الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من إنشاء طلبة
دار الدعوة والإرشاد
اقترحنا الموضوع الآتي على طلبة السنة الأولى لاختبار إنشائهم وآرائهم في
هذه المسألة، فاخترنا أن ننشر ما كتبه بعضهم كما كتبوه مع تصحيح بعض الغلط
في الهامش، وهو:
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم
إنشاء الطالب يس إبراهيم:
لم ير التاريخ من لدن آدم إلى ظهورهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
كالإسلام في معاملته وعدله، ولم ينقل إلينا أثر يدل على أن الإسلام عامل مخالفيه
بالقسوة؛ بل تواترت الآثار والشواهد الدالة على عدله، وأنه ما جاء إلا لهداية
البشر لما فيه صلاحهم في الحال وصلاحهم في المال، وأنه رحمة للناس كافة
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، وإن أهم ما يستشرف منه
على عدل الإسلام في معاشرة مخالفيه النظر في نصوص الدين، فإنه الميزان الذي
يبين العدل من الجور، ويفصل بين الضغط والحرية، تأمل تر أن الإسلام قد بلغ
حدًّا من القوة لا يقاومه صاد. ولا يحركه مزحزح، ومع ذلك ينادي الإسلام: {لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .
فلو أن الإسلام فيه شائبة من ظلم لحمل الناس على الدخول فيه كرهًا أيام
استكمال القوة في عزه وشبابه، كما يفعل أهل الأديان الأخرى في العصر الحاضر
والقرون الخالية، على أن السابقين معذورون، فإنهم ما وصلوا إلى درجة من العلم
والحضارة تحملهم على الالتجاء إلى العدل، بخلاف أهل هذا الجيل فلا عذر لهم مع
صياحهم بصوت العدل. ولا يخفى على أحد ما يفعلونه بالناس من حملهم على
دينهم وسلب أموالهم وجعلهم خدمًا وعبيدًا، إما بالظلم البيّن، أو الجور المستتر،
وهو ما يسميه الأستاذ بالسياسة اللينة. فوربك أما تشعر الآن بأن الإسلام دين
الرحمة والعدالة في القرون المظلمة خير من جميع الأديان وقوانين السياسة في
عصر العلم والحضارة؟
إن الإسلام لم يضغط على معاشريه، ولم يحملهم على المعاملة بأحكامه؛ بل
جعل لهم الحرية التامة في وضع أحكامه، وجعل عقوبة لمن يتعرض لهم بالأذى
من المسلمين، هكذا كان الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء
بعده. ومما يروى أن يهوديًّا جاء إلى سيدنا عمر بن الخطاب شاكيًا سيدنا عليًّا
رضي الله عنهما من أجل دَيْنٍ ادّعاه عليه، ولما كان الخليفة يحكم بينهما رأى أن
أمير [1] جالسًا قال (قم فساوِ خصمك) ، فيا لله ما هذا العدل والإنصاف بين
يهودي ومسلم لدى أمير المسلمين؟
ما نشأ هذا العدل إلا من نور الإسلام وسماحته. ولا يتوهمن أحد أن القتال
الذي وقع بين المسلمين ومعاشريهم ومن ساعدهم ينافي العدل؛ ما دام يعلم أن الذنب
على المعتدي، وإن البادئ أظلم، فمعلوم أن المسلمين ما آذوا أحدًا ولم يكن
غرضهم إلا إيصال هذا النور إلى القلوب، وكل ما وقع منهم إنما هو دفاع عن
أنفسهم بأمرٍ من الله تعالى بعد التعدي عليهم {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ
الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفَُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 191-192) .
وإن الإسلام لم ينه معتنقيه عن موالاة من خالفهم، ولم يمنعهم من مواساتهم
إلا إذا كانوا يقاتلونهم ويعادونهم، والقرآن أعظم دليل على ذلك: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8-9) أتُراك بعد سماع هذه الآيات تشعر بأن الإسلام ليس دين العدل
والرحمة إذا أزلت عن بصرك عشاء العصبية؟
فلو نظرت نظرة الإنصاف ما وسعك إلا التسليم بأن آداب الإسلام في معاشرة
المخالفين أحسن الآداب، وكم عفا - صلى الله عليه وسلم - عن مذنب، وأحسن
إلى مسيء؟ وإن التاريخ يدلنا على أنه كان يتحمل أذى الأعداء، ودائمًا يتبع أثر
السلم ولو بالحكم الشاق، ألا تراه مع كثرة تطلعه إلى مكة، وشدة شوقه إلى الكعبة،
وحنينه إلى حجر أبيه إبراهيم، كيف قبل أن يرجع، مع وفرة القوة وإمكان
الوصول، وقساوة الشروط التي منها أنه إذا ارتد أحد من شيعته يقبلونه، وإذا أسلم
أحد منهم لا يقبله - على ما يقول التاريخ - وقد ترك زيارة البيت في هذا العام [2]
هكذا كان الإسلام ولم يزل في تسامحه وعدله بين أهليه ومعاشريه.
ومن أدب الإسلام أنه لم يسمح للمؤمنين أن يساعدوا الذين آمنوا ولم يهاجروا
على من كان بينهم وبينهم ميثاق [3] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم
مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الأنفال: 72) .
ولعمري ما انتشر الإسلام على ما ترى إلا بحسن آدابه وعدله في المعاملة،
فإن العدل يجمع القلوب. وبالآداب الحسنة تملك الأزمة، ولا رأي للقائلين بالضغط
والغلظة.
والقول الفصل في هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، فإن الله تعالى أعلم بقلوب عباده خبير بما
يوحدهم ويجمع كلمتهم، وقد أنزل القرآن وضمنه ما يكفل ذلك إن قام به أهله. ولو
تصفحت القرآن آية آية لا تجده يأمر بالغلظة على من التزم حده. وإنما قال {ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (المؤمنون: 96) وقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (آل
عمران: 159) إلخ.
وقد أجمع عقلاء الاجتماع [4] على أن اللين خير من الشدة مهما كانت القوة،
وأنه ما أثر هذا التأثير رجل واحد إلا بإعطاء الحرية وانتشار العدل ومخاطبته
العقول. ويخيل لي - بل ربما كان أقرب إلى الحقيقة - أن الذي يحتاج إلى استعمال
الشدة والقوة والغلظة هو من يدعو إلى شيء باطل، فإن العقول بطبعها تنفر عنه،
فإن أخذ أصحاب الباطل وسائل القسوة والضغط ربما أمكن أن يخضعوا بعض
الناس في الظاهر زمنًا ما، ولا يلبث أن يحصل رد الفعل ويرجع الناس إلى
فطرتهم، وإن الإسلام ما جاء بشيء يناقض الفطرة فكان مقبولاً بمجرد وصوله إلى
الآذان الصاغية؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) ،
فلو أن المسلمين قاموا بما أوجب الله عليهم وبلغوا هذا الدين إلى الناس كما كان
يفعل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وتدبره الناس لدخلوا في دين الله
أفواجًا.
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم
إنشاء الطالب محيي الدين رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك ربي ما أحكمك، وأحكم شرعك ونبيك، لقد صببت الآداب والفضائل
كلها في كتابك الحكيم. وأجريتها على لسان خاتم المرسلين، فبأي لسان نحمدك
ونمجدك؟ وبأي عمل نشكر على آلائك وإحساناتك؟ فشكرًا لك من عبد ضعيف،
وصلاة وسلامًا على نبيك الأمين.
الإسلام وما أدراك ما الإسلام؟ الإسلام هو ذلك الدين الذي سوى بين الأمير
والحقير؛ (بل لا حقير عنده) أما بلغك خبر الأمير العادل (عمر بن الخطاب)
مع ذلك الأمير الغساني جبلة بن الأيهم الذي وطئ الأعرابي وصفعه [5] على قفاه؟
هل قبل منه عمر أن يجعل بينهما درجات متفاوتات؟ كلا! ثم كلا! ولذلك فر
الغساني هاربًا إلى القسطنطينية ولا تسأل عمّا حل به من الندم بعد ذلك. فشعره
يشهد على ندمه العظيم.
هذا ما كان من عمر في قضية الأمير الغساني والصعلوك العربي، وانظر
إلى ما كان منه مع ابن عمرو بن العاص حينما ساط القبطي الذي سبقه (ولا تنس
فضل أبيه الفاتح وأنه كان صغير السن قد يهفو) فقد كتب إلى أبيه: يا عمرو منذ
كم استعبدتم [6] الناس وقد ولدتهم أماتهم أحرارًا؟
ما هذا بعدل إنسان، إنما هو هدى القرآن، نعم هذا هو سبيل الإسلام وأمرائه،
وليس بعجيب إن قلنا إن التاريخ لم ير أعدل منه. ولعلك تتذكر أن عليًّا (وهو
صهر الرسول وابن عمه) تحاكم مع يهودي أمام قاض مسلم [7] فكناه القاضي
ونادى الآخر: يا يهودي! فغضب علي من القاضي وقال له: ما كان لك أن تفعل
هذا في موقف القضاء؛ بل كان يجب أن تسميني وتسميه.
خير الأمور التسامح في محله، وقد جرت الشريعة الإسلامية على هذه الفضيلة
وحثت عليها في مواضع شتى. وكم من موقف لأمراء الإسلام وعلمائه أسرع
التاريخ إليه فاقتنصه وحلى به جيده العاطل، فالشريعة تنادي أهلها أن: خالقوا
الناس بخلق حسن. {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء:
86) (من غشنا فليس منا) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ
مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ} (النساء: 94) ، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: 90) ،
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} (النحل: 91) .
ولو أردنا تتبع ما ورد في الشريعة من الآي والحكم الواردة بخصوص
المخالفين لنا فقط لما أمكننا في هذا الموقع، غير أننا نعلم بالجملة من تاريخ السلف
الصالح ومما اقتبسناه وأرشدنا إلى تدبره من قرآن وحديث، أن الدين الإسلامي خير
دين قد أخرج للناس يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحترم المصالح العامة
والخاصة، ولا يأمر إلا بكل خير وصلاح لمعتنقيه وللمستظلين برايته البيضاء؛
حتى يجعل الجميع في هناء، يرفلون في حلل السعادة وطيب العيشة الراضية.
لا تظن أن الإسلام احتقر أهل الذمة واهتضم حقوقهم كلا! بل هو مع ذلك لم
يرغمهم على الدين به وهو خير دين {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)
فالدين قد جعل لهم أحكامًا ترضيهم، فعقد لذلك الفقهاء الأبواب والفصول، وكلها
مستمدة من الدين القويم، فقد جعلهم أحرارًا. وأي حرية أكبر من حرية ذلك
اليهودي الذي أخذ بتلابيب النبي صلى الله عليه وسلم يجذبه إليه ويصيح به. فهَمَّ
عمر باستلال السيف فناداه النبي: دعه فإنه له حقًّا [8] .
هذه الواقعة التي وقعت من أبي المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم تعطينا
درسًا اجتماعيًّا كبير الأهمية عظيم المنفعة، وتعظم منزلة الدين في نفوسنا، ولعلنا
نقوم فنحاكي سلفنا الصالح ونسير على نهجه القويم فنعود أمة حية، وليس بعجيب
على التاريخ أن يعيد نفسه، ونسأل الله سبحانه تعالى أن يوفقنا لهذا بدون إثارة
الغبار على من خالفنا، كما نسأله أن يهدي مخالفينا ويجعلنا أمة صالحة تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر.
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملته
إنشاء الطالب عبد الرحمن عاصم
اقتضت حكمة الله تعالى بأن يرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى
ودين الحق، بدين الفطرة السليمة والعقل الصحيح، ليكون الناس أمة واحدة تجمعهم
جامعة الدين على كلمة الإخلاص لله وحده، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم ليتم مكارم الأخلاق، جاء بالآداب السامية والأخلاق الشريفة، من بعد ما أعد
الله تعالى لقبولها نفوسًا زكية وأرواحًا طاهرة. فتقبلتها بقبول حسن، وأنبتتها نباتًا
حسنًا، فكان الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، لِمَا يرون من السعادة في لباسها.
وقد سمعت عن كاتب فرنسي ترجم رواية عربية وكتب لها مقدمة قال فيها ما معناه -
إن من سوء حظ فرنسا أن صادمت العرب (ويريد المسلمين) ومنعتهم من
استعمار بلادهم؛ لأنها لو تركتهم يعمرون البلاد لسبقت فرنسا الأمم إلى المدنية
والحضارة بسنين عديدة [9] هذه شهادة رجل بعيد عن الآداب الإسلامية - والفضل
ما شهدت به الأعداء -[10] يقول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) وبين طريقة الدعوة
وأسلوبها بقوله سبحانه: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) فبهذي الآية أمرنا الله تعالى بأن ندعو
ونخاطب مخالفينا ومعاندينا باللين واللطف، ونحاجهم بالتي هي أحسن، حتى
نستميلهم إلى الإسلام ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا. والآثار التاريخية التي تدل
على تسامح المسلمين مع مخالفهم كثيرة، منها أن يهوديًّا لقي النبي صلى الله عليه
وسلم وطالبه بدين له ثم أمسك بثوبه وهزه، وصفح عنه الرسول صلى الله عليه
وسلم الصفح الجميل.
ومن آداب الإسلام في معاملة المخالفين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان
غانمًا في غزوة من غزواته نَعَمًا كثيرة، وجاءه أحد كبار المشركين ورآها ترعى
فأعجب بها فوهبه إياها الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم المشرك لِمَا رأى من
سماحة النبي صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه.
ومن آداب الإسلام في معاشرة المخالفين أن ابن فاتح مصر كان يتسابق مع
المتسابقين فسبقه قبطي فأخذته العزة فلطمه، ووصل الخبر لصاحب العدل سيدنا
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخليفة الثاني، فكتب إلى ابن العاص يعاتبه
على هذا ويزجره قال: (يا عمرو متى استبعدتم الناس وقد وضعتهم أمهاتهم
أحرارًا؟) [11] .
ومن ذلك ما يحكى عن جَبَلة بن الأيْهَم أنه كان يطوف في البيت مسبلاً إزاره
ومر به فَزَارِيّ فوطئ الإزار فسقط عن منكبي جَبَلة فلطمه جبلة لطمة فَشَكا الفزاريّ
جبلة لسيدنا عمر - رضي الله عنه - فأمر عمر بأخذ حق الفزاري من جبلة - وكان
من كبار العرب - فقال جبلة: يا عمر أتساويني بهذا الرجل وأنا ابن الأيهم؟ فقال
عمر رضي الله عنه: الإسلام قد ساوى بينكما ... إلخ.
ومن آداب الإسلام التسوية في الحقوق بين الناس. ومن ذلك ما روي في
رسالة سيدنا عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس في القضاء [12] (سوِّ بين
الناس في عدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من
عدلك) هذا وإن من ينظر في جميع الأديان التي عليها الناس فلا يجد دينًا كالدين
الإسلامي في آدابه في معاشرة المخالفين ومعاملتهم. فقد روي عن نبي الرحمة
محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذميين ما معناه (لهم ما لنا وعليهم ما
علينا) [13] وقد عرفنا التاريخ ذلك فإنهم بقوا في أوطانهم يقيمون شعائر دينهم آمنين
على أنفسهم متمتعين بالرفاهية والنعيم.
كل ما أتيت به من حسن معاشرة المسلمين للمخالفين ومن المساهلة في
معاملتهم؛ إنما هو أثر من آثار الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم نورًا وهدًى ومزكيًا، جاء الناس بسلام من عند ربه ليكونوا به آمنين. جاء
مسهلاً لا معسرًا، مبشرًا لا منفرًا، ليجمع الناس على صفاء وإخلاص يحب الرجل
لأخيه ما يحب لنفسه؛ بل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) .
إذا تبين لنا ما جاء به الإسلام من حسن المعاشرة واللين في المعاملة، فلا
يضيرنا قول جاحد، ولا يهمنا صوت مفسد؛ إذ ليس من كل الأصوات تجب الهيبة؛
بل نقول لأولئك المنكرين لهذه الفضائل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) .
كيف لهؤلاء الناس يقولون على دين الله ما لا يعلمون، ويزعمون أن الإسلام
شديد في معاملاته، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) .
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم
إنشاء الطالب عبد العزيز العتيقي
الدين الإسلامي دين الرحمة والعدل. دين الحكمة والعقل، دين الإحسان
والفضل، دين يأمر بالإحسان لجميع البشر، دين يأمر بالرأفة بالحيوان فضلاً عن
الإنسان، يظهر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وما جرى عليه
الخلفاء الراشدون وجميع السلف الصالح من بعده.
أجل؛ نظرة في سيرته الطاهرة تجدها حافلة بالمواعظ مشحونة بالوصايا بالحث
على الإحسان لجميع الخلق كقوله صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله
وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) وقوله: (في كل ذي كبد صدقة) [14] ما هذه الرحمة
والحنان! ما هذا الشفقة والإحسان! ما هذه الرأفة التي لم تقصر على بني البشر؛
بل عمت كل من اتصف بالحياة.
الله أكبر إن دين محمد وكتابه ... أقوى وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السماوية [15] عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
أدر بصرك في أفعاله صلى الله عليه وسلم تجد أنه كان يقابل السيئة بالحسنة،
أضرب لك مثالاً صغيرًا تقيس عليه ما لم تعلم. كان أحد اليهود يؤذيه صلى الله
عليه وسلم ويضع الأقذار في طريقه إذا خرج إلى المصلى، فلمّا مرض ذلك
اليهودي فقده صلى الله عليه وسلم بفقد ما كان يضع، فسأل عنه صلى الله عليه
وسلم فقيل إنه مريض فذهب صلى الله عليه وسلم لزيارته فلما رأى ذلك اليهودي
فعله وحفاوته به مع علمه أنه يعلم ما كان يصنع في أذيه، قال أشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فيا حبّذا لو جرى المسلمون على هذه القاعدة في
معاملة مخالفيهم في الدين، إخوانهم في الوطن والبشرية، فوالله لو جروا على هذه
القاعدة لدخل الناس في دينهم أفواجًا.
من راجع القرآن الشريف وجد نصوصه الكريمة في كيفية الدعوة تدور على
محور الحكمة والعقل والإحسان والفضل. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، وامتن
تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وقال تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) وقال: {وَلاَ
تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) .
نرجع إلى النظر فيما جرى عليه السلف الصالح في ذلك أي في معاملة
مخالفيهم في الدين، نجد أنهم جعلوا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين
المسلم وغيره في الحقوق، انظر إلى ما قاله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب
لعمرو بن العاص فاتح مصر حينما تسابق ابنه مع ابن القبطي فسبقه فلطمه ابن
عمرو وافتخر عليه بآبائه، فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه أرسل إليه يهدده ويقول
له: (متى استعبدتم الناس يا عمرو وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا) وحكم عليه بأن
يرضي القبطي أو يقتص منه [16] . وقصة اليهودية صاحبة البيت الذي كان في
المسجد مشهورة؛ بل نرى من تسامحهم أنهم قد أرقوهم (؟) إلى أعلى المراتب
فاتخذوا منهم الكتاب وغيرهم، وقد اتخذ الحرس في المدينة المنورة في يوم من
الأيام من النصارى , ومن راجع تاريخ الدولة العباسية في عنفوان التمدن الإسلامي
رأى أن للذميين من ذلك حظًّا وافرًا، فقد أرقوهم (؟) إلى أعلى المناصب
فصار منهم الأطباء والندماء للملوك وغيرهم، هذه المعاملة تمثل لنا عدالة الدين
الإسلامي وتسامحه وآدابه الراقية.
فعلى رجال الدعوة والإرشاد الذين قد أخذوا على عواتقهم هذه الأمانة وعاهدوا
الله عليها - وهي إرشاد المسلمين إلى أوامر دينهم ودعوة غيرهم إليه - أن يظهروه
في ثوبه الحقيقي، وأن يجعلوا نصوص الكتاب والسنة وأعمال النبي صلى الله عليه
وسلم والسلف الصالح أمام أعينهم ليسيروا عليها، وليفطنوا لمقاصد الدين التي جاء
إليها، وهي إصلاح نفوس البشر وتحليتها بالفضائل، وتطهيرها من الرذائل،
لتكون أهلاً لجوار الله تعالى في الآخرة، وإصلاح حال المتجمع الإنساني في هذه
الدار التي قدر له أن يعيش فيها برهة من الزمن. وليعلموا الناس أن الله قد جعلهم
شعوبًا وقبائل للتعارف والتعاون {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة: 7) وإن الله غني عن العالمين.
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملاتهم
إنشاء الطالب محمد أبو زيد
قال الله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ،
من فقه حكمة الإسلام، ووقف على مقاصده وما يرمي إليه، عرف أن المراد منه
إتمام الفطرة البشرية بما يصلح به شأن الإنسان في حياته الأولى، وينال به
الرضوان الأكبر في حياته الأخرى، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) .
ولما كان حسن المعاشرة والمعاملة من أعظم ما يكوّن في النفس الملكات
الفاضلة، ويقوي الصلة بين الأفراد والأمم، كان مما امتاز به ذلك الدين العناية
بشأنها، والحث عليها، غير ناظر إلى ما يكون عليه المعاشر أو المعامل من
المخالفة - وليست المخالفة قاصرة على الدينية فقط؛ بل يدخل فيها الجنسية
واللغوية وغيرها. ولقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فلم يتجاوز أمر
ربه في دعوة مخالفي دينه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، حتى
كان من تمام رقته في مخاطبته ما حكاه عنه ربه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) ولم يترك التلطف في معاملاتهم حتى جعل لمن دخل
في حوزته واطمأن من جهته الأمان من كل ما يشينه، وحافظ على حقوقه كما
يحافظ على جميع المسلمين، وسار من بعده من أهل العدل على قوله: (لهم ما لنا
وعليهم ما علينا) حتى لقد شغل كثير منهم مراكز في الحكومات الإسلامية المتقدمة
وغير ذلك مما يشهد به التاريخ.
هذا وإن الإسلام بريء مما يرميه به أعداؤه من التعصبات الدينية على زعمهم
نظرًا لما قرره في أصوله المبنية على الدليل والبرهان؛ {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) كما وإنه (؟) قد قضى على الجنسيات والامتيازات بغير ما فيه
التقى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فما أعظمه من دين سوّى
بين الطبقات بعدله، فأنقذ الناس من العبودية القديمة، وما أعرفه بحقوق الإنسان!
قرر الفضيلة برتبتيها - العدل والإحسان - فقضى له بالأولى ليكون مرفوع الرأس
آمنًا من الذل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى: 40) ، وخيره في الثانية
ليذوق حلاوة فضله ويشعر بلذة إحسانه، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40) .
فوالله ما وجد للبشر دين أرحم على الإنسان منه، ولا عرف ضمير المخالفين
معاملة أوفى من معاملته، دين يقول كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) جدير بأن يسود
بمتبعيه.
دين يقول نبيه: (سلم على من عرفت ومن لم تعرف) ، (خالق الناس
بخلق حسن) حقيق بأن يسعد من دخل في حظيرته. دين يقول نبيه: (المسلم من
سلم الناس من يده ولسانه) لا يسع كل مجرد عن الأغراض بعيد عن الهوى إلا أن
يقر بفضله، ويخر ساجدًا لآياته.
دين قد شهد لنفسه بما أحدثه في العصور الخالية من الانقلاب المدهش، وأقر
له أعداؤه - والفضل ما شهدت به الأعداء - بأن التاريخ لم ير أكثر عدلاً ولا أحسن
معاملة من أهله، لا شك في تسامحه، ولا ريب في كونه دين الإصلاح العام لجميع
البشر.
__________
(1) هذا غلط والمراد رأى عليًّا كرم الله وجهه.
(2) المنار: يشير الكاتب إلى صلح الحديبية ولكنه قصر في البيان واختار الاختصار المخل.
(3) أي من المشركين.
(4) الظاهر أنه كان يريد أن يقول (علماء الاجتماع) فسبق القلم.
(5) الصواب: وطئ الأعرابي ذيله فصفعه إلخ.
(6) الرواية المشهورة (مذ كم تعبدتم الناس إلخ) وإن عمر استقدم عمرًا مع ولده إلى المدينة وأمر القبطي أن يضرب ابنه كما ضربه وقال له (اضرب ابن الأكرمين) إذ كان ابن عمرو لما ضرب القبطي يقول: أنا ابن الأكرمين.
(7) إنما تحاكما إلى عمر بن الخطاب فخاطب عمر اليهودي باسمه، لا بنسبته إلى قومه.
(8) الرواية: أن اليهودي أراد اختبار خلق النبي صلى الله عليه وسلم فاشترى منه تمرًا إلى أجل وأعطاه الثمن وجاء يطالبه بالتمر قبل الأجل بيومين، فأخذ بمجامع قميصه وردائه ونظر إليه بوجه غليظ وقال: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل فوبخه وهدّده عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بهدوء: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به فاقضه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته) ، فأسلم اليهودي لذلك رواه الطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي.
(9) الصواب: (لسبقت الأمم الأوربية بعدة قرون) والرواية التي أشار إليها هي رواية العباسة أخت الرشيد لجرجي بك زيدان.
(10) إيراد هذا المثل هنا حجة على الكاتب.
(11) بينا الصواب من الرواية في هامش النبذة التي قبل هذه.
(12) كتاب عمر في القضاء هذا كتبه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(13) الحديث ورد في المهاجرين، واستعمل العلماء العبارة في حقوق الذميين.
(14) الحديث (في كل ذات كبد حرّى أجر) .
(15) الصواب: السوالف.
(16) تقدم الصواب في الرواية.(17/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب مصر والشام
برجال العلم وحملة الأقلام
2- الشيخ حسن المدور
هو من بيت معروف في بيروت. اشتغل من أول نشأته بطلب العلوم العربية
والشرعية، وصحب الأستاذ الإمام أيام هجرته في بيروت وتلقى عنه، فاستنار
عقله، وأشرب حب الإصلاح في قلبه، ولكنه كان يداري الجامدين، ويخاف شر
المستبدين، فلهذا لم ينهض بالدعوة إلى الإصلاح، ولم يقم بمظاهرة الظاهرين بها
في زمن الاستبداد، على أنه كان يدرس ويفيد الطلاب باعتداله ورويته، وقد رغب
إليَّ منذ سنتين أن أرسل إليه ما طبع من تفسير القرآن الحكيم؛ ليقرأه درسًا في
الجامع الكبير، فلم أبادر في إرساله إليه، فكنت في ذلك مخطئًا، وما كنت ألتمسه
لنفسي من العذر في التأخير كان ضعيفًا.
وكان الفقيد كريم الأخلاق، حسن المعاشرة واسع الحلم، شديد الاحتياط في
أموره، فوجود فقيه مثله في بيروت كان ضروريَّا؛ إذ كان رحمه الله تعالى وسطًا
بين تشديد الجاهدين، وشذوذ المتساهلين المفرطين، فهو من الأفراد الذين لا
تستغني أمتنا الإسلامية في قطر ولا مصر عن واحد أو آحاد منهم في هذا العصر -
عصر التحول والانقلاب. وقد كان مسلمو بيروت مستفيدين من هذه المزية من
مزاياه وإن لم يعرفها له الجمهور منهم.
وقد صار في العهد الأخير أمينًا للفتوى في بيروت؛ فكان خير عون وظهير
لمفتيها لهذا العهد صديقنا الشيخ مصطفى نجا، ويسوؤنا أننا لا نعرف من ترجمة
هذا الصديق شيئًا كثيرًا نثبته في ترجمته؛ ليكون ذكرًا باقيًا له، فنحن نعلم أنه كان
يفيد طلاب العلم والمستفتين بعلمه وعقله وأدبه. ولا ندري أكتب شيئًا من الكتب
والرسائل المفيدة أم لا. وقد خسرت بيروت بفقده خسارة لا عوض لها الآن عنها،
لضعف الاشتغال بالعلوم الدينية فيها. وهو قد دخل في العقد السادس من عشرات
سني عمره، وكان جيد الصحة، فعرض له المرض أيامًا معدودات انتهت بأجله،
رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
***
3- الشيخ محيي الدين الخياط
ولد بمدينة صيدا في رجب سنة 1229 فكانت وفاته في أواخر السنة القمرية
المتممة للأربعين، ورأينا في بعض جرائد بيروت التي أَبَّنَتْهُ أن والده من السلالة
العلوية، وأنه لرغبته عن التفاخر بالأنساب لم يكن يعرف عنه كلمة تدل على ذلك،
وأن أمه ألبانية الأصل، وكانت كريمة الخلق ذكية الفؤاد، فهي التي تولت تربيته
وعنيت بتعليمه. وقد تعلم التعليم الابتدائي في مدرسة لجمعية المقاصد الخيرية في
بيروت، وتلقى بعض علوم الأدب والدين عن الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي
والشيخ يوسف الأسير البيروتي اللذين انتهت إليهما رئاسة العلوم العربية والشرعية
في بيروت. ثم كان جل تحصيله بجده واجتهاده في المطالعة والمراجعة والتعليم،
وعين بالكتابة العصرية ونظر الشعر فكان في الرعيل الأول من فرسانهما في وطنه،
وعلم في بعض المدارس، وحرر في عدة جرائد، وألف عدة كتب قرظها المنار
في أزمنة نشرها، حتى صار أشهر شبان النهضة الإسلامية في بيروت.
لقيته في بيروت قبل هجرتي إلى مصر، فإذا هو شاب يتدفق غيرة على
الأمة وشعورًا بسوء حالها، وشدة حاجتها إلى الإصلاح ومجاراة الأمم الحيّة. ولما
أنشأت المنار جعلته وكيلاً له في بيروت وما يتصل بها، فقبل ذلك بالارتياح،
وكان مغتبطًا بالمنار أشد الاغتباط، على ما كان في ذلك من الخطر والتعرض لأذى
الحكومة الحميدية، ولكنه عهد بعد ذلك بتوزيعه وجمع مال اشتراكاته لصاحب له
من ذوي المطامع الدنيئة وفاسدي الأخلاق، فغشنا به - غير متعمد - عدة سنين
سامحه الله وعفى عنه.
كان الفقيد صاحب همة علية، وحب للاستقلال الفكري والحرية، وميل شديد
للسياسة، ولو أتيح له أن يعيش في بلاد كتاب العصر المصلحين. ولكنه كان
ضعيف الثقة باستقلال نفسه في العمل، فلم يتجرأ على الهجرة ولا على النهوض
بعمل مستقل غير مضمون الربح، ولهذا باع قلمه لأصحاب الجرائد بالأجرة مراعيًا
مشاربهم ومذاهب سياستهم فيها، فكان لا يؤلف كتابًا إلا بعد أن يتعاقد مع رجل
يطبعه على نفقته، ويكون ملكًا لطابعه من دونه، وكان الباعث له على ذلك الحاجة
إلى المال، وحب التعجل بربح قطعي بلا نفقة ولا انتظار، وكان من لوازم هذه
الطريقة من الكسب بالقلم اختيار ما يروج عند الطابعين وسرعة التأليف، فالوقوف
به عند حد في استطاعة المؤلف ما هو أعلى منه، ولولاها لم يحصر جُلَّ ما كتبه
في كتب التعليم الابتدائي، فإنه لم يؤلف إلا كتب دروس التاريخ الإسلامي والعربية
والفقه والمطالعة للمدارس الابتدائية. وعلّق على ديواني أبي تمام وابن المعتز
تفسيرًا لغريبهما، سلك فيه مسلك الاختصار المخل، وأوقعه الاستعجال في كثير
من الغلط، على أنه كان من أحرص كتاب العصر على ضبط اللغة وصحة العبارة،
والثقة مما يضبطه بدقة المراجعة.
فكان يضاهي الشيخ إبراهيم اليازجي في هذا. وكان يعرف اللغة التركية،
وترجم عنها قصة (الوطن) لنامق كمال بك الشهير. وكان يرجى من خدمته للغة
العربية ما هو أعظم من ذلك، ولكن كان من سوء حظ الأمة العربية أن فقدته عندما
بلغ أشده واستوى، وقوي في إتقان خدمة الأمل والرجاء عرضت له حمى وهو
في عنفوان قوته، فقضت في أسبوع واحد على حياته، فخسرت بفقده الأمة العربية
قلمًا سيّالاً، وذهنًا جوالاً، وهمة لا تعرف ملالاً ولا كلالاً.
***
4- الشيخ محمد جمال الدين القاسمي
هو علامة الشام، وبادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعمل
والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء
المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب المتفنن،
التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث
المقنعة، صديقنا الصفي، وخلنا الوفي، أخونا الروحي، قدّس الله روحه، ونوّر
ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه.
نشأ الفقيد في بيت من بيوت العلم والدين في دمشق الشام، ولد سنة ثلاث
وثمانين ومئتين وألف. وتلقى مبادئ العلوم العربية والشرعية عن والده الشيخ سعيد
ابن الشيخ قاسم الملقب بالحلاق، والقاسمي نسبة إلى الشيخ قاسم هذا.
ووالدته علوية يتصل نسبها بنسب الشيخ إبراهيم الدسوقي الشهير. وقد عني
الفقيد في آخر عمره بإثبات هذا النسب، وكتب له شجرة، وجاء مصر في العام
الماضي لشؤون تتعلق بذلك فسررنا بلقائه، وجددنا ما لا تخلقه الأيام من عهود إخائه.
وكتبنا له كما أحب كلمات على نسبه. وقد صار بعض تلاميذه وأصحابه
يطلقون عليه لقب (السيد) بعد تحرير هذا النسب؛ بناء على القول بعموم شرف
الأسباط. ولكن العرف الذي عليه أكثر المسلمين على خلاف هذا القول.
والكثيرون من أهل سوريا يطلقون لقب (السيد) على من ليس له لقب علمي ولا
رسمي، ولعل ذلك من نزغات الأمويين، في هضم حقوق العلويين، والشيخ غني
عن هذا اللقب، الذي لا يفهم المراد منه أحد.
وقد تلقى العلوم المتداولة في الشام عن الشيخ بكري العطار أشهر علمائها
وفقهاء الشافعية فيها، وكان يحضر مجالس الأستاذ الكبير الشيخ عبد الرزاق
البيطار مجدد مذهب السلف في الشام، وقد استفاد من علمه وعقيدته الأثرية وهديه
وأخلاقه المرضية، ما لم يستفده من غيره، وصحب الأستاذ المعنّ المفنّ الشيخ
طاهراً الجزائري، فاستفاد من صحبته علمًا بحال العصر، ومعرفة بنوادر الكتب
وغرائب المسائل، وصحب العالم المستقل الشيخ سليم البخاري، وأترابًا من خيرة
شبان العصر المدنيين كرفيق بك العظم ومحمد أفندي كرد علي وغيرهما وجماعتهم.
فكان لصحبة هؤلاء الشيوخ والشبان - وهم خير من أنبتت الشام في هذا الزمان -
تأثيرًا عظيمًا في حياته العلمية، من حيث فتحت لاستعداده الفطري،
واستقلاله الوهبي، أبواب البحث والتحقيق، وعدم الوقوف عن المسلمات من
التقاليد، ونبهته إلى حاجة الأمة إلى الإصلاح المدني كحاجتها إلى الإصلاح الديني
وجاء مصر مع الأستاذ البيطار - على عهد الأستاذ الإمام - فاغتبطا بلقائه واغتبط
بلقائهما، وصارت المكاتبة بعد ذلك متصلة بينه وبينهما. وإنما كان جمال الدين
ذلك الرجل بجوهر نفسه، وقوة استعداده، وكم من طالبِ علمٍ سمع مثل ما سمع،
ولقي من الشيوخ والشبان مثل من لقي، فأنكر كل ما خالف - وعلى كل من خالف -
ما عرف وألف. ولم يهده ذلك إلى طلب علم جديد، ولا إلى مراجعة النظر
واستشارة الدليل. فالحق أن الأفراد الذين امتازوا في هذا العصر من أمتنا بالعلم
الصحيح والتصدي للإصلاح، إنما امتازوا أولاً بقوة الاستعداد، والميل الفطري
إلى الاستقلال، ثم سلوك النظر والاستدلال، فمن كان هذا نفعه لقاء أهل
الاختصاص، والاطلاع على أحاسن الكتب والأسفار، فيكون في ذلك كالنحلة في
الروض، تجني من ناضر الأزهار ويانع الثمار أطيب ما فيها.
رغبت بعض المدرسين، في قراءة كتاب إحياء علوم الدين، فقلب أوراقه
كلها أو بعضها، فلم يقع اختياره على شيء يقرؤه منها، إلا بعض حكايات
الصالحين، وبعض الآثار في فضائل الأعمال، فهو لم يستفد من علم الغزالي مسألة
ما، ولم يعقل من خصائص الكتاب شيئًا. ذلك بأن هم ذلك المدرس كان محصورًا
فيما رأى عليه أمثاله، وهو انتقاء ما يرضي الناس ويلذ لهم، ولا يذكرهم بشيء
من جهلهم، ولا يكشف لهم الستار عن شيء من عيوبهم، ولا ينذرهم سوء عاقبة
إفراطهم وتفريطهم.
نعم إن كل فرد من أولئك الأفراد القلائل الذين نعدهم في هذا العصر من
المصلحين - وصديقنا المترجم منهم - لم يكن امتيازهم إلا بصفاء جوهرهم وقوة
استعدادهم الفطري للاستقلال والكمال. مع التوفيق للطلب والاشتغال، واتفاق لقاء
بعض أصحاب المزايا من الرجال، ذلك بأنه ليس في أمتنا مربّون، ولا معلمون
مصلحون، لا في البيوت ولا في المدارس، ولو وجد فينا كثير من القادرين على
التربية الصحيحة والتعليم الاستقلالي، لوُجِدَ في كل بلد - لا في كل قطر فقط -
كثير من أمثال القاسمي.
ظهر الشيخ جمال الدين في الشام على حين فترة من العلماء، فقد كان من
أدرك من كبار شيوخها آخر الذين عنوا بدراسة الكتب المعهودة التي يطلق على
مدارسيها لقب (علماء) على أن العلم الصحيح - وهو العلم الاستقلالي المبني على
الدليل كان قد حجر عليه وحكم بتحريمه من عدة قرون، فلم يكن أحد يشم ريحه ولا
يشم وميضه إلا قليلاً، وصار الناس كالخفافيش لا يفتحون في هذا النور عينًا، ولا
يحيلون في شعاعه فكرًا.
ظهر الفقيد وفي دمشق الشام أفراد ورثوا عن آبائهم وأجدادهم عمائم العلماء
وألقابهم والرواتب التي كانوا يأخذونها من أوقاف المسلمين ولم يرثوا عنهم من العلم
بتلك الكتب شيئًا. فاتهم العلم ولم يفتهم صرف الأوقات كلها في استنباط الحيل
للتمتع بجاهه ومجده، تبعًا للتمتع بألقابه وأزيائه ونقده، فكان من أكبر الخطوب
عليهم أن يروا في الشام عالمًا يتصدى للتدريس والتصنيف، ويبين حاجة البلاد إلى
الإصلاح والتجديد، فإذا تصدى لذلك أحد يكيدون له المكايد، وينصبون له الحبائل،
ويبغونه الفتنة، ويجعلونه في موقف الظنة، فيسعون به إلى الحكام، أنصار كل
منافق، ويهيجون عليه العوام، أتباع كل ناعق، فماذا يعمل العالم المصلح بينهم.
إذا كان عمل القاسمي للإصلاح وتجديد علوم الدين صغيرًا في نفسه، فهو
كبير جدًّا في بلاده وبين قومه، فما القول فيه إذا كان عمله كبيرًا في الواقع، وقد
عظم المطلوب وقل المساعد؟
كان رحمه الله تعالى يقرأ الدروس العربية والشرعية للطلبة وللعامة،
ويخطب في المسجد خطبة الجمعة، ويصنف الرسائل والأسفار الممتعة، ويصحح
ما يرى نشره نافعًا من كتب المتقدمين، ويشرح المختصر ويختصر المطول منها،
ويسعى في طبعها ونشرها، ويبث روح الاستقلال والاستدلال في ذلك كله بالحكمة
والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. وكم سعى فيه، وكاد له أولئك
المعممون الجامدون فأنجاه الله منهم، وإن أكبر الكبائر التي يتهمون بها كل من
يدعو مثله إلى العلم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي
محاولة هدم الدين بفتح باب الاجتهاد والاستدلال، وما يستلزمه ذلك - بزعمهم -
من تحقير الأئمة، ومن اتبعهم من علماء الأمة!! وقد اتهم مرة بذلك مع بعض
أصدقائه وعقد لهم مجلس في المحكمة الشرعية وسألهم القاضي عن تلك التهمة،
وأخذ الفقيد من دونهم إلى دار الشرطة، وحبس فيها بضع ساعات.
كان له رحمه الله تعالى دروع سابغات من أخلاقه وسيرته تقيه بغي أعداء
العلم والإصلاح من حسّاده؛ إذ كان نزيه اللسان، بعيدًا عن المراء والجدال، متجنبًا
للإزراء بغيره، والتعريض بغميزة خصمه أو مدح نفسه، غير مزاحم لوارثي
العمائم على الحطام، ولا مسابق لهم إلى أبواب الحكام، إلى ما كان عليه من العبادة،
والعفة والاستقامة.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(17/556)
شعبان - 1332هـ
يوليو - 1914م(17/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وجوب تعلم العربية
على كل مسلم
(س19) من صاحب الإمضاء بمصر:
السيد الإمام صاحب المنار
قرأنا في أعداد سابقة من مجلتكم المنار أدلة وجوب تعلم اللغة العربية على كل
مسلم، وأشرتم في بعض الأجزاء إلى أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال بذلك.
ثم قرأنا في الجزء السابع من المجلد 17 قول عبيد الله صاحب (قوم جديد)
باستغناء المسلمين عن تعلم العربية. فنرجو أن تنشروا قول الإمام الشافعي بذلك
إلجامًا لذلك الدجال واطمئنانًا لقوم يؤمنون.
مستفيد يقرأ المنار
(ج) جاء في رسالة الإمام الشافعي التي هي أول رسالة كتبت في أصول
الفقه برواية الربيع بن سليمان المرادي ما نصه:
(قال الشافعي) رضي الله عنه: والقرآن يدل على أن ليس في كتاب الله
شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدًا له وتركًا
للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله
يغفر لنا ولهم. ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب، وقبل ذلك منه
ذهب إلى أن من القرآن خاصًّا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع
الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي؛ ولكنه
لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه، والعلم به
عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، ولا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها
عليه شيء، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل
واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره،
وهم في العلم طبقات، منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع
لأقل مما جمع غيره، وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلاً
على أن لا يطلب علمه عند غير أهل طبقته من أهل العلم؛ بل يطلب عند نظرائه
ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو
وأمي، فينفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها. وهكذا لسان
العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها، ولا يطلب عند غيرها ولا
يعلمه إلا من قبله عنها، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله
منها فهو من أهل لسانها، وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه
صار من أهله، وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في أكثر
العلماء.
فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؛ فلذلك
يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا
بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه، ولا ينكر إذا كان اللفظ قبل
تعلمًا أو نطق به موضوعًا أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليل من لسان العرب،
كما ياتفق [1] القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها
واختلاف لسانها، وبعد الأواصر [2] بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.
فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه
غيره؟ فالحجة فيه كتاب الله، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ} (إبراهيم: 4) ، فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد صلى
الله عليه وسلم كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة وأن محمدًا صلى الله تعالى عليه
وسلم بعث إلى الناس كافة، قيل: فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة،
ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه أو ما أطاقوه منه، ويحتمل أن يكون بعث
بألسنتهم، فإن قال قائل: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة
العجم؟
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فالدلالة على ذلك بينة في كتاب الله عز
وجل في غير موضع: فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلا
بد أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع.
وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
ولا يجوز - والله تعالى أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في
حرف واحد؛ بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد
بيّن الله تعالى ذلك في غير آية من كتابه. قال الله عز ذكره: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ
العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) ، وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} (الرعد: 37) ، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ
حَوْلَهَا} (الشورى: 7) ، وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ
قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 1-3) .
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية
ذكرناها. ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل وعز كل لسان غير لسان العرب في آيتين
من كتابه فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103) وقال: {وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ} (فصلت: 44) .
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وعرفنا قدر نعمه بما خصنا به من مكانة
فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} (التوبة: 128)
الآية - وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً} (الجمعة: 2) الآية، وكان
مما عرف الله تعالى نبيه عليه السلام من إنعامه عليه ان قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ
وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف: 44) ، فخص قومه بالذكر معه بكتابه وقال: {وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) ، وقال {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام: 92) ، وأم القرى مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة
وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم
خاصة. فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده رسوله، ويتلو به كتاب الله تعالى
وينطق بالذكر فيما افترضه عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك.
وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان مَن ختم به نبوته وأنزل به آخر
كتبه كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما أمر
بإتيانه. ويتوجه لما وجه له ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعًا.
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن
نزل بلسان العرب دون غيرهم لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل
سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمها انتفت عنه
الشبه التي دخلت على من جهل لسانها، فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل
بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، أو
إدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سَفِهَ نفسه وترك موضع حظه، فكان يجمع بين
النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين طاعةً لله.
وطاعة الله جامعة للخير.
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان بن عيينة عن زياد بن
علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على
النصح لكل مسلم. وأخبرنا سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء
بن يزيد الليثي عن تميم الداري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (الدين
النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله
ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم) . اهـ المراد منه.
__________
(1) قوله (ياتفق) هو مضارع بمعنى يتفق لكن لم تدغم فيه فاء الافتعال؛ بل قلبت حرفًا لينًا من جنس الحركة قبلها وهي لغة أهل الحجاز يقولون: ايتفق ياتفق فهو موتفق ولغة غيرهم الإدغام.
(2) الأواصر: جمع آصرة، وهي الرحم والقرابة.(17/589)
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
__________
فصل [*]
إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر:
وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغير وإلى ما هو كبير - حسبما
تبين في علم الأصول الدينية - فكذلك يقال في البدع المحرمة إنها تنقسم إلى
الصغيرة والكبيرة اعتبارًا بتفاوت درجاتها - كما تقدم - وهذا على القول بأن
المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة. ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه،
وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال. فلنترك التفريع عليه.
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر
منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة، وهي الدين والنفس
والنسل والعقل المال. وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرى في
الاعتبار والنظر مجراها، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه
مما هو في معناه.
فكذلك نقول في كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو
كبيرة، وما لا فهي صغيرة. وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب. فكما انحصرت
كبائر المعاصي أحسن انحصار - حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب - كذلك تنحصر
كبائر البدع أيضًا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع
يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها. وذلك أن جميع البدع راجعة إلى
الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعًا؛ لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو
نقصانًا منه أو تغييرًا لقوافيه، أو ما يرجع إلى ذلك؛ وليس ذلك بمختص بالعبادات
دون العادات، إن قلنا بدخولها في العادات؛ بل تعم الجميع.
وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين فهي إذًا إخلال بأول الضروريات وهو الدين، وقد
أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال في الفِرَق: (كلها في النار إلا
واحدة) وهذا وعيد أيضًا للجميع على التفصيل.
هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن
تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب، فليس
الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا
الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال؛ فكل منها كبيرة.
وفقد النظر إلى أن كل بدعة كبيرة.
ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره، ففي النظر ما يدل من جهة
أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه:
(أحدها) أنَّا نقول: الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال؛ ولكنها على
مراتب؛ أدناها لا يسمى كبيرة، فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة
دونها، وقطع عضو واحد كبيرة دونها، وهلم جرّا إلى أن تنتهي إلى اللطمة؛ ثم
إلى أقل خدش يتصور، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة، كما قال العلماء في
السرقة: إنها كبيرة؛ لأنها إخلال بضرورة المال. فإن كانت السرقة في لقمة أو
تطفيف بحبة فقد عدُّوه من الصغائر. وهذا في ضرورة الدين أيضًا.
(فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: أول ما
تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإيمان عروة
عروة، وليصلين نساء وهن حيض - ثم قال - حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة
تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل مَن كان قبلنا، إنما قال الله
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: 114) لا تصلُّنَّ إلا ثلاثًا.
وتقول أخرى: إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة، ما فينا كافر. حق على الله أن
يحشرهما مع الدجال) وهذا الأثر - وإن لم تلتزم عهدة صحته - مثال من أمثلة
المسألة.
فقد نبّه على أن في آخر الزمان مَن يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا
خمس، وبيّن أن من النساء من يصلين وهن حيض، كأنه يعني بسبب التعمق
وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة. فهذه مرتبة دون الأولى.
وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات.
ثم وقع في العتبية: قال ابن القاسم: وسمعت مالكًا يقول: أول من أحدث
الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن
أذكره، وقد كان مُساءً (أي يساء الثناء عليه) ، قال: قد عيب ذلك عليه، وهذا
مكروه من الفعل. قالوا: (ومساء) أي يساء الثناء عليه. قال ابن رشد: جائز عند
مالك أن يروّح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة. وإنما كره أن يقرنهما
حتى لا يعتمد على أحدها دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة؛ إذ لم
يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة
المرضيين، وهو من محدثات الأمور. انتهى.
فمثل هذا - إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر - فيقال
في مثله: إنه من كبائر البدع. كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها؛
بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به
التنزيه، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين، فمثله يتصور في سائر
البدع المختلفة المراتب، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة.
(والثاني) : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية،
ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليًّا في الشريعة، كبدعة التحسين
والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السُّنِّية اقتصارًا على القرآن، وبدعة
الخوارج في قولهم: لا حكم إلا الله. وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا
من فروع الشريعة دون فرع؛ بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية،
أو يكون الخلل الواقع جزئيًّا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض، كبدعة
التثويب بالصلاة - الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال. - وبدعة الأذان والإقامة
في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين، وما أشبه ذلك. فهذا
القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها.
فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن ان يكون منحصرًا داخلاً
تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة
مخصوصًا به لا عامًّا فيه وفي غيره، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه
العفو، الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد، فلا قطع على أن جميعها من قبيل واحد،
وقد ظهر وجه انقسامها.
(والثالث) : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك
أن البدع من جملة المعاصي - على مقتضى الأدلة المتقدمة - ونوع من أنواعها،
فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضًا، ولا يخصص وجوهًا (؟) بتعميم
الدخول في الكبائر؛ لأن ذلك تخصيص من غير مخصص، ولو كان ذلك معتبرًا
لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع، فكانوا ينصون على أن
المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء
وأطلقوا القول بالانقسام، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها.
فإن قيل: إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقًا؛ وإنما يدل
ذلك على أنها تتفاضل، فمنها ثقيل وأثقل، ومنها خفيف وأخف؛ والخفة هل تنتهي
إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم؟ هذا فيه نظر، وقد ظهر معنى الكبيرة
والصغيرة في المعاصي غير البدع:
وأما في البدع فثبت لها أمران: أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له،
حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفي بما حدّ
له.
والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل
الصحيح؛ وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقًا بما هو مشروع،
فيكون قادحًا في المشروع. ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدًا لكفر؛ إذ
الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر.
فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع، إذا لم
نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر؛ لأن الجميع جناية لا تحملها
الشريعة بقليل ولا بكثير.
ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء، فالفرق بين
بدعة جزئية وبدعة كلية، وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني.
وأما الثالث فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة) وما تقدم من كلام
السلف يدل على عموم الذم فيها. وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام؛ بل
إنما ينقسم ما سواها من المعاصي. واعتبر بما تقدم ذكره في الباب
الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها. وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير؛ أن يقال:
كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن
عظمت لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار
وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقابًا من بعض، فالأشد عقابًا أكبر مما دونه،
وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى
الفاضل والأفضل، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل، انقسمت البدع لانقسام
مفاسدها إلى الرذل والأرذل، والصغر والكبر، من باب النسب والإضافات؛ فقد
يكون لا شيء كبيرًا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه.
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصي إلى الكبائر
والصغائر فقال: المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله،
ولذلك يقال: معصية الله أكبر من معصية العباد قولاً مطلقًا، إلا أنها وإن عظمت
لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها. ثم ذكر معنى ما تقدم؛ ولم
يوافقه غيره على ما قال، وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب
الموافقات. ولكن الظاهر يأبى ذلك - حسبما ذكره غيره من العلماء - والظواهر في
البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها - حسبما تقدم - فصار اعتقاد الصغائر فيها
يكاد يكون من المتشابهات، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من
الواضحات.
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه، ولا ينظر إلى خفة
الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت؛ بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة
ورميها لها بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها، بخلاف
سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها؛ بل
صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفته لحكمها.
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة؛
والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ولذلك قال مالك بن أنس: من
أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) إلى
آخر الحكاية. وقد تقدمت.
ومثلها جوابه لمن أراد أن يُحْرِم من المدينة وقال: أي فتنة فيها؟ إنما هي
أميال أزيدها. فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلاً قصر عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ ! إلى آخر الحكاية، وقد تقدمت أيضًا. فإذًا يصح أن
يكون في البدع ما هو صغيرة.
فالجواب أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه
المسألة.
وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالمًا بكونها بدعة وأن يكون غير
عالم بذلك. وغير العالم بكونها بدعة على ضربين: وهما المجتهد في استنباطها
وتشريعها والمقلد له فيها. وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا
حكمنا له بحكم أهل الإسلام؛ لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو
النقصان منه أو التحريف له؛ فلا بد له من تأويل كقوله: (هي بدعة ولكنها
مستحسنة) ، أو يقول: (إنها بدعة ولكني رأيت فلانًا الفاضل يعمل بها) ، أو يقر
بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل، كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفًا على حظه،
أو فرارًا من خوف على حظه، أو فرارًا من الاعتراض عليه في اتباع السنة، كما
هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه، وما أشبه ذلك.
وأما غير العالم وهو الواضع لها، فإنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة؛ بل هي
عنده ما يلحق بالمشروعات، كقول من جعل يوم الإثنين يصام؛ لأنه يوم مولد
النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقًا بأيام الأعياد؛
لأنه عليه السلام ولد فيه، وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على
أنه يجلب الأحوال السنية، أو رغب في الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات
دائمًا بناءً على ما جاء في ذلك حالة الوحدة، أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة
لينصر في زعمه سنة محمد صلى الله عليه وسلم. فلما قيل له: إنك تكذب عليه.
وقد قال: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قال: لم أكذب عليه
وإنما كذبت له. أو نقص منها تأويلاً عليها لقوله تعالى في ذم الكفار: {إِن يَتَّبِعُونَ
إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) ، فأسقط اعتبار
الأحاديث المنقولة بالآحاد لذلك ولما أشبه؛ لأن خبر الواحد ظني؛ فهذا كله من
قبيل التأويل.
وأما المقلد: فكذلك أيضًا؛ لأنه يقول: فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل
ويتني (؟) كاتخاذ الغناء جزءًا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن
شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه، ومنهم من مات بسببه، وكتمزيق الثياب
عند التواجد بالرقص وسواه؛ لأنهم قد فعلوه، وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء
المنتمين إلى التصوف.
وربما احتجوا على بدعهم بالجنيد والبسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح
عندهم أو لم يصح، ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها
إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها. ولكنهم مع ذلك لا
يقرون بالخلاف للسنة بحتًا؛ بل يدخلون تحت أذيال التأويل؛ إذ لا يرضى منتم
إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلاً.
وإذا كان كذلك فقول مالك: (من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها
فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خان الرسالة) . وقوله لمن أراد أن يحرم من
المدينة: (أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟) إلى آخر الحكاية - أنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر،
كأنه يقول: يلزمك في هذا القول كذا، لا أنه يقول قصدت إليه قصدًا؛ لأنه لا
يقصد إلى ذلك مسلم، ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف
فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون
أنه رأي المحققين أيضًا: أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر على
الخصم أنكره غاية الإنكار [1] فإذًا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض، وعند
ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر، فكذلك البدع.
ثُمَّ إن البدع على ضربين: كلية وجزئية، فأما الكلية فهي السارية فيما لا
ينحصر من فروع الشريعة، ومثالها بدع الفِرَق الثلاث والسبعين فإنها مختصة
بالكليات منها دون الجزئيات، حسبما يتعين [2] بعد إن شاء الله.
وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية؛ ولا يتحقق دخول هذا الضرب
من البدع تحت الوعيد بالنار، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال، كما لا يتحقق
ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة، وإن كان داخلاً تحت وصف السرقة؛ بل
المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة؛ فلا تكون تلك الأدلة
واضحة الشمول لها، ألا ترى أن خواص البدع غير ظاهرة في أهل البدع الجزئية
غالبًا كالفرقة والخروج عن الجماعة؟ وإنما تقع الجزئيات في الغالب كالزلة
والفلتة، ولذلك لا يكون اتباع الهوى فيها مع حصول التأويل في فرد من أفراد
الفروع، ولا المفسدة الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية؛ فعلى هذا: إذا
اجتمع في البدعة وصفان - كونها جزئية وكونها بالتأويل - صح أن تكون صغيرة،
والله أعلم.
ومثاله مسألة من نذر أن يصوم قائمًا لا يجلس، وضاحيًا لا يستظل، ومن
حرم على نفسه شيئًا ممّا أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام، أو النساء أو الأكل
بالنهار، وما أشبه ذلك ما تقدم ذكره أو يأتي، غير أن الكلية والجزئية قد تكون
ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال في
كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس، فيوكل النظر
فيه إلى الاجتهاد، اهـ.
***
فصل
وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة. فذلك بشروط، (أحدها) : أن لا
يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه؛ لأن
ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يُصَيِّرُهَا كبيرة، ولذلك
قالوا: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار. فكذلك البدعة من غير فرق؛
إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها. وقد لا يصر عليها،
وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أوعدمه، بخلاف البدعة فإن
شأنها في الواقع المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على
تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة، ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز
بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة، والمقتدى بهم من الأئمة،
والدليل على ذلك الاعتبار والنقل، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على
أهل السنة إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ
أوامره في الأقطار. ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى.
وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيًّا،
وليست كذلك المعاصي، فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله؛ بل قد جاء ما يشد ذلك
في حديث الفرق، حيث جاء في بعض الروايات: (تتجارى بهم تلك الأهواء كما
يتجارى الكَلَب بصاحبه) ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها -
حسبما تقدم.
(والشرط الثاني) أن لا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة،
ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه،
فإنه الذي أثارها، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها، فإن الحديث الصحيح قد أثبت
أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من
أوزارهم شيئًا؛ والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته، فربما
تساوي الصغيرة من هذا الوجه الكبيرة أو تربي عليها.
فمن حق المبتدع إذا ابتلي بالبدعة أن يقتصر على نفسه، ولا يحمل مع وزره
وزر غيره، وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج، فإن المعصية فيما بين العبد وربه
يرجو فيها من التوبة والغفران وما يتعذر عليه مع الدعاء إليها، وقد مر في باب ذم
البدع. وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله.
(والشرط الثالث) : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو
المواضع التي تقام فيها السنن، وتظهر فيها أعلام الشريعة. فأما إظهارها في
المجتمعات ممن يقتدى به أو ممن به [3] الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة
الإسلام، فإنها لا تعدو أمرين: إما أن يقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أتباع كل
ناعق، لاسيّما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس، والتي للنفوس في
تحسينها هوى، وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه؛ لأن كل
من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حسب كثرة الأتباع
يعظم عليه الوزر.
وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي، فإن العالم مثلاً إذا أظهر المعصية -
وإن صغرت - سهل على الناس ارتكابها، فإن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما
قال من أنه ذنب لم يرتكبه، وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا. فكذلك البدعة إذا
أظهرها العالم المقتدى فيها لا محالة، فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل؛ لأن
العالم يفعلها على ذلك الوجه؛ بل البدعة أشد في هذا المعنى، إذ الذنب قد لا يتبع
عليه، بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن أتباعه إلا من كان عالمًا بأنها بدعة
مذمومة، فحينئذٍ يصير في درجة الذنب، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك،
فإن كان داعيًا إليها فهو أشد، وإن كان الإظهار باعثًا على اتباع، فبالدعاء يصير
أدعى إليه.
وقد روي عن الحسن أن رجلاً من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها
فاتُّبع، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها
سلسلة ثم أوثقها في شجرة فجعل يبكي ويعج إلى ربه، فأوحى الله إلى نبي تلك
الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب. فكيف بمن ضل فصار من أهل النار؟
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح؛
لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية [4] توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر،
فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها.
قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف،
فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا - وكان قد صلّى خلف الإمام -
فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان. فقال: خذا صاحب هذا
الثوب فاحبساه. فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجه إليه وقال له: ما خفت
الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف، وشغلت المصلين بالنظر إليه،
وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من
أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي
وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في
غيره. وفي رواية عن ابن مهدي قال: فقلت للحرسيين: تذهبان بي إلى أبي
عبد الله؟ قالا: إن شئت؛ فذهبنا إليه. فقال: يا عبد الرحمن تصلي مستلبًا؟ فقلت
يا أبا عبد الله إنه كان يومًا حارًّا - كما رأيت - فثقل ردائي عليَّ. فقال: الله ما
أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه، قلت: الله [5] . قال:
خلياه.
وحكى ابن وضاح قال: ثوَّب المؤذن بالمدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك
فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع
الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئًا لم يكن فيه، قد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر
وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه؛ فكف المؤذن عن ذلك
وأقام زمانًا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له:
ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له: ألم أنهك أن
لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب. فقال له لا تفعل،
فكفَّ زمانًا. ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل؟
فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث
في بلدنا ما لم يكن فيه.
قال ابن وضَّاح: وكان مالك يكره التثويب - قال - وإنما أحدث هذا بالعراق.
قيل لابن وضّاح: فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من
الأمصار؟ فقال: ما سمعت إلا عند بعض الكوفيين والأباضيين.
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادي الرأي
وجعله أمرًا محدثًا، وقد قال في التثويب: إنه ضلال. وهو بين؛ لأن كل محدثة
بدعة وكل بدعة ضلالة، ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب؛
لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي
خوف أن يكون حدثًا أحدثه.
وقد أحدث بالمغرب المتسمي بالمهدي تثويبًا عند طلوع الفجر؛ وهو قولهم:
(أصبح ولله الحمد) إشعارًا بأن الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة،
وللغدو لكل ما يؤمرون به فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبًا بالصلاة كالأذان. ونقل
أيضًا إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية، وهو المعتاد في جوامع
الأندلس وغيرها، فصار ذلك كله سنة في المساجد إلى الآن، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
وقد فسّر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس
قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح.
وهذا نظير قولهم عندنا: الصلاة - رحمكم الله.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه دخل مسجدًا أراد أن يصلي فيه،
فثوب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد، وقال: اخرج بنا [6] من عند
هذا المبتدع. ولم يصل فيه. قال ابن رشد: وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع
قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله: حي على
الصلاة. ثم ترك - قال - وقيل: إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه: حي على
خير العمل. لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة. ووقع في
المجموعة أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه كفعل ابن عمر رضي
الله عنهما.
وفي المسألة كلام المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك: إنه
ضلال. والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة أو
في المواطن التي تقام فيها السنن، والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة؛ لأنها
إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها، فكان وزر ذلك عائدًا على الفاعل أولاً،
فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته.
(والشرط الرابع) : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها - وإن فرضناها
صغيرة - فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب: فكان ذلك سببًا
لعظم ما هو صغير. وذلك أن الذنب له نظران:
(نظر) من جهة رتبته في الشرط، ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به.
فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيرًا إذا فهمنا من الشرع أنه صغير؛ لأنّا
نضعه حيث وضعه الشرع؛ وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به بحيث
نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة، والذي كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك
جدًّا؛ إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين - المواجهة بالكبيرة والمواجهة
بالصغيرة.
والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع أصلاً؛ لأن
تصورها موقوف عليهما، فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا
يتنافيان؛ لأنهما اعتباران من جهتين: فالعاصي وإن تعمد المعصية لم يقصد بتعمده
الاستهانة بالجانب العلي الرباني؛ وإنما قصد اتباع شهوته مثلاً فيما جعله الشارع
صغيرًا أو كبيرًا، فيقع الإثم على حسبه، كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها
منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع، وإنما قصد الجري على مقتضاه، لكن بتأويل
زاده ورجحه على غيره، بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع، فإنه إنما
تهاون بمخالفة الملك الحق؛ لأن النهي حاصل ومخالفته حاصلة، والتهاون بها
عظيم، ولذلك يقال: لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظمة من واجهته بها.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (أي
يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم
حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني
جان على ولده ولا مولود على والده، ألا وإن الشيطان قد يئس ألا يعبد في بلدكم
هذا أبدًا، ولا تكون له طاعة فيما يحتقرون من أعمالكم فسيرضى به) [7] فقوله
عليه السلام (فسيرضى به) دليل على عظم الخطب فيما يستحقر.
وهذا الشرط مما اعتبره الغزالي في هذا المقام، فإنه ذكر في الإحياء أن مما
تعظم به الصغيرة أن يستصغرها - قال - فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه
صغر عند الله، وكلما استصغره كبر عند الله. ثم بين ذلك وبسطه.
فإذا تحصلت هذه الشروط، فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة، فإن
تخلف بشرط منها أو أكثر صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة، كما أن
المعاصي كذلك، والله أعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نقل من كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي.
(1) ما كل لازم للمذهب ينكره صاحبه لو عرض عليه؛ ولذلك جعل بعضهم الإنكار شرطًا لكون لازم المذهب ليس بمذهب وهذا التفصيل هو التحقيق.
(2) لعله يتبين.
(3) لعل الأصل (بمن يحسن به الظن) .
(4) هذا قسم حذفت أداته، لقنه القسم فحلف على ما لقنه فكأنه قال له: قل والله ما أردت بهذا الطعن، إلخ، فقال: والله، أي ما أردت ذلك.
(5) كذا ولعل فيها تحريفًا وسقطًا، والمراد ظاهر من القرينة.
(6) يظهر أنه كان معه صاحب قال له ذلك، وهل كان في كلام المصنف تصريح بذلك سقط من الناسخين أم لا؟ الله أعلم.
(7) كذا في نسخة الكتاب ولا أذكر لأحد روايته بهذا اللفظ، وفي حديث عمر بن الأحوص عند أصحاب السنن ما عدا أبا داود: (ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدًا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم فيرضى بها) .(17/593)
الكاتب: أحمد بن أحمد بن عمر أقيت
__________
ترجمة الإمام الشاطبي
من كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج [1]
هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير
بالشاطبي، الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًا
مفسرًا، فقيهًا محدثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظارًا ثَبْتًا، وَرِعًا صالحًا، زاهدًا سُنّيًّا، إمامًا
مطلقًا، بحّاثًا مدققًِّا، جدليًّا بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات،
وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القَدَمُ الرّاسخ والإمامة العظمى في الفنون - فقهًا
وأصولاً، وتفسيرًا وحديثًا، وعربية وغيرها - مع التحرّي والتحقيق، له
استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة
محققة، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على اتباع
السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبت تام، منحرفًا عن كل ما
ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في مسائل.
وله تآليف جليلة، مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة.
قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقه: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق
العلامة الصالح أبو إسحاق انتهى. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام،
وإنما يعرف الفضل لأهله أهله.
أخذ العربية وغيرها عن أئمة، منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ما لا مطمع
فيه لسواه، بحثًا، وحفظًا، وتوجيهًا، وابن الفخار الألبيري؛ لازمه إلى أن مات،
والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية، أبو القاسم السبتي، شارح مقصورة حازم،
والإمام المحقق أعلم أهل وقته الشريف أبو عبد الله التلمساني، والإمام علامة
وقته بإجماع أبو عبد الله المقري، وقطب الدائرة، شيخ الجلة، الأمير الشهير،
أبو سعيد ابن لبّ، والإمام الجليل، الرحلة الخطيب، ابن مرزوق الجد، والعلامة
المحقق المدرس الأصولي أبو علي منصور بن محمد الزواوي، والعلامة المفسر
المؤلف أبو عبد الله البلنسي، والحاج العلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري.
وممن اجتمع معه، واستفاد منه، العالم الحافظ الفقيه أبو العباس القبَّاب، والمفتي
المحدث أبو عبد الله الحفار، وغيرهم.
اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في
التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم،
كالقبَّاب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبى عبد
الله بن عباد. وجرى له معهم أبحاث ومراجعات، أجلت عن ظهوره فيها، وقوة
عارضته وإمامته، منها مسألة مراعاة الخلاف في المذهب [2] فيها له بحث عظيم،
مع الإمامين القبَّاب وابن عرفة. وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره. وبالجملة
فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر.
ألّف تواليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات
الفوائد. منها شرحه الجليل على الخلاصة في النحو، في أسفار أربعة كبار، لم
يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم. وكتاب (الموافقات) في أصول الفقه
سماه: (عنوان التعريف بأصول التكاليف) كتاب جليل القدر جدًّا لا نظير له،
يدل على إمامته، وبعد شأوه في العلوم، سيّما علم الأصول، قال الإمام الحفيد بن
مرزوق: كتاب الموافقات المذكور، من أنبل الكتب، وهو في سفرين. وتأليف
كبير نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة، سماه (الاعتصام)
وكتاب (المجالس) شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. فيه من الفوائد
والتحقيقات، ما لا يعلمه إلا الله. وكتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين، فيه
طرف وتحف، وملح أدبيات وإنشادات. وله أيضًا كتاب (عنوان الاتفاق، في علم
الاشتقاق) ، وكتاب (أصول النحو) ، وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية. ورأيت
في موضع آخر أنه أتلف الأول في حياته وأن الثاني أتلف أيضًا. وله غيرها،
وفتاوى كثيرة.
ومن شعره لما ابتلي بالبدع:
بليت يا قوم والبلوى منوّعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني
دفع المضرة لا جلبًا لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني
أنشدهما تلميذه الإمام أبو يحيى ابن عاصم له مشافهة.
أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين، أبي يحيى بن عاصم الشهير،
وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم، والشيخ أبي عبد الله البياني،
وغيرهم. وتوفي يوم الثلاثاء ثامن شعبان سنة تسعين وسبعمائة ولم أقف على
مولده رحمه الله.
(فائدة) وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على الناس
عند ضعفهم وحاجتهم؛ لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما وقع
للشيخ المالقي في كتاب الورع. قال: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح
المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا
الآن. لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه الناس،
وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما النظر
في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام، ثم قال أثناء كلامه:
ولعلك تقول كما قال القائل لمن أجاز شرب العصير بعد كثرة طبخه وصار رُبًّا:
أحللتها والله يا عمر. يعني هذا القائل أحللت الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ،
حتى تحل الخمر بمقالك، فإني أقول - كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحل
شيئًا حرّمه الله، ولا أحرّم شيئًا أحلّه، وأن الحق أحق أن يتبع، (ومن يتعد حدود
الله فقد ظلم نفسه) .
وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفًا على أهل
الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفُتْيَا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد ابن لب،
فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه، مستندًا فيه إلى
المصلحة المرسلة، معتمدًا في ذلك إلى قيام المصلحة التي إن لم يقم بها الناس
فيعطونها من عندهم ضاعت. وقد تكلم على المسألة الإمام الغزالي في كتابه،
فاستوفى. ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور، لا نطيل
فيه.
وكتب جوابًا لبعض أصحابه في دفع الوسواس العارض في الطهارة وغيرها:
(وصلني جوابكم فيما تدفعون به الوسواس، فهذا أمر عظيم في نفسه، وأنفع شيء
فيه المشافهة، وأقرب ما أجد الآن، أن تنظروا من إخوانكم من تدلون عليه
وترضون دينه، ويعمل بصلب الفقه، ولا يكون فيه وسوسة، فتجعلونه إمامكم
على شرط أن لا تخالفوه، وإن اعتقدتم أن الفقه عندكم بخلافه، فإذا فعلتموه رجوت
لكم النفع، وأن تواظبوا على قول: (اللهم اجعل لي نفسًا مطمئنة توقن بلقائك،
وتقتنع بعطائك، وترضى بقضائك، وتخشاك حق خشيتك، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم) فإنه نافع للوسواس، كما رأيته في بعض المنقولات.
وكان يقول: لا يحصل الوثوق والتحقيق بشأن الرواية في الأكيال المنقولة
بالأسانيد، واختبرت ذلك فوجدت الأكيال مختلفة، متباينة الاختلاف، وهي ذوات
روايات، فالكيل الشرعي تقريبًا منقول عن شيوخ المذهب، يدركه كل أحد، حفنة
من البر أو غيره بكلتا اليدين مجتمعين، من ذوي يدين متوسطتين بين الصغرى
والكبرى، فالصاع منها أربع حفنات، جربته فوجدته صحيحًا. فهذا الذي ينبغي أن
يعوّل عليه؛ لأنه مبني على أصل التقريب الشرعي، والتدقيقات في الأمور غير
مطلوبة شرعًا؛ لأنها تنطُّع وتكلُّف، فهذا ما عندي.
ومن كلامه: أما من تعسف وطلب المحتملات، والغلبة بالمشكلات،
وأعرض عن الواضحات، فيخاف عليه التشبه بمن ذمه الله في قوله: {َأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران: 7) .
وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين، ولا يرى لأحد أن ينظر في هذه
الكتب المتأخرة، كما قرره في مقدمة كتابه الموافقات، وترد عليه الكتب في ذلك
من بعض أصحابه، فيوقع له: وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف
المتأخرة، فليس ذلك مني محض رأي، ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في
كتب المتقدمين مع المتأخرين كابن بشير، وابن شاس، وابن الحاجب، ومن
بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني التحامي عن كتب
المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة ولكنها محض النصيحة، والتساهل في النقل عن
كل كتاب جاء لا يحتمله دين الله. ومثله ما إذا عمل الناس بقول ضعيف، ونقل
عن بعض الأصحاب، لا تجوز مخالفته، وذلك مشعر بالتساهل جدًّا، ونص ذلك
القول لا يوجد لأحد من العلماء فيما أعلم.
والعبارة الخشنة التي أشار إليها، كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القبَّاب
أنه كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه. وكان يقول: شأني عدم
الاعتماد على التقاييد المتأخرة. إما للجهل بمؤلفيها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا، فلذلك
لا أعرف كثيرًا منها ولا أقتنيته، وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير.
ولنقتصر على هذا القدر من بعض فوائده.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تأليف أحمد بن أحمد بن عمر أقيت المعروف ببابا التكروري ثم التنبكي المولود سنة 963 والمتوفى سنة 1032.
(2) أشار إلى هذه المسألة في المقدمة الثالثة عشرة من كتاب الموافقة.(17/611)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجنسيات في المملكة العثمانية
(2)
بيَّنَّا في المقالة الأولى من هذا البحث أن الحكومة العثمانية الاتحادية تركت في
طورها الأخير عقاب من يلهج بالعرب والعربية من أصحاب الجرائد العربية
وغيرهم، وأن العرب لم يغلوا في إحياء الجنسية العربية كما غلت الجمعيات
والجرائد التركية، التي جاهرت بالدعوة إلى كل شيء في الدولة تركيا، بالقول
والفعل، وهجر اسم (العثمانية) ولم نسمع لأحد من كتاب الترك صوتًا في إنكار
هذا الغلو والانتصار للجامعتين الإسلامية والعثمانية على التركية إلا لعلي بك كمال،
فقد كتب في جريدة (بيام) ردًّا على أولئك الغلاة بيّن فيه أن الحياة التركية، لا
تقوم إلا بالجامعة العثمانية السياسية، وأن المجاهرة بحصر كل شيء في الترك
والتركية يبعث العرب والكرد وغيرهم من العناصر العثمانية إلى مثل هذه الدعوة
فلا يبقى للترك شيء. واشتدت المناظرة بينه وبين (أقجورا) وغيره من غلاة
الجنسية التركية حتى انتهت إلى السباب والشتم.
وكان مما كتبه (أقجورا) في (تورك يوردي) بالآستانة في أوائل ربيع
الآخر من هذا العام ما ترجمته بالاختصار والإجمال:
يجب أن نعمد إلى الحقائق فنقررها. ما العثمانية؟ ولماذا لا نقول التركية؟
أليست العثمانية نسبة إلى عثمان التركي؟ إن الحقيقة تغلب الخيال، ومن المحال
العقلي أن تظل هذه العناصر المتباينة مرتبطًا بعضها ببعض وراء ستار وهمي،
وتحت اسم خَلِق بالٍ.
يجب علينا ما دام في استطاعتنا الحياة أن نعمد إلى الجيش والأسطول والعلوم
والآداب والشرائع والقوانين وكل شيء فنصبغه بالصبغة التركية المحضة: (ليت
شعري هل تدخل الشريعة الإسلامية في هذه الشرائع التي عناها أم هم في غنى
عنها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) ؟) .
يجب أن نعلم أنَّا من أمة ظهر فيها قواد أعظم من نابليون. وعظماء أشهر من
يوليوس قيصر، وشعراء أكبر من هيغو. وأن في استطاعتنا أن نفعل ما يفعله
الجرمان أو السكسونيون لحياة قومهم، فلا ينبغي أن نظل مقيدين بالأوهام
والخرافات الماضية.
وقد انهزم علي كمال بك أمام حملات الغلاة واضطر إلى مجاراتهم. وإننا
لنرى أشد كتّاب العرب لهجًا بالعربية لا يعدون غلاة بالنسبة إلى الكتاب المعتدلين
من الترك؛ بل يعدون مقصرين، وإن جماعة حزب اللامركزية لم يجعلوا مسألة
الجنسية العربية من موضوع حزبهم؛ إلا إذا كانت المحافظة على اللغة العربية بين
أهلها يعد دعوة إلى الجنسية العربية، ولهذا أنكرنا على ذلك الكاتب العربي رميهم
بالعصبة الجنسية التي ذمها ذمًّا إسلاميًّا، وجعلها هادمة للإسلام كأن الإسلام الذي
دخل فيه يموت بحياة لغته العربية، ويحيا باللغة التركية.
استدللنا بتخصيص الحزب بهذا الذم وبسكوته عن غلاة العصبية التركية،
على أنه لم يكتب ما كتب إلا تزلفًا ونفاقًا، وجعل اسم الدين الإسلامي شبكة لصيد
المال والجاه. ولو أنكر على أولئك الغلاة والمعتدلين في العصبية الجنسية، واتبع
هواه بإضافة اللامركزيين إليهم، وإشراكه معهم، لما اعتقدنا فيه كل هذا الاعتقاد.
سلكت الجماعات العربية كلها مسلك الاعتدال فيما تطلبه لأمتها من الدولة
وفيما تنصح به للأمة، إلا ما عرض لجماعة البصرة، فقد كان في بعض كلامها
شيء من الشدة، ثم كان زعيمها السيد طالب بك النقيب ساعد الحكومة وعضدها في
عقد الوفاق بينها وبين الأمير عبد العزيز بن سعود أمير نجد، وفي غير ذلك مما
عهدته إليه من خدمتها في تلك البلاد، وقد تبرع هو ووجهاء البصرة للأسطول
وغير الأسطول بمبالغ قلّما رأت مثلها الدولة من بلد آخر. على أنها لم تجبهم إلى
شيء مما طلبوه من الإصلاح. فكان ذلك دليلاً على أن أشد العرب في ولايات
الدولة شكيمة، وأقواهم عصبية، لا يني ولا يقصر في خدمتها، إذا هي أظهرت
الثقة به، وعهدت إليه بعمل يعمله.
***
الجنسية اللبنانية
نعم إن بعض الجرائد والجمعيات اللبنانية قد غلت في الدعوة إلى الانسلاخ من
كل صفة عثمانية، والاستقلال بجنسية لبنانية لا عربية. فلبنان يتمتع باستقلال
داخلي لا يشاركه في مثله جبل من الجبال، ولا سهل من السهول، ولا ولاية ولا
مملكة في الأرض، حتى قال الدكتور يعقوب صروف - وهو من يفتخر لبنان
بمكانه في العلم والفلسفة ومعرفة شؤون العالم -: إن كل تغيير يطرأ على نظام
لبنان يكون شرًّا؛ إذ لا خير مما هو عليه. ولكن كثيرًا من اللبنانيين لا ينظرون
إلى هذه النعمة بالعين التي ينظر بها هذا العالم الخبير، فترى صراخ شكواهم قد
ملأ فضاء أمريكا الشمالية والجنوبية ومصر، ونقلت الجرائد صداه إلى كل قطر
يوجد فيه لبنانيون أو سوريون. فمنهم من يدعو إلى الاستقلال التام، ومنهم من
يدعو إلى احتلال فرنسا للبلاد. ولهم عدة جمعيات سياسية يشترك فيها ألوف منهم
في الوطن وفي ديار الهجرة من مصر إلى أوربة وأمريكا وغيرها من الممالك.
وقد قرأنا كثيرًا من مقالاتهم وقصائدهم وأناشيدهم الاستقلالية فرأيناهم يفخرون
فيها بعراقة هذا الجبل في الاستقلال، وامتناعه على الفاتحين من جميع الأمم
والأجيال، أي فهم لا يطلبون الآن، إلا الاستقلال الذي كانوا متمتعين به في كل
زمان. وقد جددوا لأنفسهم علمًا وطوابع بريد، ومنهم من يختار الاستقلال تحت
حماية فرنسة والاستظلال بعلمها. وقد عرف أهل الخافقين ما كان من مبالغة أهل
الجبل في الحفاوة بضباط الأسطول الفرنسي والمظاهرات الولائية لهم عندما زاروا
بطرك الموارنة وبعض البلاد منذ أشهر؛ إذ كان الأسطول في مياه بيروت. ويلي
ذلك ما كان لمسيو جورج بيكو قنصل فرنسة عندما زار لبنان مصاحبًا لمسيو
مورسي بارس أحد أعضاء مجلس النواب الفرنسي. وهذا النوع من الاحتفالات
والمظاهرات قد تكرر، وتكررت الوعود من فرنسة بإنالة الجبل ما يريد.
لسنا نريد الاستقصاء التاريخي في هذا المسائل فنفصل القول فيه، ولا
الانتقاد على الغلو والشذوذ الذي كان يتخلل ذلك مما لا يعهد له نظير للأجانب في
مملكة من الممالك، فنتتبع من ذلك ما قيل وما كتب، وما انتقده بعض المسلمين في
جرائد بيروت على ذلك وما رد به اللبنانيون على هؤلاء. وإنما نريد أن نبين
بالإجمال أن اللبنانيين منهم المعتدلون فيما ينقمون من الدولة وما يطلبون لبلادهم،
ومنهم الغلاة. وأن ذلك الكاتب العربي المدافع عن الجامعة العثمانية أو الجامعة
الإسلامية، المعادي للجنسية العربية والموضعية (كاللبنانية) لم يكتب كلمة في
انتقاد هؤلاء الغلاة من أبناء وطنه، وأين منهم مؤسسو حزب اللامركزية، الذين لم
يدخلوا حزبهم في باب مباحث المسألة الجنسية.
وإننا نثبت ما قلناه عن اللبنانيين أولاً بنشر ما جاء في جريدة الهدى التي
تصدر في نيويورك من مطالب جمعية النهضة اللبنانية التي يرأسها مدير تلك
الجريدة، وهذا نصه:
من مبادئ النهضة اللبنانية ومنازعها
(لكل امرئ من دهره ما تعودا) ، وما تعودناه أن نصون الوعد فلا نخلفه،
والعهد فلا نخفره، وإن نكث الناكثون، وعبث العابثون، مستأثرين بأيام، نرجو
أن تنقضي على سلام، فلا يلؤم فيها أحد، بما يجيئه من الفيش والفند.
أرسلنا في (الأغراض من سياحتنا) كلمة، ونرسل الآن في بعض مبادئ
النهضة اللبنانية أخرى؛ نحن دون أحد من الناس المسئولون عنها.
كنا في رحلتنا نبشر بهذه المبادئ بلساننا، ونحن الآن نبشر بها بقلمنا، إلى
أن تعود الخطابة، فتنوب عن الكتابة.
اللبنانيون مظلومون وظالمون - مظلومون لأن السلطة ضعيفة ضاغطة
وجائرة، وظالمون لأنهم وهم تحت الضغط والجور يتنابذون ويتطاحنون مؤثرين
الخصوصيات على العموميات. فيجب على خدمتهم - ونحن منهم - التجرد في
النصح لهم، والدعوة إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم، ووضع مبادئ يقوم عليها
حزبهم السياسي الأكبر المدعو (النهضة اللبنانية) .
قد يقوم من اللبنانيين أنفسهم من يناكر ويصادر، ويشاكس ويعاكس، ولكن
لبنانية المناوئين هؤلاء غير صحيحة، لقيامها على التعصب والتحزب والنكاية
والغواية. والحق ظافر، والإخلاص ظاهر.
فمن مبادئ النهضة اللبنانية:
1- جمع اللبنانيين بدين الوطنية الشامل الكامل الفاضل (وتمزيق الأناجيل
الطائفية ليسلم إنجيل المسيح) وما يقال عن الإنجيل يقال عن القرآن والتلمود وكل
كتاب مقدّس عند أهله. إلا أن ذلك لا يعني الكفر ولا التعطيل، فليعبد الناس إلههم
في كنيستهم وكنيسهم وجامعهم وخلوتهم وتحت أفياء الشجر وظلال الصخور إذا
شاؤوا وإنما فليجتمعوا (؟) بدين الوطنية الواحد وهم المفلحون.
2- استقلال المهاجرين (بنهضتهم اللبنانية) ما زال الإصلاح لا يتم إلا عن
طريق المهاجرة وعلى همم المهاجرين. إلا أن هذا الاستقلال لا يعني الانفصال؛
بل توحيد قوة المهاجرين ما بين القطبين وجعلهم قوة واحدة تسعى للإصلاح سعيًا
مجردًا صادقًا، إلى أن ينفلت المتخلفون من قيود الوظائف، ويكشفوا عنهم غيوم
السفاسف التي لا يزال حتى في المهجر أثر مجلوب (؟)
3- طلب أمير أجنبي من دول أوربا الست الضامنة استقلال لبنان تكون
غايته غايتنا ومصلحته مصلحتنا، ولغتنا لغته ولغة أولاده، فلا يكون دخيلاً لا
يشعر بشعورنا، ولا يهمه - وهو المرجع الأكبر في الجبل - أن يتعلم لغة الناس
فيه ليكون حكمه معقولاً وقضاؤه مقبولاً - أمير أجنبي يكون لنا ما كان مثله لرومانيا
وبلغاريا واليونان وألبانيا ولا تعود تهمه (المدة) تنقضي وينقضي الاهتمام بعد
الابتداء بها بأيام - الشعب الخامل الغافل يرضى بحاكمه وقاضيه دخيلاً أعجميًّا لا
يشعر معه ولا يفهم لغته ليقضي بالعدل، ولا يهمه إلا تناول المرتب وربما
الرشوة (؟) مباشرة وبواسطة، وتفريق الناس لاتخاذ الأحزاب منهم. وقد يكون
وضيعًا قبل أن يصير حاكمًا بلقب كبير ومرتب كبير وتغطرس كبير وعمل
صغير.
4- إرجاع لواء لبنان إليه فإن لكل شعب على شيء من الاستقلال راية أو
علمًا أو لواء إلا لبنان الذي كان منذ بدء التاريخ على كثير من الاستقلال حتى وقوع
حوادثه الأخيرة التي زعم أنه نال بعدها حكمًا ذاتيًّا لا نرى له أثرًا.
5- (تمديد لبنان بعد تقلصه) أي إعادة حدوده الأولى والطبيعية إليه ما بين
نهري القاسمية والعاصي. ومعنى ذلك أن تكون حدوده كما كانت على عهد أمرائه
الأصلاء من القاسمية إلى جبل الشيخ إلى لبنان الشرقي إلى حمص فالنهر الكبير
وهي حدود تتناول بيروت وطرابلس وصيدا والسهول المحيطة به - اللبنانيون لا
يطلبون التوسع بهذه المطالب؛ بل إعادة الحدود التي انتزعها المنتزعون إليهم.
6- إعادة الجمارك والبريد والبرق إلى لبنان؛ لأن الدولة (ضمنتها من لبنان
ضمانًا) ولكنها لم تتقيد بشروط الضمان ولم تدفع إلى لبنان ما هو من حقوقه ولكل
صاحب ملك حق باستعادة ملكه الذي لا يدفع الضامن ضمانه أو المستأجر أجرته،
فضلاً عن أن اللبنانيين لم يطلبوا المرافئ لتكون بغير جمارك، ولا البريد ليظل
عمال الأتراك عابثين ومتلاعبين به وبأقدس أسراره وغير حافلين بغير سرقة
الحوالات المالية حتى من الكتب المضمونة وبمصادرة الصحافة الحرة لئلا يستفيق
الشعب من غفلته.
7- جعل كل قدم تتكسر عليها أمواج البحر المتوسط من شواطىء لبنان مرفأ
له إذا شاء اللبنانيون عدم الاكتفاء بجونة النبي يونس.
8- إطلاق حرية الفكر والخطابة والكتابة وإنشاء الجمعيات إذ لا يوجد في
نظام لبنان مما يحول دون ذلك (لولا انتصاب التماثيل الشمعية المحركة بزنابرك
(؟) المآرب والمفاسد في مجلس إدارة لبنان) إن مجلس إدارة لبنان هو المجلس
المشترع في الأصل ويجب أن يكون الأكفاء دون سواهم فيه لا أن يجاز القمار،
الذي هو على كل شعب متمدن عار، لمجرد أن أعضاء مجلس الإدارة مقمرون -
إن حرية الصحافة ضرورية للبنان إلا إذا رضي مجلس الإدارة بأن يكون خائنًا
متلاعبًا؛ خوفًا من الانتقاد وعملاً بالاستبداد، ولكن كم يطول هذا الوقت؟ - يجب أن
يكون لبنان في الشرق مثل سويسرا في أوربا، فهل تتحرك (التماثيل) لإبقاء آثار
وطنية لا آثار عار وأقذار! ! !
9- إقامة مندوب في أوربا يمثل اللبنانيين ويطالب بحقوقهم ولا يكون له
اهتمام بغير مفاوضة الدول الضامنة استقلال لبنان ومفاوضة وزاراتها الخارجية بكل
ما يحتاج إليه الجبل.
10- إقامة (رقيب) على الحكومة اللبنانية في نفس لبنان يناصر الأكفاء
المخلصين للوطن ويصادر الأدنياء الخونة فيه وينشئ الفروع للنهضة في كل
قضاء ومديرية وبلدة ويكون الحزب من ورائه يشد أزره وأزر كل مندوب أمين.
11- ما زالت أكثرية المهاجرين من اللبنانيين فيجب (؟) أن يكون القناصل
في كل مهجر من المهاجر من اللبنانيين أو يستغنى عنهم وتفاوض قناصل الدول
الضامنة في أمر حماية اللبنانيين ومصالحهم.
12- إنشاء مدارس عمومية في لبنان تعلم فيها لغة البلاد قبل سائر اللغات
وتنصرف فيها الهمم إلى تعليم الصناعة والتجارة والزراعة والتعدين وغير ذلك مما
يحتاج إليه اللبنانيون، ويجب أن يوضع للبنان تاريخ صادق وخريطة صحيحة
لمدارسه العمومية. والهدى الذي يقترح هذا الاقتراح يقوم بنفقات الطبع فلا نظل
نتعلم تواريخ الأمم الغربية وحدودها ونجهل تاريخنا وحدود بلادنا.
13- وضع قانون عام للنهضة اللبنانية لا يجوز لأي فرع منها الزيادة عليه
أو الحذف منه إلا في الترتيبات المحلية التي لا علاقة لها بالمبادئ، ويجب أن يكون
المركز الرئيسي للولايات المتحدة وكندا والمكسيك وجزائر الهند الغربية وبعض
الجمهوريات اللاتينية واحدًا في نيويورك، أما في سائر المهاجر فيجب أن يكون
النظام واحدًا باستقلال كل بلاد بنهضتها وفروعها بشرط التقيد (النظام الواحد)
والاشتراك في العمل الواحد على حد ما هي الولايات من (مركز الاتحاد) أو
المقاطعات من العاصمة (؟ ؟) .
14- إصدار كتاب كل عام من أقلام أدباء النهضة اللبنانية في كل بقعة من
العالم تكون مواضيعه الإصلاح والتربية والسياسة والاجتماع والتعليم بفروعه وغير
ذلك مما تدعو إليه الحاجة، ويجب أن تكون أسماء الأعضاء وبيان الدخل والخرج في
آخر هذا الكتاب مع قانون النهضة المعدل.
15- تعديل قانون النهضة اللبنانية عند التئام كل مؤتمر تعقده يكون مؤلفًا من
نواب كل فرع مستقل أو مرتبط في مدينة متوسطة وموافقة للجميع وقبل انتهاء مدة
المتصرف بسنة (؟ ؟) .
16- من حق كل مشترك في النهضة اللبنانية التصويت لمرشحي المركز
الرئيسي مباشرة لمن كان غير منضم إلى فرع أو بوساطة الفرع الذي يكون منه
ويعلن الترشيح مقدمًا.
17- للمرأة الحقوق الوطنية بالانضمام إلى النهضة اللبنانية وبإنشاء الفروع
لها أو بالانتخابات عمومًا (؟) .
18- السعي مع المتمولين لإنشاء الشركات على اختلافها لا تكون النهضة
فيها إلا منشطة (؟) وتكون كل شركة مستقلة بإدارتها ونظامها - الشعب الذي لا
يتَّحِد في الشركات لا يستطيع الاتحاد في غيرها، وبكل أسف نقول إنه لا يكون
ارتقى كثيرًا.
19- العدول عن التبرعات للمشاريع المدعوة في الوطن عمومية وهي
خصوصية لم يتم منها حتى الآن مشروع واحد على ما نعلم بعد جمع عشرات ألوف
الدولارات، ولا سيّما أن (؟) فضل المهاجرين غير معترف به وإذا كان من اعتراف
فبتفوق عليهم (؟) وبذكر واجب لا ندري مصدره قبل الاعتراف المخلص
بالمساواة (؟) - المهاجرون ساعدوا كل مشروع وهمي في الوطن منذ ثلاثة عقود
من السنين ولم يساعدهم المتخلفون بشيء حتى في إصلاح البلاد، فمن العدل أن
يعدلوا عن الاستئثار إلى الخدمة الوطنية المتساوية، وأمام المهاجرين واجبات كثيرة
من الضروري القيام بها - يجب العدول عن التبرعات إلى أن يتم المشروع الوطني
على الأقل.
20- تكافل المهاجرين والمتخلفين في كل ما يعود على الوطن بالإصلاح
والرقي.
21- الاهتمام بالجندية اللبنانية اهتمامًا تنظر فيه النهضة.
22- بذل العناية التامة لإنجاح قلم المهاجرة وصون أموال وأعراض
المهاجرين الجدد.
23- إذا كان المهاجرون مطالبين بالأموال الأميرية وسائر الضرائب فمن
الواجب أن يكون لهم رأي في حكومتهم وأعمالها وانتخاباتها.
24- عضو مجلس الإدارة (شيخ مشترع) أو (سناتور) فمن العار على
البلاد أن يكون غير متعلم ولا متهذب إن لم يكن متشرعًا.
25- ترمي النهضة اللبنانية إلى إنشاء مدرسة داخلية في أمريكا الشمالية
لإحياء اللغة العربية وبهاء الوطنية، ولتنشئة الصغار على المبادئ القويمة، وأهم ما
ترمي إليه حمل مدارس الوطن على تعديل أنظمتها فلا ينفق التلميذ ربع عمره قاتلاً
ويخرج بعد هذه الخسارة غافلاً.
26- جعل لبنان مصيفًا جميلاً ونقيًّا بالآداب والأخلاق مثله بالمناظر والماء
والهواء (؟)
27- تحويل أفكار المهاجرين عن إقامة الدور والقصور- إلا ما كان
ضروريًّا - إلى إنشاء المعامل والعناية بالزراعة والصناعة واستثارة دفائن كنوز
لبنان.
28- تعليم الاقتصاد على أنواعه وترويج المصنوعات والمستغلات الوطنية.
29- حؤول أعضاء النهضة اللبنانية دون الخلافات الطائفية والقومية والبلدية
والفصل بين المختلفين منهم في محاكم النهضة الخصوصية إلا إذا عز التوفيق.
30- إنشاء جريدة رسمية مساهمة في كل بلاد فيها مركز رئيسي للنهضة
وإنشاء مجلة نسائية عند الحاجة والمقدرة.
31- الاهتمام بالغرف التجارية الضرورية للمهاجرين.
32- السعي لإقامة رؤساء أساقفة في المهاجر للطوائف النائلة امتيازات في
الوطن لصون الشرف ومنع الاستئثار أسوة بالطوائف الممتازة في أوروبا.
33- مساعدة نوابغ أعضاء النهضة أو نوابغ أبنائهم.
34- عدم مساعدة الكنائس إلا إذا كان لها مدارس في الوطن والمهجر.
35- التفاهم مع رؤساء الأديان لخدمة الشعب وإفادته بتنفيذ غاية الواقفين من
الأوقاف دون تعرض لأي حق راهن لهم.
36- يجب إقامة وكلاء للنهضة حيث لا يوجد فروع أو حيث يكون إنشاء
الفروع مبددًا لا موحدًا.
37- مرتب الدخول دولار واحد في السنة يجب إيصاله إلى المركز الرئيسي
من كل عضو في النهضة إلا إذا شاء العضو التبرع. أما الفروع فلها أن تتفاهم مع
الأعضاء على طرائق القيام بالنفقات المحلية (؟)
38- ينتخب نائب الرئيس وأمناء الصندوق والمديرون من التجار، أما
الرئيس فيجب أن يكون غير تاجر صونًا لحقوق مصالح سائر التجار.
39- لا يقبل الأمي - الذي لا يحسن القراءة - عضوًا إلا في السنين الخمس
بعد إعداد القانون الأساسي ولا يقبل غير المستقيم على الإطلاق.
40- يجب ترغيب الشبان في تعليم الصناعات والفنون استعدادًا لخدمة الوطن
بما يكونون تعلموه.
41- يعتبر مفشي أسرار الجمعية (خائنًا) ويطرد بعد المحاكمة.
42- لا يقبل عضو في النهضة كل (؟) من يكون منتظمًا في سلك جمعية
في مبادئها ما يخالف مبادئ النهضة اللبنانية.
43- للجمعية شارة وكلمة تعارف وقوانين تعرف من النظام العمومي بعد
طبعه.
44- تسعى النهضة اللبنانية لإحياء ذكر النوابغ في العلم والوطنية من رجال
ونساء بطبع نتاج قرائحهم وإقامة تماثيل للعظماء منهم.
45 - من مساعي النهضة اللبنانية إنشاء المتاحف الوطنية وصون كنوز
الحفريات والعادات وحفظ كل ما يهتم القوم الراقي (؟) بحفظه.
46- يجب أن يكون لنا (جمعية علماء) تبذل منتهى العناية بإحياء اللغة
والفنون الجميلة ومنها تتفرع فروع العلوم والتاريخ والجغرافيا وغير ذلك.
هذا أهم ما مرّ في خاطرنا من المبادئ والمنازع التي تقبل المسؤولية عليها
دون أحد من الناس، ولنا في أكثر هذه البنود كلام نتبسط فيه ونرجو أن يكون عند
صادقي الوطنية مقبولاً.
إلا أننا لا ندّعي بأن ما جئنا به يجب أن يعتبر فصل الخطاب؛ وإنما أردنا أن
نوقف الشعب على الأهم من مرامي هذا الحزب الأكبر المدعو نهضة لبنانية، وهو
حزب لم يظهر مثله حتى يومنا هذا في العالم العربي ولا انضوى تحت لواء أي
جمعية عربية العدد المنضوي تحت لوائه.
في كل مصر وقطر أنصار لهذا الحزب لا نعلن أسماء جميعهم لحوائل سياسية،
ونؤكد للبنانيين أننا بعد سنة واحدة نصبح 25 ألفًا في المهاجر وحدها فمن كان
مؤمنًا بكتاب اللبنانية الشريف فليحمل لواءه بالإخلاص خفَّاقًا، وينشر تعاليمه
بالوطنية نطاقًا، والفوز للمجاهدين، اهـ.
(المنار) :
نشرنا هذه المقالة بحروفها ووضعنا بجانب بعض المفردات
والجمل علامة (؟) للإشارة إلى ما فيها من خطأ أو ضعف لفظي أو معنوي
(ولولا أن استحسنا إنشاء الكاتب لما أشرنا إلى ذلك) . ويظهر منها أن هذه الجمعية
سياسية علمية اقتصادية أدبية خيرية سرية جهرية. وفي هذه المواد المنشورة
تعارض وتهافت، يمني بعضها بمملكة مستقلة، كما بني بعضها على تابعية مبهمة.
ولعل رئيس النهضة البارع يصححها ويرتبها بعد إعادة النظر فيها. ولا نسأله
عن القوة التي يؤسس المهاجرون بها هذا الملك العظيم.
ولنرد ما تقدم بيانًا بنقل النبذة التالية من جريدة أبي الهول التي تصدر في
البرازيل وهي:
أنا لبناني
ليقرأها اللبنانيون بتمعن! !
لا تصبح الأمة أمة حقيقية ولا يستتب لها كيان إلا متى نمت في صدور
أغلبيتها عاطفة حب الوطن، وكان هذا الحب مؤسسًا على معرفة تاريخها، وما
التاريخ إلا قطعة من قلب الأمة، وما أبناء هذا الجيل إلا أحفاد أجيال إذا تناسيناها
مسخنا نفوسنا وأنكرنا الأصول التي إنما نحن لها فروع.
ولقد أثبت المدققون أن قوة الشعوب الحقيقية قائمة في إيمانها الوطني،
وعرف العالم بأجمعه أن العثماني قد غلب في الحرب البلقانية لأنه فاقد هذا الإيمان،
وإن الأمم البلقانية لم تنتصر ذلك الانتصار الباهر إلا لامتلاكها القوة الأدبية علاوة
على قواها الحربية.
ومن الثابت أن السرب مثلاً قد انتصروا لأنهم بأجمعهم - من القائد الكبير إلى
الجندي الصغير - كانوا قد رسموا في قلوبهم وأدمغتهم تذكارات تاريخهم القديم الذي
طمست به سنوات الحكم العثماني عليهم.
وفي سنة 1907 تشكلت لجنة نيابية سربية لفحص حالة استعداد الجيش
العامة، وأرادت اللجنة أن تعلم مقدار معرفة الجنود تاريخ بلادهم فوقعت القرعة
على فرقة من الفرق المقيمة في أقصى أرجاء سربيا فألقيت على كل من الجنود
الأسئلة العشرة التالية:
ماذا تعرف عن كراليفتش ماركو؟ وعن ميلوش أو بليتش؟ عن الأمير لازار؟
وعن الإمبراطور دوشان؟ عن موقعة قوصوه؟ وعن كاراجورجس؟ عن الأمير
ميلوش وما هو اسم الملك الحالي؟ واسم ولي العهد وهل يوجد سربيون خارج
سربيا؟
فأيدت الأجوبة أن مائة في المائة من الجنود يعرفون أن (كراليفتش ماركو)
ملك سربيا وبطل التاريخ الوطني كان آخر حماة استقلال سربيا ضد الأتراك.
ومائة في المائة يعرفون أن السربي (ميلوش أوبليتش) قتل السلطان مراد
في موقعة قوصوه سنة 1389.
ومائة في المائة يعرفون أن الأمير (لازار) قاد الجيش السربي في معركة
قوصوه وقتل فيها.
وثمانون في المائة يعرفون أن الإمبراطور (دوشان) المتوفى سنة 1355
كان أعظم ملوك سربيا القديمة.
ومائة في المائة يعرفون أن الإمبراطورية السربية قد سقطت في موقعة
قوصوه.
واثنان وستون في المائة يعرفون أن (كراجورجس) كان زعيم الثورة الأولى
السربية ضد الأتراك سنة 1804 - 1813.
وتسعة وخمسون في المائة يعرفون أن الأمير (ميلوش) قاد الثورة الثانية
التي ولدت منها سربيا الحالية سنة 1815م.
واثنان وأربعون في المائة يعرفون اسم الملك الحالي.
وثلاثة وعشرون في المائة يعرفون اسم ولي العهد.
وثمانية وتسعون في المائة أجابوا أنه يوجد سربيون كثيرون خارج سربيا.
فهذه النتائج تثبت بوضوح أن الشعب السربي بأجمعه كان - ساعة شهر
الحرب على تركيا - متشربًا تذكارات تاريخه الوطني البعيدة والقريبة ومعتقدًا بأن
أمنية سربيا الحالية قائمة بتوسيع حدودها لامتلاك الأراضي المغتصبة، وجعل
سربيا كافية لضم جميع السربيين.
في هذه التذكارات كمنت قوة سربيا الحقيقية. وبهذه التذكارات انتقمت للتاريخ
وانتصرت على تركيا.
لم أرو كل هذه المقدمات لأحدث القراء عن سربيا والسربيين. ولكنها أمثولة
للأمم التي تريد أن تتكون وتحيا!
نحن معاشر اللبنانيين لا نحلم بمحاربة تركيا أو الثورة عليها. ولكن الأوان قد
آن لنسعى في تعزيز جامعتنا القومية وتأليف أمة يعرفها العالم المتمدن (بالأمة
اللبنانية) . ومن أجل ذلك يجب أن نبدأ باعتناق الإيمان الوطني وأن نؤسس هذا
الإيمان على تذكارات تاريخنا البعيدة والقريبة.
لقد أنهكت مذابح الستين قوانا الوطنية؛ ولكن نصف جيل خلا كاف لتجديد
الدم اللبناني.
لو ألفت اليوم لجنة لبنانية واختارت بضعة قرى من قرى لبنان وأخذت تطرح
على أبنائها الأسئلة التالية:
من هم أجداد اللبنانية؟ هل فقد لبنان يومًا استقلاله؟ من هم أعظم أمير
لبناني؟ من أخرج محمد علي من سوريا؟ ما هي حدود لبنان الأصلية؟ ما
هي المسألة اللبنانية؟ ما رأيك بمذابح الستين؟ ما الفرق بين المسيحي والدرزي؟
من هو أحسن متصرف وأسوأ متصرف حكم لبنان؟ بماذا يجب أن يحلم
اللبناني اليوم؟
لو ألفت هذه اللجنة وسالت هذه الأسئلة وأجاب مائة في المائة أن أجداد
اللبنانيين هم الفينيقيون غزاة البحر وتجّاره، وأساتذة اليونان، وممدنو قسم من
إفريقيا الشمالية وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
ومائة في المائة: إن لبنان لم يخضع يومًا لدولة من الدول التي اجتاحت
سوريا خضوعًا تامًّا، وأنه لا يستطيع الحياة إلا مستقلاً.
وثمانون في المائة بأن أعظم أمير لبناني هو الأمير فخر الدين المعني الثاني
الذي أوصل حدود لبنان في الجيل السابع عشر من أطراف حلب إلى أوائل فلسطين
ولقبه سلطان تركيا (بسلطان البر) - يليه الأمير الشهابي الكبير الذي نريد نقل
رفاته من الآستانة إلى لبنان إحياء للروح الوطنية.
ومائة في المائة بأن سيوف اللبنانيين كانت العامل الأول في إخراج محمد
على باشا المصري وإعادة سوريا إلى تركيا في أوائل الجيل الأخير.
ومائة في المائة أيضًا بأن حدود لبنان الأصلية التي اغتصبتها الدولة تمتد من
أعالي طرابلس إلى صيدا ومن ساحل البحر المتوسط وفيه بيروت إلى أطراف الشام
وفيها سهل البقاع وجبل انتيلبنان المعروف بجبل حرمون أو جبل الشيخ.
ومائة في المائة بأن المسألة اللبنانية مشكلة بين الدولة ولبنان لا تحل إلا
باستعادة لبنان حدوده المغتصبة وحقوقه في الكمرك والبريد - وأن هذه المسألة
يجب أن يطرحها المجلس الإداري أمام محكمة أوربا التي تحمينا، ولنا بها علاقة
منذ بضعة أجيال بتقديم دعوى الديون التي لنا في ذمة الدولة.
وثمانون في المائة بأن مذابح الستين التي كان لمأموري الدولة اليد الأولى في
إثارتها وصمة على جبين لبنان يجب أن يمحوها بنزع التعصب الديني وإبداله
بالتعصب الوطني.
ومائة في المائة بأن الدرزي أخ للمسيحي في الوطنية، للأول ما للثاني وعليه
ما عليه.
وإن أحسن متصرف جاء قبل المتصرف الحالي هو داود باشا الأرمني الذي
سعى في تحسين شؤون الجبل وتوسيع أراضيه، وأسوأ متصرف هم كل
المتصرفين الذين سبقوا متصرفنا الحالي.
وإن على اللبناني أن يحلم اليوم باستعادة الإمارة اللبنانية، ويساعد جمعيات
المجاهدين المخلصة ليعود المهاجرون إلى بلادهم، وتعود إلى لبنان حياته ومعها
العز والفخار … في ذلك اليوم … في ذلك اليوم يصبح اللبنانيون أمة حقيقة
ويستطيع اللبناني أن يسمي بلده وطنًا، وأن ينادي على رؤوس الملأ بكل مباهاة
وافتخار: (أنا لبناني!) (أنا لبناني! ! !) .
(المنار) :
لولا هذه النقط التي أبهم بها الكاتب النتيجة، لقال القارئ إن النتيجة جاءت
أصغر من المقدمات، لا متبعة أخس المقدمات كما يقول علماء المنطق. والمجال
واسع أمام من يريد انتقاد ما كتب الكاتب، وأهم ما يهم دعاة النهضة العربية من
ذلك جعل البلاد السورية أوطانًا متعددة، ومن فروع ذلك جعل هذا الكاتب اللبنانيين
كلهم فينيقيين - على مذهب عبيد الله التركي الذي زعم أن نصارى سورية ليسوا
عربًا - وهذا خطأ مبين، فإن كثيرًا من سكان الجبل يعرفون أنهم من سلالة العرب،
ومنهم أمراؤه كبني معن وبني شهاب الذين يفخر الكتاب بكبيريهما الأمير فخر
الدين والأمير بشير، وبني رسلان وغيرهم من الدروز. والباقون من سلائل
العرب والفينيقيين وغيرهم. ولكنهم صاروا كلهم عربًا بتوحيد لغتهم؛ وإنما
الجنسية باللغة فكثير من الأسبانيين من سلالة العرب ولكنهم لا يعدون الآن عربًا.
يظهر مما نشرنا ومما لم ننشر مما يكتبه غلاة الدعوة اللبنانية أنهم يمنون
أنفسهم بما ليس في طاقتهم، يمنون أنفسهم بأن يكونوا دولة قوية مستقلة تمام
الاستقلال، منفصلة عن جدتهم الأمة العربية وأمهم سورية نفسها، لا عن الدولة
العثمانية فقط. ولا يكون مثل هذا إلا لشعب حربي قوي، ولذلك يكثر أصحاب
دعوة هذا الاستقلال من ذكر قوة الجبل وامتناعه عن الفاتحين، وانتصاره على
المصريين، وإخراجهم جيش محمد علي الكبير من سورية وردها إلى الدولة!
والاسترسال في المبالغات التي ليس من موضوعنا البحث فيها. ولنسلم لهم حديثهم
عن ماضيهم؛ فإنه لا يمنعنا من الجزم بأنهم لا يستطيعون أن يأخذوا بقوتهم شبرًا
من أرض الدولة ولا درهمًا من خزينتها؛ وإنما مسألتهم أوربية مفتاحها بيد الدول
الكبرى، فإذا هن اتفقن على إعطاء الجبل شيئًا فهو الذي يرجى أن يأخذوه، وإذا لم
يتفقن ففرنسة وحدها لا تستطيع أن تعمل للجبل شيئًا. وإذا استطاعت الدولة أن
ترضي الدول بإلغاء امتياز لبنان فإنها تلغيه، وخلاف فرنسة وحدها لا يحول دون
ذلك. فمن يعرف هذه الحقائق يجزم بأن مؤسسي جمعية (الاتحاد اللبناني) في
مصر أرسخ قدمًا في السياسة من سائر اللبنانيين. وأن وراء ذلك كله سياسة مثلى
لو قدروها قدرها، ولم تحجبهم آمالهم بفرنسة وغيرها عنها! !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(17/615)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب مصر والشام
برجال العلم وحملة الأقلام
4- الشيخ محمد جمال الدين القاسمي
(تتمة ترجمته)
تصانيفه ورسائله:
كان أثابه الله سيّال القلم سيّال القريحة، سريع الذاكرة سريع المراجعة، وقد
كتب كثيرًا من الكتب والرسائل تصنيفًا وشرحًا واختصارًا لبعض المطولات،
وأحصاها لنا بعض تلاميذه فزادت على السبعين، وهو العقد الذي تعبر به العرب
من الكثرة. وهذه أسماؤها مرتبة على حروف المعجم:
(1) الاستئناس في تصحيح أنكحة الناس. طبع في دمشق سنة 1332.
(2) الأنوار القدسية على متن الشمسية في المنطق، كتب عليها إلى آخر
قسم التصورات.
(3) إيضاح الفطرة في أهل الفترة.
(4) الارتفاق، بمسائل الطلاق.
(5) إزالة الأوهام بما يستشكل من ترك سيدنا عمر لكتابة الكتاب الذي
همَّ به عليه الصلاة والسلام.
(6) إفادة مَن صحا في تفسير سورة " والضحى ".
(7) إعلام الجاحد عن قتل الجماعة المتمالئة بالواحد.
(8) الأقوال المروية في من حلف بالطلاق الثلاث في قضية.
(9) الأوراد المأثورة - مطبوع في دمشق.
(10) الأجوبة المرضية مطبوع في دمشق سنة 1326.
(11) إصلاح المساجد من البدع والعوائد.
(12) بذل الهمم لموعظة أهل وادي العجم.
(13) بديع المكنون في أهم مسائل الفنون.
(14) بيت القصيد في ديوان الإمام الوالد السعيد.
(15) بحث في جمع القراءات المتعارف.
(16) تعطير المشمامّ، في مآثر دمشق الشام.
(17) تعليقات على حصول المأمول لصديق حسن خان.
(18) تنوير اللب في معرفة القلب.
(19) تاريخ الجهمية والمعتزلة. نشر في مجلة المنار وطبع في مطبعتها
سنة 1331.
(20) تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب - طبع في مصر سنة
1326.
(21) ثمرة التسارع إلى الجب في الله وعدم التقاطع.
(22) الجواب السني عن سؤال السيد أحمد السني.
(23) الجوهر الصاف في نقابة الأشراف.
(24) جواب المسألة الحورانية.
(25) جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب.
(26) جدول في مخارج الحروف وصفاتها.
(27) جواب الشيخ السناني في مسألة العقل والنقل، نشر في مجلة المنار.
(28) حسن السبك في الرحلة لوعظ قضاء البنك.
(29) حياة البخاري. طبع في صيدا سنة 1330.
(30) حاشية على الروضة الندية.
(31) درء الموهوم من دعوى جواز المرور بين يدي المأموم.
(32) دلائل التوحيد. مطبوع في دمشق سنة 1326.
(33) ديوان خطب مطبوع في دمشق سنة 1325.
(34) رفع المناقضات، بين ما يزيد في العمر وبين المقدرات.
(35) رسالة في الشاي والقهوة والدخان. مطبوعة في بيروت سنة 1323
(36) رسالة في أوامر من مشايخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي.
مطبوعة بعد نشرها في مجلة المنار سنة 1331.
(37) رسالة في المسح على الجوربين. مطبوعة في بيروت سنة 1332.
(38) رسالة في المسح على الرجلين.
(39) زوال الغشاء عن وقت العشاء.
(40) زبدة الأخبارعن أولاد الكفار.
(41) السطوات في الرد على منع العشاء قبل الصلوات.
(42) شمس الجمال على منتخب كنز العمال.
(43) الشذرة البهية في حل ألفاظ نحوية. مطبوعة في دمشق سنة 1322.
(44) شذرة من السيرة المحمدية. مطبوعة بمطبعة المنار في مصر سنة
1331.
(45) شرح لقطة العجلان. مطبوعة في مصر سنة 1326.
(46) شرح مجموعة أربع رسائل في الأصول. مطبوعة في بيروت سنة
1324.
(47) شرح مجموعة أربع رسائل في الأصول أيضًا. مطبوعة في دمشق
سنة 1323.
(48) شرح مجموعة ثلاث رسائل في أصول التفسير وأصول الفقه
مطبوعة في دمشق سنة 1332.
(49) شرح مختصر المستصفى لابن رشيق.
(50) الطائر الميمون في حل لغز الكنز المدفون. مطبوع مرتين سنة
1316 وسنة 22.
(51) طراز الخلعة فيما نقل من قول الرملي: وأقسام الاسم تسعة.
(52) الطالع المسعود على تفسير أبي السعود (لم يتم) .
(53) الطالع السعيد في مهمات الأسانيد.
(54) العقود النظيمة في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه
العظيمة، ومحاسن شريعته القويمة.
(55) غنيمة الهمة على كشف الغمة.
(56) فصل الكلام في حقيقة عود الروح إلى الميت حين الكلام.
(57) الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين، ويعرف بشرح الأربعين
العجلونية.
(58) فتاوى الأشراف في العمل بالتلغراف. مطبوع في دمشق
سنة 1329.
(59) قواعد التحديث من فن مصطلح الحديث.
(60) الكواكب السيارة في مدح الفوارة.
(61) كتاب الفتوى في الإسلام. مطبوع في دمشق في سنة 1329.
(62) كتاب إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق. طبع بدمشق سنة
1329.
(63) كتاب الإسراء والمعراج. طبع دمشق سنة 1331.
(64) كتاب شرف الأسباط. طبع بدمشق.
(65) كتاب (شرح العقائد) وهو كتاب كبير كتب الفقيد منه نحوًا من
مائتي صفحة ولم يتم.
(66) اللف والنشر في طبقات المدرسين تحت قبة النسر.
(67) لزوم المراتب في الأدب مع الإمام الراتب.
(68) المسند الأحمد على مسند الإمام أحمد.
(69) منتخب التوسلات. مطبوع في دمشق سنة 13.
(70) مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن. طبع بدمشق سنة 328.
(71) ميزان الجرح والتعديل، طبع في مصر سنة 1330.
(72) موعظة المؤمنين من أحياء علوم الدين. طبع بمصر سنة 133.
(73) (محاسن التأويل) وهو التفسير العظيم الذي يقع في اثني عشر
مجلدًا مع مقدمته التي كتبت في مجلد حافل.
(74) النفحة الرحمانية على متن الميدانية. مطبوعة في دمشق سنة
1323.
(75) نقد النصائح الكافية. طبع بدمشق سنة 1328.
(76) هداية الألباب لتفسير آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: 5) .
(77) الوعظ المطلوب من (قوت القلوب) .
(78) وفاء الحبيب وحده، في إيضاح جهة الوحدة (المسوقة في الفناري) .
(79) ينابيع العرفان في مسائل الأرواح بعد مفارقة الأبدان.
أقول: إن بعض ما ذكرنا رسائل صغيرة مؤلفة من كراسة أو كراستين أو
كراسات قليلة، له أو لغيره، وبعض ما ذكرنا من الشروح عبارة عن تعليقات لا
يصح أن تسمى شرحًا، وقد كتب إليّ في العام الماضي أنه له كتابًا في العبادات
مقتبسًا من كتب المذاهب مع بيان حكمة التشريع. كان أخذه منه الشيخ أحمد طباره
ليطبعه في مطبعته ببيروت ولم يعده إليه، وعلمت ممّا كتب إليّ أنه من أهم كتبه،
وكنت وعدت بتأليف كتاب في ذلك فسبقني رحمه الله إليه، فتمنيت لو يطبع
لأستغني به. ولعل هذا الكتاب وتفسيره الحافل هما أكبر مظاهر علمه وإصلاحه،
على أن له رسائل مختصرات لا تغني عنها المطولات.
سيقول كثير من الناس: إنك عددت القاسمي من رجال الإصلاح، وإن أسماء
كثير من هذه الكتب التي صنفها أو شرحها تدل على أنها ليست من الإصلاح في
ورد ولا صدر، ولا تشتمل على عين منه ولا أثر؛ فكيف يضيع العالم المصلح
وقته في شرح لغز، أو ما يعد أبعد عن الإصلاح من اللغز؟
ويمكنني أن أقول: إن الرجل كان من خيار مصلحي المسلمين في هذا العصر،
وإن لم يدخل كل ما كتبه في باب الإصلاح الذي يفهمه قراء المنار، فمسمى
الإصلاح ومفهومه واسع، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، والسن والعشراء
والأقران، والتلاميذ والمريدين، وغيرهم من المخاطبين، والمصلح لا يخلق
مصلحًا بالفعل؛ بل يخلق كغيره لا يعلم شيئًا، ويكون الاستعداد للإصلاح فيه كامنًا،
ثُمَّ تظهره التربية والتعليم، وما يتجدد المرة بعد المرة له من العبرة والتأثير. فهل
يطلب ممن عاش خمسين، ترك فيها من هذه الكتب والرسائل نحوًا من سبعين، أن
يكون جميع ما كتبه أو شرحه إصلاحًا في الدنيا والدين، مرضيًا عند الكهول
المجربين، والشيوخ المحنكين؟
طريقته في الإصلاح:
حسب من نشأ وتعلم وتربى في أرض التعصب للتقليد، والجمود على العادات
والخرافات، تحت سماء الاستبداد، والحجر على الألسنة والأقلام، - ولم تكن هذه
المفاسد في الآستانة أشد منها في الشام - أن يكون بسلامة فطرته، وعناية الله به،
مثل الشيخ جمال الدين القاسمي في استقلاله، ونزاهته واعتداله، ونظافة عقله
وقلمه ولسانه، وجرأته على مجاهدة الجمود والتقليد، والجمع في إحياء علوم اللغة،
والدين بين الطريف والتليد.
أما طريقته في الإصلاح وغايته منه فلم يكن فيها ما على خطة مقررة من أول
النشأة، وإنما كونتهما الحاجة بقدر استعداد البيئة: فتح الرجل عينيه فرأى أطلال
العلم في بلده دارسة، وأعلامه طامسة، وقد كانت مهاجرًا يرحل الطلاب إليها،
فأصبحت مهجورة يرحل عنها. فكان الإصلاح الضروري فيها إيجاد نشء جديد
من طلبة العلم يعلمون تعليمًا صالحًا يرجى أن يحيا به وبهم العلم، وقد كان سبب
اختيار الشيخ لقراءة بعض الكتاب ولكتابة بعض الشروح والتعليق على بعضها،
هو الضرورة أو الحاجة إلى تدريسها، لا كونها صالحة في نفسها، أو محاولته
إصلاح التعليم بها. مثال ذلك ما كتبه على شرح الفناري ومتن الشمسية في المنطق،
كان ما لا بد منه؛ لأن طلبة العلم كانوا يمتحنون بهما لأجل إعفائهم من الخدمة
العسكرية. ونقيس ما لم نعرف عذره فيه - كقراءة كتاب جمع الجوامع وشرح
بعض المتون - على ما عرفنا عذره فيه كمتن الشمسية وشرح الفناري، وكلاهما لا
يصلحان للتدريس في رأي العارفين بطرق إصلاح التعليم. ولو كان الشيخ في
مصر لقلنا إن عذره في قراءة جمع الجوامع اعتماد الجامع الأزهر عليه في
الامتحان ونيل شهادة العالمية.
لعلنا لو اطلعنا على جميع ما كتبه لظهر لنا من عذره ما لا يظهر لنا الآن، أو
ننتقد منها ما لا نظن الآن أنه منتقد، وحسب الرجل أن يكون مصلحًا في سيرته
ومجموع أعماله.
قد اطلعنا على كتاب دلائل التوحيد وبعض الرسائل من مؤلفاته المطبوعة،
وقرظنا بعضها في المنار وبينا مزيتها فيه. ويمكنا أن نستنبط منها ومن مذاكراتنا
القصيرة له ما نعده للقارئين من مزاياه ومزاياها:
(1) إن القاسمي درس فنون اللغة العربية والعلوم الشرعية على الطريقة
المألوفة في مدارس المسلمين منذ قرون، وتلقى تلك الكتب التي اختارها المتأخرون
للتدريس، ورأى حاجة أهل البلاد إلى بعض تلك الكتب لأجل امتحان الإعفاء من
العسكرية، وأن المشتغلين بالعلم منهم يظنون أن العالم لا يكون عالمًا حقيقة إلا
بتحصيل كذا وكذا منها (كجمع الجوامع وكتب السعد التفتازاني) فكانت هذه الأمور
الثلاثة أسبابًا لمحافظته على بعض ذلك التليد.
(2) أنه كان يرى أن ما يثبت بالدليل النقلي في النقليات والعقلي في
العقليات وبالتجربة في المجربات لا تتلقاه بالقبول هذه الأمة التي جمدت على التقليد،
وبعد عهد جمهورها بالحجة والدليل، إلا إذا أيد بنقل عن بعض العلماء السابقين،
ولا سيّما إذا كان من المشهورين، فكان يرى هذا ركنًا من أركان الإصلاح في
التدريس والتأليف لأجل إقناع المستدلين والمقلدين معًا، ونحن نجري على هذا في
المنار والتفسير أحيانًا.
(3) أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصره في دروسه
ومصنفاته، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة، بلا زيادة ولا نقصان، على
الوجه الذي كانوا يفهمونه في الصدر الأول. وقد اتهم - كما اتهم غيره من
المستقلين - بأنه أحدث مذهبًا جديدًا في الإسلام، ولما كانت حادثة السعاية التي
أشرنا إليها، وذكرنا أنه حبس فيها، لغط حساده بهذه المسألة فقال يرد عليهم:
زعم الناس بأني ... مذهبي يدعى الجمالي
وإليه حينما أف ... تي الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني ... سلفيّ الانتحال
مذهبي ما في كتا ... ب الله ربي المتعالي
ثم ما صح من الأخـ ... بار لا قيل وقال
أقتفي الحق ولا أر ... ضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلاً ... وعمى في كل حال
وقال أيضًا في هذا المعنى:
أقول كما قال الأئمة قبلنا ... صحيح حديث المصطفى هو مذهبي
أألبس ثوب القيل والقال باليًا ... ولا أتحلى بالرداء المذهب
(4) كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف، واتباع ما يقوم
عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل. وكان لحرصه على الوفاق
وجمع كلمة المسلمين يجتهد في استبانة حجة كل فريق من أصحاب المذاهب،
وتقريب أحدهما من الآخر، بإظهار حجته أو شبهته، وحكاية ما يعارض الخصم
به. ومن كانت هذه طريقته فكثيرًا ما يغضب الخصمين معًا. فيتهمه كل منهما
بالتشيع للآخر. ثم إذا كان أحدهما مصيبًا والآخر مخطئًا يتعذر على محب الاعتدال
في الحكم بينهما أن يرضى باستحداث مذهب ثالث يجعله وسطًا بينهما؛ إذ ليس بين
الحق والباطل وسط، وإنما يكون الحق وسطًا بين باطلين، أو أباطيل ترجع كثرتها
إلى نوعين - الزيادة على الحق أو النقص منه. وقد اتهم الفقيد بعض السلفيين بأنه
خالف مذهب السلف في رسالته (تاريخ الجهمية والمعتزلة) التي نشرناها في
المنار، على شدة حرصه عليه وتحريه إياه؛ وانتقدها بعض الشيعة كما يأتي.
واتهمه بعض المستقلين بعثرة أخرى في رسالته (نقد النصائح الكافية) وهي أن
حب الاعتدال وتقريب أحد الخصمين من الآخر أخرجه عن الاعتدال في بعض
المسائل؛ ولكن بقصد الإصلاح.
وههنا مسألتان:
(إحداهما) أن المستقل في علمه وحكمه حق الاستقلال يتحرى ما يظهر له
أنه الحق فيقوله ويحكم به، وإن أغضب جميع الناس عليه. وقصارى ما يستبيحه
من إرضاء الناس أو استمالتهم التلطف في القول، وتزيين الحق الذي ثبت عنده
بحلي البيان وحلله، دون إبرازه لهم عاري الجسد عاطل الجيد.
(الثانية) أن الإصلاح بين الرجلين أو القبيلين من الناس فضيلة حث عليها
الشرع وعرف حسنها العقل، وقد أبيح فيها الكذب عند الرواة عملاً بقاعدة
(ارتكاب أخف الضررين) فبالأولى يباح فيها التماس العذر لكل خصم فيما خالف فيه
الآخر، وتوجيه ما قام عنده من الحجة أو شبه الحجة. وهذه الطريقة في الإصلاح
أقرب الطرق لإرضاء المعتدلين من أهل المذاهب المختلفة، وأما الغلاة في
التعصب لمذاهبهم فلا يرضيهم إلا موافقتهم واتباعهم.
أما العمل بهاتين المسألتين وإعطاء كل واحدة منهما حقها فهو عسر جدًّا، فإن
المستقل جد الاستقلال إذا تصدى للتوفيق بين الخصمين المتعصبين يغضبهما جميعًا،
وإنما يمكن أن يرضي المستقل من كل فريق أو المستعد للاستقلال إذا أوتي
الحكمة وفصل الخطاب.
ومن الآيات على ذلك أن رسالة (تاريخ الجهمية والمعتزلة) لم يكتب أحد في
هذا العصر كتابة أعدل منها في التأليف بين فرق المسلمين الكبرى - وهم أهل السنة
الأثرية والأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج - وقد كتب بعض علماء الشيعة
ردًّا عليها قبل إتمام نشرها، وهل يرضى شيعي بتعديل بعض الخوارج والرواية
في الصحيحين عنهما؟ وأنكر بعض أهل السنة الأثريين بعض المسائل فيها كما
تقدم. فأين هذه من تلك الرسالة التي كتبها أحد علماء الشيعة للتوفيق بين الأمة
بزعمه أو دعواه الظاهرة فكانت عبارة عن دعوة أهل السنة إلى التشيع بتخطئتهم
وتصويب الشيعة في جميع مسائل الخلاف! !
أخلاقه وشمائله:
كان من أكمل ما رأيت في أخلاقه وآدابه وشمائله: كان أبيض اللون نحيف
الجسم ربعة القد، أقرب إلى القصر منه إلى الطول، غضيض الطرف، كثير
الإطراق، خافض الصوت، ثقيل السمع، خفيف الروح، دائم التبسم.
وكان تقيًّا ناسكًا، واسع الحلم، سليم القلب، نزيه النفس واللسان والقلم، برًّا
بالأهل، وفيًّا للإخوان، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، عائلاً عفيفًا قانعًا.
لا يطبيه طمع مدنس ... إذا استمال طمع أو أطبى
وقد بينا ما كان لأخلاقة الكريمة من حسن الأثر، والوقاية من كيد الجاهدين
والحاسدين، والإعانة على الإصلاح.
ومن حسن وفائه أنه لم يقطع مراسلتنا ولا مراسلة الأستاذ الإمام في إبان ثقل
وطأة الاستبداد الحميدي؛ إذ كانت مراسلتنا تعد من الجنايات السياسية التي تعاقب
الحكومة صاحبها أشد العقاب، ولكنه ترك التصريح بنقل شيء عنا كما يعلم من
كتابه (دلائل التوحيد) وصرّح لنا بذلك.
وقد عبرنا عن بعض ما وجدناه من الحزن لفقده بكتاب وجهناه إلى أهله،
وكان من يعرف ما بيننا من الإخاء يعزينا عنه كما يعزي الإخوة في النسب. وما
بيننا من أخوة النسب الروحي أعلى من النسب الجسدي، على أن نسب أمه
يتصل بنسبنا أيضًا.
وحسبي أن أدون من تلك التعازي ما كتبه إليَّ صديقي وصديقه علامة العراق
ورحلة أهل الآفاق، السيد محمود شكري الألوسي الشهير. وقد كتبت إليه مثل الذي
كتبه إليّ بباعث القلب، ولكنه سبق كدأبه في السبق إلى كل فضل. وهذا ما كتبه
بعد الألقاب، وفاتحة الخطاب:
(أما بعد؛ فقد نعت إلينا صحف البلاد الشامية وفاة العلامة السيد جمال الدين
القاسمي قدّس الله روحه الزكية، فأمضّ ذلك الخبر قلبي وأفض لبّي، وجرح فؤادي
وطرد رقادي. وأحدث لي حزنًا ملازمًا، وألمًا دائمًا، وأورثني قلقًا واخزًا.
وانزعاجًا حافزًا. وحيث كان المشار إليه من أعزة أحبابكم، وخُلّص أصفيائكم،
مع ما كان عليه من الفضل الوافر، والأدب الباهر، والورع الظاهر، والنسب
الطاهر، والذب عن الشرع المبين، وقوة الإيمان واليقين، ومناضلة الحائدين
والملحدين، وأنه حسبما اعترف له الموافق والمخالف:
أحيا به الله الشريعة والهدى وأقام فيه شعائر الإسلام
حكم على أهل العقول يبثها ... منعوتة الأوضاع والأحكام
ويريك في ألفاظه وكلامه ... سحر العقول وحيرة الأفهام
فإني أعزيك على فقده، وتوسده للحده، ومفارقته لهذه الدنيا الغدارة الخائنة
المكارة، فإن نعيمها زائل، وكوكب سعدها آفل، فلا أوجع الله لك قلبًا، ولا كدر
لك خاطرًا ولا لبًّا، وللإسلام من طلعتكم الغراء سلوان عمن مضى من الفضلاء،
وإنما يجل الرزء إذا قل العوض، ويكبر المصاب إذا عدم الخلف. فأما إذا كنت
الباقي، وغيرك الماضي، وصرت الموجود، وسواك المفقود، فالفادحة خفيفة
الوقع، مرؤبة الصدع، ويد الدهر فيما نال قصيرة، ومنته فيما ترك كبيرة.
هذا مع أسفي عليه كل الأسف، وتصاعد أنفاسي بمزيد اللهف، وقد جرت
عليه من العيون عيون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
نسأله تعالى أن يديمكم ركنًا للإسلام، ومرجعًا للخاص والعام، ويصونكم من
طوارق الليالي والأيام، تذكرة للسلف الأعلام) . اهـ.
وأقول: إن مما يعزيني ويعزي هذا الأخ الكريم والمصلح العظيم، الذي لا
أستحق بعض ثنائه، ولا ينسيني نقصي كمال إطرائه، أن أخانا الفقيد قد ربّى وعلّم
أفرادًا من إخوته وغيرهم يرجى أن يقفوا أثره، ويتلوا تلوه، وإن كان نسيج وحده
فتبقى بهم ديار الشام، آهلة إن شاء الله بالعلماء والأعلام، على مدى السنين والأيام.
* * *
5- جرجي بك زيدان
قضى الله - ولا راد لقضائه - أن لا نفرغ من رثاء وترجمة رجال العلم الذين
فجعت بهم الأمة العربية في هذه السنة في مصر والشام، إلا وقد رزئ القُطران
بفجيعة أخرى، فقد فاجأت المنية في التاسعة والعشرين من هذا الشهر جرجي بك
زيدان صاحب مجلة الهلال، وأحد أركان النهضة العربية الحديثة، فاجأته كهلاً قد
بلغ أشده واستوى، حسن الصحة تام القوى - وقد أتم في هذه الليلة تصحيح آخر
كراسة من آخر جزء من أجزاء السنة الثانية والعشرين للهلال، آخر كراسة من
كتاب تاريخ العرب. وتنفس الصعداء من تعب ليلة شعر بأنه ألقى عن عاتقه في
أولها تعب عشرة أشهر، ثم ألقى نفسه على سريره ليبدأ فيها باستراحة شهرين
كاملين، فغاضت نفسه، فإذا هو قد ألقى عنها تعب ربع قرن في الجهاد العقلي كان
هو القاضي على مادة ذلك الدماغ الذي يشبه معملاً من معامل الكهرباء، في السرعة
والنور والحرارة والضياء، والمقوض لدعائم تلك الحياة الحميدة، حياة الجد والعمل
والعفة والاستقامة. فإذا كان الجهاد العقلي قد صرع أحمد فتحي باشا زغلول
والأستاذ القاسمي بعد مرض طويل أو قصير، فقد صرع جرجي بك زيدان من غير
مرض ولا شكوى.
فقدت الأمة العربية بهذا الرجل ركنًا من أركان نهضتها الحديثة في العلم
والأدب، بعد أن نضج علمه، واتسعت معارفه، وكملت تجاربه، وصار أقدر على
إتقان خدمتها، ومساعدة نهضتها.
نشأ الرجل عصاميًّا، فقد ولد في أواخر سنة 1861م من أبوين فقيرين أميين،
ولكن يظهر أنه كان له في الأرومة العربية عرق راسخ، فقد بحث عن أصل
بينهم - وكان يسمى بيت مطر - فانتهى به البحث إلى ترجيح كونه من عرب
حوران، وكان يظن أنه كأكثر الروم الأرثوذكس في سوريا من بني غسان.
تلقى مبادئ القراءة والكتابة في بعض مكاتب بيروت الابتدائية. وكان
يشتغل مع والده في مهنته لأجل المعاش؛ ولكن استعداده للعلم وعشقه للمدارس كان
قويًّا جدًّا، فكان يختلف إلى بعض المدارس الليلية، يتعلم فيها اللغة الإنكليزية.
ويبحث عن رجال العلم والأدب ويتقرب إليهم، وانتظم مع طائفة من خيارهم في
سلك جمعية شمس البر الأدبية، فازداد حبًّا للعلم ورغبة في طلبه، وكان بعض من
آنس فيه الاستعداد من أهل العلم يقرأ له دروسًا خاصة يستعد بها لدخول القسم
الطبي من المدرسة الكلية الأمريكانية الشهيرة ببيروت، وبعد تحصيل قليل أدى
الامتحان ودخل المدرسة فكان يتعلم فنون الصيدلة ويؤدي بعض الخدمة لأجل
المعاش؛ ولكنه ترك المدرسة في أثناء السنة الثانية لما كان عرض فيها من
الاختلال الداخلي المعروف. وقصد بعد ذلك الديار المصرية ليتم دروسه في مدرسة
القصر العيني فلم يتح له ذلك؛ بل دخل في طور العمل والكسب.
إن كثيرًا من النابغين لم يقيموا في المدارس زمنًا طويلاً، ومن الثابت
بالاختبار أن طول الإقامة في المدارس تضعف ملكة الاستقلال، فيخرج الطالب
بعده مقلدًا جامدًا على ما أطال درسه ومزاولته. فإن كانت سعة العلم لا تحصل إلا
في الوقت الواسع، فالواجب أن يكون أطول زمن التحصيل خارج المدرسة لا
داخلها، وفي أثناء العمل بالعلم، لا في أثناء تلقي نظرياته ومصطلحاته. ورُبَّ
ذكي أو مجتهد يحصّل من مسائل العلم في سنة ما لا يحصله غيره في سنين كثيرة
وما تحصيل المدرسة إلا دلالة على طريق العمل بالعلم، فمن يطلب العلم فيها لأجل
الاستعانة به على العمل بعد الخروج منها، فربما يكفيه القليل من العلم، فيجعله
أهلاً للعمل الذي لا يكمل العلم إلا به. وأما من يطلب العلم لأجل نيل شهادة مدرسية
يتوسل بها إلى رزق لا يتوقف على دوام الاشتغال به والارتقاء فيه، فهجرته إلى ما
هاجر إليه، فهو يحصل ورقة الشهادة، ولكنه قلّما يكون عالمًا عاملاً بعلمه مرتقيًا
فيه. وناهيك إذا كان طلبه للعلم بإرادة ولي أمره، لا بإرادته الذاتية ورغبته.
أما فقيدنا اليوم فقد كانت نفسه العصامية هي الحافزة لهمته والباعثة له على
طلب العلم، وكان يقصد من العلم أن يعمل به فيفيد مالاً وجاهًا يكون به في مقدمة
أمته لا في ساقتها. ولذلك حصل بجده وقوة إرادته في الزمن القليل ما مكنه من
العمل الذي عجز عن مثله مَن هم أكثر منه تحصيلاً، وأوسع في العلوم والفنون
عرفانًا. وأمّا إذا اتفق لمثل صاحب هذه الهمة والإرادة تحصيل المقدمات تامة من
أول النشأة، فإن عمله يكون أقوم، وسيره فيه يكون أسرع وأتم.
اشتغل الفقيد عقب هجرته إلى مصر بالتحرير في جريدة يومية اسمها الزمان
نحوًا من سنة، ثم سافر مع الحملة النيلية الإنكليزية إلى السودان مترجمًا في قلم
المخابرات، وشهد بعض وقائع الحرب في السودان، ومكث هنالك عشرة أشهر،
ثم عاد وسافر إلى سورية فاشتغل فيها مدة بدراسة اللغتين العبرانية والسريانية، ثم
إلى بلاد الإنكليز، ثم عاد إلى مصر فندبه أصحاب المقتطف إلى مساعدتهم في
إدراته فتولاها سنة وأشهرًا، ثم استقال منها وانصرف بكل همته إلى التأليف فألف
تاريخ الماسونية ومختصر التاريخ العام وتاريخ مصر الحديث. ثم تولى إدارة
التعليم بالمدرسة العبيدية سنتين.
وفي أواخر سنة 1892 ميلادية أنشأ مجلة الهلال، وجعل جل عنايته فيها
بالتاريخ والأخبار العلمية، وجعل لها ذيلاً من القصص (الروايات) الغرامية
الممزوجة بتاريخ الإسلام، فظهر من خطته فيما ينشئ وينقل أنه من أقدر من
اشتغل بالصحف العربية والتأليف في هذا العصر، أو أقدرهم على جذب جمهور
القراء إلى ما يكتب، بمحاولة جعل ما يكتبه لذيذًا سهل الفهم، كالطعام اللذيذ سهل
الهضم، وكان يختار في كل وقت ما يناسبه، وفي كل حال ما يلائمه، فإذا ألمّت
ملمة، أو حدثت حادثة مهمة- كالحروب ومشاكل الدول وموت الملوك والكبراء -
بادر إلى كتابة ما يتعلق بذلك من مباحث التاريخ القديم والحديث، مزينًا له بما
يتعلق به من الصور والرسوم.
وكان سلمًا نزيه القلم، يتقي كل ما يثير غضب أصحاب المذاهب الدينية،
والأحزاب السياسية، ولكنه لم يسلم مع ذلك من اتهام بعض سيئي الظن من
المسلمين والنصارى، فقد اتهمه بعض الأولين بتعمد الطعن في الإسلام بفرية
يفتريها، أو دسيسة يدسها، وكانوا يستدلون على ذلك ببعض الأغلاط التي وقع فيها،
أو تصوير بعض المسائل بغير الصورة التي يعرفونها، لفهمها بغير الصفة التي
يفهمونها، ورد عليه بعض هؤلاء في المؤيد. وطالما رددت على بعضهم مبرئًا له
من سوء القصد، لما لي فيه من حسن الظن. وأشرت إلى ذلك في المنار غير مرة.
وقد حدثني أن بعض سيئي الظن من النصارى قد اتهمه بضد ما يتهمه به
بعض المسلمين: اتهموه بمصانعة المسلمين ومحاباتهم، ومدح الإسلام والمسلمين
تقربًا إليهم لأجل الكسب منهم. ولا يسلم من ألسنة الناس أحد، كيف وقد كفروا
بالواحد الأحد، الفرد الصمد، سبحانه وتعالى.
نعم إنه قد ظهر منه بعد الانقلاب العثماني نزعة جديدة، تقدمتها نزغة عدت
إحياء لمذهب الشعوبية: ذلك بأنه زار الآستانة ولقي فيها بعض زعماء جمعية
الاتحاد والترقي، ثم عاد متشبعًا بالنهضة التركية، مستنكرًا مجاراة العرب
لإخوانهم الترك بالقيام بنهضة عربية، مستصوبًا خطة الاتحاديين الأولى من تتريك
العناصر وإدغام العرب في الترك. وقد كتب في الهلال ما يشعر بهذه النزعة،
فهاج ما كتبه جماعات فتيان العرب في الآستانة وسورية، وكادوا يحملون عليه في
الصحف ردًّا واحتجاجًا؛ ولكن حالت دون ذلك معارضة مسموعة مقبولة.
وأما النزغة التي سبقت هذه النزعة، فهي مطاعن للفقيد في العرب أودعها
في تاريخ التمدن الإسلامي فطن لها أخيرًا من لم يكن يحفل بها. وزادهم التفاتًا إليها
ترجمة جريدة (إقدام) التركية لتاريخ التمدن الإسلامي ونشره فيها بالتتابع.
فتشاور كثير من الشبان المتعلمين في الرد على هذا التاريخ ولم يظهر منهم شيء.
ثم اتفق أن انبرى للرد عليه في هذه المسألة الأستاذ الشهير الشيخ شبلي النعماني من
أشهر علماء الهند وأوسعهم اطلاعًا في التاريخ. وكتب إلينا هذا الأستاذ الكبير وهو
صديقنا وصديق فقيدنا المردود عليه يخبرنا بما شرع فيه من الرد، ويقترح علينا
أن ننشر رده في المنار، ولما كنا نعهد من الفقيد تلقي الانتقاد عليه بسعة الصدر؛
بل عهدنا منه مطالبة الكتاب بهذا الانتقاد - ونعلم أن الأستاذ الشيخ شبلي النعماني
صديقه - ونرى أن تمحيص هذه المسألة أصبح ضروريًّا - بادرنا إلى نشر الرد من
غير أن نقرأه؛ بل نشر في أثناء رحلتنا الهندية، ثم قرأناه بعد عودتنا من الهند
وعمان والعراق وسورية، فرأيناه فوق ما كنا نظن من شدة الرد، ورمي الفقيد بسوء
القصد. وكنا علمنا من المنتقد عند لقائه في الهند أنه كان يرى بعض الغلط في
تاريخ التمدن الإسلامي وغيره من مؤلفات صاحبه فيحمله على الخطأ أو سوء الفهم،
ولكنه لما قرأ مجموع طعنه في العرب جزم بأنه صادر عن سوء قصد. فهذا
سبب شدة حملته عليه، على ما كان من مودته له. وقد كتبنا مقدمة لانتقاد الشيخ
شبلي إذ طبع على حدته بينا فيها ذلك، وإننا لو اطلعنا على ما فيه من الشدة قبل
نشره، لراجعنا الكاتب فيه واستأذناه بحذف الطعن الشخصي منه، وقد نشرنا تلك
المقدمة في المنار تعزيزًا لدفاعنا السابق بالقلم واللسان، عن رجل عددناه صديقًا لنا،
وعضوًا نافعًا في أمتنا، على أننا لم نسلم مع ذلك من سوء ظنّه فينا:
ثقلت وطأة رد الشيخ شبلي النعماني على الفقيد لشدته؛ ولأنه كان يعده من
أصدقائه، وأثنى عليه غير مرة في هلاله، فلم يصدق أولاً أنه هو المنتقد، واتهمنا
بذلك، وكتب إلى الشيخ شبلي كتابًا ذكر فيه ذلك، راجيًا أن يكتب إليه متنصلاً منه
ليبين ذلك في الهلال، ويظهر أن النقد لصاحب المنار! ! وقد أطلعني الأستاذ
الشيخ شبلي على كتابه ذاك في (لكهنؤ) أيام كنت فيها، ورأيته متعجبًا منه، فكان
عجبي أشد من عجبه. وقد ذكرت للفقيد ذلك معاتبًا، فكان حقي عليه في سوء ظنه
بي، أكبر من حقه علي في نشر النقد - وقد نشر في غيبتي.
وقد اتفق لي مثل هذا مع كاتب سوري آخر، كانت حقوق الصحبة بيني
وبينه أقوى منها بيني وبين جرجي بك زيدان، وكنت أثني عليه للأستاذ الإمام
وأستميله لمساعدته، فكتب إلى الأستاذ كتابًا يطعن بي فيه، ويتهمني بتنفير الأستاذ
عنه، والطعن فيه عنده، فتعجب الأستاذ من أمري وأمره! !
أما مؤلفاته فهي مطبوعة مشهورة وهاك أسماؤها:
1- التاريخ العام.
2- تاريخ مصر الحديث، جزآن.
3- تاريخ التمدن الإسلامي، خمسة أجزاء.
4- تاريخ العرب قبل الإسلام، جزء واحد.
5- تاريخ الماسونية العام، جزء واحد.
6- تاريخ اليونان والرومان، جزء واحد صغير.
7- تاريخ إنكلترا والرومان، لم نره.
8- تاريخ اللغة العربية، لم نره.
9- تاريخ آداب اللغة العربية (4) أجزاء.
10- الفلسفة اللغوية، جزء صغير.
11- أنساب العرب القدماء، جزء صغير.
12- علم الفراسة الحديث، جزء صغير.
13- طبقات الأمم، جزء صغير.
14- عجائب الخلق.
(15- 36 قصص (روايات) منها (18) قصة تتعلق بتاريخ الإسلام
وثلاث تتعلق بتاريخ مصر، وواحدة غرامية محضة.
وأما أخلاقه وشمائله فقد كان أديب النفس، نزيه اللسان والقلم، بشوش الوجه
معتصمًا بحبوة الجد، متنزهًا عن اللغو والعبث، محبًّا للنظام، حفيًّا بالأهل،
وصولاً للرحم، محبًّا للقريب.
ورأيي فيه أن عقله كان أكبر من عمله، ومن فضل عقله على علمه حسن
اختيار ما كان يكتب، وحسن ترتيبه وتبويبه، فقد كان في هذا - وهو من ثمرات
العقل - أبرع منه في تحرير المباحث وتنقيحها، وتمحيص الحقائق بالقول الفصل
فيها. وسبب ما انتقد وما ينتقد من الغلط على كتبه بحق، هو أنه كان يقدم على
الكتابة في مباحث لم تسبق له دراستها، معتمدًا على مراجعتها من مظانها عند
الحاجة إليها، ومن كان يكتب المقالة في يوم أو أيام أو ساعة أو ساعات؛ لأجل أن
تنشر في مجلة شهرية، ويؤلف الكتاب في عدة أشهر؛ لأنه وعد بنشره في وقت
معين من السنة، قلما يستطيع أن يجمع بين المواد وتنسيقها وترتيبها، وبين
تمحيص الحقائق فيها وتحريرها. ولعمر الإنصاف أنه ليقل من يستطيع كتابة تلك
الكتب في مثل الزمن الذي كتبها فيها مصنفها، وهل وجد في أمتنا كثير من أمثال
من فقدته اليوم؟
وقد ترك للأمة ما يعزيها عنه - تلك المصنفات الجامعة بين الفائدة واللذة،
ونجله النجيب أميل زيدان الذي أحسن تعليمه وتربيته. وقد رأى قراء الهلال من
آثار قلمه فيه، ما يبشر باستمرار بزوغه عليهم ما داموا مقبلين عليه موازرين له،
(ولا غَرْو أن يحذو الفتى حذو والده) .
__________(17/628)
رمضان - 1332هـ
أغسطس - 1914م(17/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفسير
] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*]
(س20) من صاحب الإمضاء في بركة السبع (مصر) .
فضيلة الأستاذ: السلام عليكم ورحمة الله؛
لي الشرف الرفيع والقدح المعلى بمثول مسطوري بين يديكم، وإنني وإن لم
أحظ من الأستاذ بالمعرفة الشخصية فقد عرَّفتني به آدابه الجمة، وهداني إليه منار
علمه الغزير، ومشكاة فضله العميم، ولا غَرو بعدُ إذا رفعت هذا إليكم مستفتيًا عن
الآتي: جاء في كتاب (الإسلام دين الفطرة) للأستاذ المفضال (الشيخ عبد العزيز
شاويش) تنديد على بعض مفسري الزمن الغابر.
نرى فضيلته قد ذهب مذهبًا غير الذي ذهب إليه المفسرون كالجلالين والنسفي
وغيرهما. ولقد جاء في كلامه المنشور على (ص 33و44) من الكتاب المشار
إليه في تفسير الآية التالية ما لا يتفق مع السابقين:
{عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ
بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 9-11) فسر الأوائل المعقبات بالملائكة
تتعاقب على العبد ليل نهار. ورووا في ذلك حديثًا عن كنانة العدوي قال: دخل
عثمان بن عفان على رسول الله فقال: أخبرني عن العبد كم معه من ملك. قال (ملك
على يمينك على حسناتك وهو أمين على الذي على الشمال. وملكان من بين يديك
ومن خلفك، يقول الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ} (الرعد: 11) وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا
تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على
محمد عليه الصلاة والسلام، وملك على فيك لا يدع الحية تدخل إليه وملكان
على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون وملائكة النهار فهؤلاء
عشرون ملكًا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل) . اهـ.
وفسَّر الشيخ شاويش المستخفي بالليل والسارب بالنهار فقال إنهما المتخذان
لهما حرسًا وجلاوزة، إلخ وهنا يتضح من سياق كلامه أنه جحد وجود ملائكة
تحفظ العبد، وصفوة القول إني حيال هذه التفاسير المتضاربة وتلك الآراء المتباينة
كريشة في مهب الرياح.
بيد أن تقتي بكم واعتمادي على علو كعبكم في العلوم الدينية سيدنيان مني
الغرض ويقصيان عني الريب.
وها أنا (ذا) على أحر من الجمر، حتى يرد عليَّ القول الفصل، وما هو
شفاء للصدور. ورجائي أن تشمل الإجابة الأسئلة الآتية:
(1) أي الطرفين أصاب وما وجه إصابته وأيهما الجدير بالاتباع.
(2) لم لا يعود الضمير في قوله تعالى: (له معقبات) على من ذكر اسم
الله كقول المفسرين ولم لا أثر لذلك في الآية أصلاً كرأي فضيلة الشيخ شاويش؟
(3) ما هو تفكيك نظام الآية الذي جاء به المفسرون وكيف قطعوا الحال
من صاحبها وفرّقوا بين الأجزاء التي تتألف منها؟
(4) كذب الشيخ شاويش الحديث. وبأي وجه يحتمل تكذيبه له مع أن راويه
البخاري وهو كما تعلم من رؤوس الرواة وأصحها سندًا؟
المخلص محمد السيد الجارحي
(ج) اختلف مفسرو السلف في المعقبات هنا فأخذ الشيخ عبد العزيز
شاويش بما أعجبه، وشنع على من قالوا بغيره، وما كان ينبغي له ذلك - وقد ذكر
الحديث المرفوع فيه - وإننا لم نطلع على ما كتبه، ويظهر مما كتبه السائل أنه رد
الحديث من غير أن يبني رده على علَّة فيه أوطعن في سنده. وأن عبارته توهم أن
ما اعتمده في تفسير المعقبات مما استنبطته قريحته الوقادة وكان دليلاً على تفضيل
الأواخر على الأوائل! وقد عهدنا منها في مجلته رد الأحاديث الصحيحة المتفق
عليها إذا لم يعجبه معناها. وحديث كنانة العدوي في تفسير المعقبات ليس في
الصحيحين، وقد عزاه في الدر المنثور إلى ابن جرير، وخرجه ابن جرير في
تفسيره بسند ضعيف قال: (حدثني المثنى قال: حدثنا عبد السلام بن صالح القشيري
قال: ثنا علي بن حرب عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة
العدوي) وذكره. وعبد السلام بن صالح اختلفوا فيه فقالوا: إنه يروي المناكير
واتهمه بعضهم بالوضع، ولكن أنكر الحافظ قول العقيلي فيه: إنه كذّاب. وفي
غيره من رجال السند مقال لا محل لبسطه. ولو صحّ هذا السند عن ابن جرير
لما رجح عليه غيره. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير المعقبات: يعني
السلطان يكون عليه الحرّاس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، إلخ. كذا في
الدر المنثور. وفي تفسيره بسنده عنه قال: ذكر ملكًا من ملوك الدنيا له حرس من
دون حرس. وفي رواية أخرى له عنه قال: يعني ولي الشيطان يكون عليه
الحرس. وروى أيضًا عن عكرمة أنه قال في أصحاب المعقبات: هم هؤلاء
الأمراء. وقال في رواية أخرى أنه قال في المعقبات: المواكب من بين يديه ومن
خلفه. قال ابن جرير بعد ما روى القولين في المعقبات عن ابن عباس وعن غيره:
(وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: الهاء في قوله: (لَهُ
مُعَقِّبَاتٌ) [راجع إلى] (من) التي في قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ
بِالنَّهَارِ) ، وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه هي حرسه وجلاوزته. كما
قال ذلك من ذكرنا قوله، وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأن قوله:
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أقرب إلى قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) منه إلى قوله:
(عَالِمُ الغَيْبِ) فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره (فيها) وأن يكون المعني
بذلك، هذا مع دلالة قول الله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} (الرعد:
11) على أنهم هم المعنيون بذلك. وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصية له
وأهل ريبة يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون من عند أنفسهم بحرس
يحرسهم ومنعة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية
الله، ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حرسهم ولا يدفعهم عنهم
حفظهم. اهـ ما قاله وهو الذي نختاره.
أما حديث أبي هريرة في الصحيحين والنسائي فهذا نصه: (يتعاقبون فيكم
ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر. ثم
يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟
فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) ورواه البزار بلفظ: (إن
لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) إلخ. فأنت ترى أنه
لم يرد تفسيرًا للآية.
ولا أدري أكذب عبد العزيز شاويش هذا الحديث وأنكر أن يكون في الملائكة
حفظة يتعاقبون في المكلفين؟ أم أنكر أن يكون ذلك هو المراد من الآية؟ ظاهر
عبارة السؤال: الأول، ولا يبعد ذلك على هذا الرجل فقد عُهد منه مثله، ولا عبرة
بقوله، فلا هو من أهل العلم بالحديث رواية ولا دراية، ولا بغير الحديث من علوم
الدين، ولكن له مشاركة في الفنون العربية وبعض العلوم العصرية، فتصدى بذلك
للتشبه بالمصلحين الذين يجمعون بين الدين والعقل، فتجرأ على رد الأحاديث
الصحيحة بغير علم. وقوله هو المردود. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو
المقبول. ولعل ما ذكرناه يغني عن بقية مباحث السؤال اللفظية غير الواضحة.
__________
(*) (الرعد: 11) .(17/655)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السبي والرق في التوراة والإنجيل
(س21) من صاحب الإمضاء في الكويت.
حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر.
نرجو من فضلكم تبيين حكم السبي في الشرائع القديمة هل هو مشروع فيها أم
لا؟ وهل له ذكر في هذه الأناجيل وهذه التوراة الموجودة في أيدي الناس اليوم
إثباتًا أو نفيًا أم لا؟ وما هو أحسن جواب للمعترضين به على الدين الإسلامي
بدعوى أنه من الهمجية أو أنه ينافي الإنسانية أو ما أشبه ذلك من العبارات.
وكيل المنار
سليمان العدساني
(ج) يؤخذ من أسفار العهد القديم التي يسمونها التوراة أن السبي والرق كان
مشروعًا على عهد الأنبياء السابقين إبراهيم صلى الله عليه وسلم فمن بعده (راجع
سفر التكوين 14: 14) وأن شريعة موسى تقضي بأن يستأصل الإسرائيليون
الأمم التي يغلبونها في الأرض المقدسة التي أُعْطوها فلا يُبقوا من أهلها صغيرًا ولا
كبيرًا. وأن يسبوا مَن غلبوهم في غير تلك الأرض. وللسبايا والعبيد والإماء من
العبرانيين وغيرهم أحكام متفرقة في سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر التثنية.
ومنها أنه شرع لهم تحرير العبراني دون الغريب، وكذلك يجب الرفق بالعبراني
منهم دون غيره.
ومن نصوص سفر اللاويين في ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منها
وهو مما ذكروه من كلام الرب لموسى بعد توصية الإسرائيلي بأخيه إذا بيع له لفقره
قال: (44 وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم، منهم
تقتنون عبيدًا وإماءً 45 وأيضًا من المستوطنين النازلين عندكم. منهم تقتنون ومن
عشائرهم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكًا لكم 46 وتستملكونهم لأبنائكم من
بعدكم ميراث ملك تستعبدونهم إلى الدهر. وأما إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسلط
عليهم أحد بعنف) .
والظاهر من هذه العبارة أنه لا يجوز عتق العبد الغريب عندهم، وأما
العبراني فيعتق سنة اليوبيل عندهم إلا إذا أحب هو أن يبقى رقيقًا، فعند ذلك تثقب
أذنه ويبقى عبدًا إلى الأبد. وأن لاستعباد العبراني عندهم ثلاثة أسباب: الفقر،
والسرقة إذا لم يجد السارق قيمة المسروق، وبيع الوالد بنته لتكون سرية.
فإذا تم للصهيونيين ما يريدون من امتلاك فلسطين وأقاموا شريعتهم فيها فإنهم
يستأصلون أهلها ويستعبدون جميع من يقدرون على استعباده من جيرانهم إلى
الأبد.
ولا يرضون أن يكون لأحد معهم حق ولا ملك، دع الملك الذي صرح سفر
التثنية فيه بأنه لا يحل للإسرائيلي أن يجعل عليه ملكًا أجنبيًّا ليس هو أخاه؛
(راجع 17: 13و15) .
وفي الفصل العشرين من سفر التثنية ما نصه: (10 حين تقرب من مدينة
لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب
الموجود فيها يكون لك للتسخير والسبي ويستعبد لك 12 وإن لم تسالمك بل عملت
معك حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد
السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها
لنفسك وكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن
البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب
التي يعطيك الرب إلهك فلا تَسْتَبْقِ منها نسمة ما) .
تأملوا! تأملوا أيها المنصفون ما أشد ظلم الذين ينتقدون الإسلام وهم يدعون
الإيمان بالتوراة! فالقرآن يأمر المسلمين إذا أثخنوا في مقاتليهم، وظهرت لهم الغلبة
عليهم أن يكفوا عن القتل، ويكتفوا بالأسر، ثم شرع لهم في الأسرى أن يمنوا
عليهم بالعتق فضلاً وإحسانًا، أو يفادوهم إن احتاجوا إلى ذلك، كما قال {حَتَّى إِذَا
أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) .
وإذا تزوج الإسرائيلي امرأة من السبايا يشرع له أن يكرمها لإذلاله لها. كما
في الفصل الحادي والعشرين من سفر التثنية، وهذا التكريم هو أن يتركها لنفسها
إذا لم يُسَرّ بها ولا يبيعها ولا يسترقها.
أما الإنجيل فقد أقر الإسرائيلين على الرق كما أقر الرومانيين ولم يأمر السادة
بالعتق ولا بالرفق؛ بل أوصى العبيد بالخضوع والطاعة بغير شرط ولا قيد.
ومن وصايا بطرس في رسالته الأولى: (أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة
للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضًا) إلخ. ومن وصايا بولس
في رسالته إلى أهل أفسس (6: 5 أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف
ورعدة في بساطة قلوبكم للمسيح) وفي رسالته إلى أهل كولوسي (3: 22
أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد) .
وقد شرحنا في عدة مجلدات من المنار عدل الإسلام ورحمته وحكمته في
تخفيف وطأة الرق التي كانت عند جميع الأمم والملل وتمهيده السبيل إلى تحريره،
فهو لم يوجب الاسترقاق كما كان يوجبه بعض الملل، ولكنه أباحه لأن المصلحة،
قد تقتضيه حتى لمصلحة السبايا؛ إذ كانت طبيعة العمران - ولا تزال - في
بعض البلاد على غير ما هي عليه الآن في ممالك الحضارة. فإذا قتل رجال قبيلة
وبقي نساؤهم وأطفالهم ما كانوا يجدون من يكلفهم وينفق عليهم، ففي مثل هذه
الحال قد يكون الاسترقاق خيرًا لهم، إذا كان كاسترقاق الإسلام يهدي إلى إطعام
الأرقاء مما يأكل منه السادة وإلباسهم كما يلبسون وعدم تكليفهم ما لا يطيقون.
وعدم إهانتهم حتى بالتعبير عنهم بلقب العبد والأَمة. وناهيك بما شرعه من الأسباب
الموجبة لإعتاقهم. وقد فصّلنا ذلك في مواضع من مجلدات المنار كما قلنا آنفًا
فراجع الفهارس تجد ذلك مفصلاً، وتجد حجة الإسلام قائمة على جميع الخلق ولا
سيّما اليهود والنصارى منهم.
__________(17/658)
الكاتب: الذهبي
__________
أقوال علماء القرن الثالث الأثبات
في عقيدة السلف وإثبات الصفات
(1)
لما ظهرت بدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل، وتأويل ما ورد منها
في الكتاب والسنة - هَبَّ حفظة الدين وحملته من التابعين ومن بعدهم للرد عليهم،
وتفنيد تأويلاتهم، والاستمساك بعروة النقل، حذرًا من تحريفها بنظريات العقل،
التي ينخدع بها بعض القاصرين، توهمًا أنها من قطعيات البراهين، وإننا ننقل من
كتاب العلو للذهبي (الذي يطبع في مطبعة المنار) بعض أقوال الأئمة المتبوعين،
الذين جهل أقوالهم من يجلهم من المعاصرين، ولكن الذهبي ينقل في هذا الكتاب ما
صح وما لم يصح، ويشير إلى ضعف الرواية الضعيفة أو نكارتها غالبًا على أن
من غلاة الأثريين من يقبل كل ما روي في ذلك، قال:
... ... طبقة الشافعي وأحمد رضي الله عنهما
روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم
إلى أبي ثور وأبي شعيب، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر
الحديث - رحمه الله - قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين
رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما: إقرار بشهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى
السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد.
وبإسناد لا أعرفه عن الحسين بن هشام البلدي قال: هذه وصية الشافعي،
أنه يشهد أن لا إله إلا الله. فذكر الوصية بطولها، وفيها: القرآن غير مخلوق،
وأن الله يُرى في الآخرة عيانًا ويسمعون كلامه، وأنه تعالى فوق العرش.
إسنادهما واهٍ.
قال الحاكم: سمعت الأصم يقول، سمعت الربيع، سمعت الشافعي وقد روى
حديثًا فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: إذا رويت حديثًا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
***
ابن خزيمة وعدة
سمعت يونس يقول قال الشافعي: لا يقال للأصل لم ولا كيف.
أبو ثور وغيره قالا: سمعنا الشافعي يقول: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث
الضغائن. وعن يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء
وصفات لا يسع أحدًا قامت عليه الحجة ردها. قال ابن أبي حاتم: سمعت الربيع بن
سليمان، يقول: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه
الكفارة؛ لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة وبالصفا والمروة فليس عليه
كفارة لأنها مخلوقة.
(قلت) : تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وكان شديد الاتباع للآثار في
الأصول والفروع. مات في رجب سنة أربع ومائتين بمصر كهلاً، عاش أربعًا
وخمسين سنة.
***
القعنبي ذاك الإمام
قال بنان بن أحمد: كنا عند القعنبي - رحمه الله - فسمع رجلاً من
الجهمية يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال القعنبي: من
لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي.
أخرجها عبد العزيز القحيطي في تصانيفه. والمراد بالعامة عامة أهل العلم، كما بيناه
في ترجمة يزيد بن هارون إمام أهل واسط. ولقد كان القعنبي من أئمة الهدى، حتى
لقد تغالى فيه بعض الحفاظ وفضله على مالك الإمام، توفي سنة إحدى وعشرين
ومائتين عن بضع وثمانين سنة، وهو أكبر شيخ لمسلم مطلقًا.
***
عفان أحد أعلام السنة
قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى: حدثني يحيى بن أبي بكر
السمسار، سمعت عفان بن مسلم بعد ما جاء من دار إسحاق بن إبراهيم لما امتحنه
في القرآن فقال: إنه كتب إليّ أن أدرّ أرزاقك إن أجبت إلى خلق القرآن. فقلت:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ} (الفتح: 15) {لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 256) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1)
أمخلوق هذا؟ أدركت شعبة وحماد بن سلمة وأصحاب الحسن يقولون: القرآن كلام
الله ليس مخلوقًا. قال: إذًا تقطع أرزاقك. قلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون َ} (الذاريات: 22) قيل: كان رزقه في الشهر ألف درهم فترك ذلك لله عز وجل،
توفي سنة تسع عشرة ومائتين.
***
عاصم بن علي شيخ البخاري
روينا عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي قال: ناظرت جهمًا فتبين من
كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا. قلت: كان عاصم حافظًا من أوعية العلم
صادقًا، حمل عن شعبة وابن أبي ذئب وخَلق. ذكر الخطيب في ترجمته أن
المعتصم وجه من يحزر مجلس عاصم هذا في رحبة جامع الرصافة، وكان يجلس
على سطح الرحبة ويجلس الخلق في الرحبة وما يليها، فعظم الجمع مرة حتى قل
أربع عشرة مرة. ثنا الليث بن سعد، والناس لا يسمعون لكثرتهم وكان
المستملي هارون يركب نخلة يستملي عليها، فحزروا الجمع فكان عشرين ومائة
ألف. وقال يحيى بن معين: عاصم بن علي سيد المسلمين. قلت: مات مع القعنبي
في سنة (أي سنة 221) .
***
الحميدي
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المعدل أنبأ عبد الله بن أحمد الفقيه سنة سبع
عشرة وستمائة أنبأ سعد الله بن نصر أنبأ أبو منصور الخياط أنبأ عبد الغفار بن
محمد أنبأ أبو علي الصواف أنبأ بشر بن موسي الحميدي قال: أصول السنة عندنا ...
فذكر أشياء، ثم قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ
اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (المائدة: 64) ومثل قوله {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نزيد فيه ولا
نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ
اسْتَوَى} (طه: 5) ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.
كان العلامة أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي الحميدي مفتي أهل
مكة وعالمهم بعد شيخه سفيان بن عيينة، حدث عنه البخاري والكبار. مات سنة
تسع عشرة ومائتين.
***
عالم المشرق يحيى بن يحيى النيسابوري
قال ابن منده: أنبأ محمد بن يعقوب الشيباني ثنا محمد بن عمرو بن النضر
ثنا يحيى بن يحيى قال: كنت عند مالك فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ
عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فأطرق ثم قال: الاستواء غير مجهول،
والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال ابن أبي حاتم:
سمعت مسلم بن الحجاج: سمعت يحيى بن يحيى يقول: من زعم أن من القرآن من
أوله إلى آخره آية منه مخلوقة فهو كافر. كان يحيى بن يحيى إليه المنتهى في الإتقان
والورع والجلالة بنيسابور، قل أن ترى العيون مثله، حمل عن مالك وخارجة بن
مصعب والكبار، ومات سنة ست وعشرين ومائتين.
***
عالم الري هشام بن عبيد الله الرازي
قال ابن أبي حاتم: ثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت أبي يقول:
سمعت هشام بن عبيد الله الرازي - وحبس رجلاً في التجهم فجيء به إليه ليمتحنه -
فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: لا أدري ما بائن من
خلقه، فقال: ردوه فإنه لم يتب بعد.
كان هشام بن عبد الله من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة، تفقه على محمد
ابن الحسن، كان ذا جلالة عجيبة وحرمة عظيمة ببلده، توفي سنة إحدى وعشرين
ومائتين.
ابن أبي حاتم: حدثنا أبو هارون محمد بن خلف الجزار: سمعت هشام بن
عبيد الله يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق: قال له رجل: أليس الله تعالى يقول:
{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) ؟ فقال: محدث إلينا وليس
عند الله بمحدث.
قلت:لأنه من علمه وعلمه قديم فعلم عباده منه. قال تعالى:
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: 1-2) فالمقري يلقن الختمة مائة نفس
ومائتين فيحفظونه وهو لا ينفصل عنه منه شيء، كسراج أوقدت منه سرجًا ولم
يتغير.
***
فقيه المدينة عبد الملك بن الماجشون
قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى ثنا هرون بن موسى الفروي
قال: ما سمعت الكلام في القرآن إلا سنة تسع ومائتين، جاء نفر إلى عبد الملك بن
الماجشون وكلموه فأنكر ذلك عليهم، فكان في بعض ما كلمهم به أن قال: {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) أهذا مخلوق؟ ثم قال: لو أخذت بشرًا المريسي
لضربت عنقه.
كان عبد الملك من أَجَلِّ تلامذة مالك، وكان أبوه عبد العزيز بن الماجشون
يفتي مع مالك في دولة المهدي، توفي عبد الملك في سنة أربع عشرة ومائتين.
(المنار)
سننشر طائفة أخرى من نقول هذا الكتاب، ونبين أن مذهب
السلف هو الموافق للعقل السليم دون مذهب الجهمية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(17/661)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى
{قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الأنعام: 65) [.
{إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإنه ليبغي أن
رآه اعتز واستعلى، وإن مدّ الطغيان لإلى جزر، وإن غناه لإلى فقر، وإن البغي
مصرعه وخيم، وإن علوّ الجبارين لإلى هبوط ذميم.
كانت المسألة الشرقية فزّاعة أوربا إذا فزعت من سوء العواقب، ومشأمتها إذا
تطيرت من أمارات النوائب، وكانت ترى أن مشكلتها أعقد من ذَنَب الضَّب، وأن
حلها أعسر من تربيع الدائرة. وقد أنذرها داهية ساستها (البرنس بسمارك) بأن
شرارة واحدة من نار حرب بلقانية تكفي لإحراق ممالك أوربة كلها، ولكنهم تماروا
بالنذر، وغرهم ما كانوا يسمونه التوازن الأوربي بين وفاق مثلث وحلاف مثلث.
وألفت دولة الروسية بين المختلفين من الدول البلقانية، فجعلت البلغار واليونان
والصرب والجبل الأسود إلبًا واحدًا على الدولة العثمانية. بعد أن أغارت إيطاليا
على مملكة كبيرة من ممالكها وهي طرابلس الغرب وبرقة.
ثم سمحت الدول الكبرى كلها للبلقانيين بقتال الدولة العثمانية، ولكنهن
صرحن بأنهن لا يسمحن بتغييرٍ ما في خريتة البلقان؛ لأن التنازع على تلك
الأرض مثار البغي والعدوان، فاشتعلت نيران الحرب، وأظهر البلقانيون فيها من
القسوة والوحشية والفظائع والفواحش ما لا مزيد عليه، ولم ينبض في قلوب رجال
الدول الكبرى عِرق من عروق الرأفة والرحمة، ولا احتج أحد منهم على تلك
المذابح والفظائع بكلمة، وإنما كان همهم محصورًا في حصر الحرب في البلقان،
ومنع شررها أن يصل إلى ممالكهم الكبار.
ثم شرع البلقانيون في قسمة ما استولوا عليه من البلاد العثمانية، فسمحت لهم
الدول بذلك متناسية وعدها بعدم السماح. فوقع بينهم التنازع والتقاطع، وحل
الخلاف محل الحلاف، ولم يُرضهم ما حكم به في القسمة مؤتمر السفراء، فأوقدوا
نار القتال بينهم، ونقضوا ما أبرمته الدول لهم. ثم دخلت رومانية في الأمر معهم،
وضربت من الغنيمة بسهم، وكانت القسمة ضئزى، غبن بها البلغار، وكان القدح
المعلى لليونان، واغترّت الصرب أي اغترار، وكانت النمسة مسعر نار الفتنة
بينهن، لتأمن مغبة اغترار الروسية بهن.
وقعت الواقعة، وفتح باب المسألة الشرقية، وسوَّل الغرور للدول الكبرى
عملها، وظنت أن ساستها قدروا بدهائهم على حصر نيرانها في مواقدها، ومنع
شررها أن يتعدى إلى ما حولها، وأن أوربة المملوءة من البارود والديناميت، أمنت
أن تصيبها الشرارة التي أنذرها بسمرك فيعمها الحريق. ونسوا عدل الله العام في
جميع الأمم والأقوام، وأنه يعاقب المقر للشر كمجترحه، ويجزى الساعي بالخير
كفاعله {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر: 47) .
غرَّ الصرب ما أوتيت من نصر ومن سعة في الملك، ومن عود الصربيين
العثمانيين إليها، فطمعت في صرب النمسويين وفيما يسكنونه من البلاد أيضًا،
فزادت جمعياتها السرية الساعية إلى ذلك جرأة وإقدامًا، حتى اغتال بعض الفدائيين
منهم ولي عهد النمسة وقرينته في 28 يونيو الماضي، في مدينة بوسنة سراي
عاصمة البوسنة عند زيارتهما لها. وقد ثبت لدى حكومة النمسا والمجر أن هذه
الجناية كانت إثر مكيدة دبرت في بلغراد عاصمة الصرب. وأن بعض الضباط
وعمال الحكومة من الصربيين هم الذين أعطوا الجناة ما كان معهم من السلاح
والقذائف النارية، وكلهم من جمعية صربية ثورية. فأرسلت حكومة النمسة والمجر
بلاغ تهديد وإنذار لحكومة الصرب اشتمل على ما يرهقها ويذلها.
فما كلفتها إياه تصريحًا أو ضمنًا أن تعترف باشتراك بعض ضباطها وموظفيها
في جناية قتل ولي العهد وزوجه، وتتبرأ من عملهم وتصرح بالأسف لوقوعه، وأن
تنشر الاعتراف والبراءة في جريدتها الرسمية وجريدتها العسكرية، وأن تتبرأ من
أعمال الجمعيات الصربية المحرضة على عداوة النمسة، وأن تحل جمعية (نارونا)
أو (إبرانا) وأن تضبط جميع المطبوعات الصربية المشتملة على التحريض
على النمسة والتنفير منها لهذا الجمعية ولغيرها، وأن تعزل جميع الضباط
والمستخدمين الذين تثبت لدى حكومة النمسة تهمة تحريضهم على عداوتها - وأن
تعاقب الشركاء في جناية اغتيال ولي العهد من الصربيين المقيمين في بلادهم،
ومنهم بعض الضباط والموظفين المعينين بأسمائهم، ومنها أن تحذف من كتب
التعليم كل ما يعد دعوة إلى معاداة النمسة، وتعزل المعلمين الذين يبثّون هذه الدعوة،
ومنها أن تمنع تهريب السلاح والمواد المفرقعة إلى ما وراء الحدود، ومنها أن
تقبل من تندبهم حكومة النمسة لمساعدة حكومة الصرب على تنفيذ هذه الاقتراحات.
كتب إنذار النمسة في 23 يوليو الماضي، وكلفت الصرب أن تجيب عنه في
مدة 48 ساعة. أما الصرب فلم تقبل مطالب النمسة، وبلغت الدول الإنذار وطلبت
منها التوسط في الأمر، وأما الدول فقد اختلف رأيهم: فروسيّة عدَّت
بلاغ النمسا وسيلة منها إلى قتال الصرب وإذلالها، وصرّحت بأنها لا تسكت
على ذلك، وبادرت إلى مذاكرة فرنسا وإنكلترا ومطالبتهما بالاتحاد معها على الحرب
والقتال، فأسرعت فرنسا إلى وعدها بالقيام بجميع عهودها التي تفرضها عليها
المحالفة. ولكن إنكلترا ترددت في الأمر، ولم تعد بالمساعدة على الحرب، وطفقت
تخاطب سفراءها بلسان البرق، مجتهدة في رتق الفتق. وأما ألمانيا فقد أظهرت
العطف على حليفتها وارتأت وجوب حصر الخلاف بين النمسة والصرب دون
سواهما، حتى لا يتعدى لهيب النار إلى أوربة كلها، وتبادل عاهل الألمان وقيصر
الروس البرقيات في وجوب صيانة السلم في أوربا، وصرّح الأول للثاني بأن ذلك
موقوف على عدم تصدي روسيا للاستعداد للحرب؛ ولكن روسيا بادرت إلى تعبئة
جيشها تعبئة عامة، وبلغ ناظر خارجيتها سفير إنكلترة أن عند حكومته براهين قاطعة
على أن ألمانيا تستعد برًّا وبحرًا لمهاجمتها. فروسيا بدأت بالتعبئة
جهرًا، متهمة ألمانيا بأنها تستعد سرًّا، وأنها لا تدعها تسبقها في الاستعداد.
والمتبادر مما دار بين الدول في هذه المسألة أن ما كانوا يقولونه ويكتبونه كان
له ظاهر وباطن، والظاهر منه أن إنكلترة وفرنسة كانتا حريصتين على منع الحرب
الأوربية؛ ولكن روسيا وألمانيا لم تدعا لهما طريقًا يسلكانه لذلك. ففي 21 يوليو قر
قرار الروسية على التعبئة العامة رسميًّا، وألمانيا وفرنسا أمرتا بذلك في أول
أغسطس. وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في 2 منه بناءً على اجتياز بعض
الجنود الروسية للحدود، وتتايعت [1] سائر الدول الكبرى على الحرب ماعدا إيطاليا
فإنها لزمت الحياد.
نعم إن وراء الأسباب الرسمية للحرب أسبابًا أخرى تقدمتها ترجع إلى أصل
واحد في السياسية، وهو تعارض الدول الكبرى في المصالح والمنافع والسيادة
والعظمة في الأرض، فروسيا ترمي إلى أن تكون ذات السيادة العليا بضم عصبية
الشعوب السلافية في البلقان والنمسة إليها، والتوسل بذلك إلى النفوذ من زقاقي
الآستانة (البوسفور والدردنيل) إلى البحر الأبيض المتوسط، الذي هو بين أوربة
وآسية وإفريقية بمنزلة القلب من جسد الإنسان.
وألمانيا تود أن تكون ذات السيادة العليا في أوربة كلها؛ بل في العالم كله،
بالجمع بين القوتين البرية والبحرية على أكمل ما يصل إليه ارتقاء العلوم الطبيعية،
والفنون الآلية. وكانت إنكلترة قد سبقت الدول كلها بالقوة البحرية التي جعلت لها
السيادة العليا في الاستعمار، فهي ترى أنه يجب عليها أن تحافظ على ما آتاها الله
بجدها وتدبيرها، فكانت كلّما رأت ألمانيا أنشأت بارجة حربية تنشئ بارجتين مثلها؛
لأنها إذا لم تفعل ذلك لا تلبث أن تسلبها ألمانيا ملكها.
وأما فرنسا فهي على ما كان لها من السبق في الفنون والأعمال الحربية، من
برية وبحرية، لم تكن هذا في العهد الذي عظمت فيه المباراة بين إنكلترا وألمانيا،
مجتهدة في الاستعداد للحرب الأوربية بحسب ما تخولها ثروتها ومعارفها؛ بل
اكتفت من العظمة بتوسيع مساحة مستعمراتها، بالاستيلاء على مملكة المغرب
الأقصي بعد إضعافها بإيقاع الفتن والحروب الداخلية فيها. وانصرفت إلى التمتع
بسعة الثروة ونعمة الحضارة، واكتفت من اتقاء زحف ألمانيا عليها بتحصين
حدودها، وبمحالفة روسيا ثم مودة إنكلترا لها، فكانت تمد روسيا بالقناطير المقنطرة
من الذهب وتغريها بما يوافق هواها من الاستعداد للحرب، وتوغر صدرها
وتستثير دفين حقدها، وتستخرج كمين ضغنها على النمسا وألمانيا معًا. وكان من
سياستها أن تعطي روسيا المال الذي تقتضي الحال إنفاقه على الاستعداد الحربي
مباراة لألمانيا، فتستفيد بذلك فائدتين: استغلال المال بدلاً من إضاعته في زيادة
أُهبة الحرب، وإعداد جند غريب للدفاع عن فرنسا بدلاً من تعريض معظم شبابها
للقتل، مع ما منيث به من قلة النسل؛ ولكن إنكلترا حملتها بعد الاتفاق معها على
تعزيز قوتها البحرية، كما حملت هي روسيا على زيادة العناية بجميع المعدات
الحربية.
بذلك كله أصبحت هذه الدول العريقة في العلم والصناعة والثروة والحضارة،
تنفق مئات الملايين ممّا تمصه من ثروة البشر وثمرات كسبهم، على الاستعداد
لإراقة دمائهم، وتدمير حضارتهم، وكلها مشتركة في هذا الوزر الكبير، ومُصرة
على هذا الحنث العظيم، الذي لا باعث له إلا الطمع في الكسب، وحب العلو في
الأرض وإن كانت تموهه بدعوى تأييد السلم بالاستعداد للحرب، وعدم استعمال هذا
السلاح في غير المتوحشين، الذين تريد تهذيبهم بالمدنية والدين!!
وإنما تراهم يخصون ألمانيا أو عاهلها غليوم الثاني بمزيد الذم، ويرمونه
بتعمده إغراق أوربة في بحر من الدم؛ لأن أمته قد صارت بسعيه أشد أمم الأرض
عناية بالفنون والأعمال العسكرية، واستعدادًا للحروب البرية والبحرية، حتى
اضطرت سائر الدول اضطرارًا لمجاراتها في ذلك، فإذا كانت ألمانيا لم ترض من
الدول التي سبقتها إلى الاستعمار بمساواتهن لها في حرية التجارة والكسب في
بلادهن ومستعمراتهن، ولا بما بَذَّتْهُنَّ به من النماء النسبي في تجارتها وصناعتها
فقامت تستعد لسلبهن ما في أيديهن، أو الاستعلاء عليهن، فكيف يرضين بأن
يعرضن ملكهن للضياع والخضوع لقوة الشعب الجرماني العسكرية القاهرة؟
هذه حجة الأمم الأوربية على ألمانيا التي أرادت أن تعامل الدول التي جارتها
أو سبقتها بالحضارة، بمثل ما عاملن به الأمم التي غلب عليها الجهل والبداوة،
وهي السيادة بقوة العلم والصناعة. على أن الجرائد المصرية الرئيسة كالمقطم
والأهرام نقلت لنا عن لندن وباريس وبطرسبرج أن جميع الشعوب تلقت نبأ
إعلان الحرب بالسرور والابتهاج، والهتاف في الشوارع والأسواق؛ واستثنوا
الشعب الألماني فزعموا أنه كاره للحرب، مسوق إليها بتأثير العاهل غليوم الثاني
والحزب العسكري. فإن صح قولهم هذا - ولن يصح - فهو فضيلة لهذا الشعب على
سائر الشعوب الأوربية. ولكنهم أرادوا أن يهونوا أمره، ويبالغوا في ذم عاهله،
فمدحوه بغير قصد، وسيرجعون عن هذا المدح.
حسبنا هذه الجملة الوجيزة من بيان أسباب هذه الحرب ومقدماتها، ونختم
المقال بعبرة المؤمنين بالله فيها، فنقول: إن هذه الحرب تربية من الله تعالى للبشر
الذين بغى أقوياؤهم على ضعفائهم، ولم يشكروا نعم الله عليهم بتسخير الطبيعة لهم،
وتمكينهم بسعة العلم بسننه فيها، من جميع أنواع الانتفاع بها؛ بل كفروا هذه
النعم بالبغي في الأرض، واستعلاء بعضهم على بعض، حتى إنهم حقروا أخاهم
الإنسان الذي لم يصل إلى درجتهم في العلم، فجعلوه - وقد كرمه الله - أدنى منزلةً
من الحيوانات العجم، فلو أنهم رأوا قطيعًا من الأنعام أو أسرابًا من الطير يفتك
بعضها ببعض، وتسرف في الظلم والعدوان كما فعل جيرانهم في البلقان، لحالوا
بينها ومنعوها من التمادي في ظلمها.
أما وقد فعلوا ما فعلوا ورضوا بما رضوا، وجعلوا جل همهم الاستعداد لسفك
الدماء ودك صروح العمران، فلا بد أن ينتقم الله تعالى منهم لكفرهم بنعمته،
ويزلزل قواهم بما استعلوا وبغوا به على الضعفاء من خلقه - وكذلك فَعَل - فقد
جعل الآلات الحربية التي بها يتحكمون وبالاً عليهم، وعذابًا يأتيهم من فوقهم ومن
تحت أرجلهم، فتفتك بهم مناطيدهم وطيراتهم، وبوارجهم وغواصاتهم، وألغامهم
وبنادقهم ومدافعهم، وتُفني من جموعهم أكثر مما أفنوا من إخوانهم البشر بأيديهم،
أو بمساعدتهم وإقرارهم. وأذاق بعضهم بأس بعض، فجعل محالفاتهم واتفاقاتهم
وبالاً عليهم، وسببًا لتعميم الانتقام بهم. فصدق قول الله الذي صدرنا به الكلام
عليهم. وسيصدق وعده أيضًا بجعل العاقبة للمتقين، الذين يحررون الشعوب
المظلومة من استعباد الظالمين، وإنما يرحم الله الراحمين (الراحمون يرحمهم
الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .
__________
(1) التتايع - بالمثناة التحتية - بمعنى التتابع بالموحدة، إلا أنه خاص بالشر.(17/667)
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
__________
من كتاب الاعتصام في الابتداع
هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية؟
الباب السابع [*]
قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه: هل يدخل في الأمور العادية أم
لا؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها، وهي عامة الباب؛ إذ الأمور العبادية
إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية، وإما أعمال جوارح من قول أو فعل، وكلا
القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة، والخوارج والمعتزلة،
وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه.
وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في
تقسيم البدع، كالمكوس والمحدثة من الظالم، وتقديم الجهال على العلماء في
الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة،
وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة، واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان،
ولبس الطيالس، وتوسيع الأكمام، وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن
الفاضل والسلف الصالح، فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها، وشاعت
وذاعت فلحقت بالبدع، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة، وهذا من
الأدلة الدالة على ما قلنا، وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام، وذهب إليه
بعض السلف.
فروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد، قال محمد بن القاسم
الطوسي: فقال: اشتر لي كبشين عظيمين، ودفع إليّ دراهم، فاشتريت له
وأعطاني عشرة أخرى، وقال لي: اشتر بها دقيقًا ولا تنخله واخبزه. قال:
فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به، فقال: نخلت هذا؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال:
اشتر به دقيقًا ولا تنخله واخبزه. فخبزته وحملته إليه، فقال لي: يا أبا عبد الله!
العقيقة سنة، ونخل الدقيق بدعة، ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة، ولم أحب أن
يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة. ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر
به الحديث إسحاق بن راهويه حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه السلام:
(عليكم بالسواد الأعظم) فقال: محمد وأصحابه. حسبما يأتي - إن شاءالله - في
موضعه من هذا الكتاب.
وأيضًا فإن تصور في العبادات، وقوع الابتداع وقع في العادات؛ لأنه لا
فرق بينهما، فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية، فكلاهما مشروع
من قبل الشارع: فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر.
ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي
خارجة عن سنته، فتدخل فيما تقدم تمثيله؛ لأنها من جنس واحد.
ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:: (إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، قال فما تأمرنا يا رسول
الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم وسلوا حقكم) وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كره من أميره شيئًا فليصبر، وفي رواية:
(مَن رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات
مات ميتة جاهلية) .
وفي الصحيح أيضًا: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب
الزمان، ويقبض العلم، ويلقى الشح، [1] وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قال:
يارسول الله أيما هو؟ قال: القتل القتل) وعن أبي موسى رضي الله عنه قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي لأيامًا [2] ينزل فيها الجهل،
ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرْج) . والهرج القتل.
وعن حذيفة رضي الله عنه. قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب
الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها ثم قال:
(ينام [الرجل] النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الولث [3] ثم ينام
النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثر المحل كجمر دحرجته على رجلك فنفص فتراه
ينتثر وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة. فيقال:
إن في بني فلان رجلاً أمينًا. ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده!
وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) الحديث.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا
تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة،
وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول، وحتى
يقبض العلم، ثم قال: وحتى يتطاول الناس في البنيان) إلى آخر الحديث.
وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرؤن القرآن لا يجاوز
تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية) .
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: (بادروا
بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا يبيع دينه
بعرض الدنيا) وفسّر ذلك الحسن قال: يصبح محرمًا لدم أخيه وعرضه وماله،
ويمسي مستحلاًّ له. كأنه تأوله على الحديث الآخر: (لا ترجعوا بعدي كفارًا
يضرب بعضكم رقاب بعض) والله أعلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا ويشرب الخمر،
ويكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد) .
ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل: وما
هي يا رسول الله؟ قال: إذا صار المغنم دولاً، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا،
وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه، وبرّ صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في
المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرِم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور،
ولبس الحرير، واتخذت القيّان والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا
عند ذلك ريحًا حمراء، وزلزلة وخسفًا، أو مسخًا وقذفًا) .
وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا وفيه (ساد القبيلة
فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) وفيه: ظهرت القيان والمعازف، وفي آخره
(فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع
سلكه فتتابع) .
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون في
هذه الأمة بعده إنما هو في الحقيقة تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها، فلما
عرضوا منها غيرها، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعًا كان من جملة الحوادث
الطارئة على نحو ما بين في العبادات.
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع [4] الأولون. في
الجملة، ومخالفات المشروع، كالمكوس والمظالم، وتقديم الجهال على العلماء،
وغير ذلك، والمباح منها كالمناخل إن فرض مكروهًا - كما أشار إليه محمد بن أسلم -
فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات، إذ في الأثر: أول ما أحدث بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم المناخل - أو كما قال - فأخذ بظاهره من أخذ به
كمحمد بن أسلم، وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته
قوله تعالى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الأحقاف: 20) الآية [5] لا من
جهة أنه بدعة.
وقولهم: كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات - مسلم، وليس
كلامنا في الجواز العقلي، وإنما الكلام في الوقوع، وفيه النزاع.
وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد، إذ لم
ينص على أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعني، وأيضًا إن عدوا كل
محدث العادات بدعة، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس
والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعًا، وهذا شنيع، فإن من
العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم، فيكون كل من خالف العرب
الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، هذا من المستنكر
جدًّا، نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين
الجارية على مقتضى الكتاب والسنة.
وأيضًا فقد يكون التزام [6] الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبًا ومشقة
لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج
فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثَمَّ معارض. وإنما جعل الشارع ما تقدم في
الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى ما
تقدم ليفعلها فإن الخير كان أظهر، والشر كان أخفى وأقل، بخلاف آخر الزمان فإن
الأمر فيه على العكس، والشر فيه أظهر والخير أخفى.
وأما كون تلك الأشياء بدعًا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة، فراجع
النظر فيه تجده كذلك.
والصواب في المسئلة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين، وتحقق
المقصود في الطريقتين، وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب، فلنفرده في فصل
على حدته والله الموافق للصواب.
***
فصل
أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين: أحدهما أن تكون
من قبيل التعبدات، والثاني أن تكون من قبيل العادات، فأما الأول فلا نظر فيه
هاهنا.
وأما الثاني وهو العادي، فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف
فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات، فكما أنا مأمورون في
العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث
كره في سنة العقيقة مخالفة مَن قبله في أمر عادي، وهو استعمال المناخل، مع العلم
بأنه معقول المعنى، نظرًا منه - والله أعلم - إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم
غلب عليه جهة التعبد، يظهر أيضًا من كلام مَن قال: أول ما أحدث الناس بعد
رسول الله صلى الله وعليه وسلم المناخل. ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه
قال: لولا أني أخاف مَن كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت. والسكنى [7]
عادي بلا إشكال. وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلاً في قسم العباديات،
فدخول الابتداع فيه ظاهر. والأكثرون على خلاف هذا، وعليه نبني الكلام فنقول:
ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد؛ لأن ما لم
يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالعادي،
فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تبعدي، والبيع والنكاح والشراء
والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي؛ لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد
فيها من التعبد؛ إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، كانت اقتضاء أو
تخييرًا، فإن التخيير في التعبدات إلزام، كما أن الاقتضاء إلزام - حسبما تقرر
برهانه في كتاب الموافقات - وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى
التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه، صحَّ دخوله في
العاديات كالعباديات، وإلا فلا.
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة، فما أتى به
القرافي [8] وضع المكوس في معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن
يكون على قصد حجر التصرفات - وقتًا ما أو في حالة ما - لنيل حطام الدنيا،
على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه
ذلك. أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم
عليهم دائمًا، أو في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي
المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة، ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه
العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك.
فأما الثاني فظاهر أنه بدعة؛ إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي
إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها في أموال
الغصاب والمتعدين؛ بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة،
أو ما أشبه ذلك. فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك؛ لأنه شرع مستدرك، وسن
في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة
كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر من جهة كونها
اختراع لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع
فيها نهيان: نهي عن المعصية، ونهي عن البدعة، وليس ذلك موجودًا في البدع
في القسم الأول، وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعًا موضوعًا على الناس
أمر وجوب أو ندب؛ إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية؛ بل نفس التشريع
هو نفس الممنوع.
وكذلك تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشريفة مَن لا يصلح [9]
بطريق التوريث، هو من قبيل ما تقدم، فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى
يصير مفتيًا في الدين، ومعمولاً بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها،
محرم [10] في الدين. وكون ذلك يتخذ ديدنًا حتى يصير الابن مستحقًّا لرتبة الأب -
وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب - بطريق الوراثة أو غير ذلك بحيث يشيع
هذا العمل ويطّرد ويَرِده الناس كالشرع الذي لا يخالف - بدعة [11] بلا إشكال، زيادة
إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم، وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي
تفسيره إن شاء الله، وهو الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حتى إذا لم
يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وإنما
ضلوا وأضلوا لأنهم أفتوا بالرأي؛ إذ ليس عندهم علم.
وأما إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف،
فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا، وذلك صحيح، فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد
جدًّا، وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص
تشريعًا خارجًا عن قبيل المصالح المرسلة، بحيث يعد من الدين الذي يدين به
هؤلاء المطالبون به، أو يكون ذلك مما يعد خاصًّا بالأئمة دون غيرهم، كما يزعم
بعضهم أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان، أو يقول: إن الحرير جائز لهم لبسه
دون غيرهم، وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم.
ويشبهه على قرب: زخرفة المساجد؛ إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل
ترفيع بيوت الله، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان، حتى يعد الإنفاق في ذلك
إنفاقًا في سبيل الله، وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من
جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره، أو قصد ذلك في فعله أولاً بأنه ترفيع
للإسلام لما لم يأذن لله به، وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه
الزخارف؛ بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق
خرق يتسع فلا يرقع؛ هذا إن صح ما قال، وإلاَّ فلا يعول على نقل المؤرخين
ومَن لا يعتبر من المؤلفين، وأحرى أن ينبني عليه حكم [12] .
وأما مسألة المناخل فقد مرَّ ما فيها، والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين،
ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع، فلا نطول به، وعلى ذلك الترتيب
ينظر فيما قال ابن عبد السلام من غير فرق، فتبين مجال البدعة في العاديات من
مجال غيرها، وقد تقدم أيضًا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه.
وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات
على ما أريد تحقيقه، فنقول: إن مدار تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة،
يمكن ردها على أصول هي كلها أو غالبها بدع، وهي قلة العلم وظهور الجهل
والشح، وقبض الأمانة، وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر،
وكون المغنم دولاً، والزكاة مغرمًا، وارتفاع الأصوات في المساجد، وتقديم
الأحداث، ولعن آخر الأمة أولها، وخروج الدجالين، ومفارقة الجماعة.
أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفقه للدنيا، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها
الفتيا بغير علم - حسبما جاء في الحديث الصحيح (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا
ينتزعه من الناس) إلى آخره. وذلك أن الناس لا بد لهم مِن قائد يقودهم في الدين
بجرائمهم، وإلا وقع الهرج وفسد النظام، فيضطرون إلى الخروج إلى
مَن انتصب لهم منصب الهداية، وهو الذي يسمونه عالمًا، فلا بد أن يحملهم
على رأيه في الدين؛ لأن الفرض أنه جاهل، فيضلهم عن الصراط المستقيم،
كما أنه ضال، وهذا عين الابتداع؛ لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة.
ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبَل العلماء، وإنما يؤتون من قِبَل
أنه إذا مات علماؤهم أفتى مَن ليس بعالم فتؤتى الناس من قِبَله، وسيأتي لهذا المعنى
بسْط أوسع من هذا إن شاء الله.
وأما الشح فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام، وذلك أن الناس
يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم،
كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس. ويليه أنواع القرض
الجائز، ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر، وبالإسقاط كما قال: {وَأَن
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280) ، وهذا كان شأن من تقدم من
السلف الصالح، ثم نقص الإحسان بالوجه الأول فتسامح الناس بالقرض، ثُم نقض
ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في
المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع، كالربا والسلف الذي يجر النفع
فيُجعل بيعًا في الظاهر، ويجري في الناس شرعًا شائعًا، ويدين به العامة،
وينصبون هذه المعاملات متاجر. وأصله الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية
والشهوات العاجلة. فإذا كان كذلك فالحري أن يصير ذلك ابتداعًا في الدين، وأن
يُجعل من أشراط الساعة.
فإن قيل: هذا انتجاع من مكان بعيد، وتكلف لا دليل عليه. فالجواب: إنه
لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قيل به، فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن
عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله وعليه وسلم يقول (إذا
ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا
الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) ، ورواه
أبو داود، أيضًا وقال فيه: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع
وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) .
فتأمل كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس، فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون
عن الشح بالأموال - وهو معقول في نفسه - فإن الرجل لا يتبايع أبدًا هذا التبايع
وهو يجد مَن يسلفه أو من يعينه في حاجته، إلا أن يكون سفيهًا لا عقل له. ويشهد
لهذا المعنى ما خرّجه أبو داود أيضًا عن علي - رضي الله عنه - قال: (سيأتي
على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك. قال
الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39)
وينشد شرار خلق الله، يبايعون كل مضطر. إلا إن بيع المضطر حرام! المسلم
أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، وإن كان عندك خير فعد به على أخيك، ولا تزده
هلاكًا إلى هلاكه) .
وهذه الأحاديث الثلاثة - وإن كانت أسانيدها ليست هناك - مما يعضد بعضه
بعضًا، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع. قال بعضهم: عامة العينة إنما تقع
من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما
أحب، فيبيعه ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك، ففسر بيع المضطر ببيع العينة،
وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل حسبما هو مبسوط في الفقهيات. فقد
صار الشح إذًا سببًا في دخول هذه المفاسد في البيوع.
فإن قيل: كلامنا في البدعة لا في فساد المعصية؛ لأن هذه الأشياء بيوع
فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه.
فالجواب: إن مدخل البدعة هاهنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس،
فقد عده العلماء من البدع المحدثات، حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في
الحيل: مَن وضع هذا فهو كافر، ومن سمع به فرضي به فهو كافر، ومَن حمله
من كورة إلى كورة فهو كافر، ومَن كان عنده فرضي به فهو كافر. وذلك أنه وقع
فيه الاحتيالات بأشياء منكرة، حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد.
وقال إسحق بن راهويه عن سفيان بن عبد الملك: إن ابن المبارك قال في
قصة بنت أبي روح حيث أُمرت بالارتداد، وذلك في أيام أبي غشان، فذكر شيئًا ثم
قال ابن المبارك وهو مغضب: أحدثوا في الإسلام، ومَن كان أمر بهذا فهو كافر،
ومَن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر. ثم
قال ابن المبارك: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا، ثم جاء هؤلاء فأفادها
منهم فأشاعها حينئذٍٍ، وكان لحسنها [13] ولم يجد من يمضيها فيهم، حتى جاء هؤلاء.
وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام
حتى يصير حلالاً، وللواجب حتى يكون غير واجب وما أشبه ذلك من الأمور
الخارجة عن نظام الدين، كما أجازوا نكاح المحلل، وهو احتيال على رد المطلقة
ثلاثًا لمن طلقها، وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهيئة المستعارة، وأشباه ذلك. فقد
ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح، وأنها تتضمن ابتداعًا
كما تتضمن معاصي جملة.
وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة، وهي من سمات أهل النفاق،
ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعًا، وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم،
كما حكيت عن كثير من الأمراء، فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع
العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدًا فأخفوه لتظهر صحته، فإن بيعه
الثواب بمائة وخمسين إلى أجل [14] لكنهما أظهرا وساطة الثوب، وأنه هو المبيع
والمشترى، وليس كذلك بدليل الواقع.
وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلاً بلسان حاله ومقاله: أنا غير محتاج إلى
هذا المال وأنت أحوج إليه مني. ثم يهبه، فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له
للواهب مثل المقالة الأولى، والجميع في الحالين؛ بل في الحولين في تصريف المال
سواء؛ أليس هذا خلاف الأمانة، والتكليف من أصله أمانة فيما بين العبد وربه،
فالعمل بخلافه خيانة.
ومن ذلك أن بعض الناس كان يحقر الزينة ويرد [15] من الكذب، ومعنى
الزينة التدليس بالعيوب، وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم. وأيضًا والنصح
لكل مسلم. وأيضًا فإن كثيرًا من الأمراء يجتاحون أموال الناس اعتقادًا منهم أنها
لهم دون المسلمين. ومنهم مَن يعتقد نوعًا من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من
الكفار، فيجعلونها في بيت المال، ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلاً
على الشريعة بالعقول. فوجه البدعة هاهنا ظاهر. وقد تقدم التنبيه على ذلك في
تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا ويدخل تحت هذا النمط كون
الغنائم تصير دولاً. وقوله: (سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، ثم قال: أدّوا
إليهم حقهم وسلوا الله حقكم) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في ص 593.
(1) في رواية أحمد والشيخين هنا زيادة (ويظهر الجهل) .
(2) لعله: بين يدي الساعة، وروي بلفظ (إن من ورائكم أيامًا) إلخ، رواه الترمذي وابن ماجه
عنه.
(3) الولث بقية الماء أو النبيذ أو العجين في الإناء والقليل من المطر.
(4) كذا ولا بد أن يكون قد سقط من هنا كلام، ولعل أصله: لا يسلمون جميع ما قاله الأولون أو جميع ما ذهب إليه الأولون.
(5) لعل ابن أسلم يخص كراهة الدقيق المنخول بما كان أداءً لسُنة كالعقيقة ليفعلها كما كانوا يفعلونها.
(6) بياض بالأصل لعل مكانه (الزي) .
(7) ربما سقط من هنا كلمة (أمر) .
(8) لعله سقط من هنا كلمة (من جواز) أو (في مسألة) .
(9) أي لا يصلح لها.
(10) قوله: (محرم) خبر قوله: (فإن جعل الجاهل) .
(11) (بدعة) خبر قوله: (وكون ذلك) .
(12) لعل الأصل: (وأحرى ألا ينبني عليه حكم) .
(13) لعل الأصل: (ولو كان يحسنها لم يجد) إلخ.
(14) أين خبر (إن) ؟ .
(15) كذا في الأصل.(17/673)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
الأدب وكلام الصوفية فيه [*]
فصل
وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب
معه كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله
معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكًّا، أو يقدم عليه آراء
الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد
المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من
عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره
ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول
شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره،
وإلا فإن طلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرّفه عن
مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقال: نؤوّله ونحمله، فلأن يلقى العبد ربه
بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بهذا الحال.
ولقد خاطبت يومًا بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدّر أن الرسول
صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه أكان فرضًا علينا
أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه؟ أم لا نتبعه حتى
نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة
إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنّا؟
وبأي شيء نُسِخ؟ فوضع أصبعه على فيه وبقي باهتًا متحيّرًا وما نطق بكلمة.
هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات
وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم، وعزل كلامه عن اليقين، وأن يستفاد
منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه؛ بل المعمول في باب معرفة الله على العقول
المنهوكة المتحيرة المتناقضة، وفي الأحكام على تقليد الرجال وآرائها. والقرآن
والسنة إنما نقرأهما تبركًا، لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه. ومن طلب
ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ
مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ
إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ
جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ
يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ *
أَمْ تَسأَلهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوَهُمْ إلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (المؤمنون
: 63-74) .
والناصح لنفسه العامل على نجاتها، يتدبر هذه الآيات حق تدبرها، ويتأملها
حق تأملها، وينزلها على الواقع يرى العجب، ولا يظنها اختُصت بقوم كانوا فبانوا
(فالحديث لك واسمعي يا جارة) والله المستعان.
ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا
نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1) وهذا باقٍ إلى
يوم القيامة ولم يُنسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته،
لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. قال مجاهد - رحمه الله -: لا تفتاتوا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الضحاك:
لا تقضوا أمرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيدة: تقول العرب
لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب. أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه. وقال
غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهي.
ومن الأدب معه أن لا تُرفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال،
فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟ أترى ذلك موجبًا
لقبول الأعمال، ورفع الصوت فوق صوته موجب لحبوطها؟
ومن الأدب معه أن لا يُجعل دعاؤه كدعاء غيره، قال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63) وفيه قولان للمفسرين:
(أحدهما) : أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا؛ بل قولوا:
يارسول الله! يا نبي الله! فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أي دعاءكم
الرسول.
(الثاني) أن المعنى: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضًا إن
شاء أجاب وإن شاء ترك؛ بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد مِن إجابته، ولم يسعكم
التخلف عنها ألبتة. فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي: دعاءه إياكم.
ومن الأدب أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم
يذهب أحد مذهبًا في حاجته حتى يستأذنه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (النور: 62) فإذا كان هذا مذهبًا مقيدًا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه،
فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجليله؟ هل يشرع
الذهاب إليه بدون استئذانه؟ {فَاسْأََلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:
43) .
ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله؛ بل تُستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض
نصه بقياس؛ بل تهدر الأقيسه وتلقى [1] لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته
لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول. ولا يوقف
قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم،
وهو عين الجرأة.
***
فصل
وأما الأدب مع الخلق فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكل
مرتبة أدب، والمراتب فيها أدب خاص، فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهم
أدب هو أخص به، ومع العالم أدب آخر، ومع السلطان أدب يليق به، وله مع
الأقران أدب يليق بهم، ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه،
ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.
ولكل حال أدب: فللأكل آداب وللشرب آداب، وللركوب والدخول والسفر
والإقامة والنوم آداب، وللبول آداب، وللكلام آداب، وللسكوت والاستماع آداب.
وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما
استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب حرمانهم بمثل قلة الأدب.
فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت
عليه الصخرة، والإخلال به مع الأم تأوُّلاً وإقبالاً على الصلاة كيف امتحن صاحبه
بهدم صومعته، وضرب الناس له ورميه بالفاحشة، وتأمل أحوال كل شقي ومغتر
ومدبر كيف تجد قلة الأدب هو الذي ساقه إلى الحرمان، وانظر قلة أدب عوف مع
خالد كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه، وانظر أدب الصديق - رضي الله عنه -
مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي
لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أورثه
مقامه والإمامة بالأمة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه - وقد أومأ إليه أن اثبت
مكانك - جمزًا لا سعيًا إلى قدام، بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها
أعناق المطي. والله أعلم.
***
فصل
قال صاحب المنازل: (الأدب حفظ الحد بين الغلو والجفاء بمعرفة ضرر
العدوان) هذا من أحسن الحدود. فإن الانحراف إلى طرفي الغلو والجفاء هو قلة
الأدب، والأدب: الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن
تمامها ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له، فكلاهما عدوان والله لا يحب المعتدين،
والعدوان هو سوء الأدب، وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي
عنه، فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لم يكمل أعضاء الوضوء ولم يوف الصلاة آدابها
التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها، وهي قريب من مئة أدب ما بين
واجب ومستحب.
وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار
والدعوات التي شرعت سرًّا، وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه، كالتشهد الأول
والسلام الذي حذفه سنة. وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا على ما يظنه سرّاق الصلاة والنقّارون لها ويشتهونه، فإن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك وكان يأمرهم
بالتخفيف ويؤمهم بالصافات، ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر فيذهب الذاهب
إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله ويتوضأ ويدرك رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نَقر الصلاة وسرَقها،
فإن ذلك اختصار - بل اقتصار - على ما يقع عليه الاسم ويسمى به مصليًا. وهو
كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه، فليته شبع على القول الآخر. وهو
كجائع قدم إليه طعام لذيذ جدًّا فأكل منه لقمة أو لقمتين فماذا يغنيان عنه؟ ولكن لو
أحسن مجموعة لما قام عن الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك، لكن القلب
شبعان من شيء آخر.
ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء - عليهم السلام - أن لا يغلو فيهم كما
غلت النصارى في المسيح، ولا يجفو عنهم كما جفت فيهم اليهود، فالنصارى
عبدوهم واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط آمنوا بهم وعزّروهم ونصروهم
واتبعوا ما جاؤوا به.
ومثال ذلك في حقوق الخلق أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها
بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا
يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وعلى هذا الحد
فحقيقة الأدب هو العدل، والله أعلم.
***
فصل
قال: (وهو على ثلاث درجات، الدرجة الأولى منع الخوف أن يتعدى إلى
اليأس [2] وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة)
يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله
فإن هذا خوف مذموم. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حد
الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه. وهذا
الخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه
وجهلٌ بها.
وأما حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن
معه العقوبة، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وهذا إغراق في الطرف
الآخر، بل حد الرجاء ما طيّب لك العبادة، وحملك على السير، فهو بمنزلة الرياح
التي تُسيّر السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك،
وإذا كانت بقدر أوصلت إلى البُغية.
وأما ضبط السرور أن يخرج إلى مشابهة الجرأة، فلا يقدر عليه إلا الأقوياء
أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السرّاء فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضرّاء فتغلب
صبرهم، كما قيل:
لا تغلب السراءُ منهم شكرَهم ... كلا ولا الضراءُ صبرَ الصابر
والنفس قرينة الشيطان ومصاحبته وتشبهه في صفاته، ومواهب الرب تبارك
وتعالى تنزل على القلب والروح، فالنفس تسترق السمع، فإذا نزلت على القلب
تلك المواهب وثَبتْ لتأخذ قسطها منها وتصيره من عدتها وحواصلها،
فالمسترسل معها الجاهل بها يدعها تستوفي ذلك، فبينا هو في موهبة للقلب والروح
وعدة وقوة له، إذ صار ذلك كله من حاصل النفس والتها وعددها، فصالت به
وطغت لأنها رأت غناها به، والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال، فكيف بما
هو أعظم خطرًا وأجلّ قدرًا من المال، بما لا نسبة بينهما من علم أو حال أو معرفة
أو كشف؟ فإذا صار ذلك من حاصلها انحرف العبد به - ولا بد - إلى طرف مذموم
من جرأة أو شطح أو إدلال ونحو ذلك.
ولله كم ههنا من قتيل وسليب وجريح يقول: من أين أوتيت؟ ومن أين دُهيت
؟ ومن أين أُصبت؟ وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك أن يغلق عنه باب المزيد،
ولهذا العارفون وأرباب البصائر إذا نالوا شيئًا من ذلك انحرفوا إلى طرف الذل
والانكسار ومطالعة عيوب النفس، واستدعوا حارس الخوف، وحافظوا على الرباط
بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله وأكرمهم
عيه وأدناهم منه وسيلة وأعظمهم عنده جاهًا، وقد دخل مكة يوم الفتح وذقنه تمس
قربوس سرجه انخفاضًا وانكسارًا وتواضعًا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة
النفوس البشرية فيها أن يملكها سرورها وفرحها بالنصر والظفر والتأييد ويرفعها إلى
عنان السماء، فالرجل مَن صان فتحه ونصيبه من الله، وواراه عن استراق نفسه
وبخل عليها به، والعاجز من جاد لها به، فيا له من جود ما أقبحه، وسماحة ما
أسفه صاحبها! والله المستعان.
***
فصل
قال: (الدرجة الثانية: الخروج من الخوف على ميدان القبض، والصعود [3]
عن الرجاء إلى ميدان البسط، ثم الترقي عن [4] السرور إلى ميدان المشاهدة) ذكر
في الدرجة الأولى كيف يحفظ الحد بين المقامات حتى لا يتعدى إلى غلو أو جفاء،
وذلك سوء أدب، فذكر منع الخوف أن يخرجه إلى اليأس [5] والرجاء أن يخرجه
إلى الأمن، والسرور أن يخرجه إلى الجرأة. ثم ذكر في هذه الدرجة أدب الترقي
من هذه الثلاثة إلى ما يحفظه [6] عليها ولا يضيعها بالكلية، كما أن في الدرجة
الأولى لا يبالغ به؛ بل يكون خروجه من الخوف إلى القبض، يعني لا يزايل
الخوف بالكلية، فإن قبضه لا يؤيسه ولا يقنطه ولا يحمله على مخالفة ولا بطالة،
وكذلك رجاؤه لا يقعد به عن ميدان البسط؛ بل يكون بين القبض والبسط، وهذه
حال المال، وهي السير بين القبض والبسط، وسروره لا يقعد [7] به عن ترقيه
إلى ميدان مشاهدته، بل يرقى بسروره إلى المشاهدة، ويرجع من رجائه إلى البسط،
ومن خوفه إلى القبض. ومقصوده أن ينتقل من أشباح هذه الأحوال إلى أرواحها،
فإن الخوف شبح والقبض روحه، والرجاء شبح والبسط روحه، والسرور شبح
والمشاهدة روحه، فيكون حظه [8] من هذه الثلاثة أرواحها وحقائقها، لا صورها
ورسومها.
***
فصل
قال: (الدرجة الثالثة معرفة الأدب، ثم الفناء [9] عن التأدب بتأديب الحق،
ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب) قوله: (معرفة الأدب) يعني لا بد من
الاطلاع على حقيقته في كل درجة، وإنما يكون ذلك في الدرجة الثالثة، فإنه
يشرف منها على الأدب في الدرجتين الأوليين، فإذا عرفه وصار له حالاً فإنه ينبغي
له أن يفنى عنه، بأن يغلب عليه شهود مَن أقامه فيه فينسبه إليه تعالى دون نفسه،
ويفنى عن رؤية نفسهِ وقيامها بالأدب بشهود الفضل لِمَن أقامه فيه ومنته، فهذا هو
الفناء عن التأدب بتأديب الحق. قوله: (ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب) يعني
أنه يفنى عن مشاهدة الأدب بالكلية لاستغراقه في شهود الحقيقة في حضرة الجمع التي
غيبته عن الأدب، ففناؤه عن الأدب فيها هو الأدب حقيقة، فيستريح حينئذٍ من كُلفة
حمل أعباء الأدب وأثقاله؛ لأن استغراقه في شهود الحقيقة لم يبق عليه شيئًا من
أعباء الأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نموذج من كتاب مدارج السالكين للإمام العارف المحقق ابن قيم الجوزية وقد أطال في بحث
الأدب مع الله تعالى ثم قال.
(1) في ب (وتلغى) .
(2) في ب (الإياس) وكذلك في نسخة المتن.
(3) في ب (والقعود) .
(4) وفيها (من) .
(5) وفيها (الإياس) .
(6) كتب في هامشه: (لعله يحفظها) وكان يجب أن يزيد كلمة (عليه) .
(7) في ب (يقصد) .
(8) في ن (حفظه) .
(9) في نسخة المتن (الغنى) .(17/689)
الكاتب: أوسيشكن
__________
البروغرام الصهيوني السياسي
بقلم الزعيم الصهيوني أوسيشكن
شرعت جريدة فلسطين بترجمة هذا الكتاب بالعربية ونشره تباعًا فيها،
فرأينا أن ننقل بعض فصوله عنها بمناسبة ما نشرناه في الأجزاء الماضية عن
الجنسية في البلاد العثمانية، ولما فيها من العبر.
الفصل الأول
إن المساعي التي بذلها الشعب الإسرائيلي للخلاص من منفاه بعد أن مضى
عليه فيه نحو ألفي عام، قد تحولت منذ 25 سنة من حالة التفكير والسكون إلى حالة
الحركة والعمل، وذلك لإعادة حياته السياسية الحرة في بلاد أجداده.
ولقد كان ما لاقاه اليهود من المذابح وما قاسوه من الاضطهادات في غربي
روسيا من أكبر البواعث على إخراج هذه المجهودات من حيز الفكر إلى حيز العمل.
ومن يتتبع تلك المساعي يجد أنها كانت تتغير وتتطور تبعًا للظروف ومجاورة لِمَا
كان يضعه الزعماء من البروغرمات والخطط. فجمعيات (محبة صهيون)
و (الصيهونية الروحية) و (الصهيونية السياسية) لم تكن إلا وسائط مختلفة وطرقًا
متعددة ترمي جميعها إلى غاية واحدة وتوصل إلى غرض واحد.
***
الصهيونية السياسية
كل أمة تسعى وراء كيان سياسي مستقل حر، يجب عليها توصلاً لغايتها هذه
أن تراعي ثلاث حالات ضرورية: حالة الشعب - وحالة البلاد - وحالة الظروف
الخارجية.
1- حالة الشعب: من الشروط الأولية لكل أمة تسعى وراء الاستقلال
السياسي والاقتصادي والأدبي أن يكون شعبها على شيء من الاستعداد لذلك، كأن
يكون ذا شعور قويم راق، وجمعيات قوية منظمة، ورؤوس أموال كبيرة عمومية،
وصبر على احتمال المصاعب، وأهم من ذلك كله أن يكون مستعدًّا دائمًا لتضحية
مصالحه الحاضرة أمام الصالح العام المستقبل. فإذا كانت هذه الشروط جميعها لا
توجد في الشعب ولم تبذل المساعي اللازمة لإيجادها فيه، استحال على الأمة أن
تنشئ لنفسها مركزًا سياسيًّا حرًّا.
2- حالة البلاد: أمّا حالة البلاد أو الأرض التي تريد الأمة أن تستقل بها
استقلالاً سياسيًّا فيجب أن تكون ملكًا لها بالفعل من الوجهتين الاقتصادية والعقلية،
أعني أن تكون جميع قوى تلك الأرض الحيوية في يد شعبها، وإن كانت الأرض
نفسها تحت سيادة غيره اسمًا، وأن يكون للشعب بها علاقة روحية، وتكون تربتها
مشبعة من دمه وعرق جبينه، وإلا كانت غير صالحة للاستقلال.
3- حالة الظروف الخارجية: ثم لو فرضنا أن الشعب كان جامعًا لكل شروط
الاستقلال وكانت حالة البلاد موافقة له، فاستقلاله فيها وإعلان حكمه عليها، لا
يتيسران له إلا إذا ساعدته الظروف الخارجية أيضًا، لارتباط مصالح جميع
الشعوب بعضها ببعض وإن تشعبت الطرق المؤدية إليها. ولذلك كان لا بد في كل
حركة قومية من بروغرام سياسي تتمشى عليه لاجتناب ما ربما يقف في طريقها من
العثرات، وإقناع الحكام والمحكومين بإخلاص تلك الحركة وما ينجم عنها من الفوائد،
مع السعي في الوقت نفسه باستمالة الرأي العام الأجنبي، واستخدام أحسن ما فيه
من القوى العقلية والإنسانية لمنفعة تلك الحركة، وإلا أصابها الفشل.
***
الفصل الثاني
إن أحسن بروغرام يجب السير عليه في كل حركة قومية تتطلب الخلاص
والاستقلال هو العمل لها من الجهات الثلاث المذكورة. وبهذه الطريقة فقط تتقدم
وتتقوى من يوم إلى يوم ومن سنة إلى أخرى.
فيصلح حال الشعب ويسهل عليه امتلاك البلاد، وتصبح الظروف الخارجية
ملائمة له، وتكون جميع القوى التي تملكها الأمة قد استخدمت لفائدة تلك الحركة،
فبينما تسعى جماعة مثلاً لتكثير رؤوس الأموال وإفعام خزائن الشعب منها، تكون
غيرها ساعية وراء تعليم العامة وإنماء مداركها وشعورها، وبينما تكون جماعة
ترود البلاد وتدرس حالتها، تأتي أخرى لاستثمارها واستعمارها، وبينما يقوم
البعض بشرح رغبات الأمة وغاياتها أمام الشعوب الأجنبية، يسعى آخرون
بالتعارف مع الملوك والوزراء وما يترتب على ذلك من الأمور السياسية؛ لأن على
مجموع هذه الأعمال المتفرقة التي يقوم بها الأفراد والجماعات في جهات متعددة
وفي وقت واحد - يتوقف نمو الحركة ونجاحها.
وبالعكس فإن النتيجة تكون عقيمة أو قليلة الفائدة [1] إذا حصر المسعى في
جهة واحدة، وبقيت قوى كثيرة مهملة بدون عمل. ومن المحتمل أيضًا أن يكون
هذا العمل الناقص ذا نتائج محزنة في المستقبل؛ لأن أقل عارض يطرأ عليه يوقف
مجاريه فيفقد العملة نشاطهم ومراكزهم، وتقع عامة الشعب في أزمة شديدة، وتصبح
الحركة في طور حرجٍ جدًّا، وفي ذلك من الأضرار ما لا يخفى على أحد.
أما إذا كان العمل مشتركًا، وفي جهات متعددة فحبوط جزء منه في جهة
يعادله نجاح جزء آخر في جهة أخرى. وهكذا تبقي الحركة سائرة سيرًا طبيعيًّا
مطردًا.
لنتصور الآن أن الظروف الخارجية كانت موافقة لرغبات أمة ما تريد أن
تجدد تاريخها وحياتها الاستقلالية في أرض ما، ووافقت الحكومات والشعوب
جميعها على رغبتها هذه، ولم تجد مانعًا خارجيًّا يقف في سبيلها؛ ولكن شعبها كان
من وجهته قليل الثقة بقواه الخاصة قليل الاستعداد لبلوغ الغاية التي ترمي إليها: لا
جمعيات منظمة لديه، ولا أموال عمومية تساعده على اغتنام الفرص المهمة
واستخدامها، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة حينئذٍ أن تلك الفرصة المهمة التي
سنحت تفوت، وربما لا تعود في عدة قرون. ومثل هذه الفرص عرضت مرتين
لليهود عندما طردوا من أسبانيا في أيام الدوق جوزيف دي نكسوس فلم يستخدموها.
ثم لو تصورنا عكس ذلك ورأينا الشعب مستعدًّا للحياة الاستقلالية وليده جميع
الوسائط اللازمة وكانت البلاد في قبضة يده فعلاً ولكن الظروف الخارجية كانت لا
تساعده أو لا تسمح له بالحصول على بغيته، إما لأنه لم يهتم بها، وإما لأنها لم
تكن على استعداد تام لقبول فكرته، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة إذ ذاك أن
الشعب يضطر إلى أن يبقى تحت العبودية والنير في انتظار أيام أحسن. ومثل هذه
الحالة تنطبق الآن تمامًا على حالة أرمينيا العثمانية التي وإن كان استقلالها أمرًا لا بد
منه، إلا أن ذلك يطول ما دامت الظروف الخارجية غير موافقة له.
على أنا إذا وجدنا لِمَا تقدم مثالاً، صَعُبَ علينا جدًّا أن نجد في التاريخ العلم كله
من أوله إلى آخره حالة مفجعة أسوأ من حالة شعب ذكي متعلم راق كالشعب
اليهودي، هبَّ لجمع شتات قواه وتنظيم رؤوس أمواله، وشعر بوجوب استمالة
شعوب وحكام العالم أجمع لمساعدته والأخذ بيده، فوجد بعد كل هذا العناء أن البلاد
التي ينشدها وهي غاية أمانه ومطمح أنظاره ومرمى مساعيه التاريخية - بين أيدي
شعب آخر يضارعه اجتهادًا ولا يقل عنه في مداركه الاقتصادية. ولذلك
فإنني [2] أشعر بوجل شديد وترتجف أعصابي عندما أتصور أن الشعب الإسرائيلي
ربما وجد نفسه في مثل هذه الحالة يومًا ما إذا ظلت مساعي بعض زعمائه منصرفة
إلى جهة واحدة. وحينئذٍ قل: السلام على تاريخه المملوء بالآلام والاضطهادات
وعلى أمانيه وموضوع أحلامه وآماله، وقل: السلام على مستقبله الذي أضرّ به
جهل الزعماء، أكثر من مساعي الأعداء.
***
الفصل الثالث
إن سبب قلة نجاح الحركة الصهيونية في الخمس وعشرين سنة الأخيرة يرجع
معظمه إلى النقص في العمل، فجمعية (محبة صهيون) لم تهتم في بحر عشر
سنوات في غير أمر البلاد وحالة الأرض فقط، فلم تفكر في إعداد الشعب لها وإنماء
مداركه العقلية، ولا بإنشاء رؤوس أموال عمومية، ولم تعرف أن تحول هذه
الحركة إلى حركة رسمية سياسية، ولم تجرب أن تستميل إليها الدول الأجنبية؛ بل
اكتفت بأن تظهر في مظهر المحسن بإنشاء بضع مستعمرات تعيش من مال
الإحسان، ولذلك انتهت هذه المدة الأولى من تاريخ الصهيونية بأزمة سنة 1891.
على أن المدة الثانية التي تلت تلك الأزمة وهي مدة انتشار الصهيونية
الروحية لم تكن بأسعد حظًّا من الأولى فقد أُهمل فيها أمر البلاد كما أُهمل في التي
قبلها أمر الظروف الخارجية. وبعد خمس سنين انصرفت في أثنائها جميع المساعي
إلى التعليم الداخلي وتنبيه الشعور العقلي فقط، نبغ عدد قليل وجملة من الخياليين،
فلم يجدوا لما تعلموه فائدة محسوسة أو عملاً ماديًّا، وبقي مجموع الأمة جامدًا،
وأصبحت الحركة الصهيونية مهددة بالموت. إلى أن عُقد المؤتمر الأول فابتدأت به
المدة الثالثة وهي عصر الصهيونية الذهبي، فبعثت الحركة من مرقدها ودبت في
الأمة روح جديدة؛ لأنها وجدت في المؤتمر ضالتها، ووافقت قراراته هوى في
نفسها.
إن جميع الصهيونيين الحقيقيين أصحاب الوجدان ومفكري الأمة رأوا في
بروغرام مؤتمر (بال) الأول إدعام البروغرامات السابقة بأخرى جديدة حوت صفوة
ما تقرر، وخلاصة رغبات الأمة، ولا سيّما في تصريحه جليًّا على مسمع من
العالم أجمع بأننا نجاهد لإنشاء حكومة يهودية في فلسطين، وأنه لا بد لنا لنصل
إلى هذه الغاية من أربعة أمور:
1- امتلاك فلسطين اقتصاديًّا وأدبيًّا.
2- تنظيم قوى الشعب وإنشاء رؤوس أموال عامة له.
3- إنماء الشعور القومي في الشعب وترقيته.
4- السعي بكل الطرق السياسية لجعل جميع الظروف الخارجية موافقة لنا.
وفي الحقيقة: إن الشجاعة الأدبية التي أظهرها هذا المؤتمر في إعلان حقوق
الأمة الإسرائيلية في فلسطين، والخطة الجلية الصريحة التي رسمها لبلوغ هذه
الغاية، والقوة المعنوية التي تجلت من خلال أبحاثه - كان فعلها في الشعب اليهودي
فعل المعجزات، فإنه تنبه من سباته العميق، وفي كل محل بلغت إليه أخبار
المؤتمرعقدت الاجتماعات، وألقيت الخطب، فأسست الجمعيات، وتألفت
الشركات. ومنذ ذلك الحين أخذ العمل يتقدم بسرعة وبجد واجتهاد عظيمين، فاشتد
ساعد الجمعية الصهيونية وأنشأت صندوق المال الملي، وانضمت لها قوى سياسية
خارجية، وظهر لنا من نتيجة مقابلات الملوك والوزراء بأن حركتها ستنمى وتتقوى
على مر الأيام.
غير أن القريب من مركز إدارة هذه الحركة والواقف على مجرياتها، يلاحظ
في الحال أن الخطأ العظيم الذي كانت الصهيونية تتألم منه في مدتيها الأولى والثانية -
وأعني به قيادة الحركة من جهة واحدة فقط وتوحيد المساعي وصرفها وراء نقطة
واحدة من نقط البروغرام - مازال يُرتَكَب حتى الآن، وذلك بسعينا وراء العمل
السياسي فقط لاجتناب العقبات الخارجية.
أما الجهات الأخرى فلم يلتفت إليها؛ بل أهملت بالكلية.
فالأمر الأول من بروغرام مؤتمر (بال) وهو امتلاك (فلسطين) اقتصاديًّا
وأدبيًّا كان من نتيجة قلة الاهتمام به أن اللجنة التي عينها المؤتمر للنظر في المسائل
الاستعمارية لم تعمل شيئًا؛ لأنه لم يدخل صندوقها شيء من المال، ووجد مديرو
هذه الحركة في فلسطين أنفسهم بعد ست سنوات أنهم لم يتقدموا خطوة إلى الأمام؛
بل ظلوا في ذات النقطة التي ابتدأوا منها.
ثم إن الآداب الإسرائيلية لم تتقدم أيضًا تقدمًا محسوسًا، وكانت مسألة البحث
في إحيائها تبدو في كل مؤتمر كشبح مرعب. والدليل على ذلك النجاح البطيء
الذي صادفته اللغة العبرانية في السبع السنوات الأخيرة مع أنها من أكبر العوامل
على تنبيه الشعور القومي.
***
الفصل الرابع
ظهر مما تقدم أن إدارة العمل من جهة واحدة لا يمكن أن تأتي بالفائدة
المقصودة، ففي الوقت الذي كانت فيه مساعي الرؤساء جميعها منصرفة إلى العمل
السياسي، كان بقية الأعضاء يطلبون بالحاح شغلاً عمليًّا آخر، ولكن هذا الشغل لم
يكن موجودًا، والعمل السياسي - كما لا يخفى - لا يصلح له إلا رجال
مخصوصون، وهكذا أهملت نفسها التي عليها مدار الحركة، ولم يلتفت إلى حفظ
المواصلات معها، وإرسال قوى جديدة إليها، كما أنه لم يهتم أحد للأعمال العقلية
وتنبيه الشعور القومي، وجل ما عمل إذ ذاك كان منحصرًا في جمع المال وإلقاء
الخطب، إلى أن جاء المؤتمر الرابع. وهذا بدلاً من أن يكون صهيونيًّا - أي أن
يهتم بقيادة الحركة في الطريق السوي - اقترح وضع بروغرام، خلاصته: إنشاء
جمعيات للتعاون وجمعيات خيرية وجمعيات إسعاف لإطعام الجياع وصندوق
للتسليف. فجعل للحركة الصهيونية دخلاً في كل شئ حتى في جمعيات رجال
المطافي الحرة، فكانت النتيجة أن العزائم انحلت وشعر الناس بأن هذه الأعمال لا
تصل بهم إلى الغاية.
ثم حدث ما هو أنكى من ذلك فقد استقرّ في الأذهان أن الصهيونية السياسية
رغم ما بذلته من المساعي واستفادته من وعد الحكومات بمعاضدتها، هي عاجزة
عن تغيير طرق معيشة الشعب اليهودي وإصلاح أحواله وتحسين معاملته ودفع
الحيف عنه في أكثر البلاد التي يقطنها، ولذلك كان كل عمل الصهيونية في نظر
الأمة الإسرائيلية لا يساوي شيئًا. وقد أصاب الناس في هذا الاعتقاد؛ لأن أمورهم
الاقتصادية كانت تزداد سوءًا من يوم إلى يوم، والمهاجرين يغادرون بلادهم
بالألوف، والحرائق والمذابح والاضطهادات يتلو بعضها بعضًا، الأفواه تردد
بأصوات عالية قائلة: أعطونا عملاً، نريد شغلاً، فلم يجدوا من الصهيونية ما
يحقق آمالهم فيها. ومما زاد في الطين بلة على إثر ذلك: قيام عثرة جسيمة في
طريق سياستنا اضطرتها في سنتها السابعة أن توقف عملها مدة من الزمن فوقفت
الحركة من جميع الجهات.
على أن وقوف دولاب الحركة هذا لم يكن ليضرها بمقدار ما أضرّت بها فكرة
بعضهم في استعمار أوغندا، وهي أعظم غلطة ارتكبت في مدة الخمس وعشرين
سنة الماضية من تاريخ الصهيونية؛ لأن الأنظار تحولت إذ ذاك إلى هذه الوجهة.
وانشقت الحركة إلى قسمين وانتشبت الحرب بين الإخوة وتمزق العمل فكان من
نتيجة ذلك حدوث أزمة هائلة. وبعد أن كان الصهيونيون قبل المؤتمر السادس
أقوياء لا في سياستهم أو في أموالهم أو في جمعياتهم فقط؛ بل في اتحادهم ووحدة
مبدئهم - جاءت هذه الفكرة فهدمت ذلك الاتحاد إلى سنين كثيرة، وزادت عليه
فقضت بما أحدثته من التأثير السيئ على زعيمنا الأكبر هرتسل العظيم منشئ
المؤتمرات، وذلك عندما رأى صروح عمله تنهار وأتعابه تذهب أدراج الرياح.
إن الأمة الإسرائيلية تجتاز الآن زمنًا مخيفًا فقد أصبحت لا قائد لها ولا
بروغرام، وأصبح أفرادها لا ثقة للواحد منهم بالآخر، والكل يجهل ما تؤدي إليه
هذه الحالة. ومَن يعلم ماذا يضمر لها المؤتمر السابع، وهل هو يجري على خطة
المؤتمر السادس ويتمم ما ابتدأ به من هدم جميع ما اشتغلنا فيه مدة 25 سنة أو هو
يستخرج من اليأس قوة عظيمة فيسعى للتفكير عن تلك الزلة الهائلة التي ارتكبها
المؤتمر السادس فيضع خطة جديدة لإدارة العمل.
إنني أريد أن أعتقد أنه سيختار الخطة الثانية؛ لأن السبيل الموصل إليها سهل
هين، وهو الرجوع إلى بروغرام مؤتمر (بال) بجملته وما فيه من الصراحة.
***
الفصل الخامس
إن النقطة الأساسية في بروغرام مؤتمر (بال) هي إنشاء وطن سياسي حر
مستقل للشعب الإسرائيلي في فلسطين. ويفهم من هذا بوضوح أن الغاية الوحيدة
من الحركة الصهيونية هي إنشاء بلاد سياسية حرة مستقلة لليهود في فلسطين، لا
إيجاد ملجأ أو مركز روحي لهم، وقد ذُكرت فلسطين ولم يُذكر غيرها؛ لأن كل
سعي يرمي إلى بلاد غير فلسطين ليس هو من الصهيونية في شيء، وأحرى بالقائمين
به أن لا يستظلوا بالعلم الصهيوني لنشر فكرتهم. ولذلك أصبح من واجب المؤتمر
السابع أن يهدم ما وضعه أولئك المنافقون المتظاهرون بالصهيونية، ويزيد على
بروغرام المؤتمر الأول كلمة واحدة لها معنى كبير وهي كلمة (فقط) أي (في
فلسطين فقط) ويحتاط بمادة أخرى يضيفها إلى القوانين الأساسية الصهيونية تضمن
لمجموعها التنقيح والتغيير فيها.
وهنالك أيضًا أشياء أخري يجب على المؤتمر تقريرها. منها أن يصادق على
طرق العمل التي وردت في المواد الأربع المذكورة في بروغرام مؤتمر بال. وأن
لا ينقص حرفًا منها ولا يزيد عليها شيئًا من شأنه أن يصرف الأذهان إلى طرق
أخرى كإنشاء ملاجئ أو مستعمرات خيرية، فإذا عمل ذلك سَهُل عليه إنهاض
الحركة من كبوتها والقبض على أَزِمَّتِها والسير بها في أقوم طريق. وها نحن أولاء
نأتي الآن على شرح تلك المواد الأربع من بروغرام مؤتمر بال لا كما وردت
بالترتيب ولكن بحسب درجاتها في الأهمية وما يتراءى لنا من سهولة تناولها.
(لها بقية)
(المنار)
لو لم ينشر من هذا الكتاب الصهيوني إلا هذه الفصول لكفت من يعتبر من
العرب الفلسطينيين وغيرهم عبرة وبيانات لمقاصد هؤلاء الصهيونيين. وليعلم من
لم يكن يعلم دين هذه الأمة وتاريخها أن الصهيونيين إذا تم لهم ما يريدون فإنهم لا
يبقون (في أرض الميعاد) التي يؤسسون ملكهم الجديد فيها مسلمًا ولا نصرانيًّا.
وليست أرض الميعاد أو فلسطين عندهم ما نسميه نحن الآن فلسطين فقط؛ بل هي
في عرفهم وتحديد كتبهم الدينية تمتد إلى سوريا حتى (النهر الكبير) أي نهر
الفرات. فهذه بلاد لا يجوز عندهم أن يقيم فيها أحد غير الإسرائيليين. وفي سفر
(تثنية الاشتراع) أن الرب أمرهم عند دخولهم فيها بعد خروجهم من مصر على
يد موسى صلى الله عليه وسلم أن لا يستبقوا من أهلها نسمة ما. والنص في ذلك
تجده في باب الفتاوى. نعم إنهم لا يبيدون الآن مَن فيها من غير اليهود بالسيف
والنار كما فعل أسلافهم من قبل؛ بل يبيدونهم بقيد الكيد والمال، وهما قوتان لهذا
الشعب الصغير ترهبهما كبرى الأمم والدول، حتى إن دولة الروسية القوية القاهرة
أنشأت تستميل في هذه الأيام يهود بلادها على قلتهم لئلا يحدثوا فيها أحداثًا وفتنًا
داخلية تزلزل أقدامها في هذه الحرب التي تقتضي مصلحة الدول المحاربة فيها أن
لا يكون لها شاغل داخلي يشغلها. فماذا عسى أن يفعل العرب أصحاب فلسطين من
أسباب المحافظة على وطنهم وأملاكهم فيه على تفرقهم أو جهل السواد الأعظم منهم
بكنه الخطر وكنه قوة مزاحميهم، وعلى جهلهم أيضًا بقوة أنفسهم وبطريق الانتفاع
بها؟
لا أقول: إنه لا يمكن أن يعملوا؛ ولكن أقول: لا بد من الروية والحزم وقوة
الاجتماع، ولا بد من المسارعة إلى تنظيم وسائل الدفاع، وليعلموا أنه لا يكاد يوجد
شعب من شعوب الأرض غافل عن قوته واستعداده كالشعب العربي. فقوته
واستعداده كامنان فيه كمون النار في حجر الصوان تحت الثلج، فمن ذا الذي يزيل
أو يذيب الثلج عن هذا الحجر الصلد، وأين مقدحة الحديد التي تقدح النار من هذا
الزند؟ ستجيب عن هذين السؤالين الأيام، فإن الجواب عنهما أحداث وأفعال لا
أحاديث ولا كلام.
__________
(1) هذه عبارة تستعملها الجرائد على أنها منطقية، وما هي بمنطقية، ولكنها فاسدة فالنتيجة لا تكون عقيمة؛ وإنما تسمى المقدمات التي ليس لها نتيجة صحيحة مقدمات عقيمة أي غير منتجة، ولفظ العكس مستعمل في محله أيضًا والمراد من الكلام أن نتيجة ما يأمن السعي يكون ضد نتيجة ما تقدم.
(2) يكثر مثل هذا التعبير في الجرائد وكتابة بعض المتأخرين أعني الجمع بين لام التعليل وفاء السببية بهذه الصفة وقد يكون المقام لأحدهما فقط والاستعمال الفصيح في الجمع بينهما أن يقال: فلذلك أشعر بوجل شديد، فإن احتيج إلى التأكيد قيل: فإنني لذلك أشعر بوجل، إلخ.(17/697)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المراسلة والمناظرة
... ... ... ... ... (تمثيل القصص)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فضيلة الرشيد المرشد، شائد منار السنة، مولانا السيد محمد رشيد رضا،
أيَّدَهُ اللهُ وأَيَّدَ ثَمَرَاتِ مَسْعَاهُ آمين.
السلام عليكم ورحمة الله. إني أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللهَ الآمرَ بالتواصي بالحقِّ،
وأصلي وأسلمُ على صفوةِ الخَلْقِ وآله وصحبه أَلْسِنَةِ الصِّدْقِ.
أما بعد؛ فقد رأيت لفضيلتكم في الجزء السابع من المجلد السابع عشر من
مناركم الأغر فتوى في حل التمثيل وحضوره عُلّل فيها الحل بأنه لا نص على
حرمته وليس ذريعة لفساد حتى يحرم سدًّا للذرائع، فلا يحرم إلا على مَن يغريه
بمحرم، ما لم يكن موضوعه منكرًا بحيث يكون موضوع القصة الممثلة عملاً
محظورًا فيحرم إذًا، ولا عبرة بوجود نساء في موضعه كاشفات الرؤوس والسواعد؛
إذ الغالب أن يكن كافرات غير مخاطبات بالفروع، وأن يكون الناظر لمقصود
التمثيل فقط، على أنهن كثيرًا ما يرين في الطرق على تلك الصفة فلا فرق بين
رؤيتهن كذلك فيها ونظرهن بهذه الصفة في موضع التمثيل. هذا معنى ما جاء في
جوابكم. وفيه أن كون التمثيل لا نص على حرمته يرد بأن حضور النساء كاشفات
على ما مر مبديات زينتهن المبالغ في التأنق فيها جزء من التمثيل الغرامي وذلك
محرم بنص {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) {وَلاَ يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ} (النور: 31) الآية.
والنصوص المانعة من حضور المنكر والتسبب فيه، وعدم كونه ذريعة فساد
يرد بأنا نعلم بالسير أن الأكثر يتهافتون جدًّا على التمثيل الغرامي لا لشيء سوى
وجود أولئك النساء؛ بدليل أنهم لا يعتنون كذلك بما لا يحضرونه، ونسمع الكثير
يسألون عن حال الممثلات من حيث نحو الجمال قبل السعي إلى التمثيل، حتى لقد
اتخذ هذا الضرب من التمثيل وسيلة لمحض التكسب به كثير من فاسدي الأخلاق
الذين لا يعقل أن يقصدوا تهذيب غيرهم، وسمعنا كثيرًا غب مفارقة التمثيل يلهجون
بوصف جمال الممثلات ورونق زينتهن ورخامة أصواتهن، وأنبأنا بعض مَن
حضروا ذلك التمثيل ثم تابوا لما رأوا من سيئ أثره بأن من الحضور مَن كان
مستصحبًا نظارة تجعل الممثلة كأنها إلى جنبه، وهذا مما يؤكد سوء آثار حضور
التمثيل المذكور وأنه لا يكاد يسلم من ذلك أحد مهما كان ورعًا، على أنه يحضره
كثير ممن لا عناية لهم بالأخلاق، ولا وازع يزعهم عن الاسترسال في مطلق
الشهوات، فيخرجون وقد استفحل الداء في نفوسهم، واستولت الاضطرابات على
قلوبهم، وكون الكفار غير مخاطبين بالفروع مختلف فيه ومعتمد الشافعية
والمالكية الخطاب لدخولهم في عموم الوعيد، والآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ
نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ} (المدثر: 42-43) إلخ، ولئن سلم جواز السفور للكافرات
لم يسلم جواز حضور مكانهن حال السفور مع نظرهن، للأمر بغض البصر
وتحريم النظر لغير الوجه والكف بالسنة دون فرق بين مؤمنة وكافرة.
وهو مقتضى حكمة تحريم النظر، وهو كونه بريد الزنا - كما ورد - بلى
سُمِّيَ في الصحيح زنا العين، وقد أطلتم في بعض أبحاث المنار القول في مفاسد
النظر بما يُعلم به أن مفسدته تغلب مصلحة التمثيل الغرامي، إن كانت.
أما كون الناظر إنما يلاحظ مقصود التمثيل، فخلاف ما عهدنا في كثير. نعم
من الناس من هو كذلك ولكن قليل ما هم. وأما التسوية بين نظر السافرات في
مواضع التمثيل ونظرهن في الطرق فقد يرد بأن الماشي في الطريق غير مستقر في
موضع فتصادفه منهن من تصادفه بدون قصد أو به، مع شدة الحاجة إلى الشيء
فيه، ومع كون اللاتي فيه لا يتأنقن في الزينة تأنق الممثلاث اللاتي يُختارون من
أجمل الطبقات، ويعددن من الزينة ما تجلب به الرجال للتمثيل ويبالغن في ترخيم
أصواتهن عند قراءة الأشعار الغرامية التي قد تحدث وحدها في النفس أثرًا سيئًا،
فما الظن إذا حدث من نسوة على هذه الصفات بهذا الترخيم على مرأى من الرجال
الذين جبلوا على شدة الميل إلى مثل ذلك، فهذا كله يقتضي أن مفسدة مثل هذا
التمثيل غالبة، على أن لنا عما يقصد منه من الاعتبار والتهذيب غنى بآداب ديننا
التي جاء بها القرآن والآثار وحكم العارفين، فما بالنا نفزع في طلب العظة إلى هذا
الأمر الذي ضُره أضعاف نفعه؟ إني لأعتقد أن لتمثيل القصص الغرامية الحظ
الأوفر في إفساد أخلاق المصريين والمصريات، والذين عُرف بالاستقراء فرط
شغفهم بالشهوات وتكالبهم على الزخارف وإن كانت محظورات، وعدم مبالاتهم
بالتهتك، ولذا كنت أود أن تفسحوا في مناركم الأغر مكانًا لانتقاد ذلك التمثيل
والتنفير منه جدًّا مادام على غير صفة شرعية. والآن أرجو إبانة رأيكم بعد ما
ذكرت لكم ما عندي ليستنبين الحق أتم استبانة، لازلتم عضدًا للحق والحقيقة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد زهران)
(المنار)
إن ما ذكره أخونا الكاتب من وصف التمثيل خاص بتمثيل القصص الغرامية
المعهود بمصر، وهو مبني على السماع والمبالغة في دعوى براعة جمال الممثلات
ورخامة أصواتهن وافتتان الرجال بهن. وكلام المنار السابق في التمثيل المطلق،
ومنه ما يقوم به الرجال وحدهم وما يقوم به نساء لسن من مظنة الفتنة في شيء.
وإذا ثبت أن التمثيل الذائع هنا مصدر للفتنة، وذريعة للمفسدة، فهو مما جزمنا
بتحريمه في كلامنا السباق، ومن الغريب جعله آية نهي المؤمنات عن إبداء زينتهن
نصًّا على وجوب ذلك على الكوافر بمعنى مطالبتهن به كالمسلمات، وجعل هذا
مذهبًا للشافعية! وإنما المذهب أن الكفار يعاقبون على ترك فروع الشريعة في
الآخرة بدليل آية المدثر التي ذكرها، بل قال (لعموم الخطاب) وإنما الخطاب في
الآية للمؤمنات، وفي الرسالة مسائل أخرى قابلة للبحث والنقد ولا حاجة إلى ذلك.
وحسبنا أن نقول: إن حكم هذا التمثيل منوط بمافيه من المصلحة أو المفسدة، والثاني
هو الذي يحظر دون الأول.
* * *
المعازف - آلات اللهو
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الأستاذ الأوحد رافع منار الدين، وحامي حوزته السيد محمد رشيد
رضا الحسيني أنجح الله تعالى مساعيه وأكثر في المسلمين من أمثاله.
السلام عليكم ورحمة الله؛ إني أحمد إليكم الله الذي وفقكم لأجل الخدمات
الإسلامية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسائر القائمين بنصرة
الشريعة المحمدية.
أما بعد فقد كنت منذ بدء اشتغالي بالعلم شديد العطش إلى معرفة الحق في
مسألة آلات الملاهي فكنت أراجعها في كل كتاب تيسر لي من كتب المقلدين
والمستقلين فلا يُشفى لي غليل، حتى أتيح لي مراجعتها في نيل الأوطار مرارًا فكاد
يثلج صدري بتحقيق ذلك العالم الرباني، وكنت أقرأ في المنار الأسمى أجوبة أسئلة
في هذا الشأن تحيل استيفاء البحث على أول أجزاء المجلد التاسع وتاليه فيشتد
شغفي لاقتنائهما حتى تيسر ذلك، فأمتعت الفكر بمطالعة المبحث فيها فإذا حاصل ما
زدتموه على الشوكاني في نيل الأوطار أن رجحتم أدلة الإباحة على أدلة الحظر
بموافقتها للبراءة الأصلية ومقتضى الفطرة وسماحة الدين وكونها صحيحة دون أدلة
الحظر. وقولكم: إن أدلة الحظر تحظر المعازف - والدف منها قطعًا - أي فتكون
معارضة لأحاديث جواز الدف. فتُقَدَّم هذه لما مر - وقولكم: إن غناء النساء الثابت
جوازه في الصحيح أشد الملاهي تأثيرًا في النفس. أي فغيره أولى بالجواز -
وقولكم عقب نقل كلام الشوكاني: ومعلوم أن نذر الحرام أو المكروه لا ينعقد، وهذا
يبطل دعوى الشوكاني نهوض أدلة المانعين شبهة على المنع - وقولكم في حاشيتي
صفحتي 46و47 من الجزء الأول بعد نقل كلام الشوكاني في رد الحافظ ابن حجر
على ابن حزم في دعواه انقطاع حديث المعازف الذي في الصحيحين ما نصه:
ومنه تعلم أن الحافظ ابن حجر والشوكاني يعترفان بأنه لم يصح من الأحاديث
الواردة في حظر آلات اللهو إلا الحديث الأول مما أوردنا، وزيادات أخرى
أوردتموها في بحث القياس الفقهي في السماع وفي خلاصة البحث، أما ترجيح أدلة
الجواز لموافقتها لأصل الإباحة ولمقتضى الفطرة ويسر الشريعة فإنما يصح لو
تعارضت أدلة الجواز وأدلة المنع، ولا تعارض؛ إذ القاعدة الأصولية تقتضي
تخصيص أحاديث تحريم المعازف بغير ما صح في الأحاديث جوازه من الدف
والغناء كما هو الشأن في تخالف العام والخاص، ولذا لم يحرم الشافعية ما ذُكر من
الدف والغناء حيث أُمنتْ الفتنة بالثاني، وخص المالكية جواز الدف في النكاح أو
لكل سرور وقوفًا مع ظاهر الوارد. وأرى هذا قريبًا وأحوط.
وأما الترجيح بصحة أدلة الجواز وضعف مقابلها ففيه أنكم اعترفتم تبعًا
للحافظين بصحة حديث البخاري في المعازف، وهو كافٍ في إثبات المنع غير أنه
يخص بأحاديث الدف والغناء كما مر، وبذا علم ما في قولكم أن أدلة المنع تحظر
المعازف والدف منها.
وأما كون غناء النساء أشد الملاهي تأثيرًا في النفس فغير مُسلّم على العموم؛
إذ ليس غناء كل امرأة أشد تأثيرًا من كل لهو آخر؛ بل كثيرًا ما يكون صوت العود
مثلاً أشد تأثيرًا من غناء بعض النساء.
على أنه بعد صحة الحديث بتحريم المعازف المراد بها غير الغناء والدف
بدليل الأحاديث الأخرى - لا مساغ لهذا؛ إذ لا يجوز إلغاء حديث صحيح لمجرد
توهم مخالفته لمقتضى القياس الأولوي على ما في حديث آخر؛ لأنه لا وثوق لنا
بأن عليَّة جوازها في هذا الحديث هي ما فهمناه؛ إذ لا مانع من كون العلة شيئًا آخر
لم يبلغه إدراكنا، فلماذا لا نجمع بين الأدلة ما أمكن ونعمل بجميعها امتثالاً لما أُمرنا به
من الأخذ بكل ما أتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وأما كون الأمر بضرب الدف لمن نذره يدل دلالة واضحة على جواز الملاهي
لعدم انعقاد نذر المنهي عنه - ففيه أن ذا إنما يدل جليًّا على جواز ضرب الدف فقط
فيخصص بذلك وبأحاديث الغناء - حديث منع المعازف كما سبق - فيبقى باقيها
على المنع، فكيف يقال: إن الأمر المذكور قد منع نهوض أدلة المنع شبهة.
وأما كون اقتصار الحافظ على رد تضعيف حديث البخاري في المعازف يدل
على أنه يرى ضعف سائر الباب - ففيه أنه قد يكون سكوته عن بيان حالها لعدم علمه
به لا لعمله بضعفها.
وبعدُ فإني أرى أن ما استنتجه الشوكاني من كلامه الطويل من أن المقام مقام
شبهة فقط لا يصلح نتيجة لبحثه فإنه نقل أجوبة المجوزين عن حديث البخاري
المعلق وردها، فعلم منه أن الحديث حجة للمانعين، وقد قال في خلال البحث: إن
الأحاديث ينهض مجموعها حجة لتعاضدها، فقد نصر المانعين بحجتين سلمهما.
وما احتج به للمجوزين من نحو عموم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (الأعراف:
157) يرد بتخصيصه بتينك الحجتين. وبعد دلالة السنة على المنع لا مساغ لمقاس
فقهي ولا غيره إلا قياس مع وجود دليل من كتاب أو سنة. فصفوة بحث الشوكاني
نُصرة المانعين وترجيح التحريم، لا مجرد أن المقام مقام شبهة.
نعم قد يقال: إن لفظ المعازف جمع محلى بال وهو للعموم، فمعنى
استحلال المعازف استحلال جميعها حتى نحو الغناء المهيج على محرم، فيكفي في
تحقق معنى الحديث تحريم مثل ذلك ويكون هذا جمعًا مقبولاً بين الأدلة يتفق مع
القياس الفقهي ومع الأمور التي رجحتم بها أدلة الجواز.
وقد يرد كون مجموع أحاديث الحظر غير الأول ينهض حجة بأن تعدد
الأحاديث الضعيفة إنما يقتضي بلوغ درجة الحسن إذا كان الضعف لنحو سوء حفظ
الراوي لا لفسقه أو اتهامه بكذب، والأول غير متحقق هنا فلا جزم بالحسن. ولو
أن الشوكاني ذكر هذين النقضين لأنتج بحثه ما ذكره من أن الموضوع موضوع
شبهة. فخلاصة بحث الفقير هو ما رآه الشوكاني أخيرًا من الاشتباه لا ما رأيتموه.
وقد أطلعت فضيلتكم عليه كي تروه أو تردوه. ولي وطيد الأمل أن تعيروا ذلك
عناية تامة إحقاقًا للحق، وإزالة للثام الشبهة عن وجهه، لا برحتم عَلَمًا للمهتدين،
ونبراسًا للمستضيئين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد زهران
خادم العلم الشريف ببندر المحمودية (بحيرة)
... ... ... ... ... ... ... وأحد مشتركي المنار الأغر
(المنار)
يؤخذ من لسان العرب وغيره من المعاجم أن العزف يطلق في اللغة
على اللهو وعلى اللعب وعلى بعض الأصوات كالغناء والنواح والرعد والريح،
وصوت الرمل إذا هبت بها الريح، وقيل إن هذا هو الذي كانت العرب تطلق كلمة
(عزيف الجن) على ما يسمع منه في الليل. ويطلق بكثرة على الدف أو صوته،
والعزيف: الصوت. قال في اللسان: عزف يعزف عزفًا: لَهَا، والمعازف:
الملاهي، واحدها معزف ومعزفة. وعزف الرجل يعزف إذا أقام في الأكل
والشرب. وقيل واحد المعازف: عزفة، على غير قياس، ونظيره ملامح ومشابه
في جمع شبهة ولمحة، والملاعب التي يضرب بها يقولون للواحد والجمع: معازف،
رواية عن العرب. فإذا أفرد المعزف ضرب من الطنابير ويتخذه أهل اليمن.
وغيرهم يجعل العود معزفًا، وعزف الدف: صوته وفي حديث عمر أنه مر بعزف
دف فقال ما هذا؟ قالوا ختان، فسكت. العزف: اللعب بالمعازف، وهي
الدفوف وغيرها مما يضرب به. وكل لعب عزف. اهـ المراد.
فمن تأمل هذه المعاني يعلم أنها هي التي كانت تراد من العزف والمعازف في
عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح نص بتحريم شيء منها، وكان أشهر
آلات الملاهي في ذلك العصر الدف وقد ثبت في السنن العملية والقولية إباحته
واستحبابه في بعض الأوقات كالعرس. وسائر آلات اللهو التي لم تكن في ذلك
العصر معروفة أو مشهورة يصح إطلاق لفظ المعازف عليها كما يصح إطلاق لفظ
الخمر على المسكرات التي حدثت بعد عصر الوحي وإن لم تكن تخطر هذه ولا تلك
في بال من يطلق اللفظ قبل وجودها. ولو جاء في الكتاب أو السنة نص صريح في
تحريم المعازف لكان أول ما يتبادر إلى فهم الصحابة منه تحريم ما كان ذائعًا في
عصرهم منه كالدف. ثم يلحق به غير الذائع وغير المعروف عندهم بعموم اللفظ
إذا كان الوضع اللغوي يساعد على ذلك، أو بطريق القياس إذا اتحدت العلة.
وقد علمنا من عبارة لسان العرب أن تسمية العود معزفًا ليس متفقًا عليها.
ولو كان المشهور من المعازف التي كانت في عصره صلى الله عليه وسلم محرمًا
لورد النص عليه في الكتاب أو السنة المشهورة لتوفر الدواعي على نقل ذلك
واشتهاره، ولم يصح حديث مشهور ولا دون المشهور في التنصيص على تحريم
شئ منها؛ بل صح ما يدل على الإباحة كما يعلم أخونا الباحث المنتقد. واشتهر
عن بعض كبار الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كرواة الصحيحين والسنن أنهم
كانوا يبيحون الغناء والأوتار لا الدفوف فقط! وكان جمهور هؤلاء من أهل المدينة
الذين هم أجدر الناس بمعرفة السنن المتبعة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الذي هو موضوع البحث والسؤال فليس نصًّا ولا ظاهرًا في إنشاء
حكم تحريم المعازف ولا خبرًا بمعنى إنشاء ذلك. وإنما هو حديث آحادي في
الإخبار عن شيء يقع في المستقبل كالأحاديث في أشراط الساعة وأماراتها الواردة
في سياق الكلام عن الساعة. أو في مناسبات أخرى: كحديث أبي هريرة عند أحمد
ومسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر
يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، على رؤوسهن
كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا
وكذا) فهذا الحديث ليس إنشاء لتحريم حمل السياط التي تشبه أذناب البقر (وهي
التي نسميها الكرابيج) وضرب الناس بها، ولا لتحريم كل وصف من أوصاف
النساء التي فيه؛ ولكنه يدل ضمنًا على أن كلاًّ من الصنفين يتلبس بمحرم يستحق
به عذاب الله تعالى. إن لم يكن في جزئيات ما وصف به ففي جملتها ومجموعها.
ولا بد أن يكون لتلك المحرمات أدلة تدل عليها من شرع الله تعالى في غير هذا
الحديث.
فأنا أفهم حديث المعازف الذي نتكلم فيه كما أفهم هذا الحديث: أفهم أن
حديث أبي هريرة يبين حال رجال من الظلمة يحملون نوعًا من السياط يضربون
بها الناس بغير حق، لأنهم أنشأوا لأنفسهم شريعة في عقاب المذنبين إليهم بذلك.
فحمل السياط التي تشبه أذناب البقر ليس محرمًا؛ إذ لا دليل على تحريمه،
وضرب الناس بها إذا كان في إقامة حد الله تعالى على الوجه المشروع ليس محرمًا
أيضًا.
ولكن ضرب الكرابيج الذي كان معهودًا بمصر محرم شرعًا لأنه من الظلم
المبين، وحرمته معلومة من الدين بالضرورة. وكذلك النساء الكاسيات العاريات
بما يلبسن من الشفوف التي تحكي ما تحتها من البدن، لا دليل في الشريعة على
تحريم هذا منه إذا فعلنه أمام أزواجهن فقط، ولك أن تقول مثل هذا في سائر
أوصافهن في الحديث، ولكن وجد في هذا العصر نساء يبرزن بهذه الصفات مع
الأجانب، وقد فسدن وأفسدن بذلك كثيرًا من الناس، فكل أفعالهن هذه محرمة بلا
ريب.
وعلى هذا النحو ومثل هذا الفهم أفهم حديث أبي عامر أو أبي مالك: (ليكونن
من أمتي قوم يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف) ، معناه: سيوجد من
أمتي قوم يغلب عليهم الجهل بالدين أو التأويل للنصوص حتى توافق أهوائهم،
فيقعون في الحرام معتقدين بالجهل بالدين أو التأويل للنصوص حتى توافق أهواءهم،
فيقعون في الحرام معتقدين بالجهل أو بالتأويل أنه حلال، كاستحلالهم الفروج
بالمحلل من الطلاق الثلاث، وبالتسري بالحرائر اللواتي يبيعهن آباؤهن أو يُختطفن
من بلادهن، وكذلك يستحلون لبس الحرير الذي هو منتهى الزينة التي لا تليق إلا
بالنساء باعتقاد أن المحرم منه ما كان حريرًا خالصًا، وما يلبسونه مشوبًا بقطن أو
كتان - مثلاً - ويستحلون الخمر التي يستحدثونها بدعوى أن المحرم لذاته منها ما
كان من عصير العنب، ولا يحرم من غيره إلا القدر المسكر الذي لا يميز شاربه
السماء من الأرض - مثلاً - ويستحلون المعازف المستحدثة على الوجه الذي بُين في
رواية الحديث الأخرى: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات) والمراد
بالمغنيات هنا القيان المشار إليهن في حديث علي وأبي هريرة عند الترمذي في
الخصال الخمس عشرة التي يترتب عليها نزول البلاء بهذه الأمة قبل الساعة ومنها:
(وظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) فالمراد من ذلك شيء لم يكن في
زمنه صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن كل هذه المفردات كانت موجودة، وهو ما
استحدثه بعض الفساق مع الجمع بين العزف والغناء وشرب الخمر، ويدل عليه
قول بعض علماء اللغة في تفسير القينة؛ وهو أن المراد بها الجارية البيضاء التي
تغني للرجال في مجلس الشرب. فاقتران المعازف بالقيان وشرب الخمر هو
المخبر عنه بأنه من أسباب حلول البلاء وإن لم يذكر ذلك في كل رواية للحديث -
وهو حديث واحد لا يعرف المراد منه إلا بعد معرفته كله - وكثيرًا ما يكون
الاقتصار على بعض ألفاظ الحديث سببًا لجهل المراد منه. ومثله في هذا الحديث:
(وأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَعَقَّ أمَّهُ وأَدْنَى صَدِيقَهُ وأَقْصَى أَبَاهُ) فإطاعة المرأة
وإدناء الصديق ليس منكرًا في الدين؛ وإنما كان أنكر باعتبار اقترانه بعقوق الأم
وإقصاء الأب. أو فهم منه أن إطاعة المرأة وإدناء الصديق في اتباع الهوى
والمنكرات.
وجملة القول أنني أفهم الحديث الذي نحن بصدد البحث فيه كما أفهم أمثاله مما
ورد في أنباء المستقبل التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأجزم بأنها ليست
تشريعًا، وإنما هي إخبار بأشياء ستحدث بعده فما دل منها على تحريم شيء لا
يعرف فيه دليل على تحريمه فلا بد أن يكون ما أخبر به صلى الله عليه وسلم سيقع
على وجه محرّم، وأن يكون عنى به وقوعه على ذلك الوجه، كحديث الرجال
الذين بأيديهم سياط كأذناب البقر إلخ وغيره.
فهذه الأحاديث لا يقع التعارض والترجيح بينها وبين نصوص الكتاب والسنة
في التحليل والتحريم كما فعل الباحث؛ إذ جعل السنن العملية والقولية التي صحت
في إباحة المعازف والغناء مخصصة لعموم لفظ المعازف في حديث: (ليكونن
أناس من أمتي) كأنه هو الأصل في تحريم ما ذكر، وكأن النبي صلى الله عليه
وسلم أراد بما سمعه وما أجازه وأقره أو ندب إليه من سماع الدفوف والغناء في
الوقائع المختلفة تخصيص ذلك العموم، وجعل ما كان يقع في عصره من عزف
الناس وسماعهم بسائق الفطرة استثناء من ذلك الأصل التشريعي العام ولا يفهم هذا
الفهم ويقول هذا القول ذو ملكة عربية إلا إذا حصر نظره في تحكيم قواعد أصول
الفقه في أمرين أحدهما: لفظ يدل على حرمة المعازف مطلقًا، وثانيهما: لفظ أو
عمل يدل على إباحة بعضها، فهو يعد الأول بمعنى: (حرمت عليكم المعازف)
أو (اجتنبوا المعازف) أما إذا نظر في أسلوب الحديث وسياقه الذي بيَّناه وقارنه
بأمثاله من الأحاديث، فإنه يجزم بما جزمنا به. ويعلم أن تحريم الشيئ ابتداء وجعله
حكمًا شرعيًّا لا يكون بمثل تلك العبارة، وناهيك بشيء من مقتضى الفطرة عهد من
الناس في كل زمان ومكان.
فلو أراد الشارع تحريم مثله لحرمه بنص صريح يبلغه جمهور الأمة، وتتوفر
الدواعي على نقله بالتواتر أو الاستفاضة.
فعُلم مما شرحنا أن هذا الحديث لم يقصد به تحريم ما ذكر؛ وإنما قصارى ما
يدل عليه أنه سيوجد قوم يسرفون في ذلك إسرافًا مقترنًا بالفساد، وبمنكرات قبيحة
محرمة بنص الكتاب، كشرب الخمر وتهتك القيان، وأنهم يستحلون ذلك بِعدِّ
معازفهم الإفسادية من قبيل المعازف التي أباحها الشرع لترويح النفس في بعض
الأحايين، أو السرور بنعمة الله في أيام الأعياد والأعراس وقدوم المسافرين، من
غير أن يقترن بها منكر من المنكرات المحرمة في الدين، كما يستحلون بعض
الخمور بعدها من قبيل النبيذ المباح الذي هو نقيع نحو التمر والزبيب في الماء الذي
لم يختمر فيصير مسكرًا. وما شدد من شدد من الفقهاء في إطلاق تحريم السماع إلا
لمثل هذه المفاسد التي فتن بها المغرمون به حتى صارت من لوازمه عندهم. وما
أنكر عليهم مَن أنكر من المحدثين والفقهاء والصوفية إلا تعميم التحريم، وتكلف
الاستدلال عليه بالآيات والأحاديث، ولم يسلم لهم دليل مما استدلوا به. كما يعلم من
الكتب المؤلفة في إباحته، ومن مثل نيل الأوطار والإحياء وشرحه.
والقول الفصل أن الأصل في العزف والمعازف (ومنه الغناء واللعب)
الحل. وأنه ورد في السنة ما يؤيد هذا الأصل كلعب الحبشة في المسجد وغناء
الجواري وسماع الدف والإذن به، وإن الحرمة تعرض لبعض ذلك، كما يعرض
لبعضها الاستحباب، ولا يبعد أن تصل معازف الحرب إلى درجة الوجوب إذا
كانت الحرب شرعية، فقد ثبت بالتجارب المتعددة المفيدة للقطع أن معازف الحرب
التي يسمونها (موسيقى) تنشط المقاتلين وتحفز هممهم وتزيد في ثباتهم وإقدامهم
وجرأتهم، وتزيل الشعور بالتعب والمشقة أو تخففه عنهم، كما يفعل الحداء
بالإبل. فإذا كان الثبات والإقدام من الواجبات بنص قوله تعالى: {فَاثْبُتُوا} (الأنفال: 45) وبعموم الأدلة الأخرى فقد تكون المعازف في بعض الأحيان
داخلة في قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
هذا وإن أصول دين الفطرة والشريعة السمحة، الثابتة بالنصوص القطعية،
والمعلومة من الدين بالضرورة، أصل اليسر ونفي الحرج، وعدم تحريم شيء على
الناس إلا لضرره، ورفع الإصر والأغلال عن الأمم التي كانت قبله، حتى إن
النبي صلى الله عليه وسلم علل أمره للحبشة باللعب في مسجده بإظهار هذه المزية
في الإسلام.
أفنهدم هذه الأصول الثابتة والقواعد الراسخة، ونستنبط من حديث آحادي
روي بالمعنى في سياق الإخبار عن المستقبل، وذكر بعض الرواة من ألفاظه وقيوده
ما لم يذكره غيره - أن الأصل في آلات اللهو أن تكون محرمة في الإسلام وإن
وجدت بباعث الفطرة عند جميع الأمم، ولم تحرمها قبله الأديان الإلهية في ملة من
الملل، ثم نفرع عن هذا الأصل أن إباحة كل آلة منها تحتاج إلى نص من الشارع
يخصص ذلك الأصل العام، إن لم يمكن تأويله وتطبيقه عليه كما فعل المشددون؟
كلا إن الأمر بالعكس كما تقدم، ولا سبيل إلى تحريم شيء من ذلك بخصوصه،
وإنما نجزم بحرمة ما فيه مفسدة ظاهرة من سماع الفُسّاق وعزفهم الذي نراه في
عصرنا مصداقًا للحديث، وبهذا الشرح نستغني عن بيان رأينا في سائر مباحث هذه
الرسالة.
__________(17/709)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب الأوربية
والدولة العثمانية
كان أخوف ما نخاف على دولتنا قبل هذه الحرب اتفاق الدول الكبرى على
تقسيم بلادها إلى مناطق نفوذ اقتصادي، يتبعه النفوذ السياسي، فتمهد كل منهن
السبل في منطقتها للاستيلاء التام عليها، وتنتظر الفرص لإعلان امتلاكها، وكنا
قد رأينا بوادر هذا الاتفاق، ومنها الاتفاق مع فرنسا على منافعها في سوريا ومع
إنكلترا على العراق، بإزاء ما لألمانيا من الحقوق بامتياز سكة الحديد بين الآستانة
وبغداد.
أما وقد وقع بين تلك الدول ما كانت تتمخض به حوادث الأعصار وتشخص
لرؤية أهواله الأبصار، فقد سنحت لها فرصة للم شعثها، وتوفير ثورتها، وجمع
كلمة شعوبها، وإعداد وسائل الدفاع الوطني في بلادها، وإزالة ما للأجانب من
النفوذ والامتياز فيها، مع حفظ حقوقهم وتأمينهم على أنفسهم وأموالهم، بحيث
تكون مستقلة في داخليتها حق الاستقلال، ولا تكون دون الجبل الأسود والبلغار
واليونان، وما شرعت فيه من الاستعداد العسكري وتعبئة الجيش المنظم يجب أن
تراعي فيه الاقتصاد. وتجعله وسيلة للاستفادة من الحياد، ولا شك أن الأمة كلها
تشد أزرها في ذلك (وعند الشدائد تذهب الأحقاد) .
هذا ما نراه وما يراه كل مَن نعرف من العقلاء الذين ذكرناهم في هذه المسألة
من عرب وترك وغيرهما، وإنا لنعلم مع ذلك أن بين الحكومة الاتحادية والدولة
الألمانية اتفاقًا سريًّا قبل الحرب، والظاهر أن الثانية جعلته ذريعة لاستخدام جيش
الأولى في قتال أعدائها.
الدولة قريبة العهد بحرب لم تبق في خزائنها مالاً، ولا في مسالحها سلاحًا،
وقد أبيد بها مئات الألوف من خير جندها، والأمة فقيرة لا تستطيع أن تمد الدولة
عن سعة بما تستطيع أن تحارب به دولة كبيرة كالروسية وحدها، فكيف تحاربها
ومعها إنكلترا وفرنسا واليابان، وبعض حكومات البلقان؟ وهذه الحرب قد تستمر
عدة أعوام، كم تَسُوق من الجند إلى روسيا وكم تُبْقي لحماية بلادها الواسعة،
وثغورها غير محصنة؟ وإذا غلب جيش لها في رجاء من الأرجاء، أو احتاج إلى
الميرة والذخيرة والسلاح، فكيف السبيل إلى إمداده من الأرجاء الأخرى والبحار
محرمة عليها، ولا سكك حديدية تصل بين أقطارها؟
__________(17/720)
شوال - 1332هـ
سبتمبر - 1914م(17/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
علم الله بصفاته
الرضاع من الجدة
(س22) من صاحب الإمضاء الجاوي بمصر:
سيدي الأستاذ الأكبر السيد رضا زاده الله من مرضاته.
أما بعد فإني ألقي إليَّ مسألتان من البلاد إحداهما مسألة علمه سبحانه
بصفات كمالاته، فإنها قد شوهت أفكار الأغلب من أهل بلادي في سومترا إذا لم
يوجد منهم للآن من يفصل القول المحكوم بالدليل أو السنة فيتبعونه، يقولون:
هل يعلم الله أعداد بقية صفاته التي هي صفات الكمالات خلاف العشرين مثل كذا
أو كذا من العدد أم لا؟
فإن أجبتم بنعم، فما المراد بقولهم إن صفات الكمالات من غير نهاية فإن
المتبادر من معنى تلك الكلمة معلوم وظاهر. وإن أجبتم بلا، فما المراد أيضًا بقول
الآية {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: 28) ثم ألا يُعَدُّ عجزًا عليه سبحانه
وتعالى لو فرضنا أنه لا يعلم تلك الأعداد. فها هي (ذي) المسألة الأولى.
أما الثانية فهي مسألة الرَّضَاعة. ويقول فيها السائل: هل عثرتم من مفهوم
الكتاب أو السنة من قول بعض العلماء على أن الطفل إذا رضع من جدته من جهة
الأم يؤدي إلى وقوع الطلاق بين والدي الطفل فيقع الطلاق واحدًا إذا رضع الطفل
مرة واثنتين إذا كان مرتين وثلاثًا إذا كان ثلاث مرات.
فتانكم المسألتان احترت عليهما [1] إذ قلبت كثيرًا من كتب الفقه ومن كتب
التوحيد لعلي أعثر من عبارة تحل عقد تينك المسألتين فلم أجد، وحقيقة إنهما
لغريبتان بجانب فهمي القصير، ولذلك وجهت بهما إلى بحر علومكم راجيًا أن
تحلوا وِثاقهما، وما ذلك على واسع علومكم بعظيم.
... ... ... ... ... ... ... إبراهيم بستاري سراج الجاوي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... تحريرًا في21 شعبان 1332
علم الله تعالى بصفاته
الجواب عن المسألة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يعلم صفاته بلا شك،
سواء كان مراد العلماء بقولهم: إن صفات الله لا نهاية لها ولا حصر - أنها كذلك
بالنسبة إلى علم الخلق، أو في الواقع ونفس الأمر. ولا إشكال في ذلك فإن الله
تعالى يعلم ما لا نهاية له من الحوادث أيضًا كالحوادث التي تكون في الجنة والنار
وسائر العالم في المستقبل الذي لا نهاية له.
ههنا يحسن التذكير بأمرين هما أهم من تينك المسألتين:
أحدهما: أنه سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله
صلى الله عليه وسلم بصفات من الكمال معروفة، والألفاظ الدالة عليها هي أسماؤه
الحسنى. وحكمته في ذلك أن نعرف بها كماله وعظمته وآثار فضله ورحمته فينا
ونعمه علينا، لنزداد بذكرها إيمانًا وتزكيةً لأنفسنا وحبًا في الكمال وأفعال البر، لا
لأجل أن نعدها عدًّا، ونبحث فيما زاد عنها، ثم نشغل أنفسنا بالفكر والكلام في
إمكان إحصائها أو عدمه، وفي كيفية علمه بها، وإحاطته بعَدِّها، فإن أمثال هذه
المباحث مما لم نُكلَّفه ولا نرى لنا فائدة فيه؛ بل ربما يضر البحث فيها ضعيف
العلم أو الفهم ويحدث له شوكًّا في الدين.
ولهذا قال العلماء في تفسير الإحصاء من حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا
مَن أحصاها دخل الجنة) [2] : أي من أحصاها حفظًا لمعانيها وعلمًا بها وإيمانًا، أو
من استخرجها من كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يزداد
بها إيمانًا ومعرفةً بربه عز وجل ويدعوه بها، أو من أطاق العمل بما تهدي إليه من
الكمال والبر، أو من أَخْطَرَها بباله وتفكر في معانيها عند ذكرها بتلاوة القرآن
والأذكار المأثورة خاشعًا معتبرًا متدبرًا راغبًا راهبًا، هذا مجمل ما قالوه في معنى
الإحصاء ولك أن تقول به كله. ولم يقل أحد يعتد بعمله وفهمه أن المراد عدها
بالأرقام أو إحصاؤها على السِّبح، ولم يثبت برواية صحيحة أنه صلى الله عليه
وسلم عدّها لهم، واستشكلوا روايات عدها من جهة المتن، كما تكلموا فيها من جهة
السند. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ
أن سرد الأسماء مدرج في الحديث وأنهم جمعوها من القرآن. وأجابوا عن ذلك
بما لا حاجة إلى ذكره هنا، وقد ورد في بعض روايات الحديث الضعيفة:
(وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة) رواه الديلمي من حديث علي كرم الله
وجهه، وفي أخرى: (من دعا بها استجاب الله له) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
وليس فيهما ذكر الإحصاء. وعندنا فوق ذلك كله قول الله عز وجل في سورة
الأعراف: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (الأعراف:180) وقوله في سورة الإسراء {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا
تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء:110) فهو تعالى يهدينا إلى أن ندعوه
ونتضرع إليه بهذه الأسماء الحسنى لاشتمالها على أحسن المعاني الدالة على منتهى
الكمال والفضل.
الأمر الثاني: لا ينبغي لأحد أن يجعل ما لا يفهمه من كلام العلماء وما لا
يتضح له أنه صواب - مُشكَلاً مِن مُشكَلاَت الدين؛ بل يحسن أن يعدّه كأن لم يُقَلْ،
ولا سيّما أقوال المتكلمين واصطلاحاتهم التي استنبطتها قرائحهم لتأييد مذاهبهم
والرد على مخالفيهم، فإن فيما قالوه الخطأ والصواب، وما إذا احتيج إليه للرد على
خصم كان في زمنهم لا يحتاج إليه في زمن آخر. وكذلك ما صوروا به عقيدة
الإسلام التي يدافعون عنها، لا ينبغي أن يجعل هو الإسلام الذي يلقنه المسلمون في
كل عصر، ويجعلون حظهم من حماية الدين الدفاع عنه.
مثال ذلك ما كتبه السنوسي رحمه الله تعالى من العقائد ولا سيّما العقيدة
الصغرى التي انتشرت في المشرقين والمغربين، وحذا حذوه فيها معلمو المدارس
الرسمية وغيرها حتى فيما يضعونه من العقائد للمبتدئين. وقاعدتها في الإلهيات أن
الواجب على كل مكلف شرعًا أنه يؤمن بأن يجب لله تعالى عشرون صفة ويستحيل
عليه أضدادها. واصطلاحه في هذه الصفات مخالف لما كان يفهمه السلف وأهل
اللغة من معنى كلمة صفة ومن إطلاقهم الإيمان بصفات الله تعالى. فهو يعد الأمور
الاعتبارية والعدمية صفات، فالوجود والمخالفة للحوادث - أي عدم الاحتياج إلى
المكان والمخصص - صفتان لله تعالى عنده، والقدرة وكونه تعالى قادرًا صفتان
متغايرتان. ولم ينقل مثل هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، دع عدم ذكره في
القرآن أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف نقتصر عليه ونجعله هو
العمدة في تلقين عقيدة الإسلام، ونجعل ما عساه يخالفه ولو في عدد الصفات محلاًّ
للإشكال.
مسألة رضاع الطفل من جدته
وأما الجواب عن المسألة الثانية فهو أننا لم نطلع في الكتاب ولا في السنة،
ولا في كتب الأئمة على كلام يدل بمنطوقه أو مفهومه على أن الطفل إذا رضع من
جدته لأمه رضعة تطلق أمه من أبيه طلقة واحدة وإذا رضع مرتين تطلق طلقتين،
وإذا رضع ثلاثًا تطلّق ثلاثة. وإنما الطلاق كلام يقوله الرجل يدل على حله لعقدة
الزوجية، والله أعلم.
__________
(1) الصواب أن يقول: حرت أو تحيرت فيهما.
(2) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة.(17/737)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمات الاستقلال
والاعتماد على النفس والاجتهاد
(س23) من أحد المشتركين السوريين بمصر:
سيدي الأستاذ الحكيم السيد محمد رشيد رضا دام نفعه.
المعروض بعد التحية أن بعض الأفاضل منتقد استعمال كلمة: (الاعتماد على
النفس) أو (الاستقلال الشخصي) بمعنى اجتهاد الإنسان، ودليله في ذلك عدم
استعمال العرب له، ولما لم يكن يقنع مني بأن ذلك الاستعمال محمول على اجتهاد
المرء الذي هو ضد كسله وخموله فقال بأن المستعملين ذلك لا يعنون منه سوى
اجتهاده في كل حاجياته بحيث لا يعتمد على غيره ألبتة كما هو ظاهر ذلك
الاستعمال. جئتكم بهذه الكلمات راجيًا منكم البيان الوافي المقنع لمثل ذلك المنتقد
في المنار الأغر، ولكم الفضل.
(ج) قال في القاموس المحيط: واستقله: حمله ورفعه وأقله (أي أطاق حمله
وهذا أصل المعنى) والطائر في طيرانه ارتفع. وقال غيره: استقل الطائر: نهض
للطيران وارتفع. وقال الزبيدي فيما استدركه على القاموس في هذه المادة من
شرحه: والاستقلال: الاستبداد، يقال: هو مستقل بنفسه: ضابط لأمره، وهو لا
يستقل بهذا: أي لا يطيقه. اهـ
وأما الاعتماد على الشيء فأصله الاتكاء عليه والتورك عليه. ومنه العماد
والعمود الذي يقام عليه البناء والاعتماد على المرء عبارة عن الاتكال عليه ونوط
الأمور به. ومنه عمدة القوم وعميدهم وعمودهم، وهو سيدهم الذي يعتمدون عليه
في مصالحهم. هذا ما يؤخذ من جميع معاجم اللغة.
وأما الاجتهاد فهو بذل الجهد والمشقة في تحصيل الشيء. سواء استقل
الإنسان بالسعي والعمل أو اعتمد على مساعدة غيره مع بذل جهده.
فإذا تدبرت معاني هذه الألفاظ ترى أن المنتقد مخطئ، وأن استعمال كلمة
الاستقلال فيما نستعملها فيه فصيح ولا تحل محلها كلمة الاجتهاد.
_______________________(17/740)
الكاتب: فؤاد الخطيب
__________
شعر منثور في العربية والعرب
من إنشاء فؤاد الخطيب
أستاذ الآداب العربية في مدرسة غردون الكلية بالخرطوم
لا جرم أن اللغة العربية أجزل اللغات السامية، وأوسعها مجالاً، وأحكمها
استعمالاً، لا يذهب مرّ العشي بسلاستها، ولا يعبث كرّ الغداة بطلاوتها.
ولقد طاحت دول وبادت ملل، فاستسرّت لغاتها، وعفت آياتها؛ وتلك اللغة
تدور مع الأحقاب، في غلائل الآداب، وغلواء الشباب، لا يرهقها هرم، ولا
يُخلقها قِدَم. فكأنها وهي ابنة القرون الخالية والأمم الماضية، نشأت في اليوم
الحاضر أو أمس الدابر، فجاءت دفعة واحدة مستوفيةً أقسام جمالها، وصحة أبنية
أسمائها وأفعالها؛ تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع، في صدور المحافل
وبطون الرقاع، فتنظم فرائها، وتعقل شواردها، فلا تشذ نادرة، ولا تندّ بادرة.
أجل: إن السيف الباتر، والجبروت القاهر، والمكاتب المتماوجة بالزحام،
والمدارس المكتظة بالطلاب، والصحف الذائعة في الآفاق، والوفود الضاربة في
الأصقاع، لم تُحوِّل لغة عن أصلها، ولم تجذب أمة بحبلها. فأين ذلك مما وقع
للعربية، مع تلك الشراذم البدوية؟ فإنها لم تنهب الأرض في قطار، ولم تجزع [1]
الفضاء في منطاد، ولم تمخر البحار بالبخار؛ بل جابت المسارح، ورادت المكامن،
وطافت المجامع؛ فولجت كل مصر، وسكنت كل نفس، وقالت لكل شيء:
حسبك فإنك عربي منذ اليوم.
فسقى الغيث ذلك العهد القديم، ورعى الله ذلك العربيّ الصميم؛ فلقد كان نورًا
في الظلمات، وهدى في الشبهات؛ إذا جال في مضمار الفكر، وراوح بين النظم
والنثر؛ صور على الطرس، حقيقة النفس، فناجتك بأسرارها، وحدثتك بأخبارها؛
فإذا الغيب تكاد تراه عيناك، وإذا الوهم تكاد تلمسه يداك.
فهكذا الأدب، وكذلك العرب: فلقد سبروا غور العلم، ومشوا إلى أعماق
الفهم، فانتزعوا العقول من عقالها، واستلوا الوجود من العدم، واستخرجوا اليقين
من الريب، وتغلغلوا بين الذرة وأجزائها، وتسرّبوا بين العصا ولحائها، فكانوا
وكل سحر غير سحرهم باطل، وكل بلد خيّموا فيه بابل.
اللهم سبحانك! أينطق العربي بالحكمة الناصعة، ويهتف بالقافية الرائعة،
فتكاد لحلاوة أبياتها تقبل أفواه رواتها؛ وهو في ذلك المنقطع من الأرض، يهيم
في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا مشت عيونه ففي صميم القفر، وإذا وقفت به
فعلى أديم الصخر..؟
فلا يزال في الوجود، كالمثل الشرود، تتلقفه الأقطار، وتتخطفه الأسفار،
فمن هضاب يحوم فيها كالعقبان، إلى بطاح يعمل فيها كالسّيدان، ومن مجالدة
زعزع نكباء تنسف التلال، إلى مكابدة هاجرة سجراء تأكل الظلال.
فما ثَم مرتع شائق فيستمد من جماله البيان. وما ثَم مورد رائق فيمتح من
عذبه اللسان، وإنما هي أرجاء عابسة، وبيداء طامسة، تجول فيها الأفكار فتكل،
وتدور فيها الأبصار فتضل.
فسلام على تلك الجزيرة الجرداء، ومرحى لتلك المجاهل الخلاء، فوالله ما
تعوزها الرياض مبثوثة الزرابي والأنماط، ولا الحقول مبسوطة البرود والرياض،
ولا النمير يترقرق، على حصباء تتألق، فقد نبتت فيها حسنات الزمان، وتفجرت
منها ينابيع العرفان، فغنيت بنضرة الآداب، عن بهجة الأعشاب، وبكمال السكان
عن جمال المكان؛ بل كانت مسبح الروح الأمين، وموئل الدنيا والدين، فتبارك
الله أحسن الخالقين.
فأي نياط لا يتقطع، وأي مهجة لا تتصدع؟ وقد أودى أولئك الكرام،
وتنكرت تلك الأيام، حتى تبازى الرُّهام، واستنسر الحمام، ولم يبق غير أمة
مكسال، لا تتحرك إلا بزلزال، ولا تقطع من أشواط الدهر، إلا مسافة العمر من
القبر.
فأين بنو قحطان وفتيان عدنان؟ فيهبوا بالنفوس من غمرتها، وينهضوا
باللغة من كبوتها، فتلك مفاخر بلادهم، ومآثر أجدادهم، ملء الأمجاد والأغوار،
وطلاع الدفاتر والأسفار، وإنها لتطوي بالمرء مراحل العصور والأجيال، وتطل
به على عالم الحقائق من ملكوت الخيال.
أما والله لولا تنطس بعض المتزمتين [2] وسدهم على اللغة أبواب التعريب
والاشتقاق، فحجروها في الحواشي، وأقبعوها في المتون - لما ازورّ الطلاب عنها،
وامتلأوا نفورًا منها، وكان العلم كل العلم أن يمضغ المرء كلام غيره، ويلوك
أقوال سواه، فيتشدق بالمذاهب العقيمة، ويتبجح بالأمثال السقيمة، وإن قعد به
العجز عن إنشاء فقرة، وتصوير فكرة، ولم يغن عنه سواد الحدود والمصطلحات،
وما افْتَنَّ فيه من الشواهد والنكات.
ولا بِدع فإن الأصول وسيلة والإنشاء غاية، ولشد ما بينهما من شاسع الفرق
وواسع البون. وكم بين الماء والسراب، والقشور واللباب!
وأما من رزق قريحة وقادة، وبصيرة نقادة، وإحاطة بما لا مندوحة عنه من
قواعد اللغة وأصول العربية، ثم راض نفسه على مزاولة أساليب العرب ومناحيهم،
وتوفر على مطالعة تراكيبهم ومراميهم، فقد اكتسب من ملكتهم ما أخرجه إلى
لهجتهم فبات وما يعترضه عيّ ولا ترتهنه لكنة، ولا تتحيف بيانه عجمة.
وهل البلاغة - لعمري - إلا بصقال الديباجة، ومتانة الأسلوب، وحلاوة
الأداء، لتكون المعاني أعلق بالخاطر، وأسرى في السمع، وأفعل في النفس؟
أرأيتك - وقد تثقفت الألفاظ المتخيرة، وعرفت أين تضع يدك في سبكها وتأليفها -
كيف تهز القلوب وتخلب الألباب، وتملك قياد الأهواء؟
ولله در أبي هلال العسكري إذ قال في الصناعتين: (إن مدار البلاغة على
تحسين اللفظ. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا) . وقال ابن الأثير:
إن اللفظة الواحدة تنتقل من هيئة إلى أخرى فتحسن أو تقبح.
هذه لفظة الأرض فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر
عن السماء كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} (نوح: 17) أو
قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ
بِإِذْنِهِ} (الحج: 65) أو مجموعة كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ} (إبراهيم: 32) ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسنًا لكان هذا
الموضع أو شبهه أليق به. ولمّا أراد أن يأتي بها مجموعة قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وكذلك قول أفصح الخلق لبعض
النساء: (ارجعن مأزورات غير مأجورات) . وحسبك أن المعاني المنقولة من لغة
إلى أخرى تفقد ماءها، وتفارق صفاءها، وما ذلك إلا لأنها انسلخت من برودها
المعلمة، وانخلعت من قوالبها المحكمة. فكانت شبحًا ناحلاً، وخيالاً ماثلاً.
وليت شعري ماذا يضر المعاني إذا أجيدت لها المباني، فكانت شرعًا في
المتانة، وسواء في الصياغة؟ ولا سيّما وقد جاشت غوارب العجمة، وفشت لوثة
اللحن، ومست الحاجة إلى شد أواصر اللغة، وتقويم منآد اللسان.
ألا وإنه لمن البرّ بالأدب، والغيرة الصادقة على العرب؛ أن ينسج المتأدب
على منوال الفصحاء، ويطبع على غِرار البلغاء، فذلك تاريخ آبائنا يصيح بنا
من ورائنا، وكله دموع تترى، لا ألفاظ تتلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) والله الموفق إلى الصواب.
__________
(1) لعل أصلها: تزعج.
(2) المتزمّت: من يظهر بمظهر الزِّميت وهو الكثير السكون والسكوت وقارًا ورزانة، والتنطس: التأنق والتدقيق والاستقصاء في الأشياء. يريد مبالغة بعض أهل العلم في المحافظة على القديم من استعمال اللغة.(17/741)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعريف بكتاب الاعتصام
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 101) .
{وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران:
101) .
العلماء المستقلون في هذه الأمة ثُلة من الأولين، وقليل من الآخرين، والإمام
الشاطبي من هؤلاء القليل، وما رأينا من آثاره إلا القليل، رأينا كتاب (الموافقات)
من قبل، ورأينا كتاب (الاعتصام) اليوم، فأنشدنا قول الشاعر:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
ادخل دار الكتب الخديوية وارم ببصرك إلى الألوف من المصنفات في
خزائنها، تر أن كثرتها قلة، وكثيرها قليل؛ لأن القليل منها هو الذي تجد فيه علمًا
صحيحًا لا تجده في غيره؛ لأنه مما فتح الله به على صاحبه دون غيره. وقد كان
كتاب (الاعتصام) من هذا القليل، فأحسنت نظارة المعارف إلى الأمة الإسلامية
كلها بإجابة مجلس إدارة دار الكتب الخديوية إلى طبعه.
اتفق علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة على أن العرب
ما نهضوا نهضتهم الأخيرة بالمدنية والعمران إلا بتأثير الإسلام في جمع كلمتهم،
وإصلاح شؤونهم النفسية والعلمية، ولكن اضطرب كثير من الناس في سبب ضعف
المسلمين بعد قوتهم، وذهاب ملكهم وحضارتهم، فنسب بعضهم كل ذلك إلى دينهم،
ومَن يتكلم في ذلك على بصيرة يثبت أن الدين الذي كان سبب الصلاح والإصلاح،
لا يمكن أن يكون سبب الفساد والاختلال؛ لأن العلة الواحدة لا يصدر عنها
معلولات متناقضة، فإذا كان لدين المسلمين تأثير في سوء حال خلفهم، فلا بد أن
يكون ذلك من جهة غير الجهة التي صلحت بها حال سلفهم، وما هي إلا البدع
والمحدثات التي فرقت جماعتهم، وزحزحتهم عن الصراط المستقيم.
من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع مما ينفع المسلمين في أمر
دينهم وأمر دنياهم، ويكون أعظم عون لدعاة الإصلاح الإسلامي على سعيهم. وقد
كتب كثير من العلماء في البدع، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير. والرد
على المبتدعين. ولكن الفرق التي يرد بعضها على بعض، يدعي كل منها أنه هو
المحق، وأن غيره هو الضال والمبتدع، إما بالإحداث في الدين، وإما بجهل
مقاصده، والجمود على ظواهره، وما أرينا أحدًا منهم هدي إلى ما هدي إليه (أبو
إسحاق الشاطبي) من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع، وتقسيمه إلى
أبواب يدخل في كل واحد منها فصول كثيرة.
لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ
نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف
بهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات - الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضًا - من
أعظم المجددين في الإسلام. فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون،
كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة - كما كان يجب - بعلمه.
كتاب الموافقات لا ند له في بابه (أصول الفقه وحِكَم الشريعة وأسرارها)
وكتاب الاعتصام لا ند له في بابه، فهو ممتع مشبع، ولم يتمه المصنف رحمه الله
تعالى. وقد صدَّره بمقدمة في غربة الإسلام وحديث (بدأ الإسلام غريبًا) المنبئ
بذلك. ثم جعل مباحث ما كتبه في عشرة أبواب.
(الباب الأول) : في تعريف البدع ومعناها (الثاني) في ذم البدع وسوء
منقلب أهلها (الثالث) في أن ذم البدع والمحدثات عام، وفيه الكلام على شبه
المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة (الرابع) في مأخذ أهل البدع في
الاستدلال (الخامس) في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما (السادس)
في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة (السابع) في الابتداع: يختص
بالعبادات، أم تدخل فيها العادات؟ (الثامن) في الفرق بين البدع والمصالح
المرسلة والاستحسان، (التاسع) في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن
جماعة المسلمين (العاشر) في الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة.
وفي هذه الأبواب مباحث تشتبه فيها المسائل، وتتعارض الدلائل، وتنتفج
الشبهات، وتتراءى في معارض البينات، حتى يعز تحرير القول فيها، والفصل
بين قوادمها وخوافيها، إلا على مَن كان مثل المصنف في نور بصيرته، وغزارة
مادته، وقوة عارضته، وفصاحة عبارته.
ومِن أغمض هذه المسائل ما كان سنة أو مستحبًّا في نفسه وبدعة لوصف
وهيئة عرضت له، كالتزام المصلين المكث بعد الصلاة لأذكار وأدعية مأثورة
يؤدونها بالاجتماع والاشتراك، حتى صارت شعارًا من شعائر الدين، ينكر الناس
على تاركيها دون فاعليها، وقد أطال المصنف في إثبات كونها بدعة وأورد جميع
الشبه التي دعمت بها، وكر عليها بالنقض فهدمها كلها.
وما لي لا أذكر لعلماء الشرع الأعلام، ولأهل السياسة من علماء الحقوق
والأمراء والحكام، أهم ما شرحه لهم هذا الكتاب من أصول الإسلام، وهو بحث
المصالح المرسلة والاستحسان، من أصول مذهبي مالك وأبي حنيفة النعمان،
وبهما يظهر اتساع الشرع لمصالح الناس في كل زمان ومكان؟
بين المصنف وجه اشتباه ما سموه البدع المستحسنة، بالاستحسان الفقهي
والمصالح المرسلة، ثُم كَشَفَ كل شبهة. وأزال كل غمّة. فبين أن البدع ليست من
هذين الأصلين في وِرد ولا صَدْر، ولا تتفق معهما في علة ولا غرض، فإن
البدعة كيفما كانت صفتها استدراك على الشرع وافتيات عليه، وأما مسائل
المصالح المرسلة والاستحسان فهي موافقة لحكمته، وجارية على غير المعين من
عموم بيناته وأدلته. وقد أورد المصنف ما قيل في تعريف ذينك الأصلين ووضح
ذلك بالشواهد والأمثلة، فلو أنك قرأت جميع ما تتداوله المدارس الإسلامية من كتب
أصول الفقه وفروعه، لانثنيت وأنت لا تعرف حقيقة المصالح المرسلة
والاستحسان، كما تعرفها من هذا البحث الذي أوردها المصنف فيه تابعة لبيان
حقيقة البدعة لا مقصودة بالذات.
مَن أراد أن يعرف فضل الإسلام وسماحته، وسهولته ومرونته، فليأخذه من
ينبوعه، وليستعن على فهمه بهؤلاء الحكماء الذين يشددون في إنكار البدع،
ويدعون المسلمين إلى السنة التي كان عليها السلف، ويرون ضلال من يزيد في
العبادات عليهم، أشد وأضر من ضلال من ينقص في غير أصول الفرائض عنهم،
ويوسعون على الناس في أمور العادات، بناء على أصل الإباحة في الأشياء، وإن
ظن كثير من الجاهلين، أن هذا هو عين الجمود في الدين، وجعله دينًا خاصًّا بأهل
البداوة، لا يطيق احتماله أهل المدنية والحضارة، والأمر بالضد، ولله الأمر من
قبل ومن بعد.
كان هذا الكتاب كنزًا مخفيًّا لا توجد منه في هذه الأقطار إلا نسخة بخط
مغربي في كتب الشيخ محمد محمود الشنقيطي المحفوظة في دار الكتب الخديوية،
فاستخرجه مجلس إدارتها في العام الماضي واقترح طبعه، فوافق ذلك رغبة
صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف لذلك العهد، وعهد إليّ بطبعه
بشروط بيّنها في الكتاب الذي كتبه إليّ بذلك، وأرسلت إلي دار الكتب الجزء
الأول منه منسوخًا نسخًا جديدًا على أوراق متفرّقة لتجمع حروف الطبع عنها.
فتصفحت بعضها فألفيت فيها غلطًا وتحريفًا كثيرًا حتى في الأحاديث، فكتبت في
حاشية ما جمعت حروفه منها ليكون نموذجًا للطبع تصحيحًا لما ظهر لي غلطه،
وتخريجًا لحديث: (بدأ الإسلام غريباً) الذي بنى عليه المصنف مقدمة الكتاب
وجعله الأصل في وجه الحاجة إليه. وفسرت فيها بعض الكلم الغامض وأطلعتُ
على ذلك صديقي الأستاذ الفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل دار الكتب الخديوية
الذي يُرجَع إليه في تصحيح الكتب التي تطبع على نفقتها، وقلت له: يعز علي أن
يطبع هذا الكتاب النفيس من غير أن يصحح أصله ويعلق عليه شيء. وأنا أتبرع
بما أراه ضروريًّا من ذلك، ومطبعتي تتبرع بتصحيح الطبع أيضًا. ولو كنت في
سعة من وقتي لخرجت أحاديثه كلها، وبذلت العناية بمراجعة كل نُقُولِه من مظانها،
وبغير ذلك من تصحيحه. فقال: نحن نرى من التوفيق أن يطبع هذا الكتاب تحت
نظرك وإشرافك، ونرى أنك أجدر وأحق بتصحيحه …
ما تيسر لي قراءة شيء من الكتاب في وقت فراغ؛ بل كانت المطبعة
تعرض علي الأوراق عند إرادة الاشتغال بطبعها، فكنت أرى الغلط فيه أنواعًا:
(أحدها) : ما أقطع بأن صوابه كذا كتحريف بعض الآيات، أو الأحاديث
المعزوة إلى مخرجيها، وتحريف أو تصحيف بعض الكلم، فأنا أصحح هذا ولا
أذكر في الحاشية ما كان في الأصل إلا قليلاً.
(ثانيها) : ما أظن أن صوابه كذا، وهو ما أكتب في الحاشية (لعل أصله
كذا) أو ما يفيد هذا المعنى.
(ثالثها) : ما أشتبه في أصله: ما هو. فمنه ما أفهم المراد منه بالقرينة،
فإما أن أشير إليه في الحاشية، وإما أن أتركه للقارئ. ويقل فيما تركته التحريف
الذي لا يفهم المراد منه مطلقًا، أو إلا بعد تأمل طويل.
وقد يرى القارئ في بعض المواضع منه كلمات بين هذه العلامات () التي
يعبرون عنها بالأَهِلَّةِ أو الأقواس أو بدونها، وقد تكون من حرف صغير، ويرى
أن المعنى لا يلتئم إلا بها، ويجزم بأنها من الأصل، وإنما ميزناها بما ذكر
ليعلم أنها من المصحح، ويرى في بعض المواضع علامة الاستفهام بين قوسين
هكذا (؟) ويشار بها إلى خفاء في تلك المواضع أو غلط لم نهتد إلى أصله. ولكن
لم نلتزم ذلك في كل مواضع الغلط المبهم.
وقد تركت تصحيح بعض الأحاديث والآثار التي أحفظها من كتب الصحاح
والسنن على غير ما وردت عليه في الكتاب، لئلا يكون بعض المحدثين الذين لم
نطلع على كتبهم رواها بسياق المصنف. وكتبت بإزاء بعض ذلك علامة المراجعة
على أوراق الطبع، مريدًا بذلك أن تعيده المطبعة إليّ للتأمل فيه أو مراجعته في
مظانه. وعلمت بعد ذلك أن المطبعة كانت تراجع في بعض ذلك نسخة الكتاب
المغربية فإذا رأت المعد للطبع موافقًا لها طبعته ولم تعده إلي، فيفوتني ما أريد من
تصحيحه.
وجملة القول أنني على ما أقاسي من العناء في تصحيح الكتاب لا أدعي أنه
قد تيسر لي تصحيحه كما أحب. وإنما أقول: إنه صُحح تصحيحًا يمكن القارئ من
فَهمه، فلا يكاد يخفى عليه منه إلا النادر من المفردات أو الجمل التي لا يخل
خفاؤها بفهم المسألة التي عرضت له فيها. فهذا هو الطريق الذي سلكته في
تصحيحه، بينته قبل الإتمام، وعسى الله أن يوفقني بالخير إلى زيادة العناية وحسن
الختام، وكتبه في 15 شوال سنة 1332.
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا ...
... ... ... ... منشئ المنار وناظر مدرسة دار الدعوة والإرشاد
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(17/745)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة الإمام الشاطبي
من كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج
ديباج ابن فرحون باختصار
هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير
بالشاطبي الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًّا
مفسرًا، فقيهًا محدثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظّارًا ثبتًا، ورعًا صالحًا، زاهدًا سُنيًّا، إمامًا
مطلقًا، بحّاثًا مدقِّقًا، جدليًّا بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات،
وأكابر الأئمة المتقنين الثقات، له القَدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون - فقهًا
وأصولاً، وتفسيرًا وحديثًا، وعربيةً وغيرها - مع التحري والتحقيق، له
استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة
محققة، كان على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على
اتباع السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبت تام، منحرفًا عن كل
ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في
مسائل.
وله تآليف جليلة، مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة.
قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقه: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه، الإمام المحقق
العلامة الصالح، أبو إسحاق. انتهى. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام،
وإنما يعرف الفضل لأهله أهله.
أخذ العربية وغيرها عن أئمة، منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ما لا مطمع
فيه لسواه، بحثًا، وحفظًا، وتوجيهًا، ابن الفخار الألبيري، لازمه إلى أن مات،
والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية، أبو القاسم السبتي، شارح مقصورة حازم،
والإمام المحقق أعلم أهل وقته، الشريف أبو عبد الله التلمساني، والإمام علامة
وقته بإجماع، أبو عبد الله المقري، وقطب الدائرة شيخ الجلة، الأمير الشهير، أبو
سعيد ابن لب، والإمام الجليل، الرحلة الخطيب، ابن مرزوق الجد، والعلامة
المحقق المدرس الأصولي، أبو علي منصور بن محمد الزواوي، والعلامة المفسر
المؤلف أبو عبد الله البلنسي، والحاج العلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري.
وممن اجتمع معه واستفاد منه العالم الحافظ الفقيه أبو عباس القباب، والمفتي المحدث
أبو عبد الله الحفار، وغيرهم.
اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في
التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم،
كالقباب وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله
ابن عباد.
وجرى له معهم أبحاث ومراجعات، أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته
وإمامته؛ منها مسألة مراعاة الخلاف في المذهب [1] له فيها بحث عظيم مع
الإمامين القباب وابن عرفة. وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره. وبالجملة
فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر.
ألّف تواليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات
الفوائد. منها شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار، لم
يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم. وكتاب (الموافقات) في أصول الفقه
سمّاه: (عنوان التعريف بأصول التكليف) كتاب جليل القدر جدًّا لا نظير له،
يدل على إمامته، وبعد شأوِهِ في العلوم، سيّما علم الأصول. قال الإمام الحفيد بن
مرزوق: كتاب الموافقات المذكور، من أنبل الكتب، وهو في سفرين. وتأليف
كبير نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة، سمّاه (الاعتصام)
وكتاب (المجالس) شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. فيه من الفوائد
والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله. وكتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين فيه
طرف وتحف وملح أدبيات وإنشادات. وله أيضًا كتاب: (عنوان الإنفاق في
علم الاشتقاق) وكتاب (أصول النحو) وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية.
ورأيت في موضع آخر أنه أُتلِف الأول في حياته، وأن الثاني أُتلِف أيضًا. وله
غيرها. وفتاوى كثيرة.
ومن شعره لما ابتلي بالبدع:
بليت يا قوم والبلوى منوعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني
دفع المضرة لا جلبًا لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني
أنشدهما تلميذه الإمام أبو يحيى بن عاصم له مشافهة.
أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين أبى يحيى بن عاصم الشهير
وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم. والشيخ أبي عبد الله البياني، وغيرهم ,
وتوفي يوم الثلاثاء ثامن شعبان سنة تسعين وسبعمائة ولم أقف على مولده رحمه
الله.
(فائدة) : وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على
الناس، عند ضعفهم وحاجتهم، لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما
وقع للشيخ المالقي في كتاب الورع. قال: توظيف الخراج على المسلمين من
المصالح المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس
في زماننا الآن. لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه
الناس، وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما
النظر في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام، ثم قال أثناء كلامه:
ولعلك تقول كما قال القائل لمن أجاز شرب العصير بعد كثرة طبخه وصار ربا:
أحللتها والله يا عمر. يعني هذا القائل أحللت الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ.
حتى تحل الخمر بمقالك، فإني أقول - كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحل
شيئًا حرمه الله، ولا أحرم شيئًا أحله، وإن الحق أحق أن يتبع {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) .
وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفًا على أهل
الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفُتْيَا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد بن لب،
فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه. مستندًا فيه إلى
المصلحة المرسلة. معتمدًا في ذلك إلى قيام المصلحة، التي إن لم يقم بها الناس
فيعطونها من عندهم ضاعت. وقد تكلم على المسألة الإمام الغزالي في كتابه
فاستوفى. ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور، لا
نطيل به.
وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين. ولا يرى لأحد أن ينظر في هذه
الكتب المتأخرة، كما قرره في مقدمة كتابه الموافقات. وترد عليه الكتب في ذلك
من بعض أصحابه. فيوقع له: وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف
المتأخرة. فليس ذلك مني محض رأي ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في
كتب المتقدمين مع المتأخرين كابن بشير وابن شاس. وابن الحاجب. ومن بعدهم.
ولأن بعض مَن لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين.
وأتى بعبارة خشنة ولكنها محض النصيحة. والتساهل في النقل عن كل كتاب جاء
لا يحتمله دين الله، ومثله ما إذا عمل الناس بقول ضعيف. ونقل عن بعض
الأصحاب: لا تجوز مخالفته. وذلك مشعر بالتساهل جدًّا. ونص ذلك القول لا
يوجد لأحد من العلماء فيما أعلم.
والعبارة الخشنة التي أشار إليها كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القباب أنه
كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه، وكان يقول: شأني عدم
الاعتماد على التقاييد المتأخرة، إما للجهل بمؤلفيها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا. فلذلك لا
أعرف كثيرًا منها ولا اقتنيته. وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير. ولنقتصر على
هذا القدر من بعض فوائده.
__________
(1) أشار إلى هذه المسألة في المقدمة الثالثة عشرة من كتاب الموافقات.(17/750)
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
__________
دخول الابتداع في العاديات [*]
وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر، فخرج أبو داود وأحمد
وغيرهما عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)
زاد ابن ماجه: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم
الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) وخرجه البخاري عن أبي عامر
وأبى مالك الأشعري قال فيه: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز [1]
والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحة
لهم. يأتيهم رجل لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ
آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) وفي سنن أبي داود: (ليكونن من أمتي
أقوام يستحلون الخز والحرير، وقال في آخره: يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير
إلى يوم القيامة) .
والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير
وغيره. وقوله في الحديث: (لينزلن أقوام) يعني - والله أعلم - من هؤلاء
المستحلين، والمعنى أن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم - وهو
الجبل - فيواعدهم إلى الغد، فيبيتهم الله - وهو أخذ العذاب ليلاً - ويمسخ منهم
آخرين، كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل: يخسف الله بهم الأرض
ويمسخ منهم قردة وخنازير. وكأن الخسف هاهنا هو التبييت المذكور في الآخر.
وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث
زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو
غيره، وإنما الخمر عصير العنب النيء، وهذا رأي طائفة من الكوفيين، وقد ثبت
أن كل مسكر خمر.
قال بعضهم: وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من
انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته. قال: وهذه بعينها
شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحذ بما أوقعوها به يوم السبت في
الشِبَاك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا: ليس هذا بصيد، ولا عمل يوم
السبت، وليس هذا باستباحة الشح [2] .
بل الذي يستحل الخمر زاعمًا (أنه ليس خمرًا مع علمه بأن معناه معنى
الخمر ومقصوده مقصود الخمر، أفسد تأويلاً، من جهة أن أهل الكوفة من أكثر
الناس قياسًا، فلئن كان من القياس ما هو حق، فإن قياس الخمر المنبوذة على
الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل، وهو من القياس الجلي؛ إذ ليس
بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم.
فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالاً لها لما
ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير
عصير العنب النيئ، فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح
الحرير (للنساء) مطلقًا وللرجال في بعض الأحوال فكذلك الغناء والدف قد
أبيح في العرس ونحوه، وأبيح منه الحداء وغيره، وليس في هذا النوع من دلائل
التحريم ما في الخمر؛ فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون، إنما فعل ذلك بهم من
جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن
مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء.
وقد خرَّج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي
على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع) قال بعضهم: يعني العينة. وروي
في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض
يستحل فيه الحِر والخز) يريد استحلال الفروج الحرام، والحِر (بكسر الحاء المهملة
والراء المخففة) الفرج، قالوا: ويشبه - والله أعلم - أن يراد بذلك ظهور استحلال
نكاح المحلل ونحو ذلك بما يوجب استحلال الفروج المحرمة؛ فإن الأمة لم يستحل
أحد منها الزنا الصريح، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل، فإن هذا لم يزل معمولاً
في الناس؛ ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً،
والواقع كذلك؛ فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في
أواخر عصر التابعين، في تلك الأزمان صار في أولي الأمر مَن يفتي بنكاح المحلل
ونحوه، ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلاً.
ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - المشهور أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل له.
وروى أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله) فهذا يشعر
بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا قال: (يأتي على
الناس زمان يُستحل فيه خمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها،
والسحت بالهدية، والقتل بالريبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع) ، فإن الزيادة
المذكورة أولاً قد سنت، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم
الهدية فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة
وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضًا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة.
قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال: (إن
من ضئ ضئ هذا قومًا يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام،
ويَدَعون أهل الأوثان، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ولعل
هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
(يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا) الحديث، يدل عليه تفسير الحسن قال: يصبح
محرّمًا لدم أخيه وعرضه ويمسي مستحلاًّ ... إلى آخره.
وقد وَضع القتل شرعًا معمولاً به على غير سُنة الله وسُنة رسوله المتسمى
بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث، فجعل القتل عقابًا في
ثمانية عشر صنفًا ذكروا منها: الكذب، والمُداهنة، وأخذهم أيضًا بالقتل في ترك
امتثال أمر من يستمع أمره، وبايعوه على ذلك؛ وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم،
ومَن لم يحضر أُدّب، فإن تمادى قتل، وكل من لم يتأدب بما أُدّب به ضرب
بالسوط المرة والمرتين، فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل، ومن
داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل. وكل من شك في عصمته
قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به، وكل من خالف أمره أمر أصحابه فعزروه،
فكان أكثر تأديبه القتل - كما ترى - كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو
خطيب يأخذ أجرًا على الإمامة أو الخطابة، وكذلك لبس الثياب الرفيعة - وإن كانت
حلالاً - فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات
بذلك السبب. فقُدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع - زعموا -[3] فترك
الصلاة خلفه.
وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية. قال العلماء: وهو بدعة
ظهرت في الشريعة بعد المائتين. ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل
كالتمادي على الباطل كله.
وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام، وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم:
(بُدئ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ، فطوبى للغرباء) وقال في الكتاب
المذكور: جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد؛ وإن به
قامت السموات والأرض، وبه تقوم، ولا ضد له ولا مثل ولا ند، انتهى. وكذب
فالمهدي عيسى عليه السلام.
وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح، وبعد المغرب، فأمر المؤذنين
إذا طلع الفجر أن ينادوا: (أصبح ولله الحمد) إشعارًا - زعموا - بأن الفجر قد
طلع لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة، وللغد، ولكل ما يؤمرون به.
وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا، وجميع ذلك إلى [4] إنه قائل برأيه
في العبادات والعادات، مع زعمه أنه غير قائل بالرأي. وهو التناقض بعينه، فقد
ظهر إذًا جريان تلك الأشياء على الابتداع.
وأما كون الزكاة مغرمًا، فالمغرم (ما) يلزم أداؤه من الديون، والغرامات
كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته
أو قصوره علن النصاب أو عدم قصوره؛ بل يأخذونهم بها على كل حال إلى
الموت، وكون هذا بدعة ظاهر.
وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشئ عن بدعة الجدال في الدين، فإن من
عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه وإسماعه أن يكون في المساجد، ومن آدابه أن لا
ترفع فيه الأصوات في غير المساجد، فما ظنك به في المساجد؟ فالجدال فيه زيادة
الهوى، فإنه غير مشروع في الأصل، فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك
المراء والجدال في الدين، وهو الكلام فيما لم يأذن في الكلام فيه، كالكلام في
المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما، وكمتشابهات القرآن؛ ولأجل ذلك جاء
في الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} (آل
عمران: 7) .... الآية، قال (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله
فاحذورهم) وفي الحديث: (ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل) وجاء عنه
عليه السلام أنه قال: (لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر) وعنه عليه
السلام أنه قال: (إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما
علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه) وقال عليه السلام (اقرؤا
القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه) وخرج ابن وهب عن
معاوية بن قرة قال: إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال. وقال
النخعي في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (المائدة: 64) قال:
الجدال والخصومات في الدين.
وقال معن بن عيسى: انصرف مالك يومًا إلى المسجد وهو متكئ على يدي،
فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني
شيئًا أكلمك به وأحاجّك وأخبرك برأيي. فقال له: احذر أن أشهد عليك. قال:
والله ما أريد إلا الحق. اسمع مني، فإن كان صوابًا فقل به أو فتكلم؛ قال: فإن
غلبتني؟ قال: اتبعني. قال: فإن غلبتك؟ قال اتبعتك؛ قال: فإن جاء رجل
فكلمناه فغلبنا؟ قال: اتبعناه. فقال له مالك: يا عبد الله! بعث الله محمدًا بدين
واحد وأراك تنتقل. وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضًا للخصومات
أكثر التنقل. وقال مالك: ليس الجدال في الدين بشيء.
والكلام في ذم الجدال كثير. فإذا كان مذمومًا فمن جعله محمودًا وعدّه من
العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين. ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم
يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة، وذلك مظنة رفع الأصوات.
فإن قيل: عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك؛
فرفع الأصوات قد يكون في العلم، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد، وإن
كان في العلم أو في غير العلم. قال ابن القاسم في المبسوط: رأيت مالكًا يعيب
على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد. وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين:
إحداهما: أنه يجب أن ينزه المسجد عن مثل هذا؛ لأنه مما أمر بتعظيمه
وتوقيره.
والثانية: أنه مبني للصلاة، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار، فلأن
يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى.
وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة بين ناحية المسجد
تسمى البطحاء [5] وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوته
فليخرج إلى هذه الرحبة. فإذا كان كذلك، فمِن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد
على الجدل المنهي عنه؟
فالجواب من وجهين:
(أحدهما) : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم، أعني في أكثر
الأمر دون الفلتات؛ لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشئ عن الهوى
في الشيء المتكلم فيه، وأقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت الكلام فيما
لم يؤذن فيه، وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم. وأيضًا لم يكثر الكلام
جدًّا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام، وإلى غرضه
تصوبت سهام النقد والذم، فهو إذًا هو. وقد روي عن عميرة ابن أبي ناجية
المصري أنه رأى قومًا يتعارّون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال: هؤلاء قوم قد
ملوا العبادة، وأقبلوا على الكلام، اللهم أمت عميرة، فمات من عامه ذلك في الحج؛
فرأى رجل في النوم قائلاً يقول: مات في هذه الليلة نصف الناس، فعرفت تلك
الليلة، فجاء موت عميرة هذا.
(والثاني) : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان
أيضًا من البدع إذا عد كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولاً به
لا يفي [6] ولا يكف عنه مجرى البدع المحدثات [7] .
وأما تقديم الأحداث على غيرهم؛ من [8] قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة
العلم، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره؛ لأن الحدث أبدًا أو في غالب الأمر
غِرٌّ لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ الشيوخ الراسخين
الأقدام في تلك الصناعة، ولذلك قالوا في المثل:
وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قرن ... لم يستطع صولة البُزْل القناعيس
هذا إن حملنا الحدث على حداثة السن، وهو نص في حديث ابن مسعود
رضي الله عنه، فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة، ويحتمله قوله: (وكان
زعيم القوم أرذلهم) وقوله: (وساد القبيلة فاسقهم) وقوله: (إذا أسند الأمر
إلى غير أهله) فالمعنى فيها واحد. فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم
العهد فيه. ولذلك يحكى عن الشيخ أبى مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى
شيوخ الصوفية عنهم؛ فقال: الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد، وإن كان ابن
ثمانين سنة.
فإذًا تقديم الأحداث على غيرهم، من باب تقديم الجهّال على غيرهم. ولذلك
قال فيهم: (سفهاء الأحلام، وقال: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) إلى آخره،
وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج (إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون
القرآن لا يجاوز حناجرهم) إلى آخر الحديث. يعني أنهم لم يتفقهوا فيه، فهو في
ألسنتهم لا في قلوبهم.
وأما لعن آخر هذه الأمة أولها؛ فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق
الضالة؛ فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضي الله عنهم حين لم يصرفوا
الخلافة إلى علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرت عليًّا
رضي الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها.
وأما ما دون ذلك مما يوقف فيه عند السبب، فمنقول موجود في الكتب، وإنما
فعلوا ذلك لمذاهب سوء لهم رأوها فبنوا عليها ما يضاهيها من السوء والفحشاء،
فلذلك عُدُّوا من فرق أهل البدع.
قال مصعب الزبيري وابن نافع: دخل هارون - يعني الرشيد - المسجد
فركع، ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، ثم أتى مجلس مالك فقال:
السلام عليك ورحمة الله وبركاته. ثم قال لمالك: هل لمن سب أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حق؟ قال: لا كرامة ولا مسرة. قال: من أين
قلت ذلك؟ قال: قال الله عز وجل: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ} (الفتح: 29) فمن عابهم فهو كافر، ولا حق لكافر في الفيء.
واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر: 8) ... إلى آخر الآيات الثلاث، قال: فهم
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه وأنصاره، {وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر:
10) فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه. وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى
كثير.
وأما بعث الدجالين؛ فقد كان جملة، منهم من تقدم في زمان بني العباس
وغيرهم. ومنهم معدّ [9] من العبيدية الذين ملكوا إفريقية؛ فقد حكي عنه أنه جعل
المؤذن يقول: أشهد أن معدًّا رسول الله. عوضًا من كلمة الحق: (أشهد أن
محمدًا رسول الله) فهمّ المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره،
فلما انتهى كلامهم إليه، قال: اردد عليهم أذانهم، لعنهم الله.
ومن يدّعي لنفسه العصمة: فهو شبه من يدعي النبوة. ومن يزعم أنه به
قامت السموات والأرض فقد جاوز دعوى النبوة، وهو المغربي المتسمي بالمهدي.
وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة واستظهر
عليها بأمور موهمة للكرامات، والإخبار بالمغيبات، ومخيلة الخوارق للعادات،
تبعه على ذلك من العوام جملة؛ ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا
البأس - وهو ما لقة - آخذًا ينظر في قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:
40) وهل يمكن تأويله؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات، ليسوغ إمكان بعث نبي
بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبى
جعفر بن الزبير رحمه الله.
ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال: حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب،
قال: لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر
بتلاوة سورة يس، فقال له أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما: اقرأ قرآنك، لأي
شيء تتفضل على قرآننا اليوم؟ أو في معنى هذا، فتركها مثلاً بلوذعيته.
وأما مفارقة الجماعة، فبدعتها ظاهرة؛ ولذلك يُجازى [10] بالميتة الجاهلية.
وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم.
فهذا أيضًا من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث. وباقي الخصال المذكورة
عائد إلى نحو آخر ككثرة النساء وقلة الرجال، وتطاول الناس في البنيان،
وتقارب الزمان.
فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أنها
تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع لكن من جهة التعبد لا من
جهة كونها عادية وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة، والمعصية التي هي
ليست ببدعة. وأن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها
أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة. وحصل بذلك اتفاق القولين، وصار
المذهبان مذهبًا واحدًا، وبالله التوفيق.
***
فصل
فإن قيل: أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في
العاديات من حيث (هو) توقيت معلوم معقول؛ فإيجابه أو إجازته بالرأي - كما
تقدم - من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عن الجادة -
فظاهر [11] ومن ذلك القول بالتحسين والتقبيح العقلي، والقول بترك العمل بخبر
الواحد، وما أشبه ذلك، فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه.
وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به، وهو أن المعاصي والمنكرات
والمكروهات قد تظهر وتفشو ويجري العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها
إنكار من خاص ولا عام، فما كان منها هذا شأنه: هل يعد مثله بدعة أم لا؟
فالجواب: إن مثل هذه المسألة لها نظران:
(أحدهما) : نظر من حيث وقوعها عملاً واعتقادًا في الأصل، فلا شك أنها
مخالفة لا بدعة، إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها
ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر؛ بل لا تزول المخالفة ظهرت أو لا،
واشتهرت أم لا؛ وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما،
والمبتدع قد يقام عن بدعتة، والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت، عياذًا بالله.
(والثاني) : نظر من جهة ما يقترن من خارج؛ فالقرائن قد تقترن فتكون
سببًا في مفسدة حالية وفي مفسدة مالية، كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة.
أما الحالية فبأمرين: الأول أن يعمل بها الخواص من الناس عمومًا، وخاصة
العلماء خصوصًا وتظهر من جهتهم. وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من
جهة العوام استسهالها واستجارتها؛ لأن العالم المنتصب مفتيًّا للناس بعمله كما هو
مفتٍ بقوله. فإذا نظر الناس إليه وهو يعمل بأمره هو مخالفة [12] حصل في
اعتقادهم جوازه، ويقولون: لو كان ممنوعًا أو مكروهًا لامتنع منه العالم. هذا وإن
نص على منعه أو كراهته، فإن عمله معارض لقوله؛ فإما أن يقول العامي: إن
العالم خالف بذلك، ويجوز عليه مثل ذلك. وهم عقلاء الناس وهم الأقلون. وإما
أن يقول: إنه وجد فيه رخصة فإنه لو كان كما قال لم (يأت) به فيرجح بين قوله
وفعله. والفعل أغلب من القول في جهة التأسي - كما تبين في كتاب الموافقات -
فيعمل العامي بعمل العالم تحسينًا للظن به فيعتقده جائزًا، وهؤلاء هم الأكثرون.
فقد صار عمل العالم عند العامي حجة، كما كان قوله حجة على الإطلاق
والعموم في الفتيا، فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل، وهذا
عين البدعة.
بل قد وقع مثل هذا في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء،
فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات، وقراءة الحزب،
حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة، وأن منها ما هو حسن؛ وكان منهم من
ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة، واحتج بالحزب
والدعاء بعد الصلاة كما تقدم.
ومنهم من اعتقد أنه ما عُمل به إلا لمستند، فوضعه في كتاب وجعله فقهًا
كبعض أما أريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد.
وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان، والعمل به على الغفلة، ومن
هنا تستشنع زلة العالم، فقد قالوا: ثلاث تهدم الدين: زلة العالم، وجدال منافق
بالقرآن، وأئمة ضالون.
وكل ذلك عائد وباله على عالم [13] وزَلَلُه المذكور عند العلماء يحتمل
وجهين:
(أحدهما) : زَلَلُه في النظر حتى يفتي بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه،
وذلك الفتيا بالقول.
و (الثاني) : زَلَلُه في العمل بالمخالفات، فيتابع عليها أيضًا على التأويل
المذكور، وهو في الاعتبار قائم مقام الفتيا بالقول؛ إذ قد علم أنه متبع ومنظور إليه،
وهو مع ذلك يظهر بقوله ما ينهى عنه الشارع، فكأنه مفت به، على ما تقرر في
الأصول.
والثاني من قسمي المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر،
فلا ينكرها الخواص، ولا يرفعون لها رؤوسهم [14] قادرون على الإنكار فلم
يفعلوا، فالعامي من شأنه إذا رأى أمرًا يجهل حكمه يعمل العالم به فلا ينكر عليه،
اعتقد أنه جائز أو أنه حسن أو أنه مشروع، بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد أنه
عيب، أو أنه غير مشروع (أو) أنه ليس من فعل المسلمين. هذا أمر يلزم مَن
ليس بعالم بالشريعة؛ لأن مستنده الخواص والعلماء في الجائز مع غير
الجائز.
فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار، مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف
المنكر، ووجود القدرة عليه، فلم يفعل؛ دل عند العوام أنه فعل جائز لا حرج فيه،
فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من العوام [15] فصارت المخالفة
بدعة كما في القسم الأول.
وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة والسلام؛
والعلماء ورثة الأنبياء؛ فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام
بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره. واعتبر
ذلك ببعض ما أُحدث في المساجد من الأمور المنهي عنها فلم يُنكرها العلماء، أو
عملوا بها فصارت بعد سننًا ومشروعات كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد)
والوضوء للصلاة: (تأهبوا) ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع؛ وربما
احتجوا ذلك بعض الناس بما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما عليه فيه [16] وقد
قيدنا في ذلك جزءًا مفردًا، فمَن أراد الشفاء في المسألة فعليه به، وبالله التوفيق.
وخرج أبو داود قال: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع
الناس لها، فقيل: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا.
فلم يعجبه ذلك. قال: فذكر له القمع، يعني الشبور، وفي رواية: شبور اليهود،
فلم يعجبه؛ وقال: (هو من أمر اليهود. قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من
أمر النصارى) فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهمِّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في منامه - إلى آخر الحديث.
وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء
يعرفونه، فذكروا أن ينوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا [17] فأمر بلال أن يشفع
الآذان ويوتر الإقامة. والقمع والشبور: هو البوق، وهو القرن الذي وقع في
حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فأنت ترى كيف كره النبي صلى الله عليه وسلم شأن الكفار فلم يعمل على
موافقته. فكان ينبغي لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد
إعلامًا بالأوقات أو غير إعلام بها؛ أما الراية فقد وضعت إعلامًا بالأوقات، وذلك
شائع في بلاد المغرب، حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع [18] .
وأما البوق فهو العلم في رمضان إلى غروب الشمس ودخول وقت الإفطار،
ثم هو علم أيضًا بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداءً وانتهاءً [19]
والحديث قد جعل علمًا لانتهاء نداء ابن أم مكتوم قال ابن شهاب: وكان ابن أم
مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت.
وفي مسلم وأبى داود: (لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن
ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) الحديث. فقد جعل أذان بلال لأن ينتبه النائم لما
يحتاج إليه من سحوره وغيره، فالبوق ما شأنه؟ وقد كرهه عليه السلام، ومثله
النار التي ترفع دائمًا في أوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان أيضًا، إعلامًا
بدخوله، فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور، ثم ترفع في المنار إعلامًا
بالوقت؛ والنار شعار المجوس في الأصل.
قال ابن العربي: أول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد
ومحمد بن خالد، ملَّكهما الوالي أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجبًا ويحيى وزيرًا،
ثم ابنه جعفر بن يحيى. قال: وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة، فأحيوا
المجوسية، واتخذوا البخور في المساجد - وإنما تطيب بالخلوق - فزادوا
التجمير [20] ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلوها عند الأندلس ببخورها ثاتبة [21]
انتهى.
وحاصله أن النار ليس إيقاد ما في المساجد من شأن السلف الصالح، ولا كانت
مما تزين به المساجد ألبتة، ثم أحدث التزين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به
رمضان؛ واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد،
حتى لقد سأل بعضهم عنه: أهو سنة أم لا؟ ولا يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون
أن مثل هذه الأمور مشروعة على الجملة في المساجد، وذلك بسبب ترك الخواص
الإنكار عليهم.
وكذلك أيضًا لما لم يتخذ الناقوس للإعلام، حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى،
فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الآلات التي توقد عليها النيران وتزخرف بها
المساجد، زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك، كما تزخرف الكنائس والبيع.
ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن. وذكر النواوي أنها من البدع القبيحة،
وأنها ضلالة فاحشة جُمع فيها أنواع من القبائح: منها إضاعة المال في غير
وجهه، ومنها إظهار شعائر المجوس، ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم
ووجوههم بارزة، ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع. اهـ.
وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور، وذكر
أيضًا قبائح سواها. فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب
ليعلم بالفجر، أو وضع الرداء؟ وهو أقرب مرامًا وأيسر خطبًا من أن تنشأ بدع
محدثات، يعتقدها العوام سننًا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب
عملهم بها.
وأما المفسدة المالية فهي على فرض [22] أن يكون الناس عالمين بحكم المخالفة،
وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها، ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها
شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة؛ لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من
غير إنكار، لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات.
وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعلمهم
بالربا [23] فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارًا في أسواقنا من غير إنكار يعتقد
أن ذلك جائز كذلك؛ وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي
الموضوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنًا بوزن، ولا اعتبار
بقيمة الصياغة أصلاً [24] والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن
يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم، ولم يزل العلماء
من السلف الصالح ومَن بعدهم يتحفّظون من أمثال هذه الأشياء، حتى كانوا يتركون
السنن خوفًا من اعتقاد العوام أمرًا هو أشد من ترك السنن، وأولى أن يتركوا
المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع. وقد مرّ بيان هذا في باب البيان من
كتاب الموافقات. فقد ذكروا أن عثمان - رضي الله عنه - كان لا يقصر في السفر
فيقال له: أليس قد قصرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول بلى؛
ولكني إمام الناس، فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون: هكذا
فرضت. [25]
قال الطرطوشي: تأملوا رحمكم الله: فإن في القصر قولين لأهل الإسلام،
منهم مَن يقول: فريضة. ومَن أتم فإنما يتم ويعيد أبدًا؛ ومنهم من يقول: سنّة.
يعيد من أتم في الوقت. ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء
العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان.
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يضحون: (يعني أنهم لا
يلتزمون [26] ) قال حذيفة بن أسد: شهدت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لا
يضحيان مخافة أن يُرى أنها واجبة. وقال بلال: لا أبالي أن أضحي بكبشين أو
بديك.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يشتري لحمًا بدرهم يوم
الأضحى، ويقول لعكرمة: من سألك فقل: هذه أضحية ابن عباس. وقال ابن
مسعود: إني لأترك أضحيتي - وإني لمن أيسركم - مخافة أن يظن أنها واجبة.
وقال طاووس: ما رأيت بيتًا أكثر لحمًا وخبزًا أو علمًا من بيت ابن عباس، يذبح
وينحر كل يوم، ثُم لا يذبح يوم العيد؛ وإنما كان يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها
واجبة. وكان إمامًا يقتدى به.
قال الطرطوشي: والقول في هذا كالذي قبله، وإن لأهل الإسلام قولين في
الأضحية، أحدهما: سنة، والثاني: واجبة. ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرًا
من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدونها فريضة.
قال مالك في الموطأ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان: إنه لم ير أحدًا
من أهل العلم والفقه يصومها. قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل
العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما
ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. فكلام مالك
هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم؛ بل لعل كلامه مشعر
بأنه يعلمه؛ لكنه لم ير العمل عليه - وإن كان مستحبًّا في الأصل - لئلا يكون ذريعة
لما قال، كما فعل الصحابة - رضي الله عنهم - في الأضحية، وعثمان في الإتمام
في السفر.
وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان هو الأصل: فذكر أن الناس
كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا
جباههم من التراب، كأنه كان مفروشًا بالتراب، فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن
المسجد: وقال: لست آمن مِن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح
الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة. وهذا في مباح، فكيف به في المكروه أو
الممنوع؟
ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في
الخمر: ليست بحرام ولا عيب فيها؛ وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل
وشبهه. وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرًا، لأنه إنكار لما علم
من دين الأمة ضرورة؛ وسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها، والتخلية
بينهم وبين اقتنائها، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها [27] وأشباه ذلك.
ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعًا وليس
بمشروع. وهذا الحال متوقع أو واقع. فقد حكى القرافي عن العجم ما يقتضي أن
ستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان، لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما
هي إلى تمام الستة الأيام. وكذلك وقع عندنا مثله، وقد مر في الباب الأول.
وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم، أو من يعمل
ببعضها بمرأى من الناس أو في مواقعهم؛ فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات
في المعاصي أو غيرها.
وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه:
(أحدها) : وهو أظهر الأقسام: أن يخترعها المبتدع.
(والثاني) : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة.
(والثالث) : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر
عليه، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة.
(والرابع) : من باب الذرائع، وهي أن يكون العمل في أصله معروفًا، إلا
أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى.
إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد، ولا يقع اسم البدعة عليها
بالتواطئ؛ بل هي في القرب والبعد على تفاوت؛ فالأول هو الحقيق باسم البدعة،
فإنها تؤخذ علة بالنص عليها، ويليه القسم الثاني، فإن العمل يشبهه التنصيص
بالقول؛ بل قد يكون أبلغ منه في مواضع - كما تبين في الأصول - غير أنه لا
ينزل هاهنا من وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله. ولذلك
قالوا: لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك. وقال الخليل بن أحمد أو غيره:
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
ويليه القسم الثالث، فإن ترك الإنكار - مع أن رتبة المنكر رتبة من يعد ذلك
منه إقرار - يقتضي أن الفعل غير منكر، ولكن يتنزل منزلة ما قبله؛ لأن
الصوارف للقدرة كثيرة، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل، فإنه لا عذر في فعل
الإنسان بالمخالفة، مع علمه بكونها.
ويليه القسم الرابع؛ لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه عرض،
فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلاً، فلذلك كانت من باب
الذرائع، فهي إذاً لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة، فلا تدخل بهذا النظر تحت
حقيقة البدعة.
وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات، والبدعة من خارج، إلا أنها
لازمة لزومًا عاديًّا، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث. والله أعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر من كتاب الاعتصام في ص 673 ج 9 وهو تتمة بحث النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات.
(1) الرواية المشهورة بمهملتين، وسيأتي ذكر هذا اللفظ وتفسيره في حديث آخر في ص 755.
(2) كذا ولعله: (السبت) والعبارة كلها مضطربة ليست سالمة من التحريف.
(3) كلمة (زعموا) جملة معترضة تؤذن بالبراءة مما يحكى عنهم، وأفصح منه أن يقال كما قال
تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (الأنعام: 136) .
(4) كذا في الأصل، والمعنى المراد أن جميع ذلك يدل على أنه قائل برأيه.
(5) كذا في الأصل.
(6) الكلمة غير منقوطة في الأصل وتحتمل بالتصحيف والتحريف عدة احتمالات.
(7) كذا ولعل أصله: فجرى مجرى البدع المحدثات.
(8) لعل الأصل (فمن) .
(9) هو اسم أول خلفاء العبيديين الملقب بالمعز لدين الله.
(10) أي يجازى مفارقها، ولعل الفاعل قد سقط من الأصل بسهو الناسخ.
(11) قوله (فظاهر) جواب (أما الابتداع) في أول الفصل وما بينهما اعتراض، وقوله فيه (فإيجابه) مبتدأ، خبره (من أمثلة بدع الخوارج) وفي الكلام تعقيد معنوي ظاهر.
(12) كذا في الأصل، وهو تحريف ظاهر، والمعنى مفهوم من القرينة؛ وهو: فإذا نظر إليه الناس يعمل ما يأمر هو بمخالفته - أي بتركه - حصل في اعتقادهم جوازه.
(13) كذا ولعل أصله: (على العالم) بفتح اللام على حد قولهم: إذا زل العالم زل العالم (بالفتح) .
(14) سقط من هنا كلمة ربما كانت (وهم) .
(15) كذا ولعل الأصل (من كان من العوام) .
(16) لعل الأصل (وربما احتجوا على ذلك بما يفعله بعض الناس، وبما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه) ، أو أن في الكلام حذفًا غير ما ذكر تصح به العبارة.
(17) يظهر أنه قد سقط من هذا الموضع كلام بمعنى ما تقدم من الإعراض عن هذه الأشياء؛ لأنها شعائر المِلَل السابقة، وبما كان من اختيار الأذان، ثم فرع عليه أمر بلال بالتفرقة بين الأذان والإقامة بجعله شفعًا وجعلها وترًا.
(18) في بعض بلاد الشام يرفعون علمًا من منارة الجامع الذي يكون فيه الموقت؛ لأجل أن يراه المؤذنون من سائر المنارات فيؤذنون في وقت واحد، وإنما يكون ذلك في وقت الظهر والعصر والمغرب.
(19) قد استبدلت المدافع في هذا العصر بالبوق.
(20) قال بعض المؤرخين: إن البرامكة زينوا للرشيد وضع المجامر في الكعبة المشرفة ليأنس المسلمون بوضع النار في أعظم معابدهم، والنار معبود المجوس والظاهر أن البرامكة كانوا من رؤساء جمعيات المجوس السرية التي تحاول هدم الإسلام وسلطة العرب وإعادة الملك للمجوس وإنما فتك بهم هارون الرشيد؛ لأنه وقف على دخائلهم.
(21) كذا في الأصل ولعله قد سقط من الكلام شيء.
(22) قوله: (على فرض) ظرف خبر قوله: (فهي) والجملة من المبتدأ والخبر خبر قوله:
(وأما المفسدة المالية) .
(23) لعل أصله: لعملهم أو لتعاملهم بالربا.
(24) في كتاب (أعلام الموقعين) للمحقق ابن القيم بيان وتحقيق لاعتبار قيمة الصياغة وجواز بيع الحلي بأكثر من زنته لأجل ذلك.
(25) تقدم ذكر هذه المسألة مع تنبيه في الحاشية على ما أجابوا به عن عثمان فيها.
(26) لعل المفعول وهو (الأضحية) سقط من قلم الناسخ.
(27) ينظر ما مراده بهذه الجملة؟ والظاهر أنه كان لأهل الذمة في الأندلس حارات يسكنونها أو يكثرون فيها وأن الخمر كانت تباع فيها كما هي الحال في بعض بلاد المسلمين بالمشرق.(17/753)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين
منزلة التعظيم
فصل [*]
وهذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في
القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى مَن لم يعظمه
حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته. وأقوالهم تدور على
هذا. وقال تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} (نوح: 13) قال ابن
عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله
حق عظمته؟ وقال الكلبي: ولا تخافون لله عظمة. قال البغوي: والرجاء بمعنى
الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم. وقال الحسن: لا تعرفون
لله حقًّا، ولا تشكرون له نعمة. وقال ابن كيسان. ولا ترجون في عبادة الله أن
يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا.
وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا خلى أحدهما عن الآخر فسدت
العبودية، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد، والله
سبحانه أعلم.
* * *
فصل
قال صاحب المنازل رحمه الله: (التعظيم معرفة العظمة مع التذلل لها، وهو
على ثلاث درجات: الأول تعظيم الأمر والنهي، وأن لا يعارضا بترخص جاف،
ولا يُعرَّضا لتشدد غال، ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) .
هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي؛ (أحدها) : الترخص الذي يجفو
به صاحبه عن كمال الامتثال (والثاني) : الغلو الذي يتجاوز به صاحبه حدود الأمر
والنهي فالأول تفريط والثاني إفراط، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما
إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي
فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين.
وكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد،
وهذا بتجاوزه عن الحد.
وقد نهى الله عن الغُلُو بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ
الحَقِّ} (المائدة: 77) ، والغلو نوعان: نوع يخرجه عن كونه مطيعًا، كمن زاد
في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات
الكبار التي رُمي بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرًا، أو نحو
ذلك عمدًا.
وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام
الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد
الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا
غلبه، فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)
يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين
على قطع مسافة السفر بالسير فيها، وقال: (ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد)
رواهما البخاري. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلك
المتنطعون) قالها ثلاثًا. وهم المتعمقون المشددون. وفي صحيح البخاري عنه:
(عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وفي السنن عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض
إلى نفسك عبادة الله) أو كما قال.
وأما قوله: (ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) يريد أن لا يتأول في الأمر
والنهي علة تعود عليه بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع
العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، كما
قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى ... فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء
أن جعلوا تحريم ما عدا شراب العنب معللاً بالإسكار، فله أن يشرب منه ما لم
يسكر.
ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة
عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا
طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور. وفي بعض الآثار
القديمة: (يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا)
وأيضًا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل
درجاته أن يضعف انقياده له، وأيضًا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف
مثلاً [1] وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله، فقال: أنا
أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها،
وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده، وكل هذا من ترك تعظيم
الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا
الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا لله، وكم عطلت لله من أمر
وأباحت من نهي وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها.
* * *
فصل
قال: (الدرجة الثانية تعظيم الحكم أن لا يُبغى له عوج، أو يُدافَع بعلم؛ أو
يرضى بعوض) الدرجة الأولى تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي، وهذه
الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري، وهو الذي يخصه المصنف باسم
الحكم، وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم فكذلك يرعى حكمه
الكوني به، فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء (أحدها) : (أن لا يُبغى له عوج) أي
يُطلب له عوج أو يُرى فيه عوج؛ بل يُرى كله مستقيمًا؛ لأنه صادر عن عين
الحكمة فلا عوج فيه، وهذا موضع أشكل على الناس جدًّا. فقالت نفاة القدر: ما
في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج، والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم
التفاوت والعوج، فليست بخلقه ولا مشيئته ولا قدره. وقالت فرقة تقابلهم: بل هي
من خلق الرحمن وقدره، فلا عوج فيها وكل ما في الوجود مستقيم. والطائفتان
ضالّتان منحرفتان عن الهدى. وهذه الثانية أشد انحرافًا؛ لأنها جعلت الكفر
مستقيمًا لا عوج فيه، وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي والحُكم
والمحكوم به هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه.
وقول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله
ومشيئته وما قام به، والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل
على الخير والشر والعوج والاستقامة، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق
ومنه باطل. وقضاؤه كله عدل، والمقضي منه عدل ومنه جور، وقضاؤه
كله مرضي، والمقضي منه مرضي ومنه مسخوط. وقضاؤه كله مُسالِم،
والمقضي منه ما يُسالِم ومنه ما يُحارِب.
وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت،
والمنحرف عنه إما جاحد للحكمة أو القدرة أو للأمر والشرع ولا بد، وعلى هذا
يحمل كلام صاحب المنازل رحمه الله، أي لا يبتغي للحكم عوج.
وأما قوله: (أو يدفع بعلم) فأشكل من الأول، فإن العلم مقدم على القدر
وحاكم عليه، ولا يجوز دفع العلم بالحكم. فأحسن ما يحمل عليه كلامه أن يقال:
قضاء الله وقدره وحكمه الكوني: لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع
المدافعة بينهما؛ لأن هذا مشيئته الكونية وهذا إرادته الدينية. وإن كان المرادان قد
يتدافعان ويتعارضان؛ ولكن من تعظيم كل منهما أن لا يدافع بالآخر ويعارض،
فإنهما وصفان للرب تعالى، وأوصافه لا يدفع بعضها ببعض، وأن استعيذ ببعضها
من بعض. فالكل منه سبحانه وهو المعيذ من نفسه بنفسه، كما قال أعلم الخلق به:
(أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)
فرضاؤه وإن أعاذ من سخطه فإنه لا يبطله و (لا) يدفعه، وإنما يدفع تعلقه
بالمستعيذ، وتعلقه بأعدائه باق غير زائل، فهكذا أمره وقدره سواء، فإن أمره لا
يبطل قدره، ولا قدره يبطل أمره، ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه،
وهو أيضًا من قضائه، فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره، فلم يدفع العلم الحكم؛
بل المحكوم به، والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به.
فتأمل هذا فإنه محض العبودية والمعرفة والإيمان بالقدر والاستسلام له،
والقيام بالأمر والتنفيذ له بالقدر، فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله، ولا دفع
مقدور الله إلا بقدر الله وأمره.
وأما قوله: (ولا يرضى بعوض) أي إن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى
حد لا يطلب معه عوضًا، ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض، فإنه يشاهد جريان
حكم الله عليه، وعدم تصرفه في نفسه، وإن المتصرف فيه حقًّا مالكه الحق، فهو
الذي يقيمه ويقعده ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يطلب العوض من غاب
عن الحكم وذهل عنه، وذلك منافٍ لتعظيمه، فمن تعظيمه أن لا يرضى العبد
بعوض يطلبه بعمله؛ لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعارض
عليه. فهذا الذي يمكن حمله كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر. والله
سبحانه أعلم.
* * *
فصل
قال: (الدرجة الثالثة تعظيم الحق سبحانه، وهو أن لا يجعل دونه سببًا، ولا
يرى عليه حقًّا، ولا ينازع له اختيارًا) هذه الدرجة تتضمن تعظيم الحاكم سبحانه
صاحب الخلق والأمر، والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقتضيه، والأولى
تتضمن تعظيم أمره. وذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء:
(أحدها) : (أن لا تجعل [1] دونه سببًا) أي لا تجعل للوصلة إليه سببًا
غيره؛ بل هو الذي يوصل إليه عبده، فلا يوصِّل إلى الله إلا الله، ولا يقرب إليه
سواه، ولا أدنى إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضاه إلا به، فما دل على الله
إلا الله، ولا هدى إليه سواه، ولا أدنى إليه غيره، فإنه سبحانه هو الذي جعل
السبب سببًا، فالسبب وسببيته وإيصاله، كله خلقه وفعله.
(الثاني) أن لا يرى عليه حقًّا، أي لا ترى لأحد من الخلق لا لك ولا
لغيرك حقًّا على الله؛ بل الحق لله على خلقه. وفي أثر إسرائيلي (إن داود عليه
السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! أي حق
لآبائك علي؟ ألست أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم ولي الحق عليهم؟)
وأما حقوق العبيد على الله تعالى من إثابته لمطيعهم وتوبته على تائبهم وإجابته
لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا أنها
حقوق أحقوها هم عليه، فالحق في الحقيقة لله على عبده، وحق العبد عليه هو ما
اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه. وهذا قول أهل التوفيق
والبصائر، وهو وسط بين قولين منحرفين قد تقدم ذكرهما مرارًا. والله أعلم.
وأما قوله [2] : (ولا ينازع له اختيارًا) أي إذا رأيت الله عز وجل قد
اختار لك أو لغيرك شيئًا إما بأمره ودينه، وإما بقضائه وقدره - فلا تنازع اختياره؛
بل ارض باختيار ما اختاره، فإن ذلك من تعظيمه سبحانه. ولا يرد عليه ما قدره
عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قدرها لكنه لم يخترها له، فمنازعتها غير
اختياره من عبده، وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه. والله أعلم. اهـ
(المنار)
هذا الكلام لا يسلم على إطلاقه؛ بل له قيد لا بد منه. وقد سبق للمصنف
تحقيقه فلهذا اكتفى هنا بالإجمال؛ وإنما نحتاج إلى القيد إذا أردنا (بالاختيار) متعلقه
وهو ما اختاره الله لنا من الأمور، وهو المقضي والمقدر. كما هو المتبادر هنا. فهذا
إذا كان شرًّا لنا كالأمراض والمظالم والفتن فإنه لا يشرع لنا أن نرضى به؛ بل
يجب أن نقاومه وندافع الأقدار بالأقدار، كما قال عمر بن الخطاب بإقرار جمهور
من الصحابة - رضي الله عنهم - عندما فر من الشام ولم يدخلها لوباء فيها: (نفرّ
من قدر الله إلى قدر الله) أما نفس اختيار الله تعالى الذي هو فعله فلا وجه لمنازعته
فيه، ولا تردد في الرضا به وعدم الاعتراض عليه فيه. ولا فرق بين الذي قلناه
آنفًا - وقد سبق تقرير المصنف له - وبين ما قاله هنا آنفًا في المعاصي، ومسألة
الاختيار مبهمة هنا، فاختياره تعالى - بالمعنى المصدري - لا ينازع ولا
يعارض مطلقًا. وهو يتناول كل ما قضاه وقدره؛ لأنه فعله، وكل أفعاله اختيارية.
فلا يمكن أن يقال أنه قدر المعاصي بغير اختيار منه. وأما الاختيار بالمعنى
الحاصل بالمصدر أي ما اختاره سبحانه لعباده، فهو قسمان: أفعال وأحكام، أو
خلق وأمر، فأما أحكام دينه وأمره ونهيه فلا ينازع فيها؛ بل تؤخذ بالرضاء
والتسليم، وأما أفعاله التي تقع بقدره وحسب سننه في خلقه فقسمان:
(أحدها) : ما يوافق مصالح الناس ومنافعهم فيجب الرضاء بها مع الشكر
عليها.
(وثانيها) : ما لا يوافق مصالحهم ومنافعهم كالأمراض وتعدي بين الظالمين
وطغيان المياه، فهذه تنازع وتقاوم مع الصبر عليها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) منقول من الجزء الثاني من مدارج السالكين.
(1) الظاهر أن نسخة الشارح بالخطاب وأن ذكر عبارة المتن وما يأتي من حكايتاه في الشرح بأفعال الغائب من تصرف النساخ.
(2) كان الظاهر أن يحكي هذا بالعدد فيقول: الثالث أن لا ينازع له اختيارًا.(17/777)
الكاتب: الذهبي
__________
أقوال علماء السلف الأثبات
في عقيدة السلف وإثبات الصفات
(2)
(أحمد بن محمد بن حنبل شيخ الإسلام)
رحمه الله ثراه [1] وجعل الجنة مثواه
المنقول عن هذا الإمام في هذا الباب طيب كثير مبارك فيه، فهو حامل لواء
السنة، والصابر في المحنة، والمشهود بأنه من أهل الجنة، فقد تواتر عنه تكفير
مَن قال بخلق القرآن العظيم جل منزله، وإثبات الرؤية والصفات والعلو والقدر،
وتقديم الشيخين، وأن الإيمان يزيد وينقص، إلى غير ذلك من عقود الديانة مما
يطول شرحه، فقال يوسف بن موسى القطان شيخ أبي بكر الخلال: قيل لأبي عبد
الله: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟
قال: نعم هو على عرشه ولا يخلو شيء من علمه.
وقال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: الله
معنا وتلا {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) فقال: قد
تَجَهَّمَ هذا، يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، قرأت عليه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (المجادلة: 7) فعلمه معهم. وقال في سورة ق: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) فعلمه معهم.
قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلاً قال: أقول كما قال الله: {وَنَعْلَمُ مَا
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) أقول هذا ولا
أجاوزه إلى غيره. فقال: هذا كلام الجهمية بل علمه معهم، فأول الآية يدل على أنه
علمه. رواه ابن بطة في كتاب الإبانة عن عمر بن محمد عن رجاء عن محمد بن
داود عن المروذي.
وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى] وَهُوَ مَعَكُمْ [؟ قال: علمه
محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة.
قال ابن أبي حاتم في كتاب مناقب الإمام أحمد: ثنا محمد بن مسلم ثنا سلمة
ابن شديد قال: كنت عند أحمد بن حنبل، فدخل عليه رجل عليه أثر السفر فقال: مَن
فيكم أحمد بن حنبل؟ فأشاروا إلى أحمد بن حنبل، فقال: إني ضربت البر والبحر
من أربع مائة فرسخ، أتاني الخضر عليه السلام فقال: ائت أحمد بن حنبل فقل له: إن
ساكن السماء راض عنك لما بذلت نفسك في هذا الأمر.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حدث محدث وأنا عنده بحديث: (يضع الرحمن
فيها قدمه) وعنده غلام، فأقبل على الغلام فقال: إن لهذا تفسيرًا. فقال أبو عبد الله:
انظر إليه كما تقول الجهمية سواء.
قال ابن أبي حاتم: ثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يحتج بأن
القرآن غير مخلوق، يقول: قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن:
1-2) فأخبر تعالى أن القرآن من علمه، قال يعقوب الدورقي: قال لي أحمد:
اللفظية إنما يدورون على كلام جهم يزعمون أن جبريل إنما جاء بشيء مخلوق.
* * *
(إسحاق بن راهويه عالم خراسان)
قال حرب بن إسماعيل الكرماني قلت لإسحاق بن راهويه قوله تعالى:
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) كيف تقول فيه؟ قال
حيثما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه. ثم ذكر عن ابن
المبارك قوله: هو على عرشه، بائن من خلقه. ثم قال أعلى شيء في ذلك وأبينه
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) رواه الخلال في السنة
عن حرب.
* * *
(الحافظ أبو عوانة صاحب الصحيح)
كان من كبار الحفاظ، حمل عن أصحاب سفيان بن عيينة ووكيع. قال
الحاكم في ترجمته: سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول: سمعت أبا عوانة
رحمه الله يقول: دخلت على إبراهيم المزني في مرضه الذي مات فيه فقلت له: ما
قولك في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق. فقلت هلاّ قلت قبل هذا؟ قال:
لم يزل هذا قولي وكرهت الكلام فيه لأن الشافعي كان ينهى عن الكلام فيه، يعني
البحث والجدال في ذلك.
* * *
(أبو الحسن الأشعري صاحب التصانيف)
قال الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري
المتكلم في كتابه الذي سماه (اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين) فذكر فرق
الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم؛ إلى أن قال: (ذكر مقالة أهل السنة
وأصحاب الحديث جملة) قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن
الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئًا،
وأن الله على عرشه كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن
له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وأن أسماء الله لا
يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقرّوا أن لله علمًا كما قال:
{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: 166) {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيماً حَكِيماً} (الإِنسان: 30) وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله
كما نفته المعتزلة، وقالوا: لا يكون في الأرض من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن
الأشياء تكون بمشيئته كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان:
30) إلى أن قال: ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. ويصدقون
بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى
السماء الدنيا فيقول: هل مستغفر) كما جاء الحديث، ويقرون أن الله يجيء يوم
القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وأن الله
يقرب من خلقه كيف يشاء قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق:
16) إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا
من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله.
وذكر الأشعري في هذا الكتاب المذكور في باب (هل الباري تعالى في مكان
دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان) فقال اختلفوا في ذلك على سبع عشرة
مقالة: منها مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث إنه ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه
على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ولا نتقدم
بين يدي الله بالقول؛ بل نقول استوى بلا كيف، وإن له يدين كما قال: (خلقت
بيدي) وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث.
ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى، وتأولوا اليد
بمعنى النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14) أي بعلمنا.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب (جمل المقالات) له - رأيته بخط
المحدث أبي علي بن شاذان - فسرد نحوًا من هذا الكلام في مقالة أصحاب الحديث
تركت إيراد ألفاظه خوف الإطالة والمعنى واحد.
وقال الأشعري في كتاب (الإبانة في أصول الديانة) له، في باب الاستواء:
فإن قال قائل: ما تقولن في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله مستوٍ على عرشه كما
قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقال: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} (النساء: 158) وقال
حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ *
أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36-37)
كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي
السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (الملك: 16) فالسموات فوقها العرش، فلما
كان العرش فوق السموات وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك:
16) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، فلولا
أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. وقد قال قائلون من المعتزلة
والجمهية والحرورية: إن معنى استوى: استولى وملك وقهر، وأنه تعالى في
كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء
إلى القدرة. فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة؛ لأنه
قادر على كل شيء، والأرض (شيء) فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وكذا لو
كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال هو مستو على الأشياء كلها،
ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الأخيلة والحشوش،
فبطل أن يكون الاستواء الاستيلاء. وذكر من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك.
وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شَهَرَه الحافظ ابن عساكر
واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النواوي، ونقل الإمام أبو بكر بن
فورك المقالة المذكورة عن أصحاب الحديث عن أبى الحسن الأشعري في كتاب
(المقالات والخلاف بين الأشعري وبين أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب
البصري) تأليف ابن فورك فقال: الفصل الأول في ذكر ما حكى أبو الحسن -
رضي الله عنه - في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما
أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك. ثم سرد ابن فورك المقالة بهيئتها ثم قال في
آخرها: فهذا تحقيق لك من ألفاظه أنه معتقد لهذه الأصول التي هي قواعد
أصحاب الحديث وأساس توحيدهم.
قال الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي: قرأت كتاب أبي الحسن
الأشعري الموسوم (بالإبانة) أدلة على إثبات الاستواء. قال في جملة ذلك: ومن
دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله أن يقولوا: يا ساكن العرش. ومن حلفهم:
لا والذي احتجب بسبع.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في شكاية أهل السنة: ما نقموا من
أبي الحسن الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر، وإثبات صفات الجلال لله من قدرته
وعلمه وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويده، وأن القرآن كلامه غير مخلوق.
سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات
الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئًا في حال نزعه: لعن الله
المعتزلة موهوا ومخرقوا.
قال الحافظ الحجة أبو القاسم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري،
فيما نسب إلى الأشعري) فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن
الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب
عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح
في مذهبه غير أهل الجهل والعناد - فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة،
ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في كتاب الإبانة، فإنه قال:
(الحمد لله الواحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا
تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد) فرد في خطبته على المعتزلة
والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم [2] الذي
تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها
ندين، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة
والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل
نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس
الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به
المبتدعين، فرحمه الله من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته ورسله وما جاء من عند الله. ورواه الثقات عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا نرد من ذلك شيئًا، وأن الله إله واحد فرد صمد لا
إله غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق. وأن الساعة آتية لا
ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله تعالى مستوٍ على عرشه كما قال:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن له وجهًا كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ} (الرحمن: 27) وأنه له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة
: 64) وأن له عينين بلا كيف كما قال {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14) وأن
من زعم أن اسم الله غيره كان ضالاًّ، وندين أن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما
يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون. إلى أن قال: وندين بأنه يُقَلِّب القلوب وأن
القلوب بين إصبعين من أصابعه. وأنه يضع السموات والأرض على إصبع كما جاء
في الحديث. إلى أن قال: وأنه يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) وكما قال {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ
أَوْ أَدْنَى} (النجم: 8-9) ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة. ومجانبة أهل
الأهواء. وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي بابًا بابًا وشيئًا شيئًا.
ثم قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه!
واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه. وقال الحافظ ابن عساكر: وقال
الإمام أبو الحسن في كتابه الذي سماه (العمد في الرؤية) : ألفنا كتابًا كبيرًا في
الصفات تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية، فيه فنون كثيرة من الصفات
في إثبات الوجه واليدين وفي استوائه على العرش.
كان أبو الحسن أولاً معتزليًّا أخذ عن أبي علي الجبائي، ثم نابذه ورد عليه
وصار متكلمًا للسنة. ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، وهو ما سقناه
عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك وأنه موافقهم. وكان يتوقد ذكاء. أخذ علم الأثر
عن الحافظ زكريا الساجي وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وله أربع وستون
سنة، رحمه الله تعالى.
فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن هذه ولزموها لأحسنوا؛
ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء ومشوا خلف المنطق، فلا قوة إلا
بالله.
* * *
(ابن أبي زيد)
قال الإمام أبو محمد بن أبي زيد المغربي شيخ المالكية، في أول رسالته
المشهورة في مذهب مالك الإمام: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل
مكان بعلمه. وقد تقدم مثل هذه العبارة عن أبي جعفر ابن أبي شيبة وعثمان بن سعيد
الدارمي. وكذلك أطلقها يحيى بن عمار واعظ سجستان في رسالته، والحافظ أبو
نصر الوائلي السجزي في كتاب الإبانة له. فإنه قال: وأئمتنا كالثوري ومالك
والحمَّادان وابن عيينة وابن المبارك والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله
فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك أطلقها ابن عبد البر كما سيأتي.
كذا عبارة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري، فإنه قال: وفي أخبار شتى أن
الله في السماء السابعة على العرش بنفسه، وكذا قال أبو الحسن الكرجي
الشافعي في تلك القصيدة:
عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب
وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقيّ الدين ابن الصلاح: هذه
عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث.
وكذا أطلق هذه اللفظة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ والشيخ عبد القادر
الجيلي، والمفتي عبد العزيز القحيطي وطائفة. والله تعالى خالق كل شيء بذاته،
ومدبر الخلائق بذاته، بلا معين ولا كوازر. وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة
بين كونه تعالى معنا وبين كونه تعالى فوق العرش، فهو كما قال. ومعنا بالعلم وأنه
على العرش كما أعلمنا حيث يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)
وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء كما قدمناه. وبلا ريب أن فضول
الكلام، تركه من حسن الإسلام.
وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير،
وكان غاية في علم الأصول وقد ذكره الحافظ ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب
المفتري فيما نسب إلى الأشعري) ، ولم يذكر له وفاة. توفي سنة ست وثمانين
وثلاثمائة، وقيل سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وقد نقموا عليه في قوله (بذاته) فليته
تركها [3] .
__________
(1) كذا ولعل أصله (طيب الله ثراه) أو (رحمه الله وطيب ثراه) .
(2) وفي نسخة (ما قولكم) .
(3) لله در المؤلف ما ألطف نقده وإنكاره لهذه الكلمة وإنما تلطف هذا التلطف لأن الهفوة من بعض علماء الأثر وأنصار مذهب السلف، ولو قالها أحد المعتزلة لشنع عليه بأنه قال في أصول العقيدة
ما لم يقله أحد من السلف ولا ورد به أثر، ولا هو مما ثبت بالبرهان العقلي أيضًا ولكثير من الأثريين مثل هذه الهفوات والشذوذ، يحشرون آراءهم في النصوص ويفسرونها بها مع ادعائهم اتباع مذهب السلف وأنه التفويض والإمساك عن تعيين المراد من آيات الصفات وأحاديثها ونرى كثيرًا من الناس يقبل منهم ذلك ويقول به ويعده اتباعًا للسلف ولو بمعنى مخالفة الجهمية ولا يستغرب مع هذا تسليمهم وقبولهم بعض الروايات المنكرة المخالفة للأحاديث الصحيحة كقول مجاهد: إن الله تعالى يُقعد النبي معه على العرش، كأن مَن قبله اكتفى بأن يخالف الجهمية في عدم قبول مثله وإن صح إلا بالتأويل، وقد تقدم بيان المصنف لنكارته ومخالفته للأحاديث الصحيحة مع ذكر من قبله، ونقل آنفًا عن الدارقطني أنه لا يجحده! ! على أن العقائد يطلب فيها القطع وهذا لم يصل إلى مرتبة الظن وهنالك مخالفة أخرى لطريقة السلف بينها الغزالي في (إلجام العوام عن علم الكلام) وهي جمع معاني الآيات والأحاديث الواردة في الصفات بترتيب لم يرد في الكتاب والسنة بحيث يفيد الجمع معنى غير معنى الإيمان بكل منها مع التنزيه عن الكيفية: كأن تلقن العامي عقديته بمثل قولك: يجب أن تؤمن بأن لله تعالى وجهًا وعينين ويدين وقدمين وأنه ينزل ويمشي ويهرول ويضحك، فإن هذا يُحدث في خيال العامي صورة حسية لعله لا يزيلها منه قولك: وإنه لا يشبه في ذلك البشر ولا غيرهم من الخلق، ومذهب السلف أن يذكر ما ورد في السياق الذي ورد فيه، مع اعتقاد التنزيه ونفي التشبيه، وترك التأويل، والقال والقيل.(17/783)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المراسلة والمناظرة
... ... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلي على رسوله الكريم
مَنْ أنصاري إلى الله
يا إخواني المسلمين: رحمكم اللهُ وحماكم، وحفظكم ونجّاكم، إن بعض سكان
بلدانكم المحروسة قد سمع حالاتي وعرفها، وإني أرى أن أذكر لكم مما أنا عليه
لازدياد المعرفة:
إني جئت من الهند من مدة تزيد على سنة ونصف إلى لندرة،
واطلعت على حالات أهلها في صولهم على ديننا الحق، تكدّرت جدًّا لأنهم
يقدمونه بين يدي الناس بوجوه رديّة لينفروهم عن القرب إليه، وذلك بنقلهم إلى
الغث سمينه، وإلى الكدر معينه، وإلى الظلمات نوره، وإلى الأخربة قصوره.
فهذه بلية عظمى على ديننا الإسلام، ما سُمع نظيرها من قبل. وما وجد مثلها في
الأولين. فلما رأيت ذلك عزمت على أن أشمر الذيل لإشاعة التدين القويم، وإعلاء
كلمة الحق، وما التوفيق إلا بالله. فالحمد لله ثم الحمد لله، ما انصرمت سنة كاملة
إلا ورأيت التوجه إلى ديننا الإسلام. وذلك فضل الله - إن الله على كل شيء قدير -
فإنكم قد سمعتم دخول لورد هيدلي في الإسلام، وغيره أيضًا من الرجال والنساء من
الأمراء المشهورين، مثل (واي كونت) وابن الأمير الروسي (بور كويت) الذي
تزوج ابنة الملك (أعني من أقارب خديو مصر) المسماة صالحة، فقد أسلم على
يدي والحمد لله على ذلك، فالآن عدد الذين هم دخلوا في الإسلام ثلاثون شخصًّا.
وذلك من فضل الله تعالى. وإن شاء الله تعالى يدخلون في ديننا الإسلام جم كثير؛
لأنه دين الفطرة السليمة. وليس المقصود التام دخول بعض النصارى في الإسلام؛
بل المقصود التام قمع الشبهات، ورفع الأغلوطات، التي نحتوها أعداء الدين.
ولذلك أجريت المجلة المسماة (إسلامك ريبويو) والحمد لله تعالى قد قبلت بأحسن
وجه، وسلمت طاقتها عند أولي البصائر.
ولكن يا سادتي إني وحيد فريد! وإن تبليغ الإسلام وإشاعته بين الخواص
والعوام، فرض واجب على كل مسلم ومسلمة. قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110)
فلا بد من أهل الهمم العالية السنية من إخواني المسلمين أن يوآزروني ويمدوني
بحصة من أموالهم لحصول الأجر والثواب في إشاعة ديننا الإسلام، وذلك ازدياد
طبع مجلة (إسلامك ريبويو) وإشاعتها مجانًا في جميع الأطراف، فتكون فائدة
تامة إن شاء الله تعالى.
ثم ترجمنا القرآن الكريم بلسان الإنكليزي أحسن وجه، ونريد طبعه وإشاعته
أيضًا، وأما التراجم التي طبعت فإنها محشوة من الأغلوطات [1] لأنها ترجمة
المخالفين، وقد فعلوا ما فعلوا. فيا إخواني لا بد من طبع ترجمتها وإشاعتها مع
الأصل وتلك لا تكون إلا ببذل المال الجزيل. وإنكم مسلمون وقد بايعتم الله على أن
لكم الجنة بأموالكم وأنفسكم. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) وأيضًا إن الإسلام قد شاع أولاً في
بلدانكم المحروسة فلها شرفية على سائر البلدان. ولذلك نرجو الإعانة منكم في
إرسال حصة من أموالكم لأجل إشاعة القرآن الكريم، وإشاعة (إسلامك ريبويو)
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وقال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) .
وقال سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (مَن كان في عون أخيه كان
الله في عونه) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... خادم الإسلام والمسلمين
... ... ... ... ... ... خواجا كمال الدين مدير إسلامك ريبويو
* * *
(المنار)
نحض من بلغته هذه الدعوة على مساعدة أخينا صاحب هذه المجلة الإسلامية
الإنكليزية على إدامة إصدارها. وننصح له بأن لا يطبع ترجمة القرآن، التي نوّه
بها إلا بعد عرضها على جماعة من كبار العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها.
فإن رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية فيخشى أن تكون ترجمته كثيرة
الغلط كغيرها. على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من المعاني والتأثير ما
تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال. وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن
يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد.
***
بسم الله الهادي إلى الحق
الدين النصيحة
إلى إخوتي المسلمين. إنني قد ولدت ونشأت مسلمًا ودرست القرآن وتفاسيره
مع العلوم الإسلامية على أعظم علماء سوريا ومصر ورأيت القرآن يشهد بأنه جاء
مصدقًا للتوراة والإنجيل ومهيمنًا عليهما أي حافظًا لهما من التغيير والتحريف لكن
لدى دراستي للتوراة والإنجيل رأيت القرآن يخالفهما في حقائق كثيرة لا سيّما مخالفته
لهما في مسألة الكفارة والفداء التي هي خلاصة الكتاب المقدّس. مع أن القرآن قد
تكلم عن القربان منذ زمن آدم وقد أثبتت السنة القربان في عيد الأضحى مع أن
جميع القرابين والذبائح التي كانت تقدم في العهد القديم كلها رمز وإشارة إلى الذبيحة
الحقيقية (المسيح) الذي قدم نفسه قربانًا فدية عن الخاطئين الذين يؤمنون به وإلا
فكيف يعقل أن حيوانًا أبكم يكون فداء عن إنسان عاقل؛ إذ لا بد أن يكون الفداء
على الأقل معادلاً للمفتدى إن لم يكن الفداء أثمن منه. يا أيها الأخوة تبصروا في
هذا الأمر المهم الذي يتوقف عليه خلاص نفوسكم من الهلاك الأبدي واعلموا أن
كاتب هذه الرسالة هو من سلالة نبيكم ونشأ مسلمًا ولكن الله قد أنار بصيرته حتى
رأى الحق صريحًا وذلك أن الكتاب المقدس هو كلمته وكتابه الوحيد لم يعتره تغيير
ولا تحريف وأنه لا يمكن لأحد من البشر أن يتخلص من الهلاك الأبدي إلا بواسطة
كلمة الله المتجسد في أحشاء مريم، وقد اتبعته وآمنت به واعتمدت باسمه تاركًا دين
آبائي وأملاكي وأقاربي وأصدقائي؛ لأجل أن أتخلص من الهلاك الأبدي! والآن
أدعوكم وأنصحكم بإخلاص ومحبة أخوية لتقرءوا كتاب الله تاركين كل تحزب
وتعصب؛ إذ الدين بالاستدلال لا بالإرث عن الآباء وحينئذٍ فالله نفسه يهديكم إلى
الصراط المستقيم الذي تطلبونه منه كل يوم مرات عديدة وإذا صعب فهم شيء من
الكتاب المقدس على أحدكم فعليه بسؤال الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم يجيبونكم
عن كل ما ترومونه والله القادر يرشدكم إلى طريق الحق والحياة بنعمته وهدايته
آمين.
(المنار)
جاءتنا هذه الرسالة في البريد بإمضاء متنصر سمى نفسه باسمين، أو اسم
جعل نفسه به عبدًا لإلهين، وهو (عبد الله، عبد الفادي) ونحن لا نناقشه فيما ادعاه
من النسب. ولا من ترك النشب، فأما دعواه دراسة التفسير والعلوم الإسلامية فلا
يبعد أن يكون لها أصل، لأن كثيرًا من الناس يزاول دراسة بعض الكتب عدة سنين
ولا يفهم منها شيئًا. ويجوز أن لا يكون له أصل، ويترجح إذا كان الرجل صحيح
الفهم؛ لأن من يدرس التفاسير وعلوم الإسلام، لا يمكن أن يثبت مسألة الفداء
الأخروي التي صرح بنفيها القرآن ويستدل عليها بالأَضحية والقربان، فالقرآن إنما
شرع لنا الفدية في الدنيا فقط، كفدية الصيام لمن يطيقه بمشقة شديدة لهرم أو داء
عضال وهي أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، وفدية محرمات الإحرام قال تعالى:
{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196) وفداء الأسير، ويُفدى
الأسير بمثله أو بمال كما هو المتبع عند جميع الأمم. وأما النجاة في الآخرة فإنما
تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح كما هو منصوص في الآيات الكثيرة. ولا
يمكن أن تكون بالفداء. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} (المائدة: 36) وقال تعالى في شأن يوم القيامة: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة:
48) والعدل هنا الفدية، وهو بمعنى المعادل.
وأما حكمة الأَضحية وما في معناها من النسك فهي التوسعة على الفقراء
ومساواتهم بالأغنياء في خير أطعمتهم وألذها. قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا
وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) .
فمن عرف هذه الضروريات من الإسلام يجزم بأن صاحب هذه النشرة إما
كاذب في دعواه أنه كان مسلمًا وأنه قرأ شيئًا من علم الإسلام، وإما أنه قرأ شيئًا
وهو يتعمد اليوم تحريفه وتبديله، ويريد أن يغش عوام المسلمين به كما يفعل أمثاله
وأقتاله. فعليه أن ينصح نفسه قبل أن ينصح غيره. وأن يعلم أن الدنيا لا تغني عن
الآخرة التي لا تنفعه فيها فدية فادٍ ولا شفاعة شافع، إلا أن يؤمن بالله وحده،
ويزكي نفسه بالعمل الصالح {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ} (المدثر: 48-49) .
إن التحريف صار صنعة لدعاة النصرانية حتى إن من يلتصق بهم لأمر ما لا
يلبث أن يتقن صنعتهم، ولهذا نرى صاحب هذه الرسالة حرف ما ورد من الفدية
في القرآن عن موضعه ووضعه لمعنى طالما صرّح القرآن ببطلانه، كما حرف
معنى قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) ومعناه أن القرآن رقيب
على ما قبله من الكتب الإلهية يُظهر ما حرف منها ويفضح أصحابه، فجعله بمعنى
منع الناس من تحريفه بالفعل لا بإظهار تحريفهم، وكيف يكون مانعًا من شيء وقع
قبل نزوله؟ ولا يبعد أن يدعي في رسالة أخرى أن القرآن يثبت التثليث، وينهى
عن التوحيد! ! ألم تر أنه ادعى أن خلاصه الكتاب المقدس - أي ما يعزى إلى
أنبياء بني إسرائيل من وحي وغيره - لا تخرج عن معنى الكفارة والفداء؟ وهذه
دعوى افتحرها القوم الذين التصق بهم، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا خطرت
على بال أحد من الأنبياء ولا ممن عاصرهم أو جاء بعدهم من الأحبار، وقد بينا
من قبل أصلها ومأخذها فلا حاجة إلى إعادته هنا.
وأعجب من هذا وذاك أن مثل هذا الرجل يذكر كلمة (الدين بالاستدلال)
فيالله العجب من تهافت نوع الإنسان! !
__________
(1) الأغلوطات: المسائل التي يغلط فيها الناس أو يغالط بها بعضهم بعضًا ولا نردي أيريد هذا أم يريد جمع الغلط.
(2) في برقية من لندن للمقطم الذي صدر في 14 أغسطس ما نصه: أعلن ولاة الأمور رسميًّا هنا أن مدافع الميدان الألمانية من طبقة واطئة جدًّا.(17/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جيوش الدول المتحاربة
أنشأ المقطم مقالاً مطولاً عنوانه: (الجيوش المتحاربة: تأليفها وعددها في
زمن السلم والحرب) قال في الفصل الذي تكلم فيه عن الجيش الألماني (في عدد
الجمعة 7 أغسطس 15 رمضان) بعد تفصيل:
(فيكون مجموع الجيش الألماني كله في زمن الحرب خمسة ملايين ومئة
وخمسين ألف جندي. ولكن الثقات الحربيين لا يظنون أن ألمانيا تستطيع رصد هذا
العدد من الجنود للحرب ويرجحون أنها لا تقوى على رصد أكثر من 4.150.000
إلى 4.500.000 جندي على أكبر تقدير، وقال في آخرها:
(ويقول الثقات العسكريون الذين شهدوا مناورات الجيش الألماني: إن
الفنون الحربية والحركات العسكرية المتبعة فيه صارت قديمة (!) وإن رجال
المدفعية في الجيش الفرنسي أمهر في الرماية منهم في الجيش الألماني. ولكن كلا
الجيشين متساويان في سرعة التعبئة. فإن الجيش الألماني يُعبأ كله في تسعة أيام
ويوضع على حدود روسيا أو على حدود فرنسا) .
وقال في آخر الفصل الذي عقده لجيش فرنسا (في عدد السبت 8 أغسطس) ،
(ويبلغ عدد الجيش الفرنسوي في زمن الحرب نحو أربعة ملايين جندي وفيه نحو
ثلاثة آلاف مدفع. والجندي الفرنسوي مشهور بإقدامه وكرّه وحماسته وشجاعته
ومقدرته على تحمل المشاق وقوة الابتكار الفائقة. ورجال المدفعية الفرنسيون أحسن
رجال المدفعيات في العالم في الرماية، وهم متمرنون عليها ولا سيّما على إطلاق
المدافع السريعة تمرنًا لا مثيل له في الجيوش الأوربية. وموضع الضعف في
الجيش الفرنسوي هو في مدفعيته الكبيرة) .
(وتتم تعبئه الجيش الفرنسوي في ثمانية أيام و 12 ساعة؛ أي أنه يعبأ
أسرع من الجيش الألماني باثنتي عشرة ساعة) .
(وسلاح الجنود بندقية لبل من عيار 13، وهي طراز قديم قليلاً ولكنها
أحدث من بندقية موزر المستعملة في الجيش الألماني. أما مدافع الميدان فمن التي
قطر فوهتها ثلاث بوصات وهي أحدث من مدافع الميدان في الجيش الألماني
أيضًا) [1] .
وقال في أواخر الفصل الذي عقده للجيش الروسي: (أما قوته في زمن
الحرب فلا حد لها؛ وإنما يقال إنها تبلغ سبعة ملايين ونصف مليون جندي، فهو
أضخم جيوش الأرض وأكبرها كلها) .
ثم ذكر أن تعبئته تستغرق نحو ثلاثة أسابيع، وأن هذا موضع الضعف فيه.
وقال في الفصل الذي عقده للجيش الإنكليزي: إن جملته في زمن السلم
في الإمبراطورية كلها 849 و 810 وكان في العام الماضي 729.991 (ثم ذكر
أنه سيزاد حتى يبلغ مليونًا ونصف مليون.
***
برقيات الحرب ملخصة من المقطم
استعداد الدول الكبرى
(من لندن 31 يوليو) طلبت الحكومة الألمانية من الحكومة الروسية أن
تكف عن تعبئته الجيوش وإلا فإنها تشرع في التعبئة مقابلة لها بالمثل.
والظاهر أن روسيا مصممة على التدرع بالحزم ووقوف موقف صحيح
العزيمة في المشكلة الحالية.
تظن دوائر برلين السياسية أن الحكومة الألمانية تشرع في التعبئة اليوم
(الجمعة) والاستعداد في فرنسا وإنكلترا قائم على ساق وقدم، والهمة مبذولة لإعداد
كل ما يستطاع بأسرع ما يستطاع.
(1 أغسطس) أصدر قيصر روسيا أمره بجعل تعبئه الجيوش عامة في
جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية، وكانت (من قبل) مقتصرة على خمسين
ولاية منها.
وقد أجابت ألمانيا على هذا الأمر بإعلان الحكم العرفي في جميع أنحاء
الإمبراطورية الألمانية. وينتظر أن يسري الحكم العرفي بعد التعبئة يوم السبت
(اليوم) وقد شرعت كل من ألمانيا وفرنسا وروسيا في إرسال الفيالق إلى الحدود
من قبيل الاستعداد والاحتياط، أما الاحتياطات التي تتخذ في بريطانيا العظمى فمن
أعظم ما يكون.
***
إعلان الحرب وبدءها
(لندن - 2 أغسطس) علمت وكالة أن تلغرافًا رسميًّا وصل الساعة الثالثة
بعد ظهر اليوم وفيه أن الألمانيين غزوا فرنسا واجتازوا الحدود عند سيري (بلدة
على الحدود قرب ستراسبورج) .
(برلين - 2 منه) غزا جيش روسي بمدافعه وفرسانه من القوزاق بلاد
ألمانيا بقرب بيالا.
(لندن 2 أغسطس) رسمي: أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا. وقد برح
كل من سفير روسيا في برلين وسفير ألمانيا في بطرسبرج مقر وظيفته.
وقد شرعت الحكومة الفرنسية في تعبئة جيشها استعدادًا للحرب، وكانت
ألمانيا قبل ذلك قد أرسلت أمس (السبت) بلاغًا نهائيًّا إلى روسيا وفرنسا،
وأعطتهما مهلة اثنتي عشرة ساعة للإجابة عليه. فكان جواب روسيا وفرنسا عليه
جوابًا غير مرضي. وشاع بعد إرسال ألمانيا لبلاغها النهائي أنها مددت هذه المهلة
حتى ظهر يوم الاثنين، وتوسط ملك الإنكليز في الأمر فأرسل تلغرافين لقيصر روسيا
وإمبراطور ألمانيا ولكن كل المساعي ذهبت أدراج الرياح فيما يظهر.
(لندن 4 منه) برح السفير الألماني باريس في الليلة البارحة فتم بذلك قطع
العلاقات السياسية تمامًا بين الدولتين.
استولى الألمانيون على ثلاث مدن وثلاث جزائر من فرنسا في بحر البلطيك.
(لندن 5 منه) رسمي: أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا الساعة السابعة
من أمس. (بناء على عدم احترام ألمانيا حياد بلجيكا) .
(برلين 5 منه) أعلنت ألمانيا الحرب على إنكلترا (وبدأت الحرب بينها
وبين بلجيكا) .
(لندن 7 منه) أعلنت النمسا الحرب رسميًا على روسيا.
(لندن 13) منه أعلنت إنكلترا الحرب في منتصف هذا الليل على
النمسا والمجر.
__________
(1) في برقية من لندن للمقطم الذي صدر في 14 أغسطس ما نصه: أعلن ولاة الأمور رسميًّا هنا أن مدافع الميدان الألمانية من طبقة واطئة جدًّا.(17/798)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منع المنار من السودان
أمرت حكومة السودان بمصادرة مجلة المنار وإحراق نُسخِها , وما أنذرتنا ولا
أخبرتنا؛ بل علمنا ذلك من بعض المشتركين، وكان ذلك في غيبة الحاكم العام، فلمّا
عاد من أوربا بعد وقوع الحرب شكونا إليه ذلك، وطالبناه باسم الحريّة الدينية التي
امتاز بالعناية باحترامها إنصافنا، ولعله يفعل عن قريب.
__________(17/800)
ذو القعدة - 1332هـ
أكتوبر - 1914م(17/)
الكاتب: الشوكاني
__________
صفات البارئ تعالى
تحقيق الحق في مذاهب السلف واختلاف الخلف فيها
فتوى للإمام الشوكاني رحمه الله تعالى
اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله،
وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت النحل؛
وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم
يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه؛ حتى تفرّقوا فرقًا
وتشعبوا شعبًا وصاروا أحزابًا، وكانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما
يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد، متبايني المطالب.
فطائفةٌ؛ وهي أخف هذه الطوائف المتكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه
إثمًا، وأقلها عقوبة ورجمًا، وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على
الصواب؛ لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى
عقبة كؤود، لا يرجع من سلكها سالمًا، فضلاً عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح.
ومع هذا أصَّلوا أصولاً ظنوها حقًّا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة
نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبهة واهية، وحالات مختلفة.
وهؤلاء هم طائفتان: الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر
عنده الجلد، ويضطرب له القلب؛ من تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتًا
أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصباح، ظنوا هذا من صنيعهم موافقًا
للحق مطابقًا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيمة وأضلوا من رام
سلوكها.
والطائفة الأخرى هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوًّا بلغ إلى حدّ أنه
لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر
الخالص فلم يبق لبعثة الرسل وإنزال الكتب كبير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده
بعائدة، وجاؤا بتأويلات للآيات البيّنات. ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا
كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل
منهما صبيح، لولا ما شانه من الغلو القبيح.
وطائفة توسطت [1] ورامت الجمع بين الضب والنون وظنت أنها قد وقفت
بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل
وتناضل وتحقق وتدقق في زعمها. وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت به
مما يوافق ما ذهبت إليه. وكل حزب بما لديهم فرحون. وعند الله تلتقي الخصوم.
ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن
طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه (الأعلمية) بطريق الخلف أن
تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئًا للعامة! فتدبر
هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنأ من ظفر لأهل الجهل (؟) البسيط،
ويتمنى أنه في عدادهم، وممن تدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم. فإن هذا ينادي
بأعلى صوت يدل بأوضح دلالة، على أن هذه الأعلمية التي طلبوها الجهلُ خير
منها بكثير. فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى
عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته، أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه؟ ففي
هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلاّ عملوا على جهل هذه المعارف التي
دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما
قال القائل:
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولاً
وربحوا الخلوص من هذا التمني والسلامة من هذه التهنئة للعامة! فإن العاقل
لا يتمنى رتبة مثل رتبته أو دونها. ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه؛ بل لا يكون
ذلك إلا لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه، فيالله العجب من علم
يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه. وأفضل مقدارًا بالنسبة إليه! وهل سمع
السامعون بمثل هذه الغريبة أو نقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها.
وإذا كان حال هذه الطائفة [2] التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفًا،
وأقلها تبعة فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين
بطلان مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت بها
كيد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه، بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية
إلى القدح في الدين وتنفير أهله عنه [3] .
وعند هذا تعلم أن خير الأمور السالفات على الهدى، شر الأمور المحدثات
البدائع [4] ؛ وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون ثم
الذين يلونهم، وقد كانوا - رحمهم الله تعالى وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء
بهديهم - يُمرُّون آيات الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا
يحرفون ولا يؤلون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، لا
يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل، وإن نزغ من بينهم نازغ،
أو نجم في عصرهم ناجم، أوضحوا للناس أمره، وبيّنوا لهم أنه على ضلالة،
وصرّحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لمَّا
ظهر معبد الجهني وأصحابه وقالوا (إن الأمر أنف) [5] فتبرأوا منه، وبيّنوا
ضلالته وبطلان مقالته للناس؛ فحذروه إلا من ختم الله على قلبه وجعل على
بصره غشاوة.
وهكذا كان من بعدهم يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال ويحذرهم منها،
كما فعله التابعون - رحمهم الله - بالجعد بن درهم ومن قال بقوله وانتحل نحلته
الباطلة [6] . ثم ما زالو هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر
ببدعته، بل يتكتمون بها كما يتكتم الزنادقة بكفرهم. وهكذا سائر المبتدعين في الدين
على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة.
ولكنا نقتصر ههنا على الكلام في هذه المسئلة التي ورد السؤال عنها وهي
مسألة الصفات وما كان من المتكلفين علم ما لم يأذن الله بأنه يعلموه، وبيان أن
إمرار آيات الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين
وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزّاع المتكلفين، وشذّاذ المحرفين المتأولين، أن
يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه وحذروا الناس منه. وبينوا
لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام.
فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم
من الصحابة والتابعين وتابعيهم - في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور، ولا
ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوّفٍ من أهل الإسلام،
وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين،
حتى نجم ناجم المحنة، وبرق بارق الشر من جهة الدولة، ومَن لهم في الأمر
والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة. وذلك في الدولة المأمونية بسبب قاضيها
أحمد بن أبي دؤاد. فعند ذلك أطلع المكمشون في تلك الزوايا رؤوسهم، وانطلق ما
كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا مذاهبهم الزائغة، وبدعهم المضلة، ودعوا
الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين لها، حتى اختلط المعروف بالمنكر،
واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنة بالبدعة.
ولما كان الله سبحانه قد تكفل بإظهار دينه كله وحفظه عن التحريف والتغيير
والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة لهم في كل عصر من العصور من يبين
للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم - ولله الحمد - المقامات
المحمودة، والمواقف المشهودة في نصر الدين وهتك المبتدعين.
وبهذا الكلام القليل الذي ذكرناه تعرف أن مذهب السلف من الصحابة والتابعين
وتابعيهم هو إمرار آيات الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل
متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، يفضي إليه كثير من التأويل
وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات تَلَوْا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال
والقيل وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك ولا نتكلف ولا نتكلم بما لم
نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر
زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا
بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه مَنْ بعد التابعين
عن التابعين.
وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة، والطريقة لهم جميعًا
متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله به، وكلفهم القيام بفرائضه، من الإيمان بالله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج والجهاد وإنفاق الأموال في أنواع البر،
وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة
على موجبات الفوز بالجنة والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم
يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته؛ فكان
الدين إذا ذاك صافيًا عن كدر البدع، خالصًا عن شوب قذر التمذهب.
فعلى هذا النمط كان الصحابة والتابعون وتابعوهم بهدي رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا، فمن قال: إنهم تلبسوا بشيء من
هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها، فقد أعظم عليهم الفرية، وليس
بمقبول في ذلك؛ فإنّ نُقُول الأئمة المطلعين على أحوالهم العارفين بها الآخذين لها
عن الثقات الأثبات، ترد عليه وعليهم وتدفع في وجهه.
يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف. فاشدد يديك على هذا واعلم أنه
مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في
الصفات وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها،
وجعلوها أصلاً يرد إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقاها
فقد وافقا الأصول المقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المقررة في
زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالفَ لها من قسم
المردود والمتشابه؛ ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظَاهرة المعنى أو ألف
حديث مما ثبت في الصحيح - لم يبالوا به ولاء رفعوا إليه رؤوسهم، ولا عدوه
شيئًا. ومن كان منكرًا لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام. فإنه
يقف على الحقيقة ويسلم هذه الجملة ولا يتردد فيها.
ومن العجب العجيب، والنبأ الغريب، أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة
من أهل الكلام التي جعلها مَن بعدهم أصولاً، لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على
العقل، والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت
فيه إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا، وهذا يقول: حكم العقل
في هذا كذا.
ثم يأتي بعدهم مَن يجعل ذلك الذي يعقله مَن يقلده ويقتدي به أصلاً يرجع إليه
ومعيارًا لكلام الله وكلام رسوله، يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه فيالله
وياللمسلمين! ويالعلماء للدين! من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام
وأهله بمثلها.
وأغرب من هذا وأعجب وأشنع وأفظع، أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات
التي تعقلوها على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتها أصولاً ترد إليها أدلة
الكتاب والسنة - جعلوها أيضًا معيارًا لصفات الرب سبحانه، فما تَعَقَّله هذا من
صفات الله قال به جزمًا، وما تعقله خصمه منها قطع به. فأثبتوا لله الشيء
ونقيضه، استدلالاً بما حكمت به في صفات الله عقولهم الفاسدة وتناقضت في شأنه،
ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم؛ بل إن وجدوا ذلك موافقًا لما تعقلوه جعلوه مؤيدًا له ومقويًا، وقالوا: قد ورد
دليل السمع مطابقًا لدليل العقل؛ وإن وجدوه مخالفًا لما تعقلوه جعلوه واردًا على
خلاف الأصل، ومتشابهًا وغير معقول المعنى ولا ظاهر الدلالة، ثم قابلهم
المخالف بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه،
وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكمًا
عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقًا له عنده.
فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه! وكفاك بهذا
وليس بعده شيء؛ وعنده يتعثر القلم حياء من الله عز وجل.
وربما استبعد هذا مستبعد واستكبره مستكبر، وقال: إن في كلامي هذا مبالغة
وتهويلاً، وتشنيعًا وتطويلاً، وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل
الذي ذكرت، وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها فأقول: خذ جملة البلوى
ودع تفصيلها * واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته ولا
جرى القلم بمثله.
هذا أبو علي [7] وهو رأس من رؤوسهم، وركن من أركانهم، وأسطوانة من
أسطاينهم، قد حكى عنه الكبار منهم، وآخر من حكى ذلك عنه صاحب شرح
القلائد يقول: والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو! ! فخذ هذا التصريح، حيث
لم تكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله التي ليس بعدها جرأة، فيالأم
أبي علي الويل! أينهق بمثل هذا النهيق، ويدخل نفسه في هذا المضيق، وهل
سمع السامعون بيمين أفجر من هذه اليمين الملعونة، أو نقل الناقلون كلمة تقارب معنى
هذه الكلمة المفتونة؟ بلغ مفتخر إلى ما بلغ إليه هذا المختال الفخور؟ أو وصل من
يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذه الفجور؟ وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن
ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبًا في يمينه فاجرًا فيها؛ لأن كل
فرد من أفراد الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره،
ويكره أن يقف على شيء منها سواه، ومن ذا الذي يدري بما يجول في خاطر غيره
ويستكن في ضميره؟ ومن ادعى علم ذلك وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه
ذلك الغير من نفسه، ولا يعلم ذلك الغير من نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي، فهو إما
مصاب العقل، يهذي بما لا يدري، ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب عظيم
الافتراء، فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله سبحانه، فهو الذي يحول بين المرء وقلبه،
ويعلم ما توسوس به نفسه، وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون
كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز في غير موضع، فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه
من العلم ما لا يعلمه إلا الله سبحانه من عباده، فما ظنك بمن تجاوز هذا وتعداه،
وأقسم بالله إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟ ولا يصح لنا أن نحمله على
اختلال العقل 1 فلو كان مجنونًا لم يكن رأسًا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره
ومن جاء بعده، وينقلون كلامه في الدفاتر ويحكون عنه في مقامات الاختلاف.
ولعل أتباع هذا ومَن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأورد عليهم مُورد قول
الله عز وجل: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) وقال لهم: هذا يرد ما قاله
صاحبهم ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة - لقالوا: هذا ونحوه مما يدل دلالته
ويفيد مفاده من المتشابه الوارد على خلاف دليل العقل بالأصول المقررة.
وبالجملة فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات، واشتغال
بحكاية الخرافات المبكيات لا المضحكات؛ وليس مقصودنا هنا إلا إرشاد السائل
إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من دون تأويل ولا
تحريف، ولا تكلف ولا تعسف ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، وإن ذلك هو مذهب
السلف الصالح والصحابة والتابعين وتابعيهم.
فإن قلت: وماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل
المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه ويوجد
مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع (قلت) يا هذا إن
كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام؛ فإنك لا
محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم، ويحكونه عن أكابرهم،
أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا هو جسم ولا جوهر ولا عرض ولا داخل العالم
ولا خارجه [8] فأنشدك الله أي عبارة تبلغ مبالغ هذه العبارة في النفي؟ وأي مبالغة
في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكان هؤلاء في فرارهم من شبهة
التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:
فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلاً من سبل الراعد [9]
أو كالمستجير من الرمضاء بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة
الحية، أو من قرصة النملة إلى قضمة الأسد.
وقد كان يُغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله
تعالى وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما:
{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:
11) فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا ما يغني أولي
الألباب، السالكين في تلك الشعاب والهضاب، الصادعين في متوعرات هاتيك
العقاب.
فالكلمة الأولى منهما دلت دلالة بيّنة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات
الله وصفاته على وجه التدقيق ودعاوى التحقيق، فهو مشوب بشعبة من شعب
الجهل، مخلوط بخلوط هي منافية للعلم مباينة له، فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا
يحيطون به علمًا، فمَن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا؛ فلا شك أن صحة ذلك
متوقفة على الإحاطة. وقد نفيت عن كل فرد؛ لأن هذه القضية هي في قوة: لا
يحيط به فرد من الأفراد علمًا، فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل، إما
من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا
سيّما إذا كان في ذات الله وصفاته، فإن في ذلك من المخاطرة بالدين ما لم يكن في
غيره من المسائل، وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف، ولم يحظ بفائدة هذه
الآية ويقف عندها ويقتطف من ثمارها، إلا الممرون للصفات على ظاهرها،
المريحون أنفسهم عن التكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات، وهم السلف
الصالح كما عرفت، فهم الذين اعترفوا بعدم الإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها
الله وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته؛ بل العلم كله له، وقالوا كما
قال مَن قال، ممن اشتغل بطلب هذا المحال فلم يظفر بغير القيل والقال:
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهالته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم
بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما
قنع به السلف الصالح إلا مجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين فقال.
وقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائرِ ... على ذقن أو قارعًا سنَّ نادمِ
وها أنا (ذا) عن نفسي أوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني أيام
الطلب وعنفوان الشباب، شغلت بهذا العلم الذي سمّوه تارةً علم الكلام، وتارة علم
التوحيد، وتارة علم أصول الدين وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم،
ورمت الرجوع بفائدة، والتعود بعائدة، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة؛
وكان ذلك من الأسباب التي حببت إليّ مذهب السلف على أني كنت من قبل ذلك
عليه، ولكن أردت أن أزداد فيه بصيرة وبه شغفًا، وقلت عن النظر في تلك
المذاهب:
وغاية ما حصلته من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة ... فما علم مَن لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره ... وما قنعت نفسي بدون التبحر
وأما الكلمة الثانية وهي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) فبها
يستفاد نفي المماثلة في كل شيء فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، ويعرف به
الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع والبصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد
والاستواء ونحو ذلك ما اشتمل عليه القرآن والسنة، فيتقرر بذلك الإثبات لتلك
الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيدفع به جانبي [10] الإفراط
والتفريط وهما المبالغة في الإثبات المفضي إلى التجسيم، والمبالغة في النفي
المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين، وغلو الطرفين، حقية مذهب
السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبت لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه
إلا هو، فإنه القائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) .
ومن جملة الصفات التي أمرّها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به
القرآن والسنة من دون تكلف ولا تأويل - صفة الاستواء التي ذكرها السائل؛ فإنهم
يقولون: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، من استوائه على عرشه، على هيئة لا
يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه [11] ولا نكلف أنفسنا غير هذا، فليس
كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علمًا.
وهكذا يقولون في مسئلة الجهة التي ذكرها السائل وأشار إلى بعض ما فيه
دليل عليها. والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة، وقد جمع أهل العلم
منها - لا سيّما أهل الحديث - مباحث طوّلوها بذكر آيات قرآنية وأحاديث صحيحة،
وقد وقفت من ذلك على مؤلف بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي
استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجهة من كتاب أو سنة أو قول صاحب [12]
والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل،
ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية،
كثر الكلام فيها وفي مسئلة الاستواء وطال، خصوصًا بين الحنابلة وغيرهم من
أهل المذاهب. فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى، والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا
في عصر بعد عصر.
والحق هو ما عرفناك من مذهب السلف الصالح: فالاستواء على العرش،
ولكن في تلك الجهة، قد صرّح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها؛
ويطول نشرها. وكذلك صرّح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير
حديث؛ بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسّه في فطرته،
وتجذبه إليه طبيعته، كما تراه في كل مَن استغاث بالله سبحانه، والتجأ إليه ووجه
أدعيته إلى جنابه الرفيع، وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه، أو يرمي إلى
السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء، وحدوث بواعث
الاستغاثة، ووجود مقتضيات الانزعاج، وظهور دواعي الالتجاء - عالم الناس
وجاهلهم، والماشي على طريقة السلف، والمقتدي بأهل التأويل القائلين بأن
الاستواء هو الاستيلاء - كما قاله جمهور المتأولين - أو الإقبال كما قاله أحمد بن
يحيى ثعلب والزجّاج والفراء وغيرهم، أو كناية عن الملك والسلطان [13] كما قاله
آخرون. فالسلامة والنجاة في أمرار ذلك على الظاهر والإذعان بالاستواء والكون [14]
على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف ولا قيل ولا قال، ولا
فضول في شيء من المقال، فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تقريظ فهو غير مقتد
بالسلف ولا وافق طريق النجاة، ولا معتصم عن الخطأ، ولا سالك في طريق
السلامة والاستقامة.
وكما نقول هذا في الاستواء والكون في تلك الجهة؛ فكذا نقول في مثل قوله
سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) وقوله: {مَا يَكُونُ مِن
نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة: 7) وفي
نحو: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا
وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل: 128) إلى ما يشابه ذلك وما يماثله ويقاربه
ويضارعه، فنقول في مثل هذه الآيات: هكذا جاء القرآن أن الله سبحانه مع هؤلاء،
ولا نتكلف بتأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون
العلم ومعيته، فإن هذه من شعبة التأويل تخالف مذاهب السلف، وتباين ما كان عليه
الصحابة والتابعون وتابعوهم [15] .
... وأذا انتهيت إلى السلا ... مة في مداك فلا تجاوز
__________
وهذا الحق ليس به خفاء ... فدعي من بُنيات الطريق
وقد هلك المتنطعون، ولا يهلك على الله إلا هالك، وعلى نفسها براقش تجني،
وفي هذه الجملة - وإن كانت قليلة - ما يغني مَن يشح بدينه ويحرص عليه عن
تطويل المقال وتكثير ذيوله، وتوسيع دائرة فروعه وأصوله. والمهدي من هداه الله،
والله أعلم. انتهى
__________
(1) هي فرقة الأشعرية التي توسطت بين المعتزلة والجبرية السابق ذكرهما.
(2) الأشعرية.
(3) هذا وصف طوائف الباطنية كالإسماعيلية والبابية.
(4) هذا بيت شعر أوله: (وخير الأمور إلخ) جعله نثرًا.
(5) أُنُف - بضمتين - أي: مستأنف جديد، يعني أن أفعال الباري تعالى ليست بقدر سابق، ولا نظام اقتضته الحكمة، وإنما يبتدئ كل فعل ابتداء، وهم القدرية أي منكرو القدر.
(6) هم الجهمية منكرو الصفات الإلهية.
(7) يعني الجبائي، وإنما جاء بالشاهد من قول المعتزلة لفظاعته ولأن أهل وطنه (اليمن) من الزيدية
لا يزالون يأخذون بأقوالهم، وما من فرقة من الفرق إلا ولها شذوذ في هذه المسائل، حتى لم يسلم منه من سموا أنفسهم الأثرية أو الحنابلة، فإن منهم من بالغ في الرد على غيره، حتى قال ما لم يقله سلفه وكذلك الأشعرية الذين حاولوا الجمع بين المأثور والمعقول.
(8) قولهم هذا له تتمة وهي: ولا هو متصل به ولا هو منفصل عنه ولا مباين له ولا محايث له، ولا هو فينا ولا خارج عنا.
(9) المثعب: المكان الذي يتفجر منه الماء المجتمع في حوض ونحوه، والموائل: اللاجئ إلى مأمن يأمن به من ضر أو شر يخافه، والمعنى: فكنت كالهارب من مطر يخافه إلى سيل متفجر يجرفه، ولعلَّ (سبل) محرفة عن (سيله) .
(10) كذا والصواب (جانبا) لأنه فاعل (يندفع) إلا أن يكون في الكلام نقص سقط به فاعل
(يندفع) .
(11) إنما يذكر لفظ الهيئة والكيفية في هذا المقام كما يذكر لفظ الصفة، بناء على أن ما يستعمل في الكلام عن الباري تعالى من الألفاظ إنما يشار بها إشارة إلى المعنى الشريف الذي يعرفه الخلق من أنفسهم مع نفي التشبيه والتمثيل من كل وجه بناء على ما ثبت من التنزيه عقلاً ونقلاً، ومن العلماء من يعبر عن مذهب السلف بنفي الكيف لا بإثباته مع نفي العلم به، وهو ما عبروا عنه (بالبلكفة) المنحوتة من قولهم: بلا كيف.
(12) قد طبع هذا الكتاب في مطبعة المنار، وفيه أيضًا ما نقل عن أشهر علماء السلف، ومَن بعدهم من كبار الفقهاء والمتكلمين في إثبات الصفات.
(13) هذا القول لا ينافي إمرار اللفظ على ظاهره والتسليم باستواء يليق بالرب ويفوض إليه علم
كنهه؛ لأن الكناية لا تنافي الحقيقة كما ينافيها المجاز عند الجمهور المانعين من جمعها معها، فذكر الاستواء في القرآن في سياق خلق السموات والأرض يفيد معنى القيام بأمر الملك وتدبيره، وصرّح به في سورة يونس فقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس: 3) وهذا المعنى هو الذي يتبادر إلى فهم كل عربي قح من كلمة (استوى فلان على عرش الروم أو الفرس مثلاً) ، فهو لا يفكر عند سماع الكلمة في كيفية الكرسي الخاص بملك تلك البلاد، ولا في كيفية جلوس الملك عليه، وإنما يفكر في المراد من هذا التعبير ولو أن خادمًا من خدم قصر الملك جلس على عرشه عند تنظيف الحجرة التي هو فيها لا يقال فيه: إنه استوى على عرش تلك المملكة، فإذا قلنا: إنه ينبغي لنا في تدبر آيات الاستواء على العرش أن نفكر في لازم الاستواء - وهو الانفراد بالملك والسلطان والتدبير - لم نكن بذلك متأولين للآيات، ولا خارجين عن مذهب السلف في إمرارها كما جاءت، من غير أن نجيز لأنفسنا البحث عن كيفية ذلك الاستواء من حيث معناه الحقيقي.
(14) لعله سقط من ههنا (في جهة العلو) .
(15) ورد عن الإمام أحمد وغيره من علماء السلف جعل المعية بمعنى العلم، فصار هذا التأويل مما يعترف به الحنابلة والأثريون، وإنما الجأهم إليه رد قول الجهمية وغيرهم أنه تعالى في كل مكان، وقد نقل الذهبي ذلك في كتابه المشار إليه آنفًا عن كثيرين.(17/817)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(س23و24) من صاحب الإمضاء الرمزي في سمبس برنيو (جاوه)
حضرة العلامة الكبير، والإمام الجليل، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب
المنار الأغر نفعني الله والمسلمين بوجوده الشريف آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فيا سيدي الأستاذ نرجو من فضيلتكم
التكرم علي بأن تجيبوني عن الأسئلة الآتي ذكرها جوابًا مقنعًا، ولكم الفضل
والشكر وهي:
(أ) ما تقولون في قول الفقهاء: لا يجوز تحليف القاضي ولا الشهود وإن
كان ينفع الخصم تكذيبهما أنفسهما؛ لأن منصبهما يأبى ذلك؛ ولأن التحليف كالطعن
في الشهادة أو في الحكم. فإذا علم الشاهد أو القاضي أنه يحلف امتنع الأول من
الشهادة والثاني من الحكم فيؤدي ذلك إلى ضياع حقوق الناس، وهذا فساد عام،
فهل هذا القول صحيح؟ وقد جرت الحكومة الهولندية بتحليف الشهود قبل أن يؤدوا
الشهادة سواء كانوا صادقين أو كاذبين فرأى كثير من عمال الحكومة أن ذلك هو
الأحسن والأحوط والأوفق لهذا العصر. والمرجو من فضيلة سيدي الأستاذ إبداء
رأيه السديد في هذه المسألة بالحجة والبرهان.
(ب) هل من العقل والحكمة ومن مقاصد الشريعة الإسلامية ما اشترطه
الفقهاء في الهبة من أنها لا تصح إلا بإيجاب وقبول، ولا تلزم إلا بقبض الموهوب
له بإذن الواهب؟ قال في بداية المجتهد: وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول
عند الجميع، وأما الشروط فأشهرها القبض. أعني أن العلماء اختلفوا: هل
القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من
شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب، وقال مالك: ينعقد
بالقول ويجبر على القبض كالبيع. إلى قوله: فمالك، القبض عنده في الهبة من
شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط
الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها
أصلاً، لا من شروط تمام ولا من شروط صحة. اهـ
فأي الأصح من هذه الأقوال المختلفة فيها؟ القول باشتراط القبض؟ أم القول
بعدم اشتراطه؟ وهل يصح أن يحتج من اشترط القبض في الهبة بحديث أبي بكر
أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقًا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله
يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك. ولا أعز علي فقرًا بعدي منك.
وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، فلو كنت جذذتيه واختزنتيه كان لك، وإنما
هو اليوم مال ورث؟ وهل صح ما استدلوا به على أن القبض شرط في صحة الهبة
من خبر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى للنجاشي ثلاثين أوقية مسكًا فمات قبل أن
يصل إليه فقسمه صلى الله عليه وسلم بين نسائه؟
هذا وأرجو فضيلتكم بيان هذه المسائل على قاعدة: (درء المفاسد مقدم على
جلب المصالح) . ... ... ... ... ... (م. ب. ع) ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... تحليف القاضي والشهود
(ج) القول بأن تحليف القاضي والشهود لا يجوز شرعًا لما ذكر من العلل
لم يظهر لنا وجه صحته، فقولهم: إن ذلك ما يأباه منصبهما، لا نعرف له مستندًا
في الكتاب والسنة، وما يليق بالمنصب وما لا يليق به ليس أمرًا ثابتًا مطردًا دائمًا؛
بل هو مما يختلف باختلاف العرف والعادة ويتغير آنًا بعد آن، كما يعهد من الناس
في الأمكنة المختلفة والأزمان. مثال ذلك أن العرف والعادة في مصر والآستانة
والشام أن لا يخرج القاضي الشرعي والمفتي وكبار العلماء إلى زيارة أحد بغير
عمامة، وهذه عادة قديمة حتى عند بعض العلماء من أعذار ترك الجمعة والجماعة
فقد العمامة اللائقة بأمثال هؤلاء. ولكن هذه العادة لا تلتزم في الهند؛ فقد يخرج
كبار العلماء من بيوتهم إلى زيارة بعض الإخوان بغير عمائم، وإنما يضعون على
رؤوسهم نوعًا من الكُمات الرقيقة: (الكُمة - بالضم - شيء مستدير يوضع
على الرأس ومنه ما يسمى في مصر طاقية وفي غيرها عراقية) وقد ورد أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع بعض أصحابه لزيارة وليس على
رؤوسهم شيء.
وقولهم: إن التحليف كالطعن في الشهادة أو الحكم، فممنوع، وقد يقال: إنه
تأكيد لهما، وأما قولهم: إن القاضي والشاهد يمتنعان من القضاء والشهادة إذا علما
أنهما يحلفان، فهو من النظريات المنقوضة بما عليه عمل كثير من الأمم الآن.
فالحكومة العثمانية والحكومة المصرية قد جرتا على تحليف الشهود ولم يمتنعوا،
وعلى تحليف من تسند إليهم المناصب الكبيرة يمين الإخلاص لرئيس الحكومة
(السلطان) ولو قالوا: إن التحليف لمن ذكر لا يجب شرعًا، لَمَا وجدنا إلى
مخالفتهم سبيلاً؛ ولكن نفي الجواز لا يسلم إلا بدليل شرعي.
هذا وإن لتأكيد الشهود شهادتهما بالقسم أصلاً في القرآن كما ترى في شهادة
الوصية {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناًّ} (المائدة: 106)
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: 107) وقد قال تعالى بعد
بيان أحكام هذه الشهادة معللاً لها: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} (المائدة: 108) إلخ وسيأتي في التفسير قريبًا إن شاء الله تعالى.
***
الهبة وما يشترط فيها
معنى الهبة عند الجمهور: تمليك بلا عوض، ويرى بعضهم أنه يدخل
في عمومها الإبراء من الدين والهدية والصدقة، وإنما يخص بعض الأنواع باسم
لإفادة المعنى الخاص الذي انفرد به عن سائر الأنواع، فالصدقة هبة يراد بها
ثواب الآخرة والأصل فيها أن تكون للمحتاج. والهدية هبة يراد التودد بها إلى المُهدى
إليه، وتكون بين الأغنياء والفقراء؛ لأن التودد يكون بين جميع أصناف
الناس.
والعمدة فيها العرف؛ فما تعارف الناس عليه كان صحيحًا شرعًا ما لم يكن
مخالفًا للشرع. وتحصل بالإيجاب القولي من الواهب والقبول القولي من الموهوب
له كما تحصل بالتعاطي وهو إيجاب وقبول بالفعل. وهي تتحقق بالقبض قطعًا.
وعدم القبض قد يكون ردًّا وقد يكون توانيًا. فهو جدير بأن يختلف فيه. وليس في
الباب نصوص عن الشارع كلف الناس اتباعها في طرق التمليك والتملك. والحديث
في هدية النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي جارٍ على مسألة العرف وتحقق الهبة
بالفعل أو عدم تحققها، وهو في مسند أحمد من حديث أم كلثوم بنت أبي سليمة،
وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي اختلف في توثيقه وتضعيفه. وأم موسى بنت
عقبة، قال في مجمع الزوائد: لا أعرفها.
وأما أثر عائشة فقد رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة
عنها، وروى البيهقي نحوه عن مالك وغيره. وظاهر الأثر أن عائشة لم تقبل نحلة
أبيها فبقيت في يده إلى أن أدركته الوفاة فذكر لها أنه يتركها إرثًا. وأن هذا ليس من
باب الاعتصار، وهو رجوع الوالد بما يهبه للولد في حياته، وهو جائز عند أكثر
الفقهاء.
وما قاله ابن رشد - من أن الهبة لا بد فيها من الإيجاب والقبول عند الجميع -
فهو غير صحيح إذا أراد بهما الصيغة باللسان أو الكتابة، فقد نقل العلماء الخلاف
في ذلك كالحافظ ابن حجر والإمام الشوكاني وغيره. وتجد تحرير هذه المسألة
بدلائلها في جميع العقود في المبحث النفيس الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في
مسألة العقود، فراجعه في المجلد الثالث من مجوعة فتاواه المطبوعة بمصر،
وخص بالتأمل الوجه الثالث في ص 272 - 274.
__________(17/829)
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
__________
الفرق بين البدع
والمصالح المرسلة والاستحسان [*]
من مباحث كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي. وهو ما عقد له الباب الثامن
منه، قال رحمه الله تعالى:
هذا الباب يُضطرُّ إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة،
فإن كثيرًا من الناس عَدُّوا أكثر المصالح المرسلة بدعًا، ونسبوها إلى الصحابة
والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات. وقوم جعلوا البدع
تنقسم بأقسام أحكام الشريعة، فقالوا: إن منها ما هو واجب ومندوب، وعدُّوا من
الواجب كَتْبَ المصحف وغيره، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على
قارئ واحد.
وأيضًا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد
له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص، ولا كونه قياسًا
بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا بعينه موجود في البدع
المستحسنة، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية - في زعم واضعيها - في
الشرع على الخصوص.
وإذا ثبت هذا، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقًّا، فاعتبار البدع
المستحسنة حق؛ لأنهما يجريان من وادٍ واحد. وإن لم يكن اعتبار البدع حقًّا، لم
يصح اعتبار المصالح المرسلة.
وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه؛ بل قد اختلف فيه أهل
الأصول على أربعة أقوال: فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده؛ وأن
المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل. وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام
عليه على الإطلاق. وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم
يستند إلى أصل صحيح؛ لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة. هذا ما حكى
الإمام الجويني.
وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتب التحسين والتزيين لم يعتبر
حتى يشهد له أصل معين، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله؛ لكن
بشرط. قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. واختلف قوله في الرتبة
المتوسطة، وهي رتبة الحاجي، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه، وقبله في
شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله -: فالأقوال
خمسة، فإذاً الراد لاعتبارها لا يبقى له في الواقع له [1] في الوقائع الصحابية مستند
إلا أنها بدعة مستحسنة (كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في
الاجتماع لقيام رمضان: نعمت البدعة هذه) إذا لا يمكنهم ردها، لإجماعهم عليها.
وكذلك القول في الاستحسان فإنه - على ما [2] المتقدمون - راجع إلى الحكم
بغير دليل، والنافي له لا يعد الاستحسان سببًا، فلا يعتبر في الأحكام ألبتة، فصار
كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها.
فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته
كان من الحق المتعين: النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء؛ حتى يتبين أن
المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر، بحول الله، والله الموفق
فنقول:
المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:
(أحدها) : أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في
إعماله؛ وإلا كان مناقضًا للشريعة، كشريعة القصاص حفظًا للنفوس والأطراف
وغيرها.
و (الثاني) : ما شهد الشرع بردّه، فلا سبيل إلى قبوله؛ إذ المناسبة لا
تقتضي الحكم لنفسها؛ وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي؛ بل إذا ظهر المعنى
وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذٍ نقبله؛ فإن المراد بالمصلحة
عندنا: ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا
يستقل العقل بدركه على حال: فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى؛ بل برده،
كان مردودًا باتفاق المسلمين.
ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين
فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما
خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى
الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين؟ فقال
لهم: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك وأعتق عبيدًا مرارًا، فلا يزجره
إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين.
فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والمَلك لا
يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفُتْيَا باطلةٌ؛ لأنَّ العلماء بين قائلين: قائل
بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام. فتقديم الصيام بالنسبة إلى
الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا، لكنه على صريح الفقه.
قال يحيى بن بكير: حنث الرشيد في يمين، فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه
عتق رقبة. فسأل مالكًا؛ فقال: صيام ثلاثة أيام. واتبعه على ذلك إسحاق بن
إبراهيم من فقهاء قرطبة.
حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء، وشاورهم في
مسألة نزلت به؛ فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائم [3] ووطئها في
رمضان، فأفتوا بالإطعام، وإسحاق بن إبراهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين: ما
يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له: لا أقول بقولهم، وأقول بالصيام. فقيل
له: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: تحفظون مذهب مالك؛ إلا أنكم تريدون
مصانعة أمير المؤمنين. إنما أمر مالك بالإطعام لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال
له، إنما هو بيت مال المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه.
اهـ. وهذا صحيح.
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان
فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته. فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك صيام
شهرين متتابعين. فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من
عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام
والصيام؟ فقال لهم: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة؛
ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى -
رحمه الله - وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفًا للإجماع.
(الثالث) : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه.
فهذا على وجهين:
أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث،
فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه [4] فإن هذه العلة لا عهد
بها في تصرفات الشرع بالفرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا
يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق. ومثل هذا تشريع من القائل به،
فلا يمكن قبوله.
والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره
الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح
المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.
ولنقتصر على عشرة أمثلة:
(أحدها) : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع
المصحف، وليس ثَمَّ نص على جمعه وكتبه أيضًا؛ بل قد قال بعضهم: كيف نفعل
شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فروي عن زيد بن ثابت - رضي
الله عنه - قال: أَرسل إليَّ أبو بكر - رضي الله عنه - مقتل (أهل) اليمامة،
وإذا عنده عمر - رضي الله عنه - قال أبو بكر: (إن عمر أتاني فقال) : إن
القتل قيد استحرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة [5] وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء
في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن (قال)
فقلت له: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له،
ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا
نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن
فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك.
فقلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر:
هو والله خير. فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي
شرح له صدورهما. فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف [6] ومن
صدور الرجال.
فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.
ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل
العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان:
يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود
والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أرسلي إلي بالصحف ننسخها في
المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت حفصة بها إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد
ابن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث
ابن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف. ثم قال للرهط القرشيين
الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم.
قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، بعث عثمان في كل أفق
بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها. ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في
كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
فهذا أيضًا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لا يحصل منها في
الغالب اختلاف؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات - حسبما نقله العلماء المعتنون
بهذا الشأن - فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما
عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان، وقال: يا أهل العراق، ويا أهل
الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن الله يقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ
بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} (آل عمران: 161) وألقوا إليه بالمصاحف. فتأمل كلامه
فإنه لم يخالف في جمعه. وإنما خالف أمرًا آخر. ومع ذلك فقد قال ابن هشام:
بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم
رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعًا، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة،
والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن،
وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه [7] .
وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها، إذا خيف
عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم.
وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل؛
لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مُغَفّلاً جدًّا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن
وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يُشفى الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي، ولم
أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في
جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو
فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن
ينتفع به واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين، إنه
ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته.
المثال الثاني
اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حد شارب الخمر ثمانين.
وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل. قال العلماء:
لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد مقدر؛ وإنما جرى الزجر
فيه مجرى التعزير. ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - قرّر على
طريق النظر بأربعين، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس
فجمع الصحابة - رضي الله عنهم - فاستشارهم، فقال علي رضي الله عنه: من
سكر هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري.
ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع [8] يقيم
الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات، والمظنة مقام الحكمة؛ فقد جعل
الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال، وجعل الحافر للبئر في محل
العدوان وإن لم يكن ثَمَّ مرد كالمردي نفسه، وحرم الخلوة بالأجنبية حذرًا من
الذريعة إلى الفساد، إلى غيره من الفساد: فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي
تقتضيه كثرة الهذيان؛ فإنه أول سابق إلى السكران (قالوا) فهذا من أوضح الأدلة
على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها (يعني على الخصوص به)
وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم.
المثال الثالث
إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه: (لا
يصلح الناس إلا ذاك) ووجه المصلحة فيه أن أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم
يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو
لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما
ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق؛ وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك
بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة،
فكانت المصلحة التضمين. هذا معنى قوله: (لا يصلح الناس إلا ذاك) .
ولا يقال: إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء؛ إذ لعله ما أفسد ولا
فرّط، فالتضمين مع ذلك كان نوعًا من الفساد؛ لأنَّا نقول: إذا تقابلت المصلحة
والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت، ووقوع التلف من الصُناع من غير
تسبب ولا تفريط بعيد، والغالب الفوت، فوت الأموال، وأنها لا تستند إلى التلف
السماوي؛ بل ترجع إلى صُنع العباد على المباشرة أو التفريط، وفي الحديث: (لا
ضرر ولا ضرار) وتشهد له الأصول من حيث الجملة، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد، وقال: (دع الناس يرزق الله بعضهم من
بعض) وقال: (لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق) وهو
من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فتضمين الصناع من ذلك
القبيل.
... ... ... ... المثال الرابع
إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم. وذهب مالك إلى جواز السجن في
التهم، وإن كان السجن نوعًا من العذاب. ونص أصحابه على جواز الضرب،
وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن
بالتهم؛ لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب؛ إذ قد يتعذر إقامة
البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.
فإن قيل: هذا فتح باب تعذيب البريء [9] قيل: ففي الإعراض عنه إبطال
استرجاع الأموال؛ بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررًا؛ إذ لا يعذب أحد لمجرد
الدعوى، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعًا من الظن.
فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته، فتغتفر، كما اغتفر
في تضمين الصناع [10] .
فإن قيل: لا فائدة في الضرب، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال.
فالجواب: إن له فائدتين، إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البيّنة لربه،
وهي فائدة ظاهرة، والثانية: أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام، فتقل أنواع
هذا الفساد.
وقد عد له سحنون فائدة ثالثة؛ وهي الإقرار حالة التعذيب؛ فإنه يؤخذ عنده
بما أقر في تلك الحال. قالوا وهو ضعيف، فقد قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ} (البقرة: 256) ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع،
كما إذا أكره على طلاق زوجته، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به،
كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف، فإنه مأخوذ به. وقد تتفق له بهذه الفائدة على
مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به.
قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي أنه لا يقول بذلك: وعلى الجملة فالمسألة
في محل الاجتهاد. قال: ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع، فإذا وقع النظر في
تعارض المصالح، كان ذلك قريبًا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة.
المثال الخامس
إنّا إذا قررنا إمامًا مُطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك
المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم،
فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن
يظهر مال بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير
ذلك، كي لا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب. وذلك يقع قليلاً من
كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود.
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف
زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام
ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار.
وإنما نظام كله شوكة الإمام بعدله. فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع
عنهم الشوكة، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلاً عن اليسير منها، فإذا
عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم، فلا
يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول. وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر
في الشواهد.
والملاءمة الأخرى: أن الأب في طفله، أو الوصي في يتيمه، أو الكافل
فيمن يكفله، مأمور [11] برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله إلى وجوه من
النفقات أو المؤن المحتاج إليها. وكل ما يراه سببًا لزيادة ماله أو حراسته من التلف
جاز له بذل المال في تحصيله.
ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل، ولا نظر إمام المسلمين
يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره.
ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة وإذا دعاهم الإمام وجبت
الإجابة، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة، زيادة إلى إنفاق المال، وليس
ذلك إلا لحماية الدين، ومصلحة المسلمين.
فإذا قدرنا هجومهم [12] واستشعر الإمام في الشوكة ضعفًا وجب على الكافة
إمدادهم. كيف والجهاد في كل سنة واجب على الخلق؟ وإنما يسقط باشتغال
المرتزقة، فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك.
وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم، فلا يؤمن من انفتاح باب
الفتن بين المسلمين. فالمسألة على حالها كما كانت، وتوقع الفساد عتيد، فلا بد من
الحراس.
فهذه ملائمة صحيحة، إلا أنها في محل ضرورة، فتقدر بقدرها، فلا يصح
هذا الحكم إلا مع وجودها. والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت
المال دخل ينتظر أو يرتجى، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه [13] الدخل
بحيث لا يغني كبير شيء، فلا بد من جريان حكم التوظيف.
وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه، وتلاه في تصحيحها
ابن العربي في أحكام القرآن له، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع
التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.
المثال السادس
إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات [14] فاختلف
العلماء في ذلك - حسبما ذكره الغزالي - على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في
أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه.
فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا
يلائم تصرفات الشرع مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات
البدنية بالسجن والضرب وغيرهما (قال) فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله فرد نعله
وشطر عمامته. قلنا: المظنون من عمر أنه لا يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف
المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية
وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال فرأى شطر ماله من فوائد الولاية، فيكون
استرجاعًا للحق لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد
الشرع. هذا ما قال. ولِما فعل عمر وجه آخر غير هذا؛ ولكنه لا دليل فيه على
العقوبة بالمال كما قال الغزالي.
وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان:
(أحدهما) : كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح، على أن
ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك، فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم
يكن بيت مال: إنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال
إليه ابن رشد. ورده عليه ابن النجار القرطبي، وقال: إن ذلك من باب العقوبة في
المال، وذلك لا يجوز على حال.
و (الثاني) : أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه،
فالعقوبة فيه عنده ثابتة. فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه:
إنه يتصدق به على المساكين قل أو أكثر. وذهب ابن القاسم ومطرف وابن
الماجشون إلى إنه يُتصدق بما قل منه دون ما كثر. وذلك محكي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء، ووجه ذلك التأديب
للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، ولكن من باب الحكم على الخاصة لأجل
العامة. وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلاً شرعيًّا، وذلك أنه عليه السلام
أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحُمُر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة
أيضًا من ذلك.
ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا فإنه يكسر
على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبًا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى
هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه
ما تقدم.
المثال السابع
إنه لو طبق الحرامُ الأرضَ، أو ناحيةً من الأرض يعسر الانتقال منها،
وانسدت طرق المكاسب الطيبة، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق - فإن
ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس
والمسكن؛ إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال، ولم يزل
الناس في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا، وفي ذلك خراب الدين. لكنه لا ينتهي إلى
الترفه والتنعم، كما لا يقتصر على مقدار الضرورة.
وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه، فإنه قد أجاز أكل
الميتة للمضطر، والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك من الخبائث المحرمات.
وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة، وإنما
اختلفوا إذا لم تتوال: هل يجوز له الشبع أم لا؟ وأيضًا فقد أجازوا أخذ مال الغير
عند الضرورة أيضًا. فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك.
وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطًا شافيًا جدًّا [15] وذكرها في كتبه
الأًولية كالمنخول وشفاء العليل.
المثال الثامن
إنه يجوز قتل الجماعة بالواحد. والمستند فيه المصلحة المرسلة؛ إذ لا نص
على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهو
مذهب مالك والشافعي. ووجه المصلحة أن القتيل معصوم، وقد قتل عمدًا،
فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى
السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقًا،
والمشترك ليس بقاتل تحقيقًا.
فإن قيل: هذا أمر بديع في الشرع [16] وهو قتل غير القاتل. قلنا: ليس
كذلك؛ بل لم يقتل إلا القاتل، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعي،
فهو مضاف إليهم تحقيقًا إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين في تنزيل
الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعًا مع ما
فيه من حفظ
مقاصد الشرع في حقن الدماء، وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة،
وقطع الأيدي في النصاب الواجب [17] .
المثال التاسع
إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة
الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضًا - أو كادوا أن يتفقوا - على
أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الاجتهاد. وهذا صحيح على
الجملة، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا على
إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين
وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين: إما أن يترك
الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج. وإما أن يقدموه فيزول الفساد به، ولا
يبقى إلا فوت الاجتهاد، والتقليد كافٍ بحسبه.
وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة؛ وهو مقطوع
به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد؛ فهذا - وإن كان ظاهره مخالفًا لما
نقلوا من الإجماع في الحقيقة - إنما انعقد على فرض أن يخلو الزمان من مجتهد،
فصار مثل هذه المسئلة مما لم ينص عليه، فصح الاعتماد فيه على المصلحة.
المثال العاشر
إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل: إن ردَّدنا في مبدأ
التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها؛ فيتعين تقديم المجتهد؛ لأن
اتباع الناظر علم نفسه له مزية على اتباع علم غيره، فالتقليد والمزايا لا سبيل
إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها.
أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد، وقامت
له الشوكة، وأذعنت له الرقاب، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع
الشرائط - وجب الاستمرار [18] .
وإن قُدِّر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية، وجميع شرائط
الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضهم لإثارة فتن واضطراب
أمور- لم يجز لهم [19] خلعه والاستبدال به؛ بل تجب عليهم الطاعة له، والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت في الإمامة تحصيلاً
لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وأن الثمرة المطلوبة
من الإمام تطفئة الفتن الثائرة؛ من تفرق الآراء المتنافرة. فكيف يستجيز العاقل
تحريك الفتنة، وتشويش النظام، وتفويت أصل المصلحة في الحال؟ تشوُّفًا إلى
مزيد [20] دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد (قال) وعند هذا ينبغي أن يقيس
الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد، بما
ينالهم لو تعرضوا لخلعه والاستبدال به، أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة.
هذا ما قال [21] ، هو متجه بحسب النظر المصلحي، وهو ملائم لتصرفات
الشرع - وإن لم يعضده نص على التعيين.
وما قرره هو أصل مذهب مالك. قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟
قال: لا! قيل له: فإن كانوا أئمةَ جَورٍ؟ فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن
مروان، وبالسيف أخذ الملك؛ أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع
والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه.
قال يحيى: والبيعة خير من الفرقة (قال) ولقد أتى مالكًا العمريُّ فقال له:
يا أبا عبد الله بايعني أهل الحرمين، وأنت ترى سيرة أبي جعفر، فما ترى؟ فقال
له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلاً صالحًا؟ فقال
العمري: لا أدري. قال مالك: لكني أنا أدري، إنما كانت البيعة ليزيد بعده،
فخاف عمر إن ولى رجلاً صالحًا أن لا يكون ليزيد بدٌّ من القيام، فتقوم هجمة فيفسد
ما لا يصلح. فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك.
فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن
تقع فتنة وما لا يصلح، فالمصلحة في الترك.
وروى البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن
عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(يُنصب لكل غادر لواءٌ يوم القيامة) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله
ورسوله، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل
بيني وبينه.
قال ابن العربي: وقد قال ابن الخياط: إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كُرْهًا،
وأين يزيد من ابن عمر؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن
التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى. فخلع يزيد لو تحقق
أن الأمر يعود في نصابه.. [22] فكيف ولا يعلم ذلك؟ وهذا أصل عظيم فتفهموه
والزموه ترشدوا إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في ص 753.
(1) قوله: (في الواقع له) لا معنى له ولعله زائد.
(2) بياض في الأصل ويصح المعنى بتقدير الساقط: (قال) أو (ذهب إليه) .
(3) المراد بكرائمه: عقائل نسائه الحرائر لا بناته، كما هو المستعمل في عرف زماننا.
(4) تأمل العبارة من أولها.
(5) استحرَّ القتل: اشتد وكثر، والقُرَّاء: حفظة القرآن.
(6) العسب: جمع عسيب؛ وهو جريد النخل، واللخاف كلحاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة كسمكة.
(7) هذا القول يحتاج إلى مزيد بيان، وهو أن الله تعالى سمّى القرآن كتابًا؛ فأفاد ذلك وجوب كتابته كله، ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتَّابًا للوحي، وتفريق الصحف المكتوبة لا يعقل أن يكون مطلوبًا للشارع حتى يحتاج جمعها إلى دليل خاص. ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها في حياته لاحتمال المزيد في كل سورة ما دام حيًّا، كما قال العلماء.
(8) في نسخة ثانية (الشريعة تقيم) كما يستفاد من هامش الأصل.
(9) لعل الأصل (لتعذيب البريء) .
(10) ينظر أين يرجع الضمير الذي أسند إليه هذا الفعل، فإن كان (المصادفة) فالظاهر أن يؤنث بالتاء؛ فيقال: (اغتفرت) كما قال: (فتغتفر) وإن أرجع إلى (التعذيب) رد بأن تضمين الصناع ليس تعذيبًا، ولعل الأصل تأنيث الفعل، أو حذف (في) وجعل (تضمين) هو الفاعل.
(11) قوله: (مأمور) خبر (أن الأب) باعتبار ما عطف عليه.
(12) قوله: (هجومهم) يعني المسلمين الذين وطئ الكفار أرضهم محاربين لهم.
(13) في الأصل (وجوده) وهو غلط.
(14) ينظر أين جواب (لو) ؟ وما موقع الفاء من قوله: (فاختلف العلماء) .
(15) للغزالي كلمة في عدم تعدي الحرام إذا كثر وعم؛ وهي: (إذا حرم كله حل كله) أي لا يبحث المرء في هذه الحال عن أصل المال؛ بل يتحرى أن يأخذه من وجه حلال.
(16) البديع: المختَرَع على غير مثال سابق، والمعنى ليس له أصل من الشرع، لا خاص فيكون قياسًا عليه، ولا عام فيكون من المصالح المرسلة.
(17) أي إذا قطع جماعة يد أحد أو سرقوا نصابًا بالتعاون والاشتراك: تقطع أيديهم كلهم.
(18) قوله: (وجب) إلخ جواب قوله: (أما إذا انعقدت) .
(19) قوله: (لم يجز لهم) إلخ جواب وجزاء قوله: (وإن قدر) إلخ.
(20) كذا ولعله (مزية) .
(21) أي الغزالي، وقد فاته وفات أمثاله أن ينبهوا المسلمين على أن هذه الأقوال والفتاوى المبنية على الضرورة تتقدر بقدرها كسائر الضرورات، وأن يسعى المسلمون لإزالتها بوسائل تُتقى فيها الفتنة أو يرتكب فيها أخف الضررين، وقد يكون أخفهما خلع الإمام الجائر الجاهل، وكم من سلطان خلع، ومن دولة دالت، ولم يكن ضرر ذلك أرجح من الصبر عليه، على أن ذلك لم يكن إلا تنازعًا على الملك، فكيف لو كان لأجل وضع الحق في نصابه.
(22) سقط من هنا خبر المبتدأ الذي هو قوله: (فخلع يزيد) ولعل الساقط قوله: (تعرض للفتنة) كما يفهم من سياق الكلام أي أن خلع يزيد تعرض للفتنة لا يجوز مع العلم بأن الخلافة تعود إلى
مستحقها، فكيف وذلك غير معلوم، لجواز أن ينكل بمن خلعوه ويبقى الأمر بيده أو تعود إلى مثله أو شر منه.(17/833)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صديق
بسم الله الرحمن الرحيم
الغرض من هذه المحاضرات إيقافكم على أصول بعض أنواع العلوم الطبيعية
والطبية، خصوصًا ما كان منها له مساس بعلم قانون الصحة، فإنه هو
المقصد الأصلي الذي نرمي إليه في جميع هذه المحاضرات؛ لأن هذا العلم هو كثمرةٍ
شهيَّةٍ ممّا تنتجه شجرة العلوم العصرية، طبيعية كانت أو طبية، والغرض منه
معرفة الأصول والقواعد الصحية التي بها يحفظ الجسم من الضعف والانحلال
بقدر الإمكان، وكذا من الأمراض المعدية وغير المعدية.
وستسمعون مني في سياق هذه المحاضرات تعريب كثير من الألفاظ العلمية،
وتطبيق حقائق هذه العلوم على نصوص الديانة الإسلامية الغراء.
وهاكم أسماء العلوم التي نريد أن نتكلم عليها بعون الله تعالى:
1 - الكيمياء 2 - الطبيعة 3 - التشريح 4 - الفسيولوجيا [1]
5- الهستولوجيا [2] 6 - البكتيريولوجيا [3] الأمراض المعدية، وغير ذلك.
***
نبذة في علم الكيمياء Chemistry
الكيمياء القديمة كان الغرض منها معرفة حجر الفلاسفة وهو الجوهر الذي إذا
وضع على أي معدن يُصيِّره ذهبًا على زعمهم. ومعرفة إكسير الحياة، وهو الذي
كانوا يظنون أنه يعيد الشيخ شابًّا أو أنه يشفي جميع الأمراض. وأما الآن فالغرض
من الكيمياء معرفة أصول المركبات وكيفية تركيبها وتحليلها. وهذه الأصول تسمى
بالعناصر، والعناصر كثيرة؛ ولكنها الآن لا تتجاوز الثمانين، ومن أهمها الحديد
والنحاس والأكسجين والكربون.
وأما المركبات فمنها الخشب والسكر والماء وغير ذلك. والراجح عند العلماء
الآن أن جميع العناصر هي أيضًا مركبات وكلها ترجع إلى أصل واحد، وهو
الأثير الذي هو أبسط جميع الموجودات ومنه ركبت؛ وأصغر أجزاء هذه العناصر
تسمى بالجواهر الفردة، وهي التي لا يمكن تقسيمها إلى أقل منها ولو في الذهن.
والعناصر جميعًا تنقسم إلى قسمين: معادن وغير معادن؛ فالمعادن هي مثل
النحاس والحديد، وغيرها ما ماثل الفحم والكبريت (المسمى بالعمود) والمعادن
تختلف عن غير المعادن في أربعة أشياء:
(1) أن المعادن لها لمعة خاصة بها، وغيرها ليس كذلك.
(2) أن المعادن توصل الحرارة والكهرباء.
(3) أن المعادن تقبل الانطراق والتمدد، وغير المعادن لا يقبل ذلك.
(4) أن أكسيد المعادن يسمى القاعدة، وأكسيد غير المعادن يتركب منه
الحمض. والأكسيد هو ما ينشأ من اتحاد الأكسجين مع أي عنصر من العناصر،
مثال ذلك صدأ الحديد فإنه يسمى أكسيد الحديد لتركبه من الأكسجين مع الحديد،
والقاعدة سميت بذلك؛ لأنها كالأساس تُبنى عليه الأملاح، والحمض غير العضوي
ينشأ من إذابة أكسيد غير المعادن في الماء، واتحاد القواعد مع الحوامض يولد
الأملاح.
ثم إن أكسيد المعادن الذي يذوب في الماء يسمى (قلوي) ولفظ قلوي نسبة
إلى قلي وهي كلمة فارسية معربة تطلق على نبات ينبت بشواطئ البحر يسمى
الأشنان، إذا أُحرق تخلف منه رماد يشتمل على كثير من ملح يسمى:
(كربونات الصوديوم) ، ومنه يعمل الصابون. وكربونات الصوديوم تسمى
بالعربية نطرونًا، ولفظ النطرون أخذ منه اسم العنصر المسمى (صوديوم) فسموه
نطريوم، ومن كلمة (قلي) أخذ لفظ قليوم وهو اسم لعنصر (البوتاسيوم) .
وأشهر القلويات أكسيد الصوديوم أو النطريوم وأكسيد البوتاسيوم أو القليوم.
وإذا أذيب القلوي في الماء تكون منه ما يسمى (هيدرات) أو إيدرات، ومعنى كل
منهما (ماء) فإذا قيل هيدرات الصوديوم فمعناه ماء الصوديوم أو بالحري ماء
أكسيد الصوديوم.
***
أشهر العناصر
وأشهر العناصر ما يأتي 1 - الأكسجين. 2 - الهيدروجين. 3 -
النيتروجين. 4 - الكلورين. 5 - الصوديوم. 6 - البوتاسيوم. 7 - الكلسيوم.
(وهو ما يتركب منه الجير) 8 - الفُسفُور. 9 - الكبريت 10 - الحديد. 11 -
الكربون (الفحم) .
فالأربعة الأول كلها غازات طيَّارة كالهواء، وهي لا لون لها، ما عدا
الكلورين فإنه أخضر اللون، وهو معنى اسمه باليونانية. وأما الصوديوم
والبوتاسيوم وإلخ فهي أجسام صلبة.
***
العناصر المركبة في الجسم
ويتركب من هذه العناصر أجسام أخرى مركبة تدخل في جسم الإنسان وهي
تنحصر في خمسة أنواع 1 - الماء 2 - المواد الزلالية 3 - المواد الدهنية
4 - المواد السكرية والنشوية ونحوها 5 - أملاح عديدة أهمها كلوريد الصوديوم
(ملح الطعام) وكربونات الكلسيوم (معدن الجير) وسُلفات الصوديوم (كبريتات) .
فأما الماء فهو مركب من الأكسجين والهيدروجين ويدخل في جميع أجزاء
الجسم، ومنه يتكون أكبر جزء فيه، وهو من أهم ما يلزم لحياة الجسم، بحيث إن
الإنسان وأي حيوان آخر إذا امتنع عنه بضعة أيام يموت قطعًا.
وأما المواد الزلالية فهي كزلال البيض (بياضه) وهي مركبة من
الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكربون (الفحم) والكبريت. وبعضها
يدخل فيه الحديد كالمادة المسماة (هيموجلوبين) وهي الداخلة في كرات الدم
الحمراء. ويتركب من المواد الزلالية: العظام واللحم والمخ والنخاع وجميع
الأحشاء.
وأما المواد الدهنية فهي مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، وتوجد
في الغالب تحت الجلد وحول الأحشاء في البطن وغيره.
ثم إن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة يتركب منها الغلسرين وأحماض عضوية.
فالأحماض العضوية هي التي لا تتكون بنفسها إلا في أعضاء النباتات والحيوانات.
وباجتماع الغلسرين مع الأحماض العضوية ينشأ الدهن والزيوت الثابتة
(مثل زيت السمك وزيت الزيتون) أما الزيوت غير الثابتة فهي مثل
زيوت الروائح العطرية، وتركيبها يختلف عن ذلك كثيرًا.
وأما المواد النشوية والسكرية ونحوها فتسمى في علم الكيمياء
(بالكربوهيدرات) لأنها مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، والفرق
بينها وبين المواد الدهنية هو في عدد الذرات وفي وضع بعضها بالنسبة إلى البعض
الآخر. والمواد السكرية والنشوية توجد بكثرة في الدم والكبد، فيوجد في الدم سكر
العسل وفي الكبد نوع من النشا يسمى النشا الحيواني (الجليكوجين) .
واعلم أن الياء والكاف (يك) إذا أضيفتا إلى آخر اسم الحامض دَلَّتَا على أن
فيه أكسجين كثيرًا، والواو والزاي (وز) يدلان على أكسجين قليل، ولفظ (فوق)
يدل على أن الأكسجين أكثر مما في الحمض المنتهي بالياء والكاف ولفظ (تحت)
يدل على أنه أقل الحوامض التي من نوعه في الأكسجين، مثال ذلك:
1ً - فوق حامض الكلوريك: فيه 4 ذرات من الأكسجين.
2ً - وحامض الكلوريك: فيه 3 ذرات من الأكسجين.
3ً - وحامض الكلوروز: فيه 2 ذرات من الأكسجين.
4ً - وتحت حامض الكلوروز: فيه 1 ذرة من الأكسجين.
والملح الذي ينشأ من الأول يسمى (فوق كلورات) والذي ينشأ من الثاني
(كلورات) والذي ينشأ من الثالث (كلوريت) والذي ينشأ من الرابع (تحت
كلوريت) .
وكل ياء ودال (يد) يدلان على أن الجسم مركب من عنصرين فقط مثل
كلوريد الصوديوم فإنه مركب من عنصرين فقط هما الكلورين والصوديوم،
ولأجل تمييز الحوامض عن القلويات يستعمل ورق عباد الشمس Litmus فالحمض
يصيره أحمر، والقلوي يصيره أزرق، والملح لا يغير لونه ويسمى (متعادلاً) .
***
الاتحاد والمزج
بقيت مسألة واحدة تتعلق بموضوع الكيمياء وهي الفرق بين الاتحاد وبين
الخلط أو المزج.
فالاتحاد معناه الارتباط والانضمام، والخلط والمزج معناهما ظاهر.
وهناك في علم الكيمياء ثلاثة فروق كبيرة بين الاتحاد وبين الخلط أو المزج.
(1) ففي حالة الاتحاد ينشأ مركب يخالف في صفاته وخواصه وطبائعه
صفات أجزائه التي يتركب منها. وفي حالة الخلط أو المزج ليس الأمر كذلك،
مثال ذلك الخشب فإن له صفات تغاير صفات عناصره كل المغايرة، وإذا خلطنا
السكر مع الفحم بقي كل منهما حافظًا لصفاته وخواصه، وهناك مثال آخر وهو
الماء والهواء، فالماء مركب متحد، والهواء مركب ممزوج.
(2) أن الاتحاد الكيماوي يكون دائمًا بنسب ثابتة لا تتبدل ولا تتغير،
والنسب في الخلط ليست ملتزمة.
(3) أن الاتحاد الكيماوي قد يولد حرارة وكهرباء، والخلط لا يولد شيئًا
منها.
***
النبذة الثانية
في علم الطبيعة (Physics)
علم الطبيعة هو علم ظواهر المادة يُبحث فيه عن طباعها وخواصها وقواها
فهو علم الظاهر، والكيمياء علم الباطن.
أما قوى المادة فمعناها حركات جواهرها (ذراتها) المختلفة، وتنشأ منها
أعراض كثيرة أهمها ما نسميه بالكهرباء والحرارة والنور والمغناطيس؛ فإن
الأشياء الأربعة ليست إلا حركات مختلفة لذرات المادة.
ثم إن المادة لها ثلاثة أحوال: (1) اليبوسة. (2) السيولة. (3)
البخارية أو الغازية، ويسمى الجسم في الحالة الأخيرة: الساطع أو الريح أو البخار
وبالإفرنجية الغاز.
واختلاف هذه الأحوال الثلاثة إنما نشأ من اختلاف مقدار الحرارة الموجودة
في كل منها، فذرّات الغاز أشدَّها اضطرابًا وأكثرها حركة وحرارة، وذرات الجامد
(اليابس) أقلها حركة وحرارة، وذرات السائل متوسطة بين الحالتين في الحرارة
والحركة. فلا يمكننا تحويل الجسم من حالة اليبوسة إلى حالة السيولة إلا بالحرارة
ولا يمكننا تحويله من حالة السيولة إلى الحالة الغازية إلا بالحرارة أيضًا. وكذلك
الحالة في إذابة جميع الأجسام الجامدة في السوائل فإنها تمتص الحرارة من الأجسام
المجاورة لها فإذا أذبنا مثلاً الملح الإنكليزي في الماء أحسسنا ببرودة في الإناء بسبب
امتصاص حرارته لأجل الإذابة.
والحرارة نوعان: حرارة كامنة وهي منصرفة في تفريق ذرات المادة ولا يمكن
الإحساس بها، وحرارة ظاهرة وهي التي يشعر بها الإنسان.
***
سنن التجاذب وأنواع التجاذب
بين ذرات المادة تجاذب يظهر في أجرامها العظيمة كالكواكب، وفي أجرامها
الصغيرة كالحصى، ويشاهد هذا الجذب بين القمر والأرض مثلاً في ماء البحار
فيحصل فيه ما يسمى بالمد.
ويُسمى هذا التجاذب بأسماء مختلفة باختلاف الأحوال: فالتجاذب بين ذرَّات
الجسم الواحد كالحصى يسمى قوة الانضمام؛ وبالإنكليزية Cohesion والتجاذب
بين جسمين مختلفين كالجدار وطلائه يسمى قوة الالتصاق؛ وبالإنكليزية
Adhesion وبين الأرض وما عليها يسمى قوة الجذب Gravitation وكل ثقل
لأي جسم إنما هو ناشئ من هذا الجذب الأرضي. واختلاف الأثقال هو ناشئ عن
اختلاف عدد الذرات، فالجسم الثقيل هو ما كانت ذراته كثيرة، والجسم الخفيف هو
ما كانت ذراته قليلة. وكل ما نعرفه ونشاهده على الأرض من الأجسام حتى الهواء
له ثقل تسبب عن جذب الأرض له.
وثقل الهواء على الأجسام يسمى الضغط الجوي، ولقياسه يستعمل البارومتر.
أما البارومتر فهي كلمة يونانية معناها: (مقياس الثقل) أي ثقل الهواء
وأبسط طريقة لصناعته أن تملأ أنبوبة زجاجية بالزئبق عادة طولها 90 سنتي مترًا
وقطرها سنتي واحد ثم تسد بالإصبع وتغطس فتحتها في إناء مملوء بالزئبق ثم يرفع
الإصبع فترى أن الزئبق ينزل في الأنبوبة ويترك مسافة فارغة في أعلاها ويكون
ارتفاع الزئبق في الأنبوبة عن سطح الزئبق الذي في الإناء نحو 76 سنتي مترًا،
والذي رفعه إلى هذه المسافة هو ضغط الهواء على سطح الزئبق الذي في الإناء.
ويمكن أيضًا عمل البارومتر بأنبوبة على شكل حرف (ل) مسدودة من طرفها
الأعلى ومفتوحة من الأسفل فيبقى الزئبق مرفوعًا كما في الطريقة الأولى.
ومن فوائد البارومتر معرفة ارتفاع الجبال وغيرها كالمناطيد؛ لأن الزئبق
ينزل في الأنبوبة كلما ارتفعنا لخفة الهواء في الأماكن العالية، وكذلك نعرف منه
قرب حصول المطر؛ فإن الهواء المشبع بالرطوبة أخف من الهواء الجاف فينخفض
الزئبق إذا اقترب المطر.
***
تمدد الأجسام ومقياس الحرارة
وجميع الأجسام تتمدد بالحرارة في جميع جهاتها أي يكبر حجمها بسبب تفرق
أجزائها فتتسع المسام التي بينها، وتنكمش أيضًا بالبرودة أي يصغر حجمها وتقل
المسافات (المسام) التي بين ذراتها.
وعلى هذه القاعدة بني مقياس الحرارة Thermometer وهو عبارة عن أنبوبة
من الزجاج فارغة من الهواء يوضع في أسفلها الزئبق ثم يبرد بالثلج حين ذوبانه
حتى يصل إلى أصغر حجمه ثم توضع في بخار الماء الذي يغلي حتى يصل الزئبق
في الأنبوبة إلى أكبر حجمه. وتسمى النقطة الأولى التي وصل إليها الزئبق بالتبريد
(نقطة الصفر) وهي درجة الجليد. أي التي يجمد بها الماء فيكون جليدًا والنقطة
الثانية التي وصل إليها بالتسخين (نقطة المئة) وهي درجة الغليان - أي للماء - ثم
تقسم المسافة التي بين هاتين النقطتين إلى مائة قسم يسمى كل قسم منها درجة
ويرمز للدرجة بدائرة صغيرة كرقم (5) فإذا وضعت بجانب عدد كان المراد أنه عدد
الدرجات كما ترى قريبًا وقد يوضع في هذه الأنبوبة مواد أخرى غير الزئبق
كالكحول (روح الخمر أو السبرتو) .
وفي بعض البلاد يقسمون المسافة التي بين النقطتين المذكورتين إلى 80 قسمًا
أو درجة، وفي هذا المقياس تكون الدرجة أكبر من درجة المقياس الأول، وقد
يقسمون هذه المسافة أيضًا إلى 180 قسمًا فتكون الدرجة أصغر، ويضعون في
هذا المقياس الأخير بدل الصفر رقم 32 وبدل 100 رقم 212.
ويسمى المقياس الأول بالمقياس المئيني Centigrade (سنتجراد) .
ويسمى المقياس الثاني مقياس (ريومر) والمقياس الثالث يسمى مقياس
(فهرنهيت) وأكثر هذه المقاييس استعمالاً في مصر وفرنسا هو الأول ويليه الثالث
كما في بلاد الإنكليز، وأما الثاني فهو قليل الاستعمال. أما حرارة الجسم الإنساني
الطبيعية فهي بالمقياس الأول من 36 درجة صباحًا إلى 37 درجة مساءً، وبالمقياس
الثالث من 98 درجة إلى 99 درجة تقريبًا.
وكل درجة من هذه الدرجات تقسم إلى عشرة أقسام، فالخمسة منها هي نصف
الدرجة وهكذا. وطريقة معرفة حرارة الإنسان أن يوضع المقياس في أي جزء من
الجسم بحيث يكون محاطًا باللحم من جميع الجهات مدة ثلاث دقائق تقريبًا. وأشهر
هذه الأماكن تحت اللسان وتحت الإبط وقد تؤخذ الحرارة أيضًا من الشرج وذلك في
الأنعام والأطفال.
والحيوانات تنقسم إلى قسمين باعتبار الحرارة:
القسم الأول: الحيوانات ذوات الدم الحار كالإنسان والخيل والسباع والطيور
وغيرها.
والقسم الثاني: ذوات الدم البارد كالضفادع والأسماك والزواحف.
فحيوانات القسم الأول تبقى حرارتها على حالة واحدة تقريبًا في الحر والبرد،
في أواسط الأرض عند خط الاستواء، وفي أعلاها عند المتجمد الشمالي مثلاً.
وحيوانات القسم الثاني تختلف حرارتها باختلاف البيئة (الوسط) فترتفع
حرارتها إذا كان المكان ساخنًا وتنخفض إذا كان باردًا.
أما الإنسان فإذا قلت حرارته عن 35 أو ارتفعت عن 44 مات غالبًا،
وارتفاع الحرارة هو ما يسمى بالحمى، وانخفاضها يسمى بالهمود (أو الهبوط)
وهو الحالة التي يكون الإنسان فيها عند الموت عادة.
***
المادة وقواها
إن جميع الأجسام وقواها المشاهدة في هذا العالم لا توجد الآن من العدم ولا
تقبل العدم أو الزوال، وذلك بحسب استقرائنا الحالي وعلى ذلك يجب علينا أن نبين
مصادر (أو منابع الحرارة) في العالم؛ حيث لا تنبعث من العدم.
مصادر الحرارة
للحرارة مصدران: طبيعي وصناعي.
(1) أما المصدر الطبيعي فهو الشمس، وباقي الشموس الأخرى
المسماة عندنا بالنجوم الثابتة، والحرارة التي فيها إنما تنشأ من احتراق
أجزائها. والاحتراق عبارة عن اتحاد الأجزاء بعضها مع بعض اتحادًا كيماويًّا،
وأهم أنواع الاحتراق المشاهد في هذه الأرض ما يحصل من اتحاد الفحم مع
الأكسجين، والهيدروجين مع الأكسجين أيضًا. والاحتراق لا يعدم المادة وإنما
يحولها إلى صور وأشكال أخرى.
(2) وأما المصدر الصناعي فهو ينشأ من الأسباب الآتية:
(أ) الاحتكاك.
(ب) القرع؛ كقدح الزناد الحجرية أو زناد الآلات النارية (البنادق) .
(ج) التفاعل الكيماوي أو الاتحاد الكيماوي (كاحتراق الخشب) .
(د) التيار الكهربائي (كالأتون الكهربائي) .
فالحرارة الحيوانية تتولد في الجسم من الاحتراق من الشمس، ومن الحركات
الجثمانية الظاهرة والباطنة. وأهم احتراق يحصل في الجسم هو اتحاد ما يوجد فيه
من الفحم أو الهيدروجين بأكسجين الهواء. والفرق بين اشتعال الجسم الإنساني
وبين اشتعال غيره أن اشتعال الجسم تدريجي بطيء واشتعال الآخر سريع شديد.
ويتولد من اتحاد الفحم مع الأكسجين غاز يسمى (ثاني أكسيد الفحم) ويرمز إليه
هكذا (ك أ 2) [4] ومن اتحاد الهيدروجين مع الأكسجين يتولد الماء ويرمز إليه
هكذا (هـ 2 أ) ، وهذان الجسمان ينشآن أيضًا من احتراق كثير من أجسام
أخرى كالخشب والشمع وزيت البترول [5] .
ولخروج الحرارة من الجسم الإنساني عدة طرق:
(1) طريق التوصيل وذلك بسريان الحرارة من الجسم الإنساني إلى جميع
الأجسام المحيطة به كالملابس والفرش والهواء.
(2) الإشعاع، أي خروج الحرارة من الجسم بشكل أشعة كأشعة النور منبعثة
في جميع الجهات، وسريانها هذا يكون في الأثير.
(3) طريقة الحمل وذلك يكون بحمل الهواء المحيط بالجسم للحرارة
وارتفاعه بسبب خفته وحلول هواء آخر بارد محله؛ فإن الهواء الحار أخف
من الهواء البارد.
(4) طريقة الإفرازات كالبول والبراز وغيرهما فإنهما يحملان شيئًا كثيرًا
من حرارة الجسم. ومثلهما الهواء الخارج من الرئتين في الشهيق.
(5) التبخر وذلك يكون بتبخر عرق الجسم، ولا يخفى أن تحول الماء إلى
بخار يحتاج إلى حرارة كما قلنا سابقًا، فلذلك كان العرق في تبخره مخرجًا لكثير
من حرارة الجسم وهو من أهم الطرق المذكورة هنا.
فإذا اشتدت حرارة الجو انبعث الدم من داخل الجسم إلى خارجه وملأ الجلد
كله وكثر إفراز العرق وقل الاحتراق الداخلي في الجسم حتى لا تزيد الحرارة عن
الدرجة الطبيعية.
وإذا اشتدت برودة الهواء كثر الاحتراق الداخلي في الجسم وهرب الدم من
ظاهره إلى باطنه وامتنع العرق وبذلك تحفظ حرارة الجسم فيه وتبقى في الدرجة
الطبيعية.
وكل هذه الحركات التي تحصل في الجسم من هروب الدم إلى الباطن
وخروجه إلى الظاهر ومن زيادة الاحتراق أو قلته - مدبَّرة بالأعصاب ومركز هذا
التدبير في الدماغ أو المخ.
فإذا أصيبت مراكز التدبير بأي شيء اختلت وظيفتها، فإما أن يبرد الجسم
برودة شديدة أو يسخن سخونة شديدة. وذلك الأخير هو الحمى وقد يموت الشخص
بسبب البرودة أو السخونة.
والذي يفسد عمل هذه المراكز العصبية المدبِّرة في الغالب سموم تتولد في
الجسم من الجراثيم المرضية (الميكروبات) وقد ينشأ اختلال هذه المراكز من
إصابات أخرى للدماغ أو آلام شديدة في جزء من أجزاء الجسم كالمغص الكلوي.
فأعظم أسباب ارتفاع الحرارة الجثمانية (أي الحمى) شيئان:
(1) سموم الميكروبات التي تدور في الدم.
(2) كل ما يؤثر في المراكز العصبية كالألم الشديد أو ضربة الشمس أو
غيرهما.
ومما تقدم يفهم أن الحمى تتولد في الجسم بثلاثة طرق:
(1) زيادة الاحتراق مع خروج الحرارة من الجسم كالمعتاد.
(2) قلة خروج الحرارة عن المعتاد مع كون التولد كالمعتاد.
(3) اجتماع الطريقتين السابقتين بأن يزيد الاحتراق ويقل خروج الحرارة،
وهذا أشد طرق الحمى.
ففي الأمراض المختلفة المصحوبة بالحمى يحصل أحد هذه الطرق وخصوصًا
الأول والثالث منها.
فالحمى على ذلك ضرب من ضروب النار. وأفيد عمل لإطفائها بسرعة
استعمال الماء البارد مصداقًا للحديث الشريف: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها
بالماء) أي كأنه من حر جهنم أو مما انتشر منها إلى الأرض.
ومن الغلط الشائع معالجة الحمى بكثرة التدفئة بالملابس وغيرها فإن ذلك يزيد
حرارة الجسم ويضر المريض كما لا يخفى.
***
كلمة في الخمر
يظن كثير من جهلة الناس أن استعمال الخمور في البلاد الباردة ضروري
للحياة، وقد أثبت جميع أطباء العالم بلا خلاف بينهم نقيض هذه الدعوى وظهر لهم
أن الخمر من أعظم ما يخفض الحرارة الجثمانية لأسباب:
(أحدها) أنها تقلل الاحتراق الداخلي في الجسم المسمى بالتفاعل الحيوي.
(ثانيها) أنها تمدد جميع أوعية الجلد وتكثر العرق وبذلك يخرج كثير من
حرارة الجسم.
(ثالثها) أنها إذا تعوطيت بمقادير كبيرة انتهى الأمر بها إلى إضعاف جميع
قوى الجسم فيضعف القلب والدورة الدموية، ولذلك شوهد في البلاد الباردة كثير من
الناس الذين تقتلهم الخمر.
نعم إن جزءًا منها يحترق في الجسم فيولد فيه حرارة ولكنها لا تعد شيئًا في
جانب تبريدها الشديد للجسم كما بيَّنّا.
أما الإحساس بالحرارة عقب تعاطيها فذلك ناشئ من ورود الدم بكثرة إلى
الجلد لا للزيادة في الاحتراق، فهو إحساس كاذب ضار بالجسم.
ومما تقدم يعلم أن الخمر نافعة في تبريد حرارة الجسم إذا أصابته الحمى،
وهي كذلك، فإن خير استعمالها طبيًّا هو في الحميات بشرط عدم الاستمرار عليها
طويلاً وعدم الإكثار منها، وإلا لأحدثت سرعة في النبض وزادت في هذيان
المحموم.
وقد تستعمل أيضًا بمقادير قليلة للتنبيه والإنعاش فإنها في أول أمرها وبمقادير
قليلة تؤدي إلى تنشيط حركة الجسم؛ ولكن ذلك يعقبه غالبًا - وخصوصًا إذا أخذت
بمقادير كبيرة - هبوط ضار في جميع القوى.
أضف إلى ذلك مضراتها الأخرى الكثيرة بجميع الأحشاء وغيرها من أجزاء
الجسم، فإن الخمر هي من أعظم أسباب جميع الأمراض العقلية والعصبية
والجثمانية، وهي تضعف النسل وتورثه بعض ما أصابت به والديه كالصرع مثلاً،
ومن أكبر مضاراتها أيضًا أنها تعوق حركة الكرات البيضاء التي في الدم، وبذلك
يتغلب كثير من الأمراض على الجسم فتفتك به كما هو مشاهد كثيرًا في السِّكِّيرين
فقل أن ينجو منهم أحد أصيب بمرض شديد.
وقد يتوهم بعض الناس مما ذكر أن الخمر إذا شربت بمقادير قليلة نفعت
الجسم! والحقيقة خلاف ذلك، فإن الإدمان والمواظبة على شرب الخمر ولو قليلاً لمدة
طويلة قد ينشأ عنه كثير من الأمراض التي ذكرت، والقليل يجر الكثير حتمًا وإلا
لضاعت مزيتها عند الشارب.
والمدمن على تعاطيها - ولو باعتدال - هو دائمًا ضعيف القوى بحيث لا
يتحمل ما يتحمله غيره من المشاق، وهو أيضًا معرض لكثير من الأمراض المعدية
كالسل والحمرة؛ لأن الخمر تقلل مقاومة الجسم لجميع الميكروبات كما قلنا
وخصوصًا ميكروب الالتهاب الرئوي. ولذلك لوحظ أن الجنود الإسلامية أقوى
الناس تحملاً للمشاق وأقلهم تعرضًا للأمراض.
والخلاصة: أن الخمر إذا أخذ منها قليل مرة أو مرتين قد تنفع؛ ولكن
الإدمان على قليلها هو ضار جدًّا كالإكثار منها غير أن ضرر القليل بطيء،
وضرر الكثير سريع قد يقتل الشخص في أقرب وقت، فهي كما أخبرنا الله تعالى في
كتابه: وفيها منافع للناس وإثمها أكبر من نفعها.
***
الذوبان وما يتعلق به
إذا وضع جزء من السكر أو نحوه في الماء، وترك قليلاً من الزمن مع
تحريك السائل أو السكر انحل السكر، كأنه فقد، والحقيقة أنه لا يزال باقيًا في
الماء فيعطيه خواصه وصفاته.
وإذا مزج قليل من الدقيق بالماء شوهد أنه باق فيه بلا انحلال.
فالحالة الأولى تسمى حالة الذوبان والحالة الثانية تسمى حالة التعليق؛ لأن
ذرات الجسم الصلب تكون معلقة أو محمولة على ذرات الجسم السائل.
وكما يحصل الذوبان في الأجسام الصلبة كذلك يحصل في السوائل والغازات
فإذا مزجنا بعض السوائل بالبعض الآخر يشاهد فيها هذا الانحلال (الذوبان)
مثال ذلك اختلاط الخل بالماء والخمر به فإنهما يذوبان فيه.
وكذلك الغازات فإن بعضها يذوب في السوائل أي تنحل وتمتزج بها امتزاجًا
تامًّا كالهواء مع الماء.
وكما أن بعض الأجسام الصلبة لا يذوب في بعض السوائل كذلك توجد سوائل
لا تذوب فيها كالزيت في الماء.
وأحسن طريقة لتعليق الزيت في الماء أن يمزج الماء قبل إضافة الزيت إليه
بقليل من الصمغ ويسمى المزيج الحاصل من هذه الأشياء الثلاثة (مستحلبًا) .
فمن أمثلة التعليق في الأجسام الحيوانية الدم واللبن؛ فإن الدم مركب من
بعض أجسام ذائبة وبعض أجسام غير ذائبة وكذلك اللبن فإن الدهن معلق فيه كتعليق
الزيت فيما سميّناه هنا مستحلبًا تشبيهًا له باللبن الحليب (المحلوب) .
ويمتاز الجسم المعلق عن الجسم الذائب بما يأتي:
(1) إن الجسم المعلق يشاهد بالعين المجردة أو بالآلات المكبرة
(الميكروسكوب) .
(2) إذا ترك الجسم المعلق زمنًا ما شوهد أنه ينفصل عن السائل الذي كان
معلقًا فيه، فإما أن يصعد إلى أعلى كالزيت أو يسقط إلى أسفل كالدقيق.
(3) إذا وضع السائل المعلق عليه شيء في إناء ناضح نضح السائل وحده
وبقي الجسم المعلق في داخله.
(4) توجد آلة تسمى (المبعدة عن المركز) إذا وضع فيها سائل عليه
أشياء معلقة وأديرت بسرعة شديدة طردت الأشياء الثقيلة إلى جهة دائر محيطها،
واقتربت الخفيفة نحو مركزها، وبذلك يمكن فصل الأجسام المعلقة بعضاه عن
بعض، وهذه الآلة تستعمل في فصل زبدة اللبن عنه فنجد فيها الزبدة بقرب المركز
لخفتها، وكذلك تستعمل في فصل كريات الدم عن بقيته؛ فتوجد الكريات عند
محيطها لثقلها.
ولفصل الجسم الذائب عن السائل عنه طريقة شهيرة وهي التبخير السريع أو
البطيء. والسائل الذي يبخر إذا برد وجمع يسمى مقطرًا، وهو يكون خاليًا من
جميع الأجسام التي كانت ذائبة فيه إلا التي تتصاعد بالحرارة كالروائح الزكية
وغيرها.
وهذه سنة الله تعالى في استخراج ماء المطر من البحار كما قال الله تعالى:
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) ويستعملها الإنسان لاستخراج
المِلح لطعامه، ولاستخراج الماء العذب من الماء الملح إذا كان مسافرًا في البحار
المحيطة.
وتختلف الأجسام في الذوبان باختلاف أنواعها فمنها ما يذوب كثيرًا، ومنها ما
يذوب قليلاً، ولها كلها في الذوبان نسب خاصة ثابتة، وكلها تحتاج لحرارة في
ذوبانها فتختلف النسَبُ حينئذٍ باختلاف درجة الحرارة، فإذا كانت الحرارة كثيرة
ذاب كثير وإذا كانت قليلة ذاب قليل، ولا يستثنى من ذلك إلا أجسام قليلة كمِلح
الطعام الذي يذوب في الماء البارد كالساخن مع فرق طفيف.
وإذا أذيب في السائل في درجةٍ ما أكبر مقدار يمكن إذابته فيه في هذه الدرجة
سمي السائل مشبعًا، وهذه الطريقة تسمى سنة (الإشباع) .
وإذا أشبع السائل وهو حار بمقدارٍ ما من الملح ثم برد السائل رسب من الملح
ما ذاب في حالة السخونة وبقي مقدار قليل ذائبًا يناسب الدرجة التي وصل إليها
الماء في برودته.
وهذه الأجسام الراسبة تتخذ أشكالاً هندسية بديعة عجيبة في أثناء رسوبها
تسمى (البلورات) وكما أن الرسوب يحصل إذا اختلفت الحرارة من عالية إلى
واطئة، كذلك يحصل إذا قل مقدار السائل بالتبخر. ومما يساعد على رسوب الأجسام
من السائل المتبخر وجود أي جسم غريب فيه يكون كمبدء للرسوب، وكما أن
الرواسب تحصل في الخارج إذا انخفضت حرارة السائل أو وضع فيه جسم غريب،
كذلك يجوز أن تتكون الحصوات في الجسم الإنساني (كالحصوات الكلوية
والصفراوية) من انخفاض حرارته فجأة في بعض الحميات ومن وجود بعض
أجسام غريبة في داخله كبويضات الديدان الطفيلية. وهذا من جهة، ومن جهة
أخرى فإن أكثر الحصوات الكلوية هي من حامض البوليك، وهو يكثر إفرازه
في الحميات ويرسب في البول إذا اشتدت حموضته؛ فلذا أرى أن الحميات هي
من أعظم أسباب الحصوات الكلوية؛ لأن البول يكثر فيه هذا الحامض ويكون
شديد الحموضة فلذا يرسب فيه حامض البوليك وأملاحه خصوصًا إذا انخفضت
الحرارة.
أما ذوبان الغازات في السائل كالماء فإنه يختلف في أحكامه عن الأجسام
الصلبة، فالغازات تذوب بكثرة كلما اشتدت برودة السائل وكلما زاد الضغط عليها،
وهي في ذوبانها كباقي الأجسام الأخرى تختلف أيضًا باختلاف طبيعتها، فمنها ما
يذوب كثيرًا ومنها ما يذوب قليلاً.
ولولا ذوبان الهواء في الماء لماتت الحيوانات البحرية، فإنه ضروري لحياتها
كالحيوانات البرية سواء بسواء. أما الأكسجين الموجود في الهواء الذائب فهو بنسبة
خمسة وثلاثين في المائة من حجمه. وفي الهواء العادي 21 % وهذه الحقيقة
الأخيرة تثبت أن الأكسجين في الهواء ليس متحدًا اتحادًا كيماويًّا مع النيتروجين؛
بل ممزوجًا به فقط، ولذلك اختلفت النسبة في حالة الذوبان عنها في الجو.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) وظائف الأعضاء.
(2) التشريح الدقيق.
(3) علم الميكروبات أو الجراثيم.
(4) أي جوهر فرد من الكربون (الفحم) متحد مع جوهرين من الأكسجين في كل ذرة من ذرات الغاز.
(5) البترول معناه زيت الصخر أو الحجر؛ لأنه ينبع منه، وتسميه العامة بالجاز أو الكاز.(17/853)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الامتيازات
والشريعة الإسلامية [*]
الأسباب التي تحمل الدول الأوروبية على صيانة الامتيازات الأجنبية في
تركيا - الشريعة الإسلامية قائمة على القرآن لا تساوي بين المسلم وغير المسلم.
أعلنت الحكومة العثمانية أنها ألغت امتيازات الأجانب في بلادها فاحتجت
الدول الأوروبية والولايات المتحدة على هذا العمل الذي خرقت به تركيا المعاهدات
الدولية، وعلت الأصوات بالشكوى من الحالة السيئة التي يصير إليها الأجانب في
تركيا فيما لو أُلغيت الامتيازات المذكورة وصار الأجانب في تركيا مثل العثمانيين
خاضعين للمحاكم الأهلية، ولم يبق لهم الحق على رجوعهم إلى محاكم قنصلياتهم
في دعاويهم المدنية والجنائية.
وقد عثرنا على مقالة خطيرة في هذا الشأن لأحد الكَتَبَةِ السياسيين في جريدة
الصن النيويركية أردنا تلخيصها إتمامًا للفائدة، قال:
لا الولايات المتحدة ولا دولة أخرى أجنبية نصرانية ترضى أن رعاياها الذين
لهم مصالح في تركيا والذين لسبب من الأسباب اضطروا أن يسكنوا فيها مؤقتًَا أو
دائمًا - أن يكونوا خاضعين للمحاكم القضائية القائمة على تعاليم القرآن، فطرائق
العدالة الإسلامية شرقية بلفظها ومعناها، وطرائق العقاب الإسلامية بلغت من
القساوة مبلغًا عظيمًا بحيث إن الحكومة الأجنبية التي تترك رعاياها تحت رحمة
محاكم تركيا الوطنية تخسر ثقة شعبها.
وفضلاً عن ذلك أن الأجانب بعد إلغاء هذه الامتيازات لا يكونون تحت رحمة
تلك المحاكم الجائرة فقط؛ بل يعرضون نفوسهم لضرائب فادحة فإن الحكومة
العثمانية التي تنفق أموالاً طائلة على جنديتها وبحريتها وعليها دين وطني وأجنبي
عظيم، وهي منكوبة بأشد أزمة مالية - لا بد أن تضرب في المستقبل ضرائب
فادحة على الأجانب في بلادها، بعد أن نضبت مواردها الوطنية بكثرة ما وضعته
عليها من الضرائب الباهظة.
ولا يقدر الباب العالي أن يمنح الحكومات الأجنبية شيئًا يذكر في مقابل
موافقتها على إلغاء الامتيازات الأجنبي في تركيا، فالحكومة الحاضرة في الآستانة
غير قائمة على أساس ثابت؛ بل هي دائمًا تحت رحمة أناس مغامرين متهوسين
نظير أنور باشا ناظر الحربية السابق (؟) أو المسيطر الحقيقي على تركيا، الذي
تلطخت يداه بدم ناظم باشا القائد العثماني الشجاع المقتول بخيانة جبانة. ولذلك
باتت الحكومة العثمانية تحت خطر دائم، ولا يبعد أن تقع ثورة في الغد تسقط هذه
الحكومة وتلغي الدستور وتنقض كل الاتفاقات التي عقدتها الحكومة السابقة، وتعيد
الحكم الاستبدادي بما يرافقه من جور وفظاعة.
وما لابد من ذكره أن امتيازات الأجانب في تركيا لم تؤخذ منها بالقوة؛ بل
هي منحتها مختارة، ومنشأها احتقار المسلم الشديد لكل من هو غير مسلم، فالإسلام
لا يقدر أن يتصور وجود مملكة مختلفة، فهو لا يحسب حسابًا إلا للبلاد التي كل
سكانها مسلمون، ويعتقد أن العالم كله سيؤلف في آخر الأمر مثل هذه المملكة.
هذا من جهة النظريات، أما من الوجه العملي فالمسلم لا يكترث لوجود غير
مسلم في بلاده، ولا يعترف بمساواة غير المسلم به. وبالتالي إن المسلمين لا يهمهم
ما يفعله غير المسلمين ويتفكرون به ما زالوا خارجين عن دائرة الإسلام.
والذي يستحق الذكر أيضًا أن الإسلام انتشر بالفتح لا بمساعٍ سلمية، وقد
استعان المسلم الفاتح على إدارة شؤون البلدان التي فتحها بالطرائق الإدارية التي
وجدها مرعية فيها، وقد رأى في تلك البلدان دوائر روحية للنصارى واليهود أبقاها
على حالها، وصار الأساقفة والحاخاميون ورؤساؤهم المسؤولون واسطة بينهم وبين
الحكام المسلمين.
وعلى هذه القاعدة صار الأجانب الساكنون والمتاجرون في تركيا وبلاد فارس
ومصر وبقية الممالك الإسلامية تحت سيطرة قناصلهم القضائية أولاً باستمرار
العادة، وثانيًا بعقد معاهدات. ولم ينالوا هذا الأمر من باب الامتياز بل من وجه
أنهم أحط من أن ينتفعوا بمنافع العدالة الإسلامية القائمة على القرآن.
وقد فتحت عن هذه الطريقة شريعة الامتيازات الخارقة العادة التي أعفت
السفير الأجنبي وبيته وأملاكه من القضاء العثماني، وتناولت هذه الشريعة رعايا
دولته الأصليين والمجنسين بجنسيتها. ومع نقصان قوة المملكة الإسلامية وازدياد
قوات الدول الأجنبية كانت امتيازات الأجانب تزداد قوةً وأهمية في البلدان الخاضعة
للحكم الإسلامي حتى أصبحت المستعمرات الأجنبية في كل مملكة إسلامية أشبه
بممالك صغيرة ضمن مملكة كبيرة.
ومن الأدلة على أن الامتيازات الأجنبية في الممالك الإسلامية لم تُنَل بالقوة أن
سويسرا والبرتوغال والبلجيك تتمتع في تركيا وبلاد فارس ومصر بنفس
الامتيازات التي تتمتع بها الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وروسيا وألمانيا
وغيرها من الدول العظمى.
هذا وإن كثيرين من رجال الحكومة العثمانية نظير أحمد رستم بك السفير
العثماني في واشنطون المتعصب لإسلامه الجديد - يقولون: إن قوانين تركيا
المدنية والجنائية لا تنقص بشيء عن القوانين الغربية بعد أن وضعها مشترعون
عثمانيون وأوروبيون.
إنهم مصيبون في قولهم، فالقوانين العثمانية خليط بين نظام نابليون والشريعة
الإسلامية وملتقى الأنهر، ولكنها موجودة بالاسم فقط، فإن نجم الدين بك ناظر
العدلية في الحكومة العثمانية الجديدة أدرى الناس بهذا الأمر، فقد رفع بالأمس
تقريرًا عن الإصلاحات التي أدخلتها حكومته على دوائر الشريعة والقضاة وإنفاذ
النظام الجديد، ولما سئل عما إذا كان هذا النظام يساوي بين المسلم والنصراني
واليهودي أجاب بكلام لا يحتمل الريب، وقال: (إن هذا الأمر يستحيل على
المسلم أن يتصوره فهو لا يفكر به أبدًا) .
وبناء على ما تقدم يظهر أن نظام العدل في تركيا ديني غير خاضع لناظر
العدلية كما هو في بقية الحكومات؛ بل لشيخ الإسلام الذي ليس رئيس رجال الدين
الإسلامي في المملكة العثمانية فقط؛ بل قاضيها الأكبر، فلا مرد لحكمه ولا
اعتراض على فتواه. وهو يرأس مرتين في الأسبوع محكمة العدل العليا المتصلة
بقصره في إستامبول.
ولشيخ الإسلام سيطرة على الأمة والعلماء والمتصوفة، وعلى رؤساء الكليات
الدينية والمحاكم القضائية، فكل القضاة في محاكم تركيا العليا والبدائية ينالون
مناصبهم منه وهم تحت نفوذ ديني شديد، بدليل أن مرتباتهم المالية تؤخذ من ريع
الأوقاف الإسلامية التي هي ثلاثة أرباع العقارات المدنية في المملكة العثمانية، وقد
رافقت أُجَّارها من الفلاحين شروط جائرة: منها أن الفلاح المستأجر بعضها إذا
مات بدون عقب فأرضه تعاد إلى الأوقاف لأنه لا يقدر أن يتركها لأرملته أو أحد
أنسابه.
ولا يمكن حمل مفسري الشريعة الإسلامية على جعلها حديثة، أو إقناعهم بأن
الأحكام تتغير بتغير الأزمان، وبأن الأزمنة قد تغيرت منذ أربعة عشر قرنًا حين
وضع النبي محمد الشريعة الإسلامية في بلاد العرب لتنطبق على حاجات أبناء
البادية وسكان الوبر. فشيخ الإسلام في الآستانة والمفتي الأكبر في القاهرة وكل
قاض مسلم كبيرًا كان أم صغيرًا يعتبرون الحَيَدَان عن تعاليم النبي محمد خطيئة
مميتة أو جريمة ضد الأشياء المقدسة.
ومن الأدلة على عدم إمكان تطبيق أحوال النصارى على منطوق الشريعة
الإسلامية ما جرى في القاهرة سنة 1910 حين رفض المفتي الأكبر الموافقة على
إعدام الورداني قاتل بطرس باشا غالي رئيس الوزارة المصرية والأول مسلم
والثاني نصراني قبطي، وكانت حجة المفتي في عدم الموافقة على إعدامه أن
الشريعة الإسلامية لا تحكم بإعدام المسلم لقتله نصرانيًّا، فالمسلم الذي يقتل نصرانيًّا
لا يعتبر مجرمًا في نظر الشريعة الإسلامية.
وقد استغربت الحكومة الإنكليزية هذه الفتوى ولم تعمل بها، وشنقت الورداني
غير مكترثة لفتوى المفتي الأكبر الذي ذكر سببًا آخر لامتناعه عن الفتوى بإعدام
الورداني فقال: إنه لم يرد في القرآن ذكر للمسدسات، ولا في الشريعة القائمة على
الحديث، ولذلك لا يعتبر المسلم بالشريعة المقدسة مجرمًا إذا استعمل المسدس لجرح
أو قتل.
وزبدة القول: أن فتوى مفتي الديار المصرية في عدم تجريم مسلم يقتل
نصرانيًّا، وقول ناظر العدلية العثمانية باستحالة مساواة النصراني واليهودي بالمسلم
أمام الشريعة العثمانية - حجة قاطعة تحتج بها دول أوربا والولايات المتحدة في عدم
تنازلها عن الامتيازات الأجنبية في تركيا والسماع للباب العالي بإلغائها.
***
تفنيد مزاعم السياسي الأمريكاني
في الشريعة الإسلامية
يتوهم كثير من الشرقيين ولا سيّما المتفرنجين منهم أن كُتاب السياسة والتاريخ
وعلماء القوانين والشرائع من الإفرنج لا يكتبون في جرائدهم الشهيرة ومصنفاتهم
إلا الحقائق الثابتة التي قتلوها بحثًا وتدقيقًا وتمحيصًا. ويظن الذين يسيئون الظن
بالإفرنج ويتهمونهم بالتعصب وغمط حقوق الشرقيين كافة والمسلمين خاصة؛ أنه لا
يكاد يوجد فيهم عارف منصف يقول الحق إذا كان لغير قومه لا لهم، ولا حظ لهم
فيه، والمحققون المعتدلون يعلمون أن المستقلين فيهم كثيرون، ويظنون أن
الأمريكيين منهم أقرب إلى الإنصاف، وأبعد عن الجور والاعتساف فيما يحكمون
به على الشرق والإسلام ويصفونهما به؛ لأنه ليس بين الأمريكيين والشرقيين من
المنازعات والمطامع السياسية مثل ما بين الأوربيين والشرقيين. وهؤلاء
يستغربون مثل هذه المقالة من سياسي أمريكي في جريدة أمريكية شهيرة.
بل أقول: قد يستغرب مثل هذه المقالة كل من قرأها من أبناء العربية في مصر
وسوريا بقدر احترامه للأمة الأمريكية الجليلة؛ لأنه لا يستطيع أن يبرئ الكاتب
من إحدى الخلتين: الجهل أو التعصب الحامل على قول الزور، فإن من لم يعلم
من أهل هذه البلاد أن ما حكم به الكاتب على الإسلام زور وبهتان كقليلي الاطلاع
من النصارى - يعلم أن ما نسبه إلى مفتي مصر من القول بأن الشريعة الإسلامية لا
تحكم بقتل المسلم الذي يقتل النصراني، قول باطل لم يقله ولا يمكن أن يقوله مفتي
مصر؛ لأن جميع الكتب التي يستمد منها نصوص الفتوى مصرحة بأن المسلم يقتل
بغير المسلم.
جعل الكاتب السياسي العلة الأولى لوجوب عدم رضاء الدول بالخضوع
للمحاكم العثمانية هي كونها قائمة على تعاليم القرآن وكون المسلم يحتقر غير المسلم
ولا يعترف بمساواته له.
ماذا عرف هذا الكاتب من أحكام القرآن في العدل والمساواة، ومن أين
استنبط حكمه عليه؟
قال الله تعالى في مسألة الحكم بين اليهود وكانوا أشد الناس عداوة للنبي
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من جميع مَن ناصبوه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) والقسط هو العدل.
وقال تعالى في مسألة الحقوق والحكم العام بين الناس كافة من مسلم وغيره:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) قال: بين الناس، ولم يقل: بين المسلمين.
وقال في العدل العام والشهادة التي هي ركن القضاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ
أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) أمر بالمبالغة في العدل وشهادة الحق،
ومنع أن يحابي أحد في ذلك نفسه أو والديه أو أحدًا من أقاربه أو غنيًّا لغناه أو
فقيرًا لفقره، وأن يتبع هوى نفسه في ترك شيء من العدل أو يحرف فيه أو يعرض
عنه. وكل هذه الآيات في سورة واحدة.
وقد نهى تعالى عن ترك العدل مع الأعداء، سواء كان في الأحكام أو الشهادة
كما نهي عن ترك العدل مع الأعداء، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) الشنآن: البغض والعداوة؛ أي
ولا يكسبنكم ويحملنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو عداوتكم لهم على ترك العدل فيهم
إذا حكمتم بينهم أو شهدتم في خصام لهم.
وليست هذه الآيات كل ما في القرآن من الأمر بالعدل؛ بل ثَمَّ آيات أخرى
كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90) وقوله:
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: 29) ومثلها ما ورد في الميزان.
فليأتنا ذلك السياسي الذي يفر هو وقومه من حكم القرآن بمثل هذا التشديد في
الأمر بالعدل المطلق والمُفيَّد بالأعداء وتحريم المحاباة فيه - لعلة من العلل - من
التوراة أو الإنجيل أو كتب الأولين والآخرين. أما نحن فنستطيع أن نأتيه
بالنصوص والشواهد على عدم مساواة الإفرنج الأفريقيين والآسيويين بأنفسهم.
وأما المساواة فهي لم توجد على حقيقتها وإطلاقها وعمومها إلا في الإسلام،
كما تدل على ذلك النصوص والأعمال، وتشهد به تواريخ القرون والأجيال.
أما النصوص فحسبك منها ما تقدم من الآيات آنفًا فإنها أمرت بالتزام الحق
والعدل في الحكم والشهادة والمعاملة مع الموافق في الدين والمخالف، والغني
والفقير، والقريب والبعيد، والمحب الوديد، والعدو البغيض. وإنما يخرج الناس
عن صراط المساواة بمحاباة من يمت إليهم بصلة الدين أو لُحمة النسب ووشيجة
الرحم، أو رابطة الصداقة والمودة، أو من يطمعون في غناه أو يرحمونه لفقره،
وحينئذٍ يظلمون خصم من يحابونه، ومن الناس من يظلم كل من يخالفهم في دين أو
جنس، أو يبغضونه لسبب ما. وقد أتت الآيات على جميع ذلك.
وأما العمل فقد اشتهر عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من أمراء المسلمين من
العدل والمساواة ما لم يؤثر عن غيرهم. وناهيك بقضية غضب علي المرتضى من
عمر الفاروق؛ لأنه كنَّاه وسمى خصمه اليهودي ولم يساوِ بينهما في التسمية كما
ساوى بينهما في سائر الأمور. واعترف عمر بذلك. ولا تنس مساواة عمر بين
الغلام القبطي وولد عمرو بن العاص فاتح مصر وأميرها. فأمثال هذه القضايا لا
يتجرأ أمريكاني ولا أوربي أن يدعي مثلها لحكومته! وكيف ومن قواعد حكومة
الولايات المتحدة التي هي من أرقى حكومات الغرب أن المساواة بين الأبيض
والأسود غير جائزة؟ بل رأينا بعض محاكمهم في هذه الأيام - ولا أقول في هذا
القرن الذي يضربون المثل بارتقاء البشر فيه - تنكر على السوريين حق الجنسية
الأمريكانية والتشرف بمساواة البيض، على عراقة السوريين في النسب السامي من
الجنس الأبيض وكونهم من وطن المسيح عليه السلام، الذي يعبده الأمريكيون
ويتخذونه ربًّا وإلهًا.
فالشريعة الإسلامية وحدها هي التي ساوت بين جميع البشر في الحقوق،
حتى إن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعد نفسه مساويًا لغيره
في الحقوق، وقصة اليهودي الذي جذبه من طوقه لدَين له لم يحل أجله، مشهورة.
وقد طلب من الناس في مرض موته أن يقتصّ منه مَن كانت له قِبَله مظلمة، فادّعى
عكاشة بن محصن - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم ضربه مرة على
عاتقه مكشوفًا فكشف له صلى الله عليه وسلم عاتقه ليضربه كما ضربه! !
وليس للخلفاء في الإسلام امتياز على أحد من الناس في الحقوق المدنية ولا
الجزائية، وكان الموالي والذميون والمعاهدون يتحاكمون مع الخليفة إلى القاضي
فيساوي بينهم. فإن كان العثمانيون قد قالوا في قانونهم الأساسي: (إن السلطان
مقدّس وغير مسئول) وجعلوه من قبل ذلك لا يحاكم ولا يخاصم، فهم إنما أخذوا
ذلك عن الأجانب غير المسلمين.
وإننا نعد من استعلاء الإفرنج بقوتهم على ضعفنا تحكمهم بذم كل شيء لنا أو
عندنا، وإن كانوا لم يعرفوا كنهه ولا وقفوا على حقيقته، كأنهم يرون أن الحق
والفضيلة والخير وكل ما يمدح لا يكون إلا للأقوياء أصحاب المدافع الكبيرة والذهب
الكثير؛ بل هذا مذهب معروف صرّح به كثير من فلاسفتهم وساستهم، وهم
يجرون عليه في مستعمراتهم.
ولولا اطلاعنا على أقوال العلماء المستقلين والحكماء الراسخين في وصف
الإسلام والمسلمين كغوستاف لوبون وجبون، وأضرابهما - لظننا أنه لا يوجد
في الإفرنج كلهم عارف منصف يقول الحق الذي يعتقده.
يقول الكاتب الأمريكي: إن المسلمين أعطوا الأجانب ما أعطوهم من امتياز
الحكم فيما بينهم طوعًا واختيارًا؛ لأن الإسلام لا يقدر أن يتصور وجود أناس غير
مسلمين يستحقون أن يتمتعوا بعدل الإسلام. فكأنه يقول: إن المسلمين يريدون بذلك
أن يتجاهلوا وجود أحد غير مسلم في الأرض!
وإنما المعروف من القرآن العظيم أن الله تعالى خيَّر رسوله صلى الله عليه
وسلم في الحكم بين اليهود في قضية عرضوها عليه، وأمره بأن يحكم بالعدل إذا
هو اختار الحكم بينهم في تلك القضية التي كان لهم فيها هوىً بيناه في التفسير من
عهد قريب. ثم قال: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة:
49) فقيل هذا ناسخ للتخيير وقيل غير ناسخ.
فمن هنا أخذ المسلمون أن حكامنا مخيرون في غير المسلمين بين الحكم
بينهم وبين السماح لهم بأن يحكموا بشريعتهم فيما بينهم. ولغلبة الحرية الدينية
والتسامح في الإسلام واحترام عقائد الناس سمح الخلفاء والملوك لغير المسلمين بأن
يتحاكموا إلى رؤساء دينهم في الأمور الشخصية، وكذا في غيرها أحيانًا إذا كان
خاصًّا بهم. فهذه المبالغة في الحرية والتسامح واحترام المخالفين، كان يجب أن
يطري به الأمريكي وغيره الإسلام والمسلمين، فما كان منه إلا أن قلب الحقيقة،
وعكس القضية، فجعل ما يقتضي الإطراء في المدح، موجبًا للإسراف في الذم
والقدح! !
ثم إن الكاتب أخطأ فيما نقله عن شيخ الإسلام في حكومة الآستانة كما أخطأ
فيما نقله عن مفتي الديار المصرية، فهل يوثق بعلمه بالشريعة الإسلامية نفسها
وبأحكامها، وهو لا يوثق بعلمه في الأمور الرسمية التي تقع في عصره، وهو لا
يحتاج فيها إلى علم واسع، بل يكفي فيها التثبت في النقل، وإننا نحمل كلامه على
الخطأ وسوء الفهم، وعدم التثبت في النقل، ونربأ به عن تعمد الكذب، لمحض
الغلو في التعصب.
الجهل والخطأ أهون من الكذب، وشر الكذب ما حمل عليه التعصب واحتقار
الأمم، وأقبحه ما صدر ممن يدعي الحرية والإنصاف، ويحتكر لنفسه وقومه
فضيلة العدل والمساواة، ولولا الأدب مع الكاتب لاحترام أمته لقلنا أنه كذب شر
الكذب وأقبحه على الإسلام والمسلمين عامة، وعلى ناظر العدلية العثماني إذ زعم
أنه قال: إنه يستحيل على المسلم أن يتصور المساواة بين المسلم أو النصراني
واليهودي، وعلى مفتي الديار المصرية إذ زعم أنه احتج على امتناعه من الإفتاء
بقتل قاتل بطرس باشا بأن الشريعة لا تحكم بإعدام المسلم لقتله نصرانيًّا ولا تعده
مجرمًا.
وليس الخطأ في كلمات أو وقائع أسندت إلى بعض الرجال بأقبح منه في
الشرائع والنظام العام، ومنه قول الكاتب: إن نظام العدل في تركية ديني غير خاضع
لناظر العدلية، وإن شيخ الإسلام في الآستانة هو القاضي الأكبر الذي لا مرد لحكمه،
وإنه يرأس مرتين في كل أسبوع محكمة العدل العليا المتصلة بقصره في إستانبول،
وإن له السيطرة على الأمة وعلى العلماء والمتصوفة، وعلى رؤساء الكليات
الدينية والمحاكم القضائية، وإن جميع القضاة في المحاكم التركية الابتدائية والعالية
ينالون منه مناصبهم وهم تحت نفوذ ديني شديد.
وليست هذه المزاعم بأغرب من الاستدلال عليها بكون مرتبات مَن ذكر من
القضاة وغيرهم تؤخذ من الأوقاف الإسلامية، ومِن زَعْم الكاتب أن تلك الأوقاف
هي ثلاثة أرباع العقارات المدنية في المملكة العثمانية.
شيخ الإسلام ليس قاضيًا لمحكمة تسمّى العدل العليا، ولا سيطرة له على
الأمة ولا على محاكم العدلية المدنية والجنائية، ولا هو يعين أحدًا من قضاة هذه
المحاكم؛ بل يعين رؤساءها ناظر العدلية، وأعضاؤها ينتخبون انتخابًا من الأهالي
المسلمين وغير المسلمين، ويأخذون مرتباتهم من خزينة الحكومة لا من الأوقاف
الإسلامية، والأوقاف الإسلامية ليست ثلاثة أرباع العقارات ولا ربعها ولا عشرها،
وليس شيخ الإسلام ناظرًا للأوقاف ليكون مسيطرًا على مَن يأخذ مرتبًا منها.
نعم إن شيخ الإسلام هو الذي يولي القضاة الشرعيين الذين يحكمون بين
المسلمين في الأمور الشخصية، وهؤلاء تستأنف أحكامهم وتميز في باب المشيخة
الإسلامية، في مجالس لها رؤساء غير شيخ الإسلام، ومرتباتهم كمرتبات قضاة
المحاكم المدنية تؤخذ من خزينة الحكومة. في باب المشيخة رئيس للمدارس الدينية
التي بناها السلاطين في الآستانة وغيرها يسمى وكيل الدرس، وبالتركية (درس
وكيلي) ، ولهذه المدارس أوقاف خاصة بها تديرها نظارة الأوقاف.
ولا حاجة إلى تفنيد كلامه في إجارة الأوقاف الإسلامية وعيبه إياها بأن
المستأجرين لها لا يتركونه إرثًا لأولادهم، فإن أجهل الناس في كل أمة وملة يعلمون
أن المستأجر لا يكون مالكًا حتى يترك ما استأجره إرثًا لأولاده.
بقي مما يؤبه له: كلامه في تعذر إقناع مفسري الشريعة الإسلامية بأن الأحكام
تتغير بتغير الأزمان، وبأن الأزمنة تغيرت عما كانت عليه منذ أربعة عشر قرنًا،
وأن الشريعة الإسلامية وضعت في بلاد العرب لتنطبق على حاجات أبناء البادية
فهذا الكلام لا نلومه عليه؛ لأنه قلد فيه كثيرًا من الأوربيين الذين لا يخطر في بال
مثله أن كلامهم لا يؤخذ على علاته. وهذا التعليق لا يتسع لإطالة الكلام في بيان
الحق في هذه المسألة، فنكتفي بكلمة وجيزة نقولها له ولأمثاله وهي:
إن مفسري الشريعة الإسلامية لا يحتاجون إلى الإقناع بأن الأحكام تتغير بتغير
الأزمنة فكلهم يعرفون ذلك، وطالما قرّروه في كتبهم، وأقدم كلمة يروونها في
التصريح بذلك عن إمامٍ في العلم والحكم من أهل العصر الأول ما قاله عمر بن عبد
العزيز الذي يعده المسلمون خامس الخلفاء الراشدين في علمه وعدله وهو: (يحدث
للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور) ومثله ما يُحدِثونه من غير الفجور
أيضًا. ويعلمون أيضًا أن الزمان مخالف للزمان الذي وجدت فيه الشريعة الإسلامية،
ويعلمون أن الشريعة الإسلامية وضعت لتنطبق على حاجات أبناء البادية كما يعلم
الكاتب وأمثاله.
ويعلمون أيضًا ما لا يعلمه هو وأمثاله؛ وهو أن هذه الشريعة وضعت لتنطبق
على حاجات أهل الحضر في ذلك الزمان وفي كل زمان ومكان أيضًا، وكان لهم
في الشرق وفي الغرب حضارة كحضارة بغداد والأندلس، وأن الشريعة الإسلامية
كانت مطبقة عليها ولم يكن عندهم شريعة غيرها، وأن عدلها هو الذي جعل الناس
يخضعون لها مختارين ولولا ذلك لم يستطع أولئك الشراذم من العرب فتح الشرق
والغرب في جيل واحد. فالدين الإسلامي هو الذي أوجد الحضارة والفتوحات
بطبيعته لا بقوة سيوف أهله، ولم تكن الفتوحات الموجدة أو الناشرة له.
وقد بيّن علماء الشريعة أن معنى سعتها وموافقتها لمصالح الناس من بدوٍ
وحضرٍ في كل زمان ومكان هو كون قواعدها العامة مبنيّة على أساس الشورى
والعدل والمساواة، واعتبار عرف الناس الحسن في معاملاتهم، ودرء المفاسد
وجلب المصالح ودفع الضرر والضرار، وكون أولي الأمر ورجال الشورى فيها
يجب أن يكونوا من أهل الاجتهاد القادرين على استنباط الأحكام التي تمس إليها
حاجة الناس في سياستهم وأقضيتهم. ولم يقل أحد من أئمة هذه الشريعة ما يدّعيه
هذا الكاتب وأمثاله من أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع أحكامًا تفصيلية لجميع
ما تحتاج إليه أمته في زمنه - دع سائر الأزمنة - وأنه يحرم على سائر المسلمين
أن يزيدوا فيها شيئًا تقتضيه المصلحة؛ بل صرح بعض الأئمة بأن مراعاة المصالح
في كل زمان ومكان أصل من أصول هذه الشريعة يتفرع عنه ما لا يحصى من
الأحكام. وقد شرحنا هذه المسألة وفصلناها غير مرة في تفسير القرآن الحكيم وفي
غيره من مباحث المنار.
نعم إن حكام المسلمين والمشتغلين بالعلم منهم قصروا منذ قرون فيما يجب
عليهم من الاجتهاد في الشريعة، وجمدوا على بعض الكتب التي ألفها مَن قبلهم،
فجنوا بذلك على أنفسهم وعلى ملتهم، وكان من آثار هذا الجمود والجهل أن لجأت
بعض حكوماتهم إلى الاستمداد من القوانين الأوربية كما نقل الكاتب عن السفير
العثماني في بلاده بعد أن كان الأوربيون يستمدون من كتب شريعتنا كما فعل نابليون
الأول. ولكن نابليون اقتبس من شريعتنا في قانونه ما رآه موافقًا لمصلحة أمته،
وأمّا حكامنا فإنهم صاروا يأخذون من قانونه ومن سائر القوانين الأوربية ما يوافق
مصالح أمتهم وما يخالفها، ذلك بأن نابليون اقتبس بعقلٍ واجتهاد، وحكامنا يقلّدون
الإفرنج تقليدًا، ومن هذا الجمود توقف بعض المتفقهة عن جعل القتل بالرصاص
كالقتل بالسيف أو السكين، ولولا هذا الجمود لما اضطروا الحكام الجاهلين بالشريعة
إلى الالتجاء إلى قوانين الأمم الأخرى، فهذا شر عواقب جهل رؤسائنا بأصول
شريعتنا وتركهم الاجتهاد الواجب فيها، والأئمة متفقون على اشتراط الاجتهاد في
الحكام والمفتين، ولكن مَن ينفذ هذا الشرط.
ومن التناقض في كلام الكاتب أنه جعل العلة لنفور الأجانب من الخضوع
للمحاكم العثمانية هي كونها تستند في أحكامها إلى أحكام القرآن المنافية للعدل
والمساواة، ثم اعترف بأن العثمانيين أخذوا معظم قوانينهم عن الأوربيين. وليته
يعلم أنهم لو حكموا بين الأجانب بما يأمر به القرآن لكان خيرًا لهم؛ لأنهم حينئذٍ
يحكمون بعدل كامل يقيمونه بالإخلاص سرًّا وجهرًا، وليست حالهم في القوانين
كذلك. وهذا وإن الحقائق التي أشرنا إليها يعرفها كثير من الأوربيين، ويصرّح بها
بعض المستقلين. وقد نقلنا من عهد غير بعيد قول لورد كتشنر لعضوٍ من أعضاء
مجلس الأمة العثماني أن هذه القوانين لا توافق حال العثمانيين كما توافق حال مَن
أخذوها عنهم، وقوله: إن عندكم شريعة عادلة تنطبق على مصالحكم، فخير لكم
أن تعملوا بها.
وقد كان لورد كرومر كتب في آخر تقرير له عن مصر كلمة في الشريعة
الإسلامية في معنى كلمة الكاتب الأمريكي من حيث موافقتها هذا الزمان وعدمها،
فكتبت إليه كتابًا قلت له فيه: إذا كان يعني بما كتبه الدين الإسلامي الذي هو القرآن
والسنة فأنا مستعد لأن أبيِّن له أن معظم ما جاء فيهما من الأحكام القضائية
والسياسية قواعد عامة توافق مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درأ
المفاسد وجلب المصالح بحكم الشورى. وإن كان يعني كتب الفقه الإسلامي فتلك
من وضع الناس، فيها كثير من آرائهم التي ينتقدها عليهم غيرهم.
فأجابني عن ذلك بأنه يعني بما كتبه مجموعة القوانين الإسلامية التي تسمى
الفقه، قال: (ولم أعنِ الدين الإسلامي نفسه، ولذلك قلت في هذا التقرير وفي غيره
بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي الذي يطلب الإصلاح ويسير مع المدنية من غير
أن يمس أصول الدين) .
ونص كتابي وكتابه في ذلك مطبوعان في ص 231، 232 من مجلد المنار
العاشر.
أكتفي بهذه العجالة في الرد على الكاتب الأمريكي، وكان لي أن أوجه
كلمة عتاب إلى رصيفنا صاحب جريدة الهدى الذي ترجم هذه المقالة وصدرها
بمقدمة تدل على إقرار كاتبها على ما كتبه، ولم يعقب عليه بكلمة إنكار. ولكنني
أستبدل بالعتاب الرغبة إلى إنصافه بأن ينشر هذا الرد في جريدته وينبّه (جريدة
الصن) إلى ما يجب عليها من ترجمته ونشره لتنسخ ذلك الباطل بالحق اليقين،
وحيَّا الله الإنصاف والمنصفين.
__________
(*) هذه المقالة لكاتب أمريكي ترجمتها بالعربية جريدة الهدى العربية السورية التي تصدر في نيويورك فرأينا أن ننقلها عنها ونعلق عليها ما فيه العبرة.(17/868)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تاريخ إعلان الدول الحرب
ذكرنا من قبل إعلان أكثر الدول للحرب، والآن نعيده مستوفى فنقول: أعلنت
النمسا الحرب على الصرب في 28 يوليو سنة 1914. وأعلنتها ألمانيا على روسيا
في 1 أغسطس، وفي 4 أغسطس أعلنتها على البلجيك وفرنسا وفي منتصف ليل 5
أغسطس أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا. وفي 6 أغسطس أعلنتها النمسة على
روسيا، وفي 7 أغسطس أعلنها الجبل الأسود على النمسا. وفي 10 منه أعلنتها
فرنسا على النمسا، وفي 12 منه أعلنتها إنكلترا على النمسا.
وفي 17 منه أعلنها الجبل الأسود على ألمانيا، وفي 23 منه أعلنتها اليابان على
ألمانيا، وفي 26 منه أعلنتها النمسا على اليابان.
__________(17/880)
ذو الحجة - 1332هـ
نوفمبر - 1914م(17/)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(2)
(المطر)
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ
كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم: 48) .
المطر يتولد من تصاعد بخار مياه البحار وغيرها، والعمدة في تبخيرها
حرارة الشمس. والفرق بين الغليان وبين هذا التبخر التدرجي هو أن التبخر
يحصل من سطح السائل فقط، وفي حالة الغليان ينبعث البخار من جميع أجزاء
الماء.
أما الحرارة اللازمة للتبخر في الحالتين فكميتها واحدة.
وتتولد الحرارة أيضًا في مياه البخار من احتكاك بعض ذراتها ببعض ومن
احتكاك الهواء بسطح البحر. وعمل الريح ضروري جدًّا لتولد السحاب من البحر،
ذلك:
(1) أنه باحتكاكه بسطح البحر يولد حرارة تساعد على التبخر.
(2) وأنه يحمل معه كثيرًا من ذرات الماء بمجرد هبوبه عليه حملاً آليًّا
(ميكانيكيًّا) .
(3) وأنه يسوق الهواء الذي شبع بالماء ويرفعه إلى السماء ليحل محله
هواء آخر خالٍ من الماء، وبذلك يزداد تبخر البحر، ولولا ذلك لوقفت حركة
التبخر لامتلاء الهواء الذي على سطح البحار بالماء.
لذلك قال الله تعالى:] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [أي تهيجه
وتحركه وترفعه عن سطح البحار كما ترفع التراب عن الأرض.
والماء يوجد في الهواء بصور مختلفة أشهرها الطل والضباب والبَرَد
والصقيع والمطر. ففي حالة البَرَد والصقيع يكون الماء متجمدًا، وفي حالة
الضباب والطل والمطر يكون سائلاً، والفرق بين هذه الأحوال إنما هو في درجة
الحرارة فقط.
وإذا اجتمعت ذرات الضباب بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة طل
أو مطر وإذا اجتمعت ذرات البرد بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة قطع
صغيرة من الثلج تسمى الصقيع.
وعليه فلا فرق بين أنواع السحاب سواء أكانت قريبة من سطح الأرض أم
بعيدة عنه، فهي على كل حال عبارة عن ذرّات صغيرة جدًّا من الماء السائل أو
المتجمد.
وفي أثناء سقوط المطر يختلط بالهواء فيذوب فيه بالنسبة التي سبق بيانها،
وكذلك يختلط بكل ما يوجد في الهواء من تراب أو أي غبار آخر أو جراثيم مَرَضية
أو غير مرضية ... إلخ.
ولذلك يتلون المطر في بعض البلاد بألوان مختلفة كالأسود والأحمر بحسب ما
يختلط به.
فماء المطر وإن كان أنقي ماء في الكون إلا أنه ليس أنقى من الماء المقطر
الذي نحصل عليه صناعيًّا.
ومن هذه الأجزاء الذائبة في ماء المطر ما هو نافع للحيوانات والنباتات، فإن
الهواء الذائب في الماء ضروري للحيوانات البحرية ونافع للحيوانات البرية
كالإنسان.
فإنه يجعل الماء خفيفًا على معدته، بخلاف ما إذا كان خاليًا من الهواء،
وكذلك توجد بعض مواد ذائبة في ماء المطر كانت سابحة في الهواء، فإذا سقطت
إلى الأرض نفعت النباتات فتغذت منها، ولا تمتص النباتات شيئًا من الأرض ما لم
يذب في الماء. ومن الأشياء المختلطة بالمطر ما هو ضار كالجراثيم المَرَضِيَّةِ.
***
الأنهار والعيون
إذا نزل المطر إلى الأرض سالت منه أودية على سطحها تسمى بالأنهار
وامتصت الأرض جزءًا آخر منه يسيل في جوفها كالأنهار؛ وهو في الحقيقة أنهار
باطنية، وجميع هذه الأنهار الظاهرة والباطنة تتجه شطر البحار ونحوها.
ومن هذه الأنهار الباطنية تتفجر الينابيع ويستخرج ماء الآبار.
فجميع الماء العذب الذي يشربه الحيوان سواء أكان أصله من الأنهار أم من
الآبار أو الينابيع هو كله من ماء المطر. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} (الزمر: 21) الآية.
وإذا امتصت الأرض الماء أو سال على ظهرها اختلط بجميع ما يوجد فيها
من الأملاح وغيرها، ومن ذلك نشأ الاختلاف بين أنواع المياه لاختلاف تربتها،
فمنها العذب الفرات ومنها الملح الأجاج، وإن كانت في الأصل كلها عذبة.
أما سبب انفجار الينابيع [1] الطبيعية فهو اختلاف في مستويات طبقات
الأرض المتنوعة، فإذا كنا في بقعة من الأرض منخفضة عن باقي سطحها سهل
انفجار الينابيع فيها بنفسها أو بمساعدتنا، فإن من السنن الإلهية أن السوائل تميل
إلى الموازنة فلذا يصعد ماء الينبوع المتفجر حتى يساوي ماء النهر الباطن الذي
صدر منه.
والآبار نوعان: آبار قريبة وآبار عميقة؛ فالآبار القريبة هي التي يأتيها الماء
من الطبقة الإسفنجية [2] الأولى وهي عرضة لأن تتلوث بالمياه القذرة التي على
سطح الأرض أو بالمياه القريبة من هذه الآبار كالمراحيض.
والآبار العميقة هي التي يأتي إليها الماء بثقب طبقة الأرض البعيدة حتى تصل
إلى الطبقة الإسفنجية الثانية، وقد يرتفع الماء بنفسه في هذه الآبار بنوعيها إذا كان
مصدره عاليًا وقد نحتاج إلى الآلات لجذبه إلينا. والنوع الثاني من الآبار أبعد عن
التلوث من النوع الأول ويسمى بالآبار الأرتوازية نسبة إلى إقليم أرتواز (Artois)
بشمال فرنسا حيث حفرت أول بئر سنة 1126.
ولأجل صيانة الآبار عن التلوث يجب أن تراعى الشروط الآتية في حفرها:
الشرط الأول: أن تكون بعيدة عن جميع المنازل المسكونة بنحو 30 مترًا
على الأقل.
الثاني: أن لا تكون في الجهة البحرية للمنازل في بلاد مصر؛ لأن المياه
الباطنية في مصر تنحدر كمياه النيل من الجهة القبلية إلى الجهة البحرية وعلى ذلك
تكون الآبار المحفورة في الجهة البحرية في طريق المياه الملوثة من المنازل.
الثالث: أن تكون حيطان (جدران) هذه الآبار صقيلة، وأن تكون الآبار
دائمًا مغطاة.
ولسهولة الحصول على مياه صحية نقية توجد طريقة أخرى سهلة وهي
استعمال الطلمبات الحبشية لنرتون (Norton) وهي مؤلفة من أنابيب معدنية تدق
في الأرض إلى بعد عميق جدًّا وتكون الأولى منها ذات طرف دقيق (مدبب)
كالمسمار وجميع جوانبها مخرقة إلى بعد نحو قدمين، وفي نهاية هذه الأنابيب من
الجهة العليا يركب عليها طلمبة لجذب الماء.
والمياه التي تخرج بهذه الطلمبة نقية جدًّا؛ لأنها صادرة من أعماق الأرض
البعيدة ولا تتلوث بشيء مما على سطح الأرض أو في داخلها.
والأشياء التي توجد في المياه هي كما سبق نوعان: أشياء معلقة، وأشياء
ذائبة، أما الأشياء المعلقة فهي توجد في مياه الأنهار بكثرة عظيمة. وأما مياه الآبار
فإنها تكاد تكون خالية إلا من الأشياء الذائبة؛ لأنها تصفّى من خلال طبقات الأرض.
فالمياه الباطنية إذًا أقل ضررًا للصحة من مياه الأنهار الظاهرة كما لا يخفى،
وللحصول على ماء نظيف من مياه الأنهار الظاهرة يجب إما غليها أو تقطيرها أو
تصفيتها بالآلات المسماة بالنواضح (المرشحات) وقد يستعمل (الشب) لتنقية
الماء وهو لا ضرر فيه والسبب في فعله هذا أنه يتحد مع بعض أملاح الماء مثل:
(بيكربونات الجير) فيتكون ما يسمى هيدرات الألومنيوم [3] وهي مادة غروية
تريب إلى أسفل الإناء فتحمل معها كل ما كان معلقاً في الماء تقريبًا وبذلك يتنقى.
ويوضع الشب في الماء بنسبة جرام إلى كل 14 لترًا من الماء تقريبًا.
أما تنقيته بنوى المشمش المُرّ فهي ضارة؛ لأنه قد يتولد منه حامض
الهيدروسينيك وخصوصًا إذا كان مقداره عظيمًا وتُرك مدة طويلة، وهذا الحامض
هو سم زعاف سريع التأثير جدًّا.
وعيب الماء المغلي أنه يشتمل على المواد المعلقة ويكون خاليًا من الهواء
وعيب الماء المقطر أنه يكون خاليًا من جميع الأملاح التى كانت في الماء
فيكون قليل التغذية للجسم، فإن هذه الأملاح ضرورية للحياة.
وعيب الماء المنقى بالشب أنه لا يكون نقيًّا للغاية المطلوبة، وإذا زاد مقدار
الشب أفسد طعم الماء، وأحدث عند متعاطيه إمساكًا شديدًا. أما الماء المصفى
بالنواضح فهو خير المياه؛ لأنه يكون مشتملاً على الهواء والأملاح اللازمة للجسم
ونظيفًا من كل ما يضر تقريبًا.
وأنواع النواضح كثيرة فمنها الخابية (الزير) ومنها ما يكون مصنوعًا من
الفخار أو الفحم (وهو أردؤها) وقد يستعمل الرمل لتنقية الماء بالنضح أيضًا.
والنواضح عبارة عن أنبوبة من الفخار جوفاء يمر في مسامها الماء من
ظاهرها إلى جوفها الفارغ، والدافع للماء على هذا المرور هو الضغط عليه.
وفي البلاد التي فيها الشركات المائية يندفع الماء بسبب ارتفاع الخزانات التي
تضعها هذه الشركات دائمًا في مكان أعلى من المدينة.
ويجب تنظيف هذه النواضح كل ثلاثة أيام بغسلها جيداً بالماء والصابون مع
شيء خشن كالمسفرة (الفرشة) أو الليف ثم تغلى في الماء لمدة عشر دقائق على
الأقل لقتل جميع الجراثيم الساكنة فيها.
وأسهل طريقة لتنظيف الخوابي (الأزيار) هي غسلها أولاً بالماء المغلي من
الداخل والخارج غسلاً جيدًا، ثم طرحها في الشمس مدة طويلة حتى تجف تمامًا
وبذلك يمكن أن تموت جل أو كل ميكروباتها الضارة.
أما مرور الماء أو خزنه في أنابيب أو خزانات من الرصاص ففيه ضرر،
وهذا الضرر يختلف باختلاف أنواع المياه والمواد الذائبة فيها: فأملاح الكلوريد
والنترات تساعد على إذابة شيء من الرصاص في الماء وكذلك الهواء والأحماض؛
فإذا اشتمل الماء على شيء من هذه الأشياء المذكورة - وهو قَل أن يخلو منها -
ذاب من الرصاص ما يكفي لإفساد صحة الإنسان.
أما الأملاح الأخرى الآتية - وهي السلفات والفسفات والكربونات - فإنها
تعوق ذوبان الرصاص في الماء ولذلك قلنا: إن ضرر الرصاص يختلف باختلاف
الأشياء الذائبة في الماء.
وإذا استمر الإنسان على تعاطي الماء الملوث بالرصاص أدى إلى أعراض
مَرَضية كثيرة منها:
الضعف، والصغار، والمغص الشديد، وزرقة تشاهد في اللثة، ومرض في
الكُلَى. وضعف واضطراب في أعضاء التناسل، وشلل في بعض أعضاء الجسم
فيحصل في اليدين ارتخاء يسمى عند الأطباء (الرسغ الساقط) .
ولتوقي هذا المضار يجب أن يوضع الماء في خزانات من الحجر أو الحديد
ونحوهما وأن تكون المواسير مصنوعة من مثل الحديد المصبوب (الزهر) أو
الفخار.
(يتبع)
((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ... ... ...
__________
(1) من الينابيع ما ماؤه حار جدًّا إلى درجة الغليان كما في الولايات المتحدة لصدوره من مكان غائر جدًا في جوف الأرض الملتهب.
(2) أعني ذات المسام الممتلئة بالماء.
(3) هو العنصر الذي يتركب منه الشب مع عناصر أخرى وتُعمل منه الآن أدوات كثيرة منزلية وغيرها خفية جدًّا.(17/897)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين
منزلة المحبة
فصل [1]
وهي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى
عَلَمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وَبِرَوْحِ نسيمها تروّح العابدون،
فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو
من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقده ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن
عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام،
وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي
كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس
بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوئهم من مقاعد
الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم في
ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من
قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفر
نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء
مع من أحب، فيالها نعمة على المحبين سابغة! تالله لقد سبق القوم السعادةَ وهم
على ظهور الفرش نائمون. ولقد تقدموا الركب بمراحل، وهم في سيرهم واقفون.
مَن لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدًا وتجي في الأول
أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم: حي على الفلاح! وبذلوا نفوسهم في طلب
الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضا والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج
والغدو بالرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم، وشكروا مولاهم على ما
أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عن الصباح.
فحيهلا إن كنت ذا همةٍ فقدْ ... حدا بك حادي الشوقِ فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا (لبيك) ألفاً كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نظرتَ إلى الأطلال عُدْنَ حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادًا إليهم وسِرْ على ... طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سرا إذا ونت ... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها ... أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبسًا من نورهم ثُم سَرْ به ... فنورهم يهديك ليس المشاعلا [2]
وحي على وادِ الأراك فقل به ... عساك تراهم فيه إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرَف الـ ... أحبة فاطلبهم إذا كانت سائلا
وإلا ففي جمعٍ [3] بليته فإن ... تفت فمتى؟ يا ويح مَن كان غافلا
وحي على جناتِ عدن بقربهم ... منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سَبَاكَ الكاشحون لأجل ذا ... وقفت على الأطلال تبكي المُنازلا
فدعها رسومًا دارسات فما بها ... مقيل فجازوها فليست منازلا
رسوم عفت تفنى بها الخلق كم بها ... فقيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا [4]
وخذ يُمنةً عنها على المنهج الذي ... عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان البخيل وسومها؟
بدم المحب يباع وصلهم ... فمَن الذي يبتاع بالثمن
تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة [5] المعسرون،
لقد أقيمت للعرض في سوق مَن يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس،
فتأخر البطّالون، وقام المحبون ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمناً، فدارت السلعة
بينهم ووقعت في يد {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ} (المائدة: 54) .
لما كثُر المدّعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى
الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا
تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل
عمران: 31) فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه،
فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين
وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم
بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة
من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنًا، فرَأَوْا مِن أعظم
الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير
ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك. فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل
لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها
معها {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (آل عمران: 169-170) .
إذا غرست شجرة المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب
أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب،
وفرعها متصل بسدرة المنتهى، لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجبه
دونه شيء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) .
***
فصل
لا تُحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها
وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في
أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم
دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات بحسب إدراك
الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة. وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة
أشياء:
(أحدها) : الصفاء والبياض. ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها:
حَبَب الأسنان.
(الثاني) : العلو والظهور، ومنه: حَبَبُ الماء وحُبابه، وهو ما يعلوه عند
المطر الشديد، وحبب الكأس منه.
(الثالث) : اللزوم والثبات، ومنه: حَبّ البعير وأحب: إذا برك ولم
يقم [6] قال الشاعر:
حلت عليه بالفلاة ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا
(الرابع) : اللب ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة لواحدة الحبوب [7]
إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.
(الخامس) : الحفظ والإمساك. ومنه: حب الماء، للوعاء الذي يحفظ فيه
ويمسكه، وفيه معنى الثبوت أيضًا.
ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة، فإنها صفاء المودة وهيجان إرادات
القلب للمحبوب، وعُلوّها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة
القلب للمحبوب ولزومها لزومًا لا تفارق [8] ولإعطاء المحب محبوبه لبَّه
وأشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه.
فاجتمعت فيها المعاني الخمسة ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية
المناسبة، الحاء التي هي من أقصي الحلق، والباء الشفهية التي هي نهايته،
فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن
ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وقالوا في فعلها [9] حبَّه وأحبَّه قال الشاعر:
أحب أبا ثروان من حب تمرة ... ولم تعلم أن الرفق بالجار أرفق [10]
فوالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدني من عبيد ومِشرق
ثم اقتصروا على اسم الفاعل من (أحب) فقالوا: مُحِب، ولم يقولوا حاب،
واقتصروا على اسم المفعول من (حب) فقالوا: محبوب، ولم يقولوا: مُحَب،
إلا قليلاً كما قال الشاعر:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المُحَب المكرَم
وأعطوا الحب حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة
حركة مسماه وقوتها، وأعطوا الحِب - وهو المحبوب - حركة الكسر لخفتها عن
الضمة وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم، مع إعطائه حكم نظائره كنِهب
بمعنى منهوب، وذِبح بمعنى مذبوح وحِمل للمحمول - بخلاف الحمل الذي هو
مصدر - لخفته، ثم ألحقوا به حملاً لا يشق على حامله حمله كحمل الشجرة والولد،
فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العحيبة بين الألفاظ والمعاني، تُطلعك على
قدر هذه اللغة وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات.
***
فصل
في ذكر رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام
على ما يُحتاج إليه منها [11] .
(الأول) : قيل: المحبة: الميل الدائم، بالقلب الهائم، وهذا الحد لا تمييز
فيه بين المحبة الخاصة والمشتركة والصحيحة والمعلولة.
(الثاني) : إيثار المحبوب، على جميع المصحوب، وهذا حكم من أحكام
المحبة وأثر من آثارها.
(الثالث) : موافقة الحبيب، في المشهد والمغيب، وهذا أيضًا موجبها
ومقتضاها، وهو أكمل من الحدين قبله، فإنه يتناول المحبة الصادقة الصحيحة
خاصة، بخلاف مجرد الميل والإيثار بالإرادة؛ فإنه إن لم تصحبه موافقة فمحبته
معلولة.
(الرابع) : مَحْو المحب لصفاته، وإثبات المحبوب لذاته، وهذا أيضًا من
أحكام الفناء في المحبة، أن تنمحي صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته،
وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه، وأخذه منه.
(الخامس) : مواطأة القلب لمرادات المحبوب، وهذا أيضًاً من موجباتها
وأحكامها، والمواطأة: الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومراضيه.
(السادس) : خوف ترك الحرمة، مع إقامة الخدمة، وهذا أيضًا من
أعلامها وشواهدها وآثارها، أن يقوم بالخدمة كما ينبغي مع خوفه مِن ترك الحرمة
والتعظيم.
(السابع) : استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك. وهذا
قول أبي يزيد، وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها، والمحب الصادق لو
بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيا منه، ولو ناله من محبوبه
أيسر شيء لاستكثره واستعظمه.
(الثامن) : استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك، وهو
قريب من الذي قبله؛ لكنه مخصوص بما هو من المحب.
(التاسع) : معانقة الطاعة، ومباينة المخالفة. وهو لسهل بن عبد الله،
وهو أيضًا حكم المحبة وموجبها.
(العاشر) : دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. وهو
للجنيد. وفيه غموض، ومراده استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب
المحب؛ حتى لا يكون الغالب عليه إلا ذلك، ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب
إلا بها، فيصير شعوره وإحساسه به بدلاً من شعوره وإحساسه بصفات نفسه، وقد
يحتمل معنى أشرف من هذا، وهو تبدل صفات المحب الذميمة التي لا توافق
صفات المحبوب بالصفات الجميلة التي توافق صفاته والله أعلم.
(الحادي عشر) : أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء، وهو
لأبي عبد الله القرشي. وهو أيضًا من موجبات المحبة وأحكامها، والمراد أن تهب
إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسًا في
مرضاته ومحابه، فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك فتأخذه منه له.
(الثاني عشر) : أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب. وهو للشبلي،
وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه مادامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة
مدخولة.
(الثالث عشر) : إقامة العتاب على الدوام. وهو لابن عطاء. وفيه
غموض؛ ومراده أن لا تزال عاتبًا على نفسك في مرضاة المحبوب، وأن لا
ترضى له فيها [12] عملاً ولا حالة.
(الرابع عشر) : أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك. وهو للشبلي أيضًا،
وفيه كلام سنذكره إن شاء الله في منزلة الغيرة، ومراده: احتقارك لنفسك أو
استصغارها أن يكون مثلك من محبيه.
(الخامس عشر) : إرادة غرست أغصانها في القلب فأثمرت الموافقة
والطاعة.
(السادس عشر) : أن ينسى المحب حظَّه في محبوبه، وينسى حوائجه
إليه. وهو لأبي يعقوب السوسي، ومراده أن استيلاء سلطانها على قلبه غيب عن
حظوظه وعن حوائجه، واندرجت كلها في حكم المحبة.
(السابع عشر) : مجانبة السلو على كل حال. وهو للنصرأبازي، وهو
أيضًا من لوازمها وثمراتها كما قيل:
مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكت على رسم السلو الدارس
(الثامن عشر) : توحيد المحبوب بخالص الإرادة وصدق الطلب.
(التاسع عشر) : سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب، وهو لمحمد
ابن الفضل، ومراده: توحيد المحبوب بالمحبة.
(العشرون) : غض طرف القلب [13] عما سوى المحبوب غيرة، وعن
المحبوب هيبة. وهذا يحتاج إلى تبيين: أما الأول فظاهر. وأما الثاني فإن غض
طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء الهيبة
يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم، وقد قيل: إن
هذا تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك للشيء يعمي ويصم) أي يعميه
عمَّا سواه غيرة، وعنه هيبة. وليس هذا مراد الحديث، ولكن المراد به أن حبك
للشيء يعمي ويصم عن تأمل قبائحه ومساويه، فلا تراها ولا تسمعها وإن كانت فيه،
وليس المراد به ذكر المحبة المطلوبة المعلقة بالرب، ولا يقال في حب الرب
تبارك وتعالى: حبك الشيء، ولا يوصف صاحبها بالعمى والصمم. ونحن لا ننكر
المرتبتين المذكورتين، فإن المحب قد يعمى ويصم عنه بالهيبة [14] والإجلال ولكن
لا توصف محبة العبد لربه تعالى بذلك، وليس أهلها من أهل العمى والصمم؛ بل
هم أهل الأسماع والأبصار على الحقيقة، ومَن سواهم هم الصم البكم العمي الذين لا
يعقلون.
(الحادي والعشرون) : ميلك للشي بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك
وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه. قال
الجنيد: سمعت الحارث المحاسبي رحمه الله يقول ذلك.
(الثاني والعشرون) : المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: لُمْتُ بعضَ المباحية فقال لي
ذلك، ثم قال: والكون كله مراده، فأي شيء أُبْغِضُ منه؟ فقال الشيخ: قلت له: إذا
كان المحبوب قد أبغض أفعالاً وأقوالاً وأقوامًا وعاداهم فطردهم ولعنهم فأحببتهم أنت،
أكنت مواليًا للمحبوب أو معاديًا له - قال: فكأنما أُلْقِمَ حجرًا، وافتضح بين أصحابه،
وكان مقدمًا فيهم مشارًا إليه.
وهذا الحد صحيح، وقائله إنما أراد أنها تحرق من القلب ما سوى مراد
المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدّره وقضاه؛ لكن لقلة
حظ المتأخرين منهم وغيرهم من العلم وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول
والاتحاد، والمعصوم من عصمه الله.
(الثالث والعشرون) : المحبة بذل المجهود، وترك الاعتراض على
المحبوب، وهذا أيضًا من حقوقها وثمراتها وموجباتها.
(الرابع والعشرون) : سُكْر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم
السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد:
فأسكر القوم دور الكأس بينهم ... لكن سكري نشا من رؤية الساقي
وينبغي صون المحبة والحبيب عن هذه الألفاظ التي غاية صاحبها أن يُعذر
بصدقه وغلبة الوارد عليه وقهره له، فمحبة الله أعلى وأجل من أن تضرب لها هذه
الأمثال، وتجعل عرضه للأفواه المتلوثة، والألفاظ المبتدعة، ولكن الصادق في
خفارة صدقة.
(الخامس والعشرون) : أن لا يؤثر على المحبوب غيره، وأن لا يتولى
أمورك غيره.
(السادس والعشرون) : الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته، والحرية
من استرقاق ما سواه.
(السابع والعشرون) : المحبة سَفَرُ القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان
بذكره على الدوام. قلت: أما سَفَرُ القلب في طلب المحبوب فهو الشوق إلى لقائه،
وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن مَن أحبَّ شيئًا أكثر من ذكره.
(الثامن والعشرون) : أن المحبة هي ما لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر.
وهي ليحيى بن معاذ، بل الإرادة والطلب والشوق إلى المحبوب لذاته، فلا ينقص
ذلك جفاؤه ولا يزيده برّه، وفي ذلك ما فيه؛ فإن المحبة الذاتية تزيد بالبر ولا
تنقصها زيادتها بالبر، وليس ذلك بعلة؛ ولكن مراد يحيى أن القلب قد امتلأ بالمحبة
الذاتية، فإذا جاء البر من محبوبه لم يجد في القلب مكانًا خاليًا من حبه تشغله محبة
البر؛ بل تلك المحبة قد استحقت عليه بالذات بلا سبب، ومع هذا فلا يزيل الوهم،
فإن المحبة لا نهاية لها، وكلما قويت المعرفة والبر قويت المحبة، ولا نهاية لجمال
المحبوب ولا بره، فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم وكانت على
قلب رجل واحد منهم كان ذلك دون ما يستحقه الرب جلا جلاله. ولهذا لا تسمى
محبة العبد لربه عشقًا - كما سيأتي - لأنه إفراط المحبة، والعبد لا يصل في محبة
الله إلى حد الإفراط ألبتة، والله أعلم.
(التاسع والعشرون) : المحبة أن تكون كلك بالمحبوب مشغولاًَ، وذُلُّك له
مبذولاً.
(الثلاثون) : وهو من أجمع ما قيل فيها - قال أبو بكر الكتاني رحمه الله:
جرت مسئلة في المحبة بمكة - أعزها الله تعالى - أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها
وكان [15] الجنيد أصغرهم سنًّا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه
ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب [16] عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء
حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته وصفاء شربه من كأس وده،
وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن
تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا:
ما على هذا مزيد، جزاك [17] الله يا تاج العارفين.
***
فصل
في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة:
(أحدها) : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب
الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
(الثاني) : التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة
المحبوبية بعد المحبة.
(الثالث) : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال،
فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
(الرابع) : إيثار محابّه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه
وإن صعُب المرتقى.
(الخامس) : مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه
في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمَن عَرَفَ اللهَ بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا
محالة، ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطَّاع الطريق على القلوب،
بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
(السادس) : مشاهدة برّه وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها
داعية إلى محبته.
(السابع) : وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يديه تعالى،
وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
(الثامن) : الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف
بالقلب والتأدب بين يديه، ثُمَّ ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
(التاسع) : مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما
ينتقى أطايب الثمر. ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا
لحالك ومنفعة لغيرك.
(العاشر) : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على
الحبيب، ومِلاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة.
وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) من الجزء الثالث من مدارج السالكين.
(2) كذا ولعله تحريف فظاهر الإعراب الرفع بالعطف، ولا يظهر الاستثناء؛ بل المراد ليس ما يهديك هو المشاعل، ويمكن أن يقال: فاطف المشاعلا، أو: فارمِ المشاعلا.
(3) (جمع) هي المزدلفة و (معرف) في البيت الذي قبله عرفات.
(4) كذا والظاهر أن يقال: (قاتل) بالرفع؛ لأن (كم) خبرية كالتي قبلها.
(5) في غير ح: فينفقها بالنسيئة.
(6) في ب: فلم يقم.
(7) وفي غيرها: ومنه لواجدة الحبوب.
(8) لعلها (لا تفارقه) .
(9) في غير ح: فعله.
(10) هذا البيت من زيادة ب.
(11) في ب: إلى الكلام فيها.
(12) في ب (منها) .
(13) في ب (غض طرفه) .
(14) وفيها: (فإن المحب قد يعمى ويصم عن سوى محبوبه وقد يعمي ويصم عنه) إلخ.
(15) في ح (فكان) إلخ.
(16) في ب (ذهب) .
(17) في ب وح (جبرك الله) .(17/903)
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
__________
تابع لمقالة
الفرق بين البدع
والمصالح المرسلة والاستحسان
فصل [*]
فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العلمي في المصالح المرسلة وتبين لك
اعتبار أمور.
(أحدها) : الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تُنافي أصلاً من أصوله ولا
دليلاً من دلائله.
و (الثاني) : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون
المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في
التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها
معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره،
والحج، ونحو ذلك.
فليتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات
التفصيلية.
ألا ترى أن الطهارات على اختلاف أنواعها قد اختص كل نوع منها بتعبد
مخالف جدًّا لما يظهر لبادي الرأي؟ فإنَّ البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما
تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط، ودون جميع المخرج فقط، ودون
أعضاء الوضوء [1] .
ثُمَّ إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء، وغير واجب في قذارتها بالأوساخ
والأدران، إذا فرض أنه لم يُحدِث.
ثم التراب - ومن شأنه التلويث - يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف.
ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها
لاستواء الأوقات في ذلك.
وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، فإذا أقيمت
ابتدأت إقامتها بأذكار أيضًا، ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات، وكل
ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على
غير ذلك، ثُم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد؛ فإذا
دخل المتطهر المسجد أُمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالوتر، أو أربع كالظهر،
فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة، وإذا قرأ سجدة سجد واحدة دون
اثنتين.
ثم أُمر بصلاة النوافل ونهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، وعلل النهي
بأمر غير معقول المعنى، ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف
والاستسقاء، دون صلاة الليل ورواتب النوافل.
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولاً؛ لأنه غير مكلف، ثم
أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد، والتكبير أربع تكبيرات
دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد.
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرًا، كإمساك
النهار دون الليل، والإمساك عن المأكولات والمشروبات، دون الملبوسات
والمركوبات، والنظر والمشي والكلام وأشباه ذلك؛ وكان الجماع - وهو راجع إلى
الإخراج - كالمأكول وهو راجع إلي الضد؛ وكان شهر رمضان - وإن كان قد
أنزل فيه القرآن - ولم يكن أيام الجمع، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس،
أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ثم الحج أكثر تعبدًا من الجميع.
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا (؟) إن في
هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قد قصده ونحا نحوه واعتبرت
جهته، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده
ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه، سواء
علينا أقلنا: إن التكاليف معللة بمصالح العباد، أم لم نقله، اللهم إلا قليلاً من مسائلها
ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين
المنصوص عليه والمسكوت عنه، فلا حرج حينئذٍ. فإن أشكل الأمر فلا بد من
الرجوع إلى ذلك الأصل، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى.
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدُوهَا، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا
الله يا معشر القراء، وخذوا بطريق من كان قبلكم. ونحوه لابن مسعود أيضًا وقد
تقدم من ذلك كثير.
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني، وإن ظهرت لبادي
الرأي، وقوفًا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه، فلم
يلتفت في إزالة الأخباث، ورفع الأحداث، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره،
حتى اشترط في رفع الإحداث النية، ولم يقم غير الماء مقامه عنده -
وإن حصلت النظافة - حتى يكون بالماء المطلق، وامتنع من إقامة غير التكبير
والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء، ومنع من إخراج
القيم في الزكاة، واختصر في الكفارات على مراعاة العدد، وما أشبه ذلك.
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى
مناسب - إن تُصور - لقلة ذلك في التعبدات وندوره، بخلاف قسم العادات الذي
هو جارٍ على المعني المناسب الظاهر للعقول، فإنه استرسل فيه استرسال المدل
العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج
عنه ولا يناقض أصلاً من أصوله، حتى لقد استشنع العلماء كثيرًا من وجوه
استرساله، زاعمين أنه خلع الربقة، وفتح باب التشريع. وهيهات ما أبعده من ذلك!
رحمه الله؛ بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع بحيث يخيل للبعض أنه
مقلد لمن قبله؛ بل هو صاحب البصيرة في دين الله حسبما بيّن أصحابه في
كتاب سيره.
بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه
مبتدع. وهذه غاية في الشهادة بالاتباع، وقال أبو داود: أخشى عليه البدعة. (يعني
المبغض لمالك) قال ابن مهدي: إذا رأيت أحدًا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة
وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام: ما سمعت أبا داود لعن أحدًا قط إلا رجلين: أحدهما
رجل ذكر له أنه لعن مالكًا، والآخر بشر المريسي.
وعلى الجملة فغير مالك أيضًا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية
المعنى، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، فالأصل متفق عليه عند الأكمة، ما عدا
الظاهرية، فإنهم لا يفرّقون بين العبادات والعادات؛ بل الكل تعبد غير معقول
المعنى، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلاً عن أن يعتقدوا المصالح
المرسلة.
و (الثالث) : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري
ورفع حرج لازم في الدين، أيضًا مرجعها إلى حفظ الضروري، من باب: (ما
لا يتم الواجب إلا به) فهي إذًا من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع
الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر
من الأمثلة المذكورة وكذلك رجوعها إلى دفع حرج لازم، وهو إما لاحقٌ
بالضروري وأما من الحاجي، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى
التقبيح والتزيين ألبتة. فإن جاء من ذلك شيء: فإما من باب آخر منها، كقيام
رمضان في المساجد جماعة - حسبما تقدم - وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها
السلف الصالح - كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة - وهو من قبيل ما يلائم.
وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل، و (ما لا يتم الواجب إلا به ... )
إن نص على اشتراطه، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب؛ لأن نص
الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه.
وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي، فلا يلزم أن يكون
شرعيًّا، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة، فإنَّا لو فرضنا حفظ القرآن
والعلم بغير كتب مطَّرِدًا لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا
حفظها، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير
عدم النص بها لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية - إذا ثبت هذا - لم
يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل.
وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضًا، وهو أقوى في الدليل
الرافع للحرج، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف، والأمثلة مبينة لهذا
الأصل أيضًا.
إذا تقررت هذه الشروط عُلم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن
موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل، والتعبدات من حقيقتها أن
لا يعقل معناها على التفصيل، وقد مرّ أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما
يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق.
وأيضًا فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع، بل إنما تتصور
على أحد وجهين: إما مناقِضة لمقصوده - كما تقدم في مسألة المفتي للملِك بصيام
شهرين متتابعين - وإما مسكوتًا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده
على تقدير عدم النص به، وقد تقدم نقل الإجماع على اطِّراح القسمين، وعدم
اعتبارهما، ولا يقال: إن السكوت عنه يلحق بالمأذون فيه؛ إذ يلزم من ذلك خرق
الإجماع لعدم الملاءمة؛ ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت
عنه كالمأذون فيه إن قيل بذلك، فهي تفارقها؛ إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا
أصل لها؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرّح به بخلاف العادات، والفرق
بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة، وعدم اهتدائها لوجوه التقرّبات
إلى الله تعالى وقد أشير إلى هذا المعني في كتاب الموافقات وإلى هذا (؟) .
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل،
أو إلى الخفيف، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات؛ لأن
البدع من باب الوسائل؛ لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف، وهو
مضاد للتخفيف.
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم
الملغى باتفاق العلماء، وحسبك به متعلقاً، والله الموفق.
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد،
فلم يبق إلا الوقوف عند ما حدّه، والزيادة عليه بدعة، كما أن النقصان منه بدعة
وقد مرّ لهما أمثلة كثيرة، وسيأتي آخرًا في أثناء الكتاب بحول الله.
***
فصل
وأما الاستحسان، فلأن لأهل البدع أيضًا تعلقًا به: فإن الاستحسان لا يكون
إلا بمستحسِن، وهو إما العقل أو الشرع.
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما؛ لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا
فائدة لتسميته استحسانًا، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع،
وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال. فلم يبق إلا العقل هو المستحسِن، فإن كان
بدليل فلا فائدة لهذه التسمية، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير
دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن.
ويشهد [2] قول مَن قال في الاستحسان أنه يستحسنه [3] المجتهد بعقله، ويميل
إليه برأيه (قالوا) : وهو عند هؤلاء من جنسِ ما يستحسن في العوائد، وتميل
إليه الطِّبَاع، فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما
بيّن (؟) إن ثَمَّ من التعبدات ما لا يكون عليه دليل، وهو الذي يسمى بالبدعة،
فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح؛ إذ ليس كل استحسان حقًّا.
وأيضًا فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان، وهو أن
المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره.
وهذا التأويل، فالاستحسان يساعده لبعده، لأنه يبعد في مجاري العادات أن يبتدع
أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له؛ بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق
دليل شرعي؛ لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه - وهو الأغلب - فهذا ممَّا يحتجُّون
به.
وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون،
وقد أَتوا بثلاثة أدلة:
(أحدها) : قول الله سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} (الزمر:
55) وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: 23) وقوله: {فَبِشِّرْ
عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) هو ما
تستحسنه عقولهم.
(والثاني) : قوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنًَا فهو عند الله
حسن) .
وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم، وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن
من أحسن ما يرون؛ إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم، فلم يكن
للحديث فائدة، فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم.
و (الثالث) : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا
تقدير مدة اللبث ولا تقرير الماء المستعمل، ولا سبب لذلك إلا أن المشاحة في مثله
قبيحة في العادة، فاستحسن الناس تركه، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة [4] أو
مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جُهل فإنه ممنوع، وقد استحسنت إجارته مع
مخالفة الدليل، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلاً.
فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضًا لمن أراد أن يبتدع، فله أن يقول:
إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء قد استحسن.
وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل؛ حتى لا يغتر به جاهل أو
زاعم أنه عالم، وبالله التوفيق، فنقول:
إن الاستحسان يراه معتبرًا في الأحكام مالك وأبو حنيفة، بخلاف الشافعي
فإنه منكِر له جدًّا حتى قال: (مَن استحسن فقد شرع) والذي يستقرى من
مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين، هكذا قال ابن العربي (قال)
فالعموم إذا استمر، والقياس إذا أطرد، فإن مالكًا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم
بأي دليل كان من ظاهر أو معنى (قال) ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة،
ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس
(قال) ويريان معًا تخصيص القياس ونقص العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا
ثبتت تخصيصًا.
هذا ما قال ابن العربي ويشعر بذلك تفسير الكرخي أنه العدول عن الحكم في
المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى. وقال بعض الحنفية: إنه القياس
الذي يجب العمل به؛ لأن العلة كانت علة بأثرها، سموا الضعيف الأثر:
قياسًا، والقوي الأثر: استحسانًا، أي: قياسًا مستحسنًا، وكأنه نوع من العمل بأقوى
القياسين.
وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية.
بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم، ورواه أصبغ عن ابن
القاسم عن مالك، قال أصبغ في الاستحسان: قد يكون أغلب من القياس. وجاء عن
مالك أن المفرق في القياس يكاد يفارق السنة [5] .
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبلُ، وأنه ما يستحسنه
المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه؛ فإن مثل
هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة.
وقال ابن العربي في موضع آخر: الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل،
على طريق الاستثناء والترخص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته.
وقسمه أقسامًا عد منها أربعة أقسام، وهي ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة،
وتركه لليسير، لرفع المشقة، وإيثار التوسعة [6] .
وحدّه غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك: استعمال مصلحة
جزئية في مقابلة قياس كلي. (قال) فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس.
وعرفه ابن رشد فقال: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعمّ من
القياس هو أن يكون طرحًا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه
في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.
وهذه تعريفات قريب بعضها من بعض.
وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة ألبتة؛ لأن
الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضًا، كما في الأدلة السنية مع القرآنية، ولا
يرد الشافعي مثل هذا أصلاً فلا حجة في تسميته استحسانًا لمبتدع [7] على حال.
ولا بد من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول الله، ونقتصر على عشرة
أمثلة:
(أحدها) : أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب، كقوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) فظاهر اللفظ
العموم في جميع ما يتمول به، وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية
خاصة، فلو قال قائل: مالي صدقة. فظاهر لفظه يعم كل مال، ولكنا نحمله على
مال الزكاة، لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب. قال العلماء: وكأن هذا يرجع إلى
تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلاً لما
قاله في الاستحسان.
و (الثاني) : أن يقول الحنفي: سؤر سباع الطير نجس، قياسًا على سباع
البهائم، وهذا ظاهر الأثر، ولكنه ظاهر استحسانًا؛ لأن السبع ليس بنجس العين؛
ولكن لضرورة تحريم لحمه، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه. وإذا كان
كذلك فارقه الطير؛ لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه، فوجب الحكم بطهارة
سؤره؛ لأن هذا أثر قوي وإن خفي، فترجح على الأول، وإن كان أمره جليًّا،
والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه.
و (الثالث) : أن أبا حنيفة قال: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين
كل واحد غير الجهة التي عينها (الآخر) فالقياس أن لا يحد، ولكن استحسن
حده ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة. فإذا عيَّن كلُّ واحد دارًا، فلم
يأت على كل مرتبة بأربعة لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة فإذا عيَّن كل واحد
زاوية فالظاهر تعدد الفعل، ويمكن التزاحف.
فإذا قال: القياس أن لا يحد فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا
واحد، ولكنه يقول [8] في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول؛ فإنه إن لم يكن
محدودًا صار الشهود فسقة، ولا سبيل إلى [9] ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلاً.
فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان
البعيد، فليس هذا حكمًا بالقياس، وإنما [10] تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن،
وهذا يرجع في الحقيقة إلى تحقيق مناطه.
و (الرابع) : أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف؛ فإنه رد
الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه، كقوله: والله
لا دخلت مع فلان بيتًا، فهو يحنث [11] بدخول كل موضع يسمى بيتًا في اللغة،
والمسجد يسمى بيتًا فيحنث على ذلك، إلا إن كان عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ
عليه، فخرج بالعرف على [12] مقتضى اللفظ فلا يحنث.
و (الخامس) : ترك الدليل لمصلحة، كما في تضمين الأجير المشترك وإن
لم يكن صانعًا، فإن مذهب مالك في هذه المسئلة على قولين، كتضمين صاحب
الحمام الثياب، وتضمين صاحب السفينة، وتضمين السماسرة المشتركين، وكذلك
حمال الطعام - على رأي مالك فإنه ضامن، ولا حق عنده بالصناع. والسبب في
ذلك عين السبب في تضمين الصناع.
فإن قيل: فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان.
قلنا: نعم: إلا أنهم صوَّروا الاستحسان تصور الاستثناء [13] من القواعد،
بخلاف المصالح المرسلة. ومثل ذلك يتصور في مسئلة التضمين، فإن الأجراء
مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية، فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك
الدليل، فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر.
و (السادس) : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب
بغلة القاضي، يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها.
ووجه ذلك ظاهر، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب، وقد امتنع
ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم
العدم، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع. وهو متجه بحسب الغرض الخاص،
وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة؛ لكن استحسنا ما تقدم.
وهذا الإجماع مما ينظر فيه، فإن المسئلة ذات قولين في المذهب وغيره،
ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب.
و (السابع) : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة،
وإيثار التوسعة على الخلق، فقد أجازوا التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة،
وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعاً للآخر، وأجازوا بدل الدرهم الناقص
بالوازن [14] لنزارة ما بينهما. والأصل المنع في الجميع، لما في الحديث من أن
الفضة بالفضة والذهب بالذهب مِثْلاً بمثل سواءً بسواء، وأن من زاد أو ازداد فقد
أربى، ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم؛ ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في
الغالب، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن
المكلف.
و (الثامن) : أن في التبعية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في
طُهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر - أنه يكشف منكر الولد عن
وطئه الذي أقرَّ به، فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره،
وكان كما لو اشتركا فيه، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقرَّ به، فقال
أصبغ:
إني أستحسن هاهنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواءً، فلعله غلب ولا
يدري، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا: (إن الوكاء قد ينقلب) قال
والاستحسان هاهنا أن ألحقه بالآخر، والقياس أن يكونا في العلم قد يكون أغلب من
القياس (؟) ثم حكي عن مالك ما تقدم.
ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل: من وطئ أمته فعزل عنها وأتت الآخر الذي
لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعًا يعزلان أو ينزلان.
والاستحسان - كما قال - أن يلحق الولد بالذي ادَّعاه وأقرَّ أنه كان ينزل، وتبرَّأ منه
الذي أنكره وادعى أنَّه كان يعزل؛ لأن الولد يكون مع الإنزال غالبًا، ولا يكون مع
العزل إلا نادرًا، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادَّعاه وكان ينزل، لا
الذي أنكره وهو يعزل، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام، وله في الحكم تأثير،
فوجب أن يصار إليه استحسانًا - كما قل أصبغ - وهو ظاهر فيما نحن فيه.
و (التاسع) : ما تقدم أولاً من أن الأُمَّة استحسنت دخول الحمام من غير
تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل. والأصل في هذا المنع؛
إلا أنهم أجازوا - لا كما قال المحتجون على البدع، بل لأمر آخر هو من هذا
القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة، فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره، فلا
حاجة إلى التقدير، وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرًا
بالعرف أيضًا؛ فإنه يسقط للضرورة إليه. وذلك لقاعدة فقهية، وهي أنَّ نفي جميع
الغرر في العقود لا يقدر عليه، وهو يضيق أبواب المعاملات، وهو تحسيم أبواب
المفاوضات (؟) ونفي الضرر إنما يطلب تكميلاً ورفعًا لما عسى أن يقع مِن نزاع،
فهو من الأمور المكمِّلة، والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى إبطال المكملات
سقطت جملة، تحصيلاً للمهم - حسبما تبيَّن في الأصول - فوجب أن يسامح في
بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها؛ إذ يشق طلب الانفكاك عنها، فسومح
المكلف بيسير الغرر، لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل مِن الغرض [15] ولم
يسامح في كثيره إذ ليس في محل الضرورة، ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر،
لكن الفرق بين القليل والكثير غير منصوص عليه في جميع الأمور، وإنما نهي
عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر، فجعلت أصولاً يُقَاسُ عليها غير القليل
أصلاً في عدم الاعتبار وفي الجواز، وصار الكثير في [16] المنع، ودارَ في
الأصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها، فإذا قلَّ الغرر وسَهُلَ الأمر وقلَّ النزاع
ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها، ومن هذا القبيل مسألة التقدير
في ماء الحمام ومدة اللبث.
قال العلماء: ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه، فَجَوَّزَ أن يستأجر الأجير
بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله، ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة،
وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه، وبيَّن تطرقه للثمرة فمنعه، فقال:
يجوز للإنسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ، وإن كان اليوم بعينه
لا ينضبط، ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز، والسبب في التفرقة
المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف، ولا مضايقة في الأجل؛ إذ
قد يسامح البائع في التقاضي الأيام، ولا يسامح في مقدار الثمن على حال.
يعضده ما روى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عيه
وسلم أمر بشراء الإبل إلى خروج المصَّدق، وذلك لا يضبط يومه ولا يعين
ساعته؛ ولكنه على التقريب والتسهيل.
فتأمَّلوا كيف وجه الاستثناء من الأصول الثابتة بالحرج والمشقة، وأين هذا
من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط؟ فتبيَّن لك بَوْنُ ما بين
المنزلتين.
(العاشر) : أنهم قالوا إن من جملة أنواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء،
وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة.
(منها) أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تُغير أحد أوصافه
أنه لا يتوضأ به؛ بل يتيمم ويتركه، فإن توضأ به وصلَّى أعاد ما دام في الوقت ولم
يعد بعد الوقت، وإنما قال: (يعيد في الوقت) مراعاة لقول مَن يقول إنه طاهر
مطهر.
ويروى جواز الوضوء به ابتداء، وكان قياس هذا القول أن يعيد أبداً، إذ لم
يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلا التيمم.
(ومنها) قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه: إن لم يتفق على فساده
فيفسخ بطلاق، ويكون فيه الميراث، ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح
الصحيح، فإن اتفق العلماء على فساده فُسِخَ بغير طلاق، ولا يكون فيه ميراث ولا
يلزم فيه طلاق.
(ومنها) مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبَّر للركوع وكان مع الإمام [17]
أن يتمادى، لقول مَن قال: إن ذلك يجزئه فإذا سلَّم الإمام أعاد هذا المأموم. وهذا
المعنى كثير جدًّا في المذهب، ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال؛
لأنه ترجح عنده، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه.
ولقد كتبت في مسئلة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد إفريقية
لإشكال عرض فيها من وجهين: أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض
صحتها، وهو ما أصله من الشريعة وعلى ما تبنى من قواعد أصول الفقه؟ فإن
الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه، ومتى رجح للمجتهد
أحد الدليلين على الآخر - ولو بأدنى وجوه الترجيح - وجب التعويل عليه وإلغاء ما
سواه، على ما هو مقرر في الأصول، فإذا رجعوه - أعني المجتهد - إلى قول
الغير إعمال لدليله المرجوح عنده، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه،
وذلك على خلاف القواعد.
فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم
بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس ابن القباب رحمة الله عليه، فكتب إلىَّ بما
نصه.
(وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف، وقلتم إن
رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى [18] اقتضى ذلك عدم
المرجوحة مطلقًا واستشنعتم أن يقول المفتي: (هذا لا يجوز) ابتداءً، وبعد الوقوع
يقول بجوازه؛ لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزًا. وقلتم إنه إنما يتصور الجمع
في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم - إلى غير ذلك مما أوردتم في
المسألة) .
وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان،
وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنُظَّار، حتى قال الإمام أبو عبد الله
الشافعي: مَن استحسن فقد شرع.
ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان - كما في علمكم - حتى
قالوا: أصح عبارة فيه: إنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه فإذا كان
هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه، فيكف ما يُبني عليه؟ فلا بد أن تكون العبارة
عنه أضيق.
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بني
عليه. لولا أنه اعتضد وتقوَّى لِوُجدَانِهِ كثيرًا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة
وجمهورهم مع عدم النكير، فتقوى ذلك عندي، وسكنت إليه النفس، وانشرح
إليه الصدر، ووثق به القلب، للأمر باتباعهم والاقتداء بهم، رضي الله عنهم.
فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد
البناء، فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم. وكل ما أوردتم
في قضية السؤال وارد عليه، فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول فدخول
الثاني بها دخول بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحًا على
الدوام، ومصححًا لعقده الذي لم يصادف محلاًّ، ومبطلاً لعقد نكاح مجمع على
صحته؛ لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرًا وباطنًا؟ وإنما المناسب أن الغلط
يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة، لا إباحة زوج غيره دائمًا، ومنع زوجها منها.
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود: أنه إن قدم المفقود قبل
نكاحها فهو أحق بها، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت؛ وإن كانت بعد العقد
وقبل البناء فقولان، فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعًا لعصمته فلا
حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها، أو كان ليس بقاطع للعصمة، فكيف تباح لغيره
وهي في عصمة المفقودة؟
وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب، وهو أنهما قالا: إذا قدم
المفقود يخيّر بين امرأته أو صداقها، فإن اختار صداقها بقيت للثاني. فأين هذا من
القياس؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله
عنهما، ونقل عن علي رضي الله عنه أنه قال بمثل ذلك، أو أمضى الحكم به،
وإن كان الأشهر عنه خلافه، ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك.
قال ابن المعدل: لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة فقام أحدهما فأوقع
الصلاة بثوب نجس مجانًا (؟) وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يغاربه (؟) [19]
مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة (؟) عامدًا جمع
الناس أن لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة [20] وممن نقله
اللخمي والمازري، وصححه الباجي، وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه.
وعلى الطريقة التي أوردتم - أن المنهي عنه ابتداءً غير معتبر - أحرى بكون
أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل؛ لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما
فرط فيه، والآخر لم يعمل كما أمر، ولا قضى شيئًا، وليس كل منهي عنه ابتداءً
غير معتبر بعد وقوعه.
وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (لا تزوج المرأةُ المرأةَ ولا تزوج المرأةُ نفسَها، فإن الزانيةَ
هي التي تزوج نفسها) وأخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها: (أيُّما
امرأةٍ نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها
بما أصاب منها) . فحَكَم أولاً ببطلان العقد وأكده بالتكرار ثلاثًا، وسمَّاه زنًا، وأقلّ
مقتضياته عدم اعتبار هذه العقد جملةً لكنه صلى الله عليه وسلم عقبه بما اقتضى
اعتباره بعد الوقوع بقوله: (ولها مهرها بما أصاب منها) ومهر البغيّ حرام.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (المائدة: 2)
الآية، فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله
تعالى، الذي لا يصح معه عبادة، ولا يقبل عمل، إن كان هذا الحكم الآن
منسوخًا، فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى.
من ذلك قول الصدّيق رضي الله عنه: وستجد أقوامًا زعموا أنهم حبسوا
أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، ولهذا لا يسبى الراهب
ويترك له ماله أو ما قلّ منه، على الخلاف في ذلك، وغيره ممن لا يقاتل يسبى
ويمتلك، وإنما ذلك لِمَا زعم أنه حبس نفسه له، وهي عبادة الله تعالى. وإن كانت
عبادته أبطل الباطل. فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا
يقطع بخطأ فيه؟ وإن كان يظن ذلك ظنًّا وتَتَبُّع مثل هذا يطول.
وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع: هل يقضي فساد المنهي عنه؟
وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم، فكيف بهذا؟
وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه؛ فقد خرجت عن
حيِّز الإشكال، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل، ويرجح كلُّ أحد ما ظهر
له بحسب ما وفق له، ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة) .
انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان، فلا يمكن مع
هذا التقرير كله أن يتمسك به مَن أراد مَن يستحسن بغير دليل أصلاً.
***
فصل
فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجُّوا به أولاً: فأما من حد الاستحسان بأنه:
(ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه) فكان هؤلاء يرون هذا النوع من
جملة أدلة الأحكام، ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك؛ بل يجوز أن يرد
بأنَّ ما سبق إلى أوهام العوام - مثلاً - فهو حكم الله عليهم، فيلزمهم العمل بمقتضاه،
ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من
الشرع قاطع ولا مظنون، فلا يجوز إسناده لحكم الله؛ لأنه ابتداء تشريع من جهة
العقل.
وأيضًا فإنَّّّا نعلم أن الصحابة - رضي الله عنهم - حصروا نظرهم في الوقائع
التي لا نصوص فيها في الاستنباط [21] والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة. ولم
يقل أحد منهم: إنِّي حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه، أو لأنه يوافق محبتي
ورضائي ولو قال ذلك لاشتد عليه النكير، وقيل له: مِن أين لك أن تحكم على عباد
الله بمحض ميل النفس وهوى القلب، هذا مقطوع ببطلانه.
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضًا على مأخذ بعض، ويحصرون
ضوابط الشرع.
وأيضًا فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة؛ لأن
الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك، ولا
يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضًا: لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر،
والشريعة ليست كذلك.
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدًا. ولا يفاتحون
عالمًا ولا غيره فيما يبتغون، خوفًا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندًا شرعيًّا. وإنما
شأنهم إذا وجدوا عالمًا أو لقوه أن يصانعوه، وإذا وجدوا جاهلاً عاميًّا ألقوا عليه
في الشريعة الطاهرة إشكالات، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم، ويلبسوا دينهم
فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس، ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئًا
فشيئًا، وذمَّوا أهل العم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها، وإن هذا الطائفة هم
أهل الله وخاصته. وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون
إليهم، حتى يهووا بهم في نار جهنم. وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه
العلماء الراسخين فلا.
وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم، تجدهم لا
يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم، والتحيل عليهم بأنواع الحيل،
حتى يخرجوهم من السنة أو من الدين جملة، ولولا الإطالة لأثبت كلامه، فطالعه
في كتابه (فضائح الباطنية) .
وأما الحد الثاني فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من
شاء ما شاء، واكتفى بمجرد القول. فألجأ الخصم إلى الإبطال، وهذا يجر فسادًا
لا خفاء له، وإن سلم: فذلك الدليل إن كان فاسدًا فلا عبرة به، وإن كان صحيحًا فهو
راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه.
وأما الدليل الأول فلا متعلق به، فإن أحسنَ الاتباع إلينا الأدلة الشرعية
وخصوصًا القرآن فإن الله يقول: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} (الزمر: 23) ، الآية.
وجاء في صحيح الحديث - خرَّجه مسلم - أن الني صلى الله عليه وسلم قال
في خطبته: (أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله) فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا
أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا، فضلاً عن أن يكون من أحسنه.
وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18) ... الآية
يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولاً وحينئذٍ ينظر إلى كونه أحسن القول كما
تقدم وهذا كله فاسد.
ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله، وأنه ليس بحجة،
وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع.
وأيضًا فيلزم عليه استحسان العوام، ومَن ليس من أهل النظر، إذا فرض أن
الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع، وذلك محال، للعلم بأن ذلك مضاد
للشريعة، فضلاً عن أن يكون من أدلتها.
وأما الدليل الثاني: فلا حجة فيه من أوجه:
(أحدها) : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن،
والأمة لا تجتمع على باطل. فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعًا؛
لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعيًّا، فالحديث دليل عليكم لا لكم.
و (الثاني) : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع.
و (الثالث) : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه
استحسان العوام، وهو باطل بإجماع، لا يقال: إن المراد استحسان أهل الاجتهاد،
لأنا نقول: هذا ترك للظاهر، فيبطل الاستدلال. ثم إنَّه لا فائدة في اشتراط
الاجتهاد؛ لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة، فأي حاجة إلى اشتراط
الاجتهاد.
فإن قيل: إنما يشترط حذرًا من مخالفة الأدلة فإنَّ العامي لا يعرفها. قيل:
بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة، بدليل أن الصحابة - رضي الله عنهم -
قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع فالحاصل أن تعلق المبتدعة
بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم ألبتة، لكن ربما يتعلقون في آحاد
بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ومنها ما قد مضى.
***
فصل
فإن قيل: أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب
ويجري في النفس، وإن لم يكن ثَمَّ دليل صريح على حكم مِن أحكام الشرع، ولا
غير صريح، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول
(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة) .
وخرّج مسلم عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك
في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه) وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال:
قال رجل: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: (إذا سرّتك حسناتك وساءتك سيئاتك
فأنت مؤمن) قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قال: (إذا حاك شيء في صدرك
فدعه) وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وعن وابصة رضي الله عنه
قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: يا وابصة استفت
قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك
في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) وخرَّج البغوي في معجمه
عن عبد الرحمن بن معاوية: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله: ما يحل لي مما يحرم عليَّ؟ فسكت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فردد عليه ثلاث مرات، كلُّ ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم قال أين السائل؟ فقال: أنا ذا يا رسول الله فقال ونقر بأصبعه: (ما أنكر
فوك فدعه) .
وعن عبد الله قال: الإثم حواز القلوب، فما حاك من شيء في قلبك فدعه،
وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعًا. وقال أيضًا: الحلال بيّن والحرام
بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك , وعن أبي الدرداء -
رضي الله عنه -: إن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة؛ فدع ما يريبك إلى ما لا
يريبك، فوالله ما وجدت فَقْد شيء تركتُه ابتغاء وجه الله.
فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية لي ما يقع بالقلب
ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدام عليه
صحيح، وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور، وهو عين ما وقع إنكاره من
الرجوع إلى الاستحسان الذي قع بالقلب ويميل إليه الخاطر، وإن لم يكن ثَمَّ دليل
شرعي، فإنه لو كان هناك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيّدًا بالأدلة الشرعية لم
يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب، مع أنه عندكم عبث وغير
مفيد، كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية، أو الأفعال التي لا ارتباط
بينها وبين شرعية الأحكام - فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثرًا
في شرعية الأحكام، وهو المطلوب.
والجواب: إن هذه الأحاديث، وما كان في معناها قد زعم الطبري في تهذيب
الآثار أن جماعةً من السلف قالوا بتصحيحها، والعمل بما دل عليه ظاهرها , وأتى
بالآثار المتقدمة عن عمر، وابن مسعود , وغيرهما، ثم ذكر عن آخرين القول
بتوهينها، وتضعيفها، وإحالة معانيها.
وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه،
فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله فحكى عن جماعة أنهم قالوا: لا شيء
من أمر الدين إلا وقد ينه الله - تعالى - بنص عليه، أو بمعناه، فإن كان حلالاً
فعلى العامل به إذا كان عالمًا تحليله، أو حرامًا فعليه تحريمه، أو مكروهًا غير
حرام عليه اعتقاد التحليل، أو الترك تنزيهًا.
فأما العامل بحديث النفس، والعارض في القلب فلا، فإن الله حظر ذلك على
نبيه فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه، وحدثته به نفسه، فغيره من
البشر أولى أن يكون ذلك محظوراً عليه , وأما إن كان جاهلاً فعليه مسألة العلماء
دون ما حدثته نفسه.
ونقل عن عمر - رضي الله عنه - أنه خطب فقال: أيها الناس، قد سُنت
لكن السنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُرِكتم على الواضحة، أن تضلوا بالناس
يمينًا وشمالاً [22] . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما كان في القرآن من
حلال، أو حرام فهو كذلك، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه.
وقال مالك: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تم هذا الأمر
واستكمل؛ فينبغي أن تًتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا
يُتبع الرأي، فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه، فكلما
غلبه رجل اتبعه، أرى أن هذا بعد لم يتم , واعملوا من الآثار بما روي عن جابر -
رضي الله عنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد تركت فيكم ما لن
تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على
الحوض) [23] .
وروي عن عمرو بن.. .. . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهم
يجادلون في القرآن، فخرج وجهه أحمر كالدم فقال [24] : (يا قوم! على هذا هلك
من كان قبلكم، جادلوا في القرآن، وضربوا بعضه ببعض، فما كان من حلال
فاعملوا به، وما كان من حرام فانتهوا عنه، وما كان من متشابه فآمنوا به) .
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - يرفعه قال: ما أحل الله في كتابه فهو
حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته،
فإن الله لم يكن لينسى شيئاً {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: 64) .
قالوا: فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله، والإعلام بأن العامل به
لن يضل، ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة، ولو
كان ثم ثالث لم يَدَعْ بيانه، فدل على أن لا ثالث؛ ومن ادعاه فهو مبطل.
قالوا: فإن قيل: فإنه عليه السلام قد سن لأمته وجهًا ثالثًا، وهو قوله:
(استفت قلبك) وقوله (الإثم حوار القلوب) إلى غير ذلك - قلنا: لو صحت هذه
الأخبار لكان ذلك إبطالاً لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذا صحَّا معًا؛ لأن أحكام الله
ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته، وإنما كان يكون وجهًا ثالثًا لو
خرج شيء من الدين عنهما، وليس بخارج، فلا ثالث يجب العمل به.
فإن قيل: قد يكون قوله: (استفت قلبك) ونحوه أمرًا لمن ليس في مسألته
نص من كتاب ولا سنة، واختلفت فيه الأمة، فيعد وجهًا ثالثًا - قلنا: لا يجوز ذلك
لأمور:
(أحدها) : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصت على حكمه دلالة، فلو
كان فتوى القلب ونحوه دليلاً، لم يكن لنصب الدلالة الشرعية عليه معنى، فيكون
عبثاً، وهو باطل.
(والثاني) : أن الله - تعالى - قال {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون
حديث النفوس وفتيا القلوب.
(والثالث) : أن الله - تعالى - قال {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من
أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم.
(والرابع) أن الله - تعالى - قال لنبيه احتجاجًا على من أنكر وحدانيته
{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية: 17) إلى آخرها فأمرهم
بالاعتبار بعبرته، والاستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به , ولم يأمرهم أن
يستفتوا فيه نفوسهم، ويصدروا عما اطمأنت إليه قلوبهم، وقد وضع الأعلام والأدلة،
فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت، دون
فتوى النفوس، وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله.
هذا ما حكاه الطبري عمن تقدم، ثم اختار إعمال تلك الأحاديث، إما لأنها
صحت عنده، أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها، كحديث (الحلال بَيّن
والحرام بَيّن) إلى آخر الحديث فإنه صحيح خرجه الإمامان , ولكنه لم يعمله في
كل من أبواب الفقه، إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال، وإحداث التعبدات؛ فلا
يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال: إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر، أو:
استفت قلبك في إحداث هذا العمل، فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا.
وكذلك في النسبة إلى التشريع التَّركي، لا يتأتى تنزيل معاني الأحاديث عليه
بأن يقال: إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه، وإلا فدعه، أي فدع
الترك واعمل به. وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله
عليه السلام (الحلال بَيّن والحرام بَيّن) الحديث.
وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء، والطعام، والشراب، والنكاح،
واللباس، وغير ذلك مما في هذا المعنى، فمنه ما هو بين الحلّية، وما هو بيّن
التحريم، وما فيه إشكال - وهو الأمر المشتبه الذي لا يُدرى أحلال هو أم حرام -
فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهله بحاله نظير قوله - عليه السلام - (إني
لأجد التمرة ساقطةً على فراشي، فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها [25] )
فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين: إما من الصدقة، وهي
حرام عليه، وإما من غيرها وهي حلال له، فترك أكلها حذرًا من أن تكون من
الصدقة في نفس الأمر.
قال الطبري: فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو في سعة من
تركه والعمل به، أو مما هو غير واجب - أن يدع ما يريبه فيه إلى ما لا يريبه، إذ
يزول بذلك عن نفسه الشك، كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته
وإياها، ولا يعلم صدقها من كذبها، فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له
بسبب إخبار المرأة، وليس تزوجه إياها بواجب بخلاف ما لو أقدم، فإن النفس لا
تطمئن إلى حلّية تلك الزوجة.
وكذلك قول عمر إنما هو فيما أُشكل أمره في البيوع فلم يدر حلال هو أم
حرام؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب، كما في الإقدام شك: هل هو إثم
أو لا؟ وهو معنى قوله - عليه السلام - للنواس ووابصة -رضي الله عنهما -
ودل على ذلك حديث المشتبهات لا ما ظن أولئك من أنه أمر للجهال أن يعملوا بما
رأته أنفسهم، ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم.
قال الطبري: فإن قيل: إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي حرام. فسأل
العلماء فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: قد بانت منك بالثلاث , وقال بعضهم: إنها
حلال غير أن عليك كفارة يمين , وقال بعضهم: ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو
طلاق، أو الظهار فهو ظهار، أو يمينًا فهو يمين، وإن لم ينو شيئًا فليس بشيء
أيكون هذا اختلافًا في الحكم، كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق، كما يؤمر
هناك أن لا يتزوجها خوفًا من الوقوع في المحظور؟ أو لا؟ قيل: حكمه في مسألة
العلماء أن يبحث عن أحوالهم، وأمانتهم، ونصيحتهم، ثم يقلد الأرجح , فهذا ممكن ,
والحزازة مرتفعة بهذا البحث، بخلاف ما إذا بحث مثلاً عن أحوال المرأة فإن
الحزازة لا تزول، وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة، فهما على هذا مختلفان،
وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده، لم يثبت له ترجيح
لأحدهم، فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة
بالرضاع سواءً، إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير انتهي معنى كلام الطبري.
وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير، بل حكمه
حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام، فلا خلاص له من الشبهة
إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به، وإلا فالترك، إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك،
حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة.
***
فصل
ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء
القلب مطلقًا أو بقيد، وهو الذي رآه الطبري , وذلك أن حاصل الأمر يقتضي أن
فتاوى القلوب، وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية، وهو التشريع
بعينه، فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجردًا عن الدليل: إما أن تكون معتبرةً،
أو غير معتبرة شرعًا، فإن لم تكن معتبرةً فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار،
وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة، وإن كانت معتبرةً فقد صار ثَمَّ قسم ثالث غير
الكتاب والسنة، وهو غير ما نفاه الطبري وغيره.
وإن قيل: إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام , لم تخرج تلك عن الإشكال
الأول؛ لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لابد أن يتعلق به حكم شرعي، وهو
الجواز وعدمه، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس، أو عدم طمأنينتها , فإن كان ذلك
عن دليل، فهو ذلك الأول بعينه باق على كل تقدير.
والجواب أن الكلام الأول صحيح، وإنما النظر في تحقيقه:
فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم، ونظر في مناطه ,
فأما النظر في دليل الحكم فلا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة، أو ما يرجع
إليهما من إجماع، أو قياس، أو غيرهما، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس، ولا نفي
ريب القلب، لا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلاً، أو غير دليل [26] ولا يقول أحد
إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها، أو يستقبحون كذلك من
غير دليل إلا طمأنينة النفس (؟) أن الأمر كما زعموا، وهو مخالف لإجماع
المسلمين.
وأما النظر في مناط الحكم، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل
شرعي فقط، بل يثبت بدليل غير شرعي، أو بغير دليل، فلا يشترط فيه بلوغ
درجة الاجتهاد، بل لا يشترط فيه العلم فضلاً عن درجة الاجتهاد , ألا ترى أن
العامي إذا سأل [27] عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي: هل
تبطل به الصلاة أم لا؟ فقال العامي: إن كان يسيرًا فمغتفر، وإن كان كثيرًا
فمبطل - لم يغتفر في اليسير إلى أن يحققه له العالم، بل العاقل يفرق بين الفعل
اليسير والكثير , فقد انبنى هاهنا الحكم، وهو البطلان، أو عدمه على ما يقع بنفس
العامي، وليس واحدًا من الكتاب أو السنة؛ لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلاً على حكم،
وإنما هو مناط الحكم، فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق فهو المطلوب، فيقع
عليه الحكم بدليله الشرعي، وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة، وفرقنا بين
اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما
يشهد قلبه في اليسير أو الكثير، فيبطل طهارته أو تصح بناءً على ذلك الواقع في
القلب؛ لأنه نظر في مناط الحكم.
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله، لأن حِلّيته ظاهرة عنده إذا
حصل له شرط الحِلّية لتحقق مناطها بالنسبة إليه، أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له
أكله؛ لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحِلّية، فتحقق مناطها بالنسبة إليه.
وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه، واطمأنت إليه نفسه، لا بحسب
الأمر في نفسه، ألا ترى أن اللحم قد يكون واحدًا بعينه فيعتقد واحد حِلّيته بناءً على
ما تحقق له من مناطها بحسبه، ويعتقد آخر تحريمه بناءً على ما تحقق له من
مناطه بحسبه، فيأكله أحدهما حلالاً، ويجب على الآخر الاجتناب لأنه حرام؟
ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال
وكان محالاً؛ لأن أدلة الشرع لا تتناقض أبدًا، فإذا فرضنا لحمًا أشكل على المالك
تحقيق مناطه لم [28] ينصرف إلى إحدى الجهتين، كاختلاط الميتة بالذكية، واختلاف
الزوجة بالأجنبية.
فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة , وهذا المناط محتاج إلى
دليل شرعي يبين حكمه، وهي تلك الأحاديث المتقدمة، كقوله: (دع ما يريبك إلى
ما لا يريبك) وقوله (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك)
كأنه يقول: إذا اعتبرنا [29] باصطلاحنا: ما تحققت مناطه في الحِلّية أو الحرمة
فالحكم فيه من الشرع بيّن، وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به، وهو
معني قوله - إن صح - (استفت قلبك وإن أفتوك) فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص
بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك , ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط،
ولم يشكل على غيرك؛ لأنه لم يعرض له ما عرض لك , وليس المراد بقوله:
(وإن أفتوك) أي إن نقلوا لك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك، فإن
هذا باطل وتقوّل على التشريع الحق , وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.
نعم قد لا يكون ذلك درية [30] أو أنسا بتحقيقه فيحققه لك غيرك، وتقلده فيه،
وهذه الصورة خارجة عن الحديث، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضًا موقوفًا
على تعريف الشارع، كحد الغنى الموجب للزكاة، فإنه يختلف باختلاف الأحوال،
فحققه الشارع بعشرين دينارًا ومائتي درهم وأشباه ذلك، وإنما النظر هنا فيما وكل
تحقيقه إلى المكلف.
فقد ظهر معني المسألة، وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية
من طمأنينة النفس أو ميل القلب، كما أورده السائل المستشكل، وهو تحقيق بالغ ,
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(*) تابع لما نشر في ص 833.
(1) روي عن بعض علماء السلف مثل هذا، وعد الطهارتين على خلاف القياس أو العقل، وأخذ الناس ذلك بالقبول مع أن حكمة الطهارتين معقولة، فإن خروج المني ودم الحيض يحدث من الفتور والضعف في البدن كله ما لا يحدث مثله بخروج البول والغائط، فشرع الغسل من الأولين ليعود به للبدن نشاطه وللعصب فيه تنبهه، فيقوى على العبادة، واكتفى بالوضوء من الآخرين لضعف تأثيرهما، وثم حكمة أخرى وهي جعل الطهارة الخفيفة لما يتكرر كل يوم، والطهارة الشاقة لما لا يتكرر إلا في الأسابيع أو الشهور، وللأمثلة الأخرى التي سيذكرها حِكَم أيضًا بينا بعضها في مجلة المنار وفي (تفسير القرآن الحكيم) ولا ينكر مع ذلك أن في كل عبادة معني التعبد الذي يؤخذ بالتسليم، كعدد الركعات والركوع والسجود فيها.
(2) لعل أصله (ويشهد لذلك) أوله.
(3) لعل أصله (ما يستحسنه) .
(4) لابد أن يكون سقط من هنا شيئ ولعله (المنفعة) .
(5) كانت العبارة في صلب النسخة هكذا: (إن المفرق في القياس، يكاد يفرق الناس) ووضع فوق (يفرق الناس) خط وكتب بإزائه في الحاشية (يفارق السنة) على أن معني العبارة المصححة ظاهر.
(6) إذا كان قوله: (لرفع المشقة) إلخ تعليلاً لتركه في (لليسير) (وهو القليل التافه) فأين القسم الرابع، وإن كان قسمًا برأسه فلماذا لم يقل (وتركه لرفع المشقة) وليراجع المثال السابع في ص 927.
(7) قوله: (لمبتدع) خبر قوله: (فلا حجة) .
(8) لعل أصله (يؤول) فإن الزنا إذا لم يثبت بشهادة من شهدوا به يؤول الأمر إلى قذفهم للمشهود عليه وهو فسق، والعبارة كما ترى لا تفهم إلا بتكلف.
(9) لعله سقط من هنا لفظ (التفسيق) .
(10) لعله سقط من هنا كلمة (هو) .
(11) نص نسختنا (فلا يحنث) وهو غلط حتمًا.
(12) لعله عن.
(13) الظاهر أن يقول: صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء - أو تصوروا الاستحسان تصور الاستثناء إلخ.
(14) الوازن ما وزن فعرف أنه تام يقال: درهم وزن ووازن وموزون.
(15) لعله الغرر أو الضرر.
(16) لعل أصله (في حكم المنع، أو: في حيز المنع) .
(17) سقط من هنا ما يكون به قوله (أن يتمادى) جملة مفيدة، ولعل أصله: وجب، أو: فعليه أن يتمادى.
(18) ينظر.
(19) كذا في الأصل وفيه حذف وتحريف ظاهر وقد وضع فوق ألف (مجانًا) ثلاث نقاط، وكلمة (يغاربه) يحتمل أن تكون (يقاربه) .
(20) لا تزال العبارة مضطربة تدل على الحذف والبتر والتصحيف والتحريف.
(21) قوله: (في الوقائع) متعلق بـ (نظرهم) وقوله: (في الاستنباط) متعلق بـ (حصروا) .
(22) أي: كراهة أن تضلوا، أو: اتقاء أن تضلوا.
(23) لا أعرف الحديث بهذا اللفظ عن جابر، وهو مروي عنه بألفاظ أقربها إلى ما هنا ما رواه ابن أبي شيبة , والخطيب في المتفق والمفترق عنه وهو (تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ورواه الترمذي والنسائي عنه بلفظ (يا أيها لناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتى أهل بيتي) والحديث مروي بلفظ العترة بدل السنة عن كثير من الصحابة منهم زيد بن ثابت , وزيد بن أرقم , وأبو سعيد الخدري , وروي عن أبي هريرة بلفظ السنة بدل العترة، وفي كلا السياقين لفظ (لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) والجمع بينهما في المعنى أن عترته أهل بيته يحافظون على سنته، أي: لا يخلو الزمان عن قدوة منهم يقيمون سنته لا يثنيهم عنها التقليد، ولا الابتداع، ولا الفتن.
(24) كذا في الأصل، والحديث أخرجه نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن، فخرج محمرةً وجنتاه كأنما تقطران دمًا فقال: (يا قوم لا تجادلوا بالقرآن، فإنما ضل من قبلكم بجدالهم، إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، ولكن نزل يصدق بعضه بعضًا فما كان من محكمه فاعملوا به، وما كان من متشابهه فآمنوا به) .
(25) كان الحديث محرفًا تحريفًا مغيرًا للمعني.
(26) يظهر أنه سقط من هذا الموضع مقابل (لا) فإن اعتقاد كون الدليل دليلاً، أو غير دليل أمر
واحد، أو جهة واحدة، وليتأمل قوله (ولا يقول أحد) إلخ، ولعله قد سقط منه شيء أيضًا.
(27) لعله (سئل) .
(28) هذا جواب (فإذا) وكان في الأصل مقرونًا بالفاء.
(29) لعل أصله (عبرنا) من التعبير.
(30) في الأصل (ذريعة) وقد جعل فوقها علامة الترميج، وأصلحت فصارت (درية) والدرّية أصلها دريئة وهي الحلقة التي يتعلم بها الطعن، وما يختل الصائد به الصيد، والأظهر أن يكون أصله: قد لا يكون لك دراية، أو أنس بتحقيقه.(17/913)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب المدنية الكبرى
بلغ العالم المدني في العلوم والصناعات وشئون الاجتماع شأوًا لم تعرف
له الأرض نظيرًا، فرماها بقاصمة من الحرب المدنيَّة لم تر لها نظيرًا، فهذه
الحرب تشغل اليوم عقول أعرق الأمم في العلم والمدنية، وجميع قواهم
وجوارحهم، وما كسبته في الأيام الخالية من علم ومال، وما أنشأته من الآلات
وعدد القتال في انتقام عدة أمم ودول من أمم ودول أخرى، وكل دولة مقاتلة
تتوسل إلى من بقي على الحياد من الدول لتجذبها إليها، وتجعلها من أحزابها، فلو
نال كل فريق من المقاتلين ما يتمناه من مساعدة غيره له لاحترقت الأرض كلها بنار
هذه الحرب، وكان البشر كلهم حولها كالفراش يتهافتون فيها.
لو فكر كل امرئ من الناس بكنه هذه الحرب، ونكباتها وشرورها، وما
تصبه في كل ساعة، بل في كل دقيقة، بل في كل ثانية من أصوات العذاب
وصواعق النكال على الألوف من إخوانه البشر، وما يخسره العالم بفقد من تصعقهم
من العلماء والحكماء والصناع والزراع، وأرباب البيوت الذين خلفوا وراءهم
نساءً وأطفالاً لا عائل لهم من دونهم - لو فكر كل امرئ في ذلك وأعطاه حقه من
التصور والتدبر لاضطرب قلبه وحار لبه، وسالت عَبِرته وعظمت عِبرته،
ولكن شُغل كل امرئ ما أصابه، أو يتوقع أن يصيبه من شر هذه الحرب عما
أصاب غيره، وقلما يوجد أحد في الأرض آمِنٌ من مصائبها، وما جعل الله لرجل من
قلبين في جوفه.
إن أبعد الناس عن مواقع القتال وأقربهم إلى الأمن على أنفسهم من نيران
مدافعها وبنادقها وأسنة حرابها - لهم فيها شواغل أخرى بما نقصته من مكاسبهم،
وما قطعته من موارد أرزاقهم، فقد اضطربت المعاملات المالية في العالم كله منذ
بدأت؛ لأن هذه الدول التي أشعلت نارها هي القائمة بمعظم تجارة العالم، والصانعة
لأكثر ماعونه ولباسه وسائر أدوات عمله، وما هذا الشاغل عند الأكثرين إلا
دون ما لكل منهم من الضلع والميل إلى أحد الفريقين المتحاربين على الآخر،
فترى أمثال هؤلاء أكثر تفكيرًا في عاقبة الأحلاف المحاربة من التفكير في عاقبة
أمر أنفسهم في معاشهم، وموارد رزقهم، ورزق من يعولونه، لِهوًى لهم في ذلك
يرضونه، أو نفع من ورائه يرجونه.
هذا وإن الناس يزِنون أخبار الحرب بموازين أهوائهم، ويحكمون في عواقبها
بأمانيهم لا بآرائهم، فحكمهم هذا لا يتوقف على معرفة أخبارها الصادقة، ولا على
كنه قوات الدول المحتربة , على أن من هذه القوات ما هو معلوم بالتواتر، أو
الاستفاضة لا يماري فيه أحد من عوام الناس - دع خواصهم - ومنه أن دولة إنكلترا
أقوى دول الأرض في البحر، وأن دولة ألمانيا أقواهن في البر، وثانيتهن في البحر
واختلف الناس في المفاضلة بين الدول في الأساطيل الجوية، فذهبت الصحف
عندنا إلى أن فرنسا صاحبة السبق في هذا المضمار، وأن لها القدح المعلى فيه، ثم
ظهر أن ألمانية هي المبرّزة فيه، كما كنا نظن وفاقًا لكثير من الناس، بل المعلوم
بالإجمال عند جماهير الناس في الغرب، وأكثر المتعلمين في الشرق أن ألمانية أشد
الدول استعدادًا للحرب، وإتقانًا لنظامها وعُددها وكراعها، وأنه لولا أن إنكلترة
تكثرها في أساطيل البحر، لما لها في ذلك من السبق، لسهل عليها أن تسود الأمم
كلها بقوتها.
هذا وأن جميع الدول الأوربية متقاربة في الاستعداد للقتال، وقلما تسبق واحدة
إلى اختراع شيء، أو إحداث عدة، أو إنشاء حصن، وتستطيع إخفاءه زمنًا طويلاً
عن غيرها، فإن لكل منهن عيونًا أحد أبصارًا من زرقاء اليمامة، وأشد استراقًا
للسمع من الشياطين، ولكل من فنون العلم ودور الصناعات ما يمكنه من مبارة
الآخرين في الاستعداد الذي يحتاج إليه لحماية حقيقته، وحفظ مكانته، ولم يكد يبقي
للسابقين من مزية على اللاحقين في شيء بل صار الأول آخرًا، وعاد البدء ثنيانًا
في كثير من الشؤون، حتى خيف بعد تلك المساواة، أو المقاربة في العلم والعمل
أن يستعلي شعب واحد على شعوب أوربا كلها فيسود بذلك العالم كله.
الفرنسيس أذكى الأوربيين أذهانًا، وأشدهم إقدامًا، وأسبقهم إلى المحامد يدًا
ولسانًا، والإنكليز أرجح الشعوب أحلامًا، وأشدهم حصافةً وإحكامًا، وأمثلهم سياسةً
وأعدلهم أحكامًا , فلهذا سبق هذان الشعبان جميع الشعوب إلى استعمار الممالك،
والاستمتاع بثروة الأمم في المغارب والمشارق، وقد تنافسا وتناظرا، وتنازلا
وتصاولا، فكان الفلج والظفر لأهل الأناة والروية، على أهل الذكاء والأريحية،
وبذلك كان للإنكليز المقام الأعلى في العالم منذ عدة أجيال، ويليهم الفرنسيسن في
الثروة والاستعمار.
ثم نبغ الألمان وبرعوا في جميع العلوم والأعمال والصناعات والتجارة حتى
بذوا الفرنسيس والإنكليز في ذلك، فصار النماء النسبي في ثروتهم أعلى من مثله
في ثروة أولئك وخيف أن يصير اللاحق سابقًا، والثنيان بدءًا , واشتدت المناظرة،
حتى أفضت إلى هذه الحرب الحاضرة.
وأما سائر الدول والأمم المحاربة مع هؤلاء فهي أنما حاربت بالتبع لها ,
وأقواهن الروسية، فهي شديدة الأسر، راسخة الأصل، نامية الفرع، غزيرة العدد،
وافرة المدد، ولو كان شعبها كالألمان في العلوم والفنون، لسادت الناس أجمعين،
ولكنها دون النمسا وإيطاليا في العلم والصناعة، وفوق الدولة العثمانية التي
قنعت من المدنية الأوربية بتقليد الأوربيين في ظواهر النظام والزي وأساليب
المعيشة، دون العلوم والفنون التي ترقي الصناعة والزراعة والتجارة، وتنمي
الثروة، وتغنيها عن الأجانب فيما تحتاج إليه من أسباب القوة، وأقله معامل السلاح
والذخيرة.
ولولا أن الأمة العثمانية حربية بالطبع، ولولا موقع عاصمتها الذي تنافس فيه
وتحاسد عليه أقوى دول الأرض، فلم يسمح به بعضهن لبعض، ولولا مكانتها من
نفوس الشعوب الإسلامية التي كانت توادها لأجله الدولة البريطانية - لولا ذلك كله
لأسرعت الدول الكبرى في الإجهاز عليها، بدلاً من هذه المطاولة بنقصها من
أطرافها، والاكتفاء بفتح النفوذ الاقتصادي، والسياسي في أحشائها.
ولا يسع الباحث أن يغفل عن سائر الدول الصغرى التي اشتغلت نار الحرب
في بلادها أولاً، وهي الصرب والجبل الأسود وبلجيكا فجيشهن لا تفضله
جيوش الدول الكبرى في الشجاعة، والبلجيكيون من أرقى الشعوب في العلم
والصناعة، والتجارة.
فجملة القول في المجموعتين المتقاتلين: أن إنكلترة وفرنسة وروسيا وبلجيكا
والصرب والجبل الأسود، أكثر من ألمانيا والنمسا والعثمانية رجالاً ومالاً، وأساطيل
بحرية وهوائية، ولكن ألمانيا وحدها أعلى منهن استعدادًا ونظامًا، ولولا الأسطول
الإنكليزي لرجحت على الجميع رجحانًا ظاهرًا، بل لأمكنها أن تحارب أوربة
كلها وتنتصر عليها.
بيد أن هذا السبق في الاستعداد، ليس مما ينتظم في سلك الخوارق والآيات،
بل يمكن الدول الأحلاف أن يلحقوها به، إذا عجزت في أول العهد عن بطشة
فاصلة في فرنسة، أما إذا وقف مدها عند تدويخ بلجيكة، والاستيلاء عليها، وعلى
بضع ولايات من شمال فرنسة، وجانب من بولاندة الروسية، فما بعد المد إلا
الجزر. فإذا أمكن للحلفاء أن يزيدوا عدد جندهم ويمدوه بما لم تستطع هي مثله عاد
لهم الرجحان عليها من قبل في البحر.
فمحل الرجاء للحلفاء إنما هو التغلب بالكثرة بقاعدة قول الشاعر العربي:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
أما هذا المدد الذي يكون به الرجحان البري فلا يرجى إلا من قبل بريطانيا
العظمى؛ لأن الفرنسيس قد بذلوا كل ما في وسعهم، والروس - وإن كانوا أكثر
عددًا - لا يجدون من الذخائر والسلاح ولا من الضباط ما يمكنهم من
تجنيد العدد الذي تسمح لهم به كثرتهم، فالإنكليز وحدهم هم القادرون على مضاعفة
جنودهم، وعلى إيجاد ما يحتاجون إليه من السلاح والذخيرة لكثرة معاملهم وعمالهم
ومالهم، وليس عندهم جندية إجبارية تستغرق العمال، وتوقف حركة الأعمال،
وإنما يعز عليهم التعجيل بإيجاد ضباط أكفاء لجيش كبير يجددون تنظيمه تجديدًا،
ولكن الإنكليز أهل صبر وأناة، فما لا يدركونه في سنة يرضون بأن يدركوه في
سنين، وتاريخهم مرآة أخلاقهم في ذلك , وقد قدر لورد كتشنر ناظر الحربية القائم
بتجهيز الجيوش الإنكليزية مدة هذه الحرب بثلاث سنين.
بين لنا ما تقدم ما يراه كل الواقفين على الحقائق من أن هذه الحرب ليست إلا
المظهر الأجلى للتنازع على السيادة والنفوذ والاستعلاء في الأرض بين الإنكليز
وأبناء عمهم الألمان، وسائر الدول تبع لهما في عللها ومعلولاتها، ومقدماتها
ونتيجتها.
دع البحث في المقدمات فقد انتهى أمرها، وسيحكم التاريخ حكمه العادل فيها،
وأما النتيجة فيه أن السيادة العليا في الغرب والشرق ستكون لإنكلترة، أو لألمانية
لا محالة ويكون أحلافهما تبعًا لهما فتكون لإنكلترا إذا فازت هي وأحلافها بالنصر
التام؛ لأنهم لن ينالوا ذلك إلا بها، ولا تنتهي الحرب إلا وقد انتهكت قواهن من
دونها، واستحدثت هي من القوة فوق ما كان لها إذ شرعت بتأليف قوة برية لم يكن
لها مثلها في قوت من الأوقات، كما أنها تزيد الأسطول قوةً على قوة، وحينئذ
تكون أعظم الدول ربحًا، وأقلهن خسارةً، وإذا كان من بواكر هذا الربح مصر ,
وقبرص , والبصرة , ومعظم مستعمرات ألمانية في إفريقية , أو جميعها كما هو
المنتظر فكيف تكون أواخره.
وأما إذا كان النصر التام الألمانية وأحلافها فقد طالما لهجت الجرائد الإنكليزية
والفرنسية، وغيرها بأن ألمانيا حينئذ تجعل أوربة كلها تحت سيطرتها، وتنتزع
منها جميع مستعمراتها، وأنها بذلك تسود العالم كله، ولعلنا نعود إلى تفصيل القول
في نتيجة الحرب على كل تقدير، بقدر ما تسمح به المراقبة الرسمية على الصحف
ونلم في ذلك بأماني الشرقيين عامةً، والمسلمين خاصةً؟
__________(17/950)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إلغاء الامتيازات الأجنبية
والحذر من الفتن الأهلية
أخذت الدولة العلية تعبئ جيشها، وتستعد للقتال عقب إعلان الحرب في
أوربا، وتضافرت الروايات والآراء على أنها تحارب مع ألمانيا والنسما، وقد
كان مقدمات ذلك إلغاؤها للامتيازات الأجنبية، وهي قد آذنت الدول بذلك في
شهر سبتمبر، وقد خشي كثير من نصارى السوريين أن يفضي إلغاء امتيازات الدول
إلى فتن أهلية في سوريا، فيكف إذا حاربت الدولة روسيا وفرنسا , وإنكلترا
الحامية للنصارى في بلاد الدولة، وقد تحدث إخواننا السوريون هنا بذلك، وكثر
خوض الجرائد السورية الأمريكية في المسألة، واشتد تشاؤمها، ونقلت عن سفير
الدولة في واشنطون كلامًا يؤيد هذا التشاؤم، حتى إنه ليخيل لمن قرأ ما كَتبتْ، أن
الفتنة وقعت، أو كربت.
أما نحن فإننا نعلم أن هداية الإسلام التي حفظت لغير المسلمين حريتهم في
القرون التي كانت دول الإسلام فيها أقوى دول الأرض، لا تزال ذات السلطان
الأعلى على نفوس المسلمين، فإذا كانت السياسية قد غلبتها، أو استخدمتها في
بعض الأوقات في العدوان الذي تنهى عنه) فلن تستطيع أن تنال ذلك منها في كل
وقت، بل نعلم فوق ذلك أن مسلمي سورية صاروا يعلمون أن مصلحتهم القومية
والوطنية لن تقوم إلا بتعاونهم مع سائر أبناء وطنهم المشاركين لهم في تلك المصلحة. فالنتيجة إذًا أن دين المسلمين ودنياهم متفقان على نهيهم عن الاعتداء، وحثهم على
التعاون والاتفاق، وقد كان للنهضة العربية الحديثة أعظم التأثير في ذلك.
وإننا على ثقتنا بما بيّنا قد كتبنا مكتوبات خاصة إلى من نثق بحسن سعيهم في
البلاد السورية نذكرهم فيها بما يجب عليهم العناية به الآن، ونشرنا في جريدة
الأهرام اليومية التي صدرت في 6 ذي القعدة الماضي (و26 سبتمبر سنة 914)
خطابًا عامًّا في ذلك نثبته هنا ليكون أثرًا تاريخيًّا، إذ تأخر صدور هذا الجزء من المنار ومنعت الصحف المصرية من دخول البلاد العثمانية، وهذا نصه:
***
إلى إخواني الكرام مسلمي سوريا
] وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ [[*]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , أما بعد فإنني أحمد إليكم الله - عز وجل -
وأصلي وأسلم على رسوله محمد نبي الرحمة , ثم أشكر لكم ما أظهرتموه من النجدة
والهمة، في الإخلاص والطاعة للدولة , وبذل الأنفس والأموال والثمرات لها،
والكف الموقت عن طلب الإصلاح منها، وتقديركم الحال الحاضرة قدرها، حتى
إنكم ساهمتم في هذا أرقى أمم الأرض التي سكتت عن جميع مطالبها ومنازعاتها
الداخلية عندما رأت حكوماتها بإزاء الأخطار الخارجية مضطرة لتقلد السلاح،
والاصطلاء بنار القتال، فحياكم الله أيها الأخوان , وزادكم نجدةً وأريحةً،
واستمساكًا بعروة الدولة العلية، بحسب ما تهدي إليه الشريعة الإسلامية، وتقضيه
الوراثة العربية , ولا يتم لكم هذا إلا بالألفة والاتفاق مع أبناء جنسكم ووطنكم من
غير أبناء دينكم، الذين ساوت الشريعة بينكم وبينهم في الحقوق العامة، وأوجبت
عليكم ما لم توجبه شريعة من العدل والإحسان، وتأكيد الوصية بالجيران.
أيها الإخوان الكرام! بلغنا أن الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور
الناس، قد أخذ ينفث في عقد المودة الجنسية والوطنية ليحلها، وليفصم عروتها،
وينقض غزلها، ويزين وسوسته هذه باسم الجامعة الإسلامية، والقيام بالنهضة
الدينية، فلا يفتنَنَّكم الشيطان، ولا يخدعنكم باسم الإسلام وتحريف آيات القرآن،
فإن بعض الذين يطلبون المال والجاه بهذه الأسماء لا يفهمون مسمياتها، ويستدلون
بالآيات، ولا يعقلون مدلولاتها، ألستم تعرفون بينكم ممن يلفظ بالدعوة إلى الجامعة
الإسلامية، من لا يعرف عقيدة الإسلام كما يجب، ولا يصلي ولا يصوم؟ ولا
نبحث في زكاة أمثال هؤلاء وحجهم، فإنما وجوب الزكاة والحج على مالك النصاب
والمستطيع، وربما يدَّعون عدم الاستطاعة.
إنكم تعرفون هذا بينكم وإن لمن تعرفون من هذا الصنف أعوانًا في غير
بلادكم، هم أشد منهم نفاقًا وأبرع في فن التجارة بالدين، فلا تغتروا بما يقولون ولا
بما يكتبون، ورب كلمة حق أريد بها باطل، ومن المسائل المعلومة من الدين
بالضرورة أن الله - تعالى - حرم البغي والعدوان حتى إنه قال فيمن يقاتلون
المسلمين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وإنني أستحي أن أطيل عليكم في سرد الدلائل على
تحريم البغي والتعدي؛ لأن هذا مما تعرفه العامة، كما تعرفه الخاصة، فالإطالة
فيه تتضمن نسبة الجهل إليكم (وحاشاكم) .
نعم إن العامة عرضة للغش والخداع، ولا سيما إذا جاءها الخادع من باب
الدين، فيجب على خاصتكم أن تحذر عامتكم من وسوسة المنافقين الذين يبغونكم
الفتنة (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) .
وأذكركم بباب آخر من أبواب الخداع , وهو تحريضكم على النصارى
بذنب ميلهم إلى الأجانب من أبناء دينهم كراهةً لكم وللدولة العلية لأجل الدين،
وربما ينقل إليكم أو تسمعون ما يدل على ذلك، ألا فاعلموا أن هذا إن صح وفرضنا
أنه عام فيهم، فإنه لا يبيح لكم الاعتداء على أنفسهم ولا على أموالهم؛ لأن
الشريعة الإسلامية لم تضع عقوبةً دنيويةً على الميل والحب والبغض ونحو ذلك من
أعمال القلوب، على أن الحكام هم المطالبون بتنفيذ العقوبات، لا أفراد الأمة , ولا
نبحث هنا في عذر من يحب الأجانب لإحسانهم إليه وإلى أهل ملته، ومن يبغض
الوطني لظنه أنه لا ينجيه من شره وأذاه إلا حماية الأجانب له.
إذا وقع أقل عدوان منكم على غيركم في هذه الأيام، تكونون قد أثبتُّم بالفعل
أن ترك العدوان قبل اليوم إنما كان خوفاً من الأجانب لا عملاً بهداية الإسلام، ولا
قيامًا بحقوق تكافل أهل الأوطان، هذه هي التهمة التي يرمينا بها من يجهل حقيقة
ديننا وتاريخنا إذ كانت دولنا أقوى دول الأرض كلها، وكان المخالفون لنا في الدين
يفضلون حكم خلفاء المسلمين على حكم أبناء دينهم من الرومانيين.
إن لنا في هذه الأيام أفضل فرصة لإقناع أبناء جنسنا ووطننا، بما نتحدث به
دائمًا فيما بيننا من حسن نيتنا، ورغبتنا في الاتفاق معهم على كل ما فيه مصلحتنا
المشتركة بيننا وبينهم على قاعدة المنار الذهبية: (نتعاون فيما نشترك فيه، ويعذر
بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) ونحن متفقون في اللغة وفي مصالح البلاد
الزراعية والصناعية والتجارية والاجتماعية، فنتعاون على ذلك بغاية الإخلاص،
ويعذر بعضنا بعضًا في أمر الدين.
ثم إنني أختم الكلام بما بدأته به من حمدكم وشكركم على بَذْلِكُم الجهد في طاعة
الدولة العلية، وإثبات كون النهضة العربية نهضة علم وعمران ترتقي بها الدولة
العلية، لا نهضة مقاومة ومشاكسة للتركية، ولكنني أذكركم بأن الطاعة الواجبة
للدولة إنما هي طاعة أوامرها الرسمية الشرعية، فلا تدعوا العامة تنخدع بدعوى
الأوامر السرية أو الشفوية , فضلاً عن أوامر الجمعيات والأحزاب وغيرها،
ولاسيما إذا كانت مخالفةً لهداية الشرع، ومصلحة الأمة والوطن (لا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق) والسلام على من اتبع الهدى. ورجح الحق على الهوى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوكم
محمد رشيد رضا
منشئ المنار
__________
(*) (المائدة: 2) .(17/955)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كيف دخلت
الدولة العثمانية في الحرب؟
لم تلبث الدولة بعد إضرام نار الحرب في أوربا أن أمرت بتعبئة جيشها تعبئةً
عامةً، وإن كانت قد (أعلنت الحياد) ثم بثت الألغام في زقاقي الدردنيل ,
والبسفور , ومنعت المرور منهما بعد أن آوت إلى الآستانة البارجتان الألمانيتان
اللتان كان يطاردهما الأسطولان الإنكليزي والفرنسي - وهما الدردنوط غوبن
والطراد برسلوا - وكانت دور الصناعة الإنكليزية قد صنعت للدولة بارجتين
من أحسن نوع الدردنوط وقرب موعد إرسالهما إلى الآستانة فلما أعلنت إنكلترا
الحرب على ألمانيا آذنت الدولة العثمانية بإلحاق المدرعتين بأسطولها، فساء ذلك
الدولة العثمانية، وطفقت جرائد الآستانة وغيرها من الجرائد العثمانية تطعن في
إنكلترة أشد الطعن، ثم شاع أن الدولة تعد جيشًا في سوريا للزحف على مصر ,
وإزالة سيطرة إنكلترة عنها، ثم أعلنت الدولة إلغاء الامتيازات الأجنبية فخيف أن
يكون ذلك سببًا للاعتداء على رعايا دول الاتفاق الثلاثي اللواتي أنكرن هذا الإلغاء،
وحفظن لأنفسهن الحق في العمل الذي يقتضيه ما يترتب على ذلك، وأن يكون ذلك
مقدمة الحرب وسببها، ولكن الدولة لم تسئ معاملة أحد من الأجانب بعد إلغاء
اميتازاتهم.
أما الجرائد في أوربة ومصر فكانت تصور لقرائها أن في الدولة حزبين:
أحدهما يميل إلى الحرب مع ألمانية، ورئيسه أنور باشا ناظر الحربية، وثانيهما
يميل إلى إنكلترة وفرنسة ويرى إجابة رغبتهما إلى المحافظة على الحياد التام، وأن
من أعضاء هذا الحزب الصدر الأعظم سعيد حليم باشا , وجمال باشا ناظر البحرية،
وجاويد بك ناظر المالية، بل قال بعضهم: إن من أعضائه طلعت بك ناظر
الداخلية أيضًا.
كانت إنكلترة أشد دول الأحلاف حرصًا على محافظة العثمانية على الحياد،
واتفقت معهن على أن يَضْمَنَّ لها استقلالها إذا هي حافظت على ذلك، ولكن الدولة
سئمت ذلك الاستقلال الصوري الذي لا يمنع دول الأجانب أن ينفذن فيها كل ما
يتفقن عليه وكثيرًا مما يختلفن فيه، وأن يجعلن بلادها مناطق نفوذ اقتصادي
وسياسي، وقد ضمنت لها ألمانية أيضًا الاستقلال، وأن تعاملها معاملة الأمثال، إذا
هي انضمت إليها في هذه الحرب، وتقدم إليها ما تحتاج إليه من المال والرجال
والذخيرة، فوثق رجال الاتحاد والترقي بذلك، وإن كان يرتاب فيه غيرهم من
العثمانيين.
وكانت ألمانية قبل هذه الحرب وبعد حرب البلقان أرسلت إلى الآستانة بعثةً
عسكريةً لإصلاح الجيش العثماني، فقامت لذلك دولة الروس وقعدت، وأرغت
وأزبدت، ثم إنها باعتها البارجتين غوين وبرسلو، وأرسلت إليها كثيرًا من ضباط
البحرية، ومهندسيها فحلوا محل البعثة الإنكليزية التي كانت الدولة استحضرتها
لإصلاح البحرية إثر مغادرتها الآستانة بعد الحرب، وبذلك اشتد الجفاء بين الدولة
وبين إنكلترة وأحلافها، ووقف أسطول إنكليزي فرنسي أمام زقاق الدردنيل مرابطًا
مراقبًا للبارجتين الألمانيتين اللتين لم تعتدَّ دول الأحلاف ببيعهما للعثمانية.
وبذلك قوي نفوذ الألمان في الجيش العثماني وفي البحرية، حتى قطع دول
الأحلاف الصلات السياسية معها (في 30 أكتوبر سنة 1914) على إثر مصادقة
بين الأسطوليين العثماني والروسي بلغ الروس أحلافهم أن الأسطول العثماني في
البحر الأسود كان هو المعتدي فيها، وأنه ضرب بعض المواني الروسية أيضًا ,
وبلغ العثمانيون الدول أن الأسطول الروسي هو الذي بدأ بالعدوان، وأن الدولة
مستعدة لتلافي الحادثة بالطرق السياسية، وقد طلبت إنكلترة من سفيرها في الآستانة
أن يطالب الدولة العثمانية بالتنصل من تبعة العدوان على روسيا , وعزل البعثتين
الألمانيتين البرية والبحرية، وإخراج بحارة غوبن وبرسلو الألمانيتين منهما، وأن
يمهلها 12 ساعة فإن لم تفعل فليطلب جواز السفر وليغادر الآستانة، وكذلك فعل هو،
وسفيرا فرنسا وروسيا وعلى إثر ذلك أطلق الأسطولان الإنكليزي والفرنسي
قنابلهما على مدخل الدردنيل، وصارت الدولة حربًا لدول الأحلاف، ولا حول ولا
قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
__________(17/958)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة السابعة عشرة
نختم السنة السابعة عشرة بمثل ما افتتحناها به من حمد الله الذي لا يحمد على
السراء والضراء سواه، وإليه يرجع الأمر كله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإياه
نسأل أن يقينا شر هذه الحرب الأوربية، التي عمت رزاياها جميع البرية، فكأنها
عقاب من الله - تعالى - للبشر كافةً، لا من أوقدوا نارها خاصةً، فكسدت
التجارات، وتعسرت جميع المعاملات، وراقبت الحكومات جميع المطبوعات،
وانقطعت المواصلات والمكاتبات بين بعض الأمم والأقطار، وقلت حتى في البلاد
التابعة لحكومة واحدة، أو حكومات متحالفة متآلفة.
فكان مما أصاب المنار أن انقطع في أثناء السنة عن المملكة العثمانية،
وبطلت الثقة بوصوله إلى كثير من البلاد المشرقية والمغربية، وانقطعت عنه
الحوالات المالية من خارج هذا القطر وقل من يوفيه حقه أو بعض حقه من أهله؛
لأن الناس اتخذوا هذه الحرب عذرًا لا يستحي من الاعتذار به الأغنياء وكثير من
أصحاب الرواتب التي ما زالوا يتقاضونها في أوائل الشهور لم تنقصهم الحرب منها
شيئًا , ولا أخرتها عن أوقاتها.
قل ما يرد إلى المنار من المشتركين حتى لم يعد يكفي لعُشر نفقاته , ولم
يتجدد في أيام هذا الضيق عمل جديد للمطبعة، وغلا ثمن الورق وغيره، وأما نحن
فما غيَّرْنا - ولن نغير إن شاء الله - ما جرينا عليه من الوفاء لعمالنا ومعاملينا،
فعمالنا يوفون أجورهم في كل أسبوع، ولا نشترى شيئًا إلا ونؤدي ثمنه دفعةً واحدةً،
أو أقساطًا مطردةً، وقد أجازت الحكومة المصرية عند بدء الحرب ما تجيزه سائر
الحكومات من تأجيل أداء الديون، فلم يحملنا ذلك على تغيير معاملتنا مع أحد.
لأجل هذا حسبنا لطول أمد الحرب كل حساب، وخفنا أن نعجز عن الاستمرار
على سيرنا هذا عدة سنين، كما يقدر لهذه الحرب بعض العارفين، فارتأينا أوَّلاً أن
نصدر أجزاء السنة في سنتين، ونتقاضى الاشتراك بحسب الأجزاء لا بحسب
الزمن الذي صدرت فيه، وأشار علينا بعض الأصدقاء الأوفياء بأن ننقص من
الأجزاء نصف حجمها، ونبقي الاشتراك على حاله، ثم نعيده إلى ما كان عليه بعد
الحرب، فعز علينا العمل بهذا الرأي، ولكننا عزمنا الآن على جعل سنة المنار
عشرة أشهر كأكثر المجلات المصرية، وهي سُنَّة سنَّها منشئ مجلة الهلال،
ودعاني إليها عقب إنشاء المنار فرغبت عنها حرصًا على كثرة الفائدة، وإيثارًا لها
على حب الراحة , وإنما ألجأتْ إليها الضرورة.
أما الانتقاد على المنار فما ورد علينا منه شيء لم ننشره، فإن كان أحد كتب
إلينا نقدًا لشيء ولم ننشره أو ننشر ما كان أجمع منه معاني في موضوعه
فليذكرنا بذلك، مبينًا ما يراه لا يزال منتقدًا إلى الوقت الذي يكتب فيه، فإن نقد
الكلام من أسباب تحري الكمال، والله الموفق، وله الحمد على كل حال.
__________(17/960)
المجلد رقم (18)(18/)
ربيع الأول - 1333هـ
فبراير - 1915م(18/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا
إله غيرك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ
وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) .
سبحانك اللهم وبحمدك، ما أعدل حكمك، وما أجل حكمتك! وما أوسع علمك
وما أنفذ مشيئتك {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .
سبحانك اللهم وبحمدك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك،
أسبغت النعم ظاهرة وباطنة، وأفضت أنوار الكرم بارزة وكامنة، ووهبت العقول
والمشاعر، وبينت السنن والشعائر، وأكملت هداية الدين ببعثة محمد خاتم النبيين
فَصَلِّ وسلم اللهم عليه وعلى آله الأئمة الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين.
اللهم إن نعمك لا تحصى، وقد كفرها الكافرون، وإن صراطك المستقيم لا
يخفى، وقد تنكبه الضالون، وإن حكمك لهو الحق وإن عمي عنه المبطلون، وإن
عدلك لهو القسطاس وإن جهل الظالمون، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم
بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} (المؤمنون: 64-
65) .
ربنا إنك آتيت أقوامًا الغنى فطغوا وفسقوا عن أمرك، وآتيتهم القوة فبغوا في
أرضك، ربنا ليضلوا عن سبيلك، بما أعرضوا عن دليلك، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} (يونس: 88) ,
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ
نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) .
يا أيها الناس لا خير في الحضارة المدنية، إذا أقيمت على قواعد الأثرة
والقوة المادية، ولا خير في العلم ولا في العمران، إذا كانا وسيلة لاستعباد الإنسان
لأخيه الإنسان، أفلا يعلم الذين جعلوا الحق كله للقوة أن الله الذي خلقهم هو أشد
منهم قوة، وأنه بعباده رؤوف رحيم وإنما يرحم الراحمين، وأنه يأمر بالعدل
والإحسان وخص بمحبته المحسنين، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا
كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر: 82) {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا
عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) [*] {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مُّلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ
الأَحْزَابِ} (ص: 9-11) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) , {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) لا لتتناكروا وتتخالفوا، {وَسَخَّرَ لَكُم
مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) لتشكروا لا لتكفروا،
ولتصلحوا لا لتفسدوا، وليس الإصلاح في الاستعانة بقوى المواد وخواص الأشياء،
على إفساد أمر الناس الذين خلق الله لهم جميع الأشياء، وإنما الإصلاح كل
الإصلاح أن تستعينوا بما آتاكم الله من العلم والعرفان، وما هداكم إليه من تسخير
القوى الكامنة في الأجسام، على جعل منافعها شَرَعًا بين جميع الناس، وجعل
الغاية منها إيصال الشعوب كلها إلى ما يمكن من الكمال. وإن الإفساد كل الإفساد
أن تحتكر الشعوب العالمة منافع العلم، وتجعله ذريعة لبغي بعضها على بعض،
واستذلال الشعوب الضعيفة في الأرض، وتسخيرها لخدمتها كما تُسَخِّرُ الحيوان
الأعجم، بل هم أشد إهانة لمن كرم الله وأكثر تذليلاً، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) , {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا
فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) .
يا أيها الإنسان، اتق الله في أمر أخيك الإنسان، ولا تستعل على مَن فَضَّلَك
عليه بالعلم والمال، فقد خلت من قبلكم القرون والأجيال، {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} (إبراهيم: 45) ،
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ} (القصص: 76) ، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
المُفْسِدِينَ} (القصص: 77) , {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ
المُجْرِمُونَ} (القصص: 78) , {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص: 79) ,
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ
يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن
دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ
وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا
وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي
الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * َ} (القصص: 80-83) .
يا أيها المغرورون بالعلم والقوة، قد عرفتم القوى المادية، فلا تنسوا القوة
المعنوية، يا أيها المغرورون بعرفان السنن الكونية والاجتماعية، لا تنكروا سنن
العدالة الإلهية، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117) [1] ، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59) {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ
أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأعراف: 100) .
وأما أنتم يا معشر المستضعفين والمظلومين، فما زلتم شرًّا على أنفسكم من
الأقوياء العادين، لا نعم الله شكرتم، ولا دين الفطرة أقمتم، لا سنن لله في الكون
عرفتم، ولا على سننه في ارتقاء البشر سرتم، لا بالقوى المادية انتفعتم، ولا
بالقوى المعنوية اعتصمتم، فما ظلمكم الله ولا الناس؛ لكن أنفسكم ظلمتم. تطالبون
ربكم بما وعد به المؤمنين، ولا تطالبون أنفسكم بما فرضه وما شرطه على
المؤمنين، {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي
الأَمْرِ} (آل عمران: 152) ، حرمكم بمخالفة كتابه وسنته في عباده ذلك
النصر،] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين [ (الأنفال: 46) {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:
140) , {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الوَارِثِينَ} (القصص: 5) .
يا قوم! طالما أنذركم المنار - على رءوس السنين والأحوال - سوء عاقبة
ما أنتم عليه من التفريط والغرور والإهمال، وطالما فَصَّلَ لكم في أعقاب الشهور،
ما تَخْرُجُون به من الظلمات إلى النور، مبينًا لكم - بآيات القرآن، وأقيسة الميزان
وسنن الله في سيرة الإنسان - أن الأمر ليس بالأماني والأحلام، ولا بمجرد
الانتساب إلى الإسلام، وإنما هو بالأخلاق والأعمال، والعدل والاعتدال، التي
بالإيمان تَبْلُغُ درجات الكمال، وإنما الخلافة في الأرض بالصلاح والإصلاح،
والمؤمن المصلح يَرْجُحُ المصلح الكافر بالإيمان، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) , {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13) , {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ِ} (إبراهيم: 14) ,] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم [, {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) .
نعم طالما حذركم المنار وأنذركم، بل طالما ذكركم بنُذُرِ ربكم، وبسننه في
الذين معكم، والذين خلوا من قبلكم، فتماريتم بالنذر، وتعللتم بالقضاء والقدر،
وإنما يعتذر بالقدر من يبرئ نفسه، ويتهم ربه، على أنكم تدعون ربكم أن يبدل
فيكم سنته، ويبطل لأجلكم حكمته، وينصركم بالاستبداد الأُنُف، وقطع أسباب
القدر، وقد تلوتم ما نزل في حُنَينٍ وأُحُد، إذ نزل بخير سلفكم ما نزل، جزاء
العجب والخلاف والفشل، وفيهم خاتم الأنبياء والرسل، أإسلامكم خير من إسلامهم
أم لكم براءة في الزبر، {كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ *
إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) .
نعم إن لله في خلقه آيات، وإن لربكم في أيام دهركم نفحات، وإن له تعالى
رحمة خاصة لَدُنِّيَّة، تتخلل سننه الاجتماعية، (وإن الله تعالى ليؤيد هذا الدين
بالرجل الفاجر) [2] (وإن الله تعالى ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله) [3] ولكن
الله تعالى لا يؤيد بخوارق الآيات من أعرض عن السنن وآيات القرآن، ولا يُمِدّ
بالنفحات والرحمة الخاصة من استحق الحرمان من معظم الرحمة العامة، ألا وإن
تأييد الله الإسلام بغير أهله أكبر حجة على جميع من يُعَدُّون من أهله، ولا سيما إذا
أصروا على خذل أنفسهم بخذله، أفلا يعلم من لا خير له في نفسه من نفسه أن لا خير
يُرْجَى له من غيره؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 36-39) .
يجب علينا معاشر المسلمين أن ننتصف من أنفسنا، قبل أن ننتصف أو
نستنصف من الأجانب عنا - وأن نستجيب لله وللرسول إذا دعانا لما يحيينا، قبل
أن ندعوه أن يستجيب لنا ويؤتينا ما وعدنا - وأن نشكر نعم ربنا التي أعطى من
غير استحقاق لها، قبل أن نسأله حفظها أو المزيد منها بدون قيام بحقها - وأن نعلم
أن الله تعالى لا يستجب الدعاء بلسان المقال، إلا إذا كان دعاء بلسان الاستعداد
والحال، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً
فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .
إنني أُذَكِّر في فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار، بما طالما فَصَّلْتُ فيه القول
في السنين الخوالي: إننا نحن مسلمي هذا العصر، لا نستحق على الله تعالى نصيبًا
من الملك، ولا خلافة في شيء من الأرض، لا بحسب سننه في خلقه، ولا
بمقتضى وعده في كتابه، فإذا أعطى شيئًا أو أبقى، فتلك عنايته تعالى وفضله لا
مما جعله وعدًا عليه حقًّا، وإن الله تعالى ليبلو عباده بالحسنات، كما يبلوهم
بالسيئات، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فيكون أحسن جزاء وخيرًا أملاً، {وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف: 54) , {وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ
العَذَابَ بِل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} (الكهف: 58) .
هذا وإن آية المؤمن أن يحمد الله في السراء والضراء، ولا ييأس من روح
الله مهما اشتدت الأهوال والأرزاء، ويعلم أن ما أصابه من حسنة فمن فضل ربه،
وما أصابه من سيئة فمن نفسه وسوء كسبه، فَيُحْدِث عند الحسنة شكرًا، ويُحْدِث
عند السيئة توبة وذكرى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ
اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ
المُبِينُ} (الحج: 11) .
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (يونس: 85) ،
{ْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا َتَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة:286) .
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة:
201) , {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ
المِيعَادَ} (آل عمران: 194) , {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ
الفَاتِحِينَ} (الأعراف: 89) , {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ} (الزمر: 75) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(*) لا يحول دون الاعتبار بهاتين الآيتين هنا نزولهما في قوم كانوا أقل ممن قبلهم قوة وكسبًا
وعمرانًا وآثارًا في الأرض وكونهما لا تنطبقان من بعض الوجوه على بعض الأمم المغرورة بقوتها وعمرانها في هذا العصر - فالعبرة واحدة.
(1) القرى والمدن: العواصم، والمراد هنا الأمم.
(2) حديث رواه الطبراني عن عمرو بن النعمان بن مقرن وعلم عليه السيوطي في جامعه بالصحة.
(3) حديث رواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بسند ضعيف.(18/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجهاد الديني في الإسلام
إن أحكام القتال في الإسلام أعدل وأرحم من أحكام القوانين الأوربية فهي
الإصلاح الأعظم لهذه المصيبة الاجتماعية. ويظن كثير من نصارى الشرق - تبعًا
لأئمتهم في الغرب - أن الجهاد الديني في الإسلام عبارة عن تصدي المسلمين لقتل
كل من يخالفهم في الدين. وقد بينا خطأ هؤلاء ووهمهم بالأدلة والآيات البينات.
ويدهشنا أن نرى أجدر الناس بالفهم والحفظ والذكر لما كتبناه - كأصحاب الجرائد -
قد نسوه وظلوا على رأيهم الموروث بدليل ما كان من توقعهم قيام المسلمين في
البلاد العثمانية بذبح إخوانهم في الجنس والوطن، واستغرابهم اتحاد الدولة العثمانية
مع دولتين من غير دينها.
أعلنت الدولة العثمانية الجهاد الديني فكان المسلمون في بلادها السورية
وغيرها أشد اتفاقًا مع غير المسلمين منهم قبل هذا الجهاد. وما ينقل من تعدي
الترك والأكراد على الأرمن فسببه - على فرض صحته - المنازعات الجنسية
والسياسية، والانتقام منهم لميلهم إلى الدولة الروسية.
وأما الجهاد العام في الإسلام فلا يكون إلا دفاعًا ولا يجوز فيه قتال غير
المقاتلين المعتدين {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .
__________(18/30)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة إلى انتقاد المنار
جرت عادتنا بأن نُذَكِّر قراء المنار في كل عام بما يجب من الانتقاد الذي هو
ضرب من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمساعدة على الدعوة إلى
الخير، وبث النصيحة، ونشر العلم، فنحن نطالب كل من قرأ في المنار شيئًا
يرى أنه خطأ أن يبين لنا ذلك قولاً أو كتابة مؤيدًا لنقده بما عنده من الدليل، وأما
من سمع الإنكار على المنار من بعض الناس سماعًا فينبغي له أن يتثبت ولا يُعَجِّل
بموافقة المنكر ومجاراته، حتى يرى ذلك بعينه، أو يقرأه الثقة عليه، فإن من
الناس من يفتري الكذب عمدًا، ومنهم من يحرف ما يقرأ حسدًا وضغنًا، ومنهم من
يستنبط من الكلام لوازم لا تلزم، على أن لازم المذهب ليس بمذهب.
وإننا وايم الله لا نرغب إلى أهل العلم والفهم أن ينتقدوا ما نكتب غرورًا منا
بنفسنا، وثقة بأن النقد ينكشف عن خطأ الناقد وصوابنا، بل نعلم أننا كغيرنا من
البشر عرضة للخطأ والنسيان، ولجهل الحقائق وضعف البيان، ولا نبرئ أنفسنا إلا
من سوء القصد، واتِّباع الهوى عن عمد، وإن لنا في هذه الدعوة أربعة أغراض:
الأول: التوسل بها لإصلاح خطئنا، وتقويم عوجنا.
الثاني: التعاون على البر والتقوى والإصلاح بضم رأي غيرنا إلى رأينا
والاستفادة من علم أهل العلم.
الثالث: إقامة الحجة على المغتابين والكذابين الذين يقولون علينا ما لم نقل،
وينسبون إلينا ما نحن بُرآء منه، ويعيبون المنار بما ليس فيه.
الرابع: التوسل إلى تصحيح خطأ المنتقد إذا كان هو المخطئ.
هذا. ومن شاء أن ينشر ما يكتبه علينا من غير تصريح باسمه فله أن يأمرنا
بكتمان اسمه. ووضع ما شاء أو شئنا من الأسماء والألقاب في مكانه.
وإننا نشترط على المنتقدين ما نشترطه لهم على أنفسنا من الأدب في العبارة
ونزيد التزام الموضوع، وعدم الخروج عنه إلى ما ليس منه، ومراعاة الاختصار
بقدر الحاجة.
__________(18/31)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التاريخ الهجري الشمسي
يعلم القراء أننا شرعنا من بضع سنين بإحياء التاريخ الهجري الشمسي بذكر
سنينه في المنار بعد التاريخ الهجري القمري، وقبل التاريخ الميلادي، وقد كنا
نكتفي أولاً بذكر السنة تابعة للشهور الإفرنجية الشمسية، بدأنا بهذا في المجلد الثاني
عشر (سنة 1327) ثم ارتأينا في أول السنة الخامسة عشرة - سنة 1330 - أن
نذكر الشهور الشمسية الهجرية ونعتمد في تسميتها ما اختاره أحمد مختار باشا
الغازي في تقويم له بين فيه ذلك. وذلك أن تُسمى الشهور بأسماء الفصول مع
الوصف بالعدد، بأن يقال: الخريف الأول الخريف الثاني إلخ. لأن حفظ هذه
الشهور يَسْهُل على العوام كالخواص، ومن أسمائها يعرفون مواقعها من السنة من
أول العهد باستعمالها، وقد جرينا على هذا الحساب في جماعة الدعوة والإرشاد
ومدرستها، وكنا عازمين على طبع تقويم خاص للسنة الهجرية الشمسية.
ثم إننا رأينا أن بعض إخواننا من الفارسيين والأفغانيين يستعملون التاريخ
الهجري الشمسي؛ ولكنهم يُسَمُّون شهور السنة بأسماء بروج الشمس، فالشهر
الأول من السنة هو شهر الميزان وهو أول فصل الخريف الذي وصل النبي صلى
الله عليه وسلم في أول يوم منه إلى المدينة المنورة، ولما نبهنا الناس إلى إحياء هذا
التاريخ في مصر صار بعض أصحاب التقاويم المصرية يذكرونه في تقاويمهم،
وتبعوا الفرس والأفغان في تسمية الشهور.
لأجل هذا رأينا الآن أن نجاري هؤلاء وأولئك في هذه التسمية، وأن نكتفي
بالإشارة إلى تسمية الشهور بأسماء الفصول بالحروف المقطعة من أولها، وذلك
بجعل حرف خ رمزًا للخريف وحرف ش للشتاء وحرف ر للربيع وحرف ص
للصيف، ونضيف إلى هذه الحروف الأرقام الدالة على الأول والثاني والثالث.
فالقارئ يرى هذا الجزء مؤرخًا في 25 من شهر الدلو (ش2) أي الشتاء الثاني.
__________(18/32)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سنة المنار الجديدة
عشرة أشهر
بَيَّنَّا - في جزء آخر السنة الماضية - أن ما أحدثته حرب المدنية الأوربية من
الضيق وقلة الورق اضطرنا إلى جعل سنة المنار الجديدة عشرة أشهر كأكثر المجلات
المصرية، مع إبقاء جزء كل شهر ثمانين صفحة. وإذا طالت الحرب وزاد هذا
الضيق فربما نضطر إلى تقليل عدد الأوراق أيضًا.
__________(18/32)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(3)
(الهواء)
يُفْهَم - مما تقدم في الكلام على المطر - أن الهواء يشتمل دائمًا على بخار
الماء (الرطوبة) وهذا البخار يقل أو يكثر بحسب درجة حرارة الهواء، فإذا كان
الهواء ساخنًا كان أكثر رطوبة من الهواء البارد.
وأهم ما يوجد فيه من الأجسام الأخرى فهو: -
النيتروجين ... 79.02
الأكسيجين ... ... 0.94 ... ... في المائة تقريبًا وذلك بالحجم لا بالوزن
غاز ثاني أكسيد الفحم 0.04
وهي مختلط بعضها ببعض وليست متحدة اتحادًا كيماويًّا كما سبق، وفي
الهواء غير ذلك آثار من عناصر أخرى ومركبات لا حاجة هنا لتفصيلها.
أما أنواع الهواء بحسب الأمكنة فهي ما يأتي:
1 - هواء البحار- وهو يشتمل على كثير من بخار الماء النقي، ومن
أكسجين كثيف يسمى (الأوزون) [1] وهو عبارة عن أكسجين خاثر (مُركز)
تشمل كل ذرة منه ثلاث جواهر فردة من الأكسجين، وهواء البحار البعيد عن البر
خالٍ من الميكروبات تقريبًا، ومن العفونات والروائح الكريهة، ويكون في الشتاء
دافئًا، وفي الصيف باردًا، وذلك لأن الماء يبرد ببطء، ولا يسخن بسرعة، فيبقى
أشد سخونة أو برودة من الأشياء المحيطة به فَيُعَدِّل درجة حرارة الجو.
فهواء البحار من أنفع الأهوية للصحة، ومفيد لكثير من الأمراض، ولو أنه
يشتمل على رطوبة كثيرة فإن ذلك لا يضر فيها.
2- هواء الصحاري - ورطوبته أقل كثيرًا، وهو أيضًا خالٍ من الميكروبات
تقريبًا، ومن العفونات وغيرها، وأكسجينه يوجد فيه أيضًا النوع المسمى (أوزون)
كهواء البحار، وأما درجة حرارته فهي عالية في الصيف منخفضة في الشتاء،
وهو أيضًا نافع للصحة، ومفيد لبعض الأمراض الأخرى.
3- هواء المدن - وهو يشتمل على كثير من الميكروبات [2] ، والغازات
الضارة، والعفونات، وغيرها مما يخرج مع نَفَس الحيوان، ومما يتصاعد من
النيران وغيرها، ويشتمل أيضًا على رطوبة كثيرة؛ ولكنها ليست نقية، بل
مختلطة بكثير مما يتبخر من سطح الأرض من القاذورات، والروائح الكريهة
المنبعثة من المراحيض ونحوها، أو من المياه الراكدة الآسنة، ولذلك كان هواء
المدن من أفسد الأهوية، وأضرها بصحة الإنسان.
4- هواء الحدائق والغيطان (الحقول ونحوها) وهو من جهة الرطوبة بين هواء الصحاري، وهواء البحار، وميكروباته قليلة جدًّا، وفي النهار يقل منه
غاز ثاني أوكسيد الفحم؛ بسبب تنفس الأشجار فهي تستنشق منه غاز الفحم
الضار وتترك الأكسجين للإنسان والحيوان. وفي الليل يكون هذا الهواء فاسدًا؛
لأن الأشجار والنباتات تتنفس فيه تنفس الحيوان فإن لم يكن المكان طلقًا أضر
هذا الهواء الإنسان ضررًا كبيرًا، وإذا لم يتجدد الهواء ربما يقتله.
***
الانتشار والتخلل أو (الاختراق)
عُلِمَ - مما تقدم - أن ذرات المادة تحت مؤثرين عظيمين: الأول قوة
الانضمام، والثاني قوة الاندفاع، وهي المُعَبَّر عنها فيما سبق بالحرارة الكامنة.
فإذا زادت قوة الانضمام عن قوة الاندفاع كان الجسم صلبًا، وإذا تساوت
القوتان كان سائلاً، وإذا زادت قوة الاندفاع عن قوة الانضمام كان غازًا.
ففي الغازات تميل ذراتها إلى الانتشار في جميع الجهات بقوة الحرارة الكامنة
فيها، وهذا هو المسمى في علم الطبيعة بالانتشار، وتلك القوة تُحْدِث ضغطًا على
الأجسام المحيطة بالغاز، فهي أيضًا من أسباب الضغط الجوي الذي تقدم ذكره
(راجع صفحة 7 من هذا الكتاب) [3] .
وكلما كان الغاز خفيفًا كانت قوة الانتشار فيه أشد، فالهيدروجين - وهو أخف
من الأكسجين - ينتشر بسرعة أكثر من الأكسجين.
وإذا وجد في طريق الغاز المنتشر غشاء ما مما له مسام نفذ الغاز من خلاله
وقوة النفوذ هذه تسمى قوة التخلل، أو الاختراق، وتسميها الإفرنج Osmosis،
وكما أن الغازات تخترق بعض الأغشية كذلك من الأجسام الصلبة ما يخترقها أيضًا
إذا كان ذائبًا، والأجسام بالنسبة إلى قوة الاختراق نوعان:
(الأول) أجسام تتشكل بشكل البلورات كالأملاح وهي سهلة النفاذ (الثاني)
أجسام لا تتشكل كالمواد الزلالية، والغروية، والصمغية، وهي يتعسر نفاذها، أو
يتعذر.
فالأجسام الأولى إذا كانت ذائبة في سائل مع الأجسام الأخرى نفذت خلال
الأغشية وحدها دون الأجسام الأخرى، وبذلك يمكن فصل هذه عن تلك.
وأظهر فوائد سنة الانتشار والتخلل الخمس الآتية:
(1) أنه بسبب قوة الانتشار يدرك الإنسان جميع المشمومات.
(2) التنفس لجميع الحيوانات البرية، والبحرية، فالأكسجين المنتشر في
الهواء والذائب في الماء يندفع بهذه القوة إلى مجاري التنفس (الرئة) في
الحيوانات البرية وإلى خياشيم الحيوانات البحرية؛ فيثقب أغشيتها حتى يصل إلى
الدم؛ فيتحد به وكذلك الغاز الذي في الدم المسمى (ثاني أكسيد الفحم) يتركه،
ويندفع إلى الخارج خلال أغشية الأعضاء التنفسية.
والسبب في اتجاه الأكسجين إلى الداخل هو كون ما يوجد منه في الهواء أكثر
مما يوجد منه في الدم، - والغازات تميل في انتشارها إلى الموازنة والمساواة،
كما تميل السوائل الموجودة في مستويات مختلفة إلى الموازنة أيضًا كما سبق.
وكذلك اتجاه ثاني أكسيد الفحم إلى الخارج يكون لهذا السبب بعينه. ويسمى
الاندفاع إلى الخارج Exosmose، ويسمى الاندفاع إلى الداخل
Endosmose.
(3) امتصاص الأغذية من القناة الهضمية في الحيوان، وامتصاصها من
جدر الرحم بالأجنة الحيوانية يحصل أيضًا بقوة التخلل، مع مساعدة الخلايا البشرية
المبطنة للأغشية، ولذلك تمتص الأملاح مع المواد الزلالية في مثل الجنين بسبب
فعل هذه الخلايا، ولولا ذلك لَتعسر نفاذ غير الأملاح أو تعذر.
(4) تجدد الهواء وذلك أنه إذا قل الأكسجين في حجرة اندفع أكسجين
الهواء الخارجي إلى هذه الحجرة من جميع المنافذ الممكنة حتى لا يخلو الهواء
الداخلي من الأكسجين، وإلا لماتت الحيوانات فيه , ولانطفأت المصابيح.
(5) فصل بعض المواد الكيماوية عن بعضها في المعامل يكون أحيانًا
بطريقة التخلل.
***
مأخذ أسماء أشهر العناصر المذكورة آنفًا ومعانيها
(1) النيتروجين: لفظ يوناني مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد النيتر)
لأنه يدخل في تركيبه، والنيتر (Nitre) اسم لنترات البوتاسيوم، وهي ملح
البارود المسَمَّى أيضا (الملح الصخري) (Saltpetre) ، وكان النيتروجين يُسمى
قديمًا (أزوت) ، وهي يونانية أيضًا معناها " عديم الحياة " لأن الحيوانات لا تعيش
فيه.
(2) الأكسجين: لفظ يوناني مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد الحامض)
لأنهم كانوا يظنون أنه هو السبب الوحيد في الحموضة، أو أنه داخل في تركيب
جميع الحوامض؛ ولكنهم علموا بعد ذلك خطأهم، وبقي الاسم بدون تغيير إلى الآن.
(3) الهيدروجين: لفظ يوناني أيضا مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد
الماء) لأن كل ذرة من الماء مركبة من جوهرين فردين من الهيدروجين متحدين مع
جوهر واحد من الأكسجين، وبعبارة أخرى حجمان من الأول مع حجم واحد من
الثاني.
***
الكهرباء
الكهرباء إحدى قوى المادة العظيمة، وهي عبارة عن حركة مخصوصة في
ذراتها، وكان أول الاهتداء إليها في حجر الكهرمان (ويسمى أيضًا الكهرباء)
فبدلكه تتولد هذه القوة فيه؛ فيجتذب إليه بعض الأجسام، ولذلك سُميت باسمه،
وأول من شاهد ذلك فيلسوف يوناني يسمى ثيلس (Thales) سنة 600 ق. م.
وهي تتولد بطرائق عديدة أهمها أربع:
(1) الاحتكاك: فإذا دُلِك الزجاج بالحرير تَوَلَّدَ فيه كهرباء من النوع
المسمى (بالكهربائية الزجاجية) ، وإذا دُلِك الراتينج (وهو يتولد من الزيوت
الطيارة بالتأكسد ويشبه الصمغ) بقماش الصوف المسمى (فلانلا) تولدت فيه قوة
كهربائية من نوع آخر تُسَمَّى بالكهربائية الراتينجية.
(2) التفاعل الكيماوي: فإذا وُضِعَ عمود من الزنك (الخارصين) ،
وعمود آخر من النحاس في حامض الكبريتيك المخفف، ووُصِّل بينهما بسلك
حصل التفاعل الكيماوي بين الحامض وبين الزنك، وتولدت قوة كهربائية تسري
من النحاس إلى السلك، ومنه إلى الزنك، ومنه إلى الحامض، حتى تعود إلى
النحاس ثانية، فكأنها تجري في دائرة كاملة، ويُسَمَّى مجموع ذلك بالخلية
الكهربائية.
واجتماع عدة خلايا كهذه بحيث يتصل بعضها ببعض، ويتكون منها دائرة
تجري فيها الكهرباء تسمى بالبطارية الكهربائية.
وكلمة بطارية مشتقة من كلمة (Battre) الفرنساوية ومعناها الضرب أو
القرع، وعليه فيمكننا تسمية البطارية بالعربية (القارعة) ، ويشترط في كل
الخلايا أن يوجد فيها عمود لا ينفعل بالحامض، وعمود آخر ينفعل به. فمن
الأشياء التي لا تنفعل بالحامض النحاس - كما قلنا - والفحم والبلاتين (الذهب
الأبيض) والجسم المتفاعل المعتاد هو الزنك.
وجميع الأجسام تشتمل على نوعين من الكهرباء ممتزجين معًا وهما:
الزجاجية والراتينجية، ويسميان أيضًا الموجبة والسالبة، فإذا اختلف النوعان اتحدا،
وإذا اتحدا اختلفا وتنافرا، ففي كل خلية يتولد كهرباء سالب في أعلى الزنك
وموجب في أسفله، وفي النحاس يتولد موجب في أعلاه وسالب في أسفله فيتحد
موجب النحاس مع سالب الزنك في السلك خارج الخلية، ويتحد موجب الزنك مع
سالب النحاس داخل الحامض. ولكن للتسهيل اصطلح العلماء على أن يقولوا إن
التيار الكهربائي يسري من العمود غير المنفعل إلى العمود المنفعل، ويسمى الأول
عندهم بالقطب الموجب، والثاني بالقطب السالب.
(3) التأثير: ومن ذلك أنه إذا وُضِعَ قطب موجب بجوار جسم متعادل
(أي فيه النوعان ممتزجان كجميع الأجسام) انفصل السالب، واتحد مع القطب
الموجب، وتولدت شرارة كهربائية من اتحاد النوعين، وبقي في الجسم الذي كان
متعادلاً نوع واحد فقط وهو الموجب.
ومثل هذا الاتحاد المولد للشرارة اتحاد كهربائية السحاب المختلفة النوع
بعضها مع بعض، أو مع كهربائية الأرض السالبة فيتولد من اتحادهما نار عظيمة
(الصاعقة) ، وصوت مزعج (الرعد) ؛ بسبب تماوج الهواء، وضوء شديد
(البرق)
وتتولد الكهرباء على سطح الأرض بما يحصل عليه من الاحتكاك، والتبخر
والتكاثف، والاحتراق، ونمو النبات.
المغناطيس الأرضي:
دوران هذه التيارات الكهربائية حول الأرض يكسبها قوة المغناطيس [4] فيجذب
قطباها قطبي قطع المغناطيس الأخرى المغايرين لهما (كناموس الكهرباء السابق)
فالقطب الشمالي يجذب الجنوبي، والجنوبي يجذب الشمالي؛ وذلك هو سبب اتجاه
(إبرة الملاحين المغناطيسية) المسماة باللغة العربية (بيت الإبرة) وباللغة الفرنسية
(بوصلة) (Boussle) .
وكما أن الكهربائية تتولد بالتفاعل الكيماوي كذلك تتولد في الأجسام الحية من
نبات وحيوان، فالعضلة العاملة المتحركة في جسم الإنسان تكون سلبية بالنسبة
للعضلة الساكنة.
ويوجد من السمك ما فيه كهربائية عظيمة يحس بها الإنسان بمجرد لمسه له
كالسمك المسمى (بالرّعاد) .
(4) تسخين قطب مصنوع من معدنين مختلفين كالبزموت والأنتيمون يُوَلِّد
فيه كهرباء. فهذه هي الطرائق التي يهمنا معرفتها.
***
النور
النور عَرَضٌ معروف من أعراض المادة يتولد من حركة أجزائها الأثيرية
حركة مخصوصة، وهذه الحركة الأثيرية تنبعث من جميع جهات الجسم المضيء
في خطوط مستقيمة، ولا يلزم لانتشار النور في الجو سوى هذه المادة الأثيرية
بخلاف بعض الأعراض الأخرى كالصوت مثلاً؛ فإنه يلزم له مادة محسوسة
كالهواء لنقله؛ ولذلك يصل النور إلينا من الشمس والقمر والنجوم، مع العلم بأن
هذه الأجرام مفصول بعضها عن بعض بمسافات شاسعة خالية من الهواء، أو أي
جسم آخر سوى الأثير.
وسرعة النور في سيره تساوي نحو 300000 كيلو مترًا في الثانية (186
ألف ميل) .
مصادر النور قسمان:
(1) صناعي:
(أ) الاحتراق: كاحتراق الزيت والشمع وغيرهما.
(ب) الكهرباء.
(2) طبيعي: كالشمس، ومن هذا المصدر يتولد النور أيضًا بالاحتراق
وغيره، فالأجرام السماوية المضيئة بذاتها هي أجرام مشتعلة بالنيران، وأما
المضيئة بغيرها كالقمر؛ فتنعكس عليها الأشعة من نور الشمس، كما تنعكس في
المرآة؛ ولذلك قال تعالى {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء:
12) ، وقد يتولد النور بتحرك ذرات بعض الأجسام؛ فيتماوج بها الأثير فيضيء.
والنور الأبيض مركب من سبعة ألوان وهي: (1) البنفسجي (2) والنيلي
(3) والأزرق (4) والأخضر (5) والأصفر (6) والبرتقالي (7) والأحمر.
أما السواد فهو عدم النور مطلقًا، وكل لون من هذه الألوان السبعة يتولد من
حركة مخصوصة في الأثير أسرعها التي تُوَلِّد البنفسجي، وأبطؤها التي تُوَلِّد
الأحمر؛ فإذا توالى سقوط هذه الحركات المختلفة على شبكية العين أدرك الإنسان
نورًا أبيض، ومن ذلك يُفْهَم أنه إذا أُتِي بقرص مستدير، وقُسِّم إلى سبعة أقسام،
ولُوِّن كل قسم منها بلون من هذه الألوان السبعة، وأُدِير هذا القرص بسرعة شديدة
رأينا لونه أبيض، ويسمى هذا القرص في علم الطبيعة (قرص نيوتن) .
سنة الله في رؤية الأجسام:
رؤية جميع الأجسام تحصل بسقوط أشعة النور عليها، ثم انعكاسها عنها إلى
العين؛ فيبصرها الإنسان، وإن كان هو في مكان مظلم، إذ شرط الرؤية أن يكون
المرئي في مكان مضيء لا الرائي، فهو يراها، وإن كانت في مكان مظلم فلا
يراها، ولو كان الإبصار ناشئًا عن نور يسقط من العين نفسها لرأى الإنسان
الأشياء التي في الأماكن المضيئة والمظلمة على حد سواء. هذا إذا لم يكن الجسم
مما يُوَلِّد النور بنفسه كالفسفور، وكبريتيد الكلسيوم؛ فإنه يجمع أشعة الشمس في
أثناء النهار، ويحفظها إلى الليل، وكذلك عنصر الراديوم؛ فإنه يُوَلِّد نورًا في
الظلام، وفي بعض حيوانات البر والبحر نور ينبعث منها في الظلام، ومنها ذباب
معروف يسمى " الحباحب ".
وإذا انعكست جميع التماوجات التي في النور الأبيض من الجسم إلى العين
رأيت لونه أبيض، ومن ذلك تُفْهَم حكمة لبس الملابس البيضاء في الصيف؛ فإنها
تعكس جميع أشعة النور والحرارة إلى الخارج، وأما الأجسام السوداء فهي تمتص
جميع الأشعة ولا تعكس منها شيئًا.
وأما الأجسام الأخرى كالزرقاء مثلاً، فهي تمتص جميع أمواج النور ما عدا
التي تُحْدِث اللون الأزرق، وهكذا يقال في باقي الألوان الأخرى.
وإذا سقط النور على أي سطح فإن زاوية السقوط (وهي الحاصلة من الشعاع
الساقط مع عمود وهمي على السطح العاكس) تساوي زاوية الانعكاس (وهي
الحاصلة من الشعاع المنعكس مع العمود الوهمي المذكور) .
وإذا كان الجسم الذي سقط عليه النور في الماء مثلاً، انبعث منه الشعاع
فخرج من الماء، وانكسر، ومال بعيدًا عن الخط الوهمي المفروض.
وإذا كان الجسم المضيء في الهواء انبعثت منه الأشعة، ونفذت إلى الماء؛
فينكسر الشعاع أيضًا، ويميل إلى الخط الوهمي المفروض.
فهذه سنن إلهية مطردة في انعكاس النور وانكساره، وبمقتضى سنة الانكسار
ترى الأجسام الموضوعة في الماء في مكان أعلى من مكانها الحقيقي، ومثل ذلك
أيضًا رؤية القضبان كالعصي مثلاً معوجة إذا وضعت في الماء.
وكذلك تُرى أشياء على الأرض كأنها معلقة في السماء، فيُشاهد في بعض
الجهات أناس وخيل وحمير وغير ذلك ماشية في السماء بين الغيوم، وأصلها أشياء
موجودة على الأرض؛ ولانكسار أشعة النور في طبقات الهواء المختلفة الكثافة
تشاهد هذه المناظر، وهي كلها من خطأ الحس.
ورؤية الأجسام في المرآة تحصل بانعكاس أشعة النور المنبعثة من الجسم عن
المرآة فتصل منها إلى العين.
ومن السنن الإلهية في هذه المسألة أن تكون المسافة بين الجسم الحقيقي
والمرآة تساوي تمامًا المسافة بين المرآة والجسم الموهوم خلفها.
انكسار النور في المنشور والعدسات:
بسبب انكسار الأشعة في الأجسام المختلفة الكثافة تنكسر الأشعة في المنشور
(الزجاج المثلث السطوح) وتميل إلى قاعدته؛ فإذا وُضِعَ منشوران قاعدة كل منهما
على الأخرى انكسرت الأشعة أيضًا نحو القاعدة، واجتمعت في نقطة معينة، ومثل
المنشورات في جمع الأشعة العدسات؛ فإنها تجمع الأشعة أيضًا نحو مركزها؛
ولذلك تُسْتَعْمَل هذه العدسات في جمع أشعة الشمس للإحراق، وتُسْتَعْمَل أيضًا في
جمع أشعة النور في التصوير كما في الآلات الفوتوغرافية [5] .
علمنا - مما سبق - أن النور مركب من سبعة ألوان؛ فإذا انكسر النور
الأبيض في المنشور تحلل إلى ألوانه الأصلية، ويكون اللون البنفسجي أقربها إلى
القاعدة، ويليه النيلي فالأزرق، فالأخضر، فالأصفر، فالبرتقالي، فالأحمر،
وأشد الألوان انكسارًا البنفسجي، وأقلها في ذلك الأحمر.
فالمنشورات وإن كانت تجمع أشعة النور كلها إلا أنها مع ذلك تفرقها إلى
ألوانها الأصلية، وبمقتضى هذه السنة تنكسر أشعة نور الشمس في نقط الماء
الساقط من السحاب؛ فينشأ من ذلك ما يسمى (قوس قزح) ، وهو مركب من
ألوان النور السبعة.
أما إذا مر النور خلال جسم ما، وكان هذا الجسم مما يمتص بعض الأشعة
فإن لون هذا الجسم الْمُدْرَك لنا هو ما يحصل من الأشعة الباقية. مثال ذلك الزجاج
الأزرق؛ إذا نفذ فيه النور اُمتصت (مُحيت) جميع الألوان ما عدا اللون الأزرق،
وهكذا يقال في الألوان الأخرى.
وأشهر العدسات اثنتان: (1) المحدبة من الجانبين (2) والمقعرة من
الجانبين.
أما العدسة الأولى فيمكن اعتبارها كأنها منشوران اجتمعا وكانت قاعدتهما نحو
المركز، وأما العدسة الثانية فيمكن اعتبارها كأنها منشوران اجتمعا ورأسهما نحو
المركز.
ومن ذلك يُفْهَم أن العدسات المحدبة تُجَمِّع الأشعة نحو المركز (أي نحو
قاعدتي المنشورين) .
وأما العدسات المقعرة فإنها تُفَرِّق الأشعة بعيدًا عن المركز (أي تميل فيها
الأشعة نحو القاعدتين) .
وإذا مر نور أبيض من مصباح عادي خلال منشور رأينا هذه الألوان السبعة
- كما تقدم - وإذا كان هذا النور المار في المنشور صادرًا من احتراق عنصر واحد
رأينا لونًا واحدًا فقط كنور الصوديوم مثلاً، فإنه أصفر؛ وإذا نفذ في المنشور لم
يتغير.
وإذا مرت هذه الألوان السبعة خلال الصوديوم مثلاً في حالته الغازية اُمتص
منها اللون الأصفر، وبقيت الألوان الأخرى، ومن ذلك يُفْهَم أن العناصر في حالتها
الغازية تمتص من الألوان السبعة اللون الذي تولده هي، وعلى هذه القاعدة وُضِعَ
المنظار القرجي (Spectroseope) .
فإذا نظرنا بهذا المنظار إلى نور الشمس رأينا الألوان السبعة ناقصة، ونرى
ما ينقصها من الأجزاء كأنها خطوط سوداء، وهي ناشئة من وجود عدة عناصر في
الحالة الغازية محيطة بجرم الشمس؛ وبسبب نفوذ الأشعة خلال هذه العناصر
الغازية فُقِدَ بعضها؛ والسبب في كون هذه العناصر غازية هو شدة حرارة نار
الشمس.
وبهذا المنظار أمكن العلماء معرفة تركيب الأجرام السماوية وعناصرها، ولهم
طريقة أخرى لمعرفة هذه العناصر وهي تحليل ما يسقط منها إلى الأرض
(كالشهب والنيازك) ، ولهذا المنظار فائدة أخرى عظيمة في المباحث الطبية
الشرعية وغيرها.
ومن الأشعة الشمسية نوعان آخران سوى أشعة النور وهما: (1) أشعة
الحرارة و (2) أشعة الفعل الكيماوي وهما غير مدركين بالعين.
أما أشعة الحرارة فيوجد أشدها بعد اللون الأحمر، وأما الأشعة الكيماوية
فيوجد أشدها بعد اللون البنفسجي.
وهذه الأشعة الكيماوية هي التي تحلل أملاح الفضة في ألواح الآلة
الفوتوغرافية، وتُحْدِث عليها الصور.
وأما الآلة الفونغرافية فهي عبارة عن غرفة مظلمة تدخل الأشعة فيها من فتحة
صغيرة في جدارها الأمامي، وفي هذه الفتحة عدسة محدبة من الجانبين لجمع
الأشعة حتى تكون الصور المرسومة داخلها على الجدار الخلفي جلية واضحة، فإذا
وُضِعَ لوح من الزجاج مغطى بمواد فيها ملح من أملاح الفضة أمام هذا الجدار
الخلفي رُسِمَتْ الصور عليه، وأحدثت الأشعة تغيرًا كيماويًّا في المادة الموضوعة
على هذا اللوح؛ وبذلك أمكنهم أخذ صور المرئيات، ورسمها بهذه الطريقة.
وهذه الآلة الفونغرافية تشبه العين الباصرة في تركيبها.
العين الباصرة:
العين كرة مظلمة في داخلها، ويصل إليها النور من فتحة صغيرة تسمى
إنسان العين، وهذه الكرة (المقلة) موضوعة في تجويف من الوجه يسمى
(الحجاج) ويغطيها في هذا التجويف الجفنان، وحكمة الأهداب أن تمنع التراب
وغيره بقدر الإمكان، وتقلل من ضرر أشعة الشمس الشديدة.
وتُغْسَل العين بماء يسمى الدمع تفرزه غدة موضوعة في الجهة العليا الخارجية
من الحجاج داخل الجفن الأعلى، ويتصرف الدمع بعد غسل العين بقناتين
موضوعتين في الجفنين بقرب الأنف متصلتين بكيس صغير في أعلى قصبة الأنف
يسمى الكيس الدمعي، ومنه يجري الدمع بقناة تصب في أسفل الأنف ...
أما طبقات العين فهي من الأمام إلى الخلف كما يأتي:
(1) الملتحمة: وهي التي تبطن الجفون، وتغطي المقلة من الأمام، وهي
شفافة في جزئها المتوسط لدخول النور.
(2) القرنية: وهي الجزء الشفاف المستدير الذي يرى كالسواد أو غيره.
(3) الصلبة: وهي في مستوى واحد مع القرنية؛ فكأنهما غشاء واحد كروي الشكل تقريبًا.
(4) القزحية: وهي التي تحيط بإنسان العين من جميع الجهات.
(5) المشيمية: وهي أيضًا في مستوى واحد مع القزحية، ولونهما، ومادتهما واحدة، فيها أوعية كثيرة، ومادة ملونة، وهذه الطبقة هي أعظم ما يجعل العين مظلمة من الداخل.
(6) الشبكية: وهي تبطن نحو ثلثي العين من الداخل، وهي الطبقة العصبية الحساسة المتصلة بالعصب البصري الواصل إلى المخ، وعليها تُرْسَم صور المرئيات التي يدركها الإنسان.
ولجمع أشعة النور، ورسم الصور عليها، يوجد عدة أجسام كثيفة شفافة في
العين لكسر أشعة النور وهي بعد القرنية: (1) المائية وأكثرها بين القرنية
والقزحية (2) ويليها البلورية، وهي بعد القزحية، وشكلها كعدسة مستديرة
ومحدبة من الجانبين (3) ويليها الزجاجية، وهي مادة هلامية (كالفالوذج) شفافة
تملأ باطن العين بعد البلورية، ثم إن القزحية قد تتسع وتضيق بألياف عضلية فيها
بحسب حاجة العين إلى النور.
ومما تقدم يُفْهَم أن أشعة النور تجتمع على الشبكية في العين الطبيعية، ولكن
مِن الناس مَن أعينهم صغيرة أو كبيرة عن الحجم المعتاد فتحتاج الأعين
الصغيرة إلى عدسات (نظارات) محدبة، وتحتاج الكبيرة إلى عدسات مقعرة،
ولولا ذلك لما اجتمعت الأشعة في العين الصغيرة إلا خلف الشبكية (هذا على
فرض أنه لا يحجبها شيء) ، وفي العين الكبيرة أمام الشبكية. وما دامت جميع
أوساط العين التي يمر فيها النور شفافة؛ فإن كان في إبصار العين السليمة ضعف
فالغالب أن يكون سببه صغر حجم العين، أو كبرها فَتُصَلَّح بالنظارات.
الرمد الصديدي والحبيبي:
ومن أعظم أسباب عتامة بعض هذه الأوساط (كالقرنية) هو إصابة العين
بالرمد الصديدي، أو الرمد الحبيبي المنتشر في مصر
وللاحتراس من هذين الرمدين يجب تنظيف العين نظافة تامة، وعدم مسها
بأي شيء فيه أقل وسخ.
أما ميكروب الرمد الصديدي فهو ميكروب (السيلان) أيضًا، ويصل إلى
العين بالأصابع، أو المناديل، أو الملابس، أو غير ذلك، وهو مرض فتاك بالعين؛
لأنه كثيرًا ما يسبب قرحًا في القرنية تَئُول إلى ظلمتها حتى لا ينفذ النور منها
فتصبح عمياء، وتسمى هذه الظلمة بالنقط أو البياضات.
وأما الرمد الحبيبي فميكروبه ينتقل من شخص لآخر، كما ينتقل ميكروب
الرمد الصديدي؛ فلذا يجب الاحتراس منه بالنظافة، والبعد عن الأَرْمَد.
وأبسط دواء بعد الماء لتنظيف عين كل شخص محلول حامض البوريك
المشبع، ويجب طرد كل حشرة تقترب من العين كالذباب وغيره؛ فإنه من أعظم
الأسباب لنقل أنواع الرمد، ويجب اتقاء التراب إذا ثارت الريح بوضع نظارات
لوقاية العين منه، ومما يقي الطفل شر الرمد الصديدي أن يُغْسَل عيناه عقب الولادة
مباشرة بمحلول السليماني (1 في 5000) ويوضع فيها نقط من محلول نترات
الفضة (2 في 100) .
***
النبذة الثانية
في التشريح ووظائف الأعضاء وما يلزمها من القواعد الصحية
التشريح نوعان: نوع تُدْرَك فيه أعضاء الجسم بالعين المجردة، ويسمى
بالتشريح العادي، ونوع تستعمل فيه الميكروسكوب (المنظار الدقيق) لإدراك
جميع دقائق الجسم، ويسمى هذا النوع بالهستولوجيا (التشريح الدقيق) .
فلنبدأ الآن بالكلام على النوع الأول:
يتركب الجسم الإنساني أولاً من العظام فهي كالأساس الذي تبنى عليه جميع
الأجزاء الرخوة والأحشاء؛ ولذلك يسمى مجموع هذه العظام بالهيكل
الإنساني.
***
العظام
العظام نوعان:
(النوع الأول) : العظام الصلبة كعظام الأطراف، وصلابتها كصلابة
العاج، وهي جوفاء تمر في وسطها قناة ممتلئة بمادة كالدهن تسمى (نقو العظام) أو
(نقيه) ، وأما (النوع الثاني) : فيسمى بالإسفنجي، كفقرات الظهر والضلوع،
وهو أيضًا مغطى بطبقة رقيقة من العظم الصلب، وبداخله تجاويف عديدة صغيرة
غير منتظمة تشبه الإسفنج، وهذه التجاويف ممتلئة أيضًا بنقي يميل إلى الحمرة،
وهو أعظم مكان تتولد فيه كريات الدم الحمراء خصوصًا التي تخرج من نقي
الضلوع.
أما عظام الهيكل الإنساني فهي كثيرة وإليك عددها:
(1) الجمجمة (مجموعة عظام الرأس والوجه) : وهي مركبة من 22
عظمًا منها 14 للوجه، و8 للرأس.
(2) الفقرات: وهي المسماة بالصلب، وعند العامة سلسلة الظهر، وهي
مركبة من 33 قطعة كل منها تسمى فقرة وفقارة: منها سبع 7 فقرات للعنق، و12
للظهر، و5 للقطن، و5 للعجز، و4 للعصعص المسمى بعجب الذنب.
(3) الضلوع: وهي عادة في الذكر [6] والأنثى 12 في كل جانب، وهي
متصلة من الخلف بالفقرات، ومن الأمام بالقص (عظم الصدر) .
(4) القص: مركب من ثلاث قطع، وكيفية اتصال الضلوع به كما يأتي:
سبع ضلوع متصل كل منها به بغضروف على حدة، وتسمى بالضلوع الصادقة،
أما الثلاث التي بعدها فمتصلة معًا بغضاريف تتصل بغضروف الضلع السابعة،
وأما الاثنتان الباقيتان فهما غير متصلتين من الأمام بشيء مطلقًا، ويسميان
بالضلعين العائمتين، وهذه الضلوع الخمس الأخيرة تسمى بالضلوع الكاذبة.
(5) عظام الأطراف العليا: ويتركب كل طرف من عظم العضد ثم الساعد
(وهو مركب من عظمين: الكعبرة وهي العظم الخارجي، والزند وهو العظم
الداخلي) ، ثم رسغ اليد وهو مركب من ثمانية عظام صغيرة، ثم عظام المشط
وهي خمسة لكل أصبع عظم يحملها، ثم عظام الأصابع الخمس وهي ثلاث لكل
أصبع، ما عدا الإبهام فله عظمان.
(6) عظام الأطراف السفلى: وكل منها مركب من عظم الفخذ، ثم الساق
وهو مركب أيضًا من عظمين: الشظية من الخارج والقصبة من الداخل، ثم عظام
رسغ القدم وهي مركبة من سبعة عظام صغيرة أيضًا، ثم عظام المشط وهي خمس
لكل أصبع واحدة تحملها، ثم عظام الأصابع، وهي ثلاث لكل منها ما عدا إبهام
القدم فله عظمان فقط
ومن العظام أيضًا غير ما تقدم:
(1) التراقي: وهما عظمان كل منهما يسمى ترقوة موضوعان في أعلى
الصدر من الأمام.
(2) اللوحان: وهما عظمان عريضان موضوعان بأعلى الصدر من
الخلف.
(3) الداغصتان: وهما الموضوعتان أمام الركبتين، ويسميها بعض
الأطباء المحدثين بالرضفتين؛ ولكن ما اخترناه هنا هو الأصح لغة.
(4) عظما الحوض: وهما اثنان يكونان مع العجز والعصعص تجويفًا
كالطسث يوجد فيه المستقيم والمثانة في الذكر، والرحم والمبيضان وغيرها في
الأنثى، ويوجد غير ذلك عظام أخرى صغيرة جدًّا كما بين بعض عظام الرأس وفي
الأذن وعظام صغيرة توجد بقرب بعض المفاصل تسمى (السمسية) ، والعظم
اللامي للعنق، والأسنان.
أما الأسنان فهي في الطفل عشرون في كل فك عشر، ويبتدئ ظهورها من
الشهر السادس إلى الرابع والعشرين، ولذلك كانت مدة الرضاع الكاملة حولين
كاملين، وفي الكبير اثنتان وثلاثون سنًّا يبتدئ ظهورها من السنة السادسة، ويتم في
الخامسة والعشرين على الأغلب بظهور أربعة أضراس في آخرها تسمى أضراس
العقل؛ لأن بظهورها يتم بلوغ الإنسان رشده، وهي النواجذ أو أضراس
الحلم.
والفرق بين منسوج العظام وغيرها من الأجزاء الأخرى للجسم من الوجهة
الكيماوية؛ إنما هو في وجود أملاح عديدة في المادة التي بين خلاياها مثل فوسفات
الكلسيوم، وكربونات الكلسيوم، وفوسفات المغنسيوم، وهذه الأملاح جميعًا يوجد
منها كمية كبيرة في العظام، وهي السبب في يبسها؛ فإذا أذيبت من العظم ببعض
الحوامض صار العظم رخوًا طريًّا.
المفاصل:
وجميع هذه العظام متصل بعضها ببعض بالمفاصل، والمفاصل ثلاثة أنواع:
(1) مفاصل متحركة حركة تامة كالكتف و (2) مفاصل غير متحركة كما
بين عظام الجمجمة و (3) مفاصل بين بين أي أن حركاتها متوسطة فلا هي
معدومة بالمرة، ولا هي متحركة حركة كبيرة، وذلك كالمفاصل التي بين الفقرات.
والفرق بين المفاصل المتحركة حركة كاملة (وهي الأولى) وبين غيرها أنها
عبارة عن تجويف محاط بمنسوج ليفي، وبعض أربطة أخرى، وهي مبطنة بغشاء
أملس يفرز مادة مصفرة قليلاً تشبه زلال البيض، والغرض منها تسهيل الحركات،
فهي كالزيت للآلات الحديدية (فسبحان الخالق الحكيم) .
وجميع العظام مغطاة [7] بغشاء ملتصق بها التصاقًا شديدًا، وفيه أوعية الدم،
ومنه تتغذى بحيث إذا أُتلف هذا الغشاء، أو أًزيل بمرض، أو غير مرض يموت
العظم الذي تحته، وهذا الغشاء يسمى بالسمحاق، وموت العظم يسمى النخر، أو
التآكل، وهو المسمى عند العامة بالتسويس، والفرق بينهما أن الأول (النخر)
تموت فيه قطع كبيرة من العظم بجملتها، والثاني - التآكل - تموت فيه أجزاء
صغيرة تنفصل عن باقي الجسم شيئًا فشيئًا.
العضلات:
جميع حركات الجسم تكون بالعضلات، وهي المسماة باللحم
وبعض هذه العضلات أبيض اللون، كما في بعض الحيوانات مثل السمك والأرانب،
وبعضها لونه أحمر، كما في الإنسان وغيره من الحيوانات؛ والسبب في حمرتها
اشتمالها على جزء في منسوجها من حمرة الدم المسماة بالهيموجلوبين ومن غيرها؛
ولذلك كان اللحم الأحمر أكثر تغذية من اللحم الأبيض؛ ولكنه أعسر هضمًا
والعضلات تأتي عملها في تحريك الجسم بالانقباض، وهي ثلاثة أنواع:
(1) العضلات الاختيارية: وهي الموجودة حول عظام الهيكل كله،
وأكثرها يوصل بين عظمين فأكثر، وينتهي غالبًا بما يسمى بالأوتار، وهي منسوج
ليفي أبيض اللون متين جدًّا يشبه الحبال ويندغم في العظام المتحركة، فإذا قصرت
العضلة، أو انقبضت انثنت العظام بعضها على بعض، وحركة هذه العضلات هي
باختيار الحيوان، وهي التي قسمناها إلى بيضاء وحمراء، والبيضاء أرقى شكلاً
وأسرع عملاً
(2) العضلات غير الاختيارية: وهي التي توجد في جدر الأمعاء،
وأوعية الدم وغيرها كالحالب [8] ، ويختلف شكلها عن القسم الأول - إذا نظرت
بالمجهر " الميكروسكوب " - اختلافًا كبيرًا، وحركتها ليست بإرادة الحيوان؛ ولكن
للأعصاب تأثيرًا فيها ما دامت مرتبطة بها؛ فإذا انفصلت عنها استقلت بعملها
كالأمعاء بعد قطع جميع أعصابها فإن الطعام كافٍ لتنبيهها.
وكل انقباض للعضلات اختيارية كانت أو غير اختيارية لا يحصل إلا بمنبه.
وأنواع المنبهات خمسة (1) المواد الكيماوية (2) الحرارة (3) الأفعال الآلية
(الميكانيكية) كالضرب على العضلات أو القَرْص (4) الكهرباء (5) التيار
العصبي، فالأربعة الأولى ممكن حصولها خارج الجسم بعد ذبح الحيوان. أما
المنبه العصبي فإن كان منشؤه من المخ كان فعلاً اختياريًّا، وإلا كان غير اختياري.
ومصدر التنبيه العصبي سواء أكان من المخ أم من النخاع هو من الخارج
أيضًا كما يرى الآن جمهور الفسيولوجيين - ويرى بعض الناس أن المخ يمكنه أن
يبدأ التنبيه من ذاته، وإذا وصل التنبيه الخارجي إلى المراكز العصبية ومنها إلى
الأعضاء أو العضلات فحركها سُمِّي ذلك (بالفعل المنعكس)
(3) عضلة القلب: وهذه العضلة تختلف أيضًا في شكلها الميكروسكوبي
عن النوعين السابقين، وهي غير خاضعة للتنبيه العصبي إلا من حيث الكثرة، أو
القلة، أو الضعف، أو القوة، أو نحو ذلك. وأما انقباضها فيحصل بقوة فيها
خاصة بها ليست ناشئة عن منبه خارجي.
وعليه فالفرق بين هذه الأنواع الثلاثة يلخص في الكلمات الآتية:
تنقبض العضلات الاختيارية بعلم المخ وتأثيره، وغير الاختيارية بدون
علمه؛ ولكنها خاضعة للأعصاب ما دامت في الجسم، ولا بد من تنبيهها بشيء
ولو غير عصبي، وإلا لما انقبضت، وأما القلب فينقبض بنفسه بدون سبب
خارجي، وسواء اتصلت به أعصاب أم لم تتصل، وإنما يمكن للأعصاب أن
تزيد في ضرباته، أو تنقص منها، أو نحو ذلك، أما منشأ الحركة فلا علاقة لها
به ولا يعلمه إلا الله تعالى.
الأعصاب:
مراكز الإحساس والحركة في الجسم الإنساني محصورة في المخ والنخاع
وحوله. فالمخ عبارة عن جسم كبير موضوع في الجمجمة، وهو مركب من فصين
عظيمين متصل أحدهما بالآخر من أسفلهما، وفي كل فص من الفصين تجويف
ممتلئ بجزء من سائل، ويسمى هذا التجويف بالبطين، والمخ مغطى بثلاثة أغشية
تسمى جميعها السحايا وكل منها يسمى الأم.
وجوهر المخ نوعان:
(النوع الأول: السنجابي) وهو المغطى سطحه، وهو مركب من خلايا
عصبية لها وظائف مختلفة. ويُقَسَّم سطح المخ إلى عدة أقسام، فمنه جزء للإبصار،
وهو في الخلف، وجزء للحركات الاختيارية، وهو في جانبيه، وجزء للكلام وهو
في الجهة اليسرى الجانبية، وجزء للسمع وغير ذلك. وكل جانب من المخ
متصل بالجانب المخالف له من الجسم، فحركات العضلات التي في الأطراف
اليسرى متصلة بالجانب الأيمن من المخ وبالعكس، ما عدا قوة الكلام فإنها في
الجانب الأيسر في غالب الأشخاص. أما العُسْر وهم الذين يعملون بشمائلهم فيوجد
مركز الكلام عندهم في الجهة اليمنى من المخ.
(النوع الثاني: الأبيض) ومكانه تحت القشرة السنجابية، وهو عبارة عن
ألياف عصبية تُوصِل أجزاء المخ بعضها مع بعض، وتُوصِله بالنخاع.
المخيخ: موضعه مؤخر الجمجمة في أسفل المخ، وهو أيضًا مركب من
فصين صغيرين ليس بهما تجويف بخلاف فصي المخ، وبينهما جسم كالدودة
يربطهما وهو أهم منهما ووظيفته حفظ التوازن في الجسم.
النخاع: يبتدئ من الجمجمة إلى الحافة السفلى للفقرة الأولى القطنية، وذلك
في الكهول، وأما في الأجنة فإنه يملأ القناة الفقرية كلها إلى الشهر الثالث. وهو
جسم أسطواني مغطى أيضًا بثلاثة أغشية كأغشية المخ من كل وجه، ويتركب من
جوهرين أيضًا أبيض وسنجابي؛ ولكن الجوهر الأبيض منه في الخارج والجوهر
السنجابي في الداخل، والأبيض عبارة عن ألياف عصبية كما في المخ، والسنجابي
عبارة عن خلايا عصبية كما في المخ أيضًا.
والجزء السنجابي مركب من هلالين تحديبهما إنسيّ وقرنا كل منهما إلى الأمام
والخلف، ويجمع بين الهلالين عند جزئهما المحدب، وفي مجمعها قناة صغيرة
دقيقة تمتد في طول النخاع كله وتتصل في أعلاها بتجاويف المخ (البطينات) .
يتصل بالمخ اثنا عشر زوجًا من الأعصاب لها وظائف عديدة: فمنها ما
يحرك بعض العضلات في الوجه وغيره، ومنها ما يحصل به الإحساس، ومنها ما
هو خاص بنوع من الإحساس كالعصب البصري الذي يحصل به إدراك المرئيات،
وكعصب السمع وغيرهما.
ويتصل بالنخاع 31 زوجًا من الأعصاب: 8 منها تخرج من بين فقرات
العنق، و12 من بين فقرات الظهر، و5 من بين فقرات القَطَن، و5 من بين
فقرات العَجُز، و1 من العُصْعُص. وهذه الأعصاب يتركب كل فرد منها من
قسمين: أمامي وخلفي، فالأمامي لحركة العضلات، والخلفي للإحساس. أما
الخلايا التي يصدر منها الجزء الأمامي فتوجد في القرون الأمامية للمادة السنجابية
في النخاع، وأما خلايا الجزء الخلفي فتوجد خارج النخاع، ويتكون منها عقد
صغيرة موضع أكثرها في الثقوب التي بين الفقرات؛ ولكنها خارج سحايا النخاع.
وبعد هذه العقد مباشرة يتحد الجزء الأمامي المحرك مع الجزء الخلفي الحساس
فيتكون منها عصب واحد فيه الوظيفتان، ثم ينقسم هذا العصب إلى قسمين أيضًا:
قسم أمامي للحس والحركة، وقسم خلفي لهما أيضا، فالألياف الخاصة بالحركة في
القسمين (التي أصلها من القرون الأمامية للنخاع) تنتهي بالعضلات وهي التي
تحدث فيها الحركة (أي تسبب انقباضها) ، والألياف الخاصة بالحس (وهي الآتية
من العقد التي خارج النخاع) وتنتهي بالجلد وغيره، وهي التي يحصل بها
الإحساس في الحيوان عند مس أي شيء.
وجميع هذه الأعصاب تُرى في الجسم الإنساني عند تشريحه كحبال بيضاء
منها الدقيق ومنها الغليظ، وأغلظها عصب عظيم يوجد داخل الورك ويُوَزَّع على
الساق كلها، وهذا العصب إذا أصابه مرض ما يحدث عنه ألم شديد في الفخذ يسمى
بعِرْق النَّسا.
ويوجد مجموعة أخرى من الأعصاب تسمى الأعصاب السمباتوية، وهي
مركبة من عقد وألياف أيضًا، وموزعة على جميع الأحشاء، وعلى جميع أوعية
الدم، ومتصلة أيضًا بالمجموعة الأولى المركبة من المخ والنخاع، وللأعصاب
السمباتوية وظيفة هامة جدًّا في عمل جميع الأحشاء، وحركة عضلات جدر
الشرايين في انقباضها وانبساطها إلا أنها ليست مستقلة في وظيفتها عن المجموعة
الأولى. ومعنى (سمباتيا) المشاركة في الشعور أو الإحساس، وهي لفظ يوناني،
وسُميت بذلك لأن بها ترتبط الأحشاء بعضها مع بعض، ومع الأوعية الدموية فكأن
كلا منها يشعر بالآخر، وعليه فيمكننا تسميتها بلغتنا العربية (مجموعة الارتباط
العصبي) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كلمة يونانية معناها " الفوَّاح " لوجود رائحة له خاصة، وهو يتولد من أكسجين الهواء بسبب الكهرباء، وهو مما يطهر الهواء من العفونات.
(2) تعيش في الهواء مُددًا مختلفة بحسب ما تجده فيه من الغذاء؛ فإنها تعلق بذرات مخاطية، أو خلايا بشرية، أو نحو ذلك، وبحسب قوة مقاومتها للعوامل الطبيعية كنور الشمس وغير ذلك وبعد المطر الشديد تقل كثيرًا من الهواء لأنه يغسله منها.
(3) المراد ما يطبع منه على حدة.
(4) المغناطيس كلمة يونانية مأخوذة من اسم مغنيسيا Magnesia في ليديا بآسية الصغرى، حيث وجدت بكثرة أول قطع من الحديد لها هذه القوة؛ ولكنها وجدت فيما بعد كثيرًا في النرويج، والسويد، وبعض بلاد أمريكا وغيرها.
(5) فتو كلمة يونانية معناها النور، وغراف يونانية أيضًا معناها الرسم فمعناهما " رسم النور " أو التصوير الشمسي.
(6) أما خلق حواء من أحد أضلاع آدم فالظاهر أنها خرافة يهودية، وإن كان لها مغزى عظيم.
(7) ما عدا أطرافها الغضروفية.
(8) مجرى البول الواصل من الكلية إلى المثانة.(18/33)
الكاتب: ملن شيتهام
__________
جعل مصر سلطنة تحت حماية إنكلترا
كان أول عواقب دخول الدولة العثمانية في الحرب الأوربية أن أعلنت إنكلترا
إزالة سيادتها الرسمية عن مصر، وجعلها تحت الحماية البريطانية، وتسميتها
سلطنة، وتسمية الأمير حسين كامل باشا أرشد أسرة محمد علي باشا سلطانًا عليها.
في 19 ديسمبر الماضي ذهب المستر ملن شيتهام متولي أعمال الوكالة
البريطانية، والمستر ستورس سكرتيرها الشرقي إلى القصر الذي يقيم فيه الأمير
حسين كامل باشا، وقدما إليه بلاغ الحكومة البريطانية المؤذن بجعل القطر
المصري تحت حمايتها، وبجعله سلطانًا مِنْ قِبَلِهَا لمصر، وهذه ترجمته بالعربية
كما نشر في الجرائد:
البلاغ البريطاني
يا صاحب السمو! كلفني جناب ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانية
العظمى أن أخبر سموكم بالظروف التي سببت نشوب الحرب بين جلالته وبين
سلطان تركية، وبما نتج عن هذه الحرب من التغيير في مركز مصر.
كان في الوزارة العثمانية حزبان أحدهما معتدل لم يبرح عن باله ما كانت
بريطانيا العظمى تبذله من العطف والمساعدة لكل مجهود نحو الإصلاح في تركيا،
ومقتنع بأن الحرب التي دخل فيها جلالته لا تمس مصالح تركيا في شيء، ومرتاح
لما صرح به جلالته وحلفاؤه من أن هذه الحرب لن تكون وسيلة للإضرار بتلك
المصالح لا في مصر ولا في سواها، وأما الحزب الآخر فشرذمة جنديين أفاقين لا
ضمير لهم أرادوا إثارة حرب عدوانية بالاتفاق مع أعداء جلالته معللين أنفسهم أنهم
بذلك يتلافون ما جروه على بلادهم من المصائب المالية والاقتصادية. أما جلالته
وحلفاؤه فمع انتهاك حرمة حقوقهم قد ظلوا إلى آخر لحظة وهم يأملون أن تتغلب
النصائح الرشيدة على هذا الحزب؛ لذلك امتنعوا عن مقابلة العدوان بمثله حتى
أُرْغِمُوا على ذلك بسبب اجتياز عصابات مسلحة للحدود المصرية، ومهاجمة
الأسطول التركي - بقيادة ضباط ألمانيين - ثغورًا روسية غير محصنة.
ولدى حكومة جلالة الملك أدلة وافرة على أن سمو عباس حلمي باشا خديوي
مصر السابق قد انضم انضمامًا قطعيًّا إلى أعداء جلالته منذ أول نشوب الحرب مع
ألمانيا.
وبذلك تكون الحقوق التي كانت لسلطان تركية، وللخديوي السابق على بلاد
مصر قد سقطت عنهما وآلت إلى جلالته.
ولما كان قد سبق لحكومة جلالته أنها أعلنت بلسان قائد جيوش جلالته في بلاد
مصر أنها أخذت على عاتقها وحدها مسئولية الدفاع عن القطر المصري في الحرب
الحاضرة، فقد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد
بعد تحريرها، كما ذكر من حقوق السيادة، وجميع الحقوق الأخرى التي كانت
تدعيها الحكومة العثمانية.
فحكومة جلالة الملك تعتبر وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري جميع
الحقوق التي آلت إليها بالصفة المذكورة، وكذلك جميع الحقوق التي استعملتها في
البلاد مدة سني الإصلاح الثلاثين الماضية، ولذا رأت حكومة جلالته أن أفضل
وسيلة لقيام بريطانية العظمى بالمسئولية التي عليها نحو مصر، أن تعلن الحماية
البريطانية إعلانًا صريحًا، وأن تكون حكومة البلاد تحت هذه الحماية بيد أمير من
أمراء العائلة الخديوية طبقًا لنظام وراثي يُقَرر فيما بعد.
بناء عليه قد كلفتني حكومة جلالة الملك أن أبلغ سموكم أنه بالنظر لسن
سموكم، وخبرتكم قد رُئِي في سموكم أكثر الأمراء من سلالة محمد علي أهلية لتقلد
منصب الخديوية مع لقب (سلطان مصر) ، وإنني مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحة
عند عرضي على سموكم قبول عبء هذا المنصب أن بريطانية العظمى أخذت على
عاتقها وحدها كل المسئولية في دفع أي تعد على الأراضي التي تحت حكم سموكم
مهما كان مصدره. وقد فوضت إليّ حكومة جلالته أن أصرح بأنه بعد إعلان
الحماية البريطانية؛ يكون لجميع الرعايا المصريين أينما كانوا الحق في أن يكونوا
مشمولين بحماية حكومة جلالة الملك.
وبزوال السيادة العثمانية تزول أيضًا القيود التي كانت موضوعة بمقتضى
الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم، وللحق الذي لسموكم في الإنعام بالرُّتب
والنياشين.
أما فيما يختص بالعلاقات الخارجية فترى حكومة جلالته أن المسؤولية الحديثة
التي أخذتها بريطانية العظمى على نفسها تستدعي أن تكون المخابرات منذ الآن بين
حكومة سموكم، وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر.
وقد سبق لحكومة جلالته أنها صرحت مرارًا بأن المعاهدات الدولية المعروفة
بالامتيازات الأجنبية المقيدة بها حكومة سموكم لم تعد ملائمة لتقدم البلاد؛ ولكن من
رأي حكومة جلالته أن يُؤَجَّل النظر في تعديل هذه المعاهدات إلى ما بعد انتهاء
الحرب.
وفيما يختص بإدارة البلاد الداخلية عليّ أن أُذَكِّر سموكم أن حكومة جلالته
طبقًا لتقاليد السياسة البريطانية قد دأبت على الجد بالاتحاد مع حكومة البلاد
وبواسطتها في ضمان الحرية الشخصية، وترقية التعليم، ونشره، وإنماء مصادر
ثروة البلاد الطبيعية، والتدرج في إشراك المحكومين في الحكم بمقدار ما تسمح به
حالة الأمة من الرقي السياسي. وفي عزم حكومة جلالته المُحافَظَةُ على هذه التقاليد
بل إنها موقنة بأن تحديد مركز بريطانيا العظمى في هذه البلاد تحديدًا صريحًا يؤدي
إلى سرعة التقدم في سبيل الحكم الذاتي.
وستُحْتَرم عقائد المصريين الدينية احترامًا تامًّا، كما تُحْتَرم الآن عقائد نفس
رعايا جلالته على اختلاف مذاهبهم. ولا أرى لزومًا لأن أؤكد لسموكم أن تحرير
حكومة جلالته لمصر من رِبْقَة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الآستانة
لم يكن ناتجًا عن أي عداء للخلافة، فإن تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على أن
إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسة التي بين
مصر والآستانة، وأن تأييد الهيئات النظامية الإسلامية في مصر والسير بها في
سبيل التقدم هو بالطبع من الأمور التي تهتم بها حكومة جلالة الملك مزيد الاهتمام،
وستلقى من جانب سموكم عناية خاصة، ولسموكم أن تعتمدوا في إجراء ما يلزم
لذلك من الإصلاحات على كل انعطاف وتأييد من جانب الحكومة البريطانية. وعليَّ
أن أزيد - على ما تقدم - أن حكومة جلالة الملك تُعَوِّل بكل اطمئنان على إخلاص
المصريين، ورويتهم، واعتدالهم في تسهيل المهمة الموكولة إلى قائد جيوش جلالته
المكلف بحفظ الأمن في داخل البلاد، وبمنع كل عون للعدو وإني أنتهز هذه
الفرصة فأقدم لسموكم أجل تعظيماتي.
... ... ... ... ... ... تحريرًا في 19 ديسمبر سنة 1914 ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ملن شيتهام
__________(18/53)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بنصب الأمير حسين كامل
سلطانًا لمصر
جرى هذا الاحتفال في يوم الأحد ثالث شهر صفر الماضي الموافق 20
ديسمبر، وكانت معداته مهيئة قبل ذلك بأيام، أو أسابيع، ورقاع الدعوة إليه قد
وزعت في جميع أرجاء القطر، وهذا مقدمة نص البلاغ الرسمي الصادر من قصر
عابدين في ذلك:
(برح صاحب العظمة مولانا السلطان في منتصف الساعة العاشرة في يوم
الأحد 20 ديسمبر سنة 1914 سراي دولة الأمير كمال الدين باشا في موكب فخيم
محفوظًا بحراسه، ومن ورائه أصحاب السعادة الوزراء تقلهم مركبتان من مركبات
المعية السنية، فأطلقت مدافع القلعة واحدًا وعشرين مدفعًا إيذانًا، وأدت طلبة
المدرسة الحربية والجند التحية، وكان الشعب يهتف لعظمته طول الطريق هتافًا
متواصلاً، ولما أقبل عظمته على ميدان عابدين ضج له جماهير المدعوين
الموجودين بالصيوان المنصوب أمام السراية، وهم مندوبو المديريات، وكبار
موظفي الحكومة، وحضرات العلماء، والرؤساء الروحانيين وكبار ضباط الجيش
الإنكليزي والمصري، ولما وصلت المركبة السلطانية إلى باب السراي استقبله كل
من أصحاب الدولة أمراء العائلة السلطانية، وصاحبي الفضيلة شيخ الإسلام،
ومفتي الديار المصرية، وحضرات رئيس ووكيل الجمعية التشريعية،
والمستشارين، ووكلاء الوزارات، ورئيس محكمة الاستئناف الأهلية والمختلطة،
والنائبين العموميين لدى المحاكم الأهلية والمختلطة ومحافظين وكبار رجال المعية)
وتلا ذلك بيان كيفية المقابلات، وما تخللها من الخطب والمخاطبات.
__________(18/56)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة برقيات التهاني بين لندرة ومصر
البرقية الأولى من ملك الإنكليز
تهنئة
إلى صاحب العظمة السلطانية سلطان مصر بالقاهرة
في الوقت الذي ترتقي فيه عظمتكم السلطانية منصبها السامي أرغب أن أقدم
إلى عظمتكم السلطانية عواطف الوداد المنبعثة عن أكمل إخلاص، مع تأكيدي لكم
بأنني لا أنفك عن تأييدكم في سبيل المحافظة على كيان مصر، وضمان رفاهيتها
في المستقبل وسعادتها، ولقد دعيتم عظمتكم السلطانية إلى تحمل مسؤولية منصبكم
السامي إبان أزمة خطيرة في الحياة الأهلية بمصر، وإني على يقين أنه بمعاونة
وزرائكم، وبحماية بريطانية العظمى يتسنى لكم التغلب على كل المؤثرات التي
يراد بها العبث باستقلال مصر، وبرفاهة أهاليها، وحريتهم، وسعادتهم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جورج
... ... ... ... ... ... ... ... ... ملك وإمبراطور
***
البرقية الثانية من سلطان مصر
شكر
أقدم لجلالتكم فائق الامتنان على ما تفضلتم به من شعائر الوداد التي
شرفتموني بها، وعلى ما أكدتموه لي من نفيس التعضيد للمحافظة على كيان مصر
واستقلالها، ولما كنت على علم تام بالمسؤولية التي أخذتها على عاتقي، وقد عقدت
النية على تخصيص كل ما في وسعي لتقدم أمتي، وسعادتها سالكًا مع الحماية في
ذلك سبيل الوئام؛ فإنني أعتبر من حسن حظي أن يتاح إليَّ الاعتماد في القيام بهذا
العبء على جميل عواطف جلالتكم، وعلى معاونة حكومتها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين كامل
***
البرقية الثالثة من لورد كتشنر
تهنئة
إلى صاحب العظمة السلطانية سلطان مصر بالقاهرة
أتشرف بتقديم أَجَلّ مراسم التهاني والاحترام إلى مقام عظمتكم السلطانية بمناسبة
ارتقائكم عرش سلطنة مصر، وأسأله تعالى أن يوفق مصر في ظل عظمتكم
السلطانية، وبمعاونة ونصائح أصدقائها إلى جعل مستقبلها مقرونًا بالطمأنينة
والسعادة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتشنر
***
البرقية الرابعة من سلطان مصر
شكر
إلى لورد كتشنر- لندن
كان لتهانئكم الودية - بمناسبة ارتقائي عرش السلطنة - أجمل وقع في فؤادي
فأشكركم شكرًا جزيلاً على ما أبديتموه من العواطف والأماني نحو بلادي، وإن ما
أعلمه من عظيم اهتمامكم بمصر يجعلني على يقين بأنه يتسنى لها الاعتماد عليكم
كما تعتمد على خير أصدقائها.
... ... حسين كامل
***
البرقية الخامسة
أمنية
من اللورد كتشنر إلى رئيس الوزارة حسين رشدي باشا
أبادر بإبلاغ عطوفتكم أمانيّ المنبعثة من أكمل عواطف الإخلاص، والوداد نحو
مستقبل النظام الذي انفتح عصره في هذا الصباح، وإن ثقتي بحكمة عطوفتكم،
وبوطنيتكم تجعل لي الأمل الوطيد باستمرار مصر في طريق السعادة والتقدم.
***
البرقية السادسة من رئيس الوزارة
شكر واغتباط
أشكر جنابكم على جميل تلغرافكم، وأنا على يقين مثلكم بأن مصر في عهد
نظامها الجديد ستتابع خطاها في طريق النظام، والارتقاء.
وإني لمرتاح إلى ما عندي من الأمل بإمكاني الاعتماد على مودتكم الثمينة
أثناء قيامي بأعباء وظيفتي.
__________(18/57)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تهاني الشعراء
نظم أشهر شعراء مصر القصائد في التهاني السلطانية، وفي مقدمتهم
إسماعيل باشا صبري وأحمد شوقي بك ومحمد حافظ بك إبراهيم، وامتازت
قصيدة شوقي بأنها لم تكن مدحًا وثناء مجردًا كغيرها؛ بل تمثيلاً لشعوره ووجدانه
الخاص من حيث هو ربيب بيت الخديوي إسماعيل باشا، وغرس نعمته، ووجدانه
العام من حيث هو مسلم مصري، ويشاركه في هذا جمهور المصريين؛ فإذا
أثبتناها بنصها أثرًا تاريخيًّا لا نخرج عن سنة المنار في عدم نشر المدائح الشخصية
وها هي ذه:
الملك فيكم آل إسماعيلا ... لا زال بَيْتُكُمُو يُظِل النيلا
لطف القضاء فلم يمل لوليكم ... ركن ولم يشف لحسود غليلا
هذى أصولكمو وتلك فروعكم ... جاء الصميم من الصميم بديلا
المُلك بين قصوركم في داره ... من ذا يريد عن الديار رحيلا [1]
(عابدين) شرف يا ابن رافع ركنه ... عزًّا على النجم الرفيع وطولا
ما دام مغناكم [2] فليس بسائل ... أحوى فروعًا أم أقل أصولا
أنتم بنو المجد المؤثل والندى ... لكمو السيادة صبية وكهولا
النيل إن أحصى لكم حسناتكم ... ملأ الزمان محاسنا والجيلا
أحيا أبوكم شاطئيه وابتنى ... مجدًا لمصر على الزمان أثيلا
نشر الحضارة فوق مصر وسوريا ... وامتد ظلاًّ للحجاز ظليلا
وأعاد للعرب الكرام بيانهم ... وحمى إلى البيت الحرام سبيلا
***
حفظ الإله على (الكنانة) عرشها ... وأدام منكم للهلال كفيلا
بنيان (عمرو) أَمَّنَتْهُ عناية ... من أن يزعزع ركنه ويميلا
وتدارك الباري لواء محمد ... فرعى له غررًا وصان حجولا
في برهة يذر الأسرة نحسها ... مثل النجوم طوالعا وأفولا
الله أدركه بكم وبأمة ... كالمسلمين الأولين عقولا
حلفاؤنا الأحرارُ إلا أنهم ... أرقى الشعوب عواطفا وميولا
أعلى من الرومان ذكرًا في الورى ... وأعز سلطانًا وأمنع غيلا
لما خلا وجه البلاد لسيفهم ... ساروا سماحا في البلاد عدولا
وأتوا بكابرها وشيخ ملوكها ... ملكًا عليها صالحًا مأمولا
تاجان زانهما المشيب بثالث ... وَجَدَ الهدى والحقُّ فيه مقيلا
***
سبحان من لا عز إلا عزه ... يبقى ولم يك ملكه ليزولا
لا تستطيع النفس في ملكوته ... إلا رضا بقضائه وقبولا
الخير فيما اختاره لعباده ... لا يظلم الله العباد فتيلا
يا ليت شعري هل يحطم سيفه ... للبغي سيفًا في الورى مسلولا
سلب البرية سلمها وهناءها ... ورمى النفوس بألف عزرائيلا
زال الشباب عن الدسار وخَلَّفُوا ... للباكيات الثكل والترميلا
طاحوا فطاح العلم تحت لوائهم ... وغدا التفوق والنبوغ قتيلا
الله يشهد ما كفرت صنيعة ... في ذا المقام ولا جحدت جميلا
وهو العليم بأن قلبي موجع ... وجعًا كداء الثاكلات دخيلا
مما أصاب الخلق في أبنائهم ... ودهى الهلال ممالكا وقبيلا
أأخون إسماعيل في أبنائه ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا
ولبست نعمته ونعمة بيته ... فلبست جزلاً وارتديت جميلا
ووجدت آبائي على صدق الهوى ... وكفى بآباء الرجال دليلا
رؤيا (عليّ) يا حسين تأولت ... ما أصدق الأحلام والتأويلا
وإذا بناة المجد راموا خطة ... جعلوا الزمان مُحَقَّقًا ومُنِيلا
القوم حين دها القضاء عقولهم ... كسروا بأيديهم لمصر غلولا
هدموا بِوادي النيل ركن سيادة ... لهمو كركن العنكبوت ضئيلا
ارَقْه [3] سرير أبيك والبس تاجه ... واكْرُمْ على (القصر المشيد) نزيلا
مرت أويقات عليه موحشًا ... كالرمس لا خلوًا ولا مأهولا
ليست معالي الأمر شيئًا غائبًا ... عنكم وليس مكانكم مجهولا
كم سستموه في الشبيبة مضلعًا ... وحملتموه في المشيب ثقيلا
وحميتمو زرع البلاد وضرعها ... وهززتمو للمكرمات بخيلا
يا أكرم الأعمام حسبك أن ترى ... للعَبرتين بوجنتيك مسيلا
من عثرة ابن أخيك تبكي رحمة ... ومن الخشوع لمن حباك جزيلا
ولو استطعت إقالة لعثاره ... من صدمة الأقدار كنت مقيلا
***
يا أهل مصر كِلُوا الأمور لربكم ... فالله خير موئلاً ووكيلا
جرت الأمور مع القضاء لغاية ... وأقرّها من يملك التحويلا
أَخَذَتْ عنانًا منه غير عنانها ... سبحانه متصرفا ومديلا
هل كان ذاك العهد إلا موقفًا ... للسلطتين وللبلاد وبيلا
يعتز كل ذليل أقوام به ... وعزيزكم يُلْقِي القياد ذليلا
دفعت بنافيه الحوادث وانقضت ... إلا نتائج بعدها وذيولا
وانفضّ ملعبها وشَاهِدُه على ... أن الرواية لم تتم فصولا
فأدمتمو الشحناء فيما بينكم ... ولبثتمو في المضحكات طويلا
كل يؤيد حزبه وفريقه ... ويرى وجود الآخرين فضولا
حتى انطوت تلك السنون كملعب ... وفرغتمو من أهلها تمثيلا
وإذا أراد الله أمرًا لم تجد ... لقضائه ردًّا ولا تبديلا
__________
(1) قيل أنه أشار إلى نفي ما أُشيع من خبر نفيه من مصر.
(2) أي ما دام قصر عابدين مقامُا لكم يا آل إسماعيل.
(3) كُتبت الكلمة في بعض الجرائد (ارقأ) وهو غلط لأنه أمر رقى الناقص لا رقأ المهموز، ولعل سببه كتابتها في الأصل بالألف فجعلوها همزة، والمقام هنا مقام وصل الفعل بهاء السكت كما فعلنا.(18/59)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أثارة تاريخية
من مقدمات الحرب المدنية الأوربية
وهي البرقيات التي تبودلت بين
العاهلين العظيمين قيصر الألمان وقيصر الروس [1]
(1)
من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا
28 يوليو 1914 (الساعة 10 والدقيقة 45 مساء)
لقد علمت بمزيد القلق خبر الوقوع الذي وقعه زحف الجنود النمساوية على
سربية في إمبراطوريتكم. إن التحريض العظيم الذي توالى في سربية منذ سنوات
أفضى إلى جناية فظيعة اغْتِيلَ فيها الأرشدوق فرنس فردينند، فالروح الذي حمل
السربيين على اغتيال ملكهم وقرينته لا يزال سائداً تلك البلاد، ولا ريب في أنكم
توافقونني أننا - أي أنت وأنا - كسائر الملوك لنا مصلحة مشتركة في الإصرار
على معاقبة مرتكبي جناية القتل هذه العقاب الذي يستحقونه.
على أنني أعلم أيضًا أنه يصعب جدًّا عليكم، وعلى حكومتكم مقاومة
مظاهرات الرأي العام، فأنا - تذكارًا للصداقة القلبية التي بيني وبينكم منذ زمان
طويل - أبذل كل نفوذي في إقناع النمسا بالاتفاق مع سربية، وإني أعتمد على
تأييدكم في مساعيَّ لإزالة جميع الصعوبات التي يُحْتَمَل أن تنشأ.
... ... ... ... ... ... ... صديقكم المخلص وابن عمكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم
(2)
من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم
قصر بترهوف في 29 يوليو 1914 (الساعة واحدة بعد الظهر)
سرني خبر عودتكم إلى ألمانيا، وإني أطلب مساعدتكم في هذه الآونة الحرجة
، فقد أُعلنت حرب معيبة على أمة ضعيفة، وأنا أشاطر روسيا سخطها العظيم،
وإني أرى أنني سأعجز قريبًا عن دفع الضغط الواقع عليَّ، وأضطر إلى اتخاذ
تدابير تؤدي إلى الحرب.
فاجتنابًا لنكبة حرب أوربية أرجو منكم باسم صداقتنا القديمة أن تُفْرِغُوا كل
جهدكم في منع حليفتكم من الإفراط في الخطة التي سارت عليها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نقولا
(3)
من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا
29 يوليو 1914 (الساعة 6 والدقيقة 30 مساء)
تلقيت برقيتكم وأنا أشاطركم الرغبة في حفظ السلام
ولكن لا أرى أن زحف النمسا على سربية حرب معيبة كما قلت في تلغرافي
الأول، فقد علمت النمسا - بالاختبار - أنه يستحيل تصديق مواعيد سربية ما
دامت محصورة في الكتابة على الورق.
وعندي أنه ينبغي النظر إلى ما تفعله النمسا كأنه سعي للحصول على الضمان
الكافي بأن سربية تقوم بمواعيدها، وقد تأيد اعتقادي بما صرحت به النمسا من أنها
لا تبغي الاستيلاء على شيء من أملاك سربية.
ولذلك أرى أن روسية تستطيع أن تقف موقف المتفرج، فلا تجر أوربا إلى
أعظم حرب رآها العالم.
وأعتقد أن الاتفاق بين حكومتكم وفِينَّة مستطاع ومرغوب فيه لاسيما وأن
حكومتي باذلة الجهد للتوصل إلى هذا الاتفاق كما أخبرتكم في تلغرافي السابق.
ولا يخفى أن اتخاذ روسية لتدابير حربية تعدها النمسة تهديدًا لها يعجل وقوع
النكبة التي نحاول كلانا اجتنابها، ويحول دون قيامي بمهمة الوسيط التي قبلتها بلا
تردد لَمَّا استجرت بصداقتي ومعونتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم
(4)
من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا
30 يوليو 1914 (الساعة 1 صباحا)
صدرت التعليمات إلى سفيري أن يوجه نظر حكومتكم إلى الأخطار والعواقب
الوخيمة التي تنشأ عن تعبئة الجيش، وهذا الذي قلته لكم في تلغرافي الأخير.
إن النمسة عبأت جيشها ضد سربية فقط، ولم تعبئ سوى جانب من جيشها؛
فإذا عبأت روسية جيشها ضد النمسا كما يتضح من برقيتكم، وبلاغ حكومتكم تعذر
عليَّ القيام بمهمة الوسيط بل استحال، وهي المهمة التي نطتموها بي بروح
المودة وقبلتها بناء على طلبكم المعجل.
فعبء البت في الأمر واقع على عاتقكم، وأنتم تتحملون عبء تبعة الحرب
أو السلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم
(5)
من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم
قصر بيترهوف في 30 يوليو 1914 (الساعة 1 والدقيقة 20 بعد الظهر)
أشكركم من صميم الفؤاد على جوابكم السريع، وإني مرسل تاتيشف اليوم
مساء مزودًا بالتعليمات. أما التدابير الحربية التي تُتخذ الآن فقد قر القرار عليها
منذ خمسة أيام لمقابلة استعداد النمسا.
وإني أتمنى من صميم الفؤاد أن لا تؤثر هذه التدابير في قيامكم بمهمة الوسيط
وهي المهمة التي أقدرها حق قدرها؛ فإننا نحتاج إلى توسطكم بالحزم مع النمسا
لحملها على الاتفاق معنا.
... ... نقولا
(6)
من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم
31 يوليو1914
أشكركم من صميم الفؤاد على ما تبدونه من النية التي تدل على وجود بارقة
أمل بأن الأمور تنتهي على ما يرام. أما توقيف استعدادنا الحربي فغير مستطاع
فنيًّا، وقد اضطرتنا تعبئة النمسا إلى هذا الاستعداد.
إننا أبعد الناس عن الرغبة في الحرب، وما دامت المفاوضات في موضوع
سربية دائرة مع النمسا فجنودي لا تُقْدِم على عمل ما من أعمال التحرش، وأؤكد
لكم ذلك بشرفي
إنى موقن تمام الإيقان بنعمة الله، وأثق بأن توسطكم في فِينَّا يُكلل بالنجاح
لخير بلدينا، وسِلْم أوربا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نقولا
(7)
من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا
31 يوليو 1914 (الساعة 2 بعد الظهر)
لَمَّا استجرتم بصداقتي، وطلبتم معونتي قبلت أن أتوسط بين حكومتكم
وحكومة النمسا، وبينما كنت قائمًا بهذا العمل عبأتم جيوشكم ضد حليفتي النمسا
فأحبطتم الرجاء بنجاح توسطي، ومع ذلك فإنني ظللت متابعًا له.
وقد تلقيت - الساعة - علمًا من مصدر جدير بالثقة بأنكم شرعتم تتخذون
تدابير حربية عظيمة على حدودي الشرقية، ولما كنت مسئولاً عن سلامة
إمبراطوريتي فإني مضطر أن أتخذ تدابير مماثلة دفاعًا عنها.
ولقد بذلت أقصى ما يستطاع سعيًا لحفظ السِلْم؛ فإذا وقعت النكبة الهائلة التي
تهدد عالم المدنية بأسره؛ فإن تبعتها لا تقع عليَّ.
ولا يزال منع وقوع النكبة في يدكم، إذ لا أحد يهدد شرف روسية، وقوتها،
وكان في طاقة روسية أن تنتظر نتيجة توسطي. إن صداقتي لكم ولإمبراطوريتكم
التي أورثنيها جدي على فراش الموت ظلت مقدسة عندي، وقد كنت أمينًا لروسية
في محنها، ولا سيما في الحرب الأخيرة. فسِلْم أوربا محفوظ حتى الآن إذا قر
قرار روسية على الكف عن التدابير الحربية التي تهدد بها ألمانية والنمسا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم
(8)
من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم
1 أغسطس 1914 (الساعة 2 بعد الظهر)
جائتني برقيتكم، وإني أعلم أنكم مضطرون إلى التعبئة؛ ولكني أطلب منكم
الضمان الذي أعطيتكم إياه، وهو أن هذه التدابير لا تنذر بوقوع الحرب، وأننا
نظل متابعين مفاوضاتنا لخير البلدين، ومصلحة السِلْم العام العزيز على قلوبنا.
إن صداقتنا القديمة العهد، والوطيدة الأركان يجب بمساعدة الله أن تفوز بمنع
إراقة الدم، فأنا أنتظر جوابكم بملء الثقة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نقولا
(9)
من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا
برلين في 1 أغسطس 1914
أشكركم على برقيتكم، وقد دللت حكومتكم أمس على الطريق الوحيد لاجتناب
الحرب.
ومع أني طلبت أن يأتيني الجواب الظهر فلم يأتني حتى الساعة برقية من
سفيري تتضمن جواب حكومتكم، لذلك اضطررت إلى تعبئة جيشي.
فالطريق الوحيد لمنع وقوع نكبة لا تُوصَف هي ورود جواب صريح جلي من
حكومتكم. ولا يسعني أن أهتم بموضوع تلغرافكم قبل أن يأتيني هذا الجواب،
وإني مضطر أن أطلب بالاختصار أن تصدروا أوامركم إلى جنودكم بلا إبطاء بأن
لا تهجم أقل هجوم على حدودنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم
__________
(1) نُقلت من ملحقات الكتاب الأصفر الفرنسي الرسمي.(18/62)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فصل الإحصاء من باب التاريخ
(مساحة المملكة العثمانية وعدد سكانها)
أصدرت الحكومة العثمانية في العام الماضي إحصاء لأملاكها، وعدد سكانها نشرته جريدة " الأهرام " قائلة إنها أخذته عن خريطة أركان الحرب العثمانية وهو كما ترى في الجدول الآتي:
اسم الولاية ... ... ... كيلو متر ... ... ... ... نفس
إستامبول ... ... ... 7.000 ... ... ... 1.136.000
خداوندكار ... ... 73.800 ... ... ... 1.626.900
آيدين ... ... ... 54.000 ... ... ... 1.396.500
قونيه ... ... ... 102.800 ... ... ... 1.088.000
أطنة ... ... ... 37.200 ... ... ... ... 403.400
أنقرة ... ... ... 67.500 ... ... ... ... 892.900
قسطموني ... ... 49.700 ... ... ... 1.018.900
سيواس ... ... ... 62.800 ... ... ... 1.086.500
طرابزون ... ... ... 30.700 ... ... ... 1.047.700
أرضروم ... ... 51.000 ... ... ... ... 597.000
معمورة العزيز ... 34.300 ... ... ... ... 575.300
بتليس ... ... ... 26.800 ... ... ... ... 398.600
ديار بكر ... ... 35.500 ... ... ... 471.500
وان ... ... ... 40.200 ... ... ... ... 430.000
حلب ... ... ... 78.600 ... ... ... ... 995.800
بيروت ... ... ... 30.500 ... ... ... 533.800
سوريا ... ... ... 61.700 ... ... ... 955.700
بغداد ... ... 141.200 ... ... ... ... 850.000
الموصل ... ... 75.700 ... ... ... ... 700.300
البصرة ... ... 42.700 ... ... ... ... 300.000
الحجاز ... ... 250.000 ... ... ... ... 300.000
اليمن ... ... 200.000 ... ... ... ... 750.000
جزائر البحر الأبيض 7.108 ... ... ... ... 325.900
أزميد ... ... ... 11.200 ... ... ... ... 222.800
بيغا ... ... ... 6.800 ... ... ... ... 129.400
الزور ... ... 85.100 ... ... ... ... 100.000
لبنان ... ... 6.500 ... ... ... ... 399.500
القدس ... ... 21.300 ... ... ... ... 333.000
سيسام ... ... ... 468 ... ... ... ... 52.800
قبرص ... ... 9.600 ... ... ... 221.800
المجموع ... ... 1701777 ... ... ... 19.340.000
(قالت الأهرام) فعدد الأهالي العثمانيين - إذن - هو 18 مليونًا و839 ألف
و800 نفس يخرج منهم أهالي قبرص، وهم حسب الإحصاء 221800، وسيسام
وهم 52800، ولبنان وهم 39950، والحجاز وهم 300 ألف، واليمن وهم
750 ألفًا، وجزر البحر الأبيض وهم 325900؛ لأن هذه البلاد إما أنها لا تُكَلَّف
بالتجنيد، وإما أنها غير خاضعة لحكم الدولة كالجزر، وعدد أهاليها مليونان 741
ألفًا فيكون الباقي 16765700، فإذا أخرجنا منهم الكرد، واليزيدية، والطوائف
التي تدفع البدل، والتي تُعْفَى يكون الأهالي الذين يُجَنَّدُون نحو 14 مليونًا على
الأكثر، فإذا حسبنا أن الذين يُجَنَّدُون هم 6 بالمائة يكون عدد الجيش الممكن جمعه
من الأمة العثمانية 840 ألف مقاتل في وقت الحرب. اهـ.
إحصاء جزيرة العرب والولايات العربية
(المنار)
كنا رأينا هذا الإحصاء في الأهرام، ثم نقلناه عن جريدة أخرى نقلته عنها؛
ولكن رأينا الجمع غير صحيح، فأرسلنا الجدول إلى رئيس تحرير الأهرام فصححه
فلم يكن الجمع بعد تصحيحه صحيحًا أيضًا، بل بلغ عدد النفوس 19 مليونًا
و340 ألف نفس.
إن الدولة لم تحص سكان بلادها إحصاء دقيقًا إلى اليوم، وهي تعني بهذا
الإحصاء أهالي البلاد الحضرية الخاضعين لقوانينها كلها، أو بعضها إلا ما يستثنى
كقبرص. أي ما تيسر لها معرفة عدده منهم، ولذلك لم تَذْكُر بلاد نجد مع أنها تعدها
تحت سيادتها، وجعلت أهل اليمن ثلاثة أرباع المليون على أن بعض وزرائها الذين
تولوا اليمن كحسين حلمي باشا كانوا يقولون: إن أهلها ستة ملايين أو يزيدون،
ورأيت بعض أهل اليمن يعتقدون أن سكان بلادهم، وبلاد حضرموت أكثر من
سكان القطر المصري.
هذا وإن سكان الولايات، والمتصرفيات العربية، وهي 12 ولاية ومتصرفية
بلغوا بحسب هذا الإحصاء 6.692.000 فإذا كان في ديار بكر، والموصل،
وحلب زهاء مائتي ألف من غير العرب كالترك، والكرد، والأرمن يكون مجموع
العرب الخاضعين للدولة فعلاً نحوًا من ستة ملايين ونصف أو أقل، وهذا العدد أقل
من ثلث مجموع العرب في جزيرتهم وحدها دع ملحقاتها من العراق وما بين
النهرين وسوريا وفلسطين، ويمكن أن يعيش في هذه البلاد أكثر من مائة ألف
ألف بالسعة، فإن مساحتها أوسع من مساحة الهند الإنكليزية التي يعيش فيها أكثر
من ثلاث مائة ألف ألف. بل مساحة جزيرة العرب وحدها تقرب من مساحة الهند
إذ كل منهما تزيد على ثلاثة ملايين كيلو متر.
وقد قَدَّر صاحب (النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية) سكان جزيرة
العرب وحدها باثني عشر مليون نفس، وهو إنما يعتمد على كتب التقويم الأوربية
القديمة التي تعتمد على قاعدة البناء على الأقل، وحسبك نموذجًا من ذلك أنه يقول
إن سكان دمشق الشام ستون ألفًا، والمشهور أنهم أكثر من مائتي ألف، وإن سكان
طرابلس الشام 13 ألفًا وهم أكثر من تسعة وعشرين.
ويمكننا أن نقول إن عرب الولايات، والمتصرفيات العربية ما عدا اليمن،
والحجاز لا تقل عن خمسة ملايين ونصف بحسب إحصاء الدولة، وإذا قيل إن عدد
الأعاجم فيها أكثر مما قدرنا بنصف مليون قلنا إن البدو فيها لا يقلون عما نفرضه
من زيادة هؤلاء.
فإذا أضفنا إلى البدو المكتومين من الحضر زاد عدد العرب في تلك الولايات
على ستة ملايين، وقد نُشِر في عدد الأهرام الذي صدر في 3 نوفمبر إحصاء آخر
لأحد المحررين فيها (ا. س. ن) عَدَّ فيه أهل ولاية بيروت 700.500
وبغداد 950.000 والبصرة 250.000 والقدس 550.000 ولبنان 500.000
وهذه زيادة تبلغ زهاء نصف مليون. فإذا فرضنا بعد ذلك أن سكان الجزيرة 12
مليونًا فقط كما يقول صاحب النخبة الأزهرية على سبيل التقريب كان عدد العرب
وحدهم في هذه البلاد كلها كعدد سكان المملكة العثمانية من جميع الأجناس كما
رأيت في الجدول.
ويقدر كثير من العارفين عدد العرب في تلك البلاد بعشرين مليونًا؛ ولكنهم
يستثنون من ذلك أهل حضرموت ونجد وعمان.
إحصاء شعوب الهند الإنكليزية
نشرت الحكومة الإنكليزية خلاصة إحصاء شعوب الهند في عام 1914.
ويؤخذ من هذا الإحصاء أن عدد أهالي الهند الإنكليزية 315.156.396 وهم
5.78 بالمائة من الهنود، و 5.22 من رعايا الإمارات الهندية.
ومساحة بلاد الهند تعادل مساحة أوربا كلها ما عدا روسيا؛ ولكن عدد أهالي
الهند يزيد على أهالي أوربة ما عدا روسية، وهو يعادل ثلاثة أضعاف أهالي
الولايات المتحدة.
ومنذ 39 سنة إلى اليوم زاد عدد أهالي الهند 50 مليونًا. أما الذين يدينون
بدين الهند الأصليين (؟) فعددهم 217.586.892 وعدد المسيحيين 2.778.204
والباقون من المسلمين.
(المنار)
نشرت هذا الإحصاء جريدة الأهرام في أثناء السنة الماضية، وتلك عبارتها
نقلناها بنصها. وإذا نحن طرحنا عدد الوثنيين، والنصارى من المجموع بقي
94.692.300 وهو عدد المسلمين، وقد كنا سمعنا - من بعض كبراء الهند في أثناء
سياحتنا فيها عام 1330 (1912م) - أن عدد المسلمين فيها تسعون مليونًا ونيف؛
ولكنني لا أزال أسمع الناس يقولون ويكتبون أن عددهم سبعون مليونًا، حتى أن
مثل هذا القول يُنْقَل عن بعض رجال السياسة من الإنكليز أنفسهم، ولما جاء هذا
الإحصاء مطابقًا لما سمعناه من أهل المعرفة في الهند تَرَجَّحَ عندنا أن هذه الأقوال
إما مبنية على إحصاء قديم علق بأذهان أولئك القائلين، وإما أن الإنكليز منهم
يستثنون بعض الإمارات المستقلة عند ذكر رعاياهم من مسلمي الهند، وغيرُهم يقلدهم
في أقوالهم.
__________(18/66)
الكاتب: عن جريدة الزمان العربية
__________
خرافات وأوهام في قصور الملوك [*]
يعتقد القراء أن الخرافات والأوهام التي تتخوف منها الطبقة العامة في سوريا،
وغيرها من بلدان الممالك المتمدنة (؟) كوجود الجان، وظهور الأرواح
والأشباح لا أثر لها في عقول الطبقة المتمدنة من الشعب الأوربي، والحقيقة أن
هذه الأوهام التي لا يُسَلِّم بها من العلماء غير شيعة الروحانيين (مناجاة الأرواح) ،
وأتباعهم مالئة قصور الملوك، ولها في كل رأس من رءوس سكان القصور ثغرة
واسعة. وها نحن (أولاء) مُورِدُون شيئًا عن الاعتقادات الشائعة بالجان والأرواح
في قصور ملوك أوربة.
تعتقد عائلة (هوهنزولرن) المالكة في ألمانيا أن لها جِنِّيَّتَيْنِ إحداهما بيضاء،
والثانية سوداء وإليهما تشير الراية الألمانية، بمعنى أن البيضاء هي جنية الشر،
والسوداء جنية الخير.
ففي عام 1806 - على ما تفيد الكتب والأوراق القديمة - ظهرت الجنية
البيضاء في إحدى نوافذ القصر الملكي، وما كادت تختفي حتى ورد إلى
الإمبراطور نبأ يُفيد انكسار الجيش الألماني في (أورستاد) .
وقد ظهرت أيضا عام 1884 قبل وقوع تلك الحوادث المشئومة في ألمانية -
في حديقة القصر الملكي في برلين.
وظهرت أيضا ثلاث مرات في (إنتردنليدن) وفي كل مرة كانوا يحاولون
اغتيال غليوم الأول.
ولما مات الإمبراطور الشيخ شبعانا من السنين، وكان قد بلغ من المجد حظًّا
كبيرًا ظهرت الجنية البيضاء في أحد أروقة القصر الملكي، وما كادت تختفي حتى
جاءت الأنباء مفيدة ما قاساه فردريك الثالث من أنواع العذاب، وأصناف البلايا
والمحن.
وبعد ثلاثة أشهر وقفت في القصر الملكي مكشوفة اليدين، وأنبأت عن موت
فردريك الثالث ابن غليوم الأول في (شارلو تبنورغ) بعد توليه الحكم بثلاثة أشهر.
وأما الجنية السوداء فقد ظهرت للإمبراطور الحالي في (برانبرغ) في أيام
غليوم الأول، وقالت له (ستكون إمبراطورًا قبل أن تتم الثلاثين ربيعًا) وهكذا كان.
وفي قصر إنكلترا الملكي جنية بيضاء وظيفتها نقل أخبار الموت فقط (ناعية)
ففي عام 1901 عندما ماتت الملكة فكتوريا الشهيرة أخذت (الجنية) تصيح -
بشهادة بعض أشخاص موثوق بصدقهم - في داخل القصر الملكي.
ويوجد مثل هذه الأرواح والجنيات في القصور التاريخية القديمة، وكثيرًا ما
امتنع الملوك والأمراء والأشراف عن سكناها خوفًا من تلك الأرواح الخبيثة الهائلة
ففي قصر (باري يوماروي) توجد هذه الأرواح بكثرة، وطالما أعلنت
المصائب قبل وقوعها، وعدد كبير من سكان هذا القصر أنبأتهم هذه الأرواح عن
انقضاء آجالهم.
وبهذه المناسبة نذكر الحادثة التالية التي جرت في القصر المذكور من مضي
مائة سنة.
كان الدكتور " ولتر " يطبب زوجة مدير القصر، وفي أحد الأيام سأل المدير
المذكور عن تلك المرأة الجميلة الحسنة الملابس التي تلوح على مُحياها أمائر
الحزن، والتي رآها عند دخوله إلى القصر، فبُغِتَ الرجل وصاح لا لا. لا أريد
أن تموت امرأتي، فعجب الدكتور مما ظهر له واستوضحه عن العلاقة بين المرأة
وموت زوجة المدير المذكور، فأطلعه على حقيقة هذه السيدة البيضاء الجميلة،
ومع أنه لم يكن يرى في مرض زوجة مدير القصر خطرًا على حياتها، فقد ماتت
في ذلك اليوم.
هذا ما رأينا أن ننقله تفكهة للقراء. ولا يمكننا نفي هذه الحوادث وغيرها مما
نطالعه يوميًّا على استحضار الأرواح، وأفعال الأرواح، ولا تصديقه، لأن بين
المعتقدين جماعة من العلماء الأعلام كالمستر ستيد وغيره، وبين المكذبين العلماء
الطبيعيون على الإطلاق، وغيرهم من المشاهير، ولا تزال لجان العلماء والفلاسفة
في أميركا ولندن وباريس وغيرها تبحث بحثًا دقيقًا متواصلاً توصلاً للحقيقة.
__________
(*) منقول من جريدة الزمان العربية التي تصدر في بونس أيرس (الأرجنتين) .(18/71)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام في إنكلترة
فضيلة.... [1] صاحب (المنار) الأغر:
يسرني جدًّا أن أبلغ سيادتكم أن مساعي إخواننا المسلمين المبشرين في إنكلترا
سائرة في طريق النجاح بدرجة فوق المأمول، ولقد تعود معظمنا إغفال الدعوة إلى
الدين الحنيف، بل أهملنا حتى في مقاومة دعاة المسيحية في نفس بلادنا، حتى أني
أتخيل أن ذكر وجود مبشرين مسلمين في إنكلترا كافٍ وحده لدهشة غير قليل من
القراء، ولا شك في أنه يدهشهم (دهشًا) أكثر أن يعلموا أن هؤلاء المبشرين على
قلة عددهم قد نجحوا في نشر نور الإسلام بين عدد ليس بالضئيل من خيرة السيدات،
والرجال الإنجليز.
يوجد في (ووكنج woking) إحدى ضواحي مدنية لندن جامع صغير يمثل
المركز الرئيسي للجالية الإسلامية في بريطانيا العظمى، ويُصْدِر إمام ذلك الجامع
مجلة شهرية تُدْعَى (المجلة الإسلامية والهند المسلمة) ، ومع أني لست ممن
يرتاحون إلى هذه المجلة نظرًا لخلطها في كثير من الأحايين الدين بالسياسة، فإنه
لا يسعني إلا الاعتراف بالخدمة الإسلامية الجليلة التي قامت بها في زمن لا يتجاوز
ثلاث سنوات والفضل كل الفضل يرجع إلى حضرة رئيس تحريرها إمام الجامع
المشار إليه وإلى أعوانه.
ولقد تلقيت العدد الأخير منها (عدد يناير سنة 1915) فوجدت فيه الخبر
المفرح الآتي:
(في يوم الأحد الماضي 20 ديسمبر 1914 عقدت الجمعية الإسلامية
البريطانية اجتماعًا خطب فيه رئيسها سيف الرحمن اللورد هدلي، وقد اعتنقت
الإسلام سيدة أخرى وهي السيدة إلينور أني ساكسبي، ومنذ الأسبوع الماضي قد
أضفنا إلى قائمة الأخوة الإسلامية النامية باستمرار أسماء ثلاثة أشخاص من
الإنجليز) .
وفي (هذا) العدد نفسه كتابان عن اعتناق الدين الإسلامي أحدهما من سيدة
إنجليزية تُدْعَى آن بامغورد، والآخر من أحد أفاضل الإنجليز وهو المستر إرنست
أوتن، وكلاهما ممتلئ بعبارات تستحق التأمل والدرس وخصوصًا من سادتنا
المتفرنجين الذين ينسون تعاليم دينهم العالية بمجرد امتزاجهم بالإفرنج، ونظرًا
لضيق نطاق المنار الأغر، ولعدم سعة وقتي أكتفي بترجمة كتاب السيدة المشار
إليها.
وهذا تعريبه:
(سيدي محرر صحيفة المجلة الإسلامية والهند المسلمة.
لقد صرت في العهد الأخير بفضل مودة صديق مسلم أقرأ بانتظام أهم
المؤلفات الإسلامية، وأذكر بينها الكتب الشائقة التي وضعها السيد أمير علي
وخصوصًا نشرته عن حقوق النساء في الإسلام فإنها ذات قيمة كبيرة عندي.
ومما يستحق الذكر من المؤلفات الأخرى الممتعة التي شاقتني كثيرًا كتاب
(الهلال والصليب) تأليف خليل بك خالد، وكتاب (أسرار مصر والإسلام الخفية)
تأليف المستر ليدر، وكذلك فصل (البطل كنبي) [2] من قلم كارليل.
فكانت صفوة ونتيجة دراستي الدقيقة هذه أني امتلأت إعجابًا بمحمد - صلى
الله عليه وسلم - باعتباره نبيًّا ومصلحًا عظيمًا، وبديانته الديمقراطية السمحة التي
يهنيني ويريحني الآن اعتناقها.
هذا وإني أعترف بأن الديانة المسيحية المهذبة ديانة جليلة، إلا أني مع ذلك
لا يمكنني بأية حال أن أتجاهل أن الإسلام لا يعلم الناس أَسْمَى مبادئ المسيحية فقط
بل هو يمتاز أيضًا بدون أدنى شك بمزايا عظيمة لا توجد في المسيحية، وذلك في
مراميه الفلسفية، ومبادئه النفسية العالية، وفي القواعد الموضوعة لنظام اجتماعي
أدق وأصح.
لقد خطر في بالي أن أبعث بهذا الكتاب إلى جنابكم عسى أن لا يخلو علمكم
وعلم قراء مجلتكم الغراء بذلك من الفائدة.
وختامًا أتشرف بالإمضاء باسمي الإسلامي
... ... ... ... ... ... ... ... ... أمينة
... ... ... ... ... ... ... ... (الآنسة أ. بامغورلا)
كم كانت تكون هذه النتيجة السارة مضاعفة يا سيدي الأستاذ لو تم مشروع
الجامع الكبير المَنْوِي بناؤه في عاصمة الإمبراطورية الإنجليزية التي تضم تحت
رايتها الملايين من المسلمين في عدة من أنحاء العالم، ولست أدري لأي سبب
ضعفت همم المسلمين في مصر والهند وغيرهما من الأقطار الإسلامية عن مواصلة
التبرع لهذا المشروع الجليل؛ حتى يمكن تحقيقه في المستقبل العاجل.
وكم تكون النتيجة مضاعفة إذا وجد بين سراتنا من يعضد " دار الدعوة
والإرشاد " التعضيد اللائق بكلية عظيمة المقصد كهذه؛ حتى يتيسر لكم إرسال
الدعاة إلى هذه البلاد، وبفضل علمهم ومعرفتهم بالإنجليزية يرجى لهم حينئذ نجاح
كبير هنا، وخصوصًا إذا تيسر لهم إنشاء مجلة بالإنجليزية تشمل صفوة ترجمة ما
يصدر في كل عدد من (المنار) الزاهر.
وكم تكون النتيجة مضاعفة إذا هزت الأريحية الدينية أحد أمراء أو أغنياء
المسلمين فوهب نحوًا من خمسمائة جنيه أو أكثر في سبيل نقل " تفسير المنار " إلى
الإنجليزية، فإنه مما يؤسف له جدًّا أن تنتشر بهذه اللغة المؤلفات العديدة ضد
الإسلام، ولا ينقل إليها كتاب جليل هو دائرة معارف إسلامية مثل تفسير المنار
وما هذا بعزيز على أمراء المسلمين الذين نراهم من أجل الحرب الحاضرة يجودون
بمئات آلاف من الجنيهات، أفلا يوجد بينهم من يجود بجزء من مائة من ذلك في
سبيل نشر نور السِلْم والإسلام؟
إن من المغالطة أن يقال: إن الإنجليز مثلاً يمنعون أمراء الهند من عمل كهذا،
فإن إنكلترا معروفة بمنحها الحرية الدينية الكاملة لجميع رعاياها، وهذا ما لا ينكره
نفس أعدائها، بل كان هذا من جملة أسباب ولاء مسلمي الهند لها، فلا يُعْقَل أن
يتدخل رجال السلطة من الإنجليز في الهند في شأن ديني محض كهذا، أو يمنعوا
أميرًا هنديًّا مسلمًا من التبرع إذا شاء لما فيه صالح دينه.
وكذلك لا يُعْقَل أن يفعلوا ذلك في مصر، أو في غيرها من الممالك الإسلامية
التي لإنكلترا علاقة بها، وعلمنا وخبرتنا الماضية تؤكد ذلك.
إني أوافق فضيلتكم على أن تعلم العربية واجب على كل مسلم، وأن من
الحكمة جعل تعليمها إجباريًّا في جميع المدارس، والكليات، والجامعات الإسلامية
في كل قطر، حتى يتيسر لكل مسلم أن يعرف دينه من منبعه الأصلي، بغض
النظر عن العلم بآداب اللغة العربية الشريفة التي هي لغة القرآن الكريم؛ ولكن إذا
تأملنا في المسألة من وجهة التبشير فإننا نجد أن من الضروري أن يُنْقَل إلى اللغات
الأجنبية خبرة المؤلفات الإسلامية، وخصوصًا تفاسير القرآن الجليلة المشهودة
بسعة العلم، والدقة فيها، فإن هذا عماد المبشر المسلم في نشر دينه بين الإفرنج،
ومن العبث أن يقول المبشر الذي يريد اجتذاب القوم إليه: تعلموا يا قوم العربية أولاً
وبعدها أُطْلِعُكُم على القرآن، وأذكر لكم أصول الدين الإسلامي.
أما نقل القرآن الشريف إلى الإنجليزية، أو غيرها من اللغات الأوربية، فإني
أعده جُرْمًا من حيث إن ذلك يؤدي إلى إخفاء ما في لغة القرآن الشائقة من إعجاز
البيان، فضلاً عن أن الترجمة تظهر بشكل مشوه غريب يجعل الأوربي - الذي لا
يعرف آداب العربية - يعجب من كوننا نعتقد أن القرآن هو كلام الله جل شأنه! !
وإن أي مسلم يطلع على ترجمة القرآن لا يسعه إلا الضحك مع الأسف على الوقت
الذي أُنْفِقَ هباء في هذه الترجمة التي لا تؤدي إلى شيء ما من مرامي القرآن
العالية الحكيمة.
إني أعتقد أن الرجل المحسن الذي يهب مبلغًا كافيًا لترجمة تفسير عصري
مثل تفسير (المنار) - ويعلم الله أني لا أقول هذا مجاملة لكم، فإني لست من يخلط
الخصوصيات بالعموميات - الذي هو خلاصة كل علم راجح من دماغي إمامين
كبيرين، إنما يؤدي خدمة إسلامية وإنسانية فوق كل تقدير، ويَعْلَم أن هذا أمر
حيوي ماس كلُّ ذي علم بالمجتمع الأوربي، وكل من عنده غيرة على نشر الدين
القويم الداعي إلى المساواة، والإصلاح، وأسمى المبادئ الإنسانية.
وإني أُعِدّ من الاعتراضات الغريبة أن يقول قائل: إن نتيجة التبشير الإسلامي
ليست بنتيجة مرضية؛ لأن كثيرين ممن يعتنقون الإسلام لا يعتنون بالصلاة، أو
الصوم مثلاً، وهما من فراض الإسلام، ويفوت المعترض أن ذلك الأجنبي الذي
اعتنق الإسلام قد يجهل العربية، وربما لا يجد من يعلمه تعاليم دينه تفصيليًّا، وقد
يكون إسلامه مبنيًّا على نتيجة مطالعته وبحثه كما هو الغالب، أو قد يكون الباعث
له على التهاون في أداء فريضة الصلاة أو الصوم هو نفس الباعث للمسلم الأصلي
على إغفال ذلك، على أن بياني هذا ليس معناه أني أبرر ذلك التهاون.
هذا وإني على كل حال أعتقد أن الإيمان بمبادئ الإسلام - وإن تهاون المؤمن
في بعض الفرائض - ليس بخسارة للإسلام [3] ، وبعبارة أخرى إننا إذا استطعنا
إغراء الأجانب بالإقناع والدليل (وحملهم) على اعتناق الدين الإسلامي، ووجدنا
منهم إيمانًا كليًّا بمبادئه، وسيرًا على فرائضه، ورأينا منهم بعد ذلك إهمالاً في أداء
بعض الفرائض كما نرى من كثيرين من المسلمين الأصليين أنفسهم، فلسنا مع ذلك
إلا رابحين فلا ينبغي أن يحملنا هذا على الاستياء المتناهي لدرجة أن يقول قائل: إن
نتيجة كهذه للتبشير الإسلامي غير مرضية أو لا فائدة منها....!
إن رجال الإصلاح كثيرون وفضيلتكم في مقدمتهم، وقد بسطت لكم فيما تقدم
بعض آراء لا أشك في أنه يشاركني فيها جميع أعضاء الجالية الإسلامية في إنكلترا
ولكن إنفاذكم وإنفاذ غيركم من المصلحين لها يحتاج إلى " المال "، فهل نعيش نحن
المسلمين إلى الأبد نعلل أنفسنا بالنجاح والخير حينما نكتشف بابًا جديدًا لذلك، ثم
نفشل لأننا لا نجد مفتاحه، وهو غيرة وكرم أمرائنا وسراتنا؟ ؟
لقد صحت الحكمة القائلة: (إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم) ولو
وضعها كل مسلم نصب عينيه، وعمل بها لكان لنا من المنعة والعز ما نحسد عليه،
ولعل كلمتي هذه تصادف آذانًا واعية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... لندن في 15 يناير سنة 1915 ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غير متفرنج
(المنار)
نشكر للكاتب غيرته على دينه، وحسن ظنه بنا، ونوافقه على آرائه في
جملتها، ولكن مسألة الإيمان والعمل تحتاج إلى تفصيل وتمحيص، وأرى أن مسلمي
الهند أرجى لخدمة الإسلام من مسلمي مصر، وإن كان يظن بعض الناس أن
الإسلام في مصر أقوى منه في الهند علمًا وعملاً، فمسلمو الهند يعملون لنشر الدين
وخدمته، ويتعاون العلماء والأغنياء منهم على ذلك على ضعف فيه يُرجى أن
يقوى مع الزمان، ولم يوجد في مصر غني بذل مالاً لخدمة دينية محضة، ولا وُجد
عالم تصدى لخدمة دينية محضة جديدة إلا شيخنا الأستاذ الإمام في تصديه
لإصلاح التعليم في الأزهر وملحقاته إلى أن قام من قام بتأسيس الدعوة والإرشاد
وقد لقي هذا المشروع العظيم في مصر أشد المقاومة، وكانت مصلحة الأوقاف
الإسلامية قد نفحته بإعانة قليلة 550 جنيهًا في السنة، مع الوعد بمضاعفتها؛
ولكن وزارة الأوقاف الجديدة قد قطعت هذه الإعانة في هذا العام بعد أن منعت
نصف ما كان مقررًا للعام الماضي، ويظن كثير من المسلمين أن هذا بإيعاز من
الإنجليز، وأنا لا أظن هذا، بل أنا على رأيي القديم في الإنجليز، وهو أن المسلم
يستطيع أن يخدم دينه في بلادهم ومستعمراتهم بحرية قلما يجد مثلها عند غيرهم،
وما آفة الإسلام إلا منافقو أهله وجبناؤهم، وسيفضح ما نكتبه في تاريخ مشروع
الدعوة والإرشاد كثيرًا من هؤلاء المنافقين، ومنهم الذين لا يزالون يكيدون في الخفاء
لِيَحولوا دون مساعدة القصر له، وسيرى مسلمو العالم وغيرهم في هذا التاريخ
الذي هو تاريخ الإصلاح الإسلامي في هذا العصر مقارنة غريبة بين باشوات
الآستانة وباشوات مصر.
أما اقتراحكم ترجمة تفسير المنار بالإنجليزية فيقل في المسلمين من يبذل
المال له؛ لأن أكثر الأغنياء المسلمين أغبياء أخساء، وإنما يبذل بعضهم المال في
المشروعات العامة لأجل الجاه عند الحكام والأمراء، ولا يكاد هؤلاء يلتمسون في
مثل هذا العصر جاهًا، والأفراد العقلاء النبهاء منهم كثرت عليهم طرق البذل في
هذا العصر، ولعل هذا المشروع يُنَفَّذ في الهند يومًا ما، وإني أكاد أجزم بأن هذا
الاقتراح لو عرض على مثل الأمير الجوَّاد الشهير النواب محمد علي راجا محمود
آباد ممن يثق هو بقوله في بيان مكانة التفسير لأَنْفَذَه حالاً، وكيف لا وهو يهب
المدارس بالألوف من الجنيهات، أما أنا فلا أسعى إلى هذا الاقتراح؛ لأن التفسير
لي ولو كان لغيري لسعيت.
ولا أذهب بك بعيدا فهذا مولوي محمد إنشاء الله صاحب جريدة (وطن)
الهندية قد تبرع بمائة مجلد من كل جزء من هذا التفسير لِتُوَزَّع على المساجد في
البلاد العربية، فإذا أعان الله على إتمام التفسير، وإنفاذ تبرعه كانت قيمة ما يدفعه
زهاء ما اقترحت للترجمة، والله الموفق وبيده ملكوت كل شيء.
__________
(1) حذفنا من مكان النقط لقب " الأستاذ الإمام " الذي صار كالعلم لشيخنا رحمه الله تعالى، وإن كنا جرينا على نشر الرسائل والأسئلة بنصها لأسباب تاريخية وغير تاريخية.
(2) المراد من هذه العبارة: البطل النبي، أو البطل بصفة النبي أو من حيث هو نبي.
(3) يريد الكاتب أن ترك المهتدِي إلى الإسلام لبعض العبادات وإن كانت فرائض ليس بخسارة إذا كان صحيح الإيمان بعقائد الإسلام وأصوله.(18/73)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب الهند والعالم الإسلامي
بالشيخ شبلي النعماني
نعى إلينا بريد الهند أشهر علمائها، وأبعدهم شهرة وصيتًا صديقنا الشيخ شبلي
النعماني الملقب بشمس العلماء، صاحب المصنفات النافعة، واليد البيضاء في
الإصلاح، ختم الله تعالى حياته السعيدة في خاتمة العام الماضي (28 ذي الحجة)
وله من العمر 58 سنة، على ما يؤخذ من ترجمته في بعض الجرائد، فإن صح
هذا فقد مات في مثل سن الأستاذ الإمام التي مات فيها، إلا أنه كان لنحافة بدنه
وشيبته يظن أنه من أبناء السبعين، ولم يكن يظهر على الأستاذ الإمام مثل هذا
الكبر وإن عاجله الشيب في سن الشباب، ولعل رائيه كان يظن أنه لم يتجاوز
الخمسين، على أن كلاًّ من الشيخين اللذين تساويا في العمر مات وهو شاب في
علو الهمة، وقوة العزيمة والنشاط في السعي إلى الإصلاح.
كان الشيخ شبلي عالمًا مستقلاًّ لا عالمًا رسميًّا مقلدًا، وكان كأكثر العلماء
المستقلين، والحكماء المصلحين، أستاذ نفسه، وتلميذ همته، تلقى قليلاً عن
الأساتذة؛ ولكنه بجده واجتهاده صار أشهر نوابغ علماء الهند في هذا العصر. نعم
إن فيهم من يُعَدُّون أوسع منه علمًا واطلاعًا في علوم الحديث والفقه والأصول؛
ولكن قلما يوجد من يماثله أو يقاربه في القدرة على نفع الناس بتعليم هذه العلوم أو
التأليف فيها، ولا نعرف له ثَم ضريبًا في إتقان اللغة العربية، وطول الباع،
وحسن الذوق في فهم منثورها ومنظومها، والقدرة على الكتابة في الموضوعات
المختلفة فيها، فأكثر علماء الهند وغيرها من الأعاجم المتأخرين لا يقدرون على
الكتابة العربية الفصيحة إلا قليلاً، وإنما قصارى ما يأتي منهم أن يكتبوا شرحًا أو
حاشية لبعض الكتب المشهورة، أو يؤلفوا رسالة أو كتابًا جديدًا في بعض العلوم
التي يكثرون مدارستها كالفقه والأصول والمنطق والحديث، بحيث يكون جُل ما
يكتبونه مقولاً بنصه من الكتب المؤلفة في ذلك، ومن تجاوز ذلك منهم إلى منظوم
أو منثور كثر غلطه وتكلفه وجاء بالغَثّ الذي لا يكاد يُفْهَم، وأما الشيخ شبلي فقد
كان من نوادر المجيدين منهم: كان قادرًا على الكتابة العربية السليمة من كلفة
العجمة في العلوم والفنون والأدب والتاريخ، كما يُعْلَم من نقده تاريخ التمدن
الإسلامي وغيره.
كان رحمه الله تعالى أمة وسطًا بين أولي التفريط الجامدين على التقاليد
القديمة، وبين أهل الإفراط من المفتونين بالتقاليد الحديثة، إذ كان صاحب مشاركة
صالحة في العلوم الإسلامية تمكنه من التدريس والتأليف فيها بطريقة استقلالية إذا
شاء، وصاحب مشاركة في العلوم الكونية من رياضية وطبيعية واجتماعية عَرَفَ
بها حال هذا العصر، وما يحتاج إليه المسلمون فيه، وقد أتقن علم التاريخ إتقانًا
لعله لا يوجد في العالم الإسلامي كله من يساويه فيه الآن، وقد دخل في أعمال
الحكومة ثم تركها، واشتغل بالتعليم في مدرسة العلوم الكلية في عليكره على عهد
مؤسسها السيد أحمد خان الشهير، وكان من أصدقائه، واشتغل بأمر الجمعيات
العلمية، وساح في الممالك والأقطار، فكان بعلومه وأعماله، وسعة تجاربه
واختباره، وبما أوتيه قبل ذلك من ذكاء الذهن، وعلو الهمة، ومضاء العزيمة،
جديرًا بأن يكون من زعماء الإصلاح، وأن يقوم في وجهه من الخصوم من ينبزه
بلقب الإفساد، ويرميه بالكفر والإلحاد، كما هي سنة الله تعالى في العباد،
وسيعرف أهل وطنه من قيمته بعد وفاته، ما لم يعرفوه له أو يعترفوا به في حال
حياته، وسنذكر في الجزء الثاني ما وصل إلينا من ترجمته، وما يعن لنا من
البحث فيها، والاعتبار بها، رحمه الله تعالى وأحسن عزاء البلاد الهندية والأمة
الإسلامية عنه.
__________(18/79)
ربيع الآخر - 1333هـ
مارس - 1915م(18/)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
كتاب مدارج السالكين
كلام الصوفية في الوقت
من الجزء الثالث من كتاب مدارج السالكين
قال: ومنها الوقت. قال صاحب المنازل (باب الوقت)
قال الله تعالى {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (طه: 40)
الوقت اسم لظرف الكون، وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معانٍ على ثلاث
درجات [1] : المعنى الأول [2] حين وجد [3] صادق لإيناس ضياء فضل جذبه صفاء
رجاء أو [4] لعصمة جذبها صدق خوف، أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) وجه
استشهاده بالآية أن الله سبحانه قدر مجيء موسى أحوج ما كان الوقت إليه، فإن
العرب تقول: جاء فلان على قَدَر. إذا جاء وقت الحاجة إليه، قال جرير:
نال الخلافة إذ كانت على قَدَر ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَر
وقال مجاهد: على موعد، وهذا فيه نظر لأنه لم يسبق بين الله سبحانه
وبين موسى موعد للمجيء؛ حتى يقال إنه أتى على ذلك الموعد؛ ولكن وجه هذا
أن المعنى جئت على الموعد الذي وعدناه أن ننجزه، والقدر الذي قدرناه أن يكون
في وقته، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ
رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} (الإسراء: 107-108) لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال
نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورًا وهدى، فلما سمعوا القرآن علموا أن الله
أنجز ذلك الوعد الذي وعد به، واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم،
لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع
وأجدر، كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه، وكما إذا وقع الفَرَج في وقته
الذي يليق به.
ومن تأمل أقدار الرب تعالى، وجريانها في الخلق علم أنها واقعة في أليق
الأوقات بها، فَبَعَث الله سبحانه موسى أحوج ما كان الناس إلى بعثته، وبعث
عيسى كذلك، وبعث محمدًا صلى الله (عليه وعليهم أجمعين) أحوج ما كان أهل
الأرض إلى إرساله، فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له أحوج ما كان
إلى عمارته.
قوله: (الوقت ظرف الكون) الوقت عبارة عن مقارنة حادث لحادث عند
المتكلمين، فهو نسبة بين حادثين، فقوله ظرف الكون أي وعاء التكوين فهو
الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين، كما أن ظرف المكان هو الوعاء المكاني
الذي يحصل فيه الجسم؛ ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك. قال أبو
علي الدقاق: الوقت ما أنت فيه، فإن كنت في الدنيا، فوقتك الدنيا، وإن كنت
بالعقبى، فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور، فوقتك سرور، وإن كنت بالحزن،
فوقتك الحزن. يريد أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله، وقد يريد أن
الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل، وهو اصطلاح أكثر الطائفة، ولهذا
يقولون: الصوفي والفقير ابن وقته. يريدون أن همته لا تتعدى وظيفة عمارته بما
هو أولى الأشياء به، وأنفعها له، فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة
الراهنة، فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه، بل بوقته الذي هو فيه، فإن الاشتغال
بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الحاضر، وكلما حضر وقت انشغل عنه
بالطرفين فتصير أوقاته كلها فواتًا.
قال الشافعي (رضي الله عنه) : صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا
بكلمتين: سمعتهم يقولون: الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم
تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، قلت: يا لهما كلمتين ما أنفعهما، وأجمعهما،
وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته! ويكفي هذا ثناء من الشافعي على طائفة هذا
قدر كلماتهم.
وقد يريدون بالوقت ما هو أخص من هذا كله، وهو ما يصادفهم في تصريف
الحق لهم دون ما يختارونه لأنفسهم. ويقولون: فلان بحكم الوقت. أي مستسلم لما
يأتي من عند الله من غير اختيار، وهذا يحسن في حال، ويَحْرُم في حال،
وينقص صاحبه في حال، فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا
نهي، بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي كالفقر،
والمرض، والغربة، والجوع، والألم، والحر، والبرد، ونحو ذلك، ويَحْرُم في
الحال التي يجري عليه فيها الأمر، والنهي، والقيام بحقوق الشرع، فإن التضييع
لذلك، والاستسلام، والاسترسال مع القدر انسلاخ من الدين بالكلية، وينقص
صاحبه في حال تقتضي قيامًا بالنوافل، وأنواع البر، والطاعة، وإذا أراد الله
بالعبد خيرًا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدًا له، وإذا أراد به شرًّا جعل وقته
عليه، وناكده وقته فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده [5] الوقت، والأول كلما
همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده.
وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام: أصحاب السوابق، وأصحاب
العواقب، وأصحاب الوقت وأصحاب الحق، قال:
(فأما أصحاب السوابق) فقلوبهم أبدًا فيما سبق لهم من الله، لعلمهم أن
الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد، ويقولون: مَن أقصته السوابق لم تدنه
الوسائل ففكرهم في هذا أبدًا، ومع ذلك فهم يجدون في القيام بالأوامر، واجتناب
النواهي، والتقرب إلى الله بأنواع القرب غير واثقين بها ولا ملتفتين إليها، يقول
قائلهم:
من أين أرضيك إلا أن توفقني ... هيهات هيهات ما التوفيق من قِبَلي
إن لم يكن لي في المقدور سابقة ... فليس ينفع ما قدمت من عملي
وأما (أصحاب العواقب) فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم، فإن الأمور
بأواخرها، والأعمال بخواتيمها، والعاقبة مستورة كما قيل:
لا يغرنك صفا الأوقات ... فإن تحتها [6] غوامض الآفات
فكم من ربيع نورت أشجاره، وظهرت أزهاره، وزهت ثماره، لم يلبث أن
أصابته جائحة سماوية فصار كما قال الله عز وجل {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} (يونس: 24) إلى قوله:
{يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24) فكم من مريد كَبَا بِهِ جواد عزمه (فخر صريعًا لليدين
والفم) وقيل لبعضهم وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه: ما الذي أصابك فقال
حجاب وقع، وأنشد:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟
تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب
الناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة:
خذ من الألف واحدًا ... واطرح الكل بعده
وأما (أصحاب الوقت) فلم يشغلوا [7] في السوابق، ولا في العواقب بل
اشتغلوا بمراعاة الوقت، وما يلزمهم من أحكامه، وقالوا: العارف ابن وقته [8] لا
ماضي له، ولا مستقبل، ورأى بعضهم الصديق رضي الله عنه في منامه، فقال:
أوصني، فقال له: كن ابن وقتك.
وأما (أصحاب الحق) فهم مع صاحب الوقت، والأزمان، ومالكهما،
ومدبرهما، مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات، ولا يتفرغون لمراعاة وقت
وزمان كما قيل:
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلَّى
إن للعاشقين عن قصر لليل ... وعن طوله من العشق شغلا
قال الجنيد: دخلت على السري يومًا فقلت له كيف أصبحت فأنشأ يقول:
ما في النهار ولا في الليل لي فرج ... ولا أطال الليل أو قصر
ثم قال: ليس عند ربكم ليل ولا نهار. يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات، بل هو مع الذي يقدر الليل والنهار.
***
فصل
قال صاحب المنازل: (الوقت اسم في هذا الباب لثلاثة معان: المعنى الأول
حين وَجْد صادق) أي وقت وجد صادق. أي زمن وجد يقوم بقلبه وهو صادق
فيه غير متكلف له ولا متعمل في تحصيله (يكون متعلقه إيناس ضياء فضل) أي
رؤية ذلك، والإيناس الرؤية قال الله تعالى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ
آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} (القصص: 29)
وليس هو مجرد الرؤية، بل رؤية ما يأنس به القلب ويسكن إليه، ولا يقال لمن
رأى عدوه أو مخوفًا " آنسه "، ومقصوده أن هذا الوقت وقت وجد صاحبه صادق
فيه لرؤية ضياء فضل الله ومَنِّه عليه، والفضل هو العطاء الذي لا يستحقه المعطى
أو يعطى فوق استحقاقه، فإذا آنس هذا الفضل، وطالعه بقلبه أثار ذلك [9] فيه وجدًا
آخر باعثًا على محبة صاحب الفضل، والشوق إلى لقائه، فإن النفوس مجبولة
على حب من أحسن إليها، ودخلت يومًا على بعض أصحابنا وقد حصل له وجد
أبكاه فسألته عنه فقال: ذكرت ما مَنَّ الله به عليّ من السنة ومعرفتها، والتخلص
من شُبَه القوم، وقواعدهم الباطلة، وموافقة العقل الصريح، والفطرة السليمة لما
جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسرني ذلك حتى أبكاني. فهذا الوجد
أثاره إيناس فضل الله ومَنِّه.
قوله: (جذبه صفاء رجاء) أي جذب [10] ذلك الوجد، أو الإيناس، أو
الفضل رجاء صافٍ غير مكدر، والرجاء الصافي هو الذي لا كدر يشوبه [11] بوهم
معاوضة منك، وأن عملك هو الذي بعثك على الرجاء، فصفاء الرجاء يخرجه [12]
من ذلك بل يكون رجاء محضًا لمن هو مبتدئ بالنعم من غير استحقاق، والفضل
كله له ومنه، وفي يده أسبابه، وغاياته، ووسائله، وشروطه، وصرف موانعه.
كل بيد الله لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئًا بدون توفيقه وإذنه ومشيئته.
ويلخص ذلك أن الوقت في هذه الدرجة الأولى عبارة عن وجد صادق سببه
رؤية فضل الله على عبده، لأن رجاءه كان صافيًا من الأكدار.
قوله: (أو لعصمة جذبها صدق خوف) اللام في قوله أو لعصمة معطوف
على اللام في قوله أو لإيناس ضياء فضل، أي وجد لعصمة جذبها صدق خوف،
فاللام ليست للتعليل بل هي على حدها في قولك: ذوق لكذا، ورؤية لكذا. فمتعلق
الوجد عصمة، وهي منعة وحفظ ظاهر وباطن جذبها صدق خوف من الرب
سبحانه، والفرق بين الوجد في هذه الدرجة والتي قبلها أن الوجد في الأولى جذبه
صدق الرجاء، وفي الثانية جذبه صدق الخوف، وفي الثالثة التي تذكر جذبه صدق
الحب، فهو معنى قوله: (أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) ، وخدمته التورية
في اللهيب، والاشتعال، والمحبة متى قويت اشتعلت نارها في القلب فحدث عنها
لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب، وهذه الثلاثة التي تضمنتها هذه الدرجة، وهى
الحب، والخوف، والرجاء، هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأَوْلَى
لصاحبه، والأنفع له، وهي أساس السلوك، والسير إلى الله، وقد جمع الله سبحانه
الثلاثة في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 57)
وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية، وعليها دارت رحى الأعمال، والله أعلم.
***
فصل
قال: (والمعنى الثاني [13] اسم لطريق سالك يسير بين تمكن وتلون؛ لكنه إلى
التمكن ما هو يسلك الحال، ويلتفت إلى العلم، فالعلم يشغله [14] في حين، والحال
يحمله في حين، فبلاؤه بينهما يذيقه شهودًا طورًا ويكسوه عبرة طورًا، ويريه غيرة
تفرق طورًا) هذا المعنى هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت
عنده، قوله: (اسم لطريق سالك) هو على الإضافة أي لطريق عبد سالك، قوله:
(يسير بين تمكن وتلون) أي ذلك العبد يسير بين تمكن وتلون، والتمكن هو الانقياد
إلى أحكام العبودية بالشهود والحال، والتلون في هذا الموضع خاصة هو الانقياد
إلى أحكام العبودية بالعلم، فالحال يجمعه بقوته وسلطانه، فيعطيه تمكينًا، والعلم
يلونه بحسب متعلقاته، وأحكامه، قوله: (لكنه إلى التمكن ما هو يسلك الحال،
ويلتفت إلى العلم) يعني أن هذا العبد هو سالك إلى التمكن ما دام يسلك الحال،
ويلتفت إلى العلم [15] ، فأما إن سلك العلم والتفت إلى الحال لم يكن سالكًا إلى التمكن،
فالسالكون ضربان: سالكون على الحال ملتفتون إلى العلم، وهم إلى التمكن أقرب،
وسالكون على العلم ملتفتون إلى الحال وهم إلى التلون أقرب، هذا حاصل
كلامه.
وهذه الثلاثة هي المفرقة بين أهل العلم، وأهل الحال، حتى كأنهما غيران
وحزبان، وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى، ولا تعاشرها إلا على إغماض،
ونوع استكراه، وهذا من تقصير الفريقين، حيث ضعف أحدهما عن السير في
العلم، وضعف الآخر عن الحال في العلم، فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين
الحال والعلم، فأخذ هؤلاء العلم، وسعته، ونوره، ورجحوه، وأخذ هؤلاء الحال،
وسلطانه، وتمكينه، ورجحوه، وصار الصادق الضعيف من الفريقين يسير
بأحدهما ملتفتًا إلى الآخر، فهذا مطيع للحال [16] ، وهذا مطيع للعلم؛ لكن المطيع
للحال متى عصى به العلم كان منقطعًا محجوبًا، وإن كان له من الحال ما عساه أن
يكون، والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعًا منقوصًا مشتغلاً
بالوسيلة عن الغاية، وصاحب التمكين يتصرف علمه في حاله، ويحكم عليه،
فينقاد لحكمه، ويتصرف حاله في علمه فلا بد أن يقف معه، بل يدعوه إلى غاية
العلم فيجيبه ويلبي دعوته، فهذه حال الكُمَّل من هذه الأمة.
ومن استقرأ أحوال الصحابة وجدها كذلك، فلما فرق المتأخرون بين الحال
والعلم دخل عليهم النقص، والخلل، والله المستعان {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ
لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى: 49-50) فكذلك يهب لمن يشاء علمًا، ولمن يشاء حالاً، ويجمع
بينهما لمن يشاء، ويخلي من يشاء منهما.
قوله: (فالعلم يشغله في حين) أي يشغله عن السلوك إلى تمكن الحال؛ لأن
العلم متنوع التعلقات فهو يُفَرِّق، والحال يُجَمِّع، فإنه يدعوه إلى الفناء، وهناك
سلطان الحال، قوله: " والحال يحمله في حين " أي يغلب عليه الحال تارة فيصير
محمولاً بقوة الحال وسلطانه على السلوك فيشتد [17] سيره بحكم الحال، يعني وإذا
غلبه العلم شغله عن السلوك، وهذا هو المعهود من طريقة المتأخرين (إن العلم
يشغل عن السلوك) ، ولهذا يعدون السالك من سلك على الحال ملتفتًا إلى العلم،
وأما على ما قررناه من أن العلم يعين على السلوك، ويحمل عليه، ويكون صاحبه
سالكًا به، وفيه فلا يشغله العلم عن سلوكه، وإن أضعف سيره على درب الفناء،
فلا ريب أن العلم لا يجامع الفناء، فالفناء ليس هو غاية السالكين إلى الله، بل ولا
هو لازم من لوازم الطريق، وإن كان عارضًا من عوارضها يعرض لغير الكُمَّل -
كما تقدم تقرير ذلك - فبينا أن الفناء الكامل الذي هو الغاية المطلوبة، الفناء عن
محبة ما سوى الله وإرادته، فيفنى بمحبة الله عن محبة ما سواه، وبإرادته،
ورجائه، والخوف منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه عن إرادة ما سواه، وخوفه،
ورجائه، والتوكل عليه، وهذا الفناء لا ينافي العلم بحال، ولا يشغل عن العلم ولا
يحول بين العبد وبينه، بل قد يكون في أغلب الأحوال من أعظم أعوانه، وهذا
أمر غفل عنه أكثر المتأخرين بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه؛ ولكن لم يُخل الله
الأرض من قائم به، داعٍ إليه.
قوله: (فبلاؤه بينهما) أي عذابه وألمه بين داعي الحال، وداعي العلم،
فإيمانه يحمله على إجابة داعي العلم، ووارده يحمله على إجابة داعي الحال،
فيصير كالغريم بين مطالبين، كل منهما يطالبه بحقه وليس بيده إلا ما يقضي
أحدهما، وقد عرفت أن هذا من الضيق، وإلا فمع السعة يوفي كلا منهما حقه.
قوله: (يذيقه شهودًا طورًا) أي ذلك البلاء الحاصل بين الداعيين يذيقه
شهوده طورًا، وهو الطور الذي يكون الحاكم عليه فيه هو العلم.
قوله: (ويكسوه عبرة طورًا) الظاهر أنه عِبْرَة بالباء الموحدة والعين، أي
اعتبارًا بأفعاله، واستدلالاً عليه بها، فإنه سبحانه دل على نفسه بأفعاله، فالعلم
يكسو صاحبه اعتبارا، واستدلالاً على الرب بأفعاله.
ويصح أن يكون عيرة بالعين المهملة [18] ، والياء المثناة من تحت ومعناه أن
العلم يكسوه عيرة [19] من حجابه عن مقام صاحب الحال، فيعار من [20] احتجابه
عن الحال بالعلم، وعن العيان بالاستدلال، وعن الشهود الذي هو مقام الإحسان
بالإيمان الذي هو إيمان بالغيب.
قوله: (ويريه غيرة تفرق طورًا) هذا بالغين المعجمة ليس إلا، أي ويريه
العلم غيرة تفرق في أوديته، فَيُفَرِّق بين أحكام الحال، وأحكام العلم، وهو حال
صحو وتمييز، وكأن الشيخ - رحمه الله - يشير إلى أن صاحب هذا المقام يغار
تفرقه [21] من جمعيته على الله، فنفسه تفر من الجمعية على الله إلى تفرق العلم،
فإنه لا أشق على النفوس من جمعيتها على الله، فهي تهرب من الله إلى الحال تارة
وإلى العمل تارة، وإلى العلم تارة، هذه نفوس السالكين الصادقين، وأما من ليس
من أهل هذا الشأن فنفوسهم تفر من الله إلى الشهوات والراحات، فأشق ما على
النفوس جمعيتها على الله، وهي تناشد صاحبها أن لا يوصلها إليه، وأن يشغلها بما
دونه، فإن حبس النفس على الله شديد، وأشد منه حبسها على أوامره، وحبسها
عن نواهيه، فهي دائمًا ترضيك بالعلم عن العمل، وبالعمل عن الحال، وبالحال
عن الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر لا يعرفه إلا من شد مئزر سيره إلى الله، وعلم
أن كل ما سواه فهو قاطع عنه.
وقد تضمن كلامه في هذه الدرجة ثلاث درجات - كما أشار إليه -: درجة
الحال، ودرجة العلم، ودرجة التفرقة بين الحال والعلم، وهذه الثلاث درجات [22]
هي المختصة بالمعنى الثاني من معاني الوقت، والله أعلم.
***
فصل
قال: والمعنى الثالث [23] قالوا: الوقت الحق أرادوا به استغراق رسم الوقت
في وجود الحق، وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي لكنه اسم [24] في هذا
المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفًا لا وجودًا محضًا، وهو فوق البرق
والوجد، وهو يفارق [25] مقام الجمع لو دام وبقي، ولا يبلغ وادي الوجود؛ لكنه
يلقي [26] مؤنة المعاملة، ويصفي عين المسامرة، ويشم روائح الوجود.
هذا المعنى الثالث من معاني الوقت أخص مما قبله، وأصعب تصورًا
وحصولاً، فإن الأول وقت سلوك يتلون، وهذا وقت كشف يتمكن، ولذلك أطلقوا
عليه اسم الحق لغلبة حكمه على قلب صاحبه، فلا يحس برسم الوقت بل يتلاشى
ذكر وقته من قلبه لما قهره من نور الكشف.
فقوله: (قالوا الوقت هو الحق) يعني أن بعضهم أطلق اسم الحق على الوقت،
ثم فسر مرادهم بذلك، وأنهم عنوا به استغراق رسم الوقت في وجود الحق،
ومعنى هذا أن السالك بهذا المعنى الثالث إذا شهد استغراق وقته في وجود الحق
يتلاشى عنه وقته بالكلية، وتقريب هذا إلى الفهم أنه إذا شهد استغراق وقته
الحاضر في ماهية الزمان فقد استغرق الزمان رسم الوقت إلى ما هو جزء يسير
جدًّا من أجزائه، وانغمر فيه كما تنغمر القطرة في البحر، ثم إن الزمان المحدود
الطرفين يستغرق رسمه في وجود الدهر، وهو ما بين الأزل والأبد، ثم إن الدهر
يستغرق رسمه في دوام الرب جل جلاله، وذلك الدوام هو صفة الرب، فهناك
يضمحل الدهر، والزمان، والوقت ولا يبقى له نسبة إلى دوام الرب جل جلاله
البتة، فاضمحل الزمان، والدهر، والوقت في الدوام الإلهي، كما تضمحل الأنوار
المخلوقة في نوره، كما يضمحل علم الخلق في علمه، وقدرهم في قدرته،
وجمالهم في جماله، وكلامهم في كلامه [27] بحيث لا يبقى للمخلوق نسبة ما إلى
صفات الرب جل جلاله.
والقوم إذا أطلق أهل الاستقامة منهم (ما في الوجود إلا الله) أو (ما ثم
موجود على الحقيقة إلا الله) أو (هناك يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل)
ونحو ذلك من العبارات، فهذا مرادهم لا سيما إذا حصل هذا الاستغراق في الشهود
كما هو في الوجود، وغلب سلطانه على سلطان العلم، وكان العلم [28] مغمورًا
بوارده، وفي قوة التمييز ضعف، وقد توارى العلم بالشهود، وحكم الحال، فهناك
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، وتزل أقدام كثيرة إلى الحضيض الأدنى، ولا
ريب أن وجود الحق سبحانه ودوامه يستغرق وجود كل ما سواه، ووقته، وزمانه،
بحيث يصير كأنه لا وجود له، ومن هنا غلط القائلون بوحدة الوجود، وظنوا أنه
ليس لغيره وجود البتة، وغرهم كلمات مشتبهات جرت على ألسنة أهل الاستقامة
من الطائفة فجعلوها عمدة لكفرهم وضلالهم، وظنوا أن السالكين سيرجعون إليهم،
وتصير طريقة الناس واحدة {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32) .
وقوله: (وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي) يريد أن الحق سابق [29]
على الاسم [30] الذي هو الوقت، أي هو منزه عن أن يُسمى بالوقت، فلا ينبغي
إطلاقه عليه، لأن الأوقات حادثة.
قوله: لكنه اسم في هذا المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفًا لا
وجودًا محضًا تلاشي الرسوم اضمحلالها وفناؤها، والرسوم عندهم ما سوى الله،
وقد صرح الشيخ أنها إنما تتلاشى في الكشف، لا في الوجود العيني الخارجي،
فإن تلاشيها في الوجود خلاف الحس والعيان، وإنما تتلاشى في وجود العبد الكشفي
بحيث لا يبقى فيه سعة للإحساس بها لما استغرقه من الكشف، فهذه عقيدة أهل
الاستقامة من القوم.
وأما الملاحدة أهل وحدة الوجود، فعندهم أنها لم تزل متلاشية في عين وجود
الحق، بل وجودها هو نفس وجوده، وإنما كان الحس بين الوجودين فلما غاب عن
حسه بكشفه تبين أن وجودها هو عين وجود الحق؛ ولكن الشيخ كأنه عَبَّر بالكشف
والوجود عن المقامين اللذين ذكرهما في كتابه، والكشف هو دون الوجود عنده،
فإن الكشف يكون مع بقاء بعض رسوم صاحبه فليس معه استغراق في الفناء
والوجود لا يكون معه رسم باقٍ، ولذلك قال (لا وجودًا محضًا) فإن الوجود
المحض عنده يُفني الرسوم، وبكل حال فهو يفنيها [31] من وجود الواجد لا يفنيها في
الخارج.
وسر المسألة الواصل إلى هذا المقام يصير له وجود آخر غير وجوده الطبيعي
المشترك بين الموجودات، ويصير له نشأة أخرى لقلبه وروحه نسبة النشأة
الحيوانية إليها كنسبة النشأة في بطن الأم إلى هذه النشأة المُشَاهَدَة في العالم،
وكنسبة هذه النشأة الأخرى.
فللعبد أربع نشآت: نشأة في الرحم حيث لا بصر يدركه، ولا يد تناله،
ونشأة في الدنيا، ونشأة في البرزخ، ونشأة في المعاد الثاني [32] ، وكل نشأة أعظم
من التي قبلها، وهذه النشأة للروح والقلب أصلاً، وللبدن تبعًا، فللروح في هذا
العالم نشأتان: (إحداهما) الطبيعية المشتركة (والثانية) نشأة قلبية روحانية يُولَد
لها قلبه، وينفصل من مشيمة طبعه، وكما وُلد بدنه، وانفصل من مشيمة البطن،
ومن لم يصدق بهذا، فليُضرب عن هذا صفحًا، وليشتغل بغيره. وفي كتاب الزهد
للإمام أحمد أن المسيح - عليه السلام - قال للحواريين: إنكم لن تلجوا ملكوت
السماء حتى تُولَدُوا مرتين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول:
هي ولادة الأرواح، والقلوب من الأبدان، وخروجها من عالم الطبيعة كما وُلِدَت
الأبدان من البدن، وخرجت منه، والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة، والله
أعلم.
قوله: (وهو فوق البرق والوجد) يعني أن هذا الكشف الذي تلاشت فيه
الرسوم فوق منزلتي البرق والوجد؛ فإنه أثبت وأدوم، والوجود فوقه لأنه يشعر
بالدوام، قوله: (وهو يشارف مقام الجمع لو دام) أي لو دام هذا الوقت لشارف
مقام الجمع، وهو ذهاب شعور القلب بغير الحق سبحانه شُغلاً به عن غيره، فهو
جمع في الشهود، وعند الملاحدة هو جمع في الوجود، ومقصوده أنه لو دام الوقت
بهذا المعنى الثالث لشارف حضرة الجمع لكنه لا يدوم.
قوله: (ولا يبلغ وادي الوجود) يعني أن الوقت المذكور لا يبلغ السالك فيه
وادي الوجود حتى يقطعه، ووادي الوجود هو حضرة الجمع، قوله: (لكنه يلقي
مؤنة المعاملة) يعني أن الوقت المذكور، وهو الكشف المشارف لحضرة الجمع
يخفف عن العامل أثقال المعاملة من قيامه بها أتم القيام، بحيث تصير هي الحاملة،
فإنه كان يعمل على الخبر فصار يعمل على العين، هذا مراد الشيخ، وعند الملحد
أنه يفنى عن المعاملات الجسمانية، ويَرُدّ صاحبه إلى المعاملات القلبية، وقد تقدم
إشباع هذا المعنى.
قوله: (ويصفي عن المسامرة) المسامرة عند القوم هي الخطاب القلبي
الروحي بين العبد وربه، وقد تقدم أن تسميتها بالمناجاة أولى، فهذا الكشف يخلص
عن المسامرة من ذكر غير الحق سبحانه ومناجاته.
وقوله: (ويشم رائحة الوجود) أي صاحب مقام هذا الوقت الخاص يشم
روائح الوجود وهو حضرة الجمع؛ فإنهم يسمونها بالجمع والوجود، ويعنون بذلك
ظهور وجود الحق سبحانه وفناء وجود ما سواه. وقد عرفت أن فناء وجود ما
سواءه بأحد اعتبارين: إما فناؤه من شهود العبد فلا يشهده، وإما اضمحلاله
وتلاشيه بالنسبة إلى وجود الرب، ولا تلتفت إلى غير هذين المعنيين فهو إلحاد
وكفر والله المستعان.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قال في المتن (وهو على ثلاث درجات) .
(2) وقال فيه: الدرجة الأولى.
(3) وفيه (وجد وجه) إلخ.
(4) سقطت هذه الجملة من نسخة المتن.
(5) سقط من قوله (وإذا أراد به شرا) إلى هنا - فنقلناه من ب.
(6) لعل الأصل (فتحتها) فَبِهِ يستقيم الوزن، أو أن كلمة صفاء ممدودة، وربما كانت العبارة سجعًا؛ ولكنها كتبت في ب كما يكتب الشعر.
(7) قال في ب بالفكر في السوابق.
(8) وفيها (الفقر لا ماضي له) إلخ.
(9) في ب (بذلك) .
(10) وفيها (جذبه) .
(11) كانت العبارة عندنا ناقصة فصُححت على ب.
(12) في ب (يخلصه) .
(13) في المتن (الدرجة الثانية) .
(14) في ب (يستعمله) .
(15) سقطت هذه الجملة من ن فأثبتناه من ب.
(16) في ن (إلى الحال) وهو غلط.
(17) وفيها (فيشتمل) .
(18) في ب زيادة (بالغين المعجمة) .
(19) وفيها (غيرة) .
(20) وفيها (فيعار حتمًا احتجابه) إلخ.
(21) وفيها (تفرقته) .
(22) كان الظاهر أن يقال: الثلاث الدرجات.
(23) وفي المتن (الدرجة الثالثة) .
(24) وفيه (لكنه هو اسم) .
(25) وفيه وفي ب وفيه (يشارف) وهو الصواب.
(26) وفيها وفيه (يكفي) .
(27) لعل الأصل: وكمالهم في كماله.
(28) في ب (وكان القلب) .
(29) وفيها (سبحانه) بدل (سابق) وهو غلط.
(30) وفيها (هذا اسم) إلخ.
(31) وفيها (ينشيها) وهو غلط.
(32) كلمة الثاني من زيادة ب.(18/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استفتاء أدباء العصر
في بيت من الشعر
ذهب ذاهب، بل كتب كاتب يقول في البيت المشهور الجامع لعيوب الخطيب
في أول كتاب البيان والتبيين للجاحظ:
مليء ببُهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحة عُثنون وفَتْل الأصابع
إن ضبط التفات، وما عطف عليه بالجر غلط، صوابه الرفع فيها كلها على أن
(التفات) مبتدأ حُذِف خبره، وما بعده معطوف عليه، فإن كان يوجد أحد يجيز فهمه
وذوقه للغة هذا الضبط فليتفضل ببيان ذلك لنا.
__________(18/120)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(4)
والحق أن الأعصاب كلها تربط أجزاء الجسم بعضها ببعض، كما تربط
أسلاك التلغراف بعض الممالك بالبعض الآخر.
تذييل لما تقدم
في الإرادة والروح والقوى العقلية
قلنا إن سبب حركة القلب لا يعلمه أحد إلا الله تعالى، فهي من الخواص التي
وهبها له، وكذلك وهب مثل هذه الحركة الذاتية للخلايا ذات الأهداب المبطنة
لبعض الأغشية كالشعب الرئوية، وللخلايا المتحركة ككريات الدم البيضاء وغيرها،
ولكن هناك فرقًا بين حركة هذه وتلك؛ فإن حركة الكريات لا نظام لها بخلاف
حركة الأهداب فإنها في غاية النظام، وسريعة جدًّا، وهي في انتظامها تشبه انتظام
ضربات القلب، فكل هذه الخلايا تتحرك حركة ذاتية لا يعلم لها سبب مطلقًا، وإن
كان للبيئة تأثير فيها بمثل الزيادة أو النقصان، ولكن نفس الحركة كأنها بإرادة هذه
الخلايا الحية، والحق أنها من أعظم مظاهر إرادتها وحياتها، وهي عامة في كل
الخلايا، نباتية كانت أو حيوانية؛ ولكنها تكون أظهر في بعضها من البعض الآخر
أو تكون كامنة فيه، وهي أدل على إرادة بعضها من بعضها.
ومعنى كون هذه الحركة بإرادة الخلية أنها من عملها الذاتي الذي لا يظهر أن
للبيئة تأثيرًا في إيجاده وإنشائه، فمثلاً تشاهد الكريات البيضاء أو بعض
الميكروبات تتحرك في السائل الواحد، ثم تسكن، ثم تتحرك بدون أي سبب
خارجي، وأحيانًا تتجه إلى جهة ثم تعدل عنها إلى غيرها وهكذا، أي أن عملها
يختلف في البيئة الواحدة، ولا معنى للإرادة سوى هذا.
وكذلك المخ قد يبدأ العمل، ثم يتركه بدون أي سبب خارجي، لا في الحال
ولا في الماضي بحسب ما نعلم، بل بمحض الإرادة والاختيار، وإن عارض ذلك
كثير من الفسيولوجيين.
فالحق أن الإرادة وحرية العمل، هي أكبر خواص الأحياء، وهي أعظم ما
يميزها عن الجماد، وأما زعم بعضهم أن الأعمال كلها ليست إلا أفعالاً منعكسة فهو
لا يمكن إثباته، وما هذا الزعم إلا أثر من آثار التعاليم المادية في نفوسهم.
هذا ولما كانت حياة الجسم كله متوقفة على حياة القلب، فلا يبعد أن تكون
الروح شيئًا مستقرًّا فيه، ولا يبعد أن تكون من عالم الأثير، وبموت القلب تنفصل
عنه، ولا نقول إن الخلايا الأخرى حية بغير شيء كهذا، بل نقول إن حياة القلب
أو روحه هي أكبرها وأعظمها؛ ولذلك قلنا إن روحه هي روح الإنسان؛ لأن عليها
مدار حياته، فهي الروح الرئيسة وغيرها تابع لها.
واعلم أن القشرة السنجابية للمخ هي مركز الشعور العام والإدارة والتعقل،
وإن كان لكل الخلايا الحية مثل هذه الصفات، إلا أنها فيها في الحالة الأثرية، كما
أن الانقباض هو من خواص الخلايا الحية كلها؛ ولكنه في خلايا العضلات أظهر
منه في غيرها، وهكذا يقال في سائر الخواص الأخرى للحياة.
وهناك علاقة كبرى بين قوة المخ فيما ذكر وبين حجمه، وإذا قارنَّا وزنه
بوزن الجسم كله وجدنا أن مخ الإنسان أكبرها بالنسبة إلى جسمه، أما أكبر الأمخاخ
على الإطلاق فهو مخ الفيل والحوت.
ثم إنك تجد أن مخ الذكي أثقل من مخ البليد والأبله، ومخ الرجل أثقل من مخ
المرأة، وقل مثل ذلك في الراقي في العلم والأدب مع المنحط، إلا ما يستثنى من
ذلك.
وكذلك كثرة التلافيف في القشرة السنجابية، وتعقد تعاريجها، وعمق
الميازيب التي بينها كلها أشياء تختلف باختلاف القوى العقلية، فهي تكثر في
الإنسان وتقل أو تنعدم في الحيوانات التي هي دونه رقيًّا، وعند ولادة الطفل يكاد
المخ يكون غفلاً منها، ثم تكثر إلى زمن الشباب والكهولة، وبعده تقل تدريجيًّا حتى
تقارب في أرذل العمر شكل مخ الأطفال.
ويلي مخ الإنسان في كثرة التلافيف وتعقدها مخ بعض أنواع القردة.
ففي المخ روح الإدراك والشعور، وفي القلب روح الحياة ولا يبعد أنهما
أجزاء من روح واحدة، وهذه روح الأحياء ذات الخلية الواحدة (وتسمى الأولى) ،
موزعة على جميع أجزائها بالتساوي، وكلما ارتقينا في سلم الأحياء وجدنا أنها
موزعة على الجسم بدرجات متفاوتة، كما ترى في الإنسان، والله أعلم، {وَمَا
أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
***
المجموع الدوري للدم
ليس الدم في أجسام الحيوانات واقفًا، بل هو دائر فيها، ولله في ذلك حكمتان
رئيستان، عليهما مدار حياة الحيوان:
(أولهما) توزيع المواد الغذائية وغيرها كالأدوية على جميع أجزاء
الجسم، وكذلك توزيع الأكسجين الذي هو ضرورة للاحتراق الداخلي (التفاعل
الحيوي) .
(وثانيهما) حمل جميع المواد المتخلفة عن التفاعل الحيوي إلى
الأعضاء المختصة بإخراجها من الجسم لضررها عن طريق الكليتين، ومن ذلك
أيضًا حمل ثاني أكسيد الفحم إلى الرئتين لإخراجه إلى الهواء.
والأعضاء المختصة بحركة الدم هي القلب والشرايين والأوعية الشعرية
والأوردة.
أما القلب فهو جسم مخروطي الشكل موضوع في الصدر بين الرئتين أعلى
الحجاب الحاجز وقاعدته إلى الجانب الأعلى الأيمن، وقمته إلى الأسفل الأيسر وهو
محاط بغلاف مصليّ يسمى الشغاف ويسميه الأطباء المتأخرون من العرب
بالتامور.
وفي القلب أربع غرف اثنتان علويتان واثنتان سفليتان، فالأوليان تسميان
أذينين والأخريان تسميان بطينين.
أما الأذين الأيمن ففيه ينفتح (الأجوف الأعلى) و (الأجوف الأسفل) وهما وريدان
عظيمان يجتمع فيهما الدم من الجسم كله ومن البطين الأيمن يخرج شريان كبير
يحمل الدم إلى الرئتين.
وفي جُدُر الأذين الأيسر أربع فتحات لأربعة أوردة: اثنان منها آتيان من
الرئة اليمنى، واثنان من الرئة اليسرى.
ومن البطين الأيسر يخرج شريان عظيم يسمى بالإفرنجية Aorta (أورطى)
وبالعربية الأبهر، وهو أكبر شريان في الجسم يحمل الدم في فروعه إلى جميع
أجزاء الجسم.
وبين الأذين الأيمن والبطين الأيمن فتحة لها صمام (غطاء) يسمح بمرور
الدم من الأولى إلى الثانية، ولا يسمح بالعكس.
وبين الأذين الأيسر والبطين الأيسر فتحة لها صمام أيضًا؛ ولكنها أصغر من
الفتحة المتقدمة ووظيفتها كوظيفة تلك.
وكل من الشريان الرئوي والأبهر له ثلاثة صمامات تسمح بمرور الدم من
القلب إلى الشريان، ولا تسمح بالعكس.
وأعظم أمراض القلب هي التي ينشأ عنها تلف هذه الفتحات بحيث تضيق عن
المعتاد، أو تسمح برجوع الدم إلى عكس المجرى الطبيعي.
والقلب ينقبض من أعلى إلى أسفل؛ فينقبض أولاً الأذينان؛ فيندفع الدم منهما
إلى البطينين، ثم ينقبض البطينان؛ فيندفع الدم منهما إلى الشريان الرئوي من
الجهة اليمنى للقلب، ويندفع الدم إلى الأبهر من الجهة اليسرى للقلب.
وإذا اجتمع الدم الفاسد في الأوردة سار إلى الأجوف الأعلى، والأجوف
الأسفل، وانصب في الأذين الأيمن، ومنه إلى البطين الأيمن، ومنه إلى الشريان
الرئوي، فالرئتين لينصلح هناك (بخروج ثاني أكسيد الفحم منه، ودخول أكسجين
فيه من الهواء) ثم يعود الدم من الرئتين في الأوردة الأربعة التي تصب في الأذين
الأيسر، ومن الأذين الأيسر يندفع الدم إلى البطين الأيسر، ومنه إلى الأبهر
(الأورطى) ومن الأبهر يوزع على جميع أجزاء الجسم كافة، فيحمل إليها دمًا
صالحًا، وتنتهي جميع فروع الأبهر بعروق دقيقة جدًّا يتصل بعضها ببعض كشبكة
وهذه العروق هي المسماة بالشعرية تشبيهًا لها بالشعر، وينشأ منها أوردة صغيرة
(وهي العروق التي يتجمع فيها الدم بعد مروره على جميع أجزاء الجسم ولونه أسود)
وهذه الأوردة الصغيرة يجتمع بعضها ببعض؛ فيتألف منها أوردة أكبر فأكبر حتى
تنتهي إلى الأجوف الأعلى والأجوف الأسفل، وهما أعظم وريدين في الجسم.
ومن ذلك يُعلم أن الشريان هو العرق الحامل للدم الصالح، والوريد هو العرق
الحامل للدم الفاسد، وهذه التسمية صحيحة في الجسم كله ماعدا الشريان الرئوي
فإنه يحمل دمًا فاسدًا، وما عدا الأوردة الأربعة الرئوية؛ فإنها تحمل دمًا صالحًا،
ولذا رأى المشرحون تعريفًا آخر أصح، وهو أن الشريان هو كل عرق يحمل الدم
الخارج من القلب، والوريد كل عرق يحمل الدم الذاهب إلى القلب بقطع النظر عن
صلاحه أو فساده.
ومما تقدم يُعلم أن الدم في دورته في الجسم كله لا يخرج مطلقًا عن العروق
(الشرايين والأوعية الشعرية والأوردة) إلا إذا أصابها حادث تمزقت بسببه فيخرج
إذًا منها، وينسكب حولها، ويسمى ذلك بالرض أو الكدم [1] ، وهو الزرقة التي
تشاهد في الجسم عند ضربه أو اصطدامه بجسم صلب.
ويستثنى من ذلك موضعان ليس فيهما أوعية شعرية، فيسير الدم من
الشرايين إلى تجاويف فيهما، ومنها إلى الأوردة وهما الذكر والطحال، وانصباب
الدم في هذه التجاويف بكثرة في الذكر تُحْدِث انتصابه.
أما الأشياء الصالحة التي في الدم فتخرج مع مائية الدم من خلال جدر
الأوعية الشعرية لتعذية جميع خلايا الجسم.
وأما الكريات الدموية فهي التي تبقى دائمًا في داخل العروق، إلا في الأحوال
الالتهابية، والمواد المائية الخارجة من الأوعية الشعرية تفعل ذلك بطريقة الإسموز
الذي سبق بيانه في علم الطبيعة.
عدد ضربات القلب والنبض:
انقباضات قلب الإنسان تبلغ في الدقيقة الواحدة نحو 70 أو 72 مرة في الذكر
ونحو 80 في الأنثى، وهي في الأجنة والأطفال أكثر منها في غيرهم، وتقل في
الشيوخ، وقد تزيد هذه الانقباضات في كثير من الأحوال، كما في الخوف الشديد
وفي الحميات وغير ذلك، وقد تكون هذه الانقباضات أو الضربات قليلة في بعض
الأشخاص بدون مرض، وهي تضعف في بعض الأمراض وخصوصًا قبيل الموت،
والدورة الدموية تتم في أقل من نصف دقيقة.
وكلما انقبض القلب اندفع الدم منه إلى الشرايين؛ فيحدث فيها امتلاء فجائيًّا
وهو المسمى بالنبض، وهو الذي يجسه الأطباء فوق الرسغ وغيره لمعرفة حالة
ضربات القلب، والنبض لا يُشْعَر به عادة في الأوردة؛ لأن قوة الضغط إذا
وصلت إلى الأوعية الشعرية التي بين الشرايين والأوردة تكون قد قلت، حتى لا
يشعر الإنسان في الأوردة بضغط جديد متكرر كما في الشرايين، وعدد مرات
النبض في الشرايين تعادل تمامًا مرات ضربات القلب وتحدث بعدها مباشرة، إلا
أنها في الشرايين البعيدة تتأخر فترة قصيرة جدًّا عن ضربات القلب.
الدم:
يوجد في جسم الإنسان عادة 1/13 من وزن جسمه دماء، فيكون القدر الذي
في جسم الكهل المعتاد 5 إلى 6 لترات من الدم، وهو سائل أحمر اللون غليظ
يتركب ميكروسكوبيًّا من قسمين الأول الكريات، والثاني ماء الدم وهو المسمى
بالإفرنجية (plasma) .
أما الكريات فهي نوعان: كريات حمراء وهي عبارة عن غشاء رقيق ممتلئ
بمادة حمراء زلالية فيها جزء من الحديد تسمى (الهيموجلبين) ، ويختلف شكل هذه
الكريات الحمراء باختلاف الحيوانات، ففي ذوات الثدي تكون أقراصًا مستديرة
مقعرة من الجانبين ولا نواة لها، ما عدا الجمال فإن كراتها محدبة من الجانبين،
وهو الفرق الوحيد بينها وبين الحيوانات الأخرى الثديية.
أما في الطيور والزواحف والأسماك وذوات الحياتين، وهي التي تعيش في
الهواء والماء [2] ، كالضفادع فكرياتها جميعًا بيضاوية الشكل محدبة من الجانبين،
ولها نواة وحجم هذه الكريات كلها يختلف باختلاف الحيوانات، وأعظم منشأ
للكريات الحمراء هو العظام الإسفنجية كما سبق، وخصوصًا عظام الضلوع وهي
أهم مصدر لها.
وأما الكريات البيضاء، فهي خلايا حيوية ولها نواة واحدة أو أكثر وحركة
ذاتية، بحيث يمكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بنفسها، وهي تنشأ من الغدد
اللمفاوية ونحوها كالطحال، وأعظم وظيفة لها أنها تقتل الميكروبات، وتأكلها فتنقي
الدم منها، فإذا أصاب جزءًا من الجسم عارض أحدث فيه التهابًا، ودخل فيه بعض
الميكروبات أسرعت هذه الكريات البيضاء إليها؛ فالتقمتها وقتلتها فإن تغلب
الميكروبات مرض الجسم، وإن نجحت الكريات في قتالها وقت الجسم من شر هذه
الميكروبات، وما يموت منها في أثناء هذا القتال يتجمع في موضع الالتهاب
مختلطًا بغيره، ويسمى بالمِدّة أو الصديد، فأكثر كريات المدة عبارة عن شهداء
هذي الحرب، أي كرات بيضاء ميتة.
أما عدد الكريات الحمراء في الجسم، فهو 5 ملايين كُرية في كل ملليمتر
مكعب من الدم تقريبًا، وأما البيضاء فهي من سبعة آلاف إلى عشرة، وسيأتي في
فصل التنفس الكلام على وظيفة الكريات الحمراء.
وإذا خرج الدم من العروق تجمد، وتجمده يحصل هكذا:
ينفصل من مائية الدم مادة تسمى (الفبرين) أو (الليفين) لأنها كخيوط
الليف؛ فتحيط هذه الألياف بالكريات البيضاء والحمراء، وتنقبض عليها وتكوِّن
الجزء المتجمد الذي يسمى بالعربية العلقة [3] (clot) ، وما بقي من ماء الدم
يسمى المصل.
وفي الدم مواد زلالية وسكر (جلوكوز) وأملاح عديدة، ومواد دهنية، وماء
وغير ذلك أما مائية الدم إذا خففت بماء أكثر أو قلَّ، زلالها فتسمى اللمف.
ومما تقدم يُعلم أن الدم في دورته يحمل معه جميع المواد المغذية التي يحتاجها
الجسم، وكذلك يأخذ معه من الجسم المواد التالفة التي تخلفت عن الاحتراق
الجثماني؛ ليوزعها على الأعضاء المختصة بإخراجها من الجسم كالجلد والكُليتين،
وأهم هذه المواد التالفة البولينا، وحامض البوليك والكرياتينين وغير ذلك.
حكم تحريم شرب الدم في الشرائع الإلهية:
(أولها) : أن الدم عسر الهضم جدًّا، حتى أنه إذا انصب جزء منه في
المعدة تقيأه الإنسان، أو يخرج مع البراز بدون هضم على صورة مادة لزجة سوداء،
والسبب في عسر هضمه هذا هو وجود المادة الحمراء الحديدية التي فيه، وفي
أثناء مرور الدم في القناة الهضمية يتحلل ويتعفن؛ وبذلك يضر الجسم أيضًا ومسألة
عسر هضمه المذكورة هنا مشاهدة كثيرًا كلما انصب دم في المعدة بسبب جرح أو
غيره.
(ثانيها) : أن الدم - كما سبق - يحمل كثيرًا من المواد المتخلفة عن الجسم
وهي فضلات له، فلا يصح إعادتها إليه، مع أن الطبيعة اقتضت خروجها منه،
نعم قيل إن البولينا نافعة في السل الرئوي؛ ولكن ذلك لم يثبت إلى الآن، وهي
ليست موجودة وحدها، بل معه أشياء أخرى ضارة.
ولعله إذا ثبت أن البولينا نافعة يكون ذلك أحد أسباب شرب العرب بول
الإبل، وهو يختلف بعض الاختلاف عن بول الحيوانات آكلة اللحم؛ فلهذا ربما
كان نافعًا في بعض الأمراض كما ورد في بعض الأخبار النبوية.
وأعظم اختلاف بين هذا البول وبين الأبوال الأخرى أنه هو وغيره من أبوال
آكلات النباتات قلوي التأثير، مشتمل على كثير من الكربونات، وهي لا شك نافعة
للمعدة وغيرها، مدرة للبول.
(ثالثها) : أنه في كثير من الأمراض العفنة المعدية يوجد في الدم ميكروبات
ضارة جدًّا، وكذا سمومها القتالة؛ فإنها تدور في الدم، فإن قيل لم لا يطبخ الدم
ويؤكل بعد قتل هذه الميكروبات بالغلي، قلت:
1- إن الغلي يجمد جميع المواد الزلالية التي في الدم؛ وبذلك تصير أشد عسرًا
مما كانت.
2- إن من هذه السموم ما لا يتغير بالغلي تغيرًا يجعلها صالحة للجسم.
3- إن بعض الميكروبات إذا تجمد ما حولها من المواد الزلالية التي في الدم
وقتها من فعل النار؛ لأنها موصلة رديئة للحرارة، وأيضًا فإن حبيبات (أي
بزور) الميكروبات تقاوم درجة الغليان بضع دقائق، فإذا لم تمت نمت في جسم
آكل الدم وأمرضته.
أما حقن دم الحيوان في وريد الإنسان، ففيه أنه قد ينقل المرض إليه، أو
يجمد الدم في عروقه، فإن اتقينا هذا وذاك بالطرق العلمية انحلت كريات الدم
الحمراء لاختلاف كثافة الدمين ولغير ذلك ونزلت حمرة الدم في البول وذلك ضياع
له.
ولذلك لا يحقن الأطباء الآن الدم، ويحقنون عادة محلول ملح الطعام، على
أن حقن الدم خارج عن موضوع التحريم.
اللمف والأوعية اللمفاوية:
إذا خرجت مائية الدم من الأوعية إلى أنسجة الجسم عادت إلى الدم ثانية
بطريق الأوعية اللمفاوية، وهذه الأوعية عبارة عن قنوات دقيقة شعرية منتشرة في
جميع أجزاء الجسم، وفيها صمامات عديدة؛ فتحمل جميع مائية الدم التي خرجت
منه وتعيدها إليه.
أما هذه المائية المخففة [4] والمالئة لجميع أجزاء الجسم، فهي المسماة (بالمادة
اللمفاوية) و (لمفا) كلمة لاتينية معناها الماء.
وجميع الأوعية اللمفاوية التي في الذراع الأيمن، ونصف الصدر الأيمن وما
حوى، ونصف الرأس والعنق الأيمن، وأعلى سطح الكبد كلها تجتمع وتصب في
قناة واحدة تسمى (القناة اللمفاوية اليمنى) وهذه تصب في أحد الأوردة التي في
داخل الصدر من أعلى الجانب الأيمن.
أما الأوعية اللمفاوية الباقية فتصب في قناة أخرى عظيمة تسمى (القناة
الصدرية) ، وهي أيضًا تصب في أحد الأوردة في أعلى الصدر من الجهة اليسرى.
ويوجد في طريق جميع هذه الأوعية اللمفاوية غدد من مادة مخصوصة تسمى
(الغدد اللمفاوية) ، ووظيفتها تكوين كريات بيضاء للدم وتصفية جميع المادة
اللمفاوية المارة بها من كل ما فيها من الميكروبات وغيرها، فإذا أصاب أحد أصابع
اليد جرح مثلاً فسد؛ بسبب وجود ميكروبات فيه أحس الإنسان بانتفاخ وألم في
إبطه، وذلك ناشىء من كبر حجم هذه الغدد وانفعالها انفعالاً شديدًا لقتل الميكروبات
الواصلة إليها، فإن تغلبت عليها وإلا تحولت إلى خُرَّاج بسبب موت كثير من
الكريات البيضاء التي فيها من عراكها مع الميكروبات كما سبق.
وهذه المادة اللمفاوية تندفع نحو القلب بسبب ضغط المواد اللمفاوية المتجددة
خلفها، وبسبب حركات العضلات، وأيضًا بسبب انقباض بعض هذه الأوعية
اللمفاوية على ما فيها وغير ذلك، ويمنع رجوع هذه المادة إلى الأنسجة ما في هذه
الأوعية من الصمامات العديدة.
ويوجد في بعض الحيوانات التي تحت رتبة الإنسان (وهي الواطئة)
كالضفادع مثلاً قلوب لتحريك هذه المادة اللمفاوية كقلب الدم الموجود في الإنسان
وغيره.
دم الحيض:
ينشأ دم الحيض من تمزق في أوعية الدم الموجودة في الغشاء المخاطي
المبطن للرحم في كل شهر قمري مرة على الغالب، ويختلط هذا الدم في أثناء
نزوله بمواد مخاطية وأحماض وغير ذلك من مفرزات الرحم وغيره، ولا يعلم
سبب هذا التمزق الشهري إلى الآن، ومن ذلك يُفْهَم أنه ليس دمًا صافيًا نقيًّا، بل
مختلطًا بمفرزات الرحم والمبيضين وغيرهما، وتأثيره في ورق عباد الشمس يدل
على حموضته؛ وإنما حُرِّم الجماع في زمن الحيض للأسباب الآتية:
1- إن تهييج أعضاء الأنثى بالجماع في هذا الوقت قد يحدث احتقانًا،
فالتهابات رحمية أو مبيضية أو حوضية تضر بصحتها ضررًا بليغًا، وربما نشأ
عن هذا الالتهاب تلف في المبيضين أو مجاري البيوضة يؤدي إلى العقم، وأيضًا فإن
تعريض الأنثى للهواء في هذا الوقت يضر بأعضائها الداخلية وقد يحدث فيها التهابًا.
2- إن دخول مواد الحيض في مجرى قضيب الرجل قد يحدث فيه التهابًا
صديديًّا في بعض الأحيان، وهذا الالتهاب يشبه السيلان، وقد يمتد إلى الخصيتين
فيؤذيهما وربما نشأ عن ذلك أيضًا عقم الرجل.
فجملة القول: أن الجماع في المحيض قد يُحْدِث عقمًا في الذكر والأنثى،
ويؤدي إلى التهاب أعضائهما الذي يفسد صحتهما، وكفى بذلك ضررًا؛ ولذلك تجد
أطباء العالم المتمدن الآن ينهون عن الجماع في ذلك الوقت، كما نهى القرآن عنه،
فإنه لا شك أذى للرجل والأنثى.
النزف والنزيف:
النزف معناه: خروج الدم من أوعيته (الشرايين والأوعية الشعرية والأوردة)
والنزيف: هو الدم المنزوف، والنزف ثلاثة أنواع:
1- نزف إلى خارج الجسم كأن ينصب الدم على الأرض مثلاً.
2- نزف في تجاويف الجسم كأن ينصب في البطن.
3- نزف في داخل الأنسجة كأن ينصب تحت الجلد، أو في العضلات وهذا
النوع الأخير هو المسمى بالرض، أو الكدم كما سبق.
وسبب النزف هو تمزق العروق بسبب ما كحادث يقطع العرق، أو مرض
يفجره كالدرن أو الزهري أو مرض القلب.
أما النزيف الذي يكون خارج الجسم، أو في تجويفه فالغالب أنه ينتهي
بالموت إذا كان غزيرًا، بشرط أن لا يعوقه عائق يسد العرق الذي يخرج منه الدم،
ففي هذه الحالة لا يموت الشخص، وإنما يصاب بدوار شديد واصفرار، وبعد ذلك
تعود إليه صحته شيئًا فشيئًا كلما تجدد دم بدل الجزء المفقود.
وأما النوع الثالث وهو الذي ينسكب في أنسجة الجسم، فهذا في الغالب لا
يورث ضررًا كبيرًا؛ لأن كمية الدم تكون عادة قليلة بسبب ممانعة أنسجة الجسم
للنزيف، وقد يحدث في مكان الدم خُرّاج.
أما في الحالة الأولى والثانية؛ فإذا فُقِدَ دم كثير من الجسم اشتد الدوار
والاصفرار كما قلنا، ويصاب الإنسان بما يسمى في علم الطب بالهبوط (أو الهمود)
فيغمى عليه، ويضعف نبضه، ويصاب الجسم بعرق بارد، وتبرد الأطراف،
وبعد ذلك يموت الشخص، وقد يتشنج جسمه قبيل الموت.
وأما في النزف داخل الأنسجة؛ فيزرق الجلد إذا كان الدم المنسكب قريبًا منه،
وبعد بضعة أيام تأخذ هذه الزرقة في التلاشي تدريجيًّا، حتى يعود الجسم كما كان
ذلك بأن يمتص الدم المنسكب شيئًا فشيئًا، حتى يعود إلى العروق، وإن كان منحلاًّ
إلا أنه يتركب مرة أخرى في البنية فإن عناصره لم تفقد.
المعالجة:
إذا قُطع عرق انكمش بسبب مرونته، وانقبض فمه بسبب الألياف العضلية
الموجودة في جداره، فيمتنع بذلك النزف إذا كان العرق المقطوع صغيرًا، أما إذا
كان عظيمًا فلا بد من عمل الإنسان لإيقاف النزيف، وإلا هلك الشخص.
ويوجد عدة طرق لإيقاف النزيف بعضها مؤقتة، وبعضها دائمة.
أما المؤقتة فتنحصر في الضغط على المكان الذي يخرج منه الدم، أو ربط
العضو ربطًا شديدًا، مثال ذلك أنا إذا رأينا رجلاً طُعن بسكين في ذراعه، وشاهدنا
دمًا كثيرًا ينزف منه وجب علينا في الحال أن نبحث في الجرح عن مكان خروج
هذا الدم، ونضغط عليه ضغطًا شديدًا بأصابعنا أو بيدنا أو نربط الذراع فوق الجرح.
ولا يترك الضغط أو الربط حتى يحضر الطبيب لإيقاف النزيف بالطرق
العلمية، ولا ضرر إذا استمر الضغط بضع ساعات؛ فإن العضو لا يموت من
الضغط إلا إذا امتنع عنه الدم فوق أربع أو ست ساعات.
وأما الطرق العلمية لإيقاف النزيف فأعظمها، وأهمها ما يأتي:
1- أن يمسك العرق المفتوح بجفت مخصوص لذلك (أي مقبض) [5] ، ويربط العرق بخيط من حرير أو نحوه مطهرًا تطهيرًا تامًّا بالغلي في الماء.
2- أن يمسك العرق بالجفت، ثم يلوى الجفت عدة مرات، حتى ينقطع العرق
وبهذه الوسيلة يقف النزيف ما لم يكن الشريان عظيمًا فيفضل ربطه.
3- أن يمسك العرق إن كان صغيرًا بالجفت، ويترك عليه بضع دقائق، ثم
يرفع الجفت؛ فيقف أيضًا النزيف.
4- وما يُستعمل في الأوعية الشعرية أو الصغيرة جدًّا هو أن يوضع على
مكان النزف قطعة من الثلج أو شيء آخر بارد؛ فتنكمش الأنسجة، والعروق
فيبطل النزيف.
5- أن يوضع على مكان النزف ماء حميم (شديد الحرارة) أو يكوى بشيء
محمي بالنار، وقد كان القدماء يوقفون النزيف في الأعضاء المبتورة بوضعها في
الزفت حينما يغلي، ولكنها طريقة وحشية.
6- أن يحشى المكان الذي ينبعث منه الدم حشوًا جيدًا بقطن أو قماش،
ويربط ربطًا شديدًا، وهذه الطريقة تستعمل كثيرًا في إيقاف الأنزفة من الأعضاء
الغائرة التي لا يمكن ربط عروقها كالرحم مثلاًَ.
7- أن يوضع على الجرح مواد قابضة، إما مسحوقة، أو محلولة بالماء
أو بغيره كالشب، والقرض، ومغلي الشاي، ومغلي الرمان، والعفص، وماء
الجير وأملاح المعادن كالحديد والنحاس، وغير هذا كثير، وهذه الطريقة قَلَّ أن
تستعمل الآن إلا في الأوعية الصغيرة أو الشعرية.
8- إذا كان النزف من داخل الأحشاء كالرئة أو المعدة، يجب أن يستلقي
المريض على ظهره، ويمتنع عن كل حركة حتى الكلام، ويوضع الثلج على
العضو الذي ينزف منه الدم، ثم يستدعى الطبيب في الحال.
وأحسن ما يعطيه الطبيب في مثل هذه الأحوال هو مركبات الأفيون
والجويدار (وهو مادة فطرية تسلقية تنمو على نوع من الشعير يسمى الشيلم)
وكلوريد الكلسيوم وغيرها، وهذه الأدوية توقف النزيف، إما بإضعاف ضربات
القلب، أو بقبض أوعية الدم، أو بجعل الدم أقرب إلى التجمد مما كان.
أما النزف في داخل تجاويف الجسم كالبطن مثلاً إذا تمزق عضو فيه؛
فيعرف ذلك بحصول هبوط شديد عقب الإصابة مباشرة أو بعدها بقليل، واصفرار
زائد في جميع الجسم، وصغر في النبض، ومعنى ذلك أن يشعر الإنسان المتمرن
بأن الأوعية الدموية ليست بممتلئة بالدم كالمعتاد، وإذا جس البطن في مكان
الإصابة وجد فيه انتفاخًا وألمًا وأصمية يعرفها الطبيب عند القرع، وإذا كانت
المعدة أو الأمعاء هي المصابة تقيأ الشخص دمًا أو وجد في برازه؛ وإذا كانت
الإصابة في الكُلية وما يتبعها بال الشخص دمًا.
فهذه العلامات وأمثالها تدلنا على النزيف الداخلي، فالإسعاف الواجب في مثل
هذه الحالة أن يُلقى الشخص على الأرض، وترفع كل الوسائد من تحت رأسه
وتدفأ أطرافه السفلى، ويؤمر بالامتناع عن كل حركة حتى الكلام، ولا بأس من
وضع شيء بارد على البطن إذا كانت الإصابة فيه.
ثم يستدعى الطبيب في الحال، ولا حيلة للطبيب في مثل هذه الحالة إلا عمل
عملية عظمى بأسرع ما يمكن، وفيه يفتح البطن وتربط الأوعية النازفة، وتخاط
جميع الجروح، وينظف البطن من الدم الذي انسكب فيه.
أما علاج النزف تحت الجلد، أو في العضلات فيكون بوضع أشياء مبردة
على موضع الإصابة؛ فإنها تقبض الأوعية، وتعوق النزف أو تمنعه، وإذا لم
توجد هذه الأشياء المبردة، فالأحسن ربط العضو فإن ذلك أيضًا يوقف النزف
بسبب الضغط، ويجب إراحة العضو المرضوض كمال الراحة.
ومن الخطأ وضع الأشياء الدافئة على المكان المرضوض والدلك في أول
الأمر؛ فإن ذلك مما يزيد في النزف، ولا بأس من وضع الأشياء الدافئة بعد مضي
عدة أيام لمساعدة امتصاص الدم المنسكب.
أما علاج البنية بعد إيقاف النزيف فيكون كما يأتي:
يوضع الشخص بحيث يكون الرأس منخفضًا عن باقي الجسم، ويدفأ تدفئة
تامة، وتدلك أطرافه، ويستحسن أن تلف بلفائف من أسفل إلى أعلى، والغرض
من ذلك كله دفع الدم إلى الدماغ، ثم يُعطى كميات كبيرة من المرق أو اللبن أو
الماء ليشربه، وتعطى له أيضًا بعض المنعشات، وأحسنها الخمر والقهوة والشاي
أو محلول النوشادر المخفف (من 10 إلى 20 نقطة) أو الأثير (من 10 إلى 30
نقطة) ويحترس من تصاعد الأثير في الهواء؛ فإنه إذا وصلت إليه النار أحدث
فرقعة عظيمة خطرة، وكذلك إذا استنشقه شخص بمقدار عظيم تحصل له غيبوبة
تامة.
وللطبيب في هذه الحالة أن يحقن المصاب تحت الجلد بمادة الإستركنين
(بمقدار مليجرام إلى ثلاثة) أو بسترات القهوين أو البنين (بمقدار ربع أو نصف
جرام) ويحقن أيضًا بمحلول ملح الطعام بنسبة سبعة جرامات ونصف في كل لتر
(أي قدر ملعقتين صغيرتين في رطلين من الماء تقريبًا) ، ويحقن برطلين إلى ثلاثة
فأكثر من هذا المحلول تحت الجلد، أو في الشرج أو في الأوردة، والغرض من
هذا الحقن ملء أوعية الدم بسائل بدل الدم المنزوف؛ ليستمر القلب في عمله،
وليتغذى الدماغ بما بقي من الدم في الجسم، ويسمى ذلك المحلول بمحلول الملح
الطبيعي أو بالمصل الصناعي.
ويجب الاحتراس من عمل هذه الأدوية المنعشة، والحقن المالئة للعروق قبل
إيقاف النزيف بالطرق العلمية السابقة، وإلا فإن النزف يعود ثانية إذا امتلأت
العروق بالسوائل وانتعش القلب، ويكون في هذه الحالة أشد خطرًا على الشخص.
ويقسم النزف باعتبار وقت حصوله إلى ثلاثة أقسام:
1- ابتدائي: وهو الذي يحصل من الإصابة نفسها.
2- انتعاشي: وهو الذي يحدث بعد انتعاش الجسم إذا لم تربط الأوعية.
3- ثانوي: وهو الذي يحصل بعد مضي 24 ساعة من حصول الإصابة؛
بسبب أن الطرق التي أجريت لإيقاف النزيف لم تكن محكمة، أو كانت عفنة، أو
كان الشخص مصابًا بالزهري أو غيره، فيُفَك الخيط الذي رُبط به الشريان أو
يسقط، أو يتقرح الشريان المربوط بسبب عدم تطهير الخيط، أو يحدث غير ذلك
غالبًا، ولا يتدفق النزف الشرياني، ولون الدمين مختلف، فالشرياني أحمر،
والوريدي يميل إلى السواد، ويعالج قبل حضور الطبيب بربط العضو من أسفل
الجرح، لا من أعلاه، وباقي العلاج هو كما في النزف الشرياني.
الرعاف:
الرعاف نزف يحصل من باطن الأنف وأسبابه عديدة تنحصر في نوعين:
1- أسباب عرضية: وهي التي تحدث من إصابة الأنف بصدمة أو غيرها تجرحها أو تكسر عظامها.
2-أسباب مرضية: وهي أيضًا نوعان:
أ- موضعية وهي إصابة الأنف نفسه بمرض كالزهري أو الدرن أو التهاب
غشائها المخاطي التهابًا حادًّا شديدًا (وهو المسمى بالزكام) .
ب - عمومية: وهي كثيرة منها أمراض الدم كالإسكربوط [6] والأرجوانية
(الفرفورة) [7] والصفار (الأنيميا) وبعض الحميات العفنة (مثل الحمى الراجعة)
وكأمراض القلب والكبد والكُلى.
وقد يحصل الرعاف في الأطفال والفتيات والفتيان، ولا يُعلم له سبب سوى
رقة أنسجة أجسامهم، فكثيرًا ما تشاهد بعض البنات في سن البلوغ يحصل لها
رعاف كثير، ويتكرر ذلك عدة سنين حتى إذا كبرت زال من نفسه.
وفي جميع تلك الأحوال السابقة سواء أكانت موضعية أم عامة يحصل النزف
بتمزق شريان، أو وريد صغير في غشاء الأنف المبطن له، ويكثر تمزيق عرق
صغير يُشاهد في الجزء الأمامي الأسفل الحاجز بين المنخرين.
المعالجة:
تختلف باختلاف سبب النزيف - ففي الرعاف العادي للأطفال والشبان يجلس
الشخص، وتُرفع ذراعاه حتى تكون أعلى من رأسه، ويوضع الثلج على قفاه،
ويستنشق الماء البارد، أو أي محلول قابض كالشب أو مغلي الشاي باردًا وغير
ذلك كثير، فإن تعاص الرعاف بعد ذلك يحقن الراعف بشيء قليل من خلاصة
الجويدار تحت الجلد، أو يحشى الأنف حشوًا جيدًا بالموصلي (الشاش) المغموس
في شيء قابض كالدّرمتول [8] أو الشب وغيره، وإذا لم يوجد شيء من ذلك، وكان
النزف من جزء قريب أمكن إيقافه بالضغط على الأنف نفسه، أو بإدخال قطعة من
القطن بجفت أو نحوه والضغط بها على العرق النازف.
***
جهاز التنفس
الغرض من التنفس دخول هواء صالح إلى الرئتين ليتحد أكسجينه بالدم فيهما؛
فينصلح بذلك، وبخروج بعض أشياء ضارة منه أهمها غاز ثاني أكسيد الفحم.
فإذا دار الدم في الجسم حمل إليه هذا الأكسجين؛ فإنه ضروري جدًّا للاحتراق
اللازم لحياة الجسم.
ومجاري الهواء هي الأنف، ثم الحلق، ثم الحنجرة، ثم القصبة الهوائية، ثم
الشعبتين، ثم الشعب الكبيرة، ثم الشعب الصغيرة، ثم التجاويف القمعية، فالخلايا
الهوائية، أو الحويصلات الرئوية.
وإنما بدأنا بالأنف؛ لأنه هو المسلك الطبيعي للتنفس لا الفم، وذلك لأن في
الأنف شعرًا ينقي الهواء من بعض قاذوراته، وميكروباته، وفيه أيضًا أجزاء
مخصوصة ممتلئة بالدم؛ فتسخن الهواء قبل وصوله إلى الرئتين، وأما إذا كان
التنفس من الفم؛ فإن الهواء يكون حاملاً لكثير من الميكروبات والقاذورات الضارة
بالرئتين وبالجسم كله، ولا يسخن الهواء بمروره من الفم كسخونته إذا مر بالأنف
فيكون أبرد؛ فيحدث سعالاً إذا وصل إلى الرئتين، أو التهابًا في الحنجرة أو
الشعب الرئوية.
ولذلك يجب حتمًا تعويد الناس عدم التنفس إلا من الأنف خصوصًا وقت
نومهم في الليل.
أما الحلق أو الحلقوم: فهو تجويف متصل بالأنف والفم والحنجرة والمريء
(البلعوم) وموضعه خلف تجويف الفم، ويمر به الطعام والشراب وهواء التنفس.
وأما الحنجرة فهي جهاز الصوت، وموضعها في أسفل الحلقوم وفي الجزء
الأمامي من العنق، وهي محاطة بغضاريف تحمل حبلين يسميان (الحبلين
الصوتيين) وهما أقصر في النساء منهما في الرجال، وبينهما فتحة ضيقة لمرور
الهواء منها، وفي أعلاها قطعة كاللسان تشبه الغطاء تسمى (لسان المزمار) تساعد
على منع دخول أي شيء في الحنجرة أثناء البلع.
والحبلان المذكوران هما اللذان يُحْدِثان الصوت؛ بسبب اهتزازهما إذا اندفع
الهواء من بينهما، ويتنوع الصوت بمروره في تجويف الحلق والفم والأنف،
والكلام عبارة عن تقطيع هذا الصوت المتولد من اهتزازهما؛ فيتقطع بالشفتين
واللسان وغيرهما، وهذا الاهتزاز يحدث تماوجًا في الهواء [9] يتصل إلى طبلة
الأذن فيسمعه الإنسان.
ونجد في أسفل الحنجرة القصبة الهوائية، وهي منفصلة عن المريء انفصالاً
تامًّا، وتمتد من الفقرة الخامسة العنقية إلى نقطة أمام الفقرة الثالثة الظهرية، وهناك
تنقسم إلى قسمين لكل رئة قسم، وهما الشعبتان.
وكل شعبة منهما تمتد إلى الرئة، وتنقسم إلى عدة أقسام، وكل قسم إلى أقسام
أخرى كالشجرة، إلى أن تنتهي بشعب صغيرة جدًّا، وهذه الشعب الصغيرة تنتهي
بتجاويف صغيرة قمعية الشكل، وهي المسماة بالتجاويف القمعية، وفي حيطان هذه
التجاويف أبواب للخلايا الهوائية، أو الحويصلات الرئوية، ومن هذه الأبواب ما
يوصل إلى خلية واحدة، ومنها ما يوصل إلى عدة خلايا مجتمعة معًا وهو الأكثر.
وجميع المجاري التنفسية مبطنة بغشاء مخاطي لخلاياه السطحية أهداب (ما
عدا الحويصلات والتجاويف القمعية) تتحرك من أسفل إلى أعلى، ووظيفتها طرد
ذرات التراب وغيره إلى الخارج، ومن التجاويف القمعية تتكون فصيصات الرئة.
وصف الرئتين:
الرئة اليسرى مكونة من جزأَيْنِ عظميين يسميان الفصين، واليمنى مكونة من
ثلاثة فصوص كبيرة، وهذه الفصوص مركبة من الفصيصات المذكورة.
وكل رئة مغطاة بغشاء مصلي يسمى (البليورا) كأنه كيس مختوم من جميع
جهاته انبعج بدخول الرئة فيه؛ ولذلك يغطى سطحها بطبقة منه، والطبقة الأخرى
تغطي الضلوع، والبليورا كلمة يونانية معناها الجنب.
أما الدم فيصل إلى الرئتين بواسطة الشريان الرئوي الذي سبق ذكره، وهناك
ينقسم الشريان إلى عدة فروع، حتى تصير شعرية، وهذه الأوعية الشعرية منتشرة
في حيطان جميع الحويصلات الرئوية والتجاويف القمعية، وليست متصلة بالهواء،
وإنما يصل إليها الأكسجين، ويخرج منها غاز ثاني أكسيد الفحم وغيرهما بطريقة
الإندوسموز، والإكسوسموز، وقد سبق تفصيلهما (في صفحة 24من هذا الكتاب) [**]
فإذا انقطع ما بين الدم الذي في هذه الأوعية الشعرية والهواء حدث نزف رئوي.
واعلم أن الرئتين في الصدر كأنهما في صندوق مغلق من جميع جهاته ما عدا
فتحة واحدة وهي الحنجرة المتصلة بالفم والأنف، ولبيان كيفية حصول التنفس
نقول:
إذا فرض أن هذا الصندوق كان كيسًا من جلد أو نحوه، وشُدَّت جوانب هذا
الكيس حتى اتسع تجويفه دخل الهواء بقوة الضغط الجوي؛ ليملأ هذا التجويف
المستجد، فإذا حال بينه وبين إتمام غرضه شيء آخر تمدد أمام الهواء، وإلا انفجر،
وهذا هو عين ما يحصل في الصدر؛ فإنه يتسع فيدخل الهواء إلى الرئتين
فيمددهما في أثناء الزفير (وهو جذب الهواء إلى الصدر) فإذا انتهت حركة الزفير
عادت الرئة إلى حجمها الأصلي بسبب مرونتها فخرج الهواء منها، ويسمى
خروجه منها بالشهيق.
كيفية تمدد الصدر واتساعه:
اعلم أن الضلوع متصلة بالعمود الفقري من الخلف، ومتجه كل منها إلى
الأمام والأسفل، فإذا انقبض ما بينها من العضلات ارتفعت هي والقفص؛ فاتسع
بذلك تجويف الصدر من جميع جوانبه.
وهناك عضلة شهيرة تفصل الصدر عن البطن تسمى (بالحجاب الحاجز)
وهي مقعرة من أسفلها ومحدبة من أعلاها كالقبة.
فإذا انقبضت هذه العضلة تحول تقعيرها إلى مسطح، ونزلت إلى البطن
فضغطت على الأحشاء كالكبد والطحال والمعدة، وبذلك يتسع الصدر في قطره
الرأسي.
ومما تقدم يُفْهَم أن الصدر في التنفس يتسع من جميع جهاته بارتفاع الضلوع
وبانخفاض الحجاب الحاجز فيضغط الهواء - كما قلنا - على الرئتين فيتسعان أمامه.
فترى من هذا أن الرئتين لا تتسعان بنفسهما، بل بحركة الصدر، فإذا فُرض
أن الصدر اخترق من أحد الجنبين مثلاً، بطل عمل رئة هذه الجهة لدخول الهواء
من الخرق، فإذا اخترق الجنبان مات الشخص في الحال بانطباق الرئتين، وبطلان
التنفس.
وحركة التنفس هذه وإن كانت تابعة للإرادة، إلا أن لها أعصابًا تفعلها بدون
إرادة الإنسان أو علمه، ومركز هذه الأعصاب هي (البصلة أو النخاع المستطيل)
وهي الجزء الذي بين النخاع الشوكي والمخ، ويسمى هذا المركز بمركز الحياة،
وتنبعث إليه منبهات في هذا المركز فتجري في الأعصاب المحركة لعضلات
الصدر، ولذلك نرى أنه إذا صُب الماء البارد على الجسم اشتدت حركة التنفس،
وكذلك إذا مس الهواء جسم الطفل المولود ابتدأ تنفسه.
أما الذي يحمل مركز التنفس على العمل الدائم في الحالة الطبيعية فأمران:
1- حالة الدم، فإذا كثر أكسجينه استراح المركز من العمل، وإذا زاد في الدم
غاز ثاني أكسيد الفحم تهيج المركز للعمل، وقيل: إن الذي يهيجه هو نقص الأكسجين
من الدم، وهذا القول الأخير هو الراجح الآن عند علماء الفسيولوجيا.
2- تمدد الرئتين بالهواء يحمل هذا المركز على إيقاف عمله؛ فترتخي
العضلات، وارتخاء العضلات الذي يتبعه هبوط الرئتين يحمل المركز على العمل؛
فتنقبض عضلات التنفس وهلم جرّا.
وهذا وما قبله هو السبب في حصول التنفس، ولو كان الإنسان نائمًا أو
مخدرًا بالكلوروفورم أو غيره.
ومما تقدم يُفهم معنى الحديث القائل: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه،
بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً، فثلث لطعامه وثلث
لشرابه، وثلث لنَفَسه) .
فإن امتلاء المعدة يعوق نزول الحجاب الحاجز، ويضغط عليه، وعلى القلب
وبذلك يحصل عسر في التنفس، وضيق في الصدر، وخفقان في القلب.
أما عدد مرات التنفس في الدقيقة الواحدة فيختلف من 14 إلى 18 مرة في
الشبان، وحركة التنفس تختلف في الأطفال عنها في الرجال وفي النساء، ففي
الأطفال يحصل تنفسهم على الأكثر بنزول الحجاب الحاجز؛ فيضغط على الأحشاء؛
وبذلك يرتفع البطن، ويسمى هذا الضرب من التنفس (بالتنفس البطني) ، أما
في الرجال فأكثر حركة التنفس تُشاهد في الجزء الأسفل من الصدر مع بروز البطن
أيضًا، وفي النساء تشاهد الحركة على الأكثر في الجزء العلوي من صدرهن.
ويختلف أيضًا عدد مرات التنفس باختلاف الأعمار وبالراحة والتعب
وبالصحة والمرض، فيكون في الصغار، وفي الحميات وغيرها أكثر، وكذا بعد
التعب الجسماني أو الانفعال النفساني.
(يتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الرض: لغة الدق، والكدم: العض، وفي اصطلاح أطباء هذا العصر يطلق الأول على النزف تحت الجلد من الأوعية الكبيرة، والثاني عليه من الأوعية الصغيرة.
(2) تسمى باليونانية وغيرها amphibia ومعنى amphi (كلتا) وbios (حياة) وهي تعيش
في البر والبحر.
(3) يسمى أول طور من أطوار الجنين أيضًا بالعلقة؛ لأنه مركب من عدة خلايا (كريات) ناشئة من انقسام البويضة، وتكون قطعة جامدة كعلقة الدم.
(4) نظرًا لعسر مرور المواد الزلالية خلال الأغشية بطريق الإسموز - كما سبق بيانه - كانت هذه المائية مخففة لقلة الزلال فيها لذلك السبب.
(5) أرى أن الأحسن تسمية مثل هذا المقبض بالحاسم؛ لأنه يقطع الدم.
(6) الإسكربوط مرض يحصل من عدم أكل النباتات والخضروات، أو أكل الأشياء المتعفنة، وأعراضه ضعف وتقرح في اللثة، ونزف من أجزاء كثيرة من الجسم، وفي منسوجها.
(7) مرض يشبه الإسكربوط ويختلف عنه بعدم تقرح اللثة، وقلة فساد الصحة وبسببه وغير ذلك.
(8) مادة مطهرة قابضة صفراء، وهي تحت عفصات البزموت، والكلمة يونانية معناها الجلد لنفع هذه المادة في بعض أمراضه.
(9) لا بد لانتقال الصوت من وسط مادي غير الأثير يجري فيه، ولذلك لا يسمع الصوت في الفراغ فلا ينتقل من كوكب إلى كوكب كالنور، وهو أسرع سيرًا في الجامد منه في السائل، وفي السائل منه في الغاز.
(*) أي ما يطبع منه على حدة.(18/121)
الكاتب: عن جريدة الأفكار العربية
__________
الحق والقوة [*]
وبحث فلسفي عنهما بمناسبة الحرب الحاضرة ...
أو: درس ضروري لنا نحن السوريين خصوصًا
والشرقيين عمومًا
الجنرال فون برنهاردي قائد مجرب، له مكانة سامية في الجيش الألماني،
كما أنه عالم طبيعي شهير له مصنفات شتى في علم الأحياء (بيولوجيا) يُرْجَع
إليها، ويُسْتَقَى منها، وقد أصدر هذا الجنرال كتابًا في سنة 1913 دعاه (المنطق
والمبادئ في الحروب) ضمنه آراءه في الحرب، ووجوب الالتجاء إليها عادًّا إياها
فضيلة، فكان هذا المؤلَّف موضوع الأحاديث في الأندية العلمية والسياسية في
العالم بأسره، وزادت أهميته بعد إعلان الحرب الكبرى الحاضرة؛ لأن كثيرًا
من الأعمال الألمانية فيها أتت مصداقًا لما ورد في ذلك الكتاب - كأن أركان حرب
ألمانية كلهم هم الذين أنشأوه لا فردًا واحدًا من قوادهم.
ولما أكثرت المجلات العلمية والسياسية من البحث في هذا الكتاب، وتعاليمه
تصدت مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة لنقده، فنشرت مقالة بليغة مسهبة في
عددها الأخير عنوانها " الحق والقوة " أردنا تعريبها والتعليق عليها؛ لأننا نحن
الشرقيين صرنا أحوج أمم الأرض إلى تعاليم الجنرال فون برنهاردي، وأشدهم
افتقارًا إلى من يذيعها بيننا، بعد أن شبعنا من التعاليم الأكليريكية، والمبادئ
الخيالية التي أذلتنا، وغيرنا عزَّ، وأفقرتنا، وغيرنا اغتنى، وأضعفتنا، وغيرنا
قوي وأفلح.
قالت مجلة القرن التاسع عشر:
اشتهر كتاب الجنرال فون برنهاردي الأخير لأنه لم يتضمن أبحاثًا سياسية
فقط، بل تضمن أيضًا أبحاثا فلسفية، وعمرانية، واجتماعية، تشهد له بالجرأة،
وطول الباع، وإننا في نقدنا فلسفةَ الاجتماع، ومبادئها الواردة في ذلك الكتاب
نحصر كلامنا فيما له علاقة بالحرب الحاضرة من تلك المبادئ، وأيضًا لما نحن
بصدده الآن ننشر أولاً أهم تلك التعاليم التي نرى برنهاردي يبشر بها وهي
مقتطفات من كتابه الآنف الذكر:
1- تنازع البقاء:
قال: إن التنازع لأجل البقاء هو الناموس الأولي الذي لا مفر منه،لا في المجتمع الإنساني فقط، بل في العالم الحيواني بأسره، وبموجب هذا الناموس لا
يمكن إحراز النجاح والارتقاء من دون استئصال العضو الضعيف من المجتمع
فالضعيف - إذن - يجب أن يهلك ويفنى. بيد أن المجتمع البشري يختلف عن
غيره من المجتمعات الحيوانية في أن الإنسان له حياة فردية، وحياة عمومية معًا،
وهذه الأخيرة مرتبطة بالوطن الذي ينتمي الفرد إليه، ولذلك فإن ناموس تنازع
البقاء وبقاء الأنسب لا ينطبق تمام الانطباق على الإنسان، كما ينطبق على الحيوان؛
لأن الواحد من الحيوان لا ينظر إلا إلى مصلحته الخاصة فقط، أما الفرد البشري
- المرتبط بمجموع الأمة المنتمي هو إليها - فعليه نوع من المسؤولية نحو تلك
الأمة من حيث هي مجموع منتظم، والأمة - وهي مجموع أفراد - لا حياة لها إلا
بالتنازع أيضًا؛ ولكنها في هذا الجهاد يجب أن تلتجئ إلى نظام موافق، أو شريعة
عادلة تسري على الكل من دون تمييز، حتى إذا تعارضت مصلحة الفرد ومصلحة
الأمة، كان على الفرد أن يضحي بمصلحته الخاصة إذا اقتضت المصلحة العمومية
تضحيتها [1] أي أن المنفعة الشخصية يجب أن تضحي على مذبح المنفعة العمومية
عند الحاجة، وفي الهيئات الراقية المنظمة.
2- القوة المحسوسة واجبة لحفظ المجتمع:
هذا من النظرة الشخصية الفردية، أما من النظرة العمومية فالمسألة فيها نظر
لأن الأمة الواحدة في أثناء معاملاتها مع سائر الأمم لا يجوز لها أن تسير بموجب
المبدأ الآنف الذكر، أي مبدأ تضحية الواحد لأجل الخير العام عند الحاجة إلى ذلك
بل يجب على الأمة كمجموع منظم أن تفسر الحق والعدالة تفسيرًا آخر يلائم
مصلحتها كما سترى.
لا يمكن تنظيم أمة ما لم يجتمع عدد كبير من أفراد تلك الأمة تحت لواء
المصلحة المشتركة بينهم، ومن العبث اجتماع البشر كلهم في أمة واحدة تحت نظام
واحد؛ لأن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها. وتأليف أمم صغيرة ضعيفة غير
مستحيل غير أن حالة مثل هذه الأمم الصغيرة تستوجب الشفقة؛ لأن وجودها
مخالف للناموس الطبيعي، أي أن ليس لها حق الوجود، ودونك البرهان الحسي
العملي المعقول:
المقدمة المنطقية الأولى: إن البشر مضطرون بحكم نمو عددهم المضطرد
إلى تأليف جماعات طبقًا لناموس التعاون؛ ولكن هذه الجماعات تكون متباينة لا في
الكمية فقط، بل في الكيفية أيضًا.
المقدمة المنطقية الثانية: إن اختلاف العناصر، وعوامل الإقليم، والمناخ
وجدت منذ الأزل، وسوف تبقى بحكم الطبع إلى الأبد.
النتيجة المنطقية الثابتة: لذلك وجب تباين الأمم بعددها، وأنواعها؛ بسبب
تباين الأجناس، والألوان، والأخلاق، والعوامل الطبيعية من جيوغرافية وغيرها
من العوامل الخارجية، أي أنه وجب وجود أمم ضعيفة بين أمم قوية بحكم الطبع.
ولما كان ناموس تنازع البقاء - وهو ناموس طبيعي ثابت - يجبر الأمم على
حفظ كيانها، وعلى تقوية ذلك الكيان على حساب الضعيف من جيرانها [2] ، كان
من الضروري وجود ذلك التنازع بين الأمم الضعيفة، والأمم القوية، لذلك قلت
إن الأمم الضعيفة تستوجب الشفقة؛ لأنه لا حق لها بالوجود - ومن المستحيل
دوام وجودها، وهي عرضة لخطر الاضمحلال في كل حين بسبب التنازع
الطبيعي بينها، وبين القوي من جيرانها، ولا بد للقوي من استعمال قوته، وهذا
الاستعمال هو الحرب بأبسط معانيه، وأقول - بعبارة أوضح -: إن كل أمة يجب
أن تعتمد على القوة، على القوة وحدها، في أثناء معاملاتها العمومية مع سائر
الأمم، وإلا كانت أمة ضعيفة عرضة للفناء في كل حين.
انتقد الفيلسوف التلياني ماشيافللي مثل هذا التعليم بحجة أنه يرمي إلى اعتبار
القوة غاية الوجود لا واسطته؛ ولكن غاية الوجود (هي حماية مصالح الفرد،
وترقيتها حتى يصل إلى الدرجة المطلوبة من السعادة، والكمال) وهذه لا يمكن
الحصول عليها من دون مساعدة الأمة، والأمة لا يمكن أن تقوم بالحماية والترقية
ما لم تكن قوية، وقوتها لا تأتي إلا من حصر محبة بنيها لها وحدها أولاً، وإلا
فإنني لا أفهم كيف أن زيدا يحب خير العالم أجمع، وهو لا يحب خير أمته،
ووطنه، وجنسه، وعائلاته أولاً. فالواجب الإنساني إذن يقضي على المرء بمحبة
جنسه أولاً.
إذن أرى أن الناموس المسيحي القائل بالمحبة، والإحسان، والغيرية هو
أشرف ناموس في الكون؛ لكنه وُضِعَ لأجل العلاقات الفردية في الأمة الواحدة فقط
ولا يمكن تعميمه على الإنسان والإنسانية؛ لأن التعميم مخالف للنواميس الطبيعية
الثابتة، والتخصيص أولى، إذ إن الذي لا يحب أخاه القريب، لا يقدر على أن
يحب البعيد الغريب، وعلى هذا الرسول بولس ذاته فيلسوف الكنيسة المسيحية،
وواضع أهم تعاليمها.
3 - فلسفة العدالة في المعاهدات والحروب:
ليست الحرب مقتصرة على اقتتال الجيوش فقط، بل الحرب اصطلاح
سياسي يعني وجود أمة تنازع أمة أخرى، سواء كان باستخدام السلاح، أو
باستخدام السياسة، والحروب السياسية تعنى مضايقة فريق لفريق آخر بواسطة
المعاهدات التجارية، أو المعاملات الاقتصادية من صناعية، وتجارية، وزراعية،
وما أشبه. وإذا لم يذعن أحد الفريقين للآخر بحرب السياسة يصير الالتجاء إلى
السلاح أمرًا لازمًا، غير أن مسؤولية رجال الحكومة في أثناء الحروب السياسية
تقضي عليهم بالمحافظة على مصالح الشعب، وإنماء ثروته، هذه هي الغاية الأولى
لهم. أما الواسطة فخاضعة لحكم الظروف، فإذا كانت الظروف تحوجهم إلى
إطراح المبادئ النظرية الأدبية جانبًا، فلهم ذلك لأنهم بهذا الانحراف يخدمون
المصلحة العمومية لا المصلحة الفردية، وإذا رأوا الخطر محدقًا بالشعب فعليهم
مباغتة العدو، والغدر به قبل أن يتم معداته حتى يقضوا على قواه الهجومية
والدفاعية، ويأمنوا شر تَنَازُعِه إياهم منافع البلاد، وثمار أراضيها، ومعاملها،
وهذا لا يأتي إلا بإنماء القوة المحسوسة وازديادها، ولذلك كانت القوة مظهرًا من
مظاهر العدالة؛ لأن الحروب عدل، وبها وحدها تَثْبُت العدالة على أساس متين.
وبرهانًا لذلك أقول:
لنفرض أن أمة إبان ضعفها خضعت بحكم السيف إلى جارها القوي، وسلمت
معه بشروط مكتتبة على ورق سموها معاهدة، ولنفرض أن تلك الأمة الصغيرة
صارت قوية على تمادي السنين فرأت أن تلك الشروط التي كانت قد رضيت بها
أولاً في أيام ضعفها صارت ثقيلة عليها، تضر بمصالح الشعب في أيام قوتها.
فالشعب في هذه الحالة الأخيرة صار يرى ذاته مغدورًا مغبونًا، وإذا هب
إلى تمزيق المعاهدة الأولى المجحفة بحقوقه فعمله هذا هو العدل بعينه، ولا يمكن
أن ترضى العدالة المجردة بغبن شعب كامل وغدره، ليس ذلك فقط بل إننا لا نقدر
أن ندعو الإذعان لشروط مجحفة عدالة وفضيلة، بل إن العدالة تقضي بتمزيق
المعاهدة المضرة الجائرة بواسطة المفاوضات السياسية أولاً التي أدعوها حربًا بطيئة
كامنة؛ فإذا نجحت فيه، وإلا فاستعمال السيف، والمدفع يصبح أمرًا واجبًا - ولا
يمكن أن يوجد الحق ويثبت ما لم يكن مُؤَيَّدًا بالسيف، ومدعومًا بالمدفع وقوة الساعد،
ولذلك كانت الحرب فضيلة. أي أن الحرب أمر ضروري للمجتمع الإنساني؛ لأنه
رمز العدالة، ومنشئ الشجاعة والجرأة في الأمة، ورفيق الحق والمطالبين به،
وإذا تُرِكَت الحرب تجبن الأمة عن المطالبة بحقوقها؛ فتبقى مغبونة مقهورة
ذليلة، ومثلها لا يثبت في ميدان تنازع البقاء؛ لأن ناموس بقاء الأنسب يقضي
عليها إن عاجلاً أو آجلاً، والأنسب هو الأقوى في كل حال.
هذه هي زبدة تعاليم الجنرال فون برنهاردي المدونة في كتابه الجديد (المنطق
والمبادئ في الحروب) ودونك مجمل الانتقاد العلمي الفلسفي البديع الذي نشرته
مجلة القرن التاسع عشر الطائرة الصيت في عددها الأخير قالت:
تعليق مجلة القرن الـ 19 على الكتاب الألماني:
ليس الجنرال فون برنهاردي وحده القائل هذا القول، ولا هو من وضع هذه
الفلسفة، أي فلسفة القوة والاعتماد عليها وحدها لأجل تثبيت الحق والعدالة، بل إننا
إذا أمعنا النظر، نرى أن معظم علماء الألمان وفلاسفتهم قالوا بهذا الرأي ونشروا
مثل هذه التعاليم من أرنست هكل العالم الطبيعي المعروف زميل شارلس دارون إلى
نياتش المادي الشهير، وغيرهما كثير، وليس من العدل والإنصاف أن نقلل من
أهمية هذه التعاليم لمجرد أنها صادرة عن أعدائنا؛ فإن (العلم مشاع بين جميع الأمم
وليس لوطنه حدود) فلندرس إذا مبادئ الجنرال برنهاردي، وتعاليمه بكل نزاهة
ولنمحصها في بوتقة التحري بقطع النظر عن قائلها.
قال أرسطو الفيلسوف اليوناني القديم: إن الفضيلة هي الوسط بين متضادين،
أي أن الشجاعة مثلاً هي فضيلة لأنها وسط بين الجبن والتهور، فالجبن رذيلة
لأنه دليل الذل، وصغر النفس، والتهور رذيلة أيضًا؛ لأنه دليل الحماقة والكبرياء
وكل هذه العيوب الأخلاقية تدل على وجود مرض بعقل المصابين بها،
وخصوصًا الغرور والكبرياء [3] ، وقس على ذلك الصدق، والكذب، والحق،
والباطل، وما أشبه ذلك من المتضادات.
وكم ضل أفاضل من الرجال سواء السبيل؛ لأنهم اتخذوا التطرف ديدنًا لهم
فكانوا بإهمالهم الصدق مثلاً يكذبون، وهم لا يدرون، وبتطرفهم بالتمسك بالحق -
حسب اعتقادهم - يخدمون الباطل وهم لا يقصدون، والحقيقة أن تعاليم الجنرال
برنهاردي مطابقة تمام المطابقة لتعاليم أرسطوطاليس كبير الفلاسفة، لولا ما بها من
تجسيم يبلغ حد الغلو أحيانًا فضلاً عن خلوها من رابط متين يربط الحق بالقوة كما
سترى.
***
(2)
إن الأساس الذي بنى عليه الجنرال برنهاردي كتابه هو التعليم القديم القائل إن
(الحق للقوة) ، والدعامة التي دعم بها ذلك الأساس هو تعليمه القائل بأن كل الآراء
المتعلقة بالحياة الاجتماعية والسياسية تكون آراء مضرة إذا تجاهلت كون الحق للقوة؛
لأنها أي الآراء ليست في هذا التجاهل سوى رياء وتضليل.
وبموجب تعاليم برنهاردي يكون الاشتراكيون مرائين، ويكون الراديكاليون
المتطرفون أكثر رياء وخداعًا، ليس ذلك فقط بل إن كل الفلاسفة الذين يخالفون
مذهب دارون القائل ببقاء الأنسب بعد التنازع لأجل البقاء، قد أضروا الهيئة
الاجتماعية؛ لأنهم دلوها على التواكل والاستسلام، وعلموها الحيلة والرياء،
وأبعدوها عن القوة - وهي الفضيلة المقدسة التي هي أساس كل الفضائل.
وللجنرال برنهاردي فضل عظيم في أنه شرح هذه التعاليم العملية، وحاول
تطبيقها على حالة أوربا السياسية الحاضرة، ولا شك في أنه صادق فيما يقول عن
القوة وتقديسها - تلك القوة التي صار الشعب الإنكليزي - تذكر أن الكاتب عالم
إنكليزي - يستخف بها، وينسبها إلى قبائل الزولوس المتوحشة حتى أنه أصبح في
الآونة الأخيرة يبالغ في تحقيرها وتحقير كل أمة تعتمد عليها؛ ولكن لما نشبت
الحرب الحاضرة أدرك الشعب خطأه وعلم أن من دون الاعتماد على القوة خطر
الغزوة الألمانية، وبالتالي خطر فناء إنكلترة من العائلة السياسية الكبرى.
ولا جدال في أن القوي تغلب يومًا على الضعيف جاره، واحتفظ بمركزه
المتفوق بالقوة الوحشية، وهذا ينطبق على الأمم كما على الأفراد، ولا جدال أيضًا
في أن كل حكومة راقية تضمن لأبنائها المتفردين بالقوة أفضل المراكز ولو على
حساب المجموع؛ لأن مجموع الأمة يستفيد منهم، وكما أن الأم يجب أن تكون قوية
جدًّا، حتى تتمكن من الاعتناء بطفلها الضعيف، كذلك يجب على رَجُلها أن يضمن
لها التقوية محافظة عليها، وعلى صغيرها. هذا الشطر الأول من كتاب برنهاردي،
وأظن أن الأندية العلمية والسياسية عندنا سَلَّمت بصحته فورًا.
أما الشطر الثاني الذي أقام العلماء وأقعدها، فهو كلام ذلك الجنرال الألماني
عن علاقة الأمة الواحدة بغيرها من الأمم الأخرى؛ فإن ذلك الكلام يقرر أن أفراد
الأمة الواحدة يجب عليهم التضامن، والتكاتف، وتبادل الصدق، والولاء،
والعطف، والمحبة بعضهم مع بعض فقط حسبما ورد في مثل الزوج والزوجة
ومسؤوليتهما نحو طفلهما الضعيف، أما في علاقة الشعب بغيره من الشعوب
القريبة فالجنرال برنهاردي يقول بصراحة: إن لا رحمة، ولا شفقة، بل ويل
للضعيف في تنازع البقاء؛ لأن القوة وحدها هي الحَكَم الأخير في العلاقات
العمومية، وبقاء الأنسب يقضي بانقراض الضعيف، إن لم يكن اليوم فغدًا.
وبجملة أوضح أقول: إن أركان حرب ألمانية يقولون بالحق، والعدالة،
والرحمة بين أبناء العائلة السياسية الواحدة؛ ولكن يقولون بمعاملة الغريب على
قاعدة بقاء الأنسب - أي على قاعدة الحق للقوة، وعند درس هذا المذهب بنزاهة
وإنصاف نرى أنه ليس مذهبًا جديدًا، ولا مخالفًا لما نراه جاريًا في الكون، سواء
أردنا ذلك أم لم نرده، إذن لا أرى أن الذين خطَّئُوا برنهاردي هم من القوم
المصيبين المنصفين [4] .
نعم إن عندنا شرائع تضمن العدالة، وتجبر الحكومة على إجرائها حفظًا
لحقوق الضعيف من جاره القوي؛ ولكن هذه الشرائع، وتلك العدالة تسري على
أبناء الأمة الواحدة فقط، أما على غيرنا من الأمم والحكومات فمن ينكر أننا لا
نعاملهم بما يعامل به بعضنا بعضًا، إن نكران هذا الأمر هو الرياء بعينه، وهذا
هو مبدأ برنهاردي أيضًا، وهاك نص إحدى عباراته حرفيًّا بهذا الصدد قال:
(لا يوجد في الكون حكومة تُجْرِي على غيرها من الحكومات ذات القوانين
وذات النوع من العدالة الذي تجريه على أفرادها هي، كذلك ليس من الواجب على
أي حكومة أن تعتني بالغريب، وتعطف عليه وتساعده؛ لكن من أوجب الواجب
عليها الإعتناء بأولادها، وتقوية الضعفاء منهم فقط، وإجراء العدالة بتمام النزاهة
والتدقيق بين المتخاصمين منهم وحدهم، وإذا قلنا: إن محكمة دولية عمومية يجب أن
تنشأ لأجل فض الخلافات بين الدول على مبدأ الحق والعدالة المجردة، نعود
ونرجع إلى القوة الوحشية المحسوسة لأجل تأييدها، وإليك البرهان:
(هب أن خلافًا نشب بين أمتين، أو أكثر، ورُفِعَ أمره إلى تلك المحكمة
الدولية العمومية العليا (الموهومة) ، وهذه بموجب الحق، والعدالة المجردة
أصدرت حكمها ضد الأمة القوية المتعدية، ورفضت تلك الأمة القوية أن تخضع
لحكم المحكمة العادل، فماذا علينا أن نفعل؟ علينا أن نلتجئ إلى جيش قوي جدًّا
يرغم تلك الأمة القوية على قبول حكم المحكمة العليا وتنفيذه، وإلا كانت العدالة،
والحق، والحكم حبرًا على ورق من الوجهة العملية، ولما لم يكن تنظيم جيش
عمومي ممكنا، كان من المستحيل - إذن - إجراء الحق بين الأمم المتباينة في
العدد والقوة إجراء فعليًّا، كما يجري في الأمة الواحدة التي لها من قوة جندها ما
يجعل الحق نافذًا، والعدالة المجردة ممكنة - ولكن بين أفرادها فقط، ومجمل القول
أن الناموس الطبيعي المعقول هكذا يأمر، أي أن العدالة المجردة يجب أن تجري؛
ولكن بين أبناء الأمة الواحدة فقط؛ لأن ذلك ضروري لحفظ كيانها ولتقويتها، أما
مع الأمم الأخرى فالحق للقوة في كل حال، وويل للضعيف والمستضعف [5] .
***
الاستعمار
تنازع ألمانية وإنكلترة بسببه
بعد هذا يوضح الجنرال برنهاردي مسألة الاستعمار بقوله: إن كل أمة قوية
لا بد لها يومًا من طلب التوسع في أملاكها؛ لأن أفرادها المتزايد عددهم يحتاجون
أولاً إلى المواد الغذائية، وثانيًا إلى المواد الأصلية في الصناعة حاجة تزيد بالنسبة
إلى عددهم المتكاثر، وهذه لا يجدونها إلا في الخارج، وإذا زادت مصنوعاتهم
تراهم يضطرون إلى إيجاد أسواق جديدة لأجل تصريفها - أي إلى إيجاد مستعمرات،
فالمستعمرات - إذن - من لوازم الأمم الراقية.
والاستعمار يتم بطرق ثلاث:
(1) المهاجرة واختلاط المهاجرين تدريجًا مع السكان الأصليين، والامتزاج
بهم امتزاجًا سلميَّا، حتى يتغلبوا عليهم بفضل تفوقهم على الوطنيين بالقوى
البدنية، والعقلية، والأخلاقية.
(2) بإنشاء مستعمرات منظمة في بلاد أهلها من نصف المتمدنين، أو من
غير المتمدنين، وامتلاك مثل هذه المستعمرات غير صعب البتة.
(3) بالحرب، واغتصاب المستعمرات من أيدي أهليها عنوة، إذا كان
أولئك الأهلون على جانب من المنعة، والتمدن، وهذه الطرق الثلاث تُدْعَى
المهاجرة، والاستعمار، والاغتصاب، وهي لا تتم إلا باستعمال القوة في إحدى
مظاهرها، وبمعاملة سكان البلاد الأصليين حسب ناموس تنازع البقاء، لا حسب
الحق، والعدالة.
والحق كل الحق مع الجنرال برنهاردي في هذا التصريح، لأن كل أمة قوية
استملكت بلادها وبلاد غيرها بقوة السيف يومًا، لم تعامل الأهلين الأصليين قط
بالمساواة، والعدالة، كما يَدَّعُون، وليس في هذه التعاليم شيء جديد كما قلت آنفًا؛
ولكن الذي زادها أهمية هو اشتباك ألمانيا منفذة هذه المبادئ بحرب كبرى مع
غيرها من الأمم، ووجود حزب قوي عندنا (أي في إنكلترا) شعاره (السلم مهما
كلفه الأمر) ، ومذهبه هو أن الذي يأخذ بالسيف بالسيف يؤخذ، وسها عن بال هذا
الحزب المتخنث أن الذي لا سيف عنده يكون أول من يسقط بسيف الغير، وخصوصًا
في هذه الأيام، أيام المنازعات، والمناظرات، والمسابقات الهائلة.
ولا أصدق من كلام الجنرال برنهاردي عن السوسياليست والراديكاليين
(الاشتراكيين والمتطرفين) الذين يزعمون أن الحكومة ليست سوى شركة ضمانة
عملها توزيع المنافع، والمرافق بالسواء - أن هذه الآراء لا يمكن العمل بموجبها
أبدًا؛ لأنها آراء نظرية بحتة، وكل أمة تسير بموجبها تضعف؛ فتنحط وتفنى على
تمادي الأجيال، والشواهد العديدة التي اقتبسها برنهاردي من دارون وكنت وهكل
وفشت وشلر وغوث تؤيد هذا المذهب، وحبذا لو أنه ذكر اسم كروب ومدافعه
أيضًا، حتى يصير الاقتباس تامًّا؛ لأن كروب واختراعاته لا تقل أهمية عن تعاليم
أولئك الفلاسفة.
***
فضائل الحرب
نقد برنهاردي
إنني من المعجبين بتصريح برنهاردي القائل: إن للحرب فضيلتين هما
الشجاعة والعدالة، فالشجاعة فضيلة لأنها رائد الاستقلال، والعدالة فضيلة لأنها رائد
الصدق، والصدق رفيق القوي دائمًا؛ ولكن العدالة والصدق يجب أن ينحصرا مع
الغرباء، وبين الأمم الأخرى، فللقوة المركز الأول دائمًا، وكل من يقول بخلاف
ذلك فهو خادع أو مخدوع.
إلى هنا انتهى إعجابي بالتعاليم العملية التي دونها الجنرال برنهاردي في كتابه
الأخير؛ ولكن موضوعًا اجتماعيًّا فلسفيًّا كهذا لا يخلو من التعقيد والصعوبة لذلك لا
ألوم برنهاردي إذا رأيته يناقض نفسه في بعض الأحايين، ويخلط في تدوين
المبادئ وشرحها في البعض الآخر.
فمن جملة المتناقضات في تعاليمه عدم شفقته على الأمم الضعيفة حالة كونه لم
يضمن لنا طريقة ثابتة بها تبقى الأمة القوية قوية إلى ما شاء الله - وهذا من أهم
الاعتراضات أيضًا على مذهب دارون القائل ببقاء الأنسب، ومن جملة مواضع
الخلط والخبط في شرح مبادئه عدم جمعه بين العدالة والقوة جمعًا علميًّا ترتاح
النفس إليه، بل أراه أبقى هوَّة عميقة بين القوة الوحشية التي عبر عنها بالحرب،
وبين العدالة المجردة التي لا يجوز لها أن تخضع للقوة.
ليس ذلك فقط، بل إن الجنرال برنهاردي اعتمد على علم الأحياء (بيولوجيا)
في مصنفه الأخير، وهو مولع بهذا العلم؛ لكنه تجاهل وجود ناموس التعاون
والتضامن في النوع الواحد، ونسي أو تناسى أن الإنسان مهما تعددت أممه،
وأجناسه، وعناصره، وألوانه لم يخرج عن كونه نوعًا واحدًا من أنواع الأحياء،
هو نوع الإنسان يتطلب كيانه ناموس التعاون، والتضامن، ولو بأحد أشكاله
البسيطة.
ويحوجني الوقت والمجال؛ لأُبيِّن أن العلاقة بين الحق والقوة هي علاقة
شديدة موجودة فعلاً، وهي مثل الارتباط المتين الموجود بين الحرية والمسؤولية،
وبين الحق والواجب، فكما أن الحرية تُوجِد المسؤولية والحق يوجد الواجب،
والعكس بالعكس، كذلك أرى أن ناموس الحق للقوة - الذي ينادي به الجنرال
برنهاردي، وأركان حرب ألمانيا عمومًا - يقتضي وجود علاقة متينة بين الحق
والقوة لم يشر إليها برنهاردي، ولا عَرَضًا في سياق كلامه، لذلك نرى أن ألمانيا
في هذه الحرب مغمضة عين الحق في بعض تصرفاتها المخالفة، ومجسمة فضيلة
القوة الوحشية المحسوسة في سائر إجراءاتها مما جعلها عرضة للنقد العادل.
أما ما خلا هذه النقط القليلة القابلة الانتقاد، فكلام الجنرال برنهاردي صحيح
لا غبار عليه، ويجدر بالحزب السلمي في إنجلترا أن يدرسه بمزيد التدقيق
والتروي، عله يُقْلِع عن تعاليمه النظرية الضارة، ويساعد القائلين منا بوجوب
تنظيم جيش قوي دائم، وتعويد الأمة على تربية رجال أشداء أقوياء البدن، وعلى
غاية من النشاط والبسالة. اهـ.
(المنار)
نقلنا ما تقدم عن جريدة الأفكار البرازيلية بنصه، مع تصحيح لفظي قليل،
والقارئ يرى أن غرض صاحب مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية من تلخيص ما
لخصه من الكتاب الألماني هو إقناع قومه بأن يحذوا حذو الألمان في شدة العناية بالقوة
الحربية، ومنه جعل الخدمة العسكرية إجبارية، والظاهر أن شر عاقبة لهذه الحرب
هو زيادة عناية الأمم الأوربية كلها بالاستعداد للحرب، وإن كان بعض الناس يظنون
أنها سترجع إلى رشدها بما تقاسي من خسارة الأنفس والأموال.
__________
(*) نقل عن جريدة الأفكار التي تصدر في البرازيل (عدد 902) .
(1) الأفكار: كما تمنينا مرة أن يُطْبَع خطاب روزفلت في " الأخلاق "، ويُوَزَّع منه مليون نسخة في سورية والآستانة، كذلك نتمنى الآن أن يُتَرْجَم كتاب برنهاردي هذا، ويُوَزَّع على جميع العثمانيين، وعموم الشرقيين؛ لأن الشرق كله بحاجة ماسة إلى مبادئ هذا الكتاب العملية دون المبادئ النظرية التي كانت علة انحطاطه.
(2) المنار: يعني أن سُنَّة تنازع البقاء تدفع الأمم بما يشبه الإجبار إلى حفظ وجودها الأمي، وتنميته مما تسلبه من الأمم الضعيفة المجاورة لها.
(3) الأفكار: اتفق ونحن نقرأ هذه المقالة البديعة أن وصلتنا الصفاء الغراء فوجدنا فيها ما يأتي: - قال أحدهم: المتكبر أجدر الناس بالشفقة؛ لأن الكبرياء مرض في العقل، أي أن صاحب الصفاء يتأمل من كثرة ما يرى من المتكبرين حوله، وقد تذكرنا خطبة مطبوعة باللغة الإنكليزية عندنا للدكتور دانيال بلس رئيسنا العلامة الكبير قالها أمام صف المنتهين مرة فراجعناها، وإذا في إحدى صفحاتها ما يأتي: " وإنني أوصيكم بالاعتدال في كل شيء؛ لأن الاعتدال من أهم الأخلاق التي يحتاج إليها الشرق، ومن أعظم المصاعب أمام عملنا - نحن المربين والمُهَذِّبين في هذه البلاد - أننا نرى أفرادًا بين السوريين هم متهذبون بكل معنى الكلمة تمام التهذيب - وبالأصل gentleman، وأفرادًا غيرهم على غاية من التأخر، والانحطاط، والحلقة الوسطى بينهم تكاد تكون مفقودة، وبينما نرى الكرم لحد التبذير في البعض نرى أيضًا البخل لحد الشح في البعض الآخر، وكذلك بينما نرى الذل والجبن في طبقة، نرى الغرور فاشيًا، والكبرياء لحد الادعاء الممقوت في طبقة ثانية، وإذا قدرت هذه المدرسة " أي المدرسة الكلية " على إيجاد حلقة وسطى تُوجِد الاعتدال في مشارب السوريين، وأخلاقهم نكون قد عملنا عملاً تهذيبيًّا عظيمًا ".
(4) الأفكار: إن قائل هذا الكلام هو مستر مالوك من علماء الإنكليز أعداء الألمان الألداء، وكلام الخصم حجة.
(5) المنار: حقًّا أنه لم توجد شريعة تأمر بالمساواة والعدل العام غير الإسلام؛ ولكن كانت الدول الأوربية تراعي العدل فيما بينها في الجملة، حتى جاءت هذه الفلسفة الجديدة بهذه الحرب العامة التي لا بد أن تعود عليها بالنقض ولو بعد حين.(18/141)
الكاتب: عن جريدة الأفكار البرازيلية
__________
بين روسيا وألمانيا [*]
وفيه وصية غليوم الأول لحفيده غليوم الثاني
يذكر قراء (الأفكار) ما عرّبناه من مدة من تلغراف الإمبراطور غليوم إلى
القيصر نقولا، إذ قال له يومئذ: إنه موصى - على فراش موت جده - بالمحافظة
على صداقة روسيا. وقد قرأنا مؤخرًا تلك الوصية المشهورة التي أوصى بها
الإمبراطور غليوم الأول حفيده إمبراطور ألمانيا الحالي في الساعات الأخيرة من
حياته، إذ استدعاه، وزوده بنصائحه، ووصاياه، وما يفرض عليه عمله،
والسياسة التي يجب عليه اتِّباعُها إذا تبوأ العرش، وهذا ملخص نص الوصية:
إذا كتب لك الحق - سبحانه وتعالى - أن تملك على عرش أجدادك
القياصرة فاعتنق الحق والعدل، وبثهما في الرعية، واعتن بالجيش مزيد العناية،
واجهد في اكتساب ميل العامة، وحب الشعب الألماني بأسره، واسْعَ في تقرير
السلام العسكري والسياسي في داخل المملكة وخارجها، مع مراعاة قوانينها،
وشرائعها، وساعد الضعيف، وأعضد العاجز، وساو كليهما بالقوي، حتى لا
يكون امتياز ولا حيف، و (حتى) تكون حرية مطلقة في جميع الأديان والمذاهب،
تودد إلى الأمم الغربية على إخلاف نزعاتها، وحافظ على اتحاد أوستريا والمجر
حليفة جرمانيا الأمينة؛ لأن في هذا الاتحاد موازنة للسياسة الأوربية، ورابطًا بين
الدولتين من قديم التاريخ، ولا تحرم البلاد من فوائد السلم وثماره الطيبة المذاق،
إذا لم تكن الحرب أمرًا واجبًا فيما لو تعدت على ألمانيا دولة ورامت مهاجمتها أو
مهاجمة حليفتها، ولا تستخدم قوة ألمانيا لإثارة حرب عدائية تكون أنت البادئ فيها؛
فإن ألمانيا ليست في حاجة إلى مجد عسكري جديد، ولا إلى افتتاح حديث، حاذر
الحرب قدر استطاعتك وإياك، ودولة الشمال، ثابر على اتِّباع خطة المودة الوطيدة
نحو قيصر روسيا إسكندر الثالث، ودع ألمانيا أن تسير على خطة السلام والوفاق
الحبي مع روسيا، وابذل كل نفيس في سبيل مرضاتها، واستمالة ودها إليك، وأيد
الصلات السلمية التي كانت لنا في مدة المائة سنة الماضية في مملكة روسيا جارتنا،
فهذه كانت حاساتي (؟) الشخصية التي تنطبق على مصالح ألمانيا) . انتهى
هذا بعض ما وقفنا عليه من وصايا الإمبراطور غليوم الأول إلى حفيده
الإمبراطور غليوم الثاني، الذي بذل جهده في اتِّباع وتحقيق أماني جده من توثيق
عرى الصلات مع جاراته، والممالك المتحالفة معه، حتى تبقى العلائق الودية على
سابق حالها غير واهية ولا منفصمة.
وقد عرف العالم أجمع ما كان لروسيا من الشأن المهم في حربي عام 1866
مع النمسا، وعام 1870 مع فرنسا، والخدمة الجليلة التي قام بها إسكندر الثاني
قيصر روسيا في تسهيل الوحدة الألمانية، وقد عرف ذلك غليوم الأول، كما عرفه
وزيره البرنس بسمارك، ولهذا أوصى حفيده غليوم الثاني بتحسين صلاته مع
روسيا، ولا يزال العالم يذكر تلغراف غليوم الأول إلى القيصر إسكندر الثاني سنة
1870، إذ قال له (أعترف بأن جل الفضل في فوزي ونجاحي عائد إليك) فضلاً
عما كان من أعمال بسمارك في حياة غليوم الأول وفردريك الثالث في تسهيل
التقرب إلى روسيا بالرغم من التحالف الثلاثي، ومن مبادئ أوستريا وسياستها
البلقانية. وقد كان بسمارك لا يطيب له عيش إلا يوم يأمن نفوذ روسيا،
والإمبراطور غليوم الثاني ذاته - بعد قبضه على صولجان الإمبراطورية - زار
القيصر الروسي قبل أن يزور حليفتيه النمسا وإيطاليا، كما زار جده غليوم الأول
قيصر روسيا يوم تبوأ عرش أجداده، وعمل على تأييد التحالف الشمالي، واهتم
في زيادة التقرب من روسيا لتحسين صلات الدولتين، إذ لم يشأ أن يبتعد عنها لما
بين الأسرتين المالكتين في روسيا وألمانيا من صلة القربى، فضلاً عن ضرورة
الاحترام للوصية السابقة الذكر.
ولكن دلكاسه الداهية وزير خارجية فرنسا حالاً مشهور بعدواته لألمانيا، فعين
منذ سنة ونصف سفيرًا لدولته في بطرسبرج، واستطاع بدهائه الغريب أن يُفْهِم
روسيا أن النمسا ليست بالعدوة الرهيبة لو لم تكن تعضدها ألمانيا، وأن خير طريقة
لكسر شوكة النمسا هي إضعاف ألمانيا وساعدته الظروف، والحنكة السياسية،
فأبان لروسيا مطامع ألمانيا، وما صنعته مع روسيا في معاهدة برلين وغيرها، وقد
نجح دلكاسه في سياسته نجاحًا باهرًا، إذ أضاف إلى الحقد الكامن في قلوب الشعب
حقد الحكومة الروسية، فتراخت العلائق بين الحكومتين، وسعى القيصر للتملص
من ربقة نفوذ إمبراطور ألمانيا عليه، وخصصت حكومته عشرة مليارات ليرة
لنظارة الحربية لسنة 1913، واشترت بتسعة وعشرين مليونًا من الليرات
أوتوموبيلات حربية وأضافت عددًا عظيمًا إلى جيشها الهائل، وجعلت الخدمة
العسكرية في بعض الفرق أربع سنوات، وأرادت تغيير المعاهدة التجارية بينها
وبين ألمانيا، وضربت رسمًا باهظًا على القمح الوارد من ألمانيا إلى فنلندا،
وأطلقت سراح الصحافة؛ فأثارت على حكومة برلين عواطف السلافيين، ومكنت
الحقد بين الشعبين، وكان المسيو دلكاسه العامل في كل ذلك الذي وصل إلى هذه
النتيجة.
وكانت الأمة الروسية قد رأت خيلاء الأمة الألمانية؛ فهالها أمرها لاسيما
وهي تنظر إليها نظرة جار يود ضرر الآخر، تجارة، وصناعة، وسياسة. أضف
إليه الحقد المتولد في قلوب السلافيين ضد الجرمانيين، وتصرف بسمارك نحو
روسيا في معاهدة برلين كما قلنا بعد أن كان حليفها سنة 1878، وقلما ترى الآن
في روسيا من يحب ألمانيا، حتى من أولئك الذين يجري في عروقهم الدم الألماني
أو النمساوي كالبولونيين في بوزين، وفرسوفيا والتشك في برات، والصرب
والكروات في إغرام وبلغراد، حتى في طيات قلوب البلغاريين في صوفيا، وهذا
الحق المنفجر في جميع جوارح السلافيين أرغم حكومة بطرسبرج على الانتصار
للصربيين، وشهر الحرب على النمسا، وقد أرادت حكومة القيصر أولاً أن تتخذ
من السلافيين حقدهم لرشق نباله في صدور النمساويين فقط، وذلك لأن ألمانيا قد
لعبت دورًا مهما في بلاط روسيا لوجود عدد عظيم من الدوقات الألمانيات في
القصر الإمبراطوري - كماريا بافلوفنا قرينة الغراندوق فالديمير وإليزابت
فيودوروفنا شقيقة القيصر، ورئيسة دير كبير الراهبات، ودوقيات أولدنبرغ
وليستنبرغ، والإمبراطورة ألكسندرا - وعدد عظيم من القواد، والضباط، وولاة
الأمور الألمانيي الأصل الذين يشتغلون بجميع قواهم لزيادة متانة العلاقات بين
روسيا وألمانيا، عدا عن العلائق الوطيدة الشخصية بين القيصر والإمبراطور،
ولأن حربًا عوانًا تقع بين ألمانيا وروسيا لا تفيد الثانية كثيرًا.
أما حقد حكومة القيصر على النمسا فكان ولا يزال هائلاً جدًّا؛ لأن فيها إلا
أقل من 16 مليونًا من السلافيين تابعين لخمسة عشر مليونًا من الجرمانيين، لذلك
ليس من الصعب على حكومة بطرسبورج الضرب على وتر نصرتهم الجنسية،
فضلاً عن أن النمسا ما زالت تعرقل سياسة روسيا في البلقان، وكانت الحرب بينها
بين روسيا أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. اهـ.
__________
(*) منقولة عن جريدة الأفكار البرازيلية.(18/153)
الكاتب: حبيب الرحمن خان الشرواني
__________
ترجمة الشيخ شبلي النعماني
بقلم الشيخ حبيب الرحمن خان الشرواني
مترجمة من جريدة (عليكدة إنستيتيوت غازت) بقلم عبد الرزاق من تلاميذ
دار الدعوة والإرشاد.
انتهت السنة الثانية والثلاثون الهجرية على حادثة فجائية ستُذْكَر في تاريخنا
إلى زمن بعيد: أذيع خبر وفاة الشيخ شمس العلماء شبلي النعماني في صبيحة 28
ذي الحجة، أي في الوقت الذي تنير فيه الشمس العالم، ولكن وآسفاه غربت فيه
شمس العلم، وأظلم العالم العلمي.
(ثم بين الكاتب مجد المسلمين القدماء، وكثرة وجود العلماء والنابغين فيهم
الذين كانوا يخلفون السلف، وانحطاط المسلمين الآن، وفقدان الرجال الذين يحلون
محل موتاهم، قال:
إن في سيرة الشيخ عبرًا ودروسًا للطبقتين: طبقة النابتة الحديثة، وطبقة
العلماء، فلو كُتب تاريخه لكان نافعًا للمسلمين، وتوخيًا للفائدة نلمح إلى تاريخه
فنقول:
الشيخ شبلي النعماني من بلدة أعظم كدة الشهيرة، وهو من أسرة كبيرة،
وابن رجل عظيم، لا أعلم سنة ولادته؛ ولكني قرأت ما كُتب في الجرائد من أنه
ولد سنة 1857 أي سنة الثورة، وكان من أسباب تقدمه العلمي ذهنه الثاقب،
وطبعه السليم، وحرص والده على تثقيفه وتربيته، ووجود أستاذ كامل له كمحمد
الفاروق، الذي كان ماهرًا في العلوم العربية والآداب الهندية، أخذ الشيخ شبلي علم
الحديث عن العلامة أحمد علي الشهير، وبعد فراغه من التحصيل دخل خدمة
الحكومة، ولكنه لم يلبث أن تركها من تلقاء نفسه، ثم قُرر معلمًا للغة العربية في
كلية علي كرة، فاتخذ له بيتًا بجوار السيد أحمد خان رئيس الكلية، وكان السيد
يبحث في العلوم المختلفة، فاقتبس منه ومن المعلم آرنلد الأستاذ في الكلية معلومات
في الفلسفة والعلوم الحديثة، وهو الذي علم الأستاذ المذكور عليه كثيرًا من العلوم
الإسلامية واللغة العربية، لهذا كان في تأليف كتاب (الدعوة الإسلامية preachig
Islam of) للأستاذ آرنلد يد كبيرة للشيخ.
وخرج من الكلية سنة 1898 بعد أن توفي السيد أحمد، وذهب إلى حيدرآباد،
وهنالك كانت قد أسست الجمعية العلمية المسماة (السلسلة الآصفية) فتوظف فيها
براتب 200 روبية في الشهر (والآن قد زيد فيها مائة فصارت 300 روبية)
وألف بضعة كتب باسمها، ثم رتب مشروع كلية حيدرآباد.
ولما رجع من حيدرآباد طلبه محسن الملك رئيس الكلية لها ولكنه لم يقبل،
ورجح ندوة العلماء عليها، وأقام في مدينة لكهنؤ، فكان فيها عضوًا كبيرًا عاملاً،
وفهم مقاصدها حق الفهم، وأراد أن يثمرها فنظم شؤونها، وأصدر مجلة كبيرة
باسمها كانت من أشهر المجلات الهندية وأرقاها، وهي لا تزال فخرًا في اللغة
الهندية؛ ولكنه لما انتخب رئيسًا للجمعية بعد اعتزال رئيسها الشيخ محمد علي لم
يقدر على استخدام الأعضاء كلهم كما استخدمهم سلفه؛ لأنه اشتهر بحرية الرأي
والاجتهاد في كل شيء، فخالفه العلماء وظنوا به الظنون، حتى قال بعضهم: إنه
دهري ويريد إفساد الجمعية، فلم ينجح في عمله هذا كما ينبغي؛ ولكنه استطاع
تنفيذ كثير من مقاصدها.
وساح في البلاد الإسلامية في زمن إقامته في الكلية للاستعانة على تأليف
تاريخ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمطالعة الكتب التي لا توجد في الهند،
فكان الكتاب من أحسن الكتب التاريخية على طريقة حديثة، وسيكون فخرًا له إلى
الأبد، وبعد رجوعه من السفر ذهب إلى رستميد، فمرض هناك مرضًا شديدًا ذهب
بصحته الجيدة، فلم تعد إلى الموت.
ومن الحوادث المؤلمات في حياته إصابة رجله بالرصاص؛ وسبب ذلك أنه
كان جالسًا في حرمه والبندقية في يد زوجة ابنه، فسقطت على الأرض فأصابت
ساقه. وآخر حياته مملوءة بمخالفة العلماء له في الندوة؛ ولكنه مع هذا كله ما زال
مشغولاً بتأليف تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسل إليّ خطابًا قبل
وفاته بقليل وصف فيه تأثير موت أخيه في نفسه، ثم قال: أريد تأسيس دار
للمصنفين، ودار لتكميل العلوم أدرس فيها بنفسي التفسير والحديث ويدرس فيها
غيري من العلماء الآخرون لعلي أنجح في هذا بعد العجز عن العمل في الندوة التي
أضعت وقتي فيها، ولكن جاءت المنية قبل تحقق رجائه، جزاه الله خير الجزاء
لأعماله النافعة للمسلمين.
***
ترجمة الشيخ شبلي النعماني
بقلم عبد الرزاق
أحد طلبة دار الدعوة والإرشاد
كان الشيخ شبلي النعماني من أكبر علماء الهند قدرًا، وأوسعهم علمًا،
وأشدهم غيرة على الدين والأمة، خدم المسلمين زمنًا طويلاً، بدون تعب ولا نصب
ولا مبالاة بحوادث الدهر، ومن مزاياه الكثيرة أنه كان نابغًا في علوم عديدة،
مجتهدًا في الدين والعلوم العقلية، ماهرًا في تاريخ الشرق والغرب، أديبًا بارعًا في
اللغة العربية والفارسية، ينشد الشعر بالفارسية مثل أعظم شعراء العجم، وهو يعد
من أئمة اللغة الهندية، وأفصح كتابها، له كتب كثيرة جدًّا في الفلسفة والتاريخ
وآداب اللغتين الفارسية والهندية، وفي علوم شتى، وآخر كتاب كان يعنى بتأليفه
هو (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) ، ولم يكد يتمم جزءًا منه حتى عاجلته منيته،
وهو ابن خمس وستين سنة تقريبًا، هذا الكتاب ليس مثل سائر الكتب التاريخية،
بل أراد رحمه الله أن يكتب باستقصاء لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من آثار النبي،
وأقوال المتخرسين (؟) إلا أحصاها، وبحث فيها بحثًا فلسفيًّا ليس من ورائه بحث،
وكان من اهتمامه بالكتاب المذكور أنه قبل الاشتغال فيه أعلن في الجرائد الهندية
أنه يحتاج إلى خمسين ألف روبية (3325 جنيهًا) ليسافر إلى الممالك الإسلامية
والإفرنجية، ويطالع في مكاتبها الكتب المؤلفة في سيرة النبي - صلى الله عليه
وسلم -، وتساءل عمن يساعده بذلك؟ فأجابت طلبه (أميرة بهوبال) التي اشتهرت
بالأعمال الخيرية والعلمية، غير أنها لم تأذنه بالسفر لكبر سنه، وما أصابه من
المرض، بل وعدت بأن تطلب له جميع الكتب المحتاج إليها، وتعطي 200 روبية
شهريًّا لمترجمي الكتب الإفرنجية منها (لأن الشيخ لم يكن عالمًا بلغات العرب)
فاشتغل الشيخ بالكتاب ثلاث سنوات، وكمل منه جزء واحد كما ذكر آنفًا.
وكان ينتهز الفرص لينفع المسلمين، ومن مآثره أنه نجح في مسألة الوقف
على الأولاد عند الحكومة، فأجازته بعد أن كانت أبطلته.
ربما يظن ظان أن هذا الشيخ الجليل كان من متخرجي المدارس العالية، ومن
أصحاب الشهادات العليا، وليس الأمر كذلك؛ فإنه لم يتعلم في مدرسة ما قط، بل
كان يتلقن بعض العلوم المتروكة القديمة في بيوت بعض العلماء، ولم يكن يعلم
شيئًا من أحوال العالم المدني، ولكن علامات الذكاء كانت تنطق على سِيمَاه بعظيم
مستقبله.
ولما كمَّل دروسه غير المنظمة، انتظم في سلك المعلمين في كلية علي كرة
الشهيرة، وهنالك ظهر له أنه يوجد عالم غير عالمه، وعلوم غير الفقه والكلام
والفلسفة اليونانية، فأخذ يطالع العلوم حتى عُدَّ من أكبر علماء الهند، وفي هذه
الأثناء ساح في البلاد الإسلامية كلها ليعرف داء المسلمين ودواءه، وبعد رجوعه إلى
وطنه ابتدأ دوره الذهبي؛ لأنه ترك الوظيفة، ولم يعمل شيئًا بعد إلا لإصلاح
المسلمين، ولهذا الغرض أخذ على عاتقه مشروع ندوة العلماء، وهي لم تكن
شيئًا يذكر قبله، وبهمته العالية ترقت في مدة قصيرة حتى سُمع صوتها في العالم
المدني، وتخرَّج فيها العلماء والمربون، وكانت له أماني كثيرة حالت منيته دونها
إذا وافته بعد أن مرض نصف شهر، فسقطت بذلك حلقة كبيرة في سلسلة
المصلحين، وانطفأ مصباح الهند، فليحزن على فقده المصلحون، والهنود
المسلمون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
(المنار)
فقدنا الأستاذ النعماني في عهد هذه الحرب التي حرمتنا رؤيته، ما عدا جريدة
عليكدة من جرائد الهند، فلم نقف على شيء من تأبينها وترجمتها له، والشيخ
حبيب الرحمن الذي كتب تلك النبذة الوجيزة في جريدة عليكده من أهل العلم والدين،
وحزب المصلحين المعتدلين، ولكنه أوجز واختصر حتى أنه لم يذكر لنا
مصنفات الشيخ، ولعل أهل مصر وغيرها من البلاد العربية لا يعرفون منها إلا
رده الوجيز على كتاب تاريخ التمدن الإسلامي، وما هو إلا عجالة جعلها نموذجًا
لبيان ما أنكره من ذلك الكتاب، ولم يرد به الاستقصاء، وكنت رأيت له رسالة في
الجزية نشرت بعضها في المجلد الأول من المنار، وهي تدل على اجتهاد في
التاريخ وعلوم الدين، ومن سوء حظ المسلمين أن يقوم حزب الجمود في وجوه
هؤلاء الأفراد من المصلحين كالشيخ النعماني، ويحولوا بينهم وبين خدمتهم لملتهم
وأمتهم، ويضعف أنصار الإصلاح عن إحباط أعمالهم، ومما يذكر بالإعجاب في
ترجمته أنه لم يوجد في أمراء الهند وعظمائها رجل عرف قيمة هذا الأستاذ الكبير
المصلح، كما عرفته أميرة بهوبال فضلى نساء تلك الأقطار وأقيالها.
وسننشر في الجزء التالي كلمة وجيزة من صلة المودة بيننا، وبين الفقيد
وكتابًا منه يعلم منه شيء من صلته العلمية الدينية بصاحبة بهوبال، أدام الله النفع
بها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(18/156)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السر محمد سلطان آغا خان
زار مصر في أوائل هذه السنة السر محمد سلطان آغا خان زعيم طائفة
الإسماعيلية أقدم طوائف الباطنية، بل إمامهم ومعبودهم، جاءها عائدًا من لندرة
عاصمة إنكلترة - حيث يقيم معظم سنته - إلى وطنه بمبي أول ثغور الهند، حيث
يقيم مدة فصل الشتاء عادة، وقد نزل ضيفًا على الجنرال غرانفيل مكسويل القائد
العام للجيوش البريطانية بمصر، فلقي من الحفاوة والإكرام من الحكومة المصرية،
وكبراء الإنكليز ما يليق بمقامه ومكانه من ثقة الدولة البريطانية به، وإخلاصه في
خدمته لها.
وقد اجتمعت به في دار (مستر ستورس السكرتير الشرقي لدار الحماية
الإنكليزية) وتحدثنا أكثر من ساعة في الشؤون المصرية، وأحوال المسلمين في
مصر، وفي غيرها من الأقطار، وكان أكثر الحديث أسئلة منه وأجوبة مني،
وكنت أحب أن أسأله عن أمور فلم يتسع الوقت لذلك، وتحدثنا بتمني اجتماع آخر،
فلم يتيسر؛ ولعل من أسباب ذلك كثرة تنقله في البلاد المصرية، وعدم لبثه في
القاهرة بعد ذلك إلا قليلاً.
وقد كان أول حديثه الشكوى من قلة عناية المسلمين بالعلم، وسألني عن سبب
ذلك، فشرحت له رأيي فيه، ومما ذكرته له في ذلك أن العلم لا يرتقي وترتقي الأمم
به إلا بالعمل، ولا سيما العلوم الطبيعية والآلية (الميكانية) التي يشعر عقلاء
المسلمين بشدة حاجاتهم إليها، وتوقف مجاراتهم للإفرنج عليها، وأن أسبابا سياسية،
واجتماعية حالت دون السير في هذه العلوم على الطريقة العملية التي تتوقف على
إيجاد المعامل، ودور الصناعة في البلاد، وأن الحكومات هي ذات الشأن الأول في
إيجاد ذلك، وأكثر حكام المسلمين ليسوا منهم، وأما الحكومات الإسلامية المستقلة،
فقد كانت الدولة العثمانية، والإمارة المصرية - وهما أقربهن إلى الحضارة - شرعتا
في اقتباس العلوم والفنون الأوربية منذ مائة سنة أو أكثر، أي قبل شروع اليابان
في ذلك؛ ولكن حال دون استمرارهما على الطريقة العملية ما لا سعة في الوقت
لشرحه؛ فزالت المعامل ودور الصناعة التي شرع فيها محمد علي باشا كما اضمحل
ما أنشئ من ذلك في الآستانة، مع كون الحاجة إليها أشد، والقدرة عليها أتم، واكتفى
الترك والمصريون باقتباس المبادئ الناقصة من هذه العلوم والفنون، وإنما يتوسع
قليل منهم بما هم أقل حاجة إليه من غيره كالقوانين، وتاريخ الأمم الأوربية،
ولغاتها، مع جهلهم بشريعتهم، وتاريخ ملتهم، وآدابها، ولأجل هذا كان ضرر
أكثر المتعلمين أكبر من نفعه، ولما كان الطب لا يكون إلا عمليًّا كان هو أنفع ما
اقتبسناه من العلم الحديث، ففي مصر والبلاد العثمانية كثير من الأطباء الذين يخدمون
البلاد أَجَلّ خدمة، وكذلك الهندسة فإنها قد أفادت بقدر الحاجة إليها في الأعمال
كالري، وسكك الحديد، فالمهندسون المصريون لا يقصرون عن الأوربيين الذين
يعملون معهم في هذه البلاد.
أما حديثنا عن حالة مصر، ومسألة الحماية الإنكليزية الجديدة فلا يجوز نشره
الآن.
__________(18/159)
جمادى الأولى - 1333هـ
أبريل - 1915م(18/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
صَدَّق به وصَدَّق له
(س1) من صاحب الإمضاء مدير مجلة الأديان في بانجاب بالهند
سيدي العزيز:
كَتَبْتَ في أحد أعداد المنار (كما سَمِعْتُ) أن هناك فرقًا بين قولنا (صَدَّق له)
(وصَدَّق به) ، وقلت إن الأخير يفيد معنى التحقيق والإمضاء، والأول يفيد معنى
الإتمام (أي تحقق مضمون الشيء) ، وما استعمله القرآن بالنسبة إلى التوراة
والإنجيل هو التعبير الأول، وهذا التفسير هو الجدير بالاعتبار، ويحل الإشكال
الذي بين المسلمين والنصارى في مسألة شهادة القرآن لكتبهم، وإني أَعُدُّ لكم فضلاً
كبيرًا عليّ إذا أقمتم لي الدليل على هذا الفرق بين العبارتين؛ حتى يتيسر للإنسان
أن يقتبسه كلما قام جدال بيننا وبينهم في هذه المسألة، وأملي أن تبادروا بالجواب.
... ... ... ... ... ... ... ... عبدكم (؟) المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شرالي
... ... ... ... ... ... ... ... ... مدير مجلة الأديان
(ج) إن ما أشرتم إليه من التفرقة بين صَدَّق به، وصَدَّق له وقع في رسالة
الدكتور محمد توفيق صدقي لا في كلام المنار، وما ينشر في المنار لغيرنا لا يصح
أن نطالب بالدليل عليه، بل نُسْأَل عن رأينا فيه، والذي يؤخذ من استعمال القرآن
لكلمة التصديق، ومااشتق منها، ومن استعمال العرب هو أن " صَدَّق " فعل يتعدى
بنفسه كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} (الصافات: 37) ،
وأن التصديق يكون بالقول كقولك: صدق فلان فيما أخبر به، ويكون بالفعل،
ومثاله أن تقول: إن فلانًا سيفعل كذا، ويقول كيت وكيت - فيفعل ذلك الفعل، أو
يقول ذلك القول، فهذا يسمى تصديقًا لما قلته عنه، سواء أراد به ذلك أم لا، كل
جائز في اللغة مستعمل فيها، فتصديق نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم -
للمرسلين عليهم السلام، ولكتبهم يصح فيه الوجهان - يصح أن يراد به إخباره
بصدقهم فيما بلغوه عن الله تعالى، وأن يراد به أن بعثته، وصفاته، وأفعاله دلت
على صدقهم في البشارة به، وبكل من القولين قال أهل التفسير المأثور والمعقول،
والقرائن ترجح أحدهما على الآخر في المواضع المختلفة.
ولم يرد صدّق متعديًا باللام فيما نعلم، أما مثل قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا
أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} (البقرة: 41) وقوله: {وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91) فاللام فيه للتقوية، لا للتعدية، وهو بمعنى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (الأنعام: 92) ، ومعنى ذلك أنه دال على
صدق تلك الكتب فيما بشرت به من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ناطق
بصدق أولئك المرسلين فيما جاءوا به عن الله تعالى، فإن أريد بالتصديق القولي منه
فهو لا ينافي ما أثبته في آيات أخرى من تحريف القوم لبعض تلك الكتب الصادقة،
ونسيانهم حظًّا منها ومثاله أن يقول قائل لقوم إن فلانًا المؤرخ صادق، وإن ما كتبه
لكم من تاريخكم، أو تاريخ كذا صحيح، ولكنكم نسيتم بعض ما جاءكم به فلم
تحفظوه، وحرفتم بعض كلمه فلم تبينوه، ولم تستبينوه، هذا هو التحقيق في تفسير
الآيات الواردة في هذه المسألة، وقد فصلنا القول فيها في مواضعها من التفسير
وأيدناه بالدليل.
وأما قولهم: صدق بكذا أو بفلان، فهو ليس من التصديق الذي معناه مجرد
إثبات الصدق بالقول أو الفعل، فإن التصديق بمعنى إثبات الصدق يتعلق بالأقوال لا
بالأشخاص والأشياء، فإذا أُسْنِد إلى الأشخاص؛ فإنما يُسْنَد إليهم باعتبار مضاف
محذوف (فمعنى صَدَّق المرسلين) ، صَدَّق أقوالهم، فإذا عُدِّي التصديق بالباء كان
متضمنًا لمعنى الإيمان، فكان تصديق اعتقاد محله القلب، فالتصديق بالنبي هو
الإيمان بنبوته، لا قولك بلسانك إنه صادق، ولا فعلك فعلاً يدل على صدق كلام قاله
وأما تصديقه فيشمل هذا وذاك، والمُصَدِّق باللسان قد يكون غير مُصَدِّق بالقلب،
وحقيقة معنى تضمين فعل معنى آخر هو أن تضم معناه إلى معنى الفعل الأصلي
بتعديته إلى ما يتعدى إليه؛ لكي يدل على معناه أولاً وبالذات، وتبقى دلالته على
معناه الأصلي مرادة، ولو على سبيل اللزوم والإكمال كقوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} (النساء: 2) ، أي لا تأكلوها بضمها إلى أموالكم لتكون
ربحًا لكم ككسبكم، وهذا لا ينافي الأكل منها بمخالطة اليتيم، وإشراكه مع الوصي في
المعيشة، مع اتقاء الوصي قصد الربح منه، كما أنه لا ينافي ضمها إلى أمواله
لحفظها معها لليتيم لا لنفسه.
وقد اُسْتُعْمِل التصديق في القرآن متعديًا بالباء في أربعة مواضع:
1- قوله تعالى حكاية لبشارة الملائكة لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّه} (آل عمران: 39) .
2- قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (الزمر: 33) .
3- قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (التحريم: 12) ، أي
السيدة مريم عليها السلام.
4- قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل: 6) ، فكل موضع من هذه
المواضع يراد بالتصديق فيه الإيمان المستلزم للتصديق اللساني، والحسنى صفة
لمحذوف قيل هو كلمة التوحيد، واختار شيخنا أنه الشريعة والملة.
والإيمان يتعدى بنفسه بالباء، وإذا تعدى باللام كان متضمنًا لمعنى الاتباع،
كما لا يخفى على من استقرأ استعماله في الكتاب العزيز، وكلام فصحاء العرب
والله أعلم.
***
أول الخلق وكونه
نور النبي صلى الله عليه وسلم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (تأخر كثيرا)
(س2) من صاحب الإمضاء في الجامع الأزهر.
فضيلة الأستاذ! بعد تقديم اللائق بمقامكم، أعرض على حضرتكم مسألة
طالما تكررت على مسامعنا، ولم نفقه لها معنى، وسألت عنها بعض مشايخي
بالأزهر، فأجابوا بأنها من مواقف العقول فأرجو من فضيلتكم الشرح عنها.
سمعنا أن الأشياء خُلقت من نوره - صلى الله عليه وسلم -، وأنه موجود
قبل الكائنات، فما معنى النور الذي خُلقت منه الكائنات؟ ، وكيف يقبل القسمة مع
أنه من المكيفات؟ ، وكيف يكون النبي أولاً وآخرًا؟ أجيبوا لا زلتم للدين منارًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد مصطفى السقا
(ج) ما يُذْكَر في الموالد، وبعض الكتب من كون أول الخلق نور النبي -
صلى الله عليه وسلم - لا يصح منه شيء، فما يبنى عليه من الإشكال ساقط،
يصدق عليه ما قلناه في الأمر الثاني من جواب السؤال عن عدد صفات الله تعالى،
وعلمه بها (في ص 739 م 17) .
وتجدون البحث في مسألتكم مفصلاً في (ص865-869) من مجلد المنار الثامن.
***
كتاب الجفر
وحديث الاستعاذة من الحَوْر بعد الكَوْر
(س3و4) من صاحب الإمضاء في جهة أبي كبير (الشرقية)
حضرة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فنرجو أولاً التكرم بإفادتنا عن كتاب الجفر
المنسوب للإمام علي - كرم الله وجهه - هل هو صحيح أو باطل، وما هي أدلة
المثبتين، وما هي أدلة النافين، وما هو رأيكم الخاص.
ثانيًا: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نعوذ بالله من الحَوْر بعد
الكَوْر) .
... ... ... ... ... ... ... ... هذا وتنازلوا بقبول فائق احترامي
... ... ... ... ... ... ... ... أبو هاشم علي قريط
(ج) أما كتاب الجفر فلا يُعْرَف له سند إلى أمير المؤمنين، وليس على
النافي دليل، وإنما يُطْلَب الدليل من مدعي الشيء، ولا دليل لمدعي هذا الجفر.
وأما معنى الحديث فقد قال ابن الأثير في النهاية: (نعوذ بالله من الحور بعد
الكور) أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها، وقيل: من
الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا منهم، وأصله من نقض العمامة بعد لفها. اهـ
وفي لسان العرب: يقال كار عمامته على رأسه إذا لفها، وحار عمامته إذا نقضها.
__________(18/178)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حرب المدنية الأوربية
والمقارنة بينها وبين المدنية الإسلامية
والفتوحات العربية
لقد أرتنا هذه الحرب من ضروب العبر، ما لم يكن يخطر قبلها على قلب
بشر، وهتكت لنا من أستار الرياء، ما أرانا كثيرًا من حقائق الأشياء، التي لم يكن
يلمحها إلا أفراد الحكماء، فظهر للذكي والبليد، والغوي والرشيد، أن هذه المدنية
المادية، مدنية قوة وحشية، وشهوات بهيمية، كانت تخدع الأبصار، وتفتن
البصائر بما يدعيه أهلها في زمن السلم من حب الحق، والتحلي بلباس الفضائل،
وإقامة ميزان العدل، وثل عروش أئمة الجور والظلم، حبًّا في سعادة الناس،
ورغبة في المساواة بين الأفراد والأجناس.
وقد كان من مقدمات هذه الحرب بين الدول الكبرى حربان في البلقان،
اقترف فيهما البلقانيون من ضروب القسوة، وفظائع العدوان، وتقتيل الشيوخ
والوِلْدان، وهتك الأعراض ونهب الأموال، ما لم يعرف التاريخ أقبح منه منظرًا،
ولا أسوأ عاقبة وأثرًا، ولم يكن يخطر في بال أحد أن هذه الموبقات يمكن أن يقع
مثلها من دولة من الدول الكبرى، ودول العلم، والفنون، والمدنية الرائعة في هذا
العصر الذي يفضلونه على جميع العصور، ويسمونه عصر الحضارة والنور، نعم
إن أنواره المادية يكاد شعاعها يَذْهَب بالأبصار، ويمكن أن يفضل بها الليل على
النهار؛ ولكن يتمثل لك في هذا الضوء عالم المدنية هيكلاً من هياكل الوثنية، قد
نصب في محاربة تمثال القوة الحربية، واضعًا إحدى قدميه على الحق، والأخرى
على الفضيلة، رافعًا بيمنى يديه راية القهر والسلطة، وبشمالها راية الشهوة واللذة،
والناس ما بين راكع له وساجد، ومحرق للبخور ومُقَدِّم للذبائح.
قلما كان أحد من الناس يظن أن دول العلم والحضارة تقترف مثل ذلك الظلم
والعدوان، وتجترح تلك السيئات التي اجترحتها شعوب البلقان، فجاءت هذه
الحرب مكذبة لظن الخير فيها، وأحقت من القضاء بالقسوة والفظاعة عليها شر ما
أحقت على من قبلها، إذ كانت أقدر على التنكيل والتدمير من البلقانيين الذين هم
عالة عليها، بقدر ما آتاها العلم من أسبابها وآلاتها، فقد جعلت العلم الجدير بأن
يكون مصدر العدل والرحمة والسعادة مصدرًا للظلم والقسوة والشقاوة، فهذه دولة
ألمانيا الممتازة بسعة العلوم، واتقان الفنون، قد امتازت بما اخترعته من آلات
التخريب، وأسباب المنون، وينقل لنا عنها محاربوها ما تقشعر منه الجلود،
ويتصدع من هوله الحجر الجلمود، من مدافع تدرك الحصون والمعاقل،
وغواصات تنسف البوارج والبواخر، وغازات سامة يتكون منها دخان أخضر،
يقتفي آثاره الموت الأحمر، فهو مصداق قول الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 10-11) .
وضعوا للحرب قوانين لتخفيف نكباتها ومصائبها مستمدة محاسنها من الشريعة
الإسلامية شريعة العدل والرحمة؛ ولكن ثبت أنهم ما رعوها حق رعايتها، وإنما
يعملون بها في بعض الأمور الظاهرة المشتركة بين كل من المتقاتلين كمعاملة
الأسرى، ومن أمن منهم أن يُعَاقَب بمثل عاقب به لعجز خصمه، أو لإمكانه إخفاء
جنايته، لم يلتزم أحكام قوانين الحرب، وحقوق الدول، ولا معاهداتها احترامًا لها،
أو حبًّا في الحق والعدل اللذين تُوضَع القوانين والعهود لأجلهما.
فأين حرب هذه الأمم والدول التي خدع الناس كلهم حتى المسلمون بها،
وصاروا يباهون بفضائلها، وارتقائها في معارج المدنية الإنسانية بعلومها وفنونها،
ومن حرب الصحابة الذين كان أكثرهم أميين؟ تلك الحرب التي لم يعرف التاريخ
البشري مثلها في رعاية الحق والعدل والورع، واستعمال الرأفة والرحمة في السر
والعلن، بل شهد فيلسوف التاريخ والاجتماع (غوستاف لوبون) للعرب كلهم بذلك
فقال: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب، فبذلك العصر النوراني
فليفاخر المفاخرون، لا بعصر الوحشية المنظمة التي جاء بها القرن العشرون.
هل نقل ناقل أو قال قائل إن أحدًا من الصحابة - عليهم الرضوان - أو
ممن حارب معهم من التابعين انتهك عرضًا، أو قتل شيخًا، أو امرأة، أو غلامًا،
أو سلب لأحد من أعدائه مالاً، أو هدم كنيسة أو ديرًا، أو قتل راهبًا، أو قسيسا؟
أو مَثَّل بقتيل، أو أجهز على جريح؟ كيف وقد كان الرسول - صلى الله عليه
وسلم - يوصيهم بمثل قوله: " انطلقوا بسم الله وبالله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا [1] ،
ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك،
وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا بعث جيوشه قال: (اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله،
لا تغدروا، ولا تُمَثِّلوا [2] ، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع) .
ومن وصايا الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - المقتبسة من
مشكاة النبوة ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشًا
إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك
الأرباع فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا
هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخرب عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا
لمأكله، ولا تعقرن نخلاً ولا تحرقه، ولا تغلل ولا تخبن [3] .
نعم قد كان يقع قليل من الشذوذ يقابل بالإنكار، إلا إذا دفع إليه الاضطرار،
والنادر لا حكم له، روى الشيخان وأصحاب السنن ما عدا النسائي وغيرهم عن
ابن عمر قال: وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم-
فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان.
وروى أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وغيرهم عن رياح بن
ربيع: أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها، وعلى
مقدمته خالد بن الوليد فمر رياح وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها؛ حتى لحقهم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، فأفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وقال: (ما كانت هذه لتقاتل - وقال لأحدهم - الْحَقْ
خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا) [4] ، وروى أبو داود في مراسيله عن
عكرمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال:
(من قتل هذه؟) فأخبره رجل أنه كان غنمها فلما رأت الهزيمة أهوت إلى قائم سيفه
لتقتله به؛ فقتلها قبل أن تقتله. ولا أتذكر قتل امرأة في مغازى النبي - صلى الله
عليه وسلم - غير هاتين إلا تلك المرأة اليهودية التي أمرها زوجها أن تلقي الرحى
على بعض المسلمين في غزوة بني النضير ليقتلوها فلا تعيش بعده إذ كان موطنًا
نفسه على أن يقاتل حتى يُقْتَل ففعلت.
وقد كان رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنساء أعظم من ذلك فقد روى
ابن إسحاق أن بلالاً مر بصفية وابنة عم لها على قتلى يهود بعد سقوط حصن بني
أبي الحقيق، فلما رأت المرأة القتلى صكت وجهها، وصاحت، وحثت التراب
على وجهها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال " أَنُزِعَت الرحمة من قلبك
حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟) .
ومن ضروب العبرة في حرب المدنية الأوربية كثرة ما يتقاضونه من البلاد
التي يفتحونها من الغرامات، وما يفرضونه عليها من الإتاوات، وقد كان المسلمون
الأولون يكلفون أهل البلاد ضيافة ثلاثة أيام، لضرورة الحاجة إلى القوت وعدم
تيسر أسبابه بالطرق النظامية المتبعة في هذه الأيام، وأما الجزية والخراج اللذان
يفرضونهما على أهل البلاد فهما أقل مما تفرضه كل حكومة من حكومات الأرض
على أبناء جنسها في بلادها، دع ما تفرضه الحكومات الأوربية في مستعمراتها،
فهو يستغرق معظم غلات أرضها، فلا يبقى لأكثر أهلها منها إلا ما يسد الرمق،
ويستعين به على مداومة العمل، وقد قرأنا في الصحف ما فرضه الألمان على أهل
بلجيكة من الغرامات، وما حَمَّلُوها من الأثقال، بعد ما حل بهم ما حل من الخزي
والنكال، فإذا هو مما تعجز عن حمله الجبال لا الجمال، ولا غرو فإن كل حظ
أهل هذه المدنية المادية من الحياة والدافع لها إلى القتال، إنما هو الاستكثار من
جمع الأموال، والتمتع باللذة، والعظمة، والسلطة، والجاه، ولو ظفر البلجيكيون
بالألمان، لأنزلوا بهم الخزي والهوان، وعاملوهم كما عاملوا أهل الكونغو منذ
أعوام، فأين هذا من عفة المسلمين ولا سيما الصحابة الكرام.
روى البلاذري في فتوح البلدان عن سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما
جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم عليهم لوقعة اليرموك ردوا
على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم
والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما
كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض
اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغْلَب ونجهد،
فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى
واليهود، وقالوا إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه،
وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلما هزم الله الكفرة (يعني الروم، أي
الرومانيين) ، وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم، وأخرجوا المقلسين، وأدوا الخراج.
اهـ.
وفي رواية أحفظها ولا أتذكر موضعها الآن أن الصحابة لما ردوا ما كانوا أخذوا
من الجزية قالوا إنا كنا أخذناها جزاء حمايتكم والدفاع عنكم، وقد عجزنا الآن عن
ذلك، فحلف الأهالي أن أبناء دينهم ما كانوا ليرجعوا مالاً أخذوه ... إلخ.
فهل عُهِدَ من فاتح في الأولين والآخرين أن يرد الخراج إلى أهل البلاد التي
يفتحها، بناء على أن الخراج لا يباح أخذه إلا لأجل حفظ البلاد والدفع عنها، وأن
العجز عن ذلك وإن كان في سبيل الدفاع عن تلك البلاد يُوجِب رد الأموال إلى
أصحابها؟ لا لا، إن هذا العدل والورع لم يعرفه البشر إلا من الصحابة - رضي
الله عنهم -، فإن كان من وليهم من خلفاء العرب وأمرائهم دونهم، فهم يَفْضُلون
سائر الأمم في رفقهم وقناعتهم.
كان بنون أمية أحرص العرب على نعيم الملك وسعة العيش، فخرجوا في
كثير من أمر السلطة والتصرف في بيت المال عن السنة المتبعة وسيرة الخلفاء
الراشدين، وإنما استقام عليها منهم عمر بن عبد العزيز، أما سيرتهم في الغزو،
والقضاء بين الناس، وإدارة البلاد فكانوا يتحرون فيها العدل والرحمة، وكذلك
كانت سيرة العباسيين في الشرق، والأمويين في الغرب (أي الأندلس) ، ومن شذ
عن ذلك لغير سبب حفظ الملك كان مذمومًا، وعرضة للعقاب، وقد تضاعفت ثروة
الممالك، واستبحر عمرانها بعد أن انتزعوها من الروم والفرس، بما كانوا
يسوسونها به من الرحمة والعدل، ولم يفطن لهذا بعض الكتاب الذي انبرى في هذه
الأيام إلى ذم ولاة العرب بكونهم لم يكن لهم هم إلا جباية الخراج، وقوله - في
أفراد منهم - إنهم لم يفعلوا شيئًا للبلاد، أو لم يقل فلان المؤرخ إنهم فعلوا شيئًا،
وهو يعلم علمًا ضروريًّا أن عدم القول لا يستلزم عدم الفعل، وإن ما سكت عنه زيد
يجوز أن لا يسكت عنه عمرو، ويعلم علمًا نقليًّا أن مزية الفاتحين الأولين من
العرب هي العدل والرحمة، لا الصناعة التي امتاز بها مؤسسو الأهرام وأمثالهم،
وكانت ولا تزال شاهدة على استبدادهم وظلمهم.
كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز يشكو إليه قلة دخل بيت المال بمصر
بكثرة دخول الناس في الإسلام، ويستأذنه في ضرب جزية على المسلمين، فكتب
إليه عمر هذه الكلمة العالية (إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ هاديًا، ولم
يُبْعَث جابيًا) .
وكتب إليه عدي بن أرطأة: أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن قِبَلي
أناسًا من العمال قد اقتطعوا من مال الله - عز وجل - مالاً عظيمًا لست أرجو
استخراجه (وفي رواية: لست أقدر على استخراجه) من أيديهم إلا أن أمسهم
بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك فعل، فأجابه بقوله:
(أما بعد فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر، كأني لك
جُنة من عذاب الله، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من
قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه به البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما
أقر به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله، وايم الله لأن يلقوا الله - عز
وجل - بخياناتهم، أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم. والسلام) .
وروي عن يحيى الغساني أنه قال: لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل
قَدِمْتُها فوجدتها من أكثر البلاد سرقًا ونقبًا، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد وأسأله:
آخذ الناس بالظنة، وأضربهم على التهمة، أم آخذهم بالبينة، وما جرت عليه
السنة؟ فكتب إليّ أن خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم
الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت
من أصلح البلاد، وأقلها سرقًا ونقبًا.
ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما تراه في كلام كثير من الكتاب من
بنائها على قاعدة من قواعد المدنية الحديثة قررها الألمان، وتوسعوا في فلسفتها،
وألفوا فيها الكتب، ووافقهم عليها من وافقهم بالقول والفعل ودون القول - وهي
قاعدة " الحق للقوة " - وقد نشرنا في الجزء الذي قبل هذا مقالاً في شان الكتاب
الذي ألفه أحد قواد الألمان وعلمائهم (الجنرال فون برنهاردي) في ذلك وسماه
(المنطق والمبادئ في الحروب) ، وفي نقد مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية له،
ومنه تعلم أنهم جعلوا الأثرة وتفضيل الأقوياء على الضعفاء حتى في الحقوق المدنية
مما تقتضيه الفضيلة والحكمة، بل زعموا أنه من أصول الديانة المسيحية وأحكامها،
وأن مساواة الشعب الغالب للشعب المغلوب لا يجوز في نظر العلم والفلسفة ولا
في حكم الدين.
ندع لعلماء اللاهوت ورجال الكنسية حكمهم فيما عزاه الجنرال الألماني في
الإيثار (الذي يعبر عنه القوم بإنكار الذات) ، وهو ضد الأثرة التي يدعيها هذا
الفيلسوف الألماني وغيره، فهو ينافي طلب السلطة وانتزاع ملك الناس وملكهم
بالقوة، لأجل التمتع بالجاه واللذة، لأن من قواعد الإنجيل أن يعطي المؤمن ماله
لغيره، فكيف يتفق هذا مع انتزاعه من غيره ما يملكه؟ وأما الإسلام فهو وسط بين
هذه المدنية المادية، وبين زهد المسيحية، فهو دين سيادة وسلطة مدنية، وفضيلة
أدبية روحية. فإلإيثار فيه فضيلة مندوبة، وهو في المسيحية فريضة مطلوبة، قال
الله تعالى في وصف المؤمنين {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ، وأما قاعدة الإسلام في الأحكام فهي العدل والمساواة في الحقوق بين
المؤمن والكافر، والبَر والفاجر، والقريب والبعيد والحبيب والبغيض، قال تعالى:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) ،
والآيات في هذا المعنى كثيرة أوردنا طائفة منها في الرد على الكاتب الأمريكي
الذي زعم فيما - كتبه بمناسبة إلغاء الدولة العثمانية الامتيازات الأجنبية أن الشريعة
الإسلامية جاءت بعدم المساواة بين المسلم وغيره، وبَيَّنَّا هنالك أنه لا تُعْرَف شريعة
في الأرض قررت هذه المساواة غير الشريعة الإسلامية. وقد جرى على ذلك
الخلفاء الراشدون على وجه الكمال، وكان هو الأصل والقاعدة عند الأمويين
والعباسيين في القضاء، وإنما وقع الشذوذ والخروج عنه في بعض الأحكام
السياسية والعسكرية.
واقعة مساواة عمر بن الخطاب بين علي صهر الرسول وابن عمه، وبين
رجل من عامة اليهود، وغلط عمر في تسمية اليهودي، وتكنية عليّ، واستياء
عليّ منه لتفضيله إياه على خصمه بالتكنية، واعترافه هو بأن ذلك خطأ - واقعة
مشهورة معروفة، وقد جرى لعمر بن عبد العزيز ما يقرب منها:
قال الحكم بن عمر الرعيني: شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير
إسحق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة، فقال عمر لمسلمة: لا تجلس على
الوسائد، وخصماؤك بين يدي؛ ولكن وكل بخصومتك من شئت وإلا فجاثي [5] القوم
بين يدي، فوكل مولى له بخصومته، فقضى عمر عليه بالناعورة. ذكره الحافظ
ابن الجوزي في سيرته.
قلت: إن هذه الواقعة تشبه واقعة عليّ مع اليهود، وأعني بالتشبيه المساواة في
التكريم والاحترام بين الرفيع، وإن كان من بيت النبوة أو الملك، وبين سائر
الناس حتى من غير المسلمين، فعليّ كان سيد آل بيت الرسول وعمادهم، ومسلمة
كان من بيت الملك فهو ابن عبد الملك بن مروان، وناهيك بما كان لبني عبد الملك
من العز والسلطان.
أما المساواة في الحقوق نفسها فكانت هي الأصل الذي يجري عليه كل الحكام
إلا من شذ لأسباب عارضة، أو لفساد في خلق الشخص، ووقائعها في عهد عمر
بن عبد العزيز لا تحصى، وقد كان أول مظلمة رفعت إليه يوم توليته مظلمة ذمي
من أهل حمص ادعى أن العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبه أرضه، قال عمر:
يا عباس ما تقول، قال أقطعنيها - أي الأرض - أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك،
وكتب لي بها سجلاًّ، فقال: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك
كتاب الله عز وجل، فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد
الملك، اردُدْ عليه يا عباس ضيعته، فردها عليه.
وقد كان أهل بيت الملك من بني أمية تأثلوا ضياعًا، ومزارع كثيرة من بيت
المال، وكان لبعض الناس في بعضها حق أو مقال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز
ردها، وكان أول ما بدأ به رد ما كان له ولولده من ذلك.
وروي أنه استشار مولاه مزاحمًا في ذلك فقال: يا مزاحم إن هؤلاء القوم
أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك
قد صار إلي ليس عليّ فيه دون الله محاسب، فقال له مزاحم: يا أمير المؤمنين هل
تدري كم ولدك؟ إنهم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه فجعل يستدمع، ويقول: أَكِلُهم
إلى الله تعالى، ثم ذهب مزاحم، وذكر ذلك لعبد الملك بن عمر عسى أن يكف أباه
عن ذلك، فقال له عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم، ثم وثب فانطلق
إلى بيت أبيه عمر فاستأذن عليه فقال له الآذن: إن أمير المؤمنين قد وضع رأسه
للقائلة، قال استأذن لي، قال: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه
الوقعة، قال عبد الملك: استأذن لي لا أم لك، فسمع عمر الكلام، فقال: من هذا؟
قال هذا عبد الملك، قال: ائذن له، فدخل عليه، وقد اضطجع للقائلة، فقال:
ما حاجتك يا بني في هذه الساعة، قال: حديث حدثنيه مزاحم، قال: فأين وقع
رأيك من ذلك؟ قال وقع رأيي على إنفاذه، قال: فرفع عمر يديه، وقال: الحمد
لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني، نعم يا بني، أصلي الظهر،
ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس، فقال عبد الملك: ومن لك
بالظهر يا أمير المؤمنين! ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر
! فقال: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي:
الصلاة جامعة، فيجتمع الناس (قال إسماعيل بن أبي حكيم الراوي لهذه الواقعة
وهو من رجال صحيح مسلم) فنادى المنادي: الصلاة جامعة فخرجت فأتيت
المسجد فجاء عمر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها.
وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليّ ليس عليّ فيه دون الله محاسب، ألا
وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم.
قال الراوي: وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال جونة فيها تلك الكتب، فقرأ
مزاحم كتابًا منها فلما فرغ من قراءته ناوله عمر - وهو قاعد على المنبر وبيده جَلم
(أي مقص) فجعل يقصه بالجلم، واستأنف مزاحم كتابًا آخر، فجعل يقرؤه فلما
فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه، ثم استأنف كتابًا آخر، فما زال حتى نودي بصلاة
الظهر.
هذه هي أحكام الإسلام، فمن خالفها كان خارجًا عن هديه، استعملوا القوة في
إقامة العدل مع الرحمة، وبذلك ساد من ساد من خلفائهم ودولهم، فقاعدتهم (القوة
للحق) ، وقاعدة المدنية الحديثة (الحق للقوة) ، وأما المتأخرون منا فهم مذبذبون
بين ذلك لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وما رأيت أصدق في وصف القوم
ووصفهم من قول شاعر بني العنبر أول شعراء الحماسة:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذًا لقام بنصري معشر خُشُن ... عند الحفيظة أن ذو لُوثَة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم ... طاروا إليه زرقات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنُّوا الإغارة فرسانا وركبانا
ومن ضروب العبرة في هذه الحرب ما نراه في أخبارها من الكذب،
والتناقض، والتعارض، والتهاتر، والتمويه، والتدليس، وسوء التحريف، وفساد
التأويل يشترك في ذلك أصحاب الشركات البرقية، والجرائد السياسية، حتى سرى
إلى المجلات التاريخية والعلمية، بل لم يعد أحد من الناس يثق كل الثقة بالتقارير،
والبلاغات الرسمية، لأنهم يرون كل خصم يُكَذِّب خصمه في أخباره الرسمية، ولو
سئل أصحاب الجرائد في كل قطر من الأقطار عن سبب ما ينكر عليهم مما ذكر -
لأجابوا: أن سببه الأول تضييق حكوماتنا علينا، وإلزامها إيانا عرض كل ما
نكتبه على رقبائها الذين سلبوا حرية الكتابة منا، مع اجتهادنا في جعل ما نكتبه
موافقًا لمصلحتها، وتجنبنا من تلقاء أنفسنا كل ما نرى أن نشره مخالف سياستها.
هذا عذر عارض، والمشهور بين الناس أن الجرائد لا تتحرى الصدق فيما
تنشره، لا في أيام السلم وعهد الحرية، ولا في أيام الحرب وعهد المراقبة، وأنها
تتعمد الكذب والتمويه إذا كان لها في ذلك منفعة، والحق أنها تواريخ فيها الصادق
والكاذب، والحق والباطل، تجمع بين الدرة والبعرة، وتأتي بالذرة وأذن الجرّة،
وإنني لا أشهد لجريدة من الجرائد التي أعرفها في الشرق أنها تمثل حال البلاد التي
تصدر فيها والأمة التي تتكلم عنها تمثيلاً صحيحًا، كما يعرفه المختبر للبلاد وللأمة
ولو كانت هذه الجرائد في عصر رجال الجرح والتعديل من المحدثين، لجعلوا
أصحابها في عداد الوضَّاعين، ولم يرتقوا بهم إلى درجة الضعفاء أو المدلسين،
كيف وقد ضَعَّف بعضهم القاضي الواقدي، وبعضهم قال إنه كذاب، وإنه كان يضع
الحديث، وهو من أكبر الحفاظ، وأشهر المؤلفين، كتب عنه سليمان الشاذكوني
كتابًا، ثم أتاه فسأله عما كتبه عنه قبل أن يخرج به، فإذا هو لم يغير حرفًا منه.
لم تُعْنَ أمة من أمم العلم بمثل ما عني به المسلمون من ضبط الرواية في
القرون الأولى، فإن كانوا دونوا في تواريخهم كل ما قيل، ما صح منه، وما لم
يصح لأجل الجمع والإحصاء، فالعمدة عندهم على الأسانيد، فما كان محل الشبهة
منها أمكن تمحيص الرواية فيه بالبحث عن رجال سنده، فإذا انفرد بعض الرواة
والمؤرخين بطعن في العلويين أو الأمويين أو العرب - مثلاً - يمكننا بالنظر في
السند أن نعرف هل فيه أحد المتعصبين غير الثقات من النواصب، أو الروافض،
أو الشعوبية، فنتهمه بوضعه أم لا؟ وتحرير هذه المسألة لا يمكن إلا بمقال طويل،
وعلى الله قصد السبيل.
__________
(1) المراد بالشيخ الفاني من لا يقاتل، وقد كان الناس كلهم مقاتلة إلا هؤلاء الذين نهى الحديث
عنهم، والقاعدة الإسلامية العامة أنه لا يُقَاتَل إلا من يُقَاتِل.
(2) الغلول: الخيانة في الغنائم، والتمثيل: تشويه الأعضاء بنحو قلع العين، وجدع الأنف، وصلم الأذن، وقد حرم الإسلام التمثيل بالقتلى فضلاً عن الأحياء، وقد ثبت وقوع التمثيل في حرب المدنية الأوربية، وفي الحرب البلقانية قبلها.
(3) أخبن الرجل: خبأ في خبنة ثوبه أو سراويله شيئًا، والخبنة بالضم طية الثوب، وثنيته، وفي نسخ الموطأ المطبوعة وأكثر الكتب التي نقلت عنه: ولا تجبن، بالجيم.
(4) العسيف: الأجير.
(5) أي اجلس بإزائهم جاثيًا على ركبتك مثلهم إذ لا تمييز في الخصومة بين أبناء الخلفاء والأمراء، وبين دهماء الناس كأهل الدير وغيرهم.(18/182)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(5)
الفرق بين الهواء الداخل إلى الرئتين والخارج منهما:
الهواء الداخل إلى الرئتين تركيبه عين تركيب هواء الجو أعني هكذا:
أكسجين ... ... ... ... ... ... ... ... ... 20.96 في المائة [1]
نيتروجين ... ... ... ... ... ... ... ... ... 79 في المائة
غاز حامض الكربونيك (وهو غاز ثاني أكسيد الفحم) ... 0.04 في المائة
بخار الماء ... ... ... ... ... ... ... ... ... كمية مختلفة
وحرارة هذا الهواء تختلف باختلاف الجهات والأوقات وغير ذلك.
أما الهواء الخارج من الرئتين فتركيبه كما يأتي:
أكسجين ... ... ... ... ... ... ... ... 16.03 في المائة
نيتروجين ... ... ... ... ... ... ... ... 79 في المائة
غاز ثاني أكسيد الفحم ... ... ... ... ... ... 4.40 في المائة
بخار الماء ... ... ... ... ... ... ... ... الهواء مشبع به
الحرارة ... ... ... ... ... ... ... ... ... كحرارة الجسم
فيُفْهَم من ذلك أن النيتروجين لا تتغير كميته لعدم حاجة الجسم إليه من طريق
التنفس؛ فيذوب في الدم كما يذوب في الماء، ولا عمل له في الجسم مطلقًا، وفائدة
النيتروجين في الهواء تخفيف مقدار الأكسجين فيه، فإننا إذا استنشقنا أكسجين
خالصًا احترق جسمنا بسرعة كبيرة، ونحف، واحتجنا إلى مقادير عظيمة من
الطعام لتعويض هذا النقص الكبير، فلذا اقتضت الحكمة الإلهية تخفيفه بالنيتروجين
نعم إن النيتروجين ضروري لتركيب جميع الخلايا؛ ولكنه يصل إلى الجسم
في الطعام، وفي الشراب (كاللبن) لا بطريق التنفس - كما قلنا -.
أما الأكسجين الداخل مع الهواء فكميته أكثر من كمية الخارج معه، لأنه يتحد
مع هيموجلوبين الكريات الحمراء، ويدور مع الدم فإذا وصل إلى أنسجة الجسم
جذبته إليها، واتحدت به وهذا ما يسمى (بالاحتراق الداخلي) أو (التنفس الداخلي)
اللازم لحياة الجسم.
وإذا اتحد الأكسجين مع أجزاء الجسم تولدت مواد أخرى بقاؤها ضار بالجسم،
فتدور مع الدم لتفرزها الأعضاء المختصة بذلك كالكليتين، والجلد في البول
والعرق.
ومن هذه المواد الناشئة من الاحتراق الداخلي غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء
وهذا هو السبب في زيادة غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء في الهواء الخارج من
الرئتين.
وقد وجد علماء الفسيولوجيا أن الهواء الخارج من الصدر يشتمل أيضًا على
بعض مواد نيتروجينية عضوية؛ ولكنهم لم يكتنهوا إلى الآن ماهيتها، ولا تركيبها
وهي السبب في رداءة رائحة هواء الغرف المسكونة، وإذا تنفسها الإنسان مرة
أخرى أضر بصحته ضررًا بليغًا يفوق ضرر استنشاق القليل من غاز ثاني أكسيد
الفحم؛ فإن هذا الغاز لا يفسد تركيب أي جزء من أجزاء الجسم؛ ولكنه إذا ملأ
الجو مات الانسان اختناقًا لعدم وجود الأكسجين فيه.
المواد المختلطة بالهواء:
ويوجد في الأهوية الفاسدة - غير ذلك أيضًا - مواد أخرى غازية ضارة
بالإنسان ضررًا بليغًا، ومن أهمها الهيدروجين المكبرت، وهو الذي يتولد من
المراحيض وغيرها، وهذا الغاز يفسد الدم، ويضر بالجسم أيضًا.
وكذلك أول أكسيد الفحم فإنه سام جدًّا، وهو يتولد من الاحتراق الناقص للفحم
ويوجد في الهواء أيضًا ميكروبات، وذرات مختلفة من التراب، والمعادن، والفحم
وغير ذلك، فالميكروبات تحدث أمراضًا عديدة في الجسم الإنساني، وتلك الذرات
تحدث أيضًا نزلات شعبية، والتهابات رئوية مزمنة.
لهذا كله يجب أن يكون الهواء المستنشق نقيًّا من كل ما تقدم، فلا يكثر فيه
أكسيدا الفحم الناشئان من أنفاس الحيوانات والنباتات ليلاً، ومن اشتعال النيران،
ويجب أن يكون هواء الأمكنة المسكونة بعيدًا عن المراحيض دائم التجدد، معرضًا
للشمس؛ فإنها تقتل كثيرًا من ميكروباته بعيدًا عن الأتربة والمصانع التي تثير
غبارًا من المعادن وغيرها.
سنة الله في الأكسجين والكربون:
ولا يتوهم القارئ - مما سبق - أن كمية الأكسجين في الهواء آخذة في
النقص شيئًا فشيئًا بسبب التنفس، وبسبب النيران، فإن الله تعالى وضع لذلك سنة
حكيمة بها يبقى الأكسجين في الهواء إلى ما شاء الله، وذلك بأن جعل الورق
الأخضر لجميع النبات يحلل (بتأثير أشعة الشمس فيه) غاز ثاني أكسيد الفحم،
فيمتص منه الفحم، ويُخْرِج الأكسجين، وهذا الفحم باتحاده مع عناصر أخرى
تتركب منه أخشابها، وما فيها من صموغ، وسكر، وزيوت، وغير ذلك؛ فكأن
الفحم الخارج من الإنسان، وغيره من الحيوانات ضروري للأشجار، فإذا أكل
الإنسان شيئًا من هذه الأشجار عاد إلى جسمه، ثم يحترق فيه؛ فيخرج في الهواء؛
فيعود إلى الشجر، وهكذا كالدائرة.
وبحركة الرياح (وهى ناشئة من اختلاف درجة حرارة الهواء) ، وبتماوج
ذراته، وانتشارها توجد حركة دائمة في هواء الأرض؛ فتبعثر الأكسجين، وتنشره
في جميع الجهات، ولولا ذلك لماتت الحيوانات التي في البقاع الخالية من الأشجار.
ومن الخطأ العظيم تغطية الوجه أثناء النوم، وكذلك غلق منافذ الغرفات مع
وجود أشخاص فيها، أو مصابيح وغيرها؛ فإن ذلك قد يقتل الإنسان.
أما ثاني أكسيد الفحم المتكون من الاحتراق الداخلي؛ فإنه يوجد في الدم لا
ذائبًا فيه، بل متحدًا مع عنصر الصوديوم بصورة كربونات الصوديوم، أو
بيكربونات الصوديوم؛ فإذا وصل هذان الملحان إلى الرئتين خرج من البيكربونات
ثاني أكسيد الفحم بطريق الإكسوسموز، ومما يساعده في خروجه الخلايا المبطنة
للحويصلات الرئوية؛ فتفرزه وسبب حصول الإكسوسموز هو نقصان كمية ثاني
أكسيد الفحم في الهواء، كما أن السبب في دخول الأكسجين من الهواء في الدم هو
أيضًا قلة الأكسجين في الدم عنها في الهواء، وقبل دخول الأكسجين للدم يذوب في
الرطوبة التي تغطي جدران الحويصلات الرئوية ومنها يدخل للدم، ويجب أن لا
يتوهم القارئ أن كل الهواء الذي في الحويصلات الرئوية يخرج منها أثناء الشهيق
فالواقع أنه يخرج جزء منه، ويبقى جزء آخر، وبطريقة الانتشار يسرع أكسجين
الهواء إلى الداخل لكثرته، وغاز ثاني أكسيد الفحم إلى الخارج لكثرته أيضًا - كما
سبق بيانه -.
ثقل غازات الهواء:
من تأمل في تركيب الهواء، والفرق بين درجات ثقل غازاته وجد أن
النيتروجين من أخفها، وغاز ثاني أكسيد الفحم من أثقلها، فلذا يتكاثر هذا الغاز
الأخير بقرب سطح الأرض وفى الحفر، وكلما ارتفع الإنسان نقصت كمية هذا
الغاز، وزادت كمية النيتروجين، ولذا كثيرًا ما سمعنا بموت أشخاص هبطوا إلى
أماكن منخفضة كالآبار وغيرها.
أما الأكسجين فلكونه أثقل من النيتروجين يكثر في الهواء المجاور للأرض،
ويقل في جو السماء، يشعر بذلك من توقل (صعَّد) في جبل عالٍ، أو حلَّق في
الجو بطيارة.
وأعظم علو أمكن للإنسان أن يصل إليه في القباب الطيارة، أو المناطيد، أو
الجبال هو 8838 مترًا، أما الصعود بعد ذلك فيؤدي إلى هلاك الإنسان، إما لنقص
الأكسجين، أو لانفكاك غازات الدم منه فتَحْدُث أعراضٌ خطرة، ويتعسر التنفس،
أو يتعذر بسبب نقص كمية الأكسجين نقصًا عظيمًا فلا يحدث الإندوسموز. زِدْ على
ذلك أنه إذا عاش الإنسان بضع دقائق في ذلك المكان المرتفع حصل له نزف من
الأنف، أو الرئتين، أو غيرها لقلة ضغط الهواء الجوي على جسم الإنسان،
ولتعلم أن الصعود إلى نحو 5000 مترًا لا يوافق جمهور الناس حتى المتعودين
لذلك من سكان الجبال.
أما ارتفاع هواء الجو فلا يقل عن 300 كيلو متر
التنفس الصناعي:
إذا بطل تنفس الإنسان بسبب ما كاستنشاق الكلوروفورم، أو الغرق في الماء
أو استنشاق غازات الاحتراق، أو غير ذلك مما يبطل التنفس أمكن إعادة الحياة إلى
المصاب بطريقة (التنفس الصناعي) ، واستعمال المنعشات، ونحوها بشرط ألا
تكون المدة قد طالت، وأن لا تكون أنسجة الجسم قد بدأ فيها أقل شيء من الفساد.
أما طريقة التنفس الصناعي فهي أن تزيل كل ما أمكنك إزالته مما قد يوجد
في مجاري التنفس، كالماء في الغريق - مثلاً - بأن تقلب المصاب على وجهه،
وترفع رجليه إلى أعلا، ثم تضعه على مكان عالٍ لتتمكن منه، وتخفض رأسه،
وتخرج لسانه بشدة بمقبض (جفت) ، أو نحوه، ثم تمسك بعضديه، وتجذبهما إلى
أعلى رأسه، ثم تخفضهما إلى جنبيه، وتضغط بهما على صدره، ويستحسن أن
يساعدك شخص آخر في ذلك الوقت؛ بأن يضغط على بطنه أيضًا ليرتفع الحجاب
الحاجز فيحصل الشهيق بسبب ذلك، أما الزفير فإن الذي يحدثه هو جذب الذراعين
المذكور هنا، ويتكرر هذا العمل في الدقيقة الواحدة نحو خمس عشرة مرة، ولا
يصح اليأس من عودة الحياة إلا بعد مضي نحو ساعة على الأقل، وفي أثناء هذا
العمل تُوضَع خرق مبتلة بالماء الحار على القلب، أو يُنَبَّه الحجاب الحاجز
بالضرب بمثل المنشفة على قسم المعدة، وينشق المصاب (كبسول الأميل نيتريت)
ويحقن بالأستركنين، أو الأثير، أو غيرهما تحت الجلد، ويُحْقَن بجزء من
الخمر، أو الكحول في الشرج إلى غير ذلك؛ فإذا فعلت جميع هذه الأشياء
باستمرار عادت الحياة - غالبا - خصوصًا إذا كانت ضربات القلب موجودة، ومن
أحسن المستنشقات في ذلك الوقت غاز الأكسجين، إن وجد.
***
جهاز الهضم
مقدمة في الغدة:
قبل البدء في الكلام على هذا الجهاز ينبغي أن نبدأ بتعريف كلمة (الغدة) لشدة
الاحتياج إليها فيما سيأتي:
تطلق هذه الكلمة على ثلاثة أنواع من أجزاء الجسم:
(1) الغدة اللمفاوية: وهي عبارة عن شيء كعقدة مركبة من عدة كريات
تشبه كريات الدم البيضاء يمسك بعضها بجانب بعض مادة تسمى بالمنسوج الضامّ،
ووظيفتها تنقية المواد اللمفاوية من الميكروبات وغيرها، ولذلك نجد كثيرًا منها
موضوعًا في طريق الأوعية اللمفاوية بحيث تصب فيها، ثم تخرج منها - كما
سبق-.
(2) غدة الإفراز: وهي التي تُخْرِج مواد كثيرة من الجسم، بعضها له
منفعة خاصة، والبعض الآخر لا نفع له، وإنما تُخْرِجه لضرر إبقائه في الجسم،
مثال الأول اللعاب، واللبن، ومثال الثاني البول، والعرق، وقد يكون الشيء
المُخْرَج له نفع في الجسم، ويضر بقاؤه فيه كالمرة، وهي المادة الصفراء التي
يفرزها الكبد.
وتتركب الغدد الإفرازية من غشاء مجهري (ميكروسكوبي) يوجد على
سطحه خلايا الإفراز، وتكون طبقة واحدة في الغالب، وتوجد عدة طبقات منها في
مكان شهير بالجسم وهو الخصية، وعلى الجانب الآخر من هذا الغشاء المذكور
توجد أوعية الدم، ومنها تخرج المواد بطريق الإكسوسموز؛ فتتصرف فيها
الخلايا، وتخرج منها مواد كيماوية عجيبة التركيب.
أما أشكال هذه الغدد فمنها الكيسي؛ وذلك بأن ينبعج الغشاء إلى جهة الأوعية
الدموية؛ فيتكون كيس صغير مبطن بلا خلايا، وله فوهة يخرج منها الإفراز،
ومنها الأنبوبي، وهي التي يكون لها تجويف كالأنبوبة، لا كالكيس، ومنها
الأنبوبي المتفرع، ومنها عنقودي الشكل، ومنها الملتوي.
ويُلاحَظ أن في هذا النوع من الغدد قناة في داخل الغدد الإفرازية، وفيها
تجري مفرزاتها كاللبن، والعرق، وغيرها.
أما الضرب الأول من الغدد فلا قناة لها
وأما الضرب الثالث فهو أيضًا لا قناة له، وهو يشمل عدة أعضاء في الجسم
كالطحال (وهو نوع من الغدد اللمفاوية) ، والغدة الدرقية، والغدة السعترية في
صدور الأطفال، وغير ذلك مما سيأتي الكلام عليه في فصل خاص.
والذي يهمنا في الكلام على الهضم هو الضرب الثاني.
تشريح الجهاز الهضمي ووظيفته:
يبتدئ هذا الجهاز بالفم، ثم المرئ، ثم المعدة، ثم الأمعاء الصغيرة،
فالكبيرة، وينتهي بالدبر، ويصب فيه عدة إفرازات من غدد متنوعة لهضم الطعام
ولغير ذلك، وتمر فيه الأغذية والأشربة في مدة تختلف من يوم إلى يوم ونصف،
وقد تكون أقل من ذلك بكثير، كأحوال الإسهال، وقد تكون أكثر من ذلك في أحوال
الإمساك.
أما الفم ففيه اللسان، والأسنان، وغدد اللعاب، وفي نهايته توجد اللوزتان
ووظيفة اللسان هي تحريك الطعام ليمتزج باللعاب، وليمكن مضغه وبلعه، ومن
وظائفه أيضًا الكلام كما سبق، وإدراك طعوم الأشياء، وعليه مدار معرفة ما ينفع
الإنسان وما يضره من المأكولات والمشروبات، وإدراك الطعوم اللذيذة يحرك شهوة
الطعام فيجيد هضمه.
أما الأسنان فهي عادة نوعان: الأسنان اللبنية، أو المؤقتة، والأسنان الدائمة،
وقد ينبت للشيوخ أسنان مرة ثالثة، ولكنها مسألة نادرة الحصول.
أما الأسنان اللبنية فهي: 20، والأسنان الأخرى 32 منها 19 في الفك
الأعلى، و16 في الفك الأسفل.
وعلى الأسنان مدار جودة هضم الطعام لأنها تهشمه وتسحقه إلى قطع صغيرة
لتتمكن الأعصرة الهاضمة من الوصول إلى جميع أجزائه، فمن ازْدَرَدَ طعامه بلا
مضغ أضر بجهاز الهضم خصوصًا، وبالجسم عمومًا، فيجب إطالة المضغ،
وإبقاؤه، ويجب علينا أيضًا المحافظة على الأسنان، وإلا أصابها العطب، وفقدناها
فنخسر جزءًا عظيمًا من أجزاء جهاز الهضم، وأعظم شيء للمحافظة عليها هو
تنظيفها جيدًا، وعدم استعمال شيء بارد على شيء ساخن في الفم، أو بالعكس فإن
ذلك من أعظم ما يفسدها.
وأشهر أمراض الأسنان نوعان:
(1) النوع الأول: أن يصيبها الحفر (التسويس) ، وهو عبارة عن تفتت
جزء من عظم السن، وانكشاف لبه، والتهاب هذا اللب فيحصل بسبب ذلك ألم
شديد، يحرم الإنسان لذة النوم، والطعام، وتموت السن لفساد أوعية الدم المغذية
في داخل اللب والميكروب المسبب لذلك يسمى (leptothrix buccalis) أي
(الشعرة الدقيقة الفمية) ، ويوجد في هذا المرض أيضًا الأميبا [2] الفمية
(amocba) .
وعلاجه يكون بإعدام العصب الذي في داخل اللب بمادة كاوية كحامض الفنيك
أو الكريوزوت، وذلك يطهر اللب ويسكن الألم، والأَوْلَى أن يُعْدَم اللب بأكسيد
الزرنيخوز - كما هي العادة -، ثم يحشى التجويف بالذهب، أو بمواد أخرى يعرفها
أطباء الأسنان كالخزف، وهو أحسن من غيره.
(2) النوع الثاني داء ريج (Rigg) : وهو مرض كثير الانتشار بين
الناس، يبدأ بالتهاب حول جذر السن في سمحاق العظم، فتتكون مواد صديدية،
وبضغطها على جذر السن يرفع شيئًا فشيئًا حتى تسقط، وهذا الداء هو سبب سقوط
أسنان كثير من الناس، وسببه دخول ميكروب خاص إلى جذر السن من أي تقرح
صغير في اللثة وهذا الميكروب يسمي (الإستربتوكوك [3] اللعابي)
(streptocoecus) ، وهو يوجد عادة في أفواه جميع الناس، إلا أنه في بعض
أحوال مخصوصة كضعف البنية - بسبب ما - يتمكن من إيذاء الإنسان؛ فيدخل
إلى جذور الأسنان، وهناك يفعل فعلته الشنعاء.
ولا علاج ناجعًا لهذا الداء سوى الحقن بميكروب المرض [4] المأخوذ من نفس
المريض كما سيأتي توضيحه، وإلا فالمبادرة إلى قلع ما يصاب به من الإنسان
والاستعاضة عنها بأسنان صناعية، واستعمال المطهرات المتنوعة، والنظافة التامة
للفم، مع تقوية البنية بالأغذية الجيدة، والهواء النقي، وغير ذلك، ومما يسكن
الألم في هذا المرض استعمال مضمضة من الخل، وهي فائدة شائعة بين العامة.
وأحسن طريقة لنظافة الأسنان هي استعمال السواك خصوصًا بعد كل طعام،
وهو يؤخذ من شجرة الأراك، وفيه مواد عطرة مطهرة بعض التطهير للفم،
ومعطرة له، وتساعد على الهضم أيضًا، وهو يشد اللثة لقبض فيه، ويسمي
الآراك بعض الإفرنج (شجرة محمد) لحث الشريعة الإسلامية على استعمال
السواك كما هو معلوم، ولا يُغني عنه إلا استعمال المسفرة (الفرشة) مع بعض
أدوية عطرية مطهرة قابضة، ويجب غليها بعد كل استعمال، وإلا تكاثرت فيها
الميكروبات الضارة بالأسنان، وكذلك يجب تجديد طرف السواك بعد كل استياك.
أسماء الأسنان ووقت ظهورها:
أما أسماؤها فهي: ثنيتان في الوسط، وبجانبيهما رباعيتان، ثم نابان،
ثم ضاحكتان، ثم ست أرحاء، ثلاث في كل جانب، ثم ناجذان، واحد في اليمين،
وآخر في اليسار، وهما آخر الأضراس، وذلك في كل من الفكين الأعلى
والأسفل.
وقت ظهور الأسنان:
الأسنان اللبنية تظهر في الطفل من الشهر السادس إلى الرابع والعشرين على هذا الترتيب:
الثنيتان السفليتان ... ... ... ... ... ... 6 -9 أشهر
الثنيتان العلويتان والرباعيتان العلويتان ... ... 8-10 أشهر
الرباعيتان السفليتان والضواحك ... ... ... 15-21 شهرًا
الأنياب ... ... ... ... ... ... ... 16-20 شهرًا
الأرحاء ... ... ... ... ... ... ... 20-24 شهرًا
وليس للطفل سوى أربع أرحاء في فمه، وأسنانه كلها عشرون فقط.
وهذه المدد تقريبية؛ فإنها تختلف كثيرًا بحسب بنية الأطفال، واختلاف
أمزجتهم، وغير ذلك، فمنهم من يُولَد وفيه الثنايا ظاهرة، ومنهم من يتأخر ظهور
أسنانه إلى نهاية السنة الثانية، أو إلى عدة سنين بعدها.
وفي وقت ظهور الأسنان تصاب الأطفال - عادة - ببعض أعراض مرضية
كالإسهال، والقيء، والحمى، فالضعف، ومتى كملت أسنان الطفل العشرون
يمكث بها إلى السنة السادسة، أو السابعة، ثم يظهر ضرس (رحى) خلفها في
السنة السادسة، أو السابعة، وتسقط باقي الأسنان واحدة بعد الأخرى ويظهر مكانها
غيرها على هذا الترتيب:
في السنة السادسة: الأرحاء الثانية
في السنة السابعة: الثنايا
في السنة الثامنة: الرباعيات
في السنة التاسعة: الضواحك
في السنة العاشرة: الأرحاء الأولى
في السنة 11-12: الأنياب
في السنة 13-12: الأرحاء الثالثة
في السنة 17-25: النواجذ
فترى من هذا أن الأسنان التي تظهر في السنة 12 أو 13 يمكث الشاب بها
إلى السنة 17، فيظهر ضرس العقل، أو الحُلم، وهو الناجذ، إما في هذه السنة،
أو فيما بعدها إلى 25 أو 30، وفي النادر أن يتأخر عن ذلك.
أما أسنان الشيوخ - إن ظهرت - فيكون ظهورها بين السنة 81.63.
وجوب أكل الإنسان اللحم والنبات:
بالتأمل في أسنان الحيوانات المختلفة نرى أن آكلة اللحوم أسنانها حادة جدًّا،
أما أسنان الحيوانات الآكلة للنباتات، ونحوها فهي كليلة، وأسنان الإنسان متوسطة
في حدتها بين الطرفين، وكذلك إذا نظرنا في مقياس أمعاء الحيوانات المختلفة نجد
أن أمعاء آكله اللحوم قصيرة، وآكلة الخضراوات، ونحوها طويلة، وأمعاء
الإنسان وسط بينهما، وذلك يدلنا على أن الإنسان بطبيعته يجب أن يأكل اللحوم
والخضراوات جميعًا، وفي ذلك أعظم دليل على خطأ مذهب النباتيين؛ فإنه مخالف
للطبيعة البشرية، هذا وقد وجد أن الفئران البيضاء، وهي التي لا يؤثر فيها
ميكروب الجمرة الخبيثة، تتأثر به إذا غذيت بالنباتات فقط، فلا يبعد أن يكون
الإنسان كذلك بمعنى أنه يصير عرضة لبعض الأمراض إذا اقتصر على
الخضراوات (راجع صفحة 179 من كتاب (manual of bacteriology)
تأليف Hewlett.
اللعاب:
يتولد اللعاب من غدد مخصوصة، وهي ثلاث: الغدة النكفية وموضعها تحت
الأذن وأمامها، وتسمى أيضا الأذنية، ولها قناة تمتد منها إلى الفم تسمى قناة
ستلسون (stenson) ، وفتحتها بقرب الرحى الثالثة للفك الأعلى.
والغدة الثانية تحت الفك الأسفل ولها قناة تسمى قناة هوارتون (wharton)
تصب بجانب قيد اللسان، وفتحتها مرتفعة قليلاً كحلمة صغيرة.
والغدة الثالثة تسمى (الغدة التي تحت اللسان) لأنها تحت الغشاء المخاطي
المتكون منه قيده، ولها عدة قنوات بعضها ينفتح في الفم مباشرة، وهو الأكثر،
والبعض الآخر تتكون منه قناة أكبر تصب في قناة هوارتون المذكورة.
واللعاب مركب من ماء، وزلال، وأملاح متعددة، ومادة مخصوصة تسمى
(اللعابين) وهي أهم ما فيه واللعابين [5] من الخمائر التي سيأتي توضيحها في الفصل
التالي، وفي لعاب الإنسان أيضًا آثار من مادة سامة جدًّا لا تعرف فائدتها الآن،
وربما كانت مما يقتل الميكروبات، ووظيفة اللعاب أن يرطب الطعام حتى يسهل
مضغه، وازدراده، ويذيب بعض مواده ليدرك طعمها، وهو ضروري للنطق
الفصيح، ويهضم المواد النشوية التي في الطعام فيحولها إلى سكر يسمى الملتوز
(أو سكر الشعير) [6] ، ويستمر تأثير اللعاب في المواد النشوية حتى بعد وصولها
إلى المعدة بنحو ربع أو نصف ساعة؛ حتى يُفْسِد عصير المعدة الحمضي مادة
اللعابين؛ فَيُبْطِل تأثيرها في النشاء، واللعابين لا يهضم النشاء غير المطبوخ لأنه
لا يؤثر في مادة (السللولوز) المحيطة بذراته، وهي مادة الخشب أيضًا.
اللوزتان:
أما اللوزتان، فهما غدتان لمفاويتان موضعها على جانبي الحلق في منتهى
الفم، يخرج منهما كريات بيضاء تمتزج باللعاب، أو تسير في الدم، وفائدتهما قتل
بعض الميكروبات بهذه الكريات البيضاء، وقتل ما يقف عليهما من الميكروبات
أيضًا، أو يدخل فيهما، فهما كحصنين يقتلان ما اقترب منهما، ويبعثان بجنودهما
في اللعاب لقتل بعض الأعداء التي تحل في أجزاء الفم المتنوعة، وهذان الجسمان
كثيرًا ما يحصل فيهما التهاب تحدث عنه الحمى، ويمرض الجسم بسببها، وعلة
حصول هذا الالتهاب ضعف البنية، ودخول ميكروبات كثيرة فيهما؛ فيزداد حجمهما،
وتكثر كرياتهما ليتغلبا على هذه الميكروبات؛ فإن نجحا حفظا الجسم من خطر
عظيم - وإن كان الإنسان يمرض بضعة أيام أثناء هذه الحرب -، وإن غلبا تكوّن
فيهما خراجات، أو أفلت بعض الميكروبات منهما إلى الدم فتنشأ عن ذلك أمراض
متنوعة كالروماتزم (الرثية) ، وآفات القلب وغير ذلك، ويقل التهابهما في
الأقوياء لأن كرياتهم البيضاء تكون قوية فتقتل الميكروبات بسهولة بدون حاجة إلى
إثارة حرب عامة.
كلمة في الخمائر:
يحصل تخمر الأشياء بسبب وجود ميكروبات مخصوصة، ومن أشهر أنواع
هذه الميكروبات ما يحول السكر إلى غَول (كحول) [7] ، وغاز ثاني أكسيد الفحم،
ولهذا التخمر سُمِّيت الخمر خمرًا في أحد الأقوال، وهو السبب في فورانها وحرافة
طعمها.
ومن الميكروبات ما يحول بعض أنواع السكر (سكر اللبن) إلى حامض
اللبنيك، وهو السبب في حموضة اللبن، فإذا أمكننا منع الميكروبات من الوصول
إلى الأشياء، أو قتلناها فيها بطل كل تخمر أو تعفن، فإذا أردنا حفظ اللبن مثلاً من
أن يخثر وجب أن نغليه غليًا جيدًا، ونضعه في زجاجات معقمة (مطهرة) ،
بحيث لا يصل إليه أي ميكروب، فيبقى سليمًا من الفساد طول الدهر، وهذه
الطريقة مستعملة في جلب الألبان إلينا من البلاد الأجنبية كسويسرة وغيرها.
ومن هذا يتضح أن السبب في الفساد والتعفن هو هذه الميكروبات، وتسمى
بالخمائر، أما فعل هذه الميكروبات فهو بإفراز مواد مخصوصة لها تأثير كيماوي
في الأجسام، وهذه المواد المُفْرَزَة يسمونها أيضًا بالخمائر، وعلى ذلك فالخمائر
نوعان: الميكروبات نفسها ومفرزاتها، وكما أن إفراز هذه الميكروبات سُمي
بالخمائر، كذلك يسمى بعض إفرازات الجسم بالخمائر أيضًا؛ لأنها تؤثر في
الأجسام تأثيرًا كيماويًا؛ فتحدث فيها تغييرًا بالتركيب والانحلال كتأثير إفراز
الميكروبات، وذلك مثل اللعابين الذي سبق ذكره في اللعاب، وسيأتي ذكر غيره في
بحث مفرزات (عصارات) المعدة والأمعاء، وهذه الخمائر كلها تقريبًا مواد
آزوتية، إما زلالية، أو قريبة من الزلالية - بحسب ما نعلم الآن - ما عدا الببسين
فيقال إنه لا نيتروجين فيه.
ومن الغرائب أن افراز الميكروبات إذا كثر يقتل نفس الميكروبات التي تولده
كما في الخمر مثلاً؛ فإن غولها يقتل ميكروباتها وغيرها، وإذا غُلِي الشيء الذي
فيه هذه الخمائر بنوعيها ماتت الميكروبات، وفسدت الخمائر؛ فيبطل عملها، ومن
الخمائر المشهورة مادة تستخرج من غشاء المعدة الرابعة للحيوانات المجترة
كالعجول تسمى بالأنفحة، وفائدتها تحويل اللبن إلى جبن.
والميكروبات هي نباتات مجهرية، بعضها يحتاج لأكسجين مطلق [8] يعيش
فيه، والبعض الآخر يعيش بغير أكسجين مطلق.
بقية الكلام على جهاز الهضم:
يندفع الطعام بعد الفم إلى الحلقوم، وهو تجويف ينفتح فيه تجويفا الأنف
والفم، ثم الحنجرة، وفي أسفله المريء.
وفي جدران الحلقوم غدد لمفاوية تشبه في منسوجها اللوزتين، ووظيفتها كوظيفتهما
أي أنها تقتل الميكروبات كما سبق.
أما المريء فهو أنبوبة لحمية تمتد من الحلقوم إلى المعدة، وطولها من 9 إلى
10 بوصات، ويدخل في تركيب جدرانه ألياف عضلية تكون في نحو ثلثه الأعلى
اختيارية، وفي الباقي غير اختيارية، وهو مبطن بغشاء مخاطي كالمعتاد، وفي
المريء يمر الطعام إلى المعدة.
وأما المعدة فهي ككيس كمثري الشكل تحت الحجاب الحاجز في البطن، ولها
فتحتان الأولى منهما متصلة بالمريء، وتسمى (بالفؤاد) لقربها من القلب،
والفتحة الثانية تسمى (بالبواب) ، والمعدة مركبة من ألياف عضلية ومبطنة بغشاء
مخاطي، وسطحها الخارجي مغطى بغشاء مصلي، وهو جزء من البريتون [9] .
وفي الغشاء المخاطي عدة غدد لإفراز العصير المعدي، وتتحرك المعدة حركة
غير اختيارية بما فيها من الألياف العضلية، وهذه الحركة تشبه مخض اللبن ويُراد
بها مزج الطعام بالعصير المعدي حتى ينهضم الهضم الأول.
أما العصير المعدي فأهم ما فيه من المواد هو حامض الهيدروكلوريك [10]
(بنسبة 2 في الألف) ، ومادة يسميها الإفرنج (pepsin) ، ونسميها بالعربية
(الهاضوم) ، وهي خميرة تفرزها الغدد المعدية، ويقال إنها خالية من النيتروجين -
كما سبق - وعلى ذلك فهي ليست من المواد الزلالية، ووظيفتها تحويل المواد
الزلالية إلى مادة أخرى تسمى بالإفرنجية (peptone) (أي المهضوم) ، وذلك
بضم عناصر الماء إلى ذرات المواد الزلالية، ثم انقسامها فتحدث هذه المادة
الببتونية، وهي سهلة الذوبان سهلة الامتصاص لكون ذراتها أصغر من ذرات
الزلال.
وأما الطعام فإنه يمكث في المعدة نحو أربع ساعات فيها يحصل هذا الهضم،
المذكور في المواد الزلالية، ويتحول سكر القصب إلى مادة أخرى سكرية، وتقتل
جميع الميكروبات - تقريبًا - بما في هذا العصير المعدي من الحامض فيصير
الطعام طاهرًا لكي لا يضر بالجسم، فإذا حدث للمعدة ما يقلل أفراز هذه الحامض
أو يمنعه أمكن دخول ميكروبات، أو ديدان إلى الأمعاء، أو إلى الجسم نفسه.
هذا كله هو وظيفة المعدة، ولا تأثير لها في المواد النشوية، ولا في المواد
الدهنية إلا بإسالتها، وبهضم ما أحاط بها من الغلف الزلالية، والعصارة المعدية لا
تنفرز إلا وقت الطعام.
وأول انفتاح للبواب يحصل بعد نحو 20 دقيقة من نزول الطعام في المعدة
فيمر إلى الأمعاء جزء مما في المعدة، ثم ينغلق البواب، ثم يتتابع هذا الفتح
والانغلاق في البواب، وتأخذ مدة انغلاقه في القصر ومدة انفتاحه في الطول حتى
يمر الطعام الذي في المعدة شيئًا فشيئًا إلى الأمعاء بحيث يمر كله في نهاية الساعة
الرابعة تقريبًا.
وبعد المعدة توجد الأمعاء الصغيرة أو الدقيقة، ثم الأمعاء الكبيرة أو الغليظة،
أما الأمعاء الصغيرة فطولها نحو من 20 قدمًا، وتُقَسَّم إلى ثلاثة أقسام:
(1) الاثنا عشري: وطوله 12 أصبعًا، أو 10 بوصات وفيه يحصل
الهضم الأعظم للطعام كما سيأتي تفصيله.
(2) الصائم: سُمي بذلك لوجوده فارغًا بعد الوفاة عند تشريح الجثة، يبلغ
طوله خمسي الأمعاء الصغيرة الباقية بعد الاثني عشري.
(3) اللفائف: وهي الثلاثة الأخماس الباقية من الأمعاء الصغيرة.
وأما الأمعاء الكبرى فتبتدئ من الحفرة الحرقفية اليمنى بما يسمى (بالأعور)
وفي أسفله مصير صغير كالدودة يسمى بالزائدة الدودية، وفيها يحصل مرض
مشهور هو التهابها الذي قد يكون سببًا في وفاة الشخص إن لم يتداركه الأطباء
بالعلاج الفعال، وهذه الزائدة هي أحد الأعضاء الأثرية الشهيرة في جسم الإنسان
التي لم ينته الناس إلى حل لمعناها أحسن مما ذهب إليه دارون [11] ، وقيل إن لها
إفرزًا يُحْدِث لينًا فَتُطرد المواد البرازية، وترتفع في القولون مضادة للجذب
الأرضي في الحيوانات المنتصبة القامة (القرد والإنسان) ، ولذلك لا توجد في
الحيوانات الأخرى، وإذا استئصلت حدث إمساك متعاصٍ مستديم يؤدي إلى ضعف
الجسم، ومرضه، كما دلت عليه تجاربهم على ما قالوا.
وبعد الأعور يوجد القولون [12] ، وهو أربعة أقسام القولون الصاعد، والقولون
المستعرض، والقولون النازل، والتعريج السيني، ثم المستقيم الذي ينتهي بالشرج
وهو فتحه الدبر، وطول الأمعاء الكبيرة يختلف من 5 إلى 6 أقدام.
والأمعاء مركبة من الطبقات الآتية:
(1) طبقة مصلية: وهي من البريتون الذي سبق ذكره.
(2) طبقة عضلية مركبة من طبقتين: مستطيلة وحلقية، فالمستطيلة في
الخارج، والحلقية في الداخل.
(3) الغشاء المخاطي: ويفصله عن الطبقة العضلية.
(4) طبقة رابعة فيها تتفرغ أوعية عديدة دموية ولمفاوية وأعصاب دقيقة،
وفي الطبقة المخاطية غدد كثيرة لإفراز العصير المعوى، منها نوع في الاثني
عشري يسمى بغدد (برُونَرْ) [13] ، ونوع آخر في الأمعاء كلها يسمى بغدد
(ليبركهن) وهي من الشكل الأنبوبي البسيط، ويوجد غير ذلك في الغشاء
المخاطي، وتحته منسوج لمفاوي، بعضه يتكون منه غدد صغيرة تسمى (بالغدد
المنعزلة أو الوحيدة) والبعض الآخر يتجمع على شكل بيضاوي يُحْدِث بقعًا في
طول جدران المصران تسمى ببقع بايير (peyer) [14] ، وهي توجد بكثرة في
اللفائف.
وفي هذه الغدد اللمفاوية بنوعيها يحصل التهاب بسبب ميكروب مخصوص
فتحدث عنه الحمى المعروفة بالتيفودية، أو الحمى المعوية، وهذه البقع المنسوبة
لبايير لا توجد في الأمعاء الغليظة، وإنما توجد فيها الغدد المنعزلة فقط - وهي التي
تكثر جدًّا في الأعور والزائدة الدودية -.
وبالتهاب هذه الغدد التي في الأمعاء الغليظة مع الأغشية المخاطية، وتَقَرُّحها
يحصل المرض المسمى بالدوسنطاريا (الزحار) ، سُمي بذلك في العربية؛ لأنه
يحدث منه زحير شديد متكرر، ومن أعراضه أيضًا المغص الشديد، والحمى،
والإسهال مع نزول مواد مخاطية دموية صديدية متكررة بمقادير صغيرة في كل
دفعة.
وفي الغشاء المخاطي للأمعاء الصغيرة ما يُسمى بالخَمْل، وهو كالأهداب لهذا
الغشاء، وهو أعظم آلات امتصاص المواد الغذائية، وفيه أيضًا غير ذلك ما يسمى
بالصمامات الهلالية لكركرنج (kerkring) ، وهي عبارة عن ارتفاعات تتكون
من ثنيات الغشاء المخاطي على نفسه، وفائدتها أن تعوق سير الطعام حتى يهضم،
وأن تكبر سطح الغشاء المخاطي للأمعاء؛ ليكثر إفرازه وامتصاصه للمواد
المهضومة، ولذلك يبتدئ وجودها بعد البواب بأصبعين، أو ثلاثة، وتكثر شيئًا
فشيئًا خصوصًا في الاثني عشري، والصائم، وكذلك تكبر تدريجًا، ثم تأخذ في
القلة والصغر حتى تنتهي في منتصف اللفائف، ولا جود لها هي والخمل في
الأمعاء الكبيرة لقلة الامتصاص، وعدم الهضم فيها.
والحكمة في وجود الغدد اللمفاوية المذكورة آنفًا، هي حفظ الجسم من دخول
الميكروبات فيه، ولذلك تكثر في اللفائف، وفي الأمعاء الغليظة حيث يكثر التعفن
والفساد لخلو هذه الأجزاء من العصارات المطهرة، بخلاف المعدة فإن عصيرها
مطهر - كما سبق -، والصفراء في الاثني عشري من وظائفها أيضًا تقليل تعفن
الطعام.
ويصب في الأمعاء الصغيرة قناتان عظيمتان: إحداهما من عضو يسمى
باليونانية (البنكرياس) ، ويمكننا أن نسميه بالعربية (الغدة الجسدية) ، والأخرى
هي قناة الكبد تحمل المِرَّة (الصفراء) إلى الأمعاء، وهاتان القناتان تجتمعان معًا
عند نهايتهما، وتصبان بفتحة واحدة غالبًا في الجزء النازل من الاثني عشري في
الجهة الإنسية منه.
أما البنكرياس (الغدة الجسدية) ، فهي أهم غدة في جهاز الهضمي كله،
طولها نحو 6 إلى 8 بوصات، وموضعها خلف المعدة، ووضعها مستعرض
بالنسبة للجسم أمام الفقرة القطنية الأولى، وتفرز عصيرًا فيه خمائر أربع هامة جدًّا
كل منها يهضم جزءًا مخصوصًا من الطعام (إحداها) الهاضوم الزلالي [15] لهضم
جميع المواد الزلالية كاللحم والبيض فيحولها إلى المادة المسماة (ببتون) ، وهو
أقوى من هاضوم المعدة المسمى ببسين بكثير (الثانية) الهاضوم النشوي: وهو
الذي يحول المواد النشوية إلى سكر الشعير، وهو أيضًا أقوى بكثير من (اللعابين)
حتى أنه يؤثر في النشاء غير المطبوخ، ولا يوجد هذا الهاضوم في أمعاء الأطفال
الرضع قبل الشهر السادس، ولذلك كان من الخطر عليهم أن يطعموا أي مادة
نشوية كالبطاطس والخبز؛ فإن ذلك يفسد جهازهم الهضمي، ويضعف صحتهم؛
فيصابون كثيرًا بالإسهال وغيره، وبداء الكساح (rickets) (الثالثة) الهاضوم
الشحمي: ووظيفته أن يحدث مستحلبًا مع المواد الشحمية أو الدهنية، ويحللها أيضًا
إلى جلسرين [16] ، وحوامض شحمية، وكلاهما سهل الامتصاص، وقد يتحد بعض
هذه الحوامض مع البوتاسيوم أو الصوديوم فيتكون من ذلك الصابون، والصابون
أيضًا سهل الامتصاص، فإذا امتصت هذه الأشياء عادت إلى شحم كما كانت
(الرابعة) خميرة تشبه الأنفحة وظيفتها تحويل اللبن إلى جبن، وهذه أقل الخمائر
المذكورة تأثيرًا في الهضم.
والعصير البنكرياسي قلوي التأثير بخلاف العصير المعدي فإنه حمضي.
أما الكبد فهي أكبر عضو في الجسم، موضعها الجهة اليمني من البطن تحت
الحجاب الحاجز مباشرة، ولها وظائف عديدة فهي تفرز المِرَّة (الصفراء) ، وتخزن
فيها أكثر المواد السكرية وبعض الزلالية بعد أن تتحول إلى النشاء الحيواني
(جليكوجين) لحين الحاجة إليها؛ فتحولها ثانية إلى سكر يخرج منها مع الدم ليحترق
في الجسم خصوصًا في عضلاته، وهذه الوظيفة هي من أكبر وظائفها، وتكوِّن
أيضًا حامض البوليك والبولينا لتفرزهما الكلى، ولولا ذلك لتراكمت بعض المواد
الضارة بالجسم.
ومن وظائفها أيضًا أنها تصفي المواد التي انهضمت في الأمعاء وتنقيها من
الميكروبات، ومن بعض السموم، وذلك أثناء مرورها فيها، ولذلك اقتضت الحكمة
الإلهية أن تجتمع جميع الأوردة الآتية من القناة الهضمية، ويتكون منها وريد واحد
هو الوريد الذي يسمَّى (الباب [17] ) الذي يجتمع فيه ما انهضم من الزلال، والسكر،
وبعض الشحم فيصل إلى الكبد، وهناك تُفْرَز منه الصفراء ويُنقى.
أما المِرَّة (الصفراء) فهي إفراز ضار بقاؤه بالجسم، فلذا تنصب في الأمعاء
لتخرج مع البراز، وهي السبب في تلون البراز باللون المعهود، وجزء من
الصفراء لا يخرج مع البراز؛ وإنما يُمْتَص ثانية في الجسم فتفرزه الكلى، وهو
السبب في تلون البول باللون المعروف، وفي الأجنة تتجمع الصفراء في أمعائهم
حتى إذا ولدوا نزل البراز من أمعائهم أسود اللون ويسمى (بالعِقْي) .
ولا يتوهمن القارئ - مما ذُكِر - أن الصفراء لا فائدة لها في الهضم، بل
هي أكبر ما يعين العصير البنكرياسي على هضم جميع المواد المذكورة سابقًا
وخصوصًا المواد الدهنية، والصفراء تقلل التعفن والفساد كما قلنا، وهي أيضًا
منبهة للحركة الدودية للأمعاء، ولذلك يعرض لمن احتسبت فيه الصفراء - بأن
انسدت مجاريها - ما يسمى (باليرقان) ؛ فيصفر جميع جسمه، ويحصل له
إمساك متكرر، ويرى في برازه شحم غير مهضوم، وتكون له رائحة كريهة جدًا.
أما مجاري الصفراء فهي في مبدئها مجهرية (ميكروسكوبية) ، وتبتدئ من
داخل الخلايا الكبدية، وتجري فيما بينها، وتتجمع هذه القنوات بعضها مع بعض
حتى تكبر شيئًا فشيئًا إلى أن تنتهي بقناتين عظيمتين: إحداهما تخرج من الفص
الأيمن للكبد، والأخرى من الفص الأيسر لها، وتجتمعان معًا فيحدث منهما قناة
واحدة، وفي أسفل الكبد كيس صغير يسمى بالحويصلة الصفراوية (المرارة) لها
قناة أيضًا تتحد مع قناة الكبد، وتتكون منهما القناة الكبرى المسماة (بالقناة
المشتركة) التي قلنا إنها تصب في الاثني عشري، وفائدة هذه الحويصلة أن تكون
مستودعًا للمِرّة في وقت عدم الحاجة إليها.
وإذا انسدت القناة الكبدية وحدها حصل اليرقاق، وكذلك إذا انسدت القناة
الكبرى، أما إذا انسدت قناة الحويصلة فقط كبرت هذه بسبب إفراز مواد مخاطية
من باطنها، وحدث كيس تحت الكبد، وبانسداد هذه القنوات - السالفة الذكر -
بحصيات كبدية تتكون غالبًا في الحويصلة يحصل المغص الكبدي.
وإذا انعكست حركة الأمعاء بحيث تعود الصفراء إلى المعدة من البواب حصل
القيء الصفراوي، وهو مر الطعم.
أما لون المِرَّة فسببه اشتمالها على مواد ملوّنة لا تختلف عن هيموجلوبين الدم
إلا بعدم وجود الحديد فيها، وذلك لأن الكبد من المواضع التي تباد فيها الكريات
الحمراء القديمة؛ فتأخذ الكبد منها الهيموجلوبين، وتفصل منه الحديد، وتُلْقِي
بالباقي في إفرازه، وهو السبب في تلون المرة باللون المعروف، أما الحديد فإن
الكبد تركبه مع غيره من العناصر، ويخرج منها في الدم، فإذا وصل إلى نقو
العظام امتزج بكريات (خلايا) هناك فتنشأ منها الكريات الحمراء.
ولوجود مادة الحديد في خلايا الكبد كانت الكبد من أحسن المآكل المغذية
المجددة للدم، غير أنها أعسر هضمًا من اللحوم البيضاء.
أما جميع المواد النشوية والسكرية المهضومة فإنها تُمْتَص في الدم بعد أن
تتحول إلى سكر العنب، فإذا وصلت إلى الكبد حُجِز منها مؤقتًا ما زاد عن حاجة
الجسم بصورة النشاء الحيواني المذكور (الجليكوجين) ، وهذا النشاء يتحول شيئًا
فشيئًا كلما احتاج الجسم إليه إلى سكر العنب مرة أخرى، ويسير في الأوردة الكبدية
ويدور مع الدم؛ فيغذي أنسجة الجسم وعضلاته، وفيها يحترق فيتحول إلى ثاني
أكسيد الفحم، وإلى الماء - كما سبق -.
واعلم أن الطعام الذي تم هضمه في المعدة، وسار منها إلى الاثني عشري
يسمي (الكيموس) ، وهي كلمة يونانية معناها العصير.
أما الأمعاء فإنها تفرز عصيرًا آخر أهم وظيفة له تحويل سكر القصب،
وسكر الشعير إلى سكر العنب، ولها أيضًا بعض التأثير في المواد النشوية فتحولها
إلى سكر، ومما تقدم يُفْهَم أن أجزاء الطعام الأصلية تتحول قبل امتصاصها كما
يأتي:
(1) الماء والأملاح: لا تتحول إلى شيء، وتُمْتَص كما هي:
(2) المواد الزلالية [18] : تحولها عصارات المعدة والبنكرياس إلى ببتون؛
ولكنها عند امتصاصها تحولها لخلايا الغشاء المخاطي للأمعاء إلى مواد زلالية
أخرى مثل التي في الدم.
(3) المواد الشحمية والدهنية: يُمْتَص جزء منها كما هو، وأكثرها ينحل
بالعصير البنكرياسي إلى جلسرين وحوامض شحمية - كما تقدم -، وكل من هذه
الحوامض والجلسرين سهل الامتصاص؛ ولكن في أثناء مرورها خلال الغشاء
المخاطي للأمعاء تحولها خلاياه إلى شحم أو دهن كما كانت من قبل انحلالها،
وبعض الحوامض يتحد مع صوديوم المِرَّة؛ فيتكون صابون وهو سهل الامتصاص،
ويساعد أيضًا على امتصاص الشحم كما هو، فالشحم يهضمه عصير البنكرياس مع
المِرَّة بعد أن يحولاه إلى (مستحلب) ، وذلك مما يُعِين أيضًا على هذا الهضم
والامتصاص.
(4) أما المواد النشوية: فإنها تتحول باللعاب، والعصير البنكرياسي إلى
سكر الشعير، ثم يتحول هذا الكسر وسكر القصب - إن وجد - بواسطة العصير
المعوي إلى سكر العنب، وهذا السكر سهل الامتصاص، ويبقى في الدم كما هو
غير أنه يخزن الزائد منه مؤقتًا في الكبد على صورة الجيكوجين - كما قلنا - أما
سكر اللبن فيتحول أثناء امتصاصه إلى سكر العنب أيضًا، ولا تأثير للعصارات
الهاضمة فيه.
امتصاص الأغذية:
أما الامتصاص، فإنه يحصل في القناة الهضمية من أولها إلى أخرها، أي
من الفم إلى المستقيم؛ ولكن الامتصاص في الفم قليل جدًّا، كثير في المعدة
والأمعاء خصوصًا في الصائم من الأمعاء الصغيرة.
ولما كان بعض المواد الزلالية يمكن امتصاص القليل منهما وإن لم تهضم [19]
وكذلك الشحم والزيوت، فلذا يستعمل الأطباء في بعض الأمراض الحقن الشرجية
المغذية للمرضى، وإن كان أكثر هذه الحقن يهضم هضمًا صناعيًّا قبل حقنه لتسهيل
امتصاصه لعدم وجود عصارات هاضمة في المستقيم.
أما الماء والأملاح، والمواد السكرية، والزلالية فكلها تُمْتَص من الأمعاء
بواسطة فروع الوريد الباب ليحملها إلى الكبد - كما سبق - مع بعض أجزاء من
الدهن قليلة جدًّا، ولكن أكثر المواد الدهنية تمتصها أوعية لمفاوية مخصوصة
موجودة في الأمعاء، وهذه الأوعية تسمى (بالأوعية اللبنية) ؛ لأن هذه المواد
الدهنية التي تجري فيها تشبه اللبن وتسمى (بالكيلوس) ، وهي كلمة يونانية أيضًا
معناها العصير، وهذه الأوعية اللمفاوية تصب في غدد لمفاوية منثورة في طريقها
لتنقيتها من الميكروبات ونحوها، وكل من الأوعية وهذه الغدد موجود بين طبقتي
المساريقا (mesentery) [20] ، وهي عبارة عن غشاء من البريتون يعلق
الأمعاء الصغيرة بالظهر، ويحيط بها.
والغدد اللمفاوية التي بين طبقتي المساريقا يحصل فيها التهاب، فضخامة عند
تقرح الأمعاء في الحمى التيفودية وغيرها.
واعلم أن الزلال المهضوم المسمى (ببتون) ، إذا دخل الدم من غير أن
تحوله الخلايا المخاطية إلى زلال كزلال الدم كان سمًّا زعافًا؛ فلذا كان تحويله قبل
امتصاصه واجبًا.
ومن المعلوم أن سم الثعابين ونحوها، هو مواد زلالية تقرب من الببتون،
فلذا كان أكله مغذيًا لا ضرر فيه؛ لأن خلايا الغشاء المخاطي تتكفل بتحويله إلى ما
يصلح للجسم قبل امتصاصه، أما إذا حُقِن في الدم أو تحت الجلد بدون هذا التحويل
كان خطرًا على الحياة.
وفي الأمعاء ميكروبات عديدة، وهذه الميكروبات تحدث تغييرًا، وتحليلاً
ً في الأغذية فوق الذي تُحْدِثه العصارات الهاضمة؛ فينشأ عن ذلك غازات وغيرها،
بعضها يضر امتصاصه، وبعضها لا ضرر فيه، وهذه الغازات هي التي تحدث
القراقر في البطن، وخروج الأرياح، ويكثر تكون هذه الغازات بأكل المواد النباتية
وقد تؤثر العصارات الهاضمة في بعض المواد المأكولة؛ فتخرج منها مواد سامة
للجسم إذا امتصت في الدم؛ ولكن هذه الميكروبات تحللها إلى أجسام أخرى، وبذلك
تبطل ضررها، فوجودها في الأمعاء ضروري، ومن الخطأ محاولة قتلها بالأدوية
المطهرة.
أما البراز فهو فضلات جميع الأغذية والأشربة التي لم تمتص، ومُفْرَزَات
الجهاز الهضمي، وغير ذلك.
والسبب في حصول الإسهال أحد ثلاثة أمور:
(1) إما اضطراب حركة الأمعاء حتى تكون أسرع من الحالة الطبيعية؛
فيمر فيها الطعام والشراب بسرعة زائدة قبل أن يجف بالامتصاص.
(2) وإما زيادة العصارات الهاضمة وخصوصًا إفرازات الأمعاء بسبب
مرضها كالتهابها.
(3) وإما قلة امتصاص خلايا الغشاء المخاطي للأطعمة والأشربة لمرض ما
فيها. وهذه الأسباب في الغالب تكون مجتمعة في الإسهال العادي، وقد تحصل
بالمسهلات، ولذلك كان الإسهال الزائد عن الحد ضارًّا جدًّا؛ لأنه يُنْهِك القوى.
والسبب في الإمساك عكس ما تقدم، وضرره يكون بامتصاص بعض المواد
الضارة في الدم، وبضغطه على بعض الأعضاء كالأوردة، أو الأعصاب، فيعوق
وظيفتها، وقد تنشأ عنه البواسير، والصداع، والضعف، وآلام عصبية في الفخذ
الأيسر لضغط المواد البرازية في التعريج السيني والمستقيم على الأعصاب، أما
مدة مرور الطعام في الأمعاء فهي عادة من 24-36 ساعة، منها نحو 12 ساعة
للأمعاء الدقيقة.
***
فصل
في الأطعمة والأشربة وغيرها
المواد الضرورية للجسم سبق ذكرها مرارًا، وهي باختصار: المواد الزلالية
(الأولية) ، والسكرية، والنشوية (الكربوهيدراتية) ، والدهنية، والماء، والأملاح
وهذه المواد يأخذها الإنسان إما من الحيوانات، أو من النباتات والحيوانات المأكولة
تأخذها أيضًا من النباتات، فمصدر غذاء الإنسان كله هو النباتات، وهذه المواد كلها
توجد في أنواع مختلفة من الأطعمة أهمها:
(1) اللبن:
هو غذاء كامل لاشتماله على جميع المواد السابقة، وعلى الدهن المعروف
(السمن والزبدة والقشدة) ، ويُسْتَخْرَج منه الجبن وهو جل المواد الزلالية،
والدهنية مع بعض أملاح تضاف إليه من الخارج.
وإذا تعرض اللبن للهواء زمنًا ما هبطت إليه بعض ميكروبات مخصوصة حول
سكره إلى حامض اللبنيك، وهذا يرسب الزلال الذي في اللبن فيغلظ ويكون اللبن
المعروف في مصر (باللبن الزبادي) المسمى بالعربية (اللبن الخاثر والرائب)
وقد توضع في اللبن خميرة فيها بعض ميكروبات أخرى؛ فتحول سكره إلى غَول؛
فينشأ نوع من الخمر بسبب ذلك يُعرف في بلاد التتار بالكفير، أو الكوميس وكل
من الكفير [21] ، أو الكوميس [22] سهل الهضم مغذٍّ للإنسان، منبه للدورة الدموية بما
فيه من الغول بمقادير قليلة، ونافع في السل الرئوي - كما يقال -؛ ولكن الإكثار
والإدمان عليه له بعض الأثر السيئ الذي للخمر عامة.
أما اللبن الخاثر فهو أيضًا سهل الهضم لقلة مائه، ووجود الحامض فيه، مغذٍّ
للإنسان؛ ولكن إذا طالت مدة تخمره تولدت فيه مواد سمية ضارة، وهذا النوع نافع
في الحميات لقلة إفراز المعدة للحمض أثناء الحميات، وهو مفيد أيضًا في نزلات
المثانة.
واللبن قد يختلط بميكروبات أخرى محدثة للأمراض، بعضها يصل إليه من
الإنسان كميكروب الحمى التيفودية، والبعض الآخر قد يصل إليه من غيره
كميكروب الحمى المالطية في لبن بعض الماعز، وكالدفتيريا فإنها تصيب البقر
والضأن، وكثير من البقر يصاب بالتدرن؛ فيكون اللبن سببًا في الدرن الإنساني
وإن لم توجد فيه ميكروبات الدرن نفسها إذ يكفي وجود سمومها فيه؛ فإن ذلك
يضعف البنية، ويهيئها لقبول ميكروب الدرن؛ فلذا يجب أخذ اللبن من الحيوانات
السليمة في أوان نظيفة جدًّا، وبأيد كذلك، وللثقة بطهارته من جميع الميكروبات
يجب غليه قبل تعاطيه مدة خمس دقائق على الأقل.
وإذا منعنا وصول سائر الميكروبات إلى اللبن أمكننا حفظه دهرًا بدون فساد
كما سبق.
وللانفعال النفساني الشديد تأثير في إفراز اللبن حتى أنه قد يسم الصغار.
ومن السهل أخذ زبدة اللبن، أو القشدة بالآلة المبعدة عن المركز المسماة
باللاتينية (centrifuge) فإذا أديرت بسرعة أبعدت جميع المواد التي في اللبن
عن المركز لثقلها ما عدا زبدة اللبن؛ فإنها تأتي نحو المركز لخفتها؛ وبسبب خفتها
أيضًا تصعد إلى سطح اللبن إذا سُخِّن بالنار كما هو معلوم.
وإذا أخذت زبدة اللبن صار ثقله النوعي أزيد من المعتاد؛ فإذا أضيف إليه
جزء من الماء عاد ثقله إلى المعتاد (وهو في لبن البقر 1028 إلى 1034) .
ومن طرق غش اللبن أن يضاف عليه الماء مع النشاء لإكثار كميته؛ ولكن
النشاء تمكن معرفته بطريقة كيماوية سهلة جدًّا، وذلك بوضع جزء من صبغة اليود
عليه فيتلون في الحال باللون الأزرق إذا كان فيه نشاء.
ويصنع من زيوت النباتات، وشحم الحيوانات زبدة كاذبة تسمى باللاتينية
وغيرها المرغرين (ومعناها حرفيًّا مادة اللؤلؤ سُميت بذلك للمعانها) يستعملها
التجار كثيرًا بقصد الغش، وهي في الحقيقة لا ضرر فيها إلا أنها أرخص ثمنًا.
ومن أكثر الألبان تغذية لبن الجاموس والعنز، وأسهلها هضمًا لبن المرأة،
والأتان (أثنى الحمير) ، وأكثرها سكرًا لبن المرأة، ويقرب منه في ذلك لبن
الأتان.
(جدول تركيب الألبان المختلفة)
نوع اللبن ... المواد الزلالية الدهن السكر الأملاح الماء
لبن المرأة ... 39و2 ... 80و3 20و6 30و0 40و87
لبن البقرة ... 55و3 ... 69و3 88و4 71و0 17و87
لبن الفرس ... 00و2 ... 20و1 65و5 36و0 79و90
لبن الأتان ... 25و2 ... 65و1 00و6 50و0 60و89
لبن العنز ... 30و4 ... 78و4 46و4 75و0 71و85
لبن الجاموسة ... 11و6 ... 45و7 17و4 87و0 40و81
(2) البيض:
وهو يؤخذ من أنواع مختلفة من الطيور، وأكبره بيض النعام، وهو أيضًا
غذاء كامل لاشتماله على جميع المواد اللازمة للجسم، ولذلك تتكون منه أجنة
الطيور؛ فتخرج منه كاملة الأعضاء، والأجزاء، وطبقاته مؤلفة كما يأتي:
القَيْض (القشرة) : مركبة من مواد جيرية أهمها كربونات الكلسيوم، وبها
ثقوب عديدة لازمة لدخول الهواء إلى البيضة، وخروجه منها لتنفس جنين الطير؛
فإذا سدت جميع هذه الثقوب اختنق ما في داخلها ومات، وسدها أيضًا بمثل الشمع
أو الصمغ يحفظ البيضة من الفساد؛ فإنه يمنع دخول الميكروبات إليها، ويلي هذه
القشرة طبقة أخرى رخوة، ثم بياض البيض (الغِرْقِئ) : وهو يتركب من مواد
زلالية مع قليل من الدهن والملح، ووظيفته تغذية جنين الطير، وهو محيط بالمُحّ
(الصفار) من جميع الجهات، أما (المُحّ) : فهو عبارة عن خلية حية كبقية
الخلايا الحيوانية، ولها نواة يبتدئ فيها تكوُّن الجنين بانقسامها، وتغذيها بما حولها
من المواد المغذية، والمُح يتركب أكثره من مواد دهنية وأملاح مع قليل من الزلال
المسمى جلوبيولين، ولا يحصل هذا الانقسام في النواة إلا إذا كانت ملقحة بالحيوان
المنوي للذكر، ومدة التفريخ للدجاج 21 يومًا، أي ثلاثة أسابيع.
والبيض مغذٍّ جدًّا، سهل الهضم إلا إذا طبخ طبخًا شديدًا؛ فإن ذلك يجمد
مواده، ويجعلها عسرة الهضم، وإذا شرب منه جزء بدون طبخ، أو مع طبخ قليل
أفاد الجسم وغذاه، غير أن الإفراط فيه مما يتعب الكُلى، وقد ينزل جزء من زلاله
في البول.
ولمعرفة البيض الجيد من البيض الفاسد تذاب أوقيتان من ملح الطعام في
نصف لتر ماء، فإذا غرقت البيضة في هذا السائل دل ذلك على جودتها، وإلا
كانت فاسدة مشتملة على غازات ناشئة من الفساد هي السبب في خفتها.
(3) العسل:
هو في الأصل ما تجمعه النحل من رحيق الأزهار، ثم تحوله في معدها إلى
هذه المادة المخصوصة، ثم تلقيه من أفواهها في خلاياها مصداقًا لقوله تعالى
{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} (النحل: 69) وفائدة العسل للنحل
تغذية صغارها [23] به.
والعسل يشمل أنواعًا من السكر أهمها سكر العنب مع مواد عطرة، وفيه
أيضًا جزء من الأبور (وهو المادة التي تسميها الإفرنج (pollen) وهي عبارة
عن عنصر الذكر في الأزهار الذي تلقح الأنثى به، والأبور مادة بروتوبلازمية حية
أي مشتملة على زلال وغيره، ولذا كان العسل مشتملاً على كثير من العناصر
الضرورية للحيوانات، أما شمعه فلا يُهْضَم، ولا يكتسب منه الجسم شيئًا.
والعسل مغذٍّ جدًّا، سهل الهضم للغاية، بل إن سكر العنب الذي فيه لا يحتاج
إلى العصارات الهاضمة؛ فإنه يُمْتَص بدونها، والعسل ملين مقوّ للجسم، وبسبب
سهولة هضمه، وتقويته للجسم، وإحداثه اللين كان نافعًا في كثير من الأمراض
فيجعل الجسم قوي المقاومة لأنواع كثيرة من الميكروبات، وقد يتغلب عليها بسبب
ذلك، فهو نافع في سائر الأمراض التي تنهك القوى كالسل، والسرطان، والأنيميا
والبللغرا، وفي الحميات وغير ذلك حتى قال بعضهم إنه نافع في البول السكري؛
ولكن ذلك لم يثبت الآن عند الجمهور.
وهو يحرض شهوة الطعام أيضًا، ويُكْثِر من إفراز المعدة، ومن اللعاب
فيرطب الحلق، ولذا كان نافعًا في التهاب اللوزتين، والحلقوم، وفي السعال. كل
ذلك يؤيد قوله تعالى {فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} (النحل: 69) وقد يجوز إعطاؤه أيضًا
في أحوال الاضطرابات المعدية المعوية؛ لأنه سهل الهضم جدًّا مساعد عليه - كما
قلنا -، فلذا ينفع المصابين بعسر الهضم، ويجوز إعطاؤه في أول الأمر للمصابين
بالذَّرَب، كما يعطى زيت الخروع بقصد تنظيف القناة الهضمية من المواد التي
تحدث تهيجها، ويحسن إعطاؤه ملينًا للأطفال بدل زيت الخروع؛ فإنه ملين لذيذ
الطعم تشتهيه أنفسهم، ومن ذلك تعلم حكمة وصف رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - العسل لمن أصيب بإطلاق بطنه بقصد تنظيف القناة الهضمية، وتغذية
المريض به لسهولة هضمه، ويشبه ذلك وصف الأطباء غذاء اللبن في الذَّرَب مع
أنه يُسْهِل كثيرًا من الناس.
ومن أحسن الأغذية النافعة للحميات العسل مع اللبن؛ فإن العسل يحترق في
الجسم، ويوفر احتراق أجزائه الأخرى بسبب الحمى، وذلك مما يعين الجسم على
التغلب عليها. هذا وإن عسل النحل الذي تجمعه من أزهار سامة يُحْدِث أعراض
التسمم لمن يطعمه، وكذلك الحال في ألبان الأنعام التي تأكل نباتات سامة، فيجب
الاحتراس من ذلك ما أمكن.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذه المقادير بالحجم لا بالوزن.
(2) اسم يوناني معناه " المتغير " يطلق على حييوين دقيق ذو خلية واحدة، وهو دائم التغير لشكله، وله حركة ذاتية.
(3) أي البزور السلسلية لوجودها بهيئة سلاسل حينما يراها الإنسان بالمجهر، والكلمة يونانية.
(4) ذلك يشبه أن يكون مصداقًا لقول الشاعر " وداوني بالتي كانت هي الداء ".
(5) في اصطلاح علم الكيمياء كثيرًا ما يتركب اسم المادة الفعالة في الشيء بإضافة (ين) إليه فمثلاً (البنين) هو اسم المادة الفعالة في البن أو القهوة؛ ولذلك يسمى أيضًا (القهوين) ، وهكذا فاللعابين مادة اللعاب الفعالة في الهضم، وقد جارينا هنا الإفرنج في هذا الاصطلاح كما جاريناهم في غيره مما سبق بيانه لسبقهم لنا في العلم والاختراع والاكتشاف.
(6) سمي بذلك لأنه يتولد في الشعير النابت (malt) وغيره لتغيرات كيماوية تحصل في نشائه إذا ابتل بالماء.
(7) يسمى الكحول بالفرنسية (alcool) ، وهو روح الخمر أو المادة الفعالة فيها، وهي سبب جميع شرورها ومضارها، ويقول الإفرنج: إنهم أخذوا هذه الكلمة عن اللغة العربية، فالظاهر أنها مأخوذة من كلمة (غول) الواردة في وصف خمر الجنة في قوله تعالى {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} (الصافات: 47) ، وهو ما يغتال العقول، ويفسد الصحة {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} (الصافات: 47) أي لا يسكرون منها لعدم وجود تلك المادة الضارة في خمر الآخرة، وعليه فسنستعمل في كتابنا هذا كلمة
(غول) بدل كلمة كحول أو (alcool) ، والمراد بها ما يسمونه (السبرتو) (Spirit) .
(8) أي غير متحد بشيء يتقيد به.
(9) هو الغشاء المغشي للأحشاء البطنية، ومنه جزء كالمنديل يسمى بالترب، ويمكننا أن نسمي البريتون بالعربية (الغشاء المحيط) .
(10) مركب من هيدروجين وكلورين.
(11) هو العلامة الإنكليزي (تشارلس دارون) عاش بين سنة 1809و1882 ميلادية، وقد ذهب إلى أن الأنواع الحية ليست ثابتة، ولم يخلق كل منها مستقلاًّ عن غيره بل نشأ بعضها عن بعض بالتغير التدريجي البطيء مع طول الزمان لعوامل طبيعية بينها بيانًا شافيًا، وقد توسع العلماء في هذا المذهب حتى طبقوه على كل شيء في هذا الوجود فصار يشمل الجماد والأمور المعنوية كالأفكار واللغات والمعتقدات والشرائع وغير ذلك. فمحصل هذا المذهب أن الكون بما فيه لم يخلق دفعة واحدة بل خلق أطوارًا طبقًا لسنة التدرج والترقي. فالمذهب في الجملة صحيح لا شك فيه، ويكفي في إثباته قوله {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) وإنما النزاع في بعض تفاصيله، وسنعود إلى بيان ذلك في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
(12) القولون اسم هذه الأمعاء الغليظة باليونانية، والكلمة من تعريب المتقدمين.
(13) نسبة لعالم ألماني يدعى " فون برون ".
(14) مُشَرِّح سويسري عاش بين سنة 1653و1712.
(15) إذا أطلقنا هذه الكلمة أردنا بها الهاضوم المعدي المسمى باليونانية ببسين.
(16) كلمة يونيانية معناها حلو.
(17) سمي بذلك لأنه يحمل الأغذية والأشربة بعد الهضم إلى الكبد، ومنها إلى الجسم، فكأنه باب لدخول الطعام والشراب إلى البدن.
(18) تسمى أيضًا الأولية (proteids) لأن لها المنزلة الأولى بين الأغذية، والنيتروجين من لوازم تركيبها.
(19) المراد بالهضم هنا التغير الكيماوي المخصوص الذي يحصل في الأغذية قبل امتصاصها.
(20) كلمة يونانية معناها (وسط الأمعاء) لأن هذا الغشاء متصل بوسط الأمعاء.
(21) يصنع من لبن البقر والماعز والغنم.
(22) يصنع من لبن الفرس.
(23) تسمى صغار النحل اللوث (بالضم) ، والطرد (بالفتح) ، والرصع بالتحريك، والديسم
(بوزن جعفر) .(18/193)
الكاتب: الجاحظ
__________
الحنين إلى الأوطان
كتاب مختصر من أحسن كتب الأدب طلاوة، وأشدها حلاوة، وأرشقها
عبارة، وأجودها اختيارًا للآلئ الكلام المنثورة والمنظومة، وأطبعها لملكة البيان
في نفس الطالب، وذوق البلاغة من الشاعر والكاتب، وحسبك أنه لإمام أئمة
الأدب أبي عثمان الجاحظ، الذي نوه الزمخشري بمكانته العليا من البيان في
خطبتي كتابيه أساس البلاغة، والكشَّاف، وهاك هذا النموذج من أوله، قال بعد
البسملة:
إن لكل شيء من العلم، ونوع من الحكمة، وصنف من الأدب - سببًا يدعو إلى
تأليف ما كان فيه مشتتًا، ومعنى يحدو [1] على جمع ما كان متفرقًا، ومتى أغفل
حَمَلَة الأدب، وأهل المعرفة تمييز الأخبار، واستنباط الآثار، وضم كل جوهر
نفيس إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله، بطلت الحكمة، وضاع
العلم، وأُمِيت الأدب، ودَرَس مستور كل نادر، ولولا تقييد العلماء خواطرهم على
الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم، وضاع آخره، ولذلك
قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الآخر.
وإن السبب على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها،
وشوقها إلى تربها، وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقدَ النار في أكبادها أني
فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع [2] إلى الأوطان،
فسمعته يذكر أنه اغترب من بلد إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه،
وأخصب من جنابه، ولم يزل عظيم الشأن، جليل السلطان، تدين له من عشائر
العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها [3] وشجعانها، يقود الجيوش
ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه، أو راهب منه، فكان إذا ذُكِر
التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها [4] ، وكان كما قال الشاعر:
إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نهبة للهماهم [5]
حنينًا إلى أرض بها اخضر شاربي ... وحُلت بها عني عقودُ التمائم [6]
وألطف قوم بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حق التقادم
وكما الآخر:
يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود [7]
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقدمل السُّرى كل واخد [8]
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطًا بسم الأساود [9]
فقلت: لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى
مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة [10] ، وقالت الهند: حرمة بلدك عليك
كحرمة أبويك، لأن غذاءك منهما وأنت جنين - وغذاءهما منه، وقال آخر:
احفظ بلدًا رشحك غذاؤه، وارع حمى أكنك فناؤه، وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد
رضعت ماءه، وطعمت غذاءه، وكان يقال: أرض الرجل ظئره [11] ، وداره
مهده، والغريب النائي عن بلده، المنتحي عن أهله، كالثور النادّ [12] عن وطنه،
الذي هو لكل رامٍ قنيصه، وقال آخر: الكريم يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى
غابه، وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه، ومحل رضاعه، كالعير [13] الناشط [14]
عن بلده، الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رامٍ دريئة [15] ، وقال آخر: تربة
الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة
وحفاوة [16] ، وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أمصك حلب رضاعه.
وقال آخر: إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى
أوطانه، وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية،
والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة
الرشدة [17] ، وطهارة الرشدة من كرم المحتد [18] ، وقال آخر: ميلك إلى مولدك، من
كرم محتدك، وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك،
وأنشد:
لقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسع في اغتراب [19]
وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاوٍ [20] لا
يثمر، وذابل لا ينضر، وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب
الوطن - ولذلك قال أبقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع
لهوائها، وتنزع إلى عذائها، وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها، وقال
جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه - كما تتروح الأرض الجدبة ببلل
القطر.
والقول في حب الناس الوطن، وافتخارهم بالمحال قد سبق، فوجدنا الناس
بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم، ولذلك قال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم،
قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزقَ، وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب،
والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم [21] الريف حتى قال بعضهم:
أَتَجْلِينَ في الجالين أم تتصبري ... على ضيق عيش والكريم صبور
فبالمصر برغوث وحمى وحصبة ... وموم وطاعون وكل شرور [23]
وبالبيد جوع لا يزال كأنه ... ركام بأطراف الأكام تمور [24]
وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد
أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى حن إلى وطنه ومستقره
ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصه، ولكن
توخينا تدوين أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعارهم، وبالله التوفيق.
ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان قول الله - عز وجل - حين ذكر الديار
يخبر عن مواقعها من قلوب عباده فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} (النساء: 66) ، فسوى بين قتل أنفسهم
وبين الخروج من ديارهم، وقال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة: 246) وقال الأول: عَمَّر الله البلدان بحب
الأوطان، وكان يقال لولا حب الناس الأوطان لخربت البلدان، وقال عبد الحميد
الكاتب: وذكر الدنيا: نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان، وقالت الحكماء:
أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أبغضهم للكتاب، وأكرم الصفايا
أشدها ولهًا إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنينًا إلى أوطانها، وأكرم المهارى
أشدها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس.
وقال آخر: من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته
لأهل زمانه، واعتل أعرابي في أرض غربة فقيل له: ما تشتهي؟ فقال حِسل [25]
فلاة وحسو [26] قلات [27] . وسئل آخر فقال: مخضًا [28] رويًّا، وضبًّا مشويًّا،
وسئل آخر فقال: ضبًّا عنينًا أعور، وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك
أحفى بك، وقيل الغربة كربة، والقلة ذلة، وقال:
لا ترغبوا إخوتي في غربة أبدا ... إن الغريب ذليل حيثما كانا
وقال آخر: لا تنهض عن وكرك فتنغصك الغربة، وتضيمك الوحدة، وقال
آخر: لا تجف أرضًا بها قوابلك [29] ، ولا تشك بلدًا فيه قبائلك، وقال أصحاب
القيافة [30] في الاسترواح: إذا أحست النفس بمولدها؛ تفتحت مسامها فعرفت
النسيم.
وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه، كما يحن النجيب [31] إلى عطنه، وقال:
كما أن لحاضنتك حق لبنها، كذلك لأرضك حق وطنها، وذكر أعرابي بلده فقال:
رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني
أحساؤها [32] ، وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم [33] الذي ثكل [34] أبويه، فلا أم
ترأمه [35] ، ولا أب يحدب عليه [36] ، وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك؛ فلا
تنس نصيبك من الذل، قال الشاعر:
لعمري لَرهط المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كل مركب
إذا كنت في قوم عِدًا لست منهم ... فكل ما عُلفت من خبيث وطيب [37]
وفي المثل أوضح من مرآة الغريبة - وذلك أن المرأة إذا كانت هديًا في غير
أهلها تتفقد من وجهها وهيئتها ما لا تتفقده وهي في قومها وأقاربها - فتكون مرآتها
مجلوة تتعهد بها أمر نفسها وقال ذو الرمة:
لها أذن حشر وذفرى أسيلة ... وخد كمرآة الغريبة أسجح [38]
__________
(1) يحدو، حداه على الأمر: بعثه إليه.
(2) النزاع إلى الشيء: الاشتياق إليه.
(3) الأنجاد: جمع نجد، وهو الشجاع السريع إلى الإجابة فيما دعي إليه.
(4) الأعطان: أوطان الإبل ومباركها عند الماء، واحدها عطن.
(5) الهماهم: الهموم.
(6) التمائم: جميع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين في زعمهم فأبطلها الإسلام، ذكره في النهاية لابن الأثير.
(7) ذرا الشيء: بالضم أعاليه الواحدة ذروة بكسر الذال وضمها، وقال في معجم البلدان: قال ابن الأعرابي: الأبرق جبل مخلوط برمل وهي البرقة، وكل شيء خلط من لونين فقد برق، والمتقاود المستوي، قال في أساس البلاغة: تقاود المكان استوى، قال:
ألا ليت شعري هل أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود
(8) السرى: سير عامة الليل وفي المئل " عند الصباح يحمد القوم السرى " ويقال جمل واخد ووخاد إذا كان واسع الخطو، وقد وخد يخدو وخدًا ووخدانًا.
(9) الأساود: جمع أسود وهو العظيم من الحيات.
(10) تاق إليه توقانًا: اشتاق إليه فهو تائق وتواق.
(11) الظئر: المرأة التي حضنت ولد غيرها.
(12) ند البعير ندًّا: (بتشديد الدال) نفر وذهب على وجهه شاردًا.
(13) العير: الحمار الوحشي والأهلي أيضًا.
(14) قال في أساس البلاغة: ثور ناشط - خارج من أرض إلى أرض.
(15) الدريئة: حلقة يتعلم عليها الطعن.
(16) الحفاوة: المبالغة في الإكرام.
(17) الرشدة: صحة النسب وهي بكسر الراء، والفتح لغة.
(18) المحتد: الأصل، يقال هو كريم المحتد، وهم كرام المحاتد.
(19) الإقتار: مصدر أقتر الرجل: إذا افتقر.
(20) ذاوٍ: ذابل.
(21) استوخم البلد، وهو وخم ووخم، بالكسر والسكون أيضًا: إذا لم يصلح للسكن.
(22) الجلاء: الخروج من البلاد يقال: جلوا عن أوطانهم: إذا خرجوا منها.
(23) الموم: هو البرسام مع الحمى.
(24) الركام: السحاب المتراكم بعضه فوق بعض، والأكمة تل، وقيل شرفة كالرابية وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد وربما غلظ، والجمع أكم وجمع الأكم آكام، مثل جبل وجبال، ومار الشيء تحرك بسرعة.
(25) الحسل: ولد الضب حين يخرج من بيضه.
(26) حسا زيد المرق يحسوه حسوًا: شربه شيئًا بعد شيء، وحسا الطائر الماء: تناوله بمنقاره.
(27) القلات: جمع قلت بالفتح، وهي النقرة في الجبل يستنقع فيها الماء.
(28) المخض والمخيض: ما مخض من اللبن، وأخذ زبده.
(29) القوابل: جمع قابلة، وهي المرأة التي تأخذ الولد عند الولادة.
(30) القائف: الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة، ويسمى فعله بالقيافة.
(31) النجيب من الإبل: القوي الخفيف السريع.
(32) الأحساء: جمع حسي، وهي سهل من الأرض يستنقع فيه الماء.
(33) اللطيم: الذي يموت أبواه.
(34) الثكل: فقدان المرأة ولدها.
(35) رئمت الناقة الولد: عطفت عليه.
(36) يحدب عليه: يعطف عليه.
(37) قال ابن السكيت: قوم عدا غرباء، وأنشد البيت، قال: ولم يأت فعل في الصفات غير هذا، وهو أيضًا مذهب سيبويه، وهم اسم الجمع، وقال ابن السيد في الاقتضاب هذا البيت لزرافة بن سبيع الأسدي فيما ذكر يعقوب وذكر الجاحظ أنه لخالد بن نضلة الجحواني من بني أسد - والعدى الغرباء، والعدى أيضًا الأعداء - والأكل والعلف ههنا مثلان مضروبان للموافقة، وترك المخالفة - وكان هذا الشاعر قد راغم قومه، وعتب عليهم ثم جاور غيرهم، وندم على مفارقة قومه - ولذلك قال قبل هذا البيت:
لعمري لقوم المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كل مركب
من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب
تبدلت من دودان نصرً اوأرضها ... فما ظفرت كفي ولا طاب مشربي
ثم أفاض في شرح البيت.
(38) الحشر: ما لطف من الآذان، والذفرى من الحيوان: العظم الشاخص خلف الأذن، والأسيل من الخدود: الطويل المسترسل، وسجح الخد كفرح سهل، ولان، وطال في اعتدال، وقل لحمه.
وقال في أساس البلاغة: وجه أسجح مستوي الصورة، ورجل أسجح الخدين، وقد سجح قال ذو الرمة وقد أنشد البيت.(18/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سفور النساء واختلاطهن بالرجال
وفوضى الآداب بمصر
في هذه الأيام التي ثبت فيها عن نساء فرنسة كلهن، حتى غانيات باريس
منهن، أنهن لبسن ثياب الحداد، بعد رفولهن في تلك الأزياء، التي تُقَلِّدهن فيها
سائر النساء، في جميع الأرجاء،وظهرن بمظهر الراهبات الناسكات، وهن أولئك
الفاتنات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، اللواتي فتن قلوب الرجال،
حتى صاروا يشدون إليهن الرحال، بل يطيرون إليهن على مراكب النار، في
سباسب الأرض وأجواز البحار، وتركن المراقص والملاهي والحانات، إلى
ساحات القتال والمستشفيات، وإلى دور الصناعة، وأعمال الزراعة، ليخففن عن
أمتهن أثقال هذه الحرب الضروس، في هذا العصر العبوس.
في هذه الأيام التي مس فيها الضر، وهدد الأمم والدول العسر؛ فكسدت
غلات الزراعة، وتعطلت معامل الصناعة، ووقفت حركة التجارة، وقلّ الدرهم
والدينار، وغلت أثمان الأشياء، وخاف العقلاء أن يعقب هذه الحرب قحط
ومجاعات، تتلوها فتن وأوبئة وثورات، وشعر المبذرون من أهل السعة والثروة،
بوجوب الاقتصاد في النفقة خوفًا من سوء العاقبة.
في هذه الأيام التي تُدك فيها الحصون والمعاقل، وتُدمر المعابد والمنازل،
وتثل العروش، وتذهب باستقلال الشعوب، وتنذر أقوى الدول بأسًا، وأشدهن
بطشًا، ذلاًّ بعد عزة، وضعفًا بعد قوة، وفقرًا بعد ثروة، وعبودية بعد حرية.
في هذه الأيام - وقد زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها،
وقال الإنسان ما لها، وما عسى أن يكون مآلها - انبرى نفر من الشبان والشواب،
من المتفرنجين والمتفرنجات في هذه البلاد، يتبارون في تحبير المقالات، وإقامة
الحجج والبينات، المؤلفة من مقدمات الشبه والخيلات، على وجوب سفور النساء
المصريات، واختلاطهن بالرجال في الملاهي والمجتمعات، وفي عامة الأحوال
والأوقات؛ ليشاركن الرجال في حريتهم، ويساهمنهم في التمتع بمحاسن (الطبيعة)
ويقتبسن منهم الآداب والأفكار الجديدة؛ ولذلك يسمون مطلبهم هذا (تحرير المرأة)
فمرادهم أن المرأة في رق أهلها ثم زوجها، وأنه ينبغي أن تفعل ما تشاء ولا
يصح لأحد أن يحجر عليها، ولا أن يصدها عما تُحب وتهوى.
يتوهم هؤلاء المساكين أن الفوضى الأدبية التي يرتعون فيها هي الحرية التي
ينوه بمدحها الإفرنج، والتي بها وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم والصناعة،
وما أنتجا من الملك والسيادة، ولم يعقلوا أن هذه الفوضى هي التي حلت روابطهم
القومية، وأضعفت مقوماتهم، ومشخصاتهم الجنسية، وجرفت ثروتهم إلى البلاد
الأجنبية، وجعلتهم غير أهل للاستقلال في إدارة بلادهم، فضلاً عن مد نفوذهم
وبسط سلطانهم على غيرهم، ولم يستفيدوا منها إلا الغرور بأنفسهم، وكثرة
الدعاوي العريضة بألسنتهم.
النساء المسلمات غير مسترقات في مصر، ولا في غيرها، ولا محرومات
من التمتع بمحاسن الوجود، وطيبات الدنيا، فأما نساء الفلاحين فأمرهن معروف،
وإنهن يشاركن الرجال في كل شيء، ولا يعنيهن طلاب (تحرير المرأة) فيما
يقولونه عن النساء المصريات، وأما نساء الموسرين في المدن اللواتي تتوجه إليهن
أنظار هؤلاء المحررين، فهن أكثر تمتعًا بزينة الدنيا ونعيمها من الرجال، إلا في
أمر واحد فقط، وهو حرية المجاهرة بالفسق، ومعاشرة الرجال ومخادنتهم في
الجهر، فالفاسقة منهن لا تفسق إلا وراء الستر، أو في المواخير المعروفة ببيوت
السر، ولا تخرج مع خدن لها للتنزه إلا مستخفية، إلا أن تكون مغمولة أو متهتكة.
وأما البرقع فهو زي اختارته لنفسها، وزينة تجذب الأنظار إليها؛ لأنه يُظْهِر
المحاسن، ويُخْفِي المعايب، وقد اعترف بذلك قاسم أمين، وسبقه إليه الشيخ أحمد
فارس الكاتب الاجتماعي الشهير، وقد نظم في البرقع هذين البيتين:
لا يحسب الغِرُّ البراقع للنسا ... منعًا لهن عن التمادي في الهوى
إن السفينة إنما تجري إذا ... وُضِع الشراع لها على حكم الهوا
على أن البراقع كانت في عهد زيارته لمصر ساترة لمعظم الوجه، فكيف لو رأى
براقع هذه الأيام التي قلت فيها من مقال سابق: (تلاعبها الأنفاس، وتخترقها أشعة
عيون الناس) ؟
وإني لأعجب من المدافعين عن الحجاب كيف يعدون هذه البراقع البيضاء
الشفافة من محصلاته،أو متمماته، وما هي إلا من هاتكاته، أو مزيلاته، إلا أن
يكون مرادهم رد كل ما يجيء به خصومهم من العبث بعادات الأمة لأجل التفرنج،
وزيادة التهتك، كما أني أعجب من اهتمام الآخرين بإزالتها دون غيرها من زينة
النساء المدنيات، وهي لا تمنع علمًا، ولا عملاً، ولا صلاحًا، ولا فسادًا، إلا أن
يكون مرادهم ترك كل وطني احتقارًا له، واستبدال المشخصات الإفرنجية
بالمشخصات الوطنية تعظيمًا لقدرها، أو توهمًا أن تشبهنا بالإفرنج في مشخصاتهم
- وهو سهل علينا - يقوم مقام جعل مقوماتنا كمقوماتهم، - وهو ما عَزَّ علينا -
فيكون لنا شرف التلهي بقشور مدنيتهم، وقد انحطت هممنا عن اللحاق بهم في
لبابها وحقائقها.
أو لم يكفهم أننا شرعنا نقلدهم في هذه الظواهر القشرية فتزيّا حكامنا بأزيائهم،
وتبعهم الناس بالتدريج المعتاد في مثل ذلك، ثم قلدناهم في الأثاث والرياش
والماعون وفي كثير من العادات، وهل كان ذلك كله إلا سببًا لحرف ثروتنا،
وانتزاعهم إياها منا، وبعد أن قُضي على صناعتنا، ولم تحل صناعتهم محلها، دع
تأثيره في إضعاف ديننا وآدابنا، التي هي مقومات أمتنا، فخرجنا عن كوننا أمة
متماسكة بما بينها من الروابط كتماسك البناء المتين، وصرنا كالأنقاض التي لا
مالك لها، يأخذها المعمرون فيشيدون بها دورًا جديدة لهم.
لماذا لا نعتبر بحال الأمة الإنكليزية التي نالت أعظم سيادة في الأرض
بأخلاقها، وصفاتها، وعاداتها، كالثبات، والتروي، والمحافظة على مقومات
الأمة ومشخصاتها حتى المفضولة منها، وعدم اقتباس شيء من عادات غيرها،
وآدابه، وإن كان أحسن مما عندها، إلا أن يكون بالتدريج البطيء في الزمن
الطويل.
وجملة القول أن زي النساء المدنيات بمصر هو زي زينة تجذب أنظار
الرجال إليهن قلما يوجد زي يفي بهذا الغرض مثله، وهو ليس من الحجاب في
شيء، ولعله أبعد الأزياء عن آداب الإسلام وصيانته، فلباس البدويات والقرويات
السافرات الوجوه أقرب إلى أدب الإسلام وصيانته منه؛ ولكن الدعوة إلى إزالته
بدعوى قبحه - لأنه من الحجاب الضار المذموم بزعم هؤلاء الدعاة، وبروح التفرنج
التقليدي الذي يدفعهم إليه - دعوة ضارة مضعفة لمزاج الأمة، صادعة لبنائها
الاجتماعي، وإنما تحسن الدعوة إلى تغييره بدعوى مخالفته للآداب الدينية،
وشرف الصيانة الإسلامية، وإلى استبداله بزي آخر يجمع بين الجمال والكمال،
ولا يُقْصَد به تقليد أحد من الشعوب والأجيال.
إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي
وأما المطلب الثاني من مطالب أعداء الحجاب - وهو اختلاط النساء
بالرجال - فهو الجد الذي يؤبه له، ويهتم به، وحسبك من بيان ضرر الدعوة
إليه بروح التفرنج، وأسلوب ذم الحجاب المنسوب إلى الشرع، ما قلناه آنفًا في
ضرر الدعوة إلى تغيير الزي، وتأمل في الموضوع نفسه لتدرك ما فيه من الضرر
أو النفع.
لعل عدد نساء الموسرين في المدن لا يبلغ معشار1/1000 عدد نساء الفقراء
اللواتي يبعن في الأسواق والطرقات، أو يخدمن في البيوت، ونساء القرى والبادية
وهؤلاء هن اللواتي يوصفن بالحجاب، والجهاد كله في سبيلهن.
هذا العدد القليل من النساء يخالط الرجال الأجانب كل يوم في الأسواق،
والشوارع، والمتنزهات، وكذا في بعض البيوت، فالنساء المدنيات يشترين
بأنفسهن من الرجال كل ما يحتجن إليه من الثياب، والحلي، والأعطار، وأدوات
الزينة، حتى ما يستحيا من ذكره، ونرى الكثيرات منهن في ضواحي المدن،
ومتنزهاتها يركبن مع الرجال في المركبات، أو يماشينهم في الطرقات، ومنهن
السافرة عن وجهها، والمخاصرة لخدنها، وإذا سمعت أخبار بيوت السر من وقائع
الشحنة (البوليس) ، أو المختبرين تعلم أن هذه البيوت النجسة كثيرة جدًّا، وأن
أخدانها من النساء (المحجبات) ، وعشاقهن من الأفندية، والبكوات، والباشوات،
يُعَدُّونَ بالألوف، لا بالمئات، دع ذكر الذين يذهبون بنسائهم إلى أوربة، فيلبسن
مدة سفرهن ملابس الإفرنجيات كما يفعل رجالهن، ويجتمعن معهم، أو منفردات
عنهم بالرجال في المطاعم، والملاهي، والملاعب، والمراقص، ودع ذكر الذين
يُدْخِلون أصدقاءهم من الرجال على نسائهم في بيوتهم، ويأمرونهن بمجالستهم،
ومؤاكلتهم وهن حاسرات عن رؤسهن، مبديات لنحورهن، لا سافرات عن
وجوههن فقط، بل أقول لك همسًا، ما أخجل أن أجهر به جهرًا: إن المخادنة
ذائعة بين التلاميذ والتلميذات.
كل هذا كثير شائع في مصر، فما الذي بقي ممنوعًا من اختلاط النساء
بالرجال، حتى قام بعض الشبان والشواب ينشدونه ويجاهدون في سبيله في هذه
الأيام، التي صدعت بناء الإنسانية أعظم صدع، وحصرت همَّ الشعوب كله في
الخوف على استقلالها في الشرق والغرب؟
إنما بقي شيئان اثنان:
(أحدهما) أن العرف يحظر على الرجل الأجنبي أن يخلو بامرأة أجنبية من
هؤلاء المدنيات (كما يحظر الشرع الخلوة بكل أجنبية بغير عذر شرعي) أو يطلب
الانفراد بها بزيارة أو غير زيارة، فمخالفة هذا لا تزال تعد قبيحة في العرف،
فلا تقع من غير المتهتكين إلا خفية.
(ثانيهما) إن هؤلاء النساء لا يجالسن الرجال في مجالسهم الخاصة في
البيوت، ولا العامة في المجامع والملاهي، إلا من شذ.
أما إباحة خلوة المرأة بالرجل إباحة مطلقة بغير نكير فلا يكاد يذكرها محاربو
الحجاب في مقالاتهم، إذ لا يجدون شبهة يزينونها بها، وإنما يكثرون اللغط في
مجالسة النساء للرجال في المجالس الخاصة، والمجامع العامة زاعمين أن ذلك
يرقي عقول النساء، ويزيد في علومهن وآدابهن، وهذه أظهر شبهاتهم في هذا الباب،
وقد أشرعنا لها طريقًا لا ينكره عرف ولا شرع فيما كتبناه في المجلد الثاني من
المنار تقريظًا لكتاب تحرير المرأة، وهو أنه يمكن تحصيل هذه الفائدة بمجالسة
النساء في البيوت لمحارمهن من الرجال، كالإخوة، والأعمام، والأخوال، وأولاد
الإخوة والأخوات، وبقضاء الأزواج أوقات فراغهم مع نسائهم في البيوت، فلماذا
يترك هذا مدعو الحرص على فائدة الاختلاط إن كانوا صادقين؟
وأما المجامع العامة فقلما يوجد في مصر منها ما يفيد النساء فائدة تستحق كل
هذا الجهاد، فالمجامع العامة الدائمة هي المعروفة بالقهاوي والحانات، وغير
الدائمة منها هي المآتم والأعراس، وقد وجد في البلاد قليل من الأندية الخاصة،
وأحاديث الناس فيها كأحاديثهم في الملاهي العامة من كل وجه، ولكن تلقى فيها
أحيانًا بعض الخطب والمحاضرات التي لا يفهم بعضها إلا القارئات، وهذه
المحاضرات تنشر غالبًا في الصحف، فيمكن لمن يستفدن منها أن يقرأنها فيها،
ولا فائدة للنساء في مجامع الرجال سواها، ولكنها لا تخلو من مفاسد.
غشيان النساء لهذه المجامع، من أقوى الوسائل لتعرف الفساق بهن وإغوائهم
إياهن، والفساق هم الذين يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء في الغالب، أما
أهل الفضائل والآداب الصحيحة فقليل ما هم، وأكثرهم - ولا كثرة فيهم - لا يحب
هذا الاختلاط ولا يميل إليه، فإن وجد فيهم من يرغب فيه للإصلاح الخالص من
شوائب الهوى، فمن ذا الذي يعرف هؤلاء الأفراد وهم أندر من الكبريت الأحمر؟
وكيف السبيل إلى جمعهم في أندية خاصة يختلف النساء إليها دون غيرها لأجل
ترقية أفكارهن وآدابهن.
إلى متى نغش أنفسنا، ونتعامى عن فساد الأخلاق والآداب الغالب على نابتتنا،
الذي لم يزدد مع تربية التفرنج إلا تفاقمًا واستشراء؟ أنبذل هذه الصبابة الباقية
لنسائنا من إرث فضائل سلفنا إلى هؤلاء السفهاء، ونسمي هذا إصلاحًا للبيوت
بإصلاح النساء؟
إذا كان (خير الناس أنفعهم للناس) كما ثبت في النقل والعقل، فالفلاحون في
هذه البلاد خير من هؤلاء المتفرنجين الذين تلقفوا قليلاً من اصطلاحات مبادئ
الفنون، لم يستعدوا بها لعمل ما للأمة، إلا أن يكونوا خدمًا وأجراء للحكومة، التي
يعدون اللهج بذمها من شعائر الوطنية الصادقة، فمن تستغني الحكومة عن استخدامه
منهم يمسون ويصبحون كَلاًّ على الأمة، وعالة على العاملين فيها كالفلاحين،
يأكلون ثمرات أعمالهم، ويفسدون ما بقي من فضائلهم وآدابهم، ويحسبون أنهم من
الأئمة المصلحين فيهم، {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة:
12) .
ألا إن النساء في حاجة إلى العلم والأدب والإصلاح، وليس الرجال أقل
حاجة منهن إلى ذلك، ففساد أخلاق الرجال هو الذي أفسد النساء، وأضاع ثروة
الأمة، وحل روابطها الاجتماعية، ولم يبدلها بها روابط خيرًا منها ولا مثلها.
ألا إن هذا الإصلاح الصحيح إنما هو إصلاح النشء بتربية الأخلاق والآداب
الدينية أولاً، ثم بتعليم العلوم التي يعمل المتعلم بها من يوم خروجه من المدرسة إلى
أن يهرم أو يموت، وعلوم النساء العملية العامة تربية الأطفال، وإدارة البيوت
وإنما يقوم بذلك على الوجه النافع خيار الأمة دينًا وعقلاً؛ وأدبًا بتأليف الجمعيات
الخيرية والعلمية، فإن لم يوجد من هؤلاء من يقوم بهذا العمل على وجهه بالتعاون
فإن الأمة تظل مذبذبة لا يستقيم لها أمر ولا يتم فيها إصلاح {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
__________(18/227)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ شبلي النعماني
كان الشيخ شبلي النعماني - رحمه الله وأدام النفع به - ركنًا من أركان نهضة
الإصلاح الإسلامي في الهند.
ورجال هذا الإصلاح في كل الأقطار الإسلامية أمة وسط بين فريق الجامدين
على التقاليد والعادات، التي انتهى إليها أمر جمهور المسلمين بعد فتك التفرق
الديني والسياسي بهم، وانتشار البدع والخرافات فيهم، وإضاعة جل ما ترك سلفهم
من العلم والمجد التليد، وإعراضهم عن العلم الحديث والمجد الطريف، وبين فريق
المتفرنجين الذين أصابوا حظًّا من اللغات الأجنبية، وتلقوا قليلاً من العلوم والفنون
الأوربية، فأحدث لهم ذلك غرورًا بأنفسهم، واحتقارًا لأمر أمتهم، فطفقوا يمرقون
منها بزلزال عقائدهم وأفكارهم، وتغيير عاداتهم وأزيائهم، فوهت فيهم جميع
مقوماتها، ولم يندغموا في أمة من الأمم التي يقلدونها، على أن منهم من يحسبون
أنه يمكن جعل أمتهم كلها، مثلهم أو مثلها.
المباينة بين الجامدين والمتفرنجين عظيمة، كل منهم يحتقر الآخر ويكرهه،
ويعده علة لضعف الأمة وانحطاطها، أولئك يرمون هؤلاء بالكفر والفسوق،
ويَنْفرون ويُنَفِّرون منهم ر ومن هذه العلوم والفنون، ويعدونهم آلات الأجانب التي
يحللون بها عناصر الأمة ويستعملونها كما يستعملون عناصر الأرض في تنمية
ثروتهم، وإعلاء كلمتهم، واستعمار البلاد وجعلها تحت سلطتهم - وهؤلاء يرمون
أولئك بالتعصب والجهل، والخرافات والهمجية، التي يجب نسفها لإقامة بناء
الحضارة والمدنية، والحق أن كلا منهما مخطئ في شيء، ومصيب في شيء آخر،
وله مزايا حسنة، ورزايا ضارة، وأن الأمة لو سارت على رأي كل منهما وحده
لم تكن عاقبتها إلا الانحلال والهلاك.
وأما حزب الإصلاح، فهو وحده محل الرجاء؛ لأنه يُقَدِّر مزية كل من
الحزبين قدرها، ويعرف منافعه ومضاره، ويريد أن يكون معقد الارتباط والاتصال
بينهما بإرجاع كل منهما عن خطئه، والسير بالأمة في طريق تحفظ به مقوماتها
ومشخصاتها، وتعيد الموروث النافع منها إلى جدته، وتندرج في استبدال النافع
بالضار منه، وتقتبس من علوم العصر وفنونه وصناعاته ما لا تقوم لأمة قائمة في
هذا العصر بدونه، وليس هذا المقام مقام شرح الإصلاح، ولا بيان أحوال
الأحزاب الثلاثة، وإنما ذكرنا هذا لبيان مرادنا من قولنا إن فقيد الإسلام في الهند
كان ركنًا من الإصلاح الإسلامي.
ولم يكن طلاب الإصلاح إلا أفرادًا من الناشئين في بيت حزب الجمود أو
حزب التفرنج، هداهم الله تعالى باستعداد في فطرتهم، وتوفيق في سيرتهم، إلى
معرفة الطريقة المثلى لصلاح أمتهم، وكان المعقول أن يكون رجال العلم الديني
أقدر على أهل الجمود منهم على المتفرنجين، ولكن كثر ما كان الأمر على غير
ذلك؛ وسببه أن كبراء الجامدين من الشيوخ هم أشد حسدًا وبغضًا للمصلح الديني
من غيره، فلهذا لم يتم للشيخ شبلي ما كان يريد من الإصلاح في ندوة العلماء،
وكان أدنى الناس إلى مساعدته المتدينون من كبراء الدنيا كأميرة بهوبال، وقد
أخبرني رحمه الله تعالى أن الأمير الجواد، الذي تفاخر به الهند أمراء المسلمين في
جميع البلاد، النواب محمد علي راجا محمود آباد، عرض عليه مبلغًا كبيرًا من
المال يدفعه سنويًّا لمدرسة ندوة العلماء بشرط جعلها للمسلمين كافة كمدرسة عليكرة
لا خاصة بأهل السنة، وهذا باب عظيم من أبواب الإصلاح ما كان ليشايعه عليه
المتعصبون من أعضاء الندوة؛ فلذلك اعتذر للأمير بأن هذا عمل ما حان وقته.
وأما الأميرة المحسنة التقية صاحبة بهوبال، التي جعلها الله تعالى بعد
المصلح العظيم السيد صديق حسن خان، نصيرة العلم وخادمة الإسلام، فقد كانت
ظهيرة للشيخ في جميع ما يخدم به الدين والعلم من الأعمال، وإننا ننشر هنا نص
كتاب جاءنا منه، يشير إلى ما كان من صلتها وصلتنا به، وهو:
إلى حضرة السيد المحترم
... ... ... متع الله المسلمين بطول بقائه
بعد التحية والسلام
إني لم أزل أقرأ في الجرائد ما تبذلون من السعي في تأسيس دار العلم
والإرشاد، وهذه هي بغيتنا التي كنا ننشدها نحن أهل الندوة، فجعل الله سعيكم
مشكورًا، وتوج عملكم بالنجاح، طالما تاقت نفسي إلى زيارة مصر للقائكم، ولكن
هيهات فإني قد قُطِعَتْ إحدى رجلي لرصاصة أصابتها فبقيت جليسًا [1] للبيت غير
قادر على تحمل أعباء الرحلة والسفر، والأمر الذي دعاني الآن إلى إرسال النميقة
أن الأميرة سلطان جهان (بيكم) صاحبة إيالة بوفال [2] خرجت راحلة إلى لندرة
للحضور في حلفة تتويج الملك جرج، وهي تريد زيارة البلاد الإسلامية، وتصل
في مصر في شهر رمضان.
وهي من عظماء بلادنا أعطت مائة ألف روبية لتكميل كلية عليكده، وعينت
ثلاث مائة روبية جراية شهرية لندوتنا، وكم لها من أمثال ذلك.
ولها شدة عناية بتربية عائلتها؛ ولذلك أرادت أن تجلب إحدى المعلمات
المسلمات من مصر المحروسة، وقد كتبت إليَّ أن أكون مساعدًا لها في إنجاح هذا
الأمر، فالمرجو من حضرتكم أنها لما تصل إلى قاهرة [3] وتستدعي من حضرتكم
الاستشارة والاستعانة، فافعلوا ما يليق بكم من إكرام مثل هذا الضيف الكريم العديم
المِثْل، والفضل لكم [4] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نعماني
... ... ... ... ... ... ... ... في 7 مايو سنة 1911
... ... ... ... ... ... ... ... ... ندوة لكهنؤ
هذا وإن الفقيد رحمه الله تعالى قد اشترك بالمنار من أول العهد لظهوره،
وكان مواظبًا على قراءته معجبًا به، وقد كان له من حسن الظن بصاحب المنار ما
حمله على دعوتنا لرئاسة مؤتمر ندوة العلماء السنوي رجاء زيادة إقبال مسلمي الهند
على هذا المؤتمر، وما يتبع ذلك من تعضيد الندوة ومساعدتها، وهذا نص كتابه
الأول في ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الفاضل الأستاذ مولانا رشيد رضا أطال الله بقاءه.
لا يخفى على أمثالكم أن إغارات جرجي زيدان على أعراض العرب في
كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) أكثر من أن تحصى، وإن كل ما دسَّه وَموَّه به لا
أصل له أصلاً، وحين اطلعت على ذلك كاد قلبي أن يتميز من الغيظ غير أني
صبرت وأمعنت النظر فيما له نظر، ولما عيل عني الصبر ونأى، قمت على ساق،
وألفت رسالة أكشف فيها دسائسه، وهي الآن تطبع، وأريد إرسال ما فُرغ من
طبعه منها إليكم لكي تدرجوه في جريدتكم، وكذلك إلى الفراغ منها بأسرها.
ومما أنهيه إليكم أن ندوة العلماء في كل عام تعقد محفلاً عامًّا يحضر فيه
الخاص والعام، والأمراء والنواب وأهل الحل والعقد، ويكون انعقاده عامنا هذا في
أول إبريل سنة 1913، فنحن معشر المعتمدين والآراكين نهوى ونود من صميم
قلوبنا أن يكون صدر [5] هذا المحفل العظيم، وواسطة عقده النظيم حضرتكم
الشريفة، فإن تشرفونا بالقدوم علينا في الهند، تهرع أهل البلاد الشاسعة إلى هذا
المحفل الإسلامي على كل ضامر من كل فج عميق لمقدمكم المبارك إن شاء الله
تعالى، ويحصل بعون الله لكم ما أنتم بصدد الاجتهاد فيه من إظهار مقاصد مجلس
التعليم والإرشاد، ويعظم بذلك محفل ندوتنا، ويُقَدَّر قَدْرَه، وفي طي رقيمي هذا،
أُرسل إليكم خطبة والي الهند، وعميدها؛ فيظهر لكم منها أن الدولة البريطانية لها
عناية تامة بندوة العلماء، ولولا ذلك لم تعين لها في كل شهر خمسمائة روبية من
خزائنها، فإن عزم جنابكم على تشريفنا بما اقترحناه فلا عليه أن يلاقي سفير الدولة
البريطانية في مصر المحمية، وينهي إليه خطبة والي الهند وعميدها في حق ندوة
العلماء، وعريضتها عند قدوم الملك المعظم مع ملكته المعظمة قاعدة الهند دهلي،
لكي يكون على علم ويستحسن قدومكم علينا، وإن أمكن منكم طلب الإجازة بذلك
مرقومة فيها فنعم ذلك، ودمتم أفندم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نعماني
... ... ... ... ... ... ... 5 جنوري (يناير) سنة 1913
... ... ... ... ... ... ... ... ندوة العلماء - لكهنؤ
جاءنا هذا الكتاب ونحن نستعد لفتح مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) فكان
المانع من إجابة هذه الدعوة أرجح من المقتضي، إذ كان لا بد من السفر بعد فتح
المدرسة بشهر أو أقل - وأنا ناظر موظف لها، والروح المدبر في تأسيسها والقيام
بها، ولكن أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد رأوا أن رحلتي إلى الهند خير
لمشروعنا؛ لأن إشهاره في مثل ذلك المؤتمر العظيم فقروا في جلسة رسمية إجازتي
وإعانتي على ذلك.
اقترح الشيخ رحمه الله تعالى عليّ أن أسافر بإجازة من عميد الدولة الإنكليزية
هنا، وأرسل إليّ خطبة حاكم الهند العام، الذي ذكر ندوة العلماء بخير لأتوسل بها
إلى هذه الإجازة، فكان هذا من بعد نظره وغور فهمه للسياسة، وكان مراده أن
تكون هذه الإجازة كتابية فلم يتيسر ذلك، فلقي الشيخ من إنكار والي لكهنؤ عليه
دعوتي إلى رياسة مؤتمر الندوة ما لقي، وأمكنه إرضاؤه بما كان أعده لذلك من
الحجج، ومنها ما كتبه لورد كرومر في تأبين شيخنا الأستاذ الإمام من مدح حزبه،
وخطبة للدكتور مرجليوث الأستاذ الشهير في مدرسة أكسفورد ذكر فيها رأي
صاحب المنار في الجامعة الإسلامية بكلام مرضي، وثناء حسن.
ونحمد الله أن حقق ظن الشيخ رئيس الندوة، وأعضائها الكرام فينا، إذ كان
الإقبال على المؤتمر في ذلك العام مما لم يسبق له نظير من قبل، ورحم الله الشيخ
شبليًّا، وأحسن عزاء المسلمين عنه.
__________
(1) يحتمل أن تكون الكلمة (حلسا) بالحاء المهملة المكسورة إذ يقال: فلان حلس بيته، أي
ملازمه، وأصل الحلس ما يفرش تحت سرح الدابة، أو رجل البعير وعلى الأرض في البيت، وقد يفرش غيره فوقه.
(2) هكذا يكتب الهنود اسم هذه الإيالة، والمشهور عندنا ما كان يكتب في مصنفات السيد حسن صديق خان وهو هكذا " بهوبال ".
(3) كذا في الأصل، ومهما أتقن علماء الأعاجم العربية؛ فإنهم يظلون يغلطون في تعريف الأعلام وتنكيرها.
(4) لقصر مدة إقامة الأميرة بمصر لم يتيسر لنا اختيار معلمة يمكن أن تراها وتختبرها، ثم لم يتيسر ذلك بعد سفرها أيضًا، وقد عرضنا ذلك على الآنسة نبوية موسى فطلبت أن يكون راتبها الشهري مائة جنيه مع شروط أخرى، وإنه ليوجد في الهند معلمات إنكليزيات لا يزيد راتب إحداهن عن بضعة جنيهات.
(5) يعنون بكلمة صدر ما نعبر نحن عنه بكلمة رئيس، وبهذا المعنى يستعملونها في لغتهم الأوردية.(18/233)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(خواطر في القضاء والاقتصاد والاجتماع)
بقلم فقيدِ العلم والعمل والجد المرحوم علي أبي الفتوح باشا وكيل نظارة
المعارف العمومية المصرية، طبعه بإذن المؤلف نجيب أفندي متري صاحب
مطبعة المعارف بمصر في سنة 1331هـ - 1913م على ورق جيد طبعًا نظيفًا
فجاءت صفحاته 360.
الكتاب مجموعة مقالات كانت متفرقة في الجرائد والمجلات العربية وغير
العربية، فجمعت في حياة كاتبها، ومر عليها فأصلح فيها ما أراد، وزاد في بيان
المراد، وهو يطلب من ناشره، ومن مكتبة المنار بمصر.
جملة مسائل الكتاب مما اشتغل به مؤلفه علمًا وعملاً، فجاءت وافية واضحة
مفيدة، ونحن ننقل طائفة عنه من مقالة (الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية)
قال:
(يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم أن المبادئ المقررة في
الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من المدنية والحضارة
درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط التي في القوانين الحديثة الوضعية لا
مقابل لها في الأصول الإسلامية، وأنها بمثابة الاختراعات المادية الجديدة التي
أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد.
ولكن الباحث في الفقه الإسلامي ولو قليلاً، لا يلبث أن يغير هذا الظن،
ويتحقق من أن أسلافنا بلغوا في الرفاهة وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية
والقضائية شأوًا قلما يجاريهم فيه أحد، إلا أن صعوبة كتب المتأخرين، وكيفية
تأليفها، والتواء أساليبها، وتعقيد عباراتها، قد أوصد الباب في وجه من يريد
الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء من غير المنقطعين لدراستها.
ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد المؤلفات القديمة
لأنها أسهل موردًا، وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد، وتنزهها عن المشاغبات
اللفظية، وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل، ولا حساب
للوقت.
أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة
182 هجرية، وقد أُلف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمين هارون الرشيد وفيه
من النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به.
عثرت في هذا المؤلف الصغير الحجم على درر كثيرة عمدت إلى نظمها
في هذه المقالة، حتى يرى المسلمون ولا سيما المشتغلين منهم بالقوانين الإفرنكية
أن المتقدم لم يترك شيئًا للمتأخر، ولعلهم ينكبون على دراسة الشريعة والآداب
الإسلامية؛ لأنهما لا ينافيان العصر الحاضر، ولا المدنية الحديثة؛ إذا فهما حق
الفهم ودُرسا بعقل وتمييز.
وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع
اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر
احترامًا في النفوس، وأشد موافقة لأخلاق وعادات من وضعت لهم.
ثم أتى بوجوه قانونية وبنود وافقت فيها القوانينُ الوضعية الفقه الإسلامي.
***
(كتاب الأنساب للسمعاني)
تأليف أبي سعيد عبد الكريم السمعاني، نقله الأستاذ مرغوليوث أستاذ العربية
في جامعة أكسفرد بالفوتغرافية عن نسخة محفوظة في المتحف البريطاني، وطُبع
سنة 1912 على ورق من أجود الورق على نفقة (تذكار جب) وصفحاته تزيد
على 1600 صفحة بالقطع الكبير.
وضع السمعاني كتابه هذا في القرن السادس الهجري، فكان عمدة المؤرخين
والمحدثين، وقد ذكر في مقدمته فضل علم الأنساب، وجاء بالآيات والأحاديث في
ذلك، وعقد فصلاً للحث على هذا العلم، وقد زاد الأستاذ مرغوليوث هذا المعنى
إيضاحًا إذ وضع للكتاب مقدمة وجيزة باللغة الإنكليزية بَيَّنَ فيها المراد بعلم
الأنساب، واشتهار بعض الأعلام من المحدثين بأنسابهم كالبخاري والترمذي
والنسائي مما دعا إلى تعريف الرجال بأنسابهم.
وقد ساعد المستر ألسن الأستاذ مرغوليوث، فوضع في هوامش الكتاب دوائر
صغيرة قبالة كل سطر، تبتدئ فيه ترجمة أحد المترجمين فأفاد، ولولا ذلك لما
أغنى كتابة أكثر الأسماء المترجمة بخط ثخين؛ لأن ذلك لم يلتزم في جميع
صفحات الكتاب، إذا لم يكن من نسخ ناسخ واحد، بل يظهر أنه تعاقب عليه عدة
نساخ، وخطه دقيق ملزوز بعضه إلى بعض، وينقص بعض كلمه النقط فنتمنى لو
يطبع ثانية بالحروف المطبعية بعد مقابلة هذه النسخة بغيرها من النسخ الواضحة
الصحيحة كالنسخة التي رآها صاحب المنار في لكنهؤ بالهند فتعم فائدته، فنحن
أحوج إلى هذا الكتاب ممن تولوا طبعه، وأحق بإحياء مآثر أسلافنا، وإننا نشكر
للأستاذ مرغوليوث هذه الهدية النفيسة كما نشكر لجمعية (تذكارجب) إحياءها هذا
الكتاب، وغيره من آثار العرب.
***
(شرح السيرة النبوية رواية ابن هشام)
طبع هذا الكتاب بمطبعة هندية بمصر سنة 1329، وكتب في طرته ما تقدم،
وأنه مطبوع بإرادة (إمبراطور ألمانيا وملك بروسية وملك ورتمبرج) تأليف
الشيخِ الإمامِ الحافظ المحدث الفقيه أبي ذر محمد بن مسعود الخشني، استخرجه
وصححه بولس برونله، وأبو ذر هذا اسمه مصعب بن محمد كما في القاموس،
وهو من علماء الأندلس أخذ عنه الشريشي شارح مقامات الحريري، وكتابه هذا
أمالي أملاها في شرح غريب السيرة، وجعله عشرين جزءًا، وكان ينبغي أن
تسمى فصولاً، لا أجزاء، وقد طبع طبعًا جيدًا في جزأين من قطع أصغر من
المنار، وجعلت أرقام صفحاتها متصلة فيحسن أن يجعل مجلدًا واحدًا فيكون مؤلفًا
من 466 ص، وثمن الكتاب عشرة قروش، ويطلب من مكتبة ديمر بمصر.
***
(رجال المعلقات العشر)
تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني، أستاذ اللغة العربية في مدرستي المكتب
السلطاني، والكلية العثمانية في بيروت، وطبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة
1330 على ورق جيد طبعا نظيفًا، وصفحاته 360 بالقطع المتوسط، وثمنه 12
قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
الكتاب مصدر بمقدمتين، أولاهما: في خلاصة تاريخ العرب قبل الإسلام
والثانية في خلاصة تاريخ أدب اللغة العربية في العصر الجاهلي إلى اليوم،
وصفحات المقدمة الأولى 16 صفحة، والثانية 30 صفحة، ثم الكلام على رجال
المعلقات بالتفصيل، ويتضمن سيرة الشاعر وموته والكلام على شعره ومعلقته
وسبب نظمها ونخبة من شعره، وقد ضمنت من الفوائد اللغوية والتاريخية والأدبية
ما لا يوجد في غيره، وقد جعله لتلاميذ السنة الرابعة والخامسة في المكاتب
السلطانية، والسادسة والسابعة في المكاتب الإعدادية، أو ما يضاهي هذه السنين في
المدارس الأهلية.
***
(الحنين إلى الأوطان)
نشرنا نبذة منه في هذا الجزء وسنقرظه فيما يليه إن شاء الله.
__________
(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا، وقد تأخر نشره على أنه هو قد قصر فيما عُهد إليه من كتابة التقاريظ حتى اجتمع لدينا كتب كثيرة من مطبوعات السنين الأخيرة.(18/238)
جمادى الآخر - 1333هـ
مايو - 1915م(18/)
الكاتب: أحمد كمال
__________
اللغة العربية أقدم اللغات الشرقية
وأم المدنية المصرية والبابلية
كنا نستدل على عراقة العرب في المدنية بما روى لنا التاريخ القديم من
استعمارهم لمصر في عهد دولة الرعاة (الهكسوس) وغيرهم، واستعمارهم قبل
ذلك للعراقين، وما كان لنا في ذلك إلا علم إجمالي، ثم جاءنا علماء العاديات
(الآثار القديمة) بالاكتشافات والتحقيقات التي خرجنا بها من حيز العلم الإجمالي إلى
حيز العلم التفصيلي، وكان أعظم ما اكتشفوه في حفائر العراق شريعة حمورابي
(ملكي صادق) الموصوف في العهدين القديم والجديد بأنه ملك البر، وملك السلام،
وكاهن الله العلي، ومن أخبار سفر التكوين أنه بارك على إبراهيم - عليه الصلاة
والسلام - وعلى آله، وأن إبراهيم أعطاه العشور، وقد بين هؤلاء العلماء أن
شريعة حمورابي كانت عربية، وهي أقدم شريعة من الشرائع التي عرفها التاريخ،
وقد زعم بعض علماء الألمان أن التوارة مقتبسة منها (راجع المجلد السادس من
المنار) .
وقد نشرنا في المجلد الخامس عشر (سنة 1330) خطابًا طويلاً في اللغة
العربية لجبر أفندي ضومط أستاذ العلوم العربية في القسم العالي من المدرسة الكلية
الأمريكانية ببيروت ألقاه في الاحتفال السنوي لسنة 1911، ثم أتحفنا به،
وموضوعه (بحث تاريخي فلسفي في مواطن العربية المضرية، ونسبتها إلى
أخواتها من اللغات السامة) ، ومما جاء فيه أن العلّامة رونسن المؤرخ الأثري
يُرَجِّح أن المدنية المصرية القديمة لم يكن منبتها مصر، بل جاءتها من العراق،
وبلاد العرب (المنار ص 116 م 15) ، وأن الباحثين اتفقوا على أن لغة
الآشوريين، وقدماء البابليين واحدة، وأن الآثار البابلية تثبت أن الناطقين باللغة
السامية هنالك لم يكونوا من أهل البلاد الأصليين، وإنما جاءوها من مكان آخر،
وتغلبوا على أهلها الذين كان لهم مدنية عظيمة إذ كانوا غزاة فاتحين، ثم ترجموا
الكثير من آداب أهل البلاد بلغتهم السامية، والظاهر أنهم كانوا من جزيرة العرب
(المنار ص 117 م 15) .
ثم بَيَّن أن اللغة العربية هي أم اللغات السامية وسيدتها، وأن أرومتها الأولى
كانت في اليمن، وحضرموت، وعمان، وأنه انشعب منها فرع إلى بلاد بابل
بالعراق فانقسم إلى شعبتين بدوية وحضرية، وأن بعض العمالقة والعاديين من
قدماء العرب هاجروا إلى سورية - بعضهم هاجر من العراق لَمَّا اضطهدهم النماردة،
وبعضهم هاجر من جزيرة العرب بقصد التجارة والاستعمار - كما هاجر غيرهم
من إخوانهم إلى شطوط أفريقية فكان منهم الأمهرية والحبشة - (قال جبر أفندي
ضومط) ومن هؤلاء المهاجرين كان العِبْرَانيون، وأمم الشام من الكنعانيين
والفينيقيين، وعليه تكون العِبْرَانية، والفينيقية، والعربية (أي المضرية) شعبتين
من الفرع العادي، والحمرية، والحبشية من الفرع القحطاني (المنار ص 199م
15) .
أقول: فعلى ما تقدم يكون كل من مدنية العراق وسورية ومصر عربي الأصل ثم تولد من ذلك الأصل فروع استقلت واختلفت باختلاف الدول والملل،
حتى جاءالإسلام فأرجع تلك الفروع كلها - ما قرب منها عن أصله وما بعد -
إلى الفرع المضري، فكأنه عمد إلى أفراد عشيرة كانوا متفرقين متباعدين يحسب
كل منهم أنه أجنبي عن الآخر فجمع بينهم، فعادوا إلى الوشيج الجامع فكانوا أسرة واحدة.
لكن علامة الآثار، والعاديات المصرية، وإمام اللغة الهيروغليفية في مصرنا
الآن أحمد بك كمال أمين دار الآثار المصرية أظهر لنا من الاتحاد بين اللغة العربية
واللغة المصرية القديمة ما لم يكن في الحسبان، فقد ألف قاموسًا كبيرًا أورد فيه
ألوفًا من الكلمات الهيروغليفية الموافقة للغة المضرية في الغالب - إما موافقة تامة
وإما موافقة بضرب من التحريف، أو القلب، والإبدال المعهود مثله في اللغتين،
ومن المعلوم أن المدنية العربية القديمة كانت في العاديين والقحطانيين سكان
حضرموت، واليمن، وهم الذين استعمروا مصر، والعراق، وسورية، وقد ضاع
أكثر لغتهم، ولعلها لو دونت كاللغة المضرية لفسرت لنا من اللغة المصرية القديمة
ما لم يُفَسَّر إلى اليوم، حتى فيما نراه يخالف منها المضرية بتحريف، أو قلب، أو
إبدال.
وكان المشهور عن أحمد بك كمال أنه يرى أن العربية أصل للغة المصرية
القديمة المدونة بالقلم الهيروغليفي، ومن لوازم هذا أن أصحاب تلك المدنية كانوا
من العرب، ثم إنه رأى نصًّا يدل ظاهره على أن العرب أنفسهم، أو بعضهم من
المصريين، فأخذ بظاهره حملاً له على الصدق، وبنى عليه محاضرة ألقاها في
مدرسة المعلمين الناصرية في العام الماضي، وذلك النص ما وجد منقوشًا في الدير
البحري (مكان بجهة الأقصر) في زمن الدولة الثامنة عشرة (كان زمنها من سنة
1600-1380ق م) ، وهي أرقى دول مصر، وفيه أن المصريين الأولين
اشتهروا باسم الأعناء، ولم يبين النص أصلهم، ولا من أين جاءوا، ولكنهم
استعمروا الجهة الجنوبية من مصر، وأسسوا المدن بأسمائهم وفيه أن بعضهم هاجر
إلى القيروان، وتونس والجزائر، وبعضهم إلى أواسط أفريقية، والصومال،
وبعضهم قطع البحر الأحمر إلى بلاد العرب، وانتشر فيها، وسار من هناك إلى
جنوب فلسطين، وأُطلق على كل عنو من أولئك الأعناء المهاجرين اسم مُرَكّب
تركيبًا إضافيًّا، فصار يقال أعناء كذا، وأعناء كذا ... ولفظ (أعناء) عربي معناه
الأخلاط من الناس يكونون من قبائل شتى.
أما نحن فنرى أن ذلك النص ربما كان عن عقيدة تقليدية وهمية بأن مصر
الموطن الأول للبشر، والأصل الذي تفرعت منه الشعوب والأمم، ويُنْقَل مثل هذا
عن قدماء الهنود والصينيين، فهذه تقاليد متعارضة ليس لنا عليها دليل عقلي، ولا
نقلي للترجيح بينها، فنجري فيها على قاعدة تعارضت فتساقطت، على أن أولئك
الأعناء المجهول أصلهم يجوز أن يكونوا من العرب، وأن يكون من هاجر إلى
جزيرة العرب منهم عاد إلى بلاده، وبهذا يجمع بين هذا القول، وقول العلامة
رونسن الذي رجح كون المدنية المصرية الأولى قد جاءت من بلاد العرب والعراق،
والأمر المتيقن عندنا الآن هو أن لغتنا العربية الشريفة هي لغة قدماء المصريين
ومظهر مدنيتهم، ونتيجته أن قدماء المصريين من العرب، أو العرب منهم، فهم
أمة واحدة، وكذلك السوريون والعراقيون كما تقدم.
وقد رغبنا إلى أحمد كمال بك أن يتحفنا بفصول ملخصة من قاموسه الذي
أشرنا إليه، فتفضل بالإجابة وجعل الفصل الأول في بعض الحبوب والنبات وهذا
نصه.
مقارنة بين اللغة المصرية القديمة
واللغة العربية [*]
(1)
(في بعض الحبوب والنبات والأشجار والأثمار المصرية)
وفيه استطراد إلى كلمات أخرى
بُر: البر القمح الواحدة بُرّة.
قمح: هو اسم عندهم للقمح والخبز، ويميز بينهما برسم النبت عند نهاية
الكلمة في الأول، والخبز في الثاني [1] .
وجد الكثير منه في المقابر المصرية، فحفظ بالمتاحف، واختبرت حبوبه في
الزراعة فلم ينجح، وقد اختبر الكيماويون بعض هذه الحبوب، فوجدوها مدهونة
بطلاء حافظ لها على مرور الدهر، ووجد (شُوَينْفُورْت) قمحًا أصغر في الحجم من
قمحنا المعروف، وهو يشبه القمح البحري، وكان يُستعمل في الطب والغذاء.
حِنت: حنطة هي البر- ج حنط.
(بُد) بض بياض: وكلمة البيضاء تطلق في العربية على القمح.
فُمو: الفوم هو الحنطة، وقد ذكر في القرآن الكريم.
جل: (والجيم تقلب غينا) غلة - ج غلال.
شِرت ق سِريْت: سُلت - هو الشعير أو ضرب منه، والشين تقلب سينًا
بالمصرية فيقولون شلم بمعني سلّم، واللام تقلب راء، وبالعكس.
الشعير عندهم صنفان أبيض وأحمر، ويصنع منه الخبز والجعة، ومن خبزه
ما هو محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة، ووجدت حبوبه في مقبرة كاهون
بالفيوم من عصر العائلة الثانية عشرة؛ لكن حبه أصغر من شعيرنا الآن وكانوا
يتخذون من سوقه مزامير.
تُرا: ذُرة.
بُول: فول - لأن الباء تقلب فاء، كفيوم أصلها بيوم أي اليمّ، وكفأى أصله
عندهم بأى.
قال هيرودوت في كتابه الثاني: إن المصريين لم يزرعوا الفول في أرضهم،
فإذا خرج فيها لم يأكلوه لا نيئًا، ولا ناضجًا، وإن قسوسهم لا يستطيعون النظر
إليه؛ لأنهم يرون أنه نجس، ومع ذلك فقد ورد عنهم أنهم كانوا يجففونه،
ويحفظونه بدليل قولهم (فول هاف) أي جاف، لأن فاء الكلمة مقلوبة عن الجيم،
فلا بد وأن يكون قول هيرودوت هذا غير صحيح، إذ الفول كان ولا يزال من
الأغذية المصرية إلى هذا اليوم.
عرشان ق. أرشان: بُلسُن واحدته بلسنة. بُلَس. بُلُس:عدس.
كمنن: كمون.
سَنُّوَت سنوت وهو الشمار أو الكمون.
رمان حرمان، إرما - الرّمان. ق. أرمان.ع ريمون، وبالبربرية - أرمون.
شجر دخل مصر في عصر العائلة الثامنة عشرة وقت انتشاب الحرب
العظيمة مع أهل آسيا في عهد الملك أحمس وقد وجد مع اسمه مرسومًا في صورة
البستان التي زين بها (آنا) جدر حجرة قبره بطيبة، وهو الذي توفي أيام
(تحوتمس) الأول الذي كان أول فرعون تجول في بلاد الشام، وأخضعها لحكمه،
وعليه ربما كان هذا الملك أول من جلب لبلاده هذا الشجر فغرس في البساتين،
وهذا لا ينافي معرفة المصريين لاسمه من قبل، وما وجد في المقابر منه أصغر
حجمًا من نوعه المعروف الآن فهو شبيه برمان طور سيناء، وكان يُستعمل قشره
لقتل الدود، واستعمله القبط للحكة، وصنع منه المصريون شرابًا في عصر
الرمسيسيين.
دُبَح: دبحو، ضبحي: تفاح - ق. جبح.
وهو الشجر المعروف بحسن فاكهته، ويكثر اسمه في القرابين التي يذكر فيها
الرمان والزيتون والتين، وتدل النصوص على أن وجوده في أرض مصر كان في
عصر العائلة التاسعة عشرة.
نُزا لوز: وكذا في العبرية والحبشية ونونها تقلب لامًا، كما في نقب ولقب
فالأول مصري، والثاني عربي.
بَنرى: لا يزال يعرف في بعض الجهات بالبنور وصحته بَرْني اسم للنخلة
وللتمر، ويقال تمر بَرْني ولا تكاد الإضافة تكون في البرني لأن البرني هو التمر وقد
ذكر في قول الشاعر:
باتوا يعشون القُطَيعاء ضيفهم [2] ... وعندهم البرني في جُلَل دُسم
أمَم: عَم عِم ج عمومة، أعُم، أعمام، أعمة - نخل طوال. والألف تنوب
عن العين في كثير من الكلمات.
عَوَنَت عوانة: نخلة طويلة
حُن حُون أهان ج أهنة وأهُن: عرجون التمر ما فوق الشماريخ، والهناء عذق
النخل (فالهاء فيهما بدل من الحاء لقرب مخرجيهما) .
طمأروي جمار النخل - الجيم والطاء يتناوبان في المصرية كقولهم: طُرًّا بمعنى
كُلاًّ، وهاتان الكلمتان مصريتان عربيتان.
سر: سلاء ج سلاءة، وأسل الواحدة أسلة: شوك النخل (الراء بدل اللام) ق
سوره سوري.
زدوتو الزيتون ق جويث جيت. ع. زيت.
زِت: زيت وكان يستعمل للإضاءة خصوصًا في المعابد.
وجد الكثير من أكاليل الزيتون على رءوس الموتى التي لا يتجاوز تاريخها
العائلة المتممة للعشرين، وعليه يظن أن الزيتون لم يغرس في ديار مصر قبل
العائلة الثامنة عشرة؛ لكن وجد مذكورًا في نصوص هرم الملك (تبتي) فهو
معروف من عهد بناء الأهرام أو قبل ذلك.
كرَمَا: كنم: كرم ج كُرُوم، وبالعبرية كرم
كامو: كرّام - صاحب الكرم والمعتني به، وأصله كارمو فسقطت منه عين
الكلمة لأن الراء والنون واللام تسقط في كثير من الكلمات.
ق جمي جمه
كارٌج كاريو: أكارج أكرة وأكارون أي حرّاث من أكر الأرض أكرًا وأكره
حفرها، وجاء في المصرية والعربية أيضًا:
مَنَ: مان الأرض شقها للزراعة، والاسم منه.
مَنِ: أُمان: مزارع ويقال أيضًا:
سق: شق الأرض، أي فلحها، والسكة الحرث. ق إسكاي. إسخاي.
باث: باث (المكان) يبوثه بوثًا حفره
باي: فأى فأوًا وفأيًا: فلق (والباء تنوب عن الفاء نحو بدح وفدح بمعنى
ضرب)
قَنَّا. كَنَّا: قناة ج قنا، وهو الرمح وصاحبه قناء بالشديد، عود القنا قصب
الذريرة.
ويقال له باليونانية (كانا) وبالعبرية (قناح) ويذكر في التذاكر الطبية مع
أنه لا ينبت بديار مصر، ولو اعتمدنا على أنه هو المذكور في النصوص المصرية
بقصب فنيقيا لساغ لنا أن نقول إنه كان يستحضر من آسيا في عهد الفراعنة، وقد
أطلق عليه العرب والعبريون والمصريون القدماء اسم قنا.
نزا: اللوز في العربية والحبشية.
سير: زير، أي كتان، وفي القبطية: سال. سول وله أسماء أخرى.
وهذا النوع المسمى بالنباتية (لينوم هيميله) وجدت بذوره في مقابر العائلة
الثانية عشرة , والعائلة المتممة للعشرين، ويذكر كثيرًا في تذاكر الطب، واتخذوا
منه الغزل والنسيج والثياب ... إلخ.
سشن: سَوْسَن وسُوسَن وسوسان - نبات طيب الرائحة الواحدة سوسنة،
والجمع سواسن. ق. شوشن. واللاطيني: سوزينوم. ومنه اسم العلم سوزان،
وبالبربرية سوشانه، وهو اللوطس الأبيض المعروف عند المصريين القدماء، ولا
يزال ينبت في المستنقعات وعلى شواطئ القنوات إلى يومنا هذا.
عَنَبُو: عنب بالعربية والعبرية.
حرر: حلل ق حِليلي حِريرة حِريري: حَنُون نَور كل شجرة ونبت وقد حنن
الشجر والعنب إذا نور (لأن النون عندهم تنوب عن الراء) .
وكذلك يقال عندنا في اللغة العامية المصرية الآن وفي المصرية القديمة نقب
بدل لقب بالعربية الفصيحة، وفي المصرية تفن يقابلها في العربية تفل، أي بصق
والقلب وإلإبدال لهما أصول في هاتين اللغتين يقتضي مراعاتها لتظهر المقابلة
ومنها:
حلل: هلل يهلل تهليلاً، وقد جاء في نقش بمدينة (أبو) الواقعة في الجهة
الغربية من لوقصر ما نصه (وكان المحاربون مثل السبع يهللون في بُهرة
الأصواء [3] (أي وسط الجبال) هذه العبارة نُقلت بنصها ليعلم وجه الشبه بين
اللغتين، ويقال في المصرية والعربية إِبهارّ النهار أو الليل أي انتصف، وبَهَرَ:
فاق، وبهار: صنم.
حَرٌّ: حر حية دقيقة مثل الجان أو ولد الحية كما في القاموس.
بدّ كا: بطيخ.
دبا: طبار - أكبر التين [4] بسقوط الراء وتقدم مثله في كلمة كاموا.
تون: تين.
وجد كثير من التين في المقابر القديمة العهد، وحفظ بالمتاحف، ولا يزال
يرى مرسومًا فوق موائدهم مع العنب والقثاء والرمان.
كونت جنة: تين قال بعض المفسرين في تفسير: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ
الجَنَّةِ} (الأعراف: 22) أي ورق التين.
أكنت: جنة ج جنات.
أس: أسو آس نبات معروف، قال أبو حنيفة الدينوري ينبت بأرض العرب
وبالسهل والجبل وخضرته دائمة. وهو نبت مصري ترى أغصانه في أيدي
الراقصات المرسومة على جدران المقابر، ووجد من آثاره شيء في قبور تل بسطة بالزقازيق وفي مقابر هوارة بالفيوم وقد حفظ في متحف الليد شيء منه.
أس بوللي آس بري
بصر: بصل (الراء تنوب كثيرًا عن اللام ومنه رأرأ، ويقابلها في العربية
رأرأ ولألأ بمعنى لمع) .
بصر: بصل (الراء تنوب كثيرًا عن اللام ومنه رأرأ، ويقابلها في العربية
أسل أسلة: الأثل شجر ذُكِرَ في القرآن، واحده أثلة ج أثلاث وأثول، وهو نوع
من الطرفاء والثمر ويقال له بالقبطية: اسي واسه.
أعلمنا هيرودوت وبليني أن الأثل كان ينبت في مصر ووجد منه (أنجر)
بقايا في طوبة عثر عليها في قرية الكاب بصعيد مصر، ووجد شوينفورت فروعًا
منه في تابوت من العائلة المتممة للعشرين، وكثيرًا ما تذكر النصوص هذه الشجرة
لأنها كانت مقدسة عندهم.
كَمتَى: كمأة. ...
زلم: الزَّلم: وهو حب العزيز.
بسباس بسباسة، وهي الشمار.
بكاء بَكاء قال أبو العباس النباتي هو شجر معروف عن العرب بمكة شبيه
بالبيسام.
يسر: إيصار أَيْصَر حشيش، وبالحبشية أثر
شنث: سنط صنط شنيز شنظ ق شنت شنته: شجر مصري قديم يذكر في
نصوص الأهرام.
وجد من زهره أكاليل على مدينة الملك أحمس الأول، وأمنوفيس الأول،
كلاهما من العائلة الثامنة عشرة، وكانت تصنع من خشبه السفن والتوابيت والتماثيل
وأثاث البيوت ... إلخ
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد كمال
... ... ... ... ... ... ... الأمين بالمتحف الوطني ... ... ...
(للمقارنة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) راجع ما ذكرناه عن اللغة المصرية في المقتطف المطبوع في مارس سنة 1914، وفي تقويم الشرق للدكتور هنري مدور المطبوع سنة 1315، وذلك في صحيفة 350 إلى 358، وقد رمزنا هنا بحرف (ع) للعبرية، وحرف (ق) للقبطية.
(1) اصطلح أهل اللغة المصرية القديمة على أن يرسموا في آخر كل كلمة الصورة الدالة على معناها أو المؤيدة له.
(2) المنار: رواية لسان العرب: (جارهم) بدل ضيفهم، والقطيعاء نوع من التمر يظهر من مقابلته بالبرني الذي هو أجود التمر أنه رديء، وقيل هو البُسر قبل أن يدرك، والجُلل ج جلة - كقلة وقلل وهي قفة التمر، ودسم ج أدسم ودسماء صفة لها، ولعله باعتبار تمرها.
(3) المنار: الأصواء جمع صوى بالضم، وصوى جع صوة (كقوة وقوى) والصوة ما غلظ وارتفع من الأرض فلم يبلغ أن يكون جبلاً، فيظهر أن المصريين أطلقوه على الجبال، أو على غير الشامخ منها، على أن رسم الشامخ وغيره متشابه، والرسم هو المفسر للغة في كتابتهم، وللصوة أيضًا الأعلام التي يهتدي بها المسافرون وجماعة السباع.
(4) في القاموس أن الطبار (بوزن الرمان) شجر يشبه التين.(18/241)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(6)
(4) اللحم:
يؤخذ هذا الصنف من الطعام من الأنعام، والطيور، والحيوانات البحرية،
والمعتاد أكله من الحيوانات البرية هي التي لا تأكل اللحم لحكمة ستظهر في الكلام
على الديدان المعوية فيما يأتي إن شاء الله.
واللحم نوعان: اللحم الأبيض، واللحم الأحمر، فمثال الأول لحم الأرانب،
ومثال الثاني لحم الضأن، والأبيض أسهل هضمًا من الأحمر؛ ولكن الأحمر أكثر
تغذية لاشتماله على جزء من مادة الهيموجلوبين فتكثر الدم، واللحم يشتمل على
جميع الأجزاء الضرورية للجسم تقريبًا، ففيه الماء، والزلال ونحوه من المواد
الآزوتية كالجلاتين، والزنثين (xanthin) [1] ، وغيرهما، وفيه أيضًا الدهن
والمواد الكربوهيدراتية: الجليكوجين، وسكر العنب، والإينوسيت Inosite [2]
وفيه أيضًا أملاح عديدة منها فسفات البوتاسيوم، وملح الطعام، وغيرها، وكل هذه
المواد تختلف مقاديرها باختلاف الحيوانات المتنوعة، وهي توجد بكثرة عظيمة في
لحم الدجاج، فهو أكثرها تغذية، وفي اللحم أيضًا حامض الساركولكتيك
(Sarcolactic [3] إذا كان جديدًا فلذا ينفع في الإسكربوط، ويوجد في الخنزير
الشحم بكثرة تفوق سائر أنواع اللحوم الأخرى، فلذا كان أعسر اللحوم هضمًا؛ لأن
الشحم فيه يحيط بأليافه العضلية؛ فيحول دون وصول العصارات الهاضمة إليها
فيتعب المعدة والأمعاء، وقد يحدث منه القيء أو الإسهال، وربما هيأ الزائدة
الدودية للالتهاب؛ ولذلك تكثر إصابتها به في بلاد الإفرنج؛ فإن فساد الهضم من
أسباب هذا المرض.
وكثيرًا ما تكون الحيوانات مصابة بأمراض متعددة مثل الدرن [4] ، والجمرة
الخبيثة، وأنواع كثيرة من الديدان سنذكرها تفصيلاً فيما يأتي، فلذا يجب أن يكون
الحيوان المأكول سليمًا من كل مرض، ويجب أيضًا طبخ اللحم جيدًا حتى نقتل فيه
الميكروبات، وأكياس الديدان بقدر الإمكان , وأضر ديدان تنشأ من أكل اللحوم هي
الديدان التي تنشأ من أكل الخنزير، وهذه حكمة أخرى في تحريمها، ولا يتوهمن
القارئ أن الطبخ يزيل جميع أضرار اللحوم المريضة، فإنه إذا قتلت الميكروبات
بسبب شدة الحرارة بقيت سمومها، وكلما اشتد الطبخ للتأكد من قتلها زاد تجمد
المواد الزلالية، وعَسُر هضمها، على أن الطبخ قد لا يقتل بعض ميكروبات الدرن
التي تكون في باطن اللحم؛ لأنه موصل رديء للحرارة.
أما لحوم الحيوانات البحرية فمن أسهل اللحوم هضمًا، وقد لوحظ أن الناس
الذين يأكلونها بكثرة أقوياء البينة أصحاء، إلا أنه قد يصاب بعضهم بالجذام فلذا
ظن بعض الأطباء أن الاقتصار على أكل السمك، أو الإكثار من أكل الفاسد المتعفن
منه كالفسيخ مما يهيئ الجسم لقبول هذه المرض الخبيث؛ ولكن ذلك لم يثبت إلى
الآن.
ومن أنواع الحيوانات البحرية، الحيوانات ذوات الأصداف كالبطلينوس،
وهي سهلة الهضم جدًّا، غير أن ميكروب الحمى التيفودية قد يوجد فيها.
ومن أنواعها أيضًا السرطان البحري ونحوه، وهي لكثرة أكلها المواد القذرة
تضر آكليها بذلك وبشدة عسر هضمها، وأجود أنواع السمك هو الذي يصطاد حيًّا
من المياه الجارية النظيفة، والسمك سريع الفساد، فلذا يجب أن لا يترك زمنًا
طويلاً بل يؤكل غضًّا غريضًا، ويعرف السمك الغريض (الطازة) بيبس لحمه،
وبانتصاب ذيله، والسمك الفاسد المتعفن هو من أضر المأكولات؛ فإنه يتولد فيه
من الفساد بعض مواد سمية آزوتية تسمى (Ptomaines) [5] ، وهي شديدة
الخطر حتى أن كثيرًا من الناس قُتلوا بسبب أكلهم السردين والفسيخ، ومن لم يمت
منهم قد يصاب بالدوار، والصداع، والإسهال، أو القيء، وغير ذلك.
أما البطارخ (وتسمى الصُّعْقُر وهي عبارة عن بيض السمك) فهي أقل فسادًا
من لحمه، وهي مغذية محرضة لشهوة الطعام، ويشترط أن لا يُكْثِر الإنسان من
أكلها في المرة الواحدة، وقيل إن أكلها يمسك البطن، ويمنع الإسهال.
والأسماك ذوات الحرشف هي غالبًا ألذ طعمًا، وأسهل هضمًا من التي لا
حرشف لها لكثرة دهنها، وقذارة المياه التي تعيش فيها، ولذلك حرمت التوارة أكل
ما ليس له حرشف (راجع سفر اللاويين 11: 9 - 12) ومن أسماك الأنهار ما
يكون سببًا في إصابة الإنسان بدودة شريطية كما سيأتي تفصيله.
ويقال إن أكل الأطعمة الحيوانية الفاسدة مدة طويلة يسبب الإسكربوط، وهو
رأي راجح جدًا الآن، وذلك مثل أكل القديد (البسطرما) .
(جدول تركيب أشهر اللحوم)
المواد ... ... الثور ... العجل الخنزير الحصان الدجاج نوع من السمك
ماء ... ... 76.7 ... 75.6 72.6 ... 74.3 ... 70.8 ... 79.3
زلال وجلاتين 20.0 ... 19.4 19.5 ... 21.6 ... 22.7 ... 18.3
شحم ... ... 1.5 ... 2.9 6.2 ... 2.5 ... 4.1 ... 0.7
مواد كربوهيدراتية 0.6 ... 0.8 0.6 ... 0.6 ... 1.3 ... 0.9
أملاح ... ... 1.2 ... 1.3 ... 1.1 ... 1.0 ... 1.1 ... 0.8
(5) الأطعمة النباتية:
هذه الأطعمة منها ما يؤكل بلا طبخ كالجرجير، والفجل، وغيرهما، ومنها
ما يؤكل مطبوخًا كالبقول وغيرها، وهي في جملتها تشمل كثيرًا من الزلال،
والدهن، والمواد الكربوهيدراتية، والحوامض النباتية، وأملاح عديدة، وفيها مادة
يتعسر هضمها تسمى (السللولوز [6] ) ، وهي التي يتكون منها جدران خلاياها،
وأخشابها، وغير ذلك من أليافها.
أما زلالها فيوجد بكثرة في البقول كالقمح، والفول، والعدس، والحمص،
ويسمى الزلال الذي يستخرج من القمح باللاتينية - الجلوتين (مادة غروية) ، وهو
لا يوجد فيه بشكله المعروف، إلا بعد أن يضاف إليه الماء؛ فيتحد مع ما فيه من
المواد الزلالية، ويتولد هذا الصنف المخصوص من الزلال، وهو سهل الهضم،
ولذلك كان من الأغذية النافعة المفيدة.
وأما الدهن فهو يوجد بكثرة في بعض الثمار كالزيتون، واللوز، وغير ذلك
إلا أنه يقل وجوده في بعض البقول كالقمح مثلاً.
والزيوت نوعان: ثابتة، وطيارة، فالثابتة هي كالشحم في تركيبها،
ويحصل الإنسان عليها بعصر الحبوب بآلات مخصوصة، وسميت ثابتة لأنها لا
تتطاير.
أما الزيوت الطيارة فهي مركبة من الكربون، والهيدروجين، والأكسجين إلا
أن مقادير هذه العناصر، وأوضاعها مغايرة كل المغايرة لتركيب الزيوت الثابتة،
ومن أمثلة هذا الصنف من الزيوت زيت القرنفل، ونحوه من الزيوت العطرية
ونظرًا لكونها سهلة التطاير تُتحصل بالتقطير، فإذا غُلي الينسون مثلاً في ماء صعد
منه الزيت في بخاره، ويمكن الحصول عليه بالأنبيق، أما الماء الذي غلي فيه فلا
يبقى فيه من هذا الزيت إلا النادر جدًّا أو لا يبقى فيه شيء.
الزيوت الثابتة مغذية ملينة، وتحترق في الجسم فتولد فيه حرارة عظيمة جدًّا،
ولذلك يحسن أكلها في البلاد الباردة.
والزيوت الطيارة منعشة منبهة للأعضاء كلها؛ فتقوي الهضم، ودورة الدم
وتدر البول، وتنفث البلغم من الصدر، وتزيد في قوة الحركة الدودية للأمعاء؛
وبذلك تخرج أرياحها، وتزيل آلامها، وهي مطهرة أيضًا قاتلة للميكروبات؛
فتطهر الشُعب والأمعاء والبول.
أما الأملاح التي في النباتات فهي مقادير كبيرة من فسفات البوتاسيوم وفيها
أيضًا فسفات الحديد، وهو كثير الوجود في البقول خصوصًا في القمح، فيكثر دم
آكله، ويقل في الأطعمة النباتية ملح الطعام؛ فلذا يحتاج إليه النباتيون كثيرًا
فيأخذونه من الخارج، وفي الخضر والفواكه أملاح عضوية وحوامض مثل حامض
الطرطريك (الدرديك) وهو موجود بكثرة في الليمون والبرتقال (واليوسف أفندي)
والكريز وغير ذلك، وحامض التفاحيك موجود بكثرة في التفاح والكمثرى
(الإجاص) وحامض الأكساليك [7] ، يوجد في الحماض، والكرنب، والطماطم،
والراوند، وغير ذلك من الحوامض، وهي تتحول في الدم إلى كربونات قلوية فتدر
البول وتذيب حامض البوليك الذي ينشأ من احتراق المواد الزلالية احتراقًا ناقصًا؛
فينشأ منه النقرس (داء مخصوص في المفاصل) ، والحصوات الكلوية، والمثانية،
فهذه الحوامض النباتية تساعد على إزالة حامض البوليك الضار بالجسم.
والامتناع عن أكل الخضر زمنًا طويلاً يؤدي إلى ضعف بالجسم، وتقرح
باللثة، وحدوث أنزفة متعددة في أنسجة الجسم وخارجه، وهذه الأعراض كلها هي
المسماة (بداء الإسكربوط) ولا دواء له إلا الخُضَر، والأغذية غير المتعفنة.
ومما تقدم يُعْلَم أن الاقتصار على أكل اللحوم، وغيرها من المواد الحيوانية قد
يضر بالجسم، وخصوصًا إذا أكلها الإنسان ولم يروض جسمه بالحركات، أو
الأعمال البدنية المتعبة؛ فإن ذلك يقلل احتراق المواد الزلالية الاحتراق الواجب
الذي تتحول به إلى (بولينا) ليتيسر للكلى أن تخرجها من الجسم لسهولة ذوبانها،
بل يكون الاحتراق ناقصًا؛ فيتولد من المواد الزلالية حامض البوليك الذي يحدث
مرض النقرس والحصوات كما سبق، وهذا المرض كثير الحصول للمترفين بسبب
إسرافهم في المآكل الزلالية كاللحوم وغيرها، وإقلالهم من الحركات الجثمانية؛
ولذلك يسمى (داء الملوك) وللوقاية منه يجب القصد في أكل المواد الزلالية،
والمواظبة على الرياضة البدنية، والإكثار من أكل النباتات من خضر، وفواكه،
وغيرها حتى تذيب هذا الحامض الضار (أي حامض البوليك) ، وتخرجه من
الجسم.
وأكل المواد النباتية بلا طبخ قد تنشأ عنه أمراض كثيرة كالحمى التيفودية،
والدوسنطاريا، وبعض الديدان المعوية كالدود الخيطي الذي يوجد بكثرة في
المستقيم عند بعض الناس؛ والسبب في تلك الأمراض هو وجود بعض الميكروبات
وبويضات الديدان في الطين والماء الذي يسقى به الزرع؛ فتعلق هذه بالنباتات
وبذلك تصل إلى الإنسان إذا أكلها بدون تطهير؛ ولذلك يجب غسلها غسلاً جيدًا
متكررًا؛ فإن ذلك يزيل كثيرًا من مضارها؛ ولكن الأولى تطهيرها بالغلي لمن أراد
أن يصون نفسه صيانة تامة من هذه الأمراض، ويجب في زمن انتشار بعض الأوبئة
كالهيضة (الكوليرا) ، والحمى التيفودية أن تغلى جميع هذه المأكولات غليًا جيدًا،
أو يترك أكلها حتى ينتهي الوباء.
ولما كانت الحوامض كالليمون والخل قاتلة لبعض الميكروبات المرضية كان
وضعها على النباتات الخضراء كالخس مثلاً، أو الفجل هو من أحسن الوسائل التي
تقي الجسم شر هذه الميكروبات، أما تأثيرها في بويضات الديدان فهو غير وافٍ
بالغرض، والراجح أنها لا تقي الإنسان منها مطلقًا.
الكلام في الحبوب وأغذيتها وغير ذلك:
(أ) القمح: فيه نشاء كثير، وزلال، ودهن قليل جدًّا، والمادة المسماة
سللولوز، وأملاح أهمها فسفات الحديد - كما سبق - وماء، أما السللولوز فيوجد
أكثره في غلاف حبوب القمح، وهو الذي يُفصل بالطحن والنخل، ويسمى بالنخالة،
وأكلها يهيج حركة الأمعاء، ويُحْدِث لينًا؛ فلذا كان نافعا من هذه الوجهة.
الطبقة التي تلي غلاف القمح، تشتمل على الجزء الأعظم من الزلال،
ولونها أسمر، وأما باطن الحبة ففيه الجزء الأعظم من النشاء.
والخبز يُصنع بعجن الدقيق بالماء - كما هو معلوم - فيتحول زلال الدقيق إلى
المادة المسماة جلوتين، وإذا أريد الحصول عليها يُوضع العجين في قطعة من
الموصلي (الشاش) ، ثم يفرك عدة مرات في الماء؛ فيخرج النشاء الذي في
العجين من ثقوب الشاش، وتبقى مادة الجلوتين في داخل الشاش، وهذه يُصنع منها
خبز، أو فطير للمصابين بالبول السكري.
أما الخميرة: فهي مركبة من خلايا نباتية، وفائدتها إحداث الغول (الكحول)
وثاني أكسيد الفحم، وهو المقصود بالذات؛ لأنه يُحْدِث الفقاقيع في العجين؛
فيجعله إسفنجيًّا، وبذلك يسهل هضمه بعد خبزه، وبالخبز يزول ما في العجين من
الكحول والغاز وتقتل خلايا الخميرة.
(ب) الشعير: وتركيبه يقارب تركيب القمح، إلا أن زلاله لا يتكون منه
الجلوتين بإضافة الماء إليه؛ وإنما يبقى ذائبًا في الماء، ويُصنع من الشعير (ماء
الشعير) ، وهو مغذٍ قليلاً نافع للمرضى والأطفال، وإذا وُضِع على لبن الجاموس
أو البقر منع تجبنه في معد الأطفال تجبنًا كبيرًا، بل تتكون قطع جبنية صغيرة
متفرقة يسهل هضمها، ولا يصح إعطاء هذا اللبن للأطفال إلا إذا خُفف بماء
الشعير، وكيفية صناعة هذا الماء، أن يغلى 50 جرامًا من الشعير اللؤلؤي [8] في
750 جرامًا من الماء مدة 20 دقيقة، في إناء مغطى، ثم يصفى الماء، وهذا الماء
هو المسمى بماء الشعير.
(ج) القرطم (الشوفان) : وهو يشبه الشعير في زلاله، وفيه دهن كثير.
(د) الأرز: وفيه نشاء كثير، وزلال قليل جدًّا، ودهن أقل من الزلال،
وسللولوز أقل منها كلها، وملح قليل جدًّا، فكأنه لا يشتمل إلا على النشاء، وإذا
طبخ جيدًا كان سهل الهضم جدًّا بسبب قلة السللولوز فيه.
(هـ) الذرة: هي مثل القرطم في تركيبه بالنسبة لاشتمالها على دهن كثير
وزلال كزلاله، وتنقصها كذلك مادة الجلوتين اللزجة؛ فيتفتت خبزها، وينمو في
العتيق منها فطر مخصوص يفسدها، فإذا أكلها الناس فقد يحدث لهم المرض
المسمى (بالبللغرا) ، وهي كلمة يونانية وإيطالية أيضًا معناها " الجلد الوحشي "
(pellis جلد، وAgria وحشي) وقال بعضهم: إنه قد ينشأ حتى من أكل الذرة
السليمة إذا كان الشخص معدمًا رديء التغذية.
وظن آخرون سنة 1910 أن له ميكروبًا ينتقل ببعض أنواع الذباب (السَّكيت)
(Sandflies) ، وقيل إن سببه كسبب الإسكربوط، أعني أنه ينشأ من عدم
إعطاء الجسم حقه من المواد الضرورية لتغذيته، فالأسباب أحد ثلاثة:
(1) إما الذرة الفاسدة.
(2) وإما نقص بعض المواد الضرورية للجسم.
(3) وإما ميكروب مخصوص ينتقل بلسع السَّكيت.
وهذا المرض كثير الانتشار في مصر، وأعراضه: آلام بالمعدة، وإسهال
متعاصٍ، وفساد في الهضم، وضعف في الجسم، وفقر في الدم وطفح يظهر كثيرًا
في الأيدي، والأقدام، والمرافق، والركب، والعنق، والصدر، ويسمى هذا
الطفح عند الفلاحين (بالقشف) ، ويكون الجلد فيه خشنًا متشققًا أسمر اللون أو
أسوده، ثم يتقشر ويضمر، ومن أضر أعراض هذا المرض ضعف يصيب
المجموع العصبي كله؛ فيصاب الإنسان بالضعف العقلي، والماليخوليا [9] (أي
جنون الكآبة والحزن) ، وأعراض أخرى من الجنون كالميل للانتحار، وهذا الداء
من أعظم أسباب الجنون في مصر - وكذلك شرب الحشيش -، وأعراضه تزول
في آخر الصيف عادة، ثم تظهر في الربيع، ويتكرر ذلك كل سنة، وبعد 3 أو 4
سنوات، وفي الحالات الخفيفة 10 إلى 15 سنة والأطفال قليلو الإصابة به، وهو
يكثر بين سن الثلاثين والخمسين.
وعلاج هذا الداء أن تمنع الذرة بتاتًا عن المصاب، ثم تعالج الأعراض التي
عنده مثل الإسهال؛ فيعالج بالغذاء اللبني والمواد القابضة المعروفة في الطب، فإذا
زال الإسهال يعطى المريض الأغذية الجيدة السهلة الهضم، والأدوية المقوية
كالحديد والزرنيخ خصوصًا، وتراعى جميع الوسائل الصحية، وهذا الداء إن لم
يتدارك في أول الأمر استفحل، واستحال شفاؤه، وأدى إلى الموت لا محالة، وقد
يموت الشخص منه ولا يصاب بالجنون.
والذرة التي تُحْدِث هذا المرض هي الذرة الشامية، وحبوبها كبيرة - كما هو
معلوم - وأما الذرة الرفيعة المستديرة، فلم يُعْرَف أنها تُحْدِثه.
وتمتاز حبيبات نشاء القمح عن حبيبات الذرة بتكوير أكبرها، أما حبيبات
الذرة فهي كثيرة السطوح، وبهذا يمكن بالمجهر تمييز دقيق الذرة.
(و) الحمص والفول والعدس: هذه المواد فيها زلال أكثر مما في اللحم،
وفيها نشاء كثير أيضًا، ودهن قليل، وفيها أيضًا مادة السللولوز، فهي من أعظم ما
عند النباتيين من المواد المغذية، أما زلالها فيوجد فيها متحدًا على الأكثر مع
الكبريت والفسفور، وهو غير الجلوتين الذي بالقمح، ولولا أنها عسرة الهضم لكان
للنباتيين وجه وجيه في تأييد مذهبهم (راجع أيضًا صفحة 71 من هذا الكتاب) .
(ز) البطاطس: فيها نشاء كثير، وزلال قليل، ودهن قليل جدًّا، وبعض
أملاح وسللولوز، وفيها أيضًا مقدار من حامض الليمونيك، إما خالصًا، أو متحدًا
مع البوتاسيوم، والصوديوم، والكلسيوم، ولذلك فهي مغذية جدًّا نافعة في
الإسكربوط.
(جدول تركيب بعض الأغذية النباتية السابقة)
المواد القمح الشعير القرطم الأرز العدس الحمص البطاطس
الماء ... 13.6 13.8 12.4 13,1 12,5 14.8 76.0
المواد الزلالية 12,4 11.1 10.4 7.9 24.8 ... 23.7 2.0
الدهن ... 1.4 2.2 ... 5.2 9.0 7.9 ... 1.6 ... 0.9
النشاء ... 67.9 4.9 ... 57.8 76.5 54.8 49.3 20.6
السللولوز 2.5 ... 5.3 ... 11,2 0.6 ... 3.6 ... 7.5 ... 0.7
الأملاح ... 1.8 ... 2.7 ... 3.0 1.0 ... 3,4 ... 3.1 ... 1.0
(ح) الفواكه: يكثر فيها الماء، وأنواع ومختلفة من الحوامض والأملاح
والسكر والسللولوز وغير ذلك كالصمغ في التين مثلاً، وفي بعضها نشاء كثير
كالطلح (المَوْز) فهي مغذية مدرة للبول مذيبة لحامض البوليك مانعة للإسكربوط،
والنقرس، وبعض الحصوات البولية، وطبخ بعضها مما يسهل هضمها كالتفاح،
والخوخ، وهو قاتل لما فيها من الميكروبات وغيرها، وفي البلح والموز - فوق
ذلك - مواد زلالية، فهما من الأغذية الكاملة.
وأكل الفواكه عقب الطعام يعين على الهضم؛ لأنها تكثر عصارة الفم والمعدة
بلذيذ طعمها.
تركيب البلح [*]
ماء ... ... ... ... ... ... 12.00 ... ...
مادة صمغية ... ... ... ... 12.00
سكر (من نوع سكر القصب) ... 50.000 ... ...
سللولوز ... ... ... ... 20.00
مواد زلالية ... ... ... ... 6.00
تركيب الموز [*]
ماء صاف ... ... ... ... 73
مواد أخرى متنوعة ... ... ... 27
أما هذه المواد الأخرى ففيها ما يأتي بالنسبة للمائة:
ماء ... 13.00 ... ... ... مواد زلالية 4.25
نشاء ... 67.50 ... ... ... أملاح ... 3.50
صمغ ... 4.50 ... ... ... سكر ... 2.00
سللولوز 4,75 ... ... ... زيت ودهن 0.50
(تنبيه)
اعلم أن الدهن والزلال المأخوذ من عالم الحيوان أسهل هضمًا بكثير مما
يؤخذ من عالم النبات، والعبرة في جميع الأغذية هي بما يمتصه الجسم من الأشياء
المأكولة، لا بمقدار ما في الطعام الذي يزدرده الإنسان من المواد المغذية فإنها
قد تكون عسرة الهضم.
(6) الماء:
مركب من الهيدروجين والأكسجين - كما سبق - بنسبة اثنين من الأول إلى
واحد من الثاني حجمًا، وهو ضروري جدًّا لجميع الأجسام الحية؛ فإن 64 في
المائة من جسم الإنسان ماء، وهو أيضًا ضروري لجميع إفرازات الجسم، ولسيولة
الدم، ولغسل ما في الجسم من الأوساخ، وإخراجه في مثل العرق البول، وبتبخره
إذا خرج في العرق تتلطف حرارة الجسم.
والماء عسر الهضم قليلاً في المعدة، بمعنى أنه يُمْتَص منها ببطء؛ ولكنه
يُمْتَص بسرعة زائدة من الأمعاء؛ ولذا كان الإكثار منه مع الطعام، أو عقبه بقليل
محدثًا لعسر الهضم؛ بسبب تخفيفه للعصير المعدي؛ ولكن المقادير المعتدلة منه
أثناء الأكل تزيد في إفراز هذا العصير، وإذا شرب الماء بمقادير كبيرة في وقت
خلو المعدة من الطعام، أدر البول، وغسل كثيرًا من أوساخ الجسم، وزاد في
سمنه بترسيب مواد شحمية فيه، وكمل التغيرات الحيوية في الجسم؛ فينقص مقدار
حامض البوليك المنفرز في البول؛ وبذلك يقلل تكون الحصوات الكلوية، ويغسل
الصغير منها، وكذلك يقلل تكون الحصوات الصفراوية في مرارة الكبد وقنواته.
والماء ينعش الخلايا الحية؛ فيزيد في قوة مقاومة الجسم للميكروبات المختلفة
ومن فوائده أيضًا أنه إذا شرب منه قليل عند القيام من النوم صباحًا؛ أحدث لينًا
عند المصابين بقبض الأمعاء.
وللماء فوائد أخرى كثيرة في استعماله في الغسل، والاستحمام سنتكلم عليها -
إن شاء الله تعالى - عند الكلام على النظافة.
وبالاختصار إنه من أكبر ضروريات الحياة، بحيث إن الامتناع عن شربه
أيامًا قليلة قاتل لا محالة، والممزوج منه بالأشربة السكرية، وغيرها كالشاي،
والمرق قد يغني عن الصِرْف.
هذا ويجب الاحتراس من شرب الماء البارد عقب التعب الجثماني الشديد،
كأن يشرب الإنسان بعد العدو ونحوه من الأعمال والرياضات المتعبة؛ فإن ذلك قد
يقتل الشخص بالسكتة القلبية، وشرب الماء الحار مسكن للقيء، مساعد للهضم؛
ولكن الماء الفاتر هو من أشهر المقيئات وأبسطها.
ويجب خلو الماء من جراثيم الأمراض خصوصًا وقت فراغ المعدة من الطعام
لعدم وجود العصارة الحمضية المطهرة حينئذ.
(7) الأملاح (ومن أهمها ملح الطعام وهو كلوريد الصوديوم) :
هذه الأملاح ضرورية للجسم أيضًا؛ لأنها تدخل في تركيب جميع أجزاء
الجسم، وسوائله، ويتكون منها حامض الهيدروكلوريك الضروري للهضم المعدي
وتذيب المواد الزلالية الموجودة في الدم، وغيره من سوائل الجسم، ولولاها لرسب
كثير من الزلال في الأوعية الدموية واللمفاوية فتبطل الدورة، وقلة تعاطي ملح
الطعام تُحْدِث ضعفًا شديدًا، وتورمًا، وفقرًا في الدم، وموتًا، وهذه الأعراض
كانت تُشَاهَد كثيرًا في بلاد فرنسة، حينما كان الناس يمتنعون عن تعاطي الملح
بسبب وضع ضرائب عليه، والمقادير الكبيرة من ملح الطعام مثل مِلء الملعقة من
أحسن المقيئات؛ فيفيد في الإسعاف لسهولة الحصول عليه في أوقات التسمم، وهو
أيضًا يحدث إسهالاً إذا أخذ بكثرة، وحقن محلوله في المستقيم يزيل الديدان الخيطية
منه، ويحقن أيضًا تحت الجلد وفي الأوردة بنسبة 7. 5 جرامات إلى كل لتر ماء
معقم عند حصول النزف - كما سبق -، وفي تسمم الدم وفي الغيوبة الديابيطيسية،
أي الناشئة من البول السكري، والغرض من حقنه أن يخفف من تأثير السم في
الجسم، ويزيل بعضه بإدرار البول.
والإكثار من ملح الطعام قد يُحْدِث تورمًا في الجسم أيضًا، خصوصًا في
الالتهاب الكُلوي الحاد، لتعسر خروج هذا الملح مع البول في هذا المرض،
فيتراكم في أنسجة الجسم، ويجتذب إليه الماء الذي يتخلف فيها، ويحدث الورم
(oedema) .
أما الأملاح الأخرى كفسفات الكلسيوم، ومركبات الحديد، فهي ضرورية
لتكون العظام؛ ولتولد الكريات الحمراء وغير ذلك، وأملاح الجير موجودة بكثرة
في اللبن، والبيض، والخضر، وهي مما ينمي عظام الأطفال؛ ولذلك كان أكل
هذه المواد المذكورة واجبًا على المراضع لكيلا تصاب أولادهن بداء الكساح.
(8) التوابل والأفاوية والمنبهات:
يوجد غير ما تقدم مواد أخرى كثيرة يستعملها الإنسان في طعامه، وشرابه،
والغرض منها تنبيه الهضم، أو الجهاز العصبي وغيره، ومن هذه المواد الفلفل،
والبصل، والثوم [10] ، وأنواع البهار المعروفة، والقهوة، والشاي، وغير ذلك.
أما المواد العطرية والبهارات، فالشيء الفعال فيها زيوت طيارة تنبه
الأعصاب، والعضلات، وتكثر العصارات الهاضمة؛ ولكن الغلو في تعاطيها مما
يؤدي إلى تعب المعدة، وفساد الهضم.
(أ) الخل: حامض مخفف معروف، يستخرج إما بالتقطير الجاف للخشب،
أو بتأكسد الخمر بواسطة بعض الميكروبات؛ فإنها إذا عُرِّضت للهواء مدة طويلة
استحالت إلى خل، وبطل تأثيرها المعروف، وعناصر الخل (وهي الكربون،
والهيدروجين، والأكسجين) توجد في الخشب بحالة أخرى؛ فإذا حُلل الخشب
بالنار في إناء مغلق حدث منه الخل، وهو نافع في داء الإسكربوط، إلا أنه أقل
فائدة في ذلك من عصير الليمون، ومن فوائده أيضًا أنه يساعد الهضم، ويدر البول
فهو كباقي الحوامض النباتية المذكورة آنفًا.
وحامض الخليك في الخل (بنسبة 3-6 في المائة) مختلط ببعض مواد
أخرى.
(ب) القهوة: معروفة، وتسمى حبوبها بعد تحميصها، ودقها (البُن) ،
وهو الذي يُوضَع في الماء المغلي، ويُشْرَب، وفي القهوة مادة آزوتية، وقهوين،
ودهن، وسكر، وحامض التنيك (الدّبغ) ، وسللولوز، وأملاح.
أما القهوين: فهو أهم ما فيها وفائدته تنبيه المخ فيقلل النوم، وهو أيضًا
يقوي العضلات وضربات القلب، ويدر البول، فلذا يستعمله الناس لإزالة النعاس،
ولتنبيه المخ للأعمال العقلية، وفي بعض أمراض القلب، والقليل من القهوة أيضًا
يحدث في بعض الأشخاص لينًا؛ ولكن الإكثار من تعاطيها يحدث عسرًا في الهضم،
وينهك القوى العصبية، فيحدث أرقًا، وخفقانًا، وتقطعًا في ضربات القلب، فلذا
يجب عدم الإفراط في شربها، وأحسن وقت لاستعمالها أن يشربها الإنسان إذا أحس
بالنعاس بعد أن يستوفي الجسم الراحة التي يحتاجها من النوم وغيره، وشرب القليل
منها عقب الطعام يساعد على الهضم، خصوصًا بما فيها من الحرارة. وحامض
التنيك الذي فيها من أشد المواد القابضة، فإذا أُخذت القهوة بمقدار زائد أحدثت قبضًا
بدل اللين المذكور.
والقهوة بما فيها من حامض التنيك، والقهوين من أحسن ما يستعمل ترياقًا
للتسمم بالأفيون، ويصح حقنها بمقادير كبيرة في المستقيم عند المسموم به إذا كان
في حالة الغيبوبة.
(ج) الشاي: مثل القهوة في التركيب تقريبًا، وفائدته كفائدتها ويصح
استعماله مع اللبن في الإسهال، والدوسنطاريا؛ فإنه يحدث قبضًا.
وطريقة صنعه هو أن يغلى الماء غليًا جيدًا، ثم يجعل على ورق الشاي يضع
دقائق؛ فيخرج منه نقيع مشتمل على المواد النافعة في الشاي، ويقل بذلك نزول
حامض التنيك في النقيع، بخلاف ما إذا غلي في الماء، ونظرًا لكونه أشد صفاء
من القهوة جاز استعماله أكثر منها في الإسهال، ونحوه لعدم وجود رواسب فيه
تؤذي الأمعاء، وحكم الإكثار منه، أو الإدمان عليه كحكم القهوة، إلا أنه يحدث
النَّقَد في الأسنان.
(د) الكاكاو: حبوب شجرة مخصوصة تنبت كثيرًا في جزائر الهند الغربية،
ويدخل في تركيبها الماء، والزلال، والثيوبرومين [11] ، والدهن والنشاء،
وبعض أملاح، وصمغ، وسللولوز، وليس في الكاكاو (تنين) ولذلك لا يحصل
منها القبض الذي يحصل من القهوة والشاي.
والثيوبرومين مادة تشبه القهوين، والشايين في تركيبها، وتأثيرها غير أنها
تؤثر في المجموع العضلي أكثر من تأثيرها في المجموع العصبي؛ ولذلك يشعر
الإنسان بقوة في جسمه وعضلاته بعد تعاطي الكاكاو، وهو أيضًا مدر للبول،
ونظرًا لاشتمال الكاكاو على كثير من الدهن (نحو 50 في المائة) يعد من الأغذية
النافعة، وفيه أيضًا نشاء كثير، ومن الكاكاو تصنع (الشوكولاتا) ؛ وذلك بإزالة
جزء من دهنها، ثم يضاف عليها السكر، وبعض مواد أخرى عطرية، وغيرها،
فلذا كانت (الشوكولاتا) مغذية منبهة.
وكلمتا (كاكاو) و (شوكولاتا) مكسيكيتان.
ودهن الكاكاو أو زبدته يستعمل طبيًّا في صناعة الأقماع الشرجية التي تلبس
لإزالة بعض الآلام والأمراض التي في الشرج، والسبب في اختيار هذه الزبدة هو
أنها تذوب بحرارة الجسم الطبيعية.
(هـ) المياه الغازية: - مثل ماء الصودا، والغازوزة - أهم ما فيها الماء
مع غاز ثاني أكسيد الفحم، وشربها منبه للهضم، مسكن لآلام المعدة وللقيء،
ويجب أن تُعمل من ماء نظيف لكيلا تنقل إلى الإنسان ميكروبات الأمراض، على
أننا نعلم أن ثاني أكسيد الفحم مع الضغط الشديد يقتل كثيرًا من الميكروبات التي في
الماء.
(و) الخمور: يستعملها الناس أيضًا للتنبيه والإنعاش، وقد سبق الكلام
عليها فلا حاجة للتكرار، وإنما نقول كلمة في كيفية صناعتها، فهي نوعان:
أحدهما أنها تُعمل بتخمير بعض أنواع السكر المستخرج من الفواكه، وغيرها
كالشعير المستعمل في الجعة (البيرة) ، والنوع الآخر يستخرج بالتقطير بعد
التخمير، فمن أمثله النوع الأول الخمر التي يسمونها الآن النبيذ [12] ، والبيرة،
ومن أمثلة النوع الثاني الكونياك والوسكي، وأهم ما في النوعين هو الغول
(الكحول) ؛ ولكن فيها مواد أخرى بعضها ينشأ من التخمير، والبعض الآخر أصله
مما في الفواكه وغيرها.
ومن الخطأ الشائع اعتقاد أن شرب البيرة نافع، فقد قرر الأطباء أنها ضارة
كباقي أنواع الخمر، زد على ذلك أنها تهيئ الجسم أكثر من بعض الأنواع الأخرى
لمرض النقرس، والروماتزم، والسمن الزائد، وشربها بكثرة يفسد الهضم،
ويضاف عليها حشيشة الدينار، وهي مما يخدر الأعصاب؛ فتحدث ثقلاً في الدماغ
وميلاً للنوم الكثير، وفيها مواد أخرى تنشأ أيضًا أثناء التخمير، وهي ضارة
بالجسم ضررًا بليغًا.
(ز) الدخان: يسمى بالطباق أو التبغ (Tobacco) وبالتتن، وهو
ورق شجرة معروفة، أعظم مادة مؤثرة فيه تسمي النيكوتين (Nicotine) نسبة
لرجل يسمى " نيكوت " (Nicot) ، وهو الذي جلبها لفرنسة في سنة 1560،
ومادة النيكوتين من أشد السموم فعلاً، وأقواها تأثيرًا وسرعة، وهي تكثر اللعاب،
وقد تحدث إسهالاً، وقيئًا، وهمودًا (هبوطًا) ، والإكثار من التدخين قد يحدث
التهابًا في الحلق، وإقهاء (فقد شهوة الطعام) ، وتقطعًا في ضربات القلب،
وخفقانًا، ونزلة حنجرية، والتهابا في العصب البصري يؤدي إلى ضعف في النظر،
وضمور في هذا العصب، وكثيرًا ما يعجز الشخص المكثر منه عن تمييز الأحمر
من الأخضر.
ولا فائدة فيه إلا أنه منبه للمخ، مريح للعقل عند كثير من الناس.
هذا وقد زعم بعض المؤلفين أن الدخان لا يؤثر في النظر إلا إذا كان الشخص
من المدمنين للخمر أيضًا، والحق أن كُلاًّ منهما كافٍ بمفرده لإحداث هذا التأثير في
النظر؛ فتجد أن المدمن للتدخين، أو لشرب الخمر (وخصوصًا من يواظب على
شرب مقادير صغيرة يوميًّا، ومتكررة بحيث لا يسكر منها) إذا بلغ عمره 35 -
50 سنة، لا يقدر على القراءة، أو الكتابة ونحوهما، ويضعف نظره للأشياء كلها
خصوصًا في النور الشديد، ويعجز عن تمييز الألوان، كما سبق. وهذه الأعراض
تبتدئ عنده بسرعة، إلا أن حصولها كلها لا يتم إلا تدريجيًّا بعد مضي عدة أسابيع،
أو أشهر من مبدئها، وهي كثيرة الحصول للأشخاص الذين يجمعون بين إدمان
الخمر والدخان، وإن كان كُلاًّ منهما وحده كافٍ لإحداثها - كما قلنا - أما الذين
يسكرون أحيانًا، وفي الفترات لا يدخنون، ولا يشربون خمرًا، فهم أقل تعرضًا
لتلك الأعراض.
وإذا لم يستفحل الداء، ولم يزمن، فمجرد الامتناع عن الخمر والدخان كافٍ
لتحسين الحال أو الشفاء، ومما يساعد على ذلك استعمال يودور البوتاسيوم، وحقن
الإستركنين في الصدغ أو تعاطيه من الباطن، والحجامة الجافة والرطبة، والحمام
الساخن للأقدام، ومراعاة القوانين الصحية كافة خصوصًا ما به إصلاح المعدة،
والاستغراق في النوم، ولا بد من المواظبة على ذلك زمنًا طويلاً مع عدم العودة
إلى شرب الدخان أو الخمر مطلقًا.
وفي مبدأ هذا المرض ربما لا يُشاهد تغيير ما في قاع العين إذا امتحن،
ثم توجد فيه أشياء يراها الإخصائيون بمنظار العين (Ophthalmoscope) .
والتغير الذي يحصل في هذا المرض هو كالذي يحصل في الكبد والمخ مثلاً
لمدمن الخمر؛ فتضمر الألياف العصبية بسبب الضغط عليها بالمواد الالتهابية،
وبما زاد في المنسوج الضام الذي بينها، ثم ينقبض عليها ويفسدها.
طبخ الطعام:
الطبخ نافع لأسباب عديدة (منها) أنه يقتل الميكروبات، والديدان، ونحوها
فيقي الجسم من أمراضها (ومنها) أنه في المآكل النباتية يشقق طبقات السلولوز
التي تحيط بنشائها؛ وبذلك يسهل هضمها (ومنها) أنه في اللحوم، وغيرها من
المواد الحيوانية يذيب بعض المواد المخصوصة العسرة الهضم جدًّا، على أنه يجمد
المواد الزلالية التي فيها أيضًا، إلا أن هذا أخف وطأة من المضار الأخرى التي
تنشأ من أكل اللحم نيئًا، (ومنها) أنه يفرق الألياف العضلية للحم بتكون فقاقيع من
البخار بينها؛ وبذلك يسهل هضمها، وبتجمد المواد الزلالية يسهل مضغها،
وسخونة الطعام نافعة للهضم، منعشة للجسم.
وإذا أريد الحصول على مرق من اللحم مغذٍّ قطع اللحم إلى قطع صغيرة،
ووُضع في الماء البارد، ثم سُخن بالتدريج شيئًا فشيئًا إلى أن يغلي، أما إذا أريد
الاحتفاظ بالمواد الغذائية، وبقاؤها في اللحم دون المرق، فيغلى الماء غليًا شديدًا،
ثم يوضع فيه اللحم أثناء الغليان؛ فإن ذلك يجمد المواد الزلالية في الحال، ويكوِّن
طبقة تحيط باللحم تمنع نزول المواد المغذية في الماء؛ ولذلك كان المرق المصنوع
بهذه الطريقة قليل النفع.
أوقات الطعام وقوانينه:
سبق أن الطعام يمكث في المعدة أربع ساعات في الغالب، ويختلف هذا
الوقت باختلاف قدر الطعام ونوعه، والصحة والمرض، والراحة والتعب، ونوع
الهواء المستنشق، وغير ذلك؛ ولذا تعود الناس أن يأكلوا مرة كل 5 أو 6 ساعات،
وهي طريقة حسنة لا اعتراض عليها؛ ولكن يجب أن يراعي الإنسان - فوق ذلك-
في مسألة الأكل عدة أمور:
(1) أن لا يأكل إلا إذا جاع، وبعبارة أخرى أن لا يدخل طعامًا على طعام؛
فإن ذلك يفسد الهضم.
(2) أن لا يأكل الإنسان عقب تعب شديد.
(3) أن لا يجهد نفسه بعد الطعام في عمل جثماني أو عقلي؛ فإن ذلك
يصرف الدم عن المعدة إلى الأعضاء العاملة؛ فيتعطل الهضم، وعليه فمن الخطأ
المذاكرة أو الجري أو الجماع عقب الأكل مباشرة، وأضرها الجماع؛ فإن الصدمة
العصبية التي تحدث للجسم منه قد تقتل الشخص بالسكتة القلبية لا سيما إذا كان
القلب مريضًا، والتعب الذي يعقبه مفسد للهضم، ويلحق بذلك أيضًا الاستحمام عقب
الأكل؛ فإنه ضار أيضًا بسبب توجه الدم إلى الجلد، إذا كان الماء ساخنًا، أما إذا كان
باردًا؛ فإن حركة المعدة، والقلب تضطرب بسبب البرودة، ثم يذهب الدم عن المعدة
حينما تتمدد أوعية الجلد بسبب رد الفعل المعتاد عقب الاستحمام بالماء البارد فتتعب
هي والقلب، وكذلك لا تحسن المذاكرة عقب الطعام إلا بعد ساعة على الأقل.
(4) أن لا ينام الإنسان عقب الطعام مباشرة؛ فإن النوم يضعف حركة
جميع أعضاء الجسم، ومنها المعدة؛ فيتعطل الهضم، ويضيق النفس، نعم إن
الراحة عقب الطعام نافعة؛ ولكن الاستغراق في النوم هو الضار، ومن المستحسن
جدًّا أن يتعود الإنسان تناول الفطور في الصباح مع قليل من القهوة أو الشاي؛
فإن ذلك يقوي الجسم والهضم، حتى أنه شُوهِد في البلاد التي فيها حمى الملاريا
(النافض) قلة إصابة الأشخاص المتعودين فعل ذلك في الصباح، وحسن
بنيتهم.
(5) أن لا يشرب ماء شديد البرودة على طعام شديد السخونة.
أما الإكثار من الطعام زيادة عن المعتاد؛ فيحدث ضعفًا في المعدة، وتمددًا
فيها، وفسادًا في الأمعاء، واحتقانًا في الكبد، ويتعب الكُلى، ويحدث داء النقرس،
وإذا كان الطعام الزائد شحمًا، أو سكرًا، أو نشاء، فقد يحدث سمنًا زائدًا،
وانحلالاً في العضلات، أو بولاً سكريًّا من كثرة النشاء والسكر، والامتناع عن
أكل الدهن، والشحم ألبتة يضعف الصحة.
أما الامتناع عن المواد الكربوهيدراتية (النشاء، والسكر، ونحوهما)
فيضطر البنية إلى إحراق ما فيها من الشحم؛ فيتولد من ذلك حوامض شحمية،
ومركبات عضوية من قبيل حامض الزبديك (Butyric) ، وهذه الحوامض تقلل
قلوية الدم؛ فإن كان الشخص مصابًا بالبول السكري (الديابيطس) [13] ، فقد
يُحْدِث له الغيبوبة التي تكون سببًا في موته.
لذلك يرى أعلم الأطباء أن الامتناع المطلق عن أكل تلك المواد في هذا
المرض - كما كان متبعا من قبل - خطر جدًّا، ولذلك قلنا إن عسل النحل نافع في
هذا المرض؛ لأنه يغني عن تلك المواد الكربوهيدراتية، وهو من أسهلها هضمًا،
والقليل منه يكفي (راجع صفحة 88 من هذا الكتاب) .
وإذا أريد تقليل سمن شخص مصاب بالتشحم العام وجب عليه الامتناع عن
المواد الدهنية، والكربوهيدراتية بقدر الإمكان، والإكثار من تعاطي المواد الزلالية
فإنها تزيد احتراق أنسجة الجسم، وهذه الطريقة تسمى طريقة بنتنج Banting [14]
أما قلة الطعام فإنها تُحْدِث ضعفًا في الجسم، وتقلل قوة مقاومته للميكروبات،
فإن من المعلوم أن الكريات البيضاء تزيد عقب الأكل؛ فتكون قوة الجسم على
مقاومة الميكروبات أكبر، فإذا قلت هذه الكريات بالصوم ضعف الجسم، وربما
صار عُرضة لبعض الأمراض، نعم إن الصوم عن الطعام نافع في أمراض المعدة
والأمعاء، والكبد، والكُلى، وحصواتها، والنقرس، والروماتزم (الرثية) ،
والحميات، وأمراض القلب، وغير ذلك، إلا أن الغلو فيه له هذا الضرر الذي
ذكرناه؛ ولذلك نص الشارع - صلى الله عليه وسلم - على وجوب الاعتدال في
كل شيء، ونهى عن صوم الدهر، وعن الوصال في الصيام، واستحب السحور
وتأخيره، وتعجيل الفطر وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمن نهاه عن كثرة
الصيام والقيام: (إن لبدنك عليك حقا) .
ومما يخفف ضرر الصوم عند المسلمين أن يباح لهم أن يتعاطوا كل ما أرادوا
ليلاً؛ فلذلك كان الضرر الناشئ من الضعف في أثناء النهار قليلاً، أو معدومًا،
وبجانبه نفع يفوق كثيرًا هذا الضرر، وذلك هو إراحة الجهاز الهضمي، والكبد،
والجهاز البولي، وإحراق ما في الجسم من الزيادة الضارة، وغير ذلك مما ذكرناه،
ولكن يجب الاحتراس من ملء المعدة عقب الإفطار مباشرة؛ فإن الجسم تكون
قواه في ذلك الوقت ضعيفة، وكذلك المعدة، فالواجب طبيًّا أن يأكل الإنسان، أو
يشرب شيئًا قليلاً، ثم يعود إلى إتمام الأكل بعد صلاة المغرب كما كان يفعل
الرسول، صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الصوم نافعًا من الوجهة الدينية والأخلاقية اغتفر الشارع ذلك
الضرر القليل، أو المشكوك فيه في جانب نفعه العظيم.
ومما يمحو ذلك الضرر الابتعاد عن ملاقاة المرضى، وكل ما لامسهم أثناء
النهار، وصرف الوقت في النوم بقدر الإمكان؛ ولذلك يُستحب عندنا في الشريعة
الإسلامية النوم للصائم، فإنه فضلاً عن فائدته الطبية بإراحته الجسم، وتوفير قواه
يقي الإنسان من اللغو، والرفث، ولذلك ورد في بعض الآثار (نوم الصائم عبادة)
***
الجهاز البولي
ووظيفته
لا يختلف هذا الجهاز في الذكور والإناث إلا في الإحليل (مخرج البول)
وهو في كل منهما مركب مما يأتي:
(1) الكُليتان وهما عضوان مخصوصان لإفراز البول، موضعهما في
القسم القطني من البطن خلف البريتون على جانبي العمود الفقري، ويمتدان من
الفقرة الأخيرة الظهرية إلى الثالثة القطنية، واليمنى منهما منخفضة قليلاً عن
اليسرى بسبب وجود الكبد في هذه الجهة، وطول كل منهما نحو أربع بوصات،
وعرضهما نحو بوصتين ونصف.
والكلية عبارة عن منسوج مخصوص مركب من أنابيب كثيرة العدد لإفراز
البول من الدم، والدم يأتي إليها بشريان عظيم متصل بالأورطى (الأبهر) مباشرة،
ويتفرع هذا الشريان في الكلية إلى عدة فروع يخرج منها فروع دقيقة جدًّا تنتهي
بعمل أشكال كروية تسمى كريات مالبيغي [15] (Malpighi) يحيط بها مبدأ
أنابيب الكُلى، وكل أنبوبة بعد تعرجها تصب في أنابيب أخرى مستقيمة، وهذه
الأنابيب تنفتح في قمم حلمات صغيرة (عددها من 8 إلى 18) توجد في بطن
الكلية حول تجويف مخصوص يسمى " الحويض الكلُوي " وهو مبدأ للحالب.
(2) أما الحالب: فهو عبارة عن أنبوبة تمتد من الكلية إلى المثانة،
وتحمل البول إليها، وينفتح في قاع المثانة بانحراف، أعني أنه يسير قليلاً في
جدارها بين غشائها المخاطي، والطبقة العضلية، وذلك لمنع رجوع البول فيه
بانطباقه على نفسه بسبب ضغط البول عليه، حينما تمتلئ المثانة به، وكل من
الحالبين مركب من منسوج ليفي، ومنسوج عضلي، وغشاء مخاطي، والغرض
من المنسوج العضلي أن يدفع البول نحو المثانة.
(3) أما المثانة: فهي كيس يسع نحو نصف لتر من البول في امتلائه
العادي، وموضعه في الحوض خلف العظم العاني، وفي أسفل الجدار الأمامي
للبطن، والمثانة مركبة من عدة طبقات أهمها الطبقة العضلية، والطبقة المخاطية،
وفائدة الطبقة العضلية هي قذف البول إلى الخارج، وهذه الطبقة العضلية مركبة
من ثلاث طبقات: خارجية، وداخلية (وأليافهما تمتد من الأمام إلى الخلف غالبًا) ،
ووسطى، وأليافها حلقية تحيط بالمثانة، وعند فتحة المثانة في الإحليل تتجمع من
هذه الطبقة الوسطى ألياف كثيرة تسمى " العضلة العاصرة للمثانة "، وهي التي
تمنع البول من السلس.
(4) أما الإحليل: فهو اسم لمجرى البول في كل من الذكر والأنثى، وهو
- طبعًا - أطول في الذكر منه في الأنثى، أما فتحته في الأنثى فهي فوق فتحة
المهبل الذي هو عبارة عن مكان الجماع، ومخرج دم الحيض، والجنين.
أما كمية البول فهي في اليوم نحو 1500 سنتمتر مكعب، وهذه الكمية تختلف
أيضًا باختلاف مقدار الشرب، وحرارة الجو، وقوة القلب، وبعض المواد المأكولة،
فإذا اشتدت حرارة الجو مثلاً كثر إفراز العرق؛ وبذلك يقل البول، وإذا شرب
الإنسان مقدارًا عظيمًا من الماء، أو تعاطى بعض المواد المدرة للبول؛ فإن هذه
الكمية تزداد.
والبول حمضي التأثير في ورق عباد الشمس، هذا في الحيوانيين، أما في
النباتيين فإنه قلوي التأثير، وإذا تُرِك البول في إناء مدة من الزمن تحولت (البولينا)
التي فيه بفعل الميكروبات إلى كربونات النوشادر، وصار البول قلوي التأثير،
وهذا هو سبب رائحة النوشادر فيه.
والثقل النوعي للبول يختلف من 1015 إلى 1025، وفي البول السكري
يزداد هذا الثقل النوعي كثيرًا.
والبول مشتمل على مواد كثيرة أهمها الماء، والأملاح، وبعض المركبات
العضوية الأخرى كالبولينا.
أما جل الماء، والأملاح فتُفْرَز بواسطة كريات مالبيغي، وأما باقي المواد
الأخرى فتفرزها أنابيب الكُلى المتعرجة أثناء سير الدم في الأوعية الشعرية التي
حولها.
والبول الطبيعي خالٍ من السكر، ومن الزلال تقريبًا، فلا يوجد فيه شيء
منهما يذكر [16] إلا في أحوال مرضية، والسكر الذي يوجد حينئذ فيه هو سكر العنب،
ولا يوجد فيه سكر اللبن إلا في المراضع، وأهم سبب لوجود الزلال فيه هو
التهاب الكُلى المسمى داء بريت (Bright) [17] الذي يفسد خلاياها خصوصًا
خلايا كريات مالبيغي، وأهم ما يُحْدِث هذا الداء التعرض للبرد الشديد خصوصًا
عقب الإفراط في السُّكر، أو الجماع، أو الإصابة بالحميات العفنة كالقرمزية،
وهذا الداء من أضر ما يحدث للجسم، وهو سبب في موت كثير من الناس، وهناك
مرض آخر منتشر في الجهاز البولي في مصر يسمى (داء بلهارس) سنتكلم عليه
عند الكلام على الديدان.
وإذا أراد الإنسان التبول صدر من النخاع الشوكي تيار عصبي إلى المثانة
فانقبضت، وإلى عضلات البطن فانقبضت أيضًا، وفي أثناء انقباضهما ترتخي
العضلة العاصرة لعنق المثانة؛ فيخرج البول إلا إذا عاقه عائق كحصاة تكونت في
المثانة.
وقد تتكون الحصيات في أنابيب الكُلى نفسها، وتكون حينئذ صغيرة جدًّا
كحبات الرمل، أما الحصيات الكُلوية التامة؛ فتكون غالبًا في أعلى الحالب، أي
في الحويض الكلوي، وهي السبب في حصول الآلام القطنية عند المصابين بها،
فإذا نزل جزء منها في الحالب اشتد المغص بالمصاب إلى درجة مفزعة، ولا
يزول غالبًا إلا إذا تراكم البول خلفها، وضغط على منسوج الكلية فأتلفه، وإذا
طالت مدته استحالت الكلية إلى كيس عظيم، وأهم هذه الحصيات هي حصيات
حامض البوليك الذي يكثر بتعاطي المواد الزلالية مع قلة الحركة الجثمانية - كما
قلنا - ولا علاج للحصاة بعد تكونها إلا بالعمليات الجراحية ما لم تكن صغيرة
وتخرج بنفسها مع البول، وأحسن المخترعات الحديثة لمعرفة مكانها وشكلها
وحجمها هو أشعة رونتجن (Rontgen) ؛ فإنها تُظْهِر ما في الجسم من الأجسام
الصلبة كالحصيات، والعظام، والأشياء الغريبة كالرصاص - وسيأتي الكلام
عليها-.
والخلاصة أن وظيفة الكلية هي إفراز المواد المتخلفة من الاحتراق الداخلي
للجسم لأن بقاء هذه الفضلات فيه ضار به جدًّا، وإذا بطلت هذه الوظيفة بسبب
فساد الكليتين نشأ عن ذلك الموت لتسمم الجسم بالمواد البولية؛ ولذلك يسمى هذا
التسمم بالتسمم البولي (Uraemia) ، وبعبارة أصح (تسمم الدم بالبول) .
***
الجهاز التناسلي
ووظيفته
هذا الجهاز - وإن اختلف في الظاهر في الذكر والأنثى - هو واحد في منشئه،
وتركيبه، ولذلك قال ابن سينا [18] في قانونه: إن آلة التوليد في الإناث (كأنها
مقلوب آلة الذكران) وهو تعبير يُقَرِّب المسألة إلى الفهم وإن لم يكن حقيقيًّا على
إطلاقه.
أعضاء الذكر:
القضيب والصفن المشتمل على الخصيتين، والقناة الناقلة، والحويصلات
المنوية، والبروستاتة وغيرها مما سيأتي.
أما القضيب: فهو مركب من ثلاثة أجسام أسطوانية الشكل: اثنان منها في
أعلاها، والثالث في أسفلها، ومنسوج هذه الأجسام الثلاثة يشتمل على تجاويف
عديدة إذا احتبس فيها الدم بسبب ضغط العضلات على الأوردة حصل الانتصاب،
والجسم الأسطواني الأسفل هو الذي فيه الإحليل (أي مجرى البول) .
ومركز الانتصاب في (الانتفاخ القطني للنخاع الشوكي) الذي يقابل الفقرتين
أو الثلاثة الأخيرة من الفقار الظهرية.
والحشفة متصلة بالقسم الأسفل من تلك الأجسام الأسطوانية، ويغطي الحشفة
جلدة تسمى القلفة، وهي التي تقطع في الختان.
وفائدة الختان منع تراكم الإفرازات تحت القلفة، وكذلك تسهيل معالجة ما
ينشأ في الحشفة من الأدواء، ومن فوائدها أيضًا تعريض الحشفة نفسها لشدة
الإحساس، فتقوى الشهوة، ويكون الالتذاذ بالجماع أكمل، وفي بعض الأشخاص قد
تكون فتحة القلفة ضيقة؛ فيتعسر خروج البول؛ ويتسبب من ذلك كثرة الزحير
فيصاب الشخص بمثل سقوط المستقيم، أو الفتق السري، أو الأُرْبي وغير ذلك.
وضيق الفتحة هذا هو من أكبر الأسباب لهذه الأمراض خصوصًا في الأطفال
ولا دواء له إلا الختان، وتراكم الإفرازات قد يؤدي إلى جلد عميرة، والتهاب
الحشفة والتصاقها بالقلفة، ويهيئها لقبول الأمراض الزهرية، بل والسرطانية في
الشيوخ؛ ولذلك كان الختان عند فقهاء المسلمين سنة مؤكدة، وعند بعضهم واجبًا؛
ولكنه عند اليهود فرض لا هوادة فيه.
الصفن: وهو الجلدة المعروفة التي تشبه الكيس، وفيها الخصيتان، أما
الخصيتان فهما غدتان كبيرتان كحجم البيضة مختصتان بإفراز الحيوانات المنوية،
أما تركيبهما فهو كما يأتي: يحيط بالخصية غشاء سميك يخرج منه عدة جدران
تقسم الخصية إلى عدة أقسام، وفي هذه الأقسام توجد أنابيب طويلة، ورفيعة جدًّا
يبلغ عددها نحو 840 (وقيل 300) ، وطول كل منها نحو من قدمين وربع،
وقطرها صغير جدًّا، وهي ملتفة على نفسها، ومبطنة من داخلها بخلايا مخصوصة
تتحول بالتدريج إلى الحيوانات المنوية.
أما هذه الحيوانات المنوية: فكل منها عبارة عن خلية واحدة، لها رأس،
وجسم، وذنب، ورأسها هو نواة الخلية، ولها حركة سريعة جدًّا، وإذا رآها
الإنسان بالميكروسكوب ظنها ديدانًا دقيقة، أو علقًا، وتعيش مدة بعد خروجها من
الإنسان، وشكلها يختلف باختلاف الحيوانات المتنوعة، وأقرب الأشكال شبها
بحييوين الإنسان حييوين مَني القرد، وإذا انفصلت هذه الحيوانات من خلايا
الأنابيب سارت فيها، وهذه الأنابيب تتجمع شيئًا فشيئًا إلى أن تتكون منها قناة
واحدة تسمى (بالقناة الناقلة) ، والدم الوارد إلى الخصيتين يأتيهما بشريانين رفيعين
طويلين يخرجان من الأبهر الممتد من القلب خلف الترائب إلى نهاية الصلب تقريبًا
(والصلب هو السلسلة الفقرية كما سبق) ، وهذا الدم يغذي الخصية، فتنقسم
خلاياها بعد أن تتغذى به، وينشأ من انقسامها هذه الحيوانات المنوية، وعلى ذلك
فأصل المني أو دمه يخرج كما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 7) [19] .
أما هذه القناة الناقلة التي يحس بها الإنسان في الصفن كحبل صلب، فهي
تحمل المني إلى جدران البطن، ثم تدخل البطن؛ لكنها تبقى خارج البريتون،
وتستمر في سيرها إلى أسفل المثانة، وتكون بينها وبين المستقيم [20] ، وهناك تتحد
بقناة الحويصلة المنوية التي في الجهة الوحشية منها، ويتكون من اتحاد القناتين قناة
واحدة تصب في مجرى البول بعد خروجه من المثانة بقليل، وتسمى (بالقناة
القاذفة) .
أما الحويصلة المنوية: فهي كيس صغير كأنبوبة ملتفة على نفسها، ولها في
جوانبها عدة فروع، وهي تفرز سائلاً لبنيًّا رقيقًا يضاف إلى المني لتسهيل حركة
الحيوانات فيه، وفي هاتين الحويصلتين يتجمع المني إلى حين قذفه عند الجماع
ونحوه، فهما مستودعان له.
البروستاتا: (وهي كلمة يونانية معناها الإمام) يحيط بمبدأ مجرى البول بعد
عنق المثانة خلف العظم العاني وتحته، وهو يفرز مادة تضاف إلى المني تسمى
بالودي [21] ، وتنبعث منه بعدة أنابيب تصب في مجرى البول أثناء مروره في
البروستاتا، وهذا العضو كثيرًا ما يصاب بالضخامة في الشيوخ؛ فيحدث عندهم
عسر البول، واحتباسه.
وهناك غدتان صغيرتان في العجان على جانبي مجرى البول لهما إفراز
مخصوص يسمى بالمذي، وهو السائل الذي ينزل عند المداعبة، وفائدته تليين قناة
البول لتسهيل سير المني فيها، وتيسير إيلاج القضيب في الفرج عند الجماع،
وهاتان الغدتان تسميان غدتي (كوبر) (Cowper) ، والقذف يحصل بانقباض
الألياف العضلية التي في المجاري المنوية وحولها، فإن في كل هذه الأجزاء
المذكورة كثيرًا من المنسوج العضلي.
ويبتدئ تكون الحيوانات المنوية عند البلوغ، وهو يحصل عادة في بلادنا
بين السنة 12 و 16، وقد يبلغ بعض الغلمان في التاسعة من عمرهم، وآخرون
في السنة 18، وإذا بلغ الشخص خشن صوته ونبت الشعر في وجهه، وعانته،
ووجد فيه الميل الطبيعي للأنثى، ويستمر إفراز المني إلى أواخر العمر، فقد عُرِف
أن بعض الشيوخ رزقوا بالولد في سن الثمانين، بل بعد المائة؛ ولكن الميل
الشهواني يضعف عادة في الإنسان كلما كبر، وقد يزول في الصغر لضعف أو
مرض أو غيرهما، ويكون حينئذ قاصرًا على الميل النفسي، وإن كانت القوة
الجثمانية نفسها ضعيفة أو مفقودة بسبب ضعف الانتصاب أو عدمه.
أعضاء الأنثى:
تبتدئ هذه الأعضاء من الخارج إلى الداخل بالفرج، وأجزاؤه هي:
(1) جبل الزهرة [22] : وهو القبة التي في أعلاه، وعليها ينبت الشعر.
(2) الشفران الكبيران: وهما الممتدان من جبل الزهرة إلى ما يسمى
بالشوكة، وهي الغشاء الذي يجمع بينهما عند أسفلهما، وهذه الأجزاء مركبة من
جلد وشحم من جزء من المنسوج المسمى بالخلوي، وفيها غير ذلك أعصاب،
وأوعية، وغدد وألياف عضلية، والشفران في الأنثى يقابلان الصفن في الرجل.
(3) الشفران الصغيران: وهما قطعتان صغيرتان من الجلد بين
الشفرين الكبيرين ويعرفان عند عامة النساء في مصر بالورقتين، يمتدان في
أعلاهما إلى البظر.
(4) البظر: وهو جسم صغير يقابل في الذكر القضيب، وهو مثله في
تركيبه، ونشوئه، غير أنه مركب من جسمين أسطوانيين فقط، وله رأس كرأس
الذكر؛ ولكنه غير مثقوب، ولا يوجد فيه الجسم الثالث الذي للرجل، والبظر
عضو حساس خصوصًا رأسه، ويتحرك بالشهوة وينتصب كالذكر تمامًا؛ ولذلك
اعتاد الشرقيون - من قديم الزمان - أن يقطعوه وحده، أو مع الشفرين
الصغيرين، وتسمى هذه العملية بعملية الخفض، وهي مستحسنة في الشريعة
الإسلامية لأنها مما يقلل ثوران الشهوة عند النساء، وخصوصًا في البلاد الحارة.
(5) غدد (بارثولين) : وهما غدتان صغيرتان على جانبي فتحة الفرج تفرز
كل منهما مادة لزجة صافية تشبه المذي، وهي تسيل مثله عند تحرك الشهوة في
النساء.
(6) العُذرة (غشاء البكارة) : وهو غشاء يسد فتحة الفرج كلها أو
بعضها؛ ولكنه له في الغالب فتحة أو أكثر لنزول دم الحيض، وله أشكال
عديدة أكثرها الهلالي والحلقي، وقد يكون معدومًا بالمرة من أصل الخلقة، وإذا كان
هذا الغشاء مسدودًا بالمرة امتنع دم الحيض من النزول؛ فيتراكم في الرحم،
وينشأ منه أعراض مخصوصة يعرفها الأطباء، وتسمى المرأة المصابة بهذه العاهة
بالرتقاء، وعند تمزق هذا الغشاء في العذارى يخرج منه مقدار من الدم - كما هو
معروف - ويسمى هذا التمزق بالافتضاض، وفي تمزيقه بالإصبع خطر فقد
يتمزق معه المهبل، وربما يفضي ذلك إلى الوفاة.
هذه هي أعضاء المرأة الظاهرة.
أما أعضاؤها الباطنة فتبتدئ بالمهبل: وهو أنبوبة عضلية موصلة بين الفرج
والرحم، ولها فتحة مسدودة بالغشاء المذكور، وفي أعلى هذه الفتحة يوجد الصماخ
البولي، أي فتحة البول الواصلة إلى المثانة، والمثانة في النساء فوق المهبل.
ووظيفة المهبل: هي أن يكون محلاًّ للجماع، ومخرجًا للجنين، ودم الحيض
أما الرحم: فهو جسم كمثري الشكل، عضلي سميك أجوف، له فتحة في
المهبل، وفيه فتحتان أخريان لأنبوبتين تسميان بوقي فللوبيوس [23] لحمل البويضات
إلى الرحم.
أما (البوقان) فمبطنان من الداخل بغشاء مخاطي له أهداب، وطول كل
منهما نحو أربع بوصات، وطرف كل منهما مشرشر، وخلف البوقين (المبيضان)
وهما جسمان يشبهان الخصيتين، وليسا أجوفين، وفي داخلهما بويضات صغيرة
جدًّا ميكروسكوبية في داخل حويصلات تسمى حويصلات (جراف) ، وهذه
الحويصلات تقرب من سطح المبيض شيئًا فشيئًا حتى تنفجر فتخرج البويضة [24]
وتصل إلى البوق، والبوق متصل بالمبيض بقناة صغيرة هي جزء من الطرف
المشرشر، وهو ينطبق على المبيض حين انفجار الحويصلة.
البويضة والبلوغ واليأس:
أما البويضة فأصلها من الغشاء المحيط بالمبيض، الذي هو عبارة عن
البريتون، وتتكون هذه البويضات في البنات منذ ابتداء خلقتهن بحيث تولد البنت
وفيها عدد مخصوص من البويضات تبلغ الألوف، ويقال إن هذه البويضات تسقط
من البنات في زمن طفوليتهن قبل البلوغ، ويتفق في البنات البالغات والنساء زمن
انفجار الحويصلات، وخروج البويضات منها مع زمن الحيض، والرأي الراجح
الآن عند بعض العلماء أن كل مبيض تنفجر منه حويصلة مرة في كل شهرين،
بمعنى أن الحيض إذا اتفق مع انفجار الحويصلة التي في المبيض الأيمن مثلاً في
الشهر انفجرت حويصلة من المبيض الأيسر في الشهر التالي وهكذا، أي أن كل
انفجار من مبيض يكون في شهر وحده.
وأما زمن البلوغ في البنات عندنا فيكون من 12 إلى 14 سنة، وفي البلاد
التي أشد حرًّا من مصر كبلاد الهند والعرب كثيرًا ما تحيض البنت في السنة
التاسعة، وزمن الحيض يتفق مع زمن النسل عادة، إلا أنه ثبت أن بعض البنات
حملت قبل أن تحيض، كما ثبت أن بعض العجائز حملت بعد اليأس، وسن اليأس
في النساء هو في الغالب من 45 إلى 50، ومنهن مَن يستمر حيضها إلى ما بعد
ذلك بكثير كسن التاسعة والستين.
الحيض: عبارة عن نزف يحصل من الغشاء المخاطي المبطن للرحم،
ويصحبه تمزق في هذا الغشاء، وسقوط بعض الأجزاء منه، ولا يحدث الحيض
إلا للنساء، ولبعض أنثيات القرود، ومدته تختلف من يوم إلى ثمانية أيام، وفي
الغالب ستة أيام فقط.
وسبب الحيض، وفائدته مجهولة إلى الآن، وهو ليس ضروريًّا لحدوث
الحمل، فقد شوهد أن بعض النساء لا تحيض مطلقًا، ومع ذلك تحمل كالعادة.
الخنثى: إنسان يتعسر أو يتعذر تمييز نوعه، إن كان ذكرًا أو أنثى، وهي
أنواع:
(1) من يكون في الحقيقة ذكرًا؛ ولكن أعضاءه تشبه الأنثى، فيكون له
صفن مشقوق كشفري المرأة، وقضيبه صغيرًا جدًّا، ولا فتحة فيه، وتكون فتحة
البول بين الشفرين، وقد يكون له ثديان [25] ؛ ولكنه لا يحيض، وينقذف منه المني
من خصيتين تكونان غالبًا في شفريه، وقد تبقيان في بطنه، وفي هذه الحال لا
يمكن الحكم عليه إلا بفحص دقيق جدًّا، كأن يُمتحن السائل المقذوف منه؛ فإن
وجدت فيه حيوانات منوية تحققنا ذكورته وإلا فلا، وفي مثل هذا الشخص تكون
فتحة البول أضيق من المهبل، وتتصل بالمثانة، ولا يحس بوجود رحم له.
(2) من تكون أنثى، وأعضاؤها تشبه الذكر كأن تكون ثدياها ضامرتين،
وبظرها كبيرًا جدًّا، ومنهن من يكون رحمها أيضًا ساقطًا بين فخذيها فيشبه الصفن
ومثل هذه المرأة قد تشتهي النساء وتميل إلى السحاق، وتعرف هذه بحصول
الحيض لها، وعدم وجود أي حيوان منوي في إفرازها، وقد يدرك الباحث فيها
وجود المبيضين ووجود الرحم.
(3) من يوجد له مبيض في جهة، وخصية في الجهة الأخرى، ووجدت
أحوال نادرة جدًّا، كان الشخص يأتيه الحيض شهريًّا، ومع ذلك يقذف حيوانات
منوية، كشخص عرف في أوربة يسمى " كثرين هوهمان " (CATHERINE
HOHMANN) لم يعرف له نظير.
ومن هذا النوع الأخير من تكون أعضاؤها الظاهرة كأعضاء الذكر، والباطنة
كأعضاء الأنثى، وبالعكس، ولا يوجد دليل على أن مثل هذا الشخص لا تتلقح
بويضاته بمني نفسه، غاية الأمر أن وجود مثل هذا الشخص أندر من الكبريت
الأحمر، وأكثر منه ندرة أن تلقح حيواناته المنوية بويضاته.
ولا يوجد عندنا مانع عقلي أو نقلي يمنعنا من تجويز أن تكون مريم - عليها
السلام - من هذا النوع الأخير فمسألتها أندر من النادر، فلا غرابة إذا لم نعرف
أنها حدثت لغير مريم، إذ يندر أن يتفق حصول ذلك في العالم إلا مرة أو مرتين
فيتعذر على الناس معرفة ذلك باليقين، على أن الوثنيين قد زعموا حصول مثل تلك
الولادة لبعض آلهتهم، وربما كان بعض ما زعموا صحيحًا (راجع كتاب
(النصرانية والأساطير) تأليف روبرتسن صفحة 168 171) ولا ينافي ذلك أن
تكون مريم، وابنها آية للعالمين، فإن في كل ما خلق الله آية خصوصًا مثل تلك
الشواذ العجيبة النادرة جدًّا، ولذلك قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ
آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 4) ، أما إرسال المَلَك إليها فقد كان لتبشيرها
بحصول هذا الحمل النادر العجيب، كما بشر زكريا بالولد مع شيخوخته، وعقم
امرأته، وقوله في سورة مريم: {أَهَبَ لَكِ} (مريم: 19) قد يراد به أنه متكلم
عن الله، كما قالت الملائكة المرسلة للوط: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا} (الحجر: 60)
أي قدر الله؛ ولذلك ورد في قراءة سبعية قول جبريل (ليهب لك) أي ليهب لك الله،
وإنما هو مبشر لها بذلك فقط، ويؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة آل عمران:
{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} (آل عمران: 45) الآية، وأما قول أمها: {إِنِّي
وَضَعْتُهَا أُنثَى} (آل عمران: 36) إذا دل على أنها عرفت حقيقتها فقوله تعالى
بعده مباشرة: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران: 36) أدل على أنها
لم تعرف الحقيقة؛ وإنما حكمت بالظاهر، والله أعلم منها بالواقع ونفس الأمر
وقوله: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 42) أي فضلك عليهن لا
يدل على أنها منهن ولذلك لم يقل (اصطفاك منهن) [26] .
على أننا لم نقل إنها لم تكن امرأة بل نقول: (يحتمل أنها كانت لها أعضاء
الذكر والأثنى، وتغلب عليها الأنوثة بدليل حملها لعيسى، وولادتها له، وإرضاعها
إياه وإذا صدقنا كتب العهد الجديد قلنا إنها أيضًا تزوجت بعد ولادة عيسى، ورزقت
بأولاد (مت 1: 25 و13: 55) فكانت أعضاء الأنوثة فيها أجلى وأكمل من
أعضاء الذكورة) .
هذا ويوجد في الحيوانات الدنيئة ما تتوالد إناثها بلا تلقيح عدة أجيال، فيجوز
أن ما يحصل في هذه الحيوانات على سبيل القاعدة يحصل مثله في الإنسان على
سبيل الشذوذ، مثال ذلك أن المعتاد في بعض الحيوانات أن تلد عدة صغار في بطن
واحد كالأرانب وغيرها وذلك هو القاعدة فيها، ومن النساء من ولدت 6 أطفال في
بطن واحد، ومنهن من كان لها أكثر من ثديين. والخلاصة أن عجائب مخلوقات
الله تعالى كثيرة، وله في كل شيء آية.
التلقيح:
التلقيح هو اجتماع عنصر الذكر (الحيوان المنوي) بعنصر الأنثى
(البويضة) وإذا كان التلقيح بين الأقارب الأقربين كان النسل رديئًا لسببين:
(1) أنه يكون أضعف ممن يولد من زوجين بعيدين [27] ، وهذه القاعدة
مطردة حتى في النباتات؛ فإن ثمر الشجرة التي تلقحت أزهارها بأزهار أشجار
أخرى يكون أقوى وأحسن، حتى أن ثمرة الزهرة الواحدة إذا تلقحت بزهرة
مجاورة لها من نفس شجرتها كانت ثمرتها خيرًا مما إذا تلقحت بنفس أبورها
(هو مسحوق التذكير في الزهرة كما سبق) .
(2) أنه إذا كان الزوجان قريبين انحصرت في نسلهما الأشياء الرديئة
الموروثة عنهما، أما إذا اختلطت البيوت بعضها ببعض تحسن نسل الرديء منها
وبقي، ولولا ذلك لانقرض أو لبقيت بعض الأمراض العقلية والجثمانية متوارثة
في نسله إلى ما شاء الله، فلهذه الأسباب حَرَّم القرآن الشريف زواج الأقارب
الأقربين.
وبالجماع يصب المني في مهبل المرأة فتسير حيواناته المنوية إلى الرحم،
ويساعدها في سيرها حركة امتصاص تحصل في الرحم نفسه، فإذا وصلت إلى
الرحم ذهبت إلى البوقين، وهناك تتجمع في البوقين، وتعيش بضعة أسابيع، فإذا
صادفتها بويضة لقحتها، وإذا لم تتلقح البويضة تموت بعد خروجها من الحويصلة
ببضعة أيام.
والتلقيح عبارة عن دخول رأس الحيوان المنوي، وجسمه في البويضة مع
سقوط ذنبه؛ فيتحد هذا الجزء من الحيوان المنوي بنواة البويضة بعد أن ينفصل
عنها جزء كبير منها، والتقليح يحصل عادة في بوق (فللوبيوس) ، والذي يراه
جمهور العلماء أن حيوانًا واحدًا يلقح بويضة الإنسان، ومنهم من يرى أن الذي
يلقحها (أو يمتزج بها) حيوانات عديدة وهو الأرجح
وليس الجماع، ولا التذاذ النساء ضروريًّا لحصول التلقيح، بل قد يكفي قذف
المني على باب الفرج، ولو كانت الفتاة عذراء أو نائمة أو مخدرة بالكلورفورم فإن
ما للحيوانات المنوية من الحركة كافٍ لتوصيلها إلى البوقين، ولذلك ورد عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - (أن العزل لا يمنع الحمل) كما هو مشهور في الأحاديث،
ومن ذلك قوله: - صلى الله عليه وسلم- (اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو
كائن، وليس من كل الماء يكون الولد) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) معناها الأصفر باليونانية؛ لأن هذه المادة صفراء.
(2) سكر اللحم والكلمة يونانية أيضًا، ومعناها الحرفي (العضلة) .
(3) لفظ مركب من كلمتين (sarco) يونانية معناها اللحم و (lactis) لاتينية معناها اللبن، أي حامض اللبنيك المتولد في اللحم.
(4) الدرن كثير الحصول للبقر والخنازير، قليل جدًّا في الضأن، ونادر في الماعز.
(5) معناها (مواد الجيفة) وهي لفظ يوناني.
(6) كلمة أصلها لاتيني معناه (خلية صغيرة) سميت هذه المادة بذلك لتركب جدران الخلايا النباتية منها.
(7) أكسس (oxys) باليونانية معناها حامض و (oxalis) اسم الحماض فيها.
(8) شعير أزيل قشره، ثم كسرت حبوبه إلى قطع مستديرة ملساء يوجد عند كثير من البقالين.
(9) معناها الحرفي في اليونانية (المرة السوداء) لتوهمهم أنها تختلط بالدم؛ فتحدث هذا الجنون، ومثل هذه المرة لا وجود لها، وكلمة ماليخوليا من تعريب المتقدمين.
(*) أمدنا بهذا التركيب محمد شوقي بك بكير النباتي الشهير في مصر فشكرًا له.
(10) في الثوم زيت طيار فيه كبريت وهذا الزيت هو السبب في كراهة رائحته، كما أنه هو السبب في كراهة رائحة الحلتيت.
(11) لفظ يوناني معناه الحرفي (إله الطعام) .
(12) النبيذ من الشراب: هو نقيع التمر والزبيب ونحوهما، وهو إذا طال العهد على نقعه يختمر فيصير مسكرًا، ولهذا اختلف الفقهاء في حل شربه، وأما الخمر التي تسمى في عرف هذا العصر نبيذًا فهي المحرمة بالإجماع، وقد أشبع المنار الكلام في ذلك من عهد قريب.
(13) كلمة يونانية معربة معناها يقرب من معنى كلمة البوال، أي كثرة البول.
(14) كان نجارًا من أهالي لندن، أوصى الجمهور بهذه الطريقة سنة 1863، وعاش بين سنة 1797 و1878.
(15) مُشَرِّح إيطالي عاش في بولونيا (Bologna) بين سنة 1628 و1694.
(16) في البول الطبيعي 1 في 10000 من السكر، وأثر من الزلال، وكلاهما يتعذر إدراكه بالطرق الكيماوية المعتادة.
(17) هو رتشارد بريت (Richard Bright) الإنكليزي عاش بين سنة 1789 و 1858 ميلادية.
(18) هو الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا، الفيلسوف العربي الشهير، ولد بقرب بخارى 980 ميلادية، وتوفي سنة 1037م (370-428هـ) ، وله مؤلفات عديدة جاوزت المئة، وكان كتابه في الطب المسمى (القانون) معولاً عليه حتى في أوربة عدة قرون، وترجم إلى عدة لغات، وطبع بالعربية في رومة سنة 1593م (1001) هـ.
(19) الترائب: هي عظام الصدر تطلق على الذكر والأنثى وإن كان يغلب استعمالها في الأنثى، ومنه قول امرئ القيس: ترائبها مصقولة كالسجنجل.
(20) لذلك يكثر الاحتلام عند إمساك البطن، أو عند امتلاء المثانة بالبول، فلذا يجب إطلاق البطن والتبول قبل النوم لمنع ذلك.
(21) هو ما ينزل أحيانًا بعد البول، ومن أشهر أسبابه وأكثرها شدة الميل إلى النساء مع عدم الوصول إليهن، والتحرق عليهن.
(22) الزهرة: هي ما يسميها الرومان venus (فينس) وهو الكوكب المعروف ببهائه وجماله، وكانوا يزعمون أنه (إله الحب) ، وإلى هذه القطعة من الفرج تنسب الأمراض الزهرية الناشئة من الزنا غالبًا.
(23) هو جبريل فللوبيوس (GABRJL FALLOPIUS) المشرح الشهير، كان من أهالي بادوا (PADUA) بقرب مدينة البندقية ولد سنة 1523، ومات سنة 1562 وهو أول من وصف هذين البوقين وصفًا دقيقًا.
(24) تشمل الحويصلة عادة بويضة واحدة، وأحيانا بويضتين، ونادرًا ثلاثًا، وقد تشمل البويضة نواتين بدلاً من واحدة، وذلك من أسباب الحمل التوأمي كما سيأتي.
(25) قد رأيت اثنين من هذا النوع لأحدهما ثديان كثديي البنت البكر البالغة، وقد طلب مني قطعهما ففعلت.
(26) المنار: إن هذا التعبير لا يؤدي معنى الأول، وقد فات الكاتب الجواب عن قوله تعالى: [وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ] (التحريم: 12) فهو جزم بأنها أنثى، ولعله يدخله في حيز الترقي الآتي في جوابه، وما ذكره احتمال أكبر فائته زلزال جمود الماديين الذين ينكرون ولادة عيسى - عليه السلام - من أم بلا أب، وإلا فالظاهر المتبادر أن خلقه آية من الخوارق المنتظمة في سلك السنن الروحية، لا من فلتات السنن المادية.
(27) المنار: ورد في الآثار (اغتربوا لا تضووا) أي تزوجوا الغرائب لئلا تصيروا ضواة أي ضعافًا نحفاء بكثرة تزوجكم من ذوي القربى، ولم يثبت هذا في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافًا لما في صحاح الجوهري وغيره، وقال عمر بن الخطاب لآل السائب: قد أضويتم فانكحوا في النزائع، أي الغريبات.(18/273)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب
كنز الحقائق في فقه خير الخلائق
(فصول متفرقة والعناوين فوقها من وضع المنار)
البدعة الشرعية:
(فصل) البدعة الشرعية الأمر الحادث في الدين بعد القرون الثلاثة المشهود
لها بالخير، لم يدل عليها دليل من الكتاب والسنة، وكل بدعة ضلالة، وهي كثيرة
سيما في عصرنا هذا؛ فإنهم قد أحدثوا في الدين أشياء ما كانت في عهد النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه - كعقد مجلس الميلاد، والقيام عند ذكر الولادة،
وإنشاء عيد الميلاد [1] ، وقراءة الفاتحة على الحلواء والطعام، والاجتماع لقراءة
القرآن في اليوم الثالث [2] ، وإيصال الثواب إلى الميت بتعيين يوم أو وقت وتسريج
السرج على القبور [3] ، وبناء التوابيت [4] ، ونصب الأعلام، وذكر الخلفاء بعد كل
ترويحة، وتسمية الصحابة والسلاطين في الخطب، والصلاة على النبي - صلى
الله عليه وسلم - قبيل الأذان والإقامة [5] ، والتثويب والترحيم وأمثالها.
علامة أهل الحديث:
(فصل) من علامات أهل الحديث الجمع بين الصلاتين حالة الإقامة
والصحة لحاجة دنيوية أو دينية، والمسح على الخفين والجوربين، ولو غير
ثخينين، والمسح على العمامة، ورفع اليدين في ثلاثة مواطن: عند الركوع وعند
رفع الرأس من الركوع، وعند القيام من التشهد الأول، ووضع اليدين على الصدر،
والجهر بآمين، وقراءة التسمية أول كل سورة، وقراءة الفاتحة خلف الإمام في
كل صلاة، والاعتدال في الركوع والسجود والقومة، وأداء الصلاة، وقراءة السور
على وفق السنة.
المتفقه والعامي والتقليد:
(فصل) إذا كان الرجل يعرف الحديث والقرآن، فيعمل عليهما، ولا يقلد
أحدًا من المجتهدين، والعامي الذي لا يعرف الحديث والقرآن يسأل العلماء، ويعمل
على قولهم [6] ، والمجتهد يخطئ ويصيب، ومع أخطائه له أجر، ويجوز أن يكون
الرجل مجتهدًا في بعض المسائل، ومقلدًا في بعضها، ويجوز له أن يعمل
بالرخص، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر واجب على كل مسلم بقدر القدرة،
ولا يجوز العنف والتشدد في المسائل الاختلافية.
بيعة الصوفية وإلباس الخرقة:
(فصل) البيعة الشائعة بين الفقراء لها أصل من الشرع، وهي بيعة التوبة،
أما إلباس الخرقة والقلنسوة وأمثالها من مراسم الفقر، فلا تثبت بالنقل الصحيح،
ويجب علينا أن نحب أولياء الله كلهم، ونعظمهم من غير أن نفضل بعضهم على
بعض، ويجب ترك قولهم إذا خالف الحديث.
علامة أهل البدع:
(فصل) لأهل البدع علامات، وهي الوقيعة في أهل الأثر، وتسميتهم
بالوهابية، والنجدية، والعرشية، والصفاتية، والمجسمة، والمشبهة، وهم بُرَآء
من ذلك، لا يصدق عليهم إلا الاسم الواحد (وهو أصحاب الحديث) كثرهم الله
وأبقاهم إلى يوم القيامة.
باب الأنجاس
يطهر البدن والثوب بالماء ولو مستعملاً حتى لا يبقى عين ولا لون ولا ريح
ولا طعم، ولو [7] عسر زوال الأثر فلا يضر، ولا يجوز بغير الماء، والخف
والنعل بالدلك [8] ، ولو كانت النجاسة رطبة أو يابسة أو غير ذات جرم، والمني
طاهر، وغسله وفرك اليابس منه أزكى وأولى، وكذلك الدم غير دم الحيض -
ورطوبة الفرج [9] ، والخمر، وبول الحيوانات غير الخنزير، ولا نجس عندنا إلا
غائط الإنسان، وبوله، ودم الحيض، وبول الخنزير، وخراؤه، والروث، ولحم
الخنزير، وشحمه، والحمار الإنسي، والميتة، فيجب تطهير كل نجس قليله
وكثيره حتى الرشاش، وتطهر الأرض باليبس، أو صب الماء عليها، ويطهر
البساط الذي لا يمكن غسله بصب الماء عليه، والحديد والمرآة والزجاج بالمسح،
والاستحالة مطهرة.
(فصل) أيما إهاب دبغ فقد طهر، وشعر الإنسان، والميتة، والخنزير
طاهر، وكذا عظمها، وحافرها، وقرنها، ومنقارها.
(فصل) لا تنزح البئر بوقوع نجس، أو موت حيوان فيها إذا لم يتغير أحد
أوصاف الماء؛ فإن تغير فيجب نزح الماء كله أو إلى أن لا يبقى التغير.
(فصل) بول ما يؤكل لحمه طاهر، وكذا سؤره، وجميع الأسآر غير سؤر
الكلب، والخنزير ففيه قولان وكذا في ريق الكلب، والعرق كالسؤر.
__________
(1) أي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ومثله سائر الاحتفالات التي جعلوها كالشعائر الدينية، وقد أفتى الفقيه ابن حجر المكي بكون القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة كما تراه في كتابه الفتاوى الحديثية، ولكن لم يبال بفتواه أحد.
(2) أي بعد موت الميت الذي يُقرأ لأجله.
(3) لعله يريد طلب إيصال الثواب، يريد إيقاد السرج.
(4) أي للقبور.
(5) لعل هذا معتاد في بلاد المؤلف (الهند) ، وفي بعض بلادنا يزيدون في آخر الأذان ما يزيدون من ذلك وكله بدع.
(6) أي يسألهم عما يجب عليه في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا عن آرائهم ومذاهبهم.
(7) لعل الأصل (وإذا) .
(8) أي ويطهر الخف أو النعل بدلكهما بالأرض كيفما كانت نجاستهما.
(9) معطوف على قوله: والمني طاهر.(18/305)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم أخبار الحرب الأوربية والآراء فيها
إن الأخبار الصحيحة والآراء المفيدة لا تكاد تستنبط من الجرائد إلا نكدًا،
وإن للمجلات من الأناة والروية في الاختيار ما ليس للجرائد اليومية، ولا غير
اليومية أيضًا، وإننا نمحص ما وقفنا عليه من الأخبار والآراء الكثيرة بالجمل الآتية
في هذه الحرب:
(1) الدول المتحاربة فريقان: دول التحالف الإنكليزي ودول التحالف
الألماني (يُنسب كل حلف إلى أقدر دوله التي هي محل رجاء الرجحان له) ،
فالأول هو الراجح في الحرب البحرية، حتى أن رجحانه حال دون منازلة الآخر له،
إلا ما تغرقه الغواصات من سفنه، والثاني هو الراجح في الحرب البرية إلى هذا
اليوم.
(2) اتفق رجال السياسة والحرب من الفريق الأول على أن السبب الأول
لرجحان الفريق الثاني في الحرب البرية هو كثرة الذخائر والأسلحة عندهم،
فتوجهت همة دوله كلها إلى الاستكثار من ذلك، حتى أن إنكلترة أنشأت وزارة
خاصة بها سمتها وزارة الذخائر جعلت المئات من المعامل الحرة تحت مراقبتها،
فصارت إنكلترة وفرنسة وهما دولتا العلم والصناعة في هذا التحالف تعملان من
الذخائر والأسلحة أضعاف ما كانتا تعملان من قبل، ويقدرون أن استعدادهما،
واستعداد حلفائهما لا يتم إلا في ربيع السنة القابلة، على أنهم يشترون الذخيرة
والسلاح من الولايات المتحدة واليابان بمئات الألوف من الجنيهات.
(3) كانت الروسية قد رجحت على النمسة رجحانًا ظاهرًا فانتزعت منها
غاليسية، ووصلت إلى أعالي جبال الكربات المشرفة على سهول المجر،
وسباسبهم، ولكن ألمانية أنجدتها في ربيع هذا العام بزهاء مليون ونصف مليون من
جيشها، فأجلتا الروسية عما كانت استولت عليه من بلادها، وانتزعتا منها ما
انتزعتا من مملكة بولندة، وغيرها، ولا يزال لهما الرجحان في مطاردتها،
والفضل الأول في ذلك لمدافعهما الضخمة التي تدك أعظم الحصون والمعاقل،
ولكثرة ما عندهما من الذخيرة، وقد اتسع ميدان هذه الحرب فامتد من بحر البلطيق
في الشمال إلى آخر حدود بولندة في الجنوب، ويقال: إن الألمان يطمعون في
الوصول إلى بترغراد (بطرسبرج) عاصمة الروس، والنمساويون مع الألمان
يمدون أعناقهم إلى أودسة أعظم ثغور الروس في البحر الأسود.
(4) الحرب في الميدان الغربي (فرنسة وبلجيكة) سجال ولكنها حرب
مطاولة لا مناجزة، والألمان هم الذين يهاجمون الفرنسيس، والإنكليز،
والبلجيكيين في الغالب، والفريقان معتصمان في الخنادق، وقلما يربح أحد من
خطوط خصمه شيئًا إلا ويسترده منه الآخر.
(5) الحرب بين إيطالية والنمسة سجال أيضًا؛ ولكنها لا تزال بطيئة
الحركة ضعيفة التأثير، لا يكاد العالم يشعر بوجودها.
(6) الحرب في جوار الدردنيل سجال أيضًا، وهي مناجزة، لا مطاولة،
والحلفاء هم المهاجمون في الغالب على أنها حرب خنادق كحرب الميدان الغربي.
(7) أخبار الحرب في العراق قليلة جدًّا، ومما لا ريب فيه أن الإنكليز قد
استولوا على جزء عظيم من ولاية البصرة.
(8) أخبار الحرب في القوقاس وما يسمونه أرمينية أقل من أخبار الحرب
في العراق، وأبعد عن الثقة من جميع الأخبار، فإنه لا يعرف منها شيء، إلا ما
يذيعه الروس في كل شهر من أخبار معركة كان لهم الرجحان فيها، ومن أخبارها
أن ضلع الأرمن في البلاد العثمانية معهم حتى أنهم يقاتلون معهم، وهذا خبر معقول
ومنتظر، وكان العثمانيون يقاتلون الروس في بلاد القوقاس الروسية، ومن أخبار
الروس الأخيرة أنهم هم استولوا على مدينة (وان) العثمانية بمساعدة الأرمن فيها،
ونصبوا عليها واليًا من زعماء الأرمن، ويقال: إن الترك فتكوا بالأرمن فتكًا ذريعًا.
(9) إن كل فريق من الأحلاف اجتهد منذ اشتعلت نار الحرب في جذب
الدول التي على الحياد إليه، ولو بالعطف والمودة، ففاز التحالف الإنكليزي بانتزاع
إيطالية من التحالف الألماني، وحملها على خوض غمرات الحرب معه، وهو يبذل
جهده منذ سنة لجذب دول البلقان إلى قتال العثمانية والنمسة ولا يزال البلقانيون بين
الإقدام والإحجام، لما بينهم من أسباب النزاع والخصام، ولطمعهم في تراث الترك
والنمساويين من جهة، وكراهتهم أخذ الروسية للآستانة وزقاقي البوسفور والدردنيل
من جهة أخرى، دع ما للنمسة وألمانية من النفوذ في البلغار، ولألمانية خاصة من
النفوذ في الرومان واليونان، فإن ملكي البلغار والرومان من أسرة عاهل ألمانية،
وملكة اليونان أخته، فوشيجة الحرم لها تأثير عظيم، ولكن أكثر الشعوب البلقانية
أميل إلى التحالف الإنكليزي ولا سيما الشعب اليوناني، فإنه شديد البغض للترك
والطمع في كثير من بلادهم، وشديد الميل إلى محاربيهم لذاتهم ولمحاربتهم لهم.
(10) قد اختلف الباحثون في عاقبة هذه الحرب ونتيجتها، والمعقول أنه
إذا نصر أحد الفريقين نصرًا مؤزرًا، وظفر ظفرًا تامًّا، فإن رأس دوله تكون لها السيادة العليا في أوربة والشرق كله؛ ولكن دول الفريق الآخر أو ما بقي منها تذل
وتخزىزمنًا طويلاً تبذل فيه كل ما يستطيع بذله المستضعف المستذل في مقاومة خصمه من الكيد والحيلة إلى أن يستدير الزمان، وتديل له من عدوه الأقدار، وأما إذا
طال أمد الحرب حتى ضعف الفريقان، ونفدت قواهما، ولم يرجح أحدها على
الآخر بشيء، أو رجح بالدرهم أو القيراط، فلم يكن باستطاعته السيطرة على
خصمه، والاستمرار على قهره، فيوشك أن تكون شروط الصلح متعادلة، وتبقى
الموازنة بين الدول متقاربة، ويستمر ذلك عشرات من السنين يظهر فيها نبوغ
الشعب الذي يفوق غيره في الهمة والاستعداد، وهاك أشهر ما قيل في طمع كل
فريق من الآخر إذا انتصر انتصارًا تامًّا أو قريبًا من التام.
(11) مقصد دول التحالف الإنكليزي من الحرب الذي لا يكفون عنها
باختيارهم ما لم يصلوا إليه، وهو إزهاق الروح العسكري البروسي الذي نفخ في
جميع الشعوب الألمانية بالحرب، واعتقاد كونها فضيلة وكمالاًً للبشر ثم حل عقدة
الوحدة الألمانية، وإرجاع ممالكها الصغيرة إلى ما كانت عليه قبل الوحدة التي
أنشأها البرنس بسمرك سنة 1870، ومنعها من الاستعداد لحرب ثانية، والاستيلاء
على الأسطول الألماني، ثم حل إمبراطورية النمسة والمجر، وإعطاء كل دولة من
دول التحالف أبناء جنسه منها، وبهذا يستميلون دول البلقان إليهم الآن، لأن في
النمسة ملايين عديدة من الرومان، والسلاف، والطليان، وغيرهم، ثم تمزيق
المملكة العثمانية، وتقسيمها.
ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى النص إرجاع بلجيكة كما كانت أما الآستانة
والزقاقان العظيمان اللذان على جانبيها، فالأرجح أن روسية لا ترضى بها بديلاً، إن
ظفروا ظفرًا نهائيًّا، بعد ما أصابها من الخسارة التي هي أضعاف خسائر سائر
حلفائها، ويقال: إن حلفاءها أنفسهم يشترطون تدمير حصون البوسفور والدردنيل،
ونزع السلاح منهما، وعدم تسليحهما في المستقبل، وقيل: إن الآستانة تكون منطقة
حرة؛ ولكنها إن صارت إلى الروس فلابد أن يغتنموا أول فرصة لتحصين الزقاقين
بعد أن يستعدوا لذلك سرًّا.
(12) إذا ظفر التحالف الألماني ظفرًا تامًّا، فالمشهور أن ألمانية تريد أن
تضم مملكة بلجيكة إلى ممالك الاتحاد الجرماني، ولا يدرى أيراد جعل بولونية
مستقلة أم تابعة لها أم للنمسة، ولا بد حينئذ من جعل النفوذ الأعلى في البلقان للنمسة،
ويقال: إن ألمانية لا تطمع في أخذ شيء، مما استولت عليه من مملكة فرنسة، إلا
سواحل بحر المانش؛ ولكنها تطمع في جميع مستعمراتها الأفريقية الشمالية،
وتعطي الدولة العثمانية القوقاس الروسية أيضًا، وقد اشتهر أنها تمنيها بإنشاء
إمبراطورية إسلامية كبيرة، ثم إنها تفرض على خصومها غرامة حربية ثقيلة،
وأما استعادة ما أخذ من مستعمراتها، فهي من البديهات التي لا حاجة إلى ذكر طلبها
لها، هذا أقل ما يقال عنها، وقيل بل هي تطمع في جعل أوربة كلها تحت
سيطرتها، لما وجد في مؤلفات غير واحد من رجال العلم والسياسة والحرب فيها
من الحث على السعي لجعل العالم كله خاضعًا للنفوذ الألماني، ومستمدًّا من
الحضارة الألمانية.
ومن الناس من يقول: إن هذه مزاعم افتحرها أعداء ألمانية لينفروا عنها
الشعوب التي على الحياد، ويحملوها على مناوأتها، ولكن وجد من النقل عن
الألمان ما يدل على ذلك، وهو غير بعيد عن العقل، وشواهد التاريخ، فإن بطرس
الأكبر على كونه هو البادئ بتقوية روسية كان يرمي إلى هذا الغرض، ونابليون
الأول كان يمني نفسه به، ومن أصول تربية الأمم أن يبث فيها عقيدة تفضيل نفسها
على غيرها، وكونها أجدرها بالسيادة والسعادة، وكل أمة لا تعتقد هذا الاعتقاد لا
يمكن أن تسود وتعتز؛ ولكن الأمة إذا لم تبن جميع أعمالها الاجتماعية على أساس
هذه العقيدة يقتلها داء الغرور، ولا سيما إذا احتقرت غيرها من الأمم، ولم تقدر
مزاياها حق قدرها، ومن المحتمل أن يكون بعض علماء الألمان بثوا في أمتهم هذه
العقيدة لأجل أن ينهضوا بها في ميادين المسابقة والمباراة للأمم التي سبقتها إلى
الاستعمار وغيره، ثم اغتروا بما وصلوا إليه من العلم والثروة والاستعداد الحربي،
فقرَّب ذلك إلى عقول كثير من حكامهم وقوادهم أنه يمكن لدولتهم القضاء على قوى
الدول الاستعمارية الثلاث (إنكلترة وفرنسة وروسية) وجعلهن تحت سيطرة ألمانية،
وحينئذ تمنعهن من تجديد الاستعداد للحرب، فتنفرد بسياسة العالم في الشرق
والغرب، ولا يبعد أن تزين لكثير منهم فلسفة حب السيادة أن هذا يكون خيرًا للبشر
لأنه يمنع أسباب الحروب بمنع تنافس التحاسد الذي من شأنه أن يكون بين الأقران
من الدول، كما يكون بين الأقران من الأفراد، وأن يتخيل هؤلاء الفلاسفة أن العالم
لما صار باتصال بعضه ببعض كالأمة الواحدة - وجب أن تكون له دولة واحدة
ترجع إليها السلطة العليا، كما ترجع سلطة الولايات من المملكة الواحدة إلى السلطة
العليا في عاصمة المملكة، لأن التفرق مدعاة العداوة والشقاق المفضي إلى التقاتل
والتفاني.
وقد يرد عليهم فلاسفة سائر الأمم بأن ما يزعمونه خيال تولد من اقتران حب
السلطة بالغرور بالقوة، وأن حب السلطة غريزي في البشر، فلن ترضى أمة
بسيادة غيرها عليها مختارة، ولا سيما الأمم التي تَمَكَّنَ في قلوب أهلها عز الحرية
والسيادة، فلا يزال المسود يكيد للسائد، ويتربص به الدوائر، وقد انقرض في
الألزاس واللورين جيل، وتجدد جيل، فكان الجيل الجديد كسلفه يكره الألمان،
ويحب الفرنسيس، فالفلسفة الحق أن انتظام البشر لا يتم في هذا الزمان إلا ببنائه
على قاعدة استقلال الشعوب والأجناس، وأما القوة التي فوض إليها الحكم بين
المتنازعين على السيادة في الأرض فلا يمكن أن تظل محتكرة للغالب، فإذا كانت
هذه الحرب لا تنتهي بإبطال قاعدة (الحق للقوة) ،
وبالرجوع عن فكرة سيادة الأقوياء على الضعفاء، وإكراههم على الخضوع
لما يسوسونهم به ويلزمونهم إياه، وبوضع قواعد مضمونة للمساواة العامة بين
جميع الشعوب والأجناس يكون بها الأدنى مختارًا في اقتباس العلم والحضارة من
الأعلى - إذا لم تنته هذه الحرب بهذا وتضمنه جميع الدول بقانون تتعاهد على تنفيذه
بالقوة والاتفاق على قتال المخالف له، فلا شك في كونها تكون أشأم حرب على
البشر؛ لأنها لا يمكن أن تفضي إلى رضاء المغلوب بسيادة الغالب، بل تفضي إلى
استمالة المغلوبين لغيرهم من الشعوب المغلوبة على أمرها، والمكرهة على
الخضوع لغيرها، والاستعداد لحرب مثل هذه أو شر منها، وإن ظن الغالبون أنهم
قادرون على أن يَحُولُوا دونها.
ونحن نرى أن هذه الفلسفة الأخيرة هي الصحيحة، المُؤَيَّدة بروح الحق
والفضيلة، فعسى أن يكون لنا ولسائر الأمم الشرقية نصيب منها، إذا أراد الله
برحمته أن يكون المنتهى إليها.
__________(18/307)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
قد اضطررنا في السنة المدرسية الماضية (سنة 1292 هجرية شمسية) أن
نجعل الإجازة الصيفية قبل موعدها بشهر، بقرار من مجلس إدارة الجماعة؛
وسبب ذلك قطع وزارة الأوقاف المصرية ما كانت قررته من الإعانة للمدرسة،
وعدم الرجاء في شيء يُذْكَر من التبرعات بسبب العسرة الحاضرة، حتى أن الشيخ
قاسم إبراهيم قطع اشتراكه السنوي في جماعة الدعوة والإرشاد قبل الحرب، وقد كنا
ننفق على الطلبة بالتقتير في تلك السنة.
أما مقدار إعانة الأوقاف فقد كان خمسمائة وخمسين جنيهًا، وقد كنا موعودين
من قِبَلَ الديوان بمضاعفته أضعافًا، حتى أن محمد محب باشا الذي عُيِّن أول ناظر
للأوقاف - بعد تحويله إلى نظارة - قال لي أمام بعض الفضلاء في داره قبيل سفره
إلى الآستانة في رمضان العام الماضي: إنه يمكن إبلاغ الإعانة في هذا العام إلى
ألف وسبعمائة جنيه؛ وإنما يمكن الزيادة على ذلك فيما بعدها من السنين، قال ذلك
بعد أن دقق النظر في نظام المدرسة، وميزانيتها، وبعد زيارته لها، واختباره
لحالها بنفسه.
ولو طلبت المبلغ الذي كان مقررًا في أول العام الماضي عقب تصديق
الجمعية التشريعية على ميزانية الأوقاف لقبضته؛ ولكنني فضلت حفظه في خزينة
النظارة على حفظه في صندوق المدرسة؛ ليؤخذ بالتدريج عند الحاجة إلى الإنفاق
ولما طلبت بعضه عند الحاجة إلى الصرف - لقرب دخول السنة الدراسية - امتنع
وكيل الأوقاف محمد شوقي باشا من الصرف، معللاً منعه بوجوب الاقتصاد، وقلة
الدخل بسبب الحرب، فراجعت رئيس النظار (حسين رشدي باشا) مرارًا فوعد
بالمساعدة، وأحالني على عدلي باشا الذي كان نائبًا عن محمد محب باشا في نظارة
الأوقاف، ووعد بتوصيته، وبعد عدة مراجعات أمر عدلي باشا بصرف 300 جنيه
أقساطًا، وقال لي: إذا كثرت الواردات بعد ذلك ندفع لك الباقي، وقبضت حينئذ
ستين جنيهًا من الإعانة.
ثم تحولت الأحوال وتغير شكل الحكومة، فأعطى إسماعيل صدقي باشا الذي
تولَّى (وزارة الأوقاف) قليلاً، وأكدى (أي منع الباقي) ، فكان مجموع ما قبضته
من الإعانة بيدي 135 جنيهًا، وكنت أحلت إدارة أوقاف محمد شريف باشا الكبير
على النظارة بأجرة مكان المدرسة بكتاب مني قبلته النظارة، وصارت تدفع ما
يستحق من الأجرة أقساطًا شهرية؛ ولكن وزارة إسماعيل صدقي باشا منعت فيما
منعته إعطاء بقية الأجرة، كانت الأجرة كلها 130 جنيهًا دفعت وزارة الأوقاف منها
97 جنيهًا ونصفًا، ورجعت عليّ إدارة وقف شريف باشا بمبلغ 32 جنيهًا ونصف
جنيه فوفيتها حسابها
فعلم من هذا أن مجموع ما صُرِف من إعانة الأوقاف للمدرسة في العام
الماضي 232 جنيهًا ونصف جنيه، وهو دون المبلغ الذي كان أمر بصرفه عدلي
باشا موقتًا.
ولما علمنا أن الوزارة الجديدة قطعت الإعانة كلها ألبتة، غلبنا حسن الظن
ورددنا على من أساءه، وقرعنا جميع الأبواب التي هي مظنة الرجاء لإعادته،
بحجة أن هذه المدرسة الدينية الخيرية ليس لها دخل ثابت سواه، وأنها أحوج إلى
الإعانة من كل المعاهد العلمية والخيرية التي تساعدها وزارة الأوقاف حتى من
الجامعة المصرية، ومدارس العروة الوثقَى، والجمعية الخيرية - فألفينا جميع تلك
الأبواب موصدة في وجهنا؛ ولكن باب الله تعالى لا يُوصد، فاتكالاً عليه - عز
وجل - سنفتح المدرسة في السنة المدرسية القابلة، كما فتحناها في السنة الماضية
ولكننا لا ننفق على الطلبة شيئًا، ولا نقبل في القسم الداخلي طالبًا جديدًا إلا أن يأتي
الله بالفتح لبعض أبواب رزقه، أو أمر من عنده.
أما موعد فتح المدرسة في السنة الدراسية القابلة فسيكون - إن شاء الله تعالى-
في أول الخريف الثاني (منزلة العقرب) الموافق منتصف شهر ذي الحجة
الحرام خاتمة سنة 1333، فعسى أن تكون السنة القابلة سنة خير ويسر، وإن
جاءت بعد شدة وعسر {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً} (الشرح:
5-6) .
__________(18/313)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(كنز الحقائق من فقه خير الخلائق)
كتاب في فقه الحديث تأليف العلامة وحيد الزمان الملقب بالنواب وقار
نوازجنك بهادر، وطُبع في العام الماضي طبعًا حجريًّا في مطبعة شوكة الإسلام
ببلدة بنكلور بالهند على ورق جيد، وصفحاته 243 بقطع المنار، ويباع في مكتبة
المنار، وثمنه عشرة قروش.
الكتاب مختصر من كتاب مطول للمؤلف اسمه (نُزُل الأبرار من فقه النبي
المختار) ، وحسبنا من تقريظه ما يراه القراء في النموذج الذي اُقتبس منه، ونشر
في هذا الجزء من يسر مذهب أهل الحديث، على أن فيه مسائل اجتهادية،
وأغلاطًا معظمها من الناسخ منها ما يُدْرَك بالبداهة.
***
(البيان والتبيين)
كُتُبُ أبي عثمان الجاحظ كلها مختارة في الفصاحة والبلاغة عند أهل الأدب،
وهذا الكتاب منها أشهر من نار على علم، فهو مستغنٍ عن تقريظ أهل هذا العصر،
وحسبهم ما قاله فيه حكيم العرب، وإمام أهل العلم والأدب، عبد الرحمن بن
خلدون في الكلام على علم الأدب من مقدمته، وهذا نصه:
(سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب، وأركانه أربعة
دواوين، وهي (أدب الكاتب) لابن قتيبة، و (كتاب الكامل) للمبرد، و (كتاب
البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (النوادر) لأبي عليّ القالي، وما سوى هذه
الأربعة فتبع لها، وفرع عنها) .
وحسبنا من معرفة مكانة الجاحظ في البيان والبلاغة تنويه إمامهما الزمخشري
به في خطبة أساس البلاغة، وما كانت الخطب بموضع التنويه بالدهماء؛ ولكن قد
يذكر فيها أئمة العلماء والحكماء.
طبع كتاب البيان والتبيين بمصر منذ عشرين سنة طبعة رديئة كثيرة الأغلاط،
فاضطر الأدباء وطلاب الإنشاء إلى اقتنائها، والاستفادة منها على علاتها، حتى
نفدت نسخها، وغلا ثمنها، فسخر الله تعالى في العام الماضي محب الدين أفندي
الخطيب المحرر بجريدة المؤيد، وعارف أفندي المحايري لإعادة طبعه، فطبعاه
طبعًا حسنًا على ورق حسن، وعُني الأول منهما بتصحيحه، وضبط أشعاره
بالشكل، وقد تعب في مراجعتها في مظانها من الدواوين المخطوطة والمطبوعة،
وفي كتب اللغة والأدب تعبًا لا يعرف كنهه إلا من عُني بمثل ذلك، وقد جعل ثمنه
عشرة قروش من الورق النباتي، و15 قرشًا من الورق الأبيض، ويُطلب من
مكتبة المنار بمصر.
***
(الحنين إلى الأوطان)
نشر في جزء الشهر الماضي من المنار نموذج من هذا الكتاب مُصَدَّر بعبارة
وجيزة في وصفه، والفائدة من مطالعته كمطالعة سائر مصنفات مؤلفه، (الجاحظ)
مقرونة بالوعد بتقريظه، وقال صاحب المنار: إن هذا الكتاب يشرح غريزة حب
الوطن، التي هي من أقوى غرائز البشر، بأفصح العبارات المأثورة عن أبلغ
الأعراب، والشعراء، والكتاب، فهو من هذه الجهة كتاب فلسفة، كما أنه من
حيث عبارته أدب ولغة، ومن شواهد حب الوطن عن أهل هذا العصر ما اختبرناه
من حال مهاجرة السوريين في مصر وأمريكا وغيرهما من الأقطار، فإننا نراهم
على عراقتهم في المهاجرة، والاغتراب، وإثرائهم في بلاد أرقى من بلادهم عمرانًا،
وحرية لا يفتئون يحنون إلى أوطانهم على كثرة شكواهم من سوء حالها، وذمهم
لحكومتها، (قال) : وقد سمعت أصحاب المقتطف والمقطم يقولون منذ بضع
سنين: إننا لم نشتر شيئًا من الأثاث لبيوتنا إلا وكان يخطر في بالنا عند شرائه -:
إذا أتيح لنا العود إلى بلادنا فهل يكون هذا مما ننقله أو مما نبيعه؟ .
طُبع الكتاب بمطبعة المنار طبعًا متقنًا مضبوطًا على نفقة عبد الفتاح أفندي
قتلان مدير مكتبة المنار، وقد تولى تصحيح أصله، وضبطه، ووضع الحواشي،
والتفسير لغريبه الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري الشهير، وثمنه قرش ونصف قرش.
***
(كتاب المسح على الجوربين، وكتاب الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس)
(من تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى، طُبعا معًا في
مطبعة الترقي بدمشق الشام سنة 1332 وصفحاتهما 84 صفحة، ويُطلبان من
مكتبة المنار بمصر) .
هذان الكتيبان المفيدان من آخر ما كتبه عالم الشام، وفقيد الإسلام رحمه الله
تعالى، أتمهما في العام الماضي الذي توفي فيه، وموضوع الأول إثبات المسح
على الجوربين، وكل ما يستر الرجلين كالنعال السابغة، واللفائف، والتساخين
وفيه فوائد كثيرة في الحديث، والأصول، وقد أثبت المسألة بالدليل، ونقل فيها ما
يُؤثر عن أئمة الفقه.
قال منشئ المنار: وقد سبق لنا الإفتاء بهذا في المنار منذ بضع سنين فكان له
أحسن تأثير في تيسير الصلاة على كثير من أهل الترف والنعيم، كما أخبرني بذلك
بعض خواص المصريين المصلين، ثم أعدت إثبات ذلك بإيضاح في تفسير آية
الوضوء.
وأما هذا الكتاب، فقد استقصى كل ما يتعلق بالمسألة، وزاد ما زاد من
المسائل الاستطرادية كما هو شأن من يفرد مسألة صغيرة بالتصنيف.
وأما الكتاب الآخر فالغرض منها مقاومة ما عليه متأخرو المسلمين من
التساهل الذي يشبه الفوضى في أمر الطلاق، ورد ما جرى عليه كثير من الفقهاء
من الإفتاء بالطلاق في وقائع كثيرة لا تقوم الحجة على وقوع الطلاق فيها، ومن
مباحثه المفيدة التي عمت البلوى بها، مبحث طلاق الغضبان، والسكران، والهازل،
والمُكْرَه، والحالف بالطلاق، أو المعلق له يريد الترغيب أو الترهيب دون
الطلاق، والطلاق مرة واحدة بلفظ الثلاث، ومبحث وجوب الإشهاد على الطلاق
واشتراطه لصحته، ومن قال بذلك من أئمة آل البيت وغيرهم من الصحابة
والتابعين.
والقاعدة التي بُني عليها هذا الكتاب اللطيف، هي أن النكاح متى وقع وثبت
كان أمرًا يقينيًّا، فلا يزول بحكم اجتهادي؛ لأنه ظن لا يزول به اليقين، ولا بخبر
أحادي، ولا سيما إذا كان مطعونًا فيه كحديث (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد:
النكاح والطلاق والرجعة) .
***
(نقابات التعاون الزراعية
نظامها وتاريخها وثمراتها في مصر وأوربة)
(طبع على ورق جيد بمطبعة النهضة الأدبية بمصر سنة 1332 صفحاته
245 بحجم المنار) .
هذا كتاب جديد من أفضل ثمرات النابتة الجديدة بمصر، ألفه عبد الرحمن بك
الرافعي المحامي، فخدم به هذه البلاد خدمة جليلة هي في أشد الحاجة إليها.
إن ثناءنا على هذا الكتاب تأييد لرأي صاحب المنار الذي بينه مرارًا في
مجلته، وفي الجرائد، وهو أن أحوج ما يحتاج إليه أهل مصر في هذا العصر
أمران (أحدهما) حفظ ثروتهم حتى تكون غلة أرضهم، وثمرات كسبهم خالصة
لهم، (وثانيهما) تعميم التربية الصحيحة مع التعليم على الوجه الذي تتكون به
الأمة، وأنه لا يقوم بهذه التربية مع التعليم إلا الجمعيات الخيرية.
فهذان الأمران هما: الركنان اللذان لا يرجى لمصر صلاح، ولا فلاح إلا
بهما، وهذا الكتاب مما يرفع بناء الأول منهما، ويَحْسُن منا في هذا المقام أن نعطر
تقريظ الكتاب بكلمة ثناء على عمر بك لطفي الذي أحسن الله خاتمة عمره بالعناية
بأمر النقابات الزراعية علمًا وعملاً، فكان قدوة صالحة لهذا المؤلف الذي يُعَدّ من
تلاميذه.
للكتاب فاتحة في موضوعه للمؤلف، ومقدمة لأحمد بك لطفي المحامي، وفيه
ثلاثة أبواب، عنوان أولها (التعاون في أوربة) وفيه 14 فصلاً، وعنوان الثاني
(التعاون في مصر) وفيه ستة فصول، الأول في نظام الحياة الاقتصادية عند الزراع
وعيوبه، الثاني في الدعوة إلى التعاون، وفيه بيان (الدور الأول) من جهاد عمر
بك لطفي، والثالث في (الدور الثاني من جهاد عمر بك لطفي، ومنشآت التعاون
التي أسسها، والنظام الذي اختاره لها) ، والثالث في أعمال النقابات الزراعية
بمصر، والخامس في قانون الخمسة الأفدنة، والسادس في التشريع الجديد
للتعاون، وعنوان الباب الثالث (نماذج تعاونية) ، وهذه النماذج تعلم قراء
الكتاب كيف يؤلفون النقابات الزراعية حسب القانون؟ ، وكيف يكتتبون لها؟ ،
وكيف يكون الشراء والسلف منها؟ إلى غير ذلك من المعاملات.
وقد قال المؤلف في فاتحة الكتاب ما نصه:
(على أننا بأخذنا بأسباب التعاون نحيي سنة قديمة، فإن نظام التعاون وإن
كان بشكله الحديث نظامًا غربيًا جديدًا، إلا أن الفكرة التعاونية في ذاتها، أي فكرة
تعاون الأيدي العاملة على القيام بالعمل المشترك، واقتسام أرباحه، وثمراته فكرة
قديمة عرفها أجدادنا العرب، فقد أثبت الأستاذ لوابو ليو في كتابه المطول في
الاقتصاد السياسي أن القوافل التي كانت تجوب البلاد العربية ما بين الحجاز والشام
بقصد المتاجرة ما هي إلا جماعات تعاونية وقتية يتعاون أفرادها على الكسب
والتجارة) .
***
(الحساب)
كتاب وضعه صديقنا محمد عبد الخالق أفندي إسماعيل الطالب في إنكلترة
تمهيدًا لكتاب سيضعه في علم الجبر، وقد صَدَّره بمقدمة حث فيها على نشر العلم
باللغة العربية (أوسع اللغات) ، وقد طبعه سنة 1332 في مصر بمطبعة البسفور
طبعًا نظيفًا على ورق متوسط؛ فجاءت صفحاته 168، ويُطلب من مكتبة المنار
بمصر، وثمنه 25 مليمًا.
الكتاب جزيل الفائدة، وفيه من الجداول، والرسوم، والأشكال ما يوضح
مسائله، وعبارته جزلة فصيحة، فنحث على اقتنائه.
***
(كتاب الفوز بالمراد من تاريخ بغداد)
تأليف الكاتب الاجتماعي الشهير الأب أنستاس الكرملي صاحب مجلة لغة
العرب، طبعه بمطبعة الشاهبندر في بغداد سنة 1339، وصفحاته 76، وثمن
النسخة منه خمسة قروش صحيحة، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر.
والكتاب مستمد من كتب التاريخ العربية، والإفرنجية، ومن اختبار مؤلفه
الشخصي، وقد بدأه بتاريخ بغداد من عهد سقوطها على يد هولاكو سنة 655هـ
إلى سنة 329 أي سنة (تأليفه وطبعه) وفيه من العبر والعظة بتصرفات الأيام
شيء كثير.
***
(التقرير السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية عن سنة 1914)
هذا التقرير كالتقارير السابقة يشمل مشروع أعمال الجمعية، وميزانيتها،
ومحضر جلستها العمومية، وفيه زيادة على ذلك أن نُشِرت في أوله صورة الكتاب
العالي السلطاني الصادر لهيئة الجمعية المؤرخ في 13 ربيع الأول 1333 و29
يناير سنة 1915 عدد 11، وهذه جملة منه قال بعد التحيات لهيئة الجمعية ما
نصه:
(هذا وقد اقتضت إرادتي أن يكون لقسم الإعانة بالجمعية نصيب من مساعدة
خزينتي الخاصة بفضل الله، كما أنها ستتكفل سنويًّا بالنفقات التي يحتاجها أنبغ
طالب من طلبة مدارس الجمعية لإتمام دروسه بأوربة، وأن تخصص ثلاث جوائز
للثاني، والثالث، والرابع من التلامذة مكافأة لهم، وتشجيعًا لإخوانهم) ... إلخ.
ويؤخذ من هذا التقرير أن الجمعية قد اشترت أطيانًا مساحتها 16 فدانًا
وكسورًا، و4 آلاف و7 مئة و48 مترًا و27 سنتيمًا، وقد دفعت ثمنًا للجميع 9
آلاف وخمسمائة و24 جنيهًا و244 مليمًا، وأن النجاح في امتحان القسم الابتدائي من
مدارسها زاد على 67 في المئة، ويَسُرّ كل مسلم، وكل محب للخير استمرار نجاح
الجمعية وخدمتها للفقراء بالتعليم والإعانات.
***
(ذكرى الماضي أو: سياحة في الجبل)
مقالات وجدانية خيالية نشرها كاتبها محمد أفندي صبري الطالب بجامعة
باريس، وناشر كتاب (شعراء العصر) ، وقد اعتنى بجمعها، وطبعها كتابًا
مستقلاً صالح أفندي شكري أحد عمال جريدة المؤيد، وهي تُطلب منه، ومن
المكتبات الشهيرة.
***
(رواية الفلاح)
قصة تمثيلية أدبية وضعها عبد العزيز بك فريد ناظر مدرسة خليل أغا بمصر،
وحرر عبارتها الأستاذ الشيخ محمد الجمل أحد مدرسي المدرسة، ووضع أزجالها
الشيخ أحمد القوصي، وقد مثلها تلاميذ المدرسة في احتفالها السنوي، وهي مفيدة
جدًّا بما تحذر من البذخ والسرف، وتنقب عن العيوب الفاشية في هذا البلد، ومثلها
في ذلك ما وضعه عبد العزيز بك قبلها، وقد طُبعت طبعًا نظيفًا على ورق جيد
بمطبعة الخاصة الخديوية (السلطانية) في سنة 1914.
__________
(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.(18/315)
رجب - 1333هـ
يونيه - 1915م(18/)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(7)
العلوق وسبب الذكورة والأنوثة ومدة الحمل:
إذا تلقحت البويضة سقطت في الرحم بسبب ما في البوقين من الأهداب؛
وبسبب انقباضهما، ويجوز أن يكون للبويضة أيضًا حركة ذاتية كالأميبا، وأرجح
الأوقات لحصول الحمل أن يكون الجماع عقب الطهر - في الأسبوع الأول - من
الحيض، ويقال: إن هذا الجماع محرم عند اليهود، وهو من غرائب التشريع.
وبويضات المبيض الأيمن يرجح عند بعض العلماء الآن أنها هي التي يتولد
منها الذكر، وبويضات المبيض الأيسر يتولد منها الأنثى، ولذلك إذا نامت المرأة
على جانبها الأيمن بعد الجماع رجح إتيانها بالذكر، وقد عرف هذه الفائدة ابن سينا
كما في قانونه.
فإذا كان الجماع بعد حيض متفق مع انفجار بويضة المبيض الأيمن كان النسل
ذكرا، وبالعكس.
وإذا سقطت البويضة في الرحم علقت بغشائه المخاطي، وابتدأ تكوّن الجنين
في داخلها بانقسامها إلى عدة أقسام، ويكون الجنين في بطن أمه محاطًا بالرحم، ثم
بغشاءَيْنِ آخرين تابعين لنفس البويضة، وتكبر البويضة كبرًا عظيمًا، وتمتلئ
بسائل يحيط بالجنين من جميع جهاته يسمى السائل (الأمنيوسي [1] ) ، ويكون
الجنين معلقًا في هذا السائل بحبله السري الملتصق بالمشيمة بجدار الرحم، ويكون
رأس الجنين إلى الأسفل غالبًا، وظهره إلى الأمام، ولا يُفْهَم مما تقدم أن عروق
الجنين متصلة بعروق الرحم، بل هما متجاوران فقط، بحيث لا تختلط دورتهما
الدموية؛ ولكن المواد المغذية تصل من الأم إليه بطريق (الأسموز) ، وكذلك
المواد الفاسدة التي تخرج من الجنين تصل إلى دورة الأم بهذه الواسطة أيضًا بلا
اختلاط بينهما، ولا يتنفس الجنين في بطن أمه؛ وإنما دمه يتنقى بالطريقة
المذكورة، وأول تنفسه يكون عند استهلاله، أي صراخه عند خروجه من الرحم.
ومدة الحمل أقلها خمسة أشهر، أو أربعة ونصف، وأكثرها أحد عشر شهرًا
وقد يحصل في أحد البوقين حمل، أو في البطن خارج الرحم، وفي هذا الحال قد
تحمل الأم جنينها ميتًا عدة سنين؛ ولكن لا تضعه إلا بعملية جراحية.
شَبَه الجنين:
يقال: إن شَبَه الجنين تابع لمقدار الحيوانات المنوية الملقحة للبويضة، فإذا
دخلت بكثرة في البويضة أشبه أباه سواء أكان ذكرًا أم أنثى، وإذا كانت قليلة أشبه
أمه كذلك، فإذا كان الجماع بشدة ومقدار المني كثيرًا، وأنزل الرجل قَبْل المرأة
كثر دخول الحيوانات المنوية في البويضة فأشبه الولد أباه، إذا كان مقدار المني
قليلاً، وأنزلت المرأة قبل الرجل بطلت حركة الامتصاص من رحمها، فنظرًا لذلك
ولقلة مقدار المني يصل عدد قليل من الحيوانات المنوية إلى البويضة؛ فيكون الولد
شبيهًا بأمه، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، ولذلك روى البخاري أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: " إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء
المرأة ماء الرجل نزعت الولد " أي لأنه في هذه الحالة تبطل حركة الرحم في جذب
المني إليه؛ فتكون الحيوانات الداخلة فيه أقل مما إذا حصل القذف أثناء حركة
الرحم، أي قبل إنزال المرأة، والولد كل مولود ذكرًا كان أو أنثى.
النطفة والعلقة وأطوار الجنين وغير ذلك:
مما تقدم يُفهم أن الإنسان مخلوق من البويضة الملقحة بحيوانات الرجل،
وهذه هي النطفة الأمشاج التي ذكرها القرآن الشريف (76: 2) ، فإن النطفة هي
كل ماء قل أو كثر، فمني الرجل نطفة، وبويضات المرأة مع السائل السابحة فيه
المنفرز من حويصلات (جراف) ، ومن البوق يسمى أيضًا نطفة، والأمشاج
الأخلاط، فاختلاط المني بهذا السائل الذي فيه البويضة هو الضروري للحمل.
ولا يتوهمن أحد أن نزول البويضة من المبيض مما تشعر به المرأة، أو تلتذ
له بل هو شيء لا تشعر به مطلقًا.
ولا يمكن رؤية البويضة بالعين المجردة، وإن كانت من الخلايا الحيوانية
الكبيرة، فإن قطرها 0.2 من المليمتر، أما قطر كريات الدم البيضاء فهو 0.01
وقطر الحمراء 0.0075 من المليمتر.
واعلم أن الخصيتين تتكونان في الجنين في بطنه خلف البريتون، وتحت
الكليتين بقليل، ثم تنزلان شيئًا فشيئًا حتى تكونا في الصَّفَن في الشهر التاسع من
الحمل، فإذا وُلد الجنين قبل ذلك في الشهر السادس مثلاً كان الصفن خاليًا منهما.
وفي أثناء التكوين تنقسم بويضة المرأة كلها داخل غشائها الذي يتمدد تدريجيًّا
كلما كبرت، وكذلك بويضة الحيوانات الثديية، أما بويضة الطيور فينقسم جزء
منها فقط - كما تَقَدَّم -.
أما العلقة المذكورة في القرآن الشريف، فهي أول أطوار الجنين وتكون
مركبة من عدة خلايا صغيرة ككريات الدم لم يتميز شيء من أجزائها، وهذه الخلايا
تنشأ من انقسام البويضة بعد التلقيح إلى عدة خلايا فلذا تشبه علقة الدم [2] (clot)
خصوصًا التي تتركب من الكريات البيضاء التي تسمى بالإنكليزية (Buffy
coat) (راجع ص48 من هذا الكتاب وص 410 من كتاب فسيولوجيا هاليبرتون
Halliburton) .
فإذا تمت هذه العلقة أخذت تتنوع خلاياها، وتتميز بعض أجزائها عن البعض
الآخر، ويكون حجمها في آخر الشهر الأول كحجم بيضة الحمامة وهي (المضغة)
لأنها تكون قدر ما يمضغ في الفم، وبعضها مُخَلَّق، والبعض الآخر غير مُخَلَّق كما
قال تعالى في سورة الحج (22: 5) ، ومما يظهر في ذلك الوقت الأطراف العليا،
والأطراف السفلى، ويتميز القسم الأيمن من القلب عن القسم الأيسر، ثم تظهر آثار
العظام الأخرى.
وفي الأسبوع السابع يبتدئ ظهور العضلات بعد ظهور العظام المذكورة،
وذلك بتنوع الخلايا التي كانت تحيط بالعظام، والمراد هنا الغضاريف التى تصير
عظامًا، كما أن المراد بالخمر في قوله تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: 36) العنب الذي يصير عصيره خمرًا.
فإذا تم نمو الجنين، ووُلد خرج وهو لا يدري شيئًا، ثم يتعلم كل شيء
بالتدريج حتى يصير كأنه خلق آخر، فبعد أن كان لا يعي شيئًا يصبح يخترق
الحجب بعقله، ويصل إلى الملكوت الأعلى بفكره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14)
ومما تقدم تجد أن الأطوار المذكورة في القرآن هي عين الحقيقة، وهاك بيانها
كما وردت في سورتي الحج والمؤمنين:
(1) طور النطفة: وهي الماء فتطلق على مني الرجل، وعلى السائل
الذي تسبح فيه البويضة، وأصله من حويصلة جراف ومن البوق، كما سبق.
وفي هذا الطور تُلقِّح الحيوانات المنوية البويضة فتكون النطفة - بعبارة
القرآن - أمشاجًا.
(2) طور العلقة: وهي انقسام البويضة بعد تلقيحها إلى عدة خلايا متماثلة
لا تمتاز واحدة منها عن الأخرى، وتكون كقطعة الدم الجامدة.
(3) طور المضغة: وهي البويضة إذا كبرت حتى صارت قدر ما يُمضغ
ويكون بعضها مخلقًا، وبعضها غير مخلق، وهو طور التخليق والتكوين الابتدائي
(4) طور الإتمام: وذلك يبتدئ بظهور الأجزاء الرخوة كالعضلات التي
تكسو العظام، وينتهي هذا الطور بتمام الخلق.
(5) طور التربية والتعليم بعد الولادة: وهو المُعَبَّر عنه في القرآن بالخلق
الآخر؛ لأن الإنسان الذي كان أحط من الدابة يصبح أرقى الأحياء قاطبة؛ لذلك قال
سبحانه جل شأنه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) .
هذا وقد يحصل التلقيح فإذا وصلت البويضة إلى الرحم، وعلقت به وماتت
بسبب ما كالتهاب غشائه طردها الرحم أو امتصها، وهذا الامتصاص هو المُعَبَّر
عنه في القرآن الشريف (13: 8) بقوله {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} (الرعد: 8)
وقد يمتص الرحم الجنين، أو أحد التوأمين في أحوال أخرى.
أما قوله تعالى {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} (الزمر: 6) فالظلمات إما أن يراد بها ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة
الأغشية الجنينية المحيطة بالسائل الأمنيوسي.
وإما أن تكون الظلمات هي: ظلمة المبيض الذي تتكون فيه البويضة في
داخل حويصلة جراف، ثم ظلمة البوق حينما تتلقح البويضة بالحيوانات المنوية،
ثم ظلمة الرحم الذي يتخلق فيه الجنين.
وفي أثناء الولادة تنثقب أغشية الجنين، وينسكب ماؤها فيخرج الجنين، ثم
تتبعه هذه الأغشية مع المشيمة (وهي أغلظ جزء في الأغشية، وفيها يندغم الحبل
السري، ومنها يتغذى الجنين وإليها تخرج فضلات جسمه) وأيضًا تسقط أغشية
الرحم، ثم تتجدد بعد الولادة، والجنين في بطن أمه لا يتنفس ولا يأكل ولا يشرب
وإنما يأخذ من دم أمه كل ما يحتاج إليه؛ وكذلك لا يتبرز بل تتجمع في أمعائه
إفرازات الكبد والأمعاء وتخرج بعد الولادة وتسمى بالعِقي.
وقد يبول الجنين في بطن أمه في أشهره الأخيرة، فإن السائل الأمنيوسي وجد
فيه مقدار قليل من البولينا بسبب بول الجنين فيه.
ومقدار السائل الأمنيوسي نحو لتر أو اثنين عادة، ووظيفته حماية الجنين من
الضغط عليه، وحفظه من التصاقه بالأغشية، وتمديد عنق الرحم عند الولادة،
وغسل المهبل حينئذ.
والجنين يتحرك في بطن أمه بنفسه وبحركتها وهذه الحركات تشعر بها الأم
وتبتدئ في الشهر الخامس غالبًا.
وقد يحصل حمل فوق حمل بمعنى أنه إذا حصل جماع بعد الحمل الأول
ببعض أسابيع يجوز أن يحصل حمل آخر، وهذا غير الحمل التوأمي المشهور،
فإن سببه أن تتلقح فيه بويضتان، أو أكثر في وقت واحد، أو وقت قريب، أو
يكون للبويضة الواحدة أكثر من نواة، وإذا كانت البويضات من مبيض واحد كانت
التوائم من نوع واحد ذكرًا أو أنثى بحسب المبيض اليمين أو اليسار، وتكون التوائم
أيضًا من نوع واحد إذا كانت ناشئة من بويضة واحدة ذات نويات متعددة.
أسباب العقم:
هذه الأسباب عديدة، منها: أن يكون السبب فساد زرع الرجل لمرض في
خصيتيه، ومنها مرض المبيضين أو البوقين أو الرحم نفسه، أو وجود إفرازات
في المهبل شديدة الحموضة بحيث تقتل الحيوانات المنوية، وأشهر الأمراض التي
تُحْدِث العقم في الرجل والمرأة داء السيلان، ومن الأسباب أيضًا الجماع المختلط
كما في الزنا، بأن يتوارد عدة رجال على امرأة واحدة، ولذلك قيل في المثل
الإنجليزي " لا ينمو العشب حيث يكثر دوس الأقدام ".
ومن الأسباب أيضًا ما لم تُعْرَف إلى الآن حقيقته كأن تكون المرأة والرجل
سليمين من كل آفة، ومع ذلك لا يأتيان بنسل، فإذا تزوج هذا الرجل امرأة أخرى
وتزوجت هي رجلاً آخر أنتج كل منهما.
وإذا أريد منع الحمل فلا طريقة أحسن لذلك سوى قتل الحيوانات المنوية أثناء
الجماع، وذلك بوضع سوائل أو غيرها في المهبل تكون قتالة لها كمحلول السليماني
بنسبة 1 - 2000، ومحلول حمضي من سلفات الكينيين، فتغمس قطعة من القطن
بهذه السوائل أو غيرها، وتحشى في المهبل بحيث تسد فوهة الرحم، فهذه الطريقة
في الغالب قد تبطل الحمل ما دامت مستعملة فإذا تركت عاد الحمل.
مراعاة الصحة في الجماع:
الإكثار من الجماع ضار جدًّا مؤد إلى الضعف الجسماني والعصبي، ويُعَرِّض
الإنسان إلى أمراض كثيرة كالالتهابات الكلوية، والشلل العام للمجانين، ويحدث
الاصفرار، وخفقان القلب وضعفه، فلذا يجب اجتناب الإفراط فيه، والمحمود منه
طبًّا هو ما نصوا عليه في كتب الشرع، وهو أنه ينبغي إذا اشتهته النفس اشتهاء
حقيقيًّا بدون أن يهيج الإنسان شهوته بمهيج ما، وتختلف الرغبة في الجماع والقدرة
عليه باختلاف الأشخاص، ولذلك لا يمكننا تحديد القدر الصحي منه بالضبط،
والغالب أنه لا يضر الإنسان إذا أتاه مرة أو مرتين في الأسبوع بشرط أن يكون
سليم البنية قوي الجسم.
ولا يجوز إتيان الحائض شرعًا وطبًّا - كما سبق بيانه - وكذلك لا يجوز
الجماع عقب الأكل مباشرة، ولا عقب التعب الجثماني أو العقلي الشديد، وأحسن
وقت له أن يكون بعد مضي الثلثين من وقت النوم أو النصف؛ فإن النوم بعده نافع
للجسم مانع من إصابته ببعض الأمراض كالزكام والسعال وغيرهما مما قد ينشأ عن
الضعف الذي يُحْدِثه، أما ضرره في أول الليل فهو لأن الجسم في ذلك الوقت يكون
تعبان والمعدة في الغالب تكون ممتلئة، فلذا يحسن النوم قبله وبعده.
ومن أهم ما يقوي الجسم وينشطه على هذا العمل، ويزيل الآلام، ويمنع
بعض الأمراض التي قد تنشأ عنه - الغُسل خصوصًا بالماء الحار؛ ولذلك كان
الغسل واجبًا شرعًا.
أما الاستمناء باليد فهو من أضر الأشياء للصحة والعقل، وهو أضر بكثير
من الإفراط في الجماع، فإنه يُضْعِف قوى الجسم والمخ والأعصاب، وكثيرًا ما
يصاب صاحبه بالصرع أو بالجنون، وهذا الضرب من الاستمناء يسمى أيضًا
(جلد عُمَيْرَة) وينسبه الإفرنج إلى رجل من بني إسرائيل من أبناء يهوذا يسمى
(أونان) ، ولكن الوارد في التوراة أن هذا الشخص كان يأتي العَزْل، لا الاستمناء
باليد، وغضب الله عليه لأنه لم يرد أن يقيم نسلاً لأخيه (راجع سفر التكوين 38:
6 - 10) .
ومن البنات من تفعل هذا الفعل القبيح أيضًا خصوصًا إذا كان بظرها كبيرًا
ولم يُقْطَع.
أما العَزْل من الوجهة الطبية، فهو أيضًا مضيع للذة، مضر بالصحة،
والظاهر أنه مكروه في الشريعة الإسلامية، ولذلك بَيَّنَ رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في الحديث السابق أنه من العبث الذي يتنزه العاقل عنه، خصوصًا لأنه
مضيع للذة بلا فائدة محققة، وقال فيه أيضًا: (ذلك هو الوأد الخفي) ، وذلك لأنه
وإن لم يكن مانعًا محققًا للنسل، فهو لا شك مقلل له كثيرًا فكان إتيانه لذلك مذمومًا؛
لأنه ينافي كثرة التناسل التي حث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
مضار الزنا:
للزنا مضار كثيرة منها الإصابة (1) بالداء الإفرنجي (2) أو السيلان
(3) أو القرحة الأكالة (4) أو القرحة الرخوة (5) أو القمل العاني وغيره،
ويوجد بعض أمراض أخرى جلدية وباطنية قد تعدي بسببه مثل الجرب والأرضة
(Tinea) ، والسل الرئوي، ولا تنس مع هذا مضاره الأدبية والدينية
والاجتماعية والمالية وكل هذه الأشياء الأخيرة ليس من غرضنا التكلم عليها هنا
وإليك بعض تفصيل ما ينشأ عنه من الأمراض:
(1) الإفرنجي:
ويسميه الإفرنج (Syphilis) وهي كلمة غير محقق أصلها، ويمكننا أن
نسميه بالعربية (التهويش) ، وبلسان العامة (التشويش) ، وأما كلمة الزهري
فهي في الحقيقة نسبة لجبل الزهرة - كما سبق - وتطلق عند الإفرنج على أهم
الأمراض التي تنشأ عن الجماع، فهي عندهم ليست خاصة بهذا الداء وأصله من
أمريكا ودخل مصر بدخول الإفرنج فيها؛ ولذلك سمي (بالداء الإفرنجي) .
ولهذا الداء ثلاثة أطوار:
(1) الطور الأول: ظهور القرحة، وهي شيء كالدمل يظهر في العضو
مكان التلقيح بالميكروب، فمثلاً إذا جامع الرجل امرأة مصابة بهذا الداء، وكانت
قروحه في فرجها فقد ينتقل إليه الداء، وتظهر عنده هذه القرحة الأولى في فرجه أو
ما قاربه كالعانة، وكذلك إذا قَبَّلَهَا في فمها مثلاً، وكان فيه شيء من قروحه وبثوره
ظهرت في فيه أولاً، وقد ينتقل بواسطة أدوات الأكل والشرب وغيرهما.
وهذه القرحة تظهر عادة بعد خمسة أسابيع من الجماع أو التقبيل وغيرهما،
وذلك لأن ميكروب الزهري (وهو حلزوني الشكل) [3] إذا انتقل إلى الإنسان
يتكاثر في جسمه حتى يمتلئ الدم به، وعندئذ تظهر القرحة بطور الحضانة أو
التفريخ، ومما يساعد على دخول الميكروب وجود أي جرح أو سَحج في بشرة
الجلد الذي يلامس المرأة المصابة؛ ولكنه غير ضروري، والقروح الإفرنجية
الأولى منها ما يكون صلبًا، ومنها ما يكون رخوًا تسيل منه مِدَّة، وصديد، وهذه
القروح كثيرة في فروج الزناة والزانيات.
(2) الطور الثاني: ظهور طفح مخصوص في الجسم كله، له أشكال
متعددة، مع قروح في الأغشية المخاطية أيضًا، وله أعراض أخرى غير ذلك،
كضخامة الغدد اللمفاوية في الجسم كله خصوصًا في الأربية والقفا، وكانوا يقولون
إن الطور الأول والثاني هما المُعْدِيان دون الثالث؛ ولكن ثبت الآن حصول العدوى
في جميع الأطوار الثلاثة، إلا أنها في الأخير منها قليلة جدًّا أو نادرة، وإذا تزوج
شخص مصاب أصيب نسله بالإفرنجي أيضًا، ويبتدئ ظهور الطور الثاني بعد
مضي 6 أسابيع إلى 3 أشهر من ظهور القرحة الأولى.
(3) الطور الثالث: هو عبارة عن ظهور أورام متعددة تصيب أي جزء
من أجزاء الجسم، وهذه الأورام عبارة عن مادة تشبه الأزرار اللحمية التي تلتحم
بها الجروح، وتسمى هذه الأورام بالأورام الصمغية، وإذا أصابت أي جزء من
الجسم أفسدته وشوهته، وكثيرًا ما تبطل عمله أو تعطله على الأقل، وهذا الطور
يبتدئ بعد سنة أو سنتين من مبدأ التلقيح، وربما استمر إلى نهاية العمر بأشكال
متعددة تختلف باختلاف العضو المصاب.
ومن المشاهدات الغريبة في أمر هذا الداء أن الطفل المولود من أب مصاب
به لا يعدي أمه؛ وإنما يعدي المراضع الغريبات، ويسمى ذلك بقانون كوللس
(Colles) ، ويعللون ذلك بأن الأم تلقحت بالمرض تلقحًا خفيفًا لم تظهر أعراضه.
والإفرنجي من الأدواء العضالة التي يمكننا أن نقول: إنها من أهم الأسباب
لأمراض جميع أعضاء الجسم، ويؤثر في الأعصاب تأثيرًا سيئًا جدًّا، فَيَحْدُث فيها
أنواع كثيرة من الشلل والآلام، وقد يؤدي إلى المرض المذكور سابقًا المسمى
بالشلل العام للمجانين، ويكفي في ذمه أن نقول إن ضرره ليس قاصرًا على
الشخص نفسه، بل قد يقتل جنينه في بطن أمه، وإذا ولد كان النسل ضعيفًا مشوهًا
مصابًا بالقروح المتنوعة.
وأحسن الأدوية له في الطور الأول والثاني الزئبق ومركباته، وفي الطور
الثالث يودور البوتاسيوم، وكذا حقنة 606 [4] أو 914 في الأوردة أو العضلات -
وكل منهما مركب زرنيخي - استُعمِل أخيرًا في معالجته، وسيأتي الكلام عليها
تفصيلاً في الجزء الثاني، وللوقاية منه يجب غسل ما لامس المريض غسلاً جيدًا
بالماء والصابون، ثم بالأدوية المطهرة كالسليماني وغيره بنسب مخصوصة بعد
اللمس مباشرة.
(2) السيلان:
السيلان داء يصيب بعض الأغشية المخاطية وغيرها فيحدث فيها التهابًا يسيل
منه صديد، وله ميكروب مخصوص معروف، وأكثر الأعضاء إصابة به الفرج
والدبر والأنف والعين - ويسمى فيها بالرمد الصديدي - ومن مضاعفاته التهاب
الخصيتين والخراجات الأُرْبيَّة والتهاب المثانة والتهاب الرحم والبوقين والمبيضين
وغير ذلك، وقد ينشأ عنه مرض في المفاصل مؤلم جدًّا، ويكون معضلاً (عسر
الشفاء) ، وهو من أعظم الأسباب المؤدية للعقم في الرجل والمرأة - كما سبق -.
(3) القرحة الأكالة:
هي قرحة مخصوصة تضاعف القروح الإفرنجية وغيرها؛ ولكن حصولها
في القروح الإفرنجية أكثر منه في غيرها، فإذا أصابت القضيب مثلاً أو الفرج
أكلته كله، أو بعضه وربما أفقدت الإنسان خاصية التناسل طول حياته فيضيع نسله.
(4) القرحة الرخوة البسيطة:
هي قرحة أخرى لها ميكروب مستطيل الشكل أكثر ما تصيب الفرج في الذكر
والأنثى، فتذهب منه جزءًا صغيرًا، وكثيرًا ما تسبب خراجًا في الأربية أيضًا
وهي من أهون الأمراض الزهرية (أي التي تنشأ من الجماع) .
(5) القمل:
يشاهد في كثير من الأشخاص قمل في رءوسهم وأجسامهم وعانتهم وهو ثلاثة
أنواع، وينتقل من شخص إلى آخر بالملامسة أو المجاورة، وقمل الجسم هو
السبب الوحيد لنقل الحمى الراجعة قطعًا، فلذا يجب العناية بتنظيف الجسم منه،
زد على ذلك كونه يُحْدِث حكة في الجسم، ويقلق راحة الإنسان، وقد تنشأ عنه
حمى غير الحميات المذكورة آنفًا لسم فيه، أو لاضطراب عصبي يحدث من قرصه
ومن الطرق لإزالته غلي الملابس وحلق الشعر والإدهان بزيت الصخر (البترول)
ومرهم الراسب الأبيض - إذا كان الجزء المصاب محدودًا - وإلا اكْتُفِيَ بما ذُكر
قبله خوفًا من امتصاص الزئبق الذي في هذا المرهم فيسمم الجسم، وتجب إطالة
مدة غلي الملابس؛ فإنه شوهد أن بعضه يعيش في طيات الثياب وإن وضعت في
الماء الغالي مدة خمس دقائق أو أكثر، وبيض قمل الجسم (الصئبان) يشتمل أيضًا
على ميكروب الحمى التيفوسية، والحمى الراجعة، فإذا فقس وخرج منه قمل جديد
كان ناقلاً أيضًا لهذين النوعين من الحمى.
(6) الجرب:
الجرب داء يصيب الجلد خصوصًا ما بين الأصابع والفخذين وأعضاء
التناسل، وينشأ من حُييوين أصغر بكثير من القمل العاني، يسمى باليونانية
أكروس [Acarus] (ومعناها لا يتجزأ) وله ذكر وأنثى، أما الأنثى فبعد أن
يلقحها الذكر تتخذ من الجلد جحورًا تبيض فيها نحو خمسين بويضة، ويبقى الذكر
فوق سطح الجلد، فإذا أفرخت البويضات خرجت حييوينات جديدة، وإنما تفرخ
البويضات حينما تظهر على سطح الجلد بزوال البشرة وتأكلها بالتدريج، وتحمل
الإناث من جديد وتثقب الجلد أيضًا كأمهاتها وهلم جرا، وما تُحْدِثه هذه الحييوينات
في الجلد من التهيج يكون سببًا تحصل به حكة شديدة تنشأ عنها قروح وبثور تؤذي
الإنسان كثيرًا.
ومن أحسن طرق علاجه الاستحمام بالماء والصابون مع الدلك الشديد جدًّا
حتى يزول جزء من البشرة، وتنفتح الجحور بقدر الإمكان، ثم يُدهن الجسم بمرهم
الكبريت، ويجب غلي جميع الملابس، وكل ما لامس جسم المصاب منعًا لتكرار
العدوى له، أو انتقالها إلى غيره، ويتكرر الاستحمام والإدهان بالمرهم بضعة
بضعة أيام حتى يزول الداء.
(7) الأرضة:
الأرضة داء - يسمى باللاتينية تينيا Tinea [5]- يصيب الجلد أو الرأس أو
الأظفار، فيحدث بهما التهابًا وحكة، وهو ينشأ من نمو فطر (أحياء نباتية مجهرية)
في هذه الأجزاء وأحسن علاج له النظافة التامة، والأدوية المطهرة كالمراهم
الزئبقية والكبريتية وصبغة اليود ونحو ذلك، ولكن يجب قبل ذلك نتف شعر المكان
المصاب أو حلقه - والنتف أولى - وكذلك تُغلى الملابس لمنع تكرار العدوى.
(8) السل:
سنفصل القول في السل تفصيلاً في باب الأمراض المعدية، إن شاء الله.
ويكفي أن نقول هنا كلمة مختصرة في عدواه بطريق التنفس:
ينشأ هذا الداء من ميكروب مستطيل الشكل كالعصية ولذلك يسمى باللاتينية
باسيلس (Bacillus) أي العصا الصغيرة [6] اكتشفه البكتيريولوجي الألماني
الشهير المسمى كوخ (Koch) سنة 1882 م، وهو يوجد كثيرًا في بصاق
المصابين بالسل، ويخرج أثناء السعال في ذرات البلغم وينتشر حول المصاب إلى
بعد متر ونصف تقريبًا، فيكون الجو حوله ملوثًا به، فإذا دخل مع التنفس في رئة
شخص مستعد لهذا الداء أصيب به، وذلك بتكون درنات صغيرة بيضاء اللون في
الرئة أو غيرها، وهذه الدرنات تكبر وتتكاثر وينضم بعضها إلى بعض وتُحْدِث
فيها تجاويف تسمى بالكهوف، ويحصل سعال شديد مصحوب بدم أو صديد،
وترتفع حرارة المريض، وتضعف قواه، وينحف جسمه ويصاب بالأرق من كثرة
السعال وغيره بالعرق الكثير بالليل، وقد يحصل له إسهال متعاصٍ، أو بحة في
الصوت من التهاب الحنجرة وتقرحها وغير ذلك حتى تنهك قواه فيموت.
***
مضار الزنا الاجتماعية
هذا وإننا نختم هذا المبحث بذكرى ونصيحة، إذا لم تكن من وظيفة الطبيب
من حيث هو طبيب، فهي مما يحسن منه من حيث هو إنسان، وهي التحذير من
مضار الزنا الاجتماعية، وليس من غرضنا التكلم عليها هنا تفصيلاً - كما قلنا -
إلا أننا نُذَكِّر الناس إجمالاً بحقيقة لا تعزب عن عقل المفكر: تلك أن الزنا يُفقد
المحبة الأبوية لنسل الزانيات، فلا يهتم المرء بحياة الأطفال، ولا بصحتهم، ولا
بتربيتهم، ولا بمستقبلهم اهتمام من يعلم أن المولود هو ابنه، حتى يؤثره على نفسه
في كل شيء غالبًا، فيكثر بسبب ذلك موت الأطفال أو قتلهم، وتسُوء صحتهم وتفسد
أخلاقهم، ويصبحون عالة على المجتمع، أو متشردين مفسدين، ولا تحسن الأم
وحدها القيام بتلك الشؤون على ما لديها من الشواغل والصوارف عنها، كتحسين
منظرها وملاقاة الرجال المتنوعين، والملق لكل منهم، والتحبب إليهم، فهذه
الشؤون لا تدع لها وقتًا، ولا قلبًا توجهه إلى شيء آخر، ولذلك ترغب الزانيات
عن النسل ويقتلنه إذا وجد، أو يلقين به في الطرقات، وفي ذلك من الأضرار
بالأمة ما فيه، زد على ذلك أن الزنا يُحْدِث البغض والحقد والحسد بين الأفراد
والبيوت، ويقطع كل رابطة للمودة والرحمة بين المرء وزوجه، ويحمل الناس
على خيانة بعضهم بعضًا، وعلى الكذب ويضيع الحقوق في المواريث المالية
وغيرها، فتفسد الأخلاق، وتكثر الشحناء والمخاصمات التي تسفك فيها الدماء،
وتستباح الأموال والأعراض، فتتنافر الأمة ويتناقص عددها، وتزول روابط
المحبة من بين أفرادها، وفي ذلك هدم وإزالة لعزها وسلطانها، وتقويض لدعائم
بنيانها، فتهوي في مهاوي الفساد حتى تستقر في الدرك الأسفل من الفقر والضعف
والانحطاط والتأخر لذلك وصف الله تعالى الزنا بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ
سَبِيلاً} (الإسراء: 32) لِمَا يُوجِده بين الناس من البغض والحقد والكره فيهدم
أركان الأسرة أولاً، والأمة ثانيًا، والمجتمع الإنساني ثالثًا.
***
اللواط
الأمراض التي تنشأ عنه، هي عين الأمراض السابقة تمامًا، وتزيد عنها
غالبًا في إحداث جروح في الذكر وفي الشرج، وإذا تضاعفت هذه الجروح ببعض
الأمراض نشأ عنها ما لا تُحْمَد عقباه، وترتخي عضلات الشرج حتى قد يسهل
نزول البراز وغيره بغير إرادة الإنسان، وهو مفسد للأخلاق، ومبيد للشهامة
والرجولية، وقاضٍ على الآداب كافة، وما انغمست فيها أمة إلا انحطت وتدهورت
لتخنث رجالها، وذهاب نجدتهم، ومروءتهم، وهمتهم، فلا تصلح بعد ذلك لمقاومة
أعدائها؛ فيتغلبون عليها وتبيد شيئًا فشيئًا، زد على هذا أن الرجال المنغمسين في
تلك الشهوة الدنيئة يقل ميلهم إلى النساء كثيرًا؛ فيقل عدد الأمة فتضعف أيضًا من
هذه الوجهة، نعم إن اللواط أخف ضررًا من الزنا من وجهة واحدة اجتماعية،
وهي أنه لا تضيع بسببه الأنساب، ولا توجد به اللقطاء، فهو أقل بذلك إضاعة
لحقوق العباد والأولاد، أما تحريمه فيكفي في بيانه ما ورد في القرآن الشريف في
قصة لوط، وأما حده فقد ورد فيه قوله تعالى على أصح التفاسير: {وَالَّلذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} (النساء: 16) الآية , فلوِليّ الأمر أن يؤذي أهل اللواطة
بما يتفق عليه الأمة من العقاب الرادع لأهل هذه الطائفة المحتقرة الدنيئة.
وقد أجمعت الأمم على استقباح هذه الشهوة البهيمية حتى سماها الإنجليز
(الرذيلة المغايرة للطبيعة) [Unna tural Vice] .
***
سن الزواج بالفتيات
كتبت مقالة بهذا العنوان حينما أراد أحد المحامين المصريين (زكريا بك نامق)
أن يطلب من الحكومة سَن قانون تحدد فيه سِن الزواج للبنات بالسنة السادسة
عشرة، ولاشتمال هذه المقالة على عدة فوائد تناسب الفصول السابقة في الكلام على
الجهاز التناسلي أردت إثباتها هنا لإفادة قراء محاضراتي هذه وقد أنصف هذا
المحامي الفاضل فكف عن اقتراحه هذا بعد ظهور مقالتي هذه في الجرائد ومقالات
غيري من أفاضل الأطباء والفقهاء و [سحبه] بعد أن قدمه للجمعية التشريعية.
وهاك نص مقالتي كما نُشرت في عدد 10956 من جريدة الأهرام الصادر
يوم الخميس 12 مارس سنة 1914 - 15 ربيع الآخر سنة 1332:
لما لهذا الموضوع من العلاقة الكبرى بالشريعة الإسلامية الغراء، وبالمسائل
العلمية والاجتماعية والقانونية أردت أن أمحصه تمحيصًا، وأحرر مسألته تحريرًا،
ليصل حكمنا فيه إلى نتيجة نافعة لأمة مبنية على أساس متين من البحث والنقد حتى
لا يكون مبنيًّا على التسرع، وحب التقليد فأقول:
من المعلوم أن سن البلوغ تختلف باختلاف حرارة الجو والبيئة والوراثة،
ففي الهند مثلاً كثيرًا ما تبلغ الفتاة في السنة التاسعة من عمرها، ولكن في البلاد
الباردة كإنجلترة تجد أن سن البلوغ هو من 14 - 16 سنة، وفي البلاد التي هي
أشد بردًا منها يحصل البلوغ في السنة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، أما في
مصر فالغالب أن يكون في السنة الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، وذلك في مثل
مديرية الجيزة لا في مديرية أسوان، وللبيئة أيضًا تأثير في زمن المحيض، فإنك
ترى أن الفتيات اللاتي يكثرن من الاختلاط بالشبان يُسرع مجيء المحيض إليهن،
وكذلك اللاتي يكثرن من قراءة الروايات الغرامية ونحوها ومشاهدة تمثيلها، أما
الوراثة فهي تؤثر أيضًا في قرب زمن البلوغ، فإذا بلغت الأم وهي صغيرة جدًّا
كانت ابنتها مثلها في ذلك.
وفي سن البلوغ يكبر الحوض، ويظهر شعر العانة، وتكبر أعضاء التناسل
والثديان، وتستعد المرأة للقيام بوظيفتها التناسلية التي خُلقت لأجلها، وقد اتفقت
كلمة علماء التشريح على أن نمو عظام الحوض الذي من شأنه أن يؤثر في سعة
أقطاره يتم في زمن البلوغ أو بعده بقليل، وذلك لا ينافي أن التحام عظام الحوض
لا يتم إلا في نحو الخامسة والعشرين غالبًا، وإذا حملت المرأة لانت مفاصل
حوضها، وتمددت لا فرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة، وإنما إذا تأخرت المرأة
في الزواج يبست عضلات العجان والرحم، وربما نشأ عن ذلك إجهاض أو عسر
في الولادة بسبب عسر تمدد هذه الأجزاء التي تفقد مرونتها الطبيعية كلما كبرت
البنت، ويغلب العقم أيضًا فيمن يتأخرون عن الزواج.
وقد وجد بعض الباحثين مثل (بروس ودنلوب) في بلاد الحبشة والبنغال
أمهات لا يزيد عمر إحداهن عن إحدى عشرة سنة، وكذلك وجد في أوربة - وإن
كان ذلك قليلاً - أمهات ولدن أولادًا أصحاء في السنة الثالثة عشرة من عمرهن،
حتى وجدوا بنتًا حاملاً في سويسرة في السنة التاسعة، وظهور الحيض في هذه
السنة ليس نادرًا في أوربة كما تقول كتبهم.
لذلك كله ولغيره اعتبرت الشريعة الإنكليزية مثلاً أن السن القانونية للزواج
(عندهم) هو 14 للذكور و12 للإناث، أما زواج الأطفال القاصرين فتعتبره صحيحًا
بشرط أن لا يبدو من الطرفين إذا وصلا إلى سن البلوغ طعن في العقد السابق
(راجع صفحة 56 من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي وفرير
الإنكليزيين) ، فمن أعجب العجائب بعد ذلك أن يقوم بعضنا في هذه الأيام
ويطلب تضييق شريعتنا الإسلامية الغراء بما لم يفعله الإنكليز في بلادهم الباردة،
وهم أرقى منا بكثير في سائر شؤونهم العلمية والمدنية والاجتماعية! !
أما زعم هؤلاء المضيقين أن الفتاة إذا تزوجت قبل تمام نموها وقف هذا النمو
فهو غير صحيح، بل تكذبه المشاهدة العامة، فإن الحمل لا شك يسرع في تمام نمو
الجسم كله؛ ولذلك تجد الفتاة بعد الولادة يكبر جسمها بأسرع من الفتاة التي لم
تتزوج، أما دعوى أن الفتاة إذا حملت وهي صغيرة ضعف جسمها عما إذا حملت
وهي كبيرة فهي غير مُسَلَّمة، ولا يمكن إثباتها إثباتًا قطعيًّا، وإنما هي دعوى
يرددها بعض الأطباء تقليدًا لبعض بلا بحث ولا تمحيص، فإن الفتاة الكبيرة تكون
ليبس أعضائها أكثر عرضة للعقم وللإجهاض أو عسر الولادة من الفتاة الصغيرة -
كما سبق- ولا يخفى ما ينشأ عن الإجهاض وعسر الولادة من المضاعفات المرضية
كفقر الدم الشديد بسبب النزف الرحمي والتمزقات العجانية وما يتبعها كالنواصير
وسقوط المهبل أو الرحم وغير ذلك، بل ربما قضت المرأة نحبها في الإجهاض أو
الولادة العسرة، نعم إن الطفل المولود من الفتاة الصغيرة يكون في أول الأمر
أصغر جرمًا من الذي ولد من الفتاة الكبيرة؛ ولكنه لا يكون أقل صحة منه،
وصغر حجمه هذا لا يلبث طويلاً بل يزول شيئًا فشيئًا.
مدة التربية: أما علم الوالدة بتربية الطفل فذلك يتوقف على مقدار ما اكتسبته
في هذا الموضوع ودرجة صلاحيته وسهولة تلقينه لها أثناء دراستها المدرسية أو
البيتية، فإن كانت تلقت شيئًا نافعًا في هذا الأمر، ولو كان مختصرًا أفادها أكثر
من التي قضت سنين عديدة من حياتها الأولى في دراسة الجغرافيا مثلاً والهندسة
والجبر.
وإذا كانت الطبيعة لم تبخل على الفتاة الصغيرة بإعطائها الحمل والولد فكيف
نحظر عليها الزواج، ولسنا أعلم باستعدادها، ولا أشفق عليها من الطبيعة [7] ، وأي
شيء جرى عليه الناس طِبْق سنن الكون ونواميس الوجود وكان ضرره غالبًا على
نفعه، ومحققًا كما يدعون في هذه المسألة؟ أليس التضييق الذي يطلبونه مصادمًا
للشرائع الإلهية، والقوانين الوضعية، بل والسنن الكونية؟ فأي دليل قطعي عندهم
عليه يعتمدون؟ .
أما مضار تأخير زواج الفتاة بعد بلوغها في السنة الثانية عشرة أو الثالثة
عشرة كما هو الغالب عندنا في مصر، فمنها زيادة الشهوة عندها التي قد تفسد
أخلاقها أو تجرها إلى الفسق أو الألطاف (استمناء المرأة بيدها) أو السحاق وكلها
أشياء يشتد الميل إليها في أول البلوغ؛ ولذلك يكثر وجودها في البلاد التي تتأخر
فيها البنات عن الزواج، ولا حاجة بي هنا للتكلم على ما ينشأ عنها من المضار
والمفاسد فإنها معروفة شهيرة، والإمساك عن الجماع مع فرط الشهوة مضعف
للجسم والأعصاب مؤدٍّ إلى سوء الخلق، وضعف العقل، مورث للهستيريا، أو
الجنون، والشقيقة، وعسر الطمث، وغير ذلك.
وهناك بعض أسباب كثيرًا ما تحمل الناس على التعجيل بالزواج كالفقر أو فقد
من يقوم بشئون البنت وتربيتها وكفالتها وحفظها من الوقوع في مهاوي الدنس
والعار، ولذلك نرى أن الشريعة الإسلامية وغيرها كالإنكليزية أباحته في جميع
الأعمار حتى للأطفال، إلا إذا كانت البنت غير مطيقة للجماع، فيحرم في شريعتنا
تسليمها للزوج حتى تطيق، وإذا عقد أولياء الأمر على طفل وطفلة أباح لهما
الإسلام فسخ العقد إذا بلغا، ما لم يكن الذي تولى الأمر الأب أو الجد فإنهما أدرى
الأولياء وأعلمهم بمصلحة البنت، وأشدهم محافظة عليها، وأكثرهم رغبة في نفعها
الصحيح، وإبعاد كل ضرر عنها، فأي عيب في هذه الشريعة حتى أردنا الخروج
عنها، والاشمئزاز منها، مع أنها تشبه شريعة الإنكليز في ذلك، وهم من أرقى أمم
الأرض الآن! !
وإذا علمت أن سن البلوغ تختلف باختلاف البلاد، وأحوال أهلها تبين لك
السبب في عدم تحديد الشريعة الإسلامية لهذه السن لشرطت بل اشترطت الإطاقة،
ولم تمنع العقد على الأطفال، لما في ذلك من المنفعة للناس، كأن يريد شخص أن
يضمن لنفسه الانتفاع بمال بنت، أو جاهها، أو الانتساب إلى بيتها، أو نحو ذلك،
أو يكون له غرض آخر كالرغبة في النفقة عليها، وإحسان تربيتها لجمالها، أو
لفقدها الأهل والمعين من أقاربها.
وبسبب سرعة البلوغ في البلاد الحارة كالهند، وبلاد العرب فشت في الشرق
عادة تزويج البنات الصغار كما هو معلوم حتى أن عائشة - رضي الله عنها -
كانت خطبت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرها سبع سنوات لجبير
بن مطعم بن عدي، وهو يدل على أنها كانت قد قاربت البلوغ في تلك السن؛
ولذلك عقد عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقتئذ، ودخل عليها في التاسعة
من عمرها، فالظاهر أنها كانت قد بلغت حينئذ كما هو الغالب في بنات العرب،
وأهل الهند، وغيرهم من أهل الشرق كما سبق بيانه.
أما المضار التي يذكرها المضادون لذلك الزواج، فهي في الحقيقة ناشئة عن
أحد أمرين أو عنهما معا (الأول منهما) الدخول بالبنت قبل الإطاقة، أو قبل
البلوغ (الثاني) طريقة المصريين الوحشية في افتضاض البكارة، حتى أني
شاهدت مرة بنتًا كادت تموت بنزيف شديد من تمزق في مهبلها نشأ من إصبع
زوجها الوحش القاسي؛ ولكن العيب في ذلك ليس على الشريعة نفسها، بل العيب
إنما نشأ من الجهل والقسوة وعدم التزام حدود هذه الشريعة الغراء التي فيها الكفاية
لتقويم المعوج.
وهناك فوائد أخرى غير ما تقدم لتزويج الفتيات الصغيرات البالغات (منها)
أنهن يحرضن الشهوة في ضعاف الرجال، حتى أنهن يكن سببًا في تقوية أجسامهم
وعودة الحياة إليهم، فتزيد قوة الباه عندهم، ويتحسن نسلهم، وقد عرف ذلك
الأقدمون، حتى أنه ذكر في الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى أن داود - عليه
السلام - شاخ، وكانوا يدثرونه بالثياب فلا يدفأ لشدة ضعفه فأشار عليه عبيده
بإحضار فتاة جميلة لتحضنه ليدفأ، ففعل ذلك وعاش بضعة شهور مع أنه كان في
غاية الضعف والبرودة والاضمحلال (راجع الإصحاح الأول والثاني من سفر
الملوك الأول) ، وكذلك فعل الإمبراطور (طيباريوس) ليستعيد جسمه الضعيف
حرارته الأولية، وقد أشار (بورهاف) الشهير على عمدة بلدة (ساردام) الذي
كان مبتليا بالنقرس بأن يبيت مع بنات فتيات، ولما عمل بمشورته تحسنت حاله،
وزال مرضه (راجع صفحة 462 من كتاب تاريخ الإنسان الطبيعي) ، وقد جربوا
ذلك العلاج أيضًا في الروماتزم المزمن للشيوخ، فأفاد كثيرًا بعد أن يئسوا من
الطب والدواء، وقال الكتاب المذكور ما محصله:
(إن مساكنة البنات الفتيات ذوات الدم الوافر، والصحة الجيدة يتطاير منها
نشأة منعشة تخترق جسم الشيخ الجاف، وتسخن دمه الضعيف الفاتر، وتحرك فيه
الأعضاء الذابلة) .
وذكر بعض العلماء أن من الشيوخ من اسود شعره، ونبتت أسنانه مرة ثالثة
بعد سقوطها بسبب معاشرة الفتيات الصغيرات، وعادت إليه قوة الجماع، ولا شك
أن صحة البنات في وقت البلوغ تكون أحسن منها في جميع الأوقات الأخرى؛
فيؤثرون في الرجل تأثيرًا قويًّا مصلحًا؛ فينتفع هو؛ وينتفعن هن بماله، أو جاهه
خصوصًا إذا كان من أصحاب الملايين، أو الملوك، وإذا تزوج رجل مسن بعجوز
مثله ساء نسلهما جدًّا بخلاف ما إذا كانت هي صبية.
هذا وليعلم القارئ أني لا أذكر هذه الأمثلة هنا لكوني ممن يريد أن ينفض
الشيوخ عيش الفتيات بالتزوج بهن كلا! بل الغرض من ذكرها تتميم البحث،
وبيان فوائد زواج البنات البالغات الصغيرات، واستقصاء تلك الفوائد كلها.
والخلاصة أني أرى أنه ليس من الصواب تحديد سن الزواج بالسنة السادسة
عشرة من العمر، بل الأصوب عندي أن توضع طريقة تحمل الناس على شدة
مراعاة حدود الشريعة الإسلامية، وأن يتركوا عاداتنا المصرية القاسية المعروفة في
الزواج، وإن كان لا مندوحة عن التحديد، فليكن ذلك بعد بلوغ البنت بسنة، أو
ليجروا في ذلك حسب القانون المصري الحالي في مسألة عقوبة الفسق، بأن يجعلوا
سن الزواج (14) سنة فما فوق، وهذا هو رأيي بإخلاص، والله ولي التوفيق،
الهادي لأقوم طريق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كلمة يونانية معناها الشاة؛ لأنه يقال إنه اكتشف فيها أولاً؛ أو لأن ملمسه ناعم كصوف الشاة.
(2) يجوز أن يراد بالعلق في قوله تعالى: [خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ] (العلق: 2) الحيوانات المنوية التي تلقح البويضة.
(3) اكتشف هذا الميكروب سنة 1905، وهو أدق وألطف من كثير من الميكروبات الحلزونية، يسمى (Spirochaeta Pallida) والكلمة الأولى يونانية بمعنى الحلزون، والثانية لاتينية معناها الأكمد (الباهت) لتعسر رؤيته بالمجهر.
(4) اخترعت سنة 1909 ميلادية، وسميت بذلك لأن مخترعها وفق إليها بعد عمل 606 من التجاريب.
(5) معناها الحرفي: (الدودة القارضة) .
(6) وبعضهم يقول (باشلس) .
(7) المنار كان ينبغي لصديقنا الدكتور أن يقول هنا: وإذا كان الخالق العليم الحكيم قد أعد الفتاة في سن كذا للحمل إلخ.(18/353)
الكاتب: ابن القيم الجوزية
__________
مقام المشاهدة وعين الجمع [*]
الدرجة العليا في المشاهدة
والفرق فيها بين التوحيد وتخيلات وحدة الوجود
قال [1] : (الدرجة الثالثة مشاهدة جمع تجذب إلى عين الجمع، مالكة لصحة
الورود، راكبة بحر الوجود) صاحب هذه الدرجة أثبت عند الشيخ في مقام
المشاهدة، وأمكن في مقام الجمع الذي هو حضرة الوجود، وأملك لحمل ما يرد
عليه في مقامه من أنواع الكشوفات والمعارف؛ ولذلك كانت مشاهدته مالكة لصحة
الورود، أي تشهد لنفسها بصحة ورودها إلى حضرة الجمع، وتشهد كلها لها
بالصدق، ويشهد المشهود أيضًا لها بذلك، فلا يبقى عندها احتمال شك ولا ريب.
وهذا أيضًا مورد للملحد والموحد، فالملحد يقول: مشاهدة الجمع هي مشاهدة
الوجود الواحد الجامع لجميع المعاني، والصور، والقوى، والأفعال الخمسة،
والأسماء، وحضرة الجمع عنده هي حضرة هذا الوجود، ومشاهدة الجمع تجذب
إلى عينه - قال - وصفة هذا الجذب أن يحل الحق تعالى عقد خليقته بيد حقيقته،
فيرجع النور على صورة خليقته إلى أصله، ويرجع العبد إلى عدميته، فيبقى
الوجود للحق، والفناء للخلق، ويقيم الحق تعالى وصفًا من أوصافه نائبًا عنه في
استجلاء ذاته، فيكون الحق هو المشاهد ذاته بذاته، في طور من أطوار ظهوره
وهي مرتبة عبده، فإذا ثبت الحق تعالى عبده بعد نفيه ومحوه، وأبقاه بعد فنائه،
فعاد كما يعود السكران إلى صحوه وجد في ذات أسرار ربه، وطور صفاته،
وحقائق ذاته، ومعالم وجوده ومطارح أشعة نوره، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته
وعوده إليه، فيرى العبد ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها
إلى الوجود المنزه الأصل الموهم الفرع، فيؤدي استصحاب النظر إلى أصله، أن
الفرع لم يفارقه هو إلا بشكله، والشكل على اختلاف ضروبه، فمعنى عدمي لتعين
إمكانه في وجوبه.
فانظر ما في الكلام من الإلحاد والكفر الصراح، وجعل عين المخلوق نفس
عين الخالق، وأن الرب سبحانه أقام نفس أوصافه نائبة عنه في استجلاء ذاته،
وأنه شاهد ذاته بذاته في مراتب الخلق، وأن الإنسان إذا صحا من سكره وجد في
ذاته حقائق ذات الرب، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته، فيرى ثبوت ذلك الاسم
في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود (المنزه الأصل) يعني عن
الانقسام والتكثر (الموهم الفرع) يعني الذي يوهم فروعه، وتكثر مظاهره،
واختلاف أشكاله أنه متعدد، وإنما هو وجود واحد، والأشكال على اختلاف
ضروبها أمور عدمية؛ لأنها ممكنة وإمكانها يفنى في وجوبها، فلم يبق إلا وجوب
واجب الوجود، وهو واحد وإن اختلفت الأشكال التي ظهر فيها، والأسماء التي
أشارت إليه، فالاتحادي يشاهد وجودًا واحدًا جامعًا لجميع الصور، والأنواع،
والأجناس فاض عليها كلها فظهر فيها بحسب قوابلها واستعداداتها، وذلك الشهود
يجذبه إلى انحلال عزمه عن التقيد بمعبود معين، أو عبادة معينة، بل يبقى معبوده
الوجود المطلق الساري في الموجودات بأي معنى ظهر وفي أي ماهية تحقق، فلا
فرق عنده بين السجود للصنم، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها كما قال
شاعر القوم [2] :
وإن خر للأحجار في البيد عاكف ... فلا تعد بالإنكار بالعصبية
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار مذ ألف حجة
فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يظهروا عقد نية
وما عقد الزنار حكما سوى يدي ... وإن حل بالإقرار لي فهي بيعتي
وكما قال عارفهم [3] : واعلم أن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من عرفه،
ويجهله من جهله، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صور ظهر قال: {وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه} (الإسراء: 23) قال وما قضى الله شيئًا إلا وقع [4] ، وما
عبد غير لله في كل معبود، فهذا مشهد الملحد.
والموحد يشاهد بإيمانه ويقينه ذاتًا جامعة للأسماء الحسنى، والصفات العلى،
لها صفة كل كمال [5] ، وكل اسم حسن، وذلك يجذبه إلى نفس اجتماع همه على الله
وعلى القيام بفرائضه، والطريق بمجموعها لا تخرج عن هذين السببين، وإن
طوّلوا العبارات، ودققوا الإشارات، فالأمر كله دائر على جمع الهمة [6] على الله،
واستفراغ الوسع بغاية النصيحة في التقرب إليه بالنوافل، بعد تكميل الفرائض،
فلا تطوِّل، ولا يُطول عليك.
وشيخ الإسلام مراده بالجمع الجاذب إلى عين الجمع أمر آخر بين هذا وبين
جمع أهل الوحدة وعين جمعهم، لا هو هذا ولا هذا، فهو دائر على الفناء لا تأخذه
فيه لومة لائم، وهو الجمع الذي يدندن حوله، وعين الجمع عنده هو تفرد الرب
سبحانه بالأزلية بالدوام [7] ، وبالخلق والفعل، فكان ولا شيء، ويكون بعد كل شيء،
وهو المكون لكل شيء، فلا وجود في الحقيقة لغيره، ولا فعل لغيره، بل وجود
غيره كالخيال والظلال، وفعل غيره في الحقيقة كحركات الأشجار والنبات، وهذا
تحقيق الفناء في شهود الربوبية والأزلية والأبدية، وطي بساط شهود الأكوان، فإذا
ظهر هذا الحكم انمحق وجود العبد في وجود الحق، وتدبيره في تدبير الحق،
فصار سبحانه هو المشهود بوجود من العبد متلاشٍ مضمحل كالخيال والظلال، ولا
يستعد لهذا عندهم إلا من اجتمعت إرادته على المراد وحده حالاً، لا تكلفًا، وطبعًا،
لا تطبعًا، فقد تنبعث الهمة إلى أمر وتتعلق به، وصاحبها معرض عن غير مطلبه
متحلٍّ به، ولكن إرادة السوى كامنة فيه، قد توارى حكمها واستتر، ولما يزل،
فإن القلب إذا اشتغل بشيء اشتغالاً تامًّا توارى عنه إرادته لغيره والتفاته إلى ما
سواه مع كونه كامنًا في نفسه، مادته حاضرة عنده، فإذا وجد فجوة وأدنى تخلٍّ من
شاغله ظهر حكم تلك الإرادات التي كان سلطان شهوده يحول بينه وبينها.
فإذا الجمع وعين الجمع مراتب (أعلاها) جمع الهمم على الله إرادة، ومحبة
وإنابة، وجمع القلب، والروح، والجوارح على استفراغ الوسع في التقرب إليه
بما يحبه ويرضاه، دون رسوم الناس وعوائدهم، فهذا جمع خواص المقربين
وساداتهم، (والثاني) الاستغراق في الفناء في شهود الربوبية، وتفرد الرب
سبحانه بالأزلية والدوام، وإن الوجود الحقيقي له وحده، وهذا الجمع دون الجمع
الأول بمراتب كثيرة (الثالث) جمع الملاحدة الاتحادية وعين جمعهم، وهو جمع
الشهود في وحدة الوجود، فعليك بتمييز المراتب، لتسلم من المعاطب، وسيأتي
ذكر مراتب الجمع والتمييز بين صحيحها وفاسدها في آخر باب التوحيد من هذا
الكتاب إن شاء الله تعالى والله المستعان.
قوله (مالكة لصحة الورود) أي ضامنة لصحة ورودها، شاهدة بذلك مشهودًا
لها به، لأنها فوق مشاهدة المعرفة، وفوق مشاهدة المعاينة.
قوله (راكبة بحر الوجود) يعني تلك المشاهدة راكبة بحر الوجود، فهي في
لجة بحره، لا في أنواره، ولا في بوارقه، وقد تقدم الكلام على مراده بالوجود،
وأنه وجود علم، ووجود عين، ووجود مقام، وسيأتي تمام الكلام عليه في بابه إن
شاء الله تعالى.
***
منزلة المعاينة أو مقامها
(من مدارج السالكين أيضًا)
قال شيخ الإسلام [8] (باب المعاينة) قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ
مَدَّ الظِّلّ} (الفرقان: 45) قلت: المعاينة مفاعلة من العيان، وأصلها من الرؤية
بالعين، يقال: عاينه إذا وقعت عينه عليه، كما يقال: شافهه. إذا كلمه شفاها،
وواجهه، إذا قابله بوجهه، وهذا مستحيل في هذه الدار أن يظفر به بشر، وأما
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلّ} (الفرقان: 45) ، فالرؤية واقعة على
نفس مد الظل [9] لا على الذي مده سبحانه، كما قال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (نوح: 15) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ
الفِيلِ} (الفيل: 1) فهاهنا أوقع الرؤية على نفس الفعل، وفي قوله: {أَلَمْ تَرَ
إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان: 45) أوقعها في اللفظ عليه سبحانه والمراد
فعله من مد الظل، هذا كلام عربي بين معناها غير محتمل ولا مجمل، كما قيل في
العُزَّى: (كفرانك اليوم لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك) وهو كثير في
كلامهم، يقولون: رأيت الله قد فعل كذا وكذا، والمراد رأيت فعله، فالعيان
والرؤية واقع على المفعول لا على ذات الفاعل وصفته، ولا فعله القائم به
***
فصل
قال صاحب المنازل (المعاينة [10] ثلاث (إحداها) معاينة الأبصار (الثانية)
معاينة عين القلب، وهي معرفة عين الشيء [11] على نعته علمًا يقطع الريبة، ولا
تشوبه حيرة [12] (الثالثة) معاينة عين الروح، وهي التي تعاين الحق عيانًا محضًا،
والأرواح إنما طهرت وأكرمت بالبقاء لتعاين [13] سناء الحضرة، وتشاهد بهاء
العزة، وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة) جعل الشيخ المعاينة للعين والقلب
والروح، وجعل لكل معاينة منها حكمًا، فمعاينة العين هي رؤية الشيء عيانًا إما
بانطباع صورة المرئي في القوة الباصرة عند أصحاب الانطباع، وإما باتصال
الشعاع المنبسط من العين المتصل بالمرئي عند أصحاب الشعاع، وإما بالنسبة
والإضافة الخاصة بين العين وبين المرئي عند كثير من المتكلمين، والأقوال الثلاثة
لا تخلو عن خطأ وصواب، والحق شيء غيرها، وأن الله سبحانه جعل في العين
قوة باصرة كما جعل في الأذن قوة سامعة، وفي الأنف قوة شامة، وفي اللسان قوة
ناطقة، فهذه قوى أودعها الله سبحانه في هذه الأعضاء وجعل بينها وبينها رابطة،
وجعل لها أسبابًا من خارج، وموانع تمنع حكمها، وكل ما ذكروه من انطباع
ومقابلة وشعاع ونسبة وإضافة فهو سبب وشرط، والمقتضي هو القوة القائمة
بالمحل، وليس الغرض ذكر هذه المسألة فالمقصود أمر آخر.
وأما معاينة القلب فهي انكشاف صورة المعلوم له بحيث تكون نسبته إلى
القلب كنسبة المرئي إلى العين، وقد جعل الله سبحانه القلب يبصر ويعمى كما
تبصر العين وكما تعمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ
الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) فالقلب يرى، ويسمع، ويعمى، ويصم،
وعماه، وصممُه أَبْلَغُ من عمى البصر، وصممه.
وأما ما يثبته متأخرو القوم من هذا القسم الثالث (وهو رؤية الروح، وسمعها
وإرادتها، وأحكامها التي هي أخص من أحكام القلب) فهؤلاء اعتقادهم أن الروح
غير النفس والقلب [14] ، ولا ريب أن ها هنا أمورًا معلومة، وهي البدن وروحه
القائم به، والقلب المشاهد فيه وفي سائر الحيوان، والغريزة وهي القوة العاقلة التي
محلها القلب , ونسبتها إلى القلب كنسبة القوة الباصرة إلى العين، والقوة السامعة
إلى الأذن، ولهذا تسمى تلك القوة قلبًا، كما تسمى القوة الباصرة بصرًا، قال تعالى
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37) ولم يرد شكل القلب فإنه لكل
أحد، وإنما أريد القوة والغريزة المودعة فيه، والروح هي الحاملة للبدن، ولهذه
القوى كلها، فلا قوام للبدن، ولا لقواه إلا بها، ولها باعتبار إضافتها إلى كل محل
حكم، واسم يخصها هناك، وإذا أضيفت إلى محل البصر سميت بصرًا وكان لها
حكم يخصها هناك، وإذا أضيفت إلى محل العقل - وهو القلب - سميت قلبًا، ولها
حكم يخصها، وهي في ذلك كله روح، فالقوة الباصرة والعاقلة، والسامعة،
والناطقة روح باصرة، وسامعة، وعاقلة، وناطقة، فهي في الحقيقة [15] هذا العاقل
الفَهِم المدرك المحب العارف المحرك للبدن الذي هو محل الخطاب، والأمر،
والنهي - هو شيء واحد له [16] صفات متعددة بحسب متعلقاته، فإنه يسمى نفسًا
مطمئنة، ونفسًا لوامة، ونفسًا أمارة، وليس هو ثلاثة أنفس بالذات والحقيقة؛
ولكن هي نفس واحدة لها صفات متعددة، وهم يشيرون بالنفس إلى الأخلاق
والصفات المذمومة فيقولون: فلان له نفس، وفلان ليس له نفس، ومعلوم أنه لو
فارق نفسه لمات؛ ولكن يريدون تجرده عن صفات النفس المذمومة والمحققون منهم
يقولون: إن النفس إذا تلطفت، وفارقت الرذائل صارت روحًا. ومعلوم أنها لم
تعدم، ويخلق لها مكانها روح لم تكن؛ ولكن عدمت منها الصفات المذمومة،
وصار مكانها الصفات المحمودة فسميت روحًا.
وهذا اصطلاح مجرد وإلا فالله سبحانه سماها نفسًا في القرآن في جميع
أحوالها (أمارة، ولوامة، ومطمئنة) وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا} (الزمر: 42) ويدخل في هذا جميع أنفس العباد حتى الأنبياء، وسماها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روحًا على الإطلاق مؤمنة كانت أو كافرة،
برة أو فاجرة، كقوله: (أن الروح إذا قبض تبعه البصر) ، وقوله: (إن الله
قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء) ، وقوله: في حديث قبض الروح
وصفته، إن كان [17] مؤمنًا كان كذا وكذا، وإن كان كافرًا كان كذا وكذا، فسمى
المقبوض روحًا، كما سماه الله في كتابه نفسًا، وهذا المقبوض والمتوفى شيء واحد،
لا ثلاثة، ولا اثنان، وإذا قبض تبعته القوى كلها - العقل وما دونه، لأنه كان
حامل الجميع، ومركبه.
إذا عرف هذا فالمعاينة نوعان: معاينة بصر، ومعاينة بصيرة، فمعاينة
البصر وقوعه على نفس المرئي، أو مثاله الخارجي كرؤية مثال الصورة في
المرآة والماء، ومعاينة البصيرة وقوع القوة العاقلة على المثال العلمي المطابق
للخارجي، فيكون إدراكه له بمنزلة إدراك العين للصورة الخارجية، وقد يقوى
سلطان هذه الإدراك الباطن بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضار القوة العاقلة
لمدركها بحيث يستغرق فيه، فيغلب حكم القلب على حكم الحس والمشاهدة؛
فيستولي على السمع والبصر بحيث يراه، ويسمع خطابه في الخارج، وهو في
النفس والذهن؛ لكن لغلبة الشهود وقوة الاستحضار، وتمكن حكم القلب واستيلائه
على القوى صار كأنه مرئي بالعين، مسموع بالأذن، بحيث لا يشك المدرك في
ذلك، ولا يرتاب البتة، ولا يقبل عدلاً.
وحقيقة الأمر أن ذلك كله شواهد وأمثلة علمية تابعة للمعتقد، فذلك الذي أدرك
بعين القلب والروح إنما هو شاهِدٌ دالٌّ على الحقيقة، وليس نفس الحقيقة، فإن
شاهد نور جلال الذات في قلب العبد ليس هو نفس نور الذات الذي لا تقوم له
السموات والأرض، فإنه لو ظهر لها لتدكدكت وأصابها ما أصاب الجبل، وكذلك
شاهد نور العظمة في القلب إنما هو نور التعظيم والإجلال، لا نور نفس المعظم
ذي الجلال والإكرام، وليس مع القوم إلا الشواهد والأمثلة العلمية والدقائق [18] التي
هي ثمرة قرب القلب من الرب، وأنسه به واستغراقه في محبته، وذكره واستيلاء
سلطان معرفته عليه، والرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله، منزه مقدس عن اطلاع
البشر على ذاته، أو أنوار ذاته، أو صفاته أو أنوار صفاته، وإنما هي الشواهد
التي تقوم بقلب العبد كما يقوم بقلبه شاهد من الآخرة والجنة والنار وما أعد الله
لأهلهما، وهذا الذي وجده عبد الله بن حرام يوم أحد لما قال: واها لريح الجنة!
إني أجد ريحها دون أحد، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا مررتم
برياض الجنة فارتعوا - قالوا وما رياض الجنة؟ قال: - حلق الذكر) ومن قوله:
(ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فهو روضة لأهل العلم والإيمان
لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة، حتى كأنها لهم رأي عين، وإذا قعد المنافق
هناك لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة، ومن هذا قوله: (الجنة
تحت ظلال السيوف) فالعمل إنما هو على الشواهد، وعلى حسب شاهد العبد يكون
عمله. اهـ. المراد منه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) مقتبس من الجزء الثالث من كتاب مدارج السالكين.
(1) يعني صاحب كتاب منازل السائرين.
(2) كتب في هامش ب (هو ابن الفارض) .
(3) وفي هامشها أيضًا (لعله ابن عربي صاحب الفصوص، المشتمل على مخالفة النصوص) .
(4) حمل القضاء على التكويني، وإنما هو بمعنى التشريعي، فحجته داحضة.
(5) في ب (كل صفة كمال) .
(6) وفيها (الهم) .
(7) وفيها (والدوام) .
(8) أي أبو إسماعيل الهروي صاحب المنازل.
(9) في ب (نفس هذا الظل) .
(10) في المتن وب (المعاينات) .
(11) في المتن (معرفة الشيء) .
(12) زاد فيه هنا (وهذه معاينة بشواهد العلم) .
(13) في ب (لتناغي) .
(14) سقط من ب كلمة (والقلب) .
(15) في ب (ففي الحقيقة) ولعله الصواب.
(16) وفيها (وله) .
(17) في ب (فإن كان) .
(18) في ب (الرقائق) .(18/372)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أصول الفقه عند الظاهرية
وهي المسائل التي جعلها الإمام أبو محمد علي بن حزم مقدمة لكتابه (المُحَلَّى)
وعناوين المسائل من زيادة المنار
مآخذ الإسلام ودلائله:
(مسألة) دين الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن، أو مما يصح
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما برواية جميع علماء الأمة عنه عليه
السلام - وهو الإجماع - وإما بنقل جماعة عنه عليه السلام - وهو نقل الكافة -
وإما برواية الثقات واحدًا عن واحد، حتى يبلغ إليه عليه السلام، ولا مزيد.
قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:
3-4) ، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فإن
تعارض - فيما يرى المرء - آيتان، أو حديثان صحيحان، أو حديث صحيح وآية،
فالواجب استعمالهما جميعًا؛ لأن طاعتهما سواءٌ في الوجوب، فلا يحل ترك
أحدهما للآخر ما دمنا نقدر على ذلك، وليس هذا إلا بأن يستثنى الأقل معاني من
الأكثر، فإن لم يقدر على ذلك وجب الأخذ بالزائد حكمًا؛ لأنه متيقن وجوبه، ولا
يحل ترك اليقين بالظنون، ولا إشكال في الدين، قد بين الله دينه، قال تعالى:
{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وقال تعالى: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) .
***
الحديث المُرْسَل والموقوف والضعيف:
(مسألة) والمرسل والموقوف لا تقوم بهما حجة، وكذلك ما لم يروه إلا من
لم يوثق بدينه وبحفظه، ولا يحل ترك ما جاء في القرآن، أو صح عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - لقول صاحب أو غيره، سواء كان هو راوي ذلك
الحديث أو لم يكن.
والمرسل: هو ما كان بين أحد رواته، وبين غيره، أو بين الراوي وبين
النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يعرف، والموقوف: هو ما لم يبلغ به إلى
النبي، صلى الله عليه وسلم.
برهان بطلان الموقوف قول الله عز وجل: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) فلا حجة في أحد دون رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ولا يحل لأحد أن يضيف ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لأنه ظن، وقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس:
36) ، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) .
وأما المرسل [1] ، ومن في رواته من لا يوثق بدينه وحفظه - فلقول الله تعالى:
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) فأوجب الله تعالى قبول نذارة النافر للتفقه في الدين،
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) وليس في العالم إلا عدل
أو فاسق، فحرم الله تعالى علينا قبول خبر الفاسق فلم يبق إلا العدل، فصح أنه هو
المأمور بقبول نذارته.
وأما المجهول فلسنا على ثقة من أنه على الصفة التي أمر الله تعالى معها
بقبول نذارته، وهو التفقه في الدين، فلا يحل لنا قبول نذارته حتى يصح عندنا
فقهه في الدين، وحفظه لما ضبط من ذلك، وبراءته من الفسق، وبالله تعالى
التوفيق.
ولم يختلف أحد من الأمة في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث
إلى الملوك رسولاً رسولاً واحدًا إلى كل مملكة يدعوهم الإسلام، وواحدًا واحدًا إلى
كل مدينة، وإلى كل قبيلة - كصنعاء والجنَد [2] ، وحضرموت، وتيماء،
ونجران، والبحرين، وعُمان، وغيرها، يعلمها أحكام الدين كلها، وافترض على
أهل كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم، فصح قبول خبر الواحد الثقة عن مثله
مبلغًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ترك القرآن أو ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول
صاحب أو غيره سواء كان راوي ذلك الخبر، أو غيره فقد ترك ما أمره الله تعالى
باتباعه، لقول لم يأمره الله تعالى قط بطاعته ولا باتباعه، وهذا خلاف لأمر الله
تعالى.
وليس فضل الصاحب عند الله بموجب تقليد قوله وتأويله، لأنه تعالى لم يأمر
بذلك؛ لكنه موجب تعظيمه ومحبته وقبول روايته فقط؛ لأن هذا هو الذي أوجب
الله تعالى.
***
النسخ:
(مسألة) والقرآن ينسخ القرآن والسنة، والسنة تنسخ السنة والقرآن، قال
الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:
106) ، وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقال
تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4)
وأمره تعالى أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50) ، وقال
تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44-47) فصح أن كل ما
قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله تعالى قاله، والنسخ بعض من
أبعاض البيان، وكل ذلك من عند الله تعالى.
***
منع دعوى النسخ والتخصيص والتأويل:
(مسألة) ولا يحل لأحد أن يقول في آية، أو في خبر عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ثابت: هذا منسوخ أو هذا مخصوص في بعض ما يقتضيه
ظاهر لفظه، ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه، ولا أن هذا الحكم
غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر، أو
بإجماع متيقن بأنه كما ذكر، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر، وإلا فهو كاذب،
برهان ذلك قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ} (النساء: 64) ،
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم:4) ،
وقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) ، وقال تعالى:
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} (البقرة:
75) ، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) .
فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ} (النساء: 64) موجب
طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أمر به، وقوله: {أَطِيعُوا
اللَّهَ} (آل عمران: 32) موجب طاعة القرآن، ومن ادعى في آية أو خبر نسخًا،
فقد أسقط وجوب طاعتهما، فهو مخالف لأمر الله تعالى في ذلك، وقوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) موجب أخذ
كل نص في القرآن والأخبار على ظاهره، ومقتضاه في اللغة العربية، فمن ادعى
في شيء من ذلك أن المراد به غير ما يقتضيه لفظه في اللغة العربية فقد خالف قول
الله تعالى وحكمه، وقال عليه عز وجل الباطل وخالف قوله عز وجل، ومن ادعى
أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية، لا كل ما يقتضيه فقد أسقط
بيان النص، وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة، وهذا قول على الله تعالى
بالباطل، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه من سائر ما يقتضيه،
وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) موجب
الوعيد على من قال لا يجب عليّ موافقة أمره،، وموجب أن جميع النصوص
على الوجوب، ومن ادعى تأخير الوجوب مدة ما، فقد أسقط وجوب الطاعة لله
تعالى، ووجوب ما أوجب الله عز وجل من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
في تلك المدة، وهذا خلاف لأمر الله عز وجل، فإذا شهد لدعوى من ادعى بعض
ما ذكرنا قرآنٌ، وسنة ثابتة، إما بإجماع، وإما بنقل صحيح فقد صح قوله،
ووجب طاعة الله تعالى في ذلك، وكذلك من شهدت له ضرورة الحس لأنها فعل الله
تعالى في النفوس، وإلا فهي أقوال مؤدية إلى إبطال الإسلام، وإبطال جميع العلوم، وإبطال جميع اللغات كلها، وكفى بهذا فسادًا، وبالله تعالى التوفيق.
***
إنما الإجماع إجماع الصحابة:
(مسألة) والإجماع هو ما تيقن أن جميع أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عرفوه وقالوا به، ولم يختلف منهم أحد، كتيقننا أنهم كلهم - رضي
الله عنهم - صلوا معه عليه السلام الصلوات الخمس كما هي في عدد ركوعها،
وسجودها، أو علموا أنه صلاها مع الناس كذلك، وأنهم كلهم صاموا معه أو علموا
أنه صام مع الناس رمضان في الحضر، وكذلك سائر الشرائع التي تيقنت مثل هذا
اليقين، والتي من لم يقر بها لم يكن من المؤمنين، وهذا ما لا يختلف أحد في أنه
إجماع، وهم كانوا حينئذ جميع المؤمنين لا مؤمن في الأرض غيرهم، ومن ادعى
أن غير هذا هو إجماع كلف البرهان على ما يدعي ولا سبيل له إليه.
(مسألة) وما صح فيه خلاف من واحد منهم - رضي الله عنهم -، ولم
يتيقن أن كل واحد منهم - رضي الله عنهم - عرفه ودان به فليس إجماعًا، لأن من
ادعى الإجماع هاهنا فقد كذب، وَقَفَا ما لا علم له به، والله تعالى يقول: {وَلاَ
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36)
الإجماع بعد الصحابة متعذر:
(مسألة) ولو جاز أن يتيقن إجماع أهل عصر بعدهم أولهم عن آخرهم
على حكم نص ولا يقطع فيه بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - لوجب القطع
بأنه حق وحجة، وليس كان يكون إجماعًا، وأما القطع بأنه حق وحجة فلما ذكرناه
قبل بإسناده من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لن تزال طائفة من أمتي
ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) فصح من هذا أنه لا
يجوز البتة أن يُجْمِع أهل عصر ولو طرفة عين على خطأ، ولا بد من قائل بالحق
فيهم، وإما أنه ليس إجماعًا فلأن أهل كل عصر بعد عصر الصحابة - رضي الله
عنهم - ليس جميع المؤمنين، وإنما هم بعض المؤمنين، والإجماع إنما هو إجماع
جميع المؤمنين لا إجماع بعضهم.
ولو جاز أن يسمى إجماعًا ما خرج عن الجملة واحد لا يعرف أيوافق سائرهم
أو يخالفهم - لجاز أن يسمى إجماعًا ما خرج عنهم فيه اثنان وثلاثة وأربعة، وهكذا
أبدًا حتى يرجع الأمر أن يسمى إجماعًا ما قاله واحد، وهذا باطل، ولكن لا سبيل
إلى تيقن إجماع جميع أهل عصر بعد الصحابة - رضي الله عنهم - لكثرة أعداد
الناس بعدهم؛ ولأنهم طبقوا ما بين المغرب والمشرق، ولم تكن الصحابة - رضي
الله عنهم - كذلك، بل كانوا عددًا ممكنًا حَصْره، وضَبْطه، وضبط أقوالهم في
المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
وقد قال بعض الناس: يعلم ذلك من حيث يعلم رضاء أصحاب مالك،
وأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي بأقوال هؤلاء (قال عليّ) وهذا خطأ؛
لأنه لا سبيل إلى أن تكون مسألة قال بها أحد من هؤلاء الفقهاء إلا وفي أصحابه من
يمكن أن يخالفه فيها وإن وافقه في سائر أقواله.
رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة:
(مسألة) والواجب إذا اختلف الناس، أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع
إلى القرآن، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا إلى شيء غيرهما، ولا
يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم، برهان ذلك قول الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء:
59) فصح أنه لا يحل الرد عند التنازع إلى شيء غير كلام الله تعالى، وسنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا تحريم الرجوع إلى قول أحد دون
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن من رجع إلى قول إنسان دونه - عليه
السلام - فقد خالف أمر الله تعالى بالرد إليه وإلى رسوله، لا سيما مع تعليقه تعالى
ذلك بقوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ولم يأمر الله
تعالى قط بالرجوع إلى قول بعض المؤمنين دون جميعهم، وقد كان الخلفاء -
رضي الله عنهم - كأبي بكر، وعمر، وعثمان بالمدينة وعمالهم باليمن، ومكة
وسائر البلاد وعمال عمر وعثمان بالبصرة، والكوفة، ومصر، والشام، ومن
الباطل المتيقن الممتنع الذي لا يمكن - أن يكونوا - رضي الله عنهم - طووا علم
الواجب، والحلال، والحرام عن سائر الأمصار واقتصروا به على أهل المدينة،
فهذه وصفة سوء قد أعاذهم الله تعالى منها، وقد عمل ملوك بني أمية بإسقاط بعض
التكبير من الصلاة، وبتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، حتى فشا ذلك في
الأرض، فصح أنه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أي وأما بطلان الاستدلال بالحديث المرسل إلخ، أي والحديث الضعيف.
(2) الجَنَد بالتحريك: مدينة باليمن كانت عاصمة أعظم ولاياتها الثلاث في صدر الإسلام، قال في معجم البلدان عند الكلام عليها: وأعمال اليمن في الإسلام مقصورة على ثلاثة ولاة: فوالٍ على الجند ومخاليفها، وهو أعظمها، ووالٍ على صنعاء ومخاليفها، وهو أوسطها، ووالٍ على حضرموت ومخاليفها، وهو أدناها، والجند مسماة بجند بن شهران - بطن من المعافر، قال عمارة: وبالجند مسجد بناه معاذ بن جبل إلخ.(18/379)
الكاتب: حسن كمال
__________
مقارنة بين
اللغة المصرية القديمة واللغة العربية
(2)
الأثر المصري الذي ذكر فيه اسم بني إسرائيل
المحفوظ الآن بمتحف القاهرة - عدد 34025
(وبعض ما فيه من الاتفاق بين لغة قدماء المصريين واللغة العربية) [*]
إني تلقيت عن والدي في مدارس الحكومة الدروس الهيروغليفية التي ألقاها
في نيف وثلاث سنين، وثابرت بعد ذلك على الاهتمام بها، ولا سيما في أيام العطلة
الدراسية، ثم صرفت أيام هذه الإجازة الأخيرة في ترجمة وجه واحد من الحجر
الكبير المنقوش عليه اسم بني إسرائيل، وطبقت قدر استطاعتي بين الكثير من
ألفاظه على ما يقابلها في اللغة العربية؛ ليعلم وجه الشبه بين اللغتين وجعلت كل
كلمة مصرية موافقة للعربية بين علامتين هكذا [] ، فجاء بحمد الله باكورة عمل
أزفها لأبناء وطني راجيًا منهم أن يصفحوا عما يرونه فيه من زلة القلم وفقنا الله
وإياهم لنشر العلوم والمعارف، آمين.
***
وصف الأثر بالإجمال:
صنع هذا الأثر الملك (أمنوفيس الرابع) من الأسرة الثامنة عشرة، ونقش
على وجه منه وصف بعض أعمال دينية قام بأدائها، ثم جاء من بعده (منفتاح)
الذي هو فرعون سيدنا موسى - عليه السلام - على القول الأرجح، وكتب على
الوجه الآخر كيفية حربه مع اللوبيين، واستطرد إلى بيان أحوال مصر وقتئذ، مع
الإلماع إلى ذكر ولايات أخرى أخضعها لحكمه، وهذا النقش الأخير هو الذي عنيت
بترجمته، فظهر لي أن الكاتب المصري تحرى فيه أساليب الإنشاء التي كانت
شائعة في عهد الأسرة التاسعة عشرة، وكان السبب في نقشه وتسطيره انتصارًا
عظيمًا أحرزه فرعون (منفتاح) على اللوبيين، فأمر بتدوين هذا النصر لتخليد
ذكره بين الخلف، وكان ذلك في السنة الخامسة من حكمه؛ لكن عبارات نصه لم
تزدنا شيئًا جديدًا عما كتبه عن نتيجة هذه الحرب في نقوش الكرنك، غير أنه تكلم
بصراحة هنا عما حصل في أيامه من الفرح، والسرور، والحرية للبلاد المصرية،
ولولا النص المنقوش في معبد الكرنك المشروح فيه حوادث هذه الحرب بالتفصيل
لما تيسر لنا الوقوف من هذا الأثر على مكانة الفوز المبين الذي ناله منفتاح، ولا
على الحالة الحرجة التي وقعت فيها البلاد المصرية عند نشوب هذه الحرب الطاحنة.
ومن تأمل معاني العبارات الواردة في نص هذا الأثر النفيس علم بعض
أحوال البلاد المصرية وقت السلم، وعلى الأخص العبارة التي ذكر فيها اسم بني
إسرائيل المدرجة في آخره؛ لأنها استوجبت توجيه النظر من الأثريين لكونها أول
عبارة أخبرتنا بهذا الاسم المشهور في الكتب الدينية.
وذلك أنه ورد في الأثر إشارة إجمالية إلى ذكر خضوع بعض الأمم الأجنبية
ومن جملتهم بنو إسرائيل؛ لكن العبارة التي ذكر فيها هذا الاسم جاءت في غاية
الإيجاز، حتى تعذر علينا استنتاج فائدة كبيرة منها، على أنها صيغت في أسلوب
متداول الاستعمال في اللغة المصرية القديمة طالما عبر به عن أمم أخرى في
نصوص غير هذا.
ومعنى هذه العبارة أن بني إسرائيل (لم تبق لهم بزرة) أي ذرية في الأرض
فاجتهد بعض الأثريين في تأويلها، فقالوا: إنها تفيد محو نسل بني إسرائيل بذبح
أبنائهم واستحياء نسائهم؛ لكن نرى من جهة أخرى أن هذه العبارة نفسها ذكرت
كثيرًا في الآثار المصرية عن أمم أخرى أجنبية كما ترى في الأمثلة الآتية:
(الأول) ما جاء في حرب رمسيس الثالث من حكمه لسكان البحر الأبيض
في السنة الثامنة من حكمه إذ قال ما ترجمته: (والذين وصلوا حدود بلدي تبدد
شملهم، ولم تبق لهم بزرة) .
(الثاني) ما جاء في كتاب (دمخن) [1] من أن اللوبيين والسيديين مُزقوا
ولم تبق لهم بزرة.
(الثالث) ما جاء أيضًا في الكتاب المذكور [2] من قولهم (وصارت بلادهم
رمادًا قفرًا بلقعًا فلم تبق لهم بزرة) .
(الرابع) ما جاء في حرب رمسيس الثالث، وذلك في السنة الخامسة من
حكمه من أن - رئيس عمورة المدعو (جورو ….) لم تبق له بزرة.
فيُعلم مما تقدم أن التعبير بلفظ لم تبق له بزرة هو تعبير عندهم لا يراد به في
الأثر الذي نحن بصدده محق ذرية بني إسرائيل من هذه الدنيا بذبح الأبناء واستحياء
النساء، ومن الواضح الجلي أن موطن بني إسرائيل كان في فلسطين حسب نص
الأثر، وأن منفتاح قهرهم فيها وسلب أموالهم كما فعل بغيرهم من الأمم المجاورة
لهم بالكيفية المبينة بعد.
***
ترجمة الأثر [3]
(النهار) الثالث من (أبيب) للسنة الخامسة من حكم (الحر - أي الباشق -
القوي المرقي للعدل) الملك منفتاح العظيم (البأس المرقى بقوة) الإله حوريس
(القوي) ضارب (البدو) ذو الاسم السرمدي الذي تحدث (الناس بنجداته) في
جميع البحار؛ لأنه جعلهم يرون الدنيا كلها (منضمة) له؛ ولأنه استعمل قواته
فيما فيه النفع فهو (الصيدن القب - منفتاح - الناب [4] القوي) ذو (البأس)
المهلك (لشانئيه) ذو الحسن في شدة (القوة) الذي (ينهض) نهوض الشمس
(ليكف) عن مصر ما يحل بها من العواصف، وليجعلها ناظرة لقرص الشمس عند
(سطوعه) ، وليدفع جبل النحاس عن أعناق الأهالي [5] فيمنح الحرية للناس
الواقعين في الضيق، وليعاف سكان منف من فعل أعدائهم، وليجعل (أسوريس)
(أَشِرًا) (أي فرحًا) في (صُيبه) [6] ، الفاتح الذي يفتح الحصون، ويوصل
لمعابده أرزاقها، فهو الملك منفتاح الوحيد الذي يطمئن (ألباب) الجم الغفير فيدخل
عند رؤيته نفس الحياة في أنوفهم، فهو (السائد) على أرض التمحو [7] ملقي
(الهول) السرمدي في (ألباب) المشواش، المذل للوبيين المتوغلين في مصر،
حتى جعل (روع) القطر المصري العظيم في (لبهم) ، وجعل مقدمة جيشهم
ومؤخره لم يبرح الأرض في سيرهم على أرجلهم، بل ظلوا على أقدامهم واقفين
حتى وقعت رماتهم وأقواسهم، وصارت قلوب المسرعين منهم أذلة من المشي،
ففكوا قِرَب الماء، وألقوها على الأرض، وأخذت جلودها ورميت.
أما الوالي (الخسيس) حاكم لوبيا (فخارت) قواه وهرب تحت (جنح)
(الليل) بلا ريشة على رأسه، وكانت رجلاه تسير سيرًا ثقيلاً، وأخذت أمامه
(حامته) - أي نساؤه -، ونهبت حبوب محصولاته، فلا (ماء) في القرب
(للمعيشة) ، فكانت وجوه (أصنائه تهصص) [8] بعيونهم، ويقتل الواحد من
(هداته [9] ثانيه) في حرب نشبت بينهم، وحرقت (أحياؤه) وجميع (أشيائه) من
طعام الجنود، ولما وصل بلده تحدث في حقه الكثيرون في جميع (الأرض)
فلحقته الخيبة (وخسفته النأنأة) [10] ، وسلبه سوء الحظ (الريشة) - أي من
رأسه - فتحدث فيه الكل من سكان مدينته قائلين: إنه تحت (بأو أزوان منف)
(أي سيطرة معبوداتها) .
لقد (ساوروا) مريري [11] ؛ لأنه كان (بذيئًا) لمنف من ابن إلى ابن
(نتج) في أسرته إلى (الأزل) - لذلك مثّل منفتاح بأولاده (وشياه) [12] ، فصار
يُضرب به المثل في لوبيا، وأصبحت الذرية يقول بعضها لبعض: لم يُفْعل لنا مثل
ذلك منذ المعبود (رع) [13] ، وكان كل كبير يقول لابنه: (اندب لوبيا) -
فامتنعوا عن (المشي) ، والسير الطيب (أي التنزه) داخل الحقول فوقف (مشيهم)
في يوم واحد، وحرقت التحنو في سنة واحدة، فأعطى المعبود (سوتخ) ظهره
لرئيسهم، وتمزقت (أحياؤه) حسب (مشيئة) (هذا المعبود) فلم تبق حاجة -
لحمل - (القناة) في هذه الأيام وأصبحت السلامة في (الاختفاء والتعوذ
بالبيقرة) [14] وصار (يلوذ) بسيد مصر الكبير منفتاح (الأزر) [15] والانتصار؛
لأنه يحارب وهو عارف (شطنه) [16] ، والذي يعاديه (يعد) خائنًا لا (لب)
له - ومن تعدى حدود مصر لا يقيم إلى صباح لأنها (السليلة الوحيدة) للمعبود ... (رع) منذ وجود الآلهة، ولأن (سليله) - أيضًا - هو منفتاح الجالس على (سدة) المعبود (شو) فلا (حجا يقدي ليهوي) بين (ناس مصر) [17] ؛ لأن (عين) كل معبود متجهة في (سه من يعنوها) [18] ولأنها (تعني كاتفيها) [19] ؛
ولأنها تعطي الخير لأولي (البأو) العالمين العارفين لغتهم كلها (الرانون)
لأهوائهم - ونالت مصر (باؤا) فخرًا كبيرًا؛ لأن يدها (حبت) - دنت - من
رئيس لوبيا فأسرته حيًّا هكذا ظفر الملك المقدس (العادل) أمام المعبود (رع)
(بكاتفه) [19] مريري - فاعل (السوء) الذي (سخط) عليه (الزون رب منف [20]
فوفاه) - حسابه - في مدينة عين شمس، وبذلك حكم عليه التتسيع المقدس (وهو
المؤلف من تسعة آلهة) بسبب (عثوه البذيء) فقال السيد الكلي (أي رئيس الآلهة)
سأعطي (الخشيب) [21] لابني منفتاح (القوي اللب الآين) [22] الرءوف المدافع
عن منف (المجاوب عن مدينة عين شمس الفاتح (المعني) [23] الذي (يفك)
أسارى الكثير من المقيدين في كل بلد، ويعطي (الإطابات) [24] للبرابي (أي
المعابد) ، ويدخل (الكندر) [25] أمام (الزون) ويجعل (السراة تقتمي أشياءها) [26] ،
ويدخل الفقراء بلادهم) .
فقالت الآلهة على مشهد من أرباب مدينة عين شمس بخصوص ابنهم منفتاح
ليعط الحياة مثل (رع) (وليجاوب) عن كل من (رديء) - أي اختلس - لأنه
(وصي) على مصر لحسبانها جزءًا تابعًا له إلى الأزل - أي الأبد - (ولينجد) أهلها
(وليلمأ [27] بالطول) متقاعديها في (لوقته) فتكون أنفاس الحياة (بقوة) ذراعيها
(وتخبط الأشياء) [28] للمستحق بلا (جور) ولا (قمأ) والذين (يونّ [29] لبهم)
الصغير ويلقون بزور العسف (يحبون) [30] إليك بالأشياء بلا أطفال لهم) هكذا
يقال فيهم -وقد (تأياّ) مريري الملعون (الخسيس الخارّ) [31] رئيس لوبيا
(ليهوي) في أسوار ملك مصر وسيدها وهو (اللقب) الذي أطلقه المعبود (رع)
على (سليله) هذا وهو (الصيدن والقب) [32] منفتاح (المتربع) على (سدته)
ويقول يتاح (أي الفتاح) عن لوبيا: إن (خار) لوبيا - أي العاثر بعد استقامته -
(ستحصى) جميع بذاته (وتطوف - فوق - نطابه) - أي رأسه - وليجعل في (يد)
منفتاح (وليبق ما يقم) [33] مثلما - يفعل - التمساح لأن (الشوشاءة تعنو
الشوشاء) في شبكته ولو كان (نابًا) [34] لأن أمون (يلخ بحسه فيطفه) [35] من (يده) ، ويجعله تحت (قوة) منفتاح في أرمنت.
وقع (أشر) [36] كبير في مصر (وبرز النهيم) [37] في (مدن) مصر،
وتحدث الناس بنجدات منفتاح التي حازها على التحنو - ما أطيبه من (حاكم
نجد) [38] ، ما أعظمه من (صيدن بين الأزوان) ، وما أسعده حظًّا (الناب
الناهي) اجلس أيها الملك متنعمًا وتكلم (وامش شطنا) على (المتن) [39] فلا (زأد)
في (لب النات) [40] فالقلاع تركت ونفسها (والقلائب) [41] فتحت، وأخذ
(يطوف الوافدون) الاستحكامات ذات الأسوار (متفيحين) من الشمس حتى تصحى
حراسها (والماصعون ينكرون وينامون) [42] وقوم (نوو) و (تكتينوا) يكونون
في الحقل (كأبابهم) [43] ، وحيوانات الحقل تترك بلا راع (فتذئ [44] مياه
الغدير) ، ولا (صاخب) يصيح في (جنح) - أي من الليل - (هيا إمق الآتي
بلغة) الأجنبي [45] (اءت) واذهب (محظوظًا) فلا (نياحة) من (نات مهمومة) قد
(عنت) المدن ثانيًا، وسيقم الفلاح محصوله والتفت (رع) إلى مصر فوُلد
منفتاح ملك مصر، وشيء له بأن يكون (مناضلاً) عنها، وأن تكون (الولاة
منبطحة) - له - وتقول (سلامًا) ، وأن (لا يرفع أحد من البدو نطابه) [46]
(فانفكت التحنو وتحفظت) خِيتا [47] (واقتحيت كنعان لوبنتها [48] وعنيت عسقلان) ،
وقبض على جزال، وصارت ينعمام عدمًا في الوجود (وانفك الإسرائيليون فلا
بزر لهم، وأصبحت فلسطين خلية) [49] لمصر، (والأراضي) كلها (مضمومة)
في (حفظ) وكل (أشم وعفه [50] الصيدن القب منفتاح سليل) الشمس معطي
المعيشة كل نهار مثل الغورة (أي الشمس) . اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم حسن أفندي كمال الطالب بمدرسة الملك في لندرة نجل الأثري أحمد كمال بك أمين دار الآثار المصرية، وقد جعلناه مكان النبذة الثانية مما وعد به والده، وأوضحنا تفسير بعض الكلمات.
(1) هذا الكتاب حاوٍ لنقوش مصرية تاريخية، فراجع هذه العبارة في السطر 36 من الباب 34 من الجزء الأول.
(2) راجع في الجزء الأول من الكتاب المذكور السطر الثاني من الباب المتمم للعشرين.
(3) إننا أتينا في الترجمة بالألفاظ المصرية القديمة (الهيروغليفية) الموافقة للألفاظ العربية، ومن هذه الألفاظ ما هو مستعمل الآن، ومنها ما هو غريب غير مستعمل، أو قليل الاستعمال فاضطررنا إلى تفسيره في أثناء الكلام، أو في الهوامش، فلهذا لا غرابة فيما يوجد في الترجمة من ضعف وركاكة؛ لأن هذه أول مرة حوفظ فيها على الألفاظ المتفقة في اللغتين بنصها فيهما.
(4) الصيدن: الملك، والقب: رئيس القوم وسيدهم، وقيل الملك وقيل الخليفة، والناب: السيد الوجيه، وهو مجاز أصله المسن من الإبل.
(5) المقصود من جبل النحاس الأمور الشاقة الثقيلة العبء كأنها من حيث الثقل جبل من نحاس، فهي استعارة مستعملة عندنا في قول البعض ثقيل كالجبل.
(6) جمع صابّ، وهم الذين يميلون إلى الفتن ويحبون التقدم فيها والبراز.
(7) هي القيروان وما يليها.
(8) الأصناء: كالصنوان جمع صِنْو بالكسر، ومعناها في المصرية والعربية الأخوة، وأصله فسائل النخل التي تخرج من أصل واحد، وتهصص معناها في اللغتين تبرق.
(9) هداته قواده، والمراد بثانيه الذي يليه.
(10) الخسف: النقص، والنأنأة: الضعف والعجز في كل من اللغتين، ومن المعاني المناسبة لذلك في العربية قولهم: خسف فلانًا أي أذله وحمله ما يكرهه، وخسف الدابة حبسها بلا علف، ونأنأ فلان قصر وعجز، وناناه: كفه ومنعه عن الأمر، والناناء: العاجز الجبان، والزون: الصنم (راجع عدد 5 في هامش الصفحة التالية) .
(11) ساوره: كلمه بكلام يصدع رأسه، ومريري اسم رئيس اللوبيين.
(12) شياه بالتشديد: قبحه.
(13) يراد بهذه العبارة المتداولة عندهم أنه لم يحصل مثل ذلك من ابتداء الدنيا.
(14) المراد بالاختفاء: العزلة، وبالبيقرة: سكنى الدور، ويقال في العربية بيقر إذا نزل الحضر وأقام تاركًا البادية.
(15) الأزر بالفتح: القوة.
(16) الشطن بالفتح مصدر شطن (كنصر) ، يقال: شطن في الأرض أي دخلها، إما راسخًا، وإما واغلاً، وهذا هو المعنى بالمصرية.
(17) الحجا في اللغتين العقل، والمراد هنا ذو الحجا على حذف المضاف، ويقدي يجيء مقحمًا من البادية، وقوله: يهوي بين ناس مصر أي يهبط مصر وينزل بين أهلها، فهذه الجملة كلها عربية ومحصل معناها أنه لا يوجد عقل يغرر بصاحبه فيحمله على اقتحام البادية لهبوط مصر أي على سبيل الفتح والاستعمار، والتعليل الآتي معظم ألفاظه عربية مصرية أيضًا.
(18) المراد بالسه: الخلف والوراء وهذا المعنى مجازي بالعربية، ويعنوها: يضعفها.
(19) أي تأسر مبغضيها وكارهيها أي أعداءَها.
(20) رب منف تفسير للزون، والزون بالضم يطلق في العربية على الصنم، وكل ما يتخذ للعبادة وعلى الموضع الذي تجمع فيه الأصنام وتنصب وتزين.
(21) هو بوزن أمير السيف، ويطلق في العربية على السيف الصقيل، والسيف الذي عرض له الطبع أي الصدأ - ضد، والمراد هنا الأول بقرينة المدح.
(22) الآئن اسم فاعل آن على نفسه أونا رفق بها في السير، ويستعمل بمعنى الرأفة والوداع، وهو الموافق للغة المصرية.
(23) هو الذي يؤخذ عنوة، يقال: أعناه بمعنى أخضعه، وبمعنى أبقاه أسيرًا.
(24) ورد بمعنى أحاسن الأشياء، فالظاهر أنه محرف عن الأطايب جمع أطيب.
(25) الكندر بضم الكاف والدال: اللبان الذي كان يستعمل بخورًا في المعابد في عهد المصريين، ولا يزال يستعمله النصارى.
(26) السراة: جمع سري كغني وقيل اسم جمع له، وهم أشراف القوم في اللغتين، وتقتمي ورد في الأثر بمعنى تجمع، ويظهر أن أصله في العربية تقتم من أقتم الشيء؛ فإن الميم الثانية تقلب ألفًا وورد بمعنى الكنس، وأكل جميع ما على المائدة ففيه معنى الجمع.
(27) يلمأ: يلمح بنظره، والطَّوْل بالفتح الفضل والعطاء والسعة واللوقة الساعة، يقال: ذهب فلان في لوقة - أي ساعة.
(28) تخيط من: خاط إليه الشيء إذا مر عليه سريعًا لا يلوي على غيره، والقمأ الذل والصغار.
(29) يون ورد بمعنى يضعف، ويقال في العربية بمعنى ضعف وفتر، ووني التشديد أيضًا.
(30) أي يدنون من الحبو، وهو أحد معانيه.
(31) تاياه قصد شخصه وتعمده، والخارّ اسم فاعل من خر أي وقع وسقط.
(32) اللقبان يطلقان بمعنى الملك، والقب رئيس القوم وسيدهم.
(33) أي يقذف من فيه كل ما يأكله، يقال بق ما في فيه إذا قذفه بعنف، وهو مستعمل الآن في بلاد الشام، وقم ما على المائدة أكله كله.
(34) أي العجلة تدفع المستعجل في شرك أعماله، ولو كان نابًا - أي سيدًا وجيهًا، والشوشاء أو الشوشاة في العربية الناقة السريعة، والناب المسن من الإبل ويطلق مجازًا على السيد.
(35) يلخ: يعرف، وبالعربية لخ الخبر تخبره تخبيرًا واستقصاه، وبحسه: جرأته، ويطفه: يربطه تقول العرب: طف الناقة إذا شد قوائمها.
(36) أي فرح وهو في العربية البطر من الفرح.
(37) النهيم الصوت وهو بالعربية صوت الأسد ونحوه.
(38) النجد كضخم وككتف ذو النجدة، ورجل نجد: شجاع ماضٍ فيما يعجز عنه غيره، سريع الإجابة إلى ما يدعى إليه وهي النجدة.
(39) تقدم تفسير الشطن وهو هنا التوغل، والمتن: الطريق.
(40) الزأد: الفزع، واللب: القلب، والنات: الناس على الإبدال في اللغتين.
(41) الآبار والقليب في العربية البئر مطلقًا أو القديمة، جمعها قلب بضم القاف وسكون اللام وضمها، وأقلبة، وقلائب جمع الجمع، وهو غير مستعمل بالعربية.
(42) الماصعون المقاتلون بالسيوف، تقول العرب: مصع فلانًا إذا ضربه بالسيف أو بالسوط ويتكرون يتكلفون الكرى وهو النوم، يفسره قوله: وينامون.
(43) أبابهم رغبتهم وقصدهم.
(44) أي تمر مرًّا بطيئًا أو سريعًا.
(45) معناه: هيا فانظر كل أجنبي أتى متكلمًا بلغته (كذا فسره المترجم) .
(46) رأسه وفي معاجم العربية: النطاب ككتاب الرأس وحبل العنق أو العاتق.
(47) التحنو: هم سكان القيروان وما بعدها، والخيتا: هم الحيثيون المذكرون في التوراة.
(48) قحا المال: واقتحاه أخذه كله، الوبنة: الأذى يقول نهبت أموال كنعان لأذاها وضرها وأسرت عسقلان.
(49) الخلية التي لا زوج لها.
(50) وعفه أضعفه، هكذا ورد بالمصرية، والوعف: بالمهملة والمعجمة في العربية ضعف البصر يقال: وعفه وأوعفه وأوغفه وبقية الألفاظ فسرت قبل.(18/387)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جواب على استفتاء المنار
(جزء 2 مجلد 18) في قول الشاعر
جدير (كذا) ببهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحة عثنون وفتل والأصابع
وإنما قال الشاعر (مَليء ببهرٍ) ، فقوله (جدير) سهو منه في اللفظ، لا
في المعنى لأن مليء معناها عنده جدير، أو حري، أو أو، وتفسيره مليء بهذا
المعنى هو الذي حمله على استغراب التقدير في البيت مع أنه لم يرد في كتاب من
كتب اللغة مليء بمعنى جدير، أو حري، أو ما يصح به معنى البيت بالعطف على
بهر، ولم يسمع هذا المعنى حقيقة، ولا مجازًا، إلا إذا استعمله بعضهم وحمله على
المجاز من عنده تجوزًا، ولا يخفى أن اللغة سماعية توقيفية لا يحتج بالاصطلاح
والاستعمال فيها، وحاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء (؟) من ملئ كسمع
فعيل بمعنى مفعول، ومعناه مملوء، ومنه مليء للغني لامتلاء خزائنه بالمال
والحسنى القضاء لامتلائهم علمًا وحكمة، فيقال فلان مملوء بالبهر والعي، ولا يقال
مملوء بالالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع، فإذا سخف المعنى وجب التقدير
وإن استقام النظم، وبحث خطأ المعاني وصوابها والحذف والتقدير لذلك مذكور في
محله من كتب البلاغة، وإليك خلاصة ما ورد في معنى ملئ بالهمز قال في
القاموس ملأه كمنع ملأً ومِلأة بالفتح والكسر، وملّأه تملئة فامتلأ وتملّأ ومليء كسمع
أقول (ومليءٌ من ملئَ) هذه، وقال في تاج العروس: ورجل مليء جليل يملأ العين
وفلان أملأ لعيني، وهو رجل مالئ للعين، ومنه حديث عمران إنه ليخيل إلينا أنه
أشد ملئة، إلى أن قال في آخر المادة وهو ملآن من الكرم ومَليء.
فلا وجه لاستغراب التقدير في البيت حينئذ إلا إذا جوزنا قول من يقول فلان
مملوء بمسح العثنون وفتل الأصابع، ولم نستسخفه، أو وجدنا معنى لمليء يصح به
العطف على بهر، وكان هذا المعنى واردًا في اللغة حقيقة، أو مجازًا، واستعمله
من يُعتد ويُحتج به.
(المنار)
صححنا البيت في الجزء الماضي، فلم يبق محل لما ذكر في هذا الجواب في
شأن استبدال كلمة جدير بكلمة مليء، والواجب حصر الكلام في ضبط البيت وبيان
معناه بالألفاظ التي ورد فيها.
ادعى (المتأدب) المجيب أن حاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء معناه
مملوء، وأنه ملئ كسمع، وأنه يصح أن يقال: مملوء بالبهر، ولا يصح أن يقال
مملوء بالالتفات ومسح اللحية وفتل الأصابع؛ فلهذا وجب التقدير عنده وهو الذي
قال إن التقدير: وله التفات وسعلة ... إلخ، ولا وجه لاستغراب التقدير عنده إلا
في الحالتين اللتين ذكرهما في الجواب، وهما عنده في حيز النفي، هذا حاصل
جوابه.
ما ذكره وبنى عليه جوابه من أن حاصل ما في كتب اللغة أن (مليء) معناه
مملوء، وأنه من ملئ كسمع، غير صحيح فما كل مملوء يسمى مليئًا، ولا كل ما
أطلق عليه لفظ مليء يصح أن يطلق عليه لفظ مملوء، وإن كان لا يخلو الاستعمال
من المناسبة لأصل معنى المادة، ولا مليء من ملئ كسمع قال في لسان العرب:
والملاء الزكام يصيب من امتلاء المعدة، وقد ملؤ فهو مليء، ومُلئ فلان وأملأه
الله: أزكمه فهو مملوء على غير قياس، ثم قال: وقد ملُوء الرجل يملُؤ ملاءة فهو
مَلئ: صار مليئًا، أي ثقة فهو غني مليء بَيِّنُ الملاءِ والملاءةِ - ممدوان - وفي
حديث الدين " إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع " المليء بالهمز الثقة الغني، وقد
أولع فيه الناس بترك الهمز، وتشديد الياء، وفي حديث عليّ - كرم الله وجهه -:
(لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه) . اهـ.
وفى القاموس المحيط: والملآء الأغنياء المتمولون، أو الحسنو القضاء منهم،
الواحد مليء. اهـ، وقد غفل (المتأدب) المجيب عن قوله (منهم) فظن أن
المليء يطلق على الحاكم الحسن القضاء لامتلائه علمًا وحكمة، على أن له أن يقول
هذا من تلقاء نفسه تجوزًا، وإن كان في جوابه ما يدل على عدم الجواز، فالقول
الثاني من قولي القاموس إن المليء يطلق على الغني الحسن القضاء أي الوفاء لا
على كل غني، ومثل هذا لا يجوز أن يقال فيه مملوء، وفسر الجوهري المليء
بكثير المال أو الثقة الغني، والفيومي بالغني المقتدر، حكاهما شارح القاموس.
وفي مجاز الأساس ما نصه: وما كان هذا الأمر عن ملأ منا أي ممالأة
ومشاورة، ومنه: هو مليء بكذا: مضطلع به، وقد ملؤ به ملاءة، وهم مليئون به
وملآء. اهـ.
هذا حاصل ما ورد في كتب اللغة في الكلمة لا ما قاله المجيب، ومنه يعلم أن
أظهر هذه الأقوال في تفسير البيت أن (مليء) فيه بمعنى مضطلع، وحاصل
المعنى أن هذا الخطيب الذي يذمه الشاعر لا قوة له على الخطابة، لا اضطلاع له
بها وإنما هو مليء مضطلع بصفات العي والحصر كلها، وهي البهر الذي هو
انقطاع النفس وتردده من الإعياء والالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع،
فالمضلع بالأمر هو القوي عليه القادر على احتماله، ويصح أيضًا أن يقال إنه غني
وثقة بهذه الصفات، أي لأنه فقير من الفصاحة والبلاغة، وما به تكون الخطابة،
أوْ لا ثقة به في ذلك.
ومن البديهي أن كلمة مملوء لا تحل محل كلمة مضطلع، ولا كلمة ثقة، ولا
كلمة حسن القضاء، أي لما عليه من الحق، بل ولا محل كلمة غني ومزكوم،
ولكن معنى الامتلاء يناسب هذا المعنى في الجملة دون معنى المضطلع والثقة، ولم
يرد عنهم: إناء أو دلو أو ذق مليء، كما يقال مملوء، فالفرق بين مليء ومملوء
مثل الصبح ظاهر.
ثم إننا نقول إذا جرى (المتأدب) في فهم كل استعمالات اللغة على الطريقة
التي جرى عليها في فهم هذه الكلمة (مليء) فاته الفهم الصحيح في أكثرها،
وأعني بهذه الطريقة أن يعمد إلى كلمة من أصل المادة، ويحمل عليها كل معنى
حقيقي ومجازي لها، مثال ذلك قولهم: اضطلع بالأمر، أصل معناها الاشتقاقي:
احتملته أضلاعه؛ ولكنه يقال في الأمور المعنوية، ومنه قول عليّ - كرم الله
وجهه - في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضطلع بأمرك لطاعتك فسروه
في كتب اللغة والحديث بقولهم: قوي عليه ينهض به، وليس أمر الوحي والدين
مما تحمله الأضلاع، وإنما يحمله العقل والروح ويؤديه اللسان.
هذا ما ظهر لنا، فما يقول في البيت أدباء مصر كالشيخ المرصفي، والشيخ
محمد المهدي، وإسماعيل باشا صبري، وحفني بك ناصف، وأحمد بك تيمور،
وحافظ بك إبراهيم، ومحمد بك المويلحي، وسائر الكتاب والشعراء؟ .
__________(18/396)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(الواجب)
(مؤلفه الفيلسوف الفرنسي جول سيمون، وقد ترجم الجزء الأول منه
بالعربية محمد أفندي رمضان، والشيخ طه حسين، وطُبع بمطبعة الجريدة،
وصفحاته 74، وللمترجمين مقدمة وترجمة للمؤلف في بضع صفحات.
الكتاب من أشهر كتب الفلسفة التي نقحها عقل ذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير
وموضوع الجزء الأول المُترجَم منه مبحث الاختيار، ومذهبه فيه كمذهب أهل
السنة وسط بين مذهبي الجبرية والقدرية، وقد عقد فيه فصلاً طويلاً للكلام في
العادة، ومكان الاختيار منها، وتأثيرها في أعمال الإنسان.
***
(شرح ابن عقيل على الألفية)
هذا الكتاب من أشهر كتب النحو، وأكثرها تداولاً، وقد طُبع مرارًا كثيرة
طبعات لا تستحق الذكر حتى طبعه منذ عامين صاحب المكتبة الأزهرية الشيخ
محمد سعيد الرافعي بمطبعة السعادة طبعة جميلة على ورق جيد بقطع أصغر من
قطع المنار، وأكبر من قطع رسالة التوحيد، ووضع له في أدنى الصفحات حواشي
في إعراب ما يشكل من أبيات الألفية وأبيات الشواهد، وتفسير الكلمات الغريبة في
أبيات الشواهد مع عزو الأبيات إلى قائليها، ومتن الألفية في هذا الشرح مضبوط
بالشكل الكامل، فنرجو لهذه الطبعة ما تستحق من الانتشار، وهو يُطلب من طابعه،
ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(ديوان الحماسة)
أعاد الرافعي أيضًا طبع ديوان الحماسة في مطبعة السعادة، مع شرح غريبة
له المختصر من شرح التبريزي، طبعه على ورق جيد، وضبط الأبيات ضبطًا
تامًّا نادر الغلط، وقد امتازت هذه الطبعة على طبعته الأولى له بتراجم معظم
شعراء الحماسة، وبذكر سبب الشعر، وصفحاته 432 بقطع شرح ابن عقيل
ويطلب من طابعه، ومكتبة المنار بمصر.
ولعمر الله إن هذا الديوان بهذا الشرح لمن أنفع الكتب لطالب العربية، حتى
أنه كاد ليغني عن شرح التبريزي نفسه، وقد عُني الرافعي بتصحيحه عناية عظيمة
***
(المزهر)
في علوم العربية وأنواعها للعلامة جلال الدين السيوطي (جزآن) وبهذه
المناسبة نقول: إن الرافعي أعاد طبع كتاب المزهر النفيس الشهير منذ بضع سنين
على ورق جيد بمطبعة السعادة بمصر.
***
(دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم)
من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
هذا الكتاب من جمع ورواية الإمام القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة
القضاعي الفقيه الشافعي المتوفى سنة 454، وهو منقول بالرواية سماعًا من ناسخه
عن القاضي سناء الدين أبي عبد الله محمد العامري بمصر نسخه له - من الشريف
القاضي الخطيب فخر الدولة أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الحسيني
الزيدي، عن أبي عبد الله محمد بن بركات هلال السعيدي اللغوي عن المؤلف.
طبع الرافعي هذا الكتاب لأول مرة عن نسخة نفيسة وجدت عند البحَّاثة جميل
بك العظم مكتوبة بخط حسن على ورق جيد، مضبوطة بالشكل التام، كتبها محمد
بن منصور بن خليفة بن منهال برسم ولده منهال، وفرغ منها في 8 ذي القعدة سنة
611 عن نسخة عليها خط الشريف الخطيب أحد رواة الكتاب، وصورة سماع
رواتها، والإجازات بها، طبعه بمطبعة السعادة، وص 208 بقطع ما ذكر آنفًا من
مطبوعاته، ويُطلب من طابعه ومن مكتبة المنار.
وحسبنا أن نقول: إن هذا الكتاب من نخب كلام أمير المؤمنين الذي أنزل الله
الحكمة على قلبه، ونطق بها لسانه، ولا يجهل أحد أن كلام الإمام يعد بعد كلام الله
ورسوله في أعلى ذروة البلاغة، والفصاحة، والحكمة البالغة، والآداب الجامعة.
__________
(*) عهدنا بتقريظ المطبوعات إلى شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.(18/399)
شعبان - 1333هـ
يوليو - 1915م(18/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أصول الفقه عند الظاهرية
وهي المسائل التي جعلها الإمام أبو محمد علي بن حزم مقدمة لكتابه (المُحَلَّى)
وعناوين المسائل من زيادة المنار
(2)
أفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) :
(مسألة) وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست فرضًا، إلا ما كان
منها بيانًا لأمر، فهو حينئذ أمر؛ لكن الائتساء به - عليه السلام - فيها حسن،
برهان ذلك هذا الخبر الذي ذكرنا آنفًا من أنه لا يلزمنا شيء إلا ما أَمَرَنا به، أو
نهانا عنه، وإن ما سكت عنه فهو ساقط عنا، قال الله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)
***
شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا:
(مسألة) ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا، عليه السلام. قال
الله - عز وجل -: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) حدثنا
أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن مرة، نا محمد بن وضاح، نا أبو بكر بن
أبي شيبة، نا هشيم، نا بشار، نا يزيد الفقير: أخبرني جابر بن عبد الله أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي:
نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من
أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت
الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة " فإذا صح
أن الأنبياء - عليهم السلام - كلهم لم يبعث أحد منهم إلا إلى قومه خاصة، فقد صح
أن شرائعهم لم تلزم إلا من بُعثوا إليه فقط، وإذا لم يبعثوا إلينا، فلم يخاطبونا قط
بشيء، ولا أمرونا ولا نهونا، ولو أمرونا ونهونا وخاطبونا لما كان لنبينا - عليه
السلام فضيلة - عليهم في هذا الباب، ومن قال بهذا فقد كذَّب هذا الحديث وأبطل
هذه الفضيلة التي خصنا الله تعالى بها.
فإن صح أنهم - عليهم السلام - لم يخاطبونا بشيء، فقد صح يقينًا أن
شرائعهم لا تلزمنا أصلاً، وبالله تعالى التوفيق.
***
تحريم التقليد:
(مسألة) ولا يحل لأحد أن يقلد أحدًا، لا حيًّا، ولا ميتًا، وعلى كل أحد
من الناس الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله
- عز وجل - في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم
أهل بلده بالدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا دُل عليه سأله،
فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله ورسوله؟ ، فإن قال له: نعم، أخذ بذلك وعمل
به أبدًا، وإن قال له: هذا رأيي، أو هذا قياس، أو هذا قول فلان، وذكر له
صاحبًا، أو تابعًا، أو فقيهًا قديمًا أو حديثًا، أو سكت أو انتهره، أو قال له لا
أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله؛ ولكن يسأل غيره، وبرهان ذلك قوله - عز
وجل -:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [[1]
(النساء: 59) ، فلم يأمر عز وجل قط بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلد عالمًا،
أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى، ولا رسوله _ صلى الله عليه وسلم -، ولا أولي
الأمر، وإذا لم يردا إلى ما ذكرنا فقد خالف أمر الله - عز وجل -، ولم يأمر الله -
عز وجل - قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض.
فإن قيل فإن الله تعالى قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، وقال تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) قلنا نعم ولم يأمر الله - عز وجل - أن تقبل من النافر للتفقه
في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه لم يأذن به
الله - عز وجل -، وإنما أمر تعالى أن نسأل أهل الذكر عما لا نعلم من الذكر
الوارد من عند الله تعالى فقط، لا عما قاله [2] من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر
تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به
رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا في دين لم يشرعه الله عز وجل.
ومن ادَّعى وجوب تقليد العامي للمفتي، فقد ادعى الباطل، وقال قولاً لم يأت
به قط نص قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل
لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله، قال الله تعالى ذامًّا لقوم: {إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: 67) .
والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله تعالى الذي أوجبه على
عباده، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلمًا إلا حتى يُقر
بأن الله تعالى إلهه لا إله له غيره، وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فهذا الدين إليه وإلى غيره، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا:
أهذا هو حكم الله تعالى، وحكم رسوله؟ ، وهذا لا يعجز عنه من يدري بالإسلام
ولو أنه كما جلب من (قوقو) ، وبالله تعالى التوفيق.
***
استفتاء أهل الحديث لا الرأي:
(مسألة) وإن قيل له إذا سأل عن أعلم بلده في الدين: هذا صاحب حديث
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا صاحب رأي وقياس، فليسأل
صاحب الحديث، ولا يحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلاً، وبرهان ذلك قول الله
تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ، وقوله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فهذا هو الدين لا دين سوى ذلك، والرأي والقياس
ظن، والظن باطل.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أحمد بن سعيد، نا ابن وضَّاح، نا
يحيى بن يحيى، نا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) .
حدثنا يونس بن عبد الله، نا يحيى بن مالك بن عائذ، نا أبو عبد الله بن أبي
حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، نا يوسف بن يزيد
القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم
عن الشعبي قال (السنة لم توضع بالمقاييس) حدثنا محمد بن سعيد بن ثبات نا
إسماعيل بن إسحاق البصري، نا أحمد بن سعيد بن حزم، نا محمد بن إبراهيم بن
حمون الحجازي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول (الحديث
الضعيف أحب إلينا من الرأي) [3] ، حدثنا همام بن أحمد، نا عباس بن أصبغ، نا
محمد بن عبد الملك بن أعين، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال سألت أبي عن
الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث، لا يعرف صحيحه من سقيمه،
وأصحاب رأي فتنزل به النازلة: من يسأل؟ فقال أبي: يسأل صاحب الحديث،
ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة.
***
رفع الخطأ والنسيان:
(مسألة) ولا حكم للخطأ ولا للنسيان إلا حيث جاء في القرآن أو السنة لهما
حكم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: 5) ، وقال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:
286) .
***
إنما التكليف بالاستطاعة:
(مسألة) وكل فرض كلفه الله تعالى الإنسان، فإن قدر عليه لزمه، وإن
عجز عن جميعه سقط عنه، وإن قوي على بعضه، وعجز عن بعضه سقط عنه ما
عجز عنه، ولزمه ما قدر عليه منه سواء كان أقله أو أكثره، برهان ذلك قول الله
تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وقول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وقد ذكرناه قبل
بإسناده، وبالله تعالى التوفيق.
***
لا يقدم الموقت على وقته:
(مسألة) لا يجوز أن يعمل أحد شيئًا من الدين موقتًا بوقت قبل وقته، فإن
كان موقتًا الأول من وقته، والآخر من وقته لم يجز أن يعمل لا قبل وقته ولا بعد
وقته، لقول الله -عز وجل-: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:1) ،
وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} (البقرة: 229) والأوقات
حدود فمن تعدى بالعمل وقته الذي حده الله تعالى له، فقد تعدى حدود الله [4]- حدثنا
عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد،
نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحق بن إبراهيم - هو ابن راهويه-
عن أبي عامر العقدي، نا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعيد بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف، قال سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال:
أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمل عملاً ليس
عليه أمرنا فهو رد) .
(قال علي) ومن أمره الله تعالى أن يعمل عملاً في وقت سماه له، فعمله
في غير ذلك الوقت، إما قبل الوقت، وإما بعد الوقت، فقد عمل عملاً ليس عليه
أمر الله تعالى، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود باطل غير
مقبول، وهو غير العمل الذي أمر به.
فإن جاء نص بأنه يجزئ في وقت آخر، فهو وقته أيضًا حينئذ، وإنما الذي
لا يكون وقتًا للعمل، فهو ما لا نص فيه، وبالله تعالى التوفيق.
***
المجتهد المخطئ خير من المقلد المصيب:
(مسألة) والمجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب، هذا في
أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل، ولا للمقلد،
وكلاهما هالك، برهان هذا ما ذكرناه آنفًا بإسناده من قول رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) ، وذم الله تعالى التقليد جملة،
فالمقلد عاصٍ، والمجتهد مأجور.
وليس من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقلدًا لأنه فعل ما أمره
الله تعالى به، وإنما المقلد من اتبع دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه فعل
ما لم يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ
غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران:
85) .
***
الحق واحد لا يتعدد:
(مسألة) والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ، وبالله تعالى
التوفيق، قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس: 32) وقال
تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ،
وذم تعالى الاختلاف فقال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (آل عمران:
105) ، وقال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا} (الأنفال: 46) ، وقال تعالى {تِبْيَاناً
لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) فصح أن الحق في الأقوال هو ما حكم الله تعالى به
فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله تعالى، ومن ادعى
أن الأقوال كلها حق، وأن كل مجتهد مصيب، فقد قال قولاً لم يأت به قرآن، ولا
سنة، ولا إجماع، ولا معقول.
وما كان هذا فهو باطل ويبطله أيضًا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
(إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فنص - عليه السلام - أن المجتهد قد يخطئ.
ومن قال: إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كُلفوا إلا إصابة ما
أمر الله تعالى به، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) فافترض - عز وجل - اتباع ما أنزل إلينا، وأن
لا نتبع غيره، وألا نتعدى حدوده.
وإنما أُجِرَ المجتهد المخطئ أجرًا واحدًا على نيته في طلب الحق فقط، ولم
يأثم إذ حرم الإصابة. فلو أصاب الحق أجر أجرًا آخر، كما قال عليه السلام إنه
إذا أصاب أجر أجرًا ثانيًا، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، نا إبراهيم بن
أحمد، نا الضريري، نا البخاري، نا عبد الله بن يزيد المقري، نا حيون بن
شريح، نا يزيد بن عبد الله بن الهادي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن بشر
بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله
أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " ولا يحل الحكم بالظن أصلاً لقول الله -
عز وجل -: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم:
28) ، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (إياكم والظن فإن الظن أكذب
الحديث) ، وبالله تعالى التوفيق. اهـ.
__________
(1) في الأصل: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
(2) في الأصل عن من قاله.
(3) الحديث الضعيف عند أحمد هو الحسن عند الجمهور.
(4) الحدود المكانية أولى بهذا الحكم من الحدود الزمانية كمواقيت الحج، وقد عبر عنها في الأحاديث بمادة الحد، كما في حديث ابن عمر في البخاري (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد لأهل نجد قرنا) ، وقد مضى عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على ذلك فيصدق على مخالفة الحديث الآتي (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وقد أنكر عثمان على من أحرم من خراسان، وأنكر مالك على من أراد الإحرام من مسجد الرسول بالمدينة وقال له: أخشى عليك الفتنة، وحديث أم سلمة في الإهلال من المسجد الأقصى لا يصح، وما روي في تفسير إتمام الحج والعمرة، (أن تحرم من دويرة أهلك) فمعناه أن تنوي الحج منها كما يفسره ما روي عن ابن عباس وغيره من قوله:
(أن تحرم من دويرة أهلك) لا تريد إلا الحج والعمرة، وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة، ولا لحاجة حتى إذا كنت قريبًا من مكة، قلت لو حججت أو اعتمرت! وذلك يجزئ؛ ولكن التمام أن تخرج له لا لغيره "، وبهذا تتفق هذه الرواية مع تفسير الجمهور وظواهر النصوص والسنة العملية.(18/401)
الكاتب: أحمد كمال
__________
المقارنة بين
اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*]
(3)
نص وترجمة الوصفة الطبية المدرجة في القرطاس الطبي المحفوظ بمتحف
برلين، وهي التاسعة والتسعون بعد المائة، وكانت كتابة هذا القرطاس في زمن
العائلة التاسعة عشرة، واسم الوصفة الطبية بلسانهم (بخر) [1] .
لمأة [2] تمشؤ الست لا تمشؤ [3]
بُرٌّ [4] وعُضٌّ [5] تفوحهما [6] الست بمائها رفاء [7] مثل البرني [8] والعيش [9] في
غلافين [10] ، فإن ذرءا [11] لوفرتهما [12] ، فإنها تمشؤ وإن ذرأ البر فهو ذكر، وإن
ذرأ العض فهو ست، وإن عدم الذرء لا تمشؤ.
والمعنى: إن أُريد أن يُعرف هل تلد المرأة أم لا تلد، وماذا تلد إن ولدت،
فليوضع في غلاف أي إناء شيء من البر، وفي إناء آخر شيء من الشعير، كما
يُفعل في نقع التمر والعيش، وتبول المرأة عليهما كل يوم، فإن نبتا معًا فإنها تلد
وإن نبت القمح وحده تلد ذكرًا، وإن نبت الشعير وحده تلد أنثى، وإن لم ينبتا لا
تلد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لأحمد كمال بك أمين المتحف المصري.
(1) البخر: مقلوب الخبر بالضم أي الاختبار بالتجربة ونحوها.
(2) اللمأة: اللمحة، فالهمزة مقلوبة عن الحاء، وهذا القلب معهود في اللغتين العربية والمصرية، وقد ورد في العربية لمأة ولمحة بمعنى واحد، بل هو فعل واحد.
(3) هو من المشاء بالفتح وهو بالعربية النماء، ومنه الماشية، قال في لسان العرب: وأصل المشاء النماء، والكثرة، والتناسل؛ ولكن فعله بالعربية يائي يقال مشت إبل بني فلان تمشي مشاء إذا كثرت، والمصريون همزوا الفعل وقد اختلف علماء اللغة العربية في إطلاق لفظ الست على المرأة فقيل إنه مأخوذ من الجهات الست كما قال البهاء زهير:
ولكن غادة ملكت جهاتي ... فلا عجب إذا ما قلت ستي
وقيل لحن أو عامي، وقال الفيروزآبادي الصواب أن أصله سيدتي، وظاهر كلامه أنه مخصوص بالنداء، وخالفه غيره في هذا، واستعمال هذه الكلمة بمصر أكثر من استعمالها في سائر البلاد العربية، ولا يبعد أن تكون مما أخذ العرب عن قدماء المصريين لا العكس.
(4) البر والقمح والحنطة واحد في اللغتين كما تقدم في النبذة الأولى.
(5) العض: بضم العين المهملة من أسماء الشعير بالعربية والمصرية وهو المراد هنا.
(6) المراد بالتفويح بالماء هنا إراقة البول، ومادته فوح تدل في العربية على الإراقة لكنه استعمل في الدم، يقال أفاح الدم إذا أراقه وسفكه، وفاح الجرح على انتشار الرائحة، وهو المشهور، وعلى السعة وقالوا بحر فواح.
(7) قال أحمد كمال بك: رفاء معناه كل يوم، ولا نعرف له أصلاً في العربية بهذا المعنى، ويقرب منه الرفاء (بالكسر) وهو الاتصال والالتحام.
(8) البرني: أجود التمر، وذكر في النبذة الأولى.
(9) العيش: أطلق على الخبز في اللغتين؛ لأنه المادة التي يعيش بها أكثر الناس.
(10) الغلاف بوزن كتاب الصوان، والغشاء الذي يصان به الشيء، يقال غلاف الكتاب، وغلاف السيف، واستعمل بالمصرية بهذا المعنى.
(11) يقال بالعربية ذرأ الأرض بمعنى بذرها، ويقال بذرت الأرض إذا أخرجت نباتها متفرقًا.
(12) معناه بالمصرية كلاهما، والوفرة بالعربية الكثرة.(18/431)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
مدرسة دار الدعوة والإرشاد
دروس سنن الكائنات
محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي
(8)
الأعضاء التي لا قناة لها
علم مما سبق أن في جسم الإنسان نوعين من الأعضاء:
(النوع الأول) : هو الذي له قناة تحمل إفرازه سواء أكان هذا الإفراز
صالحًا للجسم، أم ضارًّا به، فمثال الصالح إفراز البنكرياس، ومثال الضار إفراز
الكُلية، وتسمى هذه الأعضاء (بالغدد التي لها قناة) ، وإفرازها يسمى (بالإفراز
الخارجي) ؛ لأنه يُرى خارجًا منها، ويجري في قنواتها، وأكثر هذه الأعضاء له
إفراز آخر يسمى (بالإفراز الداخلي) ، وهو الذي يجري في الأوردة الدموية، أو
في الأوعية اللمفاوية، وله فوائد سنذكرها - إن شاء الله تعالى -، مثال ذلك
الخصية فإن لها إفراز خارجيًّا، وهو المني يجري في قنواتها المعروفة، وإفرازًا
داخليًّا لا يُرى، وله تأثير في بنية الشخص، وهيئته، وصوته، وشعر وجهه،
ونحو ذلك من مميزات الذكور التي تُفْقَد بالخصاء.
(النوع الثاني) : الأعضاء التي لا قناة لها كالطحال وغيره، وهذه لها
إفراز واحد يسمى (بالإفراز الداخلي) له منافع عظيمة في الجسم، وقال آخرون: إن
المراد من هذه الأعضاء الأخيرة ليس إفراز مواد نافعة للجسم، بل إخراج بعض
فضلاته لضرر بقائها فيه، والظاهر أن كلتا النظريتين صحيحة من بعض الوجوه،
ولكن الأولى أكثر قبولاً عند الجمهور الآن من الثانية، وهاك بيان وظيفة تلك
الأعضاء التي لا قناة لها:
(1) الطحال: عضو شهير، وهو أكبر الغدد التي لا قناة لها، وموضعه
في الجهة اليسرى من البطن بين المعدة والحجاب الحاجز، أما وظائفه فخمس:
(أولها) تكوين كريات بيضاء للدم.
(ثانيها) توليد بعض الكريات الحمراء في بعض الحيوانات.
(ثالثها) إتلاف الكريات الحمراء القديمة التي قاربت الفساد.
(رابعها) تكوين بعض مواد نيتروجينية كحامض البوليك لإخراجها من الجسم لضرر بقائها فيه.
(خامسها) يقوم الطحال بوظيفة مستودع للدم يجتمع فيه إذا انتهى الهضم فيمتلئ به ويكبر حجمه، وإذا ابتدأ الهضم يندفع الدم منه الى المعدة.
(2) الغدة الصعترية: غدة مؤقتة تكبر عقب ولادة الطفل إلى نهاية السنة
الثانية، إذ يتم نموها، ثم تأخذ في التناقص شيئًا فشيئًا؛ حتى لا يبقى إلا أثرها في
زمن البلوغ، موضعها في الجزء الأمامي من الصدر وراء القفص تمتد إلى أسفل
العنق، ولونها يميل إلى الحمرة، أو يقرب من السنجابي.
ووظيفتها تكوين كريات بيضاء كباقي الغدد اللمفاوية، وفي الحيوانات التي
تسبت (Hibern ate) [1] تبقى فيها هذه الغدة الصعترية مدة الحياة كلها، وفي
أثناء يقظتها يتراكم فيها جزء عظيم من الشحم، وهذا يستعمل في أثناء سباتها فيأخذ
في الاحتراق شيئًا فشيئًا.
فيظهر من ذلك أنها تجتمع فيها بعض المواد التي تلزم للحياة في أثناء هذا
النوم الطويل في تلك الحيوانات.
ويقول بعض العلماء: إنها تولد أيضًا بعض الكريات الحمراء في الأطفال،
وإذا أُزيلت هذه الغدة من بعض الحيوانات كالضفادع مثلاً حصل لها ضعف عضلي
شديد مع شلل ينتهي بالموت.
(3) الغدة الدرقية: تُشاهد في أسفل العنق من الأمام على القصبة الهوائية،
وشكلها يشبه الدرقة؛ ولذلك سميت بهذا الاسم، وهي في النساء أكبر منها في
الرجال، وفي زمن الحيض تنتفخ قليلاً، وقد تصاب بمرض فتحصل فيها ضخامة
عظيمة تسمى بلسان الأطباء (جواتر) Gositre [2] ، وهو مرض عسير الشفاء،
ولا يزول غالبًا إلا بعملية جراحية، فيُستأصل من العنق المسماة (بتفاحة آدم) [3]
فإن هذه الغدة التي نتكلم عليها هي تحت التفاحة بقليل.
أما مادتها فمركبة من منسوج مخصوص مشتمل على حويصلات صغيرة جدًا
مملوءة بمادة غروية مركبة من الزلال وعنصر اليود.
ووظيفة هذه الغدة أن تفرز إفرازًا داخليًّا له تأثير عظيم في بنية الشخص
وقواه العقلية، فإذا مرضت أو استُؤْصِلَتْ في الأطفال وقف جسمهم عن النمو،
وأصيبوا بالبله، وإذا أصابها المرض في الكبر حدث للإنسان ما يسمى (بالتورم
المخاطي) [Myxoedema] في جسمه؛ فتضخم جميع الأنسجة تحت الجلد حتى
يتورم جسمه، ويصاب بالضعف العام في جميع قواه الجسمانية والعقلية؛ ولذلك
يجب الاحتراس في أثناء العمليات الجراحية من استئصال هذه الغدة كلها، بل
يتحتم ترك جزء منها ليقوم بهذه الوظيفة المهمة.
وإنما سمي هذا المرض الأخير بالتورم المخاطي لظنهم أن هذا الورم ناشئ
عن زيادة المواد المخاطية تحت الجلد، والحقيقة أن المنسوج الضام الذي تحت
الجلد بجميع أجزائه هو الذي يضخم، لا المادة المخاطية التي فيه وحدها.
ولعلاج هذه الأحوال يجب استمرار حقن خلاصة من الغدة الدرقية تحت جلد
المصاب، أو تستعار له هذه الغدة من أحد الحيوانات، وتلصق بجسمه جراحيًّا
(وهي طريقة قليلة النجاح) ، وأحسن من ذلك كله أن يأكل المريض من هذه الغدة ما
دام حيًّا.
ويوجد للغدة الدرقية أخوات صغيرة بجوارها، أو فيها، والراجح عند بعض
العلماء أن التأثير الأعظم في المجموع العصبي وغيره هو لهذه الغدد الصغيرة.
(4) الغدة التي فوق الكلية: هي جسم شكله كالقلنسوة المضغوطة من
الجانبين يُرى على قمة كل من الكُليتين، أما وظيفتها فأول من اهتدى إليها طبيب
إنكليزي يسمى (أديسون) Addiso في سنة 1855م؛ ولذلك سُمي المرض
الناشئ من إصابة هذه الغدة باسمه إلى اليوم، وأعراضه ضعف في المجموع
العضلي كله، وفي المجموع الدوري للدم، وفي الأعصاب، وإصابة الجلد بلون
السمرة بحيث تشبه النحاس.
وإذا اُستخلص من هذه الغدة خلاصة، وحُقنت تحت الجلد أحدثت انقباضًا في
الأوعية الدموية الصغيرة، فهي لذلك تنفع في منع النزيف، وكذلك إذا وُضِعَتْ هذه
الخلاصة على الأغشية المخاطية صيرت لونها أكمد لانقباض الأوعية الدموية فيها
ومنعت النزيف، وأشهر الأمراض التي تصيبها هو التدرن.
(5) الجسم النخامي أو المخاطي: هو جسم في الدماغ أحمر سنجابي،
يُشاهد على السرج التركي للعظم الوتدي من عظام الجمجمة أسفل المخ، ومرض
هذا الجسم يُحْدِث ضخامة فظيعة في عظام الأطراف العليا والسفلى، وكذلك في
عظام الوجه.
(6) الغدة الصنوبرية: هي أيضًا داخل الجمجمة تحت مؤخر الجسم
المندمل الموصل بين فصي المخ، في وسطها تجويف صغير، ولم تُعْلَم لهذا الجسم
وظيفة إلى الآن، وغاية ما يُعْرَف عنه أنه أثر ضامر لعين ثالثة.
وتوجد هذه العين في حال أحسن منا في الإنسان في الأورال (الغطاء)
[Lizards] خصوصًا في النوع المسمى بالإفرنجية (هتيريا) [Hatteria] ، وهي
فيها مغطاة بالجلد، وفي الحرباء وبعض الزواحف تتصل الغدة الصنوبرية بعين
ثالثة في وسط سطح الرأس؛ ولكنها في الحالة الأثرية أيضًا.
وهذا العضو هو من أعظم، وأشهر الأعضاء الأثرية التي بني عليها مذهب
دارون.
(7) الجسم العصعصي: يوجد عند نهاية العصعص، وفيه منسوج ضام
مشتمل على كثير من أوعية دموية صغيرة، وهذا الجسم لا تُعْرَف له وظيفة أيضًا
(8) الجسم السباتي: هو جسم عند انقسام الشريان السباتي [4] الذي في
جانبي العنق الأيمن والأيسر.
وهذا الجسم يشبه في تركيبه الجسم العصعصي وهو مثله أيضًا في جهلنا
وظيفته جهلاً تامًّا
***
الجلد
تركيبه ووظيفته
يتركب الجلد من طبقتين: العليا تسمى البشرة، والسفلى تسمى الأدمة،
وفيهما الشعر، والأظفار، والغدد الدهنية، وغدد العرق، أما البشرة: فهي مركبة
من طبقات عديدة، كل منها مركب من خلايا بعضها بجانب بعض كالبلاط.
وأما الطبقات السطحية: فهي كالقشور الميتة، وتُفْقَد منها نوياتها، وتنفصل
عن الجلد شيئًا فشيئًا، ويحصل نمو البشرة من طبقاتها السفلى، وفي هذه الطبقات
ترى المواد الملونة لبعض أنواع البشر، وفيها أيضًا تحفظ المواد التي يستعملها
الناس للوشم، وطبقات البشرة تتغذى بالمادة اللمفاوية، ولها مجار دقيقة جدًّا بين
خلياتها، ولا يوجد في البشرة عروق للدم؛ ولكن يوجد في الطبقات السفلى منها
أعصاب دقيقة جدًّا.
وأما الأدمة: فهي مركبة من منسوج ليفي كثيف، وهذه الكثافة تتناقص شيئًا
فشيئًا حتى تصل إلى المنسوج الخلوي الذي تحت الجلد وبه الشحم، وفي الأدمة
حلمات صغيرة توجد بكثرة في راحة الكفين، وفي أخمص القدمين، وهي أكبر
الحلمات الجلدية، ويكون بعضها بجوار بعض صفًّا صفًّا، وهي السبب فيما نشاهده
في جلد الراحة مثلا من القنوات الصغيرة، وهذه القنوات لها أشكال متنوعة في يد
كل شخص، بحيث يتعذر وجود شخصين متماثلين فيها من جميع الوجوه؛ ولذلك
يختبر بها تحقيق الشخصية.
وفي الحلمات الجلدية لفائف من الأوعية الشعرية الدموية، وفي بعض
الأجزاء كالأخمصين، والراحتين، وغيرهما أجسام بيضاوية لها علاقة مخصوصة
بحاسة اللمس.
وفي الطبقات السفلى من أدمة الصفن، والقضيب، وحلمة الثديين ألياف
عضلية غير اختيارية، وهي التي تُحْدِث الانكماش في جلد تلك الأعضاء بانقباضها
وأما الأظفار: فهي عبارة عن بعض طبقات من طبقات البشرة تنوعت
تنوعًا خاصًّا.
وأما الشعر: فهو أيضًا طبقات من البشرة تنوعت تنوعًا مخصوصًا، وكل
شعرة تنبت من بصيلة في حفرة مخصوصة تسمى الحويصلة الشعرية، والشعر
يوجد في جميع أجزاء الجسم بدرجات مختلفة ما عدا الراحتين، والأخمصين،
والقضيب، أما لونه فهو ناشئ عن وجود مادة ملونة في خلاياه، وسبب الشيب فقد
هذه المادة، وقد يتولد في الشعر فقاقيع هوائية، وهي التي تُظْهِر أن لونه أبيض
عند حصول فزع للإنسان مثلاً.
وكل حويصلة من حويصلات الشعر لها ليفة عضلية صغيرة تجذبها في بعض
الأحوال؛ فينتصب الشعر كما يحصل عند البرد أو الفزع.
وأما الغدد الدهنية: فهي غدد كيسية موضعها في الأدمة، وتنفتح قنواتها في
أعلى حويصلات الشعر، وهي تفرز مادة دهنية فائدتها تليين الشعر والجلد،
وبانسداد هذه الغدد، والتهابها يحصل (حب الشباب) بسبب كثرة إفراز المادة
الدهنية في هذا الطور من العمر، وبعد سن الثلاثين يندر وجود هذا المرض.
وأما غدد العرق: فتوجد في جميع سطح الجلد، وتكثر جدًّا في الأماكن التي
لا شعر فيها كالراحتين، وكل منها عبارة عن أنبوبة ملتفة على نفسها، موضعها
في الأدمة أو فيما تحتها - وهو الغالب - وتنفتح قنواتها في سطح البشرة.
وأما المادة التي تفرز في داخل الأذن فلها غدد تشبه غدد العرق.
وظائف الجلد:
(1) أن يكون وقاية للجسم، ومركزًا للحس باللمس.
(2) عليه مدار تنظيم حرارة الجسم، كما سبق.
(3) يتنفس الجسم منه، فإنه يخرج منه غاز ثاني أكسيد الفحم، ويمتص
الجسم أكسجين من الهواء، وهذه الوظيفة في الحيوانات ذوات الجلد السميك ضعيفة
جدًّا؛ ولكن لها في ذوات الجلد الرقيق أهمية عظمى، حتى إذا نُزع منها الرئتان
عاش الحيوان مدة بالتنفس الجلدي فقط كما في الضفادع.
(4) الامتصاص: وهذه الوظيفة لها أهمية في العلاج؛ فإن كثيرًا من
المواد إذا وُضعت على الجلد دخلت البنية كالزئبق مثلاً، وكذلك الزيوت وغيرها
كثير، فبامتصاص الزئبق من هذا الطريق يمكن معالجة الداء الإفرنجي، وكذلك
يُعَالَج الأطفال النحفاء بدلك أجسامهم بالزيوت خصوصًا زيت السمك، وهي طريقة
لطيفة لتوقي طعمها المبغوض، ومن هنا نفهم سبب سمن أكثر المشتغلين بمس
الزيوت، والشحوم كالجزارين مثلاً؛ فإن أجسامهم تمتص شيئًا منها، والامتصاص
بالجلد هو بالضرورة أضعف من الامتصاص بالأغشية المخاطية.
(5) الإفراز: ومعناها خروج بعض المواد الضارة بطريق الجلد من جسم
الإنسان في العرق وغيره.
***
العرق
توجد غدد العرق بكثرة في الإنسان في راحتيه وأخمصيه - كما سبق -
ولذلك يكثر العرق فيهما، ولكن يوجد اختلاف بين الحيوانات في كمية العرق التي
تفرزه، وفي الأماكن التي يفرز منها بكثرة - فالثور يعرق أقل من الحصان،
والغنم، والفئران، والأرانب، والماعز لا تعرق، والخنزير إنما يعرق أنفه بكثرة،
وأما الكلاب والقطط فتعرق براحة أرجلها.
وإذا خرج العرق من الجسم تبخر في الهواء، وفي تبخره يجتذب جزءًا من
حرارة الجسم؛ فتعرض له البرودة، وإذا كان الهواء جافًّا وحارًّا ومتحركًا كان
التبخر عظيمًا، والعكس بالعكس.
ومقدار العرق في اليوم نحو 720 جراما.
تركيب العرق:
إذا خرج العرق من الجسم يخرج معه شيء كثير من الفضلات الضارة، وهو
يمتزج بالمادة الدهنية التي تفرزها الغدد المذكورة سابقًا، ويختلط كذلك ببعض
خلايا البشرة التي انفصلت عنها، وهذه الخلايا فيها كثير من مادة الكبريت، وهذه
هي إحدى الطرق لإخراج هذا العنصر من الجسم.
أما العرق فيشتمل على ماء كثير، وأملاح متعددة أشهرها ملح الطعام،
وحوامض دهنية، ومادة البولينا، وهي التي تخرج بكثرة في البول، وهي من
أشهر فضلات الجسم المتخلفة عن احتراق المواد الزلالية فيه - كما سبق -
ومما سبق تعرف العلاقة بين إفراز الكُلى، وإفراز الجلد، فإذا كثر العرق قل
البول، وبالعكس، وهذا هو السبب في قلة إفراز البول إذا اشتد الحر في زمن
الصيف؛ لذلك كان من أحسن طرق علاج المصاب بمرض في الكُلى أن تكثر
عرقه بالتدفئة، أو بالحمامات الساخنة، أو ببعض الأدوية التي يعرفها الأطباء،
وبهذه الوسيلة تخرج بعض الفضلات الضارة من الجسم بطريق الجلد فتستريح
الكُلى حتى يتم شفاؤها.
وتوجد مواد كثيرة إذا تعاطاها الإنسان خرجت بكثرة في العرق مثل الجاوي،
وبعض الأدوية حين خروجها من الجسم تهيج الجلد، وتُحْدِث فيه طفحًا مخصوصًا
كالزرنيخ مثلاً، ومثل ذلك سموم بعض الأمراض؛ فإنها تُحْدِث طفحًا في الجلد،
وسيأتي الكلام عليها في الجزء الثاني - إن شاء الله -.
وثم مواد أخرى غير ما ذكر تخرج مع العرق في بعض الأحوال، فقد شوهد
أن بعض الناس يتلون عرقهم بلون مغاير للون الطبيعي؛ بسبب خروج دم فيه أو
بخروج المادة الحمراء الملونة للدم، وقد يخرج في العرق مادة زلالية، وذلك في
مرض الرثية (الروماتزم) الذي يكون فيه العرق أشد حموضة من المعتاد، وقد
يخرج فيه أيضًا حامض اللبنيك، وذلك في الحمى النفاسية، أو في داء الكساح، أو
الخنازير.
الاستحمام:
علم مما سبق أن الاغتسال ضروري للإنسان؛ لأن تركه يسبب تراكم تلك
المواد المذكورة آنفًا على سطح الجلد؛ فتسد قنوات الغدد، وتعوق إفرازها، وإذا
قل إفراز الجلد كثر مجهود الرئتين، والكليتين فتصاب بالعطب، زد على ذلك كون
القذارة تحط من قدر المرء، وتنفر الناس منه، وتحدث بعض أمراض في الجلد
نفسه كالحكة.
ومن فوائد الاستحمام غير ما ذكر أنه ينشط الجسم، وينبه المجموع العصبي
والدوري؛ ولذلك أوجبه الشارع الحكيم بعد الجنابة لإزالة ما يحدث للجسم من
الفتور بعد الجماع، والاستحمام يقوي المرضى والضعفاء، ومن ذلك تظهر حكمة
اغتسال الحائض والنفساء لأن هاتين الحالتين هما - من غير شك - مرضيتان.
وأحسن طريقة لإزالة أوساخ الجسم هي استعمال الماء الفاتر، أو الساخن مع
الصابون، والدلك بالليف، أو نحوه، ولا يخفى أن الدلك من أحسن الوسائل
المستعملة في الطب الحديث لتقوية الأعصاب، والعضلات، وإزالة بعض الآلام؛
ولذلك يمدح بعض أطباء الإفرنج الإمام مالكًا - رضي الله عنه - لجعله الدلك من
فرائض الغسل؛ فإنه أكثر تقوية للجسم من الغسل وحده.
أما الصابون فإنه يتولد من تأثير البوتاسيوم، والصوديوم في المواد الدهنية أو
الزيتية.
أنواع الحمَّامَات هي:
(1) البارد: وحرارته تكون أقل من حرارة الجسم بكثير.
(2) الفاتر: وحرارته أقل بقليل.
(3) الساخن: وحرارته مثل حرارة الجسم.
(4) الحار: وهي مثل حرارة الجسم إذا أصابته الحمى الشديدة.
والمياه الساخنة منبهة للجسم مزيلة لآلام الروماتزم وغيرها، ويصح لكل
إنسان أن يستعملها.
أما المياه الباردة فالأولى أن لا يستعملها الإنسان إلا في زمن الصيف بشرط
أن يكون صحيح البنية سليم الكُليتين والرئتين، وإذا أحس الإنسان بعدها بحرارة
في جسمه كان ذلك دليلاً على أن بنيته تتحملها بشرط السلامة من المرض.
وينبغي أن يستعمل الإنسان بعد الحمَّام البارد الدلك الشديد، والتدفئة بالملابس
الكافية، والرياضة البدنية نحو نصف ساعة.
وكذلك يجب في جميع الحمَّامَات تنشيف الجسم من الماء تنشيفًا جيدًا؛ فإن في
ذلك وقايته من البرد، ويجب في الحمام الساخن أن لا يخرج الإنسان منه دفعة
واحدة إلى الهواء البارد، وأحسن وقت للاستحمام أن يكون في الصباح قبل الفطور
أو بعد تناول لقيمات قليلة جدًّا مع فنجان من القهوة أو الشاي، ومن الضرر البليغ
أن يغتسل الإنسان بعد الجوع الشديد، أو التعب الكبير، أو بعد امتلاء المعدة
بالطعام، ولا يصح دخول الحمَّام عقب الأكل إلا بعد مضي ساعة، أو ساعتين على
الأقل.
ولا يجوز استعمال الماء البارد للشيوخ، والعجائز، ولا للمصابين بضعف
القلب.
والماء البارد نافع جدًّا في الحميات، وكذلك الفاتر، وهذا مصدق للحديث
القائل (الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء) - كما سبق - والمعالجة بالماء
Hydrotherapy نجحت نجاحًا عظيمًا في شفاء كثير من الأمراض الضعيفة،
والأمراض التي تنهك القوى العقلية، ولإزالة مضار الحياة الجلوسية.
أما السبب في إحساس الإنسان بالحرارة عقب استحمامه بالماء البارد، فهو
تمدد أوعية الجلد، وامتلاؤها بالدم بعد انقباضها عند استعمال الماء البارد، وهو ما
يسمى (برد الفعل) .
والواجب أن يكون زمن الحمام البارد قصيرًا جدًّا (أي بضع دقائق) ؛ فإن
الغرض منه ليس تنظيف الجسم، بل تقويته، ويجب أن لا يكون الحمام الساخن
في مكان فاسد الهواء، كأن توضع فيه النار مثلاً.
وينبغي الاستحمام في الصيف مرتين في الأسبوع على الأقل، وفي الشتاء
مرة واحدة، وينبغي تغيير الملابس بعد الاستحمام، ومن هنا نفهم حكمة الشارع في
سن غُسل الجمعة، ولبس أحسن الثياب يومه، وفي فرض الغسل بعد كل جنابة
ولو بالاحتلام، وفرض طهارة الثوب.
***
الملابس
الغرض من الملابس حفظ الجسم من البرد، والحر، والرياح، والمطر،
والقاذورات، وهي تدفئه، وتحفظه من بعض العوارض، وكذلك تزينه.
وتُتخذ الملابس إما من الحيوان، أو من النبات:
(1) ما يتخذ من الحيوان:
فهو الصوف والوبر والشعر:
وهي تؤخذ من الأنعام كما هو معروف، وهذه الأشياء جميعا تغزل، ثم تنسج
ما عدا اللباد؛ فإنه يصنع بلا غزل، ولا نسج، ولتمييز هذه الأشياء عن المواد
النباتية يُوضع جزء منها في محلول القلويات [5] الكاوية، فإذا ذاب علم أنه من
أصل حيواني.
والكشمير:
يتخذ من شعر ماعز بلاد التبت.
وهذه الأصناف جميعًا موصلة رديئة للحرارة، وتمتص الرطوبة بسهولة،
وسرعة؛ ولكنها تتبخر منها ببطئ؛ فلذلك كانت نافعة جدًّا في التدفئة، ومن
معايبها أنها تيبس، وتنكمش بالغسل.
الحرير:
يُفْرَز من غدتين بأسفل جسم دودة القز، ولهما قناتان تنفتح في الشفة السفلى
لفم الدودة، والخيط الواحد عبارة عن خيطين دقيقين جدًّا ملتصق أحدهما بالآخر
وطوله نحو 4000 ياردة.
وتفرز بالدودة هذا الخيط لتبني به بيتًا حولها يحيط بها، ويخفيها عن الأعين
ويحفظها من كل ما يؤثر فيها مدة تحولها إلى فراش، ويسمى هذا البيت بالشرنقة،
فإذا تحولت إلى فراش ثقب هذا البيت، وخرج منه، فتتزاوج ذكوره بإناثه،
وتضع الإناث بيضًا صغيرًا جدًّا كحجم رأس الدبوس الصغير يشبه بزور الخشخاش
(أبي النوم) ، وهذه البويضات تفقس؛ فتخرج منها ديدان دقيقة، وهي ديدان القز،
ولا تفزر الحرير إلا بعد كبرها، وتمام نموها، وتتغذى هذه الديدان بورق التوت،
وفي بلاد المغول نوع آخر منها يتغذى بورق البلوط، وهاك تفصيل حياة هذه
الدودة كما علمته بالمشاهدة أثناء تربيتي لها:
يبدأ بيض القز يفقس في أواخر شهر فبراير، أو أوائل مارس وقت ظهور
ورق التوت، ويكون الدود صغيرًا جدًّا كالنمل، ثم يكبر حتى يصير طول الواحدة
نحو 6 - 8 سنتيمتر، ويخرج الحرير في أوائل شهر إبريل، ويقال إنه يمكن
تربيته أيضًا على ورق الخص؛ ولكن حريره يكون أقل، وتتكون الشرانق فإذا
تمت خرج الفراش منها بعد نحو 18 أو 19 يومًا، وتبدأ الإناث بوضع بيضها بعد
نحو 24 ساعة من خروجها، وعدد بيض كل نحو 200 على الأقل، ويموت الذكر
والأنثى من الفراش بعد خروجه بنحو عشرة أيام، والأنثى أكبر قليلاً، وأصفى
بياضًا.
أما لون البيض الجديد، فهو مصفر فإذا قَدُم صار رماديًّا، وهو مفرطح،
ومنبعج في وسطه، ولا يأكل الدود داخل الشرنقة شيئًا، ولا يشرب، وكذلك
الفراش.
ولون الشرنقة أبيض، أو مصفر قليلاً أو كثيرًا، وشكله بيضاوي مخصر،
وطول الشرنقة من اثنين ونصف إلى ثلاثة ونصف سنتيمترا، وعرضها واحد
ونصف تقريبًا، وقد يفقس البيض مرة أخرى في مايو.
أما خيط الحرير فله قلب محاط بمادة شمعية زلالية، ولتمييز هذه الخيوط
الحريرية عن الخيوط النباتية يُوضع عليها حامض البكريك Picric [6] ، ولونه
أصفر، فإذا تلونت به كانت حريرًا صحيحًا، وإلا فلا.
ولتمييز الحرير عن الصوف مثلاً يُوضع القماش في محلول قلوي من أكسيد
الرصاص؛ فإذا تلون باللون الأسود دل ذلك على أنه صوف لوجود مادة الكبريت
فيه؛ فتتحد مع الرصاص؛ وتحدث هذا اللون الأسود، أما الحرير فليس فيه هذه
المادة الكبريتية.
والحرير يمتص الرطوبة بكثرة، وهو موصل رديء للكهرباء، ويقال إنه
يحفظ الروائح، وجراثيم الأمراض.
ولا يحتاج الجسم إلى لبس الحرير إلا إذا كان مصابًا بداء الحكة، ولا شك أن
الشارع يبيحه في مثل هذا المرض، فقد لبسه بعض الصحابة بأمر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - في ذلك المرض، لأن الضرورات تبيح المحظورات.
ويؤخذ من الحيوانات أيضًا الفرو، والريش، والجلود، أما الفرو فيُستعمل
في البلاد القطبية، والريش يُستعمل للزينة غالبًا، والجلود تستعمل في الأحذية
وغيرها.
(2) ما يتخذ من النبات:
القطن:
وهو خيوط تحيط ببزور شجرة معروفة تنبت في البلاد الحارة والمعتدلة
كمصر، وهذه الشجرة هي حقيقة شجرة مباركة، فقطنها ضروري للملابس
والأثاث وغير ذلك، وبزورها يُستخرج منها زيت جيد نافع في التغذية يسمى في
مصر بالزيت الحلو، وهذه البروز تُستخرج منها خلاصة تدر لبن المراضع،
وكذلك إذا أُعطيت للأنعام كثر لبنها، وهذه الخلاصة تباع باسم (Lactagol)
تصنع في المعامل الإفرنجية، وتُستعمل سيقان هذه الشجرة في الوقود، وقشر
جذورها مجهض للحبالى.
والقطن كالصوف يُغزل أولاً، ثم يُنسج لصناعة الأقمشة منه، وهو عبارة
عن مادة السللولوز المتقدم ذكرها.
وإذا وضع القطن في محلول الصودا الكاوية تحول إلى مادة تشبه الحرير،
وهي التي تصنع منها أكثر الأقمشة المسماة كذبًا حريرًا.
وخيوط القطن تتحمل الغسل والغلي، وهي تمتص الرطوبة امتصاصًا رديئًا
وتوصل الحرارة جيدًا؛ ولذلك كانت الملابس القطنية مبردة.
الكتان:
يؤخذ من سيقان شجرة مخصوصة، بأن تخمر هذه السيقان في مكان رطب
ثم تدق إلى أن تتفرق خيوطها، ثم تمشط، ومن بزور هذه الشجرة يُستخرج الزيت
المسمى بالزيت الحار، وهو فضلاً على كونه مغذيًا مدر للبول، ومنفث للبلغم،
وتستعمل هذه البزور أيضًا في عمل الضمادات (اللبخ) ، والمنسوجات الكتانية
موصلة جيدًا للحرارة، وامتصاصها للرطوبة رديء كالقطن؛ ولكنها أغلى ثمنًا منه
لنعومتها وبريقها.
القنب:
يؤخذ من سيقان شجرة أخرى، كما يؤخذ الكتان؛ ولكنه خشن جدًّا، وقل أن
يستعمل إلا في الحبال، والقلاع، والأكياس الخيشية، ومن هذا النبات يؤخذ
الحشيش، وهو تلك المادة المغيبة الملعونة، وبزر القنب يستعمل لغذاء الطيور.
ألوان الملابس وسعتها:
أما ألوان الملابس فتأثيرها في الحرارة كما يأتي: الأبيض يمتص الحرارة
امتصاصًا رديئًا جدًّا فهو أبردها، ويليه الأصفر، فالأحمر، فالأخضر، فالأزرق،
فالأسود؛ ولذلك إذا وضعت قطعة من ثلج في قماش أسود، وقطعة أخرى في
قماش أبيض ذابت الأولى أسرع من الثانية؛ لأن الأبيض يطرد الحرارة، الأسود
يمتصها، وتنفذ منه إلى الثلج، وكذلك يرتفع زئبق الثرمومتر درجات أكثر إذا
وُضع على قماش أسود.
ومن الخطأ لبس الملابس الملونة فوق الجلد مباشرة؛ فإن أكثر الألوان تشتمل
على مادة سامة؛ فتهيج الجلد، وإذا امتصت منه أفسدت الصحة.
ويجب أن تكون الملابس غير ضيقة؛ وإلا عاقت الدورة، والتنفس،
وشوهت شكل الأعضاء كمشدات الإفرنج، وأحذية أهل الصين، ولبس الأحذية
الضيقة ضار جدًّا بالأقدام؛ فقد يغوص بعض الأظفار في اللحم، ويُحْدِث قروحًا،
والتهابات تؤذي الشخص أذى بليغًا، وعلى هذا ما تُحْدِثه الأحذية الضيقة في بشرة
القدم من الحلمات الصلبة المؤلمة.
نظافة الملابس:
أما نظافة الملابس، فهي واجبة طبًّا، وشرعًا لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4) فهي فرض على المسلم، وإن لم يشترطها بعضهم في صحة
الصلاة.
وأما المضار الناشئة من قذارة الثوب فهي عديدة، وإليك بيان بعضها:
(1) إذا تراكم العرق، والإفراز الدهني في الملابس، منعها امتصاص
العرق، وعاق الجلد عن تأدية وظيفته، وأحدث حكة فبثورًا، أو دمامل، وهذا هو
أهون المضار.
(2) إذا اتسخت الملابس كثر فيها القمل والبراغيث، وهما من أشد
الحيوانات فتكًا بالإنسان، فإن القمل ينقل إلى الإنسان الحمى التيفوسية، والحمى
الراجعة، والبراغيث تنقل إليه الطاعون، فللوقاية من هذه الأمراض الفتاكة يجب
تطهير الملابس من سائر الحشرات.
(3) الملابس القذرة كثيرًا ما تكون سببًا في نقل العدوى من شخص إلى
آخر إذا تناقلاها، أو لمساها، فمثلاً الجرب، والأرضة الجلدية (تينيا) كثيرًا ما
تُنقل بهذا الطريق، وإذا تنجس الثوب بالبول، أو البراز، أو الصديد، أو الدم كان
سببًا في نقل الحمى التيفودية، والدوسنطارية، والديدان الخيطية، والرمد
الصديدي، والزهري، وغير ذلك، وإذا كان الشخص من حاملي الأمراض -
وسيأتي بيان ذلك - كانت بعض مفرزاته معدية، ولو كانت صحته جيدة.
وحيث إن طهارة الثوب فرض، وهذه الطهارة لا تكون تامة إلا إذا خلا
الثوب من البول، والبراز، وغيرهما، وخلوه منهما لا يكون إلا بالاستنجاء؛
فينتج من ذلك أن الاستنجاء فرض على المسلم.
وأحسن طريقة لتطهير الثوب أن يُغْلَى غليًا جيدًا نحوًا من نصف ساعة، ثم
بعد ذلك يُغسل بالماء والصابون، ثم ينشر في الشمس كالمعتاد، ولا عيب في هذه
الطريقة إلا أنها تجمد المواد الزلالية كالدم والصديد؛ فيتعسر إزالتهما تمامًا من
الثوب، أما غسله بالماء البارد قبل الغلي؛ فيذهب تلك المواد بسهولة؛ ولكنه يلوث
الأيدي والماء؛ فإذا اتبعت هذه الطريقة الأخيرة وجب غسل الأيدي غسلاً جيدًّا،
وتطهيرها بوضعها في مادة مطهرة كالغول (الكحول) وغيره، والواجب أن يغلى
الماء الذي غسلت فيه قبل أن يلقى منعًا لانتشار الأمراض بين الناس.
***
فصل
في تنظيف الجسم كله تفصيلاً
(مع بيان فوائد ذلك وتطبيقها على الدين الحنيف)
نظافة الرأس:
تكون بحلقه، أو قصه، ثم يُغسل بالماء الساخن والصابون، مع الدلك بشيء
خشن كالليف، ولم ينه الشارع عن الحلق إلا في الإحرام؛ ولكنه أباحه لمن به
مرض، أو أذى من رأسه، والحلق واجب طبًّا لإزالة الحشرات، ولتمكين الأدوية
من برء أمراض الشواة (جلدة الرأس) ، ولعلاج جروحها، أو كسور عظامها،
ولوضع الضمادات الباردة فوقها في الصداع، أو ضربة الشمس، أو النزف المخي
أو غير ذلك؛ وإذا أبت امرأة حلق رأسها لوجود قمل أو صئبان فيه أمكن إذهاب
ذلك بصب زيت البترول فوق شعرها؛ فإن ذلك قاتل للقمل، وحمض الخليك بنسبة
1 - 4 يسهل استخراج الصئبان من الشعر - كما سبق -.
وإذا تُركت نظافة الرأس أضر الإنسان القمل، وحدث برأسه قروح، وبثور
وأمراض أخرى كالقراع؛ فيتسمم دمه بما في رأسه من القروح؛ وقد تصيبه
الحمرة، أو تلتهب العقد اللمفاوية في العنق، أو يصيبه داء الخنازير.
غسل الوجه:
واجب كذلك، وخصوصًا لتنظيف العينين؛ فإن ذلك يقيهما من أرماد كثيرة،
والأحسن أن تُغسل العينان في كل يوم مرة، أو مرتين بمحلول حامض البوريك
المشبع (أي بنسبة 4 في المائدة) بعد الغسل بالماء والصابون.
أما نظافة الأذن:
فيكفي أن تغسل، كما تغسل في الوضوء، ولا يجوز اللعب في داخلها بشيء
فإن ذلك قد يحدث التهابًا فيها، أو يثقب طبلتها، وحركة الفكين في المضغ وغيره
كفيلة بإخراج آفها (وسخ الآذان) وعندئذ يسهل غسله؛ وإذا أُهملت الآذان من
الغسل يعرض لها صمم من تراكم الأوساخ فيها، وطنين مع دوار، وقد يحدث ألم
فيها، وسعال مستمر.
غسل الأنف:
يكون بالاستنشاق، والاستنثار، أما نتف شعره فمذموم، وقد ورد في بعض
الآثار ما يفيد مدح نبات شعر الأنف، وحكمته أن هذا الشعر ينقي هواء التنفس من
التراب، والميكروبات، وغيرهما.
نظافة الفم:
هي من أكبر المهمات، وتكون بالمضمضة، والسواك؛ ولذلك كاد الشارع أن
يفرضه، ويرى بعض أطباء الإفرنج الآن أن السواك خير من مسفرتهم (فرشتهم)
لأن السواك يمكن تجديد طرفه المستعمل مرارًا كثيرة لرخص ثمنه، أما الفرشة فلا
يمكن تجديد شعرها؛ فتتراكم فيها أنواع الميكروبات الضارة بالأسنان؛ ولذلك قال
بعض أطباء الأسنان: إن السبب في انتشار أمراضها بينهم هو استعمال هذه الفرشة،
ونصحهم باستعمال السواك، وتجديده كثيرًا، أو بغلي الفرشة بعد كل استياك.
أما مرض الأسنان فإنه مؤلم جدًّا، ومفسد للهضم، ويحدث منه تسمم في الدم
فيصفر لون الشخص؛ وتضعف قواه؛ وقد يصيبه داء الخنازير أيضًا، وإذا مرض
ضعفت مقاومة جسمه، عن احتمال الأمراض فلذا كان الواجب العناية بنظافة
الأسنان نظافة تامة.
أما الشارب فالأفضل قصه فإنه تتراكم فيه الأوساخ، والميكروبات فتصل إلى
طعام الإنسان وشرابه، ولا بأس بترك اللحية لأنها بعيدة عن ذلك وهي مظهر من
مظاهر الرجولية.
الإبطان:
يجب نتفهما، أو حلقهما منعًا لتراكم القمل، أو الميكروبات فيهما؛ وقد تتولد
عفونات فيهما تُحْدِث روائح كريهة، ومن الميكروبات التي تنمو في الإبط ما يُحْدِث
العرق الأحمر.
وكذلك يجب تقليم الأظافر وتخليل ما في الأيدي من الثنيات فإن وجود
الميكروبات فيها وتحت الأظافر ضار جدًّا لسهولة وصولها إلى طعام الإنسان،
وشرابه، ومن أشهر الأمراض التي تصل بهذا الطريق هي الحمى التيفودية؛
ولذلك يجب غسل اليدين غسلاً جيدًا قبل كل طعام، ومن الأمراض التي كثيرًا ما
تصيب الأيدي داء الجرب؛ فإن حييوينه إذا وصل إلى الأيدي، ولم يُطْرَد عنها
بالتنظيف المتوالي ثقب الجلد، وأحدث هذا الداء، وأحسن الوسائل المتبعة لوقاية
الطعام من كثير من الميكروبات الأكل بالشوكات، والملاعق، واستعمال السكاكين
ويجب حلق العانة وكذلك الختان منعًا لتراكم القمل، والصئبان في شعر العانة،
وتجمع القاذورات تحت القلفة، وقمل العانة هذا هو كقمل الإبط واللحية وغيرهما؛
فلذا يمكن انتشاره من العانة إلى مواضع أخرى من الجسم حتى الحواجب،
وأهداب العين، ولا يخفى ما في ذلك من الضرر العظيم، وفي حلق العانة شيء
من تحريك داعية الوقاع لتهيج هذا المكان عند نبات الشعر.
ومن مستلزمات نظافة السبيلين الاستنجاء، وذلك للمحافظة على طهارة الثوب
المفروضة، ومنع الروائح الكريهة، وانتشار الأمراض، وقد يقي الإنسان أيضًا
من السيلان والإفرنجي، ويكون الاستنجاء باليد اليسرى، ولا ينبغي الأكل بها،
ويتحتم غسل الأيدي بعد كل استنجاء غسلاً جيدًا، وكذلك يجب بلها بالماء قبله لمنع
تشرب اليد للمواد الكريهة وللميكروبات بقدر الإمكان.
ومن الواجب أيضًا نظافة القدمين وتكون بالغسل الجيد المتكرر والتخليل،
فإن ذلك مانع لتسلخاتهما، ولروائحهما الكريهة؛ فإنه إذا تراكمت الأوساخ فيهما؛
فقد يعرض للأخمصين، ولما بين الأصابع تسلخات، ربما أدت إلى التهاب في
العقد الأربية، ونشأ عنه حمى، وخراج في ذلك الموضع، وتلك التسلخات مؤلمة
وتعوق الإنسان عن المشي، وتعطله عن أعماله.
وبعد ذكر هذه النظافة التفصيلية يجب علينا تكرار الحض على تنظيف سائر
الجسم، ودلكه جيدًا بالماء والصابون؛ فإن نفع ذلك معلوم مما سبق، ويجب علينا
تكرار ذكر ما للقمل من المضار - خصوصًا قمل الجسم أو الملابس - فإنه فضلاً
عن نقله للحميات المذكورة قد يكون هو وحده سببًا في إحداث حمى شديدة - كما
قلنا - وذلك إما بسبب تهييج أعصاب الجسم بلدغه، أو بحقن سموم في الجسم من
إفرازه، فقد شوهد أن بعض الناس قد أصابته حمى في منتهى الشدة، حتى زادت
حرارته عن أربعين، وعند البحث في جسمه لم يوجد به مرض، ولم يكن هناك
سبب لتلك الحمى سوى وجود قمل كثير في الجسم، وبعد النظافة التامة زالت عنه
الحمى في الحال.
زد على ذلك ما للقمل من المضار الأخرى، كإقلاق راحة الإنسان، ومنع
النوم عنه، وإحداث بثور في الجسم.
***
القاذورات والنجاسات
القاذورات التي نعتبرها ضارة طبًّا، هي عين النجاسات المعروفة شرعًا،
وأشهرها البول، والبراز، والدم، والقيح، أو الصديد، والقيء، والمني، ولم
يعتبر اللعاب، والمخاط من الشخص السليم ضارًّا في الشرع؛ لأنه حقيقة لا يوجد
فيه ميكروب يضر الإنسان ضررًا بليغًا، اللهم إلا ميكروب الالتهاب الرئوي
والميكروب اللعابي (الذي ذكر في صفحة 69 من هذا الكتاب) ، ولكن هذين
الميكروبين، وغيرهما يسكنان عادة في فم كل شخص، ولا يضرانه إلا إذا ضعفت
بنيته عن مقاومتهما؛ ولذلك كان الاحتراس من لعاب الشخص السليم، ومخاطه لا
فائدة كبيرة فيه، أما البلغم فهو شيء غير المخاط العادي إذ أنه يشتمل على شيء
من الصديد، وغيره كبلغم المسلولين، وهو خطر جدًّا، فيجب اعتباره نجسًا
لاشتماله على الصديد، أو الدم كما ثبت ذلك بالبحث المجهري، وقد نص الفقهاء
على أن كل ما يخرج من الصدر من نخامة وغيرها نجس.
وقال فقهاء الحنفية: إن ما زاد من هذه النجاسات عن قدر الدرهم وجب تطهير
الثوب وغيره منه، ولا يخفى أن المصاب بالسل، وغيره من الأمراض الصدرية
يخرج من فمه كثيرًا من الصديد، الذي قد يزيد عن قدر الدرهم
فإذا كان الواجب عندهم أن يتطهر الإنسان من البلغم إذا أصاب ثوبه بهذا
المقدار، كما يتطهر من البول والبراز؛ فإنه لا فرق بينهما، وكلاهما ضار ضررًا
بليغًا، على أن الإمام الشافعي يرى أن القليل والكثير من النجاسات سواء، فيجب
التطهر حتى من قليل البلغم الذي يخرج من الصدر.
***
نظافة البيوت وشروطها الصحية
من مقتضى الطهارة في الإسلام أن يكون مكان الشخص نظيفًا طاهرًا لئلا
يتنجس ثوبه فطهارة البيوت - فضلاً عن كونها واجبة طبًّا - هي واجبة شرعًا.
ومن أكثر الأسباب نشرًا للأمراض أن يدوس الإنسان في الطريق على ما
يُلقى فيه من القاذورات، وميكروبات الأمراض، ثم يأتي إلى بيته ولا يخلع نعليه
فإن ذلك مما ينشر في البيوت أكثر الأمراض كالدفثيريا، والسل، وكثيرًا من
الحميات العفنة.
فالواجب أن تكون أرض البيت، وفرشه، وحيطانه، وسقفه وكل ما حوى
في غاية النظافة، بحيث لا تتلوث بشيء من النجاسات المذكورة آنفًا، وكذلك يجب
أن تنظف من القمل، والبق، والبعوض (الناموس) ، والذباب والفئران،
والبراغيث، وغير ذلك بأن تسد جميع شقوقها، ويتكرر تنظيفها خصوصًا بالجير
أو نحوه، وتغسل أرضها، ويصب في مراحيضها شيء من البترول [7] لقتل العلق
(صغار الناموس) ، وبيضه.
وينبغي أن تكون المساكن طلقة الهواء، ذات منافذ كثيرة معرضة لأشعة
الشمس بعيدة عن الأماكن الرطبة، والأفضل أن تكون مراحيضها في الجهة
الجنوبية بمصر - أو ما يقابل الجهة التي يكثر الهواء منها في كل بلد - وتكون
حيطان هذه المراحيض مصقولة صقلاً جيدًا بحيث لا تنفذ المياه منها إلى أرض
المنزل؛ فتملأه بالرطوبات، والروائح الكريهة، وتفسد هواءه، ويجب أن يكون
لمثل هذه المراحيض منافذ كالمداخن تعلو فوق سطح المنزل من الجهة الجنوبية
لتصريف الروائح الكريهة؛ فإذا اُتبعت جميع هذه الشروط، وكانت الشوارع متسعة
كانت المساكن صحية.
ومن الناس من يجمع المواد البرازية، وغيرها في أواني مخصوصة، ثم
تحمل إلى خارج المدن، وذلك خير من تلويث أرضها بها، والأفضل من ذلك كله
أن يعمل لها مجارٍ صقيلة (كقنوات مواسير) الحديد لتحمل هذه المواد إلى مستودع
بعيد عن المدينة كلها بعدًا شاسعًا، وينبغي الانتباه إلى هذه المواسير جيدًا بحيث لا
ينفذ منها شيء إلى ما يجاورها عادة من قنوات الماء.
والسكنى في الأماكن الرطبة العفنة مضعفة للصحة بإفسادها الهواء، وإحداثها
البرودة، ولإكثار الميكروبات فيصاب الشخص بالنزلات الشعبية، والرئوية،
ونزلات الأنف، والحلق، والتهاب اللوزتين، بل الدفتيريا أيضًا، والروماتزم،
وغير ذلك.
والواجب أن تكون أفواه المراحيض حيث يتبرز الإنسان مسدودة بمثل
المنجنيق أو السيفون [8] Siphon المستعملين الآن.
وماء السيفون يذيب الغازات، ويمنع أكثرها من الدخول في البيت، وكذلك
يعوق خروج البعوض، والخنافس، والصراصير، والفئران، ويجب تجديد ماء
السيفون مرارًا حتى في اليوم الواحد.
وأعظم ضرر للنوع المسمى (ANOPHELES) من البعوض - الناموس-
هو إحداث حمى النافض (الملاريا أو الحمى الأجمية) ومن الناموس ما ينقل
أيضًا الحمى المالطية والجذام - كما سيأتي -.
وأما أهم ضرر للجرذان (الفئران الضخمة) فهو أنها تصاب بالطاعون الذي
ينتقل منها إلى الإنسان بواسطة بعض أنواع البراغيث.
وأما البق فقد ينقل الطاعون، أو الجذام، وغيرهما.
وأما الخنافس، والصراصير، والنمل فضررها الأكبر أنها تنقل القاذورات،
والميكروبات من المراحيض، وغيرها إلى طعام الإنسان، وشرابه، وملبسه
وفرشه، وكفى بذلك ضررًا عظيمًا.
***
المطهرات
علم مما سبق أن أصل جل الأمراض - إن لم نقل كلها - هو القاذورات بما
فيها من الميكروبات [9] ، وسمومها، فلذا تجب معرفة بعض الأشياء القاتلة لهذه
الأحياء الدنيئة، وهي المسماة بالمطهرات.
وأشهر هذه المطهرات وأكثرها استعمالاً ما يأتي:
(1) الشمس فإن أشعتها تقتل الميكروبات.
(2) النار وهي أقوى المطهرات، وأسهلها، وتستعمل كثيرًا في غلي
الأشياء الملوثة.
ولما كان بعض بزور الميكروبات (حبيباتها) قد يقاوم درجة الغليان (أي
درجة 100) لمدة 5 أو 10 دقائق؛ فلذا يجب إطالة مدة الغلي فوق ذلك، فإذا
أصيب شخص بمرض معد فللوقاية منه يجب غلي ملابسه، وفرشه، وجميع ما
استعمله في مرضه كالأواني وغيرها، أما الأشياء التي لا يمكن غليها كقطن
الفراش، ونحوه فهذه تطهر بوضعها في أفران مخصوصة يسلط عليها البخار في
درجة الغليان مدة ساعة حتى ينفذ إلى باطن ما فيها من الأشياء.
(3) الحوامض كحامض الهيدروكلوريك والنيتريك (ماء النار) وهي كلها
مطهرة تطهيرًا شديدًا؛ ولذلك جعل الله تعالى في عصير المعدة حامض
الهيدروكلوريك - بنسبة 2 في الألف - فإن من أعظم فوائده تطهير الطعام
والشراب.
(4) الجير ويستعمل لطلاء الحيطان، والسقف، وغير ذلك، وإذا وُضع
في سطول (جرادل) المواد البرازية نفع نفعًا عظيمًا، ويُستعمل لهذا الغرض
بنسبة واحد، أو اثنين منه إلى عشرة من الماء.
أما ماء الجير - وهو الذي يتحصل عليه بإذابة الجير في الماء المقطر حتى
يتشبع به، ثم يصفى - فإنه مطهر، مانع للقيء والإسهال، مصلح لهضم اللبن في
معدة الأطفال، مقوٍ لعظامهم، ويمكن مزجه باللبن بنسبة واحد إلى واحد أو واحد
إلى اثنين من اللبن، ويمكن أيضًا شربه بدون مزج باللبن بمقدار أربع أواقي، وإذا
مزج مع ماء الجير بزيت الزيتون، أو بزيت بزر الكتان بنسبة واحد إلى واحد من
كل منهما كان دهانًا نافعًا في الحروق - كما سيأتي -
(5) الغول النقي (الكحول الخالص) مطهر عظيم يسهل الحصول عليه
لغسل الأيدي كلما مست مريضًا.
(6) البوريك بنسبة 4 في 100 مطهر لطيف للأعين - كما سبق -، وإذا
وُضع في اللبن بنسبة واحد إلى ألف مثلاً حفظه من الفساد مدة؛ ولذلك يستعملونه
في حفظ كثير من الأطعمة؛ ولكن استعماله لمدة طويلة قد يضر بالجسم وينقص
وزنه.
(7) الفنيك يستعمل بنسبة واحد إلى عشرين لغسل الأيدي، وغيرها.
(8) الليزول - ولونه وقوامه كالعسل الأسود - يستعمل بنسبة واحد إلى
المئة عادة.
(9) الإيزال - ولونه كالطحينة المضاف إليها شيء من الماء - يستعمل
بنسبة واحد إلى مئتين، أو واحد إلى أربع مئة، ويستعمل في الإسهال بإضافة 15
نقطة منه على كل رطل مصري من اللبن؛ فإنه نافع فيه، وكذلك في الدوسنطاريا
وهذه المواد الثلاثة الأخيرة تُستخرج من قطران الفحم الحجري.
ومن المطهرات أيضًا السليماني (وهو مركب زئبقي يستعمل عادة بنسبة 1
إلى 2000) ، وأملاح النحاس (كالتوتيا الزرقاء) ، واليود، والغلسرين، وغير
ذلك كثير، وكلها مطهرات عظيمة النفع.
***
النظافة والعلاج
كما أن النظافة عليها مدار حفظ الصحة هي أيضًا الأصل الأصيل لعلاج
جميع الأمراض، والجروح، وسائر العوارض الجراحية؛ فإن علاج ذلك كله
مبني على النظافة والتطهير، إذ يكفي لعلاج أي جرح، وعمل أي عملية جراحية
أن يكون كل ما تستعمله مطهرًا طهارة تامة، حتى إذا بُقرت البطن بآلة طاهرة
أمكن درء الموت عن المصاب بكل سهولة بالتزام النظافة، ويكفي في علاج جميع
الإصابات والحروق ونحوها أن تُنظف نظافة تامة، ويتكرر ذلك يوميًّا حتى يبرأ
الجرح، ويكفي في الغالب أيضًا لعلاج أي جرح أو سحج أن يُغسل بالماء المغلي،
وأن يضمد بالقطن، والأربطة المطهرة - إما بالغلي أو بالبخار الساخن - بدون
احتياج إلى أي دواء آخر.
وفائدة تضميد الجروح، هي منع كل ما يوصل الميكروبات إلى الجرح
كالأتربة، والذباب، والهواء، والأيدي، والماء غير المغلي، وبالضماد أيضًا يقف
النزف بسبب الضغط على الجرح، وبه أيضًا تحصل راحة المكان المجروح من
الحركة، وهذه الأشياء كلها هي أهم ما يطلبه الجرح من العلاج، وأسها كلها
النظافة التامة.
وخلاصة ما تقدم كله أن العاقل يجب عليه أن يكون نظيفًا في جسمه، وملبسه،
وفراشه، ومسكنه، ومأكله، ومشربه، وفيما يعالج به أمراضه، وإصاباته.
***
تذييل للفصول السابقة
في الذباب ومضاره
لا يخفى أن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات، والنجاسات، ثم
ينتقل منها إلى طعام الإنسان، أو يسقط في شرابه، أو يقف حول عينيه؛ وبذلك
تنتقل جراثيم الأمراض إلى الإنسان، وتنتشر بين أفراد هذا النوع، ومن أمثلة ذلك
وقوفه على أعين المصابين بالرمد الصديدي، ثم انتقاله إلى الأعين السليمة؛
فتصاب بهذا الرمد، ومن أسباب انتشار الحمى التيفودية بشكل وبائي وقوف الذباب
على البراز مثلاً - إذا لم يدفن في الأرض دفنًا جيدًا - فيتلوث الذباب بميكروب
التيفود، وبعد ذلك يقف على الخبز مثلاً، ومثل التيفود الهيضة (الكوليرا)
والدوسنطاريا.
ومن الذباب ما يلدغ بعض الحيوانات المصابة بالجمرة الخبيثة، ثم يأتي إلى
الإنسان فيلقحه بها، ومنه ما ينقل بلدغه مرض النوم، وغيره من شخص لآخر،
ويقال: إن البللغرا تنتقل أيضًا بلدغ بعض أنواعه - كما سبق - ومن المحقق أن
حمى ثلاثة الأيام، وسبعة الأيام، والحمى البسيطة المستمرة في الهند كلها تنتقل
بلدغه، وحمى ثلاثة الأيام تسمى أيضًا باباتتسي، وسميت بذلك من اسم الذباب
الذي يحدثها (Phlebotomus pappatasii) ، وميكروب هذه الحميات وراء
المجهر على ما يظهر.
ومن مضار الذباب أيضًا أنه قد يضع بيضه في الجروح، أو في الآذان أو
في تجاويف الأنف؛ فيفقس هذا البيض، ويخرج منه النغف (وهو ما يسمى الآن
باليرقات ويشبه الدود) ، وهذه الديدان تأكل من جسم الإنسان، وتحدث فيه التهابًا
شديدًا، وإذا أصابت جروحه آلمته إيلامًا شديدًا، ويحصل بسببها أيضًا التهاب
الجرح وحمى، وتعوق برء الجرح مدة مديدة؛ حتى أن الجرح لا يشفى إلا إذا
خلص منها، ومن أنواع هذه الديدان ما يأكل جثث الموتى.
وقد قرر أطباء الإنكليز أن من أعظم أسباب انتشار الحمى التيفودية بين
الجنود في حرب الترنسفال (من سنة 1899 - 1902) كان الذباب وساعده في
ذلك الريح بنقل الأتربة الملوثة بالبراز إلى طعام الجنود.
فلذا يجب إزالة جميع القاذورات من حول الإنسان، ودفن المواد البرازية
ونحوها دفنًا جيدًا، أو إبادتها بأية طريقة، بحيث نأمن وقوف الذباب عليها وانتقاله
إلينا، وأحسن الطرق حرق القاذورات، أو وضع الفنيك، أو الفورمالين عليها.
وإذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال، وإذا وقف على الطعام
أو سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار، وكلما كثر الذباب وجب السعي في
إبادته بقدر الإمكان، واعلم أن الذبابة الواحدة تضع نحو 900 بيضة، وحياتها لا
تتجاوز ثلاثة أسابيع.
أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
(إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاء
، وفي الآخر داء) فهذا الحديث مشكل؛ إن كان سنده صحيحًا، فكم في الصحيحين
من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها كحديث (خلق الله التربة يوم
السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المححقون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ بها الأئمة في
مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قاله بلفظه مع منافاته للعلم، وعدم إمكان تأويله، على أن مضمونه
يناقض حديث أبي هريرة وميمونة وهو أن النبي سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه، أو
لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل
من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه
وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم خصوصًا فيما انفرد به، كما يعلم ذلك من
سيرته [10] وغاية ما تقتضيه صحة السند في أحاديث الآحاد الظن، فلا قطع بأن هذا
الحديث من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يروون الحديث بالمعنى
فيجوز أن يكون لفظ الراوي لم يؤد المعني المراد، والله أعلم.
وهب أن الرسول قال ذلك حقيقة فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ
بكلام الأنبياء في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع، بل الواجب
عليه أن يمحصها، ويعرضها على العلم والتجربة؛ فإن اتضح له صحتها أخذ بها
والأعلم أنها مما قاله الأنبياء - عليهم السلام - بحسب رأيهم، وهم يجوز عليهم
الخطأ في مثل ذلك وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه الشفاء فليراجعه
من شاء، ومما رواه فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (إنما أنا بشر
فما حدثتكم عن الله فهو حق وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ
وأصيب) [*] .
***
الحرق
الحرق يحصل عادة إما بالنار، أو بالسوائل المغلية، وهو خطر جدًّا على
الحياة، وخطره يختلف بحسب اتساعه، وعمقه، ومكانه، وعمر المصاب، فإذا
أصاب الشخص حرق بسيط، وعم جسمه كان خطرًا على الحياة خصوصًا في زمن
الصغر، وحروق الرأس، والصدر، والبطن هي أشد الحروق خطرًا، الغالب أن
الحروق النارية أشد أذى بالجسم من حروق المياه المغلية؛ لأن المياه تبرد بسرعة
وتسيل من على الجسم، أما السوائل التي كالزيت أو المعادن المصهورة فلالتصاقها
بالجسم تفتك به فتكًا ذريعًا، ويتميز الحرق الناري عن الحرق المائي بأن الأول
يحترق فيه الشعر والملابس بخلاف الثاني.
وللحرق أعراض موضعية وأعارض عمومية
أما الأعراض الموضعية فتنقسم إلى ست درجات:
(1) احمرار الجلد بدون إتلافه، والاحمرار يحصل بسبب كثرة ورود الدم
إليه.
(2) تكوُّن الفقاقيع بالجلد، وذلك بانسكاب بعض السوائل من أوعية الدم
تحت الطبقات العليا للبشرة، وعند شفاء مثل هذه الدرجة تتولد طبقات جديدة للبشرة
من الطبقات التي تحتها، وقد يتلون الجلد بلون يخالف المعتاد.
(3) احتراق البشرة كلها، وبعض الأدمة، وهو أشد الحروق ألمًا.
(4) احتراق الأدمة مع البشرة كليهما، وعند شفاء مثل هذا الحرق يحصل
انكماش شديد في الجلد مكان الحرق.
(5) احتراق الجلد كله مع بعض الأنسجة التي تحته حتى العضلات
(6) احتراق العضو كله وصيرورته فحمًا.
وقد شوهد أن بعض النساء السمينات المدمنات شرب الخمور يحترقن بسرعة
عجيبة، بحيث يتعذر إطفاؤهن ولو بالماء إلى أن يحترق الجسم كله تقريبًا،
ويحصل هذا الاحتراق عند وجود أقل سبب له كالاقتراب من فتيلة مشتعلة حتى ظن
بعض الأطباء أنه يحصل بلا نار مطلقًا، ويسمونه (الاحتراق الذاتي) .
وأما أعراض الحرق العامة فهي ثلاث درجات:
(1) الصدمة العصبية: فيصاب الشخص ببرودة شديدة، وذهول حتى إنه
قد لا يشعر بشيء من الألم، وتضعف ضربات قلبه ونبضه، وقد يقع في الغيبوبة
ويموت.
(2) رد الفعل والالتهاب: وذلك يحصل بعد مضي يوم أو يومين، فترتفع
حرارة الشخص، وتصيبه الحمى، ويقوى نبضه ويسرع، وقد يحصل له التهاب
في الأحشاء كالتهاب الرئتين، أو البريتون، أو سحايا المخ، وفي هذه الدرجة قد
يصاب أيضًا بقرحة ثاقبة للاثني عشري.
(3) تكوُّن الصديد: وهو إذا طال، وكان المكان متسعًا أدى إلى
الاضمحلال فالموت.
***
المعالجة
يُطفأ المحروق أولاً بأن يلف جسمه في الحال بشيء سميك ليمنع وصول
الهواء إليه؛ فتطفأ النار، والأحسن أن يُبل هذا الشيء الذي يُلف به، ويشترط أن
لا يلف الوجه بشيء خوفًا من الاختناق، وإن لم يوجد شيء يتلفف به يُمَرَّغ
الشخص على الأرض، وإن وجدت قطعة لا تكفي إلا لجزء من الجسم فينبغي
التلفف بها مع التمرغ.
وبعد إطفاء النار يجب الاحتراس التام من أن يمس جسم المحروق أي شيء
غير مطهر، ثم تُبَطّ الفقاعات إن وجدت، ويصفى السائل منها، ولكن الأحسن
ترك البشرة بدون إزالتها فإنها تكون كالوقاية للجسم، ثم يدهن الجسم كله بزيت بعد
غليه وتبريده، أو يستعمل مروخ الجير الذي تقدم ذكره.
وهناك عدة طرق لتضميد الحروق تُذْكَر في فن الجراحة، ومن أحسنها
استعمال حامض البكريك (وهو مادة متبلورة صفراء اللون مركبة من الفنيك مع
حامض النيتريك) يذاب في الماء بنسبة 5 إلى 1000 أي يكون الماء مشبعًا به،
ثم يدفأ ويغمس فيه الموصلي (الشاش) ، أو قماش آخر يسمى لنت Lint، ويلف
به المحروق، ويوضع فوق ذلك ورق زيتي، أو حِبَرة زيتية فقطن، ويترك هذا
الضماد نحو 3 أو 4 أيام، ثم يجدد ويترك لمدة أسبوع، وفائدة حامض البكريك هذا
هي أنه مطهر مجفف للحرق مسكن للألم، وذلك هو كل ما نبغي.
ولعلاج حالة المصاب العمومية في الطور الأول (طور الهبوط والرجة
العصبية) يجب استعمال المنعشات، فيُلَف الشخص بالملابس والأغطية السميكة
حتى يدفأ، وتوضع زجاجات الماء الساخن حول رجليه وجنبيه، ويُعطى له مثل
القهوة أو الشاي الساخنين أو بعض الخمور - إذا لم يوجد ما يغني المسلم عنها -
ويُمنع عن الأغذية ما عدا اللبن وغيره من السوائل كالمراق، ولا بأس من إعطائه
جزءًا من الأفيون - قدر قمحة أو قمحتين - إن كان الألم شديدًا، ويجب بعد ذلك أن
يتولى باقي علاجه الطبيب حتى يشفى أو يموت.
وأسباب الوفاة في الحرق عند حدوثه مباشرة متنوعة منها الاختناق بالدخان
والغازات، أو الفزع الشديد، أو الرجة العصبية بسبب ألم الحرق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كلمة لاتينية معناها حرفيًّا (تشتي) ، والمراد بها السبات الذي يصيب بعض الحيوانات مدة الشتاء كالخفاش (الوطواط) .
(2) كلمة فرنسية معناها الحرفي البلعوم.
(3) سميت بذلك لظهورها في الرجل أكثر منها في الأنثى.
(4) سمي بذلك لأن الضغط على هذا الشريان ضغطًا يقلل الدم عن الدماغ يُحْدِث نومًا عميقًا
(أي سباتًا) ، أو غيبوبة.
(5) كمحلول الصودا الكاوية أو البوتاسا الكاوية، وهما عبارة عن هيدرات البوتاسيوم، أو الصوديوم.
(6) كلمة يونانية معناها (مر) .
(7) وذلك بنسبة أوقية من هذا الزيت لكل 15 قدمًا مربعة من سطح ماء المرحاض أو غيره كالمستنقعات.
(8) كلمة يونانية معناها الأجوف أو الفارغ.
(9) لفظ يوناني معناه حرفيًّا الأحياء الصغيرة، يطلق في الاصطلاح على الأحياء الأولية التي تتركب في الغالب من خلية واحدة، وعبر عنها المنار بالجِنة والجِن - بالكسر فيهما - لدلالة مادتها على العوالم الخفية.
(10) إليك شيئًا من تاريخ حياته: أسلم رضي الله عنه سنة (7) هجرية، فصحب النبي ثلاث سنين، ولم يكتب شيئًا من الحديث، وقال عن نفسه إنه كان كثير النسيان، فدعا له الرسول - كما
قال - فذهب عنه ذلك، وكان فقيرًا أكولاً، يطعم كل يوم من بيت النبي، أو من بيت أحد أصحابه، فكان يحب أن يتودد إلى الناس ويسليهم بكثرة التحديث والإغراب في القول ليشتد ميلهم إليه، وربما كان مصابًا بالصرع - كما يستفاد من بعض الروايات الواردة في ترجمته - والصرع مرض مشهور عند الأطباء يورث ضعف العقل أو الجنون روى بعد وفاة رسول الله (5384) حديثًا؛ حتى ضج منه كبار الصحابة رضي الله عنهم وملوا كثرة حديثه، وقالت له عائشة: (إنك لتحدث بشيء ما سمعته) ، ولما سمع الزبير بعض حديثه قال: (صدق كذب؛ لأنه سمع هذا من رسول الله ولكن منه ما وضعه في غير موضعه) - راجع تاريخه في كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر وروى ابن عساكر في تاريخه عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة (لتتركن الحديث عن رسول الله، أو لألحقنك بأرض دوس) ، ومما روي عنه أنه قال: (لقد حدثتكم بأحاديث
لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة) يعني السوط، وروى الطبراني في الكبير عنه أنه قال: قال رسول الله: (إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالاً، وأصبتم المعنى فلا بأس) ، وقال أيضًا إنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من حدث عني حديثًا هو لله عز وجل رضا، فأنا قلته وإن لم أكن قلته) كما رواه ابن عساكر في تاريخه عنه، مع أن المروي بالتواتر عن رسول الله أنه قال: (من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده في النار) رواه مائتان من الصحابة، وهو ينافي ما قاله أبو هريرة، وهذا الحديث اضطر عمر لتذكيره به حينما بلغته كثرة حديثه كما في
(الإصابة) أيضًا مات رضي الله عنه بالمدينة سنة 57 هجرية هذا وإنما نقلنا ما نقلناه هنا من تاريخ أبي هريرة؛ ليكون تذكرة وهداية لأهل العقول الراجحة الحرة، والنقد الصحيح، لكيلا يغتر أحد بمثل تلك الأحاديث المنافية للعلوم العصرية المبنية على الحس، والمشاهدة، والبحث الدقيق، ومن شاء زيادة الإيضاح فليقرأ ما كتبته في مجلة الحياة في الجزء الخامس من المجلد الرابع الصادر سنة 1325 هجرية.
(*) المنار: إذا كان حديث الذباب مرويًّا بلفظه، فيحتمل أن يكون مبنيًّا على رأي كان منقولاً فذكر على ظاهره، ويحتمل أن يظهر بعد ما يزيل ما فيه من الإشكال، وهو على كل حال ليس من عقائد الدين، ولا من أحكامه، بل هو من قبيل مسألة تلقيح النخل، فقد رآهم صلى الله عليه وسلم يلقحون فقال: (ما أظن ذلك يغني شيئًا) فتركوه، فأخبر بذلك فقال: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله) ، وفي حديث رافع بن خديج أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر ذلك لما قدم المدينة مهاجرًا، أي ولم يكن يعلم من أمر النخل شيئًا، وأنه قال لهم (لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرًا) فتركوه فنقضت أو فنقصت فذكروا له ذلك فقال: (إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وفي حديث عائشة وأنس أنه قال: (لو لم تفعلوا لصلح) فخرج شيصًا (أي خرج التمر رديئًا) فمر بهم فقال: (ما لنخلكم؟) قالوا له قلت كذا وكذا، قال (أنتم أعلم بأمر دنياكم) روى ذلك كله مسلم في صحيحه وأما كلام الكاتب في أبي هريرة - رضي الله عنه - فهو كلام من يسيئ الظن، فجمع من الأقوال ما يؤيد ظنه، وفي نقوله نظر، فأما الصرع أو الإغماء فقد صح أنه كان من الجوع لا من المرض، وأما ما روي عن الطبراني، وابن عساكر من إسناده حديثين يدلان على استحلاله أن يقول على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله فنمنع أن يكون قد صح عنه، وقد رووا عنه أنه كان يبدأ تحديثه بحديث (من كذب علي متعمدًا) إلخ، وأما استغراب بعض الصحابة لكثرة حديثه، فقد بين هو لهم سببه، وهو ملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي مع جودة حفظه، وأما عمر فقد أنكر على غيره كما أنكر عليه كثرة التحديث لحكمة ليس هذا محل بيانها وقد ثبت أنه كان من أجود الناس حفظًا، ولا يسهل الحكم فيما روي عنه من المشكلات التي انفرد بها إلا إذا جمعت وأحصيت أسانيدها، وقد كان يروي عن كعب الأحبار مصدر الغرائب الإسرائيلية الكثيرة، وقد كان من أسباب الغلط في الحديث حسبان الموقوف الذي لا يحال للرأي فيه من قبيل المرفوع، وقد يغلط بعضهم فيسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من الإسرائيليات لا من الرأي، فينظر في ذلك وغيره عند تمحيص تلك المشكلات.(18/433)