر دولة شريف مكة بنهضته الأخيرة أن العرب لا يزالون يأبون
الضيم ويعشقون الحرية والاستقلال، وهم يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل
الدفاع عن كيانهم. ترى هل نحن على وشك أن نرى من جانب بلاد العرب
مباغتات جديدة مدهشة كما رأى العالم منذ مئات من السنين؟
__________
(1) المنار: كان الصواب أن يقال: قليلة الماء.
(2) الأمر الأعظم من ذلك فلعل النصف أو أكثر من النصف من هذه اللغة عربي ولكن الكثير منه محرف كما علم بالتفصيل مما نشرناه في مجلد المنار الثامن عشر عن علامة هذه اللغة أحمد كمال
بك.
(3) المنار: يعني أن الجمهور الأعظم من العرب كانوا يقاتلون في سبيل الله وسبيل الجامعة العربية التي يقوم بها دينه وكتابه، وأدناهم منزلة أفراد يطمعون في الغنائم والأسلاب كما هو شأن أرقى الأمم الآن في حروبها.
(4) هذه دعوى باطلة وتعليلها الذي عللها به باطل فإن المسلمين ما انقلبوا إلى سعة العيش التي يعنيها فيعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بل بعده إذ فتحوا الشام ومصر وفارس وأين السعة في جزيرة العرب وأين ما وصفها به آنفا من الضيق؟.(19/363)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنشور الهاشمي الشريف الثاني
ذكرنا في الجزء الرابع من منار هذه السنة ملخص المنشور الأول الذي
خاطب به الشريف الأكبر صاحب مكة المكرمة مسلمي الأرض مبينًا لهم سبب
نهضة الحجازيين باستقلال العرب دون متغلبة الاتحاديين واليوم ننقل لهم نص
منشور آخر نشر في العدد الحادي عشر من جريدة القبلة الصادر في 21 ذي القعدة
سنة 1354 لتعميم فائدته والعناية بحفظه؛ لأن أمثال هذه المنشورات من أهم مواد
تاريخنا في هذا العصر، وقد ضاق عنه الجزء الخامس الذي طبع الكثير منه قبل
عودتنا من الحجاز، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: 29) لقد رأينا دفعًا للالتباس
ومنعًا لما عسى أن يحدث من التردد في حقيقة قيمنا ونهضتنا معاشر الحجازيين
الموضحة أسبابها في منشورنا الأول أن نردفه بهذه الأسطر ليكون منها لأفاضل
العالم عمومًا والمسلمين خصوصًا زيادة الاطلاع على نياتنا ومقاصدنا المتعلقة بكياننا
من حيث هو، ملتزمين فيها أقرب المواد عهدًا وأبسطها دلالة.
من المعلوم أن عقلاء المسلمين وذوي البصيرة من ساكني الممالك العثمانية
وسائر أقطار الدنيا غير راضين عن دخول الدولة العثمانية في الحرب الحاضرة
لأسباب جوهرية أجمعوا عليها، منها أن الدولة العثمانية قريبة عهد بالخروج من
الحرب الإيطالية أولاً والحرب البلقانية ثانيًا، وقد أصاب جيوشها وخزائنها وكل
مرافقها وعامة تشكيلاتها من الضعف والضياع والفناء ما لا يخفى تأثيره على ثروة
الدولة خاصة وثروة المملكة وأهلها عامةً، حتى كان الجندي لا يكاد يصل إلى
قريته أو إلى مكان عمله ليتحصل على ما يسد به رمقه ورمق أولاده وسائر أهل
بيته إلا ويكون قد دُعي إلى التجنيد مرة ثانية. وهكذا شأن الصانع والحمال
والمحتطب.
فالأمة التي أصيب أفرادها بمثل هذه الكوارث لا نرى حاجة إلى بيان
مصيرها ومصير دولتها إذا دفعت بنفسها في هوة حرب جديدة لا تشبه غيرها من
الحروب لا سيما وأن واردات الدولة من الضرائب [*] المفروضة على مساعي
الأفراد المنكودي الحظ بين تجارية وصناعية وزراعية.
هذا أحد أسباب التي حملت عقلاء المسلمين على استنكار دخول الدولة في
الحرب الحاضرة وهو سبب مبني على حقيقة الحالة الداخلية في كل بلاد السلطنة.
وهنالك أسباب خارجية تتعلق بالجهة التي انحازت الحكومة الاتحادية إلى
الحرب معها ضد الفريق الآخر من الدول المشتبكة في الحرب. فإن الدولة العثمانية
دولة إسلامية وبلادها مترامية الأطراف كثيرة السواحل فكانت السياسة التي سار
عليها سلاطين آل عثمان العِظام من قديم الزمان تحسين الصلات والعلاقات مع
الدول التي يسكن ممالكها القسم الأعظم من المسلمين والتي لا تزال صاحبة
الأرجحية في البحارة، فلما دخلت الحكومة الاتحادية في الحرب ضد هذه الدول
منحازة إلى فريق آخر كثير الطمع واسع الجشع لضيق بلاده عن ساكنيها تشاءم من
ذلك أهل النظر والرؤية من المسلمين لعلمهم بما يكون من نتائجه السيئة قبل
حدوثها.
ولقد كنت من جملة هؤلاء عندما سئلت تلغرافيًّا عن رأيي في هذه الحرب،
أجبت بما اقتضاه واجب النصح، وهذا مما أتخذه دليلاً على إخلاصي لهذه الدولة
وحرصي على سلامتها وصيانة بيضة الإسلام.
وها قد حصل ما كنا نخشاه، وانتهت الدولة إلى ما تخوفناه، وأصبحت حدود
المملكة العثمانية اليوم في أوربا أسوار الآستانة تقريبا. وأن طلائع جيوش الروس
تخطف الأهالي العثمانيين في ضواحي ولايتي سيواس والموصل، وطلائع
الإنكليز تسوق ألوف الأسرى من أبناء هذه المملكة في بادية العريش بعد أن استولت
على ولاية البصرة وشطر من ولاية بغداد، ولا شك في أن من تأمل هذه الحالة
ورأى أن الحرب لا تزال قائمة على ساق وقدم لا يحتاج إلى كبير عناء في استجلاء
النتيجة التي لا تخرج عن أحد أمرين فإما أن نستسلم إلى هذا الخطر الداهم حتى
نزول من خريطة العالم أو أن نسعى للخلاص منه، إننا نترك للعالم بأسره التأمل
في هذا الجواب عليه، وليس عندنا أقل ريبة في أنهم يعذروننا في نهوضنا الذي جاء
في وقته قبل أن تحيط المهالك بالبقية الباقية من هذا الملك فتأخذنا على غِرة. بل
إننا لا نتردد في مشروعية نهوضنا ووجوبه علينا. ............. ولو كنا نعلم بأن بقاءنا مرتبطين بهذه الدولة التي أصبحت ألعوبة في أيدي المتغلبين مما ينفعها
ويحفظ لها أملاكها لما تحركنا بشيء مما قمنا به، وصبرنا وتحملنا كل ما
يحملوننا إياه. ولكن أنى لنا ذلك وقد صار من المقطوع به أننا لو استسلمنا لما هم
سائرون بنا إليه لأدى ذلك بنا وبهم إلى هوة الاضمحلال التي تسقط فيها الولايات
الأخرى على مرأًى منا ومسمع.
نعم: إننا نقول هذا ونترك الحكم فيه إلى إنصاف العالم أجمع، ولكننا لا
نستطيع السكوت عن المجاهرة بأن السبب الوحيد لمحو هذه الدولة وإبادة من بقي
لها من الرعية وهم سكان الأناضول وغيرهم، إنما هو استرسال المتغلبة من
زعماء الاتحاديين وهم أنور وجمال وطلعت وأشياعهم، وخروج الدولة عن
خطتها السياسية الأساسية التي وضعها عظماء سواس العثمانيين، وهي خطة
موالاة الدولتين المعظمتين بريطانيا وفرنسا التي لا ينكر فوائدها إلا من ينكر
التاريخ، ويكفي لمعرفة أخلاق زعماء الاتحاديين ومقدار صدقهم ووفائهم أنه لم
يمض غير زمن يسير على عقد القرض الذي ساعدتهم به فرنسا وهم في أشد الحاجة
إليه حتى انضموا إلى أعدائها وأعلنوا الحرب عليها، وإننا لا نستدل على ما
ذكرناه من أخلاقهم بهذا العمل دون سواه إلا لشهرته المستفيضة بين عموم الناس
وقرب عهدنا به، أضف إلى ذلك ما يلقاه الأهالي العثمانيون لا فرق بين مسلمهم
وذميهم من ضروب العسف والجور اللذين يحجب ركامهما ضياء الشمس، لا سيما
ما ارتكبه القابضون على أزمة الحكومة من هؤلاء المتغلبة وأشياعهم أثناء هذه
الحرب من ظلم أهل ذمتنا من الروم والأرمن خلافًا لما جاءت به شريعتنا المطهرة،
ثم نهجوا هذا المنهج في أبناء العرب بالشام والعراق وغيرهم مما هو معلوم إلى
يومنا هذا كإيقاعهم بأهالي العوالي التي هي إحدى ضواحي المدينة المنورة من سبي
مخدرات العرب وسوقهن إلى الثكنات العسكرية بما تأباه الشريعة الإسلامية والشهامة
العربية.
نعم: إننا قمنا ولا يزال قيامنا ومجاهرتنا بالعداوة والبغضاء مقصودًا بهما
أنور وجمال وطلعت وشيعتهم. وإنه ليشاركنا في ذلك كل مسلم عاقل حتى أفراد
البيت العثماني، ودليلنا مع مشاركة هذا البيت الجليل اغتيال المتغلبة لعميده الشهيد
السعيد ولي عهد السلطنة المغفور له المرحوم يوسف عز الدين. وإننا نتبرأ منهم
ونظهر لهم العداوة والبغضاء، ويشترك معنا فيها كل بر وتقي من مسلمي البلاد
العثمانية وسائر البلاد الإسلامية، بسبب ما أتوه من الوبال، وما جروه على دولة
الإسلام من الاضمحلال، حتى جعلوها ضحيَّة لأغراضهم وغاياتهم النفسية، نبرأ
إلى الله منهم ونعلم أنها كلمة حق عليها نحيا وعليها نموت. وكيف لا نقول هذا
وأمامنا من عبر الدهر ما نسرده على إخواننا المسلمين ليعلموه ويعوه؟
فإن جمال باشا المتحكم في الشام وأهلها قد أمر سكان ذلك القطر الإسلامي بأن
يؤلفوا من مخدِّرات نسائهم جمعية نسائية، ثم أوعز إلى هذه الجمعية أن تأدب له
مأدبة في ناديها. وقد تم ذلك بالفعل وحضرها هو ورجال العسكرية والملكية ومن
دعاهم من سائر رجاله وأعوانه، وكان النسوة المسلمات أعضاء هذه الجمعية
يباشرن إكرام ضيوفهن. وعند ختام الحفلة شرعن في إلقاء الخطب والأناشيد بين
تلك الجماهير من الرجال كما نشرت ذلك صحف سوريا على اختلاف مشاربها
مظهرة الإعجاب والفخر إرضاء لجمال باشا. فسبحان الله -تعالى- الذي يقول في
محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) [1] وقوله
تعالى [2] : {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (النور: 31) إلخ [**] .
من هذا يعلم صراحة مراد هؤلاء المتغلبين ومقاصدهم بالشريعة الإسلامية
والعادات العربية، وفيه عبرة وذكرى لإخواننا مسلمي البلاد العثمانية وسائر إخواننا
في أقطار الدنيا ليتعظوا بذلك ولا يكون سببا لاسترسال هؤلاء الطغاة في انتهاك
حرمات الله والجرأة على مخالفة أوامره لجاهٍ يستفيدونه، أو راتب يستزيدونه، فإنه
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن كان قد وهبه الله -تعالى- قوة على
تغيير المنكر بيده أو لسانه أو قلبه فليفعل، ومن كان لديه ما يدافع به عن جرأة
هؤلاء القوم المتغلبين فليأتنا به فإننا إن شاء الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) [3] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها
... ... ... ... ... تحريرًا في 11 ذي القعدة الحرام 1334
(المنار)
ملخص هذا المنشور أن زعماء الاتحاديين عرَّضوا الدولة للهلاك
بالحرب والظلم والبغي والعدوان وعبثوا بدين الإسلام، وظلموا المسلمين والذميين،
وأن مسلمي الترك وفي مقدمتهم بيت السلطنة يعلمون ذلك كالعرب ولكنهم غُلبوا
على أمرهم، وأن بقاء البلاد الحجازية خاضعة لهم يضرها ويضر أهلها ويوقعهم
في الخطر من حيث لا ينفع الدولة ولا يغني عنها شيئًا، وإن الواجب في هذا المقام
العمل بما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله المروي في مسند أحمد
وصحيح مسلم والسنن الأربع: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فان لم يستطع
فبلسانه ... ) إلخ، وبذلك عمل صاحب المنشور هو ومن معه من أهل الحجاز فهم في
مقدمة أهل الحل والعقد في الأمة ولو لم يكن معه غير أسرته الهاشمية وعصبتهم
وأتباعهم من العرب لكفى بهم أهل حل وعقد في مهد الإسلام وأفضل بلاد الأرض،
ويليهم في هذه الصفة سائر الأمراء والزعماء في جزيرة العرب، ولم يبق في ديار
الإسلام زعماء أحرار غيرهم؛ لأن سائر علماء المسلمين وكبراءهم في الآستانة
وغيرها تحت قهر سلطة عسكرية زمامها بأيدي ملاحدة الاتحاديين ونصارى الألمان
ولما كان شريف مكة ومن شايعه من العرب قادرين على النهوض لمقاومة
منكرات الاتحاديين قاموا بالواجب الإيماني عليهم. وقد صرح في هذا المنشور بأنه
إذا ظهر له خطؤه في اجتهاده هذا يرجع عنه. وكفى بذلك حجة على جميع
المسلمين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) المنار قوله: من الضرائب- خبر إن لا بيان للواردات كما يتوهم بادئ ذي بدء.
(1) وقع في جريدة القبلة غلط في هذه الآية نصه: أي لا يعرفن فيؤذين وهو غلط مطبعي يوهم غير العارف أن معناه صحيح وما هو إلا ضد المعنى الصحيح فالمراد من الآية أن إدناء الجلابيب والمبالغة في الستر أقرب إلى أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء يؤذيهن أهل الريبة وسبب ذلك أن البغاء في بلاد العرب كان محصورًا في الإماء من عهد الجاهلية ولذلك قالت هند للنبي -صلى الله عليه وسلم- عند مبايعة النساء على ترك الشرك والسرقة والزنا: أو تزني الحرة؟ فكان الفساق من المنافقين والمشركين يعرفون الإماء بتهتكهن فيتعرضون لهن فأمر الله تعالى المؤمنات بالستر ليتميزن به فلا يتعرض لهن الفساق، ثم بطل البغاء برسوخ الإسلام حتى تركه الإماء أيضًا.
(2) لعل الأصل وقال تعالى، أو ويقول تعالى.
(**) سقط من جريدة القبلة ما بعد كلمة (إلا) الأولى إلى (إلا) الثانية.
(3) في جريدة القبلة (وإنا وإياكم) وهو غلط مطبعي طبعًا.(19/369)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
أُهدي إلينا في العام الماضي عدة مطبوعات جديدة من الكتب والصحف لم نجد
فراغًا من الوقت لنظر فيها نظرًا يمكننا من إبداء الرأي فيها، وإن منها ما يبخس
حقه إذا كتب عنه في المجلات العلمية ما هو بمعنى الإعلان الذي ينشر في
الجرائد السياسية، وقد يعد طول الزمان على السكوت عنها، أشد هضمًا لها وبخسًا
لحقها، فلهذا رأينا أن التنويه بها، بما تمليه النظرة العَجلى فيها، ربما كان كالثمد
يفضل ناجزه المستثمد الصديان، على الغمر النسيء يخاف عليه النسيان، وهو لا
يمنع من إعادة النظر فيها إذا سمح الزمان، وهذا ما جاد به الزمن الضنين الآن.
***
(كتاب شرح البيع)
(في القوانين المصرية والفرنسية. وفي الشريعة الإسلامية)
(تأليف محمد حلمي عيسى بك وكيل الإدارة القضائية للمحاكم الأهلية بوزارة
الحقانية) شرح فيه أحكام عقد البيع في قانوني المحاكم الأهلية والمختلطة المصرية
مستمدًّا من مصادرها - الشريعة الإسلامية والقانون الفرنسي- سالكًا في شرحه
مسلك المدقق المستقل بالفهم والرأي. فجاء سِفرًا كبيرًا بلغت صفحاته بضع مئات.
وطبعه في العام الماضي (1334) في مطبعة المعارف طبعًا جيدًا على ورق جيد
يليق به، وقد أقبل عليه علماء القانون أيّ إقبال، وأحسنت تقريظه الصحف أيّ
إحسان.
إن هذا المصنَّف من الكتب التي يرجع إلى مثلها الباحثون في فلسفة
الشرائع والقوانين، ويعتمدون على نقوله ومباحثه في المقابلة والتنظير بينها
وتفضيل بعضها على بعض. فلو أتيح لي أن أوفيه حقه من التقريظ والنقد يعنيني من
مباحثه الدقيقة - وهو المقابلة بين الشريعة والقوانين - لكنت قرأت ما أورده من ذلك
غكله أو الكثير منه وبينت ما يريني الله من الحق فيما أورده من الأحكام الشرعية
التي اعتمد في أكثرها على بعض كتب الحنفية. وما فاته من الأحكام في كتب
غييرهم من فقهاء الإسلام. فقد قال في مقدمة الكتاب: إنه جعل المقارنة بين القانون
المصري بقسميه وبين الشريعة على كتاب مرشد الحيران الذي ألفه قدري باشا ومجلة
الأحكام العدلية التي أوجبت الدولة العثمانية على محاكمها المدنية الحكم بها.
وذكر في أسماء الكتب التي كان يراجعها عند الشرح عدة كتب للحنفية
والمالكية، ولم يذكر بينها شيئا من كتب فقه الشافعية والحنابلة، على أن كتب هذين
المذهبين أجمع لدلائل الكتاب والسنة، وكتب الشافعية منها أشد تنقيحًا،
وكتب الحنابلة أوسع طريقًا، فلو أن المؤلف عني بكتب الحنابلة وعلماء الحديث
المستقلين كما عُني بكتب الحنفية لكان علمه بالشريعة الإسلامية أوسع، ومقابلته
بينها وبين القوانين أصح وأنفع، ومن أجل هذه الكتب كتاب المغني للشيخ
موفق الدين ابن قدامة و (المحلى) للإمام ابن حزم و (نيل الأوطار) للإمام
الشوكاني. ومن أجلّ الكتب الباحثة في حكم الشريعة (إعلام الموقعين) للعلامة ابن
القيم، وأحسن ما كتب في العقود وأنفعه فيما نعلم هو ما كتبه شيخ الإسلام ابن
تيميه ونشر في مجموعة الفتاوى التي طُبعت له، فلعل المصنف يُعنى بالرجوع
إلى أمثال هذه الكتب إذا نُقِّحَ الكتاب عند إرادة إعادة طبعه، إن شاء الله
تعالى.
***
(تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها)
(مع خلاصة تاريخ مصر والشام والعراق وجزيرة العرب وما كان بينهما
من العلائق التجارية والحربية وغيرها عن طريق سيناء من أول عهد التاريخ إلى
اليوم، لمؤلفه نعوم بك شقير مدير قلم التاريخ بوزارة الحربية بمصر، وصاحب
تاريخ السودان) وهو مجلد ضخم تزيد صفحاته على 770 طبع بمطبعة المعارف
طبعًا جميلاً، وأجمعت الصحف على حسن تقريظه والثناء عليه، وما وفاه أحد
منهم حقه، ولا شرح للناس حقيقته وكنهه، وقد كان اسم الكتاب حجابًا يخفي ما
وراءه من الحقائق التاريخية والاجتماعية والسياسية والعلمية، المتعلق أكثرها
بالعرب والبلاد العربية، من شئونها الغابرة، وحالتها الحاضرة، ولا يزال هذا
الحجاب مسدولاً على تلك المخدَّرات، ما أماطته الصحف عن ذلك الوجه، ولا
أظهرت كل ما وراءه من الجمال والحسن، على أن كشف الحجاب عن أبكار
المعاني، ككشفه عن أبكار المغاني، كل منهما يباح للخاطبين، كما يباح للمحارم
من الأهل والأقربين، وما أكثر من يبيحه للناس أجمعين، فما بال أبكار مؤرخنا
العربي لا تزال محجوبة عن خطَّابها المتعددين، وذوي قرباها الكثيرين، لذلك
الاسم الذي لا يدل إلا على جزء من مسماه، كما حجب استعداد أمتنا العربية
بالاستبداد الذي يخشاه، وحجب ما في وطننا العربي من الآثار والمعادن بجهل
الحاكم الذي يتولاه؟
ألا أيها الخطاب، لتلك الأبكار العُرُب الأتراب، لقد نصب الله لكم من يرفع
عن محاسن وجوههن الحجاب، وإن كان يخفض من أفكار من في مصر من دعاة
السفور، الذي يجزم بأنه مزيد من التهتك والفتور، ولكنه قبل رفعه، يبين لكم
سبب وضعه، فيقول: إن المؤلف لما أتيح له الوقوف على تلك الحقائق التي
يجهلها الأكثرون من تاريخ سيناء عز عليه أن تبقى مجهولة كما هو شأن محبي
العلم الذين يتعبون في تحصيله وتمحيصه، فعمد إلى تقييد أوابدها، وقنص
شواردها، بعد أن قتل مسائلها بالبحث والتدقيق تقتيلاً، وفصل القول فيها تفصيلاً،
فجاء تاريخًا مطولاً لهذه البقعة الغامرة، لم يوضع مثله لأعظم أقطارنا العامرة،
فكان مظنة الانتقاد بأنه اشتغال بالكمال من جزئيات تاريخ بلاد أمتنا العربية، قبل
الوصول إلى ما يفي بالحاجة من مباحثه الكلية، وكأن مؤرخنا اللوذعي لمح بلحظ
الغيب ذلك الانتقاد يجول في مطاوي الأفكار، بعد أن تمثل بين يديه تاريخ سيناء
سفرًا من أكبر الأسفار فأراد أن ينظم تلك المباحث الكمالية في سلك الضروريات؛
فوضع للكتاب خاتمة كانت كالمقصد من الوسيلة أو كالنتيجة بعد المقدمات.
ذلك بأنه لما كانت سيناء معقد الاتصال والارتباط بين أعظم الأقطار العربية،
أعني جزيرة العرب ومصر وسوريا، جعل خاتمة التاريخ التفصيلي لها، خلاصة
تاريخ الأقطار التي تحيط بها، ولما كانت فائدة التاريخ هي العظة والاعتبار، وكان
الفراغ من هذا الكتاب في إبّان هذه الحرب التي خاضت غمراتها الدول السائدة على
تلك الأقطار، والتي يتبدل بها ما يتبدل من أحوال الأمم والأطوار- ذكر قومه
الأقربين سوريين ومصريين، ومن وراءهم من العرب أجمعين، بأن أصل
أروماتهم واحد وهو الجنس العربي الكريم، والأصل الذي ينتمي إليه أنبياؤهم
المرسلون في مللهم ونسبهم واحد وهو خليل الله إبراهيم، وبأن لغتهم واحدة وهي
العربية، وكذلك عاداتهم ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، وهل يعذر أحد على
الرضاء بالخلاف والفرقة، بعد تجارب هذه الجواذب والدواعي إلى الوفاق والوحدة؟
كلا، لا عذر إلا الجهل أو عصبية الجاهلية، وهناك شذرات منه في بيان هذه
الحقيقة وحجبها الجلية.
قال المصنف في تمهيد خاتمة الحسنى:
(1) (إن الباحث في تاريخ مصر والشام والعراق كلما تعمق في البحث
وجد أن معظم سكان هذه البلاد كانوا في كل عصور التاريخ -كما هم في هذا العصر-
عربًا أو من أصل عربي [1] ، وكان لغتهم العربية أو أختًا لها [2] وعليه فأول
الصلات التي تربط هذه البلاد بعضها ببعض وأهمها هي الصلة الجنسية العربية) ثم
إنه جاء بزبدة تاريخ هذه البلاد أيضًا لهذه الحقيقة وقد بدأ بخلاصة تاريخ
العرب.
***
(مهد العرب)
(2) ذكر في بيان العرب أن أوجه الآراء في مهد الجنس السامي اثنان
(أحدهما) رأي مفسري التوراة، وهو أنه جزيرة العراق. (ثانيهما) رأي بعض
علماء التاريخ واللغات والعاديات [3] وفي مقدمتهم العلامة روبرتس سمث الإنكليزي-
وهو أن مهده جزيرة العرب (قال) ومنها تفرق في الشرق قبل التاريخ كما تفرق
العرب والمسلمون في صدر الإسلام، ولهم على ذلك أدلة لغوية اجتماعية، ومن
أدلتهم اللغوية أن اللغة العربية هي أقرب إخوانها- الكلدانية والسريانية أو الآرامية
والعبرانية والحبشية- إلى اللغة السامية الأصلية، وإن في الآرامية والعبرانية آثار
الحياة البدوية العربية.
(ومهما يكن من أمر ذلك المهد فإننا نرى العرب قد أسسوا في جزيرتهم عدة
ممالك اشتهرت قديمًا وحديثًا، وخرجوا من جزيرتهم للفتوحات غربًا إلى سيناء
ومصر وإفريقيا الشمالية، وشرقًا إلى العراق وتركستان، وشمالاً إلى سورية
وآسية الصغرى فأسسوا فيها عدة ممالك قبل الإسلام وبعده. فكان مهد العرب
ومسرحهم منذ القديم من المحيط الأتلانتيكي شرقًا وغربًا، ومن أهالي الفرات
ودجلة والبحر المتوسط إلى أقاصي السودان شمالاً وجنوبًا) .
***
(العرب البائدة في العراق ومصر وسورية)
(3) ذكر من تاريخ العرب البائدة أنهم كانوا يسكنون ما بين العراق
والعقبة، وينقلون التجارة ما بين بابل ومصر. ثم قال: (وما زالوا حتى ظهر منهم
في القرن الثالث والعشرين (قبل المسيح) ملك اسمه [حمورابي] فأسس مملكة
قوية عرفت (بدولة حمورابي) بلغت أسمى ما وصلت إليه دولة في العهد القديم من
الرقي الأدبي والمادي. واشتهرت على الخصوص بسن الشرائع والقوانين وبناء
الهياكل والقصور، واستمرت حاكمة إلى أواخر القرن الـ 21 قبل المسيح) .
وذكر مؤرخو العرب أن العمالقة هم الرعاة (الهكسوس) الذين ملكوا مصر في مدة
الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة. ويظن الآن أن سكان مصر وإثيوبيا
الأولين الذين سكنوا النيل قبل التاريخ هم عرب هاجروا إليه من جزيرة العرب عن
طريق سيناء أو غار باب المندب كما سيجيء.
هذا وسنرى في تاريخ سورية أن معظم سكانها الأولين هاجروا إليها من
جزيرة العرب وأسسوا فيها دولاً شتى) .
ثم ذكر خلاصة مفيدة من تاريخ العرب المتعرية والمستعربة من القحطانيين
والعدنانيين واستطرد إلى ذكر خلاصة تاريخ ظهور الإسلام وامتداد دعوته وفتوحه
ودولة العرب وغيرهم ختمًا بالدولة العثمانية، وما انتهت إليه حالها في عهد طغاة
الاتحاديين من اضطهاد العرب والعربية، وتقحمهم بالدولة أخطار هذه الحرب
الأوروبية، وحكم عليهم بأنهم أضاعوا بذلك ملكهم مهما تكن عاقبة هذه الحرب.
***
(مستقبل جزيرة العرب)
(4) وقال في شأن مستقبل جزيرة العرب بعد الحرب ما نصه: (ص
661) (وأما جزيرة العرب، فالطبيعة ورجالها تحميها، وقد أعلن الحلفاء استقلالها
تحت يد أمرائها، وأصدر (الجنرال السرجون مكسويل) القائد العام البريطاني
بمصر منشورًا وجهه إلى (العرب الكرام) بتاريخ 31 ديسمبر سنة 1914 جاء
فيه ما نصه:
(إن جلالة الملك جورج الخامس ملك الإنكليز قد أعلن أنه لا يتخذ إجراءات
حربية برية أو بحرية في بلاد العرب أو في موانيها ما لم تمس الحاجة إلى ذلك قصد
حماية مصالح العرب من اعتداء الترك وغيرهم أو إنجاد من ينهض من العرب
للخلاص من ربقة الترك) .
وبعد وصف جزيرة العرب وبيان حالها وسكانها في هذا العصر عقد فصلاً ثانيًا
لخلاصة تاريخ سورية (ص 675) .
(5) بين المؤرخ أن شعوب سورية القديمة هم الآراميون والكنعانيون
والحثيون والعبرانيون والفلسطينيون والفينيقيون (قال) (وكلهم هاجروا إليها من
جزيرة العرب أو العراق إلا الفلسطينيين) أي والذين هاجروا إليها من العراق كانوا
من جزيرة العرب فهاجروا إلى العراق قبل الهجرة إلى سورية , و (أو) في كلامه
لمنع الخلو لا لمنع الجمع فالتحقيق أن من عرب الجزيرة من هاجروا إلى سورية
توًّا، ومنهم من هاجر إلى العراق توًّا ثم هاجر بعضهم إلى سورية وبعضهم إلى
مصر.
وبعد أن قال في كل شعب من هؤلاء الشعوب قولاً وجيزًا مفيدًا وشكا من عدم
اجتماع كلمة السوريين في كل عصر من العصور ومن ضعفهم بانقسامهم واختلاف
أغراضهم وأديانهم. وذكر أن عددهم الآن ثلاثة ملايين.
(6) ثم ذكر خلاصة تاريخ العراق وذكر ممالكه القديمة والحديثة من
الكلدانيين إلى العثمانيين وذكر أن عدد سكانه يقدر الآن بثلاثة ملايين أيضًا نصفهم
بدو ونصفهم حضر وكلهم عرب إلا قليل من الأكراد [*] .
(7) ثم انتقل المصنف إلى خلاصة تاريخ مصر فبدأه بقوله:
(كان المشهور الذي عليه الجمهور أن سكان مصر القدماء هم أبناء مصرايم
بن حام بن نوح - هاجر إليها من آسية. ولكن بعض المتضلعين من اللغة
الهيروغليفية اكتشفوا حديثًا أن هذه اللغة واللغة العربية السامية هما من أصل واحد
كما مر، فإذا ثبت هذا كان سكان مصر الأولون أجداد القبط الحاليين هم من أصل
عربي قديم (وكان هذا هو الفتح العربي الأول لمصر) اهـ.
ثم تكلم على دولة الرعاة الذين سماهم اليونان (هكسوس) أي الملوك الرعاة
وهي كلمة محرفة عن كلمتي (حق شاسو) [4] في لغة قدماء المصريين
ومعناهما (ملك البوادي) وسماهم مؤرخو العرب العمالقة كما تقدم آنفًا، وذكر
خلاف المؤرخين فيهم وقول ياقوت: (إن العمالقة امتدوا من بلاد العرب إلى
سوريا فكانوا ملوكًا في سورية وفراعنة في مصر) ثم قال: (وخلاصة القول
أنهم قوم رحلة أو عرب أتوا من المشرق (فإذا ثبت ذلك كان هذا هو الفتح العربي
الثاني لمصر) والظاهر أنهم كانوا من جنس عرب سورية؛ لأن في أيامهم عم
السلام بين مصر وسورية، ونزح كثير من السوريين إلى مصر) اهـ.
(8) ثم ختم المصنف خاتمة الكتاب بالكلام على مهاجري قومه السوريين
بمصر فأشار إلى اليهود والمسلمين منهم إشارة وجيزة في صفحة واحدة لقلة عددهم
وتوسع في ذكر النصارى- قال: (وهم من نعني بالعنصر السوري عند
التخصيص) أي عند الإطلاق، فذكر قدماءهم ومتأخريهم وقدر عددهم بسبعين
ألف نسمة وثروتهم بخمسة وعشرين مليونًا، وذكر أنديتهم وجمعياتهم الخيرية
وصحفهم الحية والميتة. ورؤساءهم الروحيين وبيوت الثروة فيهم ومحالّ التجارة
الواسعة لهم ومكتباتهم ورجال الجيش والقضاء والكتاب وكبار الموظفين منهم
وأصحاب الفنون.
***
(مستقبل سورية بعد الحرب)
وقفى على ذلك الكلام على مستقبل سورية بعد الحرب فقال: إن السوريين
على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم السياسية يتفق كلهم أو جلهم على أربعة أمور:
(1) السخط على الاتحاديين سرًّا وجهرًا لدخولهم في الحرب الحاضرة.
(2) الميل الصادق إلى الحلفاء في هذه الحرب.
(3) إنشاء حكومة جديدة على مبادئ اللامركزية الشورية تضمن لهم الأمن
والراحة والنجاح في بلادهم مع المحافظة على لغتهم وتقاليدهم وعاداتهم ووحدتهم
القومية.
(4) شعورهم بالحاجة إلى دولة من دول الحلفاء العظام يتعينون بها على
تنظيم حكومتهم الجديدة. ولكنهم يختلفون في كيفية إنشاء الحكومة وتنظيمها، ثم في
نوع المساعدة التي يتطلبونها ومقدارها.
قال: نعم إن هناك فئة لا يهمهم الاحتفاظ بقوميتهم ما دامت البلاد ممتعة
بأسباب الأمن والراحة والرقي. ولكن هؤلاء هم فئة قليلة جدًّا، والسواد الأعظم من
أهالي سورية من مسلمين ونصارى ويهود متمسكون بقوميتهم ولغتهم وعاداتهم كل
التمسك. وأهل الخبرة منهم يقولون: إنه لا يكون للسوريين كلمة نافذة ولا مكانة
سياسية ولا شأن ولا مقام ولا راحة ولا سلام في بلادهم أو خارج بلادهم إلا إذا
احتفظوا بقوميتهم، واتحدوا في الرأي على اختلاف المذاهب والأديان.
وأهم الأسباب التي تدعو إلى اتحادهم ثلاثة:
(1) أن يتخذوا أساس المعاملة المصلحة العامة الوطنية ليس إلا.
(2) أن يتذكروا أنهم كلهم من أصل واحد عربي أو سامي، وأنهم كانوا
عربًا أو ساميين، قبل أن كانوا يهودًا ونصارى ومسلمين.
(3) أن يحافظوا على لغتهم العربية؛ لأنها لغة راقية، ولأنه لا شيء
يقرب العناصر المتنافرة، مثل الإجماع على لغة واحدة.
وتكلم بعد ذلك في مسألة تجنس السوري بالجنسية المصرية فيبين المرغبات
فيها وأضدادها، وأهمها أن هواء مصر شديد الوطأة على المهاجرين إلى مصر من
البلاد المعتدلة كسورية، فهو لا يزال يضعفهم إلى أن ينقرضوا، والنصارى منهم
وإن كثروا يبقون عنصرًا ضعيفًا منفردًا بسبب الفارق بينهم وبين العنصر الأكبر -
وهم المسلمون - في الدين وعدم الاختلاط بالزواج.
ثم نصح للسوريين بعشر نصائح، قال: إنها منتهى ما بلغ إليه اختباره بعد أن
جاوز الخمسين، وقضي في مصر منها أكثر من ثلاثين، وهي:
(1) أن لا ينتسبوا إلى الأصول السائدة في مهاجرهم مستحيين بأصلهم
السوري وهم أحفاد الحثيين والفينيقين السابقين إلى الاختراع والاكتشاف (أنصار
إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد الذين كانوا أول من نادى بوحدانية الله وهذَّب
الأخلاق وشاد الأديان التي تسود العالم الآن.
(2) قوله: ليكن ارتباطكم بوطنكم الأصلي حيًّا ما أمكن لتبديل الهواء أو
تجديد الدم بالزواج وأدرج في هذه الحث على الزواج الباكر والرياضة البدنية.
(3) قوله: أنتم في مصر عنصر ضعيف فاستعينوا على ضعفكم بقوات
ثلاث: العلم الشريف والمال الحلال والخلق الحسن، واحذروا آفات ثلاثًا: المسكر
والمنكر والقمار.
(4) الحث على الحِرف الراقية من علمية وأدبية وزراعية وصناعية
وخاصة التجارة مع النهي عن الربا.
(5) الترغيب عن خدمة الحكومة، وقال في الموظفين منهم: ربما كان
مجموع ثروتهم في القطر المصري كله لا يساوي ثروة تاجر أو مزارع واحد من
تجارهم أو مزارعيهم الكبار.
(7) تكريم نوابغهم وإجلال أفاضلهم وتقويم المعوج منهم تحقيقًا للتضامن
الذي يجعلهم كأنهم أسرة واحدة.
(8) التعاون على المنافع والمصالح العامة كإنشاء المعابد والمدارس
والمستشفيات وعدم تكريم الغني الذي يقصر في ذلك.
(9) قوله: لا تدعوا الاختلافات المذهبية التي أورثتكم الشِّقاق والشقاء في
بلادكم ترافقكم إلى دار هجرتكم فتكدر صفاءكم وتحرمكم لذة التمتع بالألفة الجنسية،
وذكر من وسيلة ذلك كثرة الأندية وارتباط بعضها ببعض.
(10) طاعة السلطان وقانون البلاد والعمل لنفع الأمة المصرية والحرص
على كرامتها. وختم الكلام والكتاب بأبيات في الجمع بين حب مصر والشام وجعل
قلبه شطرين بينهما وتمنى تعانقهما عناق الإخاء إلى المنتهى.
***
(جريدة القبلة)
(جريدة دينية سياسية اجتماعية تصدر مرتين في الأسبوع، لخدمة الإسلام
والعرب) مديرها المسؤول محب الدين الخطيب أنشئت هذه الجريدة بمكة
المكرمة في شهر شوال سنة 1334، ومحب الدين الخطيب المدير لشؤونها هو
صديقنا المشهور في عالم الصحافة باشتغاله عدة سنين بالتحرير والترجمة في
جريدة المؤيد بمصر، ومن المحررين لها صديقنا فؤاد الخطيب الشاعر الأديب
المشهور، الذي كان أستاذ اللغة والآداب العربية في مدرسة غردون الكلية في
السودان.
وإننا نرى أن أنفع ما ينشره محب الدين فيها بعد منشورات سيدنا الشريف
الحكيمة هو ما يترجمه عن الكتب والصحف التركية مما يبثه في الشعب التركي
كتابه من النابتة الجديدة المتفرنجة (حزب تركية الفتاه) الذين تعتمد عليهم جمعية
الاتحاد والترقي في تحويل الترك عن الإسلام بالتشكيك في عقائده وشريعته،
والتشويه لآدابه وفضائله، والمحو لصبغته من القلوب واستبدال صبغة جنسية
تورانية بها. وسنقتبس بعض ما نشرته من ذلك.
قيمة الاشتراك في هذه الجريدة المفيدة ريال مجيدي ونصف في الحجاز
وعشرة فرنكات في سائر الأقطار، وهي قيمة قليلة لعلها تفي بنفقات الجريدة، إلا
إذا كثر المشتركون فيها فصار ألوفًا كثيرة؛ لأن الورق والحبر قد تضاعفت أثمانها
في هذه السنين كما تضاعفت أثمان أكثر ما تصدره أوربة من مصنوعاتها، بعد أن
شغلتها الحرب بأوزارها عن كل ما عداها.
ونحن نحث الشعب العربي والعارفين باللغة العربية من كل من يصلي إلى
القبلة من سائر الشعوب على الاشتراك في هذه الجريدة وشد أزرها، ونحث أرباب
الأقلام منهم على مواصلتها بما تجود به قرائحهم من المقالات والأخبار والآراء
المفيدة للجامعة العربية أو للأمة الإسلامية، ونحمد الله -تعالى- أنه لا تنافي بين
المصلحتين الاسلامية والعربية كما بينَّا في مقال في كنه المسألة العربية ضاقت عنه
أجزاء المنار الماضية وهذا الجزء أيضًا، وسننشره عند أول فرصة إن شاء الله
تعالى؛ وأما العصبية التركية الطورانية التي قام بها الاتحاديون ووقفوا مال الدولة
ونفوذها على تأييدها فهي تنافي الإسلام وتعارضه وذلك بديهي في نفسه، وسنعيد ما
نشرناه في تأييده بما يزيده إيضاحًا وظهورًا.
وقد كان الواجب على المنار أن يبادر إلى تقريظ هذه الجريدة في أول جزء
صدر منه عقب ظهورها خلافا لعادته في إرجاء تقريظ المطبوعات، ولكن لكل
أجل كتاب، وإنما صرحنا بهذا ليعلم قراء المنار في الأقطار أن تأخيرنا لتقريظها لم
يكن لقلة العناية بشأنها؛ إذ نَبَّهَنَا إلى ذلك ما كتبه إلينا بعضهم في السؤال عنها حتى
من بعض مهاجري السوريين في أمريكة.
***
(مجلة الأحكام الشرعية)
مجلة قضائية شرعية مشهورة ومنشؤها حسن بك حمادة المحامي الشرعي
مشهور أيضا فلا حاجة إلى التعريف بهما، وقد كانت المجلة حجبت عن قرائها في
أثناء سنتها التاسعة بسبب تعيين منشئها مفتشًا بنظارة الأوقاف في الآستانة ثم إنه
أعاد إصدارها في العام الماضي فأتم مجلد السنة العاشرة واستمر على إصدارها،
وقد صدر العدد الأول من مجلد السنة الحادية عشرة في منتصف المحرم مشتملاً
على مقدمة مختصرة وتسع قرارات شرعية وحكمين وثلاث قرارات للمجلس
الحسبي العالي وسبع منشورات من وزارة الحقانية.
وقد صارت المجلة وافية بحاجة المحامين الشرعيين وأصحاب القضايا
والمباحث القضائية الشرعية تستوعبه من نشر الأحكام الشرعية ومنشورات الحقانية
للمحاكم الشرعية وقرارات المجالس الحسبية؛ ولذلك كثر الإقبال عليها من جميع
جهات القطر فنهنئ صديقنا منشئها ونتمنى له دوام التوفيق والارتقاء.
***
(الثمرات)
جريدة أسبوعية أدبية انتقادية لمنشئها حسن أفندي السندوبي المشهور في عالم
الأدب بمقالاته في المؤيد وبكتابه (أعيان البيان) أصدرها في العام المنصرم ولم
يمض في سيره لأسباب ذكرها، وقد أعاد إصدارها في هذا العام، فنرجو لها
الرواج.
وقيمة اشتراكها 100 قرش في القطر المصري.
***
(رحلة الحجاز)
ضاق هذا الجزء عن نشر شيء من رحلتنا الحجازية وموعدنا الأجزاء الآتية.
__________
(1) إن الذين لم يسموا عربًا كدول الفراعنة والفينيقيين كانوا أول دول الحضارة منهم من أصل
عربي.
(2) إن السريانية والعبرانية تعدان أختين للعربية؛ لأن أصلهما واحد سامي مهده الأول جزيرة
العرب.
(3) هي آثار الأمم القديمة نسبة إلى عاد الأولى العربية ثم صارت عامة.
(*) استطرد المؤرخ هنا إلى ما لم يستطرد إلى مثله في سورية من ذكر البيوتات فبدأ يذكر الفاروقيين وقال: إنهم يسكنون الموصل وفاته أن منهم فرعًا في بغداد أيضًا وثنى بذكر السادة العلويين وقال: إنهم يسكنون الموصل وبغداد والبصرة وثلث بذكر السويديين من سلالة الخلفاء العباسيين قال: وكلهم في بغداد ثم ذكر الجيلانية والآلوسية في بغداد وفاته أن هذين البيتين من بيوت السادة العلوية أيضًا وكان ينبغي أن يبدأ بذكر السادة العلوية ويقول: إنهم يوجدون في جميع الولايات العراقية كما يوجدون في جميع الولايات السورية وغيرها وأن أشهر بيوتهم في العراق بيت النقيب وبيت الآلوسي في بغداد وبيت النقيب في البصرة وقد ذكر من آل الآلوسي السيد محمود شكري وقال: إنه مروج مذهب السلف (الوهابية) في العراق وذكر الوهابية هنا غلط مبني على أغلاطه له أخرى عند ذكر هؤلاء في الكلام على نجد فإنه جعل الحنابلة غير الوهابية ونسب إلى الوهابية ما لا يقوله أحد ممن يطلق عليهم هذا اللقب ولا عجب فقد اغتر كثير من الناس بما كتبه دحلان وغيره عن هؤلاء الناس، وما ذاك إلا من فتن السياسة أعاذنا الله من إفكها وتضليلها.
(4) يحتمل أن يكون كلمة شاسوا من مادة شاس يشوس فهو أشوس وهم أشاوس والأشوس يطلق على المبتكر وأصله من يصغر عينيه وينظر بمؤخرها أو من ينظر إلى الشيء نظر احتقار- وعلى الشجاع والطويل القامة، وكذلك كانت العمالقة وربما كانت كلمة حق بمعنى ملك الميم كما يستعملها أهل الحجاز الآن.(19/374)
صفر - 1335هـ
ديسمبر - 1916م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هل البسملة آية من كل سورة أم لا؟
(س10) من صاحب الإمضاء في العلاقة (شرقية) .
بسم الله الرحمن الرحيم
تحية من الله مباركة طيبة وسلامه عليكم. وبعد: فلما دلني فضلكم وهداني
الاطلاع على ما خط يراعكم إلى ساحة يمكم الذي يغترف منه القاصي والداني
سجال العلوم والمعارف فتُروى به الظمأى ويسترشد به المسترشدون - تلك مجلة
المنار الغراء التي تتفجر ينابيع الحكمة من بين سطورها - بعثت إليكم رسالتي هذه
أستفتيكم في مسألة متعلقة بالبسملة طال بين الأئمة النزاع والمجادلة فيها، وتلك
المسألة هي هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة ومن كل سورة أم لا؟
اختلفوا فيها فذهب كل فريق إلى شق من شقي ذلك الاستفهام ونصب على ما
يدعيه الدلائل غير أنه بالاطلاع على شواهد كل يعلم أنها لا تنتج مدعاه، فلقد تركوا
الأمر مريجًا وظل كلٌّ يعول على ترجيح مذهبه كائنًا ما كان، غير مبالٍ بسرد
الأحاديث المتعارضة، ونقل الآثار المتناقضة، صحيحة كانت أم ضعيفة.
قالوا: انعقد الإجماع على أن البسملة آية من القرآن، ويروى ضمن أدلة فريق
أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما (من ترك البسملة فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله عز وجل) مع تصريحهم بأنه لا خلاف في أن البسملة ليست آية من (براءة) حتى لقد نقلوا الإجماع على ذلك، فبين ما رُوي عن ابن عباس
وبين ذلك التصريح التناقض الظاهر، إذ مقتضى قوله: مائة وأربع عشرة آية
أنها آية حتى من (براءة) وفي الأدلة من ذلك التناقض كثير؛ لهذا لم يهتدِ
طالب الحق إليه فبعثت إليكم عسى أن توافوني ببيان شافٍ، وقول فصل تطمئن
إليه النفس، كما هو المعهود فيكم لمثل هذا الموقف، أمدكم الله بسديد الرأي،
وأعانكم على ما يرفع الإسلام وينفع المسلمين ويعزز الحق إنه هو العزيز الحكيم.
(ج) في المسألة أدلة قطعية وأدلة ظنية، والقاعدة في تعارض القطعي مع
الظني أن يُرجح القطعي إذا تعذر الجمع بينه وبين الظني، ولولا التعصب للمذاهب
من قوم وللأسانيد من آخرين لأجمع المحدثون والفقهاء والمتكلمون على أن البسملة
آية من كل سورة غير براءة (التوبة) كما أجمع الصحابة على كتابتها في
المصاحف، وكما أجمع القراء السبعة المتواترة قراءاتهم على قراءتها عند البدء في
كل سورة غير براءة- فهذان دليلان قطعيان أحدهما خطي متواتر والآخر قولي
متواتر يؤيدهما كثير من أحاديث الإثبات الصحيحة، فوجب إرجاع ما ورد من أدلة
النفي الظنية إلى الإثبات وإلا فلا يعتد بها، وإن صح سندها. ومنها ترك بعض
القراء السبعة لتلاوتها في السورة التي توصل بما قبلها.
أما دعوى أنها كتبت في المصاحف للفصل بين السور فلو كانت صحيحة
لكتبوها بين سورتي الأنفال وبراءة (التوبة) أيضًا , ومن المعلوم بالقطع أن
الصحابة ومن اهتدى بهديهم لم يكتبوا في المصاحف شيئًا غير كلام لله -تعالى-.
وأما حديث ابن عباس (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لا يعرف فصل
السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) رواه أبو داود والحاكم وصححه
على شرط الصحيحين والبزار بسندين رجال أحدهما رجال الصحيح - فهو حجة
على أن البسملة كانت تنزل مع كل سورة، لا أنها آية كُتبت للفصل بين السور
بالاجتهاد، وقد توفي -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمر بكتابتها في أول سورة براءة
وعللوا ذلك بنزولها بنقض عهود المشركين وبالسيف.
وأما أحاديث الإثبات (فمنها) حديث (نزلت عليّ آنفا سورة - فقرأ- بسم
الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر) إلخ رواه مسلم والنسائي عن أنس.
(ومنها) : سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال: كانت مدًّا ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم - يمد ببسم الله ويمد بالرحمن
ويمد الرحيم. رواه البخاري.
وفي معناه حديث أم سلمة عند أحمد وأبي داود والدارقطني وقد قرأت الفاتحة
كلها بالبسملة.
(ومنها) عدة أحاديث لأبي هريرة - قال نعيم المجمر: صليت وراء أبي
هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن -الحديث وفيه- ويقول إذا
سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواه
النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: على شرط البخاري
ومسلم، وقال البيهقي: صحيح الإسناد وله شواهد (ومنها) قوله: عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم
رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده كلهم ثقات، ولكن اختلف غيره في عبد الله بن
عبد الله الأصبحي من رجاله. ومن الآثار في المسألة أن عليًّا كرم الله وجهه سئل عن
السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين. أي سورة الحمد لله.. إلخ فقيل له: إنما
هي ست، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده
كلهم ثقات.
ومنها إنكار الصحابة على معاوية ترك الجهر بها. رواه الشافعي عن أنس
والحاكم في المستدرك وقال: على شرط مسلم قال: صلى معاوية بالناس بالمدينة
صلاة جهر فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر في الخفض والرفع، فلما فرغ
ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية نقضت الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم
وأين التكبير إذا خفضت ورفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن
الرحيم وكبر. ولعل المراد الجهر بذلك وإلا لأعاد الصلاة؛ إذ لا يعذر مثله بجهل
كون البسملة منها. ويحتمل أن يكون أعادها وإن لم يذكر في هذه الرواية.
وأما أحاديث النفي فأقواها حديث أنس: صليت مع النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وله ألفاظ أخرى، ومنها: فكانوا لا
يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد والنسائي لا القراءة.
وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرّون إلخ، وقد أعلّ المثبتون حديث أنس هذا
بالاضطراب في متنه، وبما رُوي من إثبات الجهر بها عنه وعن غيره، وقال
بعضهم: إنه كان نسي هذه المسألة فلم يجزم بها، قال أبو سلمة: سألت أنسًا أكان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله
الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك.
الحديث رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح.
ومن أدلة النفي ما صح في الحديث القدسي من قسمة الصلاة بين العبد والرب
نصفين وفسرها -صلى الله عليه وسلم- بقوله: فإذا قال العبد: (الحمد لله رب
العالمين) قال الله عز وجل: حمدني عبدي إلخ الحديث رواه مسلم وأصحاب السنن
الأربعة. والاستدلال بترك ذكر البسملة فيه على عدم كونها من الفاتحة ضعيف،
ولو صح لصح أن يستدل به على كون سائر الأذكار والأعمال ليست من الصلاة.
والقول الجامع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجهر بالبسملة تارةً
ويسر بها تارةً. وقال ابن القيم: إن الإسرار كان أكثر. وذهب القرطبي في الجمع
بين الأحاديث إلى أن سبب الإسرار بها قول المشركين الذين كانوا يسمعون القرآن
منه: محمد يذكر إله اليمامة. يعنون مسيلمة الكذاب لأنه سمي الرحمن أو أطلقوا
عليه لفظ رحمن بالتنكير كقول مادحه:
وأنت غيث الورى لا زالت رحمانا ...
وكانوا يشاغبون النبي -صلى الله عليه وسلم- بإنكار تسمية الله -عز
وجل- بالرحمن كما علم من سورة الفرقان وغيرها، فأُمر -صلى الله عليه
وسلم- بأن يخافت بالبسملة. قال الحكيم الترمذي: فبقي إلى يومنا هذا على ذكر
الرسم وإن زالت العلة. روى ذلك الطبراني في الكبير والأوسط، وذكره
النيسابوري في التيسير من رواية ابن جبير عن ابن عباس، وقال في مجمع الزوائد: إن رجاله موثقون.
وصفوة القول: إن أحاديث الإثبات أقوى دلالة من أحاديث النفي. وأولى
بالتقديم عند التعارض، وإذا فرضنا أنها تعادلت وتساقطت أو ربح المنفي على
المثبت خلافًا للقاعدة جاء بعد ذلك إثباتها في المصحف الإمام في أول الفاتحة وأول
كل سورة ماعدا براءة (التوبة) وهو قطعي ينهزم أمامه كل ما خالفه من الظنيات،
وقد أجمع الصحابة على أن كل ما في المصحف فهو كلام الله -تعالى- أثبت كما
أنزل سواء قرئت الفاتحة في الصلاة بالبسملة جهرًا أو سرًّا أم لم تقرأ، ولا عبرة
بخلاف أحد بعد ذلك ولا برواية أحد يزعم مخالفة أحد منهم لذلك. ولا حاجة مع هذا
إلى تتبع جميع ما ورد من الروايات الضعيفة والآثار والآراء الخلافية، ومن ذلك
أثر ابن عباس المذكور في السؤال، ولولا التطويل الممل بغير طائل لأوردنا كل ما
ورد في المسألة رواية ودراية.
__________(19/404)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى المولد النبوي
كتبنا رسالة في ذكرى المولد النبوي الشريف بيَّنَّا فيها كيفية نشأة المصطفى
عليه أفضل الصلاة والسلام، ومعنى اصطفاء الله تعالى له ولأهل بيته ولقومه
ولأمته، وحكمة ظهوره في العرب الأميين دون شعوب المدنية في عهده، وخبر
البعثة والدعوة الإسلامية. وسنجعل لها مقدمة نبين فيها ما ينبغي بيانه نطبعها معها
على حدة، وهذا نص الذكرى:
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم حمد الشاكرين، أن بعثت فينا محمدًا خاتم النبيين والمرسلين،
وأرسلته رحمة للعالمين، واختصصت بمنتك به الأميين وسائر المؤمنين،
واستجبت به دعوة إبراهيم، وحققت به بشارة عيسى والنبيين {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: 127-129) {وَإِذْ قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُّبِينٌ} (الصف: 6) {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81)
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل
عمران: 164) {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 3-4)
نحمدك اللهم ونصلي على هذا النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا
الدين، ومن تبعهم في هداهم وهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول، عادة أحدثها
في القرن السابع الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل، من البلاد التابعة الآن
لولاية الموصل، ثم انتشرت هذه العادة في الأقطار، وقد بَزَّت مصر بها جميع
الأمصار، والفائدة التي ينبغي أن تُتَوَخَّى [1] في هذا اليوم الذي فَضَلَ الأيام، هي
التذكير بخلاصة تاريخ النبي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ليتذكر المؤمنون منة الله
عليهم ببعثته، وتتغذى أرواحهم بزيادة الإيمان وكمال محبته، ويحرصوا على إقامة
دينه وإحياء سنته. وها نحن أولاء نُشَنِّف الأسماع بفرائد من نسبه وحسَبه [2]
ومزايا قومه وعشيرته، وأخبار مولده وتربيته، وكيفية معيشته في نفسه، وزواجه
وسيرته مع أهله، تمهيدًا لبيان المقصد الأهم الأعظم، وهو نبأ بعثته صلى الله
عليه وسلم؛ مستمدين ذلك من الكتاب العزيز والسنة الثابتة عند المحدثين، وما
تمس الحاجة إليه مما أثبته ثقات المؤرخين، معرضين عن الروايات الموضوعات،
والواهيات والمنكرات، التي عُني الكثيرون بنقلها لما فيها من الخوارق والغرائب،
مبالغة فيما أجازه العلماء من قبول الأخبار الضعيفة في المناقب، ولما يُرْجَى من
حسن تأثيرها في قلوب العوام، مع الغفلة عما يُخْشَى من ضد ذلك في نابتة هذه
الأيام، على أن لنا فيما لا يُحْصَى من الفضائل والمناقب المشهورة والمتواترة، ما
يُغني عن جميع الروايات الضعيفة والمنكرة، وبذلك يعرف قدر الإصلاح العظيم،
الذي أرسل الله به هذا النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
قومه ونسبه صلى الله عليه وسلم
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل
عمران: 33) إذ جعل فيهم النبوة والهداية للمتقدمين والمتأخرين، ثم اصطفى
كنانة من آل إسماعيل بن إبراهيم، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من
قريش بني هاشم، واصطفى سيد ولد آدم من بني هاشم، فكان آل إسماعيل أفضل
الأولين والآخرين، كما كان بنو إسحاق أفضل المتوسطين؛ إذ كانت هداية الأنبياء
من بني إسحاق وغيرهم خاصة، وهداية هذا النبي من آل إسماعيل عامة، فبه
أكمل الله تعالى الدين، وأتم نعمته على العالمين، كما اقتضته سنته تعالى في
النُشوء والارتقاء، التي كانت في البشر أظهر منها في سائر الأحياء.
كيف كان اصطفاء الله تعالى لهذه الأصول من الأمة العربية، الذي ثبت في
صحيح مسلم وغيره من كتب السنة السنية؟ وبماذا امتاز قوم خاتم الرسل الكرام،
فَفَضَلوا به غيرهم من الأقوام، حتى استعدوا به لهذا الإصلاح الروحي المدني العام،
الذي اشتمل عليه دين الإسلام، على ما طرأ عليهم من الأمية وعبادة الأصنام،
وما أحدثت فيهم غلبة البداوة من التفرق والانقسام؟
الجواب:
كانت العرب ممتازة باستقلال الفكر وسعة الحرية الشخصية، أيام كانت الأمم
تَرْسُفُ [3] في عبودية الرياستين الدينية والدنيوية، محظورًا عليها أن تفهم غير ما
يلقنها الكهنة ورجال الدين من الأحكام الدينية، وأن تخالفهم في مسألة عقلية أو
كونية أو أدبية، كما حظرت عليها حرية التصرفات المدنية والمالية.
كانت العرب ممتازة باستقلال الإرادة في جميع الأعمال، أيام كانت الأمم
مذللة مُسَخَّرة للملوك والنبلاء المالكين للرقاب والأموال، يستخدمونها كما
يستخدمون البهائم، ويُصرفونها كما يصرفون السوائم [4] لا رأي لها معهم في سلم
ولا حرب، ولا إرادة لها في عمل ولا كسب.
كانت العرب ممتازة بعزة النفس، وشدة البأس، وقوة الأبدان، وجرأة الجنان،
أيام كانت الأمم مؤلفة من رؤساء أفسدهم الإسراف في الترف، ومرؤوسين
أضعفهم البؤس والشظف [5] وسادة أبطرهم بغيُ الاستبداد، ومسودين أذلهم قهر
الاستعباد.
كانت العرب أقرب إلى فضيلة المساواة بين الأفراد، من غير شرائع تُحْتَرَم
بالاعتقاد، ولا قوانين تكفلها قوة الأجناد. أيام كانت الأمم تنقسم إلى طبقات، يرتفع
بعضها على بعض عدة درجات، لا بفضائل ذاتية، من علمية أو عملية، بل بحكم
وراثة الخلف الطالحين [6] للسلف المستكبرين، باستبداد الملك أو تقاليد الدين.
كانت العرب ممتازة بالذكاء واللوذعية، وكثير من الفضائل الموروثة
والكسبية. كقِرَى الضيوف، وإغاثة الملهوف، والنجدة والإباء، [7] وعلو الهمة
والسخاء والرحمة والإيثار [8] وحماية اللاجئ وحرمة الجار. أيام كانت الأمم مرهقة
بالأثرة والأنانية [9] والأنين من ثقل الضرائب والأتاوى [10] الأميرية، ورؤساؤها
منغمسين في الشهوات البهيمية، وفساد الأخلاق قد عمَّ الراعي والرعية.
كانت العرب قد بلغت أَوْج الكمال، في فصاحة اللسان وبلاغة المقال،
وكادت تتحد لغات قبائلها أو لهجاتها العربية، وتسود المُضَرِيَّة منها على الحِمْيَرِيَّة،
بما كان لقريش وغيرها من الرحلات التجارية، والأسواق الأدبية، فاستعدت
بذلك للوحدة القومية وللتأثر والتأثير بالبراهين العقلية والمعاني الخطابية والشعرية
وللتعبير عن جميع العلوم الإلهية والشرعية، والفنون العقلية والكونية أيام
كانت الأمم تنفصم عُرَى وحدتها بالتعصبات الدينية والمذهبية، وتتفرق
وشائجها [11] بالعداوات الجنسية، وتتمزق دولها بالحروب الأجنبية والأهلية.
فتلك أمهات مزايا الأمة العربية، التي أعدها الله تعالى بها للبعثة المحمدية،
والسيادة الدينية والمدنية، بعد أن طال العهد على مدنيتهم العادية، واستعمارهم
للبلاد الكلدانية البابلية، والبلاد الفينيقية (السورية) والمصرية، التي تشهد له
سيادة لغتهم للُّغات السامية، وبقاياها في اللغة الهيروغليفية [12] وبعد أن غلبت عليهم
الأمية، وخرافات الوثنية، وعصبية الجاهلية.
وجملة مزاياهم أنهم كانوا أسلم الناس فطرة، على كون أمم الحضارة كانت
أرقى منهم في كل فن وصناعة. والإصلاح الإسلامي مبني على تقديم إصلاح
الأنفس باستقلال العقل والإرادة وتهذيب الأخلاق على إصلاح ما في الأرض من
معدن ونبات وحيوان؛ أي إن الله تعالى كان يُعِدُّ هذه الأمة بهذا الإصلاح العظيم،
الذي جاء به محمد عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم
أما اصطفاء الله لكنانة الشيخ الجليل، من سلالة نبيه الذبيح إسماعيل،
فيفسره ما كانت تحفظه العرب من أخبار كرمه ونبله، ومنها أنه كان على سُنة جده
إبراهيم الخليل لا يأكل وحده. وقد نقل الحافظ في شرح البخاري أنهم كانوا يحجون
إليه لعلمه وفضله. ومما يؤثر عنه من الحِكَم الجلية، كما روي في السيرة الحلبية:
رب صورة تخالف المخبرة، قد غرت بجمالها، واختبر قُبح فعالها، فاحذر الصور،
واطلب الخبر. فهذا دليل على ما وصف به من العلم والحكمة، وأما حج العرب
إليه فإنه دليل على أنه كان بمثابة التعارف، ومعقد رابطة الاجتماع والتآلف.
وأما اصطفاء الله تعالى لقريش الميامين الغُرُّ، وهم ذرية فهر بن مالك، وقيل:
جده النضر. فقد كان بما آتاهم الله من المناقب العِظَام، ولا سيما بعد سكنى مكة
وخدمة المسجد الحرام؛ إذ كانوا أصرح ولد إسماعيل أنسابًا، وأشرفهم أحسابًا
وأعلاهم آدابًا، وأفصحهم ألسنة، وهم الممهدون لجمع الكلمة. فقد نقل أهل
السير أن مالك بن النضر كان ملك العرب، وأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه
ويعظهم يوم الجمعة، وكانوا يسمونه يوم العَرُوبَة، وأنهم كانوا يُجِلُّونه في حياته،
ثم إنهم أرَّخُوا بموته، وأن قُصَيًّا هو الذي جمع شمل قبائل قريش بمكة؛ إذ كان
هو الوارث لمن كانوا يتولونه من خزاعة [13] . وقد تَمَلَّك عليهم فَمَلَّكُوه، إلا أنه قد
أقر للعرب ما كانوا عليه. وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره ولا
لغيره من بعده (قال ابن إسحاق) وهو الذي أنشأ الندوة، وجعل بابها إلى الكعبة،
وقد أجمعت قريش على طاعته وحبه، فكانت إليه الحِجَابة والسقاية والرفادة والندوة
واللواء، ثم وزعت المناصب بعده على الزعماء [14] .
وأفضل من ذلك كله ما وُقِّفُوا له في حداثة الرسول من التحالف الذي عُرِف
بحلف الفضول؛ إذ تعاقدوا وتعاهدوا أن لا يجدوا بمكة مظلومًا إلا قاموا معه،
وكانوا عونًا له على من ظلمه، إلى أن تُرَدَّ مظلمته. وفي حديث الزبير بن العوام
عند الطبراني، ومثله حديث أم هانئ في معجمه الأوسط كتاريخ البخاري (فضَّل
الله قريشًا بسبع خصال: فضَّلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا
قرشيّ [15] وفضَّلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون. وفضَّلهم بأنه نزل فيهم
سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين، وهي {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1) - وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة، والحجابة والسقاية) .
كان ذلك كله من ارتقاء قريش واستعداد العرب للإسلام، ولكن هذه القوى
المعنوية كلها وجهت لمعاداته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
وأما اصطفاء الله تعالى لبني هاشم، فقد كان بما امتازوا به من الفضائل
والمكارم، فقد روى أبو نعيم من حديث المستورد الفهري رضي الله عنهُ: (إن
فيهم خصالاً أربعًا: إنهم أصلح الناس عند فتنة، وأسرعهم إقامة بعد مُصيبة.
وأوشكهم كَرَّةً بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم، وأمنعهم من ظلم الملوك) . وكان
جدهم هاشم صاحب إيلاف قريش، الذي أخذ لهم العهد من قيصر الروم على
حمايتهم في رحلة الصيف، وروي أنه هو الذي سَنَّ الرحلتين، وأخذ العهود
بها من الحكومتين، حكومة اليمن العربية، وحكومة الشام الرومية، فاتسعت
بهما معيشة قريش، وأمنوا في تجارتهم من كل خوف، وقد امتن الله عليهم بذلك في
القرآن، بما عُدت به التجارة من أشرف أعمال الإنسانية، وإنما أطلق لقب
هاشم على عمرو بن عبد مناف؛ لأنه أول من هشَّم الثريد للمسنتين العجاف [16] ،
وكان يُشبع منه كل عام أهل الموسم كافة، كما أشبع منه قومه في سنة القحط
والمجاعة، على أن مائدته كانت منصوبة لا تُرْفَع في السراء ولا في الضراء، وزاد
عليه ولده عبد المطلب فكان يُطعم الوحش وطير السماء، وكان أول من تحنث بغار
حراء، وروى أنه حرَّم الخمر على نفسه، وجعل ماء زمزم للشرب
فحرَّم أن يُغْتَسَل به.
فجملة ما امتاز به آله صلى الله عليه وسلم على سائر قومه الأخلاق العلية،
والفواضل والفضائل النفسية، وكانوا أبعد من سائر قريش عن الكِبْر والأَثَرَة
والأمور الحربية، ولذلك غلبوا على الرياسة حتى بعد الإسلام، وحكمة ذلك ظاهرة
لأولي الأحلام، فهو أنفى للشُّبَه عن رسالته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
سرد نسبه صلى الله عليه وسلم
بعد هذا التذكير بمناقب قومه، والتفسير لاصطفاء الله تعالى لقبيله وآل بيته،
نُشَنِّفُ الأسماع بنسبه المحفوظ بالتفصيل، المتواتر اتصاله بنبي الله إسماعيل،
فنقول: هو سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسمه شيبة الحمد، ابن هاشم
واسمه الذي سماه به أبوه عمرو، ابن عبد مناف واسمه المغيرة، ابن قصي
ولُقِّب بمُجَمِّع؛ إذ جمع قريشًا في تلك الحظيرة ابن حكيم الذي لُقِّبَ ّبكلاب،
والكلاب مصدر كالمكالبة، ومعناه المجاهرة بالعداوة والمناصبة، ابن مرة والمراد به
الجلد القوي ابن كعب وهو منقول من كعب الرمح الرُّدَيني، ابن لؤي، وهو تصغير
لواء أو لأي أو لأي [17] ابن غالب بن فهر ومعناه الحجر الصغير [18] وهو
قريش على المعتمد عند الجماهير، ابن مالك بن النضر واسمه قيس، والنضر هو
الحسن المشرق الوجه، ابن كنانة ومعناه وعاء السهام من الجلد، ابن خزيمة وهو
تصغير اسم المرة من الخزم [19] ، ابن مدركة واسمه عامر أو عمرو، ابن إلياس بن
مضر وهو معدول عن ماضر، ومعناه اللبن الأبيض أو الحامض الخاثر، ابن نزار
من النزر ومعناه القليل، ولعله سمي به تفاؤلاً بقلة وجود مثله في ذلك الجيل، ابن
معد وهو مشتق من المعد، وهو الجذب السريع والذهاب في الأرض، وورد في
الحديث المرفوع وفي نصيحة عمر للجيش: (تعمددوا) أي تشبهوا بمعد في
خشونة العيش، ابن عدنان، وهو من عدن بمعنى أقام في المكان.
وفي حديث ابن عباس (كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على
ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير) [20] وروى الزبير بن بكار من وجه آخر مرفوعًا: (ولا تسبوا مُضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين) [21] فهذا ما كان يسرده
الرسول من نسبه كالدر النظيم، وهو واسطة عقده عليه أفضل الصلاة والتسليم.
نسب تحسب العُلا بحُلاه ... قلدتها نجومها الجوزاء
حبذا عقد سُودد وفخار ... أنت فيه اليتيمة العصماء
***
زواج عبد الله بآمنة والحمل بالنبي وولادته
صلى الله عليه وسلم
انحصر نسل هاشم في عبد المطلب فلم يكن له سواه، ووُلد لعبد الطلب أبو
طالب والعباس وحمزة وعبد الله. وقد زوَّج عبد الله آمنة ابنة وهب بن عبد
مناف بن زهرة، زهرة أخو جده قصي بن حكيم بن مرة، وقد بنى عليها في بيت
أهلها وأقام معها فيه ثلاثة أيام، فلم تلبث أن حملت بالنبي عليه الصلاة والسلام،
ولم تجد في حمله ثقلاً ولا وحمًا كما هو شأن المحصنات الصحيحات الأجسام، وقد
روى الحاكم وصحَّحه البيهقي في مراسيل خالد بن معدان، أن الصحابة سألوه
صلى الله عليه وسلم عن هذا الشأن، فقالوا: يا رسول الله خَبِّرْنا عن نفسك. وفي
حديث أبي أمامة عند ابن سعد وأحمد وغيرهما: ما كان بدءُ أمرك؟ فقال:
(دعوة أبي إبراهيم [22] ، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج
منها نُور أضاءت له بصرى من أرض الشام) وقد ثبت أن هذه رؤيا كانت في
المنام، ولكنها رؤيا صادقة لا أضغاث أحلام، وصحَّح ابن حبان أن ذلك النور
تمثل لعينيها حين أخذها المخاض فوضعته عليه أفضل الصلاة والسلام.
***
تاريخ ولادته وخبر رضاعته وحضانته
صلى الله عليه وسلم
وُلد صلى الله عليه وسلم سَوِي الخلق، جميل الصُورة صحيح الجسم، وكانت
ولادته في عام الفيل، في الليلة الثانية عشرة أو التاسعة من شهر ربيع الأول
الموافقة للعشرين من شهر إبريل، وكان ذلك العام هو الحادي والسبعين بعد
الخمس مائة من مولد المسيح عليهما الصلاة والسلام، وقد تُوفي والده وهو حمل،
فكفله جده شيبة الحمد، فأرضعته أمُّهُ ثلاث أيام، وكذا ثويبة مولاة أبي لهب عدة
أيام، وكانت نساء قريش لا يرضعن الأولاد فعهد جده بإرضاعه إلى حليمة السعدية،
وجعله في قبيلتها بالبادية؛ لينشأ في العيشة الخلوية، ثم ردته حليمة إلى أُمه بعد
أربع سنين، فحضنته إلى أن تُوفيت وله ست سنين، فأصبح صلى الله عليه وسلم
يتيم الأبوين، فكفله بعدها جده عبد المطلب سنتين، ثم تُوفي بعد أن أوصى به أبا
طالب عمه، فحاطه بعنايته كما يُحوط ولده وأهله، إلا أنه كان لفقره يعيش عيشة
القشف، فلم يتعود صلى الله عليه وسلم نعيم الترف، وذلك من عنايته تعالى بتربية
هذا المُصلح العظيم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
معيشته في الحداثة وكسبه وزواجه
صلى الله عليه وسلم
وُلد صلى الله عليه وسلم يتيمًا، ونشأ في قومه فقيرًا، ومات والده في سن
الشباب، ولم يترك له مالاً إلا خمسة جمال وبضع نعاج، وكان قد أَلِفَ رعي الغنم
مع إخوته في الرضاع، فصار يرعى لأهل مكة، فيوفر على كافله أبي طالب بما
يأخذ على ذلك من الأجرة، ثم سافر مع عمه أبي طالب في تجارته إلى الشام، وله
من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وهنالك رآه بحيرا الراهب،
وبشر به عمه أبا طالب، وحذره من اليهود عليه، بعد أن رأى خاتم النبوة بين
كتفيه، ثم إنه سافر إلى الشام مرة ثانية، مُتَّجِرًا بمال خديجة تجارة المضاربة،
فأعطته أفضل ما كانت تعطي غيره؛ إذ جاءت تلك التجارة بأرباح مضاعفة، بل
جاءت بسعادة الدنيا والآخرة.
كانت خديجة بنت خويلد بن عبد العزى بن قصي، أعقل وأجمل امرأة في
قريش، كانت تُدعى في الجاهلية [الطاهرة] ، لما لها من الصيانة والفضائل
الظاهرة، ولمَّا حدَّثها غلامها ميسرة بما رأى منه عليه الصلاة والسلام في رحلته
معه إلى الشام، من الأخلاق العالية، والفضائل السامية، وما قاله بحيرا الراهب
لعمه أبي طالب، تعلقت رغبتها بأن تتخذه بعلاً، بل تَرَقَّتْ أفكارها إلى ما هو
أعلى [23] فتم ذلك الزواج الميمُون، وكان هو ابن خمس وعشرين وهي ابنة
أربعين، وتُوفيت بعد البعثة بعشر سنين، ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم عليها،
ولا أحب أحدًا مثلها، وكان طول عُمُره يذكرها، حتى كانت عائشة تغار منها ولم
ترها، قالت من حديث لها: فذكرها يومًا من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت له عليه
الصلاة والسلام: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟ فغضب ثم قال: لا
والله ما أبدلني خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس،
وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من
النساء) [24] وفي صحيح مسلم عنها (أنها ما غارت على امرأة كما غارت على
خديجة وهي لم ترها) ، وعللت ذلك بكثرة ذكره إياها. قالت: وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) فأغضبته
يومًا وقلت: خديجة! فقال: (إني قد رُزقت حبها) وفي رواية عزاها الحافظ في
الإصابة إلى الصحيح أنه قال: (إني لأحب حبيبها) [25]- فهذا هو الوفاء الكامل
اللائق بذلك النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تتوخى: تتعمد وتخص بالطلب والقصد.
(2) الحسب: ما يُعد من مفاخر الآباء.
(3) ترسف: تمشي مشية المقيد- يشبه تصرفها في استعباد الرؤساء لها بمشي الأسير في قيوده.
(4) السوائم: المواشي الراعية.
(5) الشظف: بفتحتين ضيق المعيشة.
(6) الخلف: بسكون اللام الذين يخلفون غيرهم في الشر، والطالحون بالطاء: الفاسدون فهو ضد الصالحين.
(7) النجدة: مضاء عزم يبعث على المضي فيما يعجز عنه غيره، والإباء: الترفع عن الخسائس.
(8) الإيثار: تقديمك غيرك على نفسك بما تحتاج إليه مما تملك.
(9) الأثرة: تقديم نفسك على غيرك ولو ما هو أولى به منك فهي ضد الإيثار، والأنانية: المبالغة في حب النفس الحامل على الأثرة، وهو نسبة إلى كلمة (أنا) .
(10) الضرائب: جمع ضريبة وهي ما يضرب على العبيد ونحوهم من المال يؤدونه أقساطًا، ومنها الجزية، وضريبة الأرض الخراج والأتاوى جمع إتاوة وهي الرشوة، وتطلق على الخراج ونحوه.
(11) الوشيج والوشيجة: اشتباك القرابة وتداخل بعضها في بعض وأصله شجر الرماح ونحوه مما يشتبك.
(12) أقدم مدنية وحضارة عرفها التاريخ مدنية الكلدانيين والبابليين في العراق والمصريين في مصر والفينيقيين في سورية وقد ثبت لدى بعض علماء العاديات (الآثار القديمة) أن أهلها من بلاد العرب.
(13) قد كان ذلك بتزوجه لحبى بنت حليل الذي كان آخر من ولي منهم قال ابن إسحاق: فلما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأي قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر وأن قريشًا قرعة إسماعيل بن إبراهيم وصريح والده، ثم قال بعد بيان ما كان في ذلك من أمره، فولي قُصي البيت وأمر مكة إلخ.
(14) كان لقريش من المناصب غير تلك الخمسة الأشناق والعمارة والسفارة والأعنة والقبة، والأموال المحجرة للمعبودات كالأصنام، والأيسار الذي منه الاستقسام بالأزلام، الذي يرجح به بين الإقدام والإحجام وقد عابهم عليها الإسلام: (فالحجابة) هي السدانة أي خدمة المسجد الحرام (والسقاية) توزيع الماء المحلى والقراح على جميع الحجاج (والرفادة) إسعاف الفقراء والمساكين ولا سيما الحجاج المنقطعين (والندوة) الشورى لإجالة الرأي في الأمور العظام التي اجتمعوا فيها بعد البعثة للائتمار بالنبي عليه الصلاة والسلام (واللواء) راية قريش وكانت تسمى العقاب، (والأشناق) تحمل الدايات والمغارم لمنع انتشار التعادي والتخاصم (والعمارة) حفظ بناء المسجد الحرام قيل وحفظه من اللغط وهجر الكلام (والسفارة) قيادة الفرسان في أيام الطعان أو الرهان، (والقبة) الخيمة الرسمية التي تنصب وقت الحرب ويجتمع فيها ما يجهز به الجيش.
(15) أي لا يعبده ويوحده أحد؛ لأن أناس منهم إذ كانوا على ملة إبراهيم وكانت الوثنية قد شملت العرب كلهم كما شملت غيرهم.
(16) المسنتون اسم فاعل من أسنت القوم أصابتهم السنة والقحط، والعجاف جمع أعجف وعجفاء وهم الذين ضعفوا وهزلت أبدانهم، العبارة مأخوذة من قول ابن الزبعري في مدح هاشم:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف.
(17) اللواء معروف واللأي الثور الوحشي ويكنى به عن حسن العينين واللأي البطء.
(18) الفهر الحجر الذي يؤخذ باليد عادة ويدق به الشيء وقيل: مطلقًا.
(19) الخزم: نظم اللآلئ في السلك.
(20) عزاه الحافظ في فتح الباري إلى تخريج أبي جعفر بن حبيب في تاريخه المحبر قوله: وربيعة ومضر؛ أي ابن نزار بن معد، قوله: وأسد هو ابن خزيمة.
(21) قال الحافظ: وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب أي ومراسيله أصح المراسيل.
(22) أي أنا مصداق دعوته التي حكاها الله عنه في قوله {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (البقرة: 129) الآية- ومصداق بشرى عيسى برسول يأتي من بعده.
(23) روى الفاكهي في كتاب مكة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة، فأذن له وبعث بعده جارية يقال لها: نبعة، فقال: انظرى ما تقول له خديجة، قالت نبعة: فرأيت عجبًا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا الشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي وادع الإله الذي يبعثك لي، قالت فقال لها: (والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدًا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدًا) ويؤيد هذا ما ورد في كيفية بدء الوحي في الصحيح، أن خديجة قالت له حين خاف على نفسه عاقبة ما أصابه من المجهد، عندما ظهر له الملك (كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) وكذا ما ثبت من أنها كانت تعد له الزاد، لينقطع إلى التحنث في غار حراء، وروى الواقدي بسنده إلى نفيسة بنت أمية أخت يعلى قالت: كانت خديجة امرأة شريفة جلدة كثيرة المال، ولما تأيمت كان كل شريف من قريش يتمنى أن يتزوجها، فلما سافر النبي صلى الله عليه وسلم في تجارتها ورجع بربح وافر رغبت فيه، فأرسلتني دسيسًا إليه، فقلت له ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال (ما في يدي شيء) فقلت: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟ قال: (ومن؟) قالت: خديجة، فأجاب.
(24) وفي رواية (إذ حرمني أولاد النساء) رواه ابن عبد البر في الاستيعاب وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة من طريق وائل بن داود - وقد وثقه أحمد- عن عبد الله البهي - وهو مقبول- عنها قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدًا.
(25) كذا في الإصابة ورواية الاستيعاب عنها: (وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهن) والصدائق جمع صديقة.(19/408)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(16)
الالتهاب الرئوي الباسيلي
ذكرنا فيما سبق أن الميكروبات التي تُحْدِث التهاب الرئة باسيلا اكتشفه [فرد
لندر Friedlander] وهذا النوع من الالتهاب شديد جدًّا خطر على الحياة،
ويُشَاهد ميكروبه كثيرًا في حويصلات الرئة، وقد تتقيح منه أو تصاب بالغنغرينة
(الموت) .
***
الدوسنطاريا
DYSENTERY
كلمة يونانية وضعها أبقراط ثم عُرِّبَت ومعناها [مرض الأمعاء] ويسمى
بالعربية الخالصة (الزحار) لأنه يحدث الزحير.
وهذا الداء عبارة عن التهاب الأمعاء الغليظة أو القولون، وهو نوعان:
(الأول) يحدث في جميع بقاع الأرض خصوصًا في زمن الحرب أو القحط
وينشأ من باسيل مخصوص، وهو النوع المراد بالكلام هنا.
و (الثاني) كثير الحصول في بلاد الشرق، ويمتاز بطول مدته وبتضاعفه
بخراج الكبد، وبكونه ينشأ من نوع من الأميبا (خلية حيوانية وليست نباتية
كميكروب النوع الأول) . وهذا النوع سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأمراض
التي تنشأ عن الميكروبات الحيوانية.
***
الدوسنطاريا الباسيلية
تنشأ - كما قلنا- من باسيل اكتشفه [شيغا Shiga] في بلاد اليابان سنة
1897 وبعد ذلك وجد مثله [كروس Kruse] في ألمانيا، لذلك يسمى بميكروب
[ميكروب شيغا كروس] ثم وجد غيرهما أنواعًا أخرى من باسيل الدوسنطاريا مثل
[فلكنز] و [سترنج] .
هذا الباسيل عديم الحركة ولا حبيبات له، والحرارة التي درجاتها 58- 60
سنتيغراد تقتله سريعًا وكذلك المطهرات، ويعيش في الهواء وفي غيره. ويقتصر
وجوده في المرض على أغشية الأمعاء المخاطية ولا يصل إلى الدم. ومن الجائز
أن يبقى في الأمعاء مدة بدون أن يحدث ضررًا فيها، ولكنه في العادة يفرز سمًّا
يمتص في الدم ثم يفرز منه بواسطة الأغشية المخاطية للأمعاء فيحدث فيها المرض،
ومن هذا السم جزء يؤثر في المجموع العصبي فيحدث التهابًا في الأعصاب.
الأسباب- هذا النوع من الدوسنطاريا، وإن كان كثير الحصول في البلاد
الحارة، إلا أنه قد ينتشر في أوقات مختلفة بشكل وبائي في أي بقعة من بقاع
الأرض. ومما يهيئ الجسم لقبول المرض كل ما يضعف البنية كالتعرض للبرد أو
البيئة الفاسدة الهواء أو الإصابة بحمى النافض (الملاريا) أو إدمان الخمر أو أكل
المواد العسرة الهضم كالفواكه غير الناضجة أو المتعفنة وكذلك الازدحام، ولذلك
يكثر هذا المرض بين الجنود وفي السجون والتكايا ونحوها. ومن مضعفات البنية
التي تهيئ لهذا المرض ضعف العقل - ولذلك ينتشر بين المجانين- والإمساك
المتعاصي.
ينتقل الميكروب من المصاب بواسطة البراز الملوث به إلى الشراب أو
الطعام أو إلى الأواني وغيرها فيصل إلى أمعاء الآخرين ويُحدث فيهم المرض،
فهو في عدواه يشبه الحمى التيفودية سواءً بسواء. ومما ينشره أيضًا بين الناس
الذباب والعواصف، فإنها تنقل الميكروب من البراز وتثيره مع الغبار إلى الطعام
أو الشراب وغيرهما. ولهذا الداء أيضًا حملة أصحاء كالذين ذُكِروا في باب الحمى
التيفودية والدفتيريا.
الأعراض- مدة التفريخ تتراوح بين بضعة أيام وأحد عشر يومًا. ويبدأ
المرض بالإسهال فيتبرز المصاب من مرتين إلى ست برازًا سائلاً مصفرًّا أو يميل
إلى السمرة ويحس بألم في بطنه وتوعك عام وفقد في شهوة الطعام. وبعد ثلاثة أيام
أو أربعة تكثر فجأة مرات التبرز حتى تصل إلى عشر أو عشرين بل أربعين فستين
أو أكثر. ويكون قدر البراز في كل مرة قليلاً جدًّا يخالطه مخاط ومصل ودم
وصديد وبعض أجزاء من الغشاء المخاطي للأمعاء، وقل أن يُشَاهد فيه شيء من
مواد البراز الطبيعية، وقد يكثر النزف حتى يتبرز المصاب دمًا خالصًا بسبب
احتقان الغشاء المخاطي وتمزق عروقه في أول الأمر ثم بسبب تقرحه بعد ذلك،
ويكون له رائحة مخصوصة، ويشتد المغص ويكثر الزحير ويلتهب باب البدن
(الشرج) ويكثر بسبب ذلك التبول أيضًا أو يحصل فيه الزحير أيضًا فيميل المصاب
إلى إخراج بوله نقطة فنقطة بحيث لا يمكنه الصبر على تجمع القدر المعتاد من
البول في المثانة.
وهذه الأعراض تؤثر في بنية المريض فينحف ويضعف ويصفر لونه ويبيض
لسانه وترتفع حرارته ويصيبه الصداع والدوار والإقهاء والعطش.
وفي الحالات البسيطة تخف وطأة المرض بعد ثمانية أيام أو عشرة، أما في
الحالات الشديدة فتزداد الأعراض حتى تُنهك قوى المريض ويتقرح الشرج وما
حوله من المقعدة، ويصاب بالهمود فتغور عيناه وتزرق أطرافه ويضعف صوته
ونبضه حتى يموت.
ويكثر في أول الأعراض أن يصاب الشخص بالقيء ويستمر معه بشدة حتى
النهاية. ويقل البول أيضًا ولكن لا يوجد فيه زلال غالبًا.
وفي بعض الإصابات يزمن المرض فيكون البراز أحيانًا طبيعيًّا وأحيانًا مركبًا
من مخاط وصديد ودم مع الرائحة المخصوصة المذكورة، وتستمر تلك الحال أشهرًا
عديدة، أو سنوات كثيرة فينحف المريض ويضعف وقد يموت- إذا لم يُعَالج-
بنهاكة القوى أو بالمضاعفات كالالتهاب البريتوني من انخراق الأمعاء، أو يصاب
بضيق فيها بسبب انقباض آثار التحام القروح.
وقد وصف [القصطلاني Castellani] (وهو عالم إيطالي شهير له مؤلف
ضخم في أمراض البلاد الحارة باللغة الإنكليزية) نوعًا من هذا المرض سماه
[البارادوسنطاريا] وهو أخف من الدوسنطاريا المعتادة وله باسيل قريب من باسيلها.
ويحدث المرض بسبب تأثير سم الميكروب في أنسجة القولون كما قلنا أثناء
إفرازه من البنية فتموت أجزاء من الغشاء المخاطي وغدده وبعض الأنسجة العضلية
التي في جدر الأمعاء فتتقرح، وقد يصل الالتهاب والتقرح إلى الغشاء البريتوني
فيلتهب ويلتصق بأجزاء أخرى أو يخترق ويكون سببًا في الموت السريع.
زد على ذلك أن المعدة والأمعاء الدقاق قد تصاب أيضًا بنزلة وتلتهب غدد
المساريقا وتنتفخ الكبد وتحتقن.
المضاعفات- التهاب الأعصاب بسبب تأثير السم فيها والتهاب المفاصل
والأخرجة في أجزاء الجسم المختلفة والالتهاب البريتوني من الانثقاب والنزف
المعوي الشديد.
الإنذار- عدد الوفيات من 30 إلى 80 % ومما ينذر بالخطر سقوط أجزاء
كثيرة من أغشية الأمعاء في البراز والنزف الشديد وكثرة القيء والهمود. والمرض
قتال للأطفال والشيوخ والضعفاء ومدمني الخمر.
المعالجة- يجب على المريض أن يلتزم الراحة في الفراش ويرتاح جيدًا حتى
يدفأ وتخصص له آنية التبرز فيها لكيلا يتعب نفسه في الانتقال. فيكون غذاؤه
سائلاً سهل الهضم مشتملاً على المواد التي يحتاج إليها الجسم، فيغلى له اللبن
خالصًا أو ممزوجًا بماء الجير ويعطى له المرق، ولا بأس من تحلية اللبن بالسكر
أو خلطه بقليل من النشا الصافي الذي يطبخ به، أو إعطائه اللبن الخاثر (لبن
الزبادي) ولا يجوز أن تكون هذه المواد شديدة البرودة فإنها تهيج الأمعاء،
والأفضل أن تدفأ.
وتبدأ المعالجة الدوائية بإعطاء المسهلات كزيت الخروع أو الملح الإنكليزي
وهو الأفضل، ومن الأطباء من يعطي هذا الملح بمقادير صغيرة كدرهم كل ساعة
ليلاً ونهارًا حتى تكثر مواد البراز ويزول منها الدم والمخاط وتنخفض الحرارة
ويزول الألم والزحير. ويمكن الاستمرار على تعاطي الملح بهذه الكيفية يومًا أو
ثلاثة، ومن النادر أن يحتاج إلى أكثر منها، ثم يكمل العلاج بإعطاء مركبات
البزموت [1] والأفيون وبعض المطهرات كالسالول.
ويجوز في الحالات الشديدة حقن المريض بالمصل المضاد للزحار كمصل
معمل (لسترlister) فيحقن منه 20 سنتيمترًا مكعبًا مرتين في اليوم في الأحوال
المعتادة، وفي الأحوال السيئة يجوز الحقن إلى ثلاث أو أربع مرات، ويتكرر ذلك
مدة يومين أو ثلاثة. وقد اكتشف حديثًا بعض كيماوي مصر حقنة أخرى يقال: إنها
نافعة كثيرًا.
والحقن في الشرج نافع في كثير من الحالات، فيحقن الماء المغلي بعد أن
تصير حرارته فوق حرارة الجسم الطبيعية بقليل جدًّا، ويحقن كذلك دافئًا محلول
البوريك 1% أو محلول حامض الصفصافيك بنسبة واحد إلى خمسمائة وغيرها.
وحقن محلول ملح الطعام الدافئ بنسبة 7 إلى ألف نافع جدًّا ومقدار ما يحقن في كل
مرة لتر. وهناك محقونات كثيرة لا حاجة إلى استقصائها.
فإذا اشتد الألم والزحير يلبس في الشرج أقماع مركبة من الأفيون أو المورفين [2]
مع زبدة الكاكاو، ومحلول ملح الطعام المذكور نافع أيضًا لإزالة هذا الزحير،
والجلوس في الماء الساخن مريح أيضًا من الزحير وكذلك وضع اللبخ والكمادات
الساخنة ونحوها على الشرج. والأفيون يسكن ألم البطن واللبخ الساخنة وإذا أصاب
المريض الهمود أعطي المنعشات المنبهات كالقهوة والشاي والخمر، وغير ذلك مما
ذكر مرارًا.
فإذا تحسنت الحال يزاد طعام المريض تدريجًا كأن يأكل قليلاً من الخبز الهش
الإسفنجي الجاف واللحم المفروم جيدًا، وهكذا يزاد الطعام حتى يصير كالمعتاد.
وفي طور النقاهة يُعطى له مركبات الحديد والمواد المرة كالكيني بمقادير صغيرة
لتقويته.
الوقاية - تكون بما يأتي
(1) بعزل المرضى وتطهير مواد برازهم بالمطهرات الطبية أو بحرقها
ويجب أن تغطى أوانيها بخرقه مبتلة بمحلول مطهر منعًا من نقل الذباب للعدوى.
(2) بمنع الناقهين من الاختلاط بالناس حتى تعلم طهارة برازهم من
الميكروب بعد البحث البكتبريولوجي ثلاث مرات في ثلاثة أسابيع.
(3) بالبحث عن الحملة الأصحاء إذا انتشر الوباء في مكان وعزلهم
ومعالجتهم بالمطهرات للأمعاء أو بالحقن باللقاح ونحو ذلك حتى يزول الميكروب
منهم. وهؤلاء الحملة هم من كانوا أصيبوا بالزحار أو اختلطوا بمصاب به.
(4) بامتناع الأصحاء من شرب أي ماء إلا بعد غليه أو ترشيحه ومن أكل
أي شيء إلا بعد غليه أو إزالة قشره أو غسله جيدًا بالماء المغلي أو المذاب فيه
كبريتات الصوديوم الحمضية كما سبق. ولا يجوز استعمال الماء غير المغلي حتى
لغسل الأواني أو للضوء.
(5) بتجنب المواد العسرة الهضم والمسببة لاعتقال البطن، وكذلك يتقى
البرد.
(6) بإبادة الذباب بقدر الإمكان، وتنظف الطرق وترش جيدًا حتى لا يثار
غبارها.
(7) من العلماء من يشير على الأصحاء إذا خافوا العدوى بعمل اللقاح،
وهو عمل محمود وقد أفاد في كثير من الأحوال، وأشهر من أشار بذلك القصطلاني.
***
أمراض الفطر
مادورا - أو - قدم مادورا داء
Madura Disease
هو داء منسوب إلى مدينة مادورا في جنوب بلاد الهند ويوجد كثيرًا في
غيرها من البلاد الحارة والمعتدلة.
وينشأ من دخول فطر مخصوص في القدم غالبًا (وأحيانا في اليد) وقد يصعد
الداء من القدم إلى الساق، ومن النادر أن يصيب الجذع، فينمو هذا الفطر في
الجزء المصاب وينشأ من تهيجه للمكان أنسجة مخصوصة تشبه الأنسجة الحمراء
التي تتكون في الجروح ويسميها الأطباء المحدثون (بالأزرار اللحمية) ويتقيح
المكان المصاب وتتلف أجزاؤه وتتآكل، وقد يصل الداء إلى نفس العظام فيحدث بها
النخر وتتكون نواصير يخرج منها صديد وحبيبات سوداء أو سمراء وقد تكون
بيضاء أو بيضاء مصفرة تبعًا لنوع الفطر، فإن له أنواعًا كثيرة. ويكون حجم
الحبيبة كرأس الدبوس وقد يكون كبيرًا كحبة الحمص. وتتألف الحبيبة من خيوط
كثيرة متفرعة ملتف بعضها بالبعض الآخر وهي خيوط الفطر نفسه.
فإذا أصيب القدم بهذا الداء ورم وانتفخ أخمصه كثيرًا حتى يتحدب فترتفع
الأصابع بسبب ذلك عن الأرض ويَسْوَدُّ الجلد وتظهر به حلمات متعددة ونواصير
كثيرة فإذا سُبِرَتْ قد نجدها واصلة إلى العظام النخرة.
وإذا أصيبت اليد أصابها ما أصاب القدم. ولا علاج لهذا الداء في أول الأمر
إلا باستئصال الأجزاء المصابة، فإذا أزمن وجب استئصال القدم كلها.
وتكون الوقاية منه بتجنب كل سحج أو جرح للقدم بقدر المستطاع وتنظيفها
دائمًا (ومن هنا تظهر بعض حِكَم الوضوء) ودوام الاحتذاء فإذا أصيبت القدم بأي
جرح وجب تطهيره بالمطهرات الطبية ومعالجته بحسب الأصول الجراحية حتى
يشفى تمامًا اتقاءً لهذا الداء ولغيره مما ذكر سابقًا كالتيتانوس.
***
السل الكاذب - الأسبارغلوس [3]
Aspergillosis
الأسبارغلوس يطلق على فطر ينتشر في بعض أعضاء الجسم فيتلفها.
ويُشاهد أحيانًا في الرئة فيحدث بها مرضًا يشبه الدرن حتى تتكون فيها كهوف،
ولذلك يسمى هذا الداء بالسل الكاذب. وتكون أعراضه ضيقًا في التنفس وسعالاً
وبصقًا ونفث دم. ولا ينتشر الفطر من الرئة إلى الأعضاء الأخرى. وقد يشفى من
تلقاء نفسه بموت الفطر.
يصيب هذا الداء أحيانًا مربي الحمام ومطعميه بأفواههم لوجود الفطر في
بعض الحبوب التي يضعها المربي في فمه لإطعامه الحمام.
وهذا الفطر قد يصيب أحيانًا العين أو الأذن أو الأنف أو الجروح والقروح
وغير ذلك كأنسجة القدم فيتكون به نوع من أنواع الداء السابق (داء مادورا)
***
الفطر الشعاعي
Actinomycosis
أول من وصف هذا الداء في الإنسان هو إسرائيل الألماني من أهالي برلين
سنة 1877 م وفي سنة 1878 أثبت (يونفيك ponfick) أن النوع الذي يصيب
الإنسان هو عين ما يصيب الأنعام.
هذا الفطر يكون قِطَعًا تُرَى بالعين المجردة صفراء أو سنجابية لامعة مستديرة
قطره 40/1 من البورصة وقد يكون أحيانًا 12/1 منها، فإذا نظرت هذه القطعة
بالمجهر رؤي في مركزها خيوط مشتبكة مع بزور، ويتفرع من هذه الخيوط خيوط
أخرى فتكون كأشعة النور المنبعثة من السراج وتنتهي بانتفاخ أطرافها. وهذا الداء
يصيب الحيوانات الداجنة ولا ينتقل منها إلى الإنسان، وإنما يصاب به الإنسان
والحيوان من أكل بعض الخضر أو الحبوب كالشعير.
فإذا دخل الفطر إلى الجسم لصق بالغشاء المخاطي للأمعاء أو الشعب ثم يثقبها
ويصل إلى الأعضاء الغائرة فيحدث المرض في أجزاء مختلفة من الجسم، وذلك
بتهيجه للمكان المصاب فيلتهب ما حول الفطر وتتكون أنسجة غريبة كالأزرار
اللحمية ثم تتقيح وتتآكل وتستحيل إلى مِدَّة، فينشأ في أول الأمر في العضو
المصاب أورام يكون قطرها نحو ثلاث بوصات أو أكثر، وهذه تتآكل حتى تفسد
العضو. وينتشر الداء بالمجاورة من موضع إلى آخر، ولكن الفطر قد ينتشر
بالأوعية إلى أجزاء الجسم البعيدة أحيانًَا.
الأعراض - تختلف باختلاف العضو المصاب وكثيرًا ما يبدأ المرض بالفم
فيحدث فيه ورم تحت الجلد فوق الفك الأسفل أو فوق حافته يكون صلبًا بطيء النمو
ثم ينتقل تدريجيًّا إلى العنق.
وقد يضمُر جزء من هذا الورم، ولكنه يزداد في الأخرى ويمتد حتى يصيب
الرئة فتلتهب شعبها أو أنسجتها، ومنه ما يصيب الجلد فيدخل من أي جرح أثناء
مس الحبوب أو القش، ولكنه قليل الحصول.
المعالجة -أحسن دواء لهذا الداء هو (يودور البوتاسيوم) فقد ظهر نفعه فيمن
استُعْمِلَ له من الناس والأنعام، ويجب إعطاؤه بمقادير كبيرة حتى تصل إلى أربعة
دراهم في اليوم. وإذا كان الورم في مكان يمكن الوصول إليه أمكننا أن نعاون
الدواء في فعله بالعمليات الجراحية كالكحت أو الاستئصال.
***
القلاع
Aphthae
هو أشهر أدواء الفطر وأكثرها حصولاً للبشر في جميع الأقطار. يُشَاهد هذا
الداء في الأطفال الضعفاء خصوصًا من يربون تربية صناعية أو الذين أصابهم
إسهال مدة طويلة، وقد يُشَاهد أيضًا في الشبان والكهول إذا أصابهم داء أنهك قواهم
كالسل والسرطان والحمى التفودية.
ويُشاهد في المصاب بقع بيضاء لبنية على الأغشية المخاطية للشفتين أو
الخدين أو اللثة أو الحلق أو اللسان وتكون مرتفعة قليلاً عن سطح الغشاء ومحاطة
بخط أحمر دقيق، فإذا نزعت هذه القطع البيضاء وجد الغشاء المخاطي الذي تحتها
محمرًّا وسال منه قليل من الدم، وبعد زمن قصير قد تتكون البقع عليه ثانية. وهي
تتألف من خلايا بشرية مع كريات دهنية ومن بزور الفطر وخيوطه. ينمو هذا
الفطر في طبقات الأبثيليوم الوسطى ومنها يمتد إلى الطبقات العليا والسفلى.
ويصاب الطفل بسببه بالحمى والإسهال ويكثر لعابه ويتعسر أو يتعذر
إرضاعه، وكثيرًا ما يتقرح الشرج بسبب كثرة الإسهال.
المعالجة- يجب تحسين صحة المصاب بجميع الوسائل الممكنة. ومن أول ما
تجب العناية به معالجة الإسهال. ويجب مسح فم الطفل بخرقة مطهرة مغموسة في
الماء العقيم أو في محلول البوريك، ثم يوضع في فم الطفل نحو نصف ملعقة
صغيرة من غلسرين البورق مرتين في اليوم أو ثلاثًَا، فإنه قاتل لهذا الفطر.
الوقاية- يجب على الأم أن تغسل ثديها بعد كل رضاعة وقبله، وأن لا تضع
شيئًا في فم الطفل مطلقًا إلا إذا كان مطَهرًا بالغلي أو غيره كأدوات اللعب
وكالحلمات الصناعية، كذلك لا يجوز مس فمه بالأصابع إلا بعد تطهيرها، وإذا
كان الطفل يُغَذَّى بغير لبن أمه ويجب تطهير طعامه أيضًا بالغلي. وتجب المبادرة
إلى معالجة كل ما يفسد صحة الطفل كالإسهال أو القيء وغيرها.
***
الأرضة
TINEA
تسمى الأَرَضَة بالإفرنجية تينيا. وهي أنواع كثيرة تنشأ كلها من فطر يصيب
الجلد. وهاك أشهر أنواعها: -
(1) الأرضة المتنوعة الألوان (VERSICOLOR) تصيب الجلد
وتنمو فيه بالعرق والتدفئة وهي كثيرة الحصول للذكور ولا تصيب إلا الأجزاء
المغطاة بالملابس فيشاهد في الجلد بقع مستديرة سمراء مصفرة مرتفعة قليلاً عن
سطح الجلد وتمتد في أجزاء كثيرة منه ولا يحدث منها ضرر سوى بعض أكلان.
المعالجة - تكون بالاستحمام بالصابون (وأحسنه الفنيكي) مع الدلك بشيء
خشن ثم يدهن الجسم ببعض المراهم الكبريتية أو الزئبقية، ولكن يُلاحظ في
المراهم الزئبقية أن لا يُدهن بها سطح متسع من الجلد خوفًا من التسمم. ويجب
غلي الملابس وتطهيرها بعد الاستحمام وكذلك أدواته كالفوط وغيرها.
(2) الأرضة الحلقية (Circinata) تشاهد حلقات الداء غالبًا في الوجه
والعنق والذراع، وتكون الحلقات قرنفلية مرتفعة قليلاً عن سطح الجلد مغطاة
بقشور رقيقة.
(3) الأرضة الذقنية (SYCOSIS) تصيب شعر اللحية على الأكثر
فتفسده وتسقطه وتلتهب الذقن بسببها، وهي عسيرة الشفاء.
وعلاج هذه الأنواع يكون بنتف الشعر واستعمال النظافة التامة والتطهير بمثل
اليود أو الكبريت أو مركبات الزئبق. وعلاجها بأشعة رونتجن مؤكد نفعه سريع
التأثير.
***
القراع
Favus
داء مشهور يصيب أي جزء من أجزاء الجلد خصوصًا فروة الرأس. وينتقل
من شخص إلى آخر بالعدوى، وقد ينتقل إلى الإنسان من بعض الحيوانات الداجنة
كالقطط والأرانب والكلاب. وعلاجه يكون بالنتف والتطهير وأشعة رونتجن كما
سبق. وينبغي الاعتناء بصحة المصاب بإرشاده إلى القواعد الصحية، وإعطائه
الأدوية المقوية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) اسم لعنصر معدني شهير، وهو مشتق من كلمة ألمانية مجهولة الأصل.
(2) اسم لمادة فعالة في الأفيون وهي أهم ما فيه، والكلمة يونانية مشتقة من اسم آلة النوم أو الأحلام عندهم.
(3) كلمة لاتينية معناها المنبث أو المنتشر.(19/425)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مبايعة شريف مكة وأميرها
على ملك العرب
جاء في جريدة القبلة التي صدرت بمكة في ثالث المحرم فاتحة هذا العام ما
نصه:
امتلأت قاعات قصر الديوان الهاشمي العالي صباح أمس بجماهير الأشراف
الكرام والعلماء الأعلام والأعيان العظام بحيث لم يبق في بلد الله الأمين ذو حيثية
ومكانة عالية إلا وحضر هذا الاجتماع الفخم ليعرضوا على جلالة سيدنا ومولانا
المعظم أمنية طالما تمنوا إظهارها من حيز القوة إلى حيز الفعل ألا وهي إقناع
جلالته بقبول بيعتهم له ملكًا على العرب ومرجعًا دينيًّا لهم ريثما يقر قرار العالم
الإسلامي على رأي يُجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية.
ولما غصت أنحاء القصر العالي بحضرات الأعيان القادمين لهذا الغرض
تشرف بالمثول بين يدي جلالة سيدنا المعظم في غرفة أعماله الخاصة حضرة
العلامة الورع الشيخ عبد الله سراج رئيس علماء بيت الله الحرام وقاضي القضاة
ونائب رئيس الوكلاء الفخام وأنبأ جلالته بحضور هذه الجماهير لعرض بعض
المعروضات على مسامعه الكريمة، ولما شرّف جلالته قاعة الاستقبال الكبرى في
الديوان الهاشمي العالي استقبل رجال الأمة تلك الطلعة الهاشمية المقدسة بقلوب
طافحة بالمحبة والاحترام والإجلال والإعظام، ثم تمثل حضرة العلامة قاضي
القضاة بين يدي جلالته نائبًا عن وجوه الأمة كما هي عادته في مثل هذه المواقف
من القديم فعرض على جلالته الغرض من تشرف المجتمعين بالوقوف بين يديه
وأنهم قد كتبوا عريضة في هذا المعنى يريدون تلاوتها على مسامعه الشريفة فأجابه
جلالته بالكلمات الملوكية الآتية:
(إنني لم أكن أرى ضرورة شديدة لهذا العمل الذي جئتم من أجله؛ وذلك لما
أعلمه من نهوض بلادي بالأمر الذي نهضنا به وشدة إخلاصها له وعضها عليه
بالنواجذ، ولم تنحصر هذه العواطف في بلادنا وحدها بل إن لعرب الشام وعرب
العراق مثل ما لأهل بلادنا من الحرص على استرداد مجدهم وجمع كلمتهم. وقد
وردت لي الرسائل من أعيانهم بذلك، على أن هذا الأمر الذي جئتم اليوم من أجله
سينفي كل ما ربما يخطر على بال الذين يجهلون حقيقة أحوالنا من الخواطر البعيدة
عن مبادئنا وشيمتنا وأصول ديننا وقوميتنا.
وإنني أقسم لكم بالله العظيم أنني لم أرد هذا الأمر الذي تكلفونني به ولم يخطر
على بالي عندما قمت معكم بنهضتنا السعيدة، ولكني رأيت كما رأيتم أننا أمام خطر
عظيم وخَطْب جسيم ربما قضى علينا القضاء المبرم إذا لم نبادر إلى إزالته.
وهنا ارتفع ضجيج الحاضرين بالدعاء لجلالته والإلحاح بقبول الذي جاءوا
لأجله، فقال جلالته:
إنكم حملتموني أمرًا أنا أعرَف الناس بما يستلزمه من الجهد، وطالما قلت لكم
إني واحد من جمهور الأمة أبرم ما يبرمون من حق، وأرفض ما يرفضون من
باطل، وأمد يدي لكل من يتفقون على إسناد أمرهم إليه على كتاب الله وسنة رسوله
وإذا كان لا مناص مما أردتموه فإني أشترط عليكم أن تعينوني على أنفسكم،
وتساعدوني بآرائكم وأعمالكم في كل ما يحقق آمالنا وآمالكم من الخدمة العامة للعرب
والمسلمين، وإننا نستعين بالله تعالى في كل ما يحبه من قول وعمل وعليه الاتكال
في كل حال.
ولما انتهى جلالته من الخطاب الملوكي الذي كان يتخلله دعاء الناس وثناؤهم
أخرج حضرة قاضي القضاة العريضة التي أشرنا إليها وأعطاها لحضرة الشيخ عبد
الملك مرداد ليتلوها على مسامع جلالته وهذه صورتها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ملك الحق المبين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي
العربي سيد الخلق أجمعين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، وسلم تسليمًا
كثيرًا.
أما بعد: فإن للعرب المنزلة الرفيعة بين الأمم؛ لأنهم في مقدمة الأقوام
الساميين، الذين نشروا في الأرض حقيقة التوحيد وهداية الدين، فدانت الدنيا كلها
في كل أزمانها إلى ما أراد الله أن يتمه على ألسنة أنبيائهم العظام من الشرائع
الإلهية والسنن القويمة والمحامد الأخلاقية والفضائل والكمالات حتى استنارت الأمم
بنورهم واهتدت بهديهم. ولقد فضل الله في كتابه الكريم ولد إسماعيل وآل إبراهيم
على العالمين جميعًا، وأنه قد ثبت في صحيح مسلم أن الله اصطفى كِنانة من ولد
إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى
من بني هاشم نبينا وفخرنا وذخرنا جدكم الأعظم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
فبجدكم الأعظم خرجنا من الظلمات إلى النور، وببيتكم الأقدس كان رشادنا
بعد الجهل، وأن البيت الذي عدل بنا عن طريق الغواية، إلى طريق الهداية؛ لا
يزال ملزمًا بلم شعثنا. وتقويم أودنا، واستلام زمام أمورنا، مهما تجشم من العناء
لأجل هنائنا، ومهما تحملتم من الجهد لأجل سعادتنا؛ وما كان لنا أن نلجأ لغير
البيت الذي اختاره الله -عز وجل- ولا أن نصطفى قومًا غير الذين اصطفاهم لنفسه
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
(إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا
الدين) وأنه قال -صلى الله عليه وسلم-: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي
منهم اثنان [1] .
فأنتم قريش بل أنتم الصفوة من هاشم، وإننا ندين الله تعالى يوم الوقعة
الكبرى بين يديه بأننا لا نعلم اليوم أميرًا مسلمًا أتقى لله منكم وأشد خوفًا منه وتمسكًا
بأوامره وإقامة لشعائره قولاً وعملاً، وأقدر على أمورنا بما يرضي الله عز وجل،
ونحن الذين عرفناكم في أيام الرخاء وأيام الشدة وفي حالتي السر والعلن.
وإن حولكم أمة برهنت في أدوار كثيرة من أدوار التاريخ على أنها عظيمة
المدارك، عالية الهمة، كثيرة الإقدام، حازمة عادلة صبور [2] رحيمة منصفة.
ولو أن صفحات التاريخ فقدت من الوجود لكفى في الدلالة على عقلها لغتها التي
حيرت أسرارها العقول، وآدابها التي هي خِزانة المعارف، فضلاً عما أقامته من
معالم الحضارة في كل بقاع الدنيا القديمة مما لا يزال أثره ماثلاً للأنظار.
إن أمة كهذه أثبتت العلوم الحديثة أن تكوين دماغها وارتقاء عقلها لا يقل عن مثله في
أرقى الأمم، وبرهن تاريخها على أنها أمة جد وعمل وتفنن وحسن سلوك ومكارم
أخلاق، تحفظ الجميل لمن يزديه إليها، وتعرف كل من له يد عليها، لَهي أمة
تستحق أن تنتشل من قيودها الثقيلة وتنقذ من وصاية فئة سفاكة مخربة جاهلة
مغرورة، ليس فيها استعداد فطري للتحلي بشيء مما تحلى به العرب من المزايا
والخصائص، والأخلاق والفضائل؛ وإن من مظالم عصرنا الفادحة رضاء الأمم
ببقاء العرب محكومين لتلك الفئة الوضيعة التي تحتاج إلى الحجر عليها، لا أن
تكون أمة كأمتنا ذات مجد أثيل وتاريخ وآداب عالية وفضائل سامية راضخة
لوصاياها خانعة لجورها، حتى ذاقت صنوف الذل وأنواع الهوان باسم الإسلام الذي
تنقض هذه الفئة كل يوم دعامة من دعائمه. وقد ورد من حديث جابر عند أبي يعلى
بسند صحيح: إذا ذلت [3] العرب ذل الإسلام.
فنحن يا سيد العرب ومنقذ الإسلام من أيدي أعدائه المارقين، نحمد الله إليك
الذي أعزنا بك، ونصر جند الله ببركتك وروحانية جدك صلى الله عليه وسلم،
ونتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بمحاربة من حاربك وموادة من وادّك، وأن مودة
آل بيت رسول الله -عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام- هي الأجر الذي سأله
على ما هدانا إليه من سعادتي الدنيا والآخرة حيث قال عز من قائل:
{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) [4] .
فانهض يا سيدنا إلى ما شاء الله أن يجريه على يديك من إصلاح شئوننا
وولاية أمورنا نحن معاشر العرب الذين يعلقون آمالهم على صلاح دينهم ودنياهم
على تبوئك سرير ملكهم.
وإننا نبايع سيدنا ومولانا (الحسين بن علي) ملكًا لنا نحن العرب يعمل بيننا
بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونقسم له على ذلك يمين
الطاعة والإخلاص والانقياد في السر والعلانية، كما أننا نعتبره مرجعًا دينيًّا لنا
أجمعنا عليه ريثما يقرّ قرار العالم الإسلامي على رأي يجمعون عليه في شأن
الخلافة الإسلامية.
نبايعك على هذا يا صاحب الجلالة ونقسم لك بالله العظيم على طاعتك والرضا،
بك والانقياد إليك في السر والعلانية. ولك علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقمت
الدين، واجتهدت فيما فيه صلاح حال العرب والمسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ
عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) .
غرة المحرم الحرام سنة 1335.
ولما انتهت تلاوة العريضة أقبلت جماهير الحل والعقد من الأشراف والعلماء
والأعيان وكبار التجار وسائر ذوي الحيثيات فبايعوا على ذلك بوجوه مستبشرة
وقلوب طافحة بالسرور. ثم تقدم حضرة الفاضل الشيخ فؤاد الخطيب فبسط لدى
جلالته آمال سورية العربية، وذكر أن أولئك الشهداء الذين سارت بذكرهم الركبان
إنما ماتوا من أجل الوحدة العربية، ولتفانيهم في الدفاع عن شعائرهم الإسلامية،
وقال: إن سكان تلك الديار جديرون بأن يكونوا من جملة العرب المستقلين
المتمتعين برعاية جلالة سيد العرب وملكها. وبايعه بعد ذلك أسوة بسائر العرب
على كتاب الله وسنة رسوله.
ثم تقدم حضرة الشيخ عبد العزيز مرداد فدعا لهذه الدولة بالعز والسؤدد
والارتقاء والفلاح بعناية سيدها ومنقذها جلالة ملك البلاد العربية. فأمن الحاضرون
على كل جملة من دعائه.
وقبل انفضاض هذه الحفلة الكبرى تفضل جلالة سيدنا الملك المعظم فأجاب
استرحام القوم بتعميم البيعة في المسجد الحرام في وقت مخصوص سنعلن عنه في
العدد القادم. وذلك إكرامًا لخواطر طبقات الشعب الذي أظهر الرغبة بالاشتراك
مباشرة مع من قام عنه بالبيعة وناب منابه في أداء واجباتها.
وفي آخر الحفلة تلا حضرة الشاعر الأديب الشيخ عبد المحسن الصحاف
خطبة أنيقة بصوت جهوري وأتبعها بقصيدة غراء تناسب المقام اهـ.
(المنار)
إن سبق أهل العلم والمكانة والرأي في مكة المكرمة إلى هذه المبايعة وما
تلاها من مبايعة وفود سائر بلاد الحجاز الذي فصلت خبر جريدة القِبلة في عدد
آخر مبني على ثلاثة أسباب:
(1) اعتقادهم أن فئة الاتحاديين الملحدة الباغية قد تغلبت على الدولة
العثمانية بقوة الثورة والاعتماد على الألمانيين الطامعين في البلاد ووضع الدولة
تحت وصايتهم حتى لم يعد للسلطان أدنى استقلال في حكم ولا رأي.
(2) أن اعتداء هذه الفئة الباغية على العرب ومحاولتها إهلاكهم كما أهلكت
الأرمن بغضًا فيهم وفي دينهم، وامتداد بغيها من الشام إلى الحجاز وما ترتب عليه من
الحصر البحري قد اضطر أهل الحجاز إلى إعلان الاستقلال التام كما بيناه من قبل
وذلك لا يتحقق إلا بمبايعة الأمة المستقلة لحاكمها أو بتغلبه هو عليها بالقوة،
وحكومة الحجاز من النوع الأول المشروع.
(3) أن صاحب الحجاز وأهل الرأي فيها يائسون من بقاء استقلال الدول
العثمانية، وجازمون بأنها إما أن تكون تحت سيطرة الألمان القاسية، وإما أن
تنحصر سلطتها في بعض ولايات الأناضول، فبهذا وجب على العرب أن يسارعوا
بعد الاستقلال بما استطاعوا من بلادهم إلى تعيين شكل حكومتهم المستقلة، ويطالبوا
الدول المحالفة لهم بالاعتراف باستقلالهم قبل عقد الصلح؛ لئلا تعدهم الدول من أتباع
الترك. ونحن قد بينا رأينا في هذه المسألة في خطبتنا التي ألقيناها بين يدي
الشريف الأعظم وعلى مسمع كُبراء الحجاز والحجاج في منى وسننشرها في المنار.
__________
(1) سقط من القبلة لفظ منهم وفي رواية لمسلم: ما بقي في الناس اثنان.
(2) صبور يستوي فيه المذكر والمؤنث ولعله قال: صبورة للتناسب بين ما قبله وما بعده إذا لم يكن من غلط الطبع.
(3) في جريدة القبلة ذل وهو غلط فلفظ العرب مؤنث والرواية ذلت.
(4) جرى الشيخ حفظ الله مودته في هذا على قول مشهور في كتب التفسير وفي الآية أقوال أخرى أصحها ما رواه الشيخان والترمذي وأكثر رواة التفسير المأثور عن ابن عباس قال (لم يكن بطن في زمن قريش إلا كان له فيهم قرابة) فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة وفسر ذلك في رواية أخرى بأن يحفظوا حق قرابته فيهم بنصره ومنعه ممن يؤذيه - صلى الله عليه وسلم - كعادتهم في حفظ القرابة بدلاً من إيذائه وجعل بعضهم النصرة بالإيمان به واتباعه ليكون بمعنى [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً] (الفرقان: 57) أي: بطاعته كما قال قتادة وصرح بعضهم بأن الاستثناء هنا منقطع وقد نفي سؤال الأجر بغير استثناء في قوله تعالى [وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] (يوسف: 104) وقد حكى سبحانه مثل هذا عن المراسلين في هود والشعراء وغيرهما من السور.(19/435)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مبايعة وفود الأقطار الحجازية
جاء في العدد الرابع والعشرين من جريدة القبلة الذي صدر في 10 المحرم ما
نصه:
(شهدنا في صباح أول أمس جموع العرب من سلالة مضر وربيعة
وقضاعة وقحطان، وإخوانهم من مختلف الأمم والأقطار؛ يهرعون من باب
الصفا إلى باب الله الحرام ألوفًا بعد ألوف، ملبين دعوة دينهم ويقينهم، ومجيبين
نداء وجداناتهم وضمائرهم، في تقليد أمرهم لأقدر المسلمين على القيام به.
ولما كانت الساعة الثانية عربية كان جلالة الملك المعظم قد جاء من القصر
الملوكي إلى مدرسته الملاصقة لبيت الله الحرام فدخل إليه منها يحف به آل البيت
الأطهار، وعلماء الشرع الأبرار، ووجوه الأمة الأخيار، فتنحت الجموع العظيمة
لقرة عينها، وسبب عزها وسعادتها، وحينئذ أعطى حضرة العلامة صاحب المعالي
قاضي القضاة ونائب وكيل الوكلاء عريضة أهل الحل والعقد لحضرة الفاضل الشيخ
عبد الملك الخطيب ليتلوها على مسامع من لم يسمعها من جمهور الأمة فيكونوا على
بينة مما تضمنته من الحقائق الدينية والدنيوية، فصعد حضرة الخطيب على دكة
أقيمت أمام رواق الحرم الشريف وقرأها على الجماهير فقابلوها بالجذل والحبور
والفرح والسرور. ثم أقبل حضرة قاضي القضاة على يد حضرة صاحب الجلالة
الهاشمية ملك البلاد العربية فبايعه بالصيغة التي نشرناها ضمن العريضة في العدد
الماضي من القبلة [1] وتبعه حضرات الأشراف والسادة ورجال الدولة والعلماء
والأعيان ووفود البلاد فجماهير الأمة على اختلاف طبقاتها. وكان رجال الشرطة
يحافظون على النظام بكل دقة وانتباه.
وقد رأى حضرة قاضي القضاة بعد أن تشرف بضعة ألوف من الناس بشرف
المبايعة السعيدة أن الوقت لا يتسع لاستمرار الألوف الكثيرة في ذلك فطلب منهم أن
يجيزوه في أخذ البيعة عنهم فأجازوه إجازة إجماع عام مطلق، فبايع عنهم على
مسمع منهم، ثم صعد حضرة الشيخ عبد الملك مرداد على الدكة فدعا بدعاء بليغ
خشعت له القلوب وأمّنت عليه الألسنة. وعند ختام الدعاء عاد جلالة ملكنا المحبوب
إلى المدرسة فلبث فيها برهة، ثم سار موكبه الفخيم إلى الديوان الهاشمي العالي
وجماهير الأمة تهتف له بالنصر والعز والتأييد، وتلاميذ المدارس مصطفة تحت
الأعلام العربية المنصورة تنشد أناشيد الحماسة والاستبشار بالمستقبل الباهر السعيد.
ولما وصل الموكب الفخيم إلى القصر الملوكي العالي أقبلت ألوف الناس من
العظماء الأعيان والتجار ومن في طبقتهم للتشرف بالأعتاب الهاشمية. وأخذ الخطباء
والشعراء يتبارون في بيان عواطف الأمة بهذا العيد الأعظم للعرب والإسلام) .
(المنار)
قد نشرت جريدة القبلة ما وصل إليها من تلك الخطب والقصائد فاستغرق العدد
كله. وقد ذكرت أسماء أشهر رجال الوفود من جدة والطائف وغيرهما. وقد علمنا
أن كثيرًا من زعماء العرب وفضلائهم في الجزيرة ومصر. قد رفعوا إلى ملك
الحجاز رسائل التهاني بالبرق وبالبريد.
__________
(1) الصواب أنه العدد الذي قبله وهو عدد 22.(19/441)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احتضار سورية
شهادة جريدة القبلة
ترجم أحد مراسلي الجرنال دي كير في جنيف مقالة نشرتها جريدة ألمانية في
زوريخ- هي (نيوزوريخر زيتويغ) - في 12 أكتوبر الماضي وصفت فيها شقاء
سورية ويأسها أو اليأس منها، وإننا ننشر ترجمتها بالعربية نقلاً عن جريدة الأهرام
الصادرة في 30 المحرم؛ لأن شهادة الألمان في هذه القضية -وهم أعوان الاتحاديين
على تتبير العرب كالأرمن- لا تجرح بالكذب ولا الغلو كشهادة غيرهم. وهذا نصها:
(إن الجرائد السورية التي يرقبها الألمان رقابة شديدة صارمة تصف تعاسة
تلك البلاد وشقاءها المر المفطر للأكباد، فإذا ضربنا صفحًا عن قتلى الحرب
وجرحاها تجد أن الجوع والأوبئة كالكولرا والطاعون والتيفوس إلخ قد أفنت عُشر
الأهالي ملكيين وعسكريين.
فسورية المعرّضة لكل هجوم برًّا وبحرًا والمتصلة بالآستانة بخط حديدي واحد
وهو خط (حلب - أطنة) تحملت من ويلات الحرب ما لم تتحمله بلاد أخرى،
وإن لم تكن سورية ميدانًا للقتال، ولم تر المعارك الدموية إلا في حدودها الجنوبية،
وهذه المعارك التي جرت لم تغير شيئًا من حالة قناة السويس ولا حالة الحرب بوجه
من الوجوه وحال من الأحوال.
ولا يذكر التاريخ أن هذه البلاد رأت من النوائب والبلايا منذ غزوة المغول [1]
إلى اليوم ما رأته في هذه الأيام. فكثير من الأرض لم يزرع والمحصول لا يكفي
للسكان.
وفي شتاء عام 1915 بذل بعض السوريين المسلمين والمسيحيين بعض الجهد
ليتخلصوا من الحكم التركي الذي ينهكهم، ولكنهم لم يفلحوا وكانت النتيجة أنهم
ذبحوا جميعًا (يدرك القارئ أن الجريدة الألمانية تريد أن تبرر الذبح بزعمها أن
أناسًا ثاروا على الحكومة مع أن الحكومة التركية لم تقل ذلك) .
وزاد في فناء الأهالي واستئصالهم الجوع والطاعون، وسعت السلطة
العسكرية أن تعالج الداء (؟) ولكن العلاج جاء متأخرًا وبعد فوات الوقت فلم يكن
بالإمكان استخدام دواء ينجع ويفيد. وفتحت في القدس ودمشق وبيروت ويافا
قاعات للشاي [2] جعل فيها ثمن الشاي والخبز والماء الساخن قليلاً أو بلا ثمن
للفقراء والبائسين. وتألفت جمعيات للقيام مقام الأطباء في معالجة المرض وتنظيف
المنازل والحارات والشوارع وعزل المرضى وتوزيع الأدوية التي يستطيعون
الوصول إليها.
ولكن المستشفيات العسكرية ذاتها ليس فيها أضمدة ولا موازين للحرارة ولا
إبر للحقن ولا غير ذلك مما يعالَج به المرضى. ثم ضاعف الأوبئة وجعلها عامة
شاملة الجوع والضيق. وقد كانت عائلات كثيرة تستبق حياتها بضعة أيام بقشور
الليمون والبطيخ والطماطم إلى أن يمرضوا وتعينهم إحدى جمعيات البر.
وقد صدق أحد مراسلينا في القدس بقوله: إن أورشليم المقدسة تنقرض الآن
للمرة الثالثة، ولكن انقراضها في هذه المرة هو أتم منه في المرتين السابقتين.
والحكومة الحالية التي هي ليست مسئولة كل المسئولية عما هو واقع (؟)
تبذل الآن ما هو بوسعها لتدارك هذه الحالة (؟) ويعاونها جميع الناس من جميع
المذاهب والجنسيات، وقد أهمل الناس جميع فروضهم الدينية خوفًا على حياتهم
كصوم رمضان عند المسلمين وصوم الصيف عند اليهود، وكذلك سلك المسيحيون.
وتجتهد السلطة العسكرية في أن توزع الحبوب بالقسط والعدل والمساواة بين
المدن والقرى وتمنع الناس من تخزين الأقوات حتى لا تصعد الأسعار. ووزع
جمال باشا حديثًا على فقراء دمشق بعض الأكل ولكن الجوع والضيق في المدن
الكبرى في حال هائلة لا يستطيع قلم الكاتب وصفها وتصويرها للقارئ.
فلا يمكن بحال من الأحوال أن تحول هذه المسكنات الوقتية التي يعالجون بها
تلك البلاد دون احتضار الموت والنزع الأخير. فسورية هالكة مائتة لا محالة، ولا
مرد لهذا القضاء عنها، وسواء بقيت بيد دولتها أو صارت إلى يد دولة أخرى فإن
بعثها من مدفنها أمر مستحيل) .
(المنار)
هذه شهادة الألمان لحلفائهم بل عليهم. والتبعة والمسئولية في هذه الجنايات
الفظيعة على هذا الشعب العظيم ليست كلها على حكومتهم الطاغية الباغية وحدها،
وإن كانت أهلكت الحرث والنسل عمدًا، بل يقع سهم كبير منها على أستاذتها
ألمانية التي علمتها كيف تأخذ من البلاد جميع الرجال القادرين على العمل
والصالحين للنسل من سن البلوغ إلى سن الشيخوخة وتستعبدهم في أشق أعمال
الحرب - وكيف تأخذ ما تنتجه الأرض بعمل الشيوخ والنساء والأولاد للسلطة
العسكرية مصادرة ونهبًا، ولم تعلمها أن تبقي للأهالي الضعفاء الباقين ما يسد رمقهم
وأن توزعه عليهم كما توزع هي الأطعمة في بلادها، ورضيت منها بالفظائع التي لا
تحتاج فيها إلى تعليم؛ لأنها غريزة وراثية فيها كقتل العلماء والكتاب ورجال الإدارة
حتى لا يبقى في البلاد من يعرف مصلحتها ويطالب بها، وكنفي أرباب البيوت
ونهب أموالهم حتى لا يبقى في البلاد غني يلجأ إليه الفقراء والبائسون في وقت
الضراء. ولماذا يموت السوريون جوعًا ولم يمت أحد من الألمان جوعًا وغلات
سورية أكثر من حاجاتها وغلات ألمانيا دون حاجتها؟ ولماذا تقطع الغلات العثمانية
الفيافي والقِفار والجبال والبحار حتى تصل ألمانية في قلب أوروبة وأهلها يموتون
جوعًا؟ ولما تستنزف ألمانيا قوة الدولة العثمانية وثروة شعوبها وتسخرها كلها
لخدمتها في هذه الحرب ولا تجود عليها بالأدوية التي تعالج به مرضاها وعندها من
الأدوية ما يكفي أممًا كثيرة؟ الآن تذكرت الصحف الألمانية سورية بالرثاء،
والاعتذار عن أحلافهم السفهاء؟
أبمثل هؤلاء الملاحدة الكفرة الفجرة تريد أن تجذب إليها العالم الإسلامي إلى
الاتحاد بخدمتها؟ لقد صدق من قال: إن الألمان أتقنوا جميع العلوم والفنون، إلا علم
طباع الأمم وأخلاق الشعوب.
__________
(1) هم التتار السلف الطالح لهؤلاء الاتحاديين الذين تفتخر بهم جمعياتهم الداعية إلى العصبية التركية الطورانية حتى صاروا يدعون بالجنكيزيين نسبة إلى جنكيز خان الطاغية الملعون الذي دفع قومه إلى تدمير بلاد الإسلام ومحو المدنية العربية.
(2) لعل الذين فتحوها هم اليهود؛ لأن أكثر السكان منهم أو الجمعيات الخيرية.(19/443)
الكاتب: شاعر اجتماعي سوري
__________
متى يذكر الوطن النُّوَّم؟
للشاعر الاجتماعي السوري المقيم في أمريكة وقد نشرت في صحفها الشهيرة:
جلست وقد هجع الغافلون ... أفكر في أمسنا والغد
وكيف استبد بنا الظالمون ... وجاروا على الشيخ والأمرد
فخلت اللواعج بين الجفون ... وإن جهنم في مرقدي
وضاق الفؤاد بما يكتم ... فأرسلَت العين مدرارها
ذكرت الحروب وويلاتها ... وما صنع السيف والمِدفع
وكيف تجور على ذاتها ... شعوب لها الرتبة الأرفع
وتخضب بالدم راياتها ... وكانت تذم الذي تصنع
فباتت بما شيدت تهدم ... صروح العلوم وأسوارها
نساء تجود بأولادها ... على الموت والموتُ لا يرحم
وجند تذود بأكبادها ... عن الأرض والأرضُ لا تعلم
وتغذو الطيور بأجسادها ... فإن عطشت فالشرابُ الدم
وفي كل منزلة مأتمُ ... تشق به الغيدُ أزرارها
لقد شبع الذئب والأجدلُ ... وأقفرت الدُّور والأربُع
فكم يقتل الجَحفلَ الجَحفلُ ... ويفتك بالأروع الأروع
ولن يرجع القتل من قتلوا ... ولن يستعيدوا الذي ضيعوا
فبئس الأُلى بالوغى علموا ... وبئس الأُلى أججوا نارها
أمن أجل أن يسلم الواحدُ ... تُطَلُّ الدماء وتفنى الألوف
ويزرع أولاده الوالد ... لتحصدهم شفرات السيوف
أمور يَحَارُ بها الناقد ... وتدمي فؤاد اللبيب الحصيف
فياليت شِعري متى تفهم ... معاني الحياة وأسرارها؟
وحولت طرفي إلى المشرق ... فلم أر غير جبال الغيوم
تحول على بدره المشرق ... كما اجتمعت حول نفسي الغموم
فأسندت رأسي إلى مرفقي ... وقلت وقد غلبتني الهموم
بربك أيتها الأنجم ... متى تضع الحرب أوزارها؟
كما يقتل الطير في الجنة ... ويقتنص الظبي في السَّبْسب
كذلك يُجنى على أمتي ... بلا سبب وبلا مُوجب
فحتَّام تؤخذ بالقوة ... ويقتص منها ولم تذنب
وكم تستكين وتستسلم ... وقد بلغ السيل زُنَّارها
وسيقت إلى النّطع سَوق النَّعَم ... مغاويرُها ورجال الأدب
وكل امرئ لم يمت بالخذم ... فقد قتلوه بسيف السَّغَب [1]
فما حرك الضيم فيها الشمم ... ولا رؤية الدم فيها الغضب
تبدلت الناسُ والأنجمُ ... ولما تبدل [2] أطوارها
أرى الليث يدفع عن غيضته ... بأنيابه ... وبأظفاره
ويجتمع النمل في قريته ... إذا خشي الغدر من جاره
ويخشى الهزار على وكنته [3] ... فيدفع عنها بمنقاره
فلا الكاسرات ولا الضيغم ... ولا الشاة تمدح جزارها [4]
عجبت من الضاحك اللاعب ... وأهلوه بين القنا والسيوف
يبيتون في وجَل ناصب ... فإن أصبحوا لجؤوا للكهوف
وممن ... يصفق للضارب ... وأحبابه يجرعون الحتوف
متى يذكر الوطن النُّوَّم ... كما تذكر الطير أوكارها
__________
(1) الخذم بوزن كتف السيف القاطع من الخذم وهو القطع بسرعة وفعله بوزن ضرب يضرب، والسغب الجوع.
(2) لو قال: تبدلن بنون التوكيد لاستغنى عن ضرورة رفع الفعل المجزوم، والأنجم في البيت إما الكواكب وصفها بالتبدل مبالغة، أو أنواع النبات الذي لا ساق له.
(3) الوكنة بالضم: عش الطائر.
(4) يشير إلى بعض المنافقين الذين يمدحون هؤلاء المخربين ويعتذرون عن فظائعهم.(19/446)
ربيع أول - 1335هـ
يناير - 1917م(19/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى المولد النبوي [*]
(2)
البعثة النبوية وجملة سيرته - صلى الله عليه وسلم - قبلها
كان -صلى الله عليه وسلم- وسطًا في قومه وأمته، ولكنه أرقاهم بل أرقى
البشر في زكاء نفسه وسلامة فطرته، نشأ يتيمًا شريفًا، وشب فقيرًا عفيفًا، ثم كان
زوجًا محبًّا لزوجه مخلصًا لها، ولم يتول هو ولا والده شيئًا من أعمال قريش في
دينها ولا دنياها، ولا كان يعبد عبادتهم، ولا يحضر سامرهم ولا ندوتهم، ولم ينظم
الشعر كما كانوا ينظمون، ولا عُني بالخطابة كما كانوا يعتنون، ولم يؤثر عنه قول
ولا عمل يدل على حب الرياسة، أو البحث في شئون السياسة، ولم يشاركهم في
شيء من خرافات الجاهلية وضلالات الشرك، ولا من المفاخرات الكلامية وشئون
الغزو والحرب، بل كان يحب العزلة، ويألف الوحدة، وروي أنه في حداثته
حضر سمرهم مرتين، ألقى الله فيهما عليه النوم. وحب العزلة والانكماش
معروف عن كثير من الناس، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يمتاز في نشأته
الأولى، على الأتراب، بالتزام الصدق والأمانة وعلو الآداب، فبذلك كان له فيهم
المقام المكين، حتى لقبوه بالأمين.
على هذا الحال كان -صلى الله عليه وسلم- حين بلغ أشُدّه واستوى، وكملت
من جسده السليم ونفسه الزكية جميع القوى- لا طمع في مال ولا سُمعة، ولا تطلَّع
إلى جاه ولا شهرة. وكان أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى
رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح [1] واضحة، ثم حبب إليه الخلاء [2] وكان يخلو بغار
حراء [3] فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد [4] ثم يرجع إلى خديجة فيتزود [5] حتى جاءه
الحق وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان؛ بأن تمثل له
الروح الأمين جبريل، ولقنه عن ربه أفضل التنزيل. قال له: اقرأ. فقال: (ما أنا
بقارئ) كرر ذلك ثلاث مرات، وهذا من أمر التكوين لا من تكليف ما لا يُطاق،
وكان الملَك بعد كل جواب يغُطّه أي: يضمه إلى صدره ويعصره، حتى يبلغ منه
الجهد مبلغه، وحكمة ذلك أن تغلب فيه الروحانية على البشرية، ويستعد لتلقي
الآيات الإلهية، فيكون واسطة بين الخلق والخالق، ومنتهى الحاضر ومبدأ الغائب
ولما أرسله في الثالثة قال:
{اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ *
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) أي: كن قارئًا بعد أن
كنت أُمّيًّا، باسم ربك الذي خلق الإنسان الناطقَ من علق ولم يك شيئًا، لا باسمي
ولا باسمك، ولا بحولي وقوتي ولا بحولك وقوتك، فهو القادر على جعلك قارئًا
لآيات ربك، التي اقتضى جوده وكرمه أن يرسمها بالوحي في لوح قلبك، وعلى
تعليمك من الكتاب والحكمة ما لم تكن تعلم، كما علّم الإنسان بالقلم وغير القلم ما لم
يكن يعلم، فرجع -صلى الله عليه وسلم- بهذه الآيات إلى خديجة يرجف فؤاده،
وقد ارتعد بدنه ولكن حُفظ رشاده، فقال: (زمّلوني زمّلوني) فزمّلوه؛ أي: لففوه
بالثياب ودثّروة، حتى إذا ذهب عنه الروع أخبر خديجة الخبر، وقال: (لقد خشيت
على نفسي) أي: الهلاك أو الضرر، فقالت له: كلاَّ والله ما يحزنك [6] الله أبدًا،
إنك لَتصل الرحم [7] وتحمل الكلّ [8] وتُكسب المعدوم [9] ، وتقري الضيف، وتعين
على نوائب الحق [10] . ثم فتر الوحي ثلاث سنين، قوي فيها الاستعداد واشتد
الشوق والحنين. قال: (بينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري
فإذا الملك الذي جاءني بحراء) وذكر أنه رُعب منه أيضًا. ولكن كان ذلك دون
الرعبة الأولى، فرجع إلى أهله فتزمّل وتدثّر، فأُنزل عليه: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ
فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1-5) ثم
حمي الوحي وتتابع، وبلَّغ -صلى الله عليه وسلم- دعوة ربه فاشتد عليه أذى
المشركين وتتايع. [11] فما هذا النبأ العظيم الذي جاءه بعد الأربعين، وما ذلك
الأمر العظيم الذي دعا إليه بعد ثلاث وأربعين، فغيّر الله به على يديه تاريخ البشر
أجمعين، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.
***
تبليغ الدعوة الإسلامية وخلاصتها
إن ذلك اليتيم العائل في حداثته، الراعي الشريف التاجر القنوع في شبيبته،
الزوج المخلص لزوجته، الوالد العطوف على بناته وصبيته [12] الأمي الذي لم
يقرأ سِفْرًا، ولا كتب سطرًا، ولا شِعرًا، ولا ارتجل نثرًا، الناشئ في الأمة الأمية،
التي فرقتها نزعات العصبية، واستحوذت عليها نزعات الوثنية، وغلبت عليها
حمية الجاهلية، وأمست عاصمتها الدينية الدنيوية، ذات حكومة شبيهة بالعُرفية،
ليس لها رئيس متبوع، ولا قانون مشروع؛ قام فيها يدعوها إلى توحيد يجتث
جراثيم الوثنية، بتوحيد الربوبية والألوهية؛ وإلى استبدال الكتاب والعلم بتلك
الأمية، واستبدال الحكمة بتلك الجاهلية، وإلى تزكية الأنفس من تلك الخرافات
والتقاليد الوراثية، وإلى استعمال عقولها وحواسها في العلم والعرفان، والانتفاع
بجميع ما في الأكوان؛ لأن الله تعالى سخرها للإنسان.
بل قام يدعوها إلى ما هو أكبر من ذلك شأنًا، وأعم فائدًة ونفعًا، - قام
يدعوها إلى كتاب مهيمن على الكتب السماوية، ودين أُنزل لإصلاح جميع البرية،
وشريعة عادلة سماوية اجتهادية، تستأصل تلك الفوضى الاجتماعية، وتكفل لهم
السعادة الإنسانية، بإعتاقها البشر من رِقّ السيطرة الروحية والسياسية، وجعلهم
أحرارًا مستقلين في فهم العقائد الدينية، وأداء العبادات التي يتقربون بها إلى العزة
الإلهية. وجعل أمرهم شورى بينهم في الأحكام السياسية والمدنية، وجعل المفاسد
وحِفظ المصالح أساسًا للأمور الأدبية والشرعية، وجعل الإخلاص وحسن النية في
الأمور الدينية والعادية، مما يستعد به الإنسان للحياة الأبدية، وجعل الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فرضًا تقوم به الأفراد وتتعاون عليه الجماعات؛ لأنه
سياج الفضيلة ومقوِّم الأخلاق والعادات. وجعل القتال ضرورة تقدر بقدرها،
ويُجتهَد في إضعاف ضررها وشرها، فلا يقتل فيها النساء ولا الأولاد، ولا
الأُجراء ولا العُباد؛ ولا يمثل فيها بالقتلى [13] ولا يُذَفف على الجرحى؛ [14] ومتى
رجحت كفتنا بالإثخان [15] في الأعداء، نكتفي بالأسر عن سفك الدماء، {فَإِمَّا مَناًّ
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) ، [16] وتزول الضرورة
التي أوقدت نارها، وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ جَنَحْنا لَهَا، [17] لأننا أحق بها وأهلها، إلى
غير ذلك من ضروب الإصلاح، وأسباب الفوز والفلاح. ومن أهمها أحكام الرق،
بما رغب وأوجب فيها من العتق. وأحكام اليتامى والنساء، في الحقوق والإرث
والتصرف في الأموال، وحسْبُك من هذا الإصلاح العظيم، قوله تعالى:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228) .
قام ينبههم بأنه رسول من عند الله إلى جميع الأمم، من العرب والعجم، وأنه
أوحي إليه هذا القرآن لينذرهم به ومن بلغ [18] ويتلو عليهم قوله تعالى:
{تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) وقوله
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) ؛ ويخبرهم
عن الله عز وجل بأنه سينصره عليهم، ويبشر المؤمنين منهم بأنهم هم الذين
يحملون دعوته إلى غيرهم، وأن الله سيفتح لهم مصر والشام، ويعطيهم ملك
كسرى وقيصر، وأنهم سيكونون هم الأئمة الوارثين، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .
قام - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدعوة الكبرى، وذكر بها قومه فأعرض
الأكثرون عن الذكرى، ولم يعقل أذكى قريش وأعقلهم لها سببًا إلا الجنون، أو نَبْز
الداعي إليها بلقب شاعر أو كاهن مفتون؛ إذ كانوا يعلمون أنه لم يكن لديه شيء من
الأسباب والوسائل، لما هو دونها بمراحل؛ لا حول ولا قوة، لا مال لا عصبية
لا سليقة في الشعر تجذب القلب، لا تمرّن على الخطابة يؤثر في اللُّب، كما
يعلمون أنه طُبِع على الصدق، وعاش طول عمره عيشة الجد، فكان أقرب ما
توصف به تلك الدعوة إلى الظنون، أن قالوا: إنها نزعة من نزعات الجنون.
ولولا ما أيده الله تعالى به من الآيات والبراهين، وأعظمها هذا القرآن الحكيم
والنور المبين، ولولا تصديق الله تعالى إياه بالفعل، كما صدقه بذلك القول الفصل
لقال بقولهم ذاك في كل حين من بلغته دعوى تلك الدعوة من المتقدمين
والمتأخرين،] ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ
لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون [19] ٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ
المَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [[20]
(القلم: 1-7) .
أي برهان على النبوة أعظم من هذا، أميٌّ قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما
يكتبون وما يقرؤون، بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا
يعلمون. في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هبّ
لتقويم عِوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة، وأبعدها عن
فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع أصول
الشريعة، ويخط للسعادة طرقًا لن يهلك سالكها، ولن يخلص تاركها.
(ما هذا الخطاب المُفحِم؟ ما ذلك الدليل المُلجِم؟ أأقول: ما هذا بشرًا إن هذا
إلا ملك كريم؟ لا، لا أقول ذلك، ولكن أقول كما أمره الله أن يصف نفسه: إن هو
إلا بشر مثلكم يوحى إليه. نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأت في الإقناع برسالته بما
يلهي الأبصار، أو يحيّر الحواسّ، أو يدهش المشاعر، ولكن طالب كل قوة بالعمل
فيما أعدت له، واختص العقل بالخطاب وحاكم إليه الخطأ والصواب، وجعل في
قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل، مبلغ الحُجة وآية الحق الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [21] .
كان مثله -صلى الله عليه وسلم- في إثبات ما جاء به مثل رجل في بلد
كثرت فيه الأمراض، ولم يكن لدى أهله طبيب ولا علاج، فادّعى أنه طبيب يبرئ
العلل، فكذبوه فأثبت دعواه بالعلم والعمل، إذ جاء بكتاب عالج به أولئك المرضى
الذين أعضل داؤهم، واختلفت أمراضهم، فشُفُوا وعادت إليهم صحتهم؛ إلا مَن
أعرض عن دوائه، حتى هلك بدائه، بل الأمر أعظم من ذلك.
ألا إن مداواة أمراض الأمم الروحية والاجتماعية، أعز وأعسر من مداواة
الأمراض الجسدية، وتتوقف على علوم كثيرة لا على علم واحد، يُدرس الآن
منقولها ومعقولها في كثير من المدارس، وما أكثر من درسها في كتبها، وتلقاها
عن أساتذتها، يقدر على إصلاح أمة من الأمم بالعمل بها، فما القول في أميّ نشأ
بين أميّين، قام بذلك الإصلاح الذي تغير به تاريخ البشر أجمعين، في الشرائع
والسياسيات وسائر أمور الدنيا والدين، وامتد مع لغته في قرن واحد من الحجاز
إلى آخر حدود أوربة من الغرب، وإلى حدود بلاد الصين من جهة الشرق، حتى
خضعت له الأمم، ودالت لدولته الدول، وكانت تتبعه في كل فتوحه الحضارة
والمدنية، والعلوم العقلية والكونية، على أيدي تلك الأمة الحديثة العهد بالأمية،
التي علمها القرآن أن إصلاح الإنسان يتبعه إصلاح الأكوان، فهل يمكن أن يكون
هذا إلا بوحي من لدن حكيم عليم، وتأييد سماوي من الإله العزيز القدير الرحيم،
اختص به ذلك النبي الأميّ الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم؟
***
مناهضة الدعوة، وإلجاء الرسول إلى الهجرة
بدأ دعوته -صلى الله عليه وسلم- بإنذار عشيرته الأقربين، ممن في مكة من
قريش ومن الموالي والوافدين، فلقي أشد الجحود والإيذاء من قومه، حتى صدوه
عن تبليغ دعوة ربه، عملاً بقول أبي لهب: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع
العرب عليه. وقد أخرجوا عمه أبا طالب وآله من مكة؛ لأنه لم يخل بينهم وبينه،
فجمع أبو طالب بني هاشم والمطلب، ودخل بهم ومعهم النبي -صلى الله عليه
وسلم- في الشِّعب، وأجمعت قريش مقاطعتهم، وعدم مصاهرتهم، وأن لا يبيعوهم
ولا يبتاعوا منهم شيئًا، ولا يقبلوا منهم صلحًا، إلا أن يسلموا محمدًا للقتل، فمكثوا
ثلاث سنين في الشِّعب، وهم في أشد البلاء والجهد، وكان بعض ما مسهم من
الضرر، أن أكلوا ورق الشجر؛ ثم اشتد إيذاء قريش له ولمن آمن به بعد وفاة
خديجة وأبي طالب، وقد توفيا في عام واحد، فعرَض نفسه على القبائل في موسم
الحج، لعله يجد من يحميه للقيام بهذا الأمر، فلم يحمه من قريش أحد، ولكن آمن
به في موسم الحج ستة نفر من أهل يثرب، [22] ثم آمن به آخرون منهم في موسم
آخر، وصاروا يدعون أهل المدينة إلى الإسلام، وأرسل إليهم -صلى الله عليه
وسلم- من يعلّمهم القرآن. ففشا الإسلام فيهم، وجاءه في الموسم الثالث امرأتان
وثلاثة وسبعون رجلاً منهم، فبايعوه على التوحيد الخالص لربهم وإلههم، وأن
يمنعوه- أي يحموه- مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فتمهدت له بذلك أسباب
الهجرة، وكان قد هاجر جمهور من آمن به إلى الحبشة، فأمر من بقي أن يهاجروا
إلى المدينة مختفين، فكان القادرون يهاجرون أرسالاً متتابعين، وقد علم أكابر
قريش بالأمر، وأن الرسول سيتبع أصحابه بالسر، ففزعوا إلى الحيلة والمكر،
وبينما كان أبو بكر -رضي الله عنه- يهيئ راحلتين وزادًا ودليلاً للهجرة مع
الرسول من مكة، كان رؤساء قريش يأتمرون [23] بالرسول -صلى الله عليه
وسلم- في دار الندوة، فبعضهم يرى نفيه وبعضهم يرى حبسه وبعضهم يرجّح قتله،
ثم أجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة شابًّا جلدًا، [24] يقفون أمام داره ليلاً، حتى
إذا خرج ضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد؛ ليتفرق دمه على القبائل،
فيرضى بديته بنو هاشم، فلما وقف أولئك الشبان على بابه، أمر عليًّا بأن ينام في
فراشه ويتدثر ببرده، وخرج -صلى الله عليه وسلم- من بينهم، ولم ينظره ولا
شعر به أحد منهم، بل كانوا ينظرون من فروج الباب، فيرون النائم فيظنون أنه هو
النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ وذلك قوله تعالى في كتابه المبين:] وَإِذْ يَمْكُرُ
بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ المَاكِرِينَ [[25] (الأنفال: 30) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء السابع ص 409.
(1) الفلق بالتحريك المطلق يطلق على الصبح وهو من فلق الشيء بمعنى شقه وفرقه فرقين فإن ضوء الصبح شق الظلام مستطيلاً ثم مستطيرًا ومنه: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} (الأنعام: 96) وبهذا المعنى أضيف إلى الصبح، والمعنى أنه كان يرى الرؤيا فتقع كما رأى إذ تنطبع المعاني في مرآة روحه الصقلية كما هي، فهذا ضرب من الوحي وكانت مدته قبل وحي اليقظة الصريح ستة أشهر من ربيع الأول شهر ولادته إلى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
(2) الخلاء بالمد الاختلاء والانفراد.
(3) الغار نقب في الجبل، وحراء بالكسر أحد الجبال المحيطة بمكة على يسار الذاهب منها إلى منى والغار في أعاليه مشرف على مكة، بحيث ترى منه الكعبة، كما يشرف على ما دونه من تلك البقاع فهو حسن الموقع جيد الهواء، يتسع للمختلي فيه مجال الفكر، والشعور بعظمة الرب.
(4) أصل التحنث توقي الحنث؛ أي: الإثم وتجنبه وفسره الزهري في الحديث بالتعبد، قيل: كان يعبد الله على ملة إبراهيم وقيل بالتفكر خاصة، واختلف في عدد الليالي التي كان يقيمها ويتزود لمثلها.
(5) التزود: اتخاذ الزاد من طعام وماء.
(6) يحزنك من الحزن وهي رواية أبي ذر، وعند غيره ما يخزيك من أخزاه بمعنى فضحه وأهانه.
(7) أي: تحسن للأقارب بما يليق لكل منهم.
(8) الكل بالفتح الثقيل حملاً أو عيالاً أو طبعًا والمُتعب أي تحمل أثقال الناس أو تحمل المتعب على ما يركبه من الإبل أو الدواب.
(9) أي: تكسب المحتاج ما هو عادم له.
(10) النوائب النوازل والمصائب والحوادث؛ أي: تعين الناس في كل أمر غير باطل وهذه كلمة جامعة في بيان فضائله -صلى الله عليه وسلم- وهو يدل على فضل خديجة وعقلها واعتقادها أن من يلتزم الحق وعمل الخير لا يحزنه الله ولا يخزيه، والحديث في الصحيحين، وتتمته باختصار قليل: فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عمها وكان قد تنصر في الجاهلية، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له: اسمع من ابن أخيك فقال ورقة: يا ابن أخي ماذ ترى؟ فأخبره -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ياليتني فيها جذع؛ أي شاب (ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوَ مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
(11) التتايع (بالياء قبل العين) التهافت والإسراع في الشر أو التتابع (بالباء الموحدة) فيه.
(12) صبيته لقاسم وعبد الله والطيب والطاهر وقيل: الطيب والطاهر لقبان لعبد الله وهؤلاء من خديجة كبناته الأربع، وإبراهيم من مارية القبطية.
(13) التمثيل بالقتيل تشويهه بقطع بعض أعضائه كجدع الأنف وصلم الأذنين وقلع العينين.
(14) التذفيف على الجريح الإجهاز عليه؛ أي: إماتته.
(15) الإثخان في الأعداء إضعافهم بكثرة من يقتل منهم ومن رحمة الإسلام وإصلاحه إبطال لما كانت الأمم تستبيحه من استئصال أعدائها ولم يكتف بمنع قتل من لا يقاتل منهم حتى أمر بأن يكف عن قتل المقاتلين أنفسهم إذا ضعفوا وأمنا شرهم، وأن نكتفي حينئذ بأسرهم، وخيرنا في الأسرى بين المن عليهم بإطلاقهم وفك أسرهم بلا مقابل، وبين فداء أسرانا عندهم إن كان لنا عندهم أسرى وذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ} (محمد: 4) إلخ.
(16) الأوزار جمع وزر وهو الحمل الثقيل ويطلق على الذنب، والمعنى حتى تنقضي الحرب بوضع المحاربين لأثقالها من السلاح والذخائر عن أنفسهم- وقيل بترك الكفار للعدوان والذنوب الموجبة لها.
(17) السلم ضد الحرب وكلاهما مؤنث اللفظ.
(18) أي: وينذر به كل من بلغه ووصلت إليه دعوته من سائر الأمم.
(19) أي: غير مقطوع.
(20) النبذة الآتية التي أولها (أي برهان) وآخرها (تنزيل من حكيم حميد) مقتبسة من رسالة التوحيد لشيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.
(21) هذا آخر ما اقتبسناه من رسالة التوحيد وفيها بعده الكلام على القرآن.
(22) هي المدينة المنورة.
(23) يتشاورون في الأمر.
(24) القوي الصابر.
(25) المكر: التدبير الخفي الذي يفضي بالمذكور به إلى ما لا يعلم ولا يحتسب ويكون في الشر غالبًا وقد يكون لإبطال الشر أو للخير، ومنه مكر الله عز وجل، والإثبات: الاعتقال، والإخراج: النفي.(19/473)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة الحجاز
(2)
تابع لما في الجزء الخامس
ضربت وزارة الداخلية يوم السبت الخامس والعشرين من شهر صفر
(الموافق لأول الميزان 23 سبتمبر) موعدًا لسفر ركب المَحمل المصري من القاهرة
إلى السويس وآذنت مريدي الحج بأن يكونوا قبل ذلك اليوم في السويس ليأخذوا فيها
أهبتهم ويتبوءوا أمكنتهم من الباخرتين اللتين أعدتها لحملهم إلى جدة. وبينا أنا
منهمك في الاستعداد للسفر بشراء ما ينبغي شراؤه، وترتيب ما تقرر حمله، وإعداد
ما تحتاج إليه الدار، وإدارة المنار، خطر في بالي أن أكتب رسالة في مناسك الحج
أبين فيها أحكامه وحكمها بعبارة سهلة، مأخوذة مما صح في السنة، وأن أطبعها
وأحملها معي هدية للحجاج الذين أصحبهم وألقاهم. فشرعت في ذلك وقت الظهر
من يوم الأربعاء فكنت أكتب عدة سطور ثم أترك الكتابة عدة دقائق للاشتغال بشيء
ضروري. ثم إنني اضطررت إلى ترك الكتابة من ظهر يوم الخميس إلى ضحوة
يوم الجمعة، ثم قضيت أصيل ذلك النهار وغسق الليل خارج المكتب والدار،
فتعذر الجميع بين إكمال المناسك والسفر في يوم الجمعة فأكملت في هذا اليوم
(الجمعة) فكانت أكثر من كراستين وقد ضاق الوقت على طبعهما قبل السفر؛ إذ
تعين أن يكون آخر موعد له قبل الظهر بساعة من يوم السبت، فاضطررت بعد
جمع حروفهما ليلاً إلى اختصار الأولى بالحذف من عدة مواضع منها، وطبعت بعد
أن نمت فلم أتمكن من تصحيحها، فلذلك كثرت أغلاطها، وتعذر على المطبعة أن
تجهز لنا ضحوة السبت جميع النسخ فاكتفينا بحمل مئات منها.
ركبنا القطار الحديدي مع السيدتين الوالدة والشقيقة قبيل انتهاء الساعة الحادية
عشرة من يوم السبت ببضع دقائق، وكان ركب المَحْمل قد سافر في قطار خاص
في أول هذا اليوم، وودعنا في المحطة الأهل والإخوان، وخاصة من علم بموعد
سفرنا من الخلان، وقد كنا بلونا لوعة الوداع بتعدد الأسفار، وكان أشجاها وداع
الوالدين والأقربين والأصدقاء عند الهجرة إلى هذه الديار، ولكنني لم أذق قبل هذا
اليوم لوعة توديع الأهل والأولاد؛ لأنني لم أكن في حال سفر من أسفاري السابقة
زوجًا ولا والدًا.
***
نبذة فلسفية في الوداع وما
فيه من تهذيب الطباع
قرأت قبل سفري الأول كثيرًا مما قال الأدباء والشعراء في الوداع، وحفظت
من أشعارهم ما لا يسهل علي أن أتذكره الآن، ولا أحب أن أشغل بالتطويل في هذا
الموضوع قراء هذه المجلة، ولا أن أترك الإلمام به وهو من أهم مسائل علم النفس
التي تفيد بصيرة في علم التربية.
إنني عند وداع الوالدين وذوي القربى والأصدقاء في سفر الهجرة إلى مصر
وجدت في نفسي وفيمن ودّعت منهم مصداقًا لقول الشاعر:
لو كنت ساعة بَيْنِنا ما بيننا ... ورأيت كيف نكرر التوديعا
لرأيت أن من الدموع محدِّثًا ... وعلمت أن من الحديث دموعا
فقد كان الحديث للدموع وحدها؛ لأن لسان الفم حبس فخرس، ولسان العينين
انطلق بالكلام المنسجم، وقد كتبت إلى بعضهم بعد الوصول إلى مصر عبارة
شعرية كنت شعرت بأنها حقيقة وجدتها في نفسي، وهي أنني وجدت وجد المودَّع
ولوعته يساويان وجود جميع من ودعوه وإن كثروا، لأن كل واحد منهم فارق
محبوبًا واحدًا وهو قد فارق أحبابًا كثيرين يجد في نفسه من الألم لفراق كل منهم
مثل ما يجده ذلك الفرد لفراقه هو، فالصواب أن لكل نوع من أنواع الوجدان
والشعور واحدًا يختلف باختلاف أمزجة الناس ويتفاوت في الأفراد بتفاوت ما يثيره
في قلوبهم، ولو أمكن أن يوضع للإدراكات النفسية موازين كموازين الحرارة
والرطوبة والثقل لعلمنا بها أقصى حد لألم الفراق في نفس العاشق الواله، وفي
نفس مثل الزوج، والوالدة والوالد، وهو إنما يبلغ حده الأقصى إذا كان الفراق بعيد
الشُّقة، أو عرضة للهلاك. أو شدة المشقة، كسفر ابن زريق من بغداد إلى المغرب
في ذلك العصر، فهو لولا الخوف من الفراق الأبدي لمن أحب لما قال في وداعه
يومئذ قول العاشق الممثل لما في فؤاده، لا قول الشاعر المصور لما في خياله:
ودعته وبودي لو يودعني ... طيب الحياة وإني لا أودعه
كم قد تشفع بي ألا أفارقه ... والضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث في يوم الرحيل ضُحًى ... وأدمُعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله، ثوب العذر منخرق ... عني بفرقته لكن أرقعه
ذلك بأن وداع الأحباب عند سفر قاصد (قريب) إلى خير مرجوّ في حرم
آمن، ليس كالوداع في سفر بعيد يضعف فيه الأمل، فيما يثيره من الوجد والألم.
بل أقول: إن الأنفس تهوى بعض الآلام الخفيفة، وتجد في باطنها لذة خفيفة كلذة
العاشق المُستكنّة في هجر محبوبه إياه هجر دلال أو هجر مَلال، بما فيه وما يتلوه
من تهييج عواطف الحب والوجد والاشتياق، الذي يشبه كد الذهن وإتعابه في حل
المسائل العلمية العويصة، أو إجهاد البدن في بعض الأعمال الواجبة أو الرياضيات
المستحبة، في أن كلاًّ من ذلك جامع بين الألم واللذة، أو ربما يترتب عليه من لذة
الشكوى والعتاب كما قالت عليّة بنت المهدي:
وأعذب أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سُخط ولا رضًا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وإذا كان لكل شعور ووجدان نفسي غاية وحد فسواء كان السبب الذي يبلغ به
منتهى حده واحدًا أو متعددًا، وإذا كان الغلو في حب الوالد أو العشق أو غيرهما من
شأنه أن يترتب عليه بلوغ تلك الغاية وهو قلما يكون إلا في حب الآحاد من الأولاد
والأحباب فإن الحب المتفرق على المحبوبين المتعددين من جنس واحد كالأولاد أو
من عدة أجناس لا يكاد يكون إلا دون الحد الأقصى- إذا كان ما ذكر كما ذكر وهو
ما نراه، فتلك القاعدة الشعرية التي كنت كتبتها لا تصدق بالاطراد، بل الأكثر أن
لوعة الفراق المتفرقة على الكثيرين تكون دون اللوعة المقصورة على الأفراد.
هذا وإن سفرنا إلى الحجاز سفر قاصد لأداء فرض لازم في عام يقل فيه عدد
الحجاج فتسهل فيه مراعاة الحكومة لصحتهم، والبلاد سالمة من الأوبئة فالرجاء قوي
بأن تؤدى الفريضة فيه بالسهولة في مدة شهر واحد. ففراق الأهل والصحب في
مثل هذا السفر ليس من شأن وداعه أن يثير منتهى الأشجان، وينطق الدموع
ويخرس اللسان، وناهيك بمن كان مثلي مسافرًا مع أشد الناس حبًّا له -والدته
وشقيقته- وكم ودع الناس بعضهم بعضًا في مثل هذه الحال ضاحكين مسرورين،
وكذلك ودعنا الأهل والأصدقاء في محطة مصر ودخلنا القطار، ولما وقفت في
النافذة وقدم إلي محمد شفيع ونُعمى لأجل القُبلة الأخيرة، اضطربت عاطفة الأبوة
في جميع أعماق النفس، فاضطرمت لوعة فراقهما في سُويداء القلب، ففاضت
العينان، واعتقل اللسان، وخانتني تلك الإرادة التي كنت أكابر بها الأشجان،
والعزيمة التي تعودت أن أملك بها أزِمة الوجدان، حتى عند الصدمة الأولى بموت
الأخوة والإخوان، وما ذاك إلا أن ألم توديع الأولاد مشوب بلذة، لا تستجمع
لمقاومته كل قوة الإرادة، وألم مثل تلك الصدمة، هو الذي توجه لاحتماله كل
العزيمة.
تذكرت في هذا المقام ما قاله صديقنا عبد الحميد الرافعي شاعر طرابلس الشام
في توديع أولاده عند سفر له إلى الآستانة، وهو قوله من قصيدة:
لست أنسى ساعة البين وما ... هي إلا فَكّ روح من جسد
رمت فيها الصبر لكن لم أطق ... وحبست الدمع لكن لم يكد
وبروحي غررًا قبلتها ... لجبين الحُسن منها مستمد
من صغارٍ كاللآلي لجلجلت ... منهم الألسن والجفن اطّرد
بعضهم أبكاه مرأى من بكى ... ليس يدري قطّ ما اليوم وغد
والذي لاح له معنى النَّوى ... أطبق الدمع عليه فارتعد
هل سمعتم يالقومي عاشقًا ... أَنِسَ الظبي به وهو شرد
ليتني فارقت عيني والحشا ... قبلما فارقت أهلاً وولد
أودعوني عندما ودّعتهم ... حسرة كانت من الموت أشد
كلهم ينشدني قرب اللقا ... حاسبًا للعَوْد أيامًا تُعَدّ
والذي لا يعرف النطق غدًا ... نُطقه الإبما بعين أو بيد
وما بيني وبين هذا الصديق إلا أن سفري خير من سفره، وولدي أصغر من
ولده، فقد كان بعض ولده يفهم معنى الفراق والسفر، ونُعمى لم تكن أتمت السنة
الثالثة، وشفيع كان في أول الشهر الخامس عشر، وكان سبب سفره أن الشيخ أبا
الهُدى الشهير غضب عليه غضبة مضرية، قطعت عليه موارد الرزق بعزله عن
أعمال الحكومة، فرحل إلى الآستانة يستعطفه ويسترضيه، عسى أن يعود بجاهه
إلى عمله أو عمل يفوقه أو يساويه، معلق القلب بين الفوز بالأمل، وبين الخِزي
والفشل، لا يدري أيعود كما رجا أهله بعد أيام تُعَدّ، أو بعد شهور أو سنين لا تعد،
حسب القاعدة المطردة في كل عمل يطلب من حكومة الآستانة! فأين السفر إلى تلك
العاصمة، لطلب الرزق من أولئك الباخلين المخلفين؛ من السفر إلى مكة المكرمة،
لطلب المغفرة والرحمة من أرحم الراحمين؟ لقد كان ذلك الشاعر جديرًا بأن لا تعود
إليه السكينة، إلا بعد أن ينقلب إلى أهله بما يرجو من الوظيفة.
وأما هذا الكاتب فقد عادت إليه سكينته بعد سير القطار بساعة زمانية، وإنما
كان يفكر أحيانًا فيما يرجو من الاهتمام بصحة ولديه في غيبته، واستشارة الطبيب
حتى عند الحوادث التي لم يكن يستشيره في مثلها، وقد ضعف التفكر في ذلك وفي
غيره من أمور الدنيا منذ الإحرام إلى التحلل التام منه بأداء المناسك كلها، حتى كأن
الإنسان يدخل بمجرد الإحرام في عالم آخر.
والعِبرة فيما بيناه من فلسفة الوداع أن نذكّر القارئ بأن ألمه هو أول فوائد
السفر المهذبة للنفس ولا سيما نفس الوالد، وقد غفل عنها من حصر ذلك في خمس
فوائد. وإنني رأيت لبعض من آثر العُزبة وبعض من حُرم النسل يظنون أن الولد
من منغصات العيش في الدنيا؛ لأن غبطة النفس به، وقُرّة العين برؤيته، ولذة
الأمل بطول عمره وحسن مستقبله، لا توازي وداعه عند السفر، والحذر عليه من
الموت أو المرض والضرر، دَعْ هَمّ الوالد في تربيته وتعليمه في حياته، والخوف
من سوء حاله بعد مماته، ولا سيما إذا كان قليل المال، وكثر عليه العيال. وما
هذه الظنون، إلا من أوهام الكُسالى والمحرومين، إلا أن عدم إقدام فاقد المال أو
قليله على الزواج، له وجه في هدي الشرع وآراء الناس. وأما ما يدخل في
موضوعنا منها وهو لوعة الوداع ومرارة الفراق، وما يتلوها من حرارة الاشتياق،
فهو من أعظم فوائد نعمة الأولاد على الوالدين في تهذيب أنفسهم، وتثقيف عواطفهم،
وإعلاء هممهم، وتقوية أريحيتهم، وهي على ما فيها من الفوائد، حلوة الطعم في
ذوق الوالد، كما يستحلي العشاق تجنِّي الحبيب، ويقولون: ضرب الحبيب زبيب،
ولو قيل للمشتاق: أتحب أن تخمد حرارة هذا الشوق في قلبك فتمسي لا تذكر من
تشتاق ولا تحنّ إلى لقائه؟ لقال: لا. وفي معناه قول قيس العامري:
وقالوا: لو تشاء سلوت عنها ... فقلت لهم: وإني لا أشاء
ذلك بأن ما يهيج الوجد مما يشبه نغمات الألحان، المثيرة للأشجان،
والمحركة للأحزان، على شهداء الحق في سبيل الإيمان أو الأوطان، الحافزة
إلى الأخذ بثأرهم، والرغبة في اقتفاء آثارهم، وهي مما يرغب فيه الفضلاء،
ويحث عليه الحكماء؛ وأن بكاء الفراق، الذي يُرجى بعده التلاق، كالبكاء من
خشية الله -عز وجل- يحسبه من لم يذق طعمه عذابًا وألمًا، وما هو إلا نعيم
وغِبطة، ولذلك قال من ذاق فعرف: أهل الليل في ليلهم، أطيب نفسًا من أهل اللهو
في لهوهم. وقال بعضهم: لو يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف، ولا
تكمل تربية أحد إلا بركوب الصعاب وحمل الآلام والأثقال.
وأبعد تلك الظنون بل الوساوس عن الحقيقة وأوغلها في الوهم ما توسوس به
النفس لبعض المحرومين: أن خوف الوالد أن يموت قبل أن يرشد ولده ويستقل
بنفسه في معيشته، أو يكون له مورد واسع من الرزق يعيش به - ينغص عليه
غبطته وسروره بوجوده. وقد سمعت مثل هذا ممن يعد نفسه ويعده بعض الناس من
علماء الأخلاق، وما هو إلا من أسرى الوساوس والأوهام، فإن تفكر الناس في
مستقبل أولادهم من بعدهم أو احتمال موتهم من قبلهم، ما كان لينغص عليهم
هناءهم وغبطتهم بهم، إلا مَن شذّ من غُلاة الموسوسين، الذين وصلوا أو كادوا أن
يصلوا إلى درجة المجانين، وكل نعمة يخولها هؤلاء تكون عليهم نقمة يحرمون لذة
وجودها، ويعذبون بتوهم فقدها، أو احتمال حدوث مصاب بسببها، ومن غلاة
هؤلاء المساكين ديك الجن الذي قتل وصيفه ووصيفته لاشتداد شغفه بهما وخوفه أن
يموت ويتمتع بهما غيره، ويقرب منه ذلك العاشق المسكين، الذي خلق من ماء
الدموع وصلصال الأنين، لا من الماء والطين، فاستوى عنده القرب والبعد،
والوصل والصد، فهو يبكي من يحب في كل حال، كما وصف نفسه فقال:
فأبكي إن نأوا شوقًا إليهم ... وأبكي إن دنوا خوف الفراق
إننا بعد توديع من ذكرنا، ركبنا وحدنا مخدع مركبات الدرجة الأولى من
القطار الحديدي، ولكننا لما انتقلنا مع سائر الركاب في الإسماعيلية إلى القطار
الآخر ألفيناه قطارًا رديئًا، وقد اكتظ بالجنود البريطانية حتى إن المخادع الخاصة
بالنساء المخدَّرات لم تكن تخلو منهم، فاضطررت إلى وضع السيدتين في مخدع
منها رأيت فيه مواضع لي ولهما، واثقًا بأننا لا نرى من هؤلاء الجنود ما نكره،
وكذلك كان -ولله الحمد- وآداب الجنود الإنكليزية الخلص معروفة عند جميع
المصريين- يندر أن يرى أحد من سكران منهم تعديًا أو إساءة، فكيف يكون أدبهم
في حال الصحو؟ وقد وقف القطار في محطات جديدة كثيرة خاصة بالجنود
المعسكرة على جانبي الطريق قريبة من الخط الحديدي أو بعيدة عنه، وبسبب ذلك
يتأخر القطار قليلاً عن موعده المعتاد.
وصلنا إلى السويس قبل المغرب، وكان قد سبقنا إليها أمس مع جماهير الحجاج
المصريين محمد نجيب أفندي المعاون في مديرية الجيزة وهو صِهرنا على بنت
أخي، والشيخ خالد النقشبندي، فكانا رفيقين لنا في السفر في كل حِلّ وتِرحال،
وكل منزل من منازل الحاج، وقد بتنا تلك الليلة في دارٍ اختارها لنا الرفيقان من
دور الأهالي التي يأوي إليها الحجاج في هذه الأيام، وهم يتقاضون من الأجرة في
كل ليلة فوق ما يعهد في الفنادق الكبيرة التي تفوقها خدمة ونظافة، وكذلك أصحاب
المركبات في السويس يزيدون أجورها على الحجاج أضعافًا.
وفي ضَحْوة اليوم التالي ذهبنا إلى مكتب الصحة لأجل ما فرضته الحكومة
على كل حاج من تلقيح أطبائها إياه بالمصل الواقي من الهيضة الوبائية (الكوليرا) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(19/449)