الكاتب: جمال الدين القاسمي
__________
ميزان الجرح والتعديل [*]
(2)
جواب شبهة
رب قائل يقول: كيف لا يفسق هؤلاء وقد خالفوا بتأويلهم النصوص من
الكتاب والسنة؟
فنقول: قدمنا ما يمنع تسميتهم فسقة شرعًا ولغة، ولذا جاء في مُسَلَّم الثبوت
من كتب الأصول، ما مثاله: لك أن تمنع كون المتدين من أهل القبلة فاسقًا
بالعرف المتقدم الذي عليه القرآن الكريم، وهو شموله للكافر والمؤمن المرتكب
الكبيرة اهـ. وقال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: مهما اعترضت على القدري
في قوله: الشر من الله، وكذلك في قولك: إن الله يُرى، وفي سائر المسائل، إذ
المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يدعي أنه محق وينكر
كونه مبتدعًا اهـ.
وبالجملة فهم مخالفون بنظر غيرهم، وأما عند أنفسهم فغيرهم هو المخالف
وهم الموافقون، وحاشا لمؤمن عالم أن يخالف كتابًا أو سنة عامدًا متعمدًا، فهم
مجتهدون مثابون؛ إذ لم يألوا جهدًا فيما ذهبوا إليه، وإن كنت لا تقول به
وترى الحجة فيما أنت عليه، على أن ما تسميه أنت نصًّا هم يرونه ظاهرًا، إذ
دعوى نصية الشيء ليست بالأمر اليسير، لأن النص هو القاطع في معناه، المفيد
لليقين في فحواه، وهذا إنما يكون في محكمات الدين، وأصوله التي لم يختلف فيها
الفرق كلها، وأما ما عداه فكلها ظواهر، وقد يراها البعض باجتهاده نصًّا، وليس
اجتهاد مجتهد بقاضٍ على اجتهاد آخر.
وعلى من يريد تحقيق هذا أن يراجع مطولات الخلاف، ويطالع مآخذ
المجتهدين، ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام
لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فإنه جدير لو كان في الصين أن يرحل
إليه، وأن يعض بالنواجذ عليه، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة، وعلم أن سعيهم
إنما هو إلى الحق والهدى، كما أسلفنا وبالله التوفيق.
***
جواب شبهة أخرى
يزعم بعضهم بأنه يحتمل أن يكون الراوي تحمل عن المبدّع قبل تمذهبه بذلك
المذهب، وهذا جهل بمذاهب الرواة، ومشارب الرجال، فإن كل من ألَّف في نقد
الرجال لم يذكر في المشاهير منهم أنه كان على مذهب كذا، أو أن الحافظ الفلاني
تحمل عن فلان قبل تمذهبه بمذهب كذا، ومثل هذا إنما يؤخذ عن النقلة الأثبات
كالمصنفين في أحوال الرجال، ولا يمكن الاجتهاد فيه بحال من الأحوال، ولذا
تراهم يقولون في ترجمة الراوي: كان خارجيًّا. ونحو ذلك قولاً واحدًا. وحبذا أن
يكون ما ذكره مأثورًا عن إمام مؤرخ مشهور، وأما القول بالاحتمال، فإذا فُتح
أَوْرَثَ الاضمحلال، لكل ما يعوّل عليه في الاستدلال، ومثل ذلك ما يقال: يحتمل
أن يكون روى عنه وهو غير عالم بما هو عليه من فساد العقيدة، فهذا يزيد عما
قدمنا من الجهل بمذاهب الرواة تجهيل أئمة الحديث، ووصمهم بما هم برآء من
الغباوة والبلاهة، وأنهم يتحملون عمن لا يعرفون مذهبه ولا مشربه، وأنهم
كحاطب ليلٍ، نعوذ بالله من ذلك، وأي عاقل يجرؤ على مثل ذلك في البخاري
صاحب التاريخ في الرجال؟ بل من دونه من أرباب السنن وغيرهم ممن تكلم في
الجرح والتعديل، وميز بين صحيح الحديث وضعيفه، لثقة رجاله أو ضعفهم ,
وهل يعقل في صحاح، وسنن ومسانيد، وموطآت عليها مدار أدلة الأحكام، وحجج
الفروع، صنفت على الأسانيد المنوعة والمكررة بالأسماء والكُنى والألقاب أن
يكون جامعوها لا يدرون مشرب رجالها ولا ما يتحملونه مع أن العامي والأمي نراه
إذا خدم عالمًا لا يخفى عليه مشربه ومذهبه ورأيه وفكره، فكيف بعالم مؤلف، لا
بل بإمام مجتهد يستنبط الأحكام من الأحاديث ويترجم عليها، ويزاحم من تقدمه من
الأئمة في التخريج والرد والاستدراك والتفريع والتأصيل؟
ألا يدري مذهب رجال إسناده ونحلتهم، وهم عمدته في الاستدلال، وركنه
في الاحتجاج، بلى ثم بلى، وهو أجلى من أن يبرهن عليه، أو يرد على من كابر
فيه، ولقد كان علم الجرح والتعديل، ومعرفة طبقات الرجال وتراجمهم من أوئل ما
يدريه طلاب الحديث ومريدو التحمل عن الحفاظ، ولكن من أين يدري أبناء هذا
الجيل، ما كان عليه السلف من فنون التحصيل، وقد اندرست تلك العلوم، ولم يبق
منها ولا الرسوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما قول بعضهم: فكيف يستدل بإخراج الشيخين على عدم جواز المعاداة مع
قيام هذه الاحتمالات؟ وكيف يسوغ للإنسان أن يتمسك بالمحتمل الذي لا تقوم به
حجة؟ فقد علمت سقوط هذه الاحتمالات وأنها أشبه بالأوهام والخيالات، والتلاعب
في الحقائق الواضحات والمحتمل الذي تقوم به حجة هو الذي يتطرق إليه احتمال
معقول، أو تأويل مقبول، جارٍ على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في
نظائره.
وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة وأمر واضح فلا يقال له احتمال، وإنما هو
تلاعب وهوس خيال، يقول أئمة الجرح والتعديل في كتبهم عن راوٍ ممن خرَّج
له الشيخان أو أحدهما: إنه شيعي، أو خارجي، أو قدَري، أو مرجئ، ثم يأتي
من يريد أن ينقض هذا بالاحتمال، وهو لم يضرب في هذا الفن بسهم، ولا يمكن
أن يرجع إليه في رأي ولا علم، كيف لا وقد اجتمعوا على الرجوع إلى أئمة الفن
في هذا الباب، لأنه أمر لم يبق فيه مجال ولا نظر ولا احتمال، وهذا من البديهيات
الغنية عن الحجة والبرهان.
***
رفع وهم في عبارة للبخاري
وأما زعم أن قول البخاري في جزء رفع اليدين: كان زائدة لا يحدّث إلا أهل
السنة اقتداء بالسلف - يخالف ما استنبطناه، فعجيب جدًّا؛ لأنه لا شاهد فيه، ولا
يناسب بحثنا حتى يخالفه، لأن زائدة رحمه الله كان يمتنع عن تحديث غير أهل
السنة، أي إسماعهم الحديث وإقرائهم إياه، وذلك في التلاميذ منهم والمبتدئين في
طلب الحديث الذين يبغون التلقي والسماع، وقد انتموا إلى غير مذهب أهل السنة،
فكان زائدة يتجافى تحديثهم اقتداء بمن رآه من سلفه كذلك، ولا منازعة في
الوجدانيات ولا يكلف المرء ما لا يطيقه، فمن كانت نفسه لا تحب إسماع من كان
كذلك، فله الخيرة ولا جناح عليه في ترك الإسماع، لا سيما لتلاميذ لم يتأهلوا بعد
للنظر والوقوف على التحقيق، فمثلهم إنما يكون مقلدًا لا مجتهدًا، وأما حفاظ شيوخ،
ذوو علم ورسوخ، أوتوا من العلم والفضل ما أهَّلهم للتحمل عنهم، والاستفادة من
علمهم، بحيث طارت شهرتهم، وتفوقوا على غيرهم، فلا دخل لكلام زائدة فيهم،
ولا يشملهم مشربه، وهكذا نحن نقول: لا ينبغي لأستاذ أن يشرح صدره لتلاميذ
أغرار، انتحلوا غير ما يراه الحق بدون نظر أو فكر، بل تقليدًا أو اتباعًا لكل
ناعق.
وأما من بلغ مرتبة الرسوخ والإفادة، وكان على جانب عظيم من العلم،
وانتحل ما انتحل عن اجتهاد ونظر، فلا يرتاب أحد في العناية بالأخذ عنه،
والتلقي منه، كما فعل الأئمة أمثال البخاري، وأشياخه، فكلام زائدة من وادٍ، وما
نقوله من وادٍ آخر. وهكذا يقال فيمن حكى عنهم من المرجئة من أهل بلخ، وأما
قوله: ولقد رأينا غير واحد من أهل العلم يستتيبون أهل الخلاف، وإلا أخرجوهم
من مجالسهم، فهو يعني به من ذكرناه من التلاميذ لقوله: وإلا أخرجوهم، وهل
يخرج إلا المتعلم الضعيف في العلم والفهم، المتطفل على ما ليس له بأهل؟ وشتان
بين من يخرج من مجلس الحديث من أهل الخلاف وبين من يرحل إليه ويتحمل
عنه منهم، كرجال الشيخين وغيرهما من هؤلاء، ولو اطرد الابتعاد عن هؤلاء أو
إبعادهم لما تلقى عنهم أمثال الشيخين، وخلد أسماءهم ومرويهم في أصح الكتب بعد
التنزيل الكريم، وقد يكون مراد البخاري بأهل الخلاف أهل الرأي جمودًا وتقليدًا
المؤثرين آراء الفقهاء على صحيح السنة، لأن كتابه المذكور وهو جزء رفع اليدين
في مناقشة أهل الرأي وحجهم بصحيح السنة على رأيهم. وقد تجافى أرباب
الصحاح الرواية عن أهل الرأي [1] ، فلا تكاد تجد اسمًا لهم في سند من كتب
الصحاح أو المسانيد أو السنن، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا، إذ يرى
المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه، ويستفاد من
عقله وعلمه، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية، تسعى في
القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في جميع مآتيها، وتستعمل في سبيل ذلك كل
ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم، ومظاهر ما
أوتيته من سلطان وقوة، ولقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل
المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم
التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب
إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفًا على فئة معينة دون غيرها، والمنصف من
دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بعد.
ومما نعده تعصبًا ما حكام الإمام البخاري في جزء رفع اليدين المذكور من
إخراج أهل الخلاف من مجالس الحديث حتى يُستتابوا، وحمل قاضي مكة سليمان
بن حرب على الحجر على بعض علماء الرأي من الفتوى، وما ذلك إلا من سلطة
دولة الأثريين وقتئذ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم، ونبذ التسامح الذي كان عليه
الصحابة والتابعون في أن يفتي كل بما يراه بعد بذل جهده في المسألة دون تعنيف
أو اضطهاد، لا جرم أن سنة كل قوم آنسوا من أنفسهم قوة وسلطانًا أن يستعملوا
لبث مذهبهم ونشره هيمنة الحاكم وسيطرته، ولا سيما إذا كان منهم وعلى شاكلتهم
وهو مستبد في علمه وما يمضيه فحدث هناك ولا حرج.
انظر إلى القدرية لما دالت لهم دولة العلم أيام المأمون ماذا جرى منهم مع من
لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم، فقد ضربت أئمة وأهينوا وسجنوا الأعوام
وأوذوا مما دونه التاريخ وأحصاه على هؤلاء المتعصبين، وكان نقطة سوداء في
تاريخ حياتهم، وإن كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود، وتنوير الأذهان بعلوم
الأوائل مما أخذوا بتعريبه، وجهدوا في نشره، إلا أن الغلو كان رائدهم، والبطش
قائدهم، ولكن هي السكرة، التي يذهب معها صحيح الفكرة، أعني سكرة الدولة
والغلبة، والسلطة والقوة، فما من دولة إلا ونقم عليها شيء من ذلك، كما يدريه
من سبر أخبار الدول وفلسفة حياتهم، ومظهر آرائهم وآمالهم.
وكذلك قُل عن الفتنة التي فر من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز
حينما دالت دولة الحنفية، وثارت عصبيتهم على الشافعية والأشعرية. قال التاج
السبكي في طبقاته [2] في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي:
إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخُلَع وظهر له القبول عند
الخاص والعام، حسده الأكابر وخاصموه، فكان يخصمهم ويتسلط عليهم. قال: فبدا
له خصوم واستظهروا له بالسلطان عليه وعلى أصحابه، قال: وصارت الأشعرية
مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس، وعزلوا من خطابة الجامع، قال:
وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع، فخيلوا إلى أولي
الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عمومًا، وبالأشعرية خصوصًا، قال وهذه هي الفتنة
التي طار شررها، وطال ضررها، وعظم خطبها، وقام في سب أهل السنة
خطيبها، فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أهل السنة في الجُمَع، وتوظيف
سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب
رضي الله عنه، واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل في نصر السنة قيامًا
مؤزرًا، وتردد إلى المعسكر في ذلك ولم يفد، وجاء الأمر من قِبل السلطان
(طغرلبك) بالقبض على الرئيس الفراتي، والأستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام
الحرمين، وأبي سهل بن الموفق، ونفيهم ومنعهم عن المحافل، وكان أبو سهل
غائبًا في بعض النواحي، فلما قرأ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش،
فأخذوا بالأستاذ أبي القاسم القشيري والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما، وحُبسا
بالقهندر وأما إمام الحرمين فإنه كان أحس بالأمر فاختفى وخرج على طريق كرمان
إلى الحجاز، وبقيا في السجن متفرقين أكثر من شهر.
وفي شرح الإقناع [3] قال ابن عقيل: رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا
العجز، ولا أقول العوام بل العلماء، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيام ابن
يونس، فكانوا يستطيلون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع حتى ما يمكنوهم
من الجهر بالبسملة والقنوت، وهي مسألة اجتهادية، فلما جاءت أيام النظام، ومات
ابن يونس وزالت شوكة الحنابلة، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة
السلاطين الظلمة، فاستعدوا بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات والفقهاء بالنبذ
بالتجسيم، (قال) : فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم،
وهل هذه إلا أفعال الأجناد يصولون في دولتهم، ويلزمون المساجد في بطالتهم،
اهـ.
ولدينا من القصص في عجائب ما روى التاريخ من التعصب ما لا يسعنا إلا
إمساك القلم عن نشره إبقاء على هذه البقية الباقية، وفي الإشارة ما يغني عن الكلم
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكل ذلك من التفرق الذي نهى عنه الدين لما يستتبعه من الإزراء التي تعمل
في أساسه المتين، ويكفي ما جنت وتجني الأمة من ويلاته إلى هذا الحين، حتى
فشلت وذهب ريحها أمام أعدائها الكافرين، والمستعان بالله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
(1) كالإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن فقد لينهما أهل الحديث كما نرى في ميزان الاعتدال، ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران، وآثارهما تشهد بسعة علمهما وتبحرهما، بل بتقدمهما على كثير من الحفاظ وناهيك كتاب الخراج لأبي يوسف وموطأ الإمام محمد، نعم كان ولع جامعي السنة بمن طوف البلاد، واشتهر بالحفظ، والتخصص بعلم السنة وجمعها، وعلماء الرأي لم يشتهروا بذلك لا سيما وقد أشيع عنهم أنهم كانوا يحكمون الرأي في الأثر، وإن كان لهم مرويات مسندة معروفة، رضي الله عن الجميع، وحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم.
(2) في ترجمة محمد بن هبة الله بن محمد بن الحسين الإمام الكبير أبو سهل جزء 3 صفحة 85
و86.
(3) صفحة 1309 من مطولات كتب الحنابلة في الفروع.(15/912)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة
افتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه ومن
والاه.
أيها الإخوة الكرام:
إن أمتنا الإسلامية قد ابتليت بمثل ما ابتلي به كثير من الأمم ذات التاريخ
المجيد، ولكنها وصلت في هذا العصر إلى درجة من الخطر لم تصل إلى مثلها فيه
أمة أخرى فيما نعلم.
لا أعني بهذا أننا قد ابتلينا بأمراض اجتماعية لم يبتلَ بها غيرنا، فإنني أعلم
أن جميع أمراضنا، قد انتقلت إلينا بالعدوى ممن قبلنا، كما أشار إلى ذلك نبينا
صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع
حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) رواه الشيخان وغيرهما. وإنما أعني بهذا أننا
مرضنا فأضعفنا المرض وأنهك قوانا في زمن قويت فيه أمم أخرى أخذت علينا
طرق العلاج، وسدت علينا منافذ الحياة، وفتنتنا في أنفسنا وديننا وأخلاقنا وآدابنا،
وسائر مقوماتنا ومشخصاتنا التي كنا بها أمة واحدة.
حللت بتلك الفتن بنيتنا كما تحلل الأجسام المركبة في معاملها الكيماوية،
ونجعلها غازات تطير شعاعًا في الجو وذرات تتفرق في الأرض، بل لبستنا شيعًا
وأذاقت بعضنا بأس بعض حتى صرنا شرًّا على أنفسنا وأضرّ من أعدى أعدائها
عليها، فمنا من يقطع روابط الأمة بمُدية الوطنية، ومنها من يقرض نسيج وحدتها
بمقراض الجنسية اللغوية أو النسبية، ومنا من يمزق شملها بأظافر الأحزاب
السياسية , فأين الموحدون دعاة التوحيد؟ أين أهل الجماعة طلاب الجمع والتأليف؟
أين المصلحون بالتربية القويمة والتعليم؟
أيها الإخوة، إن هذه الأمة، قد باتت في حيرة وغمة، أضلها الإدلاء
وأمرضها الأطباء، فلم تبق لها ثقة في شيء من الأشياء، وما ذاك إلا أن أكثر
الذين اشتغلوا بأمورها العامة يجهلون طرق الإصلاح، وينكبون في سيرهم عن
سبيل الرشاد، وأما العارف البصير فقد كان يعوزه الأعوان ويحال بينه وبين المراد.
قالوا: إن الأمم تصلح بالمدارس المنتظمة على النمط الأوربي، وها نحن
أولاء قد شرعنا في تأسيس هذه المدارس منذ قرن كامل فما بالها لم تصلح شئوننا،
ولا يزال السواد الأعظم منا يرى أنها لم تزدنا إلا فسادًا وخبالاً؟
قالوا: إن الأمة الجاهلة المختلة لا تستطيع أن تصلح شأنها إلا بعد أن يتوفر
المال عندها، فهو سبب الأسباب، والمقدم على جميع الأعمال، وها نحن أولاء
نرى مسلمي قطرنا هذا يملكون من المال ما يكفي لكل ما يحتاجون من الإصلاح،
فما بال بعض الشعوب التي كانت أقل مالاً منا قد سبقتنا في جميع ضروب الإصلاح
ومعارج الارتقاء.
قالوا: إن الأمة المختلة المعتلة لا ينتظم شملها ويعلو شأنها، إلا بعد أن تتخذ
لها قوة حربية يُخشى بأسها، ويحول دون أطماع الطامعين فيها، ولكنا نرى دولتنا
العثمانية قد كانت وما زالت ذات قوة حربية لا يستهان بها. فما بالها لم تصلح كما
صلحت اليابان، وتستغني ولو في عدة الحرب وفنونها عن الأجانب كالإنكليز
والألمان؟ بل لم يعصمها ذلك أن تنتقص من أطرافها، ويدخل عليها من أكتافها؟
حتى صارت عاصمتها كما قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها المخاوف حتى أصبحت طرفا
قالوا: إن الأمة الضعيفة تقوى باحتذاء مثال الأمم المرتقية. فما لنا قد حاولنا
احتذاء مثال الإفرنج في مدة جيل أو جيلين، ولم نستفد من ذلك إلا زيادة الضعف
والوهن، إذ كان استيلاء الأجنبي على المتفرنجين، أسهل من استيلائه على من
نسميهم أو يسمونهم المتوحشين؟
أيها الإخوة، إن الرأي الصحيح في مصابنا، الذي يمثل لنا أقتل أمراضنا،
هو أننا فكرنا في طريق إصلاح شئوننا في كل شيء إلا في أنفسنا، ولعمري إن
من خسر نفسه خسر كل شيء، ومن ربح نفسه ربح كل شيء.
لقد بلغ الفساد من أنفسنا أن صار كثير ممن نعدهم من أهل الرأي والبصيرة
فينا، يرون أن استيلاء الأجنبي على قطر من أقطارنا، يسخر أهله في تمهيد طرقه
له، ومد خطوطه الحديدية لأجله، واستخراج معادنه وثمراته لإغناء حكومته
وشعبه، وينشر فيهم البغاء والفحش، والخمر والميسر، ويصدهم عن ذكر الله
وعن الصلاة، ويفتنهم بالزينة واللذة، فخير لهم من أن يظلوا على استقلالهم في
عيشة ساذجة بدوية لا تعرف فنون هذه اللذات والشهوات من المدنية.
إننا خسرنا أنفسنا فذلت ومجنت، وفقدت الشعور بشرف الاستقلال الشخصي
فجهلت قيمة الاستقلال القومي، فلا صلاح لنا إلا بإصلاح أنفسنا بتربية صالحة
وتعليم صحيح، وإنما نفع التربية والتعليم وصلاحهما بالسير فيهما على طريقة
العمل والتوسل بهما إلى العمل.
إن من نسميهم خيارنا وخواصنا من المشتغلين بالعلوم والفنون هم في الغالب
شرارنا، لأنهم قدوة سيئة فينا، لا يطلبون العلم للعمل، ولا يستفيدون به صلاح
أنفسهم، ولا إصلاح غيرهم، وكثيرًا ما يتصدى للزعامة في الأمة سفهاؤها،
فينهزم من أمامهم أمثلهم وأعقلهم.
إننا لا نتعلم لغتنا بالعمل ولا لأجل العمل، ولهذا نجد أعجز الدارسين لها عن
فهمها، والإتيان بالقول البليغ منها، هم الذين يطوون السنين الطوال في درس
علومها وفنونها وفلسفتها، فلا تكاد تجد فيهم كاتبًا مُجيدًا، ولا خطيبًا مؤثرًا، وبهذا
ضعفت اللغة عن حمل ما استحدث من مصطلحات العلوم والفنون في هذا العصر،
حتى كادت تعد لموتنا من اللغات الميتة، وهل يمكن وجود أمة حية بدون لغة حية؟
إننا لا نتعلم ديننا بالعمل ولا لأجل العمل، ولهذا فسدت أخلاق عامتنا، بفساد
أخلاق قادتنا، وتركهم ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الخير، والتواصي بالحق
وبالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانتكث بهذا الفساد فَتْلنا، وتفرق
شملنا، وارتخت الروابط الملية فينا، وضعفت ملكة التعاون في أنفسنا، فإذا فقدنا
قوة الوحدة بالعقائد الدينية، والأخلاق الملية، والتعاون على المصلحة العامة،
فبماذا نكون أمة واحدة قوية، ونحن لا تجمعنا لغة واحدة، ولا حكومة واحدة، ولا
مملكة واحدة؟
إننا لا نتعلم العلوم الطبيعية والصناعية والمالية بالعمل ولا لأجل العمل،
ولهذا لا يوجد فينا المخترعون، ولا يظهر منا المكتشفون، ولا ينبُغ منا الصناع
ولا الماليون، حتى صرنا بعد الشروع يتعلم هذه العلوم بمئة سنة عيالاً على
الأجانب في جميع أنواع الحاجات التي يدور عليها أمر المعاش، كالماعون واللباس
والأثاث والرياش، بل صرنا عالة عليهم، حتى في حماية أنفسنا منهم، فإننا
نشتري منهم جميع أسلحتنا وذخائرنا وبوارجنا الحربية، ونتعلم منهم الفنون،
والأعمال العسكرية أليس هذا أغرب ضروب الكسل، والإهمال، والتواكل
المفضي - إن دام - إلى فقد الاستقلال.
إن الكلام في وصف حالنا يطول، والشيء إذا كثر مملول، ووصف العلاج
أهم من وصف الداء، وإنما دواؤنا التربية الملية والتعليم العملي، وأول ما يجب
البدء به منه تخريج رجال لا هم لهم من حياتهم إلا خدمة الأمة وإصلاح شئونها،
والنهوض بها إلى المستوى اللائق بها في هذا العصر، فإنه لا يعوزنا شيء في
سبيل الحياة التي نريدها إلا المعلمون والمربون، وإن شئت قلت المرشدون
الصادقون.
إن من مصائب الإسلام أنه لا يوجد في أهله طائفة تقوم بالإرشاد العام
للمسلمين كما كان على عهد سلفنا الصالح، وكما هو معهود عند الأمم الأخرى
كرهبان النصارى وقسوسهم، فصار المسلمون فوضى في أمر دينهم وتربيتهم
وآدابهم، التي عليها مدار حياتهم، فمنهم الجاهلون الذين يقضون حياتهم لا يرون
مرشدًا عالمًا مربيًا يتعاهدهم بإرشاد أو نصيحة، ومنهم الذين انصرفوا إلى مدارس
دعاة النصرانية أو الحكومات يقتبسون العلم والأخلاق والآداب منهم. ولهذا لم تر
الأمة الإسلامية إصلاحًا من المتعلمين في هذه المدارس بل رأت منهم مفاسد كثيرة،
أهمها تفريق كلمتهم، وإفساد آدابهم، ودعوتهم إلى روابط ملية واجتماعية لا تتفق
مع دينهم وتاريخهم.
وأما المدارس الدينية، على قلتها في العالم الإسلامي، فقد صارت كلها
مدارس دنيوية يطلب العلم فيها لأجل المعيشة بالقضاء أو الإفتاء أو التدريس، ولا
تكاد ترى الأمة منها مرشدين يتعاهدونها في البلاد والقرى والمزارع والبوادي،
ولكنها ترى دعاة النصرانية في جميع هذه الأماكن. ولا أخوض في تعليم هذا
الصنف من المسلمين وتربيته وأخلاق هنا، وما ذلك بالذي يخفى عليكم.
تعلمون أن أخاكم الذي بين يديكم قد اختبر أحوال العالم الإسلامي اختبارًا لم
يتيسر مثله إلا لقليل من أمتنا، وكانت نتيجة هذا الاختبار أنه يعتقد اعتقادًا قاطعًا
بأنه لا رجاء لأمتنا الإسلامية بالنجاح والفلاح إلا بتربية خاصة وتعليم خاص
لطائفة من المسلمين ليكونوا مرشدين ومعلمين لأمتهم ثم لغيرها من الأمم كما يليق
بهدي الإسلام، الذي أكمل الله به دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا يشتغلون
بغير ذلك ألبتة فحسبهم إصلاح النفوس وإرشادها إلى العمل بما تعلم، وقد رأيت
عقلاء المسلمين من العرب والترك والفرس والهنود وغيرهم متفقين على هذا الرأي.
هذا هو العمل الذي تألفت له جماعة الدعوة والإرشاد وكنت أيها الإخوة الكرام
من السابقين الأولين لإجابة دعوة الداعي إلى تاسيسها، وبذل شيء من المال للبدء
بالعمل فيها.
إن من أغرب ما ابتلي به المسلمون من الخذلان أنه لا يقوم أحد منهم بعمل
نافع لأمتهم إلا ويتصدون لمقاومته، ووضع العثرات في سبيل العاملين معه،
ويشتدون في ذلك بقدر نفع العمل.
عندنا في مصر منكرات كثيرة، وبدع عديدة، وقلما نرى أحد يشنع على
أهلها ويرجف بهم ويرميهم بالتهم الموبقة، وإنما يقذف بأشد التهم من يتصدون
للخير وعمل البر والإصلاح في الأمة.
لما أسست الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر وجد في المسلمين حتى في
أصحاب العمائم من أرجف بها واتهمها بالسياسة والسعي بها لدى الحكومة والمحتلين
بأنها تمد مهدي السودان بالمال مساعدة له على مصر. وقد زوروا أوراقًا وختمًا
لإثبات ذلك. ولولا عزيمة الأستاذ الإمام ومن ثبت معه من أصحابه لقضي على
هذه الجمعية وهي في مهدها.
وأما جماعتنا هذه فقد تصدى بعض المسلمين لقتلها ووضعها في اللحد، قبل
أن تولد وتوضع في المهد.
أو تهمة قذفنا بها المرجفون في جريدة العلم المصرية هي أننا نؤسس جمعية سرية،
لإسقاط الدولة العثمانية وإنشاء خلافة عربية، وكانت حجتهم على ذلك أننا نخفي
عملنا، ولا نظهر للناس أسماءنا وقانوننا. وكان ذلك قبل أن تتكون الجمعية ويتفق
المؤسسون على نظامها الأساسي الذي قدمه إليهم هذا الداعي إليها.
حقا إن إخفاء العمل مدعاة الارتياب فيه، لا أنه دليل على ما زعمه المرجف
ولكن إظهاره وإباحته لكل أحد لا مجال معه للريبة، فإظهار عملنا برهان قطاع
على بطلان تلك التهمة، ومحو تلك الشبهة، ولو كان المرجف يعتقد ما كان يقول
لرجع عن قوله، واستغفر لذنبه، عند ما تم تكوين الجمعية ونشر نظامها حتى في
الجرائد. وعلم أنها جمعية عامة لكل المسلمين لا فرق فيها بين عربي وتركي
وفارسي وتتاري وهندي وملاوي وصيني.
نشر نظام الجماعة وفيه أسماء أعضاء إدارتها فلم يرجع المرجف عن إرجافه،
فكان ذلك دليلاً ظاهرًا على سوء نيته، وفساد طويته، وكان يسهل عليه وعلى
من يثق بإخلاصهم للدولة أن يشتركوا في هذا العمل ويكثروا عددهم فيه حتى يكون
أمره في أيديهم، فيخدموا به الدولة، فلماذا لم يفعلوا؟ وقد دعوا إلى ذلك فلماذا لم
يستجيبوا؟ وإننا لا نزال ندعوهم إليه فليقبلوا.
زعم المرجف في أول العهد بإرجافه أن هذه الجماعة تنشأ أو أنشئت بأموال
أحمد عزت باشا العابد، وفائق بك من خدمة السلطان السابق، وأن هذين الرجلين
لا يبذلان المال لمثل هذا العمل إلا إذا كان فيه كيد للدولة العلية؟ ولم يكن أحد من
المؤسسين يعرف هذين الرجلين، ولا كانا هما يعرفان شيئًا عن هذا العمل، ولا
دفع له أحد درهمًا ولا دينارًا. وقد كاد يمر على هذا الإرجاف وهذه الفرية ثلاث
سنين ولم تنل الجماعة شيئًا من ذينك الرجلين. ولا يبذل للجماعة أحد شيئًا إلا
وينشر في الجرائد ويثبت في دفاترها وها هي ذي بين أيديكم.
رددت على المرجف في ذلك العهد بمقالتين بينت فيهما أنه لا يعقل أن تؤلف
جمعية جهرية عامة مثل جعيتنا لغرض سياسي يقصد به إسقاط دولة عظيمة،
وإنشاء دولة جديدة، وأن تكون الوسيلة إلى ذلك مدرسة، فعاد المرجف إلى تنفير
الناس من هذه الجماعة بدعوى أنها تعرض المتعلمين في مدرستها للهلاك، لأنها إذا
أرسلتهم للدعوة إلى الإسلام في مثل بلاد السودان وغيرها من البلاد الواقعة تحت
سلطة الأجانب ينصب لها الإنكليز وغيرهم (المشانق) فيقتلونهم ويصلبونهم
ويسومونهم سوء العذاب، أي إن هذه المدرسة الدينية إذا لم تسقط الدولة العلية
وتؤسس دولة أخرى، فإنها ستعرِّض من تربيهم وتعلمهم للعذاب المهين، ما أعجب
هذه الرحمة وما أغرب هذه الشفقة.
اعتقد المرجفون أن مولانا عزيز مصر يُرجى أن يمنح هذه المدرسة مساعدة
عظيمة من الأوقاف ويحوطها بعنايته، لما يرون منه كل سنة من زيادته لنفقات
المدارس الدينية (الأزهر وملحقاته) ، وكذا غير الدينية كالجامعة المصرية،
فطفقوا يعرضون بذلك تعريض تنفير، ثم صرحوا به في غير هذا القطر تصريح
تهمة وتشهير، ظانين لقصر نظرهم وضعف عقولهم أن هذا النوع من الإرجاف،
هو الذي يحول دون هذا النوع من البر والخير.
هذا الإسراف والغلو في التنفير عن هذا العمل العظيم الذي هو فرض ديني
يحيي جميع الفروض والسنن، وهذا التناقض والتهافت في مقاومته، ليس سببه
الحسد والبغضاء لمن دعا إليه ومن قاموا به فقط كما يظن كثير من الناس، بل
هنالك سبب آخر أخفى من هذا وهو أن بعض أعداء الإسلام في غير هذا القطر هم
الذين أغروا زعيمي المرجفين هنا [1] وليس من موضوعي أن أشرح ذلك، وإنما
الغرض البيان الإجمالي للمهم من تاريخ هذا العمل وجعله تمهيدا لبيان حالة الجماعة
المالية.
تعلمون أن أكثر الناس كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه أتباع كل ناعق،
وأنهم لفشو الفساد في البلاد يصدقون الشر أكثر من تصديق الخير، وأنهم لا
يمحصون ما يلقى إليهم من القول ليميّزوا بين المعقول منه وغير المعقول، وأنهم
لا يحتاجون في الصارف عن بذل المال لخدمة الملة والأمة إلى البراهين القاطعة
والحجج الناهضة، بل يكتفون فيه بالإيهام، ويتكئون على أوهى الشبهات والأوهام
ولولا كثرة هؤلاء، لما طمع أمثال أولئك المبطلين في مقام الزعماء، وستظهر
للجميع الدلائل الوجودية المشاهدة فتقطع ألسنة المرجفين، وتقنع جميع المقلدين.
أصغر مثال وجودي من ذلك هو أن من نظام مدرستنا أنه يجوز للطلاب
الداخلين أن يقيموا فيها مدة عطلة الصيف، من شاء منهم، فالذين استحبوا الإقامة
فيها مدة الصيف الماضي كان ثلاثة أرباعهم ممن جاءنا من رواق الترك في الأزهر
بين تركي وشركسي والرابع من رواق المغاربة، فهل يعقل أحد أننا نحاول هدم
الدولة العثمانية بأمثال هؤلاء.
ومثال آخر من نوعه تعدد أجناس الطلاب بالفعل وارتفاع سنهم، فأنتم ترون
أن منهم العربي، المشرقي والمغربي، والتركي والتتاري والشركسي والهندي
والجاوي والملاوي، وأكثر العرب من المصريين فهم زهاء النصف في القسم
الداخلي، والربع في القسم الخارجي، وترون أن سنهم تتراوح في القسمين بين
العشرين والثلاثين فهم في سن الرشد والاستقلال العقلي، لا من الأطفال الذين
يقبلون بكل ما يقال لهم، حتى يمكن المِراء في أمرهم، ويزعم المرجف أنه يمكن
إقناعهم على اختلاف أجناسهم بالسعي لإسقاط دولة يحبونها ويتمنون بقاءها، لأجل
إنشاء دولة يجهلونها ولا يثقون بإمكان وجودها، وإنما كان يسهل المراء في ذلك
قبل وجوده بالفعل بادعاء أنه تمويه كتب في نظام المدرسة لمخادعة الناس وهو لا
ينفذ كما كتب.
علمتم من هذا البيان أن تلك الأراجيف الباطلة هي التي كانت المانعة لمؤسسي
هذه الجماعة من دعوة الناس إلى الاكتتاب العام لها، وتأليف اللجان لذلك، واكتفائها
بإشهار عملها وانتظار الفرصة لتلك الدعوة، بعد أن يكون العمل نفسه يشهد لنفسه
بأنه أفضل خدمة عامة للإسلام. وأنه خير محض لهذه الأمة بل يشاركها فيه كل من
يعرف قيمته من الناس، وسيظهر هذا بظهور العمل واستمراره ولو زمنا قليلاً حتى
لأشد الناس تقليدًا للمرجفين، وبعدًا عن استقلال الفكر والرأي، فإن هؤلاء إذا كانوا
لا يعقلون البراهين الدالة على كذب المرجفين وسوء نيتهم، فهم لا يجهلون الأمور
الحسية التي لا يمكن أن يشاغب فيها المماري كالمثالين اللذين أوردناهما آنفًا.
أرجأنا الاكتتاب العام انتظارا للفرصة المناسبة فلم تسنح لنا إلى اليوم فإننا لم
نلبث بعد الشروع في مبادئ العمل إلا قليلا حتى وقعت الحرب في طرابلس الغرب
وانصرفت همتنا مع الناس إلى جمع الإعانة لإخواننا المدافعين عن بلادهم وأنفسهم،
وما كان يمكن أن يدعى مع ذلك إلى إعانة أخرى، وها نحن أولاء نرى دولتنا قد
اصطدمت قبل انتهاء تلك الحرب بحرب أخرى أدهى وأمر، وأنكى وأضر، ونحن
مضطرون إلى السعي لإعانتها عليها بجمع الإعانات المالية.
فهذه هي الأسباب في قلة ما ترونه من المال في الأرقام التي سأعرضها عليكم
مندخل الجماعة وخرجها منذ تأسيسها إلى آخر سنتها المدرسية الماضية، ومنها
تعلمون أن الفضل الأول في تاريخنا المالي يعود إلى المحسن العربي العظيم،
الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، عضو الشرف الأول لجماعتنا، ثم للأعضاء
المؤسسين منكم أيها الإخوة، الذين لم يسلبهم استقلالهم وغيرتهم الإرجاف والصد
عن سبيل الله، فسارعوا إلى بذل ما تنال به عضوية التأسيس وهو عشرون جنيهًا
مصريًا على الأقل، ثم لسائر السابقين إلى الاشتراك والتبرع، والرجاء في
المستقبل بفضل الله عظيم.
إن رحلتي إلى الهند في هذا العام ستكون فاتحةً لباب من أهم أبواب تاريخنا
المالي، فقد صار لجماعتنا ولمدرستنا به شهرة عظيمة عند إخواننا مسلمي الهند
الذين رأيتهم من أشد المسلمين غيرةً دينيةً، واستمساكًا بعروة الرابطة الإسلامية،
وأنداهم كفًّا في مساعدة المشروعات العلمية والخيرية، ولأجل هذا اتفق إخواني
أعضاء مجلس الإدارة على الإذن لي بإجابة دوة جمعية ندوة العلماء، إلى
رياسة مؤتمرها السنوي في هذا العام، ثم لأجل صلة التعارف والموادة بين
المشتغلين بأمر التربية والتعليم في أرقى بلاد الإسلام مصر والهند، ولولا أن
الحكومة الإنكليزية الهندية حسبت أن لرحلتي معنى سياسيًا فيمًا يسمونها الجامعة
الإسلامية لمقاومة الدول الأوربية وأن والي لكنهوء رماني بالظِّنة، ووضعني
موضع التهمة، لما منعني مانع من تأسيس شعبة لجماعة الدعوة والإرشاد، في ذلك
البلد العظيم وغيره من تلك البلاد، ولكنني علمت أن المسلمين هنالك لا يقبلون على
مساعدة عمل ترى الحكومة أن له صبغة سياسية ضارة بها، ورأيت العقلاء وأهل
الرأي منهم متفقين على أن عملنا هذا إذا عرف على حقيقته وعلمت الحكومة الهندية
أنه ديني محض لا شائبة فيه للسياسة كما هو الواقع ثم دعي مسلمو الهند إلى
مساعدته فإنهم يفيضون عليه الذهب فيضًا.
على أن بعض أهل العلم هناك قد ترجموا نظام مدرستنا دار الدعوة والإرشاد
بلغتهم الأوردية، وتبرع بعضهم بطبعه ونشره لتشتهر المدرسة والجماعة في جميع
تلك الممالك، والله المرجو لما وراء ذلك.
أما الرجاء الأكبر لمدرستنا في الأرض فهو مولانا عزيز مصر عباس حلمي
الثاني الذي أنشئت في ظله، وتعد من حسنات ملكه، لأنها أول مدرسة في الإسلام،
قد أنشئت لتخريج المرشدين والدعاة إليه في جميع الأنام، وناهيكم بعنايته العليا
بمعاهد العلم والدين، وغيرته على مصالح المسلمين، ثم أسرته العلوية المباركة
التي تدفقت أيديها في مساعدة المدارس الدنيوية، والمشروعات الخيرية، فلا يعقل
أن تقبضها عن إعانة هذه المدرسة الدينية، والله المنعم والموفق لموجبات الشكر
والمزيد، وله الحمد في الأولى والآخرة وهو الولي الحميد.
__________
(1) المنار: المراد بزعيمي المرجفين محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني والشيخ عبد العزيز شاويش الذي كان رئيس تحرير جريدة العلم، وكتب ما كتب فيها بأمر فريد بك , والمغري لهما بمقاومة هذا المشروع الديني هو طلعت بك من زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي أفسد المشروع في الآستانة سرًّا، وكان يُظهر مساعدته جهرًا , وأما بقية المرجفين فهم المحررون في جريدة العلم أو بعضهم.(15/921)
الكاتب: عبد الحافظ الجاوي
__________
حقيقة أحوال مسلمي جاوه
رسالة من صاحب الإمضاء من طلاب العلم في مكة المكرمة
أيهما أنفع للهيئة الاجتماعية الترقي أم التدلي؟
في العام الماضي بينما كنت متضلعًا بقراءة مجلة (المنار) إذ هي إحدى
المجلات التي تبحث في المشكلات الشرعية وفلسفة الدين، وحبًّا في مباحثها
النفيسة المفيدة، طالعت جميع ما فيها من البحث في العلل الروحية والأمراض
الاجتماعية التي طرأت على المسلمين، والبحث في شئون الاجتماع والعمران،
وفي ذلك العام 1329 صدر من المجلة عدة أجزاء أهمها ثلاثة - الخامس - والسابع-
والعاشر - فهرولت في طلبها، واعتنيت في تحصيلها إلى أن ظفرت بها،
فتناولتها بيمين الإجلال، وتصفحت صحائفها باشتياق وإقبال، رغبًا أن أجد فيها ما
يشفي لي الغليل، ويبرئ الضمير العليل، في المشكلات الشرعية، فإذا أن رأيت
فيها ناطقًا بشئون مسلمي جاوة، وباحثًا في أمورهم الاجتماعية، من حيث التأخر
والتدلي والانحطاط، والجهل والهبوط والخرافات، ولم أرها تعرض في أبحاثها
ومقالاتها إلى شيء من حقائق شئوننا بقطر الجاوة في هذه الأزمنة، إلا النزر
اليسير، سيما ما كتبه الكاتب في الجزء السابع من الجفوة؛ لأن في عبارته جفخًا [1]
بأهل قطره (ماليزيا) ، وتفضيلاً لأبناء جنسه، ولا يرمي شيئًا من الفوائد
والنصائح التي ينبغي أن نعتني بشأنها، فيدلنا ذلك على أن الكاتب دبت إليه
عقارب الحسد والبغض والنزاع، وأصبحت رسالته غير مشتملة على الخدمة
الملية والجامعة الجاوية بل هي مجرد الدققة [2] .
إن شئوننا لم تزل ضعيفة خرافية فعلينا وعلى سائر إخواننا المحبين لخدمة
الملة إرجاع النظر، واتخاذ وسائل المساعدة والمعاونة لترقيتها إلى منبر التقدم
وتقديمها إلى محراب الحضارة، فإن الأمم المجاورة لنا وهي - اليابانية -
والصينية - قد طلعت بمشيئة الله تعالى شموس الترقي والتقدم والحضارة في بلادها
وظهرت بإرادته نجوم المعارف والعلوم والصناعة والفنون في آفاقها، حتى جاء
انقلابها في أحوال التجارة وأمور السياسة والإدارة فائقًا. ولما كان مثله في الأمم
الأوربية، جمع كثير من الفضاء حوادثها التي تسر الناظرين في الأسفار،
وصانوا ديباجتها عن غبار الشنار، قائلين إنه إذا دامت الأمة اليابانية 40 سنة على
هذه الحركة العلمية العملية، فلا بد أن تحل في الشرق محل الأمم الغربية، (انظر
المجلة المصورة بينتانغ - هندية الصادرة في بندونغ (سنده) سنة 1904 العدد
5) وإن صناعات اليابان اليوم تفوق صناعات الأوربيين بكثير حتى إن ما يساوي
قرشًا بالأصالة يساوي دينارًا بالصنعة (انظر (رسملي كتاب) الصادر في الآستانة
في نيسان 1328 العدد 39 مجلد 7) وأن الأمم الصينية الآن في بدء الانقلاب
فسيمنح الصينيون الحرية الدينية والشخصية، وتغير الحكومة القديمة بالحكومة
الجمهورية وهي التي سماها أهل الغرب (la de gouvernement Le
Republique) وهي نظام الحكومة في أمريكا وفرنسا وغيرهما، وقد تصدر
الحكومة الأوامر بتبديل الملابس والطرز القديم ويكون أهالي الصين مكلفين باتباعها
ويستثنى من ذلك المسلمون، وقبلت الحكومة أيضًا راية جديدة فيها ألوان شتى،
فالبياض علامة المسلمين والحُمرة علامة أصل الصينيين والسواد علامة المانجو
والخضرة علامة التبت والصفرة علامة عنصر المغول، فشاعت هذه الأخبار
وذاعت بين الأقطار والبلدان، ورأينا الصينيين المقيمين في قطرنا
(الجاوة) يترقون شيئا فشيئًا اتباعًا لحضارة حكومتهم وبلادهم، وأجمعوا على
وجوب تعميم التعليم وأنشأوا مدرسة كبيرة لأبناء بلادهم المقيمين في تلك الجزائر،
سموها (Tiong - Hwe - Hoa - Tiong) وبذلوا لهذا الغرض الشريف كل ما في
وسعهم مما يحتاج إليه من المال، مع اختيار أكمل الرجال، ويزداد عدد التلاميذ
يومًا بعد يوم والفضل في ذلك لنظارة المعارف (Wie - Joe - Khong) وقد
سمعنا صوتًا سياسيًا قبل الانقلاب: أن المملكة الصينية إذا ارتقت كالدولة اليابانية
تهول الدول الأوربية وتخفيها فإن مملكتها فسيحة وسكانها مئات الملايين ومقدار
المسلمين فيها على مقتضى إحصاء الحكومة خمسة وخمسين مليونًا [3] وانظر مبلغ
أصل الصينيين والمانجو والتبت وعنصر المغول كم يكون؟
وإخواننا مسلمو جاوه على هذه الحركات المدنية والحضارة وأدوار المملكة
الممكنة من عهود تجدد، وشروط تؤكد، ونظام يتغير، وانقلابات تظهر، تراهم
بين أمواج التأخر، والانحطاط والتقهقر، كل الأوصاف الخسيسة عليهم انطبقت،
وسحائب الجهل والكسل والظلم والاستبداد وكل نعوت الدناءة فيهم قد تزايدت
وتراكمت، حتى لا يمدح منهم سوى تمسكهم بكلمة الشهادة، وتلفظهم بالهيللة، ومن
العجائب أنهم يتركون ما يجب علمه وعمله لحماية دينهم وملكهم، من تنظيم
المدارس وقراءة الجرائد والمجلات، والإلمام باللغات الأجنبية. وأن هؤلاء القوم قد
أشربوا حب النصارى في قلوبهم، واستحضروا عظمة ملكهم، ولاحظوا توفر
الدنيا بأيديهم، ولكنهم لا يعملون ما ينيلهم ذلك , فحقوق المسلمين أو الواجبات
عليهم هي أن لا يبدلوا الملابس والطرز القديم، فالأزياء والوساخة والطاقية
الخشبية والنعل المعروف بالقبقاب من مصنوعاتهم هي عين الدين، والمدارس
العقيمة على الطريقة العتيقة هي طريقة السلف والخلف فينبغي لنا إبقاؤها،
والجرائد والمجلات غاية ما فيها العبث والكذب والزور فينبغي اجتنابها، لذلك نرى
رجال الدين الإسلامي عندنا معاشر الجاويين قلما يعرفون شيئًا من أمور العالم.
فإنهم جعلوا ما لا شائبة فيه من الأشياء الممنوعة المحرمة، وجعلوا الأفعال الفاحشة
والأشياء الخرافية إجماعًا سكوتيًّا، ولا حاجة بنا إلى التصريح بها فإنها معلومة لدى
الشيوخ في بلاد الجاوة الشرقية خصوصًا في (فونوروقو) ومتعلقاتها، فلا حول
ولا قوة إلا بالله وأعاذنا الله من ذلك! !
على أن الذين يأتون ذلك هم الذين يقرءون التفاسير فهل النهي عندهم
للجواز؟ وهل فسر المفسرون النفي بالإثبات والإثبات بالنفي؟ (حاشا لله! ! !)
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا يسخر
الأجانب من المسلمين إلا بمثل هذه الأفعال الفاحشة، لا بأفعال الجاهلين منهم
الذين لا يمسون أدنى التمدن بل يمسون التوحش، والحق أنهم ليسوا علماء، وإن
كانوا يقال لهم ذلك. كيف وقد وضعوا الشيء موضع نقيضه؟ بل هم أدل الآيات
على جهلهم وفضيحتهم في التحريف، وتسبب من هذه الأفعال نفور الجاويين
من ديانتهم الرسمية وميلهم إلى الديانة المسيحية أو إلى غيرها أو إلى الكفر المجرد
لا مسيحية ولا غيرها، غير أنهم لم يمحوا منها كل ما هو إسلامي بدليل بقاء بعض
الشعائر الإسلامية والأعياد المِلِّيّة ثابتة هناك كالاحتفال بالمولد النبوي وغيره،
وأن من تزوج بغير نكاح، ومن لم يختن أو من مات بالكفن الأسود من الجوخ [4] هذا
كله قد عرف العوام فضلاً عن الخواص أنه باطل ولا يفعله أحد.
ومما نأسف له من تأثير جهلهم أنهم كلما خرجوا من وطنهم ضرب عليهم الذل
والهوان، ويدلك على ذلك الحجاج الجاويون، فإنك ترى مطوّفيهم يلعبون بهم لعبة
الكرة - وكذا وكلاء المطوفين - ويظلمونهم ويؤذونهم، وترى الحُجَّاج في هذا
الظلم والجور مثل البهائم لغلبة الجهل عليهم، ولو عرف القراء ما عرفته من حال
المطوفين ووكلائهم وسفرائهم بهذه المدة ليعجبوا أشد العجب، ولا يمكن أن يقع كل
هذا الظلم على من كان له قليل من له الإلمام بقوانين الدولة وبصيص من نور
الحضارة وكثرة قراءة في الجرائد والمجلات، فالإنسان ما وصل إلى هذا الحد إلا
بعدم المعرفة لشئون العالم، وعدم الإلمام بأمور الاجتماع والعمران.
فإنني إن أطلع القارئ على أن المتنصرين لهذا العهد يوميًّا من مسلمي جاوة
في جزيرة سوربياة لا يقلون من أربعين إنسانًا وقس عليها ملحقاتها - سمارنغ -
بتاوي - سوراكرتا - ودعاة النصرانية فيها يخدعونهم بالاستمالة تارة، ويأخذونهم
بالقهر والغلبة مرارًا، ومن الغرائب أن رجال الدين الإسلامي هناك ساكتون لا
يقاومون ولا يدافعون حق الدفاع، بل نرى رجال اليابانيين المقيمين في تلك
الجزائر هم الذين يناضلون ويدفعون أولئك الدعاة الدجاجلة كما حدثني بذلك الثقة،
كان الأولى والأحق بهذا الواجب هم الأولون، ولا ندري سبب سكوتهم عن ذلك،
نعم إنهم يتلون قوله تعالى:
{إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ} (آل عمران: 73) .
إن مقاصدنا استيلاء هولاندة على جزيرتنا بعد أن استأثرت بمنافعها هي:
(أ) نصب القضاء بيننا بالعدل والرأفة وبالشورى.
(ب) تحسين حالتنا وترقية شئوننا المادية وسنكون بعد 40 سنة في المهارة
بالصناعات مثل أوربا.
(ج) تحكم هولاندة علينا بحسب قانونها، ويكون مبطقًا على كتاب الله
وسنة رسوله.
(د) لا تريد الحكومة الهولاندية في جاوة والهند الشرقية إزالة الديانة
الإسلامية بل تريد الإصلاح وبقاء الحال على ما هو عليه.
ثم لها عدة مواد تعاهد بها (لعله عاهدت عليها) أميرنا الأفخم، ونحن ننشر ما هو
مفيد منها لجماعة الدعوة والإرشاد. تقول مجلة المنار في الجزء السابع (ص
519) نقلاً عن أقوال المجلة السويسرية (مجلة إرساليات التبشير والبروتستانتية) :
(إن حكومة هولندة تشد أزر المبشرين أكثر من الحكومة الإنكليزية، وقد رتبت
لهم مرتبات مالية لتصرف على المستشفى والملاجئ والمدارس، وسبب هذا الاتفاق
بين الحكومة الهولاندية والمبشرين وجود (فون بوتزيلر) قنصل المبشرين
والوسيط بينهم وبين الحكومة) .
(قلت) إن صحت هذه العبارة فإنها تدل صراحة على أن الحكومة الهولندية
تريد إزالة الديانة الإسلامية، والتحول عنها إلى الديانة المسيحية، فلا وجه للتعاهد
على إبقاء الإسلام. مع هذه الصراحة، فازداد بها يقيني وإنكاري، وشمرت بها
إلى فتح طريق الاعتراض والانتقاد على المادة الرابعة (د) وفوق ذلك نرى
إخواننا شبان الجاويين قد اعترضوا على المواد المذكورة فأسسوا جمعية الاتحاد
العام Boedi - Oetomo أي الأخلاق الفاضلة فهم يرومون بها التربية والاستقلال
ويتخذون لذلك وسائل شتى، ولها جريدة خاصة باللسان الجاوي والماليزي سموها
(دارما - كوندو) تبحث في شئون هذه الجمعية حتى أصبحوا -ولله الحمد- قد أخذت
تظهر فيهم بوادر الانقلاب، فلو كان جميع الزعماء من المسلمين عارفين بمقاصد
جمعية (الاتحاد والترقي) وسياستها، وأرادوا أن يتبعوا منها شبرًا وذراعًا بذراع
في الأمور المادية والمعنوية جميعًا لفعلوا بلا معارض، فكما طلعت شموس
الانقلاب وفجوره طلعت أيضًا رءوس المدارس الإسلامية محصورة في بعض المدن
والقرى حتى بلغ المنشأ حديثًا زهاء خمس مكاتب على طراز جديد، ونخص بالذكر
منها مدرسة بتاوي ومدرسة فكالوعان ومدرسة سورابية ومدرسة سورا كرتا ومدرسة
يجوكجا كرتا. وهاتان المدرستان هما أكبر المدارس الدينية فيها إذ مؤسس المدرسة
بسورا كرتا هو الجناب العالي أميرنا الأفخم عبد الرحمن العاشر، ومؤسس المدرسة
في جوو كجرتا الحكومة الهولندية بأمر الحاكم العام في بتاوي، وكلها عامرة
بالتلاميذ، غير أن أساتذتها لا يعرفون نظام المدارس في الآستانة ومصر
المحروسة بالفعل، لذلك فشا فيها شيء من الطريقة القديمة حتى جاء ذاك المصلح
الكبير نجل السادة الأعيان، والعلماء الأعلام، سيدي السيد عبد الله بن صدقة بن
زيني دحلان، فساعد على تنظيمها رغبة في نشر العلم وتربية الناشئين تربية دينية
تهذيبية (جزاه الله تعالى وباركه) ولعمري أني لم أرَ أحدًا من رجال الدين بمكة
المكرمة السائحين في قطرنا (الجاوة) بثوا فيها شيئًا من المعارف إلا ذاك الرجل
المتمسك بالنظام والآداب الحميدة فهو من نوادر السائحين، وقد كتب إليّ كثير من
الإخوان في ضمن الكتب عبارات الشكر له والامتنان منه.
لقد أتى على التمدن العربي ما شاء الله من الدهر، متداولاً عصرًا بعد عصر
ولم تنهض الهمة بأحد من أهله الوافدين على تلك الأرجاء كأولئك الحضارم إلى
بث العلوم والمعارف في تلك الجزائر، بل أهملوها إهمالاً لم تعرف مثله الأشباه
والنظائر، وكان همهم محصورًا في جلب الدراهم من أيدي الناس، حتى جاء هذا
المصلح المشار إليه، وكان كثير من الأجانب قبل مجيئه يضحكون منهم بخلاف
الأوربيين السائحين هناك فإنهم ينشئون المكاتب والمدارس ويبثون لغتهم بين أهل
اللغة الجاوية لتؤلف قلوب الأطفال والناشئة، واغتر كثير من المسلمين بذلك
فقلدوهم تقليدًا أعمى من غير حاجة إليه في لباسهم وطعامهم، وفي حركاتهم
وسكناتهم، حتى أن البعض منهم رفض الديانة الإسلامية توغلاً في تقليدهم
ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا! ! !
ومن أعجب أساليب التقليد وتأثير خرافات الأمم الراقية في المسلمين المارقين
أنهم يزعمون أن العرب ليست أهلاً للحضارة والمدنية استنادًا لما رأوا من هؤلاء
الحضارم والمسلمين الجاويين في تأخرهم وانحطاطهم، فما كان ألذ سماع هذه الكلمة
منهم في آذان الأوربيين.
ولقد بلغ من عمران الدولة العربية في الشرق والغرب ما لم يبلغه عمران دولة
قبلها، انظر إلى الأمويين في دمشق والأندلس، والعباسيين في بغداد، ترَ من
رقيهم في الصناعات ومعارج العرفان ما لا يقوي الإفرنج على إنكاره، ودونك
كتاب مدنية العرب (orabes des civilisation) تأليف جوستاف لوبون ترَ فيه
المعجب والمطرب، فهل تريد بعد ذلك كله برهانًا على صحة دين الإسلام الحنيف
وحجة على حقيقة من اهتدينا بهديه وانتهجنا سبيله؟
إن أهل أوربا كانوا لاهين عن العلوم ساهين عن إيقاد نبراسها حتى أنهم لما
أفاقوا من غفلتهم وهموا بالخروج من ظلمات الجهل، وطلبوا النور الذي كان
لأسلافهم ونبذوه هم وراء ظهورهم، كادوا لا يجدون له من أثر في غير الأديار،
فالتجئوا إلى العرب وتعلموا في مدارسهم، واستضاءوا بنور أساتذتهم، وترجموا
كتب علومهم إلى لغاتهم، فكان للشرق بذلك الفخر ما بقي النيران.
نطقت كتب التاريخ: أن طلبة العلم من الإفرنج من القرن الثامن إلى الثاني
عشر كانوا إذا أرادوا التبحر في العلوم يقصدون بلاد العرب يقرؤون على أساتذتهم
بل قيل: إنه لم ينبُغ أحد منهم في الرياضيات في القرون المذكورة إلا بعد أن
تلقاها بمدارس العرب فتأمل! ! !
وإخواننا الجاويون المقلدون للأوربيين لا يلتفتون ولا يتدبرون تلك التواريخ
بل يشغفون بالتشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم فولعوا بزيارة أوربا وتعلموا في
مدارسها واختصوا للإنفاق عليها الألوف من الأموال، حتى تمكنهم تأدية الراتب
السنوي لكل تلميذ وهو (1215 غولدن) في كل سنة، ولم نسمع قط أنهم يخرج
منهم (سينتمات) فضلاً عن (غولدنات) لأساتذتهم في العلوم العربية اللهم إلا زكاة
الفطرة على سبيل المعروف.
ومع ذلك فإنا رأينا المتخرجين في المدارس الهولاندية لا يستعملون العلوم
والفنون والصناعات لحماية ديننا وملكنا ووطننا بل يبذلون أموالنا على الشهوات
واللذات والزينة والقمار، فيا حبذا تلك الفنون التي نحن متعطشون إلى تعميمها في
تلك الأنحاء التي لا تزال ضعيفة.
هذا ما نبديه للقراء نزرًا من جمّ، وقَطْرًا من يمّ، من أحوال مسلمي جاوة،
والله يوفقنا لنشر غيرها في المستقبل -إن شاء- إنه سميع النداء مجيب الدعاء،
وأرجو بعد إقفال باب الكلام على جاوة أن يسمح لي القراء الجاويون ومن معهم
بكلمة أسوقها إليهم، وهي أني قرأت الجرائد على اختلاف ضروبها فرأيت فيها
أخبار الدولة العثمانية والمصرية والدولة اليابانية والصينية في الترقي والتقدم
والحضارة، وعدا هذه ترى كل جنس من أجناس الأمم الراقية قد روت عنه الجرائد
والمجلات شيئًا من علو الهمة، ونهضة الأمة، كارتقاء اليابان والانقلاب في
الصين، ونهضة التعليم بالهند، وجراءة أبطال المجاهدين في طرابلس الغرب،
وناهيك باختراعات أوربا، فهل لإخواننا المسلمين الجاويين أن يقوموا بعمل مثل
هذا في جاوة ينتفع به جميع الجاويين، ولهم من مساعدة أميرنا الأفخم ما يوصلهم
إلى هذه الغاية الجليلة التي تكون من ورائها حرية السواد الأعظم، والله الموفق.
... ... ... ... ... ... ... ... من طلبة العلم بالحجاز
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحافظ ... الجاوي
(المنار)
إن الكاتب الذي أشار إليه صاحب هذه الرسالة في أولها ما كتب إلا
بالإخلاص وحسن النية، دون العصبية الجنسية الجاهلية، وهو لم يقل في إخواننا
الجاويين إلا دون ما قاله أخوهم في النسب الشيخ عبد الحافظ صاحب هذه الرسالة.
وإذا كان قومه أحسن حالاً منهم فينبغي أن يسره ذلك ويسرهم، لأنهم إخوانهم،
وقد ينفعهم حسن حالهم ولا يمكن أن يضرهم، وعليهم أن يجتهدوا في سبيل الارتقاء
حتى يكونوا أحسن منهم وأئمة لهم إن استطاعوا. ومن جد وجد، ومن قعد عن
السعي هلك، ولا يظلم الله أحدًا.
__________
(1) جفخ الرجل جفخًا: فخر وتكبر.
(2) الدققة هم المظهرون لعيوب الناس.
(3) المنار: كثر اختلاف الناس في عدد مسلمي الصين، وقد قال لي فضل باي أحد سروات بمباي (الهند) أنهم بلغوا في آخر إحصاء أو تقدير أي بعد الانقلاب ثمانين مليونًا.
(4) المنار: لم تفهم هذه الجملة.(15/929)
الكاتب: محمد شرف
__________
بعد تسعة قرون [*]
يقولون: إننا في القرن العشرين، في القرن الذي ارتقى فيه الإنسان
أعلى الدرجات في سُلَّم الحياة، في القرن الذي انتشر فيه العلم والعدل والمساواة،
في القرن الذي قلَّت في جوه جراثيم الأمراض الاجتماعية الفتاكة، في القرن الذي مُحي
فيه كل رسم للرق والنخاسة، في العصر الذي قويت فيه عاطفة الرحمة في ابن آدم
وتجسمت في عقله مبادئ الإنسانية الحقيقية وحب السلام والحب الجنسي، في
العصر الذي محي فيه من قلب الإنسان كل بغض ديني لمن على غير دينه، وقوي فيه
التسامح الديني ومات التعصب، وصار كلّ يحترم دين غيره، فهل كل
هذا حق؟ إن الحوادث والشواهد تؤيد خلاف ذلك.
هل زال بعد تسعة قرون (أي بعد الحرب الصليبية الأولى) من النوع
الإنساني ما كمن في فؤاده بل ما جرى في دمه من الخبائث؟ هل نسيت أوربة
صبغتها المسيحية ومركزها تجاه الإسلام، هل غفلت عن عدوها القديم؟ هل
تزحزحت بعد التسعة القرون بما اكتسبته من علم ونور ومبادئ شريفة إصبعًا واحدة
عما كانت عليه أيام الحروب الصليبية؟
لَعَمْري إن الأديان كانت بسوء استعمال الناس لها سببًا في فناء جزء كبير من
البشر وستبقى كذلك , فليس من العجيب أن نرى أنفسنا في القرن العشرين في
حرب صليبية سببها نفس السبب الذي أجرى في سهول سورية وفلسطين ومقدونيا
أنهارًا من الدم، وأقام فيها هضابًا من الجماجم أيام العصور الوسطى.
أيها المسلمون اعلموا وتيقنوا أن المسيحية لن تغفل عنكم. إن دينكم ومركزكم
الجغرافي لا بد أن يجعلاكم في عِراك دائم معها.
أنا لا أريد منكم أن تكونوا معتدين، ولكن أريد أن لا تنسوا الدفاع عن بلادكم
المقدسة، تلك البلاد التي ارتوت واحمرت بدماء آبائكم، ثم ابيضت بعظامهم، ولا
بد أن تحمر وتبيض مرات عديدة حتى يفنى العالم.
أيها المسلمون! لست في حاجة إلى تنبيهكم لمكان هذه الشئون من تاريخكم
من حيث إنكم أمة إسلامية. لا بد أن تكونوا علمتم جميعًا بالحوادث الأخيرة حول
دار الخلافة وما ينويه أعداء الإسلام لكم. إني أكرر أن هذا الزمن ليس زمن أزمة
وحرج في تاريخنا فقط، بل هو معركة حيوية نتيجتها إما بقاء أو موت، لذلك لا بد
أن تكون تلك الحوادث قد شغلت بالكم وأشعلت في أنفسكم جمرًا كان باردًا.
لا تظنوا أن أوربة تريد إصلاحًا أو عمارًا في مقدونيا، إن هي أرادت ذلك
فليس الجبل الأسود أو بلغارية أو الصرب هي التي تدخل هذه الاصطلاحات،
فالأول على حالة الوحشية والحيوانية الأولى، ولا فرق بين الثانية وبين تركية،
والثالثة ليست إلا قطيعًا من الخنازير. ربما كنا نصدق بهذه الاصطلاحات لو كانت
الحرب من إنجتلترة أو فرنسة أو ألمانية. إن طلب الاصطلاحات تحته امتلاك،
إنه أسد في جلد حمار. إن أوربة الحقيقية تريد أن ترى تغيرًا في رعاة الشرق
الأدني، تغيرًا في حدوده الجغرافية بالأحرى، تغيرًا في سادة القسطنطينية أو كما
تقول جريدة (البال مال غازيت) : (نود أن نرى مسيحيي البلقان يطوون هذه
السيادة الآسيوية التي ظهرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر) هذا هو
غرض أوربة وهي لا تكتفي ولا ترضى بإثارة حرب قومية، بل تثير علينا حربًا
دينية محضة. يجب أن لا نغتر بما يسمونه (المداولات السياسية لمنع حرب
البلقان) إنه عمل مبني على غير إخلاص، وما هو إلا ذرّ رماد في الأعين.
إن أوربة الصليبية لا تريد أن تقف أمام قوة تتفق مع أهوائها الطبيعية، لا
بد أن تنتصر لإخوانها في الدين وتساعدهم، إنه لا يمكن وضع المسلم والمسيحي
في كفة ميزان! إن الأخير أحق عندها بإصلاحات تناسب رقي عقله، وعلو قدره،
لذلك نشأت تلك الحرب الدائرة الآن عن دسيسة دولية ماهرة أخذت في التكون منذ
العام الماضي حين قامت الروسية تضغط على الباب العالي بقبول ضم طرابلس إلى
إيطالية، منذ ذاك الحين اشتعلت الدسائس فأهاجت البلقان على الإسلام.
ومنذ خمسة أشهر ظهر ناظر خارجية النمسة باقتراحه المشهور، ومهما كساه
بالألفاظ الأدبية المعتادة في المخاطبات السياسية، ومهما موهه وطلاه بألوان الطلاء
فهو في الحقيقة فحم جديد لنار موقدة، بين شعوب ذوي عقائد مختلفة، ما زادها
إلا وقودًا، وزاد لهيبها إلا اشتعالاً.
وتلك الروسية التي عهد إليها مع النمسة الاحتجاج الشديد على دول البلقان
نجد عليها تبعة كبرى في هذه الحرب ولا يدعو إلى الاستغراب أن تدخل فيها عن
قريب. ميل روسية إلى الجامعة السلافية أمر مشهور وعداوتها اللازمة لبني عثمان
حقيقة تاريخية، وتمنيها القبض على مفاتيح البحر الأسود وجعل القسطنطينية
عاصمة جامعة سلافية كبرى أمر دائم في فكرها ومحور سياستها. وهي الآن تساعد
بلغارية. وهذا ملك الجبل الأسود الحائز للقب (فريق) في الجيش الروسي وصهر
القيصر والذي قال منذ أسبوعين (إن كلمة القيصر هي القانون عنده وعند قومه)
أيعقل أن يعلن الحرب رغم أنف القيصر؟ لا بد من مواثيق ومعاهدات. ولم يمض
على الحرب أسبوع حتى أمطرت الروسية على الجبل الأموال الكثيرة والعطايا
الغالية وأرسلت البعثات الطبية، وجاء إلى الجبل أميران روسيان. أهناك تشجيع
على الحرب أكثر من ذلك؟ إن خطب ملوك البلقان موجهة إلى قيصر الروسية أكثر
مما هي موجهة إلى أقوامهم.
جاء في الإرادة السلطانية أن هذه الحرب سياسية محضة، ولكننا نعتقد بالرغم
من ذلك أنها دينية محضة، حرب مؤسسة على بغضاء دينية كمنت سنينًا وقرونًا،
ويُثبت ذلك ما جاء في مذكرات الأمم البلقانية وخطابات ملوكها، فهذا ملك البلغار
يقول: إن آلام إخواننا في الدين من رعايا سلطان آل عثمان التي لم يسمع بها أحد
قد أثارت غضب أمتنا بحق، وكل الوسائل السلمية للدفاع عن هؤلاء الشهداء
إخواننا في الدم والدين قد نفدت، لذلك لا يمكننا أن نبقى بدون تأثر بتأوهاتهم
الشديدة، ولاعتمادنا على قوة جيوشنا أمرناها بغزو الحدود للمحاربة مع ذلك العدو
القديم. إن عملنا مقدس، وفي سبيل الرحمة والإنسانية. اعلموا أن حربكم حرب
صليبية. إلى الأمام بعون الصليب وقوة أسلحتكم، إن إله العدل لا بد أن يعينكم.
وقد أمر بدق الأجراس في جميع الكنائس إعلانًا بالحرب وجيء بالقسيسين للصلاة
والدعاء بالرحمة والشفاعة للمحاربين.
وخاطب ملك الصرب قومه بهذا المعنى أيضًا - وأمر بإقامة الصلاة والدعاء
بالنصر لجيوش المسيحيين وطول العمر لقيصر الروس حامي حمى الكنيسة
الأرثوذكسية.
وقال مثل ذلك ملك اليونان، وناظر خارجيته يقول: (إن حرب البلقان
الصليبية هي غزوة لنصر المدنية والتحرير من السيادة الأسيوية التي بعد أن هددت
أوربة وبعد أن وصلت إلى فيينا لا تزال عبئًا ثقيلاً على كواهل أمم أكثر تقدمًا
وأرغب في الحضارة والحرية من الأمة الفاتحة) هذا بعض ما قيل في البلقان،
وإليك ما في غرب أوربة.
ففي إنجلترة نفسها - في الأمة التي يقال إنها سبقت جميع الأمم في ميولها
العادلة وسلامة أذواقها وصفاء قلوبها من الحقد والضغن الديني - في الأمة التي
تدعى جريدة التيمس أنها (أقوى مُدافع عن بيضة الإسلام) - في الأمة التي عولت
تركية كثيرًا على إنصافها وخطبت ودّها - في هذه الأمة لا يمكن الإنسان أن يحتمل
البغض الظاهر لتركية والإسلام. لا يمكن الإنسان احتمال ظواهر لبغض أشد من
بغض غلادستون الذي كان يقول (هذا الكتاب - مشيرًا إلى القرآن - لا بد أن يجمع
من أيدي المسلمين ثم يحرق، هذا الكتاب ما دام في أيدي هؤلاء الملايين لا بد أن
يبقوا أشقياء أعداء لكل ارتقاء وإصلاح، أعداء للمسيحية) وهذه الصحف
الإنجليزية تضرب على نغمة أشد من نغمته فهي تقول اليوم: لا خير في الإٍسلام
ولا صلاح يُرجى منه. ومن هذه الجرائد قسم لا يكتفي بكتابة أخبار مهيجة عارية
عن كل صحة، وبإعلانات مثيرة للخواطر، بل تعلق عليها بمقالات أشد من قول
ملك البلغار. ومثالاً لذلك أقتطف جملة من تعليق (البال مال غازيت) قالت: (لا
شك أننا كلنا والرأي العام هنا لا بد ينتصر لإخوانه في الدين. لا شك أننا نود أن
نرى إخواننا في الدين يكتسحون تلك السيادة الآسيوية في جنوب شرق أوربة كما
اكتسحوا الأندلسيين العرب من غربها) .
لم تقتصر هذه الظواهر العدائية على الصحف والرأي العام بل اشتدت في
الدوائر الرسمية وظهرت على لسان المستر (لويد جورج) والمستر (ماستر مان)
من نظار المالية. واجتمعت جمعية البلقان المكونة من أعضاء البرلمان في
وستمنستر يوم إعلان الحرب، وقررت بأن الأمم البلقانية محقة في عملها. ومهما
تكن نتيجة الحرب لا بد من استقلال مقدونيا. وقررت عقد اجتماعات عمومية
لتهييج الراي العام.
لم تقف تلك الظواهر عند هذه الحدود بل امتدت إلى المعاهد الدينية بالطبع
فدعا بعض القسيسين يوم الأحد بالنصر للغزاة. وقال بشوب سوبثويل (Bishop
of southwell) في خطاب ألقاه في نوتنجام (Nottingham) إن قتل المسيحيين
وتعذيبهم في مقدونيا طول هذه السنين لم يعد يحتمل ولا بد من إعلان الحرب. هذا
يوم إعلان الحرب وسافر المستر Buscton Nocl عضو البرلمان إلى صوفية
وأعلن هناك أن عددًا كبيرًا من الإنجليز قادم إليهم للتطوع مع البلغار. وأن أثر هذه
المظاهرات في نفوس أهل البلقان لا يخفى على القارئ.
إن إنجلترة المدعية الصداقة للدولة العثمانية والدفاع عن الإسلام والتي يعدها
عدد كبير من المسلمين أخلص صديق لهم تعمل كل ذلك في زمن جرحت فيه قلوب
جميع المسلمين (ومن يبالي بقلوب المسلمين الذين لا يبالون بأنفسهم) إن إنجلترة
بما لها من النفوذ الدولي الكبير والنفوذ الأدبي كان في إمكانها على الأقل إيقاف
اليونان عن الحرب، وربما كان في ذلك إيقاف الحرب كلها. إن إنجلترة تقيم
البرهان الآن على مبلغ إخلاصها للمسلمين. قد رأيناها مع ما اشتهرت به من حب
الإنصاف خنقت أمة شريفة ذات مجد قديم وهي في أول درجات الترقي والتقدم
والجهاد الشريف وباعتها لدب مفترس قاسٍ تحقيقًا لتوازن دولي غير محقق. هذه
هي حقيقة نية الإنجليز في المسلمين. ما كنا لنتأوه كثيرًا لو كانت إنجلترة نفسها
احتلت فارس بأجمعها؛ لأنها ربما كانت تساعدها على المدنية ولو قليلاً، ولكن
أعطتها لمن سيسحقها سحقًا مبيدًا.
إن إنجلترة لا بد أن تعلم أن في ملكها أو تحت حمايتها وفي احتلالها أكثر من
85 مليونًا من المسلمين وهي تعترف أن روح العصر تجري في دمائهم، وأنهم
استفاقوا من نوم عميق وتأثروا بأشعة النور الحالي، ولتعلم أيضًا أن الإسلام حقيقة
تاريخية وأنه لا يزال مفتاح أكبر باب في سياستها، ولنحذر لذلك غضب الشعوب
الإسلامية. إن الإسلام جرحت كبده في العام الماضي وجرح قلبه في السنة
الحاضرة.
إن هذه الحركة العدائية العمياء في إنجلترة أمر لا يحتمله المسلمون ولا بد لها
من أثر سيئ ما لم يتدارك الأمر بعض الرجال المدققين في الحكومة الإنكليزية.
ولعلّ في ذلك عبرة لجمهور المسلمين الذين لا يفكرون في أن إنجلترة إذا ساعدتهم
فإنما تساعدهم عن اضطرار، وأن الأولى بهم الاعتماد على هممهم الذاتية.
أيها المسلمون اعلموا أن أمة العرب اندرست آثارها في الأندلس بسبب غفلة
المسلمين وعداوة المسيحية لهم، وعدم وصول أي مساعدة إسلامية إلى أمراء
المسلمين في الأندلس، واعلموا أن التاريخ يعيد نفسه، وأن أمامنا مثالاً ثانيًا فإن
بقيتم بعيدين لا تعرفون معنى الجامعة الإسلامية فالنتيجة واحدة لا محالة. أيها
المسلمون إن خلافتكم محاطة بأكثر من نصف مليون سيف، وإن عدد أعدائكم أكثر
من عدد جيوش خلافتكم فإن لم تلتفوا حولها فالعاقبة وخيمة. إنكم تقاسمون مع
الخليفة المسئولية في حفظ مركز الخلافة وحياتها لكل فرد منكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... لوندرة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد شرف
بمستشفى سانت جورج وعضو بالجمعية الإسلامية بلوندرة
ومساعد في بعثة الصليب الأحمر الإنكليزية لتركية.
(المنار)
جاءتنا هذه الرسالة في الشهر الماضي من لندرة من صاحب
الإمضاء فرجحنا عدم نشرها أولاً، ثم كتبنا نستشيره في التصرف فيها والحذف منه
ثم ترجح عندنا أن ننشرها ونعلق عليها ما يأتي:
(1) إن الكاتب كتب رسالته عقب إضرام نار الحرب؛ إذ رأى الدول
الأوربية بعد أن قضين في العام الماضي على مملكة مراكش وفيما قبله على مملكة
إيران الإسلاميتين - وبعد أن أغرن على طرابلس الغرب وتبجحن بأنهن أزلن آخر
ظل لخليفة المسلمين عن أفريقية - شرعن في الاتحاد الحربي باسم الصليب
والاتحاد السياسي يعملن لإزالة سلطان الدولة العثمانية من أوربة، ومن يأمن بعد
ذلك إزالة ملكها من آسية. رأى الكاتب هذا وقرأ الجرائد الإنكليزية التي تصدر
هنالك فرآها نارًا تلظى، وكان لحسن الظن بالإنكليز يرجو أن يرى فيها شيئًا من
تخذيل دول البلقان التي أهانت المسيحية بجعل هذا العدوان باسمها ولأجلها،
ونصرًا للدولة العثمانية لأنها بغي عليها، وإكرامًا لمسلمي مستعمراتهم، فلما خاب
أمله، واشتد وجله، كتب بوجدان وانفعال، وحق لمثله ذلك.
(2) يظهر أن غرضه الأول من هذه الرسالة حث المسلمين على إعانة
الدولة على هذه الحرب بالنفس والمال، فأما التطوع للحرب معها فمما لا حاجة إليه
كما أنه لا سبيل إليه لأكثرهم، لبُعد الشُّقة وقصر أجل هذه الحرب. وأما الإعانة
بالمال فهي جهد المستطاع، وهم يبذلون بقدر حالهم المادية والمعنوية.
وأما غرضه الثاني فهو الاستنجاد بالإنكليز لمساعدة الدولة، وهو من العبث؛
لأن هؤلاء كانوا يساعدون هذه الدولة في الزمن الماضي مضادة ومقاومة لروسية
التي يخشون أن تأخذ الآستانة فتكون لهم قوة بحرية تعارض أو تناهض السيادة
الإنكليزية في البحر المتوسط وغيره. وقد انتقل هذا الخوف من روسية إلى ألمانية،
واستمالت إنكلترة عدوتها القديمة لتكون ظهيرًا لها على عدوتها الجديدة، فهي
تضحي الدولة العثمانية في هذا السبيل. فهذا هو السبب السياسي لخيبة الأمل في
الإنكليز، ويدعمه السبب الديني وهو الانتصار للصليب على الهلال، وهو إذا
انتفت الموانع السياسية واجب بالذات.
(3) كون هذه الحرب دينية عندنا يختلف الناس في فهمه؛ لأن جميع
النصارى وبعض المسلمين يرون أن معنى كون الحرب دينية هي أن يكون أهل
دين محاربين لجميع أهل دين آخر، يستبيحون من دمائهم ومن أملاكهم ما
استطاعوا كما تنتصر الآن جميع دول النصارى لجميع دول البلقان على الدولة
العثمانية، وإن كانوا ربما يتنازعون فيما بينهم على بعض البلاد أو المواقع كما
يتنازع الإخوة كثيرًا في اقتسام المواريث وغيرها. ويدخل في ذلك قتل من لا يقاتل
ونهب ماله إذا لم يكن ثَمَّ مانع كما يفعل البلقانيون في ذبح المسلمين ونهب أموالهم
في البلاد التي دخلوها عَنوة، وفي بلادهم الأصلية أيضًا، حتى في سلانيك ذات
الحضارة العظيمة، فإن اليونان فيها يقتلون وينهبون ويفتكون بالأعراض والأرواح.
وقد بينا معنى كون هذه الحرب دينية في الجزء الماضي، ومعنى الحرب
الدينية والجهاد في الإسلام في إحدى مقالاتنا (المسألة الشرقية) التي نشرناها في
العام الماضي، وهو أن الواجب على المسلمين قتال الذين يقاتلونهم خاصة لا كل
من يشاركهم في دينهم، وأن الواجب فيها الجهاد بالمال والنفس وبذل الزكاة
الشرعية فيها على ما بيناه في الجزء الماضي. ولكن في وطننا أناسًا يحسبون كل
صيحة عليهم، فكلما قال مسلم: إسلام، أو دولة إسلامية، أو اللهم انصر السلطان،
أو نقلوا ما يذكر في الجرائد الأوربية عنهم، أو ما يراد ببلادهم - قامت قيامة
هؤلاء الناس، وانتصر لهم من لا يعتقد اعتقادهم، وهيجوا الأوربيين عليهم،
قائلين: قد هاج التعصب الديني علينا ونحن على خطر، وذبحنا في كل ساعة
ينتظر. فلغيرنا الحرية في أن يقولوا: إننا نحارب المسلمين حربًا صليبية، وفي أن
يفعلوا. وأما نحن فلا حرية لنا في القول، لئلا يجر ذلك إلى استعدادنا للدفاع عن
أنفسنا بالفعل، فحريتنا مسلوبة حتى في قول الحق الذي لا يرضي خصومنا، ومن
لا يستطيع أن يفعل لا ينبغي له أن يقول.
(4) يريد الكاتب أن يخيف إنكلترة من سخط المسلمين الذين تحت سلطانها
وقدرهم بخمسة وثمانين مليونًا، وهي لا تخاف منهم على علمها بأنهم أكثر من مئة
مليون. يقول: إنهم قد دب فيهم الشعور بالحياة العصرية، وهي أعلم منه بهذا
الشعور، ويحتمل أن يكون من أسباب ترجيح الاستراحة من الدولة التي يطالبونها
بمساعدتها عند كل حادث.
(5) ليس من العقل ولا من الحكمة أن نلوم الإنكليز على عدم مساعدتهم
لدولتنا الإسلامية على دول مسيحية، وإنما الواجب علينا أن نلوم أنفسنا لا غيرها،
فلا البلقان ولا الإنكليز ولا الروس هم الذي يزيلون ملكنا، وإنما نحن الذين نهدمه
بأيدينا. فالذين ملأوا العالم فخرًا بإنقاذ الدولة من الاستبداد، وادعاء إخراجها من
الظلمات إلى النور، ومن الضعف إلى القوة، قد أنفقوا 43 مليونًا من الجنيهات من
مخصصات الميزانية وملايين أخرى كثيرة باسم الحربية، وظهر بعد هذه النفقات
كلها أن العسكر لم يجد خبزًا يسد به رمقه في وقت الحرب، بل لم يظهر أثر لهذا
الاستعداد إلا في ذبح مسلمي الأرنؤد والعرب في اليمن والكرك وحوران ... إلخ
إلخ.
(6) إذا كان لا مجال للمراء في كون هذه الدول تحارب المسلمين باسم
الصليب، وتستنفر جميع الدول الصليبية لمساعدتها على ذلك بجامعة الدين - فلا
مجال عندي للريب في كون دين المسيح عليه السلام بريئًا من هؤلاء السفاكين
للدماء المفتونين بأباطيل هذه الحياة، العابدين للسلطة والمال، ويجب أن يتبرأ منهم
كل من يعرف شيئًا من أصول دين المسيح ومقاصده. ولذلك يتحامى المنار تسميتهم
مسيحيين وتسمية ديانتهم مسيحية، سواء كان ذلك في مقام الكلام على أطماعهم
وأعمالهم التي يعملونها لاستعباد البشر وجعلهم أجراء يستخرجون خيرات الأرض
ليتمتع سادتهم باللذة والعظمة، أو في مقام طعنهم في أديان الناس وعقائدهم ليفسدوا
عليهم دينهم رجاء أن يصيروا صليبيين مثلهم، فأنا أنزه المسيحية عن شرور رجال
السياسة ودعاة الدين منهم، وأستحي من الله ومن المسيح عليه السلام أن أجعلهم من
أتباع المسيح أو أن أنسبهم إليه. ولو كانوا مسيحيين حقيقيين لكان الوفاق بينهم
وبين المسلمين أمرًا ميسورًا بل أمرًا مفعولاً، فهؤلاء الناس يستخدمون دينهم الذي
هم عليه - وهو قوة معنوية ككل دين - فيما يرون فيه سيادتهم وعظمتهم ونعمتهم،
وحكامنا وزعماء سياستنا يهدمون مثل هذه القوة بجهلهم وسوء تدبيرهم، يخربون
بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
__________
(*) من قلم الكاتب الغيور صاحب الإمضاء في لوندرة.(15/937)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(عون المعبود بشرح سنن أبي داود)
كتاب السنن للإمام الحافظ أبي داود من أجلّ كتب الحديث وأجمعها وأضبطها
حتى قال بعض العلماء: إن فيه القدر الكافي للمجتهد في الفقه. ولم يطبع طبعًا
متقنًا مضبوطًا لا في مصر ولا في الهند ولا طبع له شرح فيما نعلم قبل شرح
(عون المعبود) وهذا الشرح للشيخ أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي نسبة
إلى بلد (عظيم آباد) من بلاد الهند، وهو من كبار محدِّثي هذا العصر وعلمائه
ومصنفيه المشهورين في ذلك القطر. وقد تعب في ضبط متن الكتاب، ولقي نصبًا
شديدًا لقلة النسخ الصحيحة فلم يتم له ما أراد حتى جمع إحدى عشرة نسخة من الهند
والحجاز بعضها بالشراء وبعضها بالاستعارة.
وأما الشرح فإنه -والحق يقال- شرح محدث فقيه - لا فقيه محدث - أعني
أنه شرح من يعتقد أن السنة أصل يعرض عليه أقوال الفقهاء فما وافقها قبل وما
خالفها ترك، لا من يرى أن الأصل في الدين كلام فقهاء مذهبه فيعرض عليه السنة
فما وافقه منها قبله، واحتج به وما خالفه منها تمحل في تعليله أو تأويله. فهو
يشرح الحديث ويبين درجته ومن خرجه من الشيخين في صحيحيهما، ومن أصحاب
السنن الثلاثة تبعًا للمُنذري ويزيد من شاء الله أن يزيد. ويشرحه بما يتبادر إلى
الفهم من العبارة مستعينًا بشراح الحديث من قبله ولا سيما الحافظ ابن حجر والإمام
النووي والإمام الشوكاني. ويذكر ما فيه من الفقه. وقد بين طريقته في ذلك في
آخر الشرح.
وإذا كان بعض علماء الأصول يرى أن سنن أبي داود كافية في الحديث لمن
يريد أن يكون مجتهدًا. فأنا أرى أن شرحه هذا كافٍ لمن يريد أن يأخذ دينه من
السنة ويكون مهتديًا بها.
طبع هذا الشرح مع الأصل في مطبعة حجرية في دهلي فجعل المتن في أعلى
الصحائف والشرح في أدناها مفصولاً بخط عرضي على الطريقة الحديثة. وقد
عُني بتصحيحه عناية قلما نجدها في طبع الكتب الهندية. وضبط ما تمس الحاجة
إلى ضبطه من المتن بالشكل. فجاء في أربع ملجدات من القطع الكامل. وجعل له
جدولاً للخطأ والصواب. وهو يطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر.
***
(بداية المجتهد. ونهاية المقتصد)
كتاب في الفقه للإمام الفيلسوف الأصولي الفقيه القاضي أبي الوليد محمد بن
أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير (بابن رشد الحفيد)
المتوفى سنة 595 رحمه الله تعالى.
قال المصنف في أول الكتاب بعد البسملة: (أما بعد حمدًا لله بجميع محامده،
والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، فإن غرضي في هذا الكتاب أن
أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها
بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما
عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل
في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقًا قريبًا.
وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين
من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد وقبل ذلك) .
ثم ذكر الطرق التي تُتلقى منها الأحكام الشرعية وأصناف الأحكام وأصناف
الأسباب التي أوجبت الاختلاف في نحو من ثلاث صفحات فكان ذلك مقدمة أصولية
للكتاب، وشرع بعد ذلك في المقصد مبتدئًا بكتاب الطهارة مختتمًا بكتاب القضاء
على طريقة فقهاء المالكية. وهو يذكر في كل كتاب أصوله فيحصرها في أبواب
يذكر في كل منها ما اتفق عليه الفقهاء أولاً، ثم أمهات المسائل التي اختلفوا فيها مع
بيان أدلتهم ومداركهم فيها. وقلما يرجح بعضها على بعض.
فمن مزايا هذا الكتاب أنه - فيما علمنا - أحسن كتاب يمثل جملة الفقه
الإسلامي ومآخذه ودلائله لمن يريد معرفته بالإيجاز والسهولة من غير حشو ولا
زوائد، وهذا ما يحتاج إليه المسلمون وغير المسلمين من الباحثين.
(ومنها) أنه أقرب وأوضح ما يفند به بالتفصيل رأي الذين توهموا أن فقهاء
الإسلام استمدوا من القوانين الرومانية أو احتذوها في فقههم.
(ومنها) أن المسلم يعرف به المسائل المتفق عليها التي يتأكد العمل بها
والمحافظة عليها والمسائل المختلف فيها التي له فيها متسع.
(ومنها) أن الاطلاع على ما فيه من أسباب الخلاف ودلائل فقهاء المذاهب
التي تنسب إليها أكثر المسلمين اليوم وغيرهم يزلزل أو يزيل جمود المتعصبين
لبعض المذاهب على بعض الذين يحتقرون إخوتهم في الدين من غير المنتمين إلى
غير ما انتموا هم إليه، ومنهم الغلاة الذين يكفرون مخالفهم أو يحكمون ببدعته
ويستحلون إيذاءه، كما اشتهر عن الأفغانيين في بلادهم. وقد سألت بعض طلاب
العلم منهم في (لاهور) من مدن الهند: أحقًّا ما قيل عن أهل بلادكم من التعصب
الشديد على غير الحنفية ومن يعلم بغير المشهور في بلادكم من أقوال فقهاء هذا
المذهب؟ فإنه بلغنا أن من يرفع سبابته عند التشهد في الصلاة يقطعون سبابته؟
فقالوا: نعم! وحاولوا إقامة الحجة على تصويب هذه الجرائم والجنايات.
والسبب في مثل هذا التعصب الشديد عندهم أنهم يحصرون دين الله وشرعه
في المعروف عندهم من كتبهم الفقهية، ويسمون المخالف له مخالفًا للشرع وتاركًا
للدين، وإن كان في المسألة التي خالفهم فيها عاملاً بحديث صحيح أخذ به أكثر
المجتهدين في عصور العلم والاجتهاد، وكانوا هم فيها عاملين برأي بعض الفقهاء
الذين لم يتفق لهم الوقوف على ذلك الحديث بإسناده الصحيح، وقد كان مما أراد
الطلاب الأفغانيون الاحتجاج به على إيذاء المخالف وقتله قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا
المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: 5) ! ! ! الوارد في مشركي العرب
المحاربين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي ذكرته هنا من مزايا الكتاب هو زائد على الغرض الأول للمؤلف
من تأليفه إياه وما فيه من الإعانة على تحصيل مرتبة الاجتهاد المطلق التي
تقاصرت عنها همم المسلمين في عصره، وكذا قبل عصره فدع ما بعده، وقد كان
أمثاله من القضاة أشد الناس احتياجًا إلى الاجتهاد لما كان يعرض لهم من القضايا
التي لا نص فيها ولم يكن لها نظير في زمن من قبلهم، ومعرفة أمهات أحكام الفقه
بدلائلها ومداركها أعون ما يعين على استنباط الأحكام لهذه القضايا الحادثة.
وجملة القول في هذا الكتاب أنه من الكتب التي لا تستغني عنها النهضة
العلمية الإسلامية الحاضرة. وقد طبع في العم الماضي (1329) على نفقة محمد
أمين أفندي الخانجي الكتبي وشركائه، وهو يطلب منه ومن مكتبة المنار.
***
(حياة البخاري)
كتاب مختصر في ترجمة إمام الحفاظ محمد بن إسماعيل البخاري صاحب
الجامع الصحيح لصديقنا عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي. وهو يناهز أربعة
كراريس (ملازم) مثل كراريس المنار طبع في مطبعة العرفان بصيدا بعد أن نشر
في مجلة العرفان هنالك. وهذه الترجمة هي التي ذكَّرت المؤلف بالحاجة إلى رسالة
(الجرح والتعديل) التي تنشر في المنار. وأجدر بالقاسمي أن يكتب مثل ترجمة
البخاري، وهو الذي يشغل جلّ أوقاته في علوم الأثر مطالعة وتدريسًا وتصنيفًا.
ولو كان للمسلمين جمعية تؤلف معجمًا علميًّا (دائرة معارف) ما اخترت لكتابة مثل
هذه الترجمة لها من علماء بلادنا غير القاسمي، وكنت أرجو أن أرى في الترجمة
بيان السبب الذي ترك له البخاري الرواية عن بعض الثقات العدول أو الإقلال منها
وتحرير الكلام في ذلك بالإنصاف الذي يرضي المنصفين. والكتاب يباع في
مكتبة المنار وثمنه قرشان صحيحان خلا أجرة البريد.
***
(الدين والإسلام - أو الدعوة الإسلامية)
كتاب جديد (لمؤلفه محمد الحسيني آل كاشف الغطا النجفي) من علماء
الشيعة الإمامية طبع الجزء الأول منه، وهو يشتمل على فاتحة في حال الإسلام
والمسلمين يلي ذلك خمس سوانح:
(1) في الأديان وتوقف انتشارها على العلم والعمل والسيف والقلم،
وتمثيل حال الإسلام اليوم.
(2) في الشرف والسعادة.
(3) فيما ينشط العزائم لتحصيل الشرف.
(4) في حال المصنف وعنايته بالفلسفة الروحية والفنون العربية.
(5) في الحكماء ومؤلفاتهم، وعدم قيام زعماء الإسلام بالدعوة على وجهها
وخروج النصارى عن آداب المناظرة مع المسلمين وسوء مغبة ذلك. يلي ذلك
مقدمة في وجوب النظر وفصول في إثبات الصانع، وتوحيده، والعدل العملي
والاعتقادي، ومباحث القضاء والقدرة والعناية.
وعبارة الكتاب وأسلوبه شعري خطابي على طريقة كتاب الرسائل وهو
أسلوب اعتيد في الأدبيات دون العلميات والدينيات إلا قليلاً، والظاهر أن المصنف
جرى فيه جري المجتهد المستقل الذي لا يعتمد تقليد من لا يعتقد العصمة له. وقد
طبع هذا الجزء طبعًا نظيفًا في مطبعة العرفان بصيدا. وجاءتنا نسخة منه عقب
عودتنا من رحلتنا الطويلة، والشواغل متزاحمة فلم نجد وقتًا نقرأ فيه مبحثًا تامًّا من
مباحثه لتشهد له أو عليه بالحق، وحسبنا أن نشكر للمؤلف قصده وغايته وموضوع
عمله، وأن ندعوه لشد أزر جماعة الدعوة والإرشاد بدلاً من الشكوى والتألم من
المسلمين لإهمالهم أمر الدعوة والإرشاد، فإننا نرى أن أغرب تخاذل المسلمين
وتقاطعهم، ما هو واقع بين المتفقين في الرأي منهم، إننا نرى بعض الأفراد أو
الجماعة منا يدعون إلى شيء أو يشرعون فيه، ونرى آخرين يشكون من فقد ذلك
الشيء نفسه ويدعون إليه جاهلين أو متجاهلين حال إخوانهم الذين يقومون بذلك،
ومنهم من إذا علم أو أُعلم بحالهم أنكرهم أو طعن فيهم حسدًا وبغيًا، أو احتقارًا
وكبرًا، أو لأنه يتجر بالكلام في ذلك الموضوع اتجارًا، أو يتخذه مزرعة يستغلها
استغلالاً.
أقول هذا في أناس أعرفهم بشخوصهم وبسيماهم، وأعيذ هذا المصنف الغيور
بالله ثم بفضله أن يكون منهم، ولو كان عندي في مكان الظنة، لما ذكرته في هذا
المقام بكلمة، ولما دعوته لأنْ يضع يده في يدي، وأن يكون في هذا العمل الذي
يدعو إلى مثله ساعدي وعضدي، وأن الكتاب لا يغني عن القول باللسان، والقول
لا يغني عن العلم، فالقارئون قليل، والذين يفهمون منهم أقل، والعاملون من هؤلاء
أندر من الكبريت الأحمر.
هذا، وإن ثمن النسخة من هذا الجزء اثنا عشر قرشًا، ويطلب من مكتبة
المنار بمصر.
***
(دين الله في كتب أنبيائه)
كتاب يحتوي على مقالات الطبيب محمد توفيق أفندي صدقي الشهير التي
نشرها في منار هذا العام في الرد على النصارى وإبطال مزاعم دعاتهم من
البروتستانت وكشف شبهاتهم ونقض القواعد التي يبنونها عليها، وعلى مقالات
أخرى نشرت في بعض السنين الماضية كان الباعث الأول على كتابتها الرد على دعاة
النصرانية، ثم جر السياق إلى ما يختص بالمسلمين في بعض المسائل.
حقًّا إن الكاتب قد جاء بما لم تره لغيره من العلماء الذين ردوا على النصارى
من قبله وأحسن في اختيار ما سُبق إليه. ومن المسائل التي توسع فيها وأجاد مسألة
القرابين والذبائح في الأديان ونقض الأساس الذي أخذته النصارى منها لبناء عقيدة
الصَّلب عليه، ومسألة إبطال ما يستدلون به من كتب العهد العتيق على الصلب،
وقد أوضح هذا وما قبله في مئة صفحة. ثم مسألة البشائر بنبينا صلى الله عليه
وسلم في كتب العهدين العتيق والجديد. ومسألة حقيقة التوراة والإنجيل وإثبات
تحريفهما وعدم الثقة بنقلهما، ومقابلة ذلك بحفظ القرآن وضبطه والعناية بكتابة
المصاحف ونشرها , وإنك لترى في مقالة تاريخ المصاحف كلامًا في ضياع سند
كتب النصارى , وفي مقالة الناسخ والمنسوخ كلامًا في زمن كتابة الأناجيل؛ لأن
هذه المقالات كتبت لأجل الرد على أولئك الدعاة المشاغبين.
وفي بعض هذه المقالات مبحث كون الدين كله من القرآن ومبحث أحاديث
الآحاد وكونها تفيد الظن كما يقول الأصوليون، وما قيل في الاحتجاج بها واختيار
الكاتب لعدمه. وقد كان الكاتب غلا في الشذوذ في هذه المسألة أولاً، ورد عليه
بعض الأزهريين ردًّا مختصرًا، والشيخ صالح اليافعي من حيدر آباد ردًّا مطولاً،
ورد هو عليهما أيضًا، ثم ختمت الردود بمقالة للمنار فاعتدل رأي الكاتب فيها. ولا
يزال يخالف الجمهور في ذلك، وما هو بالذي ينصب نفسه للإمامة فيه، وما أجمع
المسلمون على كتاب غير كتاب الله تعالى فلا يمنع من يخطِّئ الكاتب في مسألة
أحاديث الآحاد أو غيرها أن يستفيد من سائر مقالاته في هذا الكتاب.
هذا وإنه قد زاد عند طبع الكتاب على حدته حواشي مفيدة في مسائل كثيرة
فبلغت صفحاته زهاء 230 ما عدا صفحات الفهرس المفصل، وطبع على ورق
صقيل جيد، وجعل ثمنه مع هذا خمسة قروش صحيحة فقط. وإننا نؤكد النصح
لكل من يطلع على كتب دعاة النصرانية أو جرائدهم ومجلاتهم أو يجالسهم،
ويختلف إلى مدارسهم أو غيرها من معاهدهم أن يطلع على هذا الكتاب، فإنه يغنيه
عن المطولات في دحض شبهاتهم وتأييد الدين الحنيف. وهو يصلح ردًّا على
كتبهم المطولة، وإن لم تذكر أسماؤها فيه والكتاب يطلب من إدارة ومكتبة المنار.
***
(تاريخ آداب العرب)
صدر في أول هذا العام الجزء الأول من كتاب بهذا الاسم من تأليف مصطفى
صادق افندي الرافعي الشاعر الأديب (وهو يحتوي الكلام في تاريخ اللغة العربية
وتاريخ روايتها، وما يداخل هذين البابين - قال المؤلف في طرته بعد هذه العبارة -
وقد بقي من التاريخ عشرة أبواب من غرار هذا الجزء وحجمه) أي يناهز كل
منها 440 صفحة.
آداب العرب في عرف المؤلف هي لغتهم: علومها وفنونها ومنظومها
ومنثورها وتاريخ أهلها الذين لهم أثر فيها من النظم والنثر والخطب والتأليف.
يعني كل ما يتعلق باللغة نفسخها. فلا يدخل فيها عنده العلوم غير اللغوية. وهذا
المعنى هو الذي كان يعرف به الأدب والأديب عند علماء اللغة والتاريخ، وأما
المحدثون، فكانوا يطلقون الأدب على أدب النفس في خاصتها وفي معاملتها للناس
فتدخل فيه الأخلاق.
وقد قرأنا نبذة من مقدمة الكتاب فإذا عبارته أدبية، ممزوجة بالمعاني والعبارات
الشعرية، وهذا هو اللائق بمن يكتب في الآداب العربية، والكتاب
مطبوع بمطبعة الأخبار بمصر طبعًا حسنًا على ورق جيد وثمن النسخة
منه عشرون قرشًا، وأجرة البريد ويطلب من مكتبة المنار.
***
(تاريخ آداب اللغة العربية)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندي زيدان الشهير (وهو
يحتوي على آداب اللغة العربية من قيام الدولة العباسية سنة 132 هـ إلى دخول
السلاجقة بغداد سنة 447 ويدخل فيه تكوّن العلوم الإسلامية، ونقل العلوم الدخيلة
إلى نضج العلم في أوائل القرن الخامس للهجرة) وآداب اللغة في عرف هذا
المؤلف أعم وأوسع من عرف الرافعي صاحب (تاريخ آداب العرب) فيدخل فيه
جميع العلوم والفنون التي اشتغل بها أهل هذه اللغة سواء نبعت من لغتهم أو
ترجمت عن غيرهم، وتراجم مؤلفي تلك العلوم كتراجم الشعراء والكتاب. والكلام
عن مصنفاتهم أيضًا. ومعنى تاريخ الآداب في هذا العرف الذي يجري عليه أكثر
أهل هذا العصر في التاريخ السياسي والاجتماعي والديني، فهو تاريخ اللغة والعلوم
وأهلهما فيهما.
وقد عُني بعض الأدباء بانتقاد هذا الجزء كما انتقد الذي قبله، ويرى القراء
في المنار مقالات للشيخ أحمد عمر الإسكندري في نقده، وذلك آية العناية به.
ولَعمري إن كلاًّ من هذا الكتاب وكتاب الرافعي مفيد في موضوعهما ولا
يستغنى بأحدهما عن الآخر، وهما أغزر مادة مما كتب فيه قبلهما، بل يعدان الآن
في مقدمة ما طُبع في هذا العلم، ويرجى -وقد بدئ بمثلهما وبنقد الناقدين- أن
يبلغ الكمال بعد حين، وقد طبع الكتاب بمطبعة الهلال طبعًا حسنًا على ورق
حسن ويطلب من مكتبته ومكتبة المنار.
***
(طبقات الأمم أو السلائل البشرية)
هو كتاب علمي طبيعي اجتماعي يبحث في أصول السلائل البشرية، وكيف
نشأت وتفرعت إلى طبقات، وانتشرت في الأرض وما تنقسم إليه كل طبقة من
الأمم أو القبائل وخصائص كل أمة البدنية (؟) والعقلية والأدبية. ومنشأها ودار
هجرتها ومقرها الآن وعاداتها وأخلاقها وآدابها وأديانها وسائر أحوالها.
هذا ما بين به ما في الكتاب مؤلفه جرجي أفندي زيدان. وهو مما اقتبسه
بالعربية من الكتب الإفرنجية، وإن لم يبين مآخذه. ولا يعقل أن يكون قد وفي تلك
المسائل حقها من البيان وصفحات الكتاب 278 صفحة. وإنما هو مختصر وجيز
في هذا الفن يفيد مطالعه علمًا إجماليًّا يُرجى أن يوصله إلى غرض المؤلف منه -
كما قال- وهو أعداد الأذهان لفهم التاريخ وفلسفته. فله الشكر على ذلك.
***
(الإسلام والإصلاح)
تقرير رسمي رفعه (السير ريشار وود) قنصل دولة إنكلترة السياسي الجنرال
ووكيلها السياسي بتونس في أوائل الربع الأخير من القرن الماضي للميلاد إلى ناظر
خارجيتها. ونشرته الحكومة الإنكليزية في الكتاب الأزرق سنة 1878م وهو
الكتاب الرسمي للمنشورات السياسية لهذه الحكومة. وقد كان ترجم هذا التقرير
بالعربية وطبع منذ عشرات من السنين لهذه الحكومة. وقد كان ترجم هذا التقرير
بالعربية وطبع منذ عشرات من السنين ونفدت نسخه. ثم أعيد طبعه الآن بعد
تصحيح ترجمته الأولى بعناية محب الدين أفندي الخطيب المحرر في جريدة المؤيد
بمصر.
مزية هذا التقرير الخالدة أنه شهادة للإسلام من سياسي إنكليزي غير مسلم قد
عرف من حقيقة الإسلام والمسلمين ما لا يعرفه إلا القليلون من قومه وأمثال قومه
من الأوربيين. وقلما يوجد من العارفين أمثاله من يشهد بما علم.
ينبغي للمسلمين أن يطلعوا على هذا التقرير؛ لأنه يعرفون به من دينهم ما لم
يكن يعرفه من قبل كثير منهم، وينبغي لمن يسيء الظن في الإسلام من أصحاب
الأفكار المستقلة أن يطلعوا عليه أيضًا؛ لأن الذين أنعم الله عليهم بنعمة الاستقلال لا
يحبون أن يكونوا على ضلال في اعتقادهم، وعلى خطأ في رأيهم.
قرظ المقتطف هذا التقرير فقال في تقريظه ما معنا: إنه لا يكفي في صلاح
الأمة وارتقائها أن يكون دينها آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر مشتملاً على العقائد
الصحيحة والآداب العالية -أو ما هذا معناه- واستدل على ذلك بترقي اليابانيين
الوثنيين، وتدل من يفضلونهم في دينهم كالمسلمين، وقد نسي الكاتب عندما كتب
هذه المسألة الفرق العظيم بين كون تعاليم الدين تطهر العقول من الخرافات الوثنية
والأوهام، وتزكي النفوس بالآداب العالية والأخلاق، وتقيم نظام الاجتماع على
قواعد العدل والمساواة، وبين كون المنتمين إلى هذا الدين عالمين بعقائده موقنين
بها، ومعتصمين بآدابه وفضائله وعاملين بأحكامه أم لا. ولو تذكر هذا لما قال ما
قاله فإنه لا يمكن للمرتقين في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم وأحكامهم أن يكونوا دون
فاسدي العقائد والأخلاق والأعمال والأحكام؛ لأن الأعمال تصدر عما في النفس
والإناء ينضح بما فيه. ولما كان المسلمون معتصمين بحقيقة الإسلام كانوا فوق
غيرهم في الإدارة والسياسة والزراعة والصناعة والتجارة - على نسبة ارتقائهم
على غيرهم في العقائد والأخلاق والآداب، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم.
التقرير يطلب من مكتبة المنار وثمنه قرش ونصف فقط.
***
(الهلال)
مجلة أسبوعية مصورة أنشأها في كلكته عاصمة الهند (أحمد المكنى بأبي
الكلام الدهلوي) وهو مديرها ومحررها الخصوصي. وهي تطبع بالحروف على
ورق جيد صقيل لم تُر في صحف الهند ولا في غيرها من مطبوعات تلك الأقطار
مثلها في إتقان طبعها ونظافة ورقها. ويظهر لنا من عناوينها ومما نعرفه من حال
منشئها أنها مجلة إصلاحية على مشرب المنار، وهكذا كتب إلينا بعض أصدقائنا
وأصدقائه من الهند راويًا عنه.
عرفنا أبا الكلام في احتفال ندوة العلماء في لكهنوء فعرفنا أن كنيته أصدق
ترجمة لحاله، متكلم فصيح اللسان، خطيب جريء الجنان، جوال في ميادين
البيان، حسن الإلقاء والتعبير، قوي العارضة والتأثير، وقد ترجم بعض خطبنا
هنالك بخطب مثلها، أو أوسع شرحًا وبيانًا منها، فكنت أخطب الخطبة بالعربية،
فيعيدها هو بالأوردية، وقد ظهر لي أنه على مشرب المنار في الإصلاح الإسلامي.
وقد تفضل بتصدير الجزء الأول من مجلته بالرسم الشمسي لهذا العاجز، وأنشأ
فيه مقالة في المصلحين، أطراني فيها بجعلي ثالث الرجلين شيخنا الأستاذ الإمام
وشيخه السيد جمال الدين، فله الشكر على هذا الظن الحسن. ونرجو أن تَلقى
مجلته ما تستحق من الرواج، وأن تكون قدوة في مباحثها، كما تستحق أن تكون
قدوة في حسن طبعها.
__________(15/945)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الحرب البلقانية والمسألة الشرقية)
قد عرف القراء رأينا في المسألة الشرقية من المقالات العشر التي نشرت في
منار السنة الماضية عند إغارة إيطالية على طرابلس الغرب , ثم جاءت حرب
البلقان مؤيدة لرأينا في تلك المقالات وداحضة لآارء قصار النظر الذين لا يرون إلا
ما كان بين أيديهم، غير بعيد عن مواقع أبصارهم , وقد بينا في غير تلك المقالات
أن الدولة لا تقدر أن تحفظ جميع بلادها بقوتها العسكرية المنظمة، بل الوسيلة
لحفظها هي إيجاد قوة دفاعية أهلية في كل قطر وكل ولاية، وهو ما يعبر عنه
إخواننا الترك بالدفاع المِلّي , وهذا رأي لنا قديم طالما جهرنا به وعرضناه على
بعض رجال الدولة، وذاكرنا فيه بعض من عرفنا من الضباط أركان الحرب
وغيرهم في الآستانة , ونرى الحوادث تؤيده آنًا بعد آنٍ بالوقائع المشاهدة، ومع هذا
نرى أكثر الناس غافلين عنها.
بدأت الحرب البلقانية والدولة غير مستعدة لها خلافًا لما كان يعتقده العالم كله
من عثمانيين وأوربيين، لأن الجميع يعلمون أن هذه الدولة دولة حرب فقط،
ويظنون أنها مهملة لكل شيء أو مقصرة فيه إلا الاستعداد الحربي، وأن هذا
الاستعداد لا يوجد تامًّا إلا في العاصمة وحَرَم العاصمة وجوارها، ولكن البلغاريين
وحدهم هم الذين كانوا أعلم من العثمانيين ومن الأوربيين بكُنه هذا الاستعداد،
وجميع ما هنالك من نقص وضعف وخلل؛ لأن جواسيسهم كانوا متغلغلين في كل
مكان، ويوجد في رجالنا من الخونة من يبيعهم كل ما يبذلون فيه المال، فانتهزوا
فرصة هذا الخلل والتقصير، وسائر ما أحدثته جمعية الاتحاد والترقي من الفساد في
الجيش والعناصر، وألفت الوحدة البلقانية بمساعدة روسية، في أوائل العام الماضي
على عهد الوزارة السعيدية الاتحادية، التي كانت بركان الشقاء والشقاق في البلاد
العثمانية.
اشتعلت نار الحرب فكان الرجحان فيها للبلقانيين فما زال البلغاريون منهم
يطاردون العثمانيين حتى خط الدفاع الأخير أمام الآستانة في المكان الذي يسمى
(شتالجة) حيث تصل أصوات المدافع إلى العاصمة، وهذا خط ضيق ينتهي من أحد
جانبيه ببحر مرمرة ومن الجانب الآخر بالبحر الأسود، فكان الأسطول العثماني
يحمي جناحي جيشنا من الجانبين فتتوفر القوة البرية في القلب، ومعظم الجيش في
هذا الخط جديد لم يُكسر فوقه، ولم تُفسِد بأسه الهزيمة، ولا أنهكه الجوع والتعب،
وهو يجد كل ما يحتاج إليه من المؤنة والذخائر حاضرًا لقربه من العاصمة , وأما
جيش العدو فقد كان منهوك القوى، وبعُد عن بلاده فصار نقل المؤنة والذخيرة إليه
عسرًا - لهذا كله، ولما هو معروف عن العثمانيين من قوة الدفاع والثبات والصبر
فيه قد ارتد جيش العدو عن هذا الخط خاسئًا خاسرًا ولم ينل منه نيلاً، بل نال شرًّا
وويلاً.
ما ظهر رجحان البلقانيين على العثمانيين، إلا وأظهرت دول الاتفاق الثلاثي
المصيبة للغالبين، تبعًا لصديقتهم الروسية موقظة هذه الفتنة، وصاروا يتحدثون
بقسمة الولايات المقدونية بين الغالبين وإخراج الترك من أوربة، ومنها امتداد
حدود الصرب إلى السواحل الألبانية من بحر الأدرياتيك، وهذا مما يضر
دولة النمسة وينافي مصلحتها، وينافي أيضًا مصلحة إيطالية على ما في المصلحتين
من التعارض، حينئذ كشرت النمسة عن أنيابها، وأمرت بحشد جيوشها،
وصرحت بأنها لا تأذن للبلقانيين بإعطاء الصرب ما يطلبون من ساحل البحر، ولا
بالاعتداء على بلاد الألبانيين بل يجب أن تكون هذه البلاد مستقلة , وأظهرت ألمانية
وإيطالية تأييدهما لحليفتهما، فاستحوذ الذعر والقلق على الروسية وصديقتيها -
إنكلترة وفرنسة - وخفن أن يؤدي الخلاف إلى حرب أوربية لا تُبقي ولا تذر ,
فطفقت روسية تنصح للصرب بأن لا تصر على ما تطلب وتجعله ضربة لازب ,
وألانت إنكلترة القول في مسألة خلاف الدول , والحق أن كل دولة من الدول الكبرى
تبذل كل ما في وسعها من وسائل الاستعداد الخفية للحرب، وتجتهد مع ذلك
اتقاء أسبابها , ولم يظهر بعض الاستعداد لها إلا النمسة.
كانت الدولة العثمانية بعد انهزام جيشها في معركة (قرق كليسا) ومعركة
(لولي برغاس) العظيمتين طلبت من الدول الكبرى التوسط في الصلح فأحجمن
وجمجمن، فعرضت على البلغار عقد هُدنة، لأجل المذاكرة في أمر الصلح فسُرَّت
هذه بهذا الاقتراح؛ لأنها كانت تفضل أن لا يتوسط الدول في ذلك , ولكنها عرضت
شروطًا شديدة ردتها الحكومة العثمانية وتلا ذلك رجحان جيشنا في دفاع شتالجه
وتكشير النمسة في وجوه البلقانيين والخوف من ميلها وميل حليفتيها معها إلى
العثمانية، فتساهلت البلغار والصرب في شروط الهدنة وأسرعتا بإمضائها، وأبت
اليونان ذلك لتبقى حرة في حركاتها البحرية، ولكنها صرحت بأنها تدخل مع
حليفتيها في مذكرات الصلح , وستكون المذاكرة في مسألة الصلح في لندرة كما
روت لنا البرقيات الأخيرة.
ثم إن الدول الكبرى يقترحن عقد مؤتمر للنظر في مسألة الدولة بعد الصلح
والحكم بينها وبين دول البلقان فيما يختلفن فيه، فيكون كمؤتمر برلين الذي عقد عقب
الصلح بينها وبين روسية بعد حربهما الأخيرة. والغرض من المؤتمر أن لا يكون
تعارُض المصالح والمنافع سببًا للتنازع والحرب بين الدول الكبرى , وهذا هو الذي
يخشى شره، فإن الدولة ليس عندها قوة بحرية ولا برية لحماية بلادها من إغارة
الدول عليها أو بث نفوذهم فهيا على الوجه الذي يسمونه الفتح السلمي , وإنما
عمدتها في السلامة من شرّ الدول تنازعهن واختلافهن، والاختلاف الضار لا يستمر
بين العقلاء فمن الخطأ العظيم والخطر الكبير أن يعتمد عليه.
نعم، إذا نجونا هذه المرة أيضًا من وضع أوربة جميع ولاياتنا الآسيوية
تحت سيطرتها عملاً بقاعدة الفتح السلمي فإنما ننجو بتعارض الدول وتنازعها على
ما بقي لنا، لا بقوة ذاتية فينا، ولا بقاء لمن لا حياة له في نفسه، ولا استمساك له
بذاته، إذ لا يدوم له ما يدعمه من ورائه، لمنفعة عارضة لواضع الدعامة له،
فيجب إذًا أن نعمل لنحيا حياة سياسية ذاتية، ونكون قادرين على نفع من ينفعنا
وضر من يضرنا، ليكون النفع بالمبادلة فينمو بنمائها، ويكون دفع الضرر
والعدوان بالقوة فيدوم بدوامها، وقد كان مصابنا في هذه المرة من قبل الاتفاق
الثلاثي وقد أخطأنا؛ إذ أسأنا الظن بدولة النمسة عند اقتراح وزيرها المشهور، ثم
ظهر لنا أن روسية هي التي أثارت الفتنة، وظاهرتها فرنسة وإنكلترة، والآن ترى
ألمانية والنمسة يظهران لنا المودة، فإذا تم ذلك فعلاً، وثبت في المؤتمر الدولي
ثبوتًا قطعيًّا، فالواجب على حمية العثمانيين وجميع المسلمين أن يكافئوا من يساعدنا
بكل ما يستطيعون، وأهمه ترويج التجارة، وما لنا لا نعول على ألمانية في كل ما
نحتاج إليه من علوم أوربة وفنونها وصناعتها، ولكن مع الجد في تكوين أنفسنا،
واتقاء جميع العواثير التي عثرنا قبل فيها.
فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا
يجب على رجال الدولة وعلى كل عاقل من العثمانيين أن يبذلوا كل ما في
وسعهم وطاقتهم لاتخاذ وسائل الدفاع الوطني أو المِلّي - كما يقولون- وأن يجعل
لهذا الدفاع نظام يجري عليه، فإن هذا هو كل ما يمكن الآن لاتقاء بسط الإفرنج
سلطانهم على بلاد الدولة كلها , فإن القوم طلاب كسب، فإذا علموا أن محاولة
استيلائهم على البلاد، ولو بالفتح السلمي يقاوم بكل ما في البلاد من قوة، ولو أدى
إلى خرابها فإنهم لا يقدمون على ذلك، وإن كانوا يعرفون من أنفسهم القدرة ويثقون
بالنصر.
ولا يمكن وضع هذا الدفاع على أساس متين ثابت إلا بمبادرة الدولة إلى تغيير
شكل إدارتها وجعلها من النوع الذي يسمونه اللامركزية وهو الذي اقترحه صُباح
الدين أفندي ابن أخت السلطان عقب الانقلاب فعاداه الاتحاديون لأجله واضطروه
إلى مغادرة الآستانة فغادرها وطفق يدعو إلى ذلك في أوربة , فشهدت له يومئذ بما
لا أزال أشهد به من أنه هو الزعيم السياسي العثماني الذي لم نرَ بعد الانقلاب مثله
في صحة رأيه وإخلاصه، كما أننا لم نر مثل صادق بك في أعماله وإخلاصه،
فهما مفخر إخواننا الترك في هذا العصر، وسنعود إلى هذه المسألة بعد.
ألا فليعلم كل مسلم أن البلاد الباقية في يد هذه الدولة ليست ميراث الترك
وحدهم، ولا العثمانيين منهم ومن غيرهم، وإنما هي ميراث الإسلام نفسه، فإن
روح هذه البلاد جزيرة العرب مهد الإسلام الأول، وحرمه المقدس، حيث نزل
الوحي بالقرآن، وحيث الكعبة المشرفة أول بيت لله وضع للناس، وحيث قبر خاتم
النبيين عليه الصلاة والسلام. وما كان المسلمون راضين بجعل هذه الدولة هي
الحامية لهذه الجزيرة من أعداء الإسلام، إلا لاعتقادهم قدرتها على ذلك , لا لأن لها
حقًّا عليها بالفتح والاستعمار، أو بإيجاد شيء فيها من العلوم والعمران ,
فإنه ليس لها شيء من ذلك فيها.
أما وقد ظهر لهم كلهم، ما كان خفيًّا لا يدركه إلا أفراد منهم، فالواجب عليهم
كلهم حيثما كانوا، وأينما وجدوا، أن يفكروا في وسيلة حفظ هذه الجزيرة من
استيلاء الأجانب عليها، أو إيصال نفوذهم إليها، أو جعل حياتها في أيديهم
بالاستيلاء على سواحلها.
يجب على جميع المسلمين في جميع بقاع الأرض أن يعقدوا اللجان
والجمعيات ويتشاوروا في أمر حفظ مهد دينهم، وحرم قبلتهم، وأن يقترحوا على
أولي الأمر القيام بما يظهر لهم أنه الصواب , ولا يتركوا الأمر لمن يغلب نفوذه في
مركز السلطنة العثمانية أيًّا كان، فقد رأوا أنه قد غلبها على أمرها في السنين
الأخيرة أغيلمة من الملاحدة والفساق، أنزلوها في أربع سنين من مستوى الدول
الكبار، وجعلوها بحيث تسمع في عاصمتها مدافع البلغار، وهم الذين كانوا تحت
سيادتها قبل هذه الحرب بأربع سنين، وكانت بلادهم من أملاكها إلى عهد ليس
ببعيد , فهل يجوز لمسلم أن يرضى بعد ذلك باستبداد أمثال هؤلاء بمهد الإسلام،
وهل نأمن عليه أن يقع في قبضة الأجانب بعد أعوام، إذا نجت الدولة من شر
المؤتمر الذي يعقد في هذه الأيام.
أيها المسلمون إن الأمر جِدّ، والخَطب إدّ، والخطر قريب، والجرائد
الأوربية تصرح بوجوب الحل الأخير للمسالة الشرقية، والاستيلاء على جميع ما
بقي من البلاد الإسلامية، وجعل الخليفة في قصره، كالعصفور في قفصه، لا قوة
ولا عمل له، وقد بينا لكم في العام الماضي أن مسألة طرابلس الغرب كانت فتحًا
لباب هذه المسألة، وبينا لكم ما على جزيرة العرب من الخطر، والطريقة المثلى
لإنقاذها منه , فصرفكم الغرور بمقاومة عرب طرابلس وبرقة لإيطالية، عن
الخطر الأكبر على الدولة والإسلام، فلم تمر السنة حتى سمعتم الصيحة الثانية، من
الصيحات الثلاث لهذه القارعة، ولم يبق إلا صيحة واحدة، تقوم بها قيامتكم، فإن
لم تسمعوها في هذه الأيام، فستسمعونها بعد أعوام، فهل يظل لسان حالكم، ينشد
مثل الغنم الراعية الذي ضربناه لكم:
نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتعى
إذا أحس نبأة ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
إنني أخشى أن تسمع دول الاتفاق الثلاثي نداء جرائدها، وتقنع دول الاتحاد
الثلاثي باقتسام سائر بلادنا , فإن لم تقدر على ذلك في هذا المؤتمر فلا يغرنكم ذلك
فتكونوا كالغنم التي تجفل وترتاع عند الصيحة، وتعود إلى الرعي عند سكوت
الصائح، بل يجب أن تتفق كلمتكم على صيانة حرمكم وقبلتكم، وصيانة القوة التي
تحفظ هذه الجزيرة لكم، وأن تشرعوا حالاً بجمع المال وادخاره إلى وقت العمل
لذلك.
أما أخوكم هذا فقد بين لكم رأيه في حفظ الجزيرة المقدسة غير مرة، كان
يقول ذلك ويكتبه بأساليب التعريض والتلويح، ثم ضاق الوقت عن ذلك فاضطر
إلى التصريح، وقد رأيت جميع من أعرف من أهل الرأي يوافقونني عليه، فإن
كان لكم رأي آخر فبينوه، فإن رأيناه أصلح رجعنا إليه، هذا ما عندي أفيض على
قلم الإخلاص من سُويداء الفؤاد، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .
* * *
(المسألة السورية)
قلقت أفكار السوريين وسائر العثمانيين لما ورد في الجرائد الفرنسية الرئيسية
وفي مقدمتها (الطان) من التعريض الدالّ على الطمع في استيلاء فرنسة على
سورية، بعد أن ظهر رجحان الكفة البلقانية على العثمانية في الحرب الحاضرة ,
وكنا قبل ذلك قد سمعنا عن بعض الأوربيين هنا أن إنكلترة وفرنسة قد اتفقتا على
اقتسام سورية بأن يكون القسم الجنوبي المجاور لمصر للأولى، والشمالي ومنه
لبنان للثانية، وسمعنا قبل الحرب أيضاً أن فرنسة أوعزت إلى الفرنسيين المقيمين
في بيروت بشراء ما يمكن شراؤه من سهام الشركات غير الفرنسية كشركة الماء،
وبأنها عينت لناديهم مساهمة قدرها مئة ألف فرنك للاستعانة بها على الحركات
السياسية، وبأنها أمرت معتمدها السياسي هناك أن يكاتب وزارة الخارجية في
شئون البلاد مباشرة , ثم روي لنا عن بعض الجرائد الألمانية معارضة للجرائد
الفرنسية فيما كتبته في هذه المسألة، ومنها عدم التسليم لفرنسة فيما تزعمه من حق
حماية المسيحيين، وأن هذا شيء كان ثم نُسخ أو خصص بما نالته ألمانية من
الحقوق الجديدة في الشرق الأدنى وخاصة في سورية وفلسطين.
ثم بلغنا أن بعض نصارى سورية يظهرون الميل إلى فرنسة في هذه الأيام،
وأكثرهم من فرقة الموارنة , وأن بعض المسلمين قابلوهم على هذا بإظهار الميل
إلى إنكلترة، بل بلغنا ما هو شر من ذلك، وهو أن إنكلترة أرسلت مندوباً أو
مندوبين إلى سورية يجوسون خلال الديار لاستمالة الناس إلى طلب حماية إنكلترة
لسورية أو احتلالها إياها، أو ضمها إلى مصر , ومخادعتهم بأنه لا نجاة لهم من
سلطة فرنسة إلا بذلك.
يا للداهية ويا للرزية! أيليق بسورية، وهي في مقدمة البلاد العثمانية
حضارة وأوسع البلاد العربية علماً واختباراً أن تكون محتقرة إلى هذا الحد فتُحسب
كالحمارة العرجاء التي لا صاحب لها , كل حظها من الحياة تفضيل راكب على
راكب، أو حمار على حمار يستولي عليها! ! ما هذه المهانة وما هذا الصَّغار.
ألا فليعلم إخواننا السوريون أن من يقاوم ذل السلطة الأجنبية جهد طاقته ثم
يغلب على أمره يكون معذوراً، ومن ينزل به هذا البلاء على غِرة منه تحول دون
المقاومة يكون مقهوراً، وأما من يسعى إليه أو يستجيب دعوة أهله فإنه هو الذي
يكون مذءومًا مدحورًا، وملعونًا مثبورًا , فياللعار، والذل والصغار، ويا للعيب
والشنار أن يحتقرنا الأجانب كل هذا الاحتقار، وإنما العار الأشد، وذل الأبد،
والصغار الذي لا ينتهي إلى أمد، والعيب الذي ليس له حد، هو أن نحتقر نحن
أنفسنا إلى هذا الحد.
ألا فليعلم إخواننا السوريون أن كلاًَّ من فرنسة وإنكلترة شرًّا عليهم من الأخرى
وأنه يجب أن يسعوا إلى الحياة لا إلى الموت , إذا كانت إنكلترة ألين في
مستعمراتها ملمسًا وأقرب إلى الحرية , فرب أفعى ليِّن مَسّها، قاتل سمها، وأن هذه
الدولة طامعة في جميع البلاد العربية، وأما فرنسة فربما كان طمعها محصوراً في
سورية، ولا يغرنهم ما يرونه من ترقي مصر المالي، فإنهم يعرفون ظاهره ولا
يعرفون باطنه، وأن إنكلترة قد احتلت مصر بصفة خاصة لأسباب عارضة،
وللدول العظمى كلها فيها مصالح وأموال وامتيازات كثيرة، وكن كلهن كارهات
للاحتلال، فلا تقاس عليها بلاد يراد الاستيلاء عليها بإسقاط الدولة العثمانية،
واقتسام الدول لسائر بلادها، وإذا وقع ذلك -والعياذ بالله تعالى- فلماذا ترحمكم
إنكلترة أو تعطف عليكم، وما ثَمَّ دولة إسلامية ترى من مصلحتها مداراتها، ولا
دول أجنبية تحاسبها على أعمالها؟ وأما الإنسانية فقد عرفتم مبلغها عند من شد أزْر
البلقانيين، على علمها بفظائعهم في المسلمين.
ألا وليعلم إخواننا السوريون أن إنكلترة لا ترضى أن يكون للعرب دولة
مستقلة عزيزة ولو تحت حمايتها، ولا أن تكون سورية تابعة لمصر، ولو بقيت
مصر على حالتها (أي خاضعة للاحتلال الإنكليزي الذي لا يسمح أن تكون فيها
قوة عسكرية أهلية إلا بقدر ما تحتاج إليه الدولة المحتلة لحفظ الأمن، وإخضاع كل
ما هو داخل في منطقة نفوذها من السودان) فلا يخدعنهم أحد بهذه الأوهام، ولا
تغرنهم وعود السياسة الكاذبة فما هي إلا أضغاث أحلام.
ألا وليعلموا أن حياتهم إن كان فيهم استعداد للحياة إنما تسهل مع دولتهم على
ما فيها من الخلل، ولا تسهل مع أحد من تلك الدول، وسنبين هذا في بعض
الأجزاء الآتية إن شاء الله تعالى، فليعضوا على دولتهم بالنواجذ، ولا يكونن عوناً
لأعدائها عليها، وليكن همهم محصوراً في إصلاح أنفسهم وإصلاحها.
__________(15/954)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الخامسة عشرة
نختم السنة الخامسة عشر من سني المنار بحمد الله الذي يحمد على كل حال،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وكرام الصحب والآل، وقد علم القراء أننا قضينا
أكثر من نصف هذه السنة في السياحة، وأن سياحتنا بفضل الله للخدمة العامة،
ليس لنا فيها مصلحة خاصة، ولم نقصر -ولله المِنّة- في العناية بما كتبنا واقتبسنا
للمجلة، إلا أن أغلاط الطبع كانت أكثر بالطبع، ولم يرد علينا في هذه السنة
انتقاد على المنار يذكر، ولم نجد من المشتركين الماطلين وفاء يُشكر، وقد زادت
الإدارة قيمة الاشتراك في هذا العام بغير إذن مني، لأنها رأت هذه الزيادة ضربة
لازب، فأما أهل الوفاء والفضل فقد تلقوها بالقبول، ولو كان كل المشتركين أو
أكثرهم مثلهم لما احتيج إليها، وأما الماطلون المسوّفون فقد يشكون منها وهم السبب
فيها، وإننا نذكر أهل العلم والرأي بما ندعوهم إليه في كل عام من تذكيرنا وتنبيهنا
إذا نسينا أو أخطأنا، بمشافهتنا أو الكتابة إلينا، لا بالغيبة والسباب والنبز بالألقاب،
كما يفعل أهل الأهواء. يكتمون عن الإنسان عيبه، ويتركون النصيحة الواجبة له
ويعيبونه عند الناس ولو بما ليس فيه، وسينبذ أمثال هؤلاء جميع العقلاء
والفضلاء، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________(15/960)
المجلد رقم (16)(16/)
المحرم - 1331هـ
يناير - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة السنة السادسة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فقد جرت عادتنا أن نشير في فواتح
سني المنار إلى شيء من تاريخه أو تاريخ الإصلاح، أو حال سيره في عالم
الإسلام، ونقول الآن على رأس السنة السادسة عشرة: إن صوت الإصلاح الديني
قد علا كل صوت في الأقطار الإسلامية التي بلغتها دعوته وهزتها صيحته،
فخفتت دونه أصوات الحشوية الجامدين، والدجاجلة المخرفين، وقد خذل الله
ببيروت في العام الماضي أشدهم إفكًا وتخريفًا، فيما يسميه نظمًا وتأليفًا، فخذلته
الخاصة ولم تنصره العامة، وعورض ما يفتريه من الرؤى والأحلام بشيوع خبر
رؤيين رآهما بعض الصالحين من الحجاج، فقد حدثني الثقة المتفق على توثيقه
في بيروت قال: لما عاد والدي من الحجاز عام حجه جاء (الشيخ فلان) للسلام عليه،
وكان يُعد من أصدقائه وأقبل بلهف ودهشة ليعانقه، فصاح به والدي: يا شيخ فلان -
وذكر اسمه - إن النبي صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنك، فقد رأيته عند
زيارته في المدينة المنورة في الرؤيا، وأمرني أن أبلغك أنه غير راضٍ عنك.
وأما الرؤيا الأخرى فقد رُويت لي عن رجل من الحجاج أعطاه ذلك الدجال
نسخًا من كتبه ليوزعها في المدينة المنورة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في
نومه قبل دخول المدينة بليلة واحدة يقول له: إن هذه الكتب غير مقبولة، فلما
استيقظ ألقى تلك الكتب أو دفنها في جانب الطريق.
فمثل هاتين الرؤيين من ذينك الحاجين الصالحين نقض ما يدعيه ذلك الدجال
من الرؤى التي هو متهم فيها بتعظيم شأن نفسه، والتمهيد لدعوى الولاية له ولولده
وتحقير من اتخذهم أعداء له؛ لأنهم ينيرون عقول الأمة حتى لا تغتر بمثله.
هذا إيماء إلى عاقبة دجال القطر السوري المجاهر بعداوة الإصلاح وأهله،
ولا نكبر شأنه بالرد عليه أو التصريح باسمه.
وقد خفت أيضًا صوت دجال (جاوه) وظهر جهله، وما أبقى عليه تكريم
حكومة هولندة بل نسبه وسنه، ودجال تونس المقيم معدود عند عقلاء بلده من
المجاذيب أو المجانين، ولو كان في تونس حرية لحزب الإصلاح كالحرية الشاملة
لأهل الجمود والفساد؛ لرأى العالم الإسلامي من تونس ما لم يَرَه من سائر الأقطار.
وأما دجالها المتقلب في البلاد كتقلبه في الآراء والأفكار فهو يتتبع
مواقع الصيت والاشتهار، ويتأيّا مساقط الدرهم والدينار، فيدور مع من يملك ذلك
حيثما دار، حتى إنه أفتى بجواز بناء الكنائس للروم والبلغار، والإنفاق على ذلك
من بيت المال، فنال الحظوى بمثل هذه الفتوى عند زعماء جمعية الاتحاد والترقي،
واصطنعوه لكل ما يبغون من الخداع الديني، وقد خذلهم الله ولم يعتبر المسكين
{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 183) .
هذه حال المجاهرين بمقاومة الإصلاح الديني وأهله، لا صوت لأحد منهم
يُسمع، ولا رأي لهم يُتبع، وإنما يغترون بكثرة من يصدق الخرافات، ويسلِّم كل
ما يُعزى إلى الأموات تقليدًا للآباء والأمهات، ومواتاةً للأتراب واللدات، ويحسبون
هذا اتباعًا لهم، ويعدون أهله من أشياعهم، فيفتنون بكثرتهم، ويهونون من أمر
المصلحين لقلتهم، وقلة من يهتدي بهم، ولو فكروا وقدروا وتدبروا واعتبروا،
لرأوا أن هذه القلة هي محل الرجاء، وتلك الكثرة كالغثاء أو الهباء، وأنها تتفلت كل
يوم من أيديهم كما تتفلت الإبل من عقلها، بل من جامعة الإسلام التي عرفوا اسمها
وجهلوا حدها وفصلها، فكثرة أشياع الخرافات إلى قلة، وقلة حزب المصلحين إلى
كثرة، وقد فطن هرقل ملك الروم لهذا الأمر الذي جهله المغرورون، فسأل عن
أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ فلما علم أنهم على قلتهم في
ازدياد، وأن من دخل فيهم لا يخرج منهم، علم أنهم حزب الله الغالبون.
ولو رجَّع أولئك الدجالون البصر وكرروا التأمل والنظر، لرأوا أن هؤلاء
العوام الذين لم تبلغهم حقيقة دعوة الإصلاح، أو صدهم عن النظر فيها سدنة القبور
المعبودة وتجار الولاية والصلاح، هم الذين يتسللون يومًا بعد يوم مما يسمى
الإسلام التقليدي، ولا يهتدون السبيل إلى حقيقة الإسلام البرهاني، فأكثرهم يفتنون
بالشبهات المادية التي يبثها فيهم حملة قشور العلوم العصرية، ومنهم من يشُكُّون
في الإسلام بمطاعن دعاة النصرانية، فما بال زعماء الدجل والخرافات لا يتصدون
للرد على تلك الشبهات، وأنى لهم الرد عليها وهم لا يعرفون مواردها ومصادرها،
ولا يقفون على شيء من العلوم المتولدة هي منها، ولا يميزون بين أصول الإسلام
التي يجب الدفاع عنها، والخرافات والأوهام الملصقة بها، وإنما قصارى ما عندهم
أن يقولوا للعوام: إن جميع العلوم الطبيعية باطلة، وإن تعلمها كفر، ومتعلميها
زنادقة، ويريدون أن يتلقى الناس قولهم هذا بالقبول والتسليم، كما يوجبون عليهم
قبول جميع ما يقولون: إنه من الدين، على أنهم يعظمون الحكام والأغنياء
المتعلمين لتلك العلوم، فهل يرضى أحد بأن يكون من هؤلاء في مكان المقلد من
الإمام المعصوم؟ كلا إننا نرى كثيرًا من المتعلمين في المدارس العصرية يعدون
خرافات أمثال هؤلاء الدجالين حجة على جميع العلوم الإسلامية، فهم لذلك يصدون
عنها، ويعدون من إضاعة الوقت النظر في شيء منها.
يزعم هؤلاء الدجالون أن الضلال كل الضلال هو ما يدعو إليه المصلحون
من هدي الكتاب والسنة، على النحو الذي كان عليه الصدر الأول من الأمة، ونبذ
كل ما استحدثه الخلف، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة.
وقد جعلوا همهم الطعن في دعاة هذا الإصلاح، ورميهم بحجارة الزور
والبهتان، وأكبر شبهتهم أن هذا من الاجتهاد الذي انقطع فضل الله به عن العباد،
وأن كتاب الله الذي أنزله هدى للعالمين، ووصفه بالتبيان والمبين، لم يتبين معناه
إلا للأفراد القليلين، الذين وصفوا بالأئمة المجتهدين، حتى إنهم لو لم يوجدوا لما
أمكن لأحد أن يكون من المسلمين، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكفي
في بيان كتاب الله من دون علمهم، وإن قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فإن لم يكن قد بيَّنه كما أمر الله، فكيف
يكون قد بلَّغ رسالة الله؟ وهل يُعقل أن يكون عجز عن ذلك وقدر عليه سواه؟ معاذ
الله، وحاش لله.
ألا إن هؤلاء ليسوا من أهل البصيرة والاستدلال، فنجذبهم بالحجة أو ندمغهم
بالبرهان، وإنما نريد بمثل هذا الكلام أن نُذكِّر من لهم نصيب من الاستقلال بأن
مقلدة أمثال هؤلاء المساكين كلهم عرضة للمروق من الدين، وأنهم لو كانوا يغارون
عليهم وعلى دينهم لجعلوا همهم في وقايتهم من الكفر والإلحاد، لا في وقايتهم من
هدي السنة وهدي القرآن، وحصروا عنايتهم في كشف الشبهات التي تخرجهم من
حظيرة الإسلام، لا في نشر الخرافات التي تحصرهم في زريبة الأوهام، ولكن
يظهر أن ترك الإسلام ألبتة أهون عليهم من ترك التقليد الأعمى إلى هداية الكتاب
والسنة؛ ولذلك نراهم يدهنون للمارقين من أصحاب المال والجاه، ويثنون عليهم
بالألسنة والأقلام، ولا تظهر غيرتهم على الدين إلا في تضليل حماة الدين، ونحمده
تعالى أن خذلهم وكبتهم، وصرف قلوب الناس عما تزوّر أقلامهم، وتفتري ألسنتهم.
هذا، وإن الإسلام ليشكو اليوم من شيطان الإفساد السياسي، ما لا يشكو من
شيطان الإفساد الديني، فقد غلب على مقام أولي الأمر زعنفة من عبدة الطاغوت
والشر جعلوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وأرهقوا الأمة قتلاً وحبسًا ومصادرةً
وتخويفًا، يأكلون تراث الأمة أكلاً لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا، إذا دعوتهم إلى
الحق وَلَّوْا منك فرارًا، وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا
واستكبروا استكبارًا، وقد مكروا بأناس استخدموهم لغش المسلمين مكرًا كبارًا،
فاتبعوا من لم يزده ماله وجاهه إلا خسارًا، وكان من كيدهم ومكرهم - وعند الله
عاقبة مكرهم - أنهم عجزوا عن إسكان حركة الإصلاح، وإسكات نداء دعاته: حَيَّ
على الفلاح، أرادوا إفساد أمرها بتوسيدها إلى غير أهلها من المنافقين المتزلفين
إليهم، الراضين أن يكونوا آلات في أيديهم، فنصروا هؤلاء على أبناء بجدتها،
وآباء عذرتها، كما وسدت صروف الزمان إليهم من الأمر ما ليسوا له بأهل، فدنت
بذلك ساعة الأمة، وقد جاء أشراطها , ولا تلبث أن تأتي بغتة، قال الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)
رواه البخاري في صحيحه.
هذا هو السر في تناقض بعض الصحف التي ظهرت بعد ظهور الفئة الباغية،
والجمعية الطاغية الإسلامية في الظاهر الاتحادية في الباطن؛ إذ تمدح الإسلام
وتنفِّر عن الأعمال التي تحييه وتطعن في القائمين بها، وتدعو إلى الجامعة
الإسلامية، وتلقي الشقاق بين العاملين لها، ويزاحم أهلها المصلحين، وهم أعوان
المفسدين، ومنهم مَن تخدع رؤيته وتفتن خلابته ويغر ببكائه أو تباكيه، والمنافق
يملك عينيه فيبكي بهما متى شاء.
فكم أذرى الدموع لنهب مال ... وكم أبدى الخشوع لنيل جاه
ومنهم من لو علم المغرورون برقته، حقيقةَ حاله في علمه وعمله وعقيدته،
لولَّوْا منه فرارًا، وأعرضوا عنه ازورارًا، واستصغروا أنفسهم استصغارًا،
لتعجلهم باتباع كل ناعق، وعدم التزييل بين الصادق والمنافق، وستظهر للجميع
الحقائق، فحبل الكذب وإن طال قصير، ومصير المنافقين شر مصير. وإنما
نخشى أن لا تظهر العبرة إلا بعد خراب البصرة، وأن يأخذ الله المسلمين كافةً بما
جنته تلك الفئة الباغية {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة} (الأنفال:
25) .
ذلك بأن الأمة تحتاج إلى ضروب من الإصلاح يمد بعضها بعضًا، وأصولها
خمسة: الديني، والعلمي، والاجتماعي، والسياسي، والمالي، وقد تداعت هذه
الأصول كلها في العالم الإسلامي، ولا يسهل إقامة بعضها إلا بإقامة باقيها؛ لهذا
أردنا عندما لاحت لنا من الآستانة بارقة الأمل في الإصلاح السياسي أن ننشئ فيها
عملاً كبيرًا من الإصلاح الديني والعلمي، الذي هو أكبر عون على غيره، ولا
سيما الإصلاح الاجتماعي، فعلمنا أن ما لاح لنا كان برقًا خلبًا، وسرابًا بقيعة
يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل تبين لنا أن مثل ذلك البلاء
النازل، الذي تراءى بصورة الإصلاح الخادع، كمثل ذلك العذاب الذي نزل
بصورة العارض {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ
يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-25) .
أجل، إن هذا العذاب ليمثل ذلك الانقلاب، الذي حسبنا أن وراءه ما نرجو
من الإصلاح، فكان بسوء تصرف ذويه عين الإفساد، وقد أنذرنا الأمة سوء عاقبته،
وخطر مغبته، فتماروا بالنذر {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ
جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 3-5)
وقد هُزِمَ الجمع وولوا الدبر، فبأي القول والفعل بعد ذلك يُعْتَبَر، فإن لم يتدارك
الأمر أهل البصيرة والنظر، فلا منجاة بعد ذلك ولا مفر {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 46) لا أريد الإشارة إلى قيامة الناس كافة، بل
أريد قيامة هذه الأمة خاصة، فإذا هي فقدت هذا الرمق من استقلالها، وزال هذا
الذماء الذي تتردد به أنفاسها، فأي نوع تملكه بعده من أنواع إصلاحها.
فليس الخطر الذي نخشاه اليوم على الإسلام هو كيد المفسدين لدعاة الإصلاح
بإغراء غير أهله بالدعوة له؛ لمعارضة المضطلعين بالقيام به، واستئجارهم
المنافقين وتأييدهم على الصادقين، مع عدم تمييز الأكثرين بين المحقين والمبطلين،
ولا نحو ذلك من أعمال هؤلاء الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وإنما
الخطر الأكبر هو إفسادهم السياسي الذي فتح علينا باب المسألة الشرقية، فبدأ
بمملكة طرابلس الغرب الإفريقية، وثنى بولايات الدولة الأوروبية، ويُخشى أن
يثلث بالولايات الآسيوية، ولا ينفعنا يومئذ ظهور صدقنا وكذبهم، ونصحنا وغشهم؛
لأن الأمر يخرج من أيدينا وأيديهم، إلى مَن لا يرحمنا ولا يرحمهم، على أن
زعماء هذه الفتنة، ومبسلي هذه الأمة لا حظ لهم من الحياة إلا الجاه والمال، فإذا
فاتهم الأول بفقد الاستقلال، فإن لهم من الآخر ما يمتعهم بسائر اللذات، ولم يدرء
هذا الخطر مقاومة أهل الإخلاص لهم، وانتزاعهم تلك المقاليد من أيديهم، على أنه
لا يبعد أن تعود إليهم، فتكون الكرة الثانية هي الطامة القاضية، ولا يدرؤها من
بعد، مثل ما كان من قبل، وإنما يرجى أن يدرأه البدار إلى تقوية كل قطر من
المملكة في نفسه، ونوط الدفاع عنه وإقامة العمران فيه بأهله، وهو ما يعبرون عنه
بالمدافعة الملية، والإدارة اللامركزية، ثم بناء المصلحة العامة على قواعد الصدق
والإخلاص، فإذا لم تتفق الأمة والدولة على هذا، فعلى الأمة والدولة السلام.
__________(16/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة إلى انتقاد المنار
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض في الإسلام، هو سياجه وحفاظه
أن تعتدى حدوده بين أهله، كما أن الجهاد سياجه وحفاظه أن يعتدي عليه غير أهله،
وقد قصر المسلمون في الفريضتين فكان عاقبة أمرهم ما نسمعه ونرى ونذوق،
فالمنار يدعو كل من يطلع عليه ويرى فيه خطأً أن يبينه لنا بالمشافهة إن كان ممن
يلقانا ونلقاه، وإلا فبالكتابة، والطريقة المثلى في ذلك أن يقال: إن في صفحة كذا
من جزء كذا خطأً، ويبين ذلك الخطأ وصوابه بالدليل من غير استطراد ولا تطويل،
ونحن نرجع إلى الصواب إن ظهر لنا، أو نبين ما عندنا في المسألة.
هذه هي طريقة الأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، لا ما يذهب إليه
أهل الأهواء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهو أنهم إذا رأوا أو
سمعوا - ولو كذبًا - أن أخاهم أخطأ في شيء أشاعوا ذلك بين الناس بالقول
والكتابة، فيدري بذلك الخطأ مَن يلقونه دونه، وربما كان ذلك منكرًا أو شبهةً على
الدين تعلق في نفس المستمع، ولا يدري كيف يتفصى منها، وكثيرًا ما يكونون هم
المخطئين، ومنهم من يصدق عليهم قول الشاعر:
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
فمن ابتلي من أهل التقوى والإخلاص من هؤلاء الذين يوسوسون في
صدور الناس يُذم أو يُسب أو يُطعن، مَن يدعى عليه أنه أخطأ، فليقل: إن هذه
غيبة يفسق صاحبها، لا نصيحة يتبع قائلها، فإن كان فلان أخطأ، فذَكِّره بينك
وبينه، فإن لم يرجع فهو شيطان، فأعرض عنه وقل سلام.
محمد رشيد رضا الحسيني
__________(16/9)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجهاد أو القتال في الإسلام
(س1) من صاحب الإمضاء في فاينات (خراسان) .
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلامة السعيد المرتضى، السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار
الغراء، بعد إهداء شكري إليه مما أنعمت به من فيض دجلة تلك المجلة، إني قرأت
في مجلتكم الغراء، ما يشعر بتنزيل ما ورد في الجهاد من الآيات الكريمة على الجهاد
الدفاعي فحسب؛ دفعًا لما أورده الإفرنج على دين الإسلام، وما نقموا من نكير
سيفه وتنمره في ذات الله، وهذا وإن كان له وجه وجيه بالنظر الفلسفي، حيث إن
العلة التي أوجبت الدعوة إلى دين يراد به ترقية الإنسان إلى كافة السعادات الدنيوية
والأخروية، وإخراج الناس كافة من الظلمات إلى النور، ومن الوحشية الموحشة
إلى المدنية المؤنسة، ومن الشقاوة الكبرى إلى السعادة العظمى، هي التي أوجب
إبرامها، والتي أوجب إبرامها هي التي أوجب إعلاءها، بحيث يصلح للبقاء إلى
قيام الساعة، والعقل السليم يفرق بين موجبات نشر دينٍ من شأنه دفع ظلمة
التوحش وطردها، وبين ما لا يراد به إلا التجافي عن الدنيا والفراغ للعبادة، ولو
في شعب الجبال، ويلزم على الصادع بمثل هذا الدين الدفاع عن علوه وبقائه، كما
يلزم عليه الدفاع عن إبلاغه وإسماعه، فمثله في عالم التشريع كمثل النور في عالم
التكوين، وكما أن النور يطرد الظلمة بسنا برقه، فكذلك ذاك الدين طارد للوحشة
بسنا بريقه، فهو من بدء ظهوره ظهر دافعًا، وهو كذلك إلى الأبد.
هذا هو الحق الحقيق بالتصديق لكنه لا يلائم ظاهر معنى الدفاع، ولا تقسيمهم
الجهاد إلى دفاعي وابتدائي، ولا يزيح علة الخصم في لجاجه وإيقاعه ولا يوافقه
شواهد التاريخ وأدلة الأحكام وعناوين الفقهاء التي كلها منك بمسمع ومرأى، ولو
تركناها على ظاهرها فإن تحقق معنى الدفاع بظاهره يتوقف على سبق الخصم
بالمزاحمة، وعليه فكيف يمكننا أن نقول: إن الفرس والروم زاحموا محمدًا
وصحبه الكرام، عليه وعليهم السلام، وهم في بحبوحة الحجاز حتى أوجب عليه
وعليهم دفعهم إلى حد الصين شرقًا وأفريقية غربًا.
فيا عجبًا من الإفرنج كيف يعدّ احتلال بلاد الإسلام وصلب رجالها واستحياء
نسائها أو ذبح أطفالها لأدنى فائدة اقتصادية ترجع إليهم من دون حق لهم عليه
مشروعًا تمدنيًّا بل دينيًّا، ولا يعدّ ضرب السيف بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة
وتخيير المكلف بين الإسلام ونيل سعادته الأبدية في أعقابه، أو قبول أدنى جزية
وصون حقوقه البشرية في إنجاده مشروعًا دينيًّا إسلاميًّا، مع أن ما هو عليه الآن
من الترقي والتمدن صدقة من صدقات الإسلام عليه بعد ما كان عليه من أخس
مراتب التوحش، أرجو من فضيلتكم السامية بعد تجديد شكري إليكم بسط الكلام في
هذا الموضوع بحيث تزيح علة الخصم مع موافقته لظواهر الآثار.
... ... ... ... ... ... ... ... ... خادم الإسلام
... ... ... ... ... ... ... ... محمد حامد البيرجندي
من قطر قاينات من بلاد خراسان
(ج) لا يجهل أحد له نصيب ما من تاريخ الإسلام أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما أظهر دعوته إلى الإسلام عاداه قومه وقاوموه وآذوه هو وكل من آمن به
واتبعه، ولم يعصم دمه ولا دم أحد من أصحابه إلا حماية عشائرهم أو مواليهم لهم
بنعرة النسب أو الولاء وعصبيتهما، وإن تلك الحماية لم تمنع الإيذاء بل اضطرت
قريش أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بأهل بيته مع ابن أخيه من
مكة إلى الشِّعب لإصراره على حمايته وعدم تمكينهم منه، ثم ما زالوا يكيدون
ويمكرون حتى ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه بصفة يضيع بها دمه في
كل القبائل، بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً ليضربوه بسيوفهم في آنٍ واحد،
فأطلعه الله تعالى على كيدهم، وأذن له بالهجرة من بلدهم، راجع تفسير قوله
تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال:
30) هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهاجر السابقون
الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج
بمكة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه من كل معتدٍ كما يمنعون
ويحمون أنفسهم وأولادهم، وبذلك صار حربًا للعرب عامة، وأهل مكة خاصة، أي
صاروا يعدونه محاربًا ويعدّهم محاربين بحسب العرف العام في ذلك الزمان، فكان
المؤمنون مع المشركين يومئذ كالعثمانيين مع البلقانيين اليوم، لا يقدر أحد أن ينال
من الآخر نيلاً فيقصر فيه، بل كانت العرب قبل البعثة وفي عهدها في غزو دائم
وقتال مستمر، لا يعصم قبيلة من قبيلة إلا بأسُها وقوتُها، أو المعاهدات التي كانت
تفي بها، فكانت كل قبيلة تتوقع القتال في كل أوان من كل قبيلة ليس بينها وبينها
عهد أو حلاف، فالحرب (معلنة) عرفًا في كل زمان ومكان، إلا ما كان لهم من
التقاليد المتبعة في الأشهر الحرم والبلد الحرام، ومن البين الجليّ أن البدء بالقتال لا
يعدّ من الاعتداء في مثل هذه الحال، ومع ذلك كان المشركون هم الذين يعتدون
على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحزّبون عليهم الأحزاب، فكان قتاله
صلى الله عليه وسلم كله دفاعًا حتى ما كانت صورته هجومًا، وكانت القاعدة
الأساسية للحرب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب بالقتال ملكًا، وقد رغبوا إليه في مكة
أن يجعلوه ملكًا عليهم بشرط أن يترك دعوته، وعرضوا عليه كل ما يقدرون عليه
من مال ومتاع، فلم يقبل ذلك وهو في حال الضعف والاحتياج، وكان دفاعه في
أكثر سني الهجرة دفاع الضعف للقوة، إلى أن أظفره الله الظفر الأكبر بفتح مكة،
وأظهر الآيات على حرصه صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء وكراهته للقتال،
رضاؤه بصلح الحديبية وهو في قوة ومنعة، على ما في ذلك من الشروط الثقيلة
التي كرهها يومئذ جميع الصحابة، حتى تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم
خرجوا أو كادوا يخرجون من الطاعة. فالقتال الديني الحقيقي هو ما كان دفاعًا عن
الدعوة وأهلها، أو لحمايتها وحمايتهم في نشرها وتعميمها.
أما غير العرب فلم يتصدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى قتال الروم منهم
في غزوة تبوك وكان سببها أنه بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام وقدموا
مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين بإغراء متنصرة العرب، ولولا ذلك لما أمر
بالخروج في ذلك الوقت الذي كان المسلمون فيه في عسرة ومجاعة، وقد أدركت
ثمارهم فاضطروا إلى تركها، والحر شديد، والشقة بعيدة، والعدد كثير، ولهذا
كانت هي الغزوة التي ظهر فيها صدق الصادقين ونفاق المنافقين.
على أن نشر الدعوة في ذلك العصر كان متعذرًا بغير قوة يأمن بها الدعاة
على أنفسهم، وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر، والفرس
والعراق قد اعتدوا على بعض أهلها وأخضعوهم لسلطانها، فلما اجتمعت كلمة أكثر
العرب في الجزيرة بجامعة الإسلام، صار أولئك الجيران عدوًّا لهم،
وكان العدو حربًا لعدوه حيث كان، فكان لا مندوحة للمسلمين - والحال ما ذكرنا - أن
يؤيدوا نشر الدعوة بما يستطيعون من قوة، ولكنهم لا يستعملون القوة إلا عند الحاجة
أو الضرورة، فكانوا يعرضون على الناس الإسلام، فإن أجابوا كانوا
مثلهم، وإلا اكتفوا منهم بأخذ جزية قليلة تكون اكتفاء شرهم، وتركوا لهم الحرية
في أنفسهم وأموالهم ودينهم، حتى إنهم لا يجبرونهم على التحاكم إليهم، وإن
تحاكموا إليهم ساووهم في ذلك بأنفسهم، فلم يكن الغرض من هذا إلا أن تكون دعوة
الحق في حماية قوة يمكن بها إظهارها كما يعتقدها ويدين لله بها أربابها، من غير
اعتداء على دين أحد ولا ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده، فهكذا كانت سيرة
الخلفاء الراشدين في فتوحاتهم.
وأما من بعدهم من خلفاء العرب وملوك الطوائف في عهدهم، فقد شاب
فتوحاتهم لنشر دعوة الإسلام شائبة حب سعة الملك وعظمة السلطان، ومع هذا قال
غوستاف لوبون من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران وعلماء التاريخ من الإفرنج:
(ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .
هذا مجمل ما نفهمه من آيات كتاب الله عز وجل، وسيرة نبيه صلى الله عليه
وسلم، وهو مبني على قواعد العدل والرحمة، وما شرع لأجله الدين من إصلاح
الأمة، وهو في الإسلام إصلاح البشر كافةً، ولسنا كغيرنا ممن يغيرون ويبدلون،
ويحرفون ويؤولون لدفع ما يعترض به المعترضون، فإن ديننا ليس كسائر الأديان
التي يدافع عنها أهلها كما يدافع المحامي عن موكله المبطل بتمويه باطله، وتصويره
بغير صورته، وإنما دفاعنا عن ديننا هو إظهار حقيقته، وإزالة ما عرض من
التمويه والتلبيس عليه.
ونحن نعلم أن المعترضين عليه فريقان لا ثالث لهما: الجاهلون بحقيقته،
والمعادون له للعصبية الدينية أو المطامع السياسية، وهؤلاء يطعنون فيما يرونه
من محاسنه بأشد مما يطعنون فيما يتوهمون من مساويه، وغرضهم من ذلك
إضعاف أهله بإزالة ثقتهم به ثم بأنفسهم، ومن ذلك طعنهم في مسألة الجهاد، وهم
لا يطعنون في التوراة التي تأمر باستئصال الأعداء واصطلامهم من الأرض، كما
بينا ذلك في المنار مرارًا، ومن أوضحها ما رددنا به على لورد كرومر.
ولو أن المسلمين عملوا بأحكام القتال كما أمر الله ورسوله لكان سلطانهم في
علو دائم، ومد لا جزر معه، بما يدعمه من العدل والرحمة، مع استكمال أسباب
القوة، فالواجب على الدعوة الإسلامية أن تكون أقوى دول الأرض وأن تقيم دعوة
الإسلام وتحميها بالقوة، وقد يكون ذلك بالدفاع وبالهجوم، مع مراعاة قاعدة:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .
__________(16/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من الشيخ راغب القباني في بيروت
لقب الإمام
(س) تطلقون على المرحوم الشيخ محمد عبده لقب الأستاذ الإمام،
ونرى بعض المعترضين عليكم يقولون: إن هذا اللقب لا يجوز إطلاقه إلا
على المجتهدين أصحاب المذاهب المتبعة.
(ج) إن هذا اللقب قد أطلقه الناس على كثير من العلماء في القرون
الأخيرة حتى في هذا القرن وما قبله كما ترونه على الكتب المطبوعة في
مصر من تأليف علماء الأزهر وغيرهم الذين لم يدَّعوا ولم يدَّعِ لهم أحد
الاجتهاد ولا كانوا مظنة لدعواه، واشتهر إطلاقه على بعض العلماء في
القرون الوسطى ممن لا يعدونهم من المجتهدين بل يذكرونهم في طبقات
المقلدين كالفخر الرازي الأشعري الشافعي فهو الذي ينصرف إليه لقب الإمام
إذا أطلق في كتب أصول الفقه والكلام والمنطق التي ألفت بعده، وكان تاج
الدين السبكي يطلق على والده لقب الشيخ الإمام كما ترونه في كتبه كجمع
الجوامع، وطبقات الشافعية، وسبقه الرازي إلى ذلك.
* * *
قول الشيخ محمد عبده في الربا
(س) يزعم بعض الناس أن الشيخ محمد عبده فتح بابًا للقول بجواز
الربا إذا كان غير أضعاف مضاعفة.
(ج) نحن ما رأينا هذا الباب فدلونا عليه في كلامه، وبينوا لنا الباطل
منه لننشره للناس لإزالة الالتباس، ونحن نعلم أن بعض أعداء الإصلاح
يطعن في الرجل كذبًا وبهتانًا اتباعًا للهوى، فلا تغتروا بأقوال أمثال هؤلاء
الطاعنين اللاعنين.
* * *
التصوير الحيواني
(س) لم يقنع الناس بالاستدلال على جواز التصوير الحيواني بأن
المعلول يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، فإنهم يقولون: إن العلة لا تزال
موجودةً، فنرغب إليكم بالتفصيل.
(ج) ليس عندنا تفصيل نوافيكم به، ولسنا وكلاء على الناس فيما يرونه
ويعتقدونه، ونحن نعلم أن من الناس مَن هو مقتنع بأن ما شائبة للدين فيه من
أمر هذه الصور والتصوير لا يمس الدين، كالذي يفعله بعض جواسيس
الحرب، وكصور المجرمين التي تستعين بها الحكومة على معرفتهم
وكالصور التي يستعان بها على تعليم التشريح والتاريخ الطبيعي واللغة، فإن
كثيرًا من الحيوانات التي نرى أسماءها في كتب اللغة لا نعرف مسمياتها إذا
رأيناها ما لم نكن رأينا صورها، فإذا كان الناس الذين يعنيهم السائل يقولون:
إن علة تحريم الصور متحققة في هذا الأمثلة جدلاً وعنادًا أو رأيًا واعتقادًا فهم
لا يخاطَبون؛ لأنهم لا يفقهون.
__________(16/29)
الكاتب: جمال الدين القاسمي
__________
ميزان الجرح والتعديل [*]
(2)
درء وهم واشتباه
يقول بعضهم: إن مسلمًا روى عن ابن عباس أنه قال في نجدة الحروري:
(لولا أن أرده عن نتن يقع فيها ما كتبت إليه ولا نعمة عين) . قال النووي:
كان ابن عباس يكرهه لبدعته وهي كونه من الخوارج.
والجواب: أنه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع، وإلا لما خرَّج
لثقاتهم وعلمائهم الشيخانُ وغيرُهما، وهل يؤخذ الجميع بجريرة الفرد؟ على
أن نجدة ليس من رجال الرواية عند المحدثين، فقد ضعَّفه الذهبي في (ميزان
الاعتدال) وقال عنه: ذكر في الضعفاء للجوزجاني، على أن الحال وصل
إليه في قومه أن يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر كما تراه في كتاب (الفرق)
للإمام أبي منصور البغدادي، والملل والنحل للشهرستاني وغيرهما، فلا نعمة
عين - كما قال ابن عباس - ولو كان يُكره كل خارجي لبدعته لما أخرج
لأثباتهم أئمةُ السنة في الصحاح والمسانيد، ويكفي أن الإمام مالكًا رضي الله
عنه عُدَّ ممن يرى رأيهم، كما رواه الإمام المبرد في كامله [1] . ومن عزا لك
ما يأثره، وأراك مصدره، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم.
ومن الغريب أن يستدل بعضهم على معاداة المُبَدَّعين بأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خُلفوا، ورفض تكليمهم حتى تِيبَ عليهم، مع
أنه لا تناسب بين دليله والدعوى بوجه ما؛ لأن البحث في الرواة المجتهدين
الثقات المتقنين الذين ما نبذ السلف مرويهم لرأي رأوه أو مذهب انتحلوه، فهل كان
المخلفون كذلك؟ وما المناسبة بين قوم هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم لذنب
محقق اعترفوا به حتى تيب عليهم، وقوم لا يرون ما هم عليه إلا طاعة وعقدًا
صحيحًا يدان الله به، وتنال النجاة والزلفى بسببه؟ فالإنصاف يا أولي الألباب
الإنصاف، وحذار من الجري وراء التعصب والاعتساف.
غريب أمر المتعصبين والغلاة الجافين، تراهم سراعًا إلى التكفير
والتضليل والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا
ما دعا إليه الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم، وجهل مشرب
البخاري ومسلم، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأمة، ولا قوة إلا بالله.
* * *
ثمرة الرفق بالمخالفين
قال بعض علماء الاجتماع: يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة
والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في
مسائل الدين والدنيا، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين
بفكره، ويعتقد أنه يعمل صالحًا ويسدي معروفًا وينقذ من جهالة ويزع
عن ضلالة، ومن العدل أن لا يكون الاختلاف داعيًا للتنافر ما دام صاحب
الفكر يعتقد ما يدعو إليه، ولو كان على خطأ في غيره؛ لأن الاعتقاد في
شيء أثر الإخلاص، والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى؛
ليتغلب عليه بالبرهان، لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام، وما ضر
صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا،
ويراه غيره خطأً، أو يقرب منه، وفي ذلك من امتثال الأوامر الربانية، والفوائد
الاجتماعية ما لا يحصى، فإن أهل الوطن الواحد لا يحيون حياة طيبة إلا إذا
قل تعاديهم، واتفقت على الخير كلمتهم، وتناصفوا وتعاطفوا، فكيف تريد مني أن
أكون شريكك، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة؟
دع مخالفك - إن كنت تحب الحق - يصرح بما يعتقد، فإما أن يقنعك
وإما أن تقنعه، ولا تعامله بالقسر، فما قط انتشر فكر بالعنف، أو تفاهم قوم
بالطيش والرعونة، من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن
يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه؛ لأن ذلك من طبع البشر مهما
تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم.
وبعدُ فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، هو من أهم العوامل في
رقيّ البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها
في كل مجتمع، والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا
العالمين، والمهوسين لا المعتدلين. اهـ مع تلخيص وزيادة.
ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83) وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها.
* * *
حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين
لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف
الأولى من الهجرة ضجت عقلاء الفقهاء، وصوبت سهام الردود في وجوه زاعمي
ذلك، حتى قالت الحنفية - عليهم الرحمة - ما معناه: (لو أمكن أن يُكفَّر المرء في
أمر من تسعة وتسعين وجها، ومن وجه واحد لا يكفر؛ يُرجَّح عدم التكفير على
التكفير لخطره في الدين) .
ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من
العصور مثل القرن الثامن للهجرة، ومن سبَر تاريخ الحافظ ابن حجر المسمى
(بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) أخذه من ذلك المقيم المقعد؛ إذ يرى
أن العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره، كان لا يأمن على نفسه
من الإفك عليه والسعاية به فيما يكفره ويحل دمه، حتى صار يخشى
على نفسه من أخذت منه السن، وأقعده الهرم، وأفلجته الشيخوخة، ولا من
راحم أو منصف - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام
النووي، وأنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دائمًا وثيقة أحد
القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره، ولقد أريقت دماء محرمة،
وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان
أعوامًا وسنين، حتى عج لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض
والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها
ويستدرجها في غيها، ولم تحسب للأيام ما خبئ لها في طيها، إلى أن امتلأ
إناؤها، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت
على دولتها الدائرة، ومحق الله بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة، وأورثها
للدولة الصالحة العاقلة، فأمَّنت الناس على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود
بزبدها وغثائها.
سيقول بعض الناس ممن تغره القشور، ولم تقف مداركه على لباب روح
العصور: إن تلك الدماء المراقة والأرواح المهدرة، لم يحكم عليها إلا
بالبينة والشهود، التي بمثلها تقام الحدود، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟
يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة، أو الإيقاع بالشبهة،
وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل
هؤلاء المساكين، لا سيما إذا دُفعوا بتشويق المتصولحين والمتمفقرين [2] ،
والحشوية البكائين، احتيالاً وقنصًا للمغفلين.
ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل
الداعين إلى الكتاب والسنة، والمجاهدين في الإصلاح العاملين، على أن
قاعدة المحققين هي عدم البتّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه، ومراجعة
عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته، والإشراف على غثه وسمينه، ووزنه
بميزان العقول السليمة، والقواعد الاجتماعية المعقولة، كما أشار إليه الإمام ابن
خلدون في مقدمته.
نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلا لما فضح نبذًا منها
الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب (البهجة، واللامية، والديوان،
والمقامات) فقد شفى بالحقيقة الأوام، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه
والإيهام في مقالة بديعة أنشأها في القاضي الرباحي المالكي [3] سماها
(الحرقة للخرقة) . ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه، قال رضي الله عنه:
أما بعد، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه، والصلاة والسلام على
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه،
وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه، وسلمت صدورهم
من فساد النيات، وإنما لكل امرئ ما نواه، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم،
والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم، والمتكلم لله تعالى مأجور،
والظالم ممقوت مهجور، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة،
والنثر والنظم للذَّب عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة، وجرحة الحاكم
الأعراض بالأغراض صعبة؛ إذ نص الحديث النبوي: أن حرمة المسلم أعظم
من حرمة الكعبة، ومخرق خرقته مذموم، ولحم العلماء مسموم، وهذه
رسالة أخلصت فيها النية، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية، أودعتها
من جوهر فكري كل ثمين، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي مناداة
اللحم السمين، لكن جنبتها فحش القول؛ إذ لست من أهله، وخلدتها في ديوان
الدهر شاهدة على المسيء بفعله، ورجوت بها الثواب، نصرة للمظلوم،
وغيرة على حملة العلوم، وسميتها: (الحرقة للخرقة) فقلت: اعلموا يا ولاة
الأمر، ويا ذوي الكرم الغمر، أبقاكم الله بمصر [4] للأمة، ووفقكم لدفع الإصر
وبراءة الذمة، أن حلب قد نزعت للزبدة، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي
في خسر وشدة، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع، وأخاف السرب، وكدَّر
الشرب، بجراءته التي طمت وطمت، وعَمايَته التي عمت وغمت، وفتنته
التي بلغت الفراقد، وأسهرت ألف راقد، ووقاحته التي أدهشت الألباب، وأخافت
النطف في الأصلاب، فكم لطخ من زاهد، وكم أسقط من شاهد، وكم رعب
بريًّا، وكم قرب جريًّا، وكم سعى في تكفير سليم، وكم عاقب بعذاب أليم،
وكم قلب ذائب، بنائبة توسط بها عند النائب، فامتنعت الأمراء عن
الشفاعة، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة:
يا حامل النائب في حكمه أن يقتل النفس التي حرمت
غششته والله في دينه بشراك بالنار التي أضرمت
(إلى أن قال الزين ابن الوردي) : ثم إنه فسق مفتيًا في الدين، وفضح
خطيبًا على رؤوس المسلمين، ثم قال: يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير
الصفر.
حاكم يصدر منه ... خلف كل الناس حفر
يتمنى كفر شخص ... والرضا بالكفر كفر
(ثم قال) : إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب
الأفاعي السود:
أدركوا العلم وصونوا أهله ... من جهول حاد عن تبجيله
إنما يعرف قدر العلم من ... سهرت عيناه في تحصيله
ثم قال: ما أقدره على السفير، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير، كم
دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب، ونراه حيران لعدم الرقة، فإذا قيل له:
فلان قد كفر، طاب، يحبس على الردة بمجرد الدعوى، ويقوي شوكته على
أهل التقوى، قد ذلل الفقهاء والأخيار، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار:
يحبس في الردة من ... شاء بغير شاهد
لا كان من قاضٍ حكى الـ ... ـفقاع جد بادر
أراح الله من تعرضه، وصان عراض الأعراض من تعرضه، يقصد
بذلك أهل الدين، والقراء المجودين:
جرحت الأبرياء فأنت قاضٍ ... على الأعراض بالأغراض ضاري
ألم تعلم بأن الله عادل ... (ويعلم ما جرحتم بالنهار)
هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية،
وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت، ولا سيما
المالكية منهم، ولقد كان قضاة المذاهب يحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى
القاضي المالكي لما اشتهر في الفقه المالكي من مضاعفة النكال، وشدة التأديب في
باب التعزير؛ إذ بسط للقاضي يده فيه بسطًا لم يوجد في مذهب غيره، فلذا كان
محبو الانتقام والتشفي يعمدون إلى إحالة القضية إلى القاضي المالكي؛ لما يعلمون
ما وراء قضائه، مما فصل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت، على أن الأمر في
التعصب لم يقف عند القاضي المالكي وحده لنتعصب ضده، وإنما كان هو الأقوى
تعصبًا والأشد تصلبًا، وإلا فإن مظهر ذاك العصر كان التعصب لجميعهم، فقد حكى
الشيخ الشعراني رحمه الله تعالى في مقدمة طبقاته الكبرى المسماة بلواقح الأنوار ما
مثاله: وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة أن
شخصًا وقع في عبارة موهمة للتكفير، فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أرادوا قتله
قال السلطان جقمق: هل بقي أحد من العلماء لم يحضر؟ فقالوا: نعم، الشيخ جلال
الدين المحلي شارح المنهاج، فأرسل وراءه فحضر، فوجد الرجل في
الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ: ما لهذا؟ قالوا: كفر، فقال: ما مستند من
أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعية، وقال: قد أفتى
والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير، فقال الشيخ جلال
الدين رضي الله عنه: يا ولدي أتريد أن تقتل رجلاً مسلمًا موحدًّا يحب الله ورسوله
بفتوى أبيك؟ حلوا عنه الحديد، فجردوه، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج
والسلطان ينظر، فما تجرأ أحد يتبعه رضي الله تعالى عنه.
وقد عد الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصبون ما
يقرب من الثلاثين، فمنهم القاضي عياض، اتهموه بأنه يهودي؛ لملازمته
بيته للتأليف نهار السبت، وذكر أن المهدي قتله.
ومنهم الإمام الغزالي كفره قضاة المغرب وأحرقوا كتبه، ومنهم التاج
السبكي رموه بالكفر مرارًا، وسجن أربعة أشهر [5] ، وكل هذا إنما كان بزعم
المتعصبين بشهادات وأقضية وفتاوى، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ
وكشف عوارهم، كما حكاه الشعراني وغيره، والحمد لله الذي جعل الباطل
زهوقًا.
وهكذا يمر بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أقيمت عليهم
الفتن، واتهموا بما اتهموا به، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات، ونعني بالحدود ما نص
عليه في الكتاب العزيز والسنة الغراء، فإذا كانت في تلك المكانة وقد شرع
فيها محاولة درئها بالشبهات، فكيف بحدود لا سند لها إلا بالاجتهاد، وليس لها أصل
قاطع، ولا نص محكم، فلا ريب أنها أولى بالدرء، وأجدر بالدفع، ولا يدري
المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة حتى عكسوا القضية، وأصبحوا
يكبرون الصغير، ويعظمون الحقير، ويهولون الأمور، ويدعون بالويل والثبور،
مما لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها، والكبائر التي يجاهَر بها، فلا حول
ولا قوة إلا بالله.
ولما تشددت القضاة المالكية في هذا الباب، أصبحوا هدفًا لأولي الألباب،
حتى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدم الرباحي: إن المالكية
بدمشق كتبوا إليه: يا مغلوب، لقد بغضت مذهب مالك إلى القلوب، وقطعت
المذاهب الأربعة عليه بالخطا، وزالت بهجته عند الناس وانكشف الغطا، إلخ.
والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة
على المذاهب الأربعة مما لم يعهد قبله في دولة من الدول، حتى نشأ من ذلك
ما نقمه عليه الأعلام، وعدوه من التفرقة في الإسلام، قال التاج السبكي في
طبقاته [6] ، في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب
ابن بنت الأعز الشافعي المتوفى سنة 566، ما مثاله: وفي أيامه جدد الملك
الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة، ثم تبعتها دمشق وكان الأمر متمحضًا
للشافعية، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة
محمد بن عثمان الدمشقي في سنة 284 إلى زمان الظاهر إلا أن يكون نائب
يستنيبه بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة، وكذا دمشق لم يَلِهَا بعد أبي
زرعة المشار إليه إلا شافعي غير التلاشا عوني التركي، الذي وليها يويمات
وأراد أن يجدد في جامع بني أمية إمامًا حنفيًّا، فأغلق أهل دمشق الجامع،
وعزل القاضي [7] .
(قال السبكي) : واستمر جامع بني أمية في يد الشافعية، كما كان في
زمن الشافعي رضي الله عنه، قال: ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة
والإمامة بجامع بني أمية إلا من يكون على مذهب الأوزاعي إلى أن انتشر مذهب الشافعي، فصار لا يلي ذلك إلا الشافعية. ثم قال السبكي: وقد حكي أن الملك
الظاهر رؤي في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: عذبني عذابًا شديدًا بجعل
القضاة أربعة، وقال: فرقت كلمة المسلمين. اهـ.
ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرق الكلمة، وتعدد الأمراء
واضطراب الآراء، وقد قال أبو شامة لما حكى ضم القضاة، أنه ما يعتقد أن
هذا وقع قط. قال السبكي: وصدق فلم يقع هذا في وقت من الأوقات، قال:
وبه حصلت تعصبات المذاهب، والفتن بين الفقهاء، فإنه يؤيد ما قدمناه من
اتخاذ هذه آلة للفتن والتشفي من المخالفين، حتى أدال الله من تلك الدولة
للسلطان سليم خان، فنسخ كل ذلك، وقصر الأمر على قاضٍ حنفي واحد،
ولا ريب أن هذا كان من النعم الكبيرة، إذ قمعت به فتن خطيرة، وحسمت به
شرور وفيرة، نعم لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال، وهو سعي أولي الحل
والعقد بعقد مؤتمر علمي من كبار فقهاء المذاهب المعروفة، وتأليف مجلة
تستمد من فقه سائر الأئمة الأربعة وغيرهم مما فيه رحمة ويسر، ومشى مع
المصالح والمنافع، ودفع المضار في أبواب المعاملات، فبذلك تظهر محاسن
الدين في الأقضية والأحكام، ويعرف أنه دين المدنية في كل زمان ومكان إلى
قيام الساعة وساعة القيام، وإن اليوم الذي تتحقق فيه هذه الأمنية لهو أسعد الأيام،
والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام اهـ.
__________
(*) لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
(1) جزء 2.
(2) المتمفقر: كالمتمسكن مدعي الفقر، أي: التصوف، وليس من أهله.
(3) راجعها في ص (190) من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام (1300) ، مشتملة على لامية العرب وشرحها وشرح المقصورة الدريدية، وديوان ابن الوردي، وديوان الخشاب ورسائله.
(4) كانت مصر في عهد المؤلف، وهو القرن الثامن: عاصمة دولة المماليك.
(5) ذكر السبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه، عندي الكراسة الأخيرة منها.
(6) جزء (5) ص (134) .
(7) تأمل هذا التعصب واسترجع وحوقل، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمة المبتوعين الأربعة وغيرهم، وكيف نسوا أن الناس عيال عليهم، تستمد من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم وتفريعهم؟ ما أجمد قومًا يزعمون أنهم تعبدوا بمذهب واحد، أو اتباع إمام واحد، أوَ ما علموا أن كلهم من رسول الله ملتمس، وأن الله تعالى إنما تعبَّد الناس بتنزيله الكريم وهدي نبيه المعصوم.(16/30)
الكاتب: أحمد عمر الإسكندري
__________
... ... ... ... ... نظرة في الجزء الثاني من كتاب
تاريخ آداب اللغة العربية [*]
(2)
الخطأ في النقل
قد أخطأ المؤلف في نقل عبارات المؤلفين إما بتصرفه فيها تصرفًا أفسد
معناها، وإما بتحريف الكلم، وإما بنقلها عن نسخة محرَّفة من غير تمحيص
لها، فمن ذلك:
(1) قوله في ترجمة سلم الخاسر: هو سلم (ويقال سالم) ابن عمرو،
أحد موالي أبي بكر الصديق.
فسالم الخاسر هو (سَلْم) بفتح السين وسكون اللام، فمن أين جاء
للمؤلف أن يقال في اسمه: سالم أيضًا، وليس سلم مجهولاً حتى يشتبه في
اسمه.
منشأ هذا التحريف الذي وقع فيه المؤلف أن نسخة تاريخ ابن خلكان
المطبوعة كتب فيها (سلم) بألف توهمًا من الناسخ الأصلي أن الألف محذوفة
كما تحذف في (القسم والحرث) فأثبتها وطبعت النسخة على هذه الصورة
خطأً، وفي نسخة ابن خلكان هذه ذكر اسم (سلم) منظومًا في الشعر في قول
أبي العتاهية له:
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال
ونحن لا نشك أن المؤلف قرأ ترجمة (سلم) في (الأغاني) وفيها وقع
اسمه منظومًا في غير موضع، فمن ذلك قول أبي العتاهية:
إنما الفضل لسلم وحده ... ليس فيه لسوى سلم درك
وله فيه وقد حبس إبراهيم الموصلي:
سلم يا سلم ليس دونك سر ... حبس الموصلي فالعيش مر
وقول أبي محمد اليزيدي فيه:
عق سلم أمه صغرًا ... وأبا سلم على كبره
ومن هجاء أبي الشمقمق فيه:
* يا أم سلم هداك الله زورينا *
وقول مروان بن أبي حفصة فيه:
أسلم بن عمر وقد تعاطيت غايةً ... تقصر عنها بعد طول عنائكا
وقول أشجع السلمي يرثيه:
يا سلم إن أصبحت في حفرة ... موسدًا تربًا وأحجارًا
فرب بيت حسن قلته ... خلفته في الناس سيارًا
فهو عند هؤلاء الشعراء المعاصرين له اسمه (سلم) فحسب، ويجوز
عند مؤلفنا وناسخ ابن خلكان أن يُسمى (سالمًا) أيضًا، فليختر القارئ لنفسه ما
يحلو.
(2) ومن خطئه في النقل قسمه اسم رجل واحد على مسميين، فذكر
في ترجمة الصولي (ص175) أن له كتابًا اسمه الأوراق وهو في دار
الكتب الخديوية، وذكر ممن ترجم له هذا الكتاب أحمد بن يوسف بن صبيح،
فقال: (وأحمد بن يوسف وزير المأمون وآله، وابن صبيح كاتب دولة بني
العباس، وتوقيعات أحمد المذكور وكلامه فضلاً عن أشعاره) .
والحقيقة أن الثاني هو عين الأول، ومن يراجع الكتاب يعرف ذلك.
وهو أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح، ويتبين هذا أيضًا من خلال كلام
مؤلفنا؛ إذ ذكر أحمد ثم ابن صبيح ثم قفَّى بذكر توقيعات أحمد ورسائله
وشعره.
فلو كان ابن صبيح غير أحمد، فما الداعي لفصل توقيعات أحمد عن
ترجمته؟
ولو فرضنا أن المؤلف يريد بابن صبيح جده القاسم، فذلك لم يكن كاتب
دولة بني العباس، بل كان يكتب لبني أمية وللمنصور في بدء خلافته، ولم
تطل أيامه، وليس هناك في الكتابة، وإنما ذكره الصولي مع من ذكره من آل
أحمد بن يوسف.
(3) ومن خطئه في النقل بتصرفه في عبارة المؤلفين قوله في ترجمة
ابن الرومي صفحة 158:
(اشتهر بالتوليد في الشعر؛ لأنه أتى بكثير من المعاني لم يسبق إليها،
ومن مميزاته أنه لا يترك المعنى حتى يستوفيه، ويمثله للقارئ تمثيلاً) .
ومن عبارة المؤلفين في ذلك ما قاله صاحب معاهد التنصيص:
(هو أبو الحسن.. . صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب يغوص
على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن قالب، وكان إذا
أخذ المعنى لا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية) .
وقال ابن خلكان: (صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على
المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها، ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك
المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية) .
فترى أن عبارة ابن خلكان أجود في تصوير الشاعر، وعنه نقل صاحب
معاهد التنصيص مع تغيير قليل.
فرأى مؤلفنا أن ينقل عنهما بتغيير آخر، ولكن تغييره شذ عن مرادهما
فهما يقصدان بقولهما: (صاحب التوليد الغريب) أنه إذا استنبط معنًى من
قرآن أو حديث أو حكمة أو مثل أو من كلام شاعر آخر، أو اخترعه اختراعًا
لا يزال يولد منه معاني متشاكلةً بالزيادة عليه أو النقص منه، أو بالقياس عليه
فيستعمله في مدح ويقلبه في هجو ويزينه في وصف حتى لا يدع لغيره وجهًا
أيًّا كان يستعمله فيه بعد، وقد فسر المؤلفان غرضهما في عبارتهما بقولهما:
(يغوص على المعاني.. .) إلخ.
ففهم مؤلفنا من التوليد أنه يأتي بمعانٍ لم يسبق إليها، مع أن ابن الرومي
كثيرًا ما يُغِيرُ على قول غيره، وفهم من قولهما: (وكان إذا أخذ المعاني ... ) إلخ،
أنه يوضح المعنى، ويمثله تمثيلاً، وما كان عليه لو نقل عبارة المؤلفين
كما فعل في أكثر مواضع الكتاب.
(4) ومن تقصير المؤلف في توضيح ما ينقله ما نقله عن السيوطي ـ
ناقلاً عن كتاب العين، ومختصر الزبيدي ـ إحصاء المستعمل من الألفاظ العربية
والمهمل منها، فاستخرج المؤلف من كلام الزبيدي جدولاً استنتج منه أن عدد
المستعمل من ألفاظ اللغة العربية 5620 لفظًا، مع أن كتاب القاموس وحده،
وهو ليس إلا قطرةً من بحر اللغة العربية، يشتمل على ستين ألف مادة، متوسط ما
في كل منها من المزيد والمشترك عشرون كلمة على الأقل، أي نحو مائتي ألف وألف
ألف كلمة، فكيف ولسان العرب به ثمانون ألف مادة، متوسط ما في كل منها
ثلاثون كلمة على الأقل.
والمؤلف نقل عبارة الزبيدي عن المزهر للسيوطي، وهي فيه مختلة
أيضًا أسقط منها النساخ كلمة (ألف) المكررة في عدد المهمل والمستعمل
فصار فيها ألف الألف (أي المليون) ألفًا فقط، ويعرف هذا بمراجعة مقدمة
شارح القاموس، فإنه نقل عبارة الزبيدي أيضًا، وفيها مكان الألف في بيان
المهمل والمستعمل (ألف ألف) وإن وجد بها بعض تحريف أيضًا، فكان جديرًا
بالمؤلف أن يزن العبارة بميزان عقله، ويعدلها - إذا شاء - كما عدل الأرقام
التي ذكرها المزهر؛ لتصح له عملية الجمع.
(5) ومن تحريف المؤلف بنقل عبارة المؤلفين ناقصة ما نقله في
ترجمة المتنبي في قوله: (حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان،
وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف
والمناطق، فلما رأى كافور منه سموّه بنفسه وتعاليه بشِعْره خافَه، وقال: يا
قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا يدَّعي المُلك مع
كافور؟ فحسبكم. فأغضبه فخرج أبو الطيب من مصر.
والمتأمل في هذه العبارة يجد أن قول كافور: يا قوم.. . إلخ، مقتضب
مما قبله بل هو تتمة لكلام محذوف، وهو الواقع فإن كافورًا كان وعده بولاية
بعض أعماله، وطمع المتنبي في ذلك، واستنجزه وعده في شعره مرارًا وهو
يماطله، فعاتبه بعض كبار الدولة في مطله عن إبلاغه أمنيته على كثرة مدحه
له وهجرته إليه مغاضبًا لسيف الدولة فقال كافور: يا قوم.. . إلخ.
* * *
عدم تحري الحقيقة والصواب
اعتاد المؤلف أن ينقل إلى كتبه ما يعتقده بذاته، أو ما يكون ذائعًا على ألسنة
عامة القراء والوراقين، أو يقرؤوه في الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها،
من غير تمحيص لحقيقتها؛ حرصًا على إفادة القراء وإتحافهم بالغرائب،
وهو اجتهاد يشكر عليه؛ لولا ما يشوّه بهذه الأخبار محاسن كتبه من حيث لا
يقصد، وربما يلتمس له في ذلك عذر، وهو تسرعه في تأليف الكتب تعجيلاً
لفائدتها، وأن التحري والبحث والتحقيق والتدقيق كلها تستدعي أزمانًا طويلة
ومراجعةً لكثير من الكتب، ومساءلةً لجمهور الأدباء، وهو ما يضيق دونه
وقته الثمين، وعامة القراء يرضيهم ما دون ذلك، والمستفيد يتوخى أربح
الطريقين (وَلِكُلٍّ وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: 148) .
ولكن الرأي الذي نراه أنه ينبغي لكل من تعرض لتدوين التاريخ في
السياسة أو الأدب ألاَّ يكتفي برواية كتاب واحد أو كتابين وبما يذيع على ألسنة
الناس، بل يجب عليه تحقيق الخبر وتمحيصه والأخذ بالرواية القريبة من
العقل، واللائقة بمنزلة من روي عنهم.
ويوجد في هذا الكتاب كثير من الأخبار التي اغتر المؤلف بنقلها من
الكتب ولم يمحصها، فمن بعض ذلك:
(1) نقله عبارة ابن خلكان التي نقلها مثل المؤلف كثير من الناقلين من
أن الأمين جمع بين سيبويه والكسائي في مجلسه للمناظرة، وأن الكسائي
زعم أن العرب تقول: (كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة فإذا هو إياها) .
وأن سيبويه قال: إن المثل: ( ... فإذا هو هي) وأن الأمين تعصب لأستاذه
الكسائي وأوعز سرًّا إلى أعرابي حكَّمُوه في المسألة أن يصوب الكسائي
ويخطئ سيبويه.
مع أن المسألة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ والنحو من أن المناظرة
جرت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وأن الكسائي كان يجيز الوجهين، أي:
(فإذا هو هي) و (فإذا هو إياها) وأن أعرابًا عدة معروفين بعينهم
وأسمائهم شهدوا بجواز الأمرين، وأن الغلبة كانت على سيبويه في هذا المقام،
وليس في العلم كبير. وهذا ما يليق بمقام الكسائي والأمين وثقات رواة
الأعراب.
والقصة مبسوطة بالتفصيل في معجم الأدباء لياقوت ص 191 ج 5 في
ترجمة الكسائي، وفي ص 81 ج6 ولم يكمل طبعه، ولكن ما طبع اطلعت
عليه، وفيه ترجمة سيبويه، وفي ص 366 من بغية الوعاة في طبقات النحاة،
وفي مبحث (إذا) من الجزء الأول من مغني اللبيب لابن هشام وفي غيرها
من الكتب غير المطبوعة، وفي أكثرها إعراب الوجه الثاني من الوجهين
اللذين يجوِّزهما الكسائي، وأن البصريين أنفسهم لا ينكرون صحة شهادة
الأعراب الثقات، وإنما يطعنون فيهم بأنهم من أعراب الحطمة، أي أنهم ليسوا
فصحاء، ولولا طول هذه القصة لأوردتها من كثير من الكتب التي تخالف ابن
خلكان في النقل، وربما اطلع عليها المؤلف ولكنه آثر روايته؛ إما لغرابتها
أو لغرض آخر.
(2) ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة والصواب قوله في
ص 146 في تعداد كتب الواقدي:
-2 - كتاب فتوح الشام: هو أشبه بالقصص منه بالتاريخ؛ لما حواه من
التفاصيل والمبالغات؛ لكنه مؤسس على الحقيقة. وفيه حقائق لا توجد في
سواه من كتب الفتوح، وقد طبع مرارًا إلى أن قال: وطبع أيضًا في مصر
سنة 1882 وغيرها.
ثم بعد أن ذكر عدة كتب له قال:
-7 - عدة كتب في الفتوح تنسب إليه كفتح منف والجزيرة والبهنسا طبعت
بمصر وغيرها، وكان له كتاب يسمى فتوح الأمصار لم نقف عليه، ولكن
المؤرخين نقلوا عنه. وأكثر كتبه محشوة بالمبالغات لا يُعول عليها، وفي مجلة
المشرق البيروتية مقالة انتقادية في الواقدي ومؤلفاته (صفحة 936 سنة 10)
جزيلة الفائدة.
أقول: إني لم أطلع على مجلة المشرق ولا على انتقادها، ولكن الأمر لا
يجهله من له أدنى إلمام بتمييز كتابات العصور المختلفة أو بالتاريخ أن كتب
المغازي التي تطبع في مصر من مثل فتوح الشام ومصر والبهنسا وفتح خيبر
وفتح مكة، ورأس الغول ونحوها ـ هي من الكتب الموضوعة الخيالية المشتملة
على بعض حقائق تاريخية، والأقرب أنها وضعت هي وقصة عنترة وذات
الهمة وغيرها زمن الحروب الصليبية؛ لتغرس في الناس فضيلة الشجاعة
والاقتداء بالسلف الصالح، لا أنها هي نفس كتب الواقدي الحقيقية، وإن الذين
سموها بهذه الأسماء هم جماعة الوراقين والنساخين؛ لترويج سلعهم عند
القراء، كما نسب مؤلف قصة عنترة وروايتها إلى الأصمعي، وزعم أنه عمر
وأدرك الجاهلية وقابل شيبوبًا أخا عنترة، وإني لأخجل أن أرى مثل مؤلفنا قد
انخدع بهذا الباطل، وطوح به الأمر أن قال في كتب الواقدي أبي التاريخ: إنها
محشوة بالمبالغات لا يعول عليها، وليت شعري على من نعول في تاريخ الفتوح
إذا لم نعول عليه وهذا ابن سعد كاتب الواقدي وتلميذه نقل عنه أكثر أخبار الفتوح
في كتابه الكبير طبقات ابن سعد، البالغ بضعة عشر مجلدًا، وهو أصح كتاب
في طبقات الصحابة.
على أن المؤلف لو راجع عبارة بعض هذه الكتب المنحولة للواقدي
وبعض الكتب الأخرى الصحيحة النسبة إليه كفتح إفريقية وفتح العجم؛ لميز
بين الصحيح والموضوع، ولكن قاتل الله العجلة، وخاصة العجلة في
التأليف.
(3) ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة: نقله ما يقول بعض
خصوم الجاحظ من الصفاتية وأهل السنة من أنه كان يقول: إن القرآن المنزل من
قبيل الأجساد، وإنه يمكن أن يصير مرة رجلاً ومرة حيوانًا إلخ إلخ،
والجاحظ أعقل من أن تنسب إليه هذه المقالة وهو من علمت، ومذهب
المعتزلة مبسوط معروف في كتب الكلام، ولم يسمع عنهم هذا القول،
والجاحظ لسانهم وحجتهم والمؤيد لمذهبهم، وإنما أخذ أعداؤه هذا من قوله في
القرآن: إنه مخلوق، أي كما تخلق بقية الموجودات من إنسان وحيوان. وترجمة
الجاحظ ذكرت في كثير من الكتب، وأخصها ترجمة ياقوت في معجم الأدباء،
وهي نحو 25 صفحة، ولا توجد فيها هذه الفرية، ولا أعرف المؤلف
نقلها عن غير الشهرستاني أو عمن نقل عنه.
* * *
التناقض
ناقض المؤلف نفسه في كثير من مواضع كتابه، فمن ذلك:
(1) قوله في صفحة (159) : (ويمتاز ابن الرومي بتفضيله المعنى
على اللفظ كالمتنبي فيطلب صحة المعنى ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ
وقبحه وخشونته، ومع ذلك فإنك تجد في نظمه سهولة ومتانة) .
قرأنا هذه العبارة فتعجبنا من تناقضها ولمحنا في أثنائها رقمًا يشير به إلى
الذيل من أنه أخذ هذه العبارة من العمدة لابن رشيق (ج 1 ص 82) فراجعنا العمدة
فإذا فيها: (ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته ولا يبالي ... ) إلخ.
ولم يذكر العبارة التي زادها مؤلفنا من عنده، فأوقع نفسه في التناقض كما أوقع
قارئ كتابه في حيرة.
(2) ومن تناقض كلام المؤلف قوله في صفحة 123 في تعرضه
لكتاب العين: (ولم ينبغ نحويّ ولا لغويّ ولا أديب في عصر الخليل وما يليه
إلا استفاد من كتابه، ولكن الثقات الباحثين مختلفون في حقيقة نسبته إليه،
وفي صحة ما جاء فيه من الروايات والأقوال، من ذلك ما رواه ابن النديم في
الفهرست عن ابن دريد قال: (وقع في البصرة كتاب العين سنة ثمانٍ وأربعين
ومائتين قدم به وراق من خراسان وكان في ثمانية وأربعين جزءًا فباعه
بخمسين دينارًا، وكان قد سمع بهذا الكتاب أنه في خزائن الظاهرية حتى قدم
به هذا الوراق) .
فأنت ترى من هذه العبارة أن الكتاب اشتهر في عصر الخليل حيث لم
ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصره إلا استفاد منه على زعم المؤلف،
ولكن لا تكاد تفرغ من قراءة هذه الجملة حتى تقع في أن الثقات الباحثين
مختلفون في نسبته للخليل، وفي صحة ما فيه، فليت شعري من هم هؤلاء
الثقات الباحثون؟ أهم جميع النابغين من النحويين واللغويين والأدباء الذين
استفادوا جميعهم منه؟ أم هم غير هؤلاء النابغين؟
وبعدُ فمتى استفاد هؤلاء النابغون؟ والكتاب بشهادة ابن النديم بل بشهادة
كل من كتب في تاريخ كتاب العين لم يظهرإلا بعد موت الخليل بنحو سبعين
سنة، وذلك ما جعل العلماء يشكون فيه، وأنه لو كان للخليل لذاع أمره
وعرفه تلاميذه، ونقلوا عنه، مع أن تلاميذ الخليل مثل الأصمعي وأبي عبيدة
وأبي زيد وتلاميذهم، كل أولئك لا يعرفون عن كتاب العين شيئا، ولكن
مؤلفنا وحده يعلم أنه لم ينبغ نحوي ولا لغوي ولا أديب في عصر الخليل وبعده
إلا استفاد منه، ولله في خلقه شئون.
(3) ومن تناقض المؤلف قوله في صفحة 201 نشأ علم الجغرافية في
هذا العصر (أي: العصر الثاني العباسي) بعد نقل علوم القدماء إلى العربية،
وفي جملتها كتاب بطليموس وعليه معولهم في تقويم البلدان، على أن
المسلمين بدءوا بوضع الجغرافية قبل اطلاعهم على ذلك الكتاب لأسباب غير
التي دعت اليونان إلى وضعها إلخ فإن تمحلنا عذرًا للمؤلف في هذا
التناقض، وقلنا: إنه استعمل شبه الاستخدام البديعي في كلامه فيكون قد ذكر
الجغرافية أولاً بمعنى الرياضية وأعادها ثانيا الجغرافية التخطيطية التي كانت
تسمى علم المسالك والممالك، فلا يصح رفع التناقض من كلام المؤلف أيضًا؛
لأن العرب اشتغلوا بالجغرافية اليونانية قبل العصر الثاني، والمأمون وعلماؤه
ممن صحح أغلاط بطليموس في محيط الأرض وقطرها ومقياس الدرجة
الأرضية.
(4) ومن تناقض المؤلف وتحيره في قوله في أبي العتاهية: (وقد
نظم في كل أبواب الشعر وامتاز منها بالزهد، ويؤخذ من سيرة حياته أنه كان
مترددًا متقلبًا ويغلب ذلك في طباع الشعراء؛ لأنهم أهل خيال وأوهام،
وخصوصًًا الذين يستجْدون بشعرهم، فإنهم يتقلبون مع الأهواء ويسعون وراء
النفع حيثما كان، على أن تمنع أبي العتاهية عن قول الغزل بعد أن أمره به
الرشيد يخالف هذه القاعدة ولكن لعل له سببًا حمله على ذلك.
ما قولك أيها القارئ في هذه العلل التي لو صدقت - لا قدر الله - على
كل شاعر يتكسب بالشعر كأبي العتاهية لتبرمت الدنيا بكثرة المحرورين
والموسوسين المتخبطين، على أن الله أرحم من أن يصدق زعم المؤلف في
الشعراء من عباده، فلم تر بعد أبي العتاهية من يشبهه في سودائه، والحمد لله.
* * *
الاختصار فيما ينبغي الإطناب فيه
(والإطناب فيما ينبغي الاختصار أو فيما هو أجنبي من موضوع الكتاب)
من أعجب أمور المؤلف أنه يعلم ويعلم أن الناس تعلم أنه يؤلف كتابه في
آداب اللغة العربية لا آداب اللغة اليونانية القديمة ولا الفارسية ولا الهندية ولا
السريانية ولا اللغات الأوروبية الحاضرة، ثم نراه إذا خاض في ذكر مبحث
من مباحث الآداب العربية أو عدَّد نبغاءً، أو ذكر ترجمة شاعر نابغ أو كاتب
أو مصنف ـ اقتصر على ذكر نتف قليلة من المبحث، أو اقتصر على العدد
القليل من مشهوري النبغاء، واختصر تراجمهم مكتفيًا بذكر ما لا يلزم الناقد
الأديب وبذكر الكتب التي يراجعها من شاء التوسع، وقد لا تزيد عن كتابين
معروفين لأكثر الناس لا حاجة للدلالة عليهما، على حين أنه يطول في كثير من
المواضع حتى ليكرر كثيرًا من المباحث في غير مكانه لمجرد ولعه وإعجابه، بل
يخرجه ولعه بالشيء أن يُدخل في كتابه مباحث مطولة جدًّا ليست من
موضوع آداب اللغة العربية وتراجم أناس ليسوا من العرب، ولا خالطوا
العرب، فمن النوع الأول:
(1) اختصاره في تراجم مشهوري الشعراء، واقتصاره منها على ذكر
نتف جافة قلما يتعرض فيها لنقد أو موازنة أو تقرير حكم معتذرًا عن ذلك بأنه
ليس من الأدباء المتفرغين للدرس والنقد، قال في صفحة 58 عند ذكر سبعة
من شعراء العصر الأول:
(وإليك تراجمهم على هذا الترتيب بما يقتضيه المقام من الإيجاز، وإلا
فإن كلاًّ منهم يحتاج في بسط ترجمته إلى مجلد قائم بنفسه، فنترك ذلك إلى من
تفرغ للدرس والنقد من الأدباء) .
ونحن نسلم معه أنه ليس من المتفرغين للدرس والنقد من الأدباء، ولكن
لا نسلم أن من لم يتفرغ للدرس والنقد من الأدباء يوثق بقوله، أو يعتد برأيه
في هذا الباب، أويظن أنه باختصاره آثر الأهم على المهم، وأيّ مقام يفرض
عليه الإيجاز الخالي من الحكم الأدبي، والكتاب ليس مذكرة مدرسية تنطبق على
برنامج مدرس مختصر، وإنما يقصد المؤلف به أن يكون مرجعًا لجمهور المتأدبين
من القراء الشداة لا التلاميذ الأحداث، بدليل أن حضرته وعد في كتابه هذا
أن يختصر منه ملخصًا لتلاميذ المدارس، على أن الذي يستطيع أن يؤلف مجلداً
في ترجمة شاعر لا يعجزه أن يلخص هذا المجلد في صفحة أو اثنتين بحيث يشير
في كلامه إلى نتيجة البحث والنقد.
(2) ومن اختصاره أو اقتصاره ـ أو تقصيره ـ أنه لم يترجم لأحد
من كُتاب الرسائل في العصر الأول ولا الثاني، أي في مدة مائتي سنة وهما
عصرًا البلاغة والجزالة، إلا لاثنين، أحدهما عمرو بن مسعدة، والآخر القائد
طاهر بن الحسين فاتح بغداد، وقاتل الأمين، ووالي خراسان، وقد علمت أنه
ليس من كتاب الرسائل ولا عمل في ديوان.
مع أن كتاب الرسائل في هذين العصرين لا يقل النابغ منهم عن عشرين
تولى أكثرهم الوزارة، أو ديوان الرسائل والتوقيع والخاتم، كعمارة بن حمزة
وأبي عبيد الله ويعقوب بن داود وزيري المهدي وخالد بن برمك وابنيه الفضل
وجعفر وأحمد بن يوسف وزير المأمون، وابن الزيات وإبراهيم الصولي
والحسن بن وهب، وسليمان بن وهب، وسعيد بن حميد وابن مكرم وأحمد
ابن إسرائيل والحسن بن مخلد، وبني المدبر، وآل ثوابة، وآل الفرات، وآل
الجراح وابن مقلة، وغيرهم ممن تزينت كتب الأدب ببارع كتبهم، وطلعت
أهلة البلاغة من خلال فصولهم، وليسوا بالمجهولين فيجهلهم المؤلف، ولا المدفوعين
عن تقدم فيلوي عنهم عنانه.
(3) ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الجرمي من نحاة العصر الثاني مع
ترجمته لابن ولاد وأبي جعفر النحاس وغيرهما، ومكان الجرمي في النحو لا
يجهل.
(4) ومن تقصير المؤلف إهماله ذكر الأوزان والقوافي التي طرأت على
الشعر في جميع العصور التي ذكرها كالمواليا والدوبيت وأبحر المولدين
والشعر المزدوج والمسمط والتعريف بقائليها، واكتفى بنبذة يسيرة في
الموشحات في العصر الثالث.
ومن النوع الثاني، أي: التطويل في غير موضعه، بل إدخاله ما ليس من
موضوع الفن فيه أو ما ليس من موضوع هذا الجزء الثاني الخاص بالعصر
العباسي:
(1) تخصيصه اثنتي عشرة صفحة من كتابه لموضوع أجنبي من
موضوع آداب اللغة العربية بالمرة، وهو آداب اللغة اليونانية وأطوارها
وتراجم مستقلة بصور كبيرة لفلاسفة اليونان كسقراط، وأفلاطون وأرسطو وأبقراط
وإقليدس وأرشميدس وجالينوس وآداب اللغة الفارسية وأطوارها، وآداب اللغة
السريانية وأطوارها وآداب اللغة الهندية , نقل هذه المباحث من دوائر المعارف
ووضعها في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي لأقل مناسبة ثم نقلها هنا بلا مناسبة،
وكان الأولى بالمؤلف أن يحل محلها كُتاب الدولة العباسية وهم فحول البلاغة
وقادة الكلام.
(2) ومن ذلك إسهاب المؤلف في شرح الأدب والإنشاء عند الإفرنج
ص 276 مع أنه ليس من غرض كتابه.
(3) وذكره لبعض قادة الإفرنج الخرافية ووضع صور خرافية لحروب
الإسكندر المقدوني مع أمم لهم ست أيدٍ وأمم لهم وجوه بهائم.
(4) ومن التطويل: أو من الإخلال بالنظام: وضع الكلام في مبحث تأثير
القرآن الكريم في اللغة العربية في هذا الجزء، وكان من حقه أن يدرج في
الجزء الأول.
(5) ومن التطويل: تكرار الكلام في موضعين أو ثلاثة لغير موجب مثل
وصف التهتك والخلاعة، ذكره في الشعراء، ثم أعاده بعينه في الشعراء ص 50.
(6) ومن التطويل في غير موضعه: نقل القصة المطولة التي تُحكى
عن عبد الملك من أنه قال لجلسائه يوما: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه
وله ما شاء؟ وأن سويدًا ذكر من كل حرف كلمة ثم ثلاث كلمات، وأن هذه
القصة وما سيقت لأجله، وقد بلغت نحو صفحة، كان حقها أن توضع في
حالة اللغة في بني أمية لا أن تذكر في علم اللغة في بني العباس.
(7) ومن ذلك ذكره حالة الغناء في الدولة الأموية، ضمن مقالة
الموسيقى والغناء في الدولة العباسية، وكان من حقها أن توضع في الجزء الأول.
* * *
الاستدلال بحادثة جزئية على أمر كلي
اعتاد المؤلف في كتبه أن يستنتج من حادثة جزئية أمرًا كليًّا، وهذه
الخصلة من أكثر ما ينعاه عليه النقاد، وقد عمل بها في كتابه هذا غير مرة
كقوله في صفحة 78 في ترجمة سلم الخاسر.
وكثيرًا ما كان يأخذ أقواله ـ أي أقوال بشارـ فيسلخها ويمسخها كما مسخ
هذا البيت:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فجعله:
من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذة الجسور
فبلغ بيته بشارًا فغضب وأقسم ألا يدخل عليه ولا يفيده ما دام حيًّا
فاستشفع إليه بكل صديق حتى رضي ... إلخ.
فكل من تتبع ترجمة سلم الخاسر في مظانها لا يجد من سرقته لشعر بشار غير
هذا البيت، وهو وحده سبب الغضب.
وقوله في صفحة 167 في ترجمة الجاحظ وذكر إصابته بالفالج ولزومه
بيته بالبصرة وكان قد اشتهر وذاع صيته في العالم الإسلامي فتقاطر الناس لمشاهدته
والسماع منه فلا يمر أديب أو عالم بالبصرة إلا طلب أن يرى الجاحظ ويكلمه.
فليتفضل علينا المؤلف ويذكر لنا أديبين أو ثلاثة من هؤلاء غير ذلك الوالي
البرمكي المصروف عن ولايته بالسند الذي جعل ذهبه في أشكال الإهليلج إن جاز
له أن يدعي أنه كان أديبًا عالمًا.
ومن هذا القبيل شيء كثير في الكتاب.
***
تقليده مستعربي الفرنجة حتى في الخطأ
للمصنف ولع بنقل ما يكتبه المستعربون عن العرب وآدابهم، ولو خالف
الواقع، ومن ذلك نقله فصولاً برمتها مشوبةً بالخطأ من كتاب نيكلسن
الإنكليزي، وبروكلمان الألماني مثل مقالة الشعر في العصر الأول وغيرها.
* * *
اضطراب التبويب والتقسيم
إن بعض مقرظي هذا الكتاب وصفه بأن أهم ما يمتاز به عن كتب
المتقدمين هو حسن تبويبه وتقسيمه، ولكني لسوء حظي لم أوفق إلى سر
تبويبه وتقسيمه لهذا الكتاب؛ إذ أجد ما يصلح أن يذكر في تاريخ الآداب وما
يلزم أن يوضع في كتب آداب الفرنجة وضع في أدب العرب، وما ينبغي أن
يجعل في عصر ظهور الإسلام جعل في عصر بني العباس، ومن يجب أن
يترجم له في عصر معين أو طائفة بعينها ترجم له في عصر غير عصره أو
طائفة غير طائفته إلخ إلخ، بحيث تضطرب المباحث وتتداخل العصور
ويلتبس الأمر على القارئ فلا يدري خاصة كل عصر، فمن ذلك:
(1) ذكر القرآن الكريم والعلوم التي تفرعت منه وبيان تأثيره في آداب
الجاهلية من الخطابة والشعر والإنشاء واللغة وبيان تأثيره من الوجهة الاجتماعية
والأخلاقية، مع أن محل ذلك مبدأ ظهور الإسلام؛ إذ هو وحده مبدأ هذه التفريعات.
(2) ابتداء المؤلف هذا الجزء بالكلام المسهب في العلوم الدخيلة
وتراجم رجال اليونان وتأخيره الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية عن
موضعها مع أنها هي المباحث العربية الأَََولى بالتقديم؛ لأن الكتاب صنف في
آداب اللغة العربية لا الدخيلة، ولو سلمنا أن للمؤلف سرًّا في تقديم الدخيلة،
فما هو السر في أنه أخرها عن الشعر العربي والعلوم العربية والشرعية في
العصر الثاني والثالث؟
(3) إسهابه في صفحة 119 و 120 في حالة العناية بأمر اللغة في
زمن بني أمية، وكان الأليق أن يذكرها في الجزء الأول الخاص بآداب
الجاهلية وعصر الخلفاء الراشدين وبني أمية.
(4) إسهابه في الكلام على الأغاني في عصر بني أمية في هذا الجزء
الخاص ببني العباس، ومن حقه أن يذكر في الجزء الأول.
(5) ذكره أن احتدام الخلاف بين النحويين: الكوفيين والبصريين
حصل في العصر الثاني وما بعده من عصور الدولة العباسية، والحقيقة أن الخلاف
أشد ما كان بين كوفي وبصري قد كان في العصر الأول. وأما الثاني والثالث
وما بعدهما فقد هان فيها الخلاف ووجدت مذاهب ملفقة من المذهبين، فكان
الأولى ذكر هذا المبحث المسهب في العصر الأول.
(6) ومن ذلك تأخيره الكلام في نشأة علم الفرائض إلى العصر الثالث
مع أنه قديم دُوِّنَ منذ دُوِّنَ الفقه، فكان الواجب ذكره في العصر الأول.
(7) ومن ذلك ذكره عددًا كثيرًا من الشعراء، والعلماء المصنفين من
أهل عصرين، العصر الذي يليه أو الذي قبله، ويعلم ذلك من وفياتهم، فلينتبه
القارئ، ولولا أني سئمت من كثرة التعداد لأتيت عليهم جميعًا، وكثيرًا ما يذكر
المؤلف علماء فن مع علماء فن آخر وشعراء نوع في شعراء فن آخر، وإن
شاء المؤلف أن نفصل له هذا الإجمال، ونذكر من هم الذين عاملهم بهذه المعاملة
فنحن على كتب من إجابته.
* * *
تهافت المؤلف
للمؤلف تهافت وولع بالشيء لا يؤبه له أو بالأمر يناسب مقامًا خاصًّا فيقحمه في
كل مقام، كما فعل هذا في كتابه هذا وغيره في مواضع شتى فمن أمثلة ذلك:
ولعه بمسألة النشوء والارتقاء يقيس بها كل أمر حتى خرج به القياس
إلى عكس ما يراد بها، فذكر في هذا الكتاب صفحة 221 أن اضطراب الخلافة
الإسلامية وانحلالها إلى إمارات وممالك صغيرة متنافسة متشاكسة من دواعي النشوء
والارتقاء، في حين يعده المؤرخون من دواعي الانقراض والفناء، كما هي النتيجة
الحقيقة التي أعقبت هذا الانشعاب، فذلك حيث يقول: فلما اضطربت أحوال الخلافة
في أيام المتوكل ثم نشأت الدول الجديدة في المملكة الإسلامية بالتفرع والتشعب
على مقتضى ناموس الارتقاء تفرق العلماء 000000 إلخ إلخ.
ثم ناقض قوله هذا بقوله في العصر الثاني، أي الذي كان بعد أن
اضطربت الخلافة وحدث الارتقاء، على زعمه: حدث في العصر العباسي
الأول نهضة علمية أعقبها في العصر الثاني فتور على أثر البحران السياسي
الذي أخذ من نفوس رجال الدولة حتى اشتغلوا بأنفسهم عن تنشيط العلم، ثم
ذكر أن بعد هذا الفتور حدثت نهضة لم يبين سببها، وقال: والفاعل في هذه
النهضة ناموس النشوء الطبيعي إلخ. ومن مثل هذه المسألة كثير في الكتاب.
* * *
اللحن والأغلاط اللغوية
لا تكاد تمر بالقارئ صفحة من الكتاب إلا مشتملة على خطأ لفظي إما
في النحو أو الصرف أو اللغة، وكان يجدر بالمؤلف أن يعرض كتبه على ناقد
بصير بصناعة الإعراب حافظ لمستعمل اللغة حتى لا يرذل كتبه النفيسة بهذه
الأغلاط الشائنة.
وإذا كانت هذه الأغلاط تعد بالعشرات بل المئات لا نرى من الواجب علينا
شحن عجالتنا هذه بشيء منها، ولكننا لا نتأخر عن إجابة حضرة المؤلف
إذا أراد تصحيح كتابه مرة أخرى بتعدادها له في فرصة من فراغنا إن سنحت.
* * *
النتيجة
إن الكتاب على ما فيه من مواضع النقد لا يخلو من منافع في موضوعه
وغير موضوعه ونشكر حضرة المؤلف على اهتمامه بخدمة العلم ونسأله
مسامحتنا فيما كتبنا اقتداءً به أو مساعدة له على هذه الخدمة لا غير، وحسبنا
الله ونعم الوكيل.
__________
(*) بقلم الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري.(16/41)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية [*]
(1)
(مقدمة وتمهيد)
من الناس من يكتب ليعجب الناس بما يأتي به من زخرف القول،
ومنهم من يكتب ليرضيهم بما يبديه من حسن الرأي، فهذا يفترض حوادث الزمن،
وذاك يرتقب سوانح النكت، ليحل كلامهما محل القبول، ويصيب مواقع
الاستحسان من القلوب، ونسأل الله أن لا يجعلنا منهم.
ومن الناس من يكتب لأجل النفع، بإزالة باطل أو إظهار حق، أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يتخول الناس بالموعظة، ويتخونهم بالكشف
عن مكامن العبرة.
ونرجو الله أن نكون من هؤلاء في الدنيا وأن نحشر معهم في الآخرة.
تساءل بعض الناس لمَ كتبتُ تلك المقالات الطوال في المؤيد حين أُوقدت
نار الحرب في طرابلس الغرب وبرقة، ولم أكتب فيه شيئًا في إبان هذه الحرب،
وهي أدهى وأمرّ، وأنكى وأضر؟ ولو تذكروا تلك المقالات لعلموا أنها كتبت في
شأن هذه الحروب وكون تلك المقدمات لها، أي أنها فتح لباب المسألة
الشرقية وتصدٍّ من أوربة لحل هذه المسألة، والقضاء المبرم على ما بقي للمسلمين
من هذه الدولة، فلو وعاها إخواننا المسلمون ووزنوها بميزانها لفكروا في مستقبلهم،
واجتمع أهل الرأي منهم في كل مكان للبحث عن مصيرهم، ولم يرضوا أن تبقى
مصلحتهم العامة في أيدي بعض سفهاء الأحلام، الذين لا يملكون هنا إلا البذاء في
الكلام، وتضليل العامة بالوساوس والأوهام، وكان من ضررهم ما كان، فكيف
بحال أمثالهم في عاصمة الدولة، وقد ملكوا مع هذا كل شيء فدمروا كل شيء.
إنني - وايم الله - لأكتب من أجل الإفادة والنفع، وما اكتفيت في أيام هذه
الحرب بما كتبت في المنار، وأمسكت عن الكتاب [1] في الجرائد اليومية -
وأولاها بما أكتب في هذه الحال: المؤيد - إلا لأنني أرى أن هذه مثل البلاد لا
تستطيع أن تنفع الدولة الآن إلا بالمال. وقد انبرى لجمعه لها أمراؤها فخَفَتَ
لصوتهم كل صوت، وقصر عن قولهم كل قول، وتضاءل دون سعيهم كل
سعي، جزاهم الله أفضل الجزاء، وحسبي من شرف مشاركتهم في ذلك ولو بالاسم
أنني عضو في جمعية الهلال الأحمر فلم يبق من طرق نفع الكلام في هذه الحرب
إلا بيان ما فيها من العبر، وما أدى إليها من الأسباب وما يلزم عن تلك المقدمات
من النتائج، وهذا ما كنت أتربص به أن تضع الحرب أوزارها، لئلا يقال: إنه
ابتسر العبرة فجاءت قبل أوانها، كما قال بعض أصدقائي في مقالة نشرتها في
المنار.
أما وقد عقدت الهدنة، وعين المفوضون للبحث في شروط الصلح، وقد
ثبت خيانة وفساد الاتحاد والترقي للدولة ثبوتًا رسميًّا، وعلم الخاص والعام،
أنها هي علة حرب طرابلس وحرب البلقان، فقد جاء الوقت الذي يرجى أن
ينفع فيه القول، ويخشى أن يضر السكوت، وترجح المقتضي على المانع.
قد كان يكون من موانع الكتابة قلة وجود المتدبرين الذين يميزون بين قول الحق
ويعرفون أهله بأدلتهم وسيرتهم، وبين أقوال المبطلين الذين يغشون الأمة ويغرونها
بتأييدهم للأقوياء الذين ينتفعون منهم، فقد كان زعماء الحزب الوطني
هنا يغشون الناس بالسلطان عبد الحميد الذي باعوه ذمتهم بالرتب والنياشين
والدراهم والدنانير حتى كان بعض زعمائهم يجعل الشهادتين في الإسلام
ثلاثا فأوجب على من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله،
أن يثلث فيقول: وأشهد أن السلطان عبد الحميد خليفة الله. ولولا هذا
التثليث لما انتقل من لقب أفندي إلى لقب بك. ومنه إلى لقب باشا، وما زالت
جريدة اللواء تغش المسلمين عامة والمصريين خاصة بعبد الحميد مدة حياة
مؤسسها وبعد موته إلى ما قبل إعلان الدستور بيوم واحد؛ إذ كتب فيها يوم
الأربعاء طعن شديد في طلاب الدستور من العثمانيين ورمي لهم بأنهم يريدون به
هدم الدولة، وأنبأتنا البرقيات بإعلان الدستور يوم الجمعة.
فلما سقط عبد الحميد ونزا على الدولة بعده أولئك الأغيلمة المتخرجون
في ملاهي غلطه وبيوغلي وسلانيك وباريس، وأفسدوا كثيرًا من ضباط
الجيش، وجعلوا بقوتهم الدستور آلةً لتفريق عناصر الدولة وذريعة لمحو
اسمها من لوح الوجود، قام أنصار عبد الحميد هنا وفي بلاد أخرى ينصرون
هؤلاء المتغلبين المخربين، ويغشون الأمة بهم كما كانوا يغشونها به وأشد،
وكان يصدقهم في إطرائهم كثير من الناس مع بيان جرائد الأمم كلها لمفاسدهم،
بل مع ظهور هذه المفاسد بالفعل، إلى أن أبكم الله ألسنتهم قبل ثبوت خيانة
مستأجريهم للدولة ثبوتًا رسميًّا، وتنكيل الحكومة السلطانية بهم وتمزيقها
لشملهم، ولعله لو بقي لهم لسان ينطق، وقلم يكتب وينشر، لم يخجلوا من
الاستمرار على التمويه والتضليل، إذا كان أملهم بعودة الجمعية إلى استبدادها
باقيًا، أو إمدادها لهم لا يزال متصلاً، ويا حسرتى على شبان هذه البلاد،
الذين خدع كثير منهم بهؤلاء المفتونين بالمال والشهوات والشهرة الباطلة والأوهام
المضللة.
نعم إن رواج التغرير والتضليل في سوق السياسة وقلة التمييز بين المحق
والمبطل، والصادق والكاذب، قد يكون مانعًا من التصدي للكتابة لولا أن الله
أوجب النصح وبيان الحق، وحرم القنوط واليأس، وجعل العاقبة للمتقين.
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
(جمعية الاتحاد والترقي)
إنني أعرف من أمر هذه الجمعية ما لا يعرفه أحد في القطر المصري، وقد
بلوناها واختبرناها في الآستانة مدة سنة كاملة، رأيت من زعمائها وسمعت من
ألسنتهم ورويت عنهم بالأسانيد العالية المتصلة بهم، ما لا يتفق مثله إلا لقليل
من الناس، ثم أيدت أحاديث جرائد العالم وحوادث الدهر ووقائعه ما
علمته عنهم، فأنا أروي ما تؤيده الأحاديث والحوادث، وأستخرج العبرة منه
ليعلم أولو الغيرة على هذه الدولة التي لم يبق للمسلمين غيرها أين مكانتها،
وما هو الخطر الذي ينذرها، لعل ذلك يكون مما يستبين به أولو الرأي ما يجب
لحفظ سلطة الإسلام، المهددة بالزوال والانقراض والعياذ بالله.
أبدأ بذكر أهم الوسائل التي شرع الاتحاديون فيها ولا أذكر مقصدهم الذي
يتوسلون إليه بتلك الوسائل الآن؛ لأنه لا يصدقه غير العارف بحقيقة أمرهم،
إلا إذا اطلع على المقدمات والوسائل التي أذكرها؛ لأنه مقصد غريب في نفسه.
... ... ... ... أعمال الاتحاديين
التي كانت مقدمات الخذلان في الحرب
(إزالة قوة المسلمين غير الترك من الدولة)
أول ما قرر زعماء هذه الجمعية البدء به من الأعمال، بعد ما عنوا به من
جمع الأموال بضروب من القوة والاحتيال هو إزالة كل قوة في هذه الدولة.
حدثني غير واحد في الآستانة من الترك وغير الترك من العثمانيين
وبعض الأجانب والعارفين بأمور الدولة أن من برنامج جمعية الاتحاد والترقي أن
تجمع السلاح من الأرنؤط وتضربهم ضربة شديدة، ثم تجرد جيشًا آخر أو
جيوشًا لضرب العرب في اليمن وعسير، وعشائرهم وعشائر الدروز في
حوران وجنوب بلاد الشام ثم العراق، وتجمع السلاح من الجميع، وسأذكر ما قرر
في شأن طرابلس بعد، وبعد هذا وذاك تجرد جيشًا آخر على الأكراد تذللهم وتجمع
السلاح منهم، فإذا هي جمعت السلاح وأخضعت لهيبتها أولي القوة والبأس من
المسلمين، يسهل عليها أن تنفذ مقصدها بلا معارض ولا منازع.
قررت جمعية الاتحاد والترقي تنفيذ هذه المادة من برنامجها ولم تفكر في
عواقبه، لم تفكر في عجز الدولة عن حماية هذه البلاد إذا كانت مجردة من
القوة الذاتية، ولم تفكر فيما تخسره في قتال هذه الممالك من الأموال التي تأخذها
من أوربة بالربا الفاحش، ومن الجنود المنظمة التي تحتاج إليها للدفاع عن الدولة
وحفظ سلطانها، ولا فيما ينشأ عن هذا القتال من الفتن، وتفرق عناصر الدولة
وانحلال روابطها.
بدأت الجمعية بقتال الأرنؤوط وأنا في الآستانة فبذل مبعوثو هذا الشعب
جهدهم في إصلاح حال الجمعية بأن يتوسلوا إلى حل مسألة الأرنؤط بالنصح
والسلم فلم يقبلوا، وأظهروا الاحتقار بهؤلاء المبعوثين حتى أنهم صفعوا
إسماعيل كمال بك الزعيم الشهير في مجلس الأمة، ومن غرائب صنعهم أن
جمعوا ما قدروا على جمعه من سلاح المسلمين ولم يعيدوه إليهم، ولكنهم
أعادوا السلاح إلى الماليسوريين لأنهم نصارى، فانظر كيف كان عاقبة أمرهم،
وكيف ظهر أنه يجب عليهم أن يسلحوا جميع مسلمي تلك البلاد ويدربوهم
على الفنون العسكرية لأجل الدفاع عنها، ويؤلفوا منهم عصابات كعصابات البلغار
وغيرهم، ولو فعلوا ذلك لنفع الدولة في هذه الحرب نفعًا عظيمًا.
ثم فعلوا فعلتهم في اليمن وعسير، وفي الكرك وحوران، فقد جردوا لقتال
المسلمين في هذه البلاد زهاء مائة ألف جندي من أحسن جنود الدولة النظامية
أو أحسنها على الإطلاق، قتل منهم في اليمن ألوف كثيرة وبقيت مسألة اليمن كما
كانت. ولكن خربوا بلادًا كثيرةً منها ومن بلاد الكرك وحوران ولم تستفد الدولة في
مقابلة هذا التخريب والخسران شيئًا، ولو تم لهم ما أرادوا من جمع السلاح من بلاد
اليمن لاستولت عليها إيطالية في السنة الماضية وقتلت من فيها من العسكر؛ لأن
الدولة ما كانت تستطيع أن ترسل إليها مددًا، ولو ظل أولئك الجنود في معسكرهم
لرجحت الدولة على البلقانيين بهم.
والآن يتحدث الناس فيما ذكرته الجرائد الفرنسية عن سورية ومصالح
دولتها فيها، والظاهر أن المراد به اختبار رأي الدول في أمر استيلائهم عليها،
وقد عرف بالقياس على مسألة طرابلس الغرب ومسألة البلقان أن الدولة لا
تقدر على حفظ سورية إلا إذا كان فيها قوة ذاتية تخشى الدول العظمى بأسها،
ولا يمكن أن تأتي هذه القوة من الرومللي ولا من الأناضول، بل يجب أن
تكون مؤلفة من الجند النظامي والاحتياطي الذي فيها، ومن قبائل العرب
والعشائر الوطنية والمجاورة، وهؤلاء هم الذين يخشى الأجانب من جانبهم إذا
كانوا مدربين على القتال ما لا يخشونه من الجند الرسمي؛ لأن قتالهم يكون
بالمطاولة لا بالمناجزة، فالخسارة فيه عظيمة، وإنما هؤلاء الأجانب تجار
يطلبون الربح من أقرب طرقه، وأشدهم اتقاء للقتال أعظمهم توغلاً في
الاستعمار كإنكلترة وفرنسة.
ولعل إيطالية لا تعود إلى مثل غلطها في طرابلس الغرب، بل أظن أن
البلغار قد ندمت على تهورها في طلب أمنيتها على ما أتيح لها من الظفر
بتخاذلنا وإهمالنا، وأنها لا تعود إلى مثله.
ظهر ضرر هذا العمل السيئ الذي شرع فيه الاتحاديون، وظهر أنه كان
الواجب المحتم أن يعملوا ضده، وأن يجعلوا في كل قطر من هذه الأقطار قوةً
أهليةً تساعدها الدولة وتؤهلها للدفاع عن قطرها، فهل يعتبر الناس بهذا
ويسعون للواجب من جميع الطرق، هل يعتذر عنه الاتحاديون ويندمون عليه،
هل يسكت عن الاعتذار لهم مأجوروهم والمغرورون بهم؟
كلا إننا قرأنا في جرائد أمس أن زعماءهم لا يخجلون من الإصرار على
التبجح بقتال الدولة - أو الحكومة الاتحادية - للأرناؤوط، وإن ظهر أن ذلك
كان مصابًا كبيرًا على جمعيتهم من جهة، وعلى الدولة نفسها من جهة أخرى،
وهاك شاهدًا مما نقلته إحدى جرائد الآستانة عن أحد زعماء الجمعية الذين
فروا في هذه الأيام إلى أوربة:
كتب صاحب جريدة أقدام التركية من سويسرة إلى جريدته في الآستانة
يقول: إنه قرأ في جريدة بسترلويد حديثًا دار بين مكاتب هذه الجريدة مسيو
رالي وبين جاويد بك أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان ناظر
المالية في أهم وزاراته، سأل ذلك المكاتب جاويد بك عن أسباب انكسار
الجيش العثماني وخذلانه في البلقان، فكان الجواب بعد مقدمة فيما ينقص
الجيش وفي معداته ما خلاصته:
(إننا كنا هيأنا كل شيء وأنفقنا على ذلك أربعين مليون ليرة في السنوات
الأربع الماضية، ولقد ظهر كل هذا في تجهيزنا الحملة على بلاد الأرنؤوط
ومحاربتنا لتلك البلاد، أما أسباب فشلنا العظيم فترجع إلى تنظيم رجال جدد لم
يطلعوا على الترتيبات) .
فليتأمل العقلاء كيف اعترف الزعيم الاتحادي الذي كان ناظرًا للمالية
بأنهم صرفوا على الجيش أربعين مليون ليرة، وكيف يتبجح بأن ثمرة تنظيمهم
للجيش وإنفاقهم عليه قد ظهرت في قتالهم لطائفة من رعية الدولة المخلصة لها،
أهذه هي غاية استعداد الدولة الحربي أيتها الجمعية الدستورية المصلحة؟
أتعدون منتهى شوطكم أن تأخذوا أبناء الأمة وأموالها وتحملوها الديون التي
تذلها للأجانب لأجل أن تقاتلوها به وتذلوها وتدمروا بلادها؟ ألا فليعتبر المعتبرون،
أو ليأتينهم العذاب وهم ينظرون.
(2)
تهييج عصبية العناصر العثمانية
كان الناس يفهمون من اسم جمعية الاتحاد والترقي أنها جمعية غرضها
أن تجعل بين العناصر العثمانية وحدة سياسية اجتماعية بالمساواة بين الترك
وغيرهم في الحقوق الشخصية والحقوق العامة كمناصب الدولة ووظائفها، وأن
هذا هو المراد من كلمة الاتحاد الذي يتبعه الترقي في العمران، وما يتوصل به
إليه من العلوم والفنون. فلما صار النفوذ في هذه الجمعية لأمثال الدكتور ناظم
وطلعت وجاويد ورحمي وجاهد وأضرابهم، ظهر للباحثين، والمطلعين من
العثمانيين والأجانب أن مرادهم بالاتحاد أن تدغم العرب والأرنؤوط والكرد وغيرهم
في الترك، وتفنى لغاتهم وجنسياتهم فيهم فيكون جميع العثمانيين تركًا.
كنا في طليعة مَن كتب في هذه المسألة ببيان فوائدها وغوائلها ومقاصدها،
ووجوب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ومن أوسع ما كتبناه في
ذلك بيانًا مقالة فلسفية اجتماعية عنوانها: الجنسيات العثمانية واللغات
التركية والعربية، نشرت في منار رجب سنة 1327 أي بعد الدستور بسنة
واحدة، بينا فيها بالدلائل والحجج القيمة أن محو جنس من البشر بإدغامه في
جنس آخر قد صار في هذا العصر محالاً، وأن الدولة العثمانية لا تستطيع أن
تجعل غير الترك فيها تركًا، وأنها لو كانت تستطيعه لعذرتها عليه سياسة لا
دينًا، لأنني وأنا مسلم أرى أن الإسلام لا حياة له إلا بحياة اللغة العربية،
وإنما حياتها بجعلها لغة الخطاب والعلم عند أهلها، ولكن زعماء الجمعية
المغرورين الأغرار كانوا يرون أنفسهم قادرين على المحال.
لا عجب ولا غرابة في الأمر، فإن أولئك الزعماء إذا لم يسمعوا حجج تلك
المقالة ولم يشعروا بها فقد كان لهم على غرارتهم مانع من نشوة الغرور بخضوع
العثمانيين لهم، وتقديسهم لجمعيتهم، وإفاضتهم الدنانير والدراهم عليهم، ومن سكر
الإعجاب بثناء الجرائد الأوروبية على رجال الانقلاب العثماني، وإن كان المستحق
لهذا الثناء هو صادق بك والضباط الذين اتبعوه من دونهم، ولكن العجب والغرابة
في استمرار أكثر العثمانيين على الاغترار بهم بعد السنة الأولى للانقلاب، وأعجبه
وأغربه ما كان من العرب الذين لم يهتم بهم الاتحاديون بشيء اهتمامهم بمحو لغتهم
وإزالة جنسياتهم، أو إضعافها وإنهاك قواها ليستريحوا من إدلالهم بالكثرة والدين
الذي يخيفهم منه على السلطة التركية ما في كتب العقائد وكتب الحديث من كون
الخلافة في قريش والأئمة منهم، وإن لم ينازعهم العرب في جعل الخلافة فيهم.
وكل ما يوجد من هذا القبيل فيما نعلم أن بعض أصحاب الدسائس والمطامع
في مصر كانوا يستغلون وسواس السلطان عبد الحميد فيوهمونه أن للعرب
جميعة أو جمعيات تسعى للخلافة سعيها، فكان بعضهم يرسل التقارير السرية
إلى المابين في ذلك حتى تجرأ مصطفى كامل على الجهر بالإرجاف بهذه
الفتنة في لوائه، في أول العهد بإنشائه، وكبر الوهم فيها وعظمه بزعمه أن
بعض الأمراء يساعد هؤلاء الساعين على سعيهم.
وقد أنكرنا على اللواء الإرجاف بهذه الفتنة في المجلد الثاني من المنار
فكان إنكارنا هذا هو السبب الأول في طعن ذلك الرجل وأخلافه فينا (كما أنكر
المؤيد عليه ذلك مرارًا) .
فلما زالت سلطة عبد الحميد ودالت الدولة لفتيان الترك الأحرار الذين كنا
نسعى معهم سعيًا واحدًا إلى إزالة الاستبداد السابق ظننا أننا استرحنا من
الدسائس التي يروجها المفسدون في سوق الوساوس، ولكن رأينا زعماء
جمعية الاتحاد والترقي لم يدعوا سيئة من سيئات العهد الحميدي إلا وأعادوها
جذعةً، فهم بعد أن أرسلوا مفتشيهم وجواسيسهم إلى جميع البلاد العربية حتى
الحجاز فلم يروا من العرب إلا الإخلاص الكامل للدولة، ولم يشموا في بلادهم
أدنى رائحة لشيء يسمى الخلافة العربية، وبعد أن أغروا شريف مكة بابن
سعود، وإمام اليمن بالسيد الإدريسي، وليس عند العرب قوة حربية تذكر إلا
ما عند هؤلاء، وبعد أن رأوا جميع كتاب العرب في مصر وسورية والعراق
يثنون عليهم ويدافعون عنهم، وليس عند العرب قوة أدبية إلا ما عند هؤلاء،
بعد هذا كله رجحوا سعاية المفسدين من البراهين الحسية، وأصغوا إلى
المرجفين بالخلافة العربية، فتقرب شياطين العهد السابق وأخلافهم إليهم، إذ
رأوهم يحسبون كل صيحة عليهم، وعاد محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز
شاويش إلى مثل إرجاف سلفهما مصطفى كامل بهذه المسألة فأعادوها في
جريدتهم (العلم) سيرتها الأولى في جريدته (اللواء) .
ولما كان الشيخ عبد العزيز شاويش أشد غلوًّا وتهافتًا من مصطفى كامل،
لم يكتفِ باتهام جماعة الدعوة والإرشاد بهذه التهمة، بل طعن في جميع مسلمي
العرب فكتب في جريدة (العلم) أن الدولة العلية لا يخشى عليها من البلغار ولا
من الروم ولا من الأرمن ولا من نصارى العرب، وإنما يخشى عليها من مسلمي
العرب خاصة.
ولأجل هذا الغلو قربته جمعية الاتحاد والترقي منها، وجعلته من دعاتها
وأعوانها، وأنشأت له مطبعة وجريدة يومية في الآستانة كانت تنفق عليها من
مال الحكومة زهاء 350 جنيها عثمانيًّا في كل شهر.
ثم جاءت الحوادث تكذب هذا الإرجاف؛ فإن الحكومة الاتحادية حاربت
عرب اليمن، ونكلت بعرب حوران والكرك، وعَرَّضَتْ عرب طرابلس
الغرب لنيران إيطالية، ومع هذه كله لم يزدد العرب إلا تعلقًا بالدولة وإقدامًا
على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيلها. وما رأينا من الأمراء الذين أرجف بهم
اللواء أولاً والعلم ثانيًا والهلال العثماني ثالثًا ـ إلا النجدة العالية للدولة
والمساعدة التامة لها، وهي في أحرج مواقفها، وبعد هذا كله ترى كثيرًا من
الناس لا يفقهون ولا يعتبرون، ولا يميزون بين المصلحين والمفسدين.
نعم كان العرب قد ظلوا على إخلاصهم للدولة ولكنهم ليسوا حجارةً ولا
حديدًا فتمر عليهم هذه الكوارث ولا تؤثر في نفوسهم، إلا أنها أثرت شر تأثير،
وهو أن اليأس من الدولة قد دب دبيبه إلى قلوبهم وخصوصًا بعد حمل
الجمعية مولانا السلطان على حل مجلس المبعوثين الذي ضعفت فيه السلطة
الاتحادية، وتأليفهم مجلسًا جديدًا بقوة الحكومة بعد الضغط على الصحف وحرية
الاجتماع وغير ذلك.
يئسوا من عد الدولة إياهم عضوًا صحيحًا منها كإخوانهم الترك أولاً، ومن
إصلاح الدولة ثانيًا، ومن بقائها ثالثًا، إلا أن تزول منها مفاسد الاتحاديين وتنشأ خلقًا
جديدًا. ومن العجائب أن يئوسهم هذه لم تدفعهم إلى القيام بمشروع ما لحفظ وجودهم
وحفظ سلطة الإسلام في الأرض، بل ظل لسان حالهم يقول: إن بقيت الدولة نعيش
معها بعز أو ذل كيفما اتفق لنا، وإن ماتت نموت معها، ولا خير لنا في الحياة
بعدها.
وإنني أذكر من شواهد اليأس الأول من هذه اليئوس ما سمعته من أحد
أفراد حزب الاتحاد والترقي من العرب بعد استعراض الجيش العثماني في
روابي الآستانة أمام ملك البلغار سنة 1328 وكنت حضرت هذا الاستعراض
في خيمة المبعوثين، فلما انتهى وأردنا الذهاب قال لي ذلك المبعوث
العربي الاتحادي: متى يكون لنا جيش منظم مثل هذا؟ فكانت هذه الكلمة كجذوة
نار وقعت في قلبي؛ إذ علمت أن هذا المبعوث الذي كنا نعد وجود مثله في
الاتحاديين سببًا لحسن الظن بهم، قد أداه اختباره الصحيح لهم إلى الاعتقاد بأن
جيش الدولة ليس جيشًا لنا، وإنما هو الغالب علينا.
هنا يخطر ببال كل قارئ هذا السؤال: إذا كان هذا هو اعتقاد هذا
المبعوث في الجمعية فلم بقي فيها؟ وعندي جواب هذا السؤال؛ فإني كنت ألقيته
عليه قبل تلك السنة التي قال فيها كلمتة النارية، فقال: اسكت إنني علمت أن
زعماء هذه الجمعية إذا أحسوا بأن أمر الدولة أشرف على التفلت من أيديهم
فإنهم يعرضونها للزوال دون ذلك، ولهذا أرى أن بقاءنا معهم خير من تركنا
إياهم.
هذا بعض تأثير تهييج الاتحاديين للعصبية الجنسية ومحاولتهم تتريك
العناصر حتى العرب الذين هم أخلص المخلصين للدولة، وقد ظهر صدق
إخلاصهم لها بالبرهان والعيان.
وناهيك بكفاحهم في طرابلس الغرب وبلائهم في هذه الحرب، وهل يخفى
على بصير ما لليأس من الغوائل وسوء العواقب. وأما تأثيره في نصارى أوروبة
العثمانيين من البلغاريين واليونانيين والمصريين، فهو الذي أوقد نار هذه
الحرب، وكان أكبر شرها وويلها على الترك والمستتركين الذين هضم الاتحاديون
حقوق جميع العناصر وقصدوا إذلالها بجهلهم، وما كان أغناهم عن ذلك.
كان المفتونون بخداع الاتحاديين من مسلمي العرب يخطئون أهل
البصيرة من إخوانهم إذا طالبوا الدولة بالعناية بتعليم اللغة العربية في مدارسها،
وجعل القضاة والحكام في الولايات العربية من العارفين بلغة أهلها، وما
كان من حجتهم إلا أن قالوا: إنكم إذا طلبتم هذا فتحتم الباب لنصارى مقدونية
لطلب مثله لأنفسهم، ظانين أن رضانا بهضم حقوقنا يكون سببًا لرضاء أولئك
بمثل ما نرضى به وبدونه، جاهلين أنهم لا يرضون بمثل تلك الحقوق التي
يحملوننا على السكوت عن طلبها، وإن كان صلاحنا وصلاح دولتنا لا يكونان
إلا بها، وإنما وجهتهم انفصال ولاياتهم من الدولة ألبتة، واتصال كل شعب
منها بالدولة التي هو من جنسها.
بل جهل هؤلاء المفتونون بخداع الاتحاديين أنه لولا نصارى الولايات العثمانية
الأوروبية لما خطر في بال أحد من رجال دولتنا وإخواننا الترك فكرة الحكومة
النيابية.
ولا حاجة إلى شرح هذه المسألة الآن، وإنما موضع العبرة الذي اقتضت
الحال بيانه هو أن جمعية الاتحاد والترقي جعلت الدستور خدعةً لهؤلاء الناس
وللدول التي تنتصر لهم.
وأما مسلمو العثمانيين من العرب والأرنؤوط والأكراد فلا قيمة لهم
عندها؛ لأنها تعتقد أنها تدبر أمرهم بالقوة القاهرة، فكان غرورها هذا مهيجًا
لهؤلاء النصارى وحاملاً إياهم على الحرب الحاضرة بعد أن رأوا الجمعية
نفرت جميع العثمانيين من الدولة وأضعفت ثقتهم بها، وأحدثت مفاسد أخرى
أضعفت قوتيها: المادية والمعنوية، وهو ما بينا بعضه في المقالة الأولى،
وسنبين بقية المهم منه في المقالات الأخرى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشرناها أولاً في المؤيد.
(1) هكذا في الأصل والمقصود الكتابة.(16/54)
الكاتب: عناية الله أحمدي
__________
أحوال مسلمي الصين
(مسلمو مدينة نانكين في الصين)
نانكين مدينة من كبريات المدن الصينية المشهورة بتجارتها، سكان هذه
المدينة زهاء مليون نسمة، والمسلمون منهم مقدار مسلمي بكين في الكثرة،
ومنهم أناس أولو ثروة طائلة وتجارة كبيرة، وهم أرقى مسلمي الصين على
الإطلاق في دنياهم؛ إذ أكثر الموظفين في دوائر الحكومة منهم، وكذلك منهم
أكثر المعلمين في المدارس، ويعد المسلمون في هذه الولاية أرقى علمًا وفكرًا
من سائر أهلها، ولكن لبعدهم عن العاصمة (مدينة بكين) التي هي مركزهم
الإسلامي لا يعرفون من الإسلام غير كلمة التوحيد والسلام، والمستنيرون
منهم قد عرفوا أخيرًا أي: بعد حصولهم على الحرية - وجوب تربية أولادهم
على روح الإسلام، فأسسوا في مدنية نانكين جمعية باسم: جمعية نشر
الإسلام والمعارف.
لهذه الجمعية مقاصد أحدها: بيان حقيقة الجمهورية للمسلمين والدلالة على
طرق الاستفادة منها، ولذلك يطبعون رسائل مختصرة في لغة الصين وينشرونها
بين المسلمين في البلاد والقرى ويخطبون بذلك في المجامع، وأكثر ما يهتمون
به هو شئون الانتخابات، يجتهدون كثيرًا في انتخاب نواب الولاية من الذين يحبون
الإسلام ويسعون لخير المسلمين.
ثانيها: افتتاح المكاتب الابتدائية والرشدية في أحياء المسلمين كلها، ونشر
لسان العرب وبيان حقيقة الإسلام للأهالي، وتكثير سواد المسلمين الحقيقيين.
ثالثها: الاجتهاد في محو العادات والأخلاق الفاسدة المتمكنة من المسلمين،
وافتتاح المكاتب الصناعية لإزالة الكسل والفقر منهم. ومسلمو الصين لجهلهم
وتعصبهم المفرط لعوائدهم لا يشتغلون بما يشتغل به الوثنيون من الصناعات
فيستنكف أحدهم أن يكون حدادًا أو خياطًا أو ساعاتيًّا مصلحًا للساعات؛ لأن
الوثنيين يشتغلون بهذه الصناعات وينفرون ممن هذه صناعته من المسلمين.
فبجهلهم هذا وتعصبهم الزائد صارت منزلتهم في التجارة والصناعة
متأخرة جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وبلغوا نهاية قصوى من الفقر، وبسعي هذه
الجمعية أخذوا يتعلمون في المدارس الصناعية ويشتغلون ببعض الصناعات
كالخياطة.
ومن مقاصد الجمعية أيضًا السعي في انتخاب العلماء لمنصب الإمامة في
المساجد من الذين يستحقونها.
والحاصل أن مقصد الجمعية السعي في ترقية المسلمين وإزالة أسباب الفقر
وفساد الأخلاق من بينهم، وإنقاذهم من المهانة في الدنيا والخسار في الآخرة،
والجمعية تفتح أيضًا شُعبًا لها في ولايات خانقو شانغاي، وسيجوان، وأرسلت نور
الدين أفندي وثلاثة آخرين من زعمائها إلى تلك البلاد للتشاور بينها وبين مسلميها
واختيار أعضاء منهم للجمعية، ولها الآن أكثر من عشرة آلاف عضو في مدينة
نانكين وولايتها.
فإذا اجتهد مسلمو الصين على هذه الكيفية من غير فتور يرجى أن يرتقوا
في مدة يسيرة.
... ... ... ... ... ... ... (ع. أحمدي)
... ... ... ... ... (مترجم من جريدة (وقت) عدد 1050)
__________(16/63)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ)
هذا الكتاب من تصنيف أحد علماء اليمن المجتهدين، الشيخ صالح
مهدي المقبلي المتوفى سنة 1108، وكان في الأصل على مذهب الزيدية
ولكنه قرأ كتب الكلام والأصول وعرف مذاهب الفرق كلها وكتب التفسير
والحديث وسائر العلوم، وطلب بذلك الحق ومرضاة الله تعالى، فانتهى به ذلك
إلى ترك التمذهب وقبول الحق الذي يقوم عليه الدليل، وقد شهد له الإمام الشوكاني
بالاجتهاد المطلق، وهو يشرح في هذا الكتاب أمهات المسائل التي وقع الخلاف
فيها بين المذاهب الشهيرة كالأشعرية والمعتزلة وأهل السنة والشيعة الزيدية
والإمامية وكذا الصوفية. ويبين ما يظهر له أنه هو الحق ولا يتعصب لمذهب
على مذهب، وهذا هو مراده الذي يدل عليه اسم كتابه.
وقد توسع في الكلام على مسائل التحسين والتقبيح العقليين، والكسب
والاختيار والجبر، وأفعال الباري تعالى وأفعال العباد، ورواية الحديث
ونقدها، والجزاء والتوبة، وافتراق المسلمين والفرقة الناجية المشار إليها في
الحديث، والطائفة التي تبقى ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها فيه،
وعنده أن أهل الحق يكونون من مجموع المسلمين لا من أهل مذهب معين،
وبيَّن في هذا المقام مفاسد الخلاف بين المسلمين ومضاره، ومسألة وحدة
الوجود وحقيقة حالة أهلها، ولا تكاد تجد كتابًا منشورًا تعرف منه حقيقة
مذهب المعتزلة والزيدية غير هذا الكتاب، ومنه تعلم أن أكثر ما تجده في كتب
العقائد المتداولة من مذهب المعتزلة خطأ؛ لأنه مِن نقل المخالفين لهم نظروا
إليه بعين السخط، ونقلوه بالمعنى لا بالنص، وتصرفوا فيه كما فهموا، وبهذا
يتجلى لك صدق قول العلماء من أن نقل المخالف لا يعتد به.
كان هذا الكتاب من الأسرار والمخبآت يكتمه كل من يظفر بنسخة منه
إعجابًا به وخوفًا من الناس أن يشنعوا عليه؛ لأنه يخالف كل مذهب من
المذاهب في بعض المسائل، وإن لم يخرج عن مجموعها في شيء، وهو شديد
الحملة على ما يعتقد بطلانه، قوي الإنكار لا يتحامى التشنيع والنبذ بالألقاب
المنكرة، فهو في هذا الخلق يشبه الإمام ابن حزم الذي هجر جمهور الناس كتبه
في الأصول والفقه لشدة إنكاره على مخالفيه من أئمة الفقهاء، ونبزهم بلقب
الجهل وما أشبهه من الألقاب، ولولا ذلك لاشتهرت كتبه وأخذ الناس
بها، وترك كثير منهم مذاهبهم إليها؛ لأنها في الذروة العليا، كما شهد بذلك سلطان
العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشهير إذ سئل عن أحسن ما كتبه المسلمون
في الفقه فقال: (المحلى) لابن حزم و (المغني) للشيخ الموفق، وأنا أرى
أن كتب ابن حزم هي أكبر وأوسع مادةً استمد منها شيخا الإسلام ابن تيمية وابن
القيم. ولكنهما كانا أنزه قلمًا وأشد أدبًا مع الأئمة.
فكتاب (العلم الشامخ) ككتاب (المحلى) هو من الكتب التي يستفيد منها
العلماء الخواص أصحاب العقول والأفهام المستقلة والصدور الواسعة، وقد نقل
عنه شيخ الأزهر العطار الشهير في حاشيته على الجلال المحلي، فدل ذلك
على أن الكتاب كان يتداوله العلماء ويتناسخونه كما كانوا يتناقلون قبل ذلك
كتب ابن حزم.
وقد تصدى لطبع هذا الكتاب منذ ثلاث سنين بعض الشرفاء والفضلاء
الحجازيين والسوريين بعد أن استنسخه بعضهم من مكتبة حسين حسني أفندي
الذي كان شيخَ الإسلام في دار السلطنة، ولما قيل له: إننا نريد طبعه، قال:
ومن يتجرأ على طبعه؟ ومن عاش معظم عمره في حجر السلطة الحميدية
تحيط به جواسيسها لا يبعد منه أن يقول مثل هذا القول، على أنه رحمه الله
كان من أوسع علماء الآستانة صدرًا، وأشدهم تسامحًا، وكان معجبًا بالكتاب
ضنينًا به، ولكنه سمح بنسخه، ولو علم بما يطبع في مصر من كتب الفِرق
والجدل، ومن كتب دعاة النصرانية، لرأى الفرق الكبير بين مصروالآستانة
حتى في عهدها الذي يسمى الدستوري.
طبع الكتاب مع زوائده: (الأرواح النوافخ لإيثار آثار الآباء والمشايخ)
الذي أوضح به مسائله وفند به كلام من أنكر عليه بعضها، ووضعت له عدة
هوامش فيها انتقاد على المؤلف بعضها من النسخة الأصلية يوشك أن تكون
للمحقق الشوكاني.
وهو مطبوع على ورق جيد وصفحاته تناهز 800 صفحة، ولهما
فهرس واسع جدًّا مرتب على حروف المعجم، وثمن النسخة منه 25 قرشا،
وأجرة البريد للخارج خمسة قروش، وللقطر المصري 25 مليما، وهو يطلب
من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر.
***
(رسالة بغية الراغبين، وقرة عين أهل البلد الأمين، فيما يتعلق بعين
الجوهرة السيدة زبيدة أم الأمين)
تأليف العالم الفاضل السيد عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي الحسني
الإدريسي المدرس بالمسجد الحرام ورئيس لجنة عين زبيدة
رسالة تشتمل على ذكر أحوال عين زبيدة التي يستقي منها أهل البلد
الحرام (مكة) والوافدون لحج البيت العتيق مع بيان التصليح والترميم مما
أحدثته اللجنة المشكلة تحت رعاية صاحب السيادة والدولة أمير مكة المعظم،
ورئاسة مؤلف هذه الرسالة، ثم بيان خطط البلد الأمين.
وقد تبرع السيد عمر الخشاب الكتبي بطبع هذه الرسالة؛ إعانةً على
المشروع الجليل النفع، العميم الفائدة، ومن يطلع على هذه الرسالة يعلم أن
إعانات عين زبيدة إنما أنفقت في طريقها وعلى وجهها، فنشكر للمؤلف سعيه
في سبيل الله وخدمة بلده الحرام.
... ... ... ... ... *** ... ... ... ... ...
(كفاية الطالبين لرد شبهات المبشرين)
تأليف الشيخ محمد عبد السميع الحفناوي مدرس اللغة العربية بالمدارس الحرة
صفحاته 133 بقطع، (الإسلام والنصرانية) ، مطبوع بمطبعة أبي الهول
بالقاهرة سنة 1330 على ورق نظيف متوسط ثمنه ثلاثة قروش، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
موضوع الكتاب الرد على دعاة النصرانية، وقد أبطل المؤلف به ادعاء
النصارى كون كتبهم كتبت بإلهام من الله، وبيَّن اختلافاتها وأغلاطها وأنحى
على عقيدة التثليث ببراهين وأدلة عقلية، وكذلك فعل في نفي الشريك والولد
عن الله تعالى، وفي إبطال ما يتمسك به النصارى من صلب المسيح، وتكلم
على حقية القرآن ووجوه إعجازه، وفي نبوة سيد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم
مستدلاًّ على ذلك بنصوص كتبهم التي يسمون مجموعها الكتاب المقدس، ورد
شبهات أولئك الدعاة، وختم الكتاب بمقابلته بين آيات من القرآن الشريف
وجمل من العهد العتيق والعهد الجديد.
***
(كتاب أمراض النساء)
تأليف الدكتور نجيب بك محفوظ الطبيب بمستشفى القصر العيني صفحاته
176 بقطع، (الإسلام والنصرانية) طبع بمطبعة التوفيق، ويشتمل على 45
شكلاً من أشكال الأعضاء والأدوات، يباع بعشرين قرشًا في المكاتب الشهيرة
بمصر.
هذا الكتاب من الكتب العلمية السهلة الفهم التي تفيد مطالعتها الخاصة
والعامة خصوصًا الذين يتعلمون الجراحة بغير اللغة العربية، فنشكر لمؤلفه
على اجتهاده ونتمنى لكتابه الانتشار ليعم نفعه.
***
(كتاب الفتوحات الإلهية في مجمل العلوم الأزهرية، وكتاب التسهيلات
الإلهية في أصول الحنفية والشافعية)
كلاهما تأليف الشيخ أحمد بن محمد درويش القاضي الشرعي وأحد علماء الأزهر
طبع الكتابان في القاهرة بمطبعة مقداد، على ورق نظيف بقطع المنار،
صفحات الأول منها 27، تكلم فيه مؤلفه في تعريف أشهر العلوم الأزهرية
تعريفًا أزهريًّا مصطلاحيًّا، وبيان موضوعاتها وفوائدها ومسائلها، وصفحات
الثاني 200 واسمه يدل على موضوعه، ويطلبان من مكتبة المنار بمصر.
***
(حكم النبي محمد)
للفيلسوف تولستوي
تعريب سليم أفندي قبعين، صفحاته 77 بقطع تفسير الفاتحة، مطبوع
بمطبعة التقدم بمصر، ويطلب من مكتبة المنار وثمنه قرش واحد صحيح.
بحث مؤلف هذا الكتاب في حالة المسلمين الدينية في روسية وشرح ما
قاسوه من الاضطهاد بسبب دينهم، وما منحهم إياه القيصر نقولا الثاني من
حرية عود المتنصرين جبرًا إلى دينهم، ومن حرية المدافعة عن الدين، ونشر
الجرائد بلغة المسلمين إلى غير ذلك، ثم استطرد إلى بيان أخلاق المسلمين
وتعظيم القرآن للمسيح وأمه، وأفرد فصلاً للكلام على النبي محمد صلى الله
عليه وسلم، تكلم فيه عن حالة العرب قبل ظهور الإسلام، وأورد آيات من
القرآن للحكم على الدين الإسلامي فيها بالتوحيد الخالص والأحكام العمومية،
وأبان ما كان للدين الإسلامي من الأثر الصالح في العالم.
وأورد طائفة من الأحاديث النبوية في الأحكام والحِكم ومكارم الأخلاق،
وتكلم على الحجاب وبيَّن مفاسد التهتك إلخ، ولكن فيها شيئًا من الغلط ومن
التحريف المطبعي، ولو قوبلت الحِكم بأصلها من القرآن والأحاديث لكان أقوم
قيلاً.
***
(أمالي الشيخ علي عبد الرازق من علماء الأزهر في علم البيان)
صفحاته 122 بقطع أسرار البلاغة، طبع سنة 1330 بمطبعة مقداد على
ورق نظيف، ويباع بخمسة قروش في مكتبة المنار ومكتبة النيل.
هذا الكتاب هو مجموعة أمالي ألقاها المؤلف دروسًا في الأزهر سنة
1330 هـ، ثم جمعها في كتاب على حدة فجاءت كتابًا وافيًا بالغرض حسن
الأسلوب سهل الفهم ولم أر لعالم أزهري لهذا العهد كتابةً محررةً مختصرةً
مفيدةً تدل على تفكر الكاتب وتوخيه الاستفادة والفائدة مثل هذا الكتاب، وإن
القارئ ليقرأ فيفهم فن المعاني مجردًا.
***
(الجرح والتعديل)
رسالة من تأليف عالم الشام العامل الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي،
نشرت في المنار، وجمعت فجاءت 40 صفحة بقطع المنار على حدة، وثمنها
قرشان، وهي تطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن مؤلفها في دمشق.
هذه الرسالة هي الحكمة التي تكم أفواه الحشوية ومتعصبي الفرق،
وترجع بهم إلى سماحة الإسلام ببيان ما جرى عليه العلماء الأعلام مثل
البخاري وغيره من اعتبار رواية الفرق التي يكفر أهلها اليوم جهلة المقلدين
والحشوية، وتبين أضرار التعصب للمذاهب ميلاً مع الهوى وتكون خير عون
للمصلحين على جمع كلمة المسلمين والتأليف بين المختلفين.
***
... ... ... ... (العلاج الجراحي)
الجزء الأول منه تأليف وليم روز ألبرت كارلس وتعريب الدكتور محمد عبد
الحميد طبيب مستشفى قليوب صفحاته 195 بقطع المنار، طبع سنة 1912 بمطبعة
المعارف بمصر طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وهو مزين بالرسوم الملونة والأشكال
التي بلغت عشرين شكلاً، ويطلب من معربه بقليوب، ومن مكتبة المنار بمصر،
وثمنه عشرة قروش خلا أجرة البريد.
***
... ... ... ... (التشريح الجراحي)
الجزء الأول منه تأليف فردريك لريفي وآرثر كيت وتعريب الدكتور محمد عبد
الحميد أيضًا صفحاته 252 بقطع (الإسلام والنصرانية) طبع في مطبعة
المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد مزينًا بالصور الملونة التي بلغت 45
شكلاً، وثمنه عشرة قروش، ويطلب من معربه ومن مكتبة المنار بمصر.
مواد الكتاب: فروة الرأس، قبوة الجمجمة، محتويات الجمجمة،
الحجاج والعين، الأنف وتجاويفه، الوجه، الفم واللسان والحنك والبلعوم،
العنق، وأسلوبه كأسلوب سابقه بل كسائر معربات الدكتور محمد عبد الحميد
الذي يفيد لغته وأمته بما يقدمه حينًا بعد حين من الآثار النافعة.
***
(بلوغ المرام من أدلة الأحكام)
تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني
صفحاته 278 بقطع المنار طبعه بمطبعة التمدن الشيخ عبد الرحمن بدران
الكتبي وشريكاه، على ورق متوسط، وثمنه سبعة قروش، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
الكتاب مجموعة من أحاديث مخرجة مرتبة على أبواب الفقه، وزاد فيه
باب الأدب، فيجدر بكل من يروم فقه الدين من السنة أن يطلع على هذا الكتاب.
***
(كتاب التبيان في تخطيط البلدان)
الجزء الأول منه
يشمل الدروس التي ألقاها بالجامعة المصرية العالم المؤرخ إسماعيل
رأفت بك أستاذ الجغرافية وعلم الشعوب (قبوغرافية) بها ومدرس الجغرافية
والتاريخ العام بمدرسة دار العلوم، صفحاته 499 بقطع المنار، طبع بمطبعة
محمد الوراق بمصر سنة 1329 وله خرائط للاستعانة على توضيح أبحاثه،
ويباع بعشرين قرشًا في مكتبة المختار بمصر.
معظم ما نقرأه من كتب الجغرافية العربية أنها أشبه بالنقل منها بالتأليف،
ولكن كتاب التبيان على العكس من ذلك فإن مؤلفه قرأ وبحث وباحث ونظر
فكتب، وإنه يخيل إلى القارئ أن المؤلف سائح خريت جاب القارة الأفريقية
وأثبت مشاهداته في مؤلفه هذا.
والكتاب يتناول قارة أفريقية وقد وصفها أوصافها الطبيعية والاقتصادية
والسياسة الجوية، وذيَّل الكتاب بفهرس ذكر فيه أسماء مشاهير المكتشفين
والسياح الذين مر ذكرهم في الكتاب، وكتبها بالحرف اللاتيني والحرف العربي؛
ليرجع القارئ إلى ما كتبه عنهم في أسفل صحائف الكتاب بسهولة.
وحبذا لو تم المؤلف كتابه على هذا النمط، فإن اللغة العربية في أشد الحاجة
إلى كتاب جغرافي عمومي مطول.
__________(16/65)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب البلقانية الصليبية
لقد بدا للناس من هذه الحرب ما لم يكونوا يحتسبون، فقد كانت أقوال صحف
أوربة تدل على أن الأوربيين كالعثمانيين يظنون أن كفة الدولة العثمانية تكون هي
الراجحة، وكفة البلقانيين هي المرجوحة، ولذلك صرحت الدول الكبرى بأنها متفقة
على أن هذه الحرب لا تغير شيئًا من الحال الحاضرة ولا من خارتة البلقان.
فلما ظهر رجحان كفة البلقانيين رجعت عن قولها، وصرحت بأنه ليس من
العدل حرمان الدول المتحالفة من ثمرة انتصارها (والعدل عند هؤلاء الناس لا
يجوز أن يتعدى أبناء جنسهم وأهل ملتهم ودينهم) بل تجاوزت ذلك إلى محاولة
إكراه الدولة العثمانية وقسرها على أن تعطي الصليبيين ما فتحوا من بلادها وما
أعياهم فتحه كأدرنة، وقد أجمعت ذلك دول التثليث كلهن، سواء منهن من أبدى
ناجزَيْ الشر للدولة، وأظهر ضلعه وتعصبه للصليبيين كدول الاتفاق الثلاثي، ومن
جامل العثمانيين بالقول بعض المجاملة كدول التحالف الثلاثي.
نعم إن ما ظهر من ضعف الدولة العثمانية وخللها هو ما لم يكن يحتسبه كله
أحد ولا الأوربيون الذين يعبرون عنها بالرجل المريض، ويرون أنها بهذا المرض
تكاد أن تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، وهكذا شأن الناس في تقدير أحوال مَن
ضعُف بعد قوة عظيمة، أو افتقر بعد ثروة كبيرة، فإنهم يتصورون شيئًا من ماضيه
مع تصور حاضره، ويستخرجون النتيجة من مقدمات التاريخ الماضي زالت مع
زمنها ومن مقدمات التاريخ الحاضر، وكذلك يخطئون في تاريخ حال من دخل في
حياة جديدة، استصحابًا لشيء من ماضيه يمزجونه بما عرفوا من حاضره، حتى
تأتي الحوادث والوقائع الكبيرة بما لم يكن في الحسبان، كما رأينا في حرب
الروسية واليابان، ولكن العبرة في رجحان البلغار على الترك أكبر، والتفاوت
بين الفريقين فيها أعظم.
ومما ظهر وبان هاجمًا من وراء حدود الحسبان، شيء آخر كان كثير من
المغرورين بمدنية هذا الزمان يظنون أنه من وراء حدود الإمكان، وهو طغيان
صليبي البلقان الظافرين على أبناء وطنهم المسلمين المسالمين، وإسرافهم في
تقتيلهم وتعذيبهم، وهتك أعراضهم وسلب أموالهم، وإنهم ليقتلون النساء والأطفال
ليقل عدد المسلمين في البلاد، حتى ألجأوا بعضهم إلى الخروج من الإسلام،
وانتحال النصرانية حفظًا لأنفسهم، وصيانة لأعراضهم وأموالهم، وقد شهد فظائعهم
هذه كثير من مكاتبي الصحف الأوروبية من الشعوب المختلفة، وبعض وكلاء
الدول السياسيين (القناصل) وذكرت الجرائد الأوروبية والتركية كثيرًا من حوادثه
تقشعر منها الجلود، وتفتت لهولها الكبود.
ولم يكن عجب الناس من اقتراف البلقانيين لهذه الجرائم والجنايات
والفواحش والمنكرات وجعلهم ذلك باسم الصليب في سبيل المسيحية كعجبهم من
الدول والشعوب الإفرنجية في أوربة وأمريكة لسكوتهم عنها، بل إقرارهم إياهم
عليها، فهل هذه هي المسيحية التي يبذلون الملايين في سبيل دعوتنا إليها؟ وهل
هذه هي الإنسانية التي يفتخرون بدعواها؟
اختلفت دعاة النصرانية في مؤتمرهم الذي عقدوه للنظر في وسائل تنصير
المسلمين: هل إله المسلمين هو إله النصارى أم لا؟ فقال قس من أكبر قسوسهم:
إن إله المسيحيين غير إله المسلمين؛ لأنه دين محبة ورحمة، وإله المسلمين ليس
كذلك.
فأين هذا القس المحب الرحيم الآن؟ لا أراه إلا فرحًا مسرورًا مع قومه
بفظائع الصليبيين في البلقان، فإنه هو وأمثاله قد اتخذوا المسيحية آلة للشهوات
واللذات وسعة الملك واستعباد الأمم والشعوب، وهم أبعد خلق الله عن دين المسيح
عليه الصلاة والسلام، وعن دين بولس الذي تمثله الكتب والرسائل التي يسمونها
العهد الجديد أيضًا.
وإذا كان هذا شأن رجال الدين فيهم فكيف يكون شأن رجال السياسة المنافقين
الذين ينفثون في أرواحهم سموم العصبية الدينية، ويغرونهم بإفساد عقائد الناس،
ويعينونهم على ذلك بالنفوذ والمال، وإذا لقوا أحدًا من أهل الملل الذين يغرونهم بهم
ادعوا أنهم يمقتون العصبية الدينية وأهلها، وأنهم لا يدينون بدين إلا دين الإنسانية
العامة، وهم بهذا الوجه الذي يلقون به المسلمين وغيرهم من أهل الملل الشرقية
المخالفة أشد إفسادًا في الدين والاجتماع من دعاة دينهم، فإن الذين أفسد عليهم
الإفرنج دينهم باسم الإنسانية، أضعاف أضعاف الذين أفسدوا دينهم ودنياهم باسم
المسيحية.
صدق هؤلاء المنافقين تلاميذهم ومريدوهم من المسلمين وغيرهم، وظنوا فيهم
الخير، وتوهموا أنهم بترك الدين وحل رابطته والدعوة إلى رابطة أخرى يسلكون
طريقهم في الترقي المادي، وإنما يهوون في مهواة التدلي والانقراض.
إلا أنه قد وجد فينا الحكماء العارفون، وطالما حذروا وأنذروا، فعلت أصوات
الخادعين أصواتهم فلم تعتبر بها الأمة، وإننا نذكرها الآن بنبذة من مقالة التعصب
إحدى مقالات العروة الوثقى التي نشرناها في المنار من قبل ونقلتها بعض الصحف،
وهي منشورة أيضًا في بعض الكتب.
بيَّن الأستاذ رحمه الله في أول تلك المقالات معنى التعصب في اللغة
والاصطلاح ومفاسد الغلو فيه ومدح الاعتدال، وما ثبت في التاريخ من غلو
الأوربيين في تعصبهم، وإبادتهم للمخالفين لهم، وتسامح المسلمين وتساهلهم، ثم
بيَّن غرضهم من تنفير المسلمين خاصة من التعصب الديني مطلقًا، وإن كان معتدلاً
لا يترتب عليه شيء من إيذاء المخالفين، وهو أن يحلوا رابطتهم ويتمكنوا من
إزالة سلطانهم، وبين كون الموافقين لهم المخدوعين بسحرهم يخربون بيوت
أنفسهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، ثم قال:
(هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره
فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في
البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدًا من
الأمراء المنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من
بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن
يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع
بقائهم على عقائدهم، وثباتهم في إيمانهم، يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني
ويلهجون في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا
يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم
بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة
ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماءً، والله
ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية
الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين، ولا يخجلون من تبشيع
التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من
التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم
السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على إنجاح أعمالهم،
وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم
ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق، سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت
تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة،
وحدثت حادثة مهمة، فأجمِعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من
وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس،
وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لغرة الأخرى
حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية
والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين، وإن كان في أقصى قاصية من الأرض،
ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر وجه البسيطة من دماء
المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس بل
يتغافلون عنه ويذرونه، وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما
أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والرحمة الطبيعية كأنما يعدون من
الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية. وليسوا من نوع
الإنسان الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين
منهم، بل الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في
تعصبهم الديني، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق ولكن
كثيرًا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب.
يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ثم لا تجد كلمة
تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة
من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة) اهـ.
ومما بدا للمسلمين من هذه الحرب ولم يكونوا يحتسبونه، أن الدولة العثمانية
ليست بالدولة القوية التي يرجى أن تحفظ نفسها من أوربة بقوتها الحربية، سواء
منها البرية والبحرية، وإنما بقاؤها بدوام تنازع الدول في اقتسامها، وإن هذا
الاقتسام متفق عليه في الجملة، مختلف عليه في التفصيل، وإن ممالكها في نظرهن
كالأرض الموات: مَن سبق إلى شيء منه ملكه، وإن ما يبديه بعضهن لها من الميل
والانعطاف أحيانًا، وهو لا يتعدى القول اللطيف والمساعدة السلبية، فإنما سببه جر
المغنم العاجل كالامتيازات والقروض وبيع الأسلحة والذخائر، على أنهن صرن
يقبضن أيديهن عن إقراضها ولو بالربا الفاحش ويتشددون في ذلك، وأما ما كان من
مساعدة بعضهن لها في الزمن الماضي فسببه تعارضهن في النفوذ والطمع في
بلادها أيضًا، وقد ارتقوا عن هذه الدرجة الآن.
عرف خواص المسلمين هذه الحقائق في الأقطار الكثيرة، وشعر به عوامهم
في مصر وولايات السلطنة أيضًا، فأصابهم من الغم والكآبة ما وجلت له القلوب،
وذرفت لأجله العيون، وطفق الناس يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه
مختلفون، وهو كيف يكون حال الإسلام والمسلمين إذا صارت هذه الدولة
في عداد الغابرين؟
إن أصحاب هذه الدولة يجدُّون ويجتهدون في هدمها منذ قرنين أو أكثر وكانت
بعض الدول الأوربية تدعّهم إلى الإسراع في الهدم، وبعضها تدعوهم إلى التريث
فيه، وقد اشتد الهدم على عهد عبد الحميد ولكن من وراء الحجب والأستار، وفي
حنادس الظلمات، وأما بعد سقوطه فقد صار الهدم أشد، ولكن الهادمين يسمون
أنفسهم البنائين الأحرار، وصار أبين وأظهر لأنه يؤتى في ضوء النهار.
لقد كان جهل المسلمين بحقيقة حال هذه الدولة، أكبر مصائبهم ومصائب
الدولة، ولو كانوا يعرفون كُنْهَ حالها، منذ تنبهوا لأنفسهم ولها - أي من عهد
انكسارها في حرب الروسية الأخيرة - لاجتهدوا في إصلاح أنفسهم وإصلاحها،
ولكنهم اغتروا وخُدعوا بها، وأمدتهم جرائد المنافقين في غرورهم، فحسبوا أن لهم
دولة قوية عزيزة تقيم شرعهم، وتعلي كلمة دينهم وتدافع عنه وعنهم، وكم
نبهناهم وأنذرناهم فتماروا بالنذر، ولا يزال كثير منهم على غرورهم، كما يدلنا
على ذلك تجاوب اقتراحهم عليها إدامة الحرب، وكراهتهم لما جنحت إليه الوزارة
الكاملية من السلم، وعقد الهدنة للبحث عن شروط الصلح.
إن كل ما عرفناه من مساعدة العالم الإسلامي للدولة في حربها هذه هو أنهم
أمدوها بإعانة لا تتجاوز نصف مليون من الجنيهات إلا قليلاً، إلا أن يكون هنالك
إعانات خفية عنا وعن غيرنا، وليس هذا بالذي ينهض بمثل هذه الدولة الكبيرة،
ولا إظهار الغيرة عليها بالذي يدفع عدوان الدول عنها، بل يخشى أن يكون مغريًا
لدول الاستعمار بالتعجيل عليها، فأنا لا أزال أعيد ما بدأت من القول بأن الدولة
على خطر، وحل المسألة الشرقية أقرب غائب ينتظر، وأدعو عقلاء المسلمين
خاصة إلى التفكير في المآل وإعداد ما يستطيعون له من العدة والمال، وما بعد
الجهد إلا العزم والاتكال، وإنني أشير إلى شيء من ذلك بالإجمال:
مستقبل الإسلام والمسلمين:
أهم ما يهم كل مسلم في الأرض أن يكون للإسلام سلطة تقام بها شريعته،
وتحيا بها دعوته، وقد كان المسلمون لفشو الجهل فيهم مغرورين بحكوماتهم
ودولهم، ولم يكن غرور التابعين للدول ذات التاريخ الكبير كالدولة العثمانية، بأشد
من غرور التابعين للدول ذات التاريخ الصغير كسائر الدول الأفريقية والآسيوية،
ولكن الغرور بالدولة العثمانية تجاوز بلادها إلى الملايين من المسلمين الذين استولت
عليهم الدول الأوروبية في الشرق والغرب، وإن هذا الغرور قد أوصل السلطة
الإسلامية إلى درجة الخطر - خطر الفناء والزوال - فوجب على كل عارف مخلص
أن يصرح للمسلمين بما يعرف، وقد كنا في السنين الغابرة نكني، ولكن الوقت
ضاق عن الكنى.
ولو عرف جماهير المسلمين كُنه حال دولهم وحكوماتهم من قبل لجَدَّ العقلاء
في السعي لإصلاحهم وحفظها، ولكان الفوز أرجى لهم من الخيبة، ويجب أن يعرفوا
الآن ما جهلوا من قبل، وإن كان الرجاء في السعي الآن أضعف، ولكن المسلم لا
ييأس ولا يقنط، ولقد كان أكبر بلاء الدولة العثمانية من بعض رجالها الذين يئسوا
منها في الزمن الذي دبَّ فيه إلى مسلمي الآفاق الرجاء فيها، وما زلزل غرور
المسلمين وأزال بقايا غرور غير الحكام من العثمانيين، إلا هذه الحرب البلقانية،
فإذا كانت ثمرتها أن نعرف حدنا ونهتدي إلى رشدنا، فنعرف كيف ندرأ خطر
الزوال عنا، فإن هذه الحرب تكون - كما قلت من قبل - أكبر نعمة علينا.
ألا فليعلم من لم يكن يعلم أن وجود الدولة العثمانية في أوربة هو سبب
غرورها وفقرها ومولد الفتن فيها، وهو الذي جعل رجال الدولة يحتقرون بلادها
في آسية وأفريقية وجميع الشعوب الذين في هذه البلاد، فكل قوة الدولة تعد في
ولاياتها الأوروبية ولولاياتها الأوروبية، ومعظم أموال الدولة تصرف فيها،
وعاقبتها للأوروبيين دون العثمانيين؛ لأن أوروبة كلها مجمعة على ذلك، ولكن
تنفذه بالتدريج، فلا ينبغي أن نأسى على ما يزول من أملاك الدولة في أوروبة،
ولا نفرح بما يبقى منها، وإنما ينبغي أن نوجه كل عنايتنا إلى أملاكنا في آسية،
وأن نقيم بناء الإدارة والإصلاح فيها على الطريقة التي يسمونها اللامركزية.
فتجب العناية قبل كل شيء بجعل كل من يقدر على حمل السلاح في كل قطر
من الأقطار جنودًا مستعدين للدفاع عنه إذا هاجمه العدو، وأن يكونوا في هذا
متكافلين متعاونين بنظام يوضع لذلك، وأن يكون أول ما يبدأ به من ذلك الحجاز
والبلاد المجاورة له، وأن يكون كل ما يجمع من المال لإعانة الدولة خاصًّا
بتحصين الحرمين الشريفين وما حولهما، وإعداد تلك البقاع كلها للدفاع عنهما،
وبجعلهما مثابة للعلوم والفنون بإقامة المدارس العامة في المدينة المنورة والطائف،
وأن يتولى هذا العمل جمعية علمية إسلامية يختار أعضاؤها من خيار مسلمي الآفاق
كلها. فإذا لم يبادر عقلاء المسلمين من العرب والترك والهنود والفرس وغيرهم إلى
جمع المال لهذين العملين والسعي لتنفيذهما - فوالله ثم والله ليندمُنَّ وليعلمُنَّ
أن اهتمامهم بأدرنة والقسطنطينية لا يغني عنهم من ذلك شيئًا.
وليسقطن تحت نير أوربة كل ما بقي لهم، حتى كعبتهم وروضة نبيهم صلى
الله عليه وسلم، فليتدبروا ويتذاكروا {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13)
وسنعود إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(16/71)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلتنا الهندية
شكر علني
كنت أرى من حقوق إخواني مسلمي الهند وعمان والعراق الذين
أكرموا مثواي في رحلتي، وأحسنوا ضيافتي وبالغوا في مودتي، أن أكتب
إلى كل واحد منهم كتاب شكر خاص به، وكنت أتربص فرصة فراغ أوفيهم
حقهم هذا، ولكن قد طال العهد والزمن لم يَجُدْ عليَّ بهذه الفرصة، وذلك أن
زمن الرحلة قد امتد في العودة فلم أبلغ القاهرة إلا في النصف الثاني من شهر
شوال، فالأعمال التي كانت متأخرة من مدة ستة أشهر، وما يجب من
الاهتمام والعمل لفتح مدرسة الدعوة والإرشاد، وكان قد جاء موعد فتح
المدارس، وما يجب من جمع الهيئة العامة لجماعة الدعوة والإرشاد في
النصف الأول من ذي القعدة، وما عرانا من انحراف المزاج، ثم ما شغل
البال والوقت من هذه الحرب المشئومة، كل ذلك كان حائلاً دون سنوح
الفرصة المنتظرة.
لهذا رأيت أنه يجب عليَّ في عرف الوفاء والأدب أن أستعيض عن
الشكر التفصيلي الخاص بشكر إجمالي عام لأولئك الأصدقاء الكرام، والعلماء
الأعلام، والأمراء الفخام، وإنني أرجو وقد وفقت للكتابة إلى قليل منهم، أن أوفق
إلى مكاتبة سائرهم أو أكثرهم، وإنني أخص بالذكر من أتذكر الآن أسماءهم.
أولهم وأولاهم بالشكر من جالية العرب في بمبي ومن أهلها صديقي
الحميم المحسن العظيم الكريم ابن الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل
إبراهيم، فهو الذي قام بحسن ضيافتي في غدوتي وروحتي، وأعد سيارة
كهربائية خاصة مدة إقامتي في بمبي، ثم ابنا أخيه الشيخ عبد الرحمن إبراهيم،
والشيخ يعقوب إبراهيم، والشيخ محمد المشاري رئيس شركة البواخر
العربية، وعبد الله فوزان، وسائر الجالية العربية في بومباي الذين استقبلوني
على رصيفها هم وبعض كرام أهلها كالحاج سليمان عبد الواحد شريف البلد
والحاج إسماعيل صوباني رئيس (أنجمن إسلام) الذي حياني على رصيف
البحر بخطبة بليغة، وميان محمد حاجي جان محمد شوتهاني كبير طائفة
الميمن وأشهر تجارهم نجدةً ومروءةً، والحاج عبد الله ميان الكهندواني من
كبراء طائفة الميمن أيضًا، وهؤلاء قد أدبوا لنا مآدب حافلة اجتمع لها مئات
من الكبراء والفضلاء.
ثم أشكر فضل باي من أكابر سروات البلد جماعة آغاخان، وكنت أتمنى
لو كان زعيمهم محمد سلطان (إمام الإسماعيلية) يومئذ في بمبي فإني كنت
حريصًا على لقائه، وقد سررت من اهتمام فضل باي بأمر الجامعة الإسلامية؛
لأنها كانت جل حديثنا في تزاورنا.
وممن أخص بالشكر والثناء السيد علي الحسن معاون البوليس في آكره
الذي أحسن ضيافتي وإطلاعي على الآثار العظيمة التي فيها، ومحمد شعيب
مفتش مصلحة الآثار في آكره ودهلي.
وأما أهل دهلي فأجدرهم بثنائي وشكري النواب محمد أجمل خان حاذق
الملك الطبيب الشهير كبير سروات دهلي وأحد أفراد المسلمين الممتازين في
الهند بالعلم والفضل وعلو الجانب، وقد أحسن - حفظه الله - ضيافتي
وجمعني في داره بأكبر علماء البلد ووجهائه، وخصص لي سيارة كهربائية
تيسر لي بركوبها رؤية جميع الآثار القديمة في ضواحي تلك المدينة في مدة
قصيرة، ولا أنسى أولئك العلماء الكرام الذين أنسنا بهم هناك وأخص بالذكر
منهم مولوي الشيخ سيف عبد الرحمن المدرس الأول والناظر لمدرسة فتح
بوري الدينية، وقد زرنا مدرسته وسمعنا وأسمعنا ما فتح الله به فيها.
وتكلمنا معه في إصلاح التعليم، والعناية باللغة العربية فصادفنا منه ارتياحًا لرأينا
في ذلك، ومولوي الشيخ عبد الله الغزيبوري، ومولوي أحمد الله المبارك بوري،
وميرزا ضمير الدين أحمد اللوهاري، ولا أنسى مودة التاجر الصادق الحاج
التقي عبد الغفار بن الحاج علي جان، الذي كان يترك محل تجارته الكبير
ويصاحبني في كل مكان، وقد صحبنا معه في رؤية آثار دهلي النواب ضمير
الدين، وبالقرب من الأثر العظيم الذي هو أكبر آثار دهلي، منارة قطب أوليا، بلدة
اسمها مهرولي، عرجنا فيها على دار الشيخ رياض الدين من كبراء أهلها
وكان أعد لنا غداءً طيبًا نوَّع فيه ألوان الأطعمة الهندية،وكان من مظاهر
الكرم الإسلامي في تلك الديار.
ولم أنسَ ولا أنسى زيارة مدرسة مظاهر العلوم في مدينة سهارنبور ولقاء
ناظرها وأكبر مدرسيها مولوي الشيخ خليل أحمد الذي لم أر في علماء الهند
الأعلام أشد منه إنصافًا ولا أبعد عن التعصب للمشايخ وللتقاليد، وما ذلك إلا
لإخلاصه وقوة دينه ونور بصيرته.
وأبدأ من شكر أهل لاهور الكرام بالثناء على الأمير الجليل والسري
النبيل، النواب فتح علي خان قزلباش، الذي أحسن ضيافتنا وأكرم وفادتنا،
ولا غرو فقصره في تلك المدينة القديمة معهد الكبراء والفضلاء، وموئل
السائحين والغرباء، وأثني بالثناء على الصديقين الفاضلين، والرصيفين
الكريمين مولوي محبوب عالم صاحب جريدة بيسه أخبار، ومولوي محمد إن
شاء الله صاحب جريدة وطن، وكان هذان الفاضلان يتسابقان لضيافتي،
ويرى كل منهما أنه أولى بي: الأول لأنه تكرم بزيارتي في مصر عند
منصرفه من أوربة، والثاني لما بيني وبينه من صلة المكاتبة وعنايته بنشر
تفسير المنار، ولكن النواب الجليل قال: إنه هو الأحق بذلك، فلم يسعهما إلا
الإذعان، لأنه هو البدء الذي لا يختلف على تقديمه اثنان.
ثم أثني الثناء الأوفى على الكاتب البليغ والخطيب المصقع مولوي ظفر
علي خان، صاحب جريدة (زميندار) الذي بالغ في الترحيب بي قبل وصولي
إلى الهند، واقترح أن تعقد لجنة لوضع برنامج لحفاوة مسلمي الهند بي، وكان
يريد أن يحتفل احتفالاً عامًّا يجتمع له الألوف من جميع طبقات الشعب
فاعتذرت له على ذلك بأنني مضطر إلى السفر إلى ندوة العلماء لقرب موعد
احتفالهم هذا العام.
ومما أذكره مع الشكر والثناء مواتاته لي في الصلح بينه وبين صديقي
صاحب جريدة (وطن) الذي أشكر له مثل هذه المواتاة، وكانت جرت بينهما
مناظرة حادة أدت إلى الجفوة وآلمت فضلاء المسلمين في جميع البلاد الهندية
حتى رغب إليَّ كثير من كبرائهم في السعي للصلح بينهما عند زيارة لاهور.
ومما أشكره لصديقي محبوب عالم شكرًا خاصًّا، ترْكه لنجله الكريم مريضًا
يعالَج وطوافه بي على مساجد البلد ومدارسها ومعاهدها الأثرية فيها وفي
ضواحيها.
وأما أهل لكنهؤ فلا أستطيع أن أوفيهم حقهم من الشكر والثناء، فقد
استقبلني الألوف منهم بحفاوة قلما يستقبل بمثلها الملوك، حتى خجلت
واستحييت وكلما رجوتهم أن يختصروا في التكريم غلوا فيه وأفرطوا، حتى
إنهم جروا المركب التي ركبتها بأيديهم، وأخص بالشكر والثناء رجال ندوة
العلماء الكرام، وفي مقدمتهم رئيسهم صديقي العلامة الهمام شمس العلماء
الشيخ شبلي النعماني، والسيد ممتاز حسين رئيس لجنة المستقبلين فيها، وهو
الذي خصص داره الفيحاء لنزولي فيها، وتأنق في إتقان الضيافة ما شاء فجمع
بين مقتضى أصله العربي الصميم، وفرعه الهندي الكريم، واحتشام السلطنة
أمين أموال الندوة، وسائر علماء الندوة وغيرهم كالعلامة الكبير السيد ناصر
حسين كبير علماء الشيعة.
ثم عظماء البلد الذين أدبوا لنا المآدب الحافلة: مشير حسين القدوائي،
الذي كان كاتب السر لجمعية الجامعة الإسلامية في لندن وأخوه شاهد حسين
والسيد محمد علي حسن خان ابن أمير العلماء وعلامة الأمراء المرحوم السيد
صديق حسن خان، نواب بهوبال صاحب التصانيف الشهيرة، والأمير الكبير
النواب محمد علي راجا ولاية محمود آباد، وهو من أعظم أمراء الهند
وسرواتهم من طائفة الشيعة الإمامية، وأركان النهضة الإسلامية، فإنه يبذل
المال لمدرسة العلوم الكلية في عليكرة بألوف الجنيهات، كما يبذل للمدارس
الخاصة بأهل السنة كمدرسة ندوة العلماء، فنسأل الله أن يكثر في المسلمين من
أمثاله، وكانت خاتمة الدعوات الحافلة في لكهنؤ دعوة الطبيب الشهير الحكيم
محمد عبد الولي حياه الله تعالى.
وقد سِرت من لكهنؤ إلى بنارس مدينة البراهمة المقدسة ومقر أقدم أصنام
في الأرض فلم أعرف من مسلميها إلا مضيفنا الكريم محمد ممنون حسن خان
المعاون المسلم للحاكم الإنكليزي فيها، وهو أفغاني الأصل، فقد تفضل - أحسن
الله جزاءه - مع حسن الضيافة بمساعدتنا على رؤية الآثار القديمة الوثنية
الثابتة من ألوف السنين المكتشفة حديثًا في ضواحيها، صرفنا كل وقتنا في
رؤية الآثار والعاديات فلم نتعرف لأحد، على أن أكثر مسلمي بنارس من
الصناع والزراع وقلما يوجد فيها أحد من أهل العلوم والآداب فيما نعلم.
للشكر بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(16/77)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أبو سعيد العربي الهندي
كان هذا الرجل في (درنه) يتردد على أنور بك وحاشيته مثل الشيخ صالح
التونسي وجاء مصر فاتصل بأخلاط الحزب الوطني فلحقه الفريقان بالطعن في
صاحب المنار فكتب في بعض جرائد الهند ينكر عليها فيها إطراءه وتسميته مصلحًا،
وبلغني أنه ادعى في بعضها أنه يتكلم في شأني عن معرفته بي، وهو لا يعرفني
وإنما رآني مرتين: إحداهما في لجنة الهلال الأحمر وثانيتهما في الطريق، دعوته
فيها إلى إدارة المنار للتعارف والمذاكرة فاعتذر.
فإذا كان قد كتب ما كتب بسوء الفهم، وهو مخلص، فستظهر له عاقبة
المنافقين الذين كذبوه وخدعوه، والله يعفو عنه، وإن كان مثلهم فجزاؤه على
الله تعالى، والعاقبة للمتقين.
__________(16/80)
صفر - 1331هـ
فبراير - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
] مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه ِ [[*]
(س5) من صاحب الإمضاء بالإسكندرية:
حضرة مولانا الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل السيد محمد رشيد رضا
الأكرم، السلام عليكم ورحمة الله، مولاي، نشرت إحدى الصحف أن طبيبًا
أمريكيًّا اكتشف عائلة مكونة من أب وأبناء له ثلاث بأن كل فرد منهم له قلبان
وأن كل قلب مستقل عن الآخر ويؤدي وظيفته تمام التأدية، ولما كان هذا
معارَضًا بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب:
4) أرجوكم إجلاء الحقيقة مع إظهار معنى الآية الشريفة وبيان وجه مخالفة
الآية والعقل معًا لذلك إن كان ثمت مخالفة أو موافقة، هل الآية قاصرة على
الرجل أو تشمل المرأة التي هي فرعه، وهل يؤخذ من الآية أم الخارج، أملي
التكرم بالجواب خدمة للعلم والدين لا زلتم للفضل أهلاً.
... ... ... ... ... ... ... من المخلص محمد \ سليمان
... ... ... ... ... ... ... ... بجريدة الأهالي
وقد أرسل السائل الفاضل ما نشرته في ذلك جريدة الأهالي في عدد 689
وهذا نصه:
المعروف للآن أن القلب يسكن الجانب الأيسر من صدر الإنسان وأن
الذين وجدت لهم قلوب في الجانب الأيمن يمكن أن يعدوا على الأصابع بين
مئات الملايين من بني آدم، ولكن أحد أطباء أمريكا اكتشف أخيرًا أمرًا أغرب
بكثير من وجود القلب في الجانب الأيمن، اكتشف أربعة أشخاص من أسرة
واحدة لكل منهم قلبان: قلب في اليمين وقلب في اليسار، وهؤلاء أربعة هم أب
وأبناؤه الثلاثة.
وبعد المشاهدة والامتحان عرف أن كلاًّ من القلبين منفصل عن أخيه تمامًا
ويؤدي وظيفته كما لو كان وحده، رأيه أن الأبناء ورثوا ذلك من أبيهم. اهـ.
(ج5) يطلق لفظ القلب اسمًا لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى
الفؤاد مطلقا، ويقول بعضهم: إن القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه
المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة، كأنه يريد أن هذا هو الأصل، ثم جعله
بعضهم اسمًا لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها
وحجابها قلبًا، ويطلق اسمًا لما في جوف الشيء وداخله كقلب الحبة، واسمًا
لشيء معنوي وهو النفس الإنسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر
وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه
الأفعال في القرآن.
والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء
الحسية، وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات
والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء عدة أسماء منها الروح وهو
من مادة الريح، فإن لفظ الريح، أصله (روح) بكسر الراء فقلبت الواو ياء
لمناسبة الكسرة كواو الميزان، ولذلك تجمع الريح على أروح والميزان على
موازين، والمناسبة بين الروح والريح أن كلاً منهما خلْقٌ خفي قوي، ومنها
النفس وهو من النَّفَس بفتحتين؛ لأن النفس دليل الحياة التي تكون بالنفس،
ومنها القلب واللب؛ لأن لب الشيء وقلبه من المخلوقات الحية هو مستَقَر
حياته ومنشؤها كما يعرف ذلك في الحبوب، وهنالك مناسبة أخرى للقلب هو أن
قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها، وللوجدانات النفسية
والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان، ومهما كانت المناسبة التي
كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة
والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها منه، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ القُلُوبُ
الحَنَاجِرَ} (الأحزاب: 10) أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من
مكانها، وقال: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: 46) أي نفوس أو
أرواح وليس المراد أن القلب الحسي هو آلة العقل. وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ
* عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة،
وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل؛ لأن العقل في اللغة ضرب
خاص من ضروب العلم والإدراك لا يقال: إن الوحي نزل عليه، ولكن قد تسمى
النفس العاقلة عقلاً كما تسمى قلبًا، وقد يُعزى إلى القلب ويُسند إليه ما هو من
أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي كقوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: 2) وقوله: {ِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 156) وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة: 15)
وللاشتراك بين القلب المعنوي وهو النفس، والقلب الحسي وهو المضغة التي
ينبعث منها الدم؛ أو لأن الاسم الأول مأخوذ من الثاني، وإن صار
مستقلاًّ بمعناه، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي
الصُّدُورِ} (الحج: 46) أما الجوف في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) فقد يراد به الصدر، وقد يراد به ما هو أعم منه،
فإن جوف الشيء باطنه كقلبه، فالرأس له جوف وفيه الدماغ، والقلب له جوف
وفيه السويداء، فعُلم مما تقدم أن القلب في هذه الآية هو الروح الإنساني
المدرك.
روى أحمد والترمذي وحسَّنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم،
والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في سبب نزول هذه الآية:
(قام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا يصلي فخطر خطرةً، فقال المنافقون
الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلبًا معكم وقلبًا معهم، أي: مع
أصحابه الصادقين) .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل من قريش
يسمى ذا القلبين كان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. فأنزل الله فيه ما
تسمعون.
وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو
يعقل أفضل من عقل محمد، وأنه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين، وأن الآية
ردت هذا الزعم كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب،
ومعنى القلب اللحمي غير مراد على كل حال.
ولو فرضنا أن المراد بالآية نفي أن يكون للإنسان قلبان حسيان لكان
الكلام صحيحًا، سواء صحت رواية الجريدة أم لا، ولا تصلح أن تكون هذه
الرواية ناقضة لخبر الآية لا لأن خبر الآية ماضٍ وما اكتشف بعدها لا ينقض
خبرها عما قبله؛ بل لأن بيان أحوال الخلق إنما تبنى على ما مضت به السنة
العامة التي يعبرون عنها بالناموس الطبيعي؛ والشاذ لا حكم له، ولا يعد
مكذبًا لمن يخبر عن السنن الكونية بما هو المعروف.
فإذا قال علماء وظائف الأعضاء والتشريح: إن جسد الإنسان مركب من
رأس ويدين ورجلين مثلاً، وإن لكل يد ورجل خمس أصابع فلا ينقض قولهم
هذا ولادة طفل برأسين أو أكثر من يدين بست أصابع، ونحو ذلك مما يسمونه
فلتات الطبيعة.
وإذا أنت تدبرت السياق الذي وردت فيه الآية وفهمت المراد منها بمعونته
علمت أن مسألة اكتشاف رجل له ولكل من أولاده قلبان لا يدنو من معنى الآية
بوجه ما. ذلك بأن السورة افتتحت بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة
الكافرين والمنافقين واتباع الوحي خاصة، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: {مَا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} (الأحزاب: 4) فكان المراد منه أن الإنسان لا
يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين، وهما ابتغاء رضوان الله
وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين والإخلاص فيكون في وقت واحد مخلصًا
لله ومخلصًا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر:
لو كان لي قلبان عشت بواحد ... وتركت قلبا في هواك معذبا
فهل يتعلق اكتشاف قلبين لحميين لرجل واحد - إذا صح - بشيء من
مراد الشاعر هنا؟ لا، إلا إن كانت إدراكاته ووجداناته النفسية صارت تجمع
بين الضدين في حال وزمن واحد كأن يكون مؤمنًا كافرًا، محبًّا مبغضًا، آمنًا
خائفًا، من غير ترجيح بين هذه الأشياء المتقابلة، وهذا محال.
***
ترتيب آي الرحمن الرحيم
(س6) من صاحب الإمضاء الرمزي في جبل لبنان:
حضرة الفاضل العلامة السيد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. بعد السلام،
أعرض أنه قد تجاهل بعضهم حكم الله تعالى وآياته المحكمة التي أنزلت على
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي أحرزت بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً} (الإسراء: 88) وأخذ مأخذه من التغيير والتأويل والتحريف والتبديل،
مدعيًا ما لم يدعه أحد قبله في العصور الخالية، وهو أن البسملة التي هي فاتحة
الكتاب، فيها خلل يعثر عليه المنتبهون مثله من ذوي الألباب، وهو أن البلاغة
تقضي بتقديم الرحيم على الرحمن.
فأرجو من سيادتكم وإرشادكم أن تبينوا هذا لمن جهل الحقيقة على
صفحات مناركم المنير، كيلا يتشبث بهذا التشبث من غلب عليه الجهل من
المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ح
(ج6) إن بعض المتعصبين الكارهين للشيء لا ينظرون إليه إلا نظرة
الكاره الملتمس للمَذَامِّ والمعايب، فإذا وجدوا منفذًا لشبهة يشوهون بها حسنه
عدوها حجة ناهضة، وقد استنبط بعضُهم الاعتراضَ الذي أشار إليه السائل من
قول أكثر المفسرين للبسملة: إن لفظ الرحمن أبلغ وأعظم معنى من لفظ الرحيم؛
لأنه أكثر حروفا، والأصل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى،
وفسروا (الرحمن) بأنه المنعم بجلائل النعم، والرحيم بأنه المنعم بدقائقها،
وأوردوا على هذا أن الترتيب لا يكون على قاعدة الترقي في الكلام بالانتقال
من الأدنى إلى الأعلى، وأجابوا على ذلك بأن الترقي إنما يكون هو الأبلغ إذا
كان اللفظان - كعالم ونحرير - يدل أحدهما على معنى الآخر وزيادة، فإنك إذا
قلت: فلان نحرير عالم كان لفظ عالم، تكرارًا لا فائدة له؛ لأن لفظ نحرير يدل عليه؛
لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص، وذكر الأخص يستلزم الأعم ولا عكس.
وكلمتا (الرحمن الرحيم) ليستا من هذا القبيل؛ لأن (الرحمن) هو المنعم
بجلائل النعم فقط، فبدئ به لأنه الأعظم معنى، والمقام مقام الثناء فيقدم فيه الأبلغ
الأدل على الفضل، ثم جيء بلفظ (الرحيم) كالمتمم للمعنى؛ ولئلا يحجم من
يحتاج إلى النعم الدقيقة عن طلبها من الله تعالى. وهذا توجيه قوي جهله أو
تجاهله المعترض المتعصب فقال ما قال.
على أن هذا التفسير للاسمين الكريمين ليس هو التفسير الذي لا معدل
عنه، فقد اختار الأستاذ الإمام قول بعضهم: إن لفظ (الرحمن) من قبيل
الصفات العارضة كالعطشان والغضبان، ولفظ (الرحيم) من الصفات الثابتة
كالحكيم والعليم، فذكر الوصف الدال على التلبس بالرحمة بالفعل عند عروض
الحاجة إليها بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى الذي لا يطرأ عليه تغيير، ثم
ذكر الوصف الدال على الثبات والدوام ليفهم العربي من أسلوب كلامه أنه
سبحانه وتعالى متصف بالرحمة بالفعل عند حاجة العباد إليها، وأنها مع ذلك
صفة ثابتة له في الأزل والأبد بصرف النظر عن تعلقها بالعباد، وهو وجه ظاهر.
وهنالك وجه آخر في حسن الترتيب وبلاغته، وهو أن (الرحمن) هو
الوصف الذي عُدَّ من قبيل اسم العَلَم واسم الذات؛ ولذلك قال تعالى {قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) وأما
الرحيم فهو الوصف الذي يراد منه معنى الوصفية، ولذلك تعلقت بها الباء في
قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) وهذا الوجه ظاهر أيضًا لا
شبهة تجرئ المتعصب على الاعتراض عليه بل هو الأظهر، فهو إذا لم
يجهله يتجاهله تعصبًا {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور:
40) .
__________
(*) (الأحزاب: 4) .(16/99)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلتنا الهندية
شكر علني
(تتمة ما في الجزء الأول)
(مدرسة عليكره)
أبدأ من شكر مدرسة عليكره ومديري شئونها وطلابها بذكر الشيخ
الجليل والمولى النبيل النواب وقار الملك بهادر مولوي مشتاق حسين،
سكرتير (عمدة) المدرسة وأحد زعماء مسلمي الهند وأركان النهضة العلمية فيها،
وبالعالم الأصولي النحرير، والمحامي الشهير المقبل على شأنه، الخبير
بأهل زمانه آفتاب أحمد خان، رئيس مؤتمر التربية والتعليم في الهند،
وبالعالم العامل المهذب الفاضل مولوي محمد حبيب الرحمن، رئيس الشرف
للشعبة الدينية في المدرسة، ثم بسائر العلماء الأعلام المدرسين، ووجهاء البلد
المقدمين، وفي طليعتهم الدكتور محمد أشرف، والدكتور ضياء الدين،
والأستاذ يوسف هردوتس الألماني أستاذ الشعبة العربية في المدرسة، والسيد
سليمان أشرف البهاري معلم الشعبة الدينية على مذهب أهل السنة، ومولوي
فدا حسين معلم الشعبة الدينية على مذهب الشيعة الإمامية، وعبد المجيد
خواجه المحامي، وأبو الحسن معاون سكرتير المدرسة.
تفضل هؤلاء العلماء الأجلاء باستقبالي على محطة السكة الحديدية خارج
البلد مع جمهور عظيم من أهل المدرسة ووجهاء البلد، وبتوديعي كذلك،
وبالحفاوة الفائقة بي مدة إقامتي بينهم، وقد بالغ النواب الجليل وقار الملك في
التأنق بضيافتي وأعد لي دار صديقه السري الكبير (خان) بهادر نواب محمد
فرمل الله خان الفسيحة الفيحاء، ذات الحديقة الغناء، وكان يدعو لمؤانستي
على الطعام كل يوم أكابر العلماء والأدباء، وقد استفدت من فضلاء عليكره
علمًا وخبرةً بأحوال إخواني مسلمي الهند لم أجدهما عند غيرهم.
ثم أشكر لناظر المدرسة الهمام مستر جي أيشتول بهادر، ترحيبه بي هو
وقرينته الفاضلة ودعوتهما إياي إلى شرب الشاي في دارهما، ووعد الناظر
إياي بالإجابة إلى ما اقترحته عليه من العناية بتوسيع نطاق تعليم اللغة العربية
في المدرسة، وأشكر مثل هذا الوعد لأستاذ الشعبة العربية يوسف هردتس
الألماني، أما النواب وقار الملك وعمدة المدرسة وأساتذتها فإن ارتياحهم
لاقتراحي عليهم لم يكن إلا تذكيرًا بما لا يغيب عن أذهانهم، بل رميًا عن
قوس عقيدتهم، وقد وعدوني بأنهم سينشئون ناديًا في المدرسة لا يتكلمون فيه
إلا بالعربية، ولعلهم أنجزوا الموعد، فإنهم أهل الوفاء والصدق، وقد ذكرني
رأيهم هذا، وكان وعدا مفعولاً، ما حدثني به بعض علماء المسلمين في
روسية وهو أنهم توسلوا إلى التمرن على اللغة العربية باتفاق أهل العلم
وطلابه على التزام التكلم بالعربية دون سواها في مدة شهر رمضان.
أما النواب الجليل فقال كما قال هردوتس: إنه لا يتيسر لهم اتفاق تعليم
اللغة العربية ما دامت المدرسة تابعة لنظارة معارف (إله آباد) قال النواب:
وإننا قد جمعنا المال الكافي لتحويل المدرسة إلى جامعة مستقلة، فمتى تم لنا
ذلك فإننا نجتهد فيما اقترحتموه علينا من إتقان تعليم الدين وتعليم العربية أتم
الاجتهاد، وقد أحزنني بعد عودتي ما بلغني من استقالة النواب الجليل من
المدرسة، ولا أدري أحق ما قيل من أن المال الذي كان جمع لجعلها جامعة قد
دفع لإعانة الدولة العثمانية على الحرب أم لا؟ وإذا صح فهل تصدوا لجمع
غيره أم لا؟ أما المبلغ فهو مئتا ألف جنيه إنكليزي وبضعة آلاف من الجنيهات.
ولا يسعني من شكر طلاب المدرسة النجباء والثناء عليهم إلا الإجمال،
فقد قرت عيني بما رأيته من أمارات النجابة والاجتهاد عليهم، وما توسمته
من شعور الإخاء الإسلامي في وجوههم، وما قابلوا به خطبتي عليهم في
التربية من الارتياح والقبول، وقولهم: إنهم نقشوها في ألواح النفوس وصحف
القلوب، ثم إن طلاب القسم العالي والأعلى منهم لم يكتفوا بإظهار سرورهم
واحترامهم بالقول الحسن، والزيارة والسؤال، وغير ذلك من شعائر الاحترام،
بل استأذنوا النواب الجليل في مأدبة حافلة للعشاء باسمهم فكانت مأدبتهم أكبر
مأدبة أكرمني بها أمراء الهند وأغنياؤهم، فإن أصحاب الدعوة من الطلبة
بضع مئين ودعوا معي أساتذة المدرسة من الوطنيين والأوربيين ووجهاء البلد،
على أنهم قدروا نفقات دعوة لزهاء ألف رجل يقدم لهم أنفس ما يأكل الأمراء
والكبراء من الطعام، ثم اكتفوا بعد مذاكرتي ورضائي مع الإعجاب والسرور
بأن يجعلوا المأدبة في الدرجة الوسطى ويجعلوا باقي ما قدروه من نفقتها إعانة
لأيتام وجرحى المجاهدين في طرابلس الغرب، فكان ذلك ثلث ما قدروه،
وكذلك فعل العالم العامل التقي الخفي مولوي حبيب الرحمن الذي آثر بأن
أسميه صديقي المحبوب في دعوته إياي إلى حفلة الشاي، فحيا الله هؤلاء
الإخوة الكرام.
***
(مدرسة ديوبند)
قد بينت في العجالة التي كتبتها عن رحلتي وأنا في العراق ما كان من
سروري وارتياحي في مدرسة ديوبند الدينية، وأن الخُبر لها كان خيرًا من
الخَبر عنها، فأشكر لعلمائها الأعلام وطلابها النجباء تواضعهم وكرمهم
بي والعناية باستقبالي وتوديعي؛ إذ خرج لهما رؤساؤهم وجمهورهم إلى
محطة السكة الحديدية البعيدة عن البلد، وفي مقدمتهم مولانا العلامة الشيخ
محمود حسن رئيس المدرسين، ومولانا الحافظ محمد أحمد ناظر المدرسة،
ومولانا العلامة الشيخ عبيد الله رئيس جمعية الأنصار، ومولانا العلامة الشيخ
أنور شاه، ومولانا العلامة الشيخ محمد حبيب الرحمن من كبار المدرسين،
وكان من ذوقهم ولطفهم أن وضعوا على باب المدرسة قطعة كبيرة من النسيج،
مرسومًا عليها حديث: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى
للغرباء) وقد حيوني بالخطب والشعر حياهم الله تعالى، وبالغوا في الاعتذار
عن التقصير في الضيافة بأن حالهم وحال بلدهم الصغيرة لا يمكنانهم من كل
ما يرونه لائقًا من كثرة الألوان وضروب الإتقان، وأقول: إنهم والله ما
قصروا ولقد كانت كيفية ضيافتهم آثر عندي وأروح لنفسي من ضيافات كبراء
الدنيا، ومن مبالغتهم في ضيافتهم أنهم زودونا بأطعمة نفيسة حملوها إلى
القطار الحديدي عند توديعنا، فأكلنا منها في الطريق وأفضنا على الفقراء في
بعض المحطات، وهذا من الكرم الذي انفردوا به دون سائر الكرماء.
وإنني أختم الشكر والثناء بذكر من يستحق أن يشارك أهل كل بلد زرته
هنالك في شكري لهم، وهو صديقي الصفي الوفي، السيد عبد الحق حقي
الأعظمي البغدادي، مدرس اللغة العربية، في مدرسة العلوم الكلية، فإنه كان
رفيقي وأنيسي وترجماني في كل هاتيك البلاد، وإنني ما لقيت في حياتي رفيقًا
أخف روحًا وأكبر مروءةً وأشد تواضعًا وأحسن تصرفًا من هذا الأخ الكريم،
والولي الحميم، فإنه وضع نفسه مني، وهو الكفؤ الكريم، في موضع التلميذ
المجتهد من الأستاذ المحقق، والمريد الصادق من المسلك العارف، والولد
البار من الوالد، بل الخادم الأمين من المخدوم القمين، ثم كتب رسالة في
ملخص رحلتي لقب نفسه فيها بهذه الألقاب، وطبعها ونشرها في البلاد، ولولا
ذلك لما أبحت لنفسي أن أذكرها ولو لأشكرها، وأبين أن فضله وكماله هما
اللذان حملاه على التفضل بها، فهي أيادٍ يمنها عليَّ، وليس لي يد أمنها عليه،
وإنما أسأل الله أن يحسن جزاءه ويديم وفاءه، وأن يقر عينه بولده، حتى
تتصل بهم سلسلة الولاء والوفاء من بعده.
للكلام بقية في شكر أهل عمان والعراق
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(16/104)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدولة العثمانية
تعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيها
ونظرة في حالها ومستقبلها
لا يظهر الاهتمام بأمر الدولة العثمانية في قطر من الأقطار الإسلامية
كما يظهر في الهند ومصر؛ لما امتازا به في الحرية وانتشار العلم، وإننا نرى
في هذا الأيام في مطبوعات الهند ما لا نراه في المطبوعات العربية ولا
التركية من اللهج بالخلافة، والخوف على دولة الخلافة، والتألم من الحرب
البلقانية، وتمني العود إليها بعد الهدنة رجاء النصر للدولة العثمانية.
ومن موجبات الأسف أن هؤلاء المسلمين لا يعرفون حقيقة حال الدولة
ولا حقيقة مصلحتها ومصلحة المسلمين المرتبطة بها، ويترتب على هذا أنهم
لا يعرفون كيف ينفعونها ولا كيف يدفعون الضرر عنها، بل كانوا ولا يزالون
يظنون أن الانتصار والتحزب لكل من يتولى أمر هذه الدولة في الآستانة هو
الذي يقويها ويحفظ استقلالها، ويحفظ بحفظه الإسلام ويقام شرعه ويحمي
الحرمان الشريفان.
على هذه القاعدة كانوا يتشيعون للسلطان عبد الحميد المخرب لبنيان
الدولة من الداخل، ثم صاروا ينتصرون لمن خلفوه من المخربين من الداخل
والخارج، وكانت جرائدهم مظهر هذا الانتصار، وكان من تأثيرها إضعاف
سعي طلاب الإصلاح من العثمانيين في مصر مدة زمن السلطان عبد الحميد،
وقد استطاع الاتحاديون أعداء عبد الحميد أن يستخدموا كثيرًا ممن كان
يستخدمهم الحزب الوطني في مصر، ولكن كان من شؤمهم أن سقط هذا
الحزب ولم يبق له من الأثر إلا سفاهة بعض الشبان الحمقى تظهر في بعض
الجرائد التي لا يأبه لها أحد يؤبه له في مصر.
ولم يستطع المصريون والهنديون أن ينفعوا الآستانة بشيء إلا ما جمعوه
من المال للإعانة على الحرب وبعثات الهلال الأحمر، ولم يكن للحزب
الوطني تأثير في جمع مئات الألوف من الدنانير التي جمعت من مصر، ولكن
كان للمؤيد ولمؤسس المؤيد يد بيضاء وتأثير عظيم في ذلك وهما اللذان
يتهمهما الحزب الوطني بعداوة الدولة العثمانية.
ثم إن مسلمي الهند ومصر صاروا يبحثون في سياسة الدولة الداخلية
والحربية وإنني أعتقد أن جميع الهنديين وأكثر المصريين مخلصون في ذلك
تدفعهم الغيرة الدينية إلى هذا البحث، ولا يشذ إلا أفراد من المنتمين إلى
الحزب الوطني هنا فإنهم مستأجرون، ولا تنفع الكتابة في هذا الموضوع وإن
كانت عن إخلاص إلا إذا كانت عن معرفة صحيحة بحقيقة الحال ورأي
صحيح فيما تقتضيه.
***
(نشرة صحيفة بريس من حيدر آباد)
جاءتنا نسخ من هذه النشرة التي طبعت باللغة العربية لإيقاف العرب في
مصر والشام والآستانة على رغائب إخوانهم المسلمين في الهند في الأزمة
الحاضرة، وعهد إليهم الكاتب أن ينقلوها إلى جرائدهم العربية ويترجموها
بالتركية، وقد وزعنا النسخ التي وصلت إلينا ورأينا من حق الكاتب الغيور أن
نشير إلى ما كتبه في المنار أيضًا وإن كنا لا نوافقه على كل ما ارتآه.
في النشرة مسائل مهمة نلخصها فيما يأتي:
(1) وصف الكاتب شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العثمانية، وأن الدولة
البريطانية تعرف هذا جيدًا فاستفادت بالخلافة الإسلامية ما استفادت، وذكر
من ذلك أن السلطان تيبواك بطل الإسلام في الهند كان في القرن الثامن عشر
أرسل سفارة سياسية إلى سدة الخلافة ولكن رجال الدولة العلية أصدروا
الفرمان الشاهاني بوجوب مودته للدولة البريطانية. وأن السلطان عبد الحميد
أصدر فرمانا في عهد الثورة الهندية الكبرى سنة 1857 بوجوب طاعة
مسلمي الهند للدولة البريطانية كما طلب منه الإنكليز، وهكذا أصدر الفرمان
للأمير شير علي خان أمير الأفغان بوجوب الاعتصام بحبل مودة الإنكليز.
ونحن نقول للكاتب: صدقت، ونزيده أن الدولة لجهلها بقيمة منصب
الخلافة لم تعمل عملاً ما تستفيد به منه، ولكن الإنكليز هم الذين أحيوا اسم
الخلافة واستخدموه حتى في عهد سلطة الاتحاد والترقي، فقد حملت الوزارة
الاتحادية السلطان محمد رشاد في العام الماضي على إرسال أحد أنجاله بكتاب
خاص من خط يده إلى توديع ملك الإنكليز في مياه ثغر بورسعيد عند سفره
إلى الهند، لأجل الاحتفال بإلباسه تاج الإمبراطورية الهندية، وإعلان مودته
له ولدولته.
ولكن ما يدرينا الآن أن إظهار المسلمين لشدة تعلقهم بالدولة العثمانية
صار يخيف الإنكليز من عاقبته، فحملهم هذا على الرضا بإزالة سلطانها، وهل
ينفع الدولة حينئذ شدة حزن الهنود على ما أصابها، وترك طلبة العلم هنالك أكل
اللحم لتوفير المال لها؟
(2) أشار الكاتب إلى أقوال ظن أن أهل هذه البلاد اطلعوا عليها، كبيان
جريدة كامريد الدهلوية لحال المسلمين الآن، وقول الخواجة مظهر الحق
(بيرسترات لا) في محاضر ضجت بها أرجاء الهند: إن هذه الحرب أريد بها
إخراج الترك والمسلمين من أوربة، أو حرب بين الإسلام والنصرانية. وما
قاله السير جيمس مستن لفتننت غورنر في خطابه لطلبة كلية عليكرة، ونحن
نخبره أن أهل البلاد العربية لم يطلعوا على ما ذكره ولكني أظن أنه لم يُقل
عندهم شيء إلا وقيل عندنا مثله أو أشد.
(3) قال: بل الخطر ظهر جليًّا لآسية الصغرى والشام والعراق، بل
العرب نفسها مركز قلوب المسلمين؛ فإن نفوذ أوربة في هذه البلاد أنتم أعلم به
منا، ولا شك أنكم تعرفون كيف يزداد نفوذ ألمانية كل يوم في العراق
والأناضول. وذكر طمع هذه الدولة هناك وطمع فرنسة في سورية، ونسي أو
تناسى أن طمع إنكلترة في بلاد العرب أشد وأوسع، وأن دولة أوربة أنشأت
تبحث في تقسيم أملاك الدولة في القرنين الأخيرين بتدخل أوربة وأنه لا فائدة في
إبقاء سيادة الخلافة اسمًا بلا مسمى.
ونقول إن خواصنا أعلم من خواصكم بكل ما قال - كما قال - ويرون
أن الذنب على الدولة لا على دول أوربة، فإن أوربة قد وصلت إلى درجة عالية
في فتح الممالك وهي ما تسميه الفتح السلمي، ومن المحال أن تبقى الدولة العثمانية
بجانبها وهي على جهلها وخللها وكسلها وعدم اهتمام رجالها بشيء غير سلب مال
الأمة لأجل التمتع به، ولو جارت الدولة تلك الدول في العلم والعمل والعدل
في أمتها والنظام والقوة، لتنافسْنَ في التقرب إليها وتسابقن محالفتها للانتفاع من
قوتها، أوتركْنَها وشأنها خوفاً من شدة بأسها، فهي قد تركت كل عمل نافع
واتكلت على تنازع الدول عليها، توهمًا أنهن لن يتفقن عليها، فخاب ظنها
وبطل وهمها.
(4) نتيجة ما تقدم والمقصد من النشرة أن إخواننا مسلمي الهند يرون
أنه يجب أن لا ترضى الدولة باستقلال ألبانية بلاد الأرنؤوط، ولا بالتنازل عن
شيء من مكدونية لأن ذلك يسقط مقام الخلافة وهيبتها ويغري الدول بالجري
على هذه الخطة في ولايات آسية، فيجب أن لا تقبل الدولة الصلح بحال من
الأحوال، وأن لا تبالي سيلان أضعاف ما سال من أنهار الدماء، فالخطر على
الدولة مترتب على الصلح، وإذًا يصير الحرمان الشريفان على خطر، وقد بالغ
الكاتب في التحريض على مداومة القتال، وأتى بما أتى به من العبر والأمثال،
فعلم أنه هو وجمهور إخواننا المسلمين هناك يعتقدون أن بالعود إلى الحرب
تحفظ عظمة الخلافة ويصان الحرمان وتعلو كلمة التوحيد.
ونحن هنا نرى جمهور المصريين موافقين لإخوانهم الهنديين في رأيهم
وشعورهم، ومن يعلم هذا منهم يزداد استمساكًا برأيه واطمئنانًا به. وما هذا
منهم بعجيب فإنهم لا يعرفون حقيقة حال الدولة، وإنما العجيب أن يضرب
بعض الكتاب العثمانيين بهذا الدف ويردد نغمات الحرب، ويقول: إما صلح
شريف تحفظ به أدرنة أو نصف أدرنة وإما موت شريف، وذلك أن الدولة
يئست من البلقان كله إلا أدرنة التي ثبتت على الحصار.
إني ليعز علي أن تؤخذ مدينة أدرنة غنيمة باردة بترك الدولة لها صلحًا،
كما عز علي أضعاف ذلك تركها مملكة طرابلس الغرب وبرقة صلحًا،
ولكنني لا أفهم معنى معقولاً لتعريض الدولة للموت في الحرب، ولا كيف
يكون هذا الموت شريفًا في سبيل المحافظة على مدينة أدرنة كلها كما يقترح
بعض الكتاب، أو على نصفها كما تقترح وزارة محمود شوكت باشا الاتحادية.
إن موت الدولة ليس كموت رجل واحد يهان فيبارز من يهينه، وإن كان
أقوى منه لينتقم منه، أو يموت فلا يرى نفسه مهينًا بين الناس، فإن الدولة
شخص معنوي وموتها عبارة عن خروج الحكم فيها من أيدي أهلها إلى أيدي
الأجانب، وأهلها الذين يعزون بحياتها ويشرفون، ويذلون بموتها ويهانون،
لا يموتون بذهاب الحكم منها ولا ينقرضون، فهم إذًا يطلبون الوقوع فيما
يحذرون.
ألا إن من كتم داءه قتله، ألا إننا قد سئمنا الغرور والتغرير، ألا إننا قد
أصبحنا على شفا جرف، وسقوطنا في هاوية العدم منتظر في كل يوم، فلم
يبق عندنا شيء نخاف عليه من إظهار حقيقة حالنا لمن لا يعرفها منا. ألا إن
الحقيقة المجردة من لباس الزور والغرور هي أن هذه الدولة قد أمست بجهلها
وسرفها وغرورها وفقرها، ودهاء أوربة وعلومها وثروتها لا تستطيع أن
تعيش مستقلة عزيزة في عاصمتها بقوانينها وأنظمتها وتقاليدها، وبرجالها
الذين ربتهم أوربة لها، لأنها تربية مذبذبة لا هي إسلامية ولا أوربية، وإنما
تعيش في تلك العاصمة كما تريد أوربة، فلا هي قادرة أن تحفظ عاصمتها من
أوربة ولا الحرمين الشريفين ولا غيرهما من البلاد، ولا يمنع أوربة أن
تتصرف فيها، وهذه حالها، كما تريد إلا تنازع الدول الكبرى واختلافهن،
فمتى اتفقن على شيء أردنه كان الأمر مفعولاً.
ألا إنني قد فطنت لهذا الأمر من قبل وقتلته بحثًا وتفكيرًا، ثم اقترحت
على الدولة من بضع عشرة سنة أن تجعل الآستانة مركزًا حربيًّا وتجعل
عاصمتها دمشق الشام، فإن لم يقبل متعصبو الترك فقونية، وأن تتركهذا
التفرنج كله وتؤسس لها قوة آسيوية حربية أهلية من العرب والترك فتجعل
جميع أفراد الأمة مستعدين للحرب والكفاح للدفاع عن بلادهم وقت الحاجة.
ولكن افتتانها بعظمة اسم القسطنطينية وموقع القسطنطينية وتسمية نفسها دولة
أوربية، وما يتبع ذلك من لذات هذه المدنية، قد حال دون التفكر في هذا
الاقتراح وتنفيذه. وقد علمت في هذه الأيام أن بعض كبراء رجال الدولة اقترح
على السلطان عبد الحميد نقل العاصمة إلى الأناضول قبل الانقلاب الأخير بعدة
سنين وأن أحد كبار ضباط ألمانية الذين تولوا تعليم الجيش العثماني وتنظيمه قد
اقترح مثل هذه الاقتراح في الزمن الأخير، وأخشى أن يصدق عليه المثل: بعد
خراب البصرة، وجميع من أعرف من أهل الرأي العثمانية سيما الترك يرون
أن استمرار الحرب خطر، وليس له فائدة تنتظر، وسيظهر الصواب لجميع
البشر.
***
(حال الدولة ومستقبلها)
فاجأنا هذه الأيام نبأ مفزع وهو أن أنور بك الضابط الاتحادي هجم على
الباب العالي مع فتية من رجال جمعيته الفدائيين في حال انعقاد مجلس الوزراء
وقتلوا ناظم باشا ناظر الحربية والقائد العام وبعض الحاشية وأكرهوا كامل
باشا على الاستقالة فذهب بها أنور إلى قصر السلطان وعاد يحمل فرمان
تعيين محمود شوكت باشا [1] صدرًا أعظم وناظرًا للحربية، فكيف حال
دولة هكذا تسقط وزارتها وهكذا تنصب؟.
سنشرح في آخر هذا الجزء أخبار هذا الانقلاب، ونقول هنا: إن الخطر
على الدولة قد اشتد، وسواء عادت الحرب أو لم تعد، فإن الأمر بيد الدول
ولن تستطيع الدولة أن تعمل بقوتها شيئا، ولكن تبذل دماء ألوف كثيرة
وملايين من النقد بغير عوض ولا فائدة فتزداد ضعفًا على ضعف، ويخشى أن
تستتبع فتنة أنور فتنة داخلية أكبر منها، واللعنة مسجلة من الله ورسوله على
موقظها، ثم ماذا؟
تمتص الآستانة في هذه الفرصة ما يمكن امتصاصه من وشل ثروة
الأمة العثمانية المسكينة، وما يمكن من أموال المسلمين المتمتعين بالثروة
والحرية وهم أهل مصر والهند، فلا يكون ذلك كله إلا كنقطة قليلة من الماء
تقع على خزفة أو آجرة سخنة. ثم لا مندوحة للدولة عن الركوع بين يدي
أوربة والتماس مساعدتها بالمال والحال لإدارة حركة الدولة الداخلية،
ويخشى أن تتوسل الدولة بذلك إلى جعل مالية الدولة وإدارتها تحت مراقبتها،
وذلك منتهى ما تبغيه أوربة من إزالة هذه الدولة بالفتح السلمي.
إن ظني وظن من أعرفهم من العثمانيين المخلصين في زعماء جمعية الاتحاد
والترقي سيئ جدًّا، فنحن لا نستبعد أن يعطوا الدول فوق ما تطلب من ذلك كبيع
الأراضي الأميرية والامتيازات وتقوية النفوذ وهو بيع البلاد الذي يسمونه الفتح
السلمي، فإذا واتاهم محمود شوكت باشا الذي نال الوزارة بمسدساتهم وخناجرهم
فهي القاضية، ويجب على جميع الولايات العثمانية بالفعل أو الاسم أن تقبل
بيع شيء من بلادها بأي اسم كان، فمن يبلغهم بيع شيء من بلادهم للأجانب فليعلنوا
استقلالهم وعدم اعترافهم بهذا البيع كيفما كانت صورته، ولا بالبائع مهما كانت
صفته، وليستعد كل قطر ليكون مثل طرابلس الغرب.
لا أريد تثبيط العثمانيين وسائر المسلمين عن مساعدة الدولة بالمال، فأنا قد
ساعدت بحسب استطاعتي وإنما أقول إن هذه الحرب إن عادت لا تطول، وينبغي
أن يعلم المساعدون أين يضعون أموالهم، فيحبسها أهل الأقطار على صلاح بلادهم،
ويخصها سائر المسلمين بحرم ربهم وحرم نبيهم، فإن ما يتسرب إلى الآستانة لا
يفيد الحرمين ولا غيرهما شيئا، وأن لا يأمنوا جمعية الاتحاد والترقي على شيء
من المال، وإلا ندموا بعد أيام أو شهور حيث لا ينفع الندم.
بذلت هذه النصيحة وأنا موطن نفسي على احتمال إيذاء أشد مما
آذتني به الحكومة الحميدية، وعلى احتمال تخطئة وذم ولعن من الجاهلين
والمنافقين، كما احتملت مثل ذلك قبل من أنصار عبد الحميد، ولكن إذا
كان حقنا في مقاومة عبد الحميد لم يظهر إلا بعد جهاد عدة سنين، فإن حقنا
في الأزمة الحاضرة سيظهر بعد أسابيع أو شهور، وقد كنا نبين سيئات
الجمعية ونسكت عن الحكومة، فإذا رأينا هذه الوزارة آلة بيد الجمعية كوزارة
حقي باشا فإننا لا مندوحة لنا عن الوقوف لها بالمرصاد، وقد انتهينا إلى وقت لا
يمكن السكوت معه والانتظار.
إن الدولة على خطر لا يمكن لعاصمة البيزنطيين الخروج منه ولا
يرجى للإسلام خير منها، فإذا كان محمود شوكت باشا رجلاً فليكسر
جميع تلك القيود والمقاطر، ويقطع جميع هاتيك الأغلال والسلاسل، وليخرج
الدولة من ذلك السجن الذي يتحكم بها فيه الأوربيون واليهود الصهيونيون
كما شاءوا وهو عنوان الإسلام والخلافة. ولينشئ في قلب آسية عاصمة جديدة لا
إسراف فيها ولا تبذير، ولا فخفخة فيها ولا غرور، ولا مكر يهودي،
ولا كيد اتحادي، ولا ضغط أوربي، وليقم الحكومة الجديدة على أساس
اللامركزية، ويجعلها شق الأبلمة بن الأمتين العربية والتركية، بحيث
يكونان أمة واحدة قوية، وينفذ ذلك بهمة تجمع بين العدل والاستبداد، بعد أن
ينظف الجيش مما طرأ عليه من الفساد، ويقتل القتلة الأوغاد. ولا يضيعن
الفرصة التي أضاع مثلها من قبل، وبذلك ينقذ نفسه والدولة من الخطر، وإلا
ندم حيث لا ينفعه الندم، وأسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة فرجًا ومخرجًا، وإننا
لا ندخر في خدمة من يعمل لإنقاذها وسعًا.
__________
(1) محمود شوكت باشا، شركسي الأصل بغدادي المنشأ وليس فاروقيًّا ولا عربي
النسب كما شاع عقب الانقلاب ووقعنا يومئذ في الخطأ الذي وقع فيه غيرنا، وقد أخبرني أخوه الفاضل مراد بك بأصلهم وسبب وجودهم في العراق وكان رفيقًا لي في سفري من بغداد إلى حلب.(16/107)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظريتي في قصة صلب المسيح
وقيامته من الأموات [*]
ذهب علماء الإفرنج المحققون في تعليل منشأ هذه المسألة مذاهب شتى
لأنهم لا يعتقدون حصول هذه القيامة الموهومة. ولسنا في حاجة إلى نقل
آرائهم في مثل هذه المقالة، ومن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ مؤلفات
رينان وإدوارد كلود، ودائرة المعارف المتعلقة بالتوراة، وكتاب دين
الخوارق وغير ذلك. وإنما نريد الآن أن نقول كلمة في هذا الموضوع لنزيل
الغشاوة عن أعين هؤلاء الناس الملقبين بالمبشرين وهي نظريتي [1] في هذه
المسألة فنقول:
كان بين تلاميذ المسيح رجل يدعى يهوذا، وهو من قرية تسمى خريوت
في أرض يهوذا فلذا عرف بالأسخريوطي، وكان يشبه المسيح في خلقته شبهًا
تامًّا [2] ومن المعلوم أن المسيح كان يدعو الناس إلى دينه في الجليل ولكنه كان
يذهب إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح كما هي عادة اليهود فزارها في
السنة الأولى من بعثته وكان هو وأتباعه القليلون محتقرين فيها لأن اليهود
كانوا يحتقرون أهل الجليل وخصوصًا سكان الناصرة [3] فما كان أحد يبالي بهم
أو يلتفت إليهم، وفي السنة الثالثة من بعثته لما زارها في المرة الأخيرة من
حياته كان شأنه قد ارتفع عن ذي قبل وكثرت أتباعه فحقد عليه رؤساء اليهود
الذين استاءوا من أقواله وأعماله وتعاليمه فصمموا على الفتك به واتفقوا مع
يهوذا الإسخريوطي على أن يدل مبعوثيهم عليه ليقبضوا عليه فذهب يهوذا
معهم ودلهم عليه فإنهم ما كانوا يعرفونه (مرقس 14: 43 - 46) فأمسكوه
وكان ذلك ليلاً وساقوه إلى بيت رئيس الكهنة فتركه جميع التلاميذ وهربوا
(مر 14: 50) ولكن تبعه بطرس من بعيد ثم أنكر علاقته به وفر هو أيضًا
هاربًا، وأما دعوى صاحب الإنجيل الرابع أن يوحنا تبعه أيضًا (يو 18:
15 - 18) فالظاهر أنها مخترعة من واضعه لمدح يوحنا كما سيأتي بيانه
وإلا لذكرها الثلاثة الإنجيليون الآخرون.
ولما كان الصباح ساقوه إلى بيلاطس الذي كان يود إنقاذه منهم ولكن
الظاهر من الأناجيل أنه لم يفلح فحكم بصلبه فأخذه العسكر إلى السجن حتى
يستعدوا للصلب، ففر من السجن هاربًا إما بمعجزة أو بغير معجزة كما فر
بعض أتباعه بعده من السجون أيضًا (راجع أع 12: 6-10 و16: 25
و26) وربما ذهب إلى جبل الزيتون ليختفي (انظر مثلاً يو 8: 1 و59 و10:
39 و11: 53 - 57) وهناك توفاه الله أو رفعه إليه بجسمه أو بروحه فقط
فخرج الحراس للبحث عنه، وكان يهوذا مسلمه قد صمم على الانتحار
وخارجًا ليشنق نفسه في بعض الجبال (متى 27: 3-10) ندمًا وأسفًا على
ما فعل فلقيه الحراس، ونظرًا لما بينه وبين المسيح من الشبه التام فرحوا
وظنوه هو وساقوه إلى السجن [4] [5] متكتمين خبر هروبه خوفًا من العقاب
ولمَّا وجد يهوذا أن المقاومة لا تجدي نفعًا ولِما طرأ عليه من التهيج العصبي
والاضطراب النفساني الشديد الذي يصيب عادة المنتحرين قبل
الشروع في الانتحار، ولاعتقاده أنه بقتل نفسه يكفر عما ارتكب من الإثم
العظيم ولعلمه أن قتله بيد غيره أهون عليه من قتل نفسه بيده، لهذه الأسباب
كلها استسلم للموت استسلامًا ولم يفُه ببنت شفة رغبةً منه في تكفير ذنبه
وإراحة ضميره بتحمله العذاب الذي كان سلم سيده لأجله [6] ولما جاءت ساعة
الصلب أخرجوه وساروا به وهو صامت ساكت راضٍ بقضاء الله وقدره
ونظرًا لما أصابه من التعب الشديد والسهر في ليلة تسليمه للمسيح وحزنه
واضطرابه لم يقو على حمله صليبه أو أنه رفض ذلك فحملوه لشخص آخر
يسمى سمعان القيرواني وذهبوا إلى مكان يسمى الجمجمة خارج أورشليم
وهناك صلبوه مع مجرمين آخرين فلم يكن هو وحده موضع تأمل الناس
وإمعانهم ولم يكن أحد من تلاميذ المسيح حاضرًا وقت الصلب إلا بعض نساء
كن واقفات من بعيد ينظرن الصلب مت 27: 55 ولا يخفى أن قلب النساء
لا يمكِّنهن من الإمعان والتحديق إلى المصلوب في مثل هذا الموقف وكذلك
بُعد موقفهن عنه، فلذا اعتقدن أنه هو المسيح، وأما دعوى الإنجيل الرابع
19: 26 أن مريم أم عيسى ويوحنا كانا واقفين عند الصليب فالظاهر أنها
مخترعة كالدعوى السابقة لمدح يوحنا أيضًا إذ يبعد كل البعد كما قال رينان أن
تذكر الأناجيل الثلاثة الأول أسماء نساء أخريات وتترك ذكر مريم أمه
وتلميذه المحبوب يوحنا، كما يسمي نفسه بذلك في أغلب المواضع، إذا صح أنه
هو مؤلف الإنجيل الرابع.انظر إصحاح 13: 3 و21: 20 وغير ذلك كثير.
هذا وقلة معرفة الواقفين للمسيح لأنه كان من مدينة غير مدينتهم (راجع
يوحنا ص7) وشدة شبه يهوذا به وعدم طروء أي شيء في ذلك الوقت
يشككهم فيه - كل ذلك جعلهم يوقنون أن المصلوب هو المسيح، حتى إذا شاهد
القريبون منه تفاوتًا قليلاً في خلقته حملوه على تغير السحنة الذي يحدث في مثل
هذه الحالة ومن مثل هذا العذاب. وكم في علم الطب الشرعي من حوادث ثابتة
اشتبه فيها بعض الناس بغيرهم حتى كان منهم من عاشر امرأة غيره الغائب
بدعوى أنه هو وجازت الحيلة على الزوجة والأهل والأقارب والمعارف
وغيرهم ثم عرفت الحقيقة بعد ذلك، وأمثال هذه الحوادث مدونة في كتب هذا
العلم في باب تحقيق الشخصية: (Identification)
فليراجعها من شاء.
ومنهم من شابه غيره حتى في آثار الجروح والعلامات الأخرى واللهجة
في الكلام (راجع الفصل الأول من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي
وفرير الإنكليزيين) .
فلا عجب إذن إذا خفيت حقيقة المصلوب عن رؤساء الكهنة والعسكر
وغيرهم وخصوصًا لأنهم ما كانوا يعرفونه حق المعرفة ولذلك أخذوا يهوذا
ليدلهم عليه كما سبق فاشتبه عليهم الأمر كما بيَّنَّا وكان المصلوب هو يهوذا
نفسه الذي دلهم عليه فوقع كما كان دبره لسيده (انظر مز 6: 8-10 و7: 5
ومز37 وأمثال 11: 8 و21: 18) .
ولما كان المساء جاء رجل يسمى يوسف فأخذ بجسد المصلوب ووضعه
في قبر جديد وقريب ودحرج عليه حجرًا وكان هذا الرجل يؤمن بالمسيح ولكن
سرًّا (يو 19: 38) ومن ذلك يعلم أنه ما كان يعرف المسيح معرفة جيدة
تمكنه من اكتشاف الحقيقة وخصوصًا بعد الموت، فإن هيئة الميت تختلف قليلاً
عما كانت وقت الحياة لا سيما بعد عذاب الصلب، وروى الإنجيل الرابع وحده
أن رجلاً آخر يدعى نيقوديموس ساعد يوسف في الدفن أيضًا (19: 39)
وكان هذا الرجل عرف يسوع من قبل وقابله مرة واحدة في الليل (يو 3:
1-13) فمعرفته به قليلة جدًّا وكانت ليلاً منذ ثلاث سنين تقريبًا أي في أوائل
نبوته، وفي كتب الطب الشرعي والمجلات الطبية عدة حوادث خدع فيها
الإخوان والأقارب بجثث موتى آخرين (راجع كتاب الطب الشرعي المذكور
صفحة 32 منه) فما بالك إذا لم يكن الشخصان الدافنان للمصلوب يعرفانه حق
المعرفة كما بينا.
لذلك اعتقد جمهور الناس وقتئذ أن المسيح صلب ومات ودفن فحزن
تلاميذه وأتباعه حزنًا شديدًا وفرحت اليهود وشمتوا بهم ولو أمكن التلاميذ
إحياءه من الموت لفعلوا ففكر منهم واحد أو اثنان في إزالة هذا الغم الذي حاق
بهم وما لحقهم من اليهود من الشماتة والاحتقار والذل فوجد أن أحسن طريقة
لإزالة كل ذلك ولإغاظة اليهود أن يسرق جثة المصلوب من القبر ويخفيها في
مكان آخر ليقال إنه قام من الأموات ولم تفلح اليهود في إعدامه إلا زمنًا قليلاً
وهكذا فعل وأخفى الجثة.
فلما مضى السبت الذي لا يحل فيه العمل لليهود جاءت مريم المجدلية إلى
القبر فجر يوم الأحد فلم تجد الجثة فدهشت وتعجبت وأسرعت إلى بطرس
(ويقول الإنجيل الرابع كما هي عادته: إلى يوحنا، أيضًا) وأخبرتهما أن الجسد
فُقد من القبر فذهبا معها ووجدا كلامها صحيحًا فقالا: لا بد أنه قام من الموت،
وهذا القول هو أقرب تفسير يقال من تلاميذ المسيح المحبين له المؤمنين به
وربما كانا هما المُخفين للجثة أو أحدهما (بطرس) ولذلك نجده في سفر
الأعمال وفي الرسائل يتكلم أكثر من يوحنا عن قيامة المسيح بل أكثر من
جميع التلاميذ الآخرين.
أما مريم المجدلية فمكثت تبكي لعدم وجود الجثة وعدم معرفتها الحقيقة
وكانت عصبية هستيرية، وبتعبيرهم: كان بها سبعة شياطين (مرقص 16-
9) فخيل لها أنها رأت المسيح ففرحت وأسرعت وأخبرت التلاميذ (يو 20:
18) أنها رأته وأما النساء الأخريات اللاتي ذهبن إلى القبر فلم يرينه كما يفهم
من أنجيل مرقص ولوقا، وغاية الأمر أنهن رأين القبر فارغًا وبعض الكفن
الأبيض باقيًا فخيل لبعضهن - وكلهن عصبيات - أن ملكًا كان واقفًا في القبر
وأمثال هذه التخيلات الخادعة كثيرة الحصول للناس وخصوصًا للنساء عند
القبور وفي وقت الظلام (يو 20: 1) وما حادثة قيام المتبولي من قبره عند
عامة أهل القاهرة ببعيدة. ويجوز أنهن رأين رجلين من أتباع المسيح ممن لا
يعرفنهم وكانا هما السارقين للجثة ففزعن منهما وغشاهن حتى ظنن أنهما
ملكان بثياب بيض (انظر لو24: 4) فكثرت أحاديث هؤلاء النسوة كل منهن
عمَّا رأته ومنها نشأت قصص الأناجيل في قيامة المسيح كما نشأت الحكايات
الكثيرة المتنوعة عن قيامة المتبولي في هذه الأيام في مصر [7] ولذلك اختلفت
قصة القيامة في الأناجيل اختلافًا عجيبًا يدل على أن كل كاتب أخذ ما كتب عما
حوله من الإشاعات والروايات المختلفة التي لم تكن وقتئذ مرتبةً ولا منظمةً.
ويظهر من هذه الأناجيل أن التلاميذ بعد ذلك صاروا محاطين بالوساوس
والأوهام من كل جانب حتى إنهم كانوا كلما لاقاهم شخص في الطريق واختلى
بهم أو أكل معهم ظنوه المسيح ولو لم يكن يشبهه في شيء ظنًّا منهم أن هيئته
تغيرت (مر16: 12 ولوقا 24: 16 ويو21: 4-7) فكانت حالهم أشبه
بحال العامة من سكان القاهرة الذين التفوا منذ زمن قريب حول رجل سائر في
الطريق في صبيحة إشاعة انتقال المتبولي من قبره يصيحون: سرك يا
متبولي، كما نقلناه هنا عن بعض جرائد العاصمة التي ذكرت تلك الحادثة في
ذلك الحين لاعتقاد الناس أنه هو المتبولي الذي قام من قبره وكانوا يعدون
بالمئات إن لم يبلغوا الألوف ولا يبعد أن بعض أولئك الناس الذين لاقاهم
التلاميذ كان بلغهم الإشاعات عن قيامة المسيح فكانوا يضحكون من التلاميذ
ويسخرون بهم ويأتون من الأعمال والحركات ما يوهم التلاميذ أن ظنهم فيهم
هو صحيح كما كان ذلك الرجل السابق ذكره يقول للناس لما رآهم التفوا حوله:
أنا المتبولي أنا المتبولي.
وروى الدكتور كاربنتر في كتابه (أصول الفسيولوجيا العقلية) ص 207 أن
السير والترسكوت (Walter Scott Sir) رأى في غرفته وهو يقرأ صديقه
اللورد بيرون (Byron Lord) بعد وفاته واقفًا أمام عينيه فلما ذهب إليه لم يجد
شيئًا سوى بعض ملابس وهي التي أحدثت هذا التخيل الكاذب (IIIusion) وفي
حريق قصر البلور (Crystal Palace) في سنة 1866 خيل لكثير من الناس
أن قردًا يريد الفرار من النار بتسلقه على قطع حديدية كانت في سقف هناك والناس
وقوف يشاهدون هذا المنظر متألمين، ثم اتضح أنه لم يكن ثم قرد مطلقًا وإنما هو
منظر كاذب كما حكاه الدكتور تيوك (Dr.Tuke) وذكر الدكتور هبرت
(Hibbert Dr.) في مقال أن جماعة كانوا في مركب فشاهدوا أمامهم طباخًا لهم
يمشي
وكان مات منذ بضعة أيام فلما وصلوا إليه وجدوا قطعةً من خشب طافية على سطح
الماء، وهناك أمثلة أخرى عديدة كهذه يعرفها المطلعون على علوم الفسيولوجيا
والسيكولوجيا والأمراض العقلية وكان المخدوعون فيها عدة أشخاص.
ويدخل في هذا الباب (باب الخيالات الكاذبة والأوهام) دعوى القبط في
مصر أنهم في ثاني يوم لعيد النيروز (أي 2 توت من السنة القبطية) إذا
نظروا إلى جهة الشرق بعد طلوع الشمس بقليل رأوا رأس يوحنا المعمدان كأنه
في طبق والدم يسيل من جوانبه وقد أكد لي بعضهم، وهو من الصادقين عندي،
أنه رأى ذلك المنظر بعيني رأسه في الأفق وكثير من نسائهم يقلن أنهن رأينه
أيضًا.
ومن ذلك أيضًا ما كان يراه القدماء وخصوصًا النصارى في أوروبا في
القرون الوسطى وقت ظهور ذوات الأذناب في السماء كالذي ظهر عندهم سنة
1556 ميلادية فإنها رأوا فيه وفي غيره سيوفًا من نار وصلبان وفرسان على
الخيل وغزلان وجماجم قتلى إلخ إلخ، وكانوا يتشائمو من هذه المناظر
وينزعجون منها، وقد رسم بعضهم صور ما كانوا يرونه من ذلك ونشر في
كتبهم راجع كتاب (الفلك للعاشقين) تأليف كاميل فلامريون ص 187 و189.
ورأى اليهود قبل خراب أورشليم نحو ذلك أيضًا في السماء كمركبات
وجيوش بأسلحتها تركض بين الغيوم حتى تشائموا منها كثيرًا، وفي عيد
الخمسين لما كان الكهنة داخلين ليلاً في دار الهيكل الداخلي سمعوا صوتًا كأنه
صوت جمع عظيم يقول: دعنا نذهب من هنا. إلى غير ذلك من الأوهام
والخيالات التي وصفها مؤرخهم الشهير يوسيفوس في بعض كتبه وذكرها
أيضًا تاسيتوس مؤرخ الرومان وهي أوهام لم تخل أمة من مثلها في كل زمان
ومكان، وقد تظهر أيضًا مناظر عجيبة كهذه في الأفق من انكسار أشعة
الشمس في طبقات الهواء (Mirage) راجع كتاب (الرسل) لرينان ص
42 في رؤية المسيح في الجليل بعد صلبه.
أما دعوى الإنجيل الأول (متى) أن حراسًا ضبطوا القبر وختموا عليه
(27: 66) فهي كما قال العلامة (أرنست رينان) اختراع يراد به الرد
على اليهود الذين ذهبوا إلى القول بسرقة الجثة حينما أكثر النصارى من القول
بالقيامة بعد المسيح بمدة (انظر مت 28: 15) ولذلك لم ترد قصة حراسة
القبر في الأناجيل الأخرى، ولو كانت حقيقية لما تركوها فهي الرد الوحيد الذي
أمكن لكاتب الإنجيل الأول أن يبتكره لدفع ما ذهب إليه اليهود في ذلك الزمان.
وزد على ذلك أن هذا الإصحاح (27) من إنجيل متى قد اشتمل على غرائب
أخرى كانفتاح القبور وقيام الراقدين من الموت ودخولهم المدينة، إلخ إلخ
(27: 51 - 54) وكل هذه أشياء يراد بها التهويل والمبالغة، ولا يخفى على
عاقل مكانها من الصحة ولذلك رفضها المحققون من علماء أوروبا اليوم. ولو
وقعت لكانت أغرب ما رأى الناس ولتوفرت الدواعي على نقلها فنقلها كتبة
الأناجيل كلهم ممن اعتمدت الكنيسة أناجيلهم ومن غيرهم ولاشتهرت فنقلها
المؤرخون كيوسيفوس وغيره.
ولا ندري متى قال المسيح لليهود أنه سيقوم في اليوم الثالث؟ ولماذا
يظهر نفسه لهم؟ وما فائدة هذا الجسد المادي الذي كان يحتاج للأكل والشرب
بعد القيامة (لو 24: 41 و42) حتى يحيا بعد الموت ويبقى إله العالمين
مقيدًا به إلى الأبد؟ نعم ورد في إنجيل يوحنا أنه قال لليهود (2: 19) :
انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه. ولكن نصت هذه الأناجيل على أن
اليهود لم يفهموا هذا القول بل ولا تلاميذ المسيح أنفسهم (انظر لوقا: 18:
34، ويو 2: 21 و22 و20: 9 ومر 9: 32) وقد كذب هذه العبارة متى
نفسه فقال: إنها شهادة زور (26: 60 و61) فكيف إذًا أرسل اليهود كما
قال متى حراسًا ليضبطوا القبر خوفًا من ضياع الجثة؟ وأي شيء نبههم إلى
ذلك العمل مع أن أقوال المسيح لم يفهمها نفس تلاميذه إذا صح أنه قال هذه
العبارة أو غيرها؟ أما قوله لليهود (متى 12: 40: لأنه كما كان يونان
في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض
ثلاثة أيام وثلاث ليال) قد قال فيه بعض محققيهم مثل بالس وشاتر إنه زيادة من
كاتب الإنجيل للتفسير. وهي زيادة خطأ فلم يمكث إلا يومًا وليلتين ولذلك لم ترو
هذه الزيادة في إنجيل من الأناجيل الأخرى، وقول متى 12: 39: ولا تعطى له
آية إلا آية يونان النبي. يريد به أنه كما آمن أهل نينوى بيونان (يونس) من
غير أن يروا منه آية كذلك كان الواجب أن تؤمنوا بي بدون اقتراح آيات وبدون
عناد، ولذلك قال بعد ذلك 41: رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل
ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان هنا. وفي القرآن
الشريف نحو ذلك أيضًا {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا
آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس:
98) وعلى كل حال، إذا كان نفس تلاميذه لم يفهموا ذلك إلا بعد قيامته
(يو 20: 9) مع أنه كان أخبرهم به أيضًا على انفراد (مت 20: 17) فكيف
فهمه اليهود قبلهم؟ وكيف لم يصدق التلاميذ قيامته حينما أُخبروا بها؟
(مر 16: 11) إذا صح أن المسيح أنبأهم بها من قبل؟ وكيف يعقل أن رؤساء
الكهنة والفريسيين يذهبون إلى بيلاطس في يوم السبت كما قال متى (27:
62) وينجسون أنفسهم بالدخول إليه وبالعمل في السبت كضبط القبر بالحراس
وختم الحجر (مت 27: 66) مع أنهم هم الذين لم يقبلوا الدخول إلى بيلاطس
يوم محاكمة المسيح خوفًا من أن ينجسوا أنفسهم فخرج هو إليهم كما قال يوحنا
(18: 28) وهم الذين سألوه إكرامًا للسبت أن لا تبقى المصلوبون على الصليب
فيه (يو 19: 31) فما هذا التناقض وما هذه الحال؟
ولنرجع إلى ما كنا فيه: وقد اعتقد جمهور الناس في ذلك الوقت أن
المصلوب هو المسيح وأنه قام من الموت ولما لم يجدوا يهوذا الإسخريوطي
قالوا: إنه انتحر بشنق نفسه. وربما أنهم بعد بعض الأيام وجدوا خارج أورشليم
في بعض الجبال جثة مشقوقة البطن من التعفن الرمي فظنوها جثته (ع 1: 18)
ويجوز أنها كانت جثة المسيح نفسه على القول بأنه مات بعد هروبه من
السجن كباقي الناس، ولم يرفع إلى الله تعالى إلا رفعًا روحانيًّا معنويًّا كقوله
تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} (الأعراف: 176)
وكقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) وقوله:
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) وفي معنى ذلك أيضًا قوله تعالى:
{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصافات: 99) وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (آل عمران:
169) وغير ذلك كثير.
ولما كان بعض التلاميذ يستبعدون الموت على المسيح لشدة حبهم
وتعظيمهم له، كما فعل بعض الصحابة عقب موت رسول الله - ذهب بعضهم
بالرأي والاجتهاد إلى أن المصلوب لا بد أن يكون غير المسيح وقالوا إنه إما
يهوذا أو واحد آخر وخصوصًا لأنهم لم يعلموا أين ذهب يهوذا.
ومن ذلك نشأت مذاهب مختلفة بين النصارى الأولين في مسألة الصلب
والقيامة، كانت أساسًا لفرق كثيرة ظهرت بعدهم ذكرناها مرارًا سابقًا في المنار
وغيره مما كتبنا. لذلك قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم
بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} (النساء: 157) .
فساد مذهب القائلين بالصلب لأنه هو الظاهر مما شوهد إذ ذاك وساعد على
نشره القول بالقيامة ودعمه بولس ومن وافقه بنظرياتهم في الخلاص [8] والفداء
وببعض نصوص من العهد القديم لووها وأولوها
بحسب أوهامهم وأفكارهم وقد بينا بطلانها في كتاب (دين الله) وقد رفض بولس
هذا وجميع رسائله أقدم فرقهم القديمة كالبيونيين (Ebionites) وكانوا أقرب
الناس إلى تعاليم المسيح الحقيقية وغاية في الزهد والتقوى وكان عندهم إنجيل
متى العبراني الأصلي المفقود الآن.
ومن الجائز أن يوسف ونيقوديموس (إذا صح أنه حضر معه) كانا يخافان على
الجثة من اليهود أن يهينوها أو يمثلوا بها أو يتركوها للحيوانات المفترسة
كالمعتاد أو نحو ذلك زيادة في النكاية بالمسيح وأتباعه وكما كان يعمل في
المصلوبين بحسب عادة الرومان، فتظاهرا بأنهما قد أتما دفن الجثة ومضيا. فلما
تحققا أنه لم يبق عند القبر أحد مطلقًا خوفًا من أن يطلع على ما يفعلان رجعا
ونقلاها إلى موضع آخر لا يعلمه أحد، وتعاهدا على أن لا يبوح أحد بسرهما، ثم
ذهب يوسف إلى بلدته الرامة على بعد 6 أميال إلى الشمال من أورشليم ورجع
نيقوديموس إلى بيته وكلاهما كان عضوًا في السنهدريم مجمع اليهود وكانا
يؤمنان بالمسيح ولكن سرًّا لخوفهما من اليهود (يو 19: 38 و7: 50) وربما
أنهما لم يجاهرا اليهود بشيء حتى ولا بأنهما هما اللذان دفنا الجثة وخصوصًا
نيقوديموس، ولذلك لم تذكره الأناجيل الثلاثة الأول، وربما قال يوسف
لليهود تعميةً لهم: إني بعد أن استلمت الجثة وكفنتها سلمتها لغيري ممن حضر
ليدفنها وتركته ولا أعلم باليقين أين وضعها ولا أعرف اسمه. وخصوصًا
لأن كل الجموع الذين كانوا حاضرين الصلب كانوا قد رجعوا إلى منازلهم كما
قال لوقا (23: 48) ولم يبق وقت الدفن أحد يشاهدهما إلا مريم المجدلية ومريم
أم يوسي (مر 15: 47 ومت 27: 61) ولا ندري إذ صح ذلك كيف أرادتا
العودة إلى القبر لتحنيط الجثة مع أنهما شاهدتا يوسف ونيقوديموس يحنطانها كما
تقول الأناجيل؟ (يو 19: 39 و40) وقال كيم أحد علماء الإفرنج في كتابه
(يسوع الناصري) مجلد 3 ص 552: إنه لا يحرم على أحد من اليهود في
يوم السبت أن يقوم بالواجب نحو جثة الميت كالتحنيط والتكفين ونحوهما. فلا
يفهم أحد ما الذي أخر هؤلاء النسوة عن الذهاب إلى القبر يوم السبت والقيام بما
يردن عمله للمسيح فيها. انظر كتاب دين الخوارق ص 826 وهل لم يكفهن
الحنوط العظيم الذي أحضره نيقوديموس (يو 19: 39) حتى اشترين غيره
(م16: 1) ولكن لنتغاض.
وبعد السبت في فجر يوم الأحد جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى إلى
القبر الذي كانتا شاهدتا الجثة وضعت فيه أولاً (متى 28: 1) فلم تجداها
فكان ما كان من إشاعة قيامة المصلوب من الموت، هذا إذا لم نقل إنهما ضلتا
عن القبر بسبب شدة الحزن والبكاء والتعب والظلام، وكثيرًا ما تضل نساء
مصر مثلاً ورجالها عن معرفة قبورهم حتى بعد التردد عليها مرةً أو مرتين
كما هو مشاهد معروف ولذلك لم يعرف علماؤهم موضع هذا القبر باليقين إلى
اليوم.
ولما انتشرت إشاعة القيامة كانت قاصرةً على التلاميذ وأتباع المسيح فقط
في أورشليم (لو 24: 33) ولم يقدروا على التجاهر بها أمام اليهود في أول
الأمر ولذلك كانوا يجتمعون والأبواب مغلقة لئلا يسمع كلامهم اليهود خوفًا
منهم كما قال يوحنا (20: 19) وكانوا على هذه الحالة إلى ثمانية أيام (يو
20: 26) ثم لم يجسروا على المجاهرة بالدعوة إلى دينهم إلا بعد نحو
خمسين يومًا كما في سفر الأعمال (2: 1) وفي هذه المدة على فرض عثور
أحد على الجثة لا يمكن تمييزها عن غيرها بسبب التعفن الرمي.
ودعوى إيمان ثلاثة آلاف نفس من اليهود في يوم الخمسين يكذبها عدم
وجود بيت للتلاميذ يسع كل هذا العدد فإنهم كانوا نحو 12 رجلاً (أع 1:
15) واليهود الذين تنصروا نحو ثلاثة آلاف (أع 2: 41) ولا ندري عدد
الذين لم يتنصروا من اليهود الذين حضروا الاجتماع في أورشليم من كل أمة
تحت قبة السماء كما قال سفر الأعمال (2: 6 - 13) الذي قال أيضًا إن هذا
الاجتماع العظيم كان في بيت (2: 2) فأين هذا البيت وملك مَن مِن التلاميذ
وكلهم من الجليل (أع 2: 7) ؟
ومن الذي أخبر كل هذه الجماهير من جميع الأمم المتنوعة بما هو
حاصل في بيت التلاميذ الخاص من نزول روح القدس عليهم وتكلمهم بألسنة
مختلفة حتى هرعوا إليه صنفًا صنفًا؟ ولماذا لم يكتب التلاميذ الأناجيل والرسائل
بلغات العالم هذه التي عرفوها ليتيسر للناس قبولها بدون ترجمة؟ وتكون معجزة
باقية إلى الأبد؟ ولماذا كان بطرس محتاجًا لمترجمه مرقس إذًا؟ كما رواه بايباس
وصدقه جميع آباء الكنيسة القدماء، ولكن لنرجع إلى ما كنا فيه.
وذهب جماعة من علماء النقد في أوربا وكثير ما هم إلى أن القبر الذي
وضع فيه المصلوب وكان منحوتًا في الصخر أصابه ما أصاب غيره من
الزلزلة التي حدثت في ذلك الوقت وذكرها متى في إنجيله (28: 2) فتفتحت
بعض القبور وزالت بعض الصخور وتشققت (راجع أيضًا مت 27: 51 و 52)
فضاع بسبب ذلك الجسد المدفون في شق من الشقوق، ثم انطبق وانهال عليه شيء
من التراب والحجارة حتى انسد الشق ولم يقف أحد للجثة على أثر.
وكان ذلك قبيل وصول المرأتين إلى القبر فلما وصلتا إلى هنالك ولم تجدا
الجثة ورأتا آثار الزلزلة أو شعرتا بشيء منها فزعتا وظنتا أن ذلك بسبب نزول
الملائكة وقيام المسيح من القبر (مت 28: 2) وقد أخذت الرعدة والحيرة منهما
كل مأخذ حتى لم تقدرا على الكلام (مر 16: 8) ولا يستغربن القارئ ما ذكر ففي
وقت الزلازل كثيرًا ما تنفتح الأرض وتبتلع بعض أشياء ثم تنطبق عليها.
ووقوع هذه الزلزلة قبيل وصول المرأتين إلى القبر من المصادفات التي
حدثت في التاريخ أعجب منها فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنت الصحابة أن ذلك معجزة للنبي صلى الله
عليه وسلم فقال عليه السلام لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا
يخسفان لموت أحد ولا لحياته) الحديث، يعني أن نظام هذا الكون العظيم لا
يتغير لموت أي أحد في هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، فيالله ما أصدقه من
رسول، ولو كان كغيره من الكذابين لفرح بما قاله أصحابه وثبت اعتقادهم فيه.
ومن أعجب المصادفات التاريخية أن قمبيز ملك الفرس طعن العجل أبيس
في فخذه فقتله استهزاءً بالمصريين وإلههم وبينما هو سائر في طريقه سقط
سيفه على فخذه أيضًا فجرحه جرحًا بليغًا ساقه في الحال إلى الموت فظن
المصريون أن ذلك بسبب فعل آلهتهم به، فما أعجب عقل الإنسان وما أغرب
كثرة ميله إلى الأوهام والخرافات.
وإذا تذكرنا أن ذلك القبر كان منحوتًا في الجبل في مكان خراج أورشليم
بقرب الموضع المسمى بالجمجمة وكان مدخل مثل هذا القبر أو الكهف من
الجهة السفلى كما كانت عادة الناس في ذلك الوقت في نحت القبور على ما
ذكره رينان وغيره، فمن الجائز أن الزلزلة أزالت الحجر الذي سد به هذا
القبر فدخلت بعض الحيوانات المفترسة كالسبع أو الضبع ونحوهما وأخذت
الجثة وفرت بها، وهو تعليل آخر معقول.
وقال بعض علماء الإفرنج: إن من عادة اليهود أن لا يضعوا هذا الحجر
على باب القبر إلا بعد مضي ثلاثة أيام من الدفن، فإن صح ذلك فلا داعي للقول
بهذه الزلزلة هنا في هذا الوجه.
والخلاصة أن ضياع الجثة لا دليل فيه على هذه القيامة وخصوصًا لأن
المسيح لم يظهر لأحد من المنكرين له مع أنه كان وعدهم بذلك حسب إنجيل
متى (12: 39 و40) وفضلاً عن ذلك فليس بين تلاميذه وأتباعه من رآه في
وقت عودة الحياة إليه وقيامه من القبر؛ فإن ذلك كان أولى بإقناع الناس وإقناع
تلاميذه الذين بقي بعضهم شاكًّا حتى بعد ظهوره لهم (مت 28: 17 ولو24:
38 ت41 ويو20: 27) مع أن اتباع هذه الطريقة كان أقرب وأسهل في
الإقناع وأبعد عن مثل الشبهات التي ذكرناها.
فإن قيل إن ذلك سيكون ملجئًا للإيمان وهو ينافي الحكمة الإلهية، قلت:
وهل إحياء المسيح للموتى أمام الناس ما كان ملجئًا ولا منافيًا للحكمة الإلهية؟!
وكذلك قيام أجساد القديسين الراقدين ودخولهم المدينة المقدسة على ما ذكره
متى؟ (27: 52 و53) فأي فرق بين هذه الآيات البينات والمعجزات
القاطعة، وبين قيامته هو من الموت؟ فكيف يجب على البشر الإيمان بها
وهي قابلة للشك والطعن؟ حتى من أتباعه الذين ملأوا الدنيا بكتبهم المشككة
في هذا الدين وعقائده , وحتى شك فيها التلاميذ أنفسهم (متى 28: 17) من
قديم الزمان.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) من قلم الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(1) حاشية: النظرية هي الرأي الذي يقال لتفسير بعض المسائل وتعليل بعض الحقائق تعليلاً عقليًّا
مقبولاً، فنحن في هذه المقالة قد فرضنا جدلاً صحة أكثر ما في هذه الأناجيل من الحكايات وسلمنا أن
لبعضها الآخر أصلاً صحيحًا، وما رفضناه منها إنما هو لسبب معقول ولكن علمنا بما فعل منتحلو
النصرانية الأقدمون من التلاعب والتحريف والغش والتزوير فيما وصل إلى أيديهم من الكتب سواء كانت لهم أو لغيرهم من الأمم وافتجارهم الرسائل الكثيرة والكتب العديدة ونسبتها إلى غير مؤلفيها - كل ذلك يحملنا على الشك في جميع ما نقلوه ورووه. ولذلك نرى علماء النقد الآن في أوربة يشككون في جميع هذه الكتب المقدسة عندهم ويرفضونها بالبراهين العلمية العقلية التاريخية الصحيحة ومنهم من تغالى حتى أنكر وجود المسيح نفسه في العالم لكثرة ما علمه عن القوم من الأباطيل والاختراعات والأكاذيب والمفتريات (راجع دائرة معارف التوراة مجلد 3 ص 3620 وكتابات المستر ج م
روبرتسن) .
(2) حاشية: ذكر العلامة جورج سيسيل الإنكليزي في ترجمته للقرآن الشريف في سورة آل عمران ص38 أن السيرنثيين Cerinthians والكربوكراتيين Carpocratians وغيرهم من أقدم فرق النصارى قالوا إن المسيح نفسه لم يصلب وإنما صلب واحد آخر من تلاميذه يشبهه شبهًا تامًّا، وفي إنجيل برنابا صرح بأن هذا التلميذ الذي صلب بدل المسيح هو يهوذا الأسخريوطي وهو الذي قالت عنه كتبهم أنه انتحر يوم الصلب (مت 27: 3-8) لأنهم لم يجدوه، والظاهر أنهم لم يعرفوا ما حدث له ولذلك اختلفت تفاصيل قصته في سفر الأعمال (1: 18 -20) عما في إنجيل متى فلهذا كله ذهبنا إلى أنه كان يشبه المسيح وأنه هو الذي صلب بدله كما في المتن.
(3) حاشية: دعوى ولادة المسيح في (بيت لحم) قد كذَّبها علماء النقد في أوربة وبينوا أن الإحصاء الذي يقول لوقا أنه حمل مريم أم عيسى ويوسف على السفر إلى بيت لحم للاكتتاب هناك لو (2: 1-7) لم يحدث إلا في مدة ولاية كيرينيوس الثانية أي بعد ولادة عيسى بنحو 10 سنين على الأقل والذي حمل النصارى على هذا التلفيق رغبتهم في تطبيق نبوات اليهود وأفكارهم على المسيح كما في ميخا (5: 2-9) فإن اليهود كانت تعتقد أن المسيح لا بد أن يكون من نسل داود ومولودًا في مدينته التي ولد فيها (بيت لحم) مع أن نسل داود كان قد انقرض قبل زمن المكابيين، ولم يقف أحد له على أثر. راجع الفصل الثاني والخامس عشر من كتاب (رينان) في حياة المسيح.
(4) حاشية: فإن قيل: إن الذي يفهم من هذه الأناجيل أن الصلب كان عقب صدور أمر بيلاطس مباشرة فلم يكن ثم وقت لهروبه من السجن ولا للقبض على غيره كما تقول، قلت: وهل يوثق بما في هذه الأناجيل من التفاصيل المتضاربة المتناقضة في كل جزئية من جزئيات حياة المسيح كما بينه بالتفصيل التام كثير من علماء الإفرنج أنفسهم كصاحب كتاب دين الخوارق Superatuarl Religion وغيره؟ ألا ترى أن هذه الأناجيل اختلفت حتى في نفس يوم الصلب وساعته وفي يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه؟ فقد نصت الثلاثة الأول منها على أن المسيح أكل الفصح مع تلاميذه كعادة اليهود أي في يوم 14 نيسان (راجع متى 26: 17 و 19 36 47 ومر 14: 12 16 ولو 22: 7 3) وأن عشاءه الأخير كان في يوم الفصح المذكور ولذلك اتخذه النصارى خصوصًا في آسيا الصغرى عيدًا من قديم الزمان، ثم صلب في اليوم الثاني للفصح أي في 15 نيسان ولكن الإنجيل الأخير جعل هذا العشاء ليس في يوم الفصح بل عشاء آخر عاديًا قبل الفصح - كما في الإصحاح 13 منه - أي في يوم 13 نيسان فيكون الصلب وقع في يوم 14 منه أي يوم عيد الفصح نفسه والذي حمل مؤلفه على ذلك أنه أراد أن يجعل هذا العيد اليهودي رمزًا إلى المسيح كأنه هو خروف الفصح الذي يذبح في هذا اليوم بخلاف الأناجيل الأخرى فإنها نصت على أن الخروف كان ذبح قبل يوم الصلب وأكله المسيح نفسه مع تلاميذه وسنَّ فريضة العشاء الرباني في هذا اليوم لذكراه لأنه كان يوم وداعه وأعظم أعياد الشريعة الموسوية ولكن الإنجيل الرابع يتجاهل هذه الفريضة كما يفهم من الإصحاح 13 المذكور ويقول بعد ذلك أن محاكمة المسيح أمام بيلاطس كانت وقت استعداد اليهود للفصح في الساعة السادسة وأن اليوم التالي لهذا الاستعداد كان يوم السبت وكان عظيما عند اليهود، أي لأنه أول أيام الفطير، راجع (يو 19: 14 و31) وهو صريح في أن الصلب وقع في يوم الاستعداد الذي يذبح في مساءه خروف الفصح أي يوم 14 نيسان، وعليه فلم يجعل المسيح هذا اليوم عيدًا بحسب الإنجيل الرابع! ولذلك تركت كنيسة رومة وأكثر النصارى عيد الفصح هذا واستبدلوا به عيد القيامة وقد وقعت بينهم وبين نصارى آسيا الصغرى مناقشة عنيفة في هذا الموضوع في أوخر القرن الثاني وأصر أهل آسيا على جعل يوم عيد الفصح اليهودي (14 نيسان) عيدًا لهم أيضًا لأنهم يقولون أن يوحنا الذي كان مقيمًا في وسطهم وغيره من تلاميذ المسيح كانوا يحتفلون بهذا العيد كما رواه يوسيبيوس في القرن الثالث عن بوليكارب تلميذ يوحنا، وروى بوليقراط أسقف أفسس في أواخر القرن الثاني عن يوحنا مثل هذا أيضًا، فكيف إذًا اتخذ يوحنا هذا اليوم - يوم الفصح اليهودي- عيدًا مع أنه لم يَذكر في إنجيله - إذا صح أنه هو الكاتب له - أن المسيح جعله عيدًا كما قالت الأناجيل الثلاثة الأخرى، بل وصلب فيه فلم يسن فيه فريضة العشاء الرباني ولا أكل الفصح في هذه السنة؟ .
(5) راجع كتاب دين الخوارق (ص552، 553، 563، 564) وقد نص يوحنا على أن المسيح كان مقبوضًا عليه قبل أن يأكلوا الفصح 18: 28 مع أن الأناجيل الأخرى نصت على أن القبض عليه كان بعد أكل الفصح، فهل بعد ذلك يقال أنهم متفقون؟ وهل هذه العبارة تقبل أيضًا التأويل؟ أما ساعة الصلب فهي أيضًا مختلفة في الأناجيل كما قلنا، ففي إنجيل مرقص أنه صلب في الساعة الثالثة مر (15: 25) وفي إنجيل يوحنا (19: 14) أنه لم يصلب إلا بعد الساعة السادسة، فإن قيل: إن ما ذكره يوحنا هو بحسب اصطلاح الرومان، قلت: وكيف يجري يوحنا على هذا الاصطلاح مع أنه كتب إنجيله في آسيا الصغرى، ولا يجري على هذه الاصطلاح مرقص الذي كتب إنجيله في رومة نفسها بناء على طلب الرومان منه ذلك كما رواه كليمندس الإسكندري ويوسيبيوس وجيروم وغيرهم؟ على أننا إذا راجعنا إنجيل يوحنا نفسه ظهر لنا نقض هذه الدعوى، فإنه قال يو (18: 28) أنهم جاءوا بيسوع من عند قيانا إلى بيلاطس في الصباح فخرج إليهم بيلاطس لمحاكمته ثم أخذ يسوع إلى إدارة الولاية عدد (33) وناقشه مدة ثم خرج إلى اليهود 38 ثم أخذ يسوع وجلده (19: 1) واستهزأت به العسكر ثم أخرجه إليهم (19: 4) وناقش اليهود في أمره ثم دخل إلى دار الولاية (19: 9) وتكلم مع المسيح ثم أخرجه وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جبانا (19: 13) فكانت الساعة السادسة يو (19: 14) فإذا كان المراد بهذه الساعة الساعة الرومانية أي في الصباح - كما يقولون - فكم كانت الساعة إذًا حينما أتوا بالمسيح إلى بيلاطس وقت الصبح كما قال يوحنا نفسه؟ يو (18: 28) أفلم تستغرق كل هذه المحاكمة والدخول والخروج بالمسيح والتكلم معه ومع اليهود زمنًا ما؟ وهل عُملت كلها في لحظة واحدة في الصباح نحو الساعة السادسة؟ وكم كانت الساعة إذا حينما أيقظوا بيلاطس في الصبح من نومه لمحاكمته، ومتى أرسل إلى هيردوس؟ كما يقول لوقا (23: 7-11) فالحق أن المراد بالساعة هنا الاصطلاح العبراني الذي جرى عليه مرقس وغيره لا الاصطلاح الروماني كما يزعمون ولذلك حرفوا هذه العبارة في بعض نسخهم وكتبوها الثالثة بدل السادسة يو (19: 14) لرفع هذه الإشكال. أما اختلافهم في يوم صعود المسيح إلى السماء ومكانه فبيانه أن المسيح بحسب إنجيل متى وفي إنجيل لوقا أنه صعد في يوم قيامته من مدينته أورشليم نفسها (لو 24: 1، 13،21،29،33،36،49،50 -53) وفي إنجيل يوحنا (20: 26) أنه ظهر لهم بعد ثمانية أيام من قيامته أي أن الصعود لم يكن في يوم قيامته كما في إنجيل لوقا! ومن العجيب أنهم يقولون أن لوقا هو مؤلف سفر الأعمال أيضًا وتراه في هذا السفر يقول: إنه صعد من أورشليم بعد أربعين يوما (أع 1: 3-9) وهو خلاف ما في إنجيله! ويخالف أيضًا إنجيل متى ومرقس (مر 16 - 7) اللذين جعلا الصعود من الخليل لا من أورشليم! فانظر إلى مقدار اختلافهم وتضاربهم حتى في هذه المسألة الهامة، فهل بعد ذلك نُلام لأنَّا لم نُعول على كل عبارة من عبارات أناجيلهم في هذه المقالة؟ .
(6) حاشية: يقول النصارى: إن يهوذا هذا مطرود من رحمة الله مع أنه ندم ندمًا شديدًا وتاب توبة نصوحًا، ولم يكفه ذلك حتى انتحر كما يقولون (متى 27: 3-10) وكان من ضمن الاثني عشر رجلاً الذين بشرهم عيسى بالجنة (متى 19: 28) فلم لم يغفر ذنبه كما غفر ذنب التلاميذ الذين فروا وتركوا المسيح؟! وكما غفر ذنب بطرس الذي أنكر سيده وتبرأ منه وأقسم أنه لا يعرفه، مع أن توبته كانت قاصرة على البكاء؟! فلم لا يكون بطرس من الناس الذين تبرأ منهم المسيح بقوله متى (7: 22) (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذٍ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا أفاعي الإثم) وخصوصًا لأن المسيح قد سماه شيطانا (مت 16: 23) .
(7) حاشية: جاء في العدد 7174 من جريدة المقطم الصادرة في يوم الخميس 31 أكتوبر سنة 1912 - 20 ذي القعدة سنة 1331 ما يأتي بالحرف الواحد (ورد على محافظة العاصمة اليوم إشارة تليفونية بحدوث تجمهر كبير وهياج عظيم أمام الكنيسة الجديدة التي ينشئها النزلاء اليونانيون في هذه العاصمة وأن أكثر المجتمعين يرمون بالحجارة العساكر الاحتياطية الذين أرسلهم قسم بولاق لحفظ النظام وأن بعضهم أصيب بجراح. فذهب في الحال سعادة هارفي باشا ومعه قسم من بلوك الخفر وقسم كبير من بلوك السواري وجناب البكباشي آرثر المفتش ببوليس العاصمة وحضرة عبد الرحمن أفندي أحمد المفتشين بالحكمدارية إلى مكان الحادثة ولما رأى كثرة الجموع المتألبة في ذلك المكان أمر بإحضار وابور المطافي ثم أطلقت المياة منه عليهم فتشتتوا ووقفوا جماعات جماعات رجالاً ونساء في أماكن بعيدة وجعلوا يصيحون (يا متبولي يا متبولي) ثم حضر إلى مكان الحادثة سعادة إبراهيم باشا نجيب محافظ العاصمة وعزتلو على بك وكيلها وشهد الإجراءات التي اتخذها البوليس لتشتيت المجتمعين. وكان السبب في هذا التجمهر والهياج أن بعض الموسوسين من سكان جهة المتبولي أشاع أمس الساعة الثامنة مساء أنه رأى الشيخ المتبولي المدفون في ضريحه المعروف أمام محطة مصر قد قام من ضريحه ووقف على قبته ثم طار في الفضاء ونزل على الكنيسة اليونانية التي تقدم ذكرها فتناقل الناس هذه الإشاعة واجتمع خلق كثير في نحو الساعة العاشرة مساء أمام الكنيسة وجعلوا يصيحون (سرك يا متبولي) فحضر حضرة مأمور القسم وبعض العساكر وفرقوهم ثم حدث في الساعة الثامنة من صباح اليوم أن مجذوبًا من سكان قسم بولاق وهو رجل في السبعين من عمره يدعى فارس إسماعيل وأصله من أسيوط وقد حضر إلى مصر منذ خمسين سنة - خرج من منزله لابسًا عمامة وملابس خضراء وأخذ يركض في الشوارع ويصيح فيها: أنا المتبولي أنا المتبولي، فاجتمع خلفه خلق كثير وساروا في موكب من بولاق إلى شارع الدواوين وكانوا جميعًا يصيحون: يا متبولي، ويلثمون يده وملابسه وما زالوا سائرين كذلك إلى المسجد الزينبي حيث دخل الرجل فتبعه الناس وازدحم الميدان بالمتجمهرين فقام حضرة الصاغ على شكري أفندي مأمور القسم وقبض على الرجل وأحضره إلى الحكمدارية، أما الجماهير التي كانت تسير معه فقصدت الكنيسة اليونانية وأفضى ذلك إلى تلك المظاهرة التي فرقها رجال البوليس) ذكرنا هذه الحادثة المضحكة ليعلم القارئ مبلغ تأثير الوهم والإشاعات الكاذبة في عقول العامة والجهلة من الناس وخصوصًا النساء، بل قد يتسلط الوهم على بعض العقلاء حتى يروا ما لا حقيقة له، فاقرأ بعد ذلك قصة قيامة المسيح من الموت وما حدث للنساء اللاتي ذهبن إلى قبره. هذا إذا صح أن هذه القصة ليست ملفقة من أولها إلى آخرها وأنها في الأصل كانت كما رويت في هذه الأناجيل الحالية، على أن التلفيق ثابت عليهم فيها راجع (ص76) من كتاب (دين الله) .
(8) حاشية: إذا صحت عقيدة النصارى في الصلب والخلاص المبشر به فلماذا لم يقتل المسيح نفسه أو يطلب من تلاميذه أن يقتلوه قربانًا لله بدلاً من أن يوقع اليهود في هذا الإثم العظيم؟ فكأن الله تعالى بعد أن دبر هذه الوسيلة لخلاص الناس من سلطة الشيطان لم يقدر أن يخلص بها أحب الشعوب إليه المفضلين على العالمين الذين - خصهم كما يقولون - بالوحي والنبوة والمعجزات العظيمة من قديم الزمان ولم يعتنِ بأحد غيرهم اعتناءه بهم حتى جعلهم الواسطة الوحيدة لهداية البشر أجمعين إلى دينه الحق؟! أما كان هؤلاء الناس أولى بالخلاص دون سواهم؟ فلماذا إذًا أوقعهم في هذا الذنب العظيم بصلبهم المسيح بدون إرادته، مع أنه كان يمكنه أن يقدم ابنه هذا البريء بدون إيقاعهم في هذا الإثم الكبير؟! ألا يدل ذلك - لو صح - على أن الشيطان قد نجح في إهلاك أحباب إلههم وشعبه المختار وعجز هذا الإله عن تخليصهم من مخالبه بعد أن فكر في ذلك مدة طويلة، ثم صلب نفسه، ومع ذلك لم تنجح حيلته!! فوا أسفا على هذا الإله الضعيف الذي غلبه الشيطان وجعله يندم على خلقه الإنسان ويحزن (تك 6: 6 و7) وأوقعه في الحيرة والارتباك من قبل ومن بعد الطوفان تك (8: 21 و22 و11: 6 و7) إلخ إلخ وما أغناه عن هذا كله لولا حُبه في سفك الدماء كثيرًا (قض 11: 29 -40) حتى سفك دم نفسه وقاده الشيطان إلى هذا الانتحار (تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا) وجاءه من قبل ذلك مجربًا وممتحنًا ليسجد له ليكفر (مت 41: 10) ولم يكتف بذلك - على حسب زعمهم -
بل أصاب ويصيب عباده بالصرع وأنواع الشلل والبكم والصمم والجنون والعتاهة وغير ذلك من الأمراض التي تنسبها إليهم كتبهم إلى تأثير الشيطان ولا يقدرون للآن على تخليص الناس من شره وسلطانه، فما أعظمه عندهم من لعين قادر حتى قهر العالمين وإلههم!! فمن منهما سحق الآخر على ما يقول سفر التكوين (3: 15) (سبحان الله رب العزة عما يصفون) وإذا صح أن المسيح ادعى الألوهية بين اليهود (يو 8: 58 و10: 30 و33) فأي ذنب عليهم في قتله وهم لم يفعلوا شيئا سوى تنفيذ ما أمرهم الله تعالى به على لسان موسى؟! قال في سفر التثنية (13: 1) إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة 2ولوحدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً: لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها ونعبدها، إلى قوله: وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يُقتل) فإذا كان الله يعلم أن المسيح سيدَّعى الألوهية ويدعو الناس لعبادته، فلماذا وضع هذا الحكم في الشريعة الموسوية؟ ولمَّا أنفذه اليهود إطاعة له كرههم وغضب عليهم!! فلمَ هذا التضليل ولمَ هذا الظلم؟ فمقتضى عقيدة النصارى أن الله تعالى عاجز جاهل، ولذلك ما كان يعلم المستقبل، وكان كما يقول سفر التكوين: يضطر للنزول ليشاهد بنفسه أعمال البشر (تك 11: 5 و6 و18: 21) التي أغضبته وجعلته يندم ويحزن. فكأنه ما كان يعلم ماذا يصير إليه أمر الإنسان، ولذلك ترى أنه بعد أن دبر طريقه الخلاص ومات صلبًا لم يُخلِّص من البشر إلا قليل بالنسبة لمجموعهم، وأَهْلَكَ بسبب ذلك أفضل أمة عنده (تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلوًّا كَبِيرًا) .(16/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية
(3)
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
محاربة الاتحاديين للدين
من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقلان، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَان أن
القوة المعنوية هي الأصل الباعث على الأعمال المادية، وأن الدين هو أعظم
القوى المعنوية أثرًا، وأشدها على المخالف خطرًا، وأن الفريقين المتحاربين
إذا تساويا في جميع ما ينبغي للقتال من علم ومعرفة، وذخيرة وعدة، وتفاوتا
في قوة الإيمان بالله عز وجل والرجاء في الحياة الآخرة، فإن أقواهما إيمانًا
وأعظمهما رجاء هو الجدير بأن يكون له الفلج ويتيسر له النصر. وقد صرحت
الجرائد الأوربية بهذه الحقيقة في سياق البحث في أسباب رجحان البوير على
الإنكليز في حرب الترنسفال، كما بيناه في المجلد الثاني من المنار.
وقد نشرنا في المجلد الأول من المنار نبذة في هذه المسألة ترجمها الأستاذ رحمه
الله تعالى من (وقائع بسمارك) التي نشرها بعد موته أمين سره مسيو
(بوش) قال: غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا
فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق
قلوب الشعب ولو لم يكن هنالك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لما استكن
في الضمائر من بقايا الإيمان. ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحداً مهيمنًا يراه
وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه.
فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم
تلك الملاحظة؟ فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور
ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس، وهوًى فيها كأنه غريزة
لها، ولو أنهم لاحظوا لفقهوا ذلك الميل، وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني
لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من
الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم
إيمان بدين جاء به وحي سماوي. واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه
الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة؟
بعد هذا تكلم ذلك الرجل العظيم عن نفسه فأكد القول بأنه لولا إيمانه
بالعناية الإلهية ويقينه بحياة بعد الموت وشعوره بأنه يرضي الله بخدمته للأمة
الألمانية وسعيه لوحدتها وإعلاء شأنها - لما رضي لنفسه أن يكون من حزب
الملكية وأن يخدم الملك لأنه هو جمهوري بالطبع. والوظائف والرتب
والألقاب لا بهاء لها في نظره. وإنه لا يحب إلا العيشة الخلوية في المزارع،
ومما قاله: (اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني) ومنه: إن لم
أكن خاضعًا لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه الأسرة المالكة مع أنها
تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالنبيل من الأصل الذي تنصل به عشيرتي؟
ومن أراد ترجمة نص قوله برمته فليرجع إلى المنار (ص 846 م1 من
الطبعة الثانية) .
وقد قال الأستاذ في مقدمة هذه الترجمة أنه ترجمه ليطلع عليه من لم يُعن
بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعدون النسبة إلى دينهم سبة، والظهور
بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه
ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرئاسة، ولا
ضعفًا في السياسة.
وقال بعده: هذا كلام بسمارك وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان
يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الإيمان بالله
والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه
مُفَاخِر، ولم يكثره مكاثر.
أقول بعد هذا التمهيد: ولكن زعماء الاتحاديين قد فخروه وكثروه في
السياسة، فكان اتحادهم العثماني أقوى وأعلى وأثبت من اتحاده الألماني؛ لأنه
بني على صخر الإيمان، وبنوا على رمل الإلحاد.
لقيت في الآستانة الدكتور ناظم بك الزعيم الأكبر للاتحاديين الذي خلف
صادق بك أمير الألاي بعد أن تبرأ من الجمعية فصار هو المرخص المسئول
لها. لقيته يتحدث مع فطين أفندي المدرس في دار الشفقة والمدير للمرصد
الفلكي الجديد في ضواحي العاصمة وكان يومئذ من صميم الاتحاديين، على
حين تركهم أكثر أمثاله من المعممين، حتى كان يشك في تدينه رجال الدين،
فقال لي: تعال احكم بيني وبين البك. قلت: ما خطبكما؟ قال: إن البك يقول:
إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا
وعصرنا العلماء عصرًا، نمحقهم به محقًا، وسِرنا وراء فرنسة خطوة خطوة.
وأما أنا فقلت له: إننا يجب أن نأخذ من أوربة لا من فرنسة خاصة، الفنون
الصناعية والزراعية وكل ما نحتاج إليه للترقي العملي في دنيانا. وأما الأمور
المعنوية والأدبية فنرجع فيها إلى أصول ديننا ونستمدها منه. فقال: يجب أن
نأخذ عن فرنسة كل شيء فإن جميع ما عندنا فاسد وموجب للتدلي.
لا يحتاج القارئ إلى القول بأن رأي فطين أفندي هو الموافق لرأيي في
هذه المسألة وقلما رأيت أحدًا أوجز وأفاد في تحرير هذه المسألة الكبيرة مثل
هذا الرجل، ولكنني سلكت في تأييده مسلك بيان السبب في هذه التفرقة
والخلاف بين المتعلمين، وتطرف بعضهم في التفرنج وبعضهم في الجمود
على القديم، وشدة الحاجة إلى المعتدلين الذين يعرفون القديم والحديث، أي
كفطين أفندي، وانتقلت من هذا إلى مشروع العلم والإرشاد الذي كنت أسعى له
هنالك وليس هذا المقال بمحل تفصيل القول فيه.
جميع زعماء الجمعية على رأي ناظم بك الذي ذكرناه آنفا، ولكن قلما
يوجد فيهم من يتجرأ على التصريح بمثله. وقد سمعت منه ومن غيره منهم
وعنهم غير ذلك ولولا ظهور قوة تأثير الدين لهم في الجيش يوم 31 مارس أو
13 أبريل لظهر من تهتكهم والجهر بمقاومتهم للدين أضعاف ما ظهر للناس
وما الذي ظهر بقليل، ونكتفي من ذلك بشيء مما يتعلق بالجند حذرًا من
التطويل.
كانت الصلاة في العسكر أمرًا إجباريًّا يتساهل فيه الضباط المارقون
والمرتابون في خاصة أنفسهم، وقد يتعدى ذلك إلى الجنود التابعين لهم. فإذا
جاء متدين منهم وشدد فيه لا يستطيع معارضته أحد لأنه رسمي. فلما دالت
الدولة للاتحاديين جعلوا الصلاة أمرًا اختياريًّا وصاروا يوعزون إلى حزبهم
من الضباط بمنعها وإشغال العسكر عنها بالتمرين أو غيره من العمل في
أوقاتها، حتى في المدرسة الحربية العليا نفسها.
أخبرني من أثق بهم في الآستانة بهذا، وآخرون بخبر آخر أضر منه في
الجيش، وهو أنهم كانوا عند التنسيق العسكري يعنون بإخراج الضباط المتدينين
من الجيش وأكثر هؤلاء المتدينين من الذين ارتقوا إلى رتبة الضباط بالعمل
والتمرن في الجيش في إبان السلم والحرب سنين كثيرة ويسمونهم الألايلية
نسبة تركية إلى ألاي وكان عذرهم في إخراجهم أنهم غير متخرجين في
المكتب الحربي فمعارفهم غير قانونية. وقد أخرجوا بعض المتخرجين في
المكتب الحربي بعلل أخرى، كما أبقوا بعض الألايلية الذين اتبعوا هوى
الجمعية ولو كان عدد الضباط المكتبيين كافيًا لعسكر الدولة لكان لهم في
إخراج من أخرجوا وجهًا للاعتذار وإن أضر ذلك بمالية الدولة وخسر به
جيشها طائفة من الضباط، يفضلون كثيرًا من متخرجي المكتب الأحداث
والأغرار، أي الذين لا تجربة لهم.
وقد كان غرض الاتحاديين من تنسيق عمال الحكومة في جميع النظارات
والمصالح أن يخرجوا منها من شاءوا، ويبقوا من أحبوا، ليعلم كل فرد من
أفراد هذه الدولة أن جمعية الاتحاد والترقي هي ولية أمره وصاحبة السلطان
عليه، فيكون طوع يدها، ويؤدي لها ما عدا الضريبة الأولى ما فرضه
قانونها على كل منتمٍ إليها، وهو اثنان في المائة من جميع دخله (إيراده) وقد
كانت خسارة الدولة بهذا التنسيق أكثر من ثلاثة ملايين جنيه في كل سنة
تُعطى رواتب للمعزولين والمنسقين. وما كان الذين استحدثوهم خيرًا من
الذين أخرجوهم، ولولا هذا التنسيق لكان للدولة في المال الذي خسرته به ما
يمكِّنها من شراء مدرعة وطرادة من الدرجة الأولى في كل سنة.
إن أكثر الضباط الذين تعول عليهم الجمعية في نصرها من الملحدين أو
المرتشين في دينهم، ومنهم الذين يصرحون بالكفر تصريح الحقود المنتقم من
الدين، ومن ذلك ما حدثني به بعض الثقات في الآستانة عن بعض الباشوات
أنه قال: لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب
والعجم صلى الله عليه وسلم - لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها. ومن لم
يجدوه على مثل هذا الفساد من قبل حاولوا إفساده بالسياسة، فكانوا لا يقبلون
ضابطًا في الجمعية إلا إذا دخل الماسونية، وهذا وذاك أهم الأسباب التي
حملت أمير الألاي صادق بك الشهير على محادة الجمعية ومقاومتها، بعد أن
عجز عن إقناع زعمائها بترك هذه المفاسد. وكان محمود شوكت باشا جاراه
بإظهاره له أنه مجتهد في منع الضباط من الاشتغال بالسياسة وجهر بذلك في
خطبة له في نظارة الحربية، وخطبة أخرى في أدرنة، كنت من المعجبين
بهما وبه يومئذ وأنا في الآستانة، ثم ظهر لصادق بك أن ذلك خداع، ثم ظهر
لسائر الناس أيضًا في العريضة التي استقال بها محمود شوكت باشا من نظارة
الحربية، فإنه صرح فيها بأنه يترك تنفيذ قانون منع الضباط من السياسة لخلفه،
أي أنه لا يمكنه تنفيذ هذا القانون وهو الذي أسلس العنان للضباط حتى
توغلوا في السياسة أن يمنعهم منها عند ما قامت ثورة طائفة كبيرة منهم في
بلاد الأرنؤوط طالبين إسقاطه وإسقاط جمعيته.
مثل جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف الدين في الجيش وإخراج عدد كثير من
الضباط المتدينين من صفوفه كمثل من كان له بيت يؤويه ويقيه فواعل الجو
فهدمه لأنه صار يراه غير لائق بمقامه، ولكن قبل أن يبني له بيتًا آخر على
النحو الذي يحب، فبينا هو في العراء يفكر ويقدر ويجلب بعض الحجارة لبناء بيت
آخر عصفت الريح فأثارت السحاب فاعتلجت فيه البروق، وقصفت الرعود،
وانهمر الصيب الهتون، فجرفه هو وما كان جلبه لبناء البيت.
إنهم أرادوا أن يستبدلوا الوطنية العثمانية والجنسية التركية، بما يهدمون
من الرابطة الإسلامية والنزعة الدينية، التي لولاها لم يكن الجيش العثماني
مضرب المثل في شجاعته وبأسه وثباته في مواقف النزال، وبلائه في معارك
القتال، فأنشأوا أناشيد وأغاني باسم الوطن التركي والجيش العثماني، ليخلقوا بها
شعورًا جديدًا للجند يقوم مقام الشعور الديني، ولعل هذا من أقوى الجوامع التي
جمعت بينهم وبين زعماء الحزب الوطني المصري، فإن هذا الحزب يفخر
دائمًا - وليس له أثر صالح في البلاد - بأنه أوجد الشعور الوطني، وهذا الشعور
هو الذي يخرج الإنكليز من القطر، ومن حسن حظ مصر أن هؤلاء المغرورين لم
يتولوا أمرًا من أمور البلاد، وأما الاتحاديون فمن سوء حظنا أنهم تولوا أمر المملكة
ثلاث سنين أفسدوا فيها ما لم يستطع عبد الحميد مثله في ثلاثين سنة.
شهد العلماء الذين أرسلتهم الحكومة لوعظ الجيش في شتالجة بأنه تبين
لهم بعد الاختبار أن أهم أسباب انكساره في هذه الحرب قد كان مما أودعه
الاتحاديون في نفوسهم من أن وظيفة الجيش الدفاع عن الوطن بعد أن نزعوا
منها الاعتقاد بأن هذا الدفاع مشروع دينًا وأن الذي يقتل فيه شهيد له عند الله
حياة خير من هذه الحياة ذات نعيم دائم ورضوان من الله أكبر.
وشهد عظماء الألمانيين الذين يتلقى الجيش العثماني عنهم فنون القتال أن
أهم أسباب انكساره هي إفساد الاتحاديين له بإشغاله بالسياسة، وقد بينا أن
هاتين المفسدتين متلازمتان، فإنهم ما اجتهدوا في إضعاف الدين إلا لغرضهم
السياسي، وما أدخلوا الضباط في السياسة إلا للاستعانة على مقاصدهم بالقوة؛
لعلمهم بأنهم عاجزون عن الوصول إليها بإقناع الأمة. وقد كانوا يظنون
عقب الانقلاب أنه يتسنى لهم أن يقودوا جميع علماء الآستانة وعلماء الولايات
بزمام المنافع والمناصب والرتب والرواتب، غرورًا بما كان من خضوعهم
لعبد الحميد، وببعض المنافقين الذين رأوهم مستعدين لخدمتهم في كل شيء
باسم الدين، ثم بدا لهم من علماء الآستانة ما لم يكونوا يحتسبون، كانوا قد
استمالوا إليهم جمهور العلماء فلما خبرهم الأذكياء من هؤلاء العلماء وبلوهم،
قلوهم وهجروهم، وأسسوا الجمعية العلمية لوقاية الإسلام والمسلمين من
كيدهم، وبقي يدهن لهم أكثر موظفي المشيخة الإسلامية الذين عرفوا حقيقة
حالهم، والتبس الأمر على بعضهم فكانوا يحسنون الظن فيهم، لأنهم لم يعرفوا
أحدًا منهم إلا بعد حادثة (31 مارس - 13 أبريل) التي صاروا بعدها
يحسبون للدين ورجاله حسابًا، وناهيك بعلماء الآستانة ونفوذهم الروحي في
الشعب التركي، فقد أخبرني محمود شوكت باشا في أول اجتماع كان لي معه أن
الحكومة لا تستطيع أن تعمل عملاً إذا كان العلماء كارهين له يأبون وجوده،
قال هذا عندما بينت له مشروع الدعوة والإرشاد وبين لي رأيه فيه. وأنه لابد
أن يكون بصفة لا يستنكرها العلماء، قلت له: أنا أضمن استحسان جميع
العلماء له وتمنيهم تنفيذه.
بل رأيت الدكتور ناظمًا على صلابته في مقاصد الجمعية وما علمته عنه
من العزم على تجريد الحكومة العثمانية من الدين يدهن لعلماء الآستانة
ويوهمهم أنه هو وجمعيته يودون خدمة الدين. فقد دعيت إلى الحفلة التي
كرمت الجمعية بها الحاج عمر الياباني الذي أسلم وحج وزار الآستانة بعد
حجه، وكانت تلك الحفلة في نادي نور عثمانية أشهر أندية الجمعية في
الآستانة وكان من المدعوين بعض كبار العلماء، وخطب منهم محمود أسعد
أفندي ناظر الدفتر الخاقاني بالتركية، وخطب كاتب هذه السطور بالعربية، وقام
الدكتور ناظم فتكلم كلامًا قال فيه إن الإسلام محتاج إلى خدمة عظيمة من العلماء
وهم مقصرون لا يقومون بالواجب عليهم، وأهم هذه الخدمة الدعوة إلى الإسلام
وتعميم الإرشاد الإسلامي، فعندئذ قال له مصطفى أفندي أوده مشلي مستشار شيخ
الإسلام، وكان جالسًا بجانبي: إن القيام بهذا الواجب لم يكن متيسرًا في زمن
الاستبداد، والآن اقترح رشيد أفندي مشروعًا يكفل القيام به على أكمل وجه
وننتظر مساعدة الحكومة عليه، أو قال: مساعدتكم، أي مساعدة الجمعية، الشك
مني، وقد استبشرت حين سمعت هذه الكلمة من الدكتور ناظم لأنني كنت أسمع أنه
رجل الجد وأنه ليس كثير الكذب والنفاق كطلعت بك، فجئته وقلت له إذا كان هذا
رأيكم فالمرجو منكم أن تكلموا طلعت بك بإنجاز وعده لنا وتنفيذ المشروع. فقال لي
ما معناه: ليس هذا بالوقت المناسب لهذا العمل فلا بد من انتظار سنة أو سنتين.
فتأمل.
ومما عملته الجمعية لإبطال نشر هداية الدين:إصدار أوامر عامة لجميع
رؤساء الإدارة في الولايات العثمانية بمنع الاجتماع في المساجد لإلقاء الخطب
ونحوها وتصريحها بأن المساجد للصلاة دون غيرها. وهذا من جهلهم
بالإسلام وتاريخه فإن المساجد كانت في الصدر الأول لجميع مصالح المسلمين
كالمشاورة في الأمور العامة والوعظ والقضاء وتوزيع الصدقات وغير ذلك.
وجملة القول: أن جمعية الاتحاد والترقي كانت عازمة على إزالة نفوذ
العلماء من الأمة وكل تأثير للدين فيها إلا التأثير السياسي الذي يوافق مقاصد
الجمعية تستخدم له من أرباب العمائم من يميل مع القوة والمنفعة حيث تميل
كالشيخ صالح التونسي والشيخ عبد العزيز شاويش وأضرابهما، وكان
زعماؤها يعتقدون بأنه لم يبق للدين تأثير يؤبه له. ولكنهم بعد مسألة طرابلس
الغرب غيروا رأيهم وعزموا على الجد في الاستفادة من فكرة الجامعة
الإسلامية وهو ما نبينه في النبذة التالية:
(4)
عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية
لي كلمة في زعماء جمعية الاتحاد والترقي كادت تكون مثلاً في سورية
وهي: إن هؤلاء الاتحاديين قد توسلوا إلى مقصدهم بكل شيء إلا الحق. ولكنهم
فشلوا في كل عمل إلا جمع المال، ولا سيما عقب الانقلاب، فلولا المال لكانوا
الآن في عداد الموتى.
وقد سلكوا طرق النفاق فهم دائمًا يظهرون غير ما يبطنون كما صرح لي
بذلك رجل في الآستانة من أعظم أنصارهم. فإنه سألني مرة: إلى أين وصلت
في تشبثك؟ أي مشروع الدعوة والإرشاد، قلت: وعدني طلعت بك بكذا وكذا
من المساعدة، وحقي باشا قال: إنه طالما فكر في هذا المشروع، وهو يبذل
الجهد في تنفيذه. فقال: أو صدقت أقوالهم؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم.
وأنا أكشف لك الغطاء عن هذا الأمر فأمهلني إلى يوم كذا.. . وبعد مراجعة
حقي باشا ثم طلعت بك ظن أنه جاءني بالنبأ اليقين وما هو إلا أن طلعت بك
كذب عليه أيضًا.
نعم إنهم كانوا يظهرون غير ما يبطنون، ويُسرُّونَ ضد ما يعلنون، لا
في مشروعي الذي غذوني فيه بالوعود سنة كاملة فقط بل في كل مقاصدهم،
فمن أوائل مقاصدهم تتريك العناصر العثمانية وكانوا يعاقبون من يحث
عنصره على الارتقاء من غيرهم بدعوى أنه يفرق عناصر الدولة، ومن
مقاصدهم إزالة سلطة الدين وقوته من الدولة، ولكنهم يظهرون للمسلمين أنهم
يريدون القيام بالجامعة الإسلامية، على أن سيرتهم وأعمالهم تكذب هذه
الدعوى، وحسبك أن جميع زعماء الجمعية من الماسون، وأصول الماسونية
تنافي الجامعة الدينية، وهم لا يخالفون الماسونية إلا في العصبية التركية، فهم
يخادعون المسلمين في شيء والماسون في شيء آخر.
سيقول بعض الغارين والمغرورين بزعماء هذه الجمعية من مسلمي
سورية وغيرها: إننا قد علمنا ما أسره إلينا بعض رجال الجمعية ومن بعض
أعمالها أنها لا تريد إحياء الجامعة الإسلامية، وأن هذا هو غرضها الباطن
وإنما لاذت بالماسونية وأحيت كلمة الوطنية؛ لأجل مخادعة الشعوب المسيحية
والدول الأوروبية.
لا أقول أنهم سيقولون هذا، إلا لأنني سمعتهم قد قالوه من قبل، وأعلم أن
بعض قائليه مأجورون، وبعضهم مخدوعون، وأنا أعرف سبب هذا ومنشأه،
ولا أعجب من تصديق بعض أغرار المسلمين كلام هؤلاء الذين يظهرون لكل
قوم بوجهه، ويخاطبون كل أناس بلسان، فقد خدع هؤلاء الاتحاديون قبلهم
دهاة السياسة ورجال الخبرة من إخوانهم النصارى السوريين في سورية
ومصر جميعًا. إذ أوهموهم أن ميلهم إليهم واتحادهم بهم خير لهم من اتحادهم
بأهل وطنهم من المسلمين وأن مسلمي العرب يغلب عليهم التعصب الديني فلا
يمكن أن يعترفوا أو يرضوا بمساواة إخوانهم في الجنس والوطن لهم. وأما
الاتحاديون الترك فإنه لا يقيمون للدين وزنًا ويرون من المصلحة التركية
ترجيح نصارى العرب ليضعف مسلموهم فلا يكون لهم مجال للمطالبة
بالخلافة التي هي أكبر خطر على نصارى العرب ثم على غيرهم لأنها تكون
دينية محضة.
وسوس دعاة الجمعية آذان كتاب النصارى ووجهائهم بمثل هذا الكلام
فصدقوه وانخدعوا به، وظهر أثر ذلك في جرائدهم في كل مكان، وفي
مساعدتهم للاتحاديين في انتخاب المبعوثين، ولا بدع في ذلك فقد انخدع كتاب
أوربة وساستها من جميع الدول بنفاق هؤلاء الاتحاديين في القول والفعل.
حتى إن جريدة الطان الفرنسية الشهيرة نشرت مرة لأحد مكاتبيها تفضيلاً لهم
على الحزب الوطني المصري بأنهم يصرحون بانتقاد دين الإسلام ولا يبالون بأمر
المسلمين من غير أبناء جنسهم الترك، خلافًا للمصريين الذين تغلب عليهم النزعة
الإسلامية، فيبحثون عن مسلمي تونس، والجزائر ومراكش ويهتمون
بأحوالهم.
ثم ما عتم أن إن انكشف الغطاء للأوربيين عن نفاق زعماء الاتحاديين
وجهلهم وغرورهم، فسبق إلى بيانه الفرنسيون والإنكليز، ولم يصرح به
الألمانيون كغيرهم إلا بعد هذه الحرب، فقد نقل لنا المقطم منذ أيام أن كثيرًا
من أولئك الزعماء يقيمون الآن في بروكسل عاصمة البلجيك وفي مقدمتهم
حقي بك وطلعت بك وجاويد بك. وذكر أن جاويد بك قال لمكاتب جريدة
فرنكفور زيتونج الألمانية في سياق حديثه له: إن أعمال الحكومة العثمانية هي
التي كانت السبب في فشل الجيش الذي كان متأهبًا أتم التأهب ومجهزًا أحسن
التجهيز ولم يكن ينقصه إلا حكومة منظمة - أي اتحادية - لتنتصر به على
البلقانيين كما انتصرت على الأرنؤوط، كما قال في جوابه لمكاتب جريدة
أوربية أخرى الذي بينته في المقالة الأولى، وطعن في كامل باشا فوصفه
بالغرور وحب الانتقام، رمتني بدائها وانسلت.
ثم نقل المقطم بعد ذلك أن مكاتب التيمس في برلين قال تعليقًا على هذا
الحديث: لم تعد الدوائر السياسية في ألمانية تعير ما يتشدق به الاتحاديون أذنًا
صاغية، حتى أن الذين كانوا يعجبون بجاويد بك وزملائه صاروا أشد الناس
انتقادًا لهم، وأكثرهم سخرية بهم ويذهب أولو الرأي في ألمانية الآن إلى أن
السياسة التي بثَّها الاتحاديون في الجيش كانت السبب الأكبر في فشله وانكساره.
ثم تنبَّه نصارى سوريا في مصر وفيها إلى نفاقهم، وبقي أفراد منهم في
البرازيل على انخداعهم، وظل بعد هذا كله بعض مسلمي السوريين يغرون
الناس بهم، إما بأجر قليل، وإما اتباعًا للوهم، وكان يجب أن يجمع العرب
على مقتهم ومحادتهم؛ لأن العرب أبغض الناس إليهم، وإنني أعتقد أن أكثر
الذين يتحيزون إليهم منا منافقون وطلاب مال وجاه، وأقلهم مخدوعون
مصدقون أنهم يعملون للجامعة الإسلامية، وإنني أذكر مثالا من مخادعتهم
للمسلمين بهذه المسألة:
لما ألممت ببيروت في رمضان الماضي وأنا عائد من رحلتي الهندية
زارني ليلة مع الزائرين بعض رجال الحكومة في الدار التي كنت نازلاً فيها
وكان فيهم رجل من رجال القضاء (العدلية) من إخواننا الترك فنقل الحديث إلى
الجامعة الإسلامية وفوائدها للدولة، وادعى أن جمعية الاتحاد والترقي ترمي
إلى إحياء هذه الجمعية فقلت له: إنما ترمي إلى إحياء الجامعة التركية،
وتتجر باسم الجامعة الإسلامية، تجذب بهذا الاسم المسلمين الغافلين، وتخيف
الأوربيين المستعمرين، وإنني أدرى الناس بمكانها من الدين فقد جئت الآستانة
بإذن الجمعية لأجل مشروع الدعوة والإرشاد الذي شهد العقلاء من الاتحاديين
وغيرهم أنه أنفع ما يخدم به الدين، وكنت موعودًا من الجمعية بالمساعدة
عليه، ثم لما عرف زعماء الجمعية حقيقة المشروع وأنه خدمة حقيقية للدين
قاوموه ولم ينفذوه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكانوا يظنون أن إسلامي
سياسيّ فيسهل جعلي آلة سياسية، فلما تبين لهم أن إسلامي إيمان ونية وعمل،
ظهر لهم أن مشربي يخالف مشربهم، وعملي يناقض عملهم، وقد كان
بعض علماء الآستانة يحذرني منهم ويقول: لا يغرنك منهم إظهار الميل إلى
مساعدة مشروعك (وهم يقولون) تشبثك فإنهم يريدون أن يستفيدوا من
اسمك وشهرتك ليظن المسلمون أنهم يريدون الخير للإسلام، وكان هؤلاء
العلماء يرون أن عدم تنفيذهم للمشروع خير من تنفيذهم إياه مخادعة ورياء
لأن الأمور بمقاصدها.
وكان هنالك علماء ونبهاء آخرون يرون أن الرياء قنطرة الإخلاص،
وأنهم إذا نفذوا المشروع يربحه المسلمون ولا يضره رياء مساعديه، إذا
صحت نية القائمين به، وكان من رأي هؤلاء أن أكتم عن الجمعية حقيقة
مرادي، وأوهمها أنني أريد أن أربي أناسًا يكونون دعاة للدين في الظاهر
ولسياسة الجمعية في الباطن، وأن أطلب جعل تعليم الفنون في هذه المدرسة
الإسلامية العامة باللغة التركية لا العربية ليقبلوا المشروع، وبعض أصحاب
هذا الرأي من الذين انتموا إلى الجمعية ليتمكنوا بنفوذها مما يريدون من الخير
لأنفسهم ولأمتهم، ولكنني لم أقبل نصحهم وقلت: إنني لا أجعل الباطل وسيلة
إلى الحق، فأنا أبين لهم كل مرادي، وإنني لا أريد ولا أقبل أن يكون المشروع
آلة سياسية بل دينيًّا خالصًا؛ لأن السياسة تفسده باختلاف الأحزاب والحكام
من الداخل، وبمقاومة أوربة من الخارج، ومن الجهل والغرور أن نظن أننا
نستطيع أن نخدع أوربة، فإن الجاهل القاصرلا يستطيع أن يخدع العالم
الراشد.
ذكرت شيئًا من سيرتي هذه للزائر التركي الذكي، ثم قلت له: أليس
الدكتور ناظم صاحب النفوذ الأعلى في هذه الجمعية يصرح بأن الدولة لا
يمكن أن ترتقي ما دامت متمسكة بالإسلام؟ أليس جميع إخوانه الزعماء
وأنصاره فيها على هذا الرأي؟ أليسوا يرون أن فشو الإلحاد في متخرجي
مكاتب العاصمة هو العون لهم على ما يريدون؟ فكيف يرجى منهم مع هذا
تأييد الجامعة الإسلامية؟
قال الزائر ويا لله العجب مما قال: إن الدكتور ناظمًا وكثيرًا من
زعماء الجمعية كذلك ولكن أكثر المنتمين إلى الجمعية متدينون ولعل غير
المتدينين منهم لا يزيدون على ثلاثين في المائة.
قلت: إنني لم أكن أظن أنهم يبلغون هذه الدرجة من الكثرة، وهب أن
المتدينين منهم تسعون في المائة والملاحدة عشرة في المائة، أليست الزعامة
والسلطة في يد الأقلين؟ قال: نعم، ولكن هذا لا يدوم. ثم قلت: إذا كانت
جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا تحاول إماتة اللغة
العربية وتطهير التركية منها، فهل يمكن للشعوب الإسلامية أن تتعارف
وتتعاون من غير أن يكون لها لغة مشتركة؟ وهل يمكن أن تتوجه كلها إلى
تعلم لغة عامة غير لغة دينها؟
إذا كانت جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا نرى
جرائدها ودعاتها وأساتذتها في جميع مكاتب الحكومة قد جعلوا شعارهم
وهجيراهم (الملة التركية) والقومية التركية ومحاولة تعميم اللغة التركية فقط،
أليست الأمة الإسلامية أمة واحدة ملتها واحدة وأفرادها إخوة كما يؤخذ من
نص القرآن المجيد، فتقسيمها إلى ملل وأجناس كما يفعلون هو الهدم لا البناء
للجامعة الإسلامية؟
قال الزائر التركي الذكي ويا لله العجب مما قال: إن اللهج بالملية التركية
والعناية بإحياء العنصرية التركية ونشر اللغة التركية، يريدون به الجامعة
الإسلامية، فإن المقصود منه استمالة مسلمي تركستان والتتار والروسيين إلى
الدولة واتحادهم بالترك العثمانيين وبذلك تقوى الجامعة الإسلامية، وليس
المراد به ألبتة تقوية الترك على العرب.
قلت له: أو يقال لمثلي هذا؟ هل الإسلام محصور في الترك والتتار حتى
لا تتكون الجامعة الإسلامية إلا منهم؟ أم يرون لغرورهم أن دولة روسية هي
أضعف الدول فيبتزونها عشرين مليونًا من الترك والتتار يكونون به الجامعة
التركية؟ إنني واقف على دسائس الجمعية في هذه المسألة، ونشرت في المنار
ترجمة مقالات لجريدة (نوفي فريمية) الروسية تنحي فيها باللائمة على حكومتهم
في تركستان لغفلتها عن المدارس التي ينشئها التتار هناك زاعمة أن هؤلاء
التتار مرسلون من الآستانة أو مُوعَز إليهم منها ليبثوا فكرة الجامعة الإسلامية
في تركستان، ويستميلوا أهلها البسطاء إلى إخوانهم الترك العثمانيين بدسائس
ألمانية والنمسة. وقد نصحت لإخواني التتار بعد نشر ما ذكرت بأن ينزهوا
سعيهم لنشر العلم بينهم وبين سائر إخوانهم عن شوائب السياسة الاتحادية
ودسائسها؛ لأن صلة بعضهم بأهلها تضرهم وتضر الدولة العثمانية؛ لأنها
تغري حكومتهم بالتشديد في منعهم من نشر العلم الذي يحيي المسلمين في
بلادها وبالتصدي لعداوة الدولة العثمانية من جهة أخرى، وكذلك كان فإنها
هي التي كونت الاتحاد البلقاني ودفعته إلى هذه الحرب.
ثم قلت للزائر التركي الذكي: إن ما وافقتنا عليه من مناداة الاتحاديين
بالملية التركية والقومية التركية واللغة التركية وبث ذلك في مدارس الدولة هو
من أقوى الأدلة على ضد ما استدللت به عليه؛ إذ جعلته عملاً للجامعة
الإسلامية، فإن كانت الجمعية تريد الجامعة الإسلامية الصحيحة كما تقول
فلماذا اهتمت بأمر مسلمي تركستان الذين دون وصولها إليهم خرط القتاد دون
مسلمي العرب في الحجاز مهد الإسلام ومهبط الوحي، وفي سياجه جزيرة
العرب وسائر العرب الذين لا يحيا الإسلام إلا بحياة بلادهم ولغتهم، ولا يعز
إلا بعزهم؟ فقد قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح.
ولماذا لم تهتم بأمر مسلمي أفريقية العثمانية فعرضت عرب طرابلس
الغرب وبرقة لنيران مدافع إيطالية؟ ولماذا لم تهتم بأمر أربعين مليونًا من
المسلمين في جزائر جاوة والملايو وثمانين مليونًا من المسلمين في الهند؟
فهل انحصر الإسلام في الترك والتتار؟ لو كان الاتحاديون يريدون خدمة
الإسلام لنفذوا مشروع الدعوة والإرشاد، واجتهدوا في إحياء اللغة العربية
وعمران الحجاز وجزيرة العرب قبل كل شيء. هذا ما خطر في بالي من
حديثنا مع ذلك الزائر، وربما كان فيه زيادة إيضاح لبعض المسائل واختصار
في بعضها، وقد كان معنا جماعة من أدباء بيروت وطرابلس يستمعون.
فهذا مَثل من أمثال مخادعة الاتحاديين لمسلمي سورية وأمثالهم، وما كل
من يسمع مثل ما سمعت يجيب بمثل ما أجبت، وإنني أرى أن زعماء الجمعية
ما أيقنوا بأنه يمكنهم الانتفاع من الجامعة الإسلامية إذا استخدموها باسم
حكومة الخلافة ونفوذها إلا بعد حادثة طرابلس الغرب، فقد سمعت ورويت
عنهم وأنا في الآستانة أنهم يقولون: لا ينفعنا مسلمو بلادها ولا غيرهم وإذا
حاربنا إنكلترة _ أي في مصر طبعًا _ فلا يفيدنا مسلمو الهند شيئًا. وكانوا هم
وغيرهم من رجال الدولة يعتقدون قبل حادثة طرابلس الغرب أن العرب فيها لا
يبالون بصلتهم بالدولة وربما فضلوا إيطالية عليها تفضيلاً، وسلموا تسليمًا،
وإن سائر المسلمين لا يشعرون بألم انفصال هذه المملكة من ممالك الدولة.
يدل على هذا ما رواه بعض فضلاء العثمانيين عن رأي سفارة الدولة في
باريس حين أنذرت إيطالية الدولة ذلك الإنذار وأتبعته بضرب أسطولها
لطرابلس فذهبت إلى السفارة العثمانية لأتعرف رأيها وأعرض لها رأيي فقيل
لي: إنه لا شك في أن أهل طرابلس لا يأسفون ولا يأسون على زوال سلطتنا
عنهم؛ لأنهم ما رأوا منا خيرًا قط. وقد تألفتهم إيطالية منذ سنين فهم يفضلونهاعلينا.
بل نقلت البرقيات والصحف عن محمود شوكت باشا وكذا عن أحمد مختار
باشا أنهما قالا: إن الدفاع عن طرابلس الغرب جناية؛ لأننا لا نجد طريقًا لذلك.
هبَّ عرب طرابلس للدفاع عن بلادهم والمحافظة على عثمانيتهم، وهبَّ
العالم الإسلامي لمساعدتهم، فبدا لجمعية الاتحاد والترقي ما لم تكن تحتسب،
وأحبت أن تستفيد من هذه الأريحية الإسلامية. وكانت باعت طرابلس وبرقة
لإيطالية على شرط أن تأخذها بالفتح السلمي بعد أن تخرج منها العسكر
العثماني والسلاح، أي أن تترك الاسم والعلم للدولة العثمانية وتفعل في البلاد
ما تشاء. فغدرت إيطالية وتصدت لأخذها صورة وحقيقة بالقوة القاهرة؛ إذ
خلا لها الجو بإخراج العسكر والسلاح منها، فلما هب العرب للقتال، وهب
المسلمون كافة للمساعدة بالمال، وقام المبعوثون المعارضون للجمعية يتهمون
الوزارة الاتحادية بالخيانة ويطلبون محاكمة الصدر الأعظم حقي باشا وناظر
الحربية محمود شوكت باشا، وفي ذلك هتك الستر وانكشاف السر، ورأى
زعماء الجمعية أن الأمة العثمانية يوشك أن تثور عليهم إذا لم يبرئوا أنفسهم،
لما كان ذلك كله أرسلت الحكومة بعض الضباط وأمدتهم بأموال الإعانة وبما
يمكن من السلاح، وظهر للجمعية أن في الجامعة الإسلامية حياة يمكن
الاستفادة منها.
ومن العجائب أن الدكتور ناظم بك لم يقنعه ما سمع وما قرأ عن استبسال
عرب طرابلس وبرقة، وأريحية أهل مصر والشام وغيرهم من المسلمين،
واندفاع الجميع إلى السعي لإبقاء راية الهلال فوق تلك البلاد، بل أرسل زميله
رحمي بك إلى طرابلس ليختبر الحال، فلما عاد منها كان هو الذي أقنعه بأن
للجامعة الإسلامية وجودًا وتأثيرًا حقيقيًّا، فصرَّح الدكتور بذلك في خطبة له
رأيت ترجمتها في بعض الجرائد السورية، وأنا في البصرة عائد من الهند،
فهممت أن أكتب إليه كتابًا أذكره بما أعرف من آرائه وآراء رفاقه في الجمعية
وأبني على ذلك بعض الأسئلة والحجج.
نعم إن الجمعية بعد ذلك كله أرادت الاستفادة من الجامعة الإسلامية
واستثمار هذه القوة من وجوه منها استدرار المال من المسلمين كافة باسم
الخلافة ودولة الخلافة وحماية الإسلام، والمال هو المعبود الأول للجمعية كما
عرف ذلك من سيرتهم منذ الانقلاب إلى اليوم، ومنها تخدير أعصاب مسلمي
العرب العثمانيين حتى لا يطالبوا بحق لهم في دولتهم، ولا يعارضوا
الاتحاديين بشيء من مقاصدهم، ومنها استمالة مسلمي الترك والتتار
الروسيين بالدسائس العملية وسائر مسلمي المستعمرات الأوربية بالجرائد
وبعض المعممين الذين يسخرونهم لهذه الخدمة. ولأجل هذا أسسوا
جريدة الهلال العثماني لما رأوا الشيخ عبد العزيز شاويش مواتيًا لهم في كل
ما يستخدمونه به. وأمدوا جريدة العلم المصرية وبعض الجرائد السورية بقليل
من المال ووسعوا للهلال وأمثاله الحرية في تحريك العصبية الدينية والتنويه
بالجامعة الإسلامية، على تضييقهم على علماء الآستانة وسائر رجال الدين
بقدر الإمكان، ومنها غير ذلك مما لا يتسع هذا المقام لشرحه.
وجملة القول أن عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية واستخدام مثل
الشيخ شاويش في ذلك، كان أكبر الأسباب التي زادت حَنَق دول الاتفاق الثلاثي
عليهم ظنًّا منها أنهم ما تجرأوا على ذلك إلا بإغراء ألمانية والنمسة لضعفهم
وعجزهم، فتصدت هذه الدول للتنكيل بالدولة وأسست روسية الاتفاق البلقاني
وأغرت دول البلقان بهذه الحرب وأمدتهن بالنفوذ حتى إن جرائد هذه الدول
كانت أقوى عضد للبلقانيين، فما جنينا من هذه المخادعة بالجامعة الإسلامية
إلا الزقوم واليحموم، وهذه عاقبة النفاق والغرور، والعياذ بالله مما هو أعظم
من ذلك.
... ... ... ... ... ... ... (نشرت في مؤيد 27 محرم)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(16/130)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(رسالة عين الميزان)
بقلم صاحبها محمد الحسين النجفي آل الشيخ الكبير الشيخ جعفر نقد بها
مقالة (ميزان الجرح والتعديل) للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي التي
نشرت في المنار، وقد نشر بعض هذه الرسالة في مجلة العرفان في آخر عدد
منها، صفحاتها 26 بالحرف الصغير والقطع المثمن، وقد وعد المؤلف
بإتمامها بعد اطلاعه على تتمة المقال (ميزان الجرح والتعديل) وهذه الرسالة
مطبوعة بمطبعة العرفان في صيدا وثمنها قرش ونصف قرش صحيح، وهي
تطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(أمثال الشرق والغرب)
تأليف يوسف توما أفندي الكُتْبِي بمصر، صفحاته 126 بقطع تفسير
سورة الفاتحة، طبع على ورق متوسط بمطبعة البوسته بمصر سنة 1912
يطلب من مكتبة المنار بمصر، وثمنه 3 قروش.
جمعه مؤلفه من كلام العلماء والحكماء من السابقين والمعاصرين،
ورتبه على 24 فصلاً، جمع فيها من أمثال العرب والعجم والبربر والفرنجة
واليونان والهنود طائفة كبيرة، والكتاب نافع لاشتماله على حِكم رائقة مفيدة.
***
(الأمازون)
جريدة جامعة تصدر صباح كل خميس من الأسبوع ذات ثماني صفحات
على شكل جريدة الأفكار، قيمة اشتراكها في السنة 25 فرنكًا، عنوانها (سان
بولو البرازيل، صندوق البوسته عدد 1343) مديرها ومحررها فارس دبغي.
***
(المصور)
جريدة علمية أسبوعية مصورة، صفحاتها أربع، عنوانها: إدارة جريدة
المصور في المطبعة العثمانية في بيروت، قيمة اشتراكها مجيدي ونصف في
البلاد العثمانية، و 10 فرنكات في الخارج، صاحب امتيازها عبد الوهاب
سليم التنير ومديرها المسئول محمد طاهر أفندي التنير.
***
(الفجر)
جريدة أسبوعية تصدر مؤقتا كل عشرة أيام مرة، صفحاتها ثمان وقيمة
اشتراكها 120 قرشا في الخارج، صاحبها ومحررها ناصر شاتيلا أفندي عنوانها
(AL-Fajr Caixa Postal , 1595 Rio de janeiro Barzil) ... ... ... ...
... ... ... ... ... ***
(رائد السودان)
جريدة علمية أدبية إخبارية اقتصادية تصدر يوم السبت من كل أسبوع
بأربع صفحات على شكل جريدة الأهرام، قيمة اشتراكها في مصر والسودان
خمسون قرشًا صحيحًا، وفي الخارج 20 فرنكًا عنوانها (صندوق البوسته
عدد 51 و52 بالخرطوم) .
***
(السهام)
جريدة تبحث في كل موضوع تصدر مرة في الأسبوع، قيمة اشتراكها
200 قرش في البرازيل عن سنة، و35 فرنكًا في الخارج، عنوانها التلغرافي
(السهام مناوس) مديرها ومحررها جورج إسحاق يارد.
__________(16/143)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانقلاب الخطر
وجمعية الأحمرين الدم والذهب
كل من نعرف من العثمانيين المخلصين، والأجانب المستقلين يعتقدون أن
جمعية الاتحاد والترقي هي جمعية الأحمرين: الدم والذهب، أما كونها جمعية دم
وثورة فهو صفتها الرسمية، ولما سقطت وزارتهم السعيدية الشقية جمعوا مؤتمرهم
العام وزعموا أنهم قرروا فيه التحول عن جمعية ثورة إلى حزب سياسي. وكان
هذا خداعًا للأمة الجاهلة المسكينة، كذبته ثورتهم الجديدة لقلب وزارة كامل باشا.
وأما كونها جمعية ذهب، فلا يخفى على أحد، فقد نهبوا أموال عبد الحميد
خان وصادروا أكثر أغنياء الأمة، وباعوا بوسنة وهرسك للنمسة، وطرابلس
الغرب لإيطالية، واتفقوا مع الجمعية الصهيونية على بيعها أراضي السلطان عبد
الحميد الواسعة، وعلى تمهيد الأسباب لامتلاكها البلاد المقدسة لإقامة ملك إسرائيل
فيها، ولهذا قال وزيرهم حقي باشا في خطبة علنية له: إن مستقبل هذه الدولة
العثمانية لليهود. وأخذت وزاراتها من ميزانية الدولة أكثر من 40 مليون جنيه لم
يظهر لها أثر يذكر.
لأجل هذا كله كنا نخشى أن تعود لها الكَرة لامتلاك زمام الدولة فتكون
هي الكَرة الخاسرة، وتقوم بذلك قيامة هذه الأمة البائسة في هذه الأحوال الحرجة،
وزاد هذا الخوف في قلوبنا إخراج الجمعية لبطلها أنور بك من دَرَنَة الذي وضعته
هناك وجعلت في يده جميع الإعانات الحربية؛ لتوهم العالم الإسلامي أنها هي التي
تدافع عن طرابلس وبرقة، وما هي إلا البائعة لهما على الوجه الذي بيَّناه من قبل،
وإنما أخرجته وجاءت به إلى الآستانة ليعينها باسمه وشهرته الخادعة على الثورة
وسفك الدم. وقد وقع ما كنا نتوقع، وهاك ما ورد علينا وعلى غيرنا من أصحاب
الجرائد المصرية من الآستانة في ذلك:
رسالة إلينا خاصة من الآستانة:
كتب إلينا أحد الأصدقاء من عاصمة الملك ومركز الحوادث يقول:
(أكتب إليكم، وأنا أشهد بعيني، وأسمع بأذني كيف تكون مصارع الدول،
وكيف تخط مضاجع الأمم، وكيف يفتك العلم بالجهل، وتستولي النباهة على
الخمول، وكيف تنشب القوة مخالبها في الضعف فتمزق أشلاءه، وكيف
يتضاءل المقصرون أمام السابقين، ويتضاغر المهملون لصولة العاملين، هذا
وهؤلاء المتأخرون في كل شيء، والمتقدمون إلى شفير كل هلكة، كأنهم لا
يألمون لما يألم له الأحياء، فنراهم في غمرتهم ساهين، وعلى ما ألفوا من
الحرص والطمع عاكفين، وعلى هذا الذماء الحقير من السلطة متهالكين، كأن
الآلام تقع على غيرهم، وكأن من يقصد بهذا الشر المستطير سواهم، فكل ما
حل بهم وما سيحل بمن يتصل بهم لم يظهر له ولا أثر ضعيف في أعمالهم
وحالهم، أو كما يقول شاعرهم التركي:
عالم ينه أول عالم ... دوران ينه أول دوران
بل أشهد كيف يحتفر الجاهل قبره بيده، ويهدم قصره بفأسه ومعوله،
حتى لا يترك للعدو سبيلاً إلى العناء، فلقد اختلس الطامعون فرصة اشتغال
العسكر في المرابطة على الحدود، واشتغال الوزارة بالجواب على مخطرة
الدول، فخرجوا من زقاق شرف، مع رئيس من رؤسائهم المعروفين بعدد من
الزعانف لا يبلغ المائتين، أعيتهم الحيل في جمعهم، ومنهم قسم عظيم من
جهال مهاجري طرابلس الغرب، أغروهم بالوقوف أمام الباب العالي يطلبون
معاشهم الذي مضى وقت صرفه، ولم تتمكن الوزارة من تدارك قرض لصرفه،
فوقفوا ووقف أولئك معهم يصيحون ويصخبون، وجاء رئيسهم أنور فدخل على
كامل باشا ورفاقه وطلب إليهم الاستعفاء بحجة أنهم ضعفوا أمام الأعداء وأطمعوهم،
وأشار إليهم بأن ممثلي الأمة وراءه وهم الواقفون أمام الباب، وكان ذلك بعد
أن اغتيل ذلك القائد العظيم ناظم باشا وضابطان آخران، فاضطرت الوزارة
إلى الاستقالة وخرج أنور وهو يكاد يسامق الفَلَك غرورًا، وتوجه توًّا لسفارة
ألمانية حيث مكث هناك برهة ثم صعد إلى سراي طولمه باغجه، حيث أخبر
السلطان بعمله، وأشار عليه بنصب محمود شوكت باشا، وإعادة الوزارة
الاتحادية، فأجابه إلى طلبه طبعًا، وعاد فأعلن ذلك إلى ممثلي الأمة الواقفين
في ساحة الباب العالي! فهتفوا باسم الاتحاد والترقي، وكان ذلك وقت
الغروب أو بُعيده.
ثم قُبض على علي كمال وأُحيط بإدارة جريدة أقدام وعلى محرر يكي غزته
وأحيط بإداراتها، وبناظري المالية والداخلية، وبكثير من رجال العلمية
والملكية، وفر كثيرون مما لم نقف بعد على تفصيله، وتوجه في تلك الليلة
رجلان إلى إدارة صباح، حيث كان محررها فأمروه بكتابة ما يريدون، وهددوه
إن لم يفعل بالقتل، فخرجت صباح ثاني يوم تمجد هذا العمل وتقدسه وتلبسه
لباس الحق، وإن للأمة أن تخرج عن الطاعة وتنبذ طاعة حكومتها إذا عملت على
غير مصلحتها.
وكان قد أصيب في تلك المظاهرة مرخص الاتحاديين مصطفى نجيب
فهلك فأخرجوا جنازته في اليوم التالي بين التهليل والتكبير، والبكاء والعويل،
والتآبين المطولة، والمراثي المطنطنة، وفي جملة من أبَّنَه عبد العزيز
شاويش، أبَّنه بالإنكليزية! ثم مشوا به ومعه ألوف مؤلفة فيهم قسم عظيم من
الحمالين (الشيالين) وقسم عظيم من شيوخ الطرق، وآخر من رجال العلمية
والطلبة، والباقون من شبان المأمورين، ومشت أمامه فرقة من العساكر، وأخرى
من النوَّاحين يرثونه، ويذكرون بلاءه في سبيل الوطن وتعريضه بنفسه
إلى الموت لتخليص وطنه من الذين يريدون بيعه وتسليمه للأعداء، ويتباكون
كأن المصاب بهذا المجاهد أعظم من المصاب بكل من مات في ميدان الحرب،
وأعظم من الهزيمة التي أسقطت الجيش والعثمانية كلها من مرتبة الوجود.
كل هذا على حين أن جنازة ناظم باشا كانت تمشي من طريق آخر وليس
معها سوى بعض الجند، وبعض ضباط الأجانب والمأمورين العسكريين،
والناس يتناجون فيما بينهم ولا يجسر أحد منهم أن ينبس ببنت شفة.
جرت كل هذه المضحكات المبكيات، ثم عادت الوزارة الجديدة لمباشرة
العمل والقيام بما ملأت به ماضغيْها من التحريض على الحرب ورد مخطرة
الدول، وراجعت الأساس الذي كانت الوزارة السابقة تريد بناء الجواب عليه
فإذا هو عبارة عن تسليم بعض الحدود الخارجية عن منطقة أدرنة وتسليم
بعض الجزر، والرجاء من الدول بالاكتفاء بهذا وصرف النظر عن مطالبهن،
فجعلت الوزارة اللاحقة تحاول تعديل جزء يسير من هذا فلم تجد إليه سبيلاً،
ولا عليه معينًا، فاضطرت فيما سمعناه إلى تقريره بعينه، وستقدم الجواب اليوم أو
غدًا [1] .
أما صدى هذه الحركة في الجيش فالمسموع أنه صدى سيئ، وأن
العسكر في جتالجه منقسمون، وبعضهم يريد الزحف على الآستانة لتأديب
القائمين بها، وبعضهم يطالب بدم ناظم باشا، وبعضهم فر من الجيش إلى
جيش البلغار، وأما الولايات فلم يرد منها إلا التقبيح لهذا العمل ورفض
الاعتراف بالوزارة الجديدة فيما سمعنا، حتى قيل: إن ولاية البصرة عازمة
على طرد الأتراك من بلادها وإعلان الاستقلال، وعلمت أن تلغرافًا ورد
طالب بك يتضمن هذا أو نحوه، وأن تلغرافات وردت من بيروت والقدس
بالرفض أيضًا [2] .
أما التهاني التي وردت من بعض أقضية الأناضول ونشرتها الجرائد فهي
خافتة الصوت ظاهر عليها أثر التصنيع، وأول ما درج منها تلغراف من
رئيس الحمالين في أزمير يهنئ الوزارة، ويذكر أن لديه عددًا كبيرًا من
عربات النقل مستعدة لخدمة الحكومة في الحرب التي تنوي استئنافها لتخليص
الوطن! وعلمت من ثقة أن أول عمل قررته الوزارة: إعادة المجلس المنحل
ودعوة المبعوثين؛ لأنها لا تعتبر ذلك الفسخ قانونيًّا؛ ولم ينشر في الجرائد
تصريح بذلك، أما تلميحًا فقد نشر، والجرائد لا تذكر واحدًا من هؤلاء
المبعوثين باسم مبعوث سابق، بل تطلق كلمة مبعوث إطلاقًا، وبالجملة فكل
ما نراه ونسمعه هو من آيات الانتحار والانقراض، ولا ندري ماذا يكون شأن
بلادنا، وماذا يعمل زعماؤها وكيف السبيل إلى النجاة. انتهى بنصه.
ونشر المؤيد في العدد الصادر أمس (يوم الأربعاء 28 صفر سنة
1331 و5 فبراير سنة 1913) رسالة قال: إنه تلقاها عن أوثق المصادر
جاء فيها ما نصه:
بينما كانت الوزارة الكاملية مجتمعة في الباب العالي بعد ظهر أول أمس
(أي: يوم الخميس 23 يناير) للمداولة في الجواب المزمع إرساله إلى سفراء
الدول بشأن مسألة أدرنة والجزر؛ إذ أقبل نحو الباب العالي زمرة من
الاتحاديين وأتباعهم يحملون أعلام الجمعية، وكانت الساعة الثالثة زوالية، وفي
مقدمة الجميع القائمقام أنور بك، والميرالاي جمال بك وهو والي بغداد السابق،
والبكباشي إسماعيل حقي بك وهو والي بتليس السابق، وعمر ناجي بك مبعوث
قرق كليسا السابق وممتاز المتهم بقتل المرحوم زكي بك وتحسين بك صاحب
جريدة سلاح، ومصطفى نجيب الذي لقي حتفه في هذه الفتنة، وبعض المنتمين
للهلال الأحمر الهندي والهلال المصري من الهنود والمصريين (وهؤلاء انضموا إلى
المتظاهرين في الآخر) وقسم كبير من المشايخ صنائع الاتحاديين يهللون
ويكبرون.
ثم دخل أنور بك ورفقاؤه المذكورون إلى رحبة الصدارة وحاولوا الولوج
إلى الغرفة التي يجتمع فيها الوكلاء فعارضهم نافذ بك ياور الصدر الأعظم،
وتوفيق بك ياور ناظم باشا، وجلال أفندي البوليس الملكي الذي يمشي بمعية
سماحة جمال أفندي شيخ الإسلام، وكان هؤلاء الحجاب محقين بمنع هؤلاء
الجماعة من الدخول على مجلس الوكلاء في ساعة انعقاده؛ لأنهم مأمورون
بذلك قانونًا، وهم قاموا بوظيفتهم التي ينبغي أن تكون محترمة عند الجميع.
ولكن أنور بك وجماعته هجموا بالقوة وقتلوا برصاص المسدس المرحومَ
نافذ بك ياور الصدارة، فأصيب في جنبه وهجموا على الحاجبين الآخرين
بالمُدى والخناجر التي كانوا خبأوها تحت ثيابهم، وكان الحاجبان يدافعان عن
حياتهما، وعن باب مجلس الوكلاء بمسدسين كانا معهما.
أما ناظم باشا فقد أقلقه انطلاق الرصاص داخل الباب العالي، وعلى باب
مجلس الوكلاء، وكذلك قلق سائر الوزراء فخرج ناظم باشا من الباب وقبل أن
يسمعوا كلامه أو يفهم مرادهم أطلق عليه مصطفى نجيب رصاصة، وقيل بل
الذي بدأ بإطلاق الرصاص عليه هو أنور بك ونسب ذلك إلى مصطفى نجيب
لأنه مات فيما بعد، ثم انهمر الرصاص على ناظر الحربية من الآخرين
فأصيب برصاصة في صدغه وأخرى تحت عينه اليسرى ومات فأقبلوا على
جثته يطعنونها بالخناجر والمُدى.
وكان الياور توفيق بك إلى ذلك الحين يطلق الرصاص في الفضاء إرهابًا
لهؤلاء الجماعة، فلما رأى جثة وزير الحربية ملقاة على الأرض ملطخة
بالدماء لم يملك عواطفه، مع ما أصابه من جروح، فقتل مصطفى نجيب
بالرصاص.
وبعد قتل ناظم باشا تحول رصاص القوم على توفيق بك وبوليس شيخ
الإسلام، وعلى اثنين من خدمة الباب العالي فقتلوا جميعًا.
وبعد هذه المعركة دخل أنور بك وجمال بك على الصدر الأعظم وطلب
منه الأول أن يستقيل فأجابه إلى ما أراد وكتب كتاب الاستقالة، وسلمه إلى
أنور بك فخرج هذا بها إلى جماعته الذين ينتظرونه في الخارج أمام الباب
العالي، وكان عددهم إلى تلك الساعة لم يزد على مائة شخص فبشرهم
باستقالة كامل باشا، وقال لهم: لا تفارقوا باب الباب العالي حتى أعود إليكم
من القصر السلطاني بتعيين وزارة أخرى.
وذهب إلى سراي طولمه بغجه راكبًا أوتومبيلاً فقابل جلالة السلطان
وأخذ منه الإرادة السنية في الحال بتعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم،
وطلعت بك وكيلاً لنظارة الداخلية إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، وكان هذان
ينتظران مع آخرين عند سراي طولمه بغجه، ثم صحب أنور بك محمود
شوكت باشا وطلعت بك وجاء بهما إلى الباب العالي فاستقبلهم الواقفون هناك
بالتصفيق والهتاف وتلي الفرمان السلطاني على المتجمهرين، وبعد ذلك خطب
محمود شوكت باشا فقال:
(إني قبلت هذا المنصب وأنا على علم بحرج الموقف، وإني واثق بالله
أن يوفقني إلى خدمة الوطن) .
ثم طلب من المتظاهرين أن يتفرقوا فذهبوا من الباب العالي إلى حزب
الحرية والائتلاف فنهبوه، وأخذوا أوراقه ودفاتره وحطموا زجاج كل نوافذه.
ومن الغريب في هذا الحادث أن الجنود الذين من وظيفتهم أن يوجدوا في
الباب العالي أرادوا أن يمنعوا أنور بك وجماعته من الدخول فسألهم أنور بك:
ألستم تعرفونني؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تثقون بي؟ قالوا: بلى. قال: إذن
فأفسحوا لي الطريق؛ فإني ما جئت إلا لأنقذ الوطن؛ وعقولكم لا تدرك مثل
هذه الأمور. نعم عقولهم لا تدرك مثل هذه الأمور، ولكن الذي كان يجب عليهم أن
يدركوه هو اتباع أوامر ضباطهم فلم يفعلوا. وهكذا تركوا رجال المظاهرة يفعلون ما
سبقت الإشارة إليه.
وعند دخول أنور بك كان منتبهًا إلى أنه ربما استدعيت الجنود بواسطة
أسلاك التلفون والتلغراف فقطعها كلها.
ومما انتبه الاتحاديون له قبل وقوع الحادث أنهم أمروا الضًّباط المنتسبين
إلى جمعيتهم فأخذوا الألايات الحميدية إلى الجسر الجديد الذي بين السركه جي
وغلطه فقطعوا الصلة بين شطري العاصمة.
وكانوا قد طبعوا من قبل منشورًا يتقربون به إلى الأمة بما آنسوه من
شعورها بعواطف الاستياء من التنازل عن بعض أدرنة والجزر مع أنه لو
كشف الله للناس عن قلوب بعضهم في هذه الأزمة لعلموا من هو المسيء أكثر
ومن هو المخلص أكثر، ومن الذي يتخذ العواطف ذريعة لأغراضه.
وأغرب ما في الأمر أن هذا المنشور الذي طبع من قبل جاء فيه أن
الوزارة استقالت، مع أنه كتب وطبع قبل حدوث كل شيء، وقبل أن يخطر
على بال الوزارة أن تستقيل بهذه الصورة. ولكنها فتنة دبرت بليل.
في اليوم الثاني كانت قد أقفلت جريدة أقدام وجريدة علمدار وجريدة بني
غزته، وقام أمامها من رجال البوليس، وقبل ذلك - أي في الليل - ألقي القبض
في مطعم طوقاتليان على علي كمال بك رئيس تحرير أقدام، وإسماعيل حقي
بك مبعوث كوملجنة السابق، ونور الدين بك المدير المسئول لجريدة أقدام،
والدكتور رضا نور بك والدكتور رضا توفيق بك وغيرهم فسجنوا جميعًا.
أما رشيد بك ناظر الداخلية السابق وعبد الرحمن بك ناظر المالية
السابق فقد سجنا في دائرة برنجي قول أوردو ولا يزال البحث جاريًا عن
المعارضين.
والاعتقاد سائد هنا (أي في الآستانة) أنه لولا طيب قلب ناظم باشا
ورشيد بك لما حصل شيء من هذه الفتنة.
ويقال: إنه مما قرر أثناء ترتيب الفتنة أن يعين نسيم ماصلياح اليهودي
وكيل الجمعية الصهيونية ناظرًا للتجارة بدلا من جلال بك ويرسل جلال بك
واليا على أزمير، وجاويد بك يعين وزيرًا للمالية.
أما باتزاريا الذي عين ناظرا للنافعة (الأشغال) فهو فلاخي، وكان
رئيسًا لتحرير (جون ترك) التي تصدر بأموال اليهود الصهيونيين اهـ.
***
الانقلاب الخامس ...
مقدماته، تفاصيله، نتائجه
ونشرت جريدة الأهرام تحت هذا العنوان (في عدد 10618) رسالة
من الآستانة هذا نصها:
برح مراسلكم الخصوصي فروق إلى مكان أجهله فسألني قبل سفره
مراسلة الأهرام في مدة غيابه نظرًا لما بيننا من صلات المحبة والوداد فوعدته
خيرًا، ولقد كنت أود لو أن لي قلمًا كقلمه يصف لكم الحوادث والأشياء، إلا
أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، فأنا أصف لكم ما رأيناه ومر أمام ناظرنا
ببساطة العامي؛ لعلمي أن الحقيقة جميلة بنفسها لا تحتاج إلى بلاغة إنشاء. ففي
جمالها ما يغني عن البلاغة.
إذا كان في العالم كله شعب يصح به قول الشاعر:
وصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت االنصال على النصال ...
فهذا الشعب هو ولا شك الشعب العثماني الساكت النائم على الضيم المغلوب
على أمره، فلقد أخذت النوائب ترشقه بسهامها منذ عامين أو أكثر فقتلت أولاده في
حروب طرابلس الغرب والروملى، ورملت نساءه ويتمت أطفاله، وخربت
تجارته وهدمت دياره وأحرقت مزارعه وأخرجت الحكم من يده إلى يد عدوه،
فبلاد الرومل اليوم ديار خربة لا تصلح لشيء، يحرق العدو فيها ديار المسلمين،
ويحرق المسلمون فيها قرى أعدائهم، وهكذا دواليك.
منذ أربعة أعوم قلب الجيش حكم عبد الحميد، وأنشأوا حكومة دستورية،
ثم قام الجيش فقلب تلك الحكومة، ثم قام رجال تلك الحكومة فقلبوا بعض توابير
ذاك الجيش، ثم عاد ضباط الجيش الكرة الرابعة منذ شهور وقلبوا ذاك
الحكم. فقام الاتحاديون اليوم وقلبوا حكومة ذاك الجيش وهي خامس ثورة
حدثت في أربعة أعوام في سبيل القبض على الحكومة ليس غير.
(قبل الانقلاب)
برح أنور بك بنغازي بطلب من جمعية الاتحاد والترقي، فلما وصل
الآستانة قابله رجاله طبعًا ولم يجر له استقبال فخيم كما عوده ذووه فساءه ذلك،
وزاد في استيائه أنه بعد أن وصل قصد نظارة الحربية فدخل على ناظم باشا
فلم يقف له ناظر الحربية بل قابله بصفة عسكرية كفريق وقائمقام عسكري،
وقال له ما خلاصته:
أنا مسرور منك لما بذلته من الهمة والنشاط في بنغازي وأُسَرُّ بوجود
ضابط نشيط مثلك في الجيش؛ غير أنني أفيدك أنني لا أحب أبدًا مداخلة
الضباط في السياسة، ولا أسمح لهم بذلك، فإذا أقسمت لي بأنك لا تتدخل فيها
أبدًا أقسم لك بشرفي أننا نقدر أن نقضي العمر معًا. فأقسم له أنور بك بشرفه
العسكري أنه لا يتداخل في السياسة وخرج من حضرته وفي الصدر ما فيه.
كان بين عزت باشا رئيس الأركان وأنور بك صداقة ووداد من قبل، ويظهر
أن عزت باشا لا يميل قلبًا إلى ناظم باشا فعقد مع أنور بك عهدًاٍ، وأخذ الاثنان في
ملاطفة ناظم باشا وإظهار الود له، ومما كانا يقولانه له: اليوم لا توجد جمعيات أبدًا
فلا اتحاد ولا ائتلاف، بل يوجد شرف الجيش العثماني، وإن شاء الله بهمتك يا باشتنا
نعيد هذا الشرف إلى ما كان عليه.
وبرهانا على هذا القول دعوه مرتين إلى تناول الطعام في دار البرنس
سعيد باشا حليم مع رهط الاتحاديين، وتناول الطعام معهم مرة في فندق
توقتليان حتى قال بعضهم: إن ناظم باشا اتفق مع الاتحاديين والتحق بهم.
ولقد بلغ وثوقه حدًّا ما كان يجب له أن يبلغه، فترك أمور الحل والربط في
الجيش لعزت باشا، وأخذ يشتغل هو بأمور الدفاع وغيرها، ولقد كانت هذه
السياسة التي بسطتها توطئة لدور الانقلاب.
(قبل الانقلاب بأيام)
اتصل برشيد بك ناظر الداخلية السابق قبل الانقلاب بأيام خبر ما يهيئه
الاتحاديون من المؤامرات، فأراد أن يقبض على زعمائهم فمنعه ناظم باشا من ذلك
فألح فجاءوا بنصف تابور وأسكنوه في الباب العالي.
(من هم ضباطه)
إن رجال هذه البلوكات الأربعة التي جاءوا بها هي من تابور عشاق. وقد
انتخبوه دون غيره؛ لأن جميع ضباطه من الاتحاديين يقبضون رواتبهم شهريًّا
من صندوق جمعية الاتحاد والترقي، وما خلا هذا فقد أبعدوا جميع الجنود
التي كانت في الآستانة إلى الثكنات البعيدة، فلم يبق في ثكنات الآستانة ذاتها إلا
تابور واحد، نصفه في الباب العالي، والنصف الآخر مستمال بمعدات
الاستمالة، على هذا الشكل تمت مهيئات المؤامرة.
(يوم الانقلاب بالذات)
أعد الاتحاديون أسباب الانقلاب بتمامها، فبعد أن أتموا تهيئة الوسائل
العسكرية التي تقدمت الإشارة إليها هيأوا الأسباب الملكية أيضا فجاءوا بنحو
مائتي شخص من أنديتهم المختلفة ووزعوهم في القهوات الواقعة أمام الباب
العالي التي ظلوا فيها إلى نحو الساعة الثانية بعد الظهر.
وكان طلعت بك يقوم بدور التفتيش بين كل ساعة وأخرى، فيجيء هذه
القهوات مضطربًا ويكلم هذا الشخص أو ذاك، ويهمس لهذا وذاك كلمة في أذنه
ثم يرجع ثم يعود إلى القهوة، ويقول الذين شاهدوه: إنه ذهب ورجع عشر
مرات، وهو على مثل هذا الحال.
وفي الوقت المعين هبَّ هؤلاء الناس من قهوتهم وأخذوا ينسلون عشرات
عشرات ويقفون أمام الباب العالي فلما اجتمع قدر مائة منهم قدم أنور بك على
جواده يحيط به أربعة من الفدائيين وضعوا مسدساتهم تحت ستراتهم إلا أنها
كانت ظاهرة لكبر حجمها.
وكان في هذه الأثناء قد بلغ الوزارة خبر هذا التجمع فخرج ناظم باشا
ليعطي الأمر إلى الجنود الموجودة بتفريق المجتمعين، وقد جاءه ياوره نافذ
بك وأمرهم بذلك.
وبعد دقائق قليلة قدم أنور بك يحيط به جماعته فتظاهر ضباط تابور عشاق
برغبتهم في مخالفته فخطب فيهم قائلا: ألست قائدكم؟ أمَا أنا مسلم مثلكم؟ أمَا أنا
عثماني؟ لماذا تضربون هؤلاء القوم دعوهم وشأنهم.
(دور المشايخ)
وفي هذه الأثناء وقف الشيخ أحمد ماهر وشيخ آخر - في رواية أخرى أنه
موسى كاظم - واعظين في الجند والقوم وأخذا يصيحان: أيها المسلمون استغفروا الله
أيها المسلمون استغفروا الله، الله أكبر، الله أكبر. فيجيبهما الجميع:
أستغفر الله، أستغفر الله.
غرضهم من ذلك كان أنور بك يعلم هو وجماعته أنه لا بد لهم من
إطلاق النار لدخول غرفة اجتماع الوكلاء، فأرادوا بوجود هذه الضوضاء
العلوية أن يُخفوا صوت إطلاق النار عن الواقفين خارجًا، ثانيًا أن يحركوا
العواطف الدينية.
بعد أن دخل أنور بك وفدائيته الباب الخارجي الكبير، وتبعهم بعض
رجال الأندية الاتحادية أقفلوا الباب وراءهم ومنعوا غيرهم من الدخول.
ولما وصلوا إلى الداخل، وطلبوا الدخول إلى غرفة مجلس الوكلاء منعهم
نافذ بك ياور ناظم باشا، فأطلق مصطفى نجيب بك أحد ملازمي الجيش، وكان بثوب
ملكي النار على نافذ بك فلم يُرْدِهِ لأول طلق فأجابه نافذ بك بالمثل فأرداه، وسقط
الاثنان تضرجان بدمائهما فتصدى توفيق بك ياور الصدر وشقيق حرم أدهم بك
والى بيروت لممانعتهم فأردوه على الفور.
فلما سمع ناظم باشا إطلاق النار خرج ليرى الأمر فما فتح الباب حتى
كان قد عاجله أحد الفدائية برصاصتين ذهبتا بحياته حالاً فوقع إلى الأرض يتضرج
بدمه الذي ذهب ثمن غفلته وإهماله [3] .
وعلى هذه الصورة، وفي هذا الشكل دخل هذا الجمع مجلس الوكلاء وكانت
في يد أنور بك عريضة الاستقالة، فقبض على المسدس بيد وبسط العريضة
بالأخرى لكامل باشا قائلاً: وقع على هذه العريضة حالاً فالأمة لا ترضى بوزارتكم.
ثم أشار إلى بعض رجاله بعدم السماح لأحد بالخروج ولا لأحد من الخارج بالدخول.
جرى كل ذلك، والناس في الخارج يهللون ويكبرون وهم لا يعلمون ما
جرى داخلاً فركب أنور بك سيارة كانت معدة له، وقصد السراي السلطانية -
وكان قد احتاط بها مئات من الناس أيضا - يحمل الأمر بتعيين محمود شوكت
باشا صدرًا أعظم.
(في السراي)
لا يعلم الناس ما الذي جرى في السراي إلا أنهم يعلمون أن أنور بك دخل
وخرج بالأمر موقعًا عليه، وقد اختلفوا كثيرًا في الرواية، فلندع للتاريخ التمحيص.
وعاد أنور بك بأمر تعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم، فاستلم على
الفور طلعت بك نظارة الداخلية.
ووقف الخطباء يعددون مساوئ كامل باشا وخيانته ويقولون عنه: إنه
باع طرابلس الغرب والروملي [4] . أما الخطباء فبعض مشايخ الدين وأفراد من
مهاجري الروملي.
(شكل موظفي الدولة)
قبل أن خرج أنور بك من مكانه الذي كان فيه إلى الباب العالي أعطى
أمرًا إلى أحد أنفار البوليس من الاتحاديين إلى جعفر إلهامي بك مدير البوليس
العام بوجوب تسليم الإدارة إلى عزمي بك المدير السابق؛ فلما أخذ جعفر
إلهامي بك الأمر قبله ووضعه على رأسه، وسلم الإدارة إلى عزمي بك،
ووقف أمامه يسأله ما يريده، فأمر البوليس بأن يقبضوا عليه ويوقفوه ففعلوا.
(التوقيفات)
قبل أن يتلى الأمر بصدارة محمود شوكت باشا كانت التوقيفات قد بدأت
فقبض على أصحاب جريدة علمدار ومحرريها وعلى علي كمال بك المحرر
المعروف وإسماعيل بك مبعوث كوملجنه وعلى نور الدين بك مدير أقدام وغيرهم.
وفي الوقت الذي ذهب فيه أناس إلى الباب العالي وآخرون إلى نظارة
البوليس، ذهب فريق إلى مكان المحكمة العرفية، فأفهموا ضابطها أن الأمة في
غير حاجة إليهم وطردوهم من الدار التي كانوا فيها وأخذوا مفتاحها، فخرجوا
لا يبدون مقاومة ولا يفوهون بكلمة.
(الخط الهمايوني)
قلت لكم: إن أنور بك ذهب إلى السراي مساء يوم الخميس، ورجع
بالخط السلطاني القاضي بإسناد منصب الصدارة إلى محمود شوكت باشا
وإليكم تعريبه:
وزيري سمير المعالي محمود شوكت باشا:
بناء على استعفاء كامل باشا ولأهمية الموقع التي تستغني عن الإيضاح
رأينا توجيه مسند الصدارة إلى رجل مجرب الاقتدار؛ ولما كان اقتداركم
وكفاءتكم معلومين ومجربين لدينا؛ وجهنا إليكم منصب الصدارة مع رتبة
الوزارة والمشيرية السامية، ونحن متفكرون في انتخاب ذات لمسند المشيخة
الإسلامية، وقد صدرت لكم الإرادة بتشكيل الوزارة وعرضها علينا لتصديقها،
وفقكم الله للخير، آمين بحرمة سيد المرسلين.
15 صفر 331 و 10 كانون ثاني 328 ... ... ... محمد رشاد
(نشرة الداخلية)
وما كاد يستلم طلعت بك نظارة الداخلية بالوكالة حتى طير النشرة الآتية
إلى الولايات والملحقات، وإليكم تعريبها:
(لما كانت وزارة كامل باشا قد تجاوزت على حقوق الأمة فتركت
للأعداء ولاية أدرنة كلها، وجزر بحر سفيد، وجمعت في السراي السلطانية
مجلس مشورة من أعضاء مجلس شورى الدولة ورؤساء الموظفين دعته
المجلس الملي - ثار الشعب وأصبح في حال الغليان فقام بمظاهرة أمام الباب
العالي أدت إلى استعفاء الوزارة، فصدرت إليَّ الإدارة السنية بإدارة أمور
نظارة الداخلية بالوكالة إلى أن تعين الوزارة، وباشرت الأمر مستعينًا بقوته
تعالى، ولما كنا سندافع بكمال العزم عن حقوق السلطنة المقدسة، وبناء على
احتمال رجوع الحرب نوصيكم بتشويق الأهالي بمساعدة الحكومة ماديًّا
ومعنويًّا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طلعت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
(المنشورات الأخرى)
ولقد نشرت الجمعية منشورات أخرى وزعتها على أفراد الشعب يضيق
نطاق هذه الرسالة عن تعريبها؛ سأعود إليها في رسالة أخرى بإذن الله.
(العزل والنصب)
ما كادت الوزارة الجديدة تصل إلى مقام السلطة حتى أخذت في عزل بعض
القواد كمحافظ موقع الآستانة وغيره ومتصرف بك أوغلي واستخلافهم بغيرهم.
(الضباط)
حالة الضباط اليوم غير معلومة، في الآستانة ثلاثة أحزاب: حزب
محمود شوكت، وحزب ناظم باشا، وحزب الخلاصكاران الذي عمل الانقلاب
السابق، ويقولون: إن الخلاصكاريين وجماعة ناظم باشا اتفقوا على الاتحاديين،
فحال الجيش المعنوية الآن ضعيفة جدًّا، وانظر بمزيد الخوف والقلق إلى المستقبل.
(عدد القتلى)
يبلغ عدد القتلى المعروفين أربعة: هم ناظر باشا، ونافذ بك، وتوفيق
بك، ومصطفى نجيب بك، ويوجد عدد من القتلى والجرحى من أنفار الجند لم
تعلم أسماؤهم إلى الآن.
(جنازة ناظم باشا)
حمل رفات ناظم باشا إلى مستشفى كلخانه فبقيت فيها إلى يوم الجمعة
حيث خرجت جنازتها ودفنت في تربة السليمانية، وقد مشى في الجنازة بلوك
من الجند احترامًا لملحقي الدول العسكريين الذين خفروا الجنازة، ومشى
وراءها محمود شوكت وهادي باشا باكيًا يمسح دموعه وعزت باشا وأنور
بك.
(مصطفى نجيب بك)
خرجت جنازته من كلوب نور عثمانية الاتحادي ودفن بإرادة سنية في
الفاتح إلى جانب السلطان محمد الفاتح وجرى له احتفال عظيم جدًّا.
***
الوزارة الجديدة وصفات رجالها [5]
محمود شوكت باشا الصدر الأعظم وناظر الحربية، معروف
شيخ الإسلام محمد أسعد أفندي - كان أمينًا للفتوى، وهو من أعظم رهطهم.
الحاج عادل بك ناظر الداخلية - معروف.
بساريا أفندي ناظر النافعة - فلاخي من الأعيان كان رئيس تحرير
جون تورك، ومراقبًا على ما يكتب فيها من قبل الجمعية، وجون تورك
جريدة صهيونية. وقد ذهب كل الفلاخ من يد الدولة مع ولاية يانبا والروملي
وإنما بقي لنا منهم بحمد الله هذا الناظر.
رفعت بك ناظر المالية - منتظر قدوم جاويد بك يوم الإثنين؛ ليفرغ له
المنصب فهو وكيل مسخر.
شكري بك ناظر المعارف - فدائي للجمعية وهو المتهم بقتل أول قتيل قتل
بأمرها في سرس.
البرنس سعيد حليم باشا ناظر الخارجية - معروف [6] .
إبراهيم بك ناظر العدلية - والي الآستانة سابقًا.
نسيم مازلياح ناظر التجارة والزراعة - مبعوث أزمير الإسرائيلي
سابقًا، ومفوض الجمعية الصهيونية.
محمود جوروك صول ناظر البحرية - من أركانهم، يقال: إنه كان خلف
عبد الله باشا في قيادة الجيش.
أوسقان أفندي - كان منذ 5 سنوات كاتبًا في البالفخانة دار بيع السمك
من قِبل نظارة الديون العمومية، براتب 1400 قرش، ثم أرسل مفتشًا ماليًّا
إلى الروملي، وأصبح ناظر البوسته اليوم.
ففي الوزارة 3 وكلاء من قبل الجمعية الصهيونية: نسيم مازلياح، وجاويد
بك، وبساريا أفندي؛ أما العرب فلا يوجد لهم فيها ولا رجل واحد. وهذا
معقول مفهوم؛ لأنه لا يوجد عرب في البلاد العثمانية.
في سوريا عين علي ضيف بك واليًا لحلب وعارف بك المارديني واليًا
لسوريا، وستعلن الأحكام العرفية في كل البلاد السورية؛ وسيقال عند سفرهما:
إنهما مأموران بإجراء الإصلاح كي لا يلقيا مقاومة عند وصولهما وسيسافران يوم
الجمعة القادم في الفرنسوي إلى بيروت.
(رأي المنار في هذه الكارثة)
يرى القراء أن رواية رسالتنا وروايتي المؤيد والأهرام يؤيد بعضها
بعضًا.
وكتب إلى المقطم من لندن ومن الآستانة ما يؤيد ذلك كما أيدته الجرائد
الأوربية في جملته، ولا خلاف إلا في بعض التفصيلات الجزئية كالخلاف في
قاتل ناظم باشا، وسمعنا من بعض من غادروا الآستانة بعد الانقلاب أن الذي
قتل ناظم باشا هو أنور نفسه، وهو لم ينكث عهد العرب في درنه ويجيء
الآستانة إلا لأجل هذه المكيدة، وكنا سمعنا من أهل الخبرة بدخائل السياسة أن
الاتحاديين لا يرون لهم خصمًا قويًّا يعارضهم في جعل الضباط آلة سياسية
ثوروية بأيديهم إلا ناظم باشا وصادق بك (أمير الألاي الذي قام بالانقلاب
الأول) وأن قتل هذين الرجلين مقرر عندهم.
وقد حاولوا قتل صادق بك عقب هذه الثورة فتوارى، وكانوا يريدون قتل
جميع خصومهم المشهورين؛ فلما علم سفراء الدول بعزمهم هددوا وزارتهم
هذه بأنهم ينزلون جيشًا أجنبيًّا يتولى حفظ الأمن في العاصمة؛ فكفوا عما
كانوا شرعوا فيه.
وزارة كامل باشا:
أما كامل باشا وهو الرجل السياسي المحنك المنفرد بخبرته وقدرته
ونزاهته وشجاعته فكان من رأيه أولاً عدم الحرب، وكان رأي الاتحاديين
وجوب الحرب؛ ثم لما وقع الخذلان والانكسار في الجيش، واستقالت وزارة
أحمد مختار باشا قَبِلَ الوزارة مروءة منه في ذلك الوقت الحرج، وأي حرج
وخطر أكبر من انكسار الجيش ووصول العدو إلى ضواحي العاصمة في وقت
فرغت فيه الخزينة من المال وأعرضت عنها جميع الدول، بل صارت تتحدث
بقسمة سائر بلادها، وهل كان يمكن إنقاذ الدولة من السقوط في الهاوية في
هذه الحال إلا اقتراح الهدنة لأجل الصلح، واستمالة الدول لكف عدوانها
والتماس مساعدتها المالية والأدبية بقدر الإمكان، كلا إن هذا هو أقصى ما
كان يمكن أن يناله الحاذق الماهر في السياسة، وهو ما عني بالوصول إليه
كامل باشا، على أنه لم يقصر في أثناء الهدنة فيما يجب من الاستعداد الحربي
فهو قد فوَّض ذلك إلى ناظم باشا الذي هو أعلم قواد الدولة بالفنون العسكرية
وأقدرهم على العمل، نعم إن هذه الوزارة قد قصرت تقصيرًا داخليًّا صدق
عليها قول خصومها: إنها ضعيفة، وكذب قولهم: إنها منتقمة، وهو التقصير
في تربية زعماء الثورات والفتن والقتلة، وقد لقيت جزاءها على ذلك، والظالم
سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه.
لما بيَّن البلقانيون مطالبهم، وكان منها أدرنة وجزائر البحر الأبيض
قاوم كامل باشا في ذلك، وكبَّر أمر أدرنة وعظَّمه حتى جعلها كأنها حياة
الدولة الصورية والمعنوية وسياج المملكة كلها؛ لعلها تسلم للدولة. فلما قدمت
له الدول الكبرى ذلك الإنذار بوجوب جعلها للبلغار لم يقبل أن يستقل بذلك دون
استشارة أهل الحل والعقد في العاصمة فجمع الجمعية الملية في حضرة
السلطان، فكانت مؤلفة من أفراد الأسرة المالكة ووزراء الدولة الحاليين
والسابقين وأعضاء مجلس الأعيان وكبار العلماء وأمراء العسكرية، وهذه هي
الاستشارة الشرعية التي يوجبها الشرع الإسلامي، ويهزأ بها الاتحاديون
ويعدونها من الجرائم.
ولما قررت هذه الجمعية في القصر السلطاني ترجيح الصلح وتفويض
الأمر فيه إلى الوزارة، ولم تبالِ بالإصرار على أدرنة في سبيل مغاضبة
الدول الكبرى في هذه الأزمة السياسية والعسرة المالية، اجتمعت وزارة كامل
باشا لوضع جواب للدول تشترط فيه شروطًا تتعلق بأمن الدولة على باقي
بلادها ومساعدة الدول الملية والأدبية لها لتلم شعثها. وهذا كل ما يدخل في
الإمكان، ولكن عاجلها الاتحاديون بالثورة لإسقاطها بشبهة واهية كما ظهر
ذلك للعيان.
(مخادعة الاتحاديين للأمة)
لا يزال الاتحاديون وكتابهم الأجراء والمنافقون يوهمون الأمة العثمانية
بل الإسلامية أن الاتحاديين لم يقوموا بهذه الثورة إلا لأجل إعادة الحرب؛ لإعادة
شرف الجيش وإظهار قوته واستعادة أدرنة، سياج الدولة والحافظة لها من
الزوال.
كذب المنافقون؛ فإن سادتهم زعماء جمعية الأحمرين ومدبري الثورات
والفتن قد صرحوا في أوربة بأنهم يريدون السلم لا الحرب، وصرح محمود
شوكت باشا بمثل ذلك رسميًّا، ولم يستطع أن يبرر الثورة التي جاءت
بوزارته إلا بطلب شِق من مدينة أدرنة لدولته وإعطاء الشق الآخر للبلغار،
وهو خير الشقين عمرانًا، فهل هذا هو الذي يعود به شرف الجيش ومجده
وتحفظ به المملكة من الزوال؟
إن وجود أدرنة بحصونها التي عني بها السلطان عبد الحميد وزادها ناظم
باشا تحصينًا، لم يدفع جيش البلغار عن الوصول إلى ضواحي الآستانة، فهل يحفظ
لنا نصفها الآهل بالقبور ولايات الأناضول والعراق وسورية وجزيرة العرب بعد
أن ذهبت ولايات أوربة كلها من أيدينا، بجهل المفتاتين على الدولة وخيانتهم
وفسادهم؟
(مقصد الاتحاديين من الثورة)
قد عرف الخاص والعام أن الاتحاديين قد دبروا ثورتهم لأجل أن
يستعيدوا السلطة لأنفسهم، فكان من دسائسهم التحريض على الحرب قبل
وقوعها، والدولة غير مستعدة لها، ليجدوا من ذلك منفذًا لاستعادة السلطة،
ثم إن بعض زعمائهم كطلعت بك وجاويد بك نظموا أنفسهم في سلك
المتطوعين؛ ليبثوا دسائسهم في الجيش ويخذلوه وقد فعلوا، ثم لما عقدت
الهدنة صاروا يظهرون المعارضة في الصلح ويهيجوا الناس لطلب ذلك، فلما
صار الأمر إليهم صرحوا بأنهم يريدون الصلح والسلم دون القتال، فما هو
غرضهم إذًا؟ إن اعتقادنا الذي ما كاشفنا به عثمانيًّا عارفًا إلا ووافقنا فيه هو
أنهم لم يفعلوا فعلتهم ويكيدوا مكيدتهم إلا لأجل الذهب، وكنت منذ شهور
أصرح بتوقع ذلك، وأقول: إنهم إذا عادوا يبيعون بلادنا، ويسلبوننا هذه البقية
التي في أيدينا بتدبير اليهود الصهيونيين الذين يدبرون جمعيتهم كما يريدون،
وكيف ذلك؟
طرق استنزاف المال من الدولة لا تزال كثيرة، فمنها الإعانات
والضرائب الحربية والملية سواء سميت اختيارية أو إجبارية، ومنها
القرض الداخلي وهو من الضرائب، ولكن تختلف الأسماء، ومنها القراطيس
المالية يسلبون بها الذهب والفضة من البلاد، فلا يبقى في أيدي الناس إلا
أوراق لا يمكن أن ينال أحد رغيفًا واحدًا بورقة منها، وإن كان ثمنها مائة
ليرة، ومنها ذخائر السلاطين وجواريهم، وقد بلغنا أنهم مدوا أيديهم إليها
عندما هاجمت إيطالية الدردنيل فوضعوها في صناديق لأجل تهريبها:
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيًرا ولا تسأل عن الخبر
ومنها بيع مزارع السلطان عبد الحميد لليهود الصهيونيين، ومنها
الامتيازات الزراعية والصناعية والتجارية، وما فيها من السمسرة وغير
السمسرة.
ولم تكد الوزارة الجديدة تتبوأ مقعدها من الباب العالي حتى أعطت شركة
ألمانية امتيازًا بخط ترام واسع من الآستانة إلى البوسفور.
ومما جاء مصدقا لسوء ظننا في الجمعية أنها جعلت في وزارتها الجديدة
ثلاثة وزراء من حزب اليهود الصهيونيين، وجعلت في أيديهم نظارة النافعة
ونظارة الزراعة والتجارة أي ينابيع الثروة في البلاد، وسيكون هذا مبدأ
عداوة بين اليهود والعرب، ربما أدى إلى سفك الدماء وتخريب كل ما يملك
اليهود بهذه الوسائل الاتحادية غير الشرعية.
فالواجب على الأمة أن تتفكر وتتدبر في الهاوية التي أمامها، وأن تحافظ
على هذا الذماء القليل الذي بقي لها من ثروتها، وأن تعلم أن النقدين الذهب
والفضة إن ذهبا من يدها فإنها ستقع في مجاعة عامة، تفضي إلى ثورة طامة،
تهلك الحرث والنسل، فلا تخدعنها وعود المحتالين، ولا زخرف كتابها
المنافقين، التي يموهونها باسم الدولة والدين، وليعلم أهل كل ولاية أنهم على
خطر احتلال الأجانب لبلادهم، وأن أدرنة إن بقيت للاتحاديين - وهي وطن
زعيمهم الثوري طلعت - فإنها لا تغني في الدفاع عن بلادنا شيئًا، وإذا أصبحت
البلاد خاوية من المال، فلا تقدر على الدفاع بالرجال، بل تقع في خزي ونكال
وسوء مآل، لا ينفع معهما احتيال، والعياذ بالله.
__________
(1) المنار: قدمتها فإذا هي تطلب قسمة مدينة أدرنة بينها وبين البلغار.
(2) أخبار الولايات لم تصح.
(3) أثبتت هذه الرواية أن ناظم باشا قتل بعد قتل مصطفى نجيب الذي أراد الاتحاديون أن ينسبوا إليه قتله ليبرئوا أنور بك من اتهامه بمباشرته، على أنه يسهل عليهم إصدار أمر من السلطان بالعفو عن هذه الجنايات وإن كان لا يجوز شرعًا.
(4) أما كامل باشا فيجيب الجمعية بقول المثل: (رمتني بدائها وانسلت) .
(5) ذكر في الأصل أسماء الوزراء ثم أوصافهم فاختصرناها ببعض تصرف.
(6) هو أمين صندوق الجمعية، وقد قبل هذه النظارة بعد أن أباها عثمان نظامي باشا، وحقي باشا.(16/145)
ربيع أول - 1331هـ
مارس - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
اللعب بالنرد والشطرنج والورق
وحضور دور اللعب ومجاملة أهل الكتاب
(س 7) من صاحبي التوقيع بالمطرية (في الدقهلية) :
حضرة مرشد الأمة ورشيدها صاحب المنار المنير فضيلتلو أفندم: السلام
عليكم ورحمة الله، وبعد، ألتمس من فضيلتكم إجابتنا عن السؤال الآتي عسى
بجواب فضيلتكم تمنع الحيرة ونهتدي إلى سبيل الرشاد.
أسس بالمطرية دقهلية نادٍ باسم نادي الموظفين، الغرض منه نشر الفضيلة
ومدارسة العلم، وتوثيق عرى المحبة والإخاء والإنسانية، وأعضاء النادي المذكور
تتألف من محمديين وعيسويين وموسويين، وأعمال النادي على مقتضى قانون قد
جاء فيه: (منع الخمر والميسر منعًا باتًّا) ولكن بالنادي المذكور حجرة للهو
واللعب بالنردشير (الطاولة) والشطرنج والورق (أي الكتشينة) ترتب على
وجودها بالنادي منع بعض أعضائه المسلمين من الحضور فيه وحرمانه من سماع
ما يلقى من المحاضرات النافعة؛ لعلمه أن هذه الألعاب حرام لكونها ميسر كما
نص عليه الشافعي وجرى عليه أكثر أصحابه، واعتمده الشيخان وغيرهما مستدلاًّ
على تحريمه وتغليظ العقوبة فيه بأحاديث كثيرة وأقوال شهيرة مذكورة في كتاب
(كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) وكتب غيره، ولمَّا بيَّن الممتنعُ عن
الحضور هذا المانعَ إلى بعض مؤسسي النادي، أجابه بعدم أحقيته في الامتناع حيث
هذه الألعاب لم تكن من الميسر في شيء، ولم تكن حرامًا ولا مكروهة، وأنها نافعة
لما فيها من مجاملة أهل الكتاب باللعب معهم، وتشحيذ الخواطر وتزكية الأفهام
وراحة القلوب من عناء الأفكار، وترويح النفوس من شاق الأعمال، وغير ذلك
مستشهدًا بأقوال كثيرين وببعض فتاوى المرحوم الإمام مفتي الديار (قياسًا) وقد
كثر الأخذ والرد بينهما، وانتهى الموضوع إلى رفع الأمر إليكم رجاء الجواب عما
إذا كانت الألعاب المذكورة حرامًا أو مباحة، والأكمل حضور الممتنع بالنادي لإعادة
النفع العلمي أو امتناعه عن الحضور مع وجود حجرات بالنادي خلاف المختصة
باللعب أفندم.
... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن حسن عزام
... ... ... ... ... ... ... ... ... بالمطرية - دقهلية ...
ملحوظة:
غرفة الألعاب مفصولة عن غرفة المطالعة والمحادثة بصالة عرضها 4 أمتار
تقريبًا، وحضرات أعضاء النادي الأقباط يلعبون، وإذا كان كل مسلم يبتعد عن
ذلك فسينمو الجفاء طبعًا، ومن جهة أخرى فإن النادي تلقى به محاضرات علمية
وأدبية وفنية كل ليلة جمعة، فإذا ابتعد المسلم خسر هذه الفوائد التي لا تخفى على
فضيلتكم، فأفتونا بما يقرب الناس ويزيل سوء التفاهم، ويكون سببًا لرقينا بعد
ذلك النوم الطويل، أدامكم الله للمخلص
... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير النادي
... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد حسن محجوب
(ج) من اعتقد أن عملاً من الأعمال حرام وجب عليه تركه ألبتة إلا
لعذر شرعي كالضرورة التي تبيح المحرم لذاته كأكل الميتة، والحاجة التي
تبيح المحرم لعارض كرؤية الطبيب ما تحرم رؤيته من بدن المرأة أو الرجل،
وإذا زال العذر عاد حكم التحريم كما كان. وليست مجاملة أهل الكتاب ولا
المسلمين من الأعذار التي تبيح المحرمات، ومن توهم أن التهاون بأحكام
الدين من أسباب الترقي فقد انقلبت الحقيقة في نظره إلى ضدها، بل الإسراع
إلى تغيير شعائر الأمة وآدابها وعاداتها التي تعد من مقوماتها أو مشخصاتها
هو الذي يحل روابطها، ويمزق نسيج وحدتها، فلا ينبغي لعاقل أن يتهاون
في المحافظة على ما ذكر، بل ينبغي مراعاة التدريج في ترك العادات الضارة
إذا فشت في الأمة وصارت تعد من مميزاتها، فهذا أول ما يجب التفكر فيه
والاعتبار به في هذا المقام وهو مما يغفل عنه الناس.
على أن المجاملة لا تنحصر في اللعب بما هو محرم، ولا بما هو مباح
أيضا. ثم إن في مسألة اللعب بحثين، أحدهما: هل الألعاب المذكورة في
السؤال محرمة قطعًا وهي من الميسر أم لا؟ وثانيهما: هل الدخول إلى حجرة
الخطابة من النادي لسماع شيء من العلم النافع يعد محرمًا لوجود حجرة تلعب فيها
تلك الألعاب عند من يرى تحريمها؟
أما اللعب بالنرد، فالجمهور على تحريمه إلا أبا إسحاق المروزي قال:
يكره ولا يحرم، وهو محجوج بحديث أبي موسى مرفوعًا في صحيح مسلم
وسنن أبي داود وابن ماجه: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) .
وعللوا ذلك بأنه كالأزلام يعول فيه على ترك الأسباب والاعتماد على الحظ
والبخت فهو يضر بذلك ويغري بالكسل، والاتكال على ما يجيء به القدر،
أي فيه معنى الميسر المبني على الكسب بالحظ والنصيب دون العمل والجهد،
وما أشد إفساد هذا في الأمم، وما أبعده عن الإسلام الذي يهدي أهله إلى الجد
والسعي والعمل، ولا يمكن التفصِّي من تحريم لعب النرد إلا إذا ثبت أن سبب
النهي عنه أنهم كانوا يلعبون به على مال؛ وأنه حرم لذلك، وليس عندنا نص
في ذلك، وهو لا يكون من الميسر حقيقة إلا إذا كان اللعب على مال.
وأما الشطرنج فالأكثرون على أنه غير محرم ومنهم الشافعية، قال
الشافعي: إنه لهو يشبه الباطل، أكرهه ولا يتبين لي تحريمه، وقال النووي:
إن أكثر العلماء على تحريمه وإنه مكروه عند الشافعي أي تنزيهًا، واشترط لتحريمه
أن يكون على عوض، أو يفوت على اللاعب الصلاة اشتغالاً به عنها.
ولا يوجد حديث يحتج به ناطق بتحريمه، وكل ما لا نص من الشارع
على تحريمه فهو مباح لذاته؛ إذا لم يكن ضارًّا واستعمل فيما يضر، فإن
ترتب على فعل مباحٍ حرامٌ حُرِّم لهذا العارض لا مطلقًا، كأن يترك اللاعب
بالشطرنج ما يجب عليه لله أو لعياله مثلاً، ويدخل في ذلك: اللعب بالورق، فإنه
لا نص فيه من الشارع، ولكن قال بحرمته بعض الشافعية، وهؤلاء قد جعلوا
للعب قاعدة فقالوا: إنه يحل منها ما فيه حساب وتفكر يشحذ الذهن كالشطرنج
دون ما كان كالنرد أو كان من العبث، والحق أنه لا يحرم إلا ما كان ضارًّا
كما تقدم آنفًا.
ولا شك في كراهة الانهماك في اللعب والإسراف فيه، ولنا في النرد
والشطرنج فتوى مطولة في المجلد السادس من المنار، فليراجعها من شاء
(ص 373 - 376) .
وأما حضور الخطب والمحاضرات العلمية والأدبية في النادي فلا وجه
لتحريمها بحجة أن في النادي حجرة يلعب فيها لعب محرم؛ لأن الحرمة إنما
هي على اللاعب وعلى من يراه ولا ينكر عليه، وكذا يباح دخول أي مكان
من النادي ليس فيه منكر، وقد يستحب إذا كان فيه فائدة كموادة الأصدقاء
ومجاملتهم.
***
أحاديث تقويم ديوان الأوقاف
(س 8) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية:
صاحب الفضيلة العلامة منشئ المنار الأغر:
ما قول سيدي الأستاذ - وهو المحقق الأوحد في فن الحديث الشريف - فيما
تذيل به صحائف التقويم الذي يصدره ديوان عموم الأوقاف عن حساب
الأيام والشهور ومواقيت الصلاة إلخ إلخ، من الجمل الحكمية التي اختيرت على
أنها أحاديث صحيحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس على كثير
منها صبغة ذلك الكلام البليغ الذي عهدناه في كتب الحديث الصحيح وأمهات
كتب الشريعة الإسلامية.
وإذا صح أن متخير هذه الحكم لم يحتط في بحثه ولم يرجع في مثل هذا العمل
الخطير إلى الإخصائيين الراسخين في علم الحديث والسنة، وهو أول وأحق ما
يجب اتباع قول الله فيه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:
43) فما عذر علماء مصر ورجال الدين فيها؟ وهذه الحكم تنتشر على صحائف
جريدة المؤيد، وتعلق عليها الشروح الضافية على أنها أحاديث صحيحة.
وكان يجوز أن نلتمس لهم بعض العذر لو بقيت هذه الأحاديث على صحائف
التقويم بين جدران الغرف، ولكن الأمر قد شاع وذاع وكثر اللغط فيه.
فهل لسيدي الأستاذ أن يتصدى للموضوع بباعه الطويل، وقلمه البليغ،
لتنجاب عنا هذه الغيوم، وتبيد تلك الهموم؟.
ابن منصور
(ج) إنني لم أنظر تقويم الأوقاف إلا معلقًا على بعض الجُدُر من بعيد
فلم أَرَ فيه شيئا من هذه الأحاديث، ولكني رأيت بعض ذلك في المؤيد، وقلت
لأحد محرريه: إن كثيرًا منها لم يروهِ أحد من المحدثين عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وبعضها مروي فيجب
على شارحها تمييز الحديث من غيره منها.
وإطلاق اسم الأحاديث عليها غير جائز؛ إذ ليس لمسلم أن يعتد بعزو
أحد حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عزاه إلى بعض أئمة
المحدثين أصحاب الدواوين المعروفة في تخريج الأحاديث أو وثق بعلمه
بالحديث، سواء رأى هذا الحديث في جريدة أو كتاب أو سمعه من متكلم أو
خطيب، فإننا كثيرًا ما نسمع من خطباء الجمعة الأحاديث الضعيفة
والموضوعة والمحرفة حتى صار يضيق صدري من دخول المسجد لصلاة
الجمعة قبل الخطبة الأولى أو في أثنائها، فمن سمع الخطيب يعزو إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قولا يعلم أنه موضوع، يحار في أمره لأنه إذا سكت
على هذا المنكر يكون آثمًا، وإذا أنكر على الخطيب جهرًا يخاف الفتنة على
العامة، والواجب على مدير الأوقاف منع الخطباء من الخطابة بهذه الدواوين
المشتملة على هذه الأحاديث أو تخريج أحاديثها إذا كانت الخطب نفسها خالية
من المنكرات والخرافات والأباطيل وما أكثر ذلك فيها.
وفي ص32 من فتاوى ابن حجر الحديثية أنه سئل عن خطيب يرقى
المنبر كل جمعة، ويذكر أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها، وذكر السائل
بعضها، وقال في ذلك الخطيب: إنه مع ذلك يدعي رفعة في العلم وسموًّا في
الدين، فما الذي يجب عليه وما الذي يلزمه؟
فأجاب بما حاصله أنه لا يجوز له أن يروي الحديث من غير أن يذكر
الرواة أو المخرجين إلا إذا كان من أهل المعرفة بالحديث أو بنقلها من كتبه
قال: وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس
مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك - فلا يحل ذلك، ومن فعله
عزر عليه التعزير الشديد.
وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث، حفظوها
وخطبوا بها، كذا من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلاً أم لا. فيجب
على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك. ويجب على حكام بلد هذا
الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه. إلخ.
وحاصل الجواب: أن ما طبع في تقويم الأوقاف من الأحاديث بعضها له
أصل صحيح أو غير صحيح، وبعضها لا أصل له، بل هو حكم منثورة
لبعض الحكماء والعلماء، وأنه لا ينبغي لمسلم أن يروي شيئا منه مسميًا إياه
حديثًا نبويًّا إلا إذا علم ذلك بالرواية عن الثقات في علم الحديث أو برؤيته في
بعض دواوين الحديث المشهورة كالصحيحين وكتب السنن، أو معزوًّا إلى هذه
الكتب وأمثالها في مثل الجامع الصغير، وليعلم أنه ليس كل ما في كتب السنن
وأمثالها كمسند الإمام أحمد من الأحاديث يصل إلى درجة الصحيح في
اصطلاحهم، بل فيها الصحيح والحسن والضعيف، وفيها ما عده بعض
المحدثين موضوعًا، فليس لمن رأى فيها أو فيما نقل عنها حديثًا لم يصرحوا
بقولهم: إنه صحيح، أن يقول: هو حديث صحيح، وكذا ما يراه في كتب الفقه
والأدب والمواعظ، فإن هذه الكتب يكثر فيها إطلاق الأحاديث بغير تخريج
وكثير منها واهٍ وموضوع لا تحل روايته إلا للتحذير منه.
ومن الكتب المتداولة التي تكثر فيها الأحاديث الموضوعة والشديدة
الضعف كتاب (خريدة العجائب) وكتاب (نزهة المجالس) بل يوجد مثل
ذلك في بعض الكتب الجليلة كإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وأكثر كتب
التصوف لا يوثق بما فيها من الأحاديث.
والعمدة: التخريج والتصريح بالتصحيح أو التحسين، فالمناوي يعزو
الأحاديث في مسند الفردوس مثلاً ولا يشير إلى صحتها أو ضعفها، فليس لك
أن تصحح شيئًا منها بغير علم، فإذا وضع بجانب الحديث (خ) أو (م) كان
صحيحًا لعزوه إلى الصحيحين، وإذا وضع بجانبه (فر) أو (حل) كان في
الغالب ضعيفًا وربما كان أقل من ذلك رتبة.
هذا وإننا قبل طبع ما تقدم رأينا المؤيد يعبر عما ينقله عن تقويم الأوقاف
بلفظ الحكم والحكمة، ولا يسميها كلها نبوية، فالظاهر أن الشارح لها في المؤيد
صار يراجع ويميز بين الأحاديث المأثورة والحكم المنثورة، فنقترح عليه أن لا
يذكر حديثًا مرفوعًا إلا معزوًّا إلى مخرِّجه، كما جرينا على ذلك في المنار منذ
إنشائه.
__________(16/183)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية
(5)
قد وصلنا إلى الخطر فإلى متى نغش أنفسنا؟
كتبت في شهر المحرم فاتحة هذا العام أربع مقالات في هذا الموضوع،
ثم شغلت عن إتمام ما بدأت به من أسباب خذلان دولتنا في هذه الحرب حتى
حدثت فتنة جمعية الاتحاد والترقي الأخيرة بزعامة أنور بك، فأسقطت وزارة
كامل باشا وقتلت ناظر الحربية ناظم باشا في الباب العالي، ونصَّبت وزارة
اتحادية جديدة صدرها وناظر حربيتها محمود شوكت باشا، فتعجل البلقانيون
على إثر ذلك بقطع الهدنة، وأعيدت الحرب جذعة.
كنت عازمًا على أن أبين في سلسلة هذه المقالات جميع الأسباب التي
فتحت علينا باب المسألة الشرقية، بحرب طرابلس الغرب فالحرب البلقانية،
وأن لا أدع من تلك الأسباب مسألة واحدة أومئ إليها ولا أبينها، وهي عبث
جمعية الاتحاد والترقي بالعرش السلطاني ومقام الخلافة، تكريمًا لهذا المقام،
واحترامًا للجالس على ذلك العرش.
فلما حدثت الثورة الاتحادية وظن الناس - ولم أظن - أن ألمانية ستؤيد
تلاميذها الاتحاديين، والنمسة وإيطالية معها ظهير، وأن دهاقين السياسة
المحنكين سيعرضون عمران أوربة كله للتدمير، انتصارًا لهؤلاء الأحداث
المخربين، ولما رأيت أوربة قابلت هذه الفتنة بهدوئها المعتاد، ورأيت
جماهير المسلمين لم يقدروا ضررها حق التقدير، ولم يفكروا في عاقبة
الحرب حق التفكير، بل ألقوا السمع إلى سماسرة التغرير، وحسبوا أن ما
يرجون من النصر يدفع عن الدولة ما كان يخشى من الخطر - لما كان ذلك
كله كما ذكرت، ورأيت أن التمادي في السكوت أولى فتماديت، إلى أن قرأت
في جرائد مساء أمس ومؤيد صباح هذا اليوم (السبت 9 ربيع الأول) هذه
البرقية الرسمية الواردة من عاصمة النمسة، فكانت هي الباعثة على العود إلى
الكتابة في ذلك الموضوع مكتفيًا منه بالبحث في النتيجة والعاقبة، وهذه ترجمتها:
نشرت الحكومة بلاغًا رسميًّا أزالت به المخاوف التي تسربت إلى الأفكار
بشأن مهمة البرنس (هوهنلوه) حاجب عاهل النمسة، وقد جاء في البلاغ أن
البرنس لقي في روسية مقابلة في منتهى المودة والصداقة، وأن الأسباب
القديمة التي أسفرت عن حصول نزاع في روسية قد زالت، وأن الشعوب
البلقانية صارت الآن عضوًا من أعضاء الأسرة الأوربية الغربية، وستهتم
حكومة النمسة والمجر اهتمامًا خاصًّا بترقية هذه الشعوب وإعلاء شأنها.
تفكرت في هذه البرقية مليًّا، وقارنت بينها وبين ما ورد قبلها من نبأ
الوفاق والتواد بين إنكلترة وألمانية، وقلت في نفسي: إن هذا الاتفاق بين هذه
الدول لا يكون في هذا الوقت إلا علينا، ولا بد أن يكونوا به قد صاروا إلبًا
واحدًا على الدولة العثمانية التي كان أساس سياستها الخارجية، أنه لا بقاء لها
إلا بتنازع الدول عليها، وسواء صح اتفاقهم النهائي علينا الآن، أم أخروه إلى
أعوام، فالنتيجة واحدة، وهي أنه يجب أن تكون حياتنا ذاتية لنا، لا بتنازع
الدول علينا، وأن نفكر في طريق اتفاق الدول وكيفية حلهم للمسألة الشرقية،
التي كانت عضلة العقد وأم المشاكل، هل يقسمون ما بقي بأيدينا فيحتل كل
منهم حصته احتلالاً عسكريًّا؛ لأن الدولة لا تستطيع مقاومتهم فتنتهي بالفتح
الحربي أم اختاروا لها صورة من صور الفتح السلمي؟ وقد تفكرت فكان
الثاني هو المرجح عندي، فإن هذه الدول العاقلة الرشيدة تأبى الاستيلاء على
سائر بلاد الدولة الغالب عليها الخراب والجهل بالاحتلال العسكري لأسباب
متعددة:
منها: أن ذلك يقتضي نفقات كثيرة هم في غنى عنها. ومنها أنه لا بد
أن يفضي إلى ثورات وفتن داخلية في البلاد التي يغلب على أهلها البداوة
كالبلاد العربية والكردية وما يجاورها، وهم في غنى عن سفك الدم الأوربي
المقدس! في أرض الهمجية في عرفهم، وفي إنفاق المال على ذلك.
ومنها: أنه يترتب على ذلك وقوع العداوات والأحقاد بين المحتلين،
وأهالي البلاد المسلمين، فيكون ذلك مؤخِرًا للاستفادة من استعمارها.
ومنها: أن ما تطمع فيه كل دولة منها وتعده من منطقة نفوذها ليس بينه
وبين ما تطمع فيه الأخرى حدود طبيعية يُؤمَنُ بها التنازع بين المحتلين مع ما
بينهم من المناظرة والمباراة، بل الشقاق والمعاداة، ولا يتيسر الآن إقامة
معاقل تتكافأ بها القوى فيخشى أن تقع بينهم الحروب لأجل ذلك.
ومنها: أنه لا يوجد في أكثر هذه البلاد ثكنات ولا قلاع ولا حصون
للجيش ولا مباني تليق بالأوربيين الذين يتولون الإدارة والأعمال، ولا طرق
حديدية لنقل العسكر عند الحاجة ولسهولة المعيشة، فلهذا يتعذر اتقاء خطر
التنازع الذي أشرنا إليه في الوجه الذي قبل هذا ويتعذر تلافي خطر الثورات
والفتن الداخلية.
ومنها: أنه لا يوجد عندهم العدد الكافي من الرجال، الذين يصلحون
لتولي الأعمال، ويرجى أن تصلح بهم الحال، ومنها أن ذلك أشد ما يوقظ به
استعداد مسلمي الأرض كافة، ويوجه قلوبهم إلى وجوب السعي للانتقام ممن
أزالوا ملكهم، وهدموا سلطان دينهم.
تلك هي الأسباب المانعة من الفتح الحربي، وأما الفتح السلمي فهو إدارة
البلاد وحكمها بواسطة أشباح من العثمانيين تحسبهم عامة الأمة رجالاً منها،
فلا يؤدي إلى هذا المحظور.
يا سبحان الله! إن ساسة أوربة ينشرون في رسائلهم وجرائدهم الآراء
في كيفية إزالة هذه الدولة كما أزالوا دولة مراكش ودولة إيران ولا نرى أحدًا
من المسلمين يعتبر أو يفكر، ولا نقول يسعى أو يعمل.
وما هو رأيهم في كيفية إزالتها؟
نشر مدير مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية رسالة في أوائل العهد بهذه
الحرب سماها (المسألة الشرقية) أشار فيها إلى أن أمثل الطرق في حل هذه
المسألة أن تجعل الدولة العثمانية تحت مراقبة الدول كما تجعل حكومة ألبانية
الجديدة.
وبيَّن أن من مسهلات ذلك: سبق الدولة إلى جعل جميع مقومات حياتها
في أيدي الأوربيين كمجلس الديون العمومية، وشركة احتكار الدخان، والبنك
العثماني، والسكك الحديدية، والمستشارين الماليين، والمعلمين العسكريين،
والمدارس والصناعات والملاحة، فلم يبق إلا تحويل نفوذ السفراء في الآستانة
إلى سلطة شوروية مختلطة تكون هي المشرفة على حكومة العاصمة والمديرة
لها، ويجعل وكلاء الدول في الولايات والمتصرفيات مسيطرين على الحكام
فيها، ويكون من أهم عملهم تحديد النفقات العسكرية؛ لأن العسكر لا يبقى من
الحاجة إليه إلا حفظ الأمن (كالعسكر المصري) وأما الخلافة فتظل محترمة
بصفة كونها إمامة دينية فيكون السلطان محصورًا في قصره لا سلطة له ولا قوة.
ويقول الكاتب: إن هذا يثقل على أصحاب المناصب والأهالي، ولكن
الدولة في حالة إفلاس، وسيعلم رجالها أنه لا يمكن بقاؤها إلا بهذه الطريقة،
وسيتعود الأهالي الخضوع لسلطة وكلاء الدول كما خضعوا لرجال الانقلاب
العثماني أي: وهم أخلاط وأوشاب لا يعرف لهم عرق راسخ في الأمة كما
بيَّنه الكاتب في موضع آخر من رسالته.
وقد قرأنا في مؤيد هذا اليوم ترجمة برقية أرسلها صاحب جريدة أقدام
التركية من فينة إلى جريدته بالآستانة يؤيد هذا الرأي، وهي هذه:
عقد مندوبو البنك الشرقي الألماني والبنك الأهلي والعثماني جلسة في
باريس تداولوا يها بمسألة القرض الذي تطلبه الوزارة العثمانية وقرروا أن
يقرضوا الحكومة ما يكفيها لدفع رواتب الموظفين والضباط والجنود فقط.
وطلبوا في مقابل ذلك أن يمنح لشركة إنكليزية امتياز ري أراضي
الجزيرة. وأن تمنح إلى شركات فرنسوية امتيازات إنشاء الخطوط الحديدية
في الأناضول، وأن تمنح إلى شركات ألمانية امتيازات إنشاء خطوط حديدية
تتفرع عن الخط الأصلي لسكة حديد بغداد.
وأن تصدق الحكومة على تمديد امتياز احتكار الدخان في المملكة
العثمانية لشركة الريجي.
وإجراء إصلاح في ميزانية نظارة الحربية.
وأن يكون لهذه البنوك حق المراقبة على النفقات العمومية للحكومة.
وأخيرًا أن تفوض إلى مصلحة الديون العمومية مسألة عقد القروض. اهـ.
يقرأ المسلمون مثل هذا في الجرائد وتراهم وادعين ساكنين لا يهتمون
بها ثم تراهم يهيجون لذكر أخذ أدرنة أو نصف أدرنة، ويشيد بعضهم بإطراء
جمعية الأحمرين التي تجدّ ببيع ما بقي من هذه الدولة لأوربة بالرهون
والامتيازات، فما هذا الجهل والغرور؟
نعم إن أمتنا الإسلامية قد استحوذ عليها الجهل والغرور معًا، وصار رؤساؤها
وكبراؤها شرارها، فمن ذا الذي يعلمها ويهديها رشدها؟ إن السيادة والسلطة
أعلى وأغلى شيء في نفسها، وقد كان لها ممالك كثيرة فكانت تزول بالتدريج
وهي لا تعقل سبب زوالها، ولا تعتبر اللاحقة بما حل بالسابقة منها.
تألفت الدولة العثمانية من عدة من هذه الممالك فكانت أكبرها وأقواها،
ولكنها منذ صارت القوة تُبنى على أسس العلم والنظام صارت هي ترجع
القهقرى في كل شيء، فهي منذ أزال السلطان محمود منها قوة الإنكشارية
الهمجية إلى هذا اليوم، لم تقدر أن تؤسس قوة نظامية تحفظ بها ملكها الواسع،
ولو بحيث تنجو من طمع الطامع، وإنما اكتفت من القوة المنظمة في الجملة
بالقدر الذي يُمكِّن العاصمة البيزنطية من تذليل جميع الشعوب العثمانية،
وجباية الضرائب والمكوس منها؛ ليتمتع أهل تلك العاصمة ومن حولهم بها،
وكانوا يرون أن ذلك لا يدوم لهم إلا ببقاء الأمة على جهلها، فكان مصير
ثروة الدولة والأمة كلها إلى أوربة، ولكن المسلمين راضون لجهلهم بسوء
حالهم، ومقتنعون بأن لهم دولة قوية تحمي حماهم وحرمهم، فهذا الجهل
والغرور هو الذي انتهى بالدولة إلى هذا المصير، ولا يزال المسلمون على
غرورهم يحثون الدولة على الحرب، رجاء أن يكون لها الغلب فيعود إليهم
التلذذ بالطمأنينة على ملك الإسلام، الذي تمثله لهم الأماني والأوهام، وإن
زالت اللذة بعد شهور وأيام:
أماني من سعدى عذاب كأنما ... سقتنا بها سعدى على ظمأ بردا
مُنًى إن لم تكن حقًّا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا
أيها الإخوة المخلصون في الغيرة على الملة والدولة، إن الرائد لا يكذب
أهله، اعلموا أن الدولة على شفا جرف من الخطر، وأن استيلاء أوربة عليها
بالفتح السلمي أقرب غائب ينتظر، ومن مقدماته الفتنة الثورية التي حدثت في
الآستانة وما سيعقبها من الفتن، ولا منجاة للدولة ولا لمثيري الفتنة بنصر
يرجى لأخذ نصف مدينة أدرنة، ولا أخذ كل تلك المدينة، ولا بلجنة الدفاع
الملية، ولا بالإعانات والضرائب الحربية، وقد كنتم مغرورين بجيش عبد
الحميد، وسررتم بظفره باليونان، ثم أنفق الاتحاديون باسم هذا الجيش
خمسين مليونًا من الليرات، ولم يمنع البلقانيين أن يسلخوا من الدولة بضع
ولايات تضاهي جميع ممالكهم، فهل يمنع الدول الكبرى من أخذ الباقي إذا هي
اتفقت على ذلك؟.
أيها الإخوة المخلصون للدولة والإسلام، إنني أنا النذير العريان، الذي
حمله الإخلاص في النصح على تعريض عرضه للسب والشتم، بل تعريض
ماله للسلب ونفسه للقتل، اعلموا أن الدولة على خطر الزوال، فيجب على
العقلاء منكم أن يفكروا أولاً في عاقبة سلطة الإسلام، وحفظ حرم الله تعالى
وحرم رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن أدرنة التي خدعتم بتعظيم أمرها، لا
تغني فتيلاً في الدفاع عنهما، وإنما حفظهما بحفظ سياجهما والبلاد والسواحل
المحيطة بهما، ثم أن يفكروا ثانيًا بحفظ سائر بلاد الدولة ووقايتها من امتلاك
الأجانب لها، وحفظ استقلال الدولة فيها.
سمعتم أن جمعية الاتحاد والترقي قد أسست في الآستانة لجنة باسم الدفاع
الملي، أي الوطني أو الجنسي، وأنها كتبت إلى جميع البلاد العثمانية تطلب
الإعانة المالية على ذلك، وكتبت إلى غير البلاد العثمانية في هذا الأمر كما
كتبت في غيره، وقد كنت أول من اقترح على الدولة الاستعداد للدفاع الوطني
العام، وأكدت وجوبه في العام الماضي بما كتبت في المنار، ولكن لا على
الوجه الذي تدعو إليه الجمعية الآن، فإن فائدة هذا محصورة في الاتحاديين
يبغون به الدفاع عن أنفسهم وتوسيع موارد ثروتهم، وسيظهر هذا لجميع
الناس، وأما هذه الحرب فستحكم في صلحها أوربة حكمها النافذ الذي لا مرد
له.
ما كل ما يعلم وما يجب أن يعمل يجوز أن يكتب وينشر، وإنما أقول:
إن استبقاء السلطة الإسلامية وحفظ الحرمين لا يزال ممكنًا، ولا ينفذ إلا بجمع
المال، فيجب الآن على جميع أهل الغيرة والبصيرة من مسلمي الأرض أن
يجمعوا المال لذلك، ويحفظوه حفظًا إلى أن يتبين لهم العمل الذي لا شك فيه
بواسطة مؤتمر يعقد لذلك من أهل الغيرة والبصيرة في العالم الإسلامي كالأمير
عمر باشا طوسون من مصر والنواب وقار الملك من الهند، فهذا كل ما يجب
الآن، والسلام (وسنعود إلى هذه البحث في الجزء الآتي، إن شاء الله تعالى) .
__________(16/188)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظريتي في قصة صلب المسيح
وقيامته من الأموات
(2)
(تابع ما قبله)
ولنا أن نسأل هنا الأسئلة الآتية:
(1) إذا كان المسيح أخبر تلاميذه بأنه بعد قيامته سيسبقهم إلى الجليل
وأمرهم بالذهاب إلى هناك لكي يروه (مت 26: 32 و28: 10 ومر 16:
7) فلماذا إذًا ظهر لهم في أورشليم كما يقول لوقا ويوحنا في نفس اليوم الذي
قام فيه؟ (لو 24: 36 و37 ويو20: 19) .
(2) ما الحكمة في إرسالهم إلى الجليل ليروه هناك مع أنه ظهر لهم
مرارًا في أورشليم (أع 1: 3) وما الداعي إلى ذلك، وهو الذي أمرهم أن لا
يبرحوا أورشليم حتى يحل عليهم روح القدس؟ (لو 24: 49 وأع 1: 4) .
(3) هل ظهوره لهم في الجليل كان بعد ظهوره لهم في أورشليم أم قبله؟
فإن كان بعده فلماذا شكُّوا فيه؟ (مت 28: 17) بعد أن كان أقنعهم بذلك في
أورشليم (لو 24: 39 - 49 ويو 20: 20 و27) وإن كان قبله، فمتى
ذهبوا إلى الجليل إذًا مع العلم بأن الجليل يبعد عن أورشليم مسيرة ثلاثة أيام
على الأقل، وقد نصت الأناجيل على أنهم رأوه في أورشليم في نفس يوم
قيامته من القبر، فهل يعقل أنهم ذهبوا إلى الجليل ورأوه هناك ثم رجعوا في
نفس ذلك اليوم؟ وإن كان السبب في الشك أن هيئته كانت تتغير بعد القيامة
مرارًا، فلماذا كان ذلك؟ وما الحكمة في هذا التضليل؟ وإذا كانت هيئته قابلة
للتغيير والتبديل بعد القيامة وقبلها كما يفهم من الأناجيل (راجع متى 17:
1 - 7 ومر 9: 2 - 8 ولو 9: 28 - 36) وكان له القدرة على الاختفاء
عن أعين الناس، والمرور في وسطهم بدون أن يروه والإفلات من أيديهم (يو
8: 59 و10: 39 ولو 4: 30) فكيف إذًا يجزمون بأن اليهود صلبوه
وأنهم عرفوه حقيقة وأمسكوه مع أن نفس تلاميذه كانوا يشكون فيه لكثرة تغير
هيئته وتبدلها؟ (يو 21: 4) فأيّ غرابة إذا قلنا: إن اليهود لم يعرفوه
وأخطأوه كما أخطأته مرة مريم المجدلية وظنته البستاني؟ (يو 20: 15) .
(4) إذا كان المسيح ظهر لهم في أورشليم يوم قيامته، فلماذا لم
يأمرهم بنفسه وقتئذ بالذهاب إلى الجليل بدلاً من أن يرسل إليهم هذا الأمر
بواسطة النساء؟ (متى 28: 10 ومر 16: 7) ولماذا لم يذكر مَتَّى هذا
الظهور، ويذكر ما ينافيه مما سبق بيانه؟ ألا يدل ذلك على أنه ما ظهر لهم
في أورشليم، وإلا لَمَا احتاج لتوسيط النساء بينه وبين تلاميذه؟ ولم ترك متَّى
ذكر ذلك، وهو من الأهمية والبعد عن الشك كما يقول الآخرون بمكان عظيم؟
(لو 24: 45 ويو 20: 25) .
بقي علينا أن نناقش قصة الصلب هذه من وجوه أخرى:
(1) أن الشريعة الموسوية في مثل حالة المسيح كانت توجب الرجم،
وليس فيها صلب لأحد وهو حي، وإنما يعلق المقتول على خشبة (تثنية 21:
22) .
أما الشريعة الرومانية فكان الصلب فيها للعبيد ولقطاع الطريق ونحوهم
من أرباب الجرائم الدنيئة، فكيف إذًا صلب المسيح، وعلى أيِّ شريعة كان
ذلك؟ وكيف طلب اليهود صلبه وأنفذه الرومان لهم، وهو ليس موجودًا في
شرائعهم لمثله؟ وكيف صلب معه لصان كما يسميهما متَّى ومرقس وليس في
شريعة الرومان، ولا شريعة اليهود صلب اللصوص؟ لذلك شك بعض العلماء
حتى في أصل هذه القصة، ومنهم أيضًا من أظهر بالدلائل التاريخية المعقولة
الكذب أو المبالغة في بعض قصص اضطهاد النصارى؛ واستشهادهم الكثير
في القرون الأولى كما يحكون في تواريخهم.
(2) جاء في إنجيل لوقا أن المسيح قبيل القبض عليه قال لتلاميذه (22:
36) : الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه
ويشترِ سيفًا 38 فقالوا: يا رب هو ذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي 39 وخرج
ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضًا تلاميذه 40 ولما صار إلى
المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة 41 وانفصل عنهم نحو رمية
حجر وجثا على ركبتيه وصلى 42 قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه
الكأس ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك 43 وظهر له ملاك من السماء يقويه
44 وإذا كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة
على الأرض 49 إلى قوله: فلما رأى الذين حوله ما يكون قالوا: يا رب
أنضرب بالسيف 50 وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى،
وعلى هذه العبارة ترد عدة مسائل:
أولا: إن المسيح أمر تلاميذه بشراء السيوف وحملها للدفاع عنه، وأراد
واحد منهم أن يقتل عبد رئيس الكهنة، ولكن أصابت الضربة أذنه فقطعتها ولم
ينهه المسيح عن ذلك إلا بعد أن أخطأت الضربة الرجل كما يفهم من متَّى
(26: 51 و52) فكيف يتفق هذا مع قول الأناجيل عنه أنه أمر تلاميذه
بمحبة الأعداء (مت 5: 44) وأنه قال (مت 5: 39) : (من لطمك على
خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا) . فلماذا لم يعمل هو نفسه بأقواله هذه،
وأراد تلاميذه على حمل السيوف للدفاع عنه؟ أم كانت هذه الأقوال السلمية في
مبدأ أمره كما يفهم من إنجيل متَّى قبل أن يقوى، فلما قوي قليلاً تركها؟ فماذا
كان يفعل لو بلغ من القوة مبلغًا يستطيع معه أن يقهر دولة الرومان؟ وبم
يفتخر المسيحيون علينا إذًا، ونحن نرى أن المسيح ما دعا إلى السلم إلا وقت
ضعفه الشديد؟ ولم يعيبون محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه حارب أعداءه،
وقد كان حينئذ قويًّا شديدًا؟ أو لا يُفهم من عبارة لوقا هذه أن المسيح هو الذي
أشار عليهم بالضرب بالسيف حينئذ، فإنه هو الذي أمرهم بشرائها وحملها معهم؟
نعم إنه لم يصرح بذلك حينما سألوه (أنضرب بالسيف) ؟ ولكن كان سكوته
إيعازًا خفيًّا خوفًا من اليهود ومن الدولة الرومانية؛ لأن الظاهر أنه كان عنده
أمل في النجاة منهم؛ ولذلك لما تم صلبه على زعمهم يئس وقال: (إلهي إلهي
لم تركتني؟) (مت 37: 46) .
ثانيًا: إذا كان المسيح ابن الله الذي نزل من السماء للموت ليرفع خطيئة
العالم، فلماذا أراد الدفاع عن نفسه، ولماذا لم يسلم نفسه لهم طائعًا مختارًا؟
وما معنى هذه الصلاة الطويلة العريضة والإلحاح بطلب النجاة، وما حكمة
ذلك يا ترى؟ وهو يعلم أنه لا فائدة من هذا كله ولا بد من صلبه الذي جاء
لأجله.
ثالثًا: إذا كان عبيد الله يقدمون أنفسهم للشهادة في سبيله بكل شجاعة
وثبات وإقدام، فكيف يمكن أن يجبن (ابن الله) عن مساواتهم في ذلك حتى
يتصبب عرقه من شدة الخوف من الموت، وليس في الموت إلا أنه يعود ثانية
إلى أبيه، فَلِمَ كَرِهَ ذلك يا ترى؟ ولِمَ هذا الحزن الشديد كما ذكر متى (26:
37 و38) ؟
رابعًا: كيف يحتاج ابن الله الممتلئ من روح القدس إلى ملاك من السماء
ليقويه مع أنه في ناسوته يوجد أقنومين إلهيين (الابن، وروح القدس يو1:
32) وهما متَّحِدان به، فهل هذا الملَك عندهم أقوى من الله؟
خامسًا: هل من العدل عند النصارى أن ينقذ الله المذنبين - آدم وبنيه
ويصلب ابنه البريء رغم إرادته وهو يستغيث به فلا يغيثه؟ فأين عدله
ورحمته؟ وإذا لم يكن عادلاً رحيمًا بابنه، فهل مثل هذا الإله يرحم عبيده
ويعدل فيهم؟ ولِمَ هذا الحب الكثير من إلههم لسفك دم الأبرياء من قديم الزمان؟
راجع قصة يفتاح الممتلئ من روح الله الذي قتل ابنته الوحيدة البريئة قربانًا
لله وذكر الله قصته هذه في بعض كتبه ولم يزجر أباها ولم يعاقبه على ما فعل،
كأن قتلها كان مرضيًّا عنده تعالى (قضاة 11: 29 - 40) لأن أباها
أصعدها بعد قتلها محرقة له، فلعله سُرَّ من رائحتها والنيران تأكل جثتها
فلذلك ذكر هذه القصة ولم يذكر ما ينفر منها ليقتدي الناس بيفتاح هذا. راجع
أيضًا مقالة القرابين والضحايا في كتابنا (دين الله) .
(3) يقول إنجيل يوحنا 19: 31 (ثم إذا كان استعداد فلكي لا تبقى
الأجساد على الصليب في السبت؛ لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا، سأل
اليهود بيلاطس أن تكسر سيقانهم ويرفعوا 32 فأتى العسكر وكسروا ساقي
الأول والآخر المصلوب معه 33 وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه؛
لأنهم رأوه قد مات 34 لكن واحدًا من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت
خرج دم وماء 36 لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه 37) .
وأيضا يقول كتاب آخر: (سينظرون إلى الذي طعنوه) . فإذا كانت هذه
القصة حقيقية ووقعت لتتميم نبوات قديمة، فكيف لم يشر إليها الثلاثة
الإنجيليون الآخرون؟ وليس هذا فقط بل إن عبارة مرقس (15: 42 -
46) تنافي هذه القصة؛ لأن يوحنا (19: 38) يقول: إن يوسف أتى إلى
بيلاطس بعد أن أمر بكسر سيقان المصلوبين وبعد أن ماتوا؛ فأذن له بأخذ
الجثة؛ فكيف إذًا تعجب بيلاطس (حسب رواية مرقس) من موت المسيح
بسرعة حينما جاءه يوسف طالبًا الجسد؟ ولماذا سأل قائد المائة قائلا: (هل
له زمان قد مات؟) (مر 15: 44) إذا كان حقيقة أصدر أمره بكسر سيقان
المصلوبين ورفعهم كما قال يوحنا؟ فهل بعد هذا الكسر يبقى موضع للعجب؟
ولا يخفى أن المسيح صلب بين اللصين (يو19: 18) فكيف تخطاه العسكر،
وكسروا ساقي الأول والآخر ولم يكسروا ساقيه بل كسروا الثالث قبله؟
فإن قيل: لأنهم رأوه قد مات. قلت: إذا كانوا متحققين من الموت فلماذا
طعنه أحدهم بالحربة في جنبه؟ وإن لم يكونوا متحققين فما الذي أخرهم عن
كسر ساقيه بعد صدور الأمر لهم بذلك؟ ولماذا ترددوا في إطاعة الأمر حتى
تخطوه إلى الثالث، وهل من شأن العسكر التردد والتوقف والبحث في مثل
ذلك؟ مع أن الأمر صدر لهم صريحًا بكسر سيقان الجميع والتعجيل بموتهم
ورفعهم عن الصلبان إجابة لطلب اليهود من بيلاطس فما الذي أخرهم عن تنفيذ
الأمر في الحال؟ ألا يدل ذلك على أن هذه القصة مصطنعة لتطبيق نبوات
قديمة على المسيح كما هي عادة كتبة الأناجيل؟ (راجع كتاب دين الخوارق
في الإنكليزية صفحة 837 و 838) .
وكيف يفسرون خروج الدم منه بعد الموت من الوجهة الطبية، وما هذا
الماء الذي رآه يوحنا خارجًا من جنبه كما يقول إنجيله (19: 34 و35) .
(4) ذهب بعض علماء الإفرنج إلى أن المصلوب لم يمت؛ لأن مدة
الصلب كانت ست ساعات على الأكثر (راجع مرقس 15: 25 - 37)
وهي غير كافية للموت بالصلب، فإن المصلوب يموت عادة من يوم إلى ثلاثة
أيام؛ ولذلك تعجب بيلاطس من هذه السرعة (مر 15: 44) وقال بسبب
ذلك أوريجانوس وغيره من آباء الكنيسة القدماء: إن موته كان من خوارق
العادات؛ وأيضا فإنه لم تسمر إلا يديه فقط وربطت رجلاه؛ ولذلك لم يذكر
يوحنا إلا أثر المسامير في يديه ولم يذكر رجليه (يو20: 20 و25 و27)
ولم يُرِهما المسيح لتلاميذه بحسب هذا الإنجيل. وأما عبارة لوقا (24: 39
و40) فإنها تحتمل أن المراد بها أنه أراهم يديه ورجليه ليجسوهما؛ ليعلموا
أنه جسم حقيقي له لحم وعظم، كما قال؛ ليقنعهم أنه ليس روحًا، وإنما أراهم
يديه ورجليه دون سائر جسمه؛ لأنه يسهل كشفهما دون باقي الأعضاء
الأخرى، على أن هذه القصة قد ردَّها علماء النقد المحققون (راجع كتاب دين
الخوارق في الإنكليزية صفحة 837 و838) .
هذا ولم يكن ربط رجلي المصلوب عند الرومانيين وغيرهم بأقل من
تسميرهما، إن لم نقل: إنه كان الغالب في الصلب، وفوق ذلك فإن عظامه لم
تكسر كما قال يوحنا (19: 36) وأما طعنه بالحربة فلم تذكرها الأناجيل
الأخرى، وقصتها مشكوك فيها كما بيَّنا، وإذا صحت فيجوز أن الحربة لم
تنفذ إلى داخل الجسم، وتكون فقط قد قطعت الجلد والشحم وبعض العضلات
على أن الفعل اليوناني المترجم في الإنجيل بطعن (يو 19: 34) لا يفيد أن
الجرح كان غائرًا كما يقول علماء هذه اللغة. ثم إن هذه الحادثة تدل على
الحياة أكثر من دلالتها على الموت، فإنه لو كان المصلوب ميتًا لَمَا سال منه
دم، فسيلان الدم منه هو أحد الدلائل على أنه كان حيًّا، فبعد أن سال منه جزء
من الدم بطل النزف كالمعتاد.
والظاهر أن هذه القصة اخترعت قديمًا لإثبات الموت؛ لجهلهم بعلم الطب
إذ ذاك. فلهذه الأسباب كلها قال العلماء: إن المصلوب لم يمت حقيقة وإنما
أغمى عليه إغماء شديدًا كما حصل لبولس بعد أن رجم (أع 14: 19 و20)
فلما أنزل عن الصليب ودفئ بالكفن والكتان (مت27: 59) واستراح في
القبر وانتعشت روحه بالأطياب الكثيرة التي وضعها له نيقوديموس (يو 19:
40) أمكنه أن يقوم ويخرج من القبر، والذي أزال الحجر عن هذا القبر هي
الزلزلة التي ذكرت سابقا؛ أو أن مسألة الحجر هذه مخترعة؛ لأن العادة
كانت أن لا يوضع هذا الحجر إلا بعد مضي ثلاثة أيام (راجع كتاب دين
الخوارق ص 832) .
فلما قام المصلوب ومشى قليلاً سقط ميتًا بسبب ما تحمَّله من العذاب
وانهماك قواه، والجوع والعطش مدة طويلة وآلام الجروح والتهابها أو تعفنها
وربما ساعد على ذلك وجود بعض أمراض في أحشائه لم تعلم أو أنه أصابه
ذهول فألقى بنفسه من مكان عالٍ أو زلت قدمه فهوى، إلى غير ذلك من
الأسباب المحتملة المتنوعة التي تسبب الوفاة في مثل هذه الحالة، ولم يعلم
المكان الذي مات فيه؛ فإن القبر كان خارج مدينة أورشليم في بعض جبالها،
وبسبب عدم وجود الجثة في القبر نشأت هذه القصص المختلفة عن القيامة.
هذا شيء مما يقال في هذه المسألة، وهو قليل من كثير مما يقوله علماء
أوربا الآن في الدين المسيحي حتى إنه ليخيل للإنسان أنه لا يمضي زمن
طويل حتى تخرج أوربا كلها عن النصرانية، وليس ذلك بعجيب عند من يعلم
أن أكبر العلماء والمفكرين هناك قد خرجوا الآن فعلاً عن هذا الدين ونبذوه
وراءهم ظهريًّا، وألفوا المجلدات الضخمة في إثبات بطلانه وفساد عقائده كلها
كما يقولون.
ولا أدري لماذا يفتخر المبشرون بأوروبا وعلمها بين المسلمين مع أنه قل أن يوجد
بين الإفرنج عالم مستقل الفهم والعقل يعتقد بشيء من عقائد النصرانية، فالأولى
بجماعة المبشرين بدل نشر دينهم خارج أوربا أن يحصنوه في داخلها ضد
غارات هؤلاء العلماء المحققين، وإلا خرجت أوربا كلها عن المسيحية يومًا ما،
وحينئذ لا يُجديهم افتخارهم بها وبعلمها ومدنيتها نفعًا.
هذا وإذا وجد في بعض كتابات مؤرخي الوثنيين الأقدمين أن المسيح
صلب كما في تاريخ تاسيتوس (Tacitus) المؤلَّف نحو سنة 117
ميلادية، فلا يعتد بقوله لوجوه:
(1) أن يكون تاسيتوس أخذ ذلك من الإشاعات الحاصلة في ذلك الوقت
وجمهورها يؤيذ ذلك كما قلنا، ولو لاحظنا احتقار تاسيتوس للنصارى في ذلك
الوقت لما استغربنا منه هذا القول الذي صدر منه بدون تحقيق ولا تمحيص
لعدم عنايته بهم، فهو كأقوال نصارى أوربا في القرون الوسطى في محمد
صلى الله عليه وسلم ودينه، فقد كانت كلها مبنية على الإشاعات الكاذبة
والاختلاقات.
ومما يدل على صحة قولنا في تاسيتوس هذا وغيره من مؤرخي الوثنيين
أنهم كانوا يأخذون بالإشاعات والأكاذيب المنتشرة حولهم ويحشرونها في
تواريخهم بدون تحرٍّ ولا بحث - أنه دَوَّنَ في تاريخ اليهود خرافات عديدة
مضحكة ظنها حقائق ثابتة، كما قالت دائرة المعارف الإنكليزية (مجلد 13
صفحة 658) والحق يقال: إن الرومانيين لم يهتموا بالمسيح أدنى اهتمام؛
لأنه لم يفُه ببنت شفة يفهم منها أنه يريد الخروج عليهم، وكانت كل أعماله
قاصرة على إصلاح حال أمته دينيًّا وأدبيًّا ولم يتبعه إلا بعض فقراء اليهود
وأصاغرهم؛ فلذلك لم يلتفت إليه أحد من غير اليهود؛ فحادثة الصلب كانت
من المسائل المحلية الداخلية لهم لم يهتم بها أحد من حكام الرومان خارج
أورشليم؛ ولذلك صدر أمر بيلاطس فيها بدون استئذان رومية كما يفهم من
جميع الأناجيل [1] .
والراجح عند العلماء أن بيلاطس لم يبلغها رسميًّا للإمبراطور طيباريوس
في رومية (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص23) لأنها كانت من المسائل
الصغيرة القاصرة على اليهود، وكانوا غير خاضعين لشرائع الرومان في
مسائلهم الدينية.
فغاية الأمر أن عيسى وهو أحدهم حكم عليه مجمع السنهدريم اليهودي
بالموت، وهو لم يكن رومانيًّا حتى تهتم به الرومان، وكان لا بد لهذا المجمع
أن يحصل على تصديق الحاكم الروماني في بلادهم لكي يقدر على تنفيذ ما
حكم به رسميًّا، نعم وكان الرومان على الحياد بالنسبة لمسائل اليهود الدينية
الداخلية إلا أنه كان لا بد من تصديقهم على مثل هذه العقوبات التي يريد اليهود
تنفيذها في شئونهم الدينية شأن الأمم الغالبة مع الأمم المغلوبة كما هو مشاهد
في هذا العصر (راجع كتاب رينان في حياة المسيح ص 134) .
فلم يكن ثَمَّ باعث لاهتمام الرومانيين بهذه المسألة حتى لو بلغ الحكومة
خبرها رسميًّا بعد وقوعها؛ ولذلك كان مؤرخوهم يجهلون تاريخ المسيح ولم
يذكره إلا قليل منهم عرضًا في كتبهم، والغالب أن أهل رومة لم يسمعوا به إلا
بعد أن دخلت النصرانية إيطاليا وكانوا يحتقرون النصارى احتقارًا شديدًا ولا
يهتمون بهم ولا يعرفون الفرق بينهم وبين اليهود ولا شيئًا من أخبارهم
الصحيحة؛ ولذلك يقول تاسيتوس: إن لليهود والنصارى إلهًا له رأس حمار،
ويقول سويتونيوس المؤرخ الروماني (Suetonius) في أوائل القرن
الثاني: إن اليهود (يريد النصارى) طردَهم كلوديوس من رومة؛ لأنهم
كانوا يحدثون شغبًا وقلاقل فيها، يحرضهم عليها دائما السامي أو الحسن
(chrestus) يريد المسيح. اهـ.
وكان يظن أيضًا أن المسيح عليه السلام كان مقيمًا في رومية في ذلك
الزمن، فإذا كان هؤلاء المؤرخون إلى أوائل القرن الثاني لم يعلموا إن كان
المسيح وجد في رومية أو لم يوجد ولا حقيقة عقيدة أهل الكتاب في الله، فكيف
يعول النصارى على شهادتهم؟
فقيمة هذه التواريخ الوثنية عن مؤسس النصرانية عليه السلام هي كقيمة
كتابات بعض مؤلفي الإفرنج في القرون الوسطى الذين كانوا يكتبون عن
المسلمين أنهم يعبدون (ماهوم) أو غير ذلك من الأسماء، وأن له صنمًا
عندهم من ذهب في مكة أو أورشليم. ومنهم من زعم أنه رأى هذا الصنم
بعينيه إلخ ما نشر من خرافاتهم وهذياناتهم؛ فكذلك كانت كتابة الوثنيين عن
المسيح والمسيحيين.
فهي لا قيمة لها، ولا يجوز أن يعتبر شيء منها تاريخًا صحيحًا، فإنها
كلها مبنية على الإشاعات والاختلاقات والأوهام والأكاذيب بدون أن يكلفوا
أنفسهم أقل عناء في معرفة الحقيقة. ولم يكن للنصارى إذ ذاك شأن عندهم
حتى يلتفتوا للبحث في تاريخهم؛ ولذلك جهلوا حتى اسمهم واسم رئيسهم
يسوع [2] عليه السلام؛ فإذا قالوا: إنه صلب، أو: عبده جميع النصارى من
دون الله أو غير ذلك؛ فهي أقوال لا يهتم به أحد من المسلمين؛ فإنها صادرة
عن قوم لا يفهمون من أمر النصارى شيئًا، وربما قاسوا بعض معتقداتهم
على معتقدات أنفسهم، ونظروا إليها بهذا المنظار وفهموها خطأ؛ فظنوا أنها
إما خرافات وخزعبلات كما قالوا في كتبهم عنها؛ أو أنها تحوير لعبادتهم
للآلهة الرومانية قام به المتنصرون منهم، أي أنهم ألَّهوا رئيسهم وعبدوه بدل
تلك الآلهة الرومانية [3] وما كانوا ليفهموا من النصرانية أكثر من هذا أو نحوه
كما كان يظن الأوروبيون أن المسلمين يعبدون محمدًا عليه السلام وجهلوا
اسمه كما جهل الرومان اسم يسوع، وجعلوا له ثلاثة آلهة أو ثالوثًا قياسًا
على ثالوثهم [4] .
والخلاصة أن أمثال هذه التواريخ المبنية على مثل هذه الأوهام والجهل
لا تفيد النصارى شيئًا؛ وهي لا قيمة لها بالمرة فلا يصح الاحتجاج بها على
المسلمين؛ هذا إذا كانت خالية من التحريف، فكيف وما خلت منه كما في
الوجه الآتي:
(2) إن هذه العبارة المذكورة في تاريخ تاسيتوس قال فيها كبار العلماء
من المحققين في أوربا: إنها إما أن تكون مدسوسة عليه أو محرفة بالزيادة
(راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص 20 -56) وكتاب (ملخص تاريخ الدين)
لمؤلفه جولد (Gould) ص22 مجلد 3.
وقد بين هؤلاء العلماء دلائلهم على صحة دعواهم هذه، ولكن يطول بنا
إيرادها في مثل هذه المقالة، والحق أن المؤلفات التي وصلتنا من طريق
النصارى لا يوثق بها؛ لكثرة تعودهم على تحريف جميع ما نقلوه من الكتب
التي وصلت إلى أيديهم سواء كانت دينية أو تاريخية أو غير ذلك، كما يعترف
بذلك علماء النقد منهم الآن، فكم من عبارة أظهروا تحريفها أو دسها! وكم
من كتب أظهروا وضعها واختلاقها ونسبتها إلى غير كاتبيها حتى لم يسلم من
عملهم هذا الكتب التي توجد عند غيرهم من الأمم كتاريخ يوسيفوس الموجود
عند اليهود أيضا؛ وقد بينا ذلك في كتاب دين الله (ص79 و80 منه) فمنذ
القرن الرابع حينما صارت دولة الرمان إليهم تصرفوا في كتبهم وفيما وصلهم
من كتب غيرهم بما شاءوا وشاءت أهواؤهم؛ ولم يخشوا حسيبًا ولا رقيبًا.
وقد بيَّن العلامة أندريس (Andresen) أن أصل عبارة تاسيتوس
هذه في أقدم النسخ المخطوطة باليد مغاير للموجود في النسخ المتأخرة
في كلمة (Chrestianos) التي حرفوها إلى (Christianos)
والفرق بين الكلمتين عظيم، فإن الأولى بمعنى الطيبين والثانية بمعنى
المسيحيين وكانت الكلمة الأولى (Chrestianos) تطلق على عُباد الإله
المصري (Chrestus) المسمى أيضًا (Osiris) وكان عُبَّاده في
رومية إذ ذاك كثيرين من عامة الرومان ومن مهاجري المصريين، وهم
الذين كان يمقتهم الرومانيون الآخرون، واضطهدوهم كثيرا لأسباب دينية
وسياسية؛ ولشدة كرههم لأولئك المصريين واحتقارهم لهم لم يمكنهم أن
يميزوا بينهم وبين اليهود المصريين المهاجرين إليهم من الإسكندرية وغيرهم،
واعتبروهم كلهم سواء في الجنس والدين، فلما احترقت رومية نسبوا الحريق
إليهم فحل بهم ما حل من اضطهاد نيرون قيصر الرومان (Nero) كما
فصله تاسيتوس في تاريخه.
فالظاهر أن بعض النصارى ظن أن تاسيتوس يريد بقوله (Chrestianos)
المسيحيين أي (Christianos) فأضاف إلى تاريخه هذه العبارة للتفسير، أي:
هذا الاسم: أي (Chrestianos) منسموب إلى المسيح (Christ)
الذي صلب بأمر الوالي بيلاطس في عهد الإمبراطور طيباريوس
(Tiberius) مع أنه نسبة إلى (Chrestus) إله المصريين
ولما لاحظ النصارى هذا الخطأ حرفوا اللفظ الوارد في كتابة تاسيتوس
من (Chrestianos) إلى (Christianos) لتصح النسبة إلى
المسيح (Christ) ولذلك اختلفت النسخ الحديثة عن النسخ القديمة في هذا
اللفظ، كما حقَّقه أندريس على ما سبق، وعليه فتاسيتوس لم يذكر
المسيح في كتابه مطلقًا، و (Chrestus) المذكور هنا هو اسم آخر
لأوزيريس كما تقدم؛ وكان يطلق أيضا على رئيس كهنة هذا المعبود بل وعلى
بعض موالي الرومانيين، وهذا يفهمنا
المعنى الحقيقي لقول سوتيونيوس (Suetonius) السابق: إن اليهود
طردهم كلوديوس (Claudius) من رومية بسبب ما يحدثونه من الفتن
بتحريض الحسن أو السامي (Chrestus) وهو على هذا أحد رؤساء الكهنة
أو شخص آخر سمي بهذا الاسم.
وهو تفسير معقول، ولولاه لكان سويتونيوس لا يعرف الفرق بين اليهود
والنصارى، ويزعم أن المسيح وجد في رومية وهو خطأ يبعد جدًّا أن يقع فيه
مؤرخ مثله. فالحق أنه لم يذكر عيسى عليه السلام كما لم يذكره تاستيتوس
على ما بينا، ولولا تحريف النصارى لكتبهما لفظًا ومعنى لَما فهم منهما غير
ما قررناه ولَما توهم أحد وقوع سويتونيوس في هذا الخطأ الفظيع والجهل
الفاضح الذي ينسبونه إليه.
ولما انتشرت المسيحية في رومة بقي الرومان مدة لا يفرقون بين كلمة
(Chrestians) و (Christians) وكلمة (Chrestus) و
(Christus) وظنوا أن المسيح هو معبود المصريين (Osiris)
القديم. فحصل بسبب ذلك هذا الخلط والخبط حتى توهم أيضا يوستينوس
(Justin) الشهيد النصراني الشهير المتوفى في القرن الثاني أن
هناك علاقة بين اسم المسيحيين (Christians) وكلمة (Creston) أي
حسن أو طيب كما في كتاب جولد المذكور (ص19 من المجلد 3) .
(3) إذا سلم أن تاسيتوس أخذ خبر الصلب من مصدر رسمي في
رومية كما يدَّعون فنحن لا نقول: إن بيلاطس ورؤساء اليهود كانوا يعرفون
الحقيقة بل نقول: إنهم كانوا مخدوعين، بل ربما كان العسكر الذين قبضوا
على يهوذا بعد فرار المسيح أيضا مخدوعين؛ إذ يجوز أنهم أخذوه إلى السجن
لا لمجرد تخليص أنفسهم من العقاب باتهامهم أي شخص كان؛ بل لاعتقادهم
أنه هو عيسى وساعدهم على هذا الظن شدة شبه يهوذا به وجهلهم بطرق
تحقيق الشخصية (وهو العلم الذي تُوسع فيه الآن) وكذا عدم شدة مقاومة
يهوذا لهم لتصميمه على قتل نفسه من قبل القبض عليه كما بينا، فإذا قال لهم
مرة أو مرتين حينما قبضوا عليه: إنه ليس هو عيسى، ظنوا أنه كاذب، وأنه
يريد الفرار منهم مرة أخرى، فلم يلتفتوا إلى قوله.
ومما ساعد على جهل الناس حقيقة المصلوب حتى انخدعوا أن هيردوس
غيَّر ملابس المسيح وألبسه لباسًا أبيض لامعًا استهزاء به (لو 23: 10)
ورده إلى بيلاطس، فوضع بيلاطس أيضًا إكليلاً من شوك فوق رأسه وألبسه
ثوب أرجوان، وخرج به هكذا، وحاكمه أمام اليهود (يو 19: 2-16) ولما
حكم عليه بالصلب أخذه العسكر إلى داخل دار الولاية، وألبسوه رداء قرمزيًّا
ووضعوا إكليلاً من شوك على رأسه (مت 27: 28 و29) وكل هذه
المظاهر المختلفة تغير هيئته أمام من رآه خصوصًا من لم يعرفوه معرفة جيدة
وتساعد على الوقوع في الخطأ.
وفي وقت الصلب جردوا المصلوب عن ثيابه كلها وبقي عريانًا ولا يخفى
أن من لم يتعود رؤية شخص وهو عريان لا يسهل عليه معرفته بعد تجريده
من ملابسه. (انظر مر15: 24 -27 ومتى 27: 35 و36) .
وكيف يعجبون من قولنا: إن النساء اللاتي كن واقفات بعيدًا عنه وقت
الصلب لم تعرف الحقيقة، ولا اللذين دفناه، وهما ما كانا يعرفانه حق المعرفة
كما بينا كيف يعجبون من ذلك ولا يعجبون من أن مريم المجدلية التي كانت
تعرفه حق المعرفة ومختلطة به أتم الاختلاط، لم تعرفه وقت القيامة مع أنها
كانت واقفة بالقرب منه وكان يكلمها (يو 20: 15) وكذلك بعض التلاميذ
الآخرين ما عرفوه مع أنه كان يمشي معهم ويحادثهم ويأكل معهم (لو 24:
13 - 34) .
وكان الشك فيه ملازمًا لهم كلما رأوه (مت 28: 17، ولو 24: 37 -42
ويو20: 27) .
ولماذا تغير شكله؟ وما هو السبب في ذلك؟ ولماذا لم يَبقَ على صورته
الأصلية حتى يقنع تلاميذه بدل الشك فيه مرارًا؟ . أما يكفي أنه لم يره أحد غير
تلاميذه؟ فهل بعد ذلك يشككهم مرارًا في نفسه بسبب تغير هيئته (مر 16: 12)
؟ ثم يحاول إقناعهم بصعوبة زائدة حتى بقي بعضهم شاكًّا في الجليل بعد أن رأوه
في أورشليم. انظر (متى 28: 17) .
ولا تنس أن القبض على المسيح ومحاكمته أمام مجمع اليهود ورؤسائهم
كانا ليلاً، ولا يخفى على أحد مبلغ طرق الإضاءة في تلك البلاد وتلك الأزمنة
وكان ذلك أكبر وقت قضاه المسيح أمام أولئك الرؤساء. أما محاكمته في
النهار فكان وقتها قليلاً جدًّا، وكان يختلي به بيلاطس فيها مرات (انظر يوحنا
18: 33 - 19: 16) فضاع بذلك أكثر هذا الوقت القصير أيضًا، وكان
المسيح كلما خرج أمام اليهود في وقت هذه المحاكمة، لابسًا ملابس السخرية
والاستهزاء (يو19: 5) كما بيَّنا وهي طبعًا غير ملابسه العادية ولا بد أنها
تغير شكله، وعليه فكل هذه الظروف تساعد على وقوع الخطأ والاشتباه.
ومما يؤيد قولنا بهروب المسيح من السجن، ويقرب ذلك من عقول
النصارى: ما جاء في إنجيل يوحنا وهو يدل على قدرته على الاختفاء والإفلات
من أيدي الناس بطرق عجيبة جدًّا خارقة للعادة، قال 8: 59 (فرفعوا
حجارة ليرجموه، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم
ومضى هكذا. أي: بدون أن يروه، وقال 10: 39 (فطلبوا أن يمسكوه
فخرج من أيديهم) فلِمَ لا يجوز أن يكون خرج من أيدي الحراس كما كان
يخرج من أيدي اليهود على ما قال الإنجيل ولم يره أحد؟ (راجع أيضا لوقا
4: 29 و30) .
ومن الجائز أنهم لما لم يجدوه وخرج من أيديهم واختفى بهذه الكيفية التي
ذكرتها الأناجيل وتحققوا من عدم وجوده بالمدينة، خاف الحراس من العقاب
وارتبكوا وخاف اليهود أن يؤمن به كثير من الناس فأخذوا عمدًا واحدًا غيره
من المسجونين يشبهه أو لا يشبهه باتفاقهم مع العسكر، وربما رشوهم بمال
كثير حتى لا يبوحوا لأحد بالسر مطلقًا (انظر مت 28: 12) وصلبوا هذا
الرجل خارج المدينة، وأفهموا الناس أنهم صلبوا المسيح، وكان المسيح في ذلك
الوقت قد ذهب إلى الجليل أو غيره هربًا منهم وخوفًا (انظر يو 7) ومن هناك
رُفع إلى السماء فلم يعثر عليه أحد كما رُفع أخنوخ (تك 5: 24) وإيليا (2
مل 2: 11: 17) وقد منع اليهود الناس من الاقتراب من المصلوب؛ لئلا
يعرفوا الحقيقة، وأيضا كان من رأيهم أن هلاك واحد من الشعب خير من
هلاك الأمة كلها على حسب زعمهم (يو 11: 50) فلا يبعد أن واحدًا من
رؤساء الكهنة قدم نفسه لذلك العمل كما يفعل بعض الناس للآن في زمن
الحروب وغيرها.
ويحتمل أيضا أن هذا الذي أخذوه كان أحد المحكوم عليهم بالإعدام
كباراباس (لو 23: 19) الذي قال علماؤهم: إنه كان يسمى يسوع أيضًا في
أقدم تراجم المسيح، فحذف النصارى هذا الاسم منها (راجع دائرة المعارف
الإنكليزية مجلد 13 صفحة 656) ونظرًا لأن هذا الرجل كان محكومًا عليه
بالإعدام على ما يظهر، وكان اسمه يسوع، فلما صلبوه ظن أنه صلب لأجل
ما حدث منه من القتل والفتنة، وكلما نادوه باسمه لم يخطر على باله أنهم
أقاموه مقام يسوع المسيح الذي ظنه الناس أنه هو المصلوب، وبذلك تحقق
قول المسيح لليهود (يو 7: 33) (أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد ثم أمضي إلى
الذي أرسلني 34 ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن
تأتوا) .
واستجاب الله دعاءه برفع كأس الموت عنه (مر 14: 35 - 42) وإلا
فكيف يعقل أن الله يرد دعاء مثله؟ (راجع أيضًا يوحنا 16: 32 و33) .
وعلى هذا الوجه يكون الذين كتبوا الأناجيل أناسًا لم يعرفوا حقيقة المسألة
فكتبوها كما شاع في ذلك الوقت واشتهر عند أكثر الناس.
وبعد الصلب جاء يوسف ونيقوديموس وهما يهوديان من أعضاء مجلس
السنهدريم وأخذا الجثة بأمر رؤساء الكهنة وأخفياها عن أعين أتباع المسيح
خوفًا من أن يعرفوا الحقيقة، فتظاهرا بأنهما من أتباع المسيح في السر (يو 19:
38 و39) ليمنعاهم من دفنه بأنفسهم وأخذا الجثة ووضعاها أولا في قبر
ولما ذهب كل من كان واقفًا من الناس نقلاها إلى موضع آخر لم يعلمه أحد.
ولما شاعت إشاعة القيامة واعتقدها بعض الناس كانت أولاً قاصرة على
التلاميذ كما سبق، ولم يجاهروا بها أمام اليهود خوفًا منهم (يو 20: 19 و 26)
وبعد نحو خمسين يومًا كما في سفر الأعمال (2: 1 و14) بدءوا يخبرون
اليهود باعتقادهم هذا. ولكن في ذلك الوقت كانت جثة المصلوب قد تغيرت جميع
معالمها بسبب التعفن الرمي، ولا يمكن لليهود أن يحضروها بعد إخفائهم لها، وإذا
أحضروها فلا يقتنع بها أحد ولا يمكن أن يعرفها، فكان من العبث أن يحاول أحد
إقناعهم بذلك [5] .
ولذلك سكت رؤساء اليهود عن مثل هذه الحجة التي تظهرهم بمظهر
العاجز المتحير، وظنوا أن أحسن طريقة لإسكات النصارى هي استعمال
القسوة والاضطهاد لا مثل هذه المناقشة التي لا طائل تحتها. وربما أشاع
بعض عامة اليهود في ذلك الوقت فكرة سرقة تلاميذ المسيح الجثة من القبر
لأنهم لم يعرفوا الحقيقة، ولا يبعد أن بيلاطس نفسه دخلت عليه الغفلة من
رؤساء الكهنة والعسكر ولم يعرف هو أيضا الحقيقة، فإنه كان يحب المسيح
كثيرًا هو وامرأته (متى 27: 19 و24) فكان هؤلاء الرؤساء يخافون أن
يؤمن به وخصوصًا إذا تحقق أن المسيح أفلت من أيديهم واجتاز في وسطهم
بدون أن يروه كما يقول الإنجيل بعد أن كان بيلاطس يسعى في خلاصه منهم
بنفسه فلم يقدر (مت 27: 17 - 25) .
ولنا أن نسترسل في هذا الوجه ونقول كما قال متى: إن المسيح بعد ذلك
عاد إلى بعض تلاميذه لما ذهبوا إلى الجليل وأخبرهم بحقيقة المسألة، فبعضهم
صدق كلامه وأنه هو، وبقي البعض الآخر شاكًّا (مت 28: 17) متمسكًا
بما ذهب إليه أولاً من حصول الصلب له والقيامة من القبر.
أما الذين صدقوا فمن شدة حيرتهم ودهشتهم لم يفهموا منه جميع تفاصيل
القصة كما لم يفهموا كلامه في أثناء حياته عن موته وقيامته على ما سبق بيانه
مع أنهم لم يكونوا إذ ذاك في حالة من الحيرة والدهشة كهذه، ولذلك فاتهم
بعض أشياء من هذه القصة فاختلفوا في تصويرها للناس، ومن ذلك نشأت
فرق النصارى القديمة التي أنكرت الصلب، وقالت: إن المصلوب واحد آخر
غير المسيح لم يتفقوا على تعيينه، وقال بعضهم: إنه سمعان القيرواني الذي
تقول الأناجيل: إنه حمل الصليب (مت 27:32) وذلك مثل طائفة
الباسيليديين (BASILIDIANS) كما ذكره جورج سيل الإنكليزي
في ترجمته للقرآن الشريف في سورة آل عمران صفحة 38.
فإن قيل: ولماذا لم يُظهر المسيح نفسه لليهود حينئذ ويُكذبهم في قولهم
بصلبه؟ قلت: لعله خاف منهم (يو 7: 1 و10 و11: 54 و12: 36) على
أن هذا السؤال وارد على النصارى بالأولى، بأن يقال: لماذا لم يُظهر نفسه
كما وعد المنكرين له بعد قيامته؛ حتى يؤمنوا به، وحتى لا يشك فيه نفس
تلاميذه؟ فما يقولونه في الجواب عن ذلك هو عين جوابنا نحن أيضًا.
هذا وإذا لم يثبت أن المسيح عاد للتلاميذ وأخبرهم بالحقيقة فلا غرابة في
ذلك؛ لأنه كان قد لمَّح لهم بها من قبل حادثة الصلب؛ فقال لهم (يو 16:
32) (هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته
وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي 33 قد كلمتكم بهذا ليكون
لكم فيَّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم) وقال
أيضًا (يو 13: 33) : ستطلبونني، وكما قلت لليهود (ص 7: 34) حيث
أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقل لكم أنتم الآن. ولكن الناس قد نسوا ذلك
أو شكوا فيه أو لم يفهموه كما لم يفهموا كثيرًا ومن كلامه الآخر (يو 21: 22
و23 و2: 19 - 22) ولو18: 34) إلخ.
وكيف يتفق قوله: إن الآب معي، مع قول المصلوب: مت 27: 46:
إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فالحق أن الله ما تركه بل رفعه إليه ونجاه من أيدي
اليهود. (راجع أيضا كتاب دين الله ص 100 - 103) وربما أنه بعد
فراره منهم ذهب إلى الهند كما كان يهرب من أورشليم مرارًا خوفًا من اليهود
(انظر مثلاً يو 10: 39 - 42 و11: 53 - 57) وقد بيَّن ذلك الأستاذ صاحب
المنار في تفسيره، واستدل على ذلك بروايات الهنود؛ وبوجود قبر لشخص جاءهم
منذ التاريخ المسيحيى واسمه يوزاسف، وهو يقرب من اسم المسيح يسوع، تعريب
ييزس (Iesous) اليوناني، ومنه ييسس الإنكليزي (Jesus) إلخ، ويقال
هناك: إن اسمه الأصلي: عيسى صاحب.
وعليه يكون المسيح مات هناك بعد أن عاش مدة قليلة في راحة وهناء
ودفن ولم يرفع بجسمه إلى السماء حيًّا كما يقول كثير من المسلمين والنصارى
الآن، ويكون المراد بالرفع في القرآن الرفع المعنوى أو الروحاني. وربما أنه
هناك لم يؤمن به أحد أو آمن به قليلون انقرضوا واندمجوا في باقي أهل الهند
وتلاشت عقائدهم في عقائد أولئك.
ومما يؤيد القول بعدم إيمان أحد به أنه لم يرسل إلا إلى بني إسرائيل ولم
يدعُ أحدًا إلى دينه سواهم (مت 10: 5 و6 و15: 24) وإلى هذه الهجرة
الهندية قد أشار القرآن الشريف كما قال الأستاذ السيد صاحب المنار بقوله:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون:
50) فأمه هاجرت معه؛ ولذلك لم يقف النصارى على شيء يعتد به من
تاريخها بعد حادثة الصلب باليقين.
ومما يزيدك وقوفًا على اضطراب الأناجيل وخطأها في هذه المسألة
وغيرها أكثر مما تقدم أن إنجيل يوحنا (وهو متأخر عنها فلذا نمت فيها العقائد
أكثر) يقول: إن يحيى بن زكريا كان يعتقد أن عيسى هو حمل الله الذي
يرفع الخطية عن العالم (يو 1: 29 -35) مع أن الأناجيل الأخرى قالت:
إنه وهو في السجن في آخر حياته لما سمع من تلاميذه عن أعمال المسيح
أرسل إليه اثنين منهم يسألانه: هل هو المسيح المنتظر أم ينتظر غيره؟ (راجع لوقا
7: 18 - 23 ومتى 11: 2 - 6) ولا أدري كيف يتفق هذا مع اختراعات
إنجيل يوحنا فانظر وتعجب.
ومن خطأ الأناجيل قول متى (23: 23) إن الكتبة والفريسيين كانوا
يدفعون العشر عن النعنع والشبث والكمون، مع أن مثل هذه الأشياء ما كان
يدفع عنها شيء (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص 238) وقال هذا
الإنجيل أيضًا عن المسيح إنه قال إن اليهود قتلوا زكريا بن برخيا بين الهيكل
والمذبح (مت 23: 35) مع أن الذي قتلوه هو زكريا بن يهويا داع كما في
سفر أخبار الأيام الثاني (24: 20 و21) وأما ابن برخيا أو باروخ، فهذا
قتل بعد المسيح حينما حاصر الرومانيون أورشليم كما ذكره يوسيفوس في
كتابه (تاريخ حرب اليهود) وهذا مما يدل على خبط الأناجيل وخلطها في
حوادث تاريخ المسيح، فكيف يطمئن الإنسان إلى روايتها أو يثق بشيء منها مع
امتلائها بالغلط والتناقض الذي بيناه مرارًا؟.
وسنكتب إن شاء الله قريبًا شيئًا عن تاريخ هذه الأناجيل وعن بولس
مؤسس المسيحية الحالية الحقيقي.
فإن قيل: ألا ترى أن وقوع الصلب بهذه الكيفية التي شرحتها يشكك الناس
في صدق عيسى أنه هو المسيح المنتظر، فإنهم كانوا يتوهمون أنه يُردّ المُلك
إلى إسرائيل (أع 1: 6) ؟ قلت: إذا كان الاعتقاد بصلبه لم يشككهم جميعًا
في ألوهيته فكيف إذاً يشككهم في صحة مسيحيته؟ وأي ضرر إذا شككهم
في أوهامهم التي كانوا بالغوا فيها بشأن مسيحهم الذي كانوا ينتظرونه؟
وهل نسيت أن باب التأويل عند الناس في مثل هذه المسائل واسع، فإنهم يرجعون
إلى أوهامهم فيحورونها وإلى نبواتهم فيؤلونها؟ ولذلك تراهم أولوا صلبه بأن
ذلك إنما فعله بإرادته رغبة منه في خلاص البشر، مع أن المسيح كان يلح في
طلب النجاة من الله (متى 26: 38 - 44 ولو 22: 41 - 45) وقالت
أناجيلهم أنه قال: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وهو يدل على اليأس والقنوط من
استجابة دعائه (راجع أيضا مزمور 22 خصوصًا عدد 14 و15 منه)
وأولوا فقدان جثة المصلوب بأنه قام من الموت. وأولوا ملك المسيح الذي
كانوا ينتظرونه بأنه سيأتي قريبًا (رؤ22: 7 و10 و12 و20 ومت 16:
27 و28 و10: 23 ورؤيا 3: 11 ويع 5: 8 وبط 4: 7 ويو2: 18 وتسا
4: 15 - 17 وكو 10: 11 و15: 51 52 إلخ) ويرد الملك لهم ويحكم
في الأرض ألف سنة كما في سفر الرؤيا (20: 4 و7) وأن يوحنا لا يموت
حتى يجيء المسيح (يو 21: 22) فلما مات يوحنا ومضت القرون ولم
يجئ رجعوا إلى عبارته في يوحنا فوجدوها لا تفيد ما توهموه، وأولوا
جميع عباراته المزعومة وعبارات غيره الدالة على قرب مجيئه (حتى ما
في متى 24: 3 و29 - 41) وقالوا: إن ملكوته روحاني لا دنيوي إلخ إلخ.
وقد بين علماء الإفرنج في كثير من كتبهم أن اليهود لكثرة اختلاطهم
بالأمم الوثنية وتسلطها عليهم ورؤية اليهود ما لهم من عز ومجد ومدنية
ولطول زمن خضوعهم لهم يئس كثير من خواصهم أن يكون مسيحهم المنتظر
سلطانًا دنيويًّا مخلصًا لهم من تسلط هؤلاء الأمم الأجنبية القوية، وتأثروا بما
عندهم فاقتبسوا بعض أفكارهم الوثنية في آلهتهم التي قالوا: إنها نزلت بإرادتها
إلى الأرض لخلاص البشر بالخضوع للموت والصلب، وطبقوا هم أيضًا هذه
الأفكار على مسيحهم، فقالوا: إنه سيكون شخصًا إلهيًّا أو ابنًا لله تعالى
وسيرسله لتخليص الناس بالموت والصلب طائعًا مختارًا. كما قال الوثنيون في
آلهتهم، فإن ميل اليهود للوثنية متأصل فيهم من قديم الزمان ولذلك كثيرًا ما
عبدوا آلهة الأمم وكفروا مرارًا بربهم وكانت نساء أورشليم يبكين على تموز
إله البابليين الذي قتل لأجل خلاص البشر ثم قام من الموت أيضا (حز 8:
14) وهذا هو سبب ورود بعض ما يشبه هذه الأفكار الوثنية في بعض كتب
العهد القديم كما في إشعيا (53) وميخا (5: 2-9) فلما جاء عيسى اخترع له
مؤلفو العهد الجديد بعد زمنه من الحوادث والصفات والأقوال ما يجعلهم قادرين
على تطبيق أوهام اليهود القديمة عليه (راجع مثلا ع 8: 26 - 40) هذا إذا
صح أن ما في تلك الكتب هو حقيقة إشارة إلى المسيح وصلبه وقِدمه كما يزعمون،
على أن أكثر اليهود كان يرى فيها خلاف ذلك ويعتقد أن المسيح لا بد أن يكون
ظافرًا منصورًا لا مغلوبًا مقهورًا كما هو صريح أكثر النبوات الواردة في شأنه
في العهد القديم (راجع مثلاً ميخا إصحاح 5 وزكريا 9: 9 - 17 وملاخي 3:
1 - 6 و4: 5 وإشعيا 11: 1 - 6 وأيضا إصحاح 42 منه إذا صح زعمهم أنه
في المسيح هو وما في حجي 2: 6-9) ولذلك كانوا يعدون الصلب أكبر
عثرة في سبيل إيمانهم به كما قال بولس (1 كو 1: 23) ولكن الآخرين منهم
اعتقدوا فيه كما اعتقد بولس، وكان توهمهم صلبه مما يؤيد اعتقادهم أنه هو
المسيح المنتظر لا يزعزعه؛ فلذا كان وقوع حادثة الصلب بالكيفية التي
شرحناها أولاً مما يؤيد قول فريق منهم بصحة مسيحية عيسى ويناقض
قول الآخرين. ولو وقع عكس ذلك بأن نجا المسيح ولم يشتبهوا في غيره لاعتقد
كونه هو المسيح كثيرون وخالفهم أيضًا آخرون مما يعتقدون وجوب تألم المسيح؛
فلذا كان وقوع حادثة الصلب وعدمها على حد سواء بالنسبة لهذه المسألة. على
أن من الأوجه التي سبقت أن رؤساء اليهود صلبوا عمدًا واحدًا غيره حينما نجا منهم
فلم يكونوا مخدوعين بل كانوا هم الخادعين للناس، وبسبب غشهم هذا انقسم الناس
في أمر المسيح إلى طوائف عديدة يعرفها المطلعون على تاريخ الكنيسة
المسيحية، فمنهم من جوز الصلب والعذاب على المسيح كبولس وأتباعه ووافقهم
على ذلك تلمود اليهود أيضا في القرن الثاني، ومنهم من لم يجوزه وهم جمهور
اليهود الآخرين للآن، ومنهم من اعتقد أن المصلوب هو عيسى وأنه إنسان وإله
أو كاذب، ومنهم من قال: إن المصلوب شخص آخر، ومنهم من يرى أن نبوات
التألم والعذاب تمت أو ستتم في المسيح المنتظر، ومنهم من يرى أنها ليست في
حقه بالمرة بل في موضوعات أخرى، ولله في خلقه شئون.
هذا وقد أفاد وقوع الصلب بهذه الصورة التي شرحناها فوائد:
(1) أن المسيح نجا من أذاهم.
(2) أن يهوذا على الوجه الأول وقع في الحفرة التي حفرها للمسيح
عقابا له على خيانته.
(3) عرف الناس خطأهم في الاعتقاد بأن المسيح لا يموت (يو 12:
34) وبأنه يكون حاكمًا دنيويًّا يرد الملك لإسرائيل، وأن الله لم يجعله فوق
نواميس الوجود كما كانوا يتوهمون (أفسس 1: 20 و21) .
(4) عرف بعض طوائفهم قديمًا وحديثًا بأنه ليس إلهًا وإلا لما صُلب،
على زعمهم رغم أنفه، ولما دعا الله طلبًا للنجاة وَلَما يئس المصلوب من
رحمة الله، ولولا ذلك لكان اعتقاد ألوهيته عامًّا بين أتباعه جميعًا في كل
زمان ومكان، ولما قال جمهورهم: إن فيه جزءًا ناسوتيًّا حادثًا [5] ولأجمعوا
على اعتباره كله لاهوتًا محضًا؛ لقرب عهد الأمم بالوثنية وشدة ميلهم إليها في
زمانه. راجع ما يقرب من ذلك المعنى في إنجيل برنابا (220: 14 - 21) .
فإن قيل: ولماذا لم يرسل الله نبيًّا بعد موته مباشرة ليخبر الناس بحقيقة
المسألة حتى لا يذهبوا إلى ما ذهبوا إليه في أمر خلاص البشر بصلبه، قلت:
إن هذه العقيدة وحدها بدون دعوى الألوهية لا ضرر فيها كبيرًا سوى أنها
خطأ نظري عقلي، ولم يكن اعتقاد الصلب هو الحامل لهم على دعوى
الألوهية له في مبدأ الأمر بل لم تحملهم حادثة الصلب نفسها وضياع الجثة
على القول بأكثر من أنه قام من الموت كما يعتقد المسلمون قيام الذي مر على
القرية (قر 2: 259) وكانت الدعوة الأولى إلى المسيحية كما في كتبهم
قاصرة على أن عيسى هو إنسان وأنه هو المسيح المنتظر وأنه صلب ولكنه
قام من الموت وجعله الله ربًّا وسيدًا كما جعل موسى (خر 7: 1) رغمًا عن
صلب اليهود للميسح راجع خطاب بطرس لليهود في سفر الأعمال أع 2:
22 - 36) ولما جاء بولس نبههم أو اخترع لهم [6] حكمة للصلب وهي
تخليص البشر بعد أن فكر في ذلك مدة طويلة منها ثلاث سنين تقريبًا اعتزل
فيها الناس في بلاد العرب وفي آخرها ذهب إلى دمشق (غل 1: 17 و18)
وربما وافقه بعض التلاميذ على هذه الحكمة التي أرشدهم إليها، والظاهر أنهم
خالفوه في غيرها من أفكاره كقوله بعدم وجوب الختان وجواز أكل ما ذبح
للأوثان (راجع غل 5: 2 و1 كو 6 و8 ورومية 14 وكو 2: 16 ثم اقرأ
رؤيا 2: 2 و9 و14 و3: 6) ولذلك ذمه يوحنا بعد موته في رؤياه هذه،
وقد سمى بولس إنجيله (إنجيل الغرلة للأمم غير اليهودية) (غل 2: 7-
10) وإنجيل تلاميذ المسيح (بإنجيل الختان) وكانت دعوتهم قاصرة على
اليهود فقط كدعوة المسيح عليه السلام نفسه (راجع كتاب دين الخوارق
Supernatural Religion فصل 3-7 من الجزء الرابع) .
(2) إن اختلاف البشر أمر طبيعي أراده الله ولا بد منه، ولو أرسل الله
رسولاً لبيان ذلك عقب المسيح مباشرة لآمن به بعض الناس، وكفر به
الآخرون ولما زال الخلاف من بينهم.
(3) لما كثر الفساد في عقائد الأمم قاطبة وفي مذاهبهم وعم جميع
شؤونهم الدينية والدنيوية وكثر سفك الدماء وظلم الأبرياء وخصوصًا عند
النصارى - أرسل الله محمدًا على فترة من الرسل فبين لهم الحق من الباطل.
(4) إن النصارى تقول: إن روح القدس نزل على تلاميذ المسيح بعده
وأرشدهم إلى الحق في كل شيء، فهل زال الخلاف من بين النصارى بسبب ذلك؟
لا إننا لا نرى أمة من الأمم اشتد اقتتالها واختلافها في كل جزئية من جزئيات الدين
والدنيا أكثر من النصارى، وخصوصًا بعد نزول هذا الروح المزعوم. فلهذا كله
اقتضت الحكمة الإلهية تأخير البيان حتى اشتدت حاجة الأمم كافة، واستعدت نفوس
البشر لقبول الإصلاح بعد أن عم الفساد الأرض، فجاء محمد على حين فترة من
الرسل كما قال القرآن الشريف (5: 19) بالإصلاح الذي ينشدونه وبيان الحق
الذي يتطلبونه؛ فلذا دخل الناس في دينه أفواجًا أفواجًا، وعم سلطانه الأرض في
وقت قصير لم يعهد له مثيل في تاريخ البشر، كما بينه الأستاذ الإمام في رسالة علم
التوحيد، وإلى الآن نرى الناس يقتربون من الإسلام شيئًا فشيئًا، حتى أوشك
حكماء أوروبا وعلماؤها أن يدخلوا فيه من حيث لا يشعرون؛ وسيكون - إن شاء
الله - هو دين الإنسانية العام في الأرض كما تدل عليه بوادر الأمور، ولا يهولنك
ضعف دوله الآن، فإن ذلك لا يعد شيئًا في جانب ما نراه من اقتراب جميع العقلاء
والمفكرين من عقائده اقترابًا كليًّا أو جزئيًّا حتى سادت العقائد الإسلامية على أذهان
كبار الناس اليوم في كل مكان (راجع ما تنشره جمعية العقليين (rationalists)
كالكتب التي تصدر من مطبعة Co Walts. شركة واطس بلندرة، ومن هذه
الكتب يتضح لك صدق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
* * *
(استطراد لا بأس به)
بمناسبة ذكر جبل الزيتون كثيرًا في هذه المقالة نقول ما يأتي:
سمي هذا الجبل بذلك لكثرة ما كان به من شجر الزيتون، ولهذا الجبل
شهرة عظيمة في تاريخ المسيح يعرفها المطلعون على الأناجيل، والأرجح أنه
أول ما نزل عليه الوحي كان عليه السلام هناك (راجع مثلا لو 4: 1 و5 و 9)
لذلك أقسم الله تعالى به في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ *
وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ} (التين: 1-3) أما التين فهو شجرة بوذا مؤسس الديانة
البوذية التي تحرفت كثيرًا عن أصلها الحقيقي؛ لأن تعاليم بوذا لم تكتب في
زمانه، وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما
ارتقى أتباعها. والراجح عندنا بل المحقق - إذا صح تفسيرنا لهذه الآية - أنه
كان نبيًّا صادقًا ويسمى سكياموني أو جوتاما، وكان في أول أمره يأوي إلى
شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولاً فجاءه الشيطان
ليجربه هناك فلم ينجح معه كما حدث للمسيح في أول نبوته (راجع لو 4:
1 -13) ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين تسمى عندهم التينة المقدسة،
وبلغتهم (أجابالا) (Ajapala) .
ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه
تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده:
{َلقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4) إلى آخر السورة، ولا يزال
أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددًا وأرقاهم.
والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها
الأولى فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية؛ لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان
تحريفًا عن أصلها كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير ثم يرتقي للتأكيد إلى
ما هو أعلى.
ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفًا، ثم اليهودية وهي أصح من
النصرانية ثم الإسلامية وهي أصحها جميعًا [7] ، وأبعدها عن التحريف
والتبديل بل إن أصولها (الكتاب والسنة العملية المتواترة) لم يقع فيها
تحريف مطلقًا.
ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ذكر ديني الفضل (البوذية
والمسيحية) أولاً ثم ديني العدل (اليهودية والإسلام) ثانيًا للإشارة إلى
الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولاً ثم تربية الشدة والعدل، وكذلك
بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب، ولا يخفى على الباحثين التشابه
العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما، وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما
فلذا جُمع الأولان معًا والآخران كذلك.
وقدم البوذية على المسيحية؛ لقدم الأولى كما قدم الموسوية على
المحمدية لهذا السبب بعينه، ومن محاسن الآية أيضًا: الرمز والإشارة إلى ديني
الرحمة بالفاكهة والثمرة، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية: مكة،
وهي البلد الأمين، ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون
ينبتان كثيرًا في أودية الجبال كما في جبل الزيتون بالشام، وطور سيناء
وهما مشهوران بهما، فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي، وأكرم أماكن
التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة الذين بقيت شرائعهم للآن، وأرسلهم الله
لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم.
(استدراك)
نص كتاب صدق المسيحية The Truth Of Christianity في ص 560
على أن المسيحية انتشرت قديمًا في بلاد الهند، فلعل ذلك مما يساعد على
القول بالهجرة الهندية السابقة.
__________
(1) جاء في كتاب حكايات من العهد الجديد لمؤلفه جولد الإنجليزي ص 126 أن رؤساء مدينة أورشليم لو كانوا اهتموا بأمر المسيح إذ ذاك، لأرسلوه إلى رومية أو لأنفذوا فيه العقوبة وحده اهـ فإذا كانوا عاملوه معاملة اللصوص وصلبوه بينهم فهل أبلغ بيلاطس اللصين أيضا إلى رومية؟ إذا كان ذلك فأين ما يؤيده من تواريخ الرومان القديمة التي ذكرت حادثة الصلب لتعيير النصارى وتحقيرهم كما يقولون؟ فأي تحقير أبلغ من ذكر صلب إلههم بين اللصوص إذا كانوا سمعوا به؟ وإن لم يكن بيلاطس بلغ خبر اللصين إلى رومية فلماذا إذًا أبلغ خبر المسيح إليها مع أنه بإجماع المؤرخين
لم ينظر إليه بأكثر مما ينظر به إلى آحاد اليهود وضعفائهم؟؛ إذ لم يأت المسيح بأقل شيء يمس الرومان ودولتهم مطلقا، فإن قيل: إذا كانت معجزات المسيح التي ذكرها القرآن حقيقية، فلماذا لم يذكرها مؤرخو اليهود والرومان فيما ثبت أنهم كتبوه من التاريخ؟ قلت: لأن جل هذه المعجزات وأعظمها كان يعملها عليه السلام بعيدًا من أورشليم في بعض القرى الصغيرة أو الخلوات بين تلاميذه وبعض عامة اليهود، وما كان يجيب أحدًا منهم عن طلبه حينما يقترحون عليه عمل المعجزات (راجع مثلاً يو 2: 18-20 و6: 30-40 ومر 8: 11 و12 ولو 22: 64) وغير ذلك، فلم يَرَ الرؤساء من اليهود والرومان آياته، وإنما كانوا يسمعون عنها من عامتهم، حتى إن أكبر معجزاته وهي إحياء لعازر بعد دفنه بأربعة أيام لم يروها بأنفسهم، وإن سمعوا عنها ممن آمن به لأجلها من عامة اليهود (يو 11: 45 -47) وكذلك هيردوس كان يسمع عن آياته وما رأى شيئا منها بنفسه حتى لم يجبه المسيح عما طلب منه (لو 23: 8 و9) (وما راءٍ كمن سمع ولو كان مؤمنًا فما بالك إذا كان السامع كافرًا به فيذهب في تأويل ما سمع مذاهب شتى ولا يصدق) وهؤلاء المؤرخون كانوا من خواص اليهود والرومان ولم يروا شيئًا بأنفسهم، فما كانوا يصدقون ما يسمعون، ولا ينتظر منهم أن يدونوا في تواريخهم ما لا يعتقدون. أما معجزة خلق (أي تقدير وترتيب) قطعة من الطين كهيئة الطير وصيرورتها طيرًا بإذن الله، والكلام في المهد، فوقعتا في صِغَره وفي مدينة الناصرة وهي قرية في الخليل صغيرة حقيرة عند اليهود ولم يكن فيها أحد من كبار الرجال ومشاهير الكُتاب، فلذلك لم يروهما أحد غير بعض أتباعه الجليليين، فذكرتا في إنجيل توما وإنجيل الطفولية وغيرهما من الأناجيل غير القانونية عند النصارى الآن، ونسيها الآخرون منهم لبعد زمنها ولوقوعها قبل أن يشتهر أمر عيسى بين الناس. وأما قصة تفتح القبور وقيام كثير من أجساد الراقدين ودخولهم مدينة أورشليم وظهورهم للناس كما قال متى (27: 51 - 54) فإنما أنكرناها؛ لأنهم ادعوا أنها وقعت في أعظم مدن اليهود حيث يوجد كبار الرجال منهم ومن الرومان، ومع ذلك لم يروها أحد غير متى، ولم يروها إنجيل آخر مما كتبه نفس أتباع المسيح مع القول بأنها وقعت بعد أن ذاع صيته وكان له أتباع كثيرون.
(2) حاشية: إذا سلم أن بيلاطس أرسل عن صلب المسيح تقريرًا إلى رومة اطَّلع عليه تاسيتوس كما يدعون، فلا يُعقل أن بيلاطس لا يذكر في هذا التقرير اسمه يسوع، فكيف إذًا جهل تاسيتوس وغيره هذا الاسم كأنه ما سمع به أفلم يره في هذا التقرير المزعوم! ! .
(3) لما دخل الرومان وغيرهم في المسيحية جعلوا يوم الأحد - وهو يوم عبادة الشمس أعظم آلهتهم- العيد الأسبوعي لهم بدل سبت التوراة؛ وجعلوا يوم 25 ديسمبر (وهو يوم ميلاد الشمس أيضا) يوم الميلاد للمسيح عليه السلام، فحملوا بذلك وبغيره وثنيتهم إلى النصرانية (راجع تاريخ جولد مجلد 1 ص54) .
(4) راجع كتاب (الإسلام) تعريب فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية بمصر.
(5) حاشية: هذا إذا سلمنا صحة ما جاء في سفر الأعمال، ولكن الأظهر عندنا أن النصارى لم تجاهر بدعوى القيامة أمام المخالفين لهم، ولم يدعوهم إليها علانية إلا في القرن الثاني للمسيح؛ ولذلك لم يرد في تاريخ من التواريخ القديمة لليهود أو الرومان أو غيرهم أن النصارى كانت تقول بتلك العقيدة أو تدعو الناس إليها جهرًا في تلك الأزمنة الأولى، فكيف لم تذكر التواريخ ذلك، ولو على سبيل الاستهزاء والسخرية؟ وقد كان عدد المسيحيين إذ ذاك في العالم مما يستحق الذكر كما يقولون.
(6) حاشية: إذا صح أن هذه العقائد كانت عند بعض خواص اليهود من قبل عيسى بسنين عديدة أخذًا عن الوثنيين، كما يقول علماء الإفرنج الآن - كان بولس هو فقط أعظم من أرشد عامة اليهود إليها وتوسع فيها وأتقن تطبيقها على المسيح ودعا بعض الأمم الأجنبية إليها، ولكنه مع ذلك ما كان يعتقد في عيسى الألوهية الحقيقية الكاملة، بل اعترف كثيرًا في رسائله أنه فقط رب - أي سيد - وخلقه الله قبل جميع الخلائق (كو 1: 15) وأخضع الله له كل شيء، وبه خلق كل شيء (1 كو 8: 6) فهو عنده ليس قديمًا كالإله تعالى، بل منه استمد وجوده وقدرته، راجع أيضا أمثال 8: 22 - 31 وهو أقل منه درجة وخاضعًا له (1 كو 15: 27 و28 و11: 3) وأما مساواة عيسى بالله تعالى في كل شيء وخصوصًا في الجوهر والمقام والأزلية، فبولس لم يعرفها كما هو صريح جميع رسائله، وإنما هي مسألة سَرَتْ إلى النصرانية بعد بولس من فلسفة الرواقيين في الكلمة، وفلسفة يهود الإسكندرية فيها، وخصوصًا فيلو Philo الذي كان معاصرا للمسيح، والظاهر أنها لم تصل إلى كتب العهدين التي بقيت إلى الآن خالية من كل نص صريح قاطع يدل على الألوهية الحقيقية للمسيح ومساواته للأب المساواة التامة في كل شيء، بل جميع عباراتها تنافي هذه العقيدة (راجع أيضًا كتابنا (دين الله) فصل 2 صفحة 67 و77) .
(7) قال العلامة أرثر دروز (Arthur drews) في كتابه (شهود تاريخ يسوع ص 295) : إن الإسلام هو الدين العظيم الوحيد الذي نعرف عنه باليقين أن مؤسسه كان شخصًا له وجود حقيقي تاريخي. اهـ وقد ذكر هذه العبارة بعد أن أظهر شكه من الوجهة التاريحية في سائر مؤسسي الأديان الأخرى.(16/193)
الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي
__________
خطبة لرأس هذه السنة الجديدة
سنة 1331 هجرية [1]
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ
مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن
تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ} (الملك: 1-2) {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً
بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18) {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَأَصْلَحَ بَالَهُم} (محمد: 2) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ
وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما} (الأحزاب: 40) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:
56) .
اللهم صلِّ على نبيك رسول الرحمة، وكاشف الغمة، ومزيل النقمة،
وعلى آله وأصحابه أجميعن، ومن اهتدى بهديهم في الأولين والآخرين،
واجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ *
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ
شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ
كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} (آل عمران:
138 - 143) {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ
وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزمل: 19) .
أيها المسلمون، مرت الليالي والأيام وتعاقبت الشهور والأعوام،
والأمة الإسلامية في كل موضع ومقام، تُظلم وتُضام، وتُداس بالأقدام، عند
جميع الأقوام وهم {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ} (التوبة: 10) ولا ينظرون إلى مسلم بعين إنصاف أو رحمة، وإن من شهد
هاتيك الأعوام الماضية، وتلك الأيام النحسة الخالية، هذا العام الذي طويت
صحيفته من الوجود، ومحيت أيامه ولياليه من الخافقين فلا تعود {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ
المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا} (الأحزاب: 11) وعم الويل والثبور القريب
منهم والبعيد، فقد انتابتهم النوائب الماحقة، وصبت عليهم المصائب الساحقة،
وألمت بهم الرزايا العديدة، ونزلت بساحتهم البلايا المبيدة، وأحاطت بهم
المهالك، فجعلت أيامهم البيض سودًا حوالك، وها هي ذي الأمة الإسلامية تردد
النفس الأخير، وسيقضى عليها - لا قدر الله - إن لم يتداركها برحمته العزيز
القدير] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [
الأعراف: 34) .
انظروا بعيني البصر والبصيرة إلى هذه الأمة الكبيرة، ذات العزة
والسطوة، والمنعة والقوة، والأيام المشهورة والآثار المسطورة، تروها على
وجه هذا الصحصحان ككرة الصولجان، تتقاذفها الفرسان، وتطاردها
الفتيان، وتقلبها في الميدان، وهي لضعفها طوع صوالجهم، ولعجزها تبع
إرادتهم، لا ترد ضربة ضارب، ولا تكف يد لاعب {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: 30) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس: 44) .
تأملوا رحمكم الله وأصلح بالكم، في هذه الأمة الكريمة، ذات الشهرة
العظيمة، والرعب والرهبة، والفتح والغلبة، تجدوها بين الأمم، كقطيع من
الغنم، غاب عنها راعيها وقد خيمت عليها الظلم، فانقضَّت عليها ذئاب الغرب
المتمدنة، وثعالب تمدن هذه الأزمنة، تنهشها بالأنياب والحراب، وتمزق
منها الجلباب والإهاب، وتسومها سوء الهوان والعذاب، تقطع أوصالها،
وتستلب أموالها، تقتطع ممالكها مملكة فمملكة وتجرها من مهلكة إلى مهلكة،
تغتصب بلدانها وتختطف تيجانها، تستنزف دماءها، وتمزق أشلاءها،
مرتكنة في استباحة أفعالها على حجج لا مبرر لها، ودعاوي أوهن من بيت
العنكبوت، وإنه لأوهن البيوت، وأمتكم تستغيث بالإنسانية ولا إنسانية لدى
القوم، وتستجهر بالمروءة وقد ماتت ومات أهلها من بينهم اليوم، تناشدهم
شفقة الأخوة الآدمية، وتذكرهم بالحقوق الملية، والمعاهدات الدولية، وهم
يتصاممون عن سماعها، ويُنغضون إليها رءوسهم استهزاءً بها، تخوفهم
عاقبة هذه الدار، وعقاب القوي الجبار، لكل ظالم ختار، وهم لا يرهبهم إلا
الحديد، والعدد العديد من الأبطال الصناديد، أولي الأيد والبطش الشديد،
ولا تخيفهم إلا الجماعة المتساندة، والعصبة المتحدة، والفئة المتعاضدة ذات
القلوب المتوادة والأهواء الواحدة، والمقاصد المتماثلة والأعمال المتواصلة،
والآراء السديدة والمساعي الحميدة، والهممم العالية والمطالب السامية، ولا
ترعبهم السيوف البتارة والجيوش الجرارة والخيل والعدة والبأس والشدة،
والشهامة والنجدة ولا تفزعهم إلا البواخر الماخرة والقلاع الزاخرة، والمدافع
المزمجرة، والقذائف المدمرة ولا تردعهم إلا الرعاة الساهرة والقواد الماهرة،
والذخائر الوافرة، والنيران الملتهبة والليوث المتأهبة ولا يردهم عنكم أيها
المسلمون الساهون اللاهون، إلا الاهتداء بتعليم القرآن والامتثال لأوامر
الرحمن والمبادرة إلى العمل بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُون} (الأنفال:
60) .
وأنى للأمة الجاهلة اللاهية الغافلة بمثل هذه الصفات الفاضلة؟ وأين
منها هذه المزايا الفضلى والمعاني الجلى، وقد اشتغل سادتها وكبراؤها، وأمراؤها
وزعماؤها بالألقاب العاطلة، والفخفخة الباطلة عن إعداد القوة المرهوبة، وتهيئة
العُدد المطلوبة، وبفتح زجاجات الخمور عن تحصين الثغور، وبتشييد القصور
والتفاخر بالرياش والملابس عن تشييد القلاع والحصون وإنشاء المدارس، وبنصب
مراسح التمثيل، ورفع منصات السفه والأباطيل عن تأسيس المعامل لبناء
الأساطيل والبواخر، وعمل الخراطيش والأسلحة والذخائر، وبالخرافات
والترهات عن إقامة المصانع لإبراز المصنوعات، وبالركون إلى البطالة
اعتمادًا على موهوم الإمارة، عن تعميم الزراعة وتنشيط التجارة حتى
تكثر الثروة وتعز القوة، وبالتخيلات الشعرية والشهوت البهيمية عن العلوم والفنون
والمعارف العصرية، وبمطالعة روايات الفحش والفجور عن تواريخ الأمم
ووقائع الدهور، وبسير الفجار والأشرار عن سير القواد الكبار والأسلاف
الأخيار، وبتلقف أخبار زمرة الفسق والدعارة عن النظر في أحوال الأمة
والمملكة أو الإمارة، وبمعاقرة بنات الدنان، ومعانقة الغيد الحسان، عن تلاوة
القرآن لمعرفة أوامر الرحمن، وبالانهماك في قصص البغايا والبغاء، عن
الالتفات إلى أحاديث خاتم الأنبياء، وبالاعتناء الشديد بقول الخناس الوسواس، عن
الاهتداء بقول ذي العرش المجيد: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: 25) وبالتفاني في طاعة النفس والهوى، في كل ما يضرهم ولا
ينفعهم، ويفسدهم ولا يصلحهم، وهم غافلون لاهون، لا يحسون ولا
يشعرون، عن امتثال أوامر فالق الحب والنوى، مما به يعلون ويعتزون، ولا
يهِنون ولا يُحزنون، ويُحترمون ويُهابون، ولا يُهانون ولا يُظلمون، يبيتون
لياليهم سجدًا ولكن في المراقص والحانات. وركعًا ولكن على مناضد
الخمور والمغيِّبات، وخُشَّعًا ولكن لأصوات المغنيات، ووسواس حلي
الراقصات، ويقضون نهارهم في سررهم نائمين، لا يهمهم من أمري الدنيا والدين،
إلا تناول المساحيق وابتلاع المعاجين {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} (المؤمنون: 106) {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ
} (الأحزاب: 67) ، {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} (الأعراف: 38) {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8)
فهل - والحال هذه - يفرح ذو شعور باختتام عام وافتتاح عام؟ أو تنشط نفس
مسلم غيور إلى السرور بتجدد الشهور والأيام؟ وهل يستلذ بمنام أو يهنأ بطعام
من يشاهد حال هذه الأمة، التي تراكمت عليها الخطوب المدلهمة، ويرى غفلة
رعاتها عن الواجبات الجمة، وتقاعدهم عن الأمور المهمة؟ ألا يليق بذي الإحساس
أن يبكي بدل الدمع دمًا؟ ألا يجدر به أن يلبس حدادًا على هذه الأمة ثوبًا أقتمًا
ألا يجب على كل مسلم أن يقبل على رب العالمين ويتضرع إليه بقلب خاشع
حزين، ولسان صادق مبين، قائلاً في كل وقت وحين {أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) ألا يجب على المسلمين أن يسارعوا إلى
التوبة من كل باب، ويقلعوا عن المعاصي التي جلبت عليهم أنواع الهلاك
والخراب، وينيبوا إلى الرءوف الرحيم، ويستغفروه قائلين: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً
لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (يونس: 85) {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ
أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم} (الممتحنة: 5) ألا يجب عليهم أن يجددوا الإيمان،
ويوقنوا بوعد وعهد الواحد الديان، فيعملوا بتعليم القرآن، ويهتدوا بهدي أكمل
وأشرف بني الإنسان، ويقتدوا به صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه أصحاب العزم
والحزم، ويقبلوا على إصلاح الحال، بتطهير النفوس والعقول من الغي
والضلال، والزيغ في الأقوال والأفعال، والانحراف عن الجادة المثلى في
النيات والأعمال، فيبادروا إلى تدارك ما فات عاملين مجدين، وعلى ربهم
متوكلين، وإليه لاجئين، وله خاضعين، ومنه مؤملين، وبحبله معتصمين،
متضرعين إليه مبتهلين، ولعفوه ونصره ومدده ومعونته طالبين، قائلين: {رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِين} (آل
عمران: 147) {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} (البقرة: 286) .
فاليقظة اليقظة أيها النائمون، والانتباه الانتباه أيها الغافلون، والعمل
العمل أيها المقصرون، والوجل الوجل أيها المفرطون، والحذر الحذر أيها
المتكاسلون، قبل حلول القضاء المبرم، ووقوع البلاء المحتم، من القوي
الجبار، المنتقم القهار، على من عصى وتجبر، وعرف الحق ثم أنكر،
وزاغ بعد الهداية، ولم يتعظ بما مضى في البداية، ولا تَفَكَّرَ في العاقبة
والنهاية {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً
وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} (الطلاق:
8-9) {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ
لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} (هود: 8) فالفرار الفرار
من موجبات العذاب النكر والحساب الشديد، والبدار البدار إلى امتثال أوامر
العلي المجيد، الفعال لما يريد {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (التوبة: 70) - {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ
المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (التوبة: 16)
أيها المسلمون - جربتم العصيان فجربوا الطاعة، وعملتم للباطل
فاعملوا للحق من هذه الساعة، وذقتم مرارة الإفراط والتفريط والإسراف
فذوقوا حلاوة القصد والعدل والثبات والاستقامة فإنها أربح بضاعة. وسعيتم
للخزي والعار وتمسكتم بالموصلات إلى النار، وغضب الجبار، فاسعوا للعز
والشرف والفخار، وتمسكوا بالمدخلات في رضوان الله وجنته دار القرار،
فالله الله في أنفسكم أيها المسلمون والتوبة مقبولة والرحمة مبسوطة والطريق
ممهد لا يخيب فيه السالكون، والسرعة السرعة يا خير الأمم. قبل أن يؤخذ
بالكظم، وتندموا فلا ينفعكم الندم، واذكروا قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ
الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لاَ
تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً
وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (الزمر: 53-55) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (المائدة: 11) - {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي
وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (المائدة:
7) {َاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} (الأعراف: 86) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُم مِّن
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا} (الأحزاب: 9-10) {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ
تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69) .
__________
(1) ألقاها السيد عبد الحق حقي الأعظمي البغدادي الأزهري نائب أستاذ الشعبة العربية في الكليات الإسلامية الكبرى في عليكره بالهند، وطبعت على حدتها بالعربية مع ترجمتها بالأوردية على نفقة الشاب النجيب المهذب الشيخ عبد الرحمن الذكير نجل التقي الصالح الشيخ مقبل بن عبد الرحمن الذكير التاجر الشهير في البحرين.(16/217)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
الفهم والتفاهم
كنا نود أن لا يأتي الزمان شاهدًا بليغًا بصحة ما كنا نقول ونصف من
مضارِّ الابتعاد عن الفهم والتفاهم، أمَا وقد أتى الزمان بهذه الشهادة التي
سمعتها كل أذن، فنحن غير ضانِّين بإعادة التذكير علَّ الحياة التي يرجى
شيء منها لقومنا في الأيام الآتية تكون في تقويم أحسن وشكل أمتن.
عهِدنا القومَ يقولون: نحن نؤمن أن البارئ عز وجل قد أكرمنا بهداية
عظيمة، ولكنا لا نفهمها إلا بواسطة فلان وفلان، ولتعدد الذين هم أئمة
ومقتدَون لهم رأيناهم متباغضين أشد التباغض، ومتنافرين أشد التنافر، وما
ذلك إلا لأن فهم الإمام فلان قد خالف فهم الإمام فلان؛ ولكل منهم إمام معلوم،
وأعظم هذا الافتراق قد وقع بين الذين يسمون الشيعة وبين الذين يسمون
السُّنية، ولم ينمُ ويترعرع ذلك بين هاتين الفئتين الكبيرتين إلا بسبب عدم
التفاهم، ولم يبعدهم عن التفاهم إلا قول كل واحد من كل فريق منهم: نحن لا
نفهم. فلست أدري اليوم - من بعد أن رأوا ما نزل بساحتهم - أيبقى باب
الفهم والتفاهم مسدودًا فيما بينهم، أم يتشاءمون بذلك السد ويرجون ما ترجوه
الأمم الفاهمة من فوائد الفهم والتفاهم.
نعم لست أدري أيبقون مصرين على سد ذلك الباب، وإن أصبح البيت
خرابًا أم يلهمهم الله معرفة أن الفهم والتفاهم ليسا بمحالين كما ظنوا؟ وكذلك
لست أدري ما هي الفوائد التي ينتظرونها من ذلك السد بعد أن أدى الافتراق
والابتعاد عن الفهم إلى ما صار إليه هؤلاء المفترقون الذين يقولون: نحن أهل
ملة واحدة؛ وما أدراك ما صار إليه هؤلاء أجمعون؟ إنهم صاروا إلى أسوأ
ما تصير إليه الأمم.
نحن لا نقصد بهذا تقريعًا، ولا نرمي به إلى وقيعة، غفرانك اللهم إن
علق شيء من هذا بنيتنا، أو مر بخاطرنا، كلا بل ليس قصدنا إلا التذكير وما
نحن بناسين ولله الحمد ما للناس من العذر في ذلك الموقف الذي وقفوه قرونًا
متطاولة، نعني به موقف الاقتداء بالآباء والجدود فيما تعلقوا به من تقديس
فُهُومِ بعض المتقدمين، والتبرؤ من فهومهم أنفسهم، فإن استعداد أكثر الناس
آخِذٌ بهم إلى مثل هذا.
إي والله إنما نقصد التذكير لا التقريع، ولكي نزيد هذا تأكيدًا نصف ههنا
كيف يخلص التقليد إلى أكثر النفوس، وكيف يخلص منه بعضها، فاقرأه أيها
الأخ وأنت ذاكر سنن ربك عز وجل، تخرج منه إلى ثمرة عظيمة النفع إن شاء
الله تعالى.
كان الناس أمة واحدة في أوائل أمرهم فما لبثوا أن أتت عليهم المفرقات
فأصبحوا أممًا في الأوطار والأفكار، كما صاروا أمما في الأوطان والديار،
وأعظم ما طرأ عليهم من المفرقات هو الفضل الذي يوجد في علوم بعضهم
على علوم الآخرين، ولو شاء الله تعالى أن يكونوا جماعة واحدة فحسب
لفطرهم على نحو ما فطر سائر أنواع الحيوان من تساوي أفراد كل نوع منها
في المدارك تقريبًا، أمَا وقد جعل الفاطر عز وجل بين أفراد النوع الإنساني
هذا التباين العظيم في الإدراك والإجادة؛ فإننا نفهم حينئذ أنه سبحانه قد قضى
أن لا يكون الناس أمة واحدة، فكانوا على ما نراهم عليه أممًا وجماعات؛ ولله
سبحانه الحكمة البالغة، على أنه قد لطف بعباده فخلق لهم مع أسباب التفريق
أسباب الجمع، وكما جعل في تفاوت الإدراك شيئًا من الضرر قد جعل فيه
ذروا من النفع، فمن كانت شهوته من فلاسفة الإنسانية أن يكون البشر على
عقل واحد فإنما يتيسر له ذلك بإعدام كل من يخلق في مداركه شيء من
الفضل على مدارك غيره.
أما الذين عافاهم الله تعالى من تلك الشهوة فأولئك يعلمون أن هذا النوع
لم تتمزق أوصاله بتفرعه إلى أمم معدودة محدودة معهودة، كلا، بل بسقت
بذلك دوحته وعظم أصلها، وازدادت قوتها، وأصبحت بحيث لا يضيرها أن
تذبل بعض فروعها.
نعم نعم، قد خلق الفاطر سبحانه أسباب الجمع كما خلق أسباب التفريق
ومن جملة أسباب الاثنين معًا ذلك الاقتداء الذي جعله غريزة في البشر عامة
شديدة الالتصاق، فبما توحيه هذه الغريزة يمشي الملايين من الأبناء والبنات،
على ما عليه مشت الملايين من الآباء والأمهات، ويظلون على ذلك عصورًا
كثيرة من غير ما تغيير ولا تبديل إلا قليلاً لا يكاد يعد مفرقا لشمل هذا الجمع
العظيم، وهكذا يكون شأن سائر الجموع والأمم كما هو مشاهد، وبما خص
به العقل الإنساني الذي جعله الله جوّالاً ولم يوزعه على الأفراد بالسوية، نرى
أنه مهما وقف الاقتداء بملايين من بني آدم عند الحد الذي وقف فيه آباؤهم
يقوم أحيانًا فرد من بين تلك الملايين تتقد فيه جذوة من ذلك المشرق العقلي
وتدفعه إلى التماس ما هو أحسن مما وقفت عنده أمته، وحينئذ يجدهم
معارضين له، فإن نجحوا أخمدوا جذوته، وإن نجح دخل بأمته في خلق
جديد، أو خرج منها بأمة حديثة في الوجود، ولذا لا يمدح الاقتداء من حيث
هو مطلقًا؛ لأنه قد يوقف الأمم وقفة واحدة، ولا يذم مطلقًا؛ لأنه به تتكون
أمم وبه تنتقل في أطوارها، وأنت تراه تارة صديق النوابغ؛ إذ لولاه لما
وجدوا تابعًا ومُظاهرًا، ولولاه لما ظهرت مقادير هممهم عند مقاومة الأجيال
لهم، وطورًا تراه عدوهم؛ إذ لولاه لما وجدوا تلك العقبات الهائلة في سبيل
الإصلاح؛ ولأجل هذا ترى الذين ينظرون إلى الأمور من جهة واحدة منهم
من يحسب فيه كل الفوائد ومنهم من يخال كل المضار فيه.
أما الذين يمعنون النظر في الأشياء ويسلم نظرهم من شوائب الهوى
الخاص، فأولئك يعرفون انقسام أكثر الأشياء إلى أجزاء أو جهات بعضها نافع
وبعضها ضار، ويعرفون المقادير والحدود التي بينها فيعطون كل شيء حقه،
ويذكرون له حدَّه، فإذا مر هؤلاء باقتداء ضارّ ذكّروا بالعقل، وقالوا: إن
الإنسان لا يليق به الجمود، وإذا مروا باقتداء نافع ذكّروا بالفضل الذي جرت
سنة الفاطر أن يمنحه بعض الأفراد ونفّروا من الجحود، ألا ترى القرآن
المجيد كيف يقص من مناقب الأنبياء لأكرم رسله محمد صلى الله عليه وسلم
ثم يقول له: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) أََوَلا تراه
كيف عاب على الذين صدفهم اقتداؤهم بآبائهم عن الإيمان بفضل الله تعالى
الذي خص به الأنبياء عليهم السلام؟ وكيف هزَّ عقولهم هزة قوية بقوله:
{َأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) ؟
هذا وإذ كان المقتدَى الأعظم في الملة الإسلامية هو ذلك الوحي الذي
نزل على محمد الأمين صلى الله عليه وسلم، كان من شأن الذين يتخذون
مقتدَين آخرين سواه أن يكون ضرر اقتدائهم ذلك أكثر من نفعه؛ لأن
المتمذهب بمذهب رجل من الذين يقال لهم أئمة السنة، إن قال: إن مقتداي رجل
من علماء السلف الأبرار، يجد تجاهه مخالفًا من الذين يقال لهم الشيعة يقول
له: إن مقتداي أيضًا رجل من علماء السلف الأبرار، ولا يستطيع الذي يسمي
نفسه سنيًّا مثلاً أن يقول: إن الإمام جعفر أو الإمام زيدًا رضي الله تعالى
عنهما ليسا من علماء السلف الأبرار، وإنما قصاراه أن يقول: إن هؤلاء
الذين يقال لهم الشيعة ليسوا في الحقيقة على مذهب جعفر أو زيد، وهذا لا
يلتفت إليه الجعفري أو الزيدي، وليس هو من المناظرة القانونية في شيء.
ومن أعجب ما في مضار هذا الافتراق الذي جاء به هذا التقليد أنك
أصبحت ترى جميع أقطاب الأمة وكبار علمائها مرنوا بسببه على اليأس من
الصلح بين هاتين الفئتين الكبيرتين في الأمة حتى كأن هذا الأمر - أي الصلح
بينهما - ليس مما يعني الأمة وليت شعري كيف يتيسر الصلح ما دام باب
التفاهم مسدوداً، وكيف يفتح باب التفاهم ما دام الجماهير جيلاً خلف جيل لا
تجول أفكارهم في مسألة من المسائل ولا يقولون فيها بقول من الأقوال إلا
قول رجل من أولئك الرجال القليلين الذين اتخذوهم مقتدَين، هذا على تسليم
بأن فلانًا وفلانًا الذين يعنونهم لم يُحصِّلوا في فهومهم تلك إلا ظنًّا، وعلى
تسليمهم أن الحق ليس في ظنونهم تلك على وجه اليقين والجزم والتعيين، فإلى
متى يا قوم هذا؟ ومتى تأذنون بفتح باب الفهم والتفاهم؟
عبد الحميد الزهراوي
حاشية للكاتب: إني ألهمت تحرير هذه المقالة على إثر اطلاعي على
كتاب (العلم الشامخ) الذي نشر في هذه الأيام، وإني رأيت أن مطالعته تفيد
كثيرًا في زحزحة مُطَالِعه عما ألفه من التقليد الضار الذي يحول بينه وبين
الفهم والتفاهم ويشوش عليه الإخاء الذي يوجبه الدين، فمن أحب أن ينال حظًّا
من العلم الصحيح فليمر به مرور تدبر واستقلال.
__________(16/222)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني [*]
إن غرض الأمم الذي ترمي إليه في هذا الوجود إنما هو الحياة: الحياة
الاجتماعية والحياة السياسية، أي أن يكون لها وجود اجتماعي راقٍ، ووجود
سياسي ثابت.
ومن الضروري أن تسعى الأمة لكلا الوجودين في منهجهما القويم
الموصل إلى الغاية، وتُعنى بهما جميعًا، ولا تقصر مجهوداتها على بلوغ
غاية أحدهما دون الآخر؛ لئلا يكون مثلها كمثل من علم بركاز من الذهب في
مكان، فأسرع إليه بكل ما تصل إليه قوته وجهده، فلما بلغه لم يجد معه أداة
لاستخراج ذلك الركاز، فرجع القهقرى من حيث جاء واهي القوى خائب الأمل
والرجاء.
فالقوانين الاجتماعية مهما كانت راقية قل أن تضمن الحياة لأمة إذا لم
تكن قائمة على أساس متين هو القوانين السياسية. ومهما عنيت الحكومة بتنظيم
قوانين الحياة الاجتماعية للأمة وأكثرت من مشروعات الإصلاح في المملكة في
التعليم والاقتصاد والإدارة والقضاء ونحو ذلك - فإنها لا تخرج في هذا كله عن
معنى الوصاية على محجور عليه لا يملك التصرف بشئون حياته الخصوصية
ليثبت لنفسه وجودًا صحيحًا بين الناس، ويعمل لسعادته جهد العامل المجد.
ولذا أصبح لهذا العهد شكل الحكومات التي تقوم به الحياة السياسية، لكل
أمة همُّ جميع الأمم، وصار من المسلَّم بالبداهة أن وجود الأمة السياسي
والاجتماعي بين مجاميع الإنسان الحية متوقف على شكل الحكومة؛ فكلما
كانت مشاركة الشعب للحكومات أكثر، كان ذلك لدوام وجوده أضمن.
لهذا السبب تكاد تكون سائر الحكومات التي للأمم المستقلة اليوم دستورية
شعبية لا شأن فيها لسلطة الأفراد، بل الشأن لعامة الأمة ومشاركتها للحكومة
في كل جليل وحقير من الشئون العامة، إلا أنها تتفاوت في ذلك منازل
ودرجات وتختلف في الشكل اختلافًا روعي فيه الاجتهاد والنظر إلى حالة
الشعوب الاجتماعية والعرفية والقابلية والاستعداد.
ومما يثبت بالتجارب لهذا العهد أن أفضل شكل من أشكال الحكومات هو
الدستوري، وأفضل أشكال الدستوري هو اللامركزية خصوصًا في الممالك
التي تعددت فيها الفروق والمذاهب واللغات، واختلفت العوائد والتقاليد
والأخلاق، فكان من المتعذر أن تساس بقانون واحد لم تراعَ فيه تلك الأحوال،
ولم ينظر معه في الحاجة والزمان والمكان.
ثبت ذلك بالتجارب كما ثبت أن اللامركزية هي أفضل مربٍّ لأفراد الأمة
على الاستقلال الذاتي الذي هو خير وسيلة لترقي الأمم؛ لأنها - أي اللامركزية -
تأبى بطبيعتها أن تكون تبعة الحكم مقصورة على أفراد قليلين تصدر عنهم
القوة والعمل إلى كل ناحية من أنحاء المملكة فيكونوا كالمحرك في آلة كبيرة
جدًّا إذا أصابه عطب أو ضعف تعطلت أجزاء سائر الآلة عن العمل دون أن
يكون لأي جزء من هذه الأجزاء قوة ذاتية يعمل بها بنفسه ودون أن يكون مسئولاً
عن نتيجة وقوفه عن العمل.
ومن البديهي أن الشعب غير المسئول عن أي خطأ يصدر عن حكومته
لا يشعر كل فرد منه بالتبعة، فلا يهتم بنتائج خطأ الحكومة إلا بعد الوقوع فيه،
ذلك لأنه مُسَيَّر بإرادة غيره، لا سلطة له حتى ولا على نفسه؛ لأنها محكوم
عليها أن تسير في السبيل الذي يريده غيره، وإن خالف رغبته ومصلحته
وهواه.
فاللامركزية توزع التبعة على أفراد الأمة بمقدار ما تعطيهم من السيطرة
على مصالح الوطن، وبسبب ذلك تنزع عنهم ثوب الحياة الاتكالية الخَلِق
الممقوت، حياة الاعتماد على غير النفس، وتفسح أمام كل فرد مجال العمل
الواسع في جهاد الحياة، وتمهد للشعب بلوغ غايات المدنية والترقي والعمران
من أقرب سبيل في وقت قصير، والعكس بالعكس.
مثاله ما نراه لهذا العهد من الفرق بين السلطنة العثمانية التي تحكم
بالمركزية وبين سويسرا التي تحكم باللامركزية، ففي هذه يرى من آثار
العمران والمدنية والحياة العالية الصحيحة والوفاق الشامل لكل العناصر التي
تقطن هذه المملكة الصغيرة ما لا يُرى مثله حتى في كثير من الممالك المتمدنة
الراقية بفضل توزيع السلطة على أقسامها الثلاثة العنصرية وإطلاق حرية
التعليم لكل عنصر من العناصر الثلاثة المؤلفة للأمة السويسرية بلسانه وبما يوافق
رغباته، وإطلاق حرية العمل لكل ولاية منها فيما ينمي عمرانها ويرقي سكانها
على الوجه الذي يناسب مركزهم الاقتصادي والاجتماعي بحيث صار يضرب المثل
بترقي هذه البلاد الجميلة وترقي أهلها البالغين منتهى ما يريده قوم من السعادة
والرفاه.
أما السلطنة العثمانية التي تحكم بالمركزية فعلى نقيض ذلك؛ إذ نرى
المعارف فيها منحطة والعمران قليلاً في بعض جهاتها مفقودًا في بعض آخر،
ووسائل الترقي الصحيح معدومة ألبتة؛ لأن حياة الاتكال على المركز في كل
شيء مستحوذة على الشعوب العثمانية كافة، والمركز مقيد لكل ولاية بقيود
تمنعها عن الحركة نحو الإصلاح المطلوب إلا ببطء وبما يوافق الحال
والحاجة في الغالب.
والمثال على ذلك قوانين التعليم مثلاً فإنها على نقصها وعدم وفائها
بالحاجة تحتم أن يكون التعليم في عدة أقطار بغير لسان أهلها، وعلى برنامج
واحد غير مُراعًى فيه حاجة كل ولاية واستعداد أهلها، ثم إن المركز لا
يعطي المال اللازم للتعليم لكل ولاية إلا بقدر محدود هو دون الحاجة، فينشأ
عن هذا وذاك نقص في التعليم وضعف في العلم وتضييق على الراغبين فيه
فتعم الجهالة، وتحرم البلاد من المعارف العالية التي هي أهم أسباب الترقي
والحياة والسؤدد في كل أمة من الأمم الحية المتمدنة لهذا العهد.
وعلى هذا فقس سائر الأعمال النافعة التي يتوفر بها العمران في الولايات
العثمانية، فإنها لتوقف صدورها على المركز بطيئة ضعيفة بل تكاد بعض الولايات
تحرم منها ألبتة.
زد على ذلك أننا نرى هذه الحكومة المركزية قد أعجزها تنائي أطراف
المملكة واختلاف لغات وأجناس ومشارب أهلها على أن تنفذ قوانينها في كل
ولاياتها؛ فإن كثيرًا من الأقطار العثمانية ليس فيها للدولة ديوان إداري ولا
محكمة ولا مدرسة ولا ثكنة ولا قلعة ولا حصن، ومنها ما لا يؤخذ منه
الجنود، فبعض هذه الأقطار عالة في حمايته من المغيرين عليه على الولايات
الأخرى، عملاً بمبدأ الاتكالية الممقوت، واعتمادًا على المركز.
ولذا نرى هذه الحكومة المركزية لا تقدر على الدفاع عن أكثر البلاد
العثمانية إذا هاجمها عدو أجنبي كما ظهر ذلك في مسألة طرابلس الغرب
ومثلها كثير، ناهيك بتوالي الفتن والثورات في أنحاء السلطنة وعجزها عن
إخمادها وبالأحرى عجزها عن تلافيها قبل ظهورها بما يمنع حدوثها أو
امتدادها حتى إن قطرًا من الأقطار وهو اليمن لا يزال مع الدولة في حرب
مستمرة منذ دخل أول عثماني فيه إلى عهد قريب.
وقد ظهر للعيان أن المملكة كلها عرضة لخطر الزوال بهذه الحكومة
المركزية، مهددة بفقد الاستقلال الذي يفديه كل عثماني بأعز شيء لديه وهو النفس،
ويتمنى كل شعب تظله راية الهلال بقاءه ليبقى عزيزًا في وطنه أمينًا من تسلط
المغيرين عليه.
إذا تمهد هذا فقد علمنا أن المركزية أصبحت في مثل هذا العصر عصر
التنازع الشديد في ميدان الحياة لا تصلح لترقي الأمة العثمانية المرغوب، ولا
تضمن لها الحياة السياسية والاجتماعية ولا البقاء لا سيما إذا أضفنا إلى هذا
حاجة الشعوب العثمانية إلى الراحة من الغوائل السياسية والفتن الداخلية، التي
توالت على الدولة في العهدين: عهد الحكومة المطلقة وعهد الحكومة
الدستورية، وأصيبت بسببها الدولة بغائلة الحرب البلقانية، وانفكاك أعز ولاياتها
عن جسم السلطنة العثمانية، بفساد سياسة المركزية، وسياسة مزج العناصر التي
ذهب إليها فريق من المتهوسين بالسيادة فَجَرُّوا على المملكة من المصائب ما لا
يحتاج إلى برهان، بعد الذي حدث وكان.
ولكي تأمن الأمة العثمانية على حياتها السياسية في المستقبل وعلى
سلامة الدولة من غوائل الفتن والمشاغبات الداخلية والصدمات الخارجية التي
يسببها عدم رضاء العناصر العثمانية والتفافها بإخلاص حول النقطة الجامعة
وهي العرش العثماني الرفيع الذي أصبح وجود الأمة السياسي لازمًا لوجوده
مرتبطًا به لكي تأمن الأمة على ذلك صار من المحتم على كل عثماني صادق
الوطنية النظر في الأسباب التي تتماسك بها أعضاء هذا الجسم الذي تفكك بقوتي
الجذب والدفع بين المركز والأطراف، ودخله الوهن والضعف المؤديان إلى
الانحلال، وهذا ما دعا فريقًا من العثمانيين إلى تأليف حزب اللامركزية الإدارية
بعد البحث والتروي الكثيرين فيما يضمن سلامة هذه المملكة وتضامّ كلمة
شعوبها واتحادهم على العمل الأنفع لعمران البلاد وسعادتها وقوة الدولة وبقائها.
فهذا الحزب يعرض على أنظار جمهور العثمانيين من إخوانه في
الجامعة والوطنية برنامجه ليكون موضع النظر والبحث من سائر العثمانيين
وهو يرجو أن يجد منهم أنصارًا كثيرين وأعوانًا غيورين على تنفيذ قواعد
اللامركزية الإدارية في الأقطار العثمانية، والله الموفق والمعين.
***
برنامج حزب اللامركزية الإدارية العثماني
المادة الأولى:
الدولة العلية العثمانية دولة دستورية نيابية، وكل ولاية من ولاياتها تعد
جزءًا من السلطنة لا ينفك عنها بحال من الأحوال، وإنما تبنى إدارة هذه
الولايات على أساس اللامركزية الإدارية، والسلطان الأعظم هو الذي يعين
الوالي وقاضي القضاة.
المادة الثانية:
قاضي القضاة يعين القضاة الشرعيين والوالي يعين سائر الموظفين بعد
اختيار مجلس الإدارة لهم (وفاقًا للمادة السابعة) ولا يجوز عزل موظف إلا
بحكم من مجلس تأديب، ومن عُزل لا يجوز استخدامه ولا يعطى معاش
معزولية.
المادة الثالثة:
يوضع نظام خاص لترقية عمال الحكومة وتأديبهم وتقاعسهم وما يتعلق
بذلك.
المادة الرابعة:
يكون في مركز كل ولاية مجلس عمومي ومجلس إداري ومجلس
معارف ومجلس أوقاف.
المادة الخامسة:
جميع قرارات المجلس العمومي تكون نافذة.
المادة السادسة:
من حقوق المجلس العمومي للولاية المراقبة على حكومتها والنظر في
جميع شئون الإدارة المحلية من: تقرير ميزانية الولاية، وأمور الأمن العام
والمعارف النافعة، والأوقاف، والبلدية، وتقرير ما يراه فيها، وسن
النظامات لها. وأما ما كان من أمور النافعة يتعلق من بعض الوجود بالأمور
العسكرية، أو السياسة الخارجية كسكك الحديد، فيرفعه بعد إبداء رأيه فيه إلى
العاصمة.
المادة السابعة:
من حقوق مجلس إدارة الولاية وضع ميزانيتها وانتخاب جميع موظفيها.
المادة الثامنة:
من حقوق مجلس المعارف وضع برنامج التعليم والنظر في جميع شئونها
ووضع ميزانية خاصة لها يراعى فيها حصة المعارف التي تضاف على
الأعشار والويركو، وما يقرره المجلس العمومي من الضرائب لها وما لها من
الأملاك والأوقاف.
المادة التاسعة:
من حقوق مجلس أوقاف الولاية وضع ميزانية خاصة لها والنظر في
جميع شئونها فما كان منها له شروط تجب مراعاتها يكون العمل فيها بحسب
شروطه، وما كان من غير ذلك يصرف فاضل ريعه على إقامة الشعائر ثم
على التعليم الإسلامي.
المادة العاشرة:
جميع أعضاء هذه المجالس تكون بالانتخاب إلا مجلس الإدارة فإن نصف
أعضائه ينتخبهم الشعب والنصف الآخر من رؤساء المصالح.
المادة الحادية عشرة:
تعدل طريقة الانتخاب لهذه المجالس ولمجلس المبعوثين وللمجالس البلدية
بحيث تكون حرة وممثلة لجميع عناصر الشعب.
المادة الثانية عشرة:
ما جرى عليه العرف في بعض البلاد والأقاليم التي لا تنفذ فيها قوانين
الحكومة وأحكامها يبقى على ما كان عليه الآن، ويراعى في تغيير الإدارة في
كل بلاد رضاء أهلها به.
المادة الثالثة عشرة:
ينظر الحزب في قانون تعديل الأراضي على الوجه الذي ينمي الثروة
العامة، وفي تحضير القبائل البدوية لأجل تنمية الثروة وترقية الأمة.
المادة الرابعة عشرة:
يكون في كل ولاية لغتان رسميتان: التركية، واللغة المحلية.
المادة الخامسة عشرة:
يجب تعميم التعليم في كل ولاية بلغة أهلها.
المادة السادسة عشرة:
أهل كل ولاية يؤدون الخدمة العسكرية في ولايتهم ويكون عسكرها على
قدم الاستعداد للدفاع عنها زمن السلم، وأما سوق الجنود في زمن الحرب فهو
منوط بنظارة الحربية، وحينئذ يجب على المجلس العمومي أن يتخذ الوسائل
للدفاع عن الولاية.
__________
(*) تألف في مصر حزب سياسي بهذا الاسم، وهذا بيانه الذي نشرته لجنته العليا مقدمة لبرنامجه السياسي، ويتلوه البرنامج.(16/226)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حديث كامل باشا
مع مؤسس المؤيد
تلقى السيد علي يوسف مؤسس المؤيد حديثًا سياسيًّا عن كامل باشا في
حالة الدولة في وزارته الأخيرة، وما بعدها فنشرها في مؤيد اليوم (سلخ
ربيع الأول) فرأينا أن ننقل معظمه؛ لأنه في معنى الرسمي القطعي،
والعنوانات لمؤسس المؤيد، قال:
تشرفت بمقابلة شيخ السياسة العثمانية أول أمس بأوتيل سميراميس، وهذه
سلسلة الحديث:
(1) هل هناك غرامة حربية؟
س: مولاي، إن الأخبار التي تحملها إلينا الشركات البرقية عن الصلح
سيئة جدًّا، فقد كانت المشكلة في السابق منحصرة في مسألة ترك أدرنة
لحكومات البلقان، ونراها الآن قد انتقلت إلى طور آخر، وصارت تظهر لنا
أمور جديدة مثل مسألة الغرامة الحربية، فما هي يا ترى نتائج هذه الأحوال؟
ج - ماذا أقول يا سيدي، الحكم لمن غلب، أما من جهة الغرامة الحربية
فالذي أظنه أن الدول العظمى التي تعرف حالتنا المالية لا توافق البلقانيين
الحريصين على مطامعهم من هذه الجهة؛ لأن إجابتهن البلقانيين إلى هذا
الطلب يؤدي إلى انحطاط الثقة المالية في الدولة فتسقط بذلك أسعار سندات
الديون العثمانية التي كل حامليها من الأوربيين فيلحقهم من وراء ذلك ضرر
عظيم، وبديهي أن الدول العظمى لا تتوسط لفائدة البلقانيين فيما فيه ضرر
الأوربيين، وأنا أعتقد أن هذه الدول تلاحظ أن أقساط هذه الغرامة إذا دفعت
للبلقانيين عاما بعد عام ستستهلك كل فائدة تأتي من وراء ما وعدتنا به دول
أوروبا من المساعدات المادية والأدبية للاطمئنان على مستقبلنا؛ وحينئذ لا
يبقى لنا ما ننفقه على عمار بلادنا وإصلاحها، فتكون مساعدات الدول التي
وعدتنا بها من قبيل المساعدة للبلقانيين لا لنا. وعلى كل حال فإن حاجتنا إلى
الصلح ظاهرة كالشمس في رابعة النهار.
(2) ما هو الباعث على ذلك الانقلاب؟
س: إذا كان هذا مبلغ حاجتنا إلى عقد الصلح، فأي فائدة كانت جمعية
الاتحاد والترقي تؤمل أن تحصل عليها من وراء الثورة التي أثارتها ضد
الصلح؟
ج - الغاية الأولى لجمعية الاتحاد والترقي من ذلك هو التربع في دست
السلطة. أما فائدة أو ضرر استمرار الحرب فتلك مسألة ثانوية في نظر
الجمعية، ولو كان هنالك أقل عمل في الفوز والفائدة لكانت وزارتنا تستمر في
الحرب إلى النهاية.
ولعمري إن حسابنا لم يخطئ قطعًا، وكيف يجوز لنا ترجيح الاستمرار
في الحرب والتقارير العسكرية التي كانت تعرض من قواد الجيش على مجلس
الوكلاء بواسطة وكيل جلالة السلطان في القيادة العامة كانت - مع التصريح
باستعداد الضباط والجنود للموت في سبيل الوطن - خالية من كلمة واحدة
تشف عن الأمل في النجاح، بل القواد يصرحون على العكس بترجيح جانب
الصلح على الاستمرار في الحرب.
وإذا كانت وزارتنا قد خدعت في فهم حقيقة ما، فذلك في شيء واحد هو
تقدير شكري باشا للمؤن، وكم تكفي لتقاوم حامية أدرنة الأعداء المحاصرين
لها، فإنه حدد الوقت الذي سيضطره فيه نفاذ الأرزاق لتسليم أدرنة بأقصر مما
ظهر بعد ذلك [1] .
ولو كنا علمنا هذه الحقيقة كما هي لما عجلنا بالموافقة على اقتراح الدول
العظمى، ولكانت وزارتنا صححت اعتقادهن في هذا الباب؛ ولطلبت منهن أن
يدخلن تعديلاً جديدًا على اقتراحهن.
(3) أدرنة قطب رحى المخابرات:
س - هل لكم يا مولاي أن تتفضلوا ببيان الحوادث التي تعد تتمة لهذه
الحرب صونًا للحقيقة أن يتناولها التاريخ على غير وجهها؟
ج - أجل، إن هذا الأمر مهم جدًّا في الحقيقة، معلوم أن أدرنة لم يكن
في الإمكان إنقاذها من حصارها بالقوة العسكرية، وكانت الدول العظمى ترى
أنه قد قُضي على المدينة بالسقوط لنفاد أرزاقها؛ ولذلك أرسلت إلينا مذكرة
إجماعية تنصح لنا فيها بلهجة حازمة أن نترك أدرنة للمتحالفين؛ وأن نفوض
أمر الجزر لإنصافها.
أما مجلس الوكلاء فقد رأى بعد التفكير في كل الطرق أنه لا مندوحة عن
قبول طريق الصلح حيث لم يكن ثمة تدبير آخر، وقبل يوم واحد من حدوث
تلك الجناية عقد في السراي السلطانية مجلس عمومي صدق على ضرورة
الصلح بعد أن اطلع على حقيقة موقفنا، ومع ذلك فإنه لما كان لأدرنة شأن
عند عموم الأهالي؛ ومن المنتظر أن تركها للأعداء صلحًا يستلزم هياج
الأفكار والخواطر، ولا يخفى أن العامة التي لا تطلع على حقائق الأحوال عن
قرب ربما تتهيج على الحكومة، لذلك لم تقدم هيئة الوزارة على تحمل هذه
المسئولية وقررت أن توضح لأوربة هذه المحذورات في جوابها، وبما أن
السير إدوارد غراي ناظر خارجية إنكلترا كان قد اقترح على مندوبي الباب
العالي أن تكون أدرنة في منطقة على الحياد وأن تكون معفاة من الرسوم
الجمركية، فنحن قد وافقنا على جعل أدرنة على الحياد، وعلى إعفائها من
رسوم الجمرك، ولكننا اشترطنا أن تبقى تابعة للدولة العلية، فرفض مندوبو
البلغار قبول ذلك، وأحيلت المسألة على مؤتمر السفراء فلم تنتج مذكرات
المؤتمر شيئًا.
(4) جواب الباب العالي يومئذ على مذكرة الدول:
ثم قال فخامته: ولما أردنا أن نجيب على مذكرة الدول قررنا أن نوافق على
جعل أدرنة بلدًا إسلاميًّا كما كانت، وأن تكون هي وضواحيها مستقلة وعلى الحياد
بشرط أن لا تطالبنا الدول البلقانية بعد ذلك بشيء جديد، أما حاكم أدرنة فطلبنا أن
يكون مسلمًا مهما كانت جنسيته، وأن تنتخبه الدول الموقعة على معاهدة برلين
والدولة العلية إحدى هذه الدول بالطبع، وحينئذ فإن الباب العالي مستعد لتجريد أدرنة
من حاميتها وذخائرها الحربية، وإنما رجحنا هذا الحل لما كنا لاحظناه من المحاذير
من وراء استمرار الحرب، وقد تركنا للدول العظمى أمر تعيين حدود الأراضي
التي ستتبع المتحالفين.
أما مسألة الجزر فقد قلنا في الجواب عنها: إننا واثقون من إنصاف
الدول العظمى وأنها ترى لزوم بقاء هذه الجزر تابعة للدولة العلية؛ لقربها من
سواحل الأناضول العثمانية، وحيث إن بلاغ الدول كان يحتوي على وعود،
منها معاونة الدولة ماديًا ومعنويًا لرقي وعمران الممالك العثمانية وزيادة قوتها
فقد قرر مجلس الوكلاء أن يذكر في جوابه على مذكرة الدول كيف هو يتلقى
تلك الوعود الحسنة التي تعوض علينا خسائرنا. ثم استحسنا أيضا أن يدرج
في ذلك الجواب أننا نعتمد كل الاعتماد على الدول العظمى في أن ترفع - بعد
زوال الروم إيلي تقريبا من يدنا - كل القيود التي قيدتنا بها المعاهدات القديمة
التي كانت أمضيت في تركية أوربة، وأن يسمح للدولة بإطلاق الحرية في
معاملاتها الاقتصادية وفقًا لما هو جارٍ بين الدول العظمى نفسها.
(5) لم يبلغ الجواب رسميًّا:
على هذا النمط حررت صيغة جواب الباب العالي باللغة الفرنسوية على
أن يبلغ في مساء ذلك اليوم 23 يناير إلى سفراء الدول.
(6) هجوم جماعة الاتحاديين والترقي على الباب العالي:
وبينما كان مجلس الوكلاء يمعن النظر في ترجمة مسودة الجواب هجمت
شرذمة قليلة اختلالية من جمعية الاتحاد والترقي بصورة وحشية على الباب
العالي، وحاولت أن تدخل غرفة مجلس الوكلاء فبادرهم ناظم باشا ليمنعهم ويسكن
جأشهم، فقتلوه في الحال واضطر حينئذ بقية الوكلاء أن يدخلوا غرفًا أخرى
ينتظرون فيها ماذا يكون.
أما أنا فقد لبثت في غرفة الصدارة ومعي حضرة فؤاد باشا كاتب المابين
الذي جاءني حاملاً بعض إرادات ملوكانية وعلمت حينئذ أن الثائرين ملأوا
الباب العالي اعتداءً، وأنهم قتلوا أيضًا ستةً من الياورية والحجاب الذين قاموا
بواجب المحافظة على الوكلاء والدفاع عنهم، وعلمت كذلك أن اثنين من
الثائرين قد قتلا في الحادثة.
وفي خلال هذه الفاجعة قفل فؤاد بك راجعًا من حيث أتى ثم دخل على
شرذمة من الضباط لا أعرفهم ومعهم أشخاص آخرون بألبسة ملكية فتقرب
مني جسور منهم، وقال: إن الخواطر خارج الباب العالي متهيجة تهيجًا
عظيمًا.
وطلب مني أن أكتب استقالتي فتحققت وقتئذ أن جميع تلك الفعال الجنائية
إنما كانت وسيلة فقط ليحصل الاتحاديون على أزِمة السلطة. وأنهم لا قصد
لهم في الثأر من أحد.
(7) استقالة فخامته:
وقد خطر ببالي أنني لو ترددت في أمر الاستقالة لتجرأ الثائرون على
الإيقاع بي حتى يتسنى لهم انحلال مقام الصدارة، فبناء على إصرار الضباط
استقلت وكتبت عريضة للحضرة السنية الملوكانية التمست فيها بلا تردد
إعفائي من منصب الصدارة، ولم يمض ساعة إلا وجاءني رئيس قرناء
الحضرة السلطانية مُبَلِّغًا عن لسان مولانا السلطان الأعظم كدره من هذه
الواقعة وراجيًا أن لا أترك الباب العالي خلوًّا من الحكومة ريثما تظهر نتيجة
الحال. فامتثالاً لأمر جلالته وانتظارًا للنتائج بقيت على كرسي الصدارة
منتظرًا.
وفي خلال ذلك كان يدخل ويخرج أناس كثيرون ومنهم طلعت بك
وأنور بك ثم عمر ناجي بك مبعوث قرق كليسا سابقًا المعدود من أركان
الجمعية فتقرب هذا مني قائلاً: مولاي إن شاء الله أنتم تنفعون الدولة في هذا
المقام كثيرًا، ونحن جميعًا محتاجون إليكم، وسنكون مطيعين لأوامركم. وقد
أراد بهذا الكلام مداهنتي، فقلت له: لا حاجة لي بالصدارة فقد سبرت طالع
الدولة وحسبي ما مضى. وبهذا الكلمة صرفته عني.
(8) ألاعيب أنور بك:
ثم جاءني أنور بك متظاهرًا بحيرة واندهاش وقال: إنني كنت في تمرين
عسكري وفي أثناء الطريق أُخبرت بالواقعة، هذا ما قاله لي في حين أنه كان
قد تواتر ساعتئذ في الباب العالي أنه من جملة الذين قتلوا ناظم باشا.
وبعد ساعة من الزمان اجتمع عليَّ شيخ الإسلام وآخرون من الوكلاء
واحدًا بعد آخر.
تعيين الصدر الجديد:
وعقب ذلك نصب محمود شوكت باشا صدرًا أعظم وجاء إلى الباب
العالي مع شيخ الإسلام الجديد، وبعد أن تلي الخط العثماني على رأس السلم
جاء محمود شوكت باشا إلى الغرفة العمومية مستقبلاً تبريكات المهنئين؛ ثم
شرع في الترتيبات اللازمة.
وبعد نصف الليل اجتمع بي خلفي في غرفة أخرى، فتفاوضنا هنيهة في
الأحوال الحاضرة، وعلى هذه الصورة بقيت هزيعًا من الليل؛ ولكثرة الزحام
لم يمكن إيقاد مدافئ الغرف مع شدة البرد وكثرة الأمطار. وظلت جثث القتلى
هناك ولذلك لم أتمكن من مغادرة الباب العالي إلا بعد الساعة الثالثة بعد نصف
الليل؛ فأثر البرد ليلتئذ في جسمي حتى أصابتني حمى ارتفعت درجتها إلى
39 درجة، وقد زارني سفراء الدول العظمى في منزلي فشكرت مسعاهم
واعتذرت لهم بالواسطة عن قبولهم. وبعد معالجة دامت عشرة أيام عادت إليَّ
صحتي فأشار عليَّ الأطباء بتبديل الهواء، وفي الحقيقة كنت قد تعبت
لملازمتي الباب العالي ليل نهار مدة ثلاثة أشهر تقريبًا، أي منذ شبت الحرب،
فكنت مستمرًّا طول هذه المدة على الاشتغال بمهام الأمور فأنهك العمل
جسمي ولذلك وافقت رأي الأطباء، وجئت إلى القطر المصري على إحدى
بواخر الشركة الخديوية.
دخول سعيد باشا في الوزارة الجديدة:
أما محمود شوكت باشا فإنه في اليوم الثاني من صدارته شكل وزارته،
ولما جاءه سعيد باشا مهرولاً ومباركًا له فوزه، انتخبه محمود شوكت باشا
رئيسًا لشورى الدولة، وباشر العمل بوظائفه.
سقوط الوزارة الجديدة في الشَّرَك:
ومن الاتفاقات الغريبة أن الوزارة الجديدة كانت تحسب أن الوزارة
السابقة قد أبلغت جوابها إلى الدول موافقة على طلبهن مذعنة لشروط الصلح
كما طلبتها الدول. ولكن لما رأت الوزارة الجديدة أوراق مجلس الوكلاء
علمت أن كل ذلك لم يكن وأن اللائحة الجوابية لم تعط، وأنه لم يكن ثمة
مندوحة لسلامة الدولة غير طريق الصلح فأسقط في يدها، وبعد مفاوضة دامت
يومين رأت أن تقسم مدينة أدرنة إلى شطرين بينهما نهر مريج اعتبرته حدًّا
فاصلاً، فالشطر الذي فيه الطوابي والاستحكامات أرادت أن تعطيه للبلغار،
والشطر الثاني طلبت أن يبقى للدولة العلية، ثم طلبوا في مبحث التعويضات
إلغاء العهود القديمة ومكاتب البريد الأجنبية إلى غير ذلك من الشروط
مظهرين بذلك ميلهم إلى الصلح.
كيف عادت الحرب:
فلما علم هذا في لوندرة اتبع البلغار - على ما جاء في الصحف - خطةً
أخرى، فقالوا: لا سبيل للمذاكرة مع هيئة ثورية؛ إذ يعد ذلك ذلاًّ لهم، أي
البلغار، وأمروا القائد الأول للجيش البلغاري باستئناف الحرب وفقًا لما قرر
في صوفيا، وعليه اضطر العسكر العثماني للمقابلة.
على هذا استمر الحرب الذي كان قد انقطع (كذا) في اليوم الرابع عشر من
شهر كانون الأول (27 ديسمبر سنة 1912) فاستشهد في هذه المدة ألوف
ومئات ألوف من شدة القرّ، وفتحت أبواب جديدة للنفقات فصرف حتى الآن
بضعة ملايين من الجنيهات، واشتدت الأزمة المالية حتى وصلت غايتها،
وظل المأمورون والمستخدمون والمردودون إلى المعاش والأرامل والأيتام،
بل جميع المحتاجين بغير معاش، فأصبح هؤلاء المساكين على شفا جرف
الهلاك.
الصيد في الماء العكر:
وقد بيعت أملاك أميرية بأثمان بخسة، ثم أعطي زيد وعمرو - خلافًا
لكل قانون ولكل قاعدة - كثيرًا من الامتيازات، ولم يمكن مع هذا كله سد
الرمق.
فهذا أيها الأستاذ نتيجة ما جناه الاتحاديون بوضع أيديهم على أزِمة
الحكومة بسائق طمعهم فيها، ولا أدري ماذا يكون مجرى الحال في المستقبل
مع فقد الأمن.
على أن العناصر العثمانية أخذت تنتبه إلى انتهاج المناهج التي تأمن بها
على مستقبلها.
أما الأمم ذات العلاقات الاقتصادية والتجارية ببلادنا فهي لا تألو جهدًا
للذب عن منافعها، والله أسأل أن يحسن العاقبة. اهـ. المراد من الحديث
وله في المؤيد تتمة في مشروعية الحكومة الحاضرة، وعدم رغبة كامل باشا
في العود إلى الوزارة.
__________
(1) المنار: يرجح كامل باشا أن سبب غلط شكري باشا في تقديره هو أنه أخبر الحكومة أولاً بما عنده ثم ظهر له مخازن للمؤنة والذخيرة لم يكن رآها ولا علم بها، فإن أدرنة قد حصنت من عهد السلطان عبد الحميد، وجاء في بعض الجرائد أنه وصل إليها ذخائر بمساعدة النمسة.(16/231)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اللامركزية الإدارية
حياة البلاد العثمانية
جربت الحكومة المركزية العثمانية عدة قرون بالحكم المطلق وخمس
سنين بالحكم الدستوري النيابي فلم تفلح، وكانت خمس سنين منها دستورية،
أسرع إلى التخريب من خمس مئة سنة استبدادية، فظهر لكل ذي بصيرة أن
هذه المملكة المؤلفة من أقطار متنائية الأرجاء مختلفة العناصر في اللغات
والعادات والتقاليد والأخلاق، لا يمكن أن يحسن إدارتها الداخلية أفراد من
عنصر واحد من عناصرها يتربون ويتعلمون في عاصمتها من علوم الإفرنج
ولغاتهم وقوانينهم ما يريدون الاستعانة به على إدارتها مع جهلهم بلغاتها
وسائر شئونها، ويجعلون جميع مصالحها مرتبطةً بالعاصمة البعيدة عن
أكثرها، والتي يجهل لغتها التركية السواد الأعظم من أهلها، بحيث إذا أراد
رجل عربي أن يفتح مكتبًا أهليًّا في ذروة جبل من اليمن لا يبيح له نظامها
فتحه إلا إذا كتب إلى العاصمة باللغة التركية يستأذن بذلك وجاءه الإذن؛ ولن
يجيئه إلا إذا كان يُعلم بالتركية، ولن يجد من يُعلِّم بها، وإذا هُدم مكان
للحكومة في أبعد أرجائها لا يجوز بناؤه ولا ترميمه إلا بعد استئذان العاصمة
وورود الإذن، ولن يرد إذا اهتموا به إلا بعد عدة شهور وإلا فعدة سنين.
أكبر ما استفاده العثمانيون من إعلان الدستور جواز إبداء آرائهم في
حكومتهم ومصالحهم، وقد صرح بعضهم في السنة الأولى للدستور بأنه لا
يستقيم أمر هذه المملكة إلا بالإدارة اللامركزية، ولكن الجمهور صبروا على
حكم المركز مع اشتداد وطأته بغلوّ الاتحاديين وإسرافهم فيه، فرأوا من بوادر
نتيجته أن الاتحاديين وجهوا قوة الدولة كلها لقتال عناصرها وتذليلهم فنكلوا
بالأرنؤوط وعرب اليمن وعسير والكرك وحوران، وأضاعوا طرابلس
الغرب، فالولايات الأوروبية العثمانية كلها، واضطروا إلى الاعتراف
باستقلال إمام اليمن في بلاده وعرضوا مثل ذلك على السيد الإدريسي في
عسير، فكان كلما حدثت حادثة من هذه الحوادث يقتنع كثيرون من أهل
البصيرة والرأي بأن عدم المركزية خير وأبقى لهذه الدولة؛ فإن لم تبادر إليه
اضمحلت اضمحلالاً، وانحلت انحلالاً.
وقد كان أكبر الشبهات التي يغالط بها المتمتعون بالمركزية العامة
وأشياعهم، أن اللامركزية تمزق الدولة فيسهل على الأجانب ابتلاعها، ولكن
أهل المعرفة والحجة قد بينوا الحقائق للجمهور، فلم يعد يهذي بهذه المغالطة
مع المتمتعين بلذة السلطة المركزية وعظمتها وأموالها إلا منافق متملق لهم؛
ليشاركهم في بعض ما يتمتعون به، أو جاهل غملاج، يتابع كل أحد على
رأيه.
تُكشف هذه الشبهة بكلمة واحدة، وهي: أن المطلوب هو اللامركزية الإدارية
وهو لا دخل له في السياسة الخارجية ولا في الحربية، وحفظ البلاد من
استيلاء الأجانب عليها إنما يكون بالقوة الحربية أو الوسائط السياسية، ولا نعلم أن
أحدًا ينازع العاصمة فيهما، على أن مسألة طرابلس الغرب وحرب البلقان قد
أثبتا لكل ذي عقل وفهم أن حكومة الآستانة لا تقدر أن تصد أية دولة من الدول
الكبرى عن امتلاك ما تطمع فيه من بلادها، فعلم من لم يكن يعلم أن بقاء ما
بقي للدولة منوط أمره بالدول الكبرى إن شاءت أن تقسمه بينها فعلت، وإن
شاءت أن تتركه فعلت، والثاني هو المرجح عندنا الآن لما بيَّناه في موضع آخر
من هذا الجزء، ولا دخل فيه لشكل إدارة الولايات ألبتة. بل نقول: إن جعل ما
بقي تحت نفوذهن بالوسائل المالية أو السياسية وهو الخطر المنتظر لا يتم لهن
بسهولة إلا مع بقاء الحكومة المركزية؛ إذ يكفي إرضاء اثنين أو ثلاثة من أصحاب
النفوذ في مجلس الوكلاء لأخذ كل ما تريده أوربة من الامتيازات والأراضي
العثمانية، ورهن موارد الدولة، ولا يسهل هذا مع اللامركزية؛ لأنه يتوقف على
إقناع مجالس الولايات ثم العاصمة، فالخطر كل الخطر على البلاد إنما هو
من الحكومة المركزية، ولا سيما إذا كانت السلطة بيد جمعية الاتحاد
والترقي.
* * *
حزب اللامركزية ولجان الإصلاح السورية
نشرنا في هذا الجزء بيان هذا الحزب وبرنامجه السياسي، وهو مؤلَّف
من طائفة من أولي البصيرة والرأي وحملة الأقلام من العثمانيين المقيمين في
مصر، وقد تألفت في سورية عدة لجان للتشاور في طلب الإصلاح على
أصول اللامركزية الإدارية؛ وإن لم يذكر هذا الاسم فيها، وكانت حكومة
العاصمة على عهد وزارة كامل باشا راضيةً عن هذه الحركة ومؤيدةً لها،
وكان أمثل تلك اللجان لجنة بيروت فإنها انتخبت انتخابًا قانونيًّا، فكانت مؤلفة من
86 عضوًا من خواص الطوائف كلها وستنشر لائحتها في الجزء الآتي.
والذي يسر في مجموع هذه المطالب وهذه الحركة المباركة، إن شاء الله، هو
أنها صادرة عن الشعور بالحاجة إليها المشترك بين المسلمين وغيرهم، وأنها
كانت أفضل مجلى من مجالي الاتفاق والألفة بين الجميع، وقد ظهر ذلك في
بيروت بصفة لم يسبق لها نظير، ولا أستثني ما كان عقب إعلان الدستور، فإن
تلك نشوة عارضة لا يعتد بمثلها، ولا يوثق بدوامه.
وقد توهم بعض الناس أن هذه الحركة كانت بتحريض أفراد من الأذكياء
يمكن استمالتهم بالمناصب والوظائف والوعود، فاغترت بذلك جمعية الاتحاد
والترقي، ووجهت همتها إلى استمالة هؤلاء الأفراد، أو استمالة من تظن أن
تركهم لطلب الإصلاح يتبعه ترك غيرهم، وسترى الجمعية أنها مخطئة وأن
كل من تستطيع استمالته يسقط من نظر إخوانه، فلا يبقى له عندهم قيمة ولا
تأثير، كما ظهر مثل ذلك لعبد الحميد الذي اتبع هذه السياسة من قبل.
وكتب إلينا وإلى أناس آخرين أن الجمعية تريد إرسال وفد إلى سورية
لأجل التفريق بين طلاب الإصلاح وإيقاع الشقاق بين المسلمين والنصارى،
وربما تستعين على ذلك ببعض جرائد المنافقين التي تمدها بمالها ونفوذها، فإن
الجمعية على محاربتها لكل ما يفيد الإسلام صارت تستخدم اسم الإسلام لتأييد
نفوذها، والمرجو من عقلاء إخواننا البيروتيين عامة وأصحاب الجرائد الرشيدة
منهم خاصة، أن يكونوا إلبًا واحدًا على من يسعى للتفريق بينهم بقول أو عمل، وأن
يحذروا من كل جريدة عرفت بالانتصار للاتحاديين أو تنشأ لترويج سياستهم،
وإذا ظهرت لهم جريدة عربية في الآستانة فليكونوا منها على حذر، ولا سيما
إذا استخدم لها قلم شيطان التفريق السفيه المشهور.
وقد جاء في بعض جرائد أمريكة أن لعزت باشا العابد يدًا في هذه
الحركة، وإنني أجزم - على علم - بأنه لم يكن له ولا لغيره من المقيمين في
خارج البلاد السورية والمصرية يد في ذلك ولا رأي ألبتة، ويتبع ذلك أنه ليس
لأحد منهم نفوذ ولا تأثير في ذلك.
* * *
تمليك الشخص المعنوي في الدولة العلية
جاء في البرقيات العامة من الآستانة أنه قد صدرت الإرادة السنية بجواز
تمليك الشخص المعنوي. قال المؤيد في تعليقه على هذه البرقية: وكان
السلطان السابق ممتنعًا كل الامتناع من أن يفعل هذا، فمثلاً كان لا يجوز لشركة
عثمانية أو أجنبية أن تمتلك، وإذا كان لا بد من هذا فكان التمليك باسم رئيس
الشركة؛ والملك لا ينتقل للشركة ذاتها في سجلات الحكومة، فكانت الشركات تأبى
أن تأخذ ملكًا بأسماء رؤسائها خوفًا من انحلال الملك عنهم إلى الحكومة متى توفوا ولا
وارث لهم.
وكان هذا المنع حتى لا تصبح الشركات مستعمراتٍ أجنبيةً ذات ملك
واسع في البلاد ينتهي أمرها إلى مثل ما انتهت إليه الشركات الإنكليزية في
الهند أو الهولاندية في الترنسفال أو البلجيكية في الكونغو.
أما الآن فقد أجيز تملك الشخص المعنوي، ويخشى أن لا يكون هذا
الشخص المعنوي مقيدًا بقيد العثمانية؛ لأنه إذا لم يكن كذلك أمكن لمثل شركة
حديد الأناضول الألمانية مثلاً أن تملك الأراضي الواسعة حولها فتصبح مستعمرات
ألمانية، ومثل ذلك يقال في الشركات الإنكليزية والفرنساوية في بغداد والبصرة
وسوريا وفي الشركات التي تنشأ من كل دولة أخرى.
ولهذا هرع إلى الآستانة منذ أسبوعين ماليون كثيرون كانوا يتطلعون إلى
أراضٍ واسعة في البلاد العثمانية، ولا يستطيعون شراءها بواسطة الشركات؛
لأنهم رأوا الفرصة سانحةً لهم، وبعض هؤلاء يؤملون أن جمعية الاتحاد
والترقي تأخذ أملاكًا واسعةً باسم شخصها المعنوي وتبيعها لهم سريعًا بثمن
موافق.
ولكنا مع هذا كله نؤمل أن نرى في نص الإرادة السنية ما يقيد الشخص
المعنوي بقيد العثمانية، حتى يزول الخطر الذي كان يخشاه السلطان
عبد الحميد. اهـ.
(المنار)
هذا الخبر يدل على ما أثبتنا عن مقاصد الاتحاديين المالية من قبل، وهو
أخوف ما نخافه من سياستهم المالية، فنسأل الله السلامة.
__________(16/237)
ربيع الآخر - 1331هـ
أبريل - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
سبب نقل الروايات الموضوعة
(س9) من صاحب الإمضاء:
حضرة إمام المرشدين، وقدوة العلماء العاملين، من يتلقى سؤال كل سائل
بالقبول والرضا، الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا، أبقاه الله للمسلمين
يداوي كل مرض كان عارضًا، آمين.
ذكرتم في الجزء الثاني من منار هذه السنة تفسير قوله تعالى: {لَكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) إلخ، ورأيتكم ذكرتم كما
ذكر غالب المفسرين بإزاء تفسير: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: 162)
الرواية الموضوعة المنسوبة لعثمان من أن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب
بألسنتها، وذكرتم أيضا أنها موضوعة، وأن السابقين الأولين بعيدون عن ذلك
إلخ. فإذا كانت الآية بريئةً من نسبة هذه الرواية الموضوعة، وكذلك باقي آيات
القرآن قطعًا، فما الداعي لذكر غالب المفسرين لهذه الرواية مع أن القرآن جميعه
بريءٌ منها، فهلا تركوا ذكرها بإزاء تفسير الآية حتى لا يتأتى تشويش فكر
لضعيف.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم محمد عريقات ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... من برنبال غربية
(ج) ما من أمة من الأمم إلا وفيها الصادقون والكاذبون، وما من دين
من الأديان إلا وينتمي إليه المخلصون والمنافقون، وقد كذب الزنادقة وأهل الأهواء
على نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كما كذب أمثالهم على
المسيح وحوراييه وغيرهم من الأنبياء في الأمم السابقة، ولكن المسلمين
امتازوا على جميع الأمم بتمحيص كل ما روي عن نبيهم وعن أصحابه،
وإن لم يكن قول الصحابي برأيه حجة شرعية عندهم، ومن أظهر آيات صدق
أئمة المحدثين أصحاب الجرح والتعديل، وبيان علل الحديث أنهم لم يكتموا شيئًا
مما روي، ولم يُحكِّموا مذاهبهم وآراءهم وأهواءهم في ذلك، بل نظروا في
الرواية نظر المؤرخ العادل، فما ظهر لهم قوة سنده منها صحَّحوه أو حسَّنوه، وما
كان غير ذلك ضعَّفوه أو كذَّبوه، ولم تحملهم صحة المعنى على تصحيح الرواية، ولا
مجرد كون المتن موضعًا للطعن والنقد، على الحكم على سنده بالوضع، بل فصَّلوا
بين نقد المتون ونقد الأسانيد، فعني بهذا أناس وبذاك آخرون، ويقل من جمع
بينهما، فجمعوا لنا كل ما روي وقيل فينا، سواء كانت لنا أو علينا، فأما
المفسرون فمنهم من لا هم له إلا نقل ما يراه في كتب مَن قبله من غير بحث ولا
نقد، ولا تمييز بين ما يصح وما لا يصح لأجل نقده وبيان الحق، ومن هذا
الباب نقلهم لما روي عن عثمان، ومن كان همه النقل فقط لا يخطر بباله ما
يثيره نقله في نفوس القارئين ولا يحفل بذلك.
***
اختلاج الأعضاء
(س10) ومنه: ذكر الخوارزمي في كتاب (مفيد العلوم ومبيد الهموم)
بابًا لاختلاج الأعضاء جميعها، وقال بأنه إذا اختلج عضو كذا يحصل من الخير
كذا، وإذا اختلج عضو كذا يحصل من الشر كذا، وهكذا إلى آخر الأعضاء ما بين
خير وشر، فهل لهذا الاختلاج من حكم وأصل؟ وإذا قيل بأنه لا أصل له نقول:
قد وجدنا غالب ما ذكره الخوارزمي في باب الاختلاج عند التجارب صحيحًا، فهل
ذلك من الأسباب العادية أم كيف؟ أفيدونا.
(ج) مسألة اختلاج الأعضاء وكونها سببًا للخير والشر ليست دينية ولا
عقلية، وأما التجربة فلا يثبت بها مثل هذا إلا بالاستقراء المطرد، وأنتم تنفون
ذلك بقولكم أنكم وجدتم غالب ما ذكره الخوارزمي في باب اختلاج الأعضاء صحيحًا،
وهذا إثبات لعدم صحة مقابل الغالب، ولا يكفي في الاستقراء تجربة واحد؛ إذ
يتفق أن يحدث له بعد الاختلاج ما لا يحدث لغيره، وما يدريكم لعل غيركم رأى
أكثر ما يقوله أهل هذا الزعم أو كله غير صحيح، ها أنا ذا رأيت في صغري
أرجوزة في دلالة اختلاج أعضاء البدن علق بذهني أبيات منها طالما خطرت
في بالي عند الاختلاج فظهر لي كذب الناظم، منها:
وجفنه الأعلى يرى ما يؤثر ... وفي شماله بكاء يكثر
وجفنه الأسفل صحة الجسد ... وفي شماله بكاء لا يحد
على أن رؤية ما يؤثر أو البكاء بعد الاختلاج قد يكون كثيرًا أو يقع نادرًا
ولا صلة بينه وبين الاختلاج بسببية ولا علية، وصفوة القول في الجواب أن
هذه المسألة وهمية، ومن ظهر له صدق شيء مما قيل كان واهمًا، وكثيرًا ما
يؤثر الاعتقاد في الإنسان تأثيرًا يكون سببًا في حدوث ما يعتقده، فإذا اعتقد
عقب اختلاج جفنه الأيسر أنه لا بد أن يحدث له ما يبكيه لا يلبث أن يبكي مما
لا يبكي منه لولا وهمه هذا.
وكثيرًا ما يرى الإنسان أمرًا حدث عقب أمر فيتوهم أنه سبب له وما هو
في الحقيقة بسبب طبيعي، ومن هنا نشأ التشاؤم والتطير؛ ولذلك جعل علماء
المنطق القضية الشرطية قسمين: حقيقية واتفاقية، فالحقيقية ما كان فيها
المقدم سببًا وعلة للتالي مثل: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.
والاتفاقية مثل قولهم: إن كان الإنسان ناطقًا فالحمار ناهق. ومن البديهي أن
نطق الإنسان ليس سببًا لنهيق الحمار. فعليكم أن تتدبروا ذلك.
***
استحلال حكم المَحاكم المُخالف للشرع
والمانع من الحكم بالشرع
(س 11 و12) ومنه: ما حكم المستحل لحكم المَحاكم المخالفة للشرع
المنزَّل، وذلك كمحاكم مصر الأهلية، وهل من مانع من رجوع جميع محاكم
الحكومات الإسلامية للحكم بالشريعة الحنيفية وإقامة الحدود خصوصًا الحكومة
المصرية؟ وإذا لم تتمكن الحكومة المصرية مثلاً من إقامة الحدود وغيرها من
الأحكام الشرعية المعطلة لأسباب ظاهرية أو وهمية، أفلا يمكنها وهي حكومة
إسلامية رسميًّا أن تمنع ولو أربعة أمور فقط، وأن تعكس قضاياها في قوانينها
من إيجاب إلى سلب؛ لأنها من أكبر أمهات فساد الأحوال وضياع الأموال في
هذا القطر الإسلامي ألا وهي: (الزنا والربا والخمر والقمار) .
(ج) الأحكام الشرعية منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة كالحدود
الثابتة بنص القرآن، وفي معناها كل ما هو مُجمَع عليه معلوم من الدين
بالضرورة فمن استحل حرامًا من هذا النوع كان كافرًا، ولا يعذر بجهله إلا
من كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بعيدًا عن المسلمين منفردًا عنهم. وما
كان غير قطعي لا يكفر مستحله إلا إذا ثبت عنده وكان غير متأول في
استحلاله، وإنما يكفر جاحد هذا النوع بنحو استحلال حرامه؛ لأنه يكون
مكذبًا للشرع رادًّا له، فمن استحل حكم المحكمة المخالف للشرع المنزل أي
في القرآن يكفر إذا كانت الآية التي خالفها الحكم قطعية الدلالة، أي نصًّا لا
يحتمل التأويل، ومثله ما إذا كانت دلالتها ظنيةً، وكان المستحل يعتقد أن ذلك
هو المراد منها، وأما إذا اعتقد أن ما خالفه الحكم من ظاهرها ليس هو المراد
منها فلا يكفر، فالكفر يناط بتكذيب القرآن أو استحلال مخالفته، فمن خالف
غير مكذب ولا مستحل، ولو لما ترجح عنده أنه حكم الله من غير قطع - كان
عاصيًا يجب عليه التوبة والعمل الصالح الذي يُرجى أن يكون كفارةً لذنبه،
فإن أصر يخشى أن تحيط به خطيئته، ويرين عصيانه على قلبه فيكون من
الخاطئين؛ وأما مخالفة الناس أو المحاكم لآراء الفقهاء الاجتهادية، فالأمر فيه
أهون والعبرة باعتقاد المخالف، فإن كان يعتقد أنه من شرع الله كان عاصيًا.
وأما مسألة الحكم بالشرع فأئمة اليمن الزيدية لا يحكمون إلا بفقه الزيدية،
وأهل نجد لا يحكمون إلا بفقه الحنابلة، ولكن ترْك الحكم بالشرع في
الجنايات وبعض القضايا المدنية طرأ على البلاد الإسلامية التي قلدت المدنية
الأوروبية، وإنما يسأل السائل عنها، وإذا أردنا أن نشرح جواب هذا السؤال
شرحًا تامًّا لا يتم لنا ذلك إلا بتأليف كتاب يكون من أبوابه: استبداد ملوك المسلمين
وأمرائهم بالأحكام وأسباب ذلك، وباب خضوع الأمة لأحكامهم، وأسبابه التي
سهلت عليها قبول أحكامهم المخالفة للشرع، وباب فقه المسلمين ومآخذه، وكون
الفقيه عند سلف المسلمين هو المجتهد، وأسباب ترك الاجتهاد، ومقتضاه: فقدُ
الفقهاء العارفين بأحكام الشرع معرفةً صحيحةً، أي بالدليل، وسبب امتلاء كتب
الفقه بالخلاف والاضطراب في تصحيح الأقوال المنقولة عن أئمة الفقهاء،
وسبب جعل أقوالهم أصولاً للدين يستنبط منها المقلدون الذين ليسوا أهلاً للاستنباط،
وسبب ما فيها من التشديد وسوء التأليف والتعقيد اللفظي والمعنوي، وغير
ذلك من الأمور التي جعلت فهمها واستخراج الحكم الصحيح منها عسرًا.
وباب ما حدث للناس من شئون المعاش والاجتماع والفنون والأحوال
والعادات والعرف التي ترتبت عليها قضايا كثيرة لا نص عليها في أصل
الشريعة ولا تقبل الأمة ولا حكوماتها أن يكون فيها مجتهدون يضعون لها
أحكامًا تتفق مع الأصول المقررة، وباب تغلب الإفرنج على المسلمين
واستيلائهم على أكثر بلادهم استيلاءً رسميًّا تامًّا، ووضعهم الباقي تحت
نفوذهم واضطرارهم حكامه إلى الخضوع لهم فيما يريدونه منهم، ثم ضعف
العلم والدين في الحاكمين والمحكومين وافتتانهم بتقليد الإفرنج في قوانينهم.
واستخراج الجواب من مجموع تلك الأبواب.
فإذا تأمل السائل عناوين هذه الأبواب ولمح بعض ما يدخل فيها من
المسائل علم أن ترك الحكم بالشريعة له أسباب كثيرة، إثمها الأكبر على
الملوك والأمراء والعلماء، وسببها الأكبر: جهل الأمة وتركها لحقوقها بغش
رؤساء الدين والدنيا لها؛ ليتسنى لهم استخدامها واستغلالها، فمتى أرادت
الأمة أن تحكم بشريعتها التي تؤمن بها حكمت بها دون غيرها؛ لأن إرادة الأمة لا
ترد، ولكن متى تريد؟ إن من لا وجود له لا حياة له، ومن لا حياة له لا إرادة له،
فالمسلمون الآن ليسوا أمة فنطالبهم بالأعمال الإرادية التي هي من شأن الأمم
الحية، وإنما هم أفراد متفرقون {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر:
14) لهذا كنا نقول منذ أنشأنا المنار: إن الواجب قبل كل شيء هو تكوين
الأمة.
بل أقول: إن حكم مَحاكم البلاد الإسلامية بالعقاب على الزنا والسكر
والقمار وامتناعها من الحكم بالربا، لا يتوقف على جمع كلمة الأمة الإسلامية
ومطالبتها بذلك بلسان القال والحال، بل يمكن بما هو دون ذلك، أما في البلاد
العثمانية فلو طلب ذلك أكثر المبعوثين لكان قانونًا نافذًا، ولكن كان أكثر
المبعوثين ممن لا يرى ذلك، والذنب على الأمة التي تنتخب من لا تثق بدينه،
وأما في مصر فلو انتدب علماء مصر للمطالبة بذلك يتبعهم السواد الأعظم من
المسلمين، ولا يبقى للحكومة مندوحة من إجابتهم متى قاموا يطالبونها مع علمائهم في
كل مكان، ولكن النفوس ماتت فلا يتجرأ أحد على طلب شيء باسم الدين،
نعم إن الحكومة المصرية لا تقدر على منع الأجانب من بيع الخمر وشرائها،
ولا بغايا الأجانب من فتح مواخير الزنا ولا مصارفهم من الدين بالربا، ولا
المحكمة المختلطة من الحكم به، ومن ذا الذي يطالبها بذلك، وهي تقصر في تنفيذ
مواد القانون المصري التي وضعت للتشديد في أمور الفسق والقمار؛ لأن
الكثيرين من رجال القانون يحبون التساهل في ذلك، بل الأمر أعظم من ذلك،
وكأن السائل لا يعرف من أمر بلاده شيئًا وإلا فسؤاله على غير ظاهره.
وإذا أراد العبرة بمسألة من المسائل المتعلقة بصعوبة الفقه الإسلامي
وجمود التقليد اللذين أشرنا إليهما فليقرأ الرسالة الآتية وتعليقنا عليها، ولو كان
ممن يقرأ المنار من أول صدوره لما احتاج إلى السؤال عن مثل هذا فما من
مسألة من المسائل التي يتوقف عليها فهم جواب هذا السؤال بالتفصيل إلا قد
كتبنا فيها مرارًا، ولكن الناس اتخذوا رؤساء جهالاً مفسدين فصار السواد
الأعظم من المسلمين في حيرة بين ألوف من دعاة الفتنة باسم المدنية أو
الوطنية أو التقاليد الخرافية، وما عساه يوجد من داعٍ إلى الهدى يُنفِّر الناسَ
عنه المضلون بالكذب والبهتان، ويعارضونه بإغراء بعض المنافقين بمثل
دعوته كالذين اتخذوا مسجد الضرار، فالنتيجة لهذه المقدمات أنه لا طمع في
الحكم بالشريعة إلا بتكوين أمة إسلامية تنصب لنفسها حكومة إسلامية، وكم
بيَّنا الوسيلة لهذا التكوين، وجاهدنا الذين لا يزالون يمزقون شمل المسلمين ويحاولون
تكوين أمم منهم، جامعتها الوطن، أو لغة غير لغة الإسلام كأحداث الوطنية بمصر،
والاتحاديين في المملكة العثمانية.
__________(16/259)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إذن سلطاني
عن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي
أو أوامر مهمة في إصلاح القضاء الشرعي [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى أن محاسن الشريعة المحمدية يسرها وسماحتها ومشيها مع
المصالح في كل شئونها، ولذا كان من أوائل أصولها ودعائم قواعدها أن لا
ضرر ولا ضرار، واتساع الأمر إذا ضاق، ورفع الحرج والعسر، ونحو ذلك من
قوانينها المقرَّرة، ونواميسها المحرَّرة، فاليسر ورفع العسر لازمٌ من لوازمها،
وخاصَّة من خصائصها، كما أن من مَزاياها وفرة المآخذ لأحكامها، وتنوع
المدارك لفروعها، فقد فتح بفضل ذلك أبواب لمخارج لولاها لضاقت الصدور.
وقد رحم الله سبحانه - وله الحمد - هذه الأمة بكثرة مجتهديها وانتشار
فقه أئمتها، وتلقي ذلك خلفًا عن سلف حتى سهل الانتفاع بعلومهم وفروع أصولهم،
والاستمداد من مدوناتهم وفتاويهم، وحتى أصبح أسلوب التفريع في كتب الفقه
والفتاوى خير رائد لتعلم الحكم والقضاء وتوليد الفروع من الأصول، وتعرف الأشباه
والنظائر.
أقول: كتب الفقه، وأعني بها كتب عامة الأئمة المجتهدين وأصحابهم
وأتباعهم رضوان الله عليهم، فهي التي تجلى فيها يسر الدين ورحمته، وكاد
أن لا تقع نازلة إلا ويجد المنقِّب لهم كلامًا في أمرها، هذا إذا نظر إلى النوازل
من الوجهة الفقهية؛ وأما إذا نظر إليها من الوجهة الأصولية فلا ريب أن آيات
الأحكام المنزلة، وأحاديثها المصححة والمحسنة كافية وافية كلها بمنطوقها
ومفهومها، عامة لكل ما جَدَّ ويَجِدُّ.
من هنا كان الخلاف رحمة، أي اختلاف المآخذ وتنوع وجوه المَدَارك
وتعدد مناحي المصالح؛ إذ بذلك صار يتسنى تعرف الأقوى فالأقوى من
الأقوال، والأصلح فالأصلح من الأقضية لمراعاة الأحوال، وارتفع الحرج من
التحريج على الأفكار، واستبان الأحق بالقبول، ولم يبق إلا تطبيق العلم على
العمل.
ومن المعلوم أن كثيرًا من مسائل القضاء الشرعية كمسألة فسخ عقد من
يغيبون غيبة منقطعة إنما يتمشى القضاء بها على بعض المذاهب دون البعض،
فكم من أقضية لا يتيسر القضاء بها الآن على مذهب النائب الشرعي الحنفي
لانحصار قضائه في مذهبه الذي أنيب للحكم به؟ وأما على غير مذهبه فيمكن
القضاء بها إلا أن أمر تنفيذ القضاء بها موقوف على توسيع الإذن للنائب
الحنفي بأن يولي القضاء لمن يقضي بتلك النازلة على مذهبه ممن يراه أهلاً
للقضاء والحكم، فإذا قضى هذا نفذ النائب الأصلي قضاءه فينفذ حينئذ.
وأما الوقائع لهذه القضية التي سهل العمل بها الآن، وكان مغلقًا دونها
أبواب التنفيذ فلا تحصى أيضا، فيعلم الناس أن من الرجال من يغيب عن زوجته
غيبة ينقطع بها خبره، أو يكون لا مال له حاضر ينفق عليها منه أو يعسر
بنفقتها المعروفة فيفر من وجهها ويتعذر الإنفاق عليها حينئذ لفقد مال له تعاش
به أو تراش، فكيف المخرج لهذه البائسة أتبقى؟ على هذه الحالة التي سكرات
الموت أهون منها، أم ترجع إلى ما عسى أن يكون لها في الشرع الأنور فرج
ومخرج؟ لا جرم أن لها فرجًا ومخرجًا، والدين ليس بالجافي، وإن ضاق بها
مذهب فقد يتسع لها مذاهب، وأقوال الأئمة اشتملت على كثير مما فيه سعة
ورحمة.
أنا لا أحصي مذاكراتي مع قضاة دمشق وسواها لحل هذه المعضلة، وإزاحة هذه
المشكلة، بل كثيرًا ما فاتحت بها مبعوثي سورية وغيرها ممن رغبت إليهم في
اقتراح توسيع المجلة بأبواب أخر، لا سيما في بابي النكاح والوقف، بل كلمت مرة
في ذلك شقيق أحد الصدور العظام لما قدم دمشق، كل ذلك لما يحمله قلبي من همِّ
تلك النازلة؛ وما يشغل فكري على المدى من تلمس المَخرج لها.
ما اتفق أني تجولت في ضواحي دمشق ومراكز أقضيتها إلا وشكا لي خيار
نوابها ومن نزلت بهم هذه المسألة ضيق صدورهم بمصابها، فكم يشكو آل الزوجة
غيبة الزوج في بلاد أميركا مثلاً وانقطاع خبره وطول مدة غيبته وإهماله إقامة وكيل
عنه ينفق على زوجته، أو فقدان مال له ينفق عليها، وعدم صبرها على ذلك، لا
سيما مع قلة ذات يدها وفقر آلها؟
أحضروا لي مرة امرأة بهذه الحالة معلقة، وذكروا أنه صار لزوجها
بضع سنين في أمريكا ولا كتاب منه ولا خبر، ولا حوالة بمال، ولا صلة
بحال، ولا أهل له ولا وكيل، وأخذوا يبكون على نضوب ماء حسنها، وقرب
الزهادة فيها، ووكس مهرها، ووجودها بين أترابها كالمعلقة، لا مزوجة ولا
مطلقة، وتجرع مرارة الفراق، وهموم تسيل الدم من المآق، وأنهم كانوا كلما
انتجعوا وجهًا لحل عقدتها لا يجدون، وكان يعتذر لهم النواب بأن فسخ هذا
النكاح سُدَّت دونه الأبواب، حتى يصدر الأمر من المشيخة الإسلامية بالعمل
على فسخه، وإبطاله ونسخه.
أما الآن فقل للنواب والقضاة في عامة المراكز والجهات قد صدر الأمر
تلو الأمر من مقام المشيخة الجليلة مؤيدًا بالإرادة السنية بالقيام بفسخ هذا
النكاح، وإليك ما أذنت به المشيخة الإسلامية الجليلة لعام 1293 وأرسلت
أمرها بذلك للولايات ليحفظ في سجلات محاكمها الشرعية مُعَرَّبًا عن الأصل
بالتركية [1] .
عدد (نمرو) 299:
ورد من قِبَل علماء لواء السليمانية كتاب يستفتون فيه عما إذا كان الحكم
العالي الناصّ بأن للقاضي الحنفي أن يأمر وفقًا للمذهب الشافعي بفسخ عقد من
يغيبون غيبة منقطعة وتزويج زوجاتهم من غيرهم، والمرسل [2] سنة 1272
جوابًا على ما ورد من متصرفية الموصل لا يزال إلى اليوم مستمرًّا أم لا؟
ويرجون في كتابهم بعد الآن تعيين نواب عالمين بالمذهبين لينظر في الدعاوى
الواقعة وتفصل على المذهب الشافعي فيما إذا كان الطرفان شافعيين أو على المذهب
الحنفي فيما إذا كان المتخاصمان حنفيين أو أحدهما فقط حنفيًّا بباعث أن كثيرين
من أهالي السليمانية وكركوك وقرى سنجار وأربيل شافعيون كما أن ولاية بغداد
وأهل المغرب يتمذهبون بالمذهب المالكي، وكذلك معظم أهل نجد حنابلة، وقد
حول كتابهم واستفتاؤهم إلى دار الفتوى، وأجيب عنه بأنه لما كان القضاة الكرام
في زماننا مأمورين بأن يحكموا على المذهب الحنفي، وأنهم ممتنعون من تنفيذ
حكم خلاف مذهبهم، وأن قضاء قاضٍ على خلاف رأيه فيما هو مجتهد فيه لا ينفذ
على القول المفتى به - كان جعل النائب مأذونًا له بأن يحكم بأقوال بقية المذاهب
مخالفًا للقول المفتى به ومؤديًا لتشويش أمور العباد.
غير أن الكتب الفقهية المعتبرة صرحت بأنه يصح شرعًا تفويض ذلك
إلى رجل شافعي ليحكم فيها على المذهب الشافعي؛ لذلك وجب في المسائل
المختلف فيها كالطلاق والنكاح إذا كان المتداعيان شافعيين أن ينتخب المفتي
الشافعي أو من كان أعلم وأفقه علماء البلدة، وكان معروفًا بالعقل وموصوفًا
بالدين والاستقامة، ويفوض إليه ويطلب منه الحكم ثم يقوم بتنفيذه القاضي
الحنفي؛ وأن يجري على هذا الوجه أيضا في المالكي والحنبلي. ولما كان
يفهم من مآل مذكرة (؟) أنه يجب على القضاة الشرعيين المعينين في تلك الأنحاء
أن يستحصلوا في ذلك إذنًا من قبل مستجمع الشرف وملجأ الخلافة وكان ذلك
أوفق للمصلحة، فقد استؤذن من حضرة ظل الله في الأرض أن تجري المعاملات
المذكورة بموجب الفتوى المقدمة فصدرت إرادته - التي من شأنها الإصابة -
آذنة بذلك، وقد سطرنا لكم هذا الرقيم لتهتموا بعد الآن بأن تعملوا بمنطوقه الجليل
عندكم.
في 10 صفر سنة 1293 وفي شباط 1291 ... ... شيخ الإسلام
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن فهمي
وإليك صورة الفتوتيين الجليلتين من جانب المشيخة الإسلامية لهذا العهد
تعزيزًا للفتوى المتقدمة، أُرسلتا لقضاء المدينة المنورة غب مراسلته لها بذلك:
عدد (نومرو) 47:
جواب الرسالة البرقية المؤرخة في 25 نيسان سنة 1328:
يُفهم من مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح، والمؤرخة في 10
صفر سنة 93 وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أن للقاضي الحنفي الحق
شرعًا أن يعطي إذنًا للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب
الأخرى، وقد بودر بإشعار الكيفية إلى جانب فضيلتكم مع نص دار الفتوى في 9
جمادى الأخرى سنة 1330 وفي 30 مارس سنة 1328.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الإسلام
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن نسي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عدد (نومرو) 91:
لما كان أشعر بمحررات جوابية مؤرخة في 9 جمادى الآخرة سنة
1330، وذات العدد السابع والأربعين بأن للقاضي الحنفي الحق شرعًا أن يعطى إذنًا
للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب الأخرى كما يفهم من
مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح والمؤرخة في 10 صفر سنة
1293، وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أرسل لكم ذلك مطويًّا مع
رسالة برقية مقدَّمة بإمضاء السيد محمد، تحتوي بعض الجمل في ذلك الباب. في
29 رمضان سنة 1330 وفي 29 آغستوس سنة 328.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الإسلام
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد جمال الدين
وبعد فإن من يتدبر هذه الفتاوى الجليلة يعلم أنه إذا عمل بها قضاتنا
ونوابنا حينما تمس الحاجة إليها فإنها تُزاح بها آصار وغموم، ولا سيما في
بعض مسائل الزوجية التي لا يقضى بها على مذهب الحنفية، ويسهل الحكم
بها على المذاهب الأخرى.
ومن الصور التي يفسخ بها النكاح على غير مذهب الحنفية إعسار الزوج
بالنفقة أو انقطاع خبره ولا مال له، ففي الصورتين لها فسخ النكاح ففي
(المنهاج وحواشيه) من كتب الشافعية: إن من أعسر بأقل نفقة أو كسوة أو مسكن ولم
تصبر فلها الفسخ إن ثبت إعساره عند قاضٍ بإقراره أو بينة وكذا إذا انقطع
خبره، ولا مال له حاضر، فلها الفسخ كما في كتاب النفقات.
وفي (الإقناع وشرحه) من كتب الحنابلة: أنه متى تعذَّر الإنفاق على
الزوجة بأن لم يكن للزوج مال ولا نقد ولا عرض ولا عقار - فلها الفسخ؛ لتعذر
الإنفاق عليها من ماله كحال الإعسار.
وفي (بداية المجتهد) للإمام ابن رشد من أئمة المالكية ما مثاله: وأما
الإعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبوعبيد وجماعة: يفرق
بينهما.
وكذلك يعتبر عند الحنابلة الشروط التي تحصل عند العقد، وهي ما
يقتضيه العقد أو تنتفع به المرأة فكله لازم للزوج بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (مقاطع الحقوق عند الشروط) . وتفاصيل
الفروع في المطولات.
لهذا كان من الواجب المحتَّم على نواب المراكز والألوية والأقضية أن
يحتفظوا بهذه الأوامر الشرعية والفتاوى الجليلة في باب الزوجية؛ وليقيدوها
في سجلاتهم وليحافظوا عليها؛ وليحفظوها لمحاكماتهم؛ وليقوموا بها في كل
دعوى أقيمت على هذه الحال؛ ولينفذوا حكمها بما أمر به مشايخ الإسلام
الأعلام، بتفويض ذلك إلى من يقضي بها ثم ينفذون الحكم في الحال؛
وليرحموا من تنزل بهم هذه النازلة من البائسات؛ وليوفوا بما عهد إليهم من
ذلك لا سيما وقد صدرت به الإرادة السنية التي طاعتها في الحق من الواجبات،
ومن خالف من القضاة بعد وضوح المحجة، فقد قامت عليه الحجة، والله حسيبه،
وعليه حسابه. اهـ.
(المنار)
إن حل المشيخة الإسلامية لهذا المشكل بهذه الصورة حسن، يحصل به
المقصود ويكفي للخروج من الحرج، وبه تفك قيود المحاكم الشرعية في
القطر المصري وأكثر أهله شافعية فمالكية، بل يجوز لمن يسمون حنفية تبعا
لآبائهم أن يطلبوا الحكم بمذهب الشافعي أو غيره فيها إذا احتاجوا إلى ذلك في
مثل الواقعة التي أشار إليها ناشر هذه الأوامر وفي غيرها من الوقائع،
والعامي لا مذهب له إلا مذهب مفتيه والحكم يرفع الخلاف.
وكان يمكن أن يحل شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي وغيره المشكلة بغير
ما حلها به؛ ولكنه أراد التفصي من الإذن لقضاة الترك الحنفية بالحكم بمذهب
الشافعي أو غيره؛ لجهلهم بهذه المذاهب؛ ولئلا يضطرب أمر القضاء بتوسيع
مجال الأحكام فيه، وتتناوح أهواء القضاة إن أذن لهم بالحكم بما يرونه
الأصلح من هذه المذاهب في كل واقعة، ولا يمكن جعل الإذن خاصًّا بمسألة
أو مسألتين كفسخ النكاح، ولا تحب حكومة الآستانة أن تولي على كل بلاد
قضاة من أهل المذهب الذي عليه جميع أهلها أو أكثرهم؛ لأن من سياستها
جذب الناس إلى مذهب الدولة، أراد الشيخ التفصي من ذلك وتعليل أمر القضاة
بالحكم بالمذهب الحنفي وعدم تنفيذ غيره، فعلله أولاً بقوله: (وإن قضاء قاضٍ
على خلاف رأيه فيما هو مجتهد فيه لا ينفذ على القول المفتى به) فكان هذا
تعليلا في غير محله؛ لأن القاضي المجتهد غير موجود عندهم، فإن كان موجودًا
وجب أن يولَّى على أن يحكم باجتهاده وحينئذ لا ينفذ ما يحكم به على خلاف رأيه،
وإن وافق المذهب الحنفي، فالحق أنه لا فرق في القضاة المقلدين الذين
ليس لهم رأي في المسائل بين حنفي وشافعي، ومسألة التنفيذ تابعة للسلطة فكل
من عيَّنه السلطان القادر على التنفيذ ينفذ حكمه مهما كان المذهب الذي أمره
بالحكم به، وليست المسألة تعبدية.
وقد كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى طاف على المحاكم
الشرعية مفتشًا لها بإذن الحكومة عقب توليه إفتاء الديار المصرية، وكتب تقريرًا
ضافيًا في طريقة إصلاحها، اقترح فيه عدم حصر القضاء في الحنفية توسعة على
الأمة، واقترح أيضا أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، ولا سيما الأحكام التي
هي من خصائص المحاكم الشرعية؛ ونحن لإيضاح المقام الذي نتكلم فيه نذكر
عبارته، ثم ما أيدناها به في مقدمتنا لذلك التقرير عند طبعه، أما عبارته فهذا
نصها:
الأحكام
(ما عليه العمل من أقوال العلماء في الأحكام الشرعية مذكور في الكتب
مخلوطًا بالخلاف والبحث وطرق الترجيح، ومن رفعت إليه واقعة شرعية قد
يصعب عليه الحكم فيها إلا بعد مراجعته بعض المؤلفات الطويلة، وربما
احتاج إلى مراجعة عدة منها في أبواب مختلفة، وكثير من القضاة لا طاقة لهم
باستخراج الأحكام من هذه المطولات، وفي الحق أن ذلك غير ميسور إلا
لقليل ممن يصح توليته القضاء، اللهم إلا بعد إصلاح طريقة تعليم الفقه في
الجامع الأزهر وإعادتها إلى ما كان عليه السلف الصالح، وذلك أمر بعيد المنال
الآن. نعم يجب أن يكون القاضي مقتدرًا على البحث والمراجعة في المشكلات
أما في كل حكم فذلك من العسر بمكان، وقد كثر الخطأ في أحكام الأوقاف والطلاق
والمهور والوصايا ونحو ذلك لهذا السبب.
ثم إنه توجد شئون للمسلمين تقضي الضرورة بالنظر فيها وبيان الأحكام
التي ترفع الضرر وتقرر العدل ولا تخالف الشرع، بل هي من قوامه كأحكام
الغائب والمفقود الذي ترك مالا، وهل يمكن إقامة وصي يخاصم له ويحفظ ماله ويدفع
الخصوم عنه، وتنفذ الأحكام عليه بالنيابة عنه؟ وهي من المسائل الخلافية في
المذاهب والوقائع فيها كثيرة، ورجال المحاكم فيها مضطربون،
وكالزوجة يتركها زوجها بلا منفق، أو يغيب عنها الغيبة الطويلة وتنقطع
أخباره أو يكون غير معروف المقر ولا أمل في الوصول إليه لو حكم عليه
بالنفقة، أو كان من المحكوم عليه بالأشغال الشاقة أو السجن لمدد طويلة
وتخشى على نفسها الفتنة، أو لا تجد ما تنفق منه ولا من تستدين منه على
حساب الزوج، ومثلها التي يكون زوجها حاضرًا ولكنه لا ينفق عليها وهي
مضطرة لما تنفق منه، وكذلك التي يضارها زوجها في العشرة، فجميع ذلك
مما عمت به البلوى وكثرت فيه الشكوى من جميع أنحاء البلاد، وكثير من
النساء يُبحن أنفسهن افتتانًا أو اضطرارًا للقوت؛ لأنهن لم يجدن السبيل إلى
دفع الضرورة، أو المخلص من الفتنة في المحاكم الشرعية على حالتها التي
هي عليها الآن، أليس من الواجب أن نفزع إلى الشريعة الإسلامية المطهرة؛
لنجد فيها الوسيلة إلى وقاية الأعراض والأنفس، مع أن المحافظة عليهما من
أهم مقاصد الدين الإسلامي والشريعة السمحة، ولا نعدم في نصوصها وسيلة
إلى أهم ما جاءت له.
كل ذلك يجب أن يوضع بين يدي لجنة من العلماء ليستخرجوا من
الأحكام الشرعية ما فيه شفاء لعلل الأمة في جميع أبواب المعاملات خصوصًا
ما لا يمكن النظر فيه لغير المحاكم الشرعية من الأحوال الشخصية والأوقاف
ويكون ما يستخرجونه كتابًا شاملاً لكل ما تمس إليه الحاجة في تلك الأبواب
ويضم إلى ما يستخلص في أبواب المرافعات الشرعية، ويصدر الأمر بأن يكون
عمل القضاة عليه، فإذا أغمض عليهم أمر راجعوا فيه من يكون في وظيفة
إفتاء الحقانية أو الديار المصرية، وعليه أن ينظر فيه بنفسه أو مع لجنة
العلماء على حسب الحاجة. اهـ.
(المنار)
ليعلم القارئ أن هذا الاقتراح لم يُقبل ولم تعمل به الحكومة المصرية على
شدة الحاجة إليه، لا لإقامة العدل فقط بل لحفظ الدين أيضًا، وكان من سبب
ذلك جمود قاضي مصر الذي يجيء من الآستانة وتعصبه، وجمود سائر
القضاة والعلماء وعدم اهتمامهم، ولو أنهم اجتمعوا وألفوا الكتاب الذي اقترحه
الأستاذ الإمام وطالبوا الحكومة بتنفيذه لفعلت. فهذا الجمود والإهمال من
العلماء قد كان أكبر أسباب اقتباس الحكومتين العثمانية والمصرية
للقوانين الأوربية، واتسع التشريع الأوربي بمصر أكثر من الآستانة؛
لأن نفوذ العلماء فيها أضعف، وعنايتهم بشئون الحكومة أقل.
ومما جُعل عقبة في طريق تنفيذ اقتراح المفتي زعمهم أن الحكم لا يجوز
أو لا ينفذ إلا بمذهب السلطان مع أن السلطان أمر قضاة البلاد العثمانية بإنابة
من يحكم بغير مذهبه عند الحاجة وتنفيذ ما يحكمون به، وإنني عند طبع
التقرير سنة 1317 ونشره كتبت له مقدمة بحثت فيها في هذه المسألة بحثًا فقهيًّا أزلت
فيها الشبهة، ومهدت السبيل للعمل بالحنيفية السمحة، فقلت في بيان الأمر الثالث من
الأمور الإصلاحية التي اشتمل عليها التقرير وأعدت نشرها هنا آنفا ما نصه:
الأمر الثالث: أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما في
الأحكام التي هي من خصائص المحاكم الشرعية، يكون سهل العبارة لا خلاف فيه
كما عملت الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا
بالغرض واقيًا للمصالح إلا إذا أُخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية
المعتبرة ليكون اختلافهم رحمة للأمة، ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور
ببطلانه كما لا يخفى [3] .
وقد أشير في صفحتي 38 و 40 من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي،
وتوهم بعض الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة، وأن الأحكام بغير مذهب
الحنفية لا تصح ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور:
(1) جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه: فلو شرط المولَّى وهو
حنفي أو شافعي على من ولاّه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي
حنيفة - فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهذا
شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم
يجعله شرطًا فيها، وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلدتك القضاء
فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر، أو: لا تحكم بمذهب أبي حنيفة
على وجه النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا،
ويجوز أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط
المولِّي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا
يصح مع الجهل أن يكون موليًا لا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد
الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق:
تصح الولاية ويبطل الشرط. اهـ المراد منه.
(2) لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على
مصلحة الناس في هذا العصر، إذا حكم فيها بمذهبهم، وهذه حالة ضرورة أو
حاجة تنزل منزلة الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم؛ لأن الحكم
الذي تمس إليه الحاجة أو يضطر إليه يصير متفقًا عليه.
(3) إن مذهب الحنفية واسع متشعب جدًّا بمعنى أن فيه كثيرًا من
الأقوال في كل مسألة حتى قال كثير من فقهائه: إنه لا يوجد قول لمجتهد في
مسألة إلا وهو موجود في مذهبنا لأحد أئمتنا أو مشايخنا ولو ضعيفًا، ومن المقرر
عندهم أيضًا أن القول الضعيف يقوى بأمر الإمام بالعمل به، وقد ألفت لجنة من
العلماء مجلة الأحكام العدلية، وأخذوا فيها ببعض الأحكام التي لا تصح في مذهب
الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولكنها صحت في مذهب غيره وقالوا: إنها
وافقت أقوالاً ضعيفة لعلماء الحنفية تقوَّت بأمر السلطان ووجب الحكم بها.
وإذا ألف علماء الأزهر الكتاب الذي اقترحه فضيلة مفتي الديار المصرية
في هذا التقرير ولم يجدوا الوجهين اللذين قبل هذا كافيين لجواز الحكم بموجبه
فيمكن طلب صدور الأمر به من السلطان أو نائبه إذا كان له هذا الحق ولا
يمكن أن مولانا السلطان عبد الحميد أو سمو عزيز مصر الحالي يتوقفان في
أمرٍ رأى أكابر علماء الأزهر أن فيه مصالح المسلمين وحفظ حقوقهم. اهـ.
وأقول الآن: إنه كان يمكنني بيان حل آخر لهذا الإشكال يصح شرعًا لا
سياسة، فتركته اتقاء فتن السياسة، وأما الحل الذي جرت عليه المشيخة
الإسلامية، وأذن به السلطان، فتنفيذه في مصر أسهل من تنفيذه في سائر البلاد
العثمانية؛ لكثرة علماء الشافعية والمالكية هنا، فإلى متى هذا التواني والإهمال
الذي ينفر الناس من الشرع؛ لظنهم أنه هو علة التضييق عليهم ويسيء ظنهم
بالحكومة والمسيطرين عليها؟
لو ألف علماء الأزهر اللجنة التي اقترحها الأستاذ الإمام ووضعت الكتاب
الذي أشار به، وطلبت الحكومة المصرية من شيخ الإسلام في الآستانة الفتوى
بالعمل، ثم أذن السلطان الذي يعبر عنه بالإرادة السلطانية - لكان هذا أرجى ما
يرجى للإجابة ولتجرئة الميالين إلى الإصلاح من علماء باب المشيخة في
الآستانة وغيرهم على تعميم ذلك.
جرت بيني وبين شيخ الإسلام موسى كاظم أفندي مذاكرة في داره عندما كنت
في الآستانة سنة 1318 تناسب ما نحن فيه، فقد أخبرني أنهم يشتغلون بوضع كتاب
في الجنايات وغيرها لأجل محاكم اليمن (وكان اليمانيون صرحوا بأنهم لا يقبلون إلا
الحكم بالشرع دون القوانين) قال شيخ الإسلام: لكن لا بد من إنشاء محكمة تجارية،
وأحسب أنه قال في الحديدة وفي صنعاء، لأن هنالك بعض اليهود وهم لا يرضون
بحكم الشرع؛ لأنه لا يجيز شهادتهم. فقلت له: إذا التزمتم مذهب الحنفية فيما
تضعونه من الأحكام المدنية والشخصية والجزائية فإن كثيرًا من المسلمين لا يسهل
عليهم قبولها مختارين، وأما إذا اقتبستم من جميع كتب الشرع ولم تلتزموا كتب
مذهب واحد فإنه يسهل عليكم وضع كتاب موافق لمصلحة الناس لا يشكو منه مسلم
ولا غير مسلم، وشهادة غير المسلم تجدون لها حلاًّ مرضيًا في بعض الكتب المعتبرة،
وأنا زعيم بأنه ما من مشكلة إلا ويوجد لها حل كحل العقال بهذا الشرط، فقال الشيخ:
وأنا أعتقد هذا ولكن من يستطيع إقناع مشايخ الفتوى خانة به، إلخ، ولنا أن نقول:
إن من لم تقنعه الأقوال والأحاديث تقنعه الأحوال والحوادث رغم أنفه.
العبرة في هذه الحادثة:
لولا مطالبة الجمهور من أهل السليمانية والموصل لحكومة الآستانة بما ذكر
في فتوى شيخ الإسلام من الحكم بمذهب الشافعي الذين ينتمون إليه لما خرجت تلك
الفتوى والإرادة السلطانية بالحكم بها، وكنت سمعت من والدي رحمه الله تعالى أن
السلطان ولَّى على أهل السليمانية قاضيًا شافعيًّا لأنهم كتبوا إليه أنهم لا يقبلون قاضيًا
يحكم بغير مذهبهم الذي يدينون الله به، ولا أدري أكان ذلك على ظاهره كما بلغه أم
هو تكبير لصدور الإرادة بفتوى شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي كما هو شأن الناس في
تكبير الأخبار عند ما ينقلونها من قطر إلى قطر.
وكيفما كانت الحال فالعبرة التي يجب أن يفهمها عامة المسلمين من هذه
الواقعة هي أن الجمهور إذا عرف كيف يطالب الحكومة بالإصلاح فإنها لا
تجد لها مندوحة من إجابته إلى طلبه، وأن استمرار الحكام والعلماء على
شيء وإصرارهم على الجمود عليه باسم الشرع أو السياسة، ليس برهانًا قاطعًا
على كونه حتمًا لا مرد له ولا مصرف عنه، وأنه يمكن تقويم العامة للخاصة
كما يمكن العكس، ولكن آفة العامة الجهل، فهي لا تدري ماذا يجب أن تطلب
من إصلاح أمرها، وآفة الخاصة فساد الأخلاق فهو الذي يحول بينها وبين العمل بما
تعلم من إصلاح أمر الأمة.
إلى الله نشكو مرض عامتنا وخاصتنا جميعًا، وعلاج هذا المرض - أو
الأمراض - يتكلم فيه الناس، فيخلطون الخطأ بالصواب ويعز من يعرفه معرفة
تفصيلية تامة ويعرف كيفية تنفيذه، وهذا العارف العزيز يعز عليه أن يفرغ معرفته
في قلب غيره؛ لأن مسائل العلوم الاجتماعية يدعيها جميع الناس، وقلَّ أن يعرف
حقيقتها منهم أحد.
يقولون: التعليم، ويقولون: التربية، ويقولون: الجرائد والمجلات،
ويقولون: الأحزاب والجمعيات، وأكثرهم لا يعرف حق ذلك من باطله، فنحن
نرى فسادًا كبيرًا دخل على الأمة من قِبل هذه الأشياء، فالعبرة بروح التربية
والتعليم والصحف والأحزاب والجمعيات، لا بصورها وأشكالها، وهذه الروح
لا تكون صالحة مُصلحة إلا إذا كان القائمون بهذه الأشياء صالحين مصلحين،
فهل من السهل أن تعرف الأمة مَن عساه يوجد فيها من هؤلاء الرجال فتكل
أمر الإصلاح إليهم؟ أنَّى ذلك وعوامها جاهلون، وخواصها يخافون من كل
مصلح على جاههم الذي يستغلون به جهل العامة، فينفرون وينفرون منه، وينهون
عنه وينئون عنه.
ليس هذا الموضع بالذي يسع الإطناب في هذا البحث - والمغرور بجهله
المركب الذي يَحسبه علمًا لا يفيده إيجاز ولا إطناب - وإنما نريد أن نذكر المستعد
للفهم والاعتبار بأن دون ما يشتهون من حكومة لهم تحكم بينهم بشريعتهم
عقبات أمنعها على المقتحم جمود المتدينين، وأهونها جحود المتفرنجين؛ لأن هؤلاء
لا يزالون هم الأقلين، وإذا دام هذا الجمود فسيكونون الأكثرين، ويعم سلطان ما
ينسخ به الشرع من القوانين، ويتبع ذلك انحلال عقدة الدين، فأما الوسيلة لحياة
الإسلام وحفظ شرعه فهي واحدة لا تعدد فيها، ولا يمكن الجمع بين الدين الحق
والمدنية الصحيحة بدونها، ألا وهي المبادرة إلى تربية طائفة عظيمة من خيار
نابتة المسلمين؛ ليكونوا دعاة ومرشدين، ينهضون بهذه الأمة، ويخرجون بها من
هذه الغمة، وهذا هو الذي تحاوله جماعة الدعوة والإرشاد، فعلى من كان على
رأيها أن يتعاهدها بالإسعاد والإمداد {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .
__________
(*) نشر هذه الرسالة بهذا العنوان في مجلة المقتبس الشهيرة صديقنا علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي نزيل مصر الآن، ورغب إلينا أن ننشرها في المنار لزيادة الفائدة.
(1) المنار: أي مترجمًا بالعربية عن الأصل الذي هو بالتركية.
(2) المرسل صفة للحكم معطوفة، ويفهم منه أن أهل الموصل كانوا استأذنوا من المشيخة الإسلامية أن يحكم بينهم بمذهب الشافعي فأذنت لهم.
(3) بينت في محاورات المصلح والمقلد نقض قولهم ببطلان التلفيق وكون مذهب الحنفية ملفق من ثلاثة مذاهب.(16/264)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لائحة الإصلاح لولاية بيروت
(وهي اللائحة التي صدقت عليها وقررت السعي في إنفاذها)
... (الجمعية العمومية الإصلاحية في بيروت)
المؤلفة من ستة وثمانين عضوًا منتخبين انتخابًا قانونيًّا من قِبل المجالس
الملية والرؤساء الروحيين لجميع الطوائف في بيروت ليمثلوا طوائفهم وينوبوا
عنها في تقرير الإصلاح اللازم لولايتهم.
وقد تم التصديق لهذه اللائحة وتفويض إنفاذها إلى لجنة الجمعية العمومية
في الجلسة العامة الثالثة المنعقدة في دار المجلس البلدي في يوم الجمعة الواقع
في 23 صفر سنة 1331 و31 كانون الثاني سنة 1913.
***
مادة أساسية
الحكومة العثمانية حكومة دستورية نيابية
(الإدارة)
المادة الأولى: تقسم إدارة الولاية إلى قسمين: القسم الأول هو المشتمل
على الأعمال المتعلقة بكيان السلطنة وشئونها الأساسية، وهي المسائل
الخارجية والعسكرية والجمارك والبوسته والتلغراف وسن القوانين ووضع
المكوس.
والقسم الثاني: هو المشتمل على الأعمال المحلية المتعلقة بشئون الولاية
الداخلية الخاصة، فكل ما يتعلق بالقسم الأول منوط تقريره وإجراؤه بالحكومة
المركزية، وكل ما يتعلق بالقسم الثاني منوط تقريره بمجلس الولاية العمومي.
***
الوالي - حقوقه ووظائفه
المادة الثانية: للوالي صفتان قانونيتان: الأولى تمثيل الحكومة المركزية،
وبهذه الصفة يتولى إجراء جميع الأعمال المتعلقة بالقسم الأول طبقًا لقرارات
الحكومة المركزية.
والثانية تمثيل حكومة الولاية التي يرأسها، وبهذه الصفة يتولى تنفيذ
جميع الأعمال المتعلقة بالقسم الثاني طبقًا لقرارات المجلس العمومي.
أما حقوق الوالي ووظائفه فهي:
أولاً - تنفيذ قرارات المجلس العمومي.
ثانيًا - الاعتراض على قرارات المجلس العمومي على الشروط الآتي بيانها
في باب الوالي والمجلس العمومي.
ثالثًا - الاطلاع على لوائح المشاريع التي تعدها لجنة المجلس العمومي
لإبداء ملحوظاته عليها قبل تقديمها إلى المجلس.
رابعًا - تعيين المتصرفين والقائمقامين والمديرين بعد عرض أسمائهم
على الحكومة المركزية وفقًا لنظام يضعه المجلس العمومي.
خامسًا: تعيين الطلاب الممتحنين الذين تعرض عليه لجنة الامتحان
أسماءهم لأجل التوظيف.
سادسًا: دعوة المجلس العمومي في الميعاد المعين لاجتماعه، ويمكنه
دعوته لاجتماع فوق العادة بمصادقة لجنة المجلس أو مجلس المستشارين.
* * *
المجلس العمومي - حقوقه ووظائفه
المادة الثالثة: يؤلف في الولاية مجلس عمومي من ثلاثين عضوًا ينتخب
نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من غير المسلمين لمدة أربع سنوات، وهم
ينتخبون منهم رئيسًا لهم بالاقتراع السري، أما سائر الانتخابات العمومية فتبنى
على قاعدة التمثيل النسبي العددي في دوائر الانتخابات.
أما حقوق المجلس العمومي ووظائفه فهي:
أولاً: تقرير جميع أعمال الولاية الداخلية والمذاكرة في ما يعرض عليه
من قِبل الوالي أو لجنة المجلس أو عشرة من أعضائه.
ثانيًا: وضع الأنظمة الداخلية، بشرط أن لا تمس شئون السلطنة الأساسية.
ثالثًا: عقد القروض التي لا تتجاوز قيمتها نصف الواردات المختصة بالولاية.
أما القروض التي تتجاوز هذا المبلغ فيلزم لها مصادقة الحكومة المركزية.
رابعًا: إعطاء رخص لتأليف شركات مساهمة (آنونيم) عثمانية
للمشاريع العمومية النافعة للتجارة والصناعة والزراعة وسائر الشئون
العمرانية داخل الولاية على شرط أن لا تتضمن امتيازًا، أما المشاريع التي
تتضمن امتيازًا فيجب مصادقة الحكومة المركزية عليها. وتخول هذه
الشركات الشخصية المعنوية بمعنى أن يكون لها حق التملك.
خامسًا: تقرير الضمائم الكسورية على المكوس المقررة.
سادسًا: تقرير رواتب موظفي ومستشاري الدوائر التي هي بإدارة حكومة
الولاية.
سابعًا: حق استيضاح الوالي وطلب عزله.
لا يتدخل المجلس العمومي في الشئون السياسية العامة مطلقًا.
* * *
الوالي والمجلس العمومي
المادة الرابعة: قرارات المجلس العمومي نافذة ما لم يعترض عليها
الوالي بمصادقة مجلس المستشارين خلال أسبوع من تاريخ تبليغه إياها؛ فيعيد
المجلس النظر في قراره، وإذا أصرَّ عليه بأكثرية ثلثي الأصوات يكتسب
القرار الصفة القانونية القطعية وعلى الوالي تنفيذه.
* * *
لجنة المجلس العمومي
المادة الخامسة: ينتخب المجلس العمومي بالاقتراع السري لجنة من
أعضائه واحد منهم من كل لواء واثنان من مركز الولاية لمدة سنة واحدة
فتجتمع بإدارة مستشار المجلس العمومي.
أما وظائف اللجنة فهي:
أولاً: مراقبة تنفيذ قرارات المجلس.
ثانيًا: درس المشاريع اللازمة للولاية وإعداد لوائحها.
ثالثًا: تعيين مهندسين اختصاصيين للاستعانة بهم في أعمالها.
رابعًا: حق الاعتراض على الممتحنين الذين تقدم إليها لجنة الامتحان أسماءهم
قبل عرضها على الوالي.
خامسًا: دعوة المجلس العمومي، لاجتماع فوق، العادة باتفاق ثلثي أعضائها
ومصادقة مستشار المجلس.
* * *
الموظفون - تعيينهم وعزلهم
المادة السادسة: الوالي وحاكم الشرع في مركز الولاية والدفتردار
وباشمدير الرسومات وباشمدير البوسطة والتلغراف وقومندان الجندرمة
وضباطها - تعينهم الحكومة المركزية على شرط معرفتهم اللغة العربية معرفة
تامة، ويستثنى من هذا الشرط والي الولاية لمدة خمس سنوات من تاريخ
وضع مواد هذه اللائحة موضع الإجراء.
أما بقية الموظفين فينبغي أن يكونوا من أهالي البلاد ويجري تعيينهم على
الوجه الآتي بيانه:
تعيين الموظفين:
يُمتحن طالبو الوظيفة أمام لجنة مؤلفة من مستشار ورئيس الدائرة التي
يطلبون الدخول فيها، فتقدم لجنة الامتحان اسمي الممتازين منهم إلى لجنة
المجلس العمومي، وبعد مصادقتها يعرضان على الوالي فيعين أحدهما. ولدى
تعيينه يبلغ الوالي اسمه للنظارة المنسوب إليها فيقيد في سجلها محافظة على
حقوق ترقيته وتقاعده، وأما رؤساء العدلية فيعينون وفقًا لنظام يضعه المجلس
العمومي.
عزل الموظفين:
الموظفون المعينون من قبل الولاية عدا رؤساء العدلية تكف يدهم بناء
على طلب المستشار ورئيس الدائرة المنسوبين إليها معًا. وأما رؤساء العدلية
فتكف يدهم بناء على طلب المستشار ومصادقة مجلس المستشارين. وقرار كف اليد
في كلا الحالين ينفذه الوالي، وللموظف المكفوفة يده الحق بمراجعة الوالي في
خلال سبعة أيام من تاريخ تبليغه ذلك إذا كان موظفًا في مركز الولاية وخمسة
عشر يومًا إذا كان خارج المركز. فيحيل الوالي دعواه إلى مجلس المستشارين ليحكم
في وجوب العزل أو عدمه، والموظف الذي يحكم مجلس المستشارين بعزله لا
يجوز استخدامه في دوائر الحكومة ولا يعطى معاش معزولية، أما محاكمة المعزول
جزئِيًّا فتجري في المحاكم العدلية بمذكرة خاصة من المستشار المدعي العمومي.
وأما موظفو الحكومة المركزية فتكف يدهم بطلب المستشار ومصادقة
الوالي الذي يطلب عزلهم بعد حكم مجلس المستشاين عليهم من النظارة
المنسوبين إليها، وينبغي أن يعين خلفهم في مدة ثلاثين يومًا.
وأما المفتشون والمستشارون فيكون عزلهم بطلب الوالي من مجلس
المستشارين وبحكم صادر من هذا المجلس.
وأما الوالي فيكون عزله بناء على قرار المجلس العمومي بأكثرية ثلثي
مجموع أعضائه، فتعين الحكومة المركزية خلفه في مدة أربعين يومًا.
* * *
المستشارون والمفتشون
المادة السابعة: تعين الحكومة المركزية مستشارين من الأجانب على
شرط معرفتهم إحدى اللغات الثلاث: العربية أو التركية أو الفرنسوية، وذلك
للدوائر الآتية في مركز الولاية وهي: الجندرمة والمالية وتلحق بها غرفة
التجارة والبوسطة والتلغراف والجمرك. وتعين أيضا مفتشًا أجنبيًّا عامًّا لكل لواء من
الولاية يخول حق تفتيش أية دائرة كانت في اللواء، ويكون مرجعه مستشار مركز
الولاية الداخلة تلك المسألة المراجع فيها ضمن دائرة اختصاصه.
ويعين المجلس العمومي من الدول التي ترضاها الحكومة المركزية
مستشارين للداوئر الآتية: وهي مجلس الولاية العمومي والعدلية والنافعة
والمعارف والبلدية والبوليس، ويلبس هؤلاء المستشارون الشعار العثماني في
أوقات العمل، أما مدة الاستشارة والتفتيش فخمس عشرة سنة، ويمكن
تجديدها.
* * *
مالية الولاية
المادة الثامنة: وإدارات الولاية على نوعين: أحدهما يعود برمته إلى
مركز السلطنة، وهو حاصلات الجمارك والبوسطة والتلغراف والبدلات
العسكرية، والآخر وهو عدا ما ذكر من الواردات يعود برمته إلى الولاية.
* * *
رواتب الموظفين
المادة التاسعة: ينظم المجلس العمومي ميزانية الولاية السنوية فيدخل فيها
رواتب جميع الموظفين والمستشارين عدا موظفي ومستشاري الجمارك والبوستة
والتلغراف.
* * *
الأراضي المحلولة
المادة العاشرة: تسلم الأراضي المحلولة والأملاك الأميرية الداخلة
ضمن الولاية إلى المجلس العمومي، وتكون برمتها ملكًا للولاية.
* * *
الأوقاف
المادة الحادية عشرة: لا علاقة للإدارة ولا للمجلس العمومي في
الأوقاف، بل يسلم كل وقف إلى مجلس الملة المنسوب إليها؛ لاستخدامه بموجب
قانونها (بناء عليه، جميع أوقاف المسلمين في الولاية تسلم إلى مجلس ملتهم أسوة
بباقي الطوائف) .
* * *
البلديات
المادة الثانية عشرة: البلديات مستقلة بجميع أعمالها، ولها الحق
بوضع الرسوم البلدية بمصادقة المجلس العمومي دون مراجعة الحكومة
المركزية.
* * *
مجلس المستشارين
المادة الثالثة عشرة: يؤلف مجلس يسمى مجلس المستشارين ويكون
أعضاؤه رئيس المجلس العمومي، أو من ينيبه عنه من أعضاء لجنة المجلس،
وجميع مستشاري الدوائر في مركز الولاية.
أما وظائف هذا المجلس فهي:
أولاً: تفسير النظام الذي تضعه الحكومة المركزية بناء على هذه اللائحة
كدستور لحكومة الولاية ومجلسها العمومي.
ثانيًا: تفسير القرارات والأنظمة التي يضعها المجلس العمومي.
ثالثًا: النظر والحكم بناء على طلب الوالي أو أحد المستشارين في كل
خلاف في الرأي يقع بين أحد المستشارين والمجلس العمومي أو إحدى لجانه
أو أية دائرة كانت ويكون حكمه مبرمًا ويرأس هذا المجلس والي الولاية
وينوب عنه في غيابه رئيس المجلس العمومي أو مستشار هذا المجلس.
* * *
اللغة المحلية
المادة الرابعة عشرة: إن اللغة العربية تعتبر اللغة الرسمية في جميع
المعاملات داخل الولاية، وتعتبر أيضًا لغة رسمية كاللغة التركية في مجلسي
النواب والأعيان.
* * *
الخدمة العسكرية
المادة الخامسة عشرة: تخفض الخدمة العسكرية إلى سنتين وتقضى
الخدمة أيام السلم في الولاية، وتنزل قيمة البدل النقدي للنظامية إلى ثلاثين
ليرة عثمانية، وللرديف والاحتياط إلى عشرين ليرة.
... ... ... ... (الجمعية العمومية الإصلاحية في بيروت)
(المنار)
إنني أشكر لإخواني أهل بيروت هذا العمل الإصلاحي الذي أقيم
على أساس الاتفاق بين مسلميهم ونصاراهم، وإن بذل الأولون في استمالة
الآخرين ما لم يبذله غيرهم من الناس؛ وهو أنهم راضون أن تكون قلة
النصارى في الولاية مساوية لكثرة المسلمين في الاشتراك بإدارة حكومتهم، فهذا
برهان عملي قاطع على تساهل من يعدون أشد المسلمين عصبية في سورية، وقد
صدَّق الله، ولله الحمد، حسن ظني في أهل بيروت؛ إذ فضَّلتهم على جميع أهل
بلادنا فيما كتبته عنها عند زيارتي لها بعد إعلان الدستور.
وإذا كنا نعد لهؤلاء المسلمين من المزية سماحهم ببعض حقوقهم لأبناء وطنهم
ونشكر للجميع الوحدة الوطنية والاتفاق؛ فإننا نعد على الجميع سماحهم بأقدس
حقوقهم للمستشارين من الأجانب، فقد منحوهم من الحقوق ما لا يطلب من مثلهم،
وما هو خطر عظيم على مستقبل البلاد، ولم يجعلوا لأنفسهم عليهم سلطة تبيح لهم
مؤاخذتهم إذا أخطأوا ومعاقبتهم إذا أذنبوا، على أن مؤاخذة الضعيف للقوي بالحق
والقانون تكاد تكون متعذرة؛ فكيف إذا كان القوي صاحب سلطة مطلقة لا توجب عليه
للضعيف حقًّا، ولا تفرض عليه مؤاخذة؟
وإنني أشير إلى أهم ما أنكرته من حقوق هؤلاء المستشارين في اللائحة،
لعل إخواننا يتدبرون ذلك فينقحون لائحتهم تنقيحًا يتقون به الخطر ويقطعون
ألسنة المعترضين والمقاومين لهم اتباعًا لأهواء السياسة المركزية العنصرية،
ويقنعون المخالفين لهم بحسن النية؛ لئلا يكون هؤلاء من حزب المقاومين
بالهوى فتقوى بهم مقاومتهم؛ فإن لحسن النية تأثيرًا وإن كان صاحبه مخطئًا،
والحكومة بين الفريقين ترجِّح ما تراه أولى لها، ويرون انتقادي لما أنكرته في
موضع آخر مِن هذا الجزء.
وكنت أودُّ أن لو جروا على طريقة حزب اللامركزية بمصر فلم يقيدوا
أنفسهم بهذه القيود الثقيلة في مسألة المستشارين من الأجانب؛ ولكن يظهر أن
المقترحين لتلك المواد لم يصادفوا من المخالفين لهم فيها من محَّص المسألة وقدر على
الإقناع، ولعمري إن ذلك ليس بالأمر اليسير، والصواب أن يكون طلاب الإصلاح
كافة على رأي واحد في القواعد الإجمالية التي تطلب من الحكومة المركزية؛
لأن التفرق ضعف والاجتماع قوة، وحزب اللامركزية الإدارية في مصر لم يتعرض
في برنامجه للتفصيل؛ لأن الاتفاق عليه متعذر؛ فعسى أن يكون هو الجامع
للجميع.
أنا أقر بأنه لولا وجودي بمصر ووقوفي على دخائل السياسة والإدارة فيها لما
كان هذا القليل الذي أعرفه من تاريخها وتاريخ تونس كان كافيًا للحكم
في هذه المسألة التي عرضت لإخواننا أهل بيروت فكان رأيهم فيها محتاجًا لزيادة
المراجعة والتمحيص.
__________(16/275)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1-4)
وبعد، فقد كتبت هذه المقالة، وهي بحث تاريخي عقلي في العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية، تتميمًا للبحث السابق في مسألة الصلب والفداء، راجيًا
من الله أن يوقظ بها الغافلين، ويهدي بها الضالين، وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت وهو رب العرش العظيم، فأقول وبه تعالى وحده أستعين، إنه حسبي
ونعم الوكيل:
اتفقت شهادة علماء النصارى الأقدمين على أن متَّى لم يكتب إنجيله
اليوناني الحالي، وإنما الذي فعله، كما سيتضح لك، هو أنه جمع بعض أقوال
المسيح عليه السلام باللغة العبرية، وأقدم شهادة وصلت إلى النصارى في هذا
الموضوع هي شهادة بابياس (Papias) أسقف هيرابوليس الذي
استشهد في سنة 164 أو 167 ميلادية، فإنه كتب في منتصف القرن الثاني
كتابًا ضخمًا في خمسة مجلدات، فُقِدَ ولم يبقَ منه سوى جمل قليلة نقلها عنه
أوسابيوس (Eusebius) وإيريناوس (Irenaeus) فمن
هذه الجمل التي نقلها أوسابيوس (مات سنة 340 م) قوله: (إن متَّى كتب
مجموعة من الجمل (Logia) باللغة العبرية) يعني بعض كلمات
المسيح باللغة الآرامية (وقد ترجمها كل بحسب طاقته) . اهـ. ومع أن
أوسابيوس المؤرخ وغيره وصفوا بابياس هذا بسخافة العقل وضعف الإدراك؛
فإنه لا يوجد عند النصارى شهادة لكتبهم أقدم وأعظم من شهادته هذه على
ضعفها؛ فهي سندهم الوحيد من عصر المسيح إلى منتصف القرن الثاني.
وفي سنة 180 ميلادية، ذكر إيريناوس الذي مات سنة 202 م أن متى
كتب إنجيلاً باللغة العبرية أو الآرامية ولا ندري لماذا فقدت كتابات متى
العبرية ومن ترجمها ومتى ترجمت؟ وإذا لاحظنا أن الأصل الذي كتبه متى
كان عبارة عن بعض عبارات المسيح وكلماته (Logia) كما هو صريح شهادة
بابياس المذكورة - ظهر لنا أن واحدًا مجهول الاسم أخذ هذه المجموعة وترجمها
وهذَّبها ورتَّبها وأضاف إليها ما شاء من الحوادث وغيرها لربط الجمل بعضها
ببعض حتى صارت هي الإنجيل اليوناني الذي سمي باسم متى فيما بعد، فهل
بمثل هذا الإنجيل يمكننا أن نثق ونحن لا نعلم من ترجمه؟ ومن الذيتوسع فيها؟
وهل الترجمة صحيحة أم محرَّفة؟ وهل الزيادات التاريخية التي فيه صادقة أم كاذبة؟
وأين هو الأصل الذي ترجمه هذا المترجم؟ واعلم أنه لم يروِ أحد من قدمائهم
أن متى كتب إنجيلاً يونانيًّا كما يدّعون الآن بلا برهان.
فهذا هو حال إنجيلهم الأول، ومنه يُعلم أن أول من نص على أن متَّى
كتب إنجيلاً عبرانيًا هو إيريناوس سنة 180 ميلادية أي في أواخر القرن
الثاني، ولا نعلم إن كان الإنجيل اليوناني الحالي مترجمًا عن هذا الذي ذكره
إيريناوس أم لا؟
أما مرقس فإنه جمع بعض أخبار المسيح وأقواله غير مرتبة كما هي
الآن على ما صرح به بابياس المذكور، وعليه فَيَدٌ أخرى رتبت هذا الإنجيل
وزادت فيه، ثم زيد فيه شيئًا فشيئًا حتى صار كما هو الآن، ومن أحدث الزيادات فيه
العبارات المذكورة في آخره (16: 9-20) ولذلك لم توجد في بعض نسخهم
القديمة التي عثروا عليها؛ لأن زيادتها إذ ذاك لم تعم جميع النسخ، ولكنها عمتها
فيما بعد كما هو الحال الآن؛ وهذه العبارات المشار إليها تتضمن ظهور المسيح
لتلاميذه، ودعوة العالم كله للنصرانية، ورفعه إلى السماء ودعوى إعطاء
المؤمنين بالمسيح القدرة على خوارق العادات والمعجزات (عدد 17 و18)
وهي دعوى يردها الحس والعيان وسيأتي البحث فيها.
هذا وقد كتب مرقس ما كتب بعد موت بطرس وبولس كما صرح بذلك
إيريناوس (Irenaeus) فلم يطلع إذًا بطرس على ما كتبه مرقس
بالرواية عنه. ومرقس لم يجتمع بالمسيح ولم يره قط. فأي ثقة لنا بمثل هذا
الإنجيل؟ وهو لم يذكر إلا في أواخر القرن الثاني كإنجيل متى. وأما ما ذكره
بابياس في منتصف هذا القرن فعن مجموعة أخرى من أقوال المسيح وأخباره
غير مرتبة بحسب زمن وقوعها بخلاف هذا الإنجيل فإنه مرتب.
وأما لوقا فإنه أيضًا ليس تلميذًا للمسيح ولم يره وكذلك بولس أستاذه [1] ،
ولا يوجد دليل على أنه كتب إنجيله بالوحي، بل الظاهر من مقدمته أنه كتبه
بالاجتهاد (1: 1-3) ولم يذكر أيضًا هذا الإنجيل صريحًا في القرن الأول
والثاني إلى سنة 180 ميلادية، وقد اعترف مؤلفه أنه وجد قبله أناجيل أخرى
كثيرة، وهو يدل على تأخر زمنه.
وأما إنجيل يوحنا فلم يذكره أحد إلا في أواخر القرن الثاني، وفيه من
الأقوال والآراء ما لم يروِه أحد غيره. مثال ذلك دعواه أن المسيح قال: 8:
58 (قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن) . ولا ندري لماذا لم تذكر أمثال هذه
العبارة في الأناجيل الثلاثة الأخرى؟ فهل كان العالم غير مستعد لهذه التعاليم
قبل كتابة إنجيل يوحنا كما يزعمون؟ مع أن بحث الناس في الكلمة
(Logos) بدأ قبل المسيح بقرون عديدة، فكان الفيلسوف اليوناني زينو
(Zeno) أستاذ الرواقيين من سنة 340 - 260 قبل الميلاد يعتقد أن الكلمة هي
الشيء العامل في الكون والخالق له والكائن فيه، وكان الناس في زمن المسيح
كثيري البحث في مثل هذه المسألة وغيرها، شديدي الشغف بأمثال هذه
الفلسفات اليونانية اليهودية التي نشأت عنها بعض العقائد المسيحية. ولذلك نجد
بحثًا طويلاً في هذه المسألة في كتابات فيلو (Philo) الفيلسوف
اليهودي الإسكندري الذي كان معاصرًا للمسيح، وفي الترجوم الكلداني، وأيضًا في
كتاب الحكمة (Wisdon) المنسوب لسليمان عليه السلام.
فلماذا إذًا لم يذكر بحث الكلمة إلا في مؤلفات يوحنا دون سائر التلاميذ
الآخرين مع أن البحث كان شاغلاً لأذهان الناس قبل المسيح وفي زمنه وبعده؟
فإن كان المسيح حقيقة قال تلك الجملة السابقة أو نحوها، فلماذا تركها
الإنجيليون الآخرون؟ ولماذا لم يرشدهم روح القدس بعد حلوله عليهم إلى جميع
الحق أو أهمه ليدونوه كما دونه يوحنا؟ أم كان الخوف من اليهود هو الذي
منعهم من ذلك كما يزعمون؟ ولماذا لم يمنع هذا الخوف النصارى الأولين من
المهاجرة بعقائدهم حتى نالهم من الاضطهاد والأذى والقتل ما نالهم على ما
يقولون؟ فكيف يمنع الخوف الرسل من بيان الحق للناس ولا يمنع من هم أقل
منهم من المجاهرة به في كل مكان وزمان؟ .
وهناك مسائل أخرى كثيرة مذكورة في هذا الإنجيل الرابع ذكرنا بعضها
سابقًا في مقالة الصلب، ولا أثر لها في الثلاثة الأولى، كدعواه أن يوحنا ذهب
مع بطرس إلى دار رئيس الكهنة وقت محاكمة المسيح ودخوله وحده قبل
بطرس ثم استئذانه له (18: 15 و16) وأنه دون سائر التلاميذ كان واقفًا
عند الصليب مع مريم أم عيسى (19: 26) وذهابه مع بطرس إلى القبر بعد
قيامة المسيح منه (20: 2 و3) وتسميته نفسه في أغلب الأوقات بالتلميذ
الذي يحبه يسوع (21: 20 و13 و13: 23 - 26) إلى غير ذلك مما لم
يرد في الأناجيل الأخرى، وهي كلها مسائل موضوعة من مؤلف هذا الإنجيل
للمبالغة في مدح يوحنا، وتعظيمه وتفضيله عن باقي التلاميذ، ولذلك لم
يروها إنجيل من الأناجيل الأخرى وهي من الأهمية بمكان عظيم لو صحت.
ومما يلاحظه الإنسان أن يوحنا يتكلم في رسائله بصيغة المتكلم، وأما
في هذا الإنجيل فيتكلم دائمًا عن نفسه بصيغة الغيبة. وورد في آخر هذا
الإنجيل (21: 24) هذه العبارة: هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا
ونعلم أن شهادته حق. وهي تشعر بأن بعض أتباع يوحنا في أفسس أخذوا ما
كتبه يوحنا وتوسعوا فيه ومنه ألفوا هذا الإنجيل ونسبوه إليه وعظموه فيه كثيرًا،
واخترعوا له من الحوادث ما لم يذكره غيرهم، ثم قالوا: ونعلم أن شهادته
حق، ولذلك ترى هذا الإنجيل أصح عبارة في اللغة اليونانية من سفر الرؤيا
لمهارة كاتبيه فيها.
ومن غرائب استدلال النصارى على أن لبطرس يدًا في تأليف إنجيل
مرقس، أنه خالٍ من مدح بطرس مع أنه قد خص بطرس بالذكر في أعظم
المقامات (مر 16: 7) وهو إنجيل مختصر وترك تفصيل كثير من المسائل.
وفي مقابلة هذا النقص والاختصار لم يذكر تفاصيل أخرى من الخالية عن
المدح تكون مكتسبة من معلومات بطرس.
ومع ذلك فإذا صح استدلال النصارى هذا في بطرس فكيف ساغ ليوحنا
مدح نفسه كل هذا المدح حتى خص نفسه بحب المسيح أكثر من كل أحد سواه
وذكر لنفسه من الحوادث ما لم يروه أحد غيره.
فالحق أن هذا الإنجيل هو من وضع بعض أتباع يوحنا المتأخرين في
أفسس، كما قلنا؛ ولذلك نجد أن بوليكارب (Polycarp) تلميذ يوحنا
الخصيص لم يشر إلى هذا الإنجيل بكلمة واحدة مع أنه ذكر كثيرًا من العبارات
عن المسيح توجد في الأناجيل الأخرى وكذلك بابياس (Papias) لم
يذكره، وإن كان في يوستينوس (Justin) الشهيد المتوفى نحو سنة
166 ميلادية، يقول: إن سفر الرؤيا هو ليوحنا. لكنه لم يذكر أن يوحنا كتب
هذا الإنجيل مطلقًا وهو ينقل كل ما يكتبه من حياة المسيح عن الكتاب المسمى
(Memoris Of The Apostles) (مذكرات الرسل) تاركًا ذكر جميع هذه
الأناجيل الحالية، وما في كتاباته عن حياة المسيح يختلف كثيرًا في بعض المسائل
عما في إنجيل يوحنا، فلو كانت هذه الأناجيل معروفة في زمنه لنقل عنها
وخصوصًا إنجيل يوحنا فإنه يناسب آراءه، ومع ذلك لم يشر إليه بكلمة
واحدة. وفي هذه المذكرات أشياء لا توجد في الأناجيل الحالية أو تناقضها.
وقد صورت الأناجيل الثلاثة الأول المسيح بأنه ما كان يعلم أن يهوذا
الإسخريوطي سيسلمه (متى 19: 28 ولو22: 30) إلا في آخر حياته،
وأنه ما كان يعلم متى تقوم القيامة [2] (مر 13: 32) وأنه كان حزينًا جدًّا؛
ويستغيث بالله مرارًا لينجيه من الصلب (مت 26: 38 - 44 ومر 14:
34 - 41) حتى صار يتصبب عرقًا من كثرة الإلحاح في الدعاء فنزل عليه
ملك من السماء ليقويه (لو 22: 43 و44) وأما الإنجيل الرابع فصوَّره بأنه كان
من أول الأمر يعلم أن يهوذا سيخونه (بو 6: 70 و71) وأنه يعلم كل شيء
(6: 64 و2: 25 و16: 30) وأنه ما كان حزينًا لأجل الصلب (إصحاح
14 - 17) غير أنه اضطرب قليلاً (يو 12: 27) وأنه أسلم نفسه لليهود
طائعًا مختارًا (يو 10: 18) حتى كانوا يسقطون على الأرض من هيبته (18
: 1 - 11) .
وقد ترك أيضًا هذا الإنجيل ذكر تجارب الشيطان له [3] وصيامه أربعين يومًا
وليلة لله تعالى (مت 4: 1-11) وصلواته الكثيرة (لوقا 6: 12 و 11: 1
و9: 18 ومر 6: 46 ومت 14: 23) وصراخه وقت الصلب من الألم (مت 27
: 46) وكذلك ترك قصة شجرة التين [4] (مت 21: 18 - 22) ومر 11:
12 - 14) لأنها تؤدي إلى نسبة الجوع والجهل والظلم والعجز للمسيح؛ حيث
إنه لم يعرف إن كان بالشجرة تين أم لا مع أنه لم يكن وقت التين كما ذكر مرقس
(11 - 13) ثم إنه ظلمها وظلم صاحبها أو كل من كان ينتفع بها من السابلة بدعائه
عليها حتى يبست، وكان الأولى به أن يُوجِد التين فيها في غير وقته بقدرته!!
فإن ذلك يكون أفيد وأحكم وأدل على القدرة، أو يشفيها إن كان عدم ثمرها لمرضها!!
لذلك ترك يوحنا هذه القصة كما ترك كل أمثالها خوفًا مما تؤدي إليه، فكل ذلك يدل
على أن هذا الإنجيل كتب في زمن كان فيه الناس قد تغالوا في المسيح ورفعوه لدرجة
تقرب من درجة الأب (الله) [5] فهو مظهر من مظاهر ترقيهم في هذه العقيدة
تدريجيًّا؛ ولذلك اختلف هذا الإنجيل المتأخر عن الأناجيل الثلاثة الأول في هذه
وغيرها وتركها عمدًا لغاية له علمها العلماء من الناس الآن.
فإن قيل: لعل يوحنا أراد أن يكون إنجيله مكملاً للأناجيل الثلاثة الأولى
فلذا لم يذكر ما ذكرته منعًا للتكرار. قلت: إن ما سبق بيانه لا يصلح أن يعتبر
تكميلاً بل هو تناقض بيِّنٌ كما لا يخفى على المتأمل، والظاهر من الأناجيل أن
كُلاًّ منها كتب ليكون كاملاً بنفسه لا مكملاً لغيره، وإلا إذا صح قولكم هذا فكيف ذكر
يوحنا كثيرًا من الحوادث التي ذكرتها الأناجيل الثلاثة مع أنها ليست من الأهمية
بمنزلة الأشياء التي تركها؟ مثال ذلك معجزة إطعام خمسة آلاف رجل قد ذكرها متى
(14: 21) ومرقس (6: 44) ولوقا (9: 14) فكيف بعد ذلك ذكرها يوحنا؟
(6: 10) وكذلك دخول المسيح أورشليم راكبًا حمارًا [6] [7] قد ذكروه كلهم (انظر
مت 21: 2 ومر 11: 2 ولو 19: 30 ويو12:14) فإن قيل: إن ذكرهم
لركوب الحمار هو لأنه كان تتميمًا لنبوة زكريا (9: 9) قلت: كذلك كان صراخ
المصلوب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ تتميمًا للمزمور (22: 1) فلِمَ لم يذكره
يوحنا؟ ألا يدل ذلك على أنه تحاشى ذكر كل ما من شأنه أن يقلل من درجة
المسيح التي يريد رفعه إليها؛ ليجعله كلمة الله القديمة التي وُجدت قبل جميع
المخلوقات، وبها كانت المخلوقات ثم تجسدت وقبلت الصلب بإرادتها لا رغمًا عنها كما يفهم من الأناجيل الأخرى؟ راجع رسالة الصلب (ص 124 و156 و161)
فالحق أن كلاًّ منهم كتب إنجيله على استقلال، وتوخى فيه غاية مخصوصة فذكر
من الحوادث والأقوال ما يلائم غرضه؛ ولو كان مكررًا في الأناجيل الأخرى
فتجدها تتفق في بعض المسائل حتى في لفظها؛ ثم تختلف في الأخرى، حتى
يتعسر أو يتعذر الجمع بينها وما دام هذا حال الأناجيل فهي من الوجهة التاريخية لا
قيمة لها؛ لأنها تابعة للأغراض تدور معها حيث دارت.
وقد ذكرت الأناجيل الثلاثة الأول (مت 19: 17 ومر 10: 18 ولو 18:
19) أن رجلاً نادى عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله: أيها المعلم الصالح، فأنكر
المسيح عليه ذلك تواضعًا، وقال له: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا
واحد وهو الله. وأما يوحنا فلم يذكر هذه القصة مطلقًا كعادته، وروى عن المسيح أنه
كان يقول مرارًا (يو 10: 11 و14) أنا هو الراعي الصالح، وأنه قال:
(يو10: 30) أنا والأب واحد، وغير ذلك كثير مما لم تروِه الأناجيل الأخرى،
وإن كانت العبارة الأخيرة التي رواها يوحنا ليست نصًّا في ألوهيته؛ إذ حملها على
المجاز سهل كما هو ظاهر وقد قال المسيح أيضًا نحوها في تلاميذه (يو 17: 14 -
26) إلا أن روح العظمة والكبرياء التي في رواية يوحنا هذه لا تتفق مع روح
التواضع التي تُرى في رواية الآخرين عن المسيح، فإن كان ما رواه يوحنا
عنه (مثل 3: 13 و8 و12: 45: 10 و16: 28 و17: 5) صحيحًا، فمن
أقبح النقص ومن أعظم أسباب تضليل الناس في أمر المسيح أن يترك ذلك الإنجيليون
الثلاثة، وخصوصًا لوقا الذي تعمد أن يكون إنجيله كاملاً وجامعًا لجميع أخبار المسيح
وأقواله المهمة؛ إذ قد تتبع كما يقول عن نفسه (1-3) كل شيء من الأول بتدقيق.
فلا يعقل أن مثل هذا الكاتب المدقق يترك كل أقوال المسيح المهمة في مبحث
ألوهيته؛ ليكملها له يوحنا أو غيره كما يدَّعون، وإن خالفوا قول لوقا نفسه، وهو
عندهم موحى إليه، وكتب إنجيله بالإلهام الإلهي بعد نزول روح القدس عليهم
جميعًا!! فلم إذًا لم يوحَ إليه ما أوحى إلى يوحنا مع أن يوحنا لم يُرد أن يكون إنجيله
كاملاً كلوقا؟ (يو 21: 25) أم نسي الله أن يلهمه هذا المبحث العظيم ولم يعلم أن
ذلك سيكون سببًا في إنكار كثير من الناس ألوهية عيسى في كل زمان ومكان وتكذيبهم
يوحنا فيما رواه وانفرد به دون جميع زملائه الآخرين حتى إن تسمية المسيح
(بالابن الوحيد) و (بالكلمة) بالمعنى الذي أراده يوحنا لم ترد في كتاب من كتب
العهد القديم أو الجديد إلا في المؤلفات المنسوبة إلى هذا الرجل؟! وما هي إلا فلسفة
يهود الإسكندرية وغيرهم سرت إلى المؤلف فطبقها على المسيح، والمسيح براء مما
ينسبه إليه، أو يرويه عنه، كما هو ظاهر من الأناجيل الأخرى.
فإن قيل: لعل لوقا أراد أن يكون إنجيله شخصيًّا؛ لأنه قدمه لثاوفيلس،
وربما أن هذا الرجل كان يعرف ألوهية المسيح وأقواله في هذه المسألة وما كان
يشك فيها؛ فلذا تحاشى لوقا ذكر كل ما يثبتها له من أقوال المسيح؟ قلت: إن الذي
يفهم من إنجيل لوقا نفسه (1: 4) أن ثاوفليس ما كان يجهل شيئًا مما جاء
في هذا الإنجيل، وإنما كان الغرض من كتابته له تثبيته، فلماذا لم يُثَبِّتْهُ لوقا
في عقيدته في لاهوت المسيح، ولم يروِ له ما قاله المسيح نفسه في ذلك كما
ثَبَّته في غيرها من الحوادث؛ وإن كان يعرفها من قبل؟ وأيُّ ضرر إذا ذكر
لوقا أقوال المسيح في ألوهيته؟ حتى إنه تجنب ذكرها [8] في إنجيله بالمرة؟
وسماه إنسانًا ونبيًّا (لو 24: 19) .
ولو فرض أن لوقا لم يذكر إلا ما جهله ثاوفيلس، فهل يُعقل أن هذا
الصديق العزيز للوقا (1: 3) والذي يعلم النصرانية من قبل (لو 1: 4)
كان يجهل أو يشك في وجود عيسى وفي جميع تفاصيل حياته وولادته من العذراء
وفي صلبه وقيامته وصعوده إلى السماء، حتى فصَّل له لوقا كل ذلك تفصيلاً؟
وإذا كان يجهل هذه المسائل أو يشك فيها فكيف لم يشُك في ألوهية المسيح؟
وكيف علم ثاوفيلس أقوال المسيح في ألوهيته ولم يعلم باقي تفاصيل قصته التي
فصَّلها له لوقا، مع أن هذه الأقوال ما كانت منفصلة عن حوادث حياته كما يفهم
من إنجيل يوحنا، ومن علم هذه علم، تلك فلمَ فصَلها لوقا عنها وتركها؟
وإذا كان هذا الإنجيل شخصيًّا فلمَ لم يكتب تلميذ من تلاميذ المسيح إنجيلاً عموميًّا
يكون وافيًا بجميع المسائل؟ ولم إذًا جعلتم إنجيل لوقا عموميًّا ونشرتموه بين
الناس في كل زمان ومكان وهو غير وافٍ بالغرض؟ وأي إنجيل عندكم أوفى
منه؟ وكيف يجب على البشر الإيمان بأكبر معضلة في العالم مخالفة للعقل ولما
نُقل عن جميع أنبياء بني إسرائيل، وهي مسألة ألوهية المسيح - كيف يجب
الإيمان بها لمجرد رواية شخص واحد خالف فيها جميع التلاميذ الآخرين، وأتى بما
لم يأتوا به؟ وهل نسيتم أن من دعا لعبادة غير الله يجب قتله كما في سفر
التثنية (13: 1-5) ولو كان مؤيدًا بالآيات والمعجزات؟ فكيف إذًا يصدق
يوحنا هذا، وهو لم تتواتر عنه أيّ معجزة؟ ولو تواترت لما عافته من
استحقاق القتل بنص التوراة. على أن جميع عباراته في هذه المسألة ليست نصًّا
قاطعًا كما بُين في إحدى الحواشي الماضية، وفي كتابنا (دين الله) ص 76 و77
وهي كلها مما يمكن تأويله.
ولا أدري لِمَ لم يأولوها وباعهم في التأويل أطول من جميع العالمين، ولهم
في التعسف والتكلف آراء تعجز عنها الجن والشياطين؟! فالحق أن لوقا إنما لم
يرو ما رواه يوحنا؛ لأن كاتب إنجيل يوحنا افتجره من عند نفسه افتجارًا وليس
هناك من سبب آخر غير ذلك؛ فلا تجهدوا أنفسكم في انتحال الأعذار والأسباب
ولا تكونوا في كل شيء مكابرين، وعن الحق دائما معرضين.
وهناك مسائل أخرى كثيرة ذكرها علماء النقد تدل على أن كاتب هذا
الإنجيل ليس يوحنا تلميذ المسيح بل ولا يهوديًّا ممن يعرفون أرض فلسطين
ولا هيكل أورشليم ولذلك وقع في الغلط في أثناء وصف تلك البلاد ومعبدها.
فمن ذلك قوله (1: 28) (هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان
يوحنا يُعمِّد) . كما في جميع النسخ القديمة، وهي مدينة لا وجود لها في هذا
المكان، ولم يعرفها أحد حتى ولا أوريجانوس المتوفى نحو سنة 254 ولذلك
أبدلوها في نسخهم الحالية (ببيت عبرة) وقوله (3: 23) (وكان يعمد في عين
نون بقرب ساليم؛ لأنه كان هناك مياه كثيرة) ، وهذا الموضع أيضًا ما عُرف قط
حتى ولا في القرن الثالث، وأقرب مكان يمكن أن يقال: إنه هو المراد، موضع
في شمال السامرة، ولكن الذي يُفهم من إنجيل يوحنا أنه في اليهودية (3: 22
و4: 3) وقوله (4: 5) (فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار) وهي غير
معروفة ويظن بعضهم أنها (شكيم) ويرُد هذا الظن أن بئر يعقوب عند مدخل
الوادي تبعد ميلا ونصف ميل عن شكيم، ولا يعقل أن المرأة السامرية كانت تذهب
هذه المسافة البعيدة لجلب الماء مع أن الماء غزير بالقرب من المدينة (راجع
قاموس بوست مجلد 1ص 592) .
ومن ذلك أيضا قوله: (يو2: 14 و15) (إن البقر والغنم كانت تباع في
هيكل أورشليم) وقد حقق العلماء أنه لم يكن لها موضع هناك بل كانت تباع
في سوق بعيدة عنه خارج أورشليم (راجع كتاب دين الخوارق ص 550)
على أن هذه القصة ذكرت في الأناجيل الأخرى متأخرة عن الزمن الذي ذكره
يوحنا (انظر متى 21: 12 ومر 11: 15 ولو 19: 45) والظاهر أن
الحق معها، فإن المسيح ما كان ليقدم على طرد الباعة وكب الدراهم وقلب
الموائد وضرب الناس بالسوط (يو 2: 15) وهو لا يزال في أول أمره في
السنة الأولى من بعثته قبل أن يعرفه الناس مع أنه كان بعد ذلك يذهب إلى
أورشليم مختفيًا خوفًا من اليهود كما قال يوحنا نفسه (7: 10 - 13 و11:
53 - 57) ثم قصة بِركة بيت حسدا (5: 2 - 9) ومع أن هذه البِركة
الآن غير معروفة مطلقًا، فمن العجيب أن يكون لها هذه الخاصية العظمى
التي ذكرها يوحنا في شفائها للمرضى الذين كانوا ينزلون أولاً فيها بعد
تحريك المَلَك ماءها مباشرة، ولا يذكرها يوسيفوس ولا غيره من المؤرخين في
ذلك العصر؟! فهي قصة كاذبة ولذلك حاول النصارى حذفها من الإنجيل من
قديم الزمان وهذا هو سبب حذفها في كثير من نسخهم القديمة كالسينائية
والفاتيكانية ولكنها موجودة في الإسكندرية وغيرها، فانظر إلى مقدار تصرف
هؤلاء الناس في كتبهم المقدسة.
والخلاصة أن هذه الأناجيل الأربعة ما كانت معروفة إلا في أواخر القرن
الثاني، وكان هناك كتب أخرى كثيرة يستشهد بها المؤلفون غير هذه الأناجيل
كمذكرات الرسل [9] المذكورة سابقًا وإنجيل العبرانيين وإنجيل الأبيونيين
والأناجيل المنسوبة إلى بطرس وتوما والاثني عشر وبرنابا ونيقوديموس
وغيرها كثير، وبعد ذلك صارت تشتهر الأناجيل الأربعة شيئًا فشيئًا حتى جُعلت
هي القانونية ورُفض غيرها الذي ضاع أكثره أوأعدموه تدريجيًّا. ولعل السبب
في بقائها دون غيرها هو أنها أصح عبارة في اللغة اليونانية وأقرب إلى
غرض النصارى في تلك الأزمنة وأقل تناقضًا وخطأً من غيرها، وربما كان
مروجوها بينهم أكثر وأمهر من مروجي تلك وأبرع منهم في حسن السبك.
هذا، وقد امتدت فلسفة اليهود في الكلمة (Logos) أو الحكمة كما
يسميها سفر الأمثال (8: 12) وكتاب الحكمة ليشوع بن سيراخ (24: 9)
امتدت من الإسكندرية إلى آسية الصغرى، وهناك وجدت وسطًا صالحًا
لنموها فامتزجت بآراء بولس وغيره في المسيح في الفداء والخلاص وهي
الآراء التي فشت في النصارى وقتئذ، ومن مجموع ذلك صدرت الكتب
المنسوبة إلى يوحنا من كنيسة أفسس، وهي المدينة التي كان يوحنا مقيمًا فيها؛
ولذلك لم تعرف هذه الكتب (الأناجيل والرسائل) المنسوبة إليه بين
النصارى الأقدمين إلا في آخر القرن الثاني كما سبق.
فإن قيل: إذا كانت الأناجيل الحالية مما كُتب في القرن الثاني، فكيف لم
يحذف النصارى منها أقوال المسيح الدالة على قرب مجيئه وعلى أن ذلك
يكون عقب خراب أورشليم مباشرة (راجع مثلا مت 10: 23 و16: 28
و24: 3 و29 -34 ومر13: 24 - 30) مع أن ذلك لم يتحقق؟ قلت: إن
هذه الأقوال كانت تعزية المسيحيين الكبرى على مصائبهم في هذه الدنيا
(1 تس 4: 18) من عهد المسيح إلى أوائل القرن الثاني بعد موت يوحنا الذي
كانوا يظنون أنه يبقى حيًّا إلى مجيء المسيح عليه السلام (يو 21: 23) فإذا
صح أن عيسى قال شيئًا منها فلا بد أنهم لم يفهموا مراده الحقيقي فنقلوا عبارته
محرفة حتى خرجت عن معناها الأصلي وشاعت بينهم على غير حقيقتها.
والأرجح عندي أن اليهود الذين دخلوا في المسيحية استنتجوا من كتبهم
أن زمن عيسى هو آخر الزمان وأن القيامة قريبة جدًّا منهم كما يفهم من سفر
أشعيا (2: 2) وأرمياء (23: 20) والتكوين (49: 1) ويوثيل 2: 28 -
32) فانتشرت هذه الأقوال بين النصارى الأولين (راجع أيضا أع 2: 16 -
21) وفشت فيهم حتى نسبوها إلى المسيح نفسه، وزعموا أنه قال: إن القيامة
ستقوم عند خراب أورشليم مباشرة (مت 24: 3 و29 - 35) ولذلك قال سفر
الأعمال أيضًا نقلاً عن يوئيل ما يفهم منه أنها ستقوم عقب نزول الروح على
التلاميذ يوم الخمسين (2: 1 - 21) فكان النصارى في القرن الأول وفي
أوائل الثاني يظنون قرب مجيء القيامة فدخلت هذه الأقوال فيما كتب من الأناجيل
إذ ذاك (كأصل إنجيليْ متى ومرقس القديم) وتداولها الناس بينهم واشتهرت عندهم
هذه النبوات وصاروا يرتقبون تحققها يومًا بعد يوم، فلا يُمكن بعد أن كُتبت
وشاعت أن يتلاعبوا فيها؛ وأعين الناس متجهة إليها في ذلك الزمن.
أما كاتب الإنجيل الثالث، وفالظاهر أنه كان في زمن يئس فيه الناس من
تحقق هذه النبوات وأمثالها في القرن الثاني أو الجيل الثاني كما يفهم من مقدمة
إنجيله، فلذا شك في رواية ألفاظها الواردة في أصل الإنجيل الأول والثاني
وحور عباراتها تحويلاً يجعلها أصلح للتأويل مما في الإنجيلين الأولين، ولم
يذكر الأقوال الأخرى الواردة في إنجيل متى التي أشرنا إليها هنا (راجع لو
21: 7 و25 - 32) تجد عبارته مخففة في هذا الموضع عن سابقيه ولم
يمنعه اشتهار ألفاظها الواردة في الأناجيل التي قبله وشيوعها بين الناس
واعتقادهم لها من هذا التحوير؛ لجزمه بخطأ روايتها، وإلا لكان المسيح نفسه
هو المخطئ فيها، وهو غير جائز طبعًا.
وأما الإنجيل الرابع، فتركها بالمرة وهو مما يدل على شدة تأخر زمنه
وتحقق الناس من عدم صحتها ويأسهم منها يأسًا تامًّا [10] .
ولا يلزم من اشتهار هذه الأفكار والنبوات بين النصارى في القرن الأول
كله والثاني أن غيرها مما في الإنجيل المنسوب لمتى ومرقس كان شهيرًا
شهرتها ومعروفًا بينهم مثلها. فكاتباهما وإن تحاشيا تحريفها أو تحويرها
لشهرتها، إلا أن ذلك لا يضمن لنا صحة رواية الأشياء الأخرى التي ليست
شهيرة بين الناس شهرة هذه النبوات. وهذا وعدم علم بابياس المتوفى نحو
سنة 164 - 167 ميلادية بهذين الإنجيلين (متى ومرقس) بحالتهما الحالية - كما
بيَّنا - يدل على أنهما لم يكونا بهذه الحالة في زمنه أو لم يشتهرا بها إذ ذاك، بل
كان إنجيل متى عبارة عن بعض أقوال عن المسيح باللغة العبرية وإنجيل
مرقس عبارة عن مجموعة من أخبار المسيح وأقواله باللغة اليونانية إلا أنها
غير مرتبة كما سبق بيانه؛ وربما كان الذي منع التلاميذ من الاعتناء بكتابة
الإنجيل هو توهمهم قرب انتهاء العالم، فإذا صح أن نبوات يوم القيامة كانت
في أصل هذين الإنجيلين فمترجم الأول ومرتب الثاني لم يجسرا على تحويرها
أو تحريفها نظرًا لشهرتها بين الناس أو لظنهما أنها ربما تحققت عن قريب ولكن
هذا السبب لم يكن عند كاتب الإنجيل الثالث كافيًا لمنعه من إصلاح ما اعتقد
خطأه لتأخر زمنه ويأسه، وخصوصًا لأنه كان كثير الاجتهاد والتدقيق كما هو
صريح مقدمته ولم يقصد بكتابة إنجيله أن يكون لجميع الناس بل لشخص
صديق له يسمى ثاوفيلس فلا يهمه إن قبله الناس منه أو لم يقبلوه ما دام مقتنعًا
بصحة ما استنتجه وكتبه وصدقه فيه صاحبه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا إذا صح أن كاتب الإنجيل هو لوقا تلميذ بولس (فل 24) لا واحدًا آخر غيره.
(2) حاشية: إذا كان المسيح بمقتضى هذه العبارة لا يعلم متى تقوم الساعة باعترافه هذا، فكيف يكون هو ديَّان الخلائق يوم القيامة؟ وقوله فيها: إن الابن لا يعلمها، نص على أنه ليس بإله، فإن قيل: لعله يريد الإنسان يسوع، قلت: ولِمَ لَمْ يُعبِّر بذلك ليكون قوله خاليًا من اللبس والتضليل؟ وإذا كان أقنوم الابن متحدًا بناسوته فكيف لم يعلم الناسوت ما يعلمه اللاهوت، وإلا فما معنى هذا الاتحاد؟ وجاء أيضًا في إنجيل يوحنا أن المسيح لما أشار عليه إخوته بالذهاب إلى أورشليم لأجل العيد قال لهم (يو 7: 8) أنا لست أصعد بعدُ إلى هذا العيد، ولكن لما مضى إخوته إلى العيد مضى هو أيضًا بعدهم متخفيًا (يو 7: 10) فعبارته هذه لهم إما أنها كذب وغش؛ ولذلك ذهب بعدها متخفيًا؛ وإما كان قالها باعتبار الناسوت، (وهو الجواب الذي صدعوا آذاننا به) قلت: وكيف لم يهدِه اللاهوت المتحد به إلى البت في عمل صغير كهذا وتركه يبدي كل هذا التردد والجهل؟ وما فائدة اللاهوت له
إذًا؟ وفي أي شيء أفاد؟ ولم اتحد به الله وهو لم يصلب معه بل تركه، ولذلك قال: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ ولم تعبدون هذا الناسوت العاجز الجاهل مع اللاهوت ولم تفرقوا بينهما؟ فإن قيل: ولماذا ذكر يوحنا هذه القصة وهي منافية لمبدئه في كتابه تاريخ المسيح كما تدَّعي؟ قلت: لعله لم يدرك ما تؤدي إليه أو ربما أنه كان يستحسن مثل هذا التضليل ويُعجب بحيلة المسيح هذه وتَخفِّيه حتى عن أهله، ويرى أن ذلك مهارة منه وسياسة عالية، وما درى أنها كذب مذموم ولا مسوغ له
مطلقًا، ولا يصح صدوره من ابن الله! ! .
(3) قصة تجارب الشيطان هذه للمسيح تشبه قصة قديمة للهنود في (بوذا) شبهًا يبعد أن يكون منشأه الصدفة والاتفاق لا القياس والنسج عليها ومما تمتاز به قصة الأناجيل قولها (مت: 4: 8 ولو4:5) إن الشيطان بعد أن أخذه إلى أورشليم (كما في متى عدد 5 و8) أو قبل ذلك 0 كما في لوقا عدد 5 و9) أرى المسيح العالم كله من جبل عال جدًّا، فكيف يمكن ذلك والأرض كروية، وأين هذا الجبل الذي يرى منه العالم كله؟ فالحق أن كتبة الإنجيل كباقي أهل زمنهم كانوا يتوهمون أن العالم عبارة عن القطعة المحدودة التي عرفوها إذ ذاك من الأرض (راجع أيضًا لوقا 2: 1) وملكها الرومان، ولما تنبه بعض النصارى إلى ذلك الغلط حذفوا من إنجيل لوقا قوله (في عدد 5) (إلى جبل عال) فلم يوجد في بعض النسخ القديمة، وربما كان هذا الإنجيل عند المحرفين له أكثر استعمالاً من غيره أو كان تداوله قليلاً عند غيرهم فلذا أقدموا على تحريفه في ذلك دون إنجيل متى، ولا ندري كيف تجاسر الشيطان على مثل هذا العمل مع الهه حتى صار يحمله من مكان إلى مكان طائرًا به في الهواء ويمتحنه مرات ويعده بإعطائه جميع ممالك المسكونة إذا هو سجد له، فهل نسي الشيطان أن هذا الذي يجربه هو الذي أعطاه كل هذه السلطة (لو 4: 6) وأنه هو خالق السموات والأرضين ورب العالمين؟ فكيف نسي الشيطان ذلك؟ وما الحكمة في رضوخ إلههم للشيطان إلى هذا الحد، وتجرئه عليه في كل ذلك؟ (راجع أيضا ص109 و110) من رسالة الصلب والفداء.
(4) قد ناقض مرقس متى في وقت ملاحظة التلاميذ يبس هذه الشجرة، فجعله متى في الحال (21: 19 و20) وجعله مرقس في صباح اليوم التالي (11: 20) فيجوز أن الشجرة كانت مريضة من قبل وآخذة في الذبول وتم ذلك أو كاد بعد مضي 24 ساعة (مت عدد 18 ومر عدد 20) فتبين لهم حينئذ يبسها جليًّا. فكان الواجب أن يذكر يوحنا وهو - كما يقولون - المكمل لنقص الأناجيل التي قبله هذه القصة من جديد لرفع تناقضها، وبيان إن كان فيها شيء من الإعجاز أم لا، ولكن كيف يفعل ذلك وفائدتها لا تذكر في جانب ما تجلبه عليه من الضرر العظيم كما بُين في المتن.
(5) حاشية: مع ذلك ترى أن إنجيل يوحنا لا يزال ينص على أن الابن أقل من الأب ولذلك يقول عن لسان الابن (عيسى) (5: 30) : (أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا كما أسمع أدين ودينونتي عادلة؛ لأني لا أصلب في مشيئتي بل مشيئة الأب الذي أرسلني) وقال (5: 22) (لأن الأب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن) وقال (8: 28) (ولست أفعل شيئًا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي) وقال (14: 24) و (الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني) ، وقال (14: 28) (لأن أبي أعظم مني) وقال (12: 49) (لأني لم أتكلم من نفسي لكن الأب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم) وهي كلها نصوص صريحة على عدم مساواته تمامًا لله تعالى، وأن الله تعالى هو الذي أعطاه القدرة على كل شيء والكلام والعلم
والدينونة، وأنه أعظم منه، وأن المسيح إنما يعمل مشيئته تعالى وأن الله هو إلهه أيضًا كما هو إله للناس (يو 20: 17) أما قول هذا الإنجيل (1: 1) (والكلمة عند الله، وكان الكلمة الله) فهو صريح في أن الكلمة غير الله، وإنما صارت إلهًا للعالم كما صار موسى إلهًا لفرعون على ما يقول سفر الخروج (7: 1) راجع أيضًا قول بطرس في سفر الأعمال بعد نزول روح القدس عليهم (إن الله جعل يسوع ربًا ومسيحًا (أع 2: 36) فلفظ (كان) في الإنجيل بمعنى (صار) كقول القرآن الشريف {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران: 49) أى: يصير، فإنجيل يوحنا كباقي أسفار العهد الجديد بجعل الابن مخلوقًا قبل كل شيء (رؤ 3: 14 وكو 1: 15 وقارنهما بيع 1: 18) ولا يساويه بالله تعالى رومية (1: 4) أما هذه المساواة فقال بها النصارى بعد زمن تأليف العهد الجديد في وقت كثرت فيه فرقهم ومذاهبهم واختلفت في هذه المسألة؛ فلذا لم يمكنهم حذف هذه الأقوال المنافية للمساواة التامة من العهد الجديد لوجوده إذ ذاك عند طوائف أخرى تعرف هذه الأقوال فيه وتتمسك بها ضد الآخرين المخالفين لهم، ولكن بعد انعقاد المجميع النيقاوي 325 ميلادية وحكمه على أتباع أريوس الموحدين بالكفر وبالزندقة فشت بين جمهورهم عقيدة مساواة الابن بالأب في كل شيء وأولوا هذه الأقوال وغيرها. إذ بعد عدم إمكانهم حذفها كلها لا مناص لهم من تأويلها؛ وذلك كله لميل الجمهور في ذلك الزمن للشرك والوثنية والعقائد الرومانية والفلسفة اليونانية واليهودية وغيرها، ومع ذلك فقد أجروا بعض التحريفات راجت في نسخهم لإثبات ألوهية المسيح ومساواته بالله ولم يدركها أحد في تلك الأزمنة لعدم حفظهم لكتبهم في صدورهم ولانتشار الجهل بينهم إذ ذاك وقلة نسخهم ووجودها عند رؤسائهم فقط، وقد عُرفت بعض هذه الأشياء الآن بالمراجعة والبحث في النسخ القديمة والحديثة، فمن ذلك إبدال لفظ (الرب) بالمسيح في (1 كو 10: 9) وزيادة قولهم (بيسوع المسيح) في (أف 3: 9) وزيادة كلمتي البداية والنهاية في (رؤ 1: 8) وكلمات أنا هو الألف والياء الأول والآخر في (رؤ 1: 11) وزيادة عقيدة التثليث في (1 يو 5: 7 و8) وزيادة لفظ الله في (يه 4 و1 تي 3: 16 وأع 20: 28) إلخ إلخ، فكيف بمثل نقل هؤلاء الناس يثق الإنسان؟ وتلاعبهم بكتبهم أصبح محققًا معروفًا؟ راجع أيضا كتاب (دين الله) ص 76 و77 ورسالة الصلب ص 162.
(6) من المضحكات المخجلات المتعلقة بمسألة ركوب الحمار هذه ما يأتي: قال زكريا في كتابه (9: 9 و10) ابتهجي يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هو ذا مَلِكك يأتي إليك وهو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان وأقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم، وتقطع قوس الحرب، ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض) إلخ، وعدم انطباق هذه النبوة على المسيح ظاهر؛ فإنه لم يكن مَلِكًا لأورشليم ولا هو منصور ولم يمتد ملكه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، ومنذ وجوده إلى الآن استعرت نيران الحروب ولم تقطع قوس الحرب، وتشتت اليهود بعده بقليل وخربت أورشليم ولم يتكلم بالسلام بل قال (مت 10: 34) (ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) وعقب دخوله أورشليم أخذه اليهود وأهانوه وصلبوه وقتلوه كما زعموا، فكيف تنطبق هذه النبوة عليه؟ ولكن أبي الإنجيليون الأربعة إلا تطبيقها عليه؛ لأنهم إن لم يفعلوا ذلك لَما انطبقت على أحد مطلقًا؛ لأنه على زعمهم بعد عيسى مباشرة لم يبق إلا مجيء القيامة في عصرهم!! فانظر الآن كيف طبقوها عليه: قول زكريا وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان) مفهومه أن الحمار هو عين الجحش ابن الأتان على طريق البدل المطابق، وكذلك فهم مرقس ولوقا ويوحنا (مر 11: 7 ولو 19: 35 ويو 12: 15) ولكن متى فهم أن الحمار غير الجحش ابن الأتان فقال (21: 2) أن المسيح قال لاثنين من تلاميذه:
(اذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت تجدان أتانًا مربوطة وجحشًا معها فحلاهما وائتياني بهما؛ وإن قال لكما أحد شيئا فقولا الرب محتاج إليهما!! فللوقت يرسلهما) ثم ذكر متى هنا عبارة زكريا السابقة، فذهب التلميذان وفعلا كما أمرهما يسوع وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما وفي بعض النسخ (أجلسوه عليهما) ولا ندري كيف جلس يسوع أو جلس على الأتان والجحش معا!! وما الحكمة في ذلك؟ وكيف لم يخف أن يقع من فوقهما مع أن ركوب واحد منهما سهل وهو المعتاد؟ ولكن عدم فهم كاتب إنجيل متى أوقعه في هذا الهذيان، ولم يُبالِ بمخالفة العقل والعادة في سبيل تطبيق هذه النبوة على المسيح كما هي عادتهم فاخترع قصة وجود الأتان والجحش معها وأَرَكَب المسيح عليهما معًا، وكيف سَكَتَ أصحاب الأتان والجحش (مر 11: 5 ولو 19: 33) عن منع التلميذين من حَلِّهما وأخذهما وهم لا يعرفونهما، بل ربما لا يعرفون سيدهما المسيح نفسه؟ وكيف تأكد أنهما رسولاه حقيقة لا لصان؟ وكيف يركب المسيح على جحش لم يجلس عليه أحد من الناس قط، كما قال مرقس ولوقا؟ فلعلَّه فعل ذلك بمعجزة!!!
فمن هذه القصة الصغيرة يتضح لك صدق قولنا مرارًا في كتبة الأناجيل أنه يعرفون نبوات العهد القديم أولاً ثم يصطنعون منها حوادث للمسيح ويدَّعون أنها وقعت فعلاً تتميمًا لتلك النبوات القديمة، ولا يبالون مهما أوقعهم ذلك في الغلط ومخالفة العقل والعادة، فهل يصح اعتبار هذه الأناجيل تواريخ صحيحة حرة وهي في كل ما كتب فيها متأثرة بنبوات اليهود عن مسيحهم الذي كانوا ينتظرونه؟ وإذا سلم أن المسيح فعل ما حكاه متى وركب الأتان والجحش معًا فما الذي يمنع مُنكري نبوته من القول بأنه إنما أجهد نفسه وخالف العادة رغبة منه في تطبيق نبوة زكريا عليه لتصح دعواه بأنه هو المسيح المنتظر، وإن لم يقدر على تطبيق باقي النبوة عليه لخروجها عن استطاعته؛ إذ ليس في وسعه أن يكون مَلِكا ولا منصورًا ولا قاطعًا لقوس الحروب، ولا له مُلْك يمتد من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض، فما قدر عليه وهو ركوب الأتان والجحش معًا فعله وما لم يقدر عليه سلم الأمر لأتباعه ليقولوا فيه ما شاءوا والسلام.
هذا شيء مما يقوله ملحدوالنصارى في أوربة الآن وغيره كثير جدًّا جدًّا لا يحصى ولولا القرآن ومحمد الذي يكرهه النصارى ويحاربونه لقال (300000000) من البشر في المسيح أضعاف أضعاف ما يقوله ملحدو أتباعه واليهود وغيرهم فشكرًا لله ولرسوله على أدبه العالي في المسيح الذي أدّب به المسلمين، والحمد لله رب العالمين!!! .
(7) لاحظ أن إنجيل لوقا مع أنه أوفى الأناجيل وأدقها وأصحها هو أيضًا أبعدها عن عقيدة النصارى في ألوهية المسيح، حيث إنه اعتبره إنسانًا من أول الأمر إلى آخره، انظر مثلا (لو 22: 43 و 24: 19) ولم يطلق عليه لفظ الرب، وهو في جميع اللغات لقب تعظيم بمعنى السيد والمُعلِّم ونحو
ذلك، كما في (يو 1: 38 ومت 23: 7 و8) لم يطلقه عليه إلا مرات قليلة وظهر لهم أن بعضها زيد فيه تحريفًا في الأزمنة الأولى كما في إصحاح (7: 31 و22: 31) منه وليس هذا فقط بل لم يجعل هذا الإنجيل المسيح ديانًا للخلائق جميعًا مُجازيًا لهم بحسب أعمالهم، كما فعل متى وغيره، ولم يقل إن الملائكة هي ملائكة المسيح (قارن متى 16: 27 و28 و25: 32 و33 و24: 31) بلوقا 9: 26: 27 و21: 27) ولم يذكر عبارة متى (28: 19) التي اتخذها النصارى إشارة إلى ثالوثهم، قارن أيضًا كلمات الوداع في إنجيل (متى 28: 18-20) بها في لوقا (24: 46 - 53) فأقرب الأناجيل لعقيدة النصارى هو إنجيل يوحنا ويليه متى ثم مرقس ثم لوقا، قارن أيضا قول (متى 13: 41) (يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم) قارنه بقول لوقا (12: 8 و9) (وأقول لكم: كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله، ومن أنكرني قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله) ، ثم راجع سفر الأعمال وهو من تأليف لوقا أيضًا عندهم تَرَه يقول فيه عن لسان بولس أستاذه: (إن المسيح إنسان وإن الله هو الذي أقامه من الأموات) (أع 17: 31) انظر أيضا (أع 2: 24) وأما قول بولس في سفر الأعمال هذا (17: 31) (إن الله سيدين المسكونة بهذا الرجل) يعني المسيح، فهو لا يدل على أنه كان يعتقد ألوهيته لأنه سماه في هذه العبارة نفسها رجلاً، وقال: (إن الله هو الذي أقامه من الأموات) راجع أقواله في المسيح في (1 تي 2: 5 وأف 1: 17 ورو 5: 15 و1 كو 3: 23 وغل 4: 14) وأيضًا فإن تلاميذ المسيح أنفسهم سيدينون بحسب هذه الأناجيل أسباط إسرائيل الاثني عشر انظر مثلاً (مت 19: 28) وقال عيسى لتلاميذه (مت 18: 18) (الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء) ولم يقل أحد من النصارى بألوهيتهم، ولو أنهم كثيرًا ما سجدوا لصورهم ولصور غيرهم من القديسين والقديسات في كنائسهم. وهذه العبارة الأخيرة ونحوها كانت منشأ سلطة الباباوات العظيمة، وربما أنهم هم الذين اخترعوها ونسبوها لعيسى، وهو منها ومن أمثالها بريء. ومما يُشعر بأن هذه العبارة هي من اختراع رؤساء النصرانية القدماء قولهم عن لسان المسيح قبلها (مت 18: 17)
(وإن لم يسمع (أي من أخطأ إلى أخيه) منهم أي من الشهود) فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار) فأي كنيسة كانت في ذلك الوقت يتحاكم إليها تلاميذ المسيح وهو لا يزال بينهم؟ فالحق أن هذه العبارة مما أُضيف إلى الإنجيل بعد المسيح بمدة، ويؤيد ذلك جواب المسيح الوارد في إنجيل متى (20: 23) لأم ابني زبدي بأنه لا يقدر أن يعطي شيئًا إلا لمن أراده الله، فكيف إذًا يتصرف تلاميذه في الكون كما أرادوا؟ وقال بولس: إنه هو والقديسين وسائر النصارى سيدينون العالم والملائكة، فهل هؤلاء كلهم آلهة؟ انظر (1 كو 6: 2 و3) .
(8) ومن ذلك يعلم أن المسيح ليس وحده عندهم ديانًا للخلائق بل هو أكبرهم وأعظمهم فهو كقاضي القضاة يوم القيامة، وإذا لاحظت أن اليهود كانوا يسمون قضاة الدنيا (آلهة) وبالعبرية (ألوهيم) وهذه اللفظة تطلق على المفرد وعلى الجمع، فلذا كانت تطلق على الله تعالى وعلى عظماء البشر أو قضاتهم كما يفهم من (مز 82: 6 صمو 28: 13 ويو 10: 34 - 37) راجع أيضا (خر 21: 6 و22: 8 و9) وربما كان إطلاقها على الله - وهي جمع - من بقايا أثر الشرك القديم والوثنية في اللغة العبرية، إذا لاحظت ذلك وتذكرت أن بولس ويوحنا كانا يهوديين صميمين لم تستغرب تسميتهما المسيح، وهو عندهم ديان القيامة الأعظم بإذن الله (يو 5: 27) مرة أو مرتين (إلهًا) كما في
(رومية 9: 5 و1 يو 5: 20) بعد أن وصفاه بصفات الحوادث مرارًا ونصَّا على أنه أول مخلوقات الله تعالى (كو 1: 15 ورؤ 3: 14) على أن عبارة بولس الواردة في (رومية 9: 5) اختلف فيها المفسرون والمترجمون، فيرى بعضهم أن ما بعد قوله (حسب الجسد) جملة مستأنفة ومعناها هكذا - ومن على الكل هو الله مبارك إلى الأبد) أو (ومن هو الله على الكل يبارك إلى الأبد) راجع الترجمة الانكليزية المنقحة Revised version ومما تقدم يعلم أن إدانة الخلائق والتصرف في الكون ليس عندهم قاصرًا على الله تعالى وحده كما هي العقيدة الصحيحة في دين التوحيد الحقيقي القائل كتابه: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ] مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا [ (الكهف: 26) وقال مخاطبًا محمدًا صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) وقال: ...
] فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [فأين هذه العقائد العالية من عقائد الشرك والتشبيه والتجسيم؟ وجاء في سفر التثنية وأوامر التوحيد والتنزيه فيه وفي غيره من كتب العهد القديم كثيرة جدًّا قوله (32: 21) هم أغاروني بما ليس إلهًا، أغاظوني بأباطيلهم فأنا أغيرهم بما ليس شعبًا، بأمة غبية أغيظهم، وهي الأمة الإسلامية الناشئة بين الأميين الجاهلين) مصداقًا لقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} (الأعراف: 156-157) إلى آخر الآيات ثم قال سفر التثنية (32: 34) أليس ذلك مكنونًا عندي مختومًا عليه في خزائني 35 لي النقمة والجزاء في وقت تزل فيه أقدامهم. إن يوم هلاكهم قريب والمهيآت لهم مسرعة 36 لأن الرب يدين شعبه، وعلى عبيده يشفق حين يرى أن اليد قد مضت ولم يبق محجوز ولا مطلق 37 يقول: أين آلهتهم الصخرة 38 التي التجأوا إليها التي كانت تأكل شحم ذبائحهم وتشرب خمر سكائبهم. لتقمْ وتساعدكم وتكن عليكم حماية 39 انظروا الآن أنا أنا هو، وليس إله معي، أنا أُميت وأُحيي، سحقت، وإني أشفي وليس من يدي مخلص 40 إني أرفع إلى السماء يدي، وأقول: حيّ أنا إلى الأبد، إذا سننت سيفي البارق وأمسَكتْ بالقضاء يدي، أرد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضيَّ) فقارن هذه العبارات السامية الجليلة بأوهام النصارى ف العهد الجديد، هداهم الله إلى سواء السبيل.
(9) قد بين كثير من علماء الإفرنج المحقيقين أن هذا الكتاب الذي كان ينقل عنه يوستينوس لا يمكن أن يكون هو هذه الأناجيل الأربعة بالمرة، كما يدعي المبشرون الآن، وقد أثبتوا ذلك بعدة براهين يطول بنا إيرادها، هنا فمن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ كتاب (دين الخوارق) Supernatural Religion ص 181 - 267.
(10) حاشية: لما كان النصارى في القرن الأول يعتقدون قرب انتهاء العالم) كما بينا هنا وفي مقالة الصلب ص 157) وأنهم آخر الأمم وآخر الدهور وأن الساعة قريبة جدًّا منهم (رؤ 22: 10 ويو
2: 18 و 1 كو 10: 11) وأن بعضهم يبقى حيًّا إلى مجيء القيامة (1 كو 15: 51 و52 و1 تس 4: 15 - 18) لما كان هذا اعتقادهم كان هناك مسوغ زمني للقول بحصول التجسد والصلب والخلاص في زمن المسيح - آخر الأزمان كما يزعمون - ولكن الآن وقد مضى على البشر عشرون قرنًا، ولا ندري كم بقي من عمر العالم لا أفهم لم حصل الصلب وجاء المسيح في ذلك الزمن ولم يجئ في نهاية العالم أو في أول الأمر بعد عصيان آدم مباشرة؟ وحيث قد ظهر أن العالم لم ينته عقب المسيح مباشرة كما توهموا وقد وصل الرقي البشري إلى درجة لم يصل إليها قبل المسيح ظهر لنا عدم التناسب بين حصول الصلب والزمن الذي حصل فيه! فكان الأولى عقلاً والأنسب أن يحصل قرب نهاية العالم حتى تختم جميع القرابين والضحايا به ويختم به الزمان أيضًا! فإن قيل: كلامك هذا صحيح إذا كان المسيح مجرد ذبيحة فقط، ولكنه هو ذبيحة ومثال للبشر في تقديم أنفسهم ضحية لأجل إخوانهم الآخرين، فلذا جاء في ذلك الزمن ليقتدي به الناس بعده في أرقى العصور. قلت: الظاهر من صلوات المسيح ودعائه وحزنه وتقوية المَلَك له وطلبه النجاة من الله ومحاولته الدفاع عن نفسه وتصببه عرقًا وصراخه إلخ الظاهر من هذا كله (كما بينا في مقالة الصلب صفحة 122 - 125 وص 161 وأيضا 109) أنه لم يقدم نفسه باختياره، بل أكره على ذلك إكراهًا وبذله الله بدل الناس ولم يشفق عليه كما قال بولس رومية (8: 32) فهو ليس مثالاً حسنًا لتضحية الذات في سبيل نفع الناس بإرادته رغبة منه واختيارًا راجع أيضا كتاب (دين الله ص 80) وعليه يكون صلب المسيح مجرد ذبيحة بشرية لإرضاء هذا الإله المحب لسفك الدماء البريئة، وليس فيه شيء آخر يستفيد منه الناس، فكان الأنسب أن يحصل صلبه في نهاية العالم أو في أوله، وأما حصوله في ذلك الزمن من زهاء عشرين قرنًا فلا أفهم له حكمة ولا أعرف له مناسبة، فلعل المعجبين بعقيدتهم هذه من النصارى يهدوننا إليه، وفوق كل ذي علم عليم.(16/281)
الكاتب: محمد بن علي الإدريسي
__________
كتاب سياسي
للعبرة والتاريخ
عثرنا على صورة هذا الكتاب الذي أرسله السيد محمد الإدريسي إلى الإمام
يحيى حميد الدين بتاريخ 16 ربيع الأول الأنور سنة 1330.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن علي الإدريسي إلى جناب المولى، الذي هو بالمحامد أولى [1] ،
الإمام يحيى حميد الدين أشرق الله شموس سعده، وأعلى مراتبه على سنن جده،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد تقديم تحيات بين يدي نجوى هذه السطور،
تهديها إليكم نسمات الوداد ونفحات الإخلاص على أطباق النور، فقد وردت كتبكم
الكرام، آخرها ما هو بصحبة السادة الأجلاء العلماء الأعلام، السيد العلامة صفي
الإسلام الصنو أحمد بن يحيى بن قاسم عامر، والصنو العلامة العزي محمد بن
علي بن أحمد بن حسين الذاري، والصنو العلامة الوجيه عبد العزيز بن يحيى بن
المتوكل، والصنو العلامة العزي محمد بن محمد الشرعي الحولي، وقد سرَّنا
وصولهم وشريف قدومهم، وانشرح البال من لطائف علومهم، وظرائف فهومهم،
وتذاكرنا في أبحاث شتى.
أما مادة الصلح بيننا وبين الحكومة، فمن أول يوم وما ندعو إليه هو الوفاق،
وكلما أرادوا عقد ذلك نقضوه، وكفى بما كان في هذه المدة الأخيرة فإن المذاكرة
حصلت بيننا وبينهم في هذا الموضوع ثلاث مرات، بل أربع مرات بعد وصول
رسلهم إلينا، فإذا أجبنا بما فيه الوفاق أعرضوا تيهًا وكبرًا واحتقارًا لنا.
فأولى المرات بواسطة محمد توفيق [2] في مجيئه الأخير فأجبناهم ذاكرين مواد
بسيطة؛ لأن في ذلك الوقت لم يكن قد وقع بيننا وبينهم سفك دماء.
وتلك المواد هي أن نكون في جهاتنا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر،
ضابطين للبلاد من الفساد، مع بقاء مراكزهم، وإليهم تساق الحاصلات، وعليهم
القيام بما يلزم من معاش القضاة والمترددين في مصالح البريات، وأن يبقوا
(جازان) برتبة المعتاد، وأن لا يحدثوا زيادة من القوة في البلاد، وأن يفك أمير
مكة صالح ابن حسن وصاحبه من الحجاج، وأن نتوسط بينكم وبينهم من الصلح.
وهذه المواد مما يضحك منها؛ لأنها لبساطتها لا تكاد أن تكون مطالب، ولكن أدَّانا
إلى ذلك حب الراحة للبلاد والعباد.
فما كان الجواب إلا بنقيض ذلك فساقوا تلك القوة التي يقدمها محمد راغب بك
ومحمد علي باشا في جازان، وملأوه بالآلاف، وازدادوا عدوانًا على طلب
الحجاج لحبسهم كما وقع في حبس بعض رجال (المعّ) في حج هذا العام.
وأشعروا أن العسيري تابع لإمارة حسين بن عون [3] وأرسلوا إلينا بطريق مصر
في حين وصول القوة العامة برفق عزت [4] ، إني إن أردت السلامة أفتح لهم
الطريق إلى الإمام التي تمر على طرف البلاد التي بيدنا، ففوضنا الأمور إلى الله،
واستعنا به في مدافعتهم، وبحمد الله قد كان ما كان.
ثاني المرات بواسطتكم عندما وصل إليكم عزيز [5] ووافقناكم فكان منهم
الجواب بالتعليق على ما هو في حكم المستحيل، وهو إجابتنا لحضور الآستانة.
وقد تحقق لكم من هذا نهاية الإعراض، مع أنكم قد بذلتم الجهد كما أخبر عزيز عند
وصوله مصر لبعض أصدقائنا بذلك، وبما كررتموه من المراجعة فيما هنالك،
ومنع عزت وأخذ في تجهيز نحو تسعة وثلاثين طابورًا إلى أن حال بيننا وبينهم الله
بما تداركنا به من رحمته فكشف عنا الغمة ونجانا، كما هو سنته مع عباده
المؤمنين، وعكس عليهم القضية وسلط عليهم عبادًا له أولي بأس شديد فجاسوا
خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً.
ثالثها: كان بواسطة السيد الشراعي مع بعض إخواننا فأجبنا، فكان الجواب
منهم بالسكوت.
رابعها: مع سليمان متصرف عسير؛ لما أتانا جوابه [6]- بعد أن قامت عليهم
فتنة الطليان - يدعونا فيه إلى الوفاق، وأن نكون إخوانًا ونهجر الشقاق، فأجبنا عليه
بالترحيب والتسهيل، فأرسلنا بعض خُلَّص أصحابنا إلى أن وصل بقرب معسكرهم
وخاطبه بحضوره لأجل المذاكرة فيما يجمع الشأن فكان يساجل إلى أن تمكن من
أرزاق ومعاش؛ لأنه في ذلك الوقت كان عادمًا فلما رأى أنه استغنى تكبر، وأجاب
بالغلظة وإعداد الطوابير الجملة للمخالفين فرجع صاحبنا بذلك.
ثم في هذه المدة مع ما رأيناه من فتك الطليان بهم أخذنا العطف فأمسكنا كل
حركة، وكتبنا لمن في مفرزة ميدي [7] : إن دهمكم شيء فلكم مانعون، فكان منهم
أن محمد علي [8] مر بطريق القنفدة وليته لما مر قصر اشتغاله بمصلحة العسكر؛
بل أخذ يحرق ما وجد في طريقه من بيوت السادات العلماء؛ لأن هذا الرجل أكبر
عداوته لأهل الدين؛ لأن ما ناله من الشرف في الآستانة كان بأسباب شنقه لعالم في
أطنه أيام تنازع وقع بين المسلمين والنصارى هناك. ولما قدم جازان بالعساكر لم
يختر لهم (خسته خانه) إلا جامع تلك البلدة، ولا يهمه أن تلوث بالنجاسة وتعطلت
إقامة الجمعة فيه.
وكأنه يظن أن هذه هي الأسباب في ارتزاقه النياشين والرتب من باب: (من
رزق من شيء فليلزمه) وهذا هو السبب في تجهيز ما وجهناه من الجند إلى جهة
الشام [9] لأجل مدافعة هذا الطغيان والمحافظة على مراكز أهل الدين والإيمان.
وقد حصلت المذاكرة بيننا وبين هؤلاء الإخوان في هذه الأحوال إلى أن ساق
بنا الكلام إلى مفرزة ميدي، وأخبرناهم أن الطليان قد ضربوا قلاع الدولة ومراكزها
من باب المندب إلى جدة، وهد تلك الحصون بمدافعه المسلطة، ولم يبق إلا هذه
القلعة مع أن شيخ البلدة التي فيها قد سبقت له جناية مع الطليان بواسطة شهادة
سبنوك، طال الخلاف بين الترك والطليان فيه، وتوقف الأمر على شهادة هذا الشيخ،
وتهددته الدولة بالشهادة لها فشهد، فإذا قصد الطليان هذه المفرزة لا يقتصر عليها،
بل يتعداها إلى تلك البلد، لما جناه شيخها عليهم، وسابقًا قد ضربوا هذه البلد كما
قد عرفته.
ومن المشاهد أن هذه العساكر كجملة من في كل موضع إذا ضرب الطليان
المواقع هربوا من مواقعهم تلك إلى محلات العامة ولم يدافعوا ولا يضرب مدفع
واحد، وقد ضربت هذه القلعة من نحو شهر، وخرجوا منها كما ذكرنا، وهذا مما
أوقع الناس في العجب، فإن الدولة لما عجزت عن إصلاح الداخلية كان يرجى منها
حفظ الخارجية والقيام بالمدافعة عن الرعايا ممن قصدهم بسوء، فعجزت الدولة
الآن عن هذا وهذا، فما بقي لهم إلا أن يسعوا الناس بحسن الخلق؛ لو كانوا
يعقلون.
ثم إنه قد اشتد الخطب من الطليان بمحاصرتهم للحديدة إلى حالة يخشى معها
أن تحتل الحديدة، فتكلمنا مع العسكر الذين في القلعة بأن بقاءهم بها ضرره على
الإسلام والمسلمين؛ لأن الحديدة إذا احتلت يتبعها ملحقاتها ومن ذلك هذه القلعة،
ومن المعلوم حسب أصولهم أنه إذا احتلت الحديدة، وجاء المحتلون ببوابيرهم
لاستلام هذه النقطة تبعًا للمركز، ومعهم الإذن بالتسليم من كبراء الترك، فإن من
هذه النقطة لا يلتفت إلى الإسلام ولا إلى المسلمين ولا يهتمون بأمر الوطن بل حالاً
يعملون الترتيب اللازم في التسليم إلى المحتلين، ولو بطريق الحرب مع أهل
الوطن بأن يضربوا من القلاع وتضرب البوابير من الساحل حتى يتصلوا بالمحتلين،
ويدفعوا لهم موقع الحرب، ويسلموا أهل الوطن إلى الأسر، كما فعلوا في بني
غازي إحدى متصرفيات طرابلس، فإن أهلها عشية احتلال الطليان؛ لما رأوا
بوابير الطليان بالساحل أسرعوا إلى مركز الحكومة ليستعدوا للقتال ويودعوا أهاليهم
وأموالهم في محل مكين، فمنعهم الأتراك وألزموهم الطمأنينة فرجعوا إلى بيوتهم،
فلما جن الليل لم يشعروا إلا والمتصرفية بأجمعها صارت عساكر طليانية فقاموا
للدفاع ولم يمكن الخروج من المنازل إلا للرجال دون النساء والذرية، وهم الآن
تحت قبضة الطليان، واشتهر أن هذه المعاملة من العساكر بأسباب ما أخذه كبراؤهم
من الطليان خفية. وبأسباب ذلك استقال الصدر فتبين أن بقاءهم حينئذ في المواقع
الحربية لا للدفاع وحماية الثغور كما هو اللازم لمن يتولى إمارة المسلمين بل
للأغراض الفانية، وبيع البلاد للمصلحة الشخصية، فمن ينعَ الإسلام فلينعه من
الترك، ومن يندب الدين فليندبه مما لهم من اختلاق الإفك، فلما خاطبناهم في
النزول معنا ليبقوا مع العساكر العربية جنبًا بجنب حتى إذا احتلت الحديدة يكون
موقع المفرزة الميدية بأيدي المسلمين يؤدون فيه ما أوجب الله عليهم، وإن امتنعوا
فلا إلزام. وإن أرادوا اللحاق بكبرائهم فلهم ذلك، فأبوا هذا وهذا، ولا يحيق المكر
السييء إلا بأهله.
والعجب من هؤلاء الناس يذكرون أننا السبب في تركهم للمدافعة كما روى
عنهم السادة الواصلون! فليت شعري من أي وجه؟ وأيّ قرب بيننا وبينهم في المسافة
أن يقولوا نخشى أن نصلى بنارين؛ إذ في الأقل بيننا وبين الحديدة ثمانية أيام؛ ولو
سلم هذا فما يكون جوابهم في احتلال الطليان لطرابلس؟ وما المانع من المدافعة
هناك مع أن أهل تلك الجهة من المخلصين للحكومة بل هم قائمون بالقتال للمحتلين
من الآن، ومن العجاب أن الحكومة قبل أن يحتل المحتلون رفعت الأسلحة والوالي
والعسكر إلا شيئًا قليلاً، وبعد ذلك لم تمد المجاهدين ولا بدرهم أو نفر.
وفي عهدي أنا عرَّفناكم سابقًا أن في صبح ليلة خروج الأتراك من جازان وفي
اليوم الذي بعده جاءت بوسطة بطريق البحر فوقعت بيد المجاهدين، فإذا بعض
رسائلها يحتوي ترجمتها على إعلان حرب إيطاليا لهم وأنه يلزم مآميرهم هنا العناية
برعايا الإيطاليين وحفظهم، فتعجبنا من حسن معاملتهم، هذا لمن ناوأوهم بالعداء
الأكبر، وإذا حصل منا معاشر المسلمين أدنى شيء معهم قامت القيامة. وبينما نحن
في هذا الموضوع إذ ورد منكم كتاب كريم، فتلقيناه بالترحيب والتكريم، وسنوفي
كل بحث مما أشرتم إليه حقه، إن شاء الله.
فأما ما أشرتم إليه من قولكم: والدولة العثمانية، وإن كان أمراؤها كما عرفتم
فإنه عند الشدائد تذهب الأحقاد - إلى أن قلتم: أما ما كان سابقًا مما ذكرتم من
تباعد العثمانية عن الصلاح فإنه لا يغرنا الآن الإنصاف.
وقد أنصف الغارات من راماها. فلا يخفاكم أي حقد عندنا! ولما جاءني
كتاب سليمان باشا يجنح إلى السلم في وقت قيام الطليان وافقت، وأجبت بما
صدرت إليكم صورته، وأرسلتُ مِن أخِصاء إخواننا مَن يقوم بحل هذه المشاكل كما
قد أشرنا لكم في أول الجواب، ولم نلتفت إلى ما سبق منهم من الإيعاد بأنواع
المهالك حتى بشق بطون الحوامل، فلما جاء جواب سليمان لذلك الأخ يعني مندوبه
بالتهديد وإعداد الطوابير للتربية تعجبنا من ذلك، وما زلنا نتوقف عن عمل أي
حركة رجاء أن يهتدوا إلى الصواب، فما كان بعد ذلك إلا مرور محمد علي باشا
في شهر ذي الحجة يحرق بيوت السادات والعلماء وأفاضل الناس، كما قد ذكرنا
لكم أول الكتاب.
فيا ليت شعري ما نصنع بعد هذا؟ وهل فيه إنصاف أعظم من هذا الإنصاف
حتى من كان لنا بالأمس عدوًّا لدودًا أصبحنا نتقرب إليه بالمودة لا لشيء بل كان
حبًّا للصلاح مزيدًا، وهل من العقل بعد ذلك لنا أن نرمي بأنفسنا إليه ولو على
المهالك؟ وهل هذا من الدين؟ كلا، وأصدق القائلين يقول: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) .
ثم إن ما أشرتم إليه هو لم يزد عن كونه من قبلكم، ولم ندر ما هم عليه؛ إذ
لم يرد من كبرائهم وأعيانهم من تحسن المخاطبة معه في ذلك وفي كيفية مواصلة
الخطاب إلى الآستانة؛ لأن ولاية اليمن صارت الآن منقطعة عن الولاية العثمانية
للحيلولة بالقوة الإيطالية.
وأما ما أشرتم إليه أن لو اقترن ما بيننا وبينهم بصلح ما بينكم وبينهم. فاعلم
أيها الإمام أني عندما أتلو ذلك، أجد خاطري ينكسر مما هنالك؛ لأنه حين أرادوا
أن يغتنموا الفرصة فيَّ، وإن كنتم - جزاكم الله خيرا - كررتم التوسط في الصلح
لكن لا على طريق الشرطية؛ بخلاف الآن لما كان الصلح لمصلحتهم أوفق فآثرتموهم
عليَّ مع أني الصاحب القديم، والخل الذي هو على العهد إلى الممات مقيم:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
ومنازل في الأرض يألفها الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
وأما ما ذكرتموه (أن الملل الكفرية كما عرفنا فوقت سهام انتقامها على الدين
القويم وفعلت بالمسلمين أقبح الأفاعيل إلى آخر ما شرحتموه) . فلا يَخْفَاكم أن هذه
الأمة قد أخذت هذه الأزمان الطويلة وهي في اطمئنان بال وسكون الأحوال، لما
كان سلاطين آل عثمان قائمين بحماية الشرع الشريف، ولا مظهر لهم إلا أنهم
نواب الأمة الإسلامية في حقوق دينهم الحنيف، ولا شك أن أهل الملل المختلفة لا
يتجاسرون على هدم هذه السياسة؛ لأنها تستدعي الثورة العامة بين المسلمين
وغيرهم في جميع الأقطار الشاسعة، ولا أضر على الأجانب من هذه الحرب الدينية،
وبها كان يتهددهم السلطان السابق عند المشاكل الدولية، فيجنحون إلى الموافقة،
فلهذا عشنا وعشتم طول النشأة لم نسمع في الخارج بمشاقة، بل كان في آخر المدة
الأخيرة ما رفع الدولة لأعلى مكان حيث ظفرت باليونان واحتلت عاصمة ملكهم
بقوة عظيمة القدر والشان، فلما جاءت هذه النشأة الأخيرة من الأتراك تظاهروا
بالحرية ليرضوا أهل الملل الأخرى وأن الاختصاص بدين الإسلام هم منه على
فكاكٍ؛ ولهذا سموا أنفسهم بالجامعة العثمانية، ليوحدوا الملل؛ هربًا من الجامعة
الإسلامية، وقد أرسل جنابكم إلينا تلك الرسالة المؤلفة لشيخ الإسلام سري زاده
محمد صاحب ونبهتم - عافاكم الله - وعلى ما فيها من الإلحاد، وجزاكم الله خيرا
بتلك الإفادة.
فحينئذ حدث أمران: ضج أهل الإسلام من رغبة الأتراك عنهم، وطمع أهل
الملل في الأتراك لنفور الجمعية الإسلامية منهم، فأخذوا في انتهاب البلاد منهم،
فاستقلت ولاية البلغار، بعد أن كان ملكهم في زمن السلطان السابق برتبة ياوران،
وبيعت ولايتا البوسنة والهرسك علنًا، وطرابلس خفية، وصدق لفرنسا على تبعية
تونس، وحينئذ قامت الأجانب يغار بعضهم على بعض فمدوا أيديهم إلى احتلال
البلاد العثمانية - لهذه الأسباب - ولغير العثمانية بطريق أولى، كتبريز وفاس كما
ذكرتم، مع أن فاس هذه من أعوام قريبة سعى السلطان السابق في استقلالها
بواسطة ملك ألمانيا لتحفظ من غوائل الأجانب، فتغيرت في هذه الأيام السياسة
الإسلامية من أهلها، فكان ما كان في مسافة ثلاث سنوات، وهذه الرابعة أقبلت فيها
تتداعى الشدائد من كل الجهات، وكل فريق يمد يده إلى ما شاء من النواحي
المختلفات.
وقد عرفناكم بمنشأ هذه الأحوال؛ لتعرفوا من هم السبب في محاق البلاد
الإسلامية والاضمحلال، فهم الأحق بالملامة والتقريع والتوبيخ وسلب الكرامة،
ويا ليت شعري ما المراد منا في الرابطة التي أشرتم إليها؟ فإن كان لقصد التسكين
المجرد إلى أن توافق معهم الأمور ثم يثبوا كأن لم يكن بيننا وبينهم صداقة كما كان
بالعام الماضي؛ إذ قدمنا لهم عشرة آلاف عود للسلك، وأمنَّا لهم الطرق، وتعهدنا
لهم بالإصلاح حتى صاروا دولة حقيقة يروحون ويغدون بكل شرف، فما كان منهم
إلا تدبير الحيلة في الهجوم للقبض علينا؛ فنجانا الله وآل الأمر إلى ما هم فيه من
الإهانة والحيرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أولا، توافق الأمور - كما هو المنتظر - إن لم يستعطفوا خواطر المؤمنين،
واشتد الحال أن آل إلى سقوط البلاد بأيدي الغير يسلمها الأتراك لهم، ولا يلزمنا إلا
قبول ما حلوه، وأبرموه فما في هذه إلا إقامة الحجة علينا من الله، وما المعذرة في
ذلك المقام الإلهي؟ . وإن كان القصد أن نكون نحن وهم شركاء في المواقع بدون
خداع في الحال والاستقبال: شركاء في الدفاع عن الدين، شركاء في الرأي حتى
نعلم ما يراد بنا، ونؤدي ما أوجب علينا ربنا، ولا نكون ألعوبة للأتراك يسلموننا إلى
الغير متى شاءوا، والعياذ بوجه الله، بل نكون على أمن من ذلك كله - فأهلاً بالوفاق
وسهلاً.
وفي الحقيقة إن هو إلا رجل قام بتأييد الله في هذه البرية القفراء للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإقامة الشريعة التي لا حرز لنا دونها ولا عصمة،
إن كنا ممن يحتفلون بتعاليمها الإلهية ويخدمونها.
فقامت هذه النشأة الجديدة من الأتراك وحشدوا العساكر المصحوبة بالمدمرات
والسيوف البواتر، وشاع وذاع أنه صدرت إرادة سلطانية، وإشارة من لدن الجمعية
باستئصالنا، ولا يعلمون أن الأمر بيد الله، وهو أكرم الأكرمين، لا يضيع مَن مَنَّ
عليه من بريته، وكساه من الإيمان بحلل كرامته، بل ينصره وينتقم ممن عاداه كما
وعد في كتابه العزيز: {وَعْدَ اللَّهِ حَقاًّ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (النساء:
122) . فقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) وقال عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) وإني والله عند هذه الآيات أعلم
من أين أخذت هذه الدولة فتداعت عليها الأهوال من كل جانب جملة واحدة على
غير أسلوب معروف، ولا تقدير في الحساب مألوف {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ
مَرَدَّ لَهُ} (الرعد: 11) .
فاجأها القهر الإلهي بغتة، وانقطعت في مدافعته كل حيلة فسبحان القائل
{وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) وإني والله لأعلم بدواء تلك العلة فهل
من سبيل إلى أن أكون الطبيب الرباني؟ ولا تكاد تلبث هذه الدولة ساعة حتى
يشفيها الله في جميع الأنحاء ولكن إن رجعت سياستها إلى الصراط المستقيم
الرحماني. وقد ذكرنا للسادة الواصلين تفاصيل الأمور وأبدينا لهم ما يصلح في
المقام، واكتفينا ببيانهم عن شرح ذلك هنا؛ لأن للكلام مقامات طويلة ومباحث
مختلفة، كما سيوضحون لكم، وهم من أفضل عباد الله، وله الحمد أن جعل بيننا
وبينهم التآلف وخالص الوداد في الله، ومثلهم يقوم بالبيان وكونوا على يقين أن ما
فيه صلاح المسلمين والإسلام وحفظ البلاد بدون خداع فإنا فيه على وفاق، وكذلك
اكتفينا ببيانهم في مادة الحدود من الشرف إلى بني جماعة وقد تحررت بذلك ورقة
بخط العلامة المفضال بدر اللآلي السيد أحمد بن يحيى عامر، هذا، وشريف السلام
وأسناه يعمكم ومن بالمقام ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
__________
(1) حذف من هذا المكان ما اعتيد من الألقاب والسجع.
(2) هو الشيخ محمد توفيق الأرنؤوطي الأصل، المعدود من علماء الترك، جاور في الأزهر وعرف السيد الإدريسي فيه وقد أرسله إليه الاتحاديون بعد الدستور غير مرة ليكشف لهم حقيقة أمره، وقد كنت مرة في ناديهم الشهير (بنور عثمانية في الآستانة) حين جاءهم أول كتاب منه فأخبروني أنه أثنى عليه فيما كتبه ووصفه بالإخلاص للدولة ولمقام الخلافة، وأنه لا يريد إلا إرشاد الناس لما فيه صلاحهم في دينهم وطاعتهم للدولة، فذكرت هذا الكلام للصدر الأعظم حسين حلمي باشا، فقال: الشيخ توفيق رجل بسيط ساذج إلخ، ولم أسمع يومئذ من رجال الجمعية مثلما سمعت من الصدر من الارتياب وسوء الظن، وقد اجتمعت بعد ذلك بالشيخ توفيق في الآستانة ثم في مصر بعد عودته المرة الثانية من اليمن وكانت الحكومة قد أظهرت العداوة للإدريسي وآذنته بالحرب فسألته عنه فقال: إنه على ما عهدت من قبل من الاستقامة والإخلاص، ولكن الحكومة أعرف بسياستها، أو ما هذا معناه، وقد رأيت بعض إخواننا العرب في بمبي يطعنون في الإدريسي فعارضتهم وذكرت لهم ما سمعته وما رأيته من بعض كتبه لأهله في السودان الناطقة بإخلاصه للدولة حتى اضطره الاتحاديون بضغطهم إلى ما كان من المقاومة، فاقتنعوا.
(3) أي جعلوا بلاد عسير تابعة لأمير مكة الشريف حسن بن عون.
(4) هو عزت باشا القائد الأخير لحملة اليمن وهو الآن القائد العام لجيش الدولة في شطلجة بجوار الآستانة لمدافعة البلقانيين عنها.
(5) هو عزيز بك علي المصري الذي كان واسطة الصلح بين الإمام وعزت باشا في اليمن وهو الآن أمير العرب وقائدهم في قُطر بنغازي يجاهد إيطالية.
(6) قد وقفنا على كتاب سليمان باشا هذا للسيد وجواب السيد له وسننشرهما بعد.
(7) ميدي: ثغر من ثغور عسير بين الحديدة وجيزان - أو جازان - وفيه قلعة عسكرية، وهو الآن من الثغور التي بيد السيد، وقد عثرنا على كتاب من القومندان التركي الذي عرض السيد عليه المساعدة على إيطالية.
(8) هو محمد علي باشا الذي كان والي اليمن وقائدها العام.
(9) هي الحدود الشمالية لعسير يسمونها جهة الشام.(16/300)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية
الحقوق التي أعطتها اللائحة للمستشارين الأجانب
(1) جاء في المادة الرابعة أن اعتراض الوالي على قرارات المجلس
العمومي مقيد بمصادقة مجلس المستشارين، وهو قيد لا حاجة إليه؛ لأن مجرد
اعتراض الوالي على قرار ما لا يقتضي إلغاءه حتى يقيد فيه بما يمنع استبداده به،
ومن شأن الاعتراض أن يبنى على أحد أمرين: إما مخالفة القوانين، أو مخالفة
المصلحة، ولو قيدوه بهما لكان أولى حتى لا يكثر الاعتراض من الولاة البلداء
فيضيع بها الوقت، وما دام القول الفصل في الاعتراض للمجلس، فالاعتراض إما
أن ينفع وإما ألا يضر.
(2) في المادة الخامسة أن لجنة المجلس العمومي تجتمع بإرادة مستشار هذا
المجلس، ومن حقوقها دعوة المجلس لاجتماع فوق العادة باتفاق ثلثي أعضائها
ومصادقة مستشار المجلس. فهذا القيد لا حاجة إليه أيضًا، وفيه هضم لحقوق
اللجنة عظيم، فإذا سوغنا أن يكون اجتماعها بإرادة المستشار لاتخاذه إمامًا ومرشدًا
لها فيما هو أعلم به منها من وظائفها كلها أو بعضها، فلمَ يجوز لها الاستقلال بطلب
عقد المجلس إذا رأى ثلثا أعضائها الحاجة إلى ذلك لأمور تتعلق بمصلحة بلادهم
يجوز أن لا يعرفها المستشار؟ ألا يجوز أن تكون المسألة التي يدعونه لأجلها مهمة
جدًّا في نظرهم وأن يكون للمستشار هوًى في عدم اجتماع المجلس لها؛ لأن فيها
تعارضًا بين مصلحة الوطن ومصلحة أبناء جنسه الأوربيين؟ بلى فالمصلحة أن لا
نجعل له حقًّا يمكن أن يضر؛ ولا حاجة تدعو إليه، أي ليس لنا فيه نفع. على أن
القاعدة الأصولية أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
(3) في الكلام على تعيين الموظفين من المادة السادسة: أن طالب الوظيفة
يمتحن أمام لجنة مؤلفة من مستشار ورئيس الدائرة التي يطلب الدخول لها.
والظاهر أن الامتحان يكون باللغة العربية ولا تشترط اللائحة أن يكون المستشار
عارفًا بها؛ لأنه معرفته للتركية أو الفرنسية تقوم مقامها، ثم ما هي مواد الامتحان؟
ولم يشترط في كل مستشار أن يعرف قوانين الدولة، فنقول: إن الامتحان يكون
بموادها.
(4) في الكلام على عزل الموظفين من المادة السادسة أيضا: أن رؤساء
العدلية تكف أيديهم عن العمل بناء على طلب المستشار ومصادقة مجلس
المستشارين، وأن سائر الموظفين المعينين من قِبل الولاية تكف أيديهم بناء على
طلب المستشار ورئيس الدائرة المنسوبين إليها فقط، وأن موظفي الحكومة المركزية
يكون عزلهم بطلب من مجلس المستشارين وبحكم من هذا المجلس. وقد جعلت
اللائحة للقسمين الأولين من الموظفين الذين تكف يدهم حق مراجعة الوالي في مدة
معينة؛ ولكنها أوجبت على الوالي أن يحيل دعوى من يراجعه إلى مجلس
المستشارين الذين كان كف اليد من قبلهم ليحكم فيها، فهذه حقوق تجعل أمر العزل
كله بأيدي المستشارين الذين لا يعرفون لغة البلاد ولا قوانينها ولا يشترط فيهم
ذلك، ولم يقيدوا بقانون آخر يحكمون به في العزل والإيقاف، وهذه سلطة
استبدادية خطرة قد تقع على بعض الناس بالقوة القاهرة، وأغرب الغرائب أن
يطلبها بعض الناس لأنفسهم ويسمونها إصلاحًا؛ وإنما طلبها مبني على قاعدة عدم
وجود الأكفاء لإدارة الحكومة في البلاد، فكيف يكون حال هؤلاء الموظفين الذين
يقل فيهم الكفؤ مع المستشارين الذين بأيديهم أمر رزقهم؛ وهم يذلون الآن لرؤسائهم
من الترك؛ خوفًا من العزل الذي لا يقطع الأمل من العودة إلى الوظيفة، أو نيل
خير منها، فكيف يكون ذلهم لمن إذا عزلوهم يحرمون بعزلهم من خدمة حكومتهم
طول حياتهم؟
(5) أغرب كل ما في هذه اللائحة على الإطلاق أنها بعد أن جعلت أمر
عزل الوطنيين في أيدي الأجانب ناطت بهم عزل أنفسهم أيضًا، كأن واضعيها
يحسبون أنهم سيجدون في أوربة من المستشارين والمفتشين، من يجري على سنة
الخلفاء الراشدين، ونسوا أنه لا يُعرف في أوربة كلها رجل سياسي رفع صوته
بالرضاء بإلغاء امتياز الأوربي على الشرقي في الحقوق والعقوبات، بل المعروف
عن الكثيرين منهم أنهم لا يرون أمة من أمم الشرق توازي صعلوكًا أوربيًّا، والذي
يزيد هذا الأمر غرابة أن هؤلاء المستشارين الذين يعدون في تكافلهم واتحادهم في
الشرق، كأنهم رجل واحد قد جعلت اللائحة أمر مذنبهم مفوضًا إلى آرائهم وأهوائهم
لا إلى قانون يوجب عليهم الحكم بمواد معينة في كل ذنب، على حين أنهم إذا قيدوا
بقانون ونيط أمرهم بمجلس تأديب وطني أو مختلط لا تسهل معاقبتهم بما يوجبه ذلك
القانون. (هذا وما فكيف لو) .
* * *
اقترحت اللائحة في المادة السابعة أن تعين الحكومة المركزية المستشارين من
الأجانب للشرطة (الجندرمه) والمالية والبوسطة والتلغراف والجمرك في مركز
الولاية ومفتشًا عامًّا منهم لكل لواء، وأن يعين المجلس العمومي من الدول التي
ترضاها الحكومة المركزية مستشارين للمجلس العمومي والعدلية والنافعة والمعارف
والبلدية والبوليس؛ ولكنها لم تبين أعمالهم ووظائفهم في هذه المصالح، وإنما بينت
في المادة الثالثة عشرة فنذكرها واحدة واحدة في سلسلة انتقادنا هذا وهي أربعة.
(6) أول وظائف هذا المجلس تفسير مواد النظام الذي تضعه الحكومة
المركزية على أن يكون دستورًا لحكومة الولاية ومجلسها العمومي، ولست أرى
لإعطاء المستشارين هذا الحق وجهًا إلا أنه حكم بين الولاية والعاصمة وإلا فمجلس
إدارة الولاية أجدر من المستشارين بفهم هذه القوانين، ولعل حكومة العاصمة ترى
حكمه أقرب إلى مصلحتها إذا كان مؤلفًا من الأعضاء المنتخبين ورؤساء المصالح
الذين يعين بعضهم من قبلها، وبعضهم من قبل الولاية، على أن إعطاءهم حق هذا
التفسير مطلق عام؛ ولهم بذلك مجال واسع للحكم بالرأي والهوى.
(7) الوظيفة الثانية لهذا المجلس تفسير القرارات والأنظمة التي يضعها
المجلس العمومي، ولست أرى لهذه الوظيفة وجهًا ألبتة، فإذا اشتبه الوالي أو غيره
فيما يضعه المجلس فينبغي أن يراجع المجلس فيه؛ لأنه أعلم بما يضع، ويترتب
على إعطاء المستشارين هذا الحق: وجوب نقل كل ما يضعه المجلس بلغة البلاد
إلى اللغة الفرنسية؛ لأنها ستكون هي اللغة التي يعرفها جميع المستشارين حتمًا،
وقد يكون هذا من مقدمات احتلال فرنسة للبلاد.
(8) الوظيفة الثالثة له النظر والحكم في وجوب عزل الموظف أو عدمه،
وقد أشرنا إلى انتقاده من قبل ونقول هنا: إن الواجب المتعين أن يكون لكل مصلحة
مجلس تأديب يتألف من رئيسها وبعض كبار الموظفين فيها، ويجوز أن يكون
مستشارها عضوًا فيه.
(9) الوظيفة الرابعة: له النظر والحكم بناء على طلب الوالي أو أحد
المستشارين في كل خلاف يقع بين أحد المستشارين والمجلس العمومي أو إحدى
لجانه أو أي دائرة مصلحة كانت، ويكون حكمه مبرمًا، وقد انتقدنا مثل هذه الوظيفة
من قبل؛ ونريد هنا انتقاد جعل حكمه مبرمًا انتقادًا شديدًا مؤكدًا، فإن هذا الحكم
المبرم الذي لا يقبل النقض ولا المعارضة، ولا يجوز فيه الاستئناف لا يصح أن
يعطى إلا للمعصوم من الخطأ والمنزه عن الهوى، ولا يعقل أحد وجه الحاجة إليه،
ولا كيف يمنحه الناس للحاكم من تلقاء أنفسهم.
تلك إشارة وجيزة إلى ما رأيناه من خطأ هذه اللائحة في موضوع المستشارين؛
ولنا عليها انتقادات أخرى لا حاجة إلى بسطها، ولما كنا جازمين بأن الحكومة
المركزية يستحيل أن تقبل هذه اللائحة، ولا سيما الوزارة الاتحادية منها التي لا
يرضيها إلا استبداد العاصمة في المملكة - فالواجب على طلاب الإصلاح المخلصين
من أهل بيروت أن ينضموا إلى حزب اللامركزية الإدارية؛ لتكون يد الجميع
واحدة ويد الله على الجماعة - كما ورد - والله الموفق.
__________(16/312)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة العربية عند الاتحاديين
من لم تفده عِبرًا أيامُه ... كان العمى أولى به من الهدى
كنا نقول: إن مصيبتنا بهؤلاء الاتحاديين الذين ورثوا ملك عبد الحميد أنهم
أصحاب نظريات في السياسة والإدارة يجربونها في هذه الدولة التي يجب الجري
فيها على قواعد ثابتة؛ لأنها لم تعد تحتمل التجارب، وكنا نظن أنها إذا لم تفاجئها
الدواهي الخارجية في أثناء هذه التجارب فربما ظهر لهؤلاء العاملين خطأهم فرجعوا
عنه، وقد رأينا القوم خابوا وفشلوا في كل شيء، واعترف بعضهم ببعض خطأهم
وادعوا أنهم رجعوا عن بعضه، وأنهم سيرجعون عن بعض آخر، ولكنهم لم يفوا
بوعد، ولا رجعوا عن سوء قصد، ولا اعتبروا بالحوادث، ولا تأدبوا بالكوارث،
بل ازدادوا كذبًا وخداعًا، وهذا من الغرور الذي قلما يوجد في البشر له نظير،
والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، بل أعمالهم اليوم هي عنوان أعمالهم بالأمس، لا
فرق بين ما كنت تراه منها في أول عهد وزارتهم (الحقية) إذ كانوا يدلون ببأسهم
وقوتهم وجيوشهم، وبين ما تراه على عهد وزارتهم (الشوكية) بعد أن أضاعوا ثلثي
المملكة بإضاعة طرابلس الغرب وبرقة وجميع الولايات الأوربية، ومعظم الجزر
البحرية، وبعد إفساد الجيش والتفريق بين العناصر وإضاعة الأموال، فهم بعد هذا
كله لم يتحولوا عن سياستهم السوءى في المسألة العربية التي أحدثوها في هذه
المملكة وقطبها عندهم الضغط والإرهاب بالقوة من جهة والغش والمخادعة من جهة
أخرى، وغرضنا من هذا أن نقول كلمة في هذه المخادعة:
زرت الآستانة في أوخر سنة 1327 وبقيت فيها إلى آخر ما بعدها وكان
مما اجتهدت في تلافيه سد ثغرة التنافر بين الترك والعرب. ولما حدثت طلعت بك
الزعيم الاتحادي في ذلك وكان ناظرًا للداخلية وقابضًا على زمام الإدارة والسياسة
في الدولة - أظهر لي قبول رأيي وكان مما قاله: إنهم عازمون على إنشاء جريدة
عربية في الآستانة؛ لأجل استمالة العرب ومودتهم، فسألته عمن يقوم بإدارة هذه
الجريدة وتحريرها فقال: عبيد الله أفندي مبعوث آيدين.
قلت: إن الرجل معروف ببغض العرب والعربية، فلا أراه يزيد مسافة الخلف
إلا انفراجًا أو اتساعًا إلخ ما دار بيننا في ذلك، ثم ظهرت جريدة باسم العرب؛
وكان ما كان من أمر قيامة الجرائد العربية عليها في سورية والعراق ومصر
وأمريكة وغيرها من البلاد، واشتهر عند الخاص والعام في هذه الأقطار أن هذه
الجريدة أسست للتفريق بين العرب وغشهم ومخادعتهم وتحقير مصلحيهم، وإيقاع
الشقاق بين مسلمي سورية ونصاراهم منهم، وبهذا بطل الغرض من إنشائها
فاضطروا إلى إبطالها.
شاويش خلف عبيد الله:
ثم بدا لهم أن ينيطوا هذه المفسدة برجل يعده بعض العرب منهم؛ فلم يروا
أحدًا أهلاً لذلك إلا الشيخ عبد العزيز شاويش؛ لأنه كان قد مهَّد السبيل إلى ثقتهم بما
كان ينصر جمعيتهم ويطري زعماءهم في جريدة العلم، وبمقاومته لمشروع الدعوة
والإرشاد ثم بطعنه في مسلمي العرب وزعمه أنهم أضر على الدولة من نصارى
البلغار والروم وغيرهم.
بمثل هذا تقرب شاويش إلى جمعية الاتحاد والترقي عدوة العرب والإسلام
ونال الحظوة عندها؛ فأسست له جريدة في الآستانة كانت تنشرها في البلاد العربية
بقوة الحكومة، وهي الهلال العثماني، ولكن نفوذ الحكومة قد عجز عن جعل الناس
يتلقونها بالقبول، ثم سقطت هذه الجريدة المنافقة بسقوط وزارتهم (السعيدية) فلما
عادت لهم الكَرة بفتنة أنور بك وألفوا الوزارة (الشوكية) أنشأوا لشاويش جريدة
أخرى باسم (الحق يعلو) وسمي أحد شبان المصريين المتصلين به مديرًا لها؛ ليكون
مدح شاويش وإطراؤه فيها لنفسه سائغًا مقبولاً؛ ولئلا يكون إذا حالت الأحوال
مسئولاً.
لم أقرأ في هذه الجريدة إلا عددًا واحدًا وجدت فيه دسيسة من شر دسائسهم في
التفريق بين العرب وإغراء العداوة والبغضاء بينهم الذي يراه الاتحاديون الوسيلة
إلى إضعافهم وأخذ منافذ الترقي والإصلاح عليه في سورية، وهو أنه زعم أن أهل
الذمة الذين بيننا يتربصون بنا الدوائر فإذا أمكنتهم الفرصة منا فعلوا بنا أقبح مما
فعل البلقانيون بمسلمي بلادهم من القتل والسلب والنهب والفضائح. . . فما الذي
حمل الاتحاديين على دفع الشيخ عبد العزيز شاويش على كتابة مثل هذا الكلام في
مثل هذا الوقت؟ أليس المعقول أن مصلحة الدولة الآن تقتضي الألفة أو السكون في
الولايات الآسيوية، وهي مرتبكة في الحرب البلقانية؛ لئلا تفتح على نفسها أبوابًا
جديدة من المشاكل؟ ألم يكن الواجب على الشيخ عبد العزيز شاويش أن يكتم علمه
بما قاله، إن كان في ذلك على علم، وما هو علم ولا ظن بل هي فتنة؛ لئلا يكون
سببًا لثورة في سورية تفضي إلى خروجها من ملك الدولة كما خرج غيرها؟ بلى،
ولكن الاتحاديين علموا أن أواخي الوفاق قد شدت بين المسلمين والنصارى في
بيروت، وأجمعوا على أن يكونوا يدًا واحدة في طلب الإصلاح لبلادهم، وهذا ما
لا يطيقه الاتحاديون.
والظاهر أن تعريض البلاد العربية لاستيلاء أوربة عليها أخف على قلوبهم
وأدنى إلي سياستهم من اتفاق أهلها وإصلاح حالهم؛ فلهذا أوعزوا إلى محضاء
مفاسدهم بهذا من غير أن يحسبوا لعاقبته حسابًا، وربما كان هذا الغلو في الإفساد
إلى هذه الدرجة من سوء اجتهاد الشيخ شاويش وجريًا منه على ما تعود بمصر من
إطلاق العنان لقلمه في مثل هذا حتى زجَّه في السجن غير مرة ثم أخرجه من القطر
المصري كله، وإذا كان شأنه في التفريق بين المسلمين والقبط ما علمه الناس،
وفيها حكومة منظمة ومحاكم تقيم القانون، فكيف لا يكون شأنه في ذلك ما رأينا وأشد
مما رأينا منه في الآستانة؟ وهو يرمي عن قوس جمعية الاتحاد والترقي صاحبة
السلطة في المملكة العثمانية، وينضح بسهامها ويكافَأ على ذلك بمال العثمانيين
المنكوبين بجميع أنواع المصائب بشؤم هذه الجمعية.
الشيخ عبد العزيز شاويش مفتون بحب الشهرة والزعامة، وهو يحاول أن
ينال بجاه الاتحاديين ما أعياه نيله بغلوه في الحزب الوطني المصري، والاتحاديون
يرون من مصلحتهم إيجاد زعيم عربي يخدعون به العرب، وليس الشيخ شاويش
بأهل لهذه الزعامة ولا الاتحاديون قادرين على ما يبغون منه، حتى إنهم لو قربوا
منهم بعض الأفراد الذين نالوا الثقة بحق بين العرب لكان قربه منهم وثقتهم به مما
يسرع بالتهمة إليه ويفيده الظنة، فإذا بدرت منه بادرة تنافي مصلحة قومه عدت
دليلاً قاطعًا على نفاقه وبيع ذمته للاتحاديين، فكيف إذًا يستطيعون جعل الشيخ
شاويش زعيمًا عربيًّا ويرجون أن يؤثر كلامه في السوريين؛ وهو قد اشتهر بالنفاق
للترك والحط على العرب وفَاقَ زعماء الحزب الوطني وكُتَّابه في بغض السوريين
منهم خاصة، وهل ينسى السوريون - من هؤلاء - مطاعن جريدتهم اللواء فيهم،
وقولها في طائفة من جنودهم ما قاله مالك في الخمر؛ إذ كانت باخرة تحمل بعض
العسكر العثماني إلى اليمن ففر بعضهم من بورسعيد أو السويس وقيل: إنهم من
السوريين، فافترصت ذلك جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني وعدوة السوريين
كافة، وشنَّعت على السوريين وعللت هربهم بخسة منبتهم، ثم تبين أنهم غير
سوريين.
سيعلم الاتحاديون أنهم مخطئون في نظريتهم هذه كما ظهر لهم مثل ذلك في
استخدام عبيد الله بمثل ما يستخدمون له شاويشًا، وفي غير ذلك من أعمالهم المبنية
على نظرياتهم الباطلة، بل سيعلمون أن خداعهم هذا سيعود عليهم بضد ما يرون
كما وقع لهم غير مرة ولم يعتبروا.
ألا فليعلموا أن جميع من يفهم ويعقل من العرب يعتقد أن جمعية الاتحاد
والترقي لا تريد بالعرب إلا شرًّا، ولا تستخدم لشيء يتعلق بمصالحهم إلا من يكون
عونًا لها عليهم، والسوريون منهم خاصة يعرفون أن كتاب الحزب الوطني كفريد
وشاويش كانوا يبغضون جميع السوريين قبل أن يستخدمهم الاتحاديون في أهوائهم
وأن شاويشا قد غلا في ذلك وأفرط، فلا قيمة لكلامه عند أحد منهم إلا قيمة العدو
المستأجَر لإيذاء عدوه، فإذا كانوا يريدون إرضاء العرب فلا طريقة لذلك إلا ترك
الجمعية لمقصدها الأول، وهو العصبية التركية، وجعل العرب والترك كالأخوين
الشقيقين لا ترجيح لأحدهما على الآخر في شيء؛ وإلا خسروا العرب أو خسروا
أنفسهم، وإنه ليستحيل في اعتقادي الجمع بين بقاء الدولة وبقاء سلطة الجمعية فيها
وهي على طريقتها الأولى.
لولا أن هذه الجريدة مُنْشَأة بأموالنا لإفساد ذات بيننا بإغواء المفتاتين على
حكومتنا لما كتبت في شأنها كلمة واحدة؛ إذ ليس الشيخ عبد العزيز شاويش أحق
بأن يُلتفت إلى قوله من صبية الحزب الوطني الذين يخلقون كل يوم من الكذب
والبهتان ويخترعون من الغش والتمويه ما نعرض عنه ونمر به كرامًا كما أرشدنا
الله تعالى في كتابه، فنحن نحذر قومنا من دسائس جمعية الاتحاد والترقي لا من
شاويش.
فالذي ينبغي لكل محب لقومه محترم لنفسه من العرب أن لا يُعنى بقراءة هذه
الجريدة المستأجَرة بمال السحت، ولا يبالي بما يسمعه عنها، وعلى أصحاب
الجرائد العربية الصادقة المحترمة أن لا تردد صوتها، ولا تنقل عنها ولا ترد عليها،
ولكن يجب عليهم أن يحيطوا بكل ما فيها، فإن رأوا فيها مفسدة لا بد من درئها
وتفنيد باطلها؛ فليكن ردهم على المستأجِرين دون الأجير، وعلى الكلام دون
المتكلِّم؛ ولا يغتروا بما عساه يكتب فيها من مدح العرب أو دعوى السعي لخيرهم،
فقد رأوا مثل ذلك في جريدة العرب وعلموا أنه خداع وتغرير؛ ولا يلدغ المؤمن
من جحر مرتين وهل رأوا شرًّا من أفاعي جحر الاتحاديين؟ فجريدة (الباطل
يسفل) التي سميت بضد معناها شرّ خلف للجريدة التي سميت العرب.
الوفاق بين المسلمين والنصارى:
وعلى عقلاء البلاد السورية أن يعتبروا بهذا الإفساد فيزدادوا استمساكًا بحبل
الوفاق والتآلف الذي وفقهم الله له، وأن يُعنى كُتَّاب المسلمين منهم خاصة برد كل
كلام يكتب لإفساد ذات بينهم باسم الإسلام وبتحريك نعرة العصبية الدينية؛ فإن هذا
الإفساد مخالف لهدي الإسلام، ولا تغرنهم سفسطة بعض أجراء الاتحاديين وزعمهم
أنه يجب احترام شاويش بكونه من علماء الدين، لا لأن شاويشًا ليس من صنف
علماء الدين ولا زيه زيهم، ولا سمته سمتهم؛ إذ هو يحلق لحيته ويعفي شاربه
خلافًا للسنة؛ بل لأن كلامه باطل يراد به ما هو شر منه؛ والعبرة عندنا بالحقائق
والمقاصد، لا بالرسوم والظواهر، وحسب العامي الذي يشتبه عليه الكلام، أن يعلم
أنه صادر عمن جاهروا بعداوة العرب بالقول والعمل، فهذه آية لا تخفى على أحد.
__________(16/315)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصلح بعد سوء العاقبة
بسقوط يانية وأدرنة
كان زعماء الاتحاديين يزعمون أن سبب خذلان الجيش العثماني وانكساره في
حرب البلقانيين هو أن وزارة مختار ووزارة كامل لم تحسنا إدارته، ولم تكلا قيادته
إلى القادرين عليها، وأنه لو تعين محمود شوكت باشا مفتشًا للجيش؛ لتحولت
الحال، وكان الظفر للعثمانيين مضمونًا، ثم عمدوا إلى إسقاط وزارة كامل باشا
لرضائها بالصلح، وزعموا أنهم لا يصالحون إلا بعد أن ينقذوا أدرنة ويعيدوا شرف
الجيش إليه بالظهور على البلقانيين، وأن قوته ومعداته كافية لذلك لا ينقصها إلا أن
تكون الإدارة والقيادة في أيدي الاتحاديين، وقد نقلنا بعض مزاعمهم هذه وبيَّنا أنهم
لا غرض لهم إلا الاستيلاء على الدولة بهذه الفرصة وأنهم لا يستطيعون أن يصلوا
إلى صلح شريف كالصلح الذي كان يريده كامل باشا، وهو به زعيم: بأن يجعل
أدرنة ولاية إسلامية مستقلة فاصلة بين البلقان والآستانة، ثم صدقت الحوادث
آراءنا ففتحت اليونان يانيا عنوة وفتحت البلغار أدرنة عنوة، وفقدنا كل ما فيهما من
السلاح والذخائر؛ وهو معظم ما بقي عند الدولة، وأخذ منا عشرات الألوف أسرى؛
فهل هذا هو الشرف العسكري الذي أرجعوه بجعل الصدارة مع الحربية بيد محمود
شوكت باشا؟
كان المنافقون للاتحاديين يعظمون أمر أدرنة على عهد الوزارة السابقة
ويزعمون أنها إذا سقطت في أيدي البلغار حربًا أو صلحًا فقد سقطت الآستانة
وسقطت وراءهما الدولة والإسلام.
فلما أُخذت أدرنة عنوة وحصونها أمنع من جميع حصون البلاد المحصَّنة في
الدولة، وعلم جميع الناس أنه لا يوجد في هذه المملكة حصن يمتنع على حكومة
صغيرة كالبلغار - قام هؤلاء المنافقون يجعلون سقوط أدرنة وأخذها عنوة من قبيل
الظفر للدولة؛ لأن الأعداء علموا أن أخذ بلادها لا يمكن إلا بخسارة كبيرة! !
وأين البلاد المحصنة كأدرنة في الدولة؟ ومثل هؤلاء المنافقين لا يُكَلَّمُون ولا
يُخَاطَبُون، وإنما يُتمثل عند ذكر تهافتهم هذا بالحديث الصحيح المتفق عليه: إن مما
أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت.
ومنهم من يقول: إن أخذها عنوة أقل ذلاًّ من أخذها صلحًا بالنزول على حكم
الدول الكبرى؛ لأن الرضاء بما تقترحه الدول يطمعها فينا ويجعلنا تحت سيطرتها.
وكان يمكن تسليم هذا الكلام على علاته لو أن الدولة سَلِمَتْ بعد أخذ أدرنة من
سيطرة الدول وتحكيمهن في أمر الصلح وأمر الجزر، ولكنها لم تسلم بعد ذلك؛ بل
عادت بعد أخذ أعظم بلادها وأكثر ذخائرها بالقوة القاهرة إلى تفويض أمر الصلح
إلى أولئك الدول بلا شرط ولا قيد؛ وذلك شر ما وصلنا إليه من تسليم الأمر إلى
الدول وقبول سيطرتها، وما بعده أعظم منه، وسيرى القراء صدق رأينا في هذا
كما رأوا مثله كثيرًا.
وجملة القول أن هؤلاء الاتحاديين قد عجلوا على هذه الدولة ما لم يعجل
عبد الحميد، فهم الذين استبدوا بالأمر كل هذه المدة لم يخرج الأمر من أيديهم إلا شهورًا لم يتجدد فيها شيء لم يكن من آثارهم وعمل أيديهم، ولا يزالون يمنون علينا
بكلمة الدستور أو (مشروطيت) فلا كانوا، ولا كان دستورهم الخادع، ولا
مشروطيتهم الخاطئة الكاذبة.
__________(16/319)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مستقبل الدولة العثمانية
قد عرف القراء قبل هذه الحرب رأينا في الدولة، وأنه يُخشى عليها سرعة
الزوال إذا ظل أمرها في يد جمعية الاتحاد والترقي، وأما بعد هذه الحرب فقد صار
يخاف عليها الزوال كل أحد حتى عوام العثمانيين. وقد كنت أعتقد وأقول منذ بدأت
هذه الحرب البلقانية: إذا ذهبت ولايات أوربة من الدولة فلا يمكن أن يُبقي التركُ
حكومة الدولة نيابيةً بقانونها الأساسي الحاضر، وناهيك بها إذا ظل أمرها في أيدي
الاتحاديين غلاة النعرة التركية. وإن من مقاصد صلحهم مع إمام اليمن والسيد
الإدريسي أن يقل عدد العرب الذين لهم حقوق في إدارة الدولة، وقد قامت الشعوب
العثمانية تطلب الاستقلال الإداري الداخلي المعبر عنه باللامركزية الإدارية، وتريد
الحكومة أن تلهيهم عن ذلك بقانون جديد وضعته للولايات لا ترضى به ولاية
باختيارها.
وجملة القول في الدولة أنه لا بد من انقلاب عظيم في شكلها العام
الدستوري، وفي إدارتها الداخلية.
وأما حالتها الخارجية فالظاهر لنا أن دول أوربة المسيطرة عليها لا تريد الآن
أن تحدث في ولاياتها الآسيوية تقسيمًا. وقد بلغنا أن بريطانيا العظمى - وهي
صاحبة النفوذ الأعلى في السياسة الأوربية العامة تريد - وتقنع الدول بما تريد -
أن تمهل الدولة خمس سنين لإصلاح بلاد الأناضول وتساعدها على ذلك بمساعدتها
على عقد قرض لا يقل عن عشرين مليونًا من الجنيهات.
ونحن نعلم أن إنكلترة لا بد أن تختم هذه الحرب بإظهار مساعدة للدولة،
ترمي به إلى عدة أغراض، منها: إرضاء مسلمي الهند الذين اشتد سخطهم عليها،
وسنبين سائر هذه الأغراض إذا صار ما بلغنا أمرًا مفعولاً.
***
حكمت علينا كثرة المواد الضرورية أن نؤخر شكرنا لأهل عمان والعراق
على إكرامهم إيانا في رحلتنا الأخيرة، كما أخرنا كثيرًا من التقاريظ والأخبار.
__________(16/320)
جمادى الأولى - 1331هـ
مايو - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(أسئلة من صاحب الإمضاء في دربند بوسنة وهرسك)
إلى جناب الأستاذ الأكبر، والمصلح الغيور الأفخم، الإمام العلامة الأجل،
والهمام الفهامة الأكمل، حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، قدوة العلماء الأعلام،
سيد المحققين وسند المدققين، مقتدَى الأمة، وعمدة أهل السنة، ناصر السنة وقامع
البدعة، فريد العصر ووحيد الدهر، البحر النحرير، والعلم الشهير، صاحب
المنار المنير، السيد الشريف السيد محمد رشيد رضا حفظه الله عز وجل وحيَّاه
وشكر سعيه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(س11) ما قولكم في رجل مسافر يريد إقامة مدة أربعة أيام في بلد فأكثر
على اختلاف الأئمة، هل يسوغ له أن يؤم المقيمين في الرباعية من غير قصر؛
وهل يعد مقيمًا أم لا؟
(س12) ما قولكم في قوم مسافرين في البحر أو سكة الحديد هل يتوجهون
عند إقامة الصلاة جماعة أو أفرادًا حيث يتوجه المركب ويسير من غير تَحَرٍّ للقبلة
ولا اعتناء بها، أم يتحرون القبلة ويتوجهون إليها من غير استدارة في الصلاة
واعتناء بحفظها عند تحول المركب عنها، أم يفعلون غير ذلك؟
(س13) ما قولكم في رجل يبدأ في الصلاة بأم الكتاب غير أنه يأتي
بالاستعاذة والبسملة بعد التكبير، ولا يقرأ شيئًا سوى ذلك لا نحو (سبحانك اللهم)
إلخ، ولا نحو: وجهت وجهي إلخ، وإذا سئل عن سبب ذلك أجاب: قراءة سبحانك
لم يرد فيه حديث صحيح مرفوع يصلح للاحتجاج به، وقراءة وجهت، لم يرو إلا
في النوافل، بل الذي صح قراءته عنه عليه الصلاة والسلام في الفرائض هو
قوله: (اللهم باعد) إلخ مع أنه لم يأخذ بما ورد في هذا عن أحد من الأئمة.
وعلى كل حال فأم الكتاب أحوى وأشمل للثناء والتحميد والتمجيد من غيرها،
فهو إذًا مستغن عنه وأحب إليه من جميع ما سواه، هل يكون فعله مخالفًا للسنة أم
لا؟
(س14) ما قولكم في رجل لا يأتي بـ (آمين) في شيء من الصلاة إلا في
حال الاقتداء وإذا سئل عن ذلك أجاب: لم يرد فيه حديث صحيح صريح يقتضي ذلك
إلا في هذه الحال، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الإمام: ولا
الضالين، فقولوا: آمين) .
ومع ذلك فإني عند الإتيان به في غير حال الاقتداء أخاف الالتباس بالقرآن
والزيادة عليه بما ليس منه، فحينئذ لا أحب الإتيان به إلا في ذلك الحال. هل
يكون تاركًا للسنة أم لا؟
(س15) ما قولكم فيما نقل عن الطحاوي من أن من توضأ ولبس الخفين
على طهارة كاملة فسبقه الحدث قبل أن يمسح عليهما لا يجوز المسح عليهما أبدًا،
هل هو صواب وموافق لأصول الشريعة أم لا؟
(س16) ما قولكم فيما قاله من قال من العلماء - أظنه صاحب تاج
العروس - من أن الإمام أبا حنيفة أعظم اعتناء في الحديث واشتراط شروطه من
الشيخين: الإمام البخاري والإمام مسلم، مع قلة اشتهار أبي حنيفة برواية الحديث
فضلاً عن الاعتناء به وبوضع شروطه، هل قوله صواب أم لا؟
فأرجو من أمواج علومكم الجواب الشافي عن هذه الأسئلة مع الأدلة الشرعية
والبراهين الواضحة حتى يبين الحق ويظهر اليقين. ولكم الشكر الجميل والحمد
الجليل على ممر الدهور والأوان.
... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار المنير
... ... ... ... ... ... ع. ظ. م. ر. ر. ت. ر. ب. ر
أجوبة المنار
عن هذه الأسئلة بالترتيب
(صلاة المسافر ينوي أن يقيم أربعة أيام فأكثر)
إن السائل الفاضل يعرف خلاف العلماء في هذه المسألة، وإنما يسألنا عن
الراجح المختار عندنا فيها، فنحن نصرِّح له به تصريحًا، مع بيان أننا لا نجيز
لأحد أن يقلدنا فيه تقليدًا، وهو أن المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام أو أكثر،
وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها لا يعد مقيمًا منتفيًا عنه وصف السفر لا لغة ولا
عرفًا، وإنما يُعد مقيمًا من نوى قطع السفر واتخاذ سكن له في ذلك البلد، وإن لم
يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم، إننا نرى المسافر يخرج من بلده، وقد قدر لسفره
تقديرًا منه أنه يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام؛ وفي بلد كذا عشرة أيام، وفي بلد كذا
عشرين يومًا إلخ، وهو إذا سئل في أي بلد أو سئل عنه هل هو من المسافرين
السائحين؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين؟ لم يكن الجواب إلا أنه من
المسافرين السائحين؛ فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت، بحيث لو
سئل صاحبه هل أنت مقيم في هذا البلد؟ يقول: لا وإنما أنا مسافر بعد كذا يومًا،
أو أمكث أيامًا معدودة ثم أسافر إلى بلد كذا، أو أعود إلى بلدي، وقد يعبر عن هذا
المكث بلفظ الإقامة، وذلك لا ينافي أنه مسافر، ولا فرق في التوقيت بين اليوم
الواحد والأيام، بل يصح أن يقول المسافر: إنني أقيم في هذا البلد ساعة أو
ساعتين أو ساعات، ولا تخرجه هذه التسمية عن كونه مسافرًا، ولذلك ترى
الشافعية الذين يشترطون في الجمعة أن تقام بأربعين فأكثر مقيمين في البلد لا يعدون
من المقيمين فيه من ينوي المكث فيه أربعة أيام أو ثمانية عشر يومًا أو أكثر ثم
يسافر، بل يعدونه مسافرًا لا يحسب من الأربعين. ولكنهم يناقضون أنفسهم
ويعدونه مقيمًا بالنسبة إلى صلاة المسافر. وإني لم أعجب لغلط أحد في هذه المسألة
كما عجبت لغلط الشوكاني فيها؛ إذ قال: إنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير
مسافر حال الإقامة، فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما
سيكون عليه. اهـ.
وإنما المعلوم بالضرورة ما ذكرناه آنفًا من عرف الناس قديمًا وحديثًا، وهذا
المجاز الذي ذكره إنما يصح فيمن كان مسافرًا وعاد إلى بلده، فقال الناس المسلِّمون
عليه: كنا نسلم على فلان المسافر، أو هيا بنا نزور فلان المسافر. فهذا هو
المجاز باعتبار ما كان عليه، وأما المجاز الآخر فمثاله قول من تجهز لسفر من بلده
وعزم عليه، وقد طلب منه أن يعمل عملاً لا يعمله إلا المقيم: إنني مسافر فلا
أستطيع أن أعمل بهذا العمل. ولم يقل أحد: إن السفر عبارة عن الحركة والانتقال
بين البلاد، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عام حجة الوداع عشرًا وهو
يقصر. رواه الشيخان وغيرهما، وأقام فيها عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة
ويأمر أهلها بالإتمام ويقول: (يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإننا قوم سفر) رواه
مالك في الموطأ. وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر أيضًا، رواه أحمد وأبو داود.
فكان غير مسافر حقيقة على رأي الشوكاني بل مجازًا، وإذًا يثبت القصر في السفر
المجازي فلمَ لم يقل به؟ وليراجع السائل تتمة هذا البحث في تفسيرنا لقوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء:
101) الآية، فإننا حررناه هناك تحريرًا، ومنه يعلم أن صلاة السفر ركعتيتن
ركعتين إلا المغرب عزيمة لا رخصة؛ خلافًا لعائشة إن صح عنها الإتمام والتأول
بأنها تطيقه، وجزم بعضهم بعدم صحته؛ لمخالفته عمل النبي صلى الله عليه وسلم
المطرد في القصر ولروايتها، فهي قد روت أن الصلاة شرعت ركعتين ركعتين
ثم زيد في صلاة الحضر كما مر مفصلاً، ولولا أن جعل الرباعية في السفر ثنائية
عزيمة لكان الخطب فيما سأل عنه السائل سهلاً، فملخص السؤال هل يتم المسافر
الذي ينوي الإقامة أربعة أيام إذا أم المقيمين؟ وملخص الجواب أنه لا يتم في هذه
الحالة كما لا يتم في غيرها على المختار من كون القصر عزيمة، وإلا فهو مخير،
والله أعلم.
استقبال المصلي في المراكب والقطارات الحديدية:
استقبال القبلة في الصلاة فرض وشرط لصحتها يسقط بتعذره، والميسور لا
يسقط بالمعسور، فعلى المسافر في البر أو البحر أن يتحرى القبلة ويستقبلها إذا
أمكن؛ هذا متيسر في سفن البحر الكبيرة المعدة للسفر في هذا العصر؛ وقلما
تتحول السفينة تحولاً سريعًا ينحرف به المصلي عن القبلة في أثناء الصلاة، بل هذا
شيء كأنه لا يحصل، فإذا فرضنا أنها تحولت وعلم بتحولها يتحول هو إلى القبلة
أيضا، وأما القطارات الحديدية فلا يتيسر فيها استقبال القبلة كما يتيسر في البواخر
والسفن الشراعية الكبيرة، فالأولى للمسافر فيها أن ينتظر وقوفها ويصلي صلاته
تامة، ولو بالجمع بين الصلاتين، فإن خاف أن تفوته صلاة تحرى القبلة وصلى
كيفما تيسر له كما يصلي في السفينة الصغيرة قائمًا أو قاعدًا مستقبلاً يتحول بتحولها
ويستدير باستدارتها إذا أمكن، وإلا بقي على حاله، والصلاة في السفينة معروفة في
الفقه وهي محل الإجماع.
الاستفتاح في الصلاة بين التكبير والقراءة:
حديث الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا
إله غيرك. لا يصح كما قال الرجل، وأما قوله: إن حديث (وجهت وجهي) لم
يرو إلا في النوافل دون الفرائض، فغير صحيح، فإن حديث علي كرم الله وجهه
فيه - وإن قيده مسلم بصلاة الليل - قد قيده الشافعي في سننه وابن حبان في
صحيحه بالصلاة المكتوبة، ولا منافاة بين القيدين فإنه كان يستفتح بذلك في المكتوبة
وفي صلاة الليل، وأما حديث (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) إلخ فلا يمنع العمل
به عدمُ أخذِ أحدٍ من الأئمة به إن صح هذا، وعدم العلم بأخذهم به لا يقتضي عدمه،
ولم يؤثَر عن أحد منهم الطعن فيه، فذلك الرجل الذي يبدأ بعد تكبيرة الإحرام
بالاستعاذة والبسملة وأم الكتاب يعد مخالفًا للسنة فيما ثبت وصح عن النبي صلى الله
عليه وسلم عنده، ثم رغب عن العمل به؛ لأنه لم يعرف عن أحد من الأئمة أنه أخذ
به، كحديث: (اللهم باعد....) وكذا حديث علي إذا علم به ولم يكن له مطعن في
تقييد الشافعي وابن حبان إياه بالصلاة المكتوبة، فينبغي له أن يأتي بما صح ولو لم
يواظب عليه.
التأمين بعد الفاتحة في الجماعة وغيرها:
ثبتت مشروعية تأمين الإمام والمأمومين بأحاديث متفق على صحتها، وروى
أبو داود وابن ماجه والدارقطني وقال: إسناده حسن، والحاكم وقال: صحيح على
شرطهما، والبيهقي وقال: صحيح - عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا تلى {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 7) قال:
(آمين) حتى يسمع من يليه في الصف الأول.
وروى مثله أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والدارقطني وصححه، وابن
حبان من حديث وائل بن حُجر، قال الحافظ ابن حَجر: وسنده صحيح، وخطّأ ابنَ
القطان في إعلاله، وقد ورد من طرق ينتفي بها إعلاله. وقال ابن سيد الناس: ينبغي
أن يكون صحيحًا. فيدل هذا وما قبله على مشروعية التأمين مطلقًا، فلا حاجة إلى
نص في تأمين الذي يصلي منفردًا، لهذا نرى أن اجتهاد من يترك التأمين في غير
حالة الاقتداء خطأ.
المسح على الخفين بعد الحدث واشتراط الطهارة قبل لبسهما:
الأصل في اشتراط طهارة الرِّجلين قبل لبس الخفين لجواز المسح عليهما:
حديث المغيرة بن شعبة المتفق عليه وما في معناه، قال: كنت مع النبي صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة في مسير له فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وغسل
ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما
طاهرتين) فمسح عليهما. اهـ.
وورد هذا الحديث بألفاظ أخرى في الصحيحين وغيرهما، وكان ما ذكر فيه
في وقعة تبوك وهي بعد نزول سورة المائدة التي فيها آية الوضوء.
واختلف فقهاء الأمصار من سلف الأمة في المراد بطهارة القدمين، فذهب
الجمهور إلى أنها الطهارة الشرعية، وذهب بعضهم إلى أنها الطهارة الحسية التي
تستفاد من إطلاق اللغة، أي أدخلهما نظيفتين ليس عليها خبث، وهذا مذهب الإمام
داود. وفي حديث عمرو بن أمية الضمري عند أحمد والبخاري وغيرهما وحديث
بلال عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا أبا داود، وحديث المغيرة عند مسلم
والترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة، وفي بعض
الروايات: الخمار والخفين) .
وروي العمل بحديث المسح على العمامة عن جماعة من الصحابة والتابعين
وأئمة الأمصار كالأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود. ولم يُروَ اشتراط
وضع العمامة أو الخمار على طهارة إلا عن أبي ثور، وهذا يرجح قول داود بن علي
في طهارة القدمين؛ لأن من شأنهما أن يصيبهما الخبث.
وهذا المسح لا ينافي حكمة الوضوء؛ وهي تعهد أطراف البدن بالنظافة لكثرة
طروء الوسخ عليها وما في غسلها من التنشيط على العبادة مع سهولة ذلك وعدم
الحرج والمشقة فيه إلا في نزع العمامة والخفين، وأعني العمامة التي كانوا
يتعممون بها في عهد التشريع، فقد كانت تدار على الرأس مباشرة في الغالب ويحتنك
بها فتشبه الخمار؛ ولهذا ورد المسح بلفظ العمامة وبلفظ الخمار.
وإزالة مثل هذه العمامة لمسح الرأس وإعادتها لا يخلو من مشقة كنزع الخفين
وغسل الرجلين، فلما كان الأمر كذلك، وكان الله عز وجل يقول في آية الوضوء
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة: 6) وليس
عندنا نص نقيد به المسح بما اشترطه الطحاوي - فظهر أن قول الطحاوي بوجوب
الوضوء والمسح عليهما قبل أن يحدث بعد لبسهما على طهارة لا يقتضيه نص
الأحاديث الواردة في مشروعية المسح ولا حكمة الوضوء والمسح؛ ولذلك كان
الجمهور على خلافه.
تفضيل الإمام أبي حنيفة بالاعتناء بالحديث وشروطه على الشيخين:
لا ينبغي إبداء الرأي في عبارة من فضل أبا حنيفة في الحديث على الشيخين
رحمهم الله أجمعين، إلا بعد الاطلاع عليها، وما نقله السائل عنه أراه غير صواب،
ولا أحب الخوض في هذه المسألة؛ لأنني لا أرى له فائدة بل ربما كان ضارًّا؛
لأن الناس يتبعون الهوى في الكلام على الأئمة المتبوعين، ولا يقبلون إلا ما وافق
أهواءهم، وليس لأبي حنيفة كتب في الحديث كالصحيحين حتى تكون فائدة
التفاضل الاعتماد على كتبه وما اعتمده في أسانيدها وترجيحها على الصحيحين أو
ترجيح الصحيحين عليها عند الاحتجاج.
والمحدثون الذين تكلموا في الإمام أبي حنيفة قد اعترف جمهورهم بأنه سمع
الحديث من عدة رجال وسمع منه تلاميذه، ولكنهم لم يعدوه من رجال الجرح
والتعديل الذين يعتمد على كلامهم في نقد الحديث كالشيخين، ومَن قبلهما ومن
بعدهما، فلا تكاد ترى اسمه في كتب هذا العلم، وما يعزى إليه من الحديث
كاستدلاله به في كتب الفقه مثلاً يحكِّم المحدثون فيه رواية الحفاظ ويرجعون إليه في
كتبهم كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم ويعتمدون على أسانيدها وعلى كلام أئمة
الجرح والتعديل في رجالها كابن القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشيخين
وأصحاب السنن الأربع، ويعتمدون فيما اختُلف فيه منها على تحقيق حفاظ القرون
الوسطى كالذهبي وابن حجر، ولا يعدون استدلال الإمام وأصحابه بحديث كافيًا في
الحكم بصحته، وإن صرحوا بأنه صحيح، بل نراهم يحكمون بضعف كثير من
الأحاديث التي استدل بها الحنفية على قول الإمام وأصحابه، بل جزموا بأن كتبهم
فيها أحاديث موضوعة.
ولو كان لأبي حنيفة كتب في الجرح والتعديل أو رويت عنه أقوال في ذلك
لأحَلَّها هؤلاء محلها من الاعتبار؛ لأنهم ترجموه بالورع والتقوى، وصرح بعض
المتأخرين بأنه لا يخل بمقامه تضعيف بعض الحفاظ له من جهة حفظه كالنسائي
وابن عدي، وجملة القول أن أبا حنيفة يعد عندهم من أئمة الفقه لا من رجال نقد
الحديث فلا وجه للمفاضلة بينه وبين الشيخين في الحديث، ونسأل الله أن ينفعنا
بعلوم الجميع ويحفظنا من العصبية الجاهلية لأحد منهم.
__________(16/338)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكي
في المركزية واللامركزية
التقى أحد التجار الأذكياء بصديق له من أهل العلم والوقوف على السياسة
وأحوال الزمان؛ وكلاهما من العثمانيين، ودار بينهما الحديث الآتي:
التاجر: نرى الجرائد وقد شغلت الناس بكلمتين ما كنا نسمعهما قبل هذا العهد،
وهما: كلمة المركزية وكلمة اللامركزية، ونرى الناس قد اختلفوا فيهما اختلافًا
كبيرًا؛ فمنهم من يقول: سعادة الأمة وحياة الدولة لا يسلمان إلا بالمركزية، ومنهم
من يقول بالعكس، ولما كنت واثقًا بمعرفتك وصدقك أيها الأستاذ وبإخلاصك للدولة
عولت عليك في كشف الحقيقة، فأسألك أولاً: ما هي المركزية واللامركزية؟
الأستاذ: المركزية عبارة عن كون رجال الحكومة العليا في عاصمة المملكة
يتولون بأنفسهم أمر سياستها الخارجية وإدارتها الداخلية، فيكون بيدهم الحل والعقد،
والدخل والخرج، والنصب والعزل. وعدم المركزية عبارة عن جعل الإدارة
الداخلية لكل ولاية أو قطر من المملكة الواحدة في أيدي أهل تلك الولاية، وتكون
رابطتهم بمركز الحكومة العام في الأمور العامة كلها كالسياسة الخارجية والحربية
ومصلحتي البريد والبرق.
التاجر: هل الممالك الأوربية والأمريكية من نوع المركزية أم من نوع
اللامركزية؟
الأستاذ: بعضها من هذا النوع وبعضها من النوع الآخر؛ فجمهورية فرنسة
مركزية وجمهوريتا سويسرة والولايات المتحدة لا مركزية، وكذلك إمبراطوريتا
ألمانية والنمسة.
التاجر: ما هو سبب الاختلاف في نوع إدارة هذه الممالك مع كونها كلها
مرتقية في العلم والقوة والسياسة.
الأستاذ: أما فرنسة فترى أن الإدارة المركزية تناسبها؛ لأن مملكتها كدار
واحدة تسكنها أسرة واحدة. فهي ضيقة المساحة ومتصلة الأرجاء كلها بالسكك
الحديدية وأهلها من جنس واحد ودين واحد وينطقون بلغة واحدة، وبقية الممالك
المرتقية ليس لها كل هذه الصفات؛ فكان الأصلح لها والأدعى إلى عمرانها ورضاء
أهلها واتحادهم وارتباط بعضهم ببعض أن تكون حكومتها من نوع اللامركزية.
التاجر: ما هو الأصلح لدولتنا العلية؟ المركزية أم اللامركزية؟
الأستاذ: إن اللامركزية أصلح لها، بل لا صلاح لها بغيرها؛ لأسباب كثيرة
إذا أمكن الجدال والمراء في بعضها، فلا يمكن في سائرها، إلا لمن أراد أن يسمي
الضلالة هداية والباطل حقًّا.
التاجر: تكرم عليَّ ببيان هذه الأسباب أو المهم منها.
الأستاذ: إن هذه الأسباب قسمان: قسم منها لبيان كون اللامركزية أسهل
طرق العمران وأقوى وسائل الترقي، والقسم الآخر لبيان كونها ضرورية للدولة؛
لا يمكن عمرانها ولا حفظها بدونه، وبحثنا الآن في الأول يعد من ترك الضروري
للاشتغال بالكمالي، فيجب أن نبحث أولاً عما يقي بلادنا من الخراب والدمار
المشرفة عليهما؛ لا أننا في عمران نبحث عما هو أكمل منه، فالولايات المتحدة
الأمريكية كانت باللامركزية في مقدمة ممالك الأرض عمرانًا، ولو اختارت لنفسها
الحكومة المركزية لأمكنها بها أيضًا أن تكون عامرة؛ لأنها على سعتها متصلة
الأرجاء بالسكك الحديدية، ولها لغة واحدة، وتربى أهلها تربية واحدة أو متشابهة،
فأين نحن منها ومن التشبه بها؟
أما الأسباب التي تجعل اللامركزية ضرورية للمملكة العثمانية فأهمها ما يأتي:
(1) أن هذه المملكة واسعة المساحة بعيدة الأرجاء، نائية الأنحاء، حتى
إن مساحة آسية الصغرى والبلاد العربية تضاهي بمساحتها ممالك الهند التي يعيش
فيها أكثر من ثلاثمائة مليون، وهي على سعتها ليس فيها سكك حديدية تربط
ولاياتها بالعاصمة التي صارت في الطرف منها، ولا بعضها ببعض، فتوقف
أمورها الإدارية والقضائية وغيرها على أمر المركز ونهيه مفسد لها لبطئه،
ولأسباب أخرى تعلم مما يأتي، فقد تحدث الحادثة المهمة كالثورة الأهلية
والخروج على الحكومة في بعض البلاد، فلا يستطيع المركز العام أن يبدأ بتدارك
ذلك إلا بعد عدة شهور، ولا أن ينتهي منه إلا بعد سنين، فأي فساد أشدّ من جعل
أمور الأمن والعدل والتعليم والعمران مقيدة بهذا المركز السحيق.
(2) أن أهل هذه المملكة مختلفو اللغات، وأكثرهم لا يعرف لغة أهل
المركز العام، ولا أهله يعرفون لغاتهم، وكذا سائر الشعب التركي الحريص على
الاستئثار بجميع أنواع السلطة والحكم وإدارة جميع المصالح في جميع هذه البلاد،
فإقامة العدل الذي هو الشرط الأول للعمران متعذر من حكام لا يعرفون لغة الذين
يحكمون بينهم، وكذلك سائر المصالح؛ لأنها تتوقف على فهم كل فريق من الآخر،
ودع عصبية الأجناس التي أثارها الاتحاديون فيهم.
(3) أن أهل هذه المملكة مختلفون في الأديان والمذاهب والعادات والأخلاق
اختلافًا كبيرًا بحيث إن أكثر مسلمي العرب كأهل الحجاز واليمن ونجد لا يقبلون
أن يُحكم بينهم بالقوانين التي يرضى بها مسلمو الترك، بل يعدون الحكم بها كفرًا
يجب قتال الحكومة التي تقرره عند القدرة على ذلك، فإذًا لا يستقيم الأمر بجعل
الإدارة والقضاء والتعليم في كل بلاد موافقًا لحالها، وهذا هو أساس اللامركزية.
(4) أن المتخرجين في مدارس عاصمة دولتنا الرسمية الذين هم أصحاب
التقدم في وظائفها الشرعية والإدارية والقضائية العدلية - لا يكاد يوجد فيهم أحد يعرف
تاريخ جميع شعوب الدولة وأحوالهم الروحية والاجتماعية، فتوسيد الأمر إليهم
مدعاة الخلل في الإدارة والظلم في القضاء، زد على هذا أن أكثرهم لا يعرف من
لغات هذه الشعوب إلا لغة شعب واحد وهي التركية كما قلنا في بيان السبب الثاني.
(5) أن أكثر المتخرجين في هذه المدارس الرسمية متفرنجون، حتى إنه يقل
فيمن ينتسبون إلى الإسلام منهم من يؤدي الفرائض ويجتنب كبائر المعاصي،
وأمثال هؤلاء لا يصلحون لتولي الأحكام بين من يمقتون التفرنج والفسق، وإن
كان من المعاصي الشخصية كشرب الخمر، فكيف إذا اقترن - كما هو الغالب
بالمعاصي التي يتعدى ضررها كالرشوة.
(6) أن مركز دولتنا شر من مركز كل حكومة مركزية في الدنيا، فإن
رجالها لا همَّ لهم إلا جباية المال بالحق وبالباطل والتمتع به وعدم وضعه في
مواضعه؛ فأموال الأوقاف والطرق ومخصصات المعارف للولايات لا تصرف في
مصارفها، بل يجرف أكثرها إلى المركز العام (الآستانة) وهناك يذوب ويضمحل،
والبلاد كلها خراب حتى الآستانة، فلو كانت المركزية تصلح لهذه المملكة لكان ما
علمنا من حال القائمين بها كافيًا وحده لتركها وجعل اللامركزية بدلها.
وإنني أعلم علم اليقين أن الناس ما صبروا على أمثال هؤلاء الحكام في مثل
بلادنا إلا كارهين مكرهين، وها نحن أولاء نرى أهل بلادنا السورية وهم أحسن
البلاد العثمانية عمرانًا بنشاطهم قد يئسوا، فهم يهاجرون منها أفواجًا، فإذا استمرت
هذه الهجرة بضع سنين تصبح البلاد خرابًا يبابًا، وأنت تعلم أن البلاد التي
يهاجرون إليها ليست أشد قابلية للعمران من بلادهم، ولكن العمران محال في ظل
حكومة مركزية بينها وبين أهل البلاد من الفروق ما أشرنا إليه.
فهذه أهم الأسباب التي تعرف بها أن هذه المملكة لا يصلح أمرها إلا
باللامركزية الإدارية الواسعة أو الاستقلال الإداري التام، وإلا فهي سائرة إلى
الخراب وصائرة إلى الزوال، أعني استيلاء الأجانب عليها بالفتح السلمي أو
الحربي.
التاجر: يا لله العجب! إنني سمعت بعض المعترضين على طلاب اللامركزية،
يقولون: إن حسنها من جهة العمران لا ينكر إلا أنها تكون وسيلة إلى استيلاء
الأجانب على كل ولاية تدار باللامركزية؛ لأنها تنفصل من مركز السلطنة فتكون
ضعيفة لا تقدر على حفظ نفسها كما وقع في تونس ومصر.
الأستاذ: يمكنني أن أكتفي من معارضة هذا القول بالسؤال عن ولاية طرابلس
الغرب وولايات الدولة الأوربية التي انقدَّتْ منها أولا فتألفت منها عدة ممالك،
والولايات التي انفصلت منها في هذا العام أو هذه الأيام بقوة تلك الولايات التي
صارت ممالك قوية بعد استقلالها، هل كانت هذه الولايات الزائلة وأمثالها مما
أخذته روسية والنمسة تدار على قطب اللامركزية، أم كانت - ما عدا طرابلس - أشد
الولايات اتصالاً بالمركز ومعهدًا ومقرًّا لكل ما فيه من القوة؟ فإذا كانت الحكومة
المركزية الشديدة لم تمنع أقرب الولايات إلى المركز العام وأشدها اتصالاً به من
استيلاء أضعف الأجانب عليها، فكيف تقدر أن تمنع الولايات البعيدة عن المركز
كالعراق وسورية أن تستولي عليها الدول الكبرى كإنكلترة وفرنسة؟ .
كان يمكنني أن أكتفي بهذا، ولكنني أفرض أن الدولة - أعزها الله وأصلحها -
يمكنها أن تحمي سورية من فرنسة والعراق من إنكلترة بأساطيلها وجيوشها البرية
التي تتدفق من المركز العام في طرف المملكة الأقصى، أفرض هذا فأقول: ما الذي
يمنعها من هذه الحماية إذا كانت إدارة البلاد بأيدي أهلها وهم عثمانيون تابعون لها
على كل حال؟ ، وما يطلبونه من اللامركزية الإدارية لا يخرج قوة البلاد العسكرية
من سلطة المركز العام، ولا يبيح للولايات أن تعقد مع الأجانب معاهدات سياسية،
ولا أن تعطيهم شيئًا من الامتيازات التي تنافي مصلحة المركز السياسية أو الحربية.
كما كانت عليه تونس ومصر بالفعل قبل حماية فرنسة للأولى واحتلال إنكلترة
للثانية، على أن حكومة الآستانة المركزية لو كانت ذات قوة حربية وسياسية لما
حل بهذين القطرين ما حل بهما، فهذه إنكلترة لم تحتل مصر إلا بعد أن طالبت
حكومة الباب العالي بإرسال جيش عثماني لقمع الثورة العرابية فلم تفعل بل أذنت
لها بأن ترسل الجيش الإنكليزي للقيام بذلك وأصدرت إرادة سلطانية بناء على طلب
إنكلترة بعصيان عرابي ومن معه للخليفة أو لدولة الخلافة بقيامهم على الخديو
وقتالهم لإنكلترة.
فلو أن طلاب اللامركزية طلبوا الاستقلال الإداري والسياسي والعسكري لكان
اعتراض أولئك المعترضين موضع النظر والبحث، ولكنهم لم يطلبوا ذلك كله،
وإنما طلبوا القسم الإداري منه المتعلق بالمصالح الداخلية المحضة كالإدارة والقضاء
والتعليم والزراعة والصناعة، ولا يقصد من هذا إلا عمران الولايات وترقي أهلها
بحيث تكون كل ولاية عضوًا قويًّا في بنية الدولة.
التاجر: إن للمعترضين اعتراضًا أقوى من الاعتراض الأول، وهو أن أهل
الولايات يغلب عليهم الجهل وفساد الأخلاق والعجز عن القيام بأعمال الحكومة؛
لأنهم لم يتمرنوا عليها، وإنما المتمرن على ذلك والمستعد له هم إخواننا الترك.
وقد سمعت قولك في ضعف الترك وجهلهم، فما قولك في غيرهم من العثمانيين
ونسبتهم إليهم؟
الأستاذ: إنني لا أجهل ما عليه أهل بلادنا العربية من الجهل وضعف
الأخلاق ولا أنكر ذلك، وأنا أعلمه وأعلم أن سببه الأكبر ما كان من سوء إدارة
حكومتهم المركزية واستبداد رجالها وظلمهم، ولكنني أقول: إن إخوانهم الترك
ليسوا خيرًا منهم في شيء قط، لأنهم ليسوا أزكى فطرة ولا أذكى قريحة ولا أفضل
وراثة لسلف صالح، ولا كان الاستبداد الذي يفسد البشر أخف وطأة عليهم، بل
ربما كان أشد؛ لأن نفوذ الحكومة الاستبدادية كان عامًّا فيهم شاملاً لهم، ولم يعم
البلاد العربية كلها، فلا يزال فيها ملايين عجز الظلم عن التسلق إليهم، وتضاءل
الاستبداد أن ينال منهم، ومن دونهم ملايين آخرون (أهل اليمن) وقفوا في وجوه
جيشه وقفة القرن للقرن، وكانت الحرب بينهما سجالاً مدة أربعة قرون.
ثم إن للتاريخ سريانه فيها قريب، وهو في الولايات التركية أصيل قديم.
نعم إن العاصمة البزنطية التي كانت تكتفي في الأجيال الخالية بأن يكون لها
في كل قطر رجل أو رجلان لتمثيل قوتها وعظمتها، وجباية المال لها - قد وسعت
نفوذها في عهد السلطان عبد المجيد بعض التوسع ولم تستطع أن تبث رجالها في
كل مدينة من مدن البلاد إلا في عهد نيرونها عبد الحميد خان، الذي يلعنه أهلها
وغيرهم بكل شفة ولسان، فإذا كان عبد الحميد ورجاله وخلفهم الاتحاديون، وهم
شر منهم، هم الذين يفضلهم الجاهلون والمنافقون على سائر أهل المملكة من جميع
الشعوب بدعوى أنهم تمرنوا على الإدارة والأحكام، فحسبنا في الرد عليهم أن
السماء والأرض قد استغاثتا من ظلمهم وسوء إدارتها، وحسبك من الشواهد العيانية
ما جرَّته إدارتهم وسياستهم على المملكة من إضاعة ثلثها الإفريقي وثلثها الأوربي،
وبعض الثلث الثالث الآسيوي، وجعل الباقي على خطر، وإنه لم يوجد أحد منهم له
في المملكة أثر من آثار العمران، إلا أن يكون مدحت باشا على ضعف فيه، فإننا
لا ننسى له مثل تأسيس شعبة المعارف في سورية وخط الترام بين طرابلس
ومينائها، وأمثال ذلك من الأعمال الصغيرة فيها نفسها، التي نستكبرها لأنه لم
يخرج من الآستانة أحد له عمل عمراني مثلها، فالبزنطيون قوم متمرنون على
التخريب كما ثبت بالمشاهدة والتجريب، فهل نجعل هذا دليلاً على استعدادهم
للتعمير؟
إذا أردنا أن ننصف التاريخ في وصف الشعوب العثمانية فلا مندوحة لنا عن
القول بأن الشعب الأرمني هو الآن أكثرها تعلمًا وتربية مدنية ونشاطًا في الكسب
والعمل، ويليه الشعب السوري، وإنما ينقص عنه في نسبة التعليم والتفرق، فإن
تساهلنا وتنازلنا قلنا: (كلنا في الهوى سوى) فلماذا تُجعل الأحكام والمصالح كلها في
أيدي البزنطيين دون غيرهم؟ فإن فرضنا أنهم يمتازون بشيء من قشور العلوم
والفنون الأوربية التي تقرأ في مدارسهم، فأي حاجة لنا بهذه القشور في بلادنا التي لا
تعرف لغتهم لتستفيد شيئًا منها، إن كانت محتاجة إليها، على أن كثيرًا من أبنائنا
المتعلمين في تلك العاصمة والمتعلمين في بلادهم وفي مصر وأوربة هم خير منهم،
فنستغني بهم عنهم.
إننا قد جربنا حكمهم وعرفنا ثمرته، فلنجرب استعدادنا أيضًا عسى أن تكون
غيرة أهل كل قطر على بلادهم أشد من غيرة البيزنطيين على ما كان من سلب
أموالهم، فتقع المباراة في وسائل العمران بين الشعوب العثمانية كلها، ويعتمد كل
منهم على ما آتاه الله من المواهب فتعمر البلاد ويكون بعضها لبعض عونًا وظهيرًا.
التاجر: أليس طلب العرب للإدارة اللامركزية مشعرًا بكراهة إخوانهم الترك
ومشاقتهم؟
الأستاذ: إن الأعمال العامة من سياسية وإدارية تبنى على المصلحة لا على
عاطفة الحب أو عاطفة البغض، وإن ما جرى عليه حكم عاصمة هذه الدولة باسم
الحاكمية التركية كان وما زال ضارًّا بالترك والعرب وسائر الشعوب التي تغلبت
عليها تلك العاصمة الظالمة، وإنما يتلذذ الجاهلون من إخواننا الترك بنسبة الدولة
إليهم وتكلُّم رجال الحكومة البيزنطية بلغتهم، بلغة تسمى التركية، وإن كان حظها
من التركية الأصلية لا يزيد على حظها من غيرها كثيرًا. ولا شك أن نسبة هؤلاء
البزنطيين إلى الترك أضعف من نسبة لغتهم إلى التركية، فإنهم أوشاب من شعوب
شتى أكثرهم من الروم الذين انتموا إلى الإسلام. وكيفما كانوا وكانت أنسابهم فإنهم
قد أضاعوا ثلثي ملك بني عثمان وخربوا الثلث الآخر، ولم يبق في الإمكان أن
يطول حكم هذه العاصمة المركزي؛ ولا سيما بأمثال هؤلاء الرجال، فطلبُ تغييره
يُعد خدمة لإخواننا الترك قبل غيرهم من الشعوب العثمانية، وإلا صار الجميع أكلة
للأجانب، ولا يعده كراهة للترك إلا من يود أن تبقى هذه المملكة عرضة للاستبداد
والنهب، والحق أن اللامركزية هي التي تشد أواخي إخاء العرب والترك، وعدمها
هو الذي يخشى أن يؤدي في أقرب وقت إلى شقاق عظيم وفتن خطرة، وأي عاقل
يقول: إن تمييز أحد الأخوين على الآخر وجعله سيدًا له وحاكمًا قاهرًا فوقه، هو
الذي تقوم به حقوق الأخوة وتحفظ به رابطتها؟ لأجل هذا نرى العقلاء المخلصين
من الترك موافقين لأمثالهم من العرب على اللامركزية ومنهم صادق بك رئيس
الائتلافيين وموجد الدستور وأركان حزبه.
التاجر: هذا هو الحق المعقول وإن كان بعض وجهاء بلادنا الذين مردوا على
النفاق وبعض طلاب المال والجاه من فضلات الاتحاديين، يسفهون أنفسهم ويحقرون
شعبهم بتفضيل أولئك المخربين عليهم، ثم إنهم يقولون: إن كل ما يطلب من
الإصلاح باسم اللامركزية يمكن أن يحصل بطريقة أخرى يسمونها توسيع المأذونية
فما رأي الأستاذ في ذلك؟
الأستاذ: إن ما يسمونه توسيع المأذونية ليس إلا توسيعًا لنطاق الاستبداد، فهو
شر من عدمه؛ لأنه عبارة عن إذن المركز العام للولاة وغيرهم من الحكام الإداريين
بأن يتصرفوا في بعض الأمور بدون إذن من نظارة الداخلية، فهو يستلزم قلة
المسئولية والتجرئة على الاستبداد، ونحن في طور يجب أن تكون المسئولية فيه
شديدة على الحكام؛ لأنهم تربوا على الاستبداد والكبر الذي هو غمط الحق
واحتقار الناس؛ وذلك منافٍ لروح الحكومة التي هي شكل حكومتنا الرسمي الآن،
وعشاق الاستبداد يزهقون هذه الروح بمثل توسيع المأذونية؛ لأنه توسيع للسلطة
الشخصية، وكيف يتفق توسيع سلطة الولاة والمتصرفين فمن دونهم في حكومة
ضيق قانونها الأساسي سلطة السلطان الذي أثبت له منصب الخلافة والقيادة العامة؟
وسترى ما يترتب على ذلك من الفساد.
التاجر: بقي عندي سؤال واحد وهو أنني سمعت بعض الناس يقول: إن
اللامركزية ضرورية لا بد منها، ولكن هذا الوقت ليس وقتًا لطلبها لاشتغال الدولة
بالحرب، فما رأيك في ذلك؟
الأستاذ: سمعت مثل هذا الكلام ورأيت أن بعضهم يقوله تزلفًا للحكومة
الاتحادية ونفاقًا؛ لأنه لا يجد كلامًا يشنع به على طلاب اللامركزية أو الإصلاح
على قاعدتها غيره، إما مطلقًا وإما كلامًا مرجو القبول عند العقلاء، ومنهم من
يقوله لاشتباه الأمر عليه وميله إلى قبول كل رأي أو قول في تخطئة من يشغل
الدولة عن الحرب، وشبهة جميع من يقولون هذا القول هي أن الدولة مشغولة
بالحرب وهي أهم الأمور فلا يجوز أن تشغل بغيرها، والواجب أن يؤجل هذا
الطلب إلى أن يجتمع مجلس الأمة.
وجواب هذه الشبهة سهل جدًّا نذكره مختصرا لبيان جهلهم وإن كانت الشبهة
زالت بانقضاء الحرب، وهو من وجوه:
(1) أنه لا يقول عاقل: إن الحكومات والدول لا تشتغل في أثناء الحرب
إلا بها وبشئونها فتعطل لأجلها سائر مصالحها الإدارية والسياسية والعلمية
والعمرانية، بل يجب أن تشتغل كل نظارة منها بعملها الخاص وتدع أمور الحرب
لنظارة الحربية، وما يتعلق منها بالسياسة لمجلس الوكلاء، ونحن نرى الحرب لم
تمنع نظارة الداخلية من الاشتغال بقانون الولايات ومحاولة تنفيذه قبل جمع مجلس
الأمة وتصديقه عليه، فكان يمكنها أيضًا أن تضع قانونًا للإدارة اللامركزية، وإن
لم تنفذه موقتًا كقانون الولايات.
(2) أن طلاب اللامركزية الذين جعلوا لجنتهم العليا بمصر قد ألَّفوا لها
حزبًا سياسيًّا طلب من حكومة الآستانة التصديق عليه، وغرضه السعي إلى انتخاب
أعضاء مجلس الأمة المبعوثين من الموافقين لرأيه ليقرروه في المجلس، فأي شاغل
للدولة في هذا عن الحرب؟ وأي مانع فيها يمنع نظارة الحربية من القيام بما يجب
عليها في قتال أعدائها؟ وهل كان تقصيرها فيما يجب عليها ناشئًا عن اشتغالها
بهذا الحزب؟ لا لا وأما طلاب الإصلاح في بيروت والشام والبصرة فقد طلبوا
من الحكومة ما رأوه مرجوًّا لبلادهم ولم يهددوها بثورة ولا عصيان ولا امتنناع
عما أوجبته عليهم من الضرائب والعشور، بل لم يجتمعوا أولاً لطلب الإصلاح إلا
بإذن الحكومة، فهل يقول عاقل: إن هذا يشغل الدولة عن الحرب أو يمنعها
من الاستعداد لها؟
(3) لو أن اللامركزيين وطلاب الإصلاح ألَّفوا جمعية سياسية فدائية
كجمعية الاتحاد والترقي، وحاولوا أن يتوسلوا إلى نيل مقصدهم الجليل بكل ما تبيح
التوسل به جمعية الاتحاد والترقي الثورية إلى مقاصدها، لما كان لهذه الجمعية
وأنصارها والمنافقين لها أن يكونوا هم الذين يدَّعون الحق في لومهم، فإذا كانت
الجمعية استباحت لنفسها أن تهجم بزعنفة من الأشقياء والجهلة الأغبياء على الباب
العالي وتسقط حكومة الدولة العليا بقوة السيف والنار وتستحل قتل ناظر الحربية
وقائد الجيش العام، واستحلاله كفر بالإجماع، ولم تكن الحرب مانعة لها من هذه
الجريمة التي لها أكبر تعلق بالحرب - فلماذا تزعم أن مثل ذلك بل ما هو دون ذلك
وأبعد منه عن الشغب وعن مخالفة الشرع والقانون جريمة لا تغفر؟
من أمعن النظر ومحَّص الحقيقة ظهر له أن طلاب الإصلاح قصروا؛ لأنهم
لم يغتنموا فرصة اشتداد الحرب لإلزام الدولة بما يطلبون بعد تجربتهم لها في
السنين الطوال وإيقانهم بأنها لم تفعل باختيارها إلا الاستبداد وتخريب البلاد. ولو
فعلوا لنفعوها؛ وكانت كمن يقاد إلى الجنة بالسلاسل (كما ورد) ولسلِمت مما
يُنتظر من سيطرة الأجانب، ولم يكن لعملهم أدنى تأثير ضار لها في الحرب،
ولكنهم بالغوا في الهدوء والسكينة، وهم ينتظرون ما يدعي المعترضون أنه صواب،
وسترى أن الصلح يتم قبل أن يعملوا عملاً ما، ويخشى أن يبادر الاتحاديون
المتفرنجون في أثناء الصلح وعقبه إلى بيع مرافق البلاد العربية وغيرها للدول
الكبرى الطامعة فيها بإعطائهم الحقوق والامتيازات وتوسيع دائرة نفوذهم، بل
وبوضع إدارتها تحت مراقبتهم، وهو ما تطلبه الدول وتسميه الفتح السلمي، وعلى
هذا الوجه باع حقي باشا طرابلس الغرب لإيطالية فاستخفها الغرور قبل التنفيذ وبعد
مقدماته بإخلاء البلاد من العسكر والسلاح إلى محاولة أخذها بالفتح الحربي، وهذا
السمسار يطوف العواصم الآن لأجل البيع، ولو نجح طلاب اللامركزية لامتنع عليه
هذا البيع؛ لأن برنامجهم لا يجيز إعطاء امتياز فيها ولا بيع شيء منها ولا
إنشاء الأعمال العمرانية إلا بقرار مجالس الولايات العمومية، فالآن يسهل
على مندوب من جمعية الاتحاد أن يسمسر ويقرر بيع البلاد، فأي الأمرين يخشى أن تضيع به المملكة ويأخذها الأجانب؟ أليست هي المركزية التي نحن فيها؟
بلى، فهل ترى بعد هذا البيان أن طلاب اللامركزية ملومون، وأن المعترضين
عليهم مصيبون؟
التاجر: لا لا، وإنني أشكر لكم أيها الأستاذ بيانكم، والسلام عليكم.
__________(16/344)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
(2)
تابع ما قبله
هذا، واشتهار هذه الأناجيل بعد ذلك في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث لم
يمنع النصارى من محاولة تحريفها هي وغيرها من كتبهم في بعض الأماكن التي لم
ترُق لهم أو التي كثر انتقاد الناس عليها كعبارة لوقا في تقوية الملَك للمسيح (23:
43) (راجع كتابنا دين الله ص 80) وكساعة الصلب في إنجيل يوحنا (19:
14) فجعلوها في بعض النسخ (الثالثة) بدل السادسة [1] وغير ذلك كثير (راجع
أيضًا رسالة الصلب ص 162 وكتاب دين الله ص 76 - 78) وعبارة إنجيل لوقا
المشار إليها هنا تدل على أن كاتبه إما أنه ما كان يعتقد في المسيح الألوهية الحقيقية
كباقي زملائه كُتَّاب العهد الجديد (انظر مثلاً رؤيا 3: 14) أو أنه لم يقدر الله حق
قدره فلذا قال هذه العبارة، والوجه الأول هو الراجح عندنا كما سبق بيانه.
ومن العجيب أن المحرفين قد يضيفون بعض عبارات من عند أنفسهم كما في
إنجيل مرقس (16: 17 و18) وينسبونها للمسيح كذبًا، وإن أوقعهم ذلك في
إشكال عظيم - ما دام في عملهم هذا تطبيق لنبوات قديمة على المسيح وأتباعه، فإن
هذا هو أكبر مقاصدهم بل مقصدهم الوحيد في كل ما يكتبونه عن المسيح حتى
أعماهم عن كل شيء آخر، ألا ترى أن كاتبي إنجيل متى ومرقس زعما أن المسيح
صرخ وهو مصلوب قائلاً: إلهي إلهي لماذا تركتني (مت 27: 46 ومر 15:
34) رغبة منهما في تطبيق المزمور (22: 1) عليه ونسيا أن مثل هذا الصراخ
يدل على العجز والضعف واليأس والقنوط من رحمة الله وعدم الرغبة في تضحية
ذاته في سبيل خلاص الناس. ولكن رغبة الإنجيليين في تطبيق نبوات اليهود على
المسيح أنستهم كل شيء آخر.
وكذلك ادعى متى ركوب المسيح الأتان والجحش معًا حينما دخل أورشليم
تطبيقًا لنبوة زكريا عليه التي لم يفهمها كما سبق بيانه، وتراهم مثلاً يقولون في
إنجيل مرقس وغيره مثل (يو 14: 12) : (إن الذين يؤمنون بالمسيح يخرجون
الشياطين باسمه ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون الحيات ولا تضرهم السموم،
ويشفون المرضى) . مع أن هذه الأشياء لا نرى أحدًا منهم الآن يقدر على فعلها،
وإن زعموا أنها خاصة بتلاميذه مع أن النص عامٌّ، قلنا: ولماذا لا تشاهد هذه
الآيات والمعجزات الآن مع شدة احتياح العالم إليها وامتلاء قلوب العالمين بالشك في
الدين المسيحي على الخصوص وكثرة الطعن فيه وتكذيبه حتى ممن كانوا أتباعه؟
ولو جاز اتخاذ مثل هذه العبارات دليلاً على أن الإنجيليين ومن عاصرهم
كانوا يرون بأعينهم المعجزات تُعمل في زمنهم على يد تلاميذ المسيح؛ لجاز أيضا
أن يقال: إنهم كانوا يرون الجبال تنتقل من مكانها وتنطرح في البحر بل كانوا
يرون ما هو أكبر من ذلك يحصل بكلمة أيِّ رجلٍ منهم ولو كان إيمانه ضعيفًا كحبة
الخردل كما قالوا في أناجيلهم (مت 17: 20 ومر 11: 23 ولو 17: 6) مع
أنه لم يشاهد أحد منهم شيئًا من ذلك قطعًا لا انتقلت الجبال ولن تنتقل بأضعف
الإيمان ولا بأكمله، فلم إذًا نسبوا هذه العبارات للمسيح وخطؤها واضح لا يحتاج
إلى دليل؟ ألا يدل ذلك على أنهم كانوا يخترعون ولا يبالون، والناس لجهلهم
يصدقون؟
وإذا صح قول المسيح: (إن حبة خردل من الإيمان تفعل كل شيء) فكيف
بعد ذلك مباشرة (مت 17: 21) اشترط الصلاة والصوم لإخراج شيطان من
شخص قدم لتلاميذه فلم ينجحوا في إخراجه منه؟ أفلم يكن عندهم قدر حبة خردل
من الإيمان؟ وإن كانت عندهم فلم اشترط إذًا الصلاة والصوم وهو القائل قبل ذلك:
إن حبة الإيمان كافية لكل عمل حتى لا يكون شيء مستحيلاً [2] مع وجودها؟
أما السبب عندنا في نسبة مثل تلك العبارات للمسيح فهو أيضًا ورودها في
النبوات القديمة كعادتهم وتوهم الكاتب بدون بحث ولا تحقيق - لشيوع الجهل إذ
ذاك - قدرة الناس على هذه المعجزات؛ لكثرة ادعائهم لها في تلك الأزمنة بشيء
من الشعوذة أو التأثير العصبي على عامة الناس ليثبتوا صدق النبوات الماضية
القائلة بحصولها في زمن المسيح وزمن أتباعه [3] فامتلاؤهم بروح القدس وتكلمهم
بألسنة جديدة قال عنه يوئيل (2: 28 - 30، راجع أيضًا أع 2: 16 - 19)
وعدم أذية الحيات وغيرها لهم وسلامتهم من كل سوء، ذكره كتاب أشعياء (11:
8 و65: 25) والمزامير (91: 13) وغيرهما، وشفاؤهم المرضى ذكره
أشعياء أيضًا (29: 18 و35: 5 - 10) ولما كانت أغلب هذه الأمراض عندهم
ناشئة عن تأثير الشياطين فلا عجب إذًا إذا جعلهم كُتَّاب الأناجيل قادرين على
إخراج الشياطين أيضًا، والحق أن سفر إشعياء هذا هو أعظم مصدر لقصص
وعبارات العهد الجديد، فجُعل ما حكوه فيه تجد أن الحامل لهم عليه هو تطبيق
عبارات أشعياء على المسيح وعلى أتباعه، ولو لم يقدروا على عمل شيء من ذلك
الآن لإقناع الشاكِّين منهم في دينهم. وزيادة هذه العبارة في مرقس (16: 9:
20) مسلَّمة عند كثير من علمائهم حتى من أشد المدافعين عن المسيحية
المتعصبين لها كترتون (Turton) مؤلف كتاب صدق المسيحية
(Christianity Truth The) ص 382 منه. فرغبة كُتَّاب العهد
الجديد في تطبيق هذه النبوات القديمة كان أعظم سبب لضلالهم ووقوعهم في الغلط
الكثير الذي ملأ أكثر كتبهم.
والذي منع النصارى فيما بعد عن إصلاح هذه الغلطات مع كثرة تلاعبهم في
كتبهم أمران:
(1) اشتهار هذه الغلطات ومعرفة خصومهم لها من قديم الزمان وتعييرهم
بها، فلا يمكنهم - والحالة هذه - إصلاحها.
(2) شيوع الجهل بينهم في الأزمنة القديمة، واعتقادهم أن الإيمان بدون
بحث ولا تعقل فضيلة، وقلة عدد نسخ كتبهم، وعدم ضم بعضها إلى بعض كما
هي الآن، وقلة المطلعين عليها حينئذ فلم ينتبهوا لهذه الغلطات إلا بعد أن وقف
عليها الناس فعرفوها وحفظوها عليهم في كتبهم فلا يصح جعل هذه الغلطات - كما
يفعل بعضهم الآن - دليلاً على أمانتهم في النقل، فكم من غلطات غيرها حاولوا
إصلاحها أو أصلحوها فعلاً لعدم شهرتها، وعرف ذلك أخيرًا، كما تبينا بالمراجعة
والبحث في النسخ الحديثة والقديمة والكتب الأخرى غير المقدسة التاريخية
والتفسيرية وغيرها، ولولا خوف الفضيحة والعار لأصلحوا كل غلطات كتبهم الآن؛
ليستريحوا من كثرة القيل والقال، ومع ذلك يتجدد فيها كل حين تنقيح وتصحيح،
وأخذ ورد، وتسليم ورفض، فلم يستقروا في أمرها على حال إلى الآن.
* * *
تلاميذ المسيح المسمون بالرسل [4] وبولس
هؤلاء التلاميذ هم اثنا عشر رجلا: ثمانية منهم لم يكتبوا شيئا كما يقول
النصارى وهم أندراوس ويعقوب وفيلبس وبرتولماوس وتوما [5] وسمعان
القانوني ويعقوب بن حلفي ويهوذا الاسخريوطي، وهاك خبر الأربعة الباقين:
(1) بطرس لم يكتب سوى رسالتين، وكان ضعيفًا؛ ولذلك أنكر المسيح -
وقت الصلب من شدة الرعب والجبن وسماه المسيح من قبل ذلك شيطانًا (مت 16:
23 ومر 8: 33) وكان يرائي اليهود في أنطاكية حتى زجره بولس (غلاطية
2: 11 - 14) فإذا سلم أنه هو الكاتب للرسالتين المنسوبتين إليه فلا ثقة لنا به،
وخصوصًا لأن بولس كان يؤثِّر عليه كثيرا. وأما تسمية المسيح له ببطرس (أي
الصخرة) فالظاهر أنها كانت في أول الأمر عند ابتداء إيمانه كما في يوحنا (1:
42) أي قبل أن يحصل منه ما حصل، فكان عيسى عليه السلام يحسن به وبغيره
الظن كما هو شأن المخلصين الصالحين، وكما أحسنه بيهوذا حتى وعده بالجنة
(مت 19: 28) هذا إذا صح أن المسيح نفسه هو الذي سماه بطرس.
وأما قصة بناء الكنيسة عليه وإعطائه مفاتيح الملكوت (مت 16: 18
و19) فالأرجح أنها كغيرها من تاريخ بطرس، زيادة من رؤساء الكنيسة الأقدمين في
هذا الإنجيل ليبنوا عليها سلطتهم التي كان منها ما كان مما لا ينساه تاريخ النصرانية
من سفك الدماء وظلم الأبرياء ودعوى القدرة على غفران الذنوب للناس وغير ذلك.
ومع كون هذه القصة لا تتفق مع تسميته بعدها مباشرة بالشيطان ولم تُذكر في
إنجيل آخر غير متى - فالظاهر أن المحرفين خافوا الفضيحة فاقتصروا على
إضافتها في إنجيل واحد لتيسر ذلك عن إضافتها في الكل كما هي عادتهم غالبًا
في التحريف ليقال: (إنهم لم يمسوا الكتب بسوء وإلا لأضافوها في الجميع) . كما
يقول بعض مبشريهم الآن.
(2) متّى: روي أنه جمع بعض أقوال المسيح بالعبرية، وما جمعه مفقود
الآن كما سبق.
(3) لباوس المسمى يهوذا: كتب رسالة واحدة ليس فيها شيء يذكر من
عقائدهم، وفيها يستشهد بكتب غير قانونية عندهم (أبو كريفة) (عدد9 و14) .
ومن مضحكات براهين النصارى أنهم إذا وجدوا في بعض الكتب القديمة قولاً
من أقوال المسيح يشبه ما في أناجيلهم الحالية زعموا أن المؤلف اقتبسه من أناجيلهم
واتخذوا ذلك دليلاً على وجود هذه الأناجيل في زمن المؤلف وعلى صحة نسبتها إلى
من نُسبت إليهم، ولا أدري لماذا إذًا رفضوا كتاب أخنوخ وقالوا أنه موضوع
مكذوب، على أن أخنوخ هو القائل للعبارة التي استشهد بها؛ فلماذا إذًا خالفوا
طريقتهم في الاستدلال على صحة هذا الكتاب؟
(4) يوحنا: وإنجيله مشكوك فيه كما بينا، وقد زادوا في إحدى رسائله
أصرح عبارة عندهم في عقيدة التثليث (1 يو 5: 7) فإذا سلمنا صحة نسبة هذه
الكتب إلى يوحنا، فكيف نأمن أن يكونوا حرفوها كما حرفوا هذه العبارة؟ ومن أين
لنا صدق هذا الرجل وعصمته من الخطأ؟ وما الدليل على أنه موحى إليه؟ وفضلاً
عن ذلك فهو لم ينص على الألوهية الحقيقية للمسيح كما بَيَّنَّاه، ولو سلم أنه دعا
الناس إليها لاستحق القتل بنص التوراة (تث 3: 5) ولو كان مؤيدًا بالمعجزات
فما بالك وهو لم تثبت له ولا واحدة باليقين؟ .
ومما تقدم تعلم أن الرسل لم يكتبوا شيئًا هامًّا عن تاريخ المسيح وتعاليمه فهل
كتبوا شيئًا غير ذلك لم يصل إلينا؟ لا ندري. ولماذا تعرَّض للكتابة سواهم من
تلاميذ بولس ومريديه؟ حتى إنك لترى أن جل العهد الجديد ليس من عمل تلاميذ
المسيح بل هو عمل بولس ومريديه.
وإذا تذكرنا مشاجرة بولس مع برنابا (أع 15: 39) مع أنه هو الذي قدمه
للرسل وجعلهم يثقون به (أع 9: 27) وعدم وصول شيء لنا من برنابا تثق به
النصارى الآن مع أنه كان شريك بولس والمخصص معه لدعوة الأمم غير اليهودية
إلى المسيحية (غل 2: 9) ووصول جميع كتابات بولس وذيوله [6] (تلاميذه)
إلينا، وانتهار بولس لبطرس في أنطاكية، وكلام بولس القارص وتحامله وبغضه
لأكثر تلاميذ المسيح كما هو صريح عباراته في رسالته إلى أهل غلاطية (إصحاح
1 و2) وتهكمه بهم وترفعه عنهم (غل 2: 6 كو 11: 5 و6 و23) إذا تذكرنا
كل ذلك تبين لنا كيف كان هذا الرجل مستبدًّا فيهم مسلطًا عليهم غير ميال إليهم
مستأثرًا بهذا الأمر دونهم، مع أنه لم يَرَ المسيح ولم يعرفه ولا آمن به في عهده بل
كان عدوًّا له ولمن اتبعه طول حياته. ثم إنه كان يناقض نفسه بنفسه في قصته كما
في سفر الأعمال حيثما سمع صوت يسوع وراءه كما يزعم (راجع أع 9: 6 - 8
و22: 9 و26: 13 - 18) وكذلك يناقض برسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي
سفر الأعمال (قارن أع 17: 14 - 16 و18: 5 مع 1 تسا 3: 1- 2) وأيضا
فإن عباراته في غلاطية (1 و2) تناقض أخباره الواردة في سفر الأعمال المذكور
كما بينه رينان بالتفصيل في كتابه عن الرسل (صفحة 21 و22 منه) وذلك لتقلُّب
هذا الرجل وتلونه فهو - كما يقول عن نفسه - يهودي لليهود (انظر أع 21:
18 - 26 و16: 1 - 3) ونصراني للنصارى ووثني للوثنيين (انظر 1 كو 9: 19 - 23) ليربح الجميع لمذهبه وتعاليمه التي يسميها الإنجيل، والظاهر من
رسائله أنه كان له إنجيل مخصوص يدعو الناس إليه، ويزعم أن الله سيدين
سرائرهم يوم القيامة بحسب هذا الإنجيل (رو 2: 16 و16: 25 و2 تي2: 8)
ولا ندري ما هو هذا الإنجيل؟ وأين ذهب؟ وقال: إنه كان غير إنجيل تلاميذ
المسيح المسمى بإنجيل الخِتان (غل 2: 7) أي أن تعاليمه كانت خلاف تعاليم
موسى وعيسى وأنه وحده اؤتمن على هذا الإنجيل (1: تي 1: 11) فهو في
الحقيقة الكل في الكل، وجميع العهد الجديد هو مؤلفه إما بنفسه أو بيد تلاميذه
وشيعته كمرقس ولوقا إلا القليل جدًّا منه، وقد قضى على كل عمل لغيره تقريبًا
من أعمال التلاميذ الآخرين إلا اللذين وافقاه على آرائه وشايعاه وهما بطرس ويوحنا،
على أن يوحنا قد ذمه تلميحًا بعد موته في سفر الرؤيا، ولم يجاهر بذلك خوفًا من
أتباعه الكثيرين من الأمم (رؤ 2: 2 و9 و14 و3: 9) هذا إذا صح أن
يوحنا هو الكاتب لسفر الرؤيا.
وأما الذين تجاهروا بمخالفته من الحواريين فكان يمقتهم ويدعي أنهم
يريدون تحريف الإنجيل (غل 1: 7) وأنهم دخلاء في المسيحية (غل 2: 4)
مع أنه هو الدخيل فيهم [7] . ومن شدة تأثيره في الناس في ذلك الوقت ولعبه بعقولهم
أنه لما تشاجر مع برنابا وانفصل عنه مرقص (أع 15: 39) أوصى الكنائس
بعدم قبول مرقس إذا جاءهم واعظًا، ولما صالحه أرسل إليهم بقبوله، فكانوا طوع
أمره دون غيره من الرسل، ومما يدل على ذلك قوله في رسالته إلى أهل كولوسي
4: 10 (ومرقس ابن أخت برنابا الذي أخذتم لأجله وصايا إن أتى إليكم فاقبلوه)
ولولا هذه العبارة لما قبل مرقس أحد وربَّما ما كان يبقى الإنجيل المسمى باسمه إلى
اليوم كما حصل لتلاميذ المسيح الذين أطفأ ذكْرَهم ولم يقف أحد لهم على أثر أو خبر
وخصوصًا المحافظين منهم على تعاليم موسى وعيسى وهم الذين كانوا قدوة لبعض
الفرق القديمة كالأبيونيين والناصريين وغيرهم، ولذلك ذم ذمًّا شنيعًا في الخطب
المنسوبة إلى أكليمندس الروماني.
ومما انفرد به عن سائر الناس قوله (1 كو 15: 6) في قيامة المسيح من
الموت: وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من 500 أخ أكثرهم باقٍ إلى الآن، ولكن
بعضهم قد رقدوا 8 وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا) ولا ندري ولا غيرنا يدري
من أين له هذا الخبر: خبر ظهوره لخمسمائة شخص، ومتى وكيف كان ذلك؟ ومن
هم؟ وأين ظهر لهم المسيح؟ وهل رأوا شخصه أو رأوا نورًا وبرقًا فظنوه المسيح
كما ظنه بولس (قارن أع 9: 3 و4 و7 و22: 9 مع 1 كو 15: 8) .
وما دام بولس لم يعين أسماء هؤلاء الأشخاص الخمسمائة أو بعضهم، فما فائدة
قوله: أكثرهم باقٍ إلى الآن؛ فمن من الناس إذ ذاك يمكنه أن يكذبه وهو لم يذكر
اسم أحد معين، وكيف يتيسر لأهل كورنثوس أن يسألوهم وهم بعيدون عنهم ولا
يعرفونهم على التعيين؟ وإذا سألوا بعض المسيحيين عن ذلك في ذلك الوقت فهل
نضمن أن لا يحملهم حب تأييد دينهم والرغبة في الظهور والتشرف بهذه الرؤية
والإغراب في القول، على الإخبار بما لم يبصروه أو تقرير ما لم يوقنوا به؟
وإذا تذكرنا كثرة الكذب الآن في نقل أخبار البلاد القريبة منا والبعيدة عنا مع
توفر جميع الوسائل عندنا لنقلها إلينا كالجرائد وغيرها ومع سهولة المواصلات
وسرعة نقل الأخبار بطرق مدهشة خارقة لعادة تلك الأزمان وارتقاء الناس في العلم
والعقل، إذا تذكرنا كل ذلك أدركنا كيف تكون حالة الأخبار في ذلك الزمان ومبلغها
من الصدق وخصوصًا أخبار مثل تلك الغرائب والعجائب، وهل يبعد على أهل تلك
الأزمنة أن يكونوا هم الذين افتجروا هذه العبارة ونسبوها إلى بولس بعد زمنه كما
هي عادتهم؛ وإلا: إذا كان هذا الخبر صحيحًا فكيف تركته جميع الأناجيل مع أنه من
الأهمية بمكان عظيم كما لا يخفى؟ وإذا كان هذا الجمّ الغفير كله رأى المسيح،
فكيف لم يروِ هذا الخبر أحد منهم مطلقًا في الأناجيل أو في الرسائل أو غيرها وبقي
سرًّا مكتومًا بينهم حتى أفشته رسالة بولس هذه؟ وإن كان هذا الخبر وصل بولس
بالوحي فلمَ لم يوحَ به إلى غيره ليدونه؟ وما هذا الوحي الذي يكثرون من ادعائه
لكل نصراني في القرن الأول؟ وإذا كانت روح القدس توهب لكل شخص من
المؤمنين (أع 8: 14 - 20 و19: 1-7) بمجرد وضع اليد عليه فما حاجة
الناس إذًا لهؤلاء الرسل الكثيرين وكتاباتهم ولرسائل بولس وغيره الطويلة العريضة
إذا كانوا كلهم أنبياء متمثلين من روح الله؟
وإذا صح قول النصارى في نبوة دانيال (9: 24) أنها في حق المسيح
فلماذا لم تختم الرؤيا والنبوة به كما قال دانيال فيها؟ وكيف يكون جميع تلاميذ
الميسح أنبياء بعده ملهمين من الله؟ وما معنى قول سفر الأعمال نقلاً عن يوئيل 2:
17 (يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر
فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى (جمع رؤيا) ويحلم شيوخكم أحلامًا وعلى
عبيدي أيضًا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون؟ وهو ينافي ختم
الرؤيا والنبوة بالمسيح.
وكيف رأى يوحنا رؤياه المشهورة؟ وكيف صار بولس نبيًّا موحى إليه من
الله بعد المسيح يحل ما يحل ويحرم ما يحرم؟ فهل نسي صاحب كتاب الأعمال
نبوة دانيال؟ أم هذه النبوة في اعتقاده ليست في حق المسيح؟ ففي حق من إذًا؟ [8]
وكيف كثرت الأنبياء إلى هذه الدرجة بعد المسيح كما في كتاب الأعمال حتى كان
منهم أغابوس وغيره (انظر أع 11: 27 - 30 و13: 1- 3 و21: 10 -
12) إلخ إلخ.
فلولا عبارة يوئيل السابقة 2: 28 - 13) في انسكاب روح الله على كل
بشر، وكثرة تنبؤ الناس في آخر الزمان لما جعل كاتب سفر الأعمال جميع
النصارى الأولين أنبياء، ولما صاغ كل هذه القصص في نزول روح القدس عليهم
وتنبئهم، فهو في هذه المسألة أيضًا لم يخرج عما ألِفوه من عادة اختراع الحكايات
لتطبيق النبوات عليهم. فهل مثل هذه الكتب يصح أن تعتبر تاريخية يؤخذ بما فيها
ويعول عليها، وهي كما بينا مرارًا لم تخلُ في كل ما كُتب فيها من الأهواء
والأغراض؟ ولماذا لا تنزل عليهم روح القدس الآن؟ وأين ذهبت معجزاتهم
وآياتهم العديدة وقد امتلأت أوربا وغيرها بالملحدين والمشككين وجماعة
العقليين (Rationalists) وغيرهم؟ ولماذا لا تقدر النصارى على عمل الآيات
والعجائب الآن كما وعدهم المسيح على زعمهم بقوله مثلاً (مر 17: 17) :
(وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يُخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة
18 يحملون حيات وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى،
فيبرأون) وما وجه تخصيصهم الآن هذه العبارات ونحوها كما في (يو 14:
12) بالحواريين وهي عامة في جميع المؤمنين كما هو ظاهر منها؟ أليس لأنها لم
تتحقق؟ وهناك مسألة أخرى تُبطل أيضا دعوى بولس السابقة ظهور
المسيح لخمسمائة شخص، وإليك بيانها: جاء في كتاب صدق المسيحية
(Christianity Of Truth The) في صفحة 385 منه ما مؤداه أن
ظهور المسيح لهؤلاء الخمسمائة كان في الجليل لأنه لم يكن في أورشليم قدر هذا
العدد من التلاميذ كما يفهم من كتاب الأعمال (1: 15) اهـ. وهذا الرأي هو
المعول عليه عند جميع علماء المسيحية، وهو مبني على قول متى (28:
10) أن المسيح أرسل إلى تلاميذه أمرًا بالذهاب إلى الجليل لكي يروه هناك
(راجع أيضًا مرقس 16: 7) وأن بعضهم شكُّوا حينما رأوه (عدد 17) والظاهر
من ذلك أنهم رأوه على بعد في الأفق ولذلك خرجوا إلى الجبل ليرتقبوا ظهوره
هناك. فلم يقل متى ولا غيره: إنهم كانوا خمسمائة. ومع ذلك فرواية الظهور في الجليل هذه منقوضة بقول لوقا: إن المسيح في مساء اليوم الذي قام فيه قابل
تلاميذه، وقال لهم: أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي
(لو 24: 1 و13 و29 و 33 و44 -49) ثم صعد إلى السماء ورجعوا هم إلى
أورشليم (عدد 51 و52) وبقطع النظر عن مناقضة لوقا نفسه في سفر الأعمال
حيث جعل الصعود بعد أربعين يومًا من أورشليم (أع 1: 3و9) إلا أنه قال: إن
المسيح أوصاهم أيضًا في آخر يوم أن لا يبرحوا أورشليم حتى تحل عليهم روح القدس (عدد 4 و8) فيستفاد من ذلك أن المسيح من أول يوم إلى آخر يوم أوصى
تلاميذه بعدم مبارحة أورشليم إلا بعد حلول روح القدس عليهم. وهذه الروح لم
تحل عليهم إلا يوم الخمسين أي بعد صعوده بنحو عشرة أيام (أع 2: 1-4)
وعليه فهم لم يبرحوا أورشليم إلا بعد الصعود، فكيف إذًا قال متى: إن المسيح
أمرهم بمبارحتها إلى الجليل وأنهم هناك رأوه؟ وكيف يمكن رفع هذا التناقض
البين من بينهما؟ اللهم إلا بالتكلف البارد والتعسف الذي لا مزيد عليه.
وإن كان ظهر لهم في أورشليم فالتلاميذ الذين كانوا فيها وأمروا أن لا
يبرحوها من أول يوم إلى آخر يوم كانوا نحو 120 شخصًا بنص كتاب الأعمال (1:
15) وإن قيل لعلهم كانوا 500 نفرًا، ولما ظهر لهم المسيح سافر أكثرهم
وبقي الأقلون. قلت: وهل يعقل أن تلاميذه هؤلاء الذين رأوه بأعينهم بعد قيامته
من الموت يكونون أول العاصين له المخالفين لأوامره حتى إنهم تركوا أورشليم بعد
أن شدد عليهم ووصاهم مرتين على الأقل بعدم مبارحتها؟ وإن كانوا غير مطيعين
له ولا مبالين بأمره ونهيه بعد كل هذه المعجزات فمن يثق بهم أو يصدق ما يقررونه؟
هذا إذا كانوا شهدوا بأنهم رأوه فما بالك إذا كنا لم نسمع من أي واحد منهم أنه شهد
بأن 500 شخص رأوا المسيح حقيقة؟ بل لم نسمع من أحد من تلاميذ المسيح ولا من
غيرهم - خلاف بولس - أن المسيح ظهر لكل هذا العدد من الناس الذين لم يعرفهم
أحد قط.
فإن قيل: لعل المسيح ظهر لهم في الجليل بدون علم أحد من التلاميذ الأحد
عشر؟ قلت: ومن إذاً الذي جمع كل هذا العدد من الناس في ذلك المكان وعيَّنه لهم
وأخبرهم بأن المسيح سيظهر فيه وبوقت الظهور؟ مع ملاحظة أن مثل هؤلاء الناس
لا بد أن يكونوا من الذين يئسوا منه وتركوه بعد حادثة الصلب ورجعوا إلى بلادهم
شاكِّين فيه حائرين، فكيف إذًا اجتمعوا في ذلك الوقت والمكان المعين، ولو لم يُروَ
عن أحد منهم خبر هذه الرؤية؟ ولم فعلها المسيح بدون علم أعظم تلاميذه؟ ولم لم
يُخبر بها الرسلَ حين ظهوره لهم؟ ولِمَ لم يخبرهم روح القدس بها بعد نزوله عليهم
ليدونوها في الأناجيل؟ وكيف يقول متى (28: 16) إن الذين ذهبوا إلى الجليل
ورأوه هناك كانوا هم الأحد عشر رسولاً ولم يشر إلى غيرهم، بل نص على أن
بعض هؤلاء أيضًا شك في أن الذي رأوه هل هو المسيح أم لا؟ فكل هذه الأسباب
تحملنا قطعًا على رد زعم بولس هذا، وعدم الاعتداد به مطلقًا.
ومن تناقض كتبهم أيضًا في هذه المسألة - غير ما تقدم - قول يوحنا (20:
22 و23) : إن المسيح وهبهم روح القدس في مساء اليوم الذي قام فيه (عدد 19)
مع قول لوقا: إنها لم تنزل عليهم إلا يوم الخمسين (أع 1: 4 و5 و2: 1 - 4
ولو 24: 49) .
ومن التناقض العجيب أن المسيح يطلب ليلاً من تلاميذه بعد قيامته أن يجسوه
كما في لوقا (24: 39) مع أن يوحنا يقول: إنه منع في الصباح مريم المجدلية
من لمسه بعلة أنه لم يصعد بعد إلى أبيه وإلهه (يو 20: 17) وفي إنجيل متى
(28: 9 و10) يقول: إنها هي ومريم الأخرى أمسكتا بقدميه وسجدتا له، فلم
يمنعهما المسيح من ذلك بخلاف ما يقول يوحنا، بل قال لهما: (لا تخافا) .
وجاء في لوقا (24: 33) : أن الأحد عشر تلميذًا كانوا مجتمعين في مساء
يوم قيامة المسيح فظهر لهم ووقف في وسطهم (عدد 36) وفي يوحنا (20:
24) أن توما أحدهم لم يكن موجودًا في هذا الاجتماع حينما جاء المسيح فلم يكونوا
إذًا إلا عشرة لا أحد عشر كما قال لوقا؛ فانظر إلى مقدار تناقضهم في كل شيء
حتى في أبسط المسائل؛ لأنهم أخذوا ما كتبوه عن الإشاعات المتضاربة والروايات
المتناقضة ولم يميزوا بين صحيحها من باطلها؛ فهل مثل هذه الكتب يصح أن يعول
عليها؟ وهي كالثوب الخلِق كلما رقعته من مكان اتسع الخرق أو ظهر لك غيره
حتى أصبحت بالية لا تصلح لشيء؟
ومن كثرة مبالغة بولس وإغراقه قوله أيضا (1 كو 15: 5) : وأنه ظهر
لصفا (بطرس) ثم للاثني عشر وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين مع أن
يهوذا أحدهم كان قد مات في ذلك الوقت، ولم تكن الرسل إلا أحد عشر فقط؛ ولذلك
قال مرقس (16: 14) أخيرًا ظهر للأحد عشر، ولكن رغبة بولس في تكثير
عدد الذين رأوا هذه القيامة المزعومة أنسته موت يهوذا فقال ما قال.
أما بطرس فلم يُروَ عنه في إنجيل من الأناجيل أنه قال: إنه رآه أولاً وحده،
غير أن لوقا (24: 34) قال في إنجيله: إن اثنين من التلاميذ مجهولين يسمى
أحدهما: كليوباس، قالا: (إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان) بطرس،
وصريح القصة أن هذه إشاعة نقلاها ولا ندري عمَّن روياها وكيف سكتت
الأناجيل عن رواية هذه الرؤية الأولى لبطرس حتى نفس إنجيل لوقا الذي روى قصة
كليوباس هذه.
أما ظهور المسيح للأحد عشر، فلا برهان عليه إلا رواية هذه الأناجيل
الأربعة التي أظهرنا لك قيمتها وقيمة سندها على أنها لم تذكر ذلك رواية عن كل
فرد منهم، وقد تضارب الإنجيلان المنسوبان إلى التلاميذ متى ويوحنا في أمر
هذه الرؤية، ففي إنجيل متى أن ملكًا قال للمرأتين 28: 7: اذهبا سريعًا وقولا
لتلاميذه أنه قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه - 16 فانطلق
التلاميذ إلى الجليل إلى الجبل؛ ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكُّوا.
وليس في إنجيل متى رؤية أخرى غير هذه وهي التي شك فيها بعضهم [9] .
أما إنجيل يوحنا فإنه يذكر أنهم رأوه في أورشليم قبل الذهاب إلى الجليل
مرتين وفي المرة الأولى منحهم الروح القدس (يو 20: 22) وفي الثانية أقنع
توما الذي لم يره في المرة الأولى وكان شاكًّا فيه وأراه يده وجنبه حتى صدق كباقي
التلاميذ (يو20: 20 و27) ولا ندري لماذا لم يذكر متى كل ذلك؟ وإذا كان
التلاميذ رأوه في أورشليم المرة بعد المرة، كما قال سفر الأعمال: (1: 3) حتى
اقتنعوا وزال عنهم كل شك وأعطوا الروح القدس - كما قال يوحنا - أي صاروا
أنبياء ملهمين، فكيف بعد ذلك شكوا فيه لما رأوه في الجليل على ما قال متى (28:
17) الذي يفهم منه أنها كانت أول رؤية لهم ولذلك شك بعضهم فيها، وإذا كان
المسيح هو الذي وهبهم روح القدس بنفسه قبل أن فارقهم، فما معنى قول إنجيل لوقا
(24: 49) وقول سفر الأعمال: إن المسيح أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم حتى
تحل عليهم وأنها حلت عليهم بعد صعوده يوم الخمسين، كما هو صريح الإصحاح
الأول والثاني من الأعمال كما سبق بيانه؟
وإذا صح تفسيرهم لعبارة البارقليط التي في إنجيل يوحنا وأن المراد بها روح
القدس هذه كما يزعمون، فما معنى قول المسيح (16: 7) لكني أقول لكم الحق:
إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى (البارقليط) ولكن
إن ذهبت أرسله إليكم. فإذا كانت روح القدس لا تنزل عليهم إلا إذا انطلق ولا
يرسلها إليهم إلا بعد ذهابه، فكيف إذًا أرسلها إليهم قبل صعوده كما قال نفس
إنجيل يوحنا؟ (20: 22) ألا يدل ذلك على صحة قولنا في كتاب (دين الله ص
118 -120) أن البارقليط هو غير روح القدس [10] وأن المراد به محمد صلى الله
عليه وسلم كما بيناه هناك؟ ولماذا كان انطلاق المسيح ونزول الروح خيرًا للتلاميذ
من بقاء عيسى بينهم مع أنه لو بقي لأمكنه أن يعلمهم كل شيء علمه لهم روح القدس
على حد سواء؛ إذ كل منهما أقنوم إلهي يعلم كل شيء كما يدعون؟ أليس في ذلك
تصريح بأن الرسول الآتي سيكون خيرًا للناس من المسيح، وأنه أفضل منه؟
ولذلك كانوا يرغبون فيه أكثر من رغبتهم في المسيح عليه السلام كما هو ظاهر من
هذه العبارة.
ولنرجع إلى ما كتبنا فيه:
أما قول بولس (كو 15: 7) وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجميعن،
فلا يوجد أيضًا في إنجيل من الأناجيل أنه ظهر ليعقوب هذا، فلا ندري من أين أتى
بذلك بولس؟ وإذا كان حقيقيًّا فلماذا تركته الأناجيل، ولماذا لم يَرْوِهِ متى ولا يوحنا
التلميذان ولا لوقا المدقق الذي تتبَّع كل شيء قبل كتابة إنجيله (1: 3) ؟ .
الظاهر أن بولس إنما ذكر كل هؤلاء التلاميذ وخصوصًا بطرس ويعقوب أخا
يسوع في قائمته هذه أو جدوله تملقًا لهم في أوائل أمره ليرضوا عنه وليعترفوا له
بالرسالة. فإن دعوى الرؤية هذه كانت عندهم كالشهادة العظمى (دبلومًا) لهم
باستحقاق الرسالة [11] فمن (أين) يتبرأ من هذه (الدبلوما) وينكرها أو يردها بعد
أن أعطاها بولس لهم جميعا؟ .
والذي يدلك على أن ظهور المسيح لأي واحد منهم كان يعتبر عندهم شهادة
بالرسالة: قول بولس (1 كو9: 1) : ألست أنا رسولاً.. . أما رأيتُ يسوع المسيح
ربنا. وقوله (1 كو15: 8) : (وآخر الكل للسقط ظهر لي أنا 9 لأني أصغر
الرسل أنا الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً ... لى قوله: 10 ونعمته المعطاة لي لم
تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم) . وهو صريح في أن المسيح إنما ظهر له
في آخر الكل؛ لأنه أصغر الرسل، وهذا التعليل يفهم منه أن المسيح لا
يظهر إلا للرسل ووقت ظهوره لهم يختلف باختلاف مقامهم عنده؛ فبولس وإن كان
قال ذلك اضطرارًا للتعليل عن ظهور المسيح له في آخر الكل إلا أن نفسه الفخورة
المعجبة المتكبرة عادت فرفضت هذا التواضع الظاهري الذي اضطرت إليه أولاً
وقالت: أنا تعبت أكثر من الرسل جمعيهم. وقال أيضًا عن نفسه (2 كو 11: 2) :
(فإني أغار عليكم غيرة الله 5 لأني أحسب أني لم أنقص شيئًا عن فائقي الرسل 6
إن كنت عاميًّا في الكلام فلست في العلم، بل نحن في كل شيء ظاهرون لكم بين
الجميع 23 أهم خدام المسيح أقول كمختل العقل: فأنا أفضل. في الأتعاب
أكثر في الضربات أوفر في السجون أكثر من الميتات مرارًا كثيرة 26 بأسفار مرارًا
كثيرة، بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من
الأمم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية، بأخطار في البحر، بأخطار من
إخوة كذبة، في تعب وكد، في إسهار مرارًا كثيرة في جوع وعطش، في أصوام
مرارًا كثيرة. في برد وعري 28 التراكم عليّ كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس
29 من يضعف وأنا لا أضعف من يعثر وأنا لا ألتهب 30 إن كان أحد يحب
الافتخار فأفتخر بأمور ضعفي) . إلى غير ذلك من خيلائه وإعجابه بنفسه وافتخاره
بأعماله ومَنِّه على الناس وعلى الله. راجع أيضا (كو 2: 1) .
كأن جميع الرسل الآخرين لم يسافروا ولم يدعوا أحدًا قط إلى المسيحية ولم
ينلهم شيء مما ناله من المتاعب ولم يعملوا عملاً مثله مطلقًا، فهو كما قلنا يعتبر
نفسه أفضل منهم وأنه الكل في الكل. ولا عمل لأحد سواه وقد بلغت به درجة حبه
للظهور والفخر أنه كان يطلب بنفسه من أتباعه أن يمدحوه ولا يستحيي من ذلك كما
في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس (12: 11) .
ومما تقدم تعلم أن ظهور المسيح كانوا يعتبرونه أعظم شهادة لاستحقاق الرسالة
ولذلك كان بولس يذكر مرارًا ظهور المسيح له كما في سفر الأعمال، وفي رسائله
حتى ادعى أنه اختطف إلى السماء الثالثة وإلى الفردوس، ورآه هناك وسمعه (2 كو
12: 1-4) [12] وأي برهان يمكن لمثله ممن لم ير المسيح في حياته أن يقدمه
للناس البسطاء على صحة رسالته سوى مثل هذه الدعاوى؟
وربما كان هو الذي بث في التلاميذ فكرة ادعائهم رؤية المسيح بعد موته
لينالهم شيئ من الشرف الذي ناله بدعواه لها. ولا يبعد على مثل أولئك العامة من
الناس الفقراء الذين لا عمل لهم ولا علم أن يوافقوه على ذلك ويعترفوا له بها كما
اعترف هو لهم جميعا بها حتى ذكر في رسالته ظهور المسيح لخمسمائة شخص
ولجميع الرسل، فكأنه في سياسته اتبع المثل العامي القائل: حملني وأنا أحملك.
ولكنه هو فاقهم في ذلك كثيرًا حتى جعل الظهور لكل فرد من التلاميذ فإن
عددهم لا يمكن أن يزيد عن 500 شخص، ليرضوا عنه جميعًا. وأي خسارة عليه
في ذلك؟ بل أي فائدة له أعظم من مسالمتهم واستجلاب رضاهم كلهم عنه؟ ولو في
أوائل أمره [13] قبل أن يعلم ماذا يكون من شأنه بينهم، ومقامه عندهم، ولو علم
ذلك وعلم أنه سيكون إمامهم وقائدهم الأعظم في كل شيء لما اعترف لهم بشيء
مطلقًا كما تدل عليه سيرته معهم فيما بعد.
هذا؛ ولما كانت رؤية المسيح عندهم أعظم دليل على الرضا والاصطفاء
والرسالة كما قلنا، تحاشوا ادعاءها للكفرة والمعاندين، إذ لا يمكن أن يتشرفوا بها
مثلهم.
ويُثبت ذلك أيضًا قول بطرس منكرًا على بولس: وكيف يظهر لك (يعني
المسيح) مع أن آراءك هي مضادة لتعاليمه. كما في الخطب (Homilies)
المنسوبة إلى كليمندس الروماني وهي مكتوبة في أواخر القرن الثاني أو بعده بقليل.
(راجع كتاب دين الخوارق ص320) وهذه الخطب وإن كانت منسوبة كذبًا
لكليمندس إلا أنها تدل على أن النصارى كانوا في أوائل المسيحية يعتقدون أن
المسيح لا يمكن أن يظهر للمخالفين له المعاندين. وهذا الاعتقاد هو أحد أسباب خلو
كتبهم من هذه الدعوى بل هو أعظم الأسباب. وهناك سبب آخر لذلك وهو تحاشي
النصارى في القرون الأولى إثارة اليهود والرومانيين عليهم لكي لا يزيدوا في
احتقارهم والسخرية بهم وتكذيبهم وإيذائهم واضطهادهم وتنفير الناس منهم ومن
دينهم، فكانوا في ذلك - حقيقة - حكماء، ولعلهم فعلوا ذلك أيضا بإرشاد بولس
وأضرابه من عقلائهم وساستهم.
ولكن من لم يفهم ذلك من النصارى بعدهم ادعى أن المسيح وعد اليهود
بالظهور لهم بعد دفنه في الأرض بثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، فزاد في هذه العبارة في
إنجيل متى (39: 12و40) فإن العدد (40) منها لا وجود لمثله في الأناجيل
الأخرى، وقد تكلمنا على ذلك في رسالة الصلب صفحة 106 و107 و117
و118. راجع أيضًا (لو 11: 29 - 32 ومت 16: 4 ومر8: 12) . وجميع
هذه النصوص المشار إليها هنا صريحة في أن المسيح أجاب المقترحين للآيات مرة
بقوله: (لن يعطى هذه الجيل آية) . كما في مرقس، ومرة بقوله: لن يعطيهم آية
إلا آية يونان لأهل نينوى. كما في لوقا وغيره. ولا يخفى أن يونان لم يعط أهل
نينوى أي آية، فكأن مراد المسيح أنه يجب أن يؤمنوا به بمجرد دعوته لهم كما آمن
أهل نينوى بيونان لمجرد مناداته لهم راجع (لو 10: 32) ولمنكري المعجزات
أن يستدلوا بذلك على صحة دعواهم أنه لم يفعل شيئًا منها. فالمسيح لم يظهر لأحد،
ولا وعد اليهود بذلك كما ادعى المحرف للإنجيل. ولولا أن عدم ظهور المسيح
لأي أحد من اليهود والرومانيين وغيرهم من الكافرين كان معروفًا شائعًا متواترًا بين
النصارى الأولين لزاد المحرفون للإنجيل قولهم: إنه ظهر لفلان وعلان منهم أيضًا،
ولكن مثل هذه الزيادة لا يمكن أن تمر على الناس بسهولة، ولا تدخل عليهم خفية
بدون أن يشعروا بها كما دخلت عليهم الزيادة التي في إنجيل متى (12: 40) لأن
إدراك هذه الزيادة لا يحتاج لشيء من الانتباه والتدبر، ولذلك ترى النصارى يقرأون
هذه العبارة في إنجيل متى صباح مساء ولا يشعرون بأنها كانت وعدًا لليهود
بالظهور لهم، ولا بأنه وعد لم يتحقق، وإذا صح أن المسيح قالها لهم وجب عليه
أن يُري نفسه لهم بمقتضاها كما أرى نفسه لتلاميذه، وإلا لكانوا معذورين في عدم
الإيمان به وتكذيبه، فإن نفس تلاميذه شكوا فيه مرارًا كما بيناه في رسالة الصلب
ولم يقنعهم إلا بمجهود؛ فهل كان ينتظر منهم أن يكونوا أكثر إيمانًا به من نفس
تلاميذه حتى يطالبهم بالإيمان بقيامته من غير أن يروه لمجرد سماع هذا الخبر من
تلاميذه الذين كانوا كثيري الشك عديمي الإيمان بنص الإنجيل؟ متّى (17: 20) .
فكيف أخلف المسيح إذًا وعده لهم؟ وكيف يجب عليهم تصديق عديمي الإيمان؟
ولا يخفى أن من كان كذلك لا يتحاشى الكذب وخصوصًا لمصلحته ولا يخشى الله.
وأي مصلحة أكبر من أن يصبح أولئك الأشخاص الفقراء، المحترقون المستضعفون
بعد موت سيدهم ويأسهم منه وابتداء تلاشيهم - يصبحون رؤساء للناس ورسلاً لهم
يشرعون لهم ما يشاءون، ويأخذون من أموالهم ما يرغبون (أع 2: 44 و45 و4:
32 -37 و1 كو 16: 1 - 3 و2 كو 11: 8 و9) بل يقتسمون جميع أموالهم
والممتلكات بينهم بلا عمل ولا تعب سوى القول بأنهم رأوا المسيح بعد موته حيًّا
كما علمهم بولس وغيره. وقد عاد إليهم الأمل لما بثه فيهم عقلاؤهم ومفكروهم،
بقرب رجوع مُلك إسرائيل إليهم حينما رأوا إقبال الناس عليهم وخضوعهم لهم،
وهو الأمل الذي طالما خالج نفوسهم، وكانوا يرتقبون كل يوم تحققه من قديم الزمان
(انظر أع 1: 6) حتى إنهم اعتقدوا أنهم سيملكون في الأرض مع المسيح ألف
سنة (رؤ20: 4 و6) وفي ذلك العصر الذهبي الذي كان يتوهمه اليهود وإلى الآن
ينتظرونه، وأنه متى جلس المسيح على كرسي مجده يجلس التلاميذ الاثنا عشر [14]
على الكراسي ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر مت (19: 28) وأن زمن
رجوع المسيح قريب جدًّا وأنهم يبقون أحياء إلى نزوله (اتس 4: 15 - 18)
حتى قال لهم بولس: (عزوا بعضكم بعضًا بهذا الكلام) وليس هذا فقط بل قد
وعدهم المسيح كما في (مر 10: 30) بأن من ترك شيئا لأجله يأخذ مائة ضعف
في هذه الدنيا وله الحياة الأبدية في الآخرة، وأفهمهم بولس أيضا بأنهم جميعًا
سيدينون العالم والملائكة (1 كو 6: 2 و3) وقد بلغ بالرؤساء منهم الغرور
والجهل إلى درجة أن توهموا أو أوهموا الناس أن بيدهم غفران الذنوب [15]
ومفاتيح ملكوت السموات [16] وأن كل ما يربطونه على الأرض يكون مربوطًا في
السماء، وكل ما يحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء (مت 16: 19
و18: 18 ويو 20: 23) إلخ إلخ فمن إذًا لا يقول بقولهم في قيامة عيسى ليدخل
في زمرتهم حتى ينال ما نالوه أو سينالونه في الدنيا والآخرة؟ مهما ناله من الأذى
والاضطهاد المؤقت طمعًا فيما سيحصل له ولأمته من صلاح الحال وحسن المستقبل
والنعيم الدائم في الدارين. ألا ترى أن القاتل يقدم على القتل طمعًا في المال مع
علمه بأنه غالبًا سيقع في القصاص الذي يذهب بحياته كلها، ولكن الأمل في السعادة
والطمع في لذة المال يدفعه لارتكاب هذا الإثم الفظيع مهما كانت نتائجه.
هذا إذا سَلِم أن التلاميذ ومن معهم من النصارى كانوا حقيقة يجاهرون على
رءوس الأشهاد بدعواهم قيامة المسيح (انظر رسالة الصلب ص149) وأنه نالهم
جميع الاضطهادات التي تسمعها من قصاصي النصارى. وإذا سَلِم ذلك فهل كانت
كل هذه الاضطهادات بسبب هذه العقيدة وحدها؟ مع أنهم كانت لهم عقائد أخرى
يخالفون بها غيرهم، وكان أكثر ما يتهمون به هو التهم السياسية لما عند الرومانيين
من الحرية في المسائل الدينية؛ ولعدم وجود سلطة عليهم في أيدي خصومهم اليهود؛
وخصوصًا بعد تشتت هؤلاء وخراب أورشليم سنة 70 م وقد اعترف مؤرخوهم
بأنه لم يمسَّ المسيحيين أذًى في أثناء حرب الرومانيين مع اليهود؛ لأن المسيح كان
أنبأهم بخراب أورشليم ووصاهم بهجرها.
ولا يخفى أن استفانوس أول شهيد في النصرانية، وإنما رجمه اليهود لأنهم
اتهموه بالتجديف على موسى والناموس وعلى الله، راجع (أع 6: 11 - 14)
وكان رجمه بعد أن ألقى عليهم خطابًا طويلاً كما هو مذكور في الإصحاح السابع من
سفر الأعمال وليس في هذا الخطاب ذكر لقيامة المسيح من الموت ولا لرؤية أحد له
بعد هذه القيامة المزعومة، بل قال: إن اليهود قتلوه كما قتلوا قبله أنبياء كثيرين
(أع 7: 52) .
ومن عبارة استفانوس هذه يُفهم أن بعض اليهود المتنصرين في أوائل
المسيحية لم يكونوا يعتبرون الصلب والموت مقللاً من قيمة المسيح عندهم ولا
مزلزلاً لعقيدتهم فيه بل كانوا يعدونه من مصائب الدهر التي أصابت المسيح،
وأصابت غيره من أنبياء الله السابقين، الذين تعوَّد اليهود قتلهم من قديم الزمان.
فقول المبشرين الآن: إنه لولا قيامة المسيح من الموت ما قامت للنصرانية
قائمة؛ لأن صلبه [17] وقتله زلزل عقيدة تلاميذه فيه، وبرؤيتهم له بعد الموت
انتعشت نفوسهم - إنما هو قول باطل؛ لأن التلاميذ ما كانوا يعتقدون استحالة الموت
والقتل عليه ولم يعتبروا حصول ذلك إلا شيئًا معتادًا بين الكثيرين من الأنبياء قبله
فهو ليس بدعًا من الرسل في ذلك. وهذا الاعتقاد هو الذي كان فاشيًا فيهم قبل أن
ينبههم بولس وأضرابه من مفكريهم البصيرين بحال أمتهم ومستقبلها الغيورين عليها،
إلى حكمة حصول الصلب والموت للمسيح، وهي خلاص البشر به، فبعدئذ
أصبحوا ينظرون إلى الصلب بغير نظرهم إليه أولاً، واعتبروه أكبر ما يشرف
المسيح ويرفع منزلته في عيون الناس أجمعين، فصاروا بعد ذلك يدعون إلى عقيدتهم
هذه فرحين مسرورين (1كو 1: 18) نعم يجوز أنه لولا أن تنبهوا إلى هذه
الحكمة لكان يمكن لليهود أن يؤثروا في بعض عامتهم الضعفاء ويزلزلوا عقيدتهم في
المسيح أو يحولوا بعضًا منهم عن الإيمان به. فالذي حمى النصارى من ذلك أولاً
هو علمهم بما حصل للأنبياء قبله من الاضطهاد والأذى والقتل والمرض وغيره من
مصائب هذه الحياة التي يجب ملاقاتها بالسكينة والصبر والرضا بقضاء الله وقدره
انظر (أع 2: 23)
وثانيا: هو الحكمة التي اخترعها لهم بولس وغيره أو نبهوهم إليها، ولو أن
بولس جعل قيامة المسيح من أكبر أسس هذه الحكمة إلا أنه كان لا شك يمكنه
الاستغناء عن القول بها لولا ميله الفطري دائمًا إلى الغلو والإغراق في كل ما
اعتقده وارتآه كما هو ظاهر من رسائله ومن أعماله قبل دخوله في المسيحية وبعده
فقوله بها إنما كان من زيادة غلوه في تكريم المسيح [18] ومَحقًا لشماتة اليهود به
وغيظًا لهم واستمالة للوثنيين بتقليد عقائدهم في مخلصيهم. وهو في تحوله هذا
السريع من بغض المسيحية واضطهاد أتباعها إلى محبتها ونصرتها يشبه عمر بن
الخطاب في تحوله فجأة من عداوة الإسلام وأهله إلى محبته ونصرته، هذا إذا سلمنا
قصة بولس الواردة في كتبهم، وفرضنا أن ما نصره وأحبه هو المسيحية لا ديانة
جديدة هو الواضع لها، ولكننا نرى أن علماء الإفرنج المحققين قد أصبحوا الآن
يشكون في كل ما رووه ونقلوه؛ لما علموه عنهم من كثرة التحريف والاختلاق،
وهو الأمر الذي قرره القرآن منذ نزوله (راجع مثلا 2: 75 و76) ولكنهم كانوا
وقتئذ يكابرون ويكذبون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
... ... ... ... ... لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ذهب بعض مفسريهم الآن لرفع الخلاف بين إنجيل يوحنا ومرقس (15: 25) في ساعة الصلب إلى أن ساعة يوحنا رومانية وساعة مرقص عبرية، وقد رددنا على هذه الدعوى في رسالة الصلب (ص93 و94) ونزيد الآن أن الباحثين في تواريخ الأمم قد عرفوا خطأ هذه الدعوى مطلقًا، فإن الرومانيين لم يكونوا يعدون ساعاتهم كما يعدها الإفرنج الآن، وإنما كانوا يعدونها من شروق الشمس، واليهود من الغروب كالعرب راجع كتاب (التوراة غير موثوق بها، تأليف Walter Jekyll ص86) وعليه فتفسيرهم لهذه المسألة منقوض من أوله إلى آخره ومبني على الخطأ والجهل، وقياس القديم بالحاضر في عادات الأمم، وما دامت كتبهم مملوءة بالخطأ والتناقض والتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في المسائل الطفيفة وغير الطفيفة، وما داموا يسلِّمون بخطأ النساخ الكثير فيها بل بالزيادة عمدًا حتى في بعض العقائد المهمة كما في رسالة يوحنا الأولى (5: 7 و8) فكيف بعد ذلك يمكنا أن نقطع بشيء فيها أو نجزم بأنه من قول المسيح أو تلاميذه وأنه لم يزد خطًأ أو عمدًا وخصوصًا لأن أقدم ما عندهم من النسخ لا يتجاوز - على قولهم - القرن الرابع (راجع كتاب صدق المسيحية لمؤلفه Turton ص 309 و310) ولا أدري إذا كان الله يريد أن تكون هذه الكتب هداية للبشر في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، فلم لم يصُنها عن كل ما حصل لها وما وقع فيها حتى تطمئن نفوس الناس إليها وخصوصًا أهلها الذين أصبحوا أشد الناس محاربة وإنكارًا لها؛ فالحق أن الله لم يرد ذلك، وإنما جعلها درجة تحضيرية تمهيدية للقرآن المصون من التحريف والتبديل كما وعد تعالى (قر 15: 9) والباقي إلى يوم القيامة (انظر كتاب دين الله ص 82 و83) فما حفظه الناس من تلك الكتب إنما كان كافيًا لهم إلى زمن القرآن.
(2) قارن عبارة المسيح هذه بقول القرآن: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43) ونحوها كثير في القرآن، أول كتاب نص على أن نواميس الكون لا تتبدل ولا تتغير، فهي ليست خاضعة لصلاة فلان، ولا لدعاء علان، ولا لكلمة مخلوق مهما كان، حتى نفس يسوع ابن الإنسان.
(3) جاء في تلمود اليهود أن أتباع عيسى كانوا في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني يشفون المرضى باسم يسوع ويبرئون لسع الحيات بها أيضا، ويقول العهد الجديد: إنهم يُخرجون الشياطين أيضًا يخرجونها باسم سليمان وإلى الآن نرى بعض عامة المسلمين يدّعون الكرامات ويفعلونها باسم مشايخهم كالرفاعي وغيره، فيأكلون النار ويضربون أنفسهم بالسيف ويشربون السموم ويحملون الحيات باسمهم إلى غير ذلك من كراماتهم التي تشبه ما ذكر في العهد الجديد عن النصارى، ومع أن النصارى كانوا يستعملون اسم يسوع لإخراج الشياطين على زعمهم، انظر مثلاً (أع 16: 18 و19: 13 - 17) تراه هو نفسه يعترف بأنه إنما يخرجهم بروح الله (مت 12: 28) وأن كل أعماله هي باسم الله (يو 10: 25) وكان اليهود المعاصرون له لشدة جهلهم يقولون: إنه يخرجهم ببعلزبول رئيس الشياطين (مت 12: 24) لأنهم كانوا يظنون أن الأمراض التي كان عليه السلام يشفيها هي ناشئة عن الشياطين، فأمثال هذه الأوهام شائعة بين الناس الجهلة في كل زمان ومكان وخصوصًا في الأزمنة القديمة حتى صدقها بعض الخاصة كيوسيفوس المؤرخ الشهير الذي روى أنه شاهد شخصًا يسمى اليعيزر Eliezar اليهودي يخرج الشياطين بالقسم عليها باسم سليمان في حضرةالإمبراطور فسباسيان الذي توج سنة 69م Vespasian وبحضور أولاده وجيشه، وكان هذا الرجل يضع إناءً مملوءًا بالماء على بعد من المصاب ثم يأمر الشيطان بقلبه بعد خروجه من الإنسان وبذلك كان يظهر كما يقول يوسيفوس براعة سليمان وحكمته، وإلى الآن نرى بعض النساء في مصر حتى المسلمات يزرن صورة ماري جرجس وقبره في الكنيسة والنصرانيات قد يزرن بعض قبور أولياء المسلمين أيضا؛ والكل يزعمن أنهن شفين من أمراضهن وأوجاعهن وخرجت عفاريتهن.
(4) يرى بعض علماء اللغات أن كلمة (الحواريين) في القرآن هي معربة عن الحبشية ومعناها فيها (الرسل) أو (المرسلون) سماهم بذلك القرآن إما بحسب العرف الجاري في ذلك الزمن بين نصارى العرب كما نسمي الآن دعاة النصرانية (بالمبشرين) ؛ وإما لأن المسيح أرسلهم في حياته لدعوة اليهود إلى المسيحية كما في الأناجيل راجع (متى 10: 1 - 15 ولوقا 9: 1-6 و10: 1-12) وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض أصحابه إلى بعض الجهات لتعليم الناس الدين والحكم بينهم وغير ذلك، كمعاذ بن جبل الذي أرسله إلى اليمن، وكانوا يسمون أيضًا رسل رسول الله والحكمة في اختيار القرآن هذه الكلمة الحبشية دون مرادفها بالعربية هي منع الالتباس لتكون عَلَمًا خاصًّا بهؤلاء التلاميذ الممتازين من أصحاب عيسى، والظاهر من نصوص القرآن أن إيمان بعضهم على الأقل لم يكن كما يجب وخصوصًا بعد عيسى، وأن الخلاف في مسائل الدين نشأ منذ عصرهم (راجع قر 3: 53 - 54 و5: 77 و112 و117 و19: 37 و43: 65 و61: 14) فطباعهم كانت كطباع أسلافهم قوم موسى، بل قد نص المسيح نفسه على أنه لم يكن عندهم إيمان مطلقًا (مت 17: 20) وقال لبطرس أيضًا (مت 14: 31) (يا قليل الإيمان) مع أنه أعظمهم، فما بالك
بغيره؟ ! .
(5) يقال أن توما هذا سافر إلى جزائر الهند الشرقية ومات هناك (قاموس بوست مجلد اص295) ولعله كان في رحلته هذه مصاحبًا للمسيح عليه السلام في هجرته الهندية التي ذكرناها في مقالة الصلب (153 و154) وتوما هذا هو التلميذ الوحيد بحسب الأناجيل الحالية (يو 20: 25) الذي كان عارض التلاميذ في قولهم بقيامة المسيح، وله إنجيل يوناني ذكر معجزة خلق الطين طيرًا وغيرها مما ذكره القرآن، ولكن النصارى يرفضون هذا الإنجيل.
(6) حاشية: لا حظ أن هذا الكلام وما يأتي مبني على فرض صحة نسبة هذه الكتب إلى من نسبت إليهم كما فرضنا ذلك في مقالة الصلب ولكن بعض علماء النقد في أوربا يرى الآن أن جلَّ هذه الكتب أو كلها منسوب إلى هؤلاء الناس كذبًا كصاحب كتاب (مصادر النصرانية) المستر توماس ويتاكر وغيره عديدون من محققي الإفرنج.
(7) قال الأبيونيون (أي الفقراء) وجمهورهم عبرانيون وكانوا هم النصارى الحقيقيين في القرن الأول والثاني (كما قال رينان وغيره) ، قالوا: إن بولس هذا لم يكن يهوديًّا وكذبوه في هذه الدعوى التي ادعاها عند من لم يعرفه في رسائله لهم وقالوا: إنه دخل في اليهودية لكي يتزوج ببنت رئيس الكهنة واختتن فلما أبى رئيس الكهنة أن يزوجه ابنته دخل في المسيحية وادعى أنه رسول المسيح إلى النصارى، فلم يُحِب أن يرى في النصرانية أثرًا من آثار الديانة الموسوية؛ ولذلك سعى جهده في إخراج المسيحيين عن الناموس وحنق على كل من قاومه - راجع رسالته إلى أهل غلاطية - وأبطل جميع شرائع موسى وتبعته الأمم الداخلون حديثًا في المسيحية في ذلك؛ لأن ذلك كان أسهل بكثير من عبء الناموس (انظر كتاب دين الخوارق صفحة 748) وبقي تلاميذ المسيح والنصارى الأولون محافظين على تعاليم موسى وعيسى، ولذلك قال يوحنا في رؤياه (2: 2) : وقد جربت القائلين أنهم رسل وليسوا رسلاً فوجدتهم كاذبين 9 - وتجديف القائلين إنهم يهود وليسوا يهودًا بل هم مجمع الشيطان 14 إن عندك هناك قومًا متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالآبق أن يلقي معترة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا والمراد بالزنا هنا عدم مراعاة البوليسيين أحكام الشريعة الموسوية في مسائلهم الزوجية وعدم اعتدادهم بها، والظاهر أيضا أن كاتب رسالة يعقوب كان من اليهود المتنصرين أو بعبارة: أخرى كان من هؤلاء الأبيونيين، ولذلك خالف في رسالته هذه (ص2) بولس في دعواه الخلاص بالإيمان وحده (انظر مثلاً رومية ص3 و4) ، (وغلاطية 2: 16 و21 و3: 2- 29) وبين صاحب رسالة يعقوب أن العمل الصالح لا بد منه مع الإيمان (انظر 2: 14 - 26) ولم يذكر في هذه الرسالة شيء من عقائد النصرانية المعروفة، وكون هذا الكاتب من الأبيونيين الفقراء يظهر من عدة مواضع من رسالته هذه، مثل (1: 10 و11 و2: 2 - 7 و5: 1-6) والراجح أن الكنيسة لم تقبلها، كسفر الرؤيا، إلا بعد بولس بمدة، وربما كان قبولها للرغبة في ضم أصحابها إليهم.
(8) راجع (كتاب دين الله) ص 15 - 28 لتعرف الجواب عن هذا السؤال.
(9) إنجيل متى هو عند النصارى أقدم أناجيلهم الأربعة وليس فيه غير هذا الخبر عن رؤية المسيح بعد الموت كما قلنا في المتن أما إنجيل مرقس فلم يذكر فيه أي خبر عن ظهور المسيح بالفعل لتلاميذه ورؤيتهم له بعد قيامته، وما فيه من ذلك (16: 9-20) إنما هو - كما قلنا باعتراف علمائهم الآن -زيادة ألحقها به رجل مجهول في بعض القرون الأولى، فهي لا قيمة لها بالمرة من الوجهة
التاريخية، ومن زاد هذه لا يبعد عليه أن يزيد غيرها في الأناجيل الأخرى كعبارة متى المتقدمة، وأما إنجيل لوقا ويوحنا فهما متأخران وما فيهما في هذه المسألة إنما هي أقاصيص راجت بين النصارى في القرون الأولى، وهي لا شك مختلقة بدليل أنها لو كانت موجودة في زمن الكاتب للإنجيل الأول أو الثاني لما تركاها بالمرة مع أنها في غاية الأهمية عند النصارى، بل لا يوجد عندهم أهم ولا أعظم منها لإثبات دعواهم قيامة المسيح من الموت على ما فيها من التناقض والتضارب الذي بيناه مرارًا ونحن وغيرنا من علماء الإفرنج المحققين، فليس عندنا إذًا سوى رواية واحدة قديمة تستحق أن ينظر فيها بشيء من العناية، وهي رواية إنجيل متى، فنقول: إن كانت هذه الرواية ليست مما أضافوه إلى الأناجيل وصادقة، فالذي يُفهم منها أن ظهور المسيح لم يكن جليًّا ولا واضحًا، ولذلك لم تقتنع به نفس تلاميذه، فيجوز أن الذي رأوه كان برقًا أو خيالاً في الأفق كالذي ينشأ مثلاً عن انكسار أشعة النور في تلك الجبال لم يسهل عليهم الوصول إلى مكانه، وكان الرجل قد غاب عن أعينهم فلم يعثروا عليه، ولذا لم يتحققوا إن كان هو المسيح أو غيره، ولذلك أظهر بعضهم شكه فيه، ومن العجيب أن متى مع ذكره ذلك وحده لم يبين لنا صريحًا إن كان التلاميذ الشاكون زال عنهم هذا الشك حينما قرب منهم - كما قال - الشخص الذي نظروه على بعد أم بقوا شاكين بعد ذلك طول حياتهم مُصرين على عدم التصديق؟ وما كان موقفه بالنسبة إليهم، وهل كان واقفًا على الأرض أم معلقًا في الهواء؟ وهل أمْره لهم بتعميد جميع الأمم (28: 19) سمعه جميع الحاضرين أم بعضهم فقط؟ وهل تكلموا معه في غير هذه المسألة؟ وماذا كان موضوع كلامهم الآخر؟ وهل كان صوته عين صوت المسيح الذي يعرفونه وألفاظه مفهومة أو مبهمة؟ وهل سجد الشاكون معهم أم لا؟ إلى غير ذلك من المسائل التي كان يجب على الكاتب تفصيلها حتى لا تبقى النفوس متعطشة للوقوف على الحقيقة، شاكة حائرة في أعظم عقائد دينهم؛ فالظاهر أن الكاتب تجنب مثل هذه التفاصيل لأنه كان قريب العهد بتابعي الحواريين، وربما أنه خاف أن يكذبه أحد، فهو لم يكن عنده من المهارة والجراءة والمعرفة بطباع الناس ما عند غيره وأما الأناجيل الأخرى فلم تخشَ أحدًا؛ لأن زمنها أبعد عن الوقت الذي قيل أن هذه الحوادث حدثت فيه، ولمعرفة كاتبيها بطباع أهل زمنهم أكثر من غيرهم، فقالت ما قالت، فيُرى من ذلك أن أقدم رواية عندهم يحوم حولها شيء كثير من الشك، هذا إذا سلم أنها صحيحة صادقة، وأما إذا كانت مخترعة فقول الكاتب فيها (مت 28: 17) (ولكن بعضهم شكوا) ، يريد به - كعادة المزورين الخادعين - أن يُظهر للناس أنه فيما قصّه عليهم خالٍ من كل غرض ويقول الحق ولو على نفسه، فهي طريقة من طرق حسن السبك معتادة بين القصاصين الأفاكين لإحكام تلفيقهم؛ وإن كان كاتبنا هذا قد فاتته بعض أشياء لازمة لإتمام حسن السبك لبساطته وجهله، وأيضًا فإنه يريد أن يُظهر أن التلاميذ لم يكونوا سريعي التصديق ولا ميالين لاعتقاد هذه المسائل بسهولة، بل كانوا مدققين نقادين حتى لم يبالوا بالشك في هذه المسألة، ولا بإظهار شكهم لإخوانهم الذين يريد الكاتب أن يصورهم بأنهم كانوا أحرار سُمحاء في معتقدهم يتحملون خصومهم بكل أناة وعقل ويقنعونهم بالحسنى والدليل، فمن اقتنع منهم بشيء فهو لم يقتنع به - كما يريد الكاتب أن يقول - إلا بعد التثبت والتحقق منه بالبحث والفحص، فهذه القصة هي كقصة شك توما واقتناعه بعد ذلك المذكورة في إنجيل يوحنا (20: 24 - 29) فإن المراد بهما في الحقيقة المغالاة في بيان تدقيق التلاميذ بطريقة خفية وحيلة تافهة معتادة لا تدخل على البسطاء المغفلين، ولذلك ترى المبشرين الآن وفي كل زمان يتخذون مثل هذه العبارة دليلاً على أن كتبة الأناجيل كانوا مؤرخين صادقين لأنهم ذكروا هذه المسائل التي تدل على شك الحواريين وهي، - كما يتوهم هؤلاء الناس أو يزعمون -، لا تصدر إلا من المجردين عن الأغراض والأهواء الصادقين من المؤرخين. ... ...
(10) كان أقدم فرق النصارى يعتقدون أن المراد بالبارقليط شخص يظهر بعد عيسى لا روح القدس، (الأقنوم الإلهي عندهم) ومن هذه الفرق القائلة بذلك الغنوسيون Gnostics ومنهم الماركيونيون أتباع ماركيون Marcion من أهل القرن الثاني الذين ادعى بعضهم أن المراد بالبارقليط (بولس) راجع كتاب مصادر النصرانية لتوماس ويتاكر صفحة 144. وفي نحو سنة 156 ميلادية ادعى منتانوس Montanue النبوة في فريجية Phrygia قسم من آسيا الصغرى، وقال أنه هو البارقليط وصدقه في ذلك أناس كثيرون من النصارى وغيرهم إلى القرن الرابع، وفي أيام (ماني) Mani كان النصارى ينتظرون مجيء البارقليط، فلذا ادعى هذا الرجل أنه هو، وكان ذلك في سنة 275 - 276 راجع قاموس تشمبرس Chambers وكتاب (المسحاء الوثنيين) لروبرتسن Robertson صفحة 268 و274 وكتاب (ملخص تاريخ الدين) مجلد 3 ص 236 وقد بين صاحب كتاب (إظهار الحق) أيضا أن النصارى كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون تحقق بشارة عيسى هذه بنبي يظهر بعده، فدعوى النصارى الآن أن المراد بها روح القدس وأنها منذ القدم فهمها الناس بهذا المعنى - هي دعوى كاذبة، وإنما اتفق عليها النصارى بعد محمد صلى الله عليه وسلم الذي تحققت ببعثته هذه النبوة فرارًا من الإيمان به عنادًا وحسدًا (راجع أيضا كتاب دين الله ص118 - 120) ويؤيد ذلك أيضًا أن إنجيل يوحنا صرح أن أهل الكتاب كانوا في زمن عيسى عليه السلام منتظرين ثلاثة أشخاص لا بد من مجيئهم - بحسب الكتب المقدسة - قبل يوم القيامة، وهم إيليا والمسيح والنبي (انظر يو 1: 19 - 26 و7: 40 و41) وصريح عبارات يوحنا المشار إليها هنا أنهم كانوا لا يفهمون من كتبهم أن المسيح غير النبي كما هو ظاهر لمن راجعها، فدعواهم الآن أن المسيح الذي كانوا ينتظرونه هو هو عين النبي، دعوى مردودة بنصوص كتبهم وبالتاريخ أيضًا كما بيناه هنا؛ والظاهر أنهم اتفقوا عليها بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم كما قلنا، فالنبي المبشر به في العهد القديم، انظر مثلا (تت 18: 15 - 22) هو هو البارقليط في العهد الجديد الذي بشر به عيسى، ولا بد من ظهوره بعده، وقد كان ذلك ولله الحمد، فظهر محمد مصدقًا لما عندهم عنه من التوراة والإنجيل، راجع أيضا فصل (البشائر) في كتابنا (دين الله) .
(11) مسألة الرؤية هذه تشبه من بعض الوجوه رؤيا النبي (ص) عند المسلمين في المنام، فإنهم أيضا يقولون: إنه لا يظهر إلا للمؤمنين الصالحين، وقد خيل لبعض متصوفيهم أنه رآه وكلمة يقظة أيضًا.
(12) إذا كان بولس صادقًا في حكاية هذه التخيلات وما ماثلها، فالأرجح أن السبب في حصولها له هو كونه عصبي المزاج كثير التفكير والإجهاد لقواه العقلية والجسمية، مع أنه كان مصابًا بداء الصرع، كما يُفهم من عبارته عن نفسه الواردة في (2 كو 12: 7-9) وأمثال هذه التخيلات معتادة عند أهل الصرع وغيرهم من ذوي الأمراض العصبية، ومن أشهر مشاهير رجال العالم العظام - كنابوليون بونابرت ويوليوس قيصر - من كان مصابًا بالصرع مثله، فإن ذلك لا ينافي كونه عاقلاً ذكيًّا مدبرًا.
(13) لذلك ذكر رؤيتهم للمسيح في أول رسالة - كتبها كما يقولون - بعد رسالته إلى أهل
تسالونيكي، قال: هذه الرسالة التي لأهل كورنثوس كتبها سنة 57 م حينما بلغه أن بعض الناس أنكروا رسالته، وقالوا: إن تعاليمه تغاير تعاليم بطرس وغيره من التلاميذ، فذكرهم جميعًا فيها تملقًا لهم لئلا يخرجوا عليه ويكذبوه ويؤيدوا كلام الناس فيه، وقد دارى في رسالته هذه أيضًا أيلوس اليهودي السكندري البليغ الذي كان مزاحمًا له (راجع 1 كو 3: 6-9 و16: 12 وأعمال 18: 24 - 28) وأما رسالته إلى أهل غلاطية التي احتد فيها على التلاميذ - كما بينا - فكتبها بعد ذلك سنة 58 م على ما يزعمون ثم عاش بولس بعدها نحو عشر سنين؛ لأنه مات سنة 68 وكان وقتئذ قد طار صيته بينهم حتى ملأ ذكره الآفاق لدهائه وسياسته وعلمه ونشاطه أكثر من سائر رفقائه.
(14) حاشية: لو جارينا النصارى في طريقتهم لإثبات قدم كتبهم، لقلنا: إن عبارة جلوس التلاميذ على اثني عشر كرسيًّا الواردة في إنجيل متى تدل على أن هذا الإنجيل كتب قبل حادثة الصلب وقبل تسليم يهوذا - وهو أحد الاثني عشر - للمسيح وإلا إذا كان هذا الإنجيل كتب بعد ارتداد يهوذا لما ذكر كاتبه فيه إلا أحد عشر كرسيًّا تفاديًا من نسبة الخطأ إلى المسيح، فلا أدري لِمَ لم يقولوا بذلك وقد كانوا يجدون لهم أنصارًا كثيرين، فهذا مَثَل من أمثلة براهينهم على قِدم كتبهم! فإن قيل: لعل الكاتب أخذ هذه العبارة عن بعض مكتوبات قديمة كتبت قبل حادثة الصلب ولم يصلحها لعدم التفاته، أو لأنها تقبل التأويل حيث قد انتخب متياس بدل يهوذا (أع 1: 26) قلت: كذلك نحن نقول في بعض عبارات كتبهم التي تدل على القدم، فإن مؤلفي الأناجيل أخذوها أحيانًا كما هي عمن قبلهم لعدم التفاتهم أو لأنها تقبل التأويل ولو مع التكلف الزائد كما فعل النصارى فيها بعد ذلك، وأحيانا حوروها لتكون أقرب للتأويل مما كانت أو حرفوها، مثال ما فيها مما أولوه قول متى عن لسان المسيح ... (24: 34) : (الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله) فإذا صح أن الجيل قد يراد به في لغتهم الصنف من الناس كالأمة اليهودية كلها، فالكاتب إنما استعمله بهذا المعنى، وعليه فهو لا يدل على قِدم الإنجيل، وإذا كان هذا اللفظ لا يراد به إلا الطبقة الموجودة في زمن ما؛ كان هذا القول دليلاً على أن هذا الإنجيل كُتب قبل انقراض جميع معاصري المسيح وحينئذ يكون عيسى نفسه مخطئًا في هذه العبارة، فهي إما أن تكون صحيحة والإنجيل ليس بقديم، وإما أن يكون الإنجيل قديمًا وعيسى مخطئًا، فأيّ الوجهين يختارون؟ وأما القول بأنها صحيحة وأنها تدل على قِدم الإنجيل فهذا مما لا أفهمه، والحق أنه لولا عدم التفات أولئك الكتبة لِما وُجد في كتبهم ما وُجد فيها من التناقض والغلطات التي لا تحتاج لكبير تأمل أو تفكر؛ ولذا كان منهم من ناقض نفسه بنفسه في الكتاب الواحد بل في العبارة الواحدة، راجع صفحة 48.
(15) إن كان هؤلاء الناس معصومين من الخطايا فكيف راءى بطرس اليهود في أنطاكية حتى قال عنه بولس: (إنه كان ملومًا أو مدانًا وإنه هو ومن معه لا يسلكون باستقامته حسب حق الإنجيل) (غل 2: 11-14) وكيف أنكر المسيحَ وقت أخذه للصلب وأقسم أنه لا يعرفه (مر 14: 71) وإن كانوا غير معصومين فكيف إذًا يغفرون للناس ذنوبهم وهم، فوق ما تقدم، عديمو الإيمان كما قال لهم المسيح (مت 17: 20) أليس اليهود أفضل منهم؛ لأنهم امتنعوا عن إدانة الزانية، حينما ذكّرهم المسيح بخطاياهم، وبكتتهم ضمائرهم (يو 8: 7-11) وأما هؤلاء فيدينون الناس (أع 13: 11) ويمسكون خطاياهم (يو 20: 23) وهم أنفسهم مدينون فلمَ ذلك؟ وما حكمته؟ وهل هو مما تسعه عقول النصارى أيضًا كما وسعت التثليث وغيره؟ وهل لا يزال البروتستنت منهم ينكرون أن مسألة الاعتراف وبيع أوراق الغفران Indulgences والقطع من الكنيسة والسلطة الباباوية وغير ذلك مما تسببت عنه مفاسد عديدة يعرفونها بين جميع النصارى منذ القدم - إنما نشأت كلها من عبارات كتبهم هذه التي - في الحقيقة - ما وضعها الآباء فيها إلا ليبنوا عليها سلطتهم بدعواهم أنهم خلفاء المسيح ورسله ونوابه فيكون لهم من السلطة والحقوق ما لأولئك سواء بسواء، وإذا كان للتلاميذ حق التصرف في ملكوت السموات، فكيف أصبح البروتستنت ينكرون على الرؤساء الروحانيين وهم خلفاء التلاميذ طبعًا حق التصرف في هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، وهو الحق الذي يدعونه دائمًا لتبقى الناس في أيديهم كالأنعام كما كانوا منذ القرن الأول؟ أليس إنكارهم هذا أثرًا من آثار العقائد الإسلامية التي وصلت إلى مُصلحيهم من حيث لا يشعرون، أم هم يكابرون؟ وقد جاء بها النبي الأمي في أزمنة الجاهلية والعالم كله في الضلال المبين.
(16) أي عقل أصغر! وأي إدراك أقصر! وأي علم أقل! وأي عقيدة أسخف! وأي وهم أكبر! وأي غرور أعظم، ممن يعتقد مثل هذه العقائد؟ فإن الأرض ومن عليها ليست إلا ذرة من ذرات هذا الكون الواسع الكبير العظيم كما أثبته علم الفلك الحديث، قارن عبارات كتبهم هذه بقول القرآن الشريف: (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) (آل عمران: 135) وقوله: (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (غافر: 57) وقوله: (َوفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء: 70) فالبشر ليسوا أفضل من جميع مخلوقات الله تعالى كما كان يتوهم أولئك الواهمون المفتونون المغرورون، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام: 91) سبحانه وتعالى عما يتوهمون ويصفون ويشركون، هو الكبير المتعال، ليس لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدًا، لا إله إلا هو الواحد القهار، رب السموات والأرض رب العرش العظيم، فله وحده الحمد والشكر أن طهر عقولنا بعقائد الإسلام، من تلك الأوهام، ورفع نفوسنا بالتوحيد، حتى لا نمتهنها بالذل والجبن والعبادة لأمثالنا من العبيد.
(17) هذا الكلام كله مبني على تسليم قصة الصلب كما هي في كتبهم.
(18) كما تغالى بعض اليهود كيوسيفوس وقالوا: إن موسى لم يمت وأنه اختفى عن قومه ولا يزال حيًّا، وكما تغالى النصارى في مريم وقالوا: إنها رفعت بعد الموت إلى السماء بروحها وجسدها ولهم عيد (يوم 15 أغسطس) يحتفلون فيه بذكرى رفعها! ! وكان الوثنيون يقولون برفع بعض آلهتهم إلى السماء (انظر مثلاً كتاب النصرانية والأساطير، لمؤلفه روبرتسن ص 384) ويقول
اليهود، برفع بعض الأنبياء إليها أيضا (راجع عب 11: 5 و 2 مل 2: 11) .(16/353)
الكاتب: سائح ناصح
__________
دعاة النصرانية
في البحرين وبلاد العرب
سيدي العلامة المشتهر منشئ المنار الأزهر، أيد الله بك الشرع الأغر،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فلم أنس لا أنسى تلاوة أعداد مجلتك المحترمة وما حَوتْْْْه من منشورات
نصارى البروتستان في الغارة على العالم الإسلامي ودسائسهم في إضلال ضعفاء
المسلمين وتهديدهم حياة الأديان - حتى الإسلام - بقواهم ومعداتهم المدهشة وما
كان يشيعه زويمر عن مسلمي البحرين من تأثير عملياته فيهم.
أقرأ تلك المنشورات وأناملي ترتعش وفرائصي ترتعد، ونيران الأحزان
تلتهب في أحشائي وتتقد.. . حتى إني سئمت العيش آنئذ وعفت الأهلين والوطن
وخرجت بوجهي كهائم في فلاة حتى بلغت مجمع البحرين لكي أطلع على حقيقة
الأمر وأتحقق صحة ما أشاعه دعاة البروتستان عن تلك القادة الإسلامية المحضة
فأتدارك الخطب بعدئذ عن بصيرة.
فحللت بلاد البحرين في أول يوم من هذه السنة والتقيت بأميرها وقاضيها
وبالعلماء والأعيان من أهليها. وفتشت عن زويمر فأخبروني بسفره إلى البلاد
المصرية، واتفق نزولي في دار قريبة من مستشفى البروتستان ومن مدرستهم
وبيوتهم، فأرسلت إلى بعض خدمهم من مسلمي الجزيرة، وأخذت منه بعض
المعلومات الضرورية، وظفرت بتصاوير إدارتهم الكائنة في البحرين وفي مسقط
والكويت والبصرة.
إن الخطر مما لا يُستصغر، ولكن مما يهوِّن الخطب أن أكثر ما يشيعونه من
نجاح مسعاهم في هذه البلاد مبالغات أو مفتريات يقصدون من نشرها إغراء
جمعياتهم الكبرى وتشويقها حتى تبذل لهم الأموال الجسيمة.
وها أنا ذا ذاكر لسيادتك بعض ما كشفته عن أمر هؤلاء، وسوف أذكر في
حضرتك البقية بالمشافهة، إن شاء الله تعالى.
أما الدعاة المنتشرة في البحرين فلا يبلغ عددهم العشرين رجالاً ونساء
وأكثرهم لا يحسنون العربية ولا يعرفون شيئا من العلوم الدينية، وهذا بعض ما
يدل على أن هؤلاء يغشون جمعياتهم الكبرى التي تنفق عليهم الأموال الطائلة
لظهور عجزهم وقصورهم في أداء وظيفتهم، فتذهب بهم أموال الجمعية هواء في
شبك.
وقد لقيني معلمهم بعض الأيام وسألني عن قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) إلخ الآية. فقال: إن
المستفاد من الآية هو علم الملائكة بالغيب بل بما لم يعلمه الله تعالى. قلت: يا
سبحان الله كيف تستفيد ذلك من الآية مع تصريح الملائكة في هذا السياق بقولهم:
{لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: 32) وتصريح الباري عز شأنه بقوله:
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ثم إن الملائكة لم تعترض على الله في
خلق آدم وإنما استفهموا منه تعالى عن جواز صيرورة الظالم المفسد - في رأيهم -
خليفة، فقالوا بعد قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) :
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: 30) إلخ ولم يقولوا: أتخلق
فيها من يفسد.
ومتى كان هذا القول من الملائكة استفهامًا وسؤالاً عن جواز استخلاف الله
تعالى ظالمًا، ولم يكن ذلك منهم اعتراضًا عليه - دل ذلك على عدم علم الملائكة
الغيب، وعلى سعة علم الله تعالى دون العكس كما توهمت.
وتكلمت معهم يومًا في مكتبتهم في مسألة إشباع المسيح عليه السلام خمسة
آلاف نفس بخمسة أرغفة المذكورة في إنجيل متى وغيره، وبرهنت لهم بالأدلة
الواضحة منافاة هذه القضية لحكم العقل والعلم، فاعترفوا بمناقضتها لحكم العقل،
لكنهم اعتذروا بأن الدين لا يضره مناقضة العقل. فبينت لهم في مقالة ضافية الذيل
وجوب معاضدة العقل للدين ومصادقتهما، ويستحيل بدون ذلك إيمان إنسان إيمانًا
صادقًا وذكرت لهم موافقة الدين الإسلامي للأحكام العقلية وتصريح بعض علماء
الإسلام بقضية (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، وكذلك العكس) .
ولدعاة البروتستان في البحرين مدرسة صغيرة مركبة من حجرتين يجلس
الأطفال في التحتانية منهما ويجمع الكبار للصلاة في الفوقانية، ولا يبلغ تلاميذها
عدد الأصابع، وما فيها من المسلمين غير صبيين عربي وفارسي يتعلمان فيها
الإنكليزية، ورأيتهما يستهزآن بصلاة هؤلاء ويقول أحدهما للآخر: كيف يقبل الله
تعالى صلاة يغنون فيها بأدوات اللهو، ويقضون باسم الصلاة شهوات أنفسهم؟
وأما تاريخ زويمر، فالمشهور بين أهالي البحرين أنه في أول مجيئه قبل بضع
عشرة سنة صادف خشونة من الناس فهاجر إلى بلاد الحسا ليستقر فيها فوجد في
أهليها ذكاء وتنبهًا وأن البلاد العثمانية لا يسود فيها حكم لقونسل إنكليزي حتى
يستظهر مثله بكل ما ستسمع، فرجع إلى البحرين بخفي حنين، واستعذب ما يراه
من المهانة، وكان يلقب نفسه ضيف الله، والأهالي يدْعونه ضيف إبليس! كذا ذكر
الناس، وكان قد فتح في مبدأ أمره حانوتًا في السوق لبيع الكتب المختلفة ثم
تخصص بالتدريج لبيع الكتب المسيحية وبعد أعوام عزم على شراء أرض هناك،
فامتنع الحاكم أن يبيعه مع أنه اشترط على نفسه أن لا يضع فيها ناقوسًا ولا غيره
من آثار النصرانية، ولا يدعو فيها إلى دينه، لكن زويمر توسل بقونسلية الإنكليز في
بوشهر والبحرين فألحت القونسلية على الحاكم وأخذت منه قدرًا واسعًا من الأرض
لزويمر بثمن أربعة آلاف روبية تقريبًا وأسسوا فيه مدرسة ومستشفى صغيرًا لنشر
دعوة الإنجيل بتمام حريته، أفلا يدل هذا وأمثاله على تورية في لهجة أوربا وادعاء
اجتناب ساستها الأمور الروحية وتجنب ديانتها الأمور السياسية؟
ولم يظهر خلال هذه الأعوام نجاح لزويمر إلا في أمور أربع، الأول: زيادة
راتبه ومعاشه إلى 150 ربية في الشهر غير ما يتبرع عليه بعض أحبائه
الأمريكانيين.
الثاني: تكثير عدد الدعاة في بلاد البحرين من رجال ونساء أمريكيات
يتطلبون بمسعاهم الارتزاق.
الثالث: استخدامهم لفقراء المسلمين في إدارتهم ثم يأخذون صورهم
ويرسلونها إلى بلاد أخرى يشيعون عنهم أنهم تنصروا، والصحيح أنهم (تبصروا)
في دسائس مخالفيهم، ولقد شاهدت في مستخدميهم الغيرة الإسلامية والشكوى مما هم
فيه حيث إن الفقر ألجأهم إلى خدمة عباد المسيح.
الرابع: توزيعهم نسخ الأناجيل بين المسلمين، ولشد ما أخطأوا في هذا الأمر
وسيندمون حين لا ينفعهم الندم؛ لأن أبناء القرآن إذ اطلعوا على آيات الإنجيل سقط
موقعها من أعينهم. وقد اتسع نطاق فحصي في ذلك فلم أجد مسلمًا يسمع الإنجيل
إلا ويتكلم عليه.
ولقد قال لي بعض البحرانيين: إنني كنت أعتقد قبل أن أرى الإنجيل أنه
كتاب إلهي ولكن يد التحريف مست بعض آياته، وبعد ما وصلتني منه نسخة سقط
من عيني حتى كدت أن أنكر نسبة شيء منه إلى الباري.
ولقيت الشاب الغيور يوسف كانون، أحد أجلاء البحرين، وممن يتحبب إليهم
زويمر وقد أتحفه بنسخة من العهدين، فقال: وقد أعانتني قراءتهما على محاجة
زويمر معي في كثرة أزواج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فقلت: إنها لا تنافي
رسالته من الله تعالى، وهذا سفر صموئيل من التوراة ينطق بأن سليمان النبي عليه
السلام تزوج بمائة من النساء وأن داود عليه السلام تزوج بغير زوجته على وجه
غير وجيه، إلى آخر ما قال.
وكان شبان العرب يذكرون لي ما سنح في خواطرهم من الاعتراضات على
الأناجيل، وجاء بعضهم يومًا بنُسَخ من الإنجيل الموزع عليهم قد كتبوا على
هوامشها اعتراضات جمة. ولقد نهيتهم عن إحراقها إذ بلغني أن أكثر جهالهم
يأخذون نسخ العهود الموزعة عليهم ويحرقونها. أو يلقونها في البحر. ويبيعون
أغلفتها ويستعملون الأوراق لصنعة الكرتون أو سائر حوائجهم.
وبالجملة: إن نشر هؤلاء تلك الكتب بالمجان وشبهه تلقي خسارات باهظة
على كاهل جمعياتهم من دون فائدة، بل المرجح أن ذلك يعود عليهم بمضرة كبيرة
يصعب عليهم ملافاة أخطارها في المستقبل. وهي توجه أفكار المسلمين إلى إشاعة
ما في الأناجيل وإنكاره تمامًا، فهم - ما لم يقرؤوا الأناجيل - مذعنون حسبما
يظهر من قرآنهم المقدس (أن العهود كتب إلهية مسَّت يد التحريف بعضًا من آياتها)
ومتى اطلعوا على خوافيها نفروا من جميع ما فيها، وعرفوا مواضع الطعن منها.
أقول هذا ولا أظن المسيحي يعترف لي أو يصدقني لما ملأ قلبه من الشغف
بالإنجيل، ويزعم أن الناس كلهم يرون إنجيله مثلما يراه، كلا، ومن أنذر فقد
أعذر.
أخذ الإفرنج منذ سنين يوزعون الأسلحة النارية في بلاد العرب بالمجان
بعضًا وبأزهد الأثمان أخرى، يقصدون من ذلك إلقاء الفتن والقلاقل الداخلية فيقع
بأس المسلمين بينهم، ويمزق الإسلام أيدي أبنائه، ولقد تأكد ظنهم من فتنة اليمن
وما أشبه فخسروا في توزيع الأسلحة ثروة عظيمة.
ولما ظهرت صيحة طرابلس ونهض العرب كأسود ضارية يستعملون تلك
الأسلحة والسهام في نحور أعداء الإسلام - خابت ظنون الإفرنج وانتقضت سياستهم
فطفقوا الآن في مواني جزيرة العرب يشترون منهم بأثمان غالية تلك الأسلحة التي
فرقوها بينهم بأبخس الأثمان، فتضاعفت خسارتهم مرة أخرى {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (النازعات: 12) .
وها أنا ذا أنذرهم - ولا يغني الإنذار - وأحذرهم من نشر كتبهم في
المسلمين؛ لأنهم في هذه الفكرة كالباحث عن حتفه بظلفه، يبصرونهم بمواضع
الطعن ويمكنونهم منها، ولسوف تراهم يشترون بأغلى القيم جميع الأناجيل التي
فرقوها فيهم بالمجان أو بقيمة زهيدة ويسعون في جمعها بكل وسيلة وحيلة، وتكون
خساراتها في حال جمعها أكثر من خساراتهم حال تفريقها، وتكون عاقبة أمرهم في
نشر أسلحتهم الدينية كأمرهم وخطأهم في نشر أسلحتهم النارية، ومن أنذر فقد أعذر.
... من (بطون الفلوات) ... ... ... ... سائح ناصح
(المنار)
إن هؤلاء القوم لا يبالون بزيادة نفور بعض من يرى كتبهم من دينهم ويكتفون
ممن يأخذون هذه الكتب بالأنس بهم واعتياد البحث عنهم والتشوف إلى سائر ما
ينشرونه ولو بقصد الاختبار والسخرية، وحينئذ يفتح لهم باب التشكيك في الإسلام
بنشر الكتب التي تطعن فيه، ولا يذكر فيها شيء من كتبهم، ومتى شك المسلم في
القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كفر وبطلت ثقته بالإسلام، وهذا عند
الدول أول درجات الفتح السلمي بواسطة دعاة النصرانية. فالأولى للمسلمين أن لا
يأخذوا شيئًا من كتبهم ألبتة إلا من كان متصديًا للدفاع عن الإسلام والتفرقة بين
الحق والباطل، ومن أخذ منها شيئًا فلا كفارة لأخذه مثل إحراقه بالنار قبل أن يهوي
به إلى النار، وقد أخطأ السائح الفاضل بنهي الناس عن إحراق تلك الكتب التي
تثير الفتنة وتمزق شمل الأمة وتكون وسيلة للشك في الدين ولإزالة ملك
المسلمين.
وكما ينبغي إحراق تلك الكتب الضارة ينبغي أيضًا نشر الكتب التي تبين
حقيقة هذه النصرانية التي يدعوننا إليها؛ ليعلم المسلمون أنها أبعد الأديان عن دين
المسيح الصحيح، وعن دين بولس الذي ألفه باسم المسيح وأودعه هذه الكتب التي
يسمونها العهد الجديد. وليعلم أهل الصلاح والتقوى والغيرة الدينية من أهل
البحرين والكويت وسائر بلاد الخليج الفارسي وعمان والعراق أن نشر الكتب التي
تشكك الناس في القرآن والإسلام، ستزداد عامًا بعد عام، فعليهم أن يؤلفوا جمعية
للدفاع عن دينهم، يكون أول عملها مجاهدة هؤلاء الدعاة المبشرين بمثل ما
يجاهدون المسلمين به، بأن يكون أول عملها توزيع الكتب التي تبين حقيقة
النصرانية الحاضرة مجانًا في كل مكان وصلت إليه فتنة هؤلاء الدعاة، وأهمها هذه
الرسائل الجديدة التي ننشرها نحن وكتاب (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية)
فهذه أنفع من كتاب الجواب الصحيح وكتاب إظهار الحق وأمثالها من المطولات التي
لا يفهمها حق الفهم إلا العلماء.
وليتذكر الشيخ مقبل الذكير والشيخ قاسم بن ثاني أن الأجر في نشر هذه الكتب
والرسائل صار في مثل تلك البلاد أفضل من طبع كتب الفقه والفتاوى والرد على
المبتدعة المتقدمين الذين انقرضت مذاهبهم وماتت بدعهم؛ لأن هذا يتعلق بحفظ
أصل العقيدة وكنه الإسلام. ثم يجب على الجمعية أن تغني المسلمين عن مدارس
دعاة النصرانية وتمنعهم من الدخول فيها بكل الوسائل الممكنة، وإلا ندموا حيث لا
ينفعهم الندم، ومن أنذر فقد أعذر، والسلام.
__________(16/379)
الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي
__________
جمعية خدام الكعبة [*]
إن الاتحاديين أضروا بالإسلام والمسلمين أكثر من إضرار الأعداء الحقيقيين،
فقد مزقوا الدولة وأذلوا العثمانيين والمسلمين معًا وفرقوا الكلمة ولعبوا
بالأمة وضيعوا من ممالك الدولة الإسلامية في خمس سنين ما لم يضيع مثله
عبد الحميد وأعوانه في أكثر من ربع قرن، وقد نفروا من هذه الدولة - المصابة
من أيدي أبنائها بأكثر مما أصابها الأغيار- قلوب العالم الإسلامي، وإذا كان
العدو العاقل خيرًا من الصديق الجاهل، فما بالك بهذا الصديق الجاهل إذا كان
زنديقًا ملحدًا لا يعتقد بالله ولا يؤمن بما به تؤمن، ولا يصدق ويوقن بما تصدق به
وتوقن اللهم إلا دعوى لسانية تخالفها الأفكار والأعمال، وتباينها السيرة والحال
وهو مع ذلك قد تطور بأطوار لا تلائم الجنس الذي يدعي الانتساب إليه، وتشكل
بأشكال صارت وبالاً على جنسه وعليه.
لئن كنا نؤاخذ الاتحاديين على السيئات التي اجترحوها، والجرائم التي
ارتكبوها، والأضرار التي جلبوها على الدين والأمة والدولة، وعلى العثمانيين
عامة وعلى أنفسهم خاصة فإنما ذلك لكونهم إخواننا، نحب لهم ما نحب لأنفسنا،
ولا نود لهم الزيغ والضلال ولا نريد لهم الخراب والدمار، ولا نرضى لهم بالذل
والصغار، ونغار عليهم أضعاف غيرتهم على أنفسهم.
ولئن كنا في أسف وحزن وغم على ما أصاب إخواننا الأتراك من أيدي
الاتحاديين الأغرار، وأذنابهم المفسدين الأشرار، وعلى عمل هؤلاء الاتحاديين
بأنفسهم وشعبهم، والجاهل يعمل بنفسه ما لا يعمله العدو به فإنا نشكر من جهة
أخرى لهؤلاء الأغرار أعمالهم الخبيثة وأفعالهم السافلة؛ لأنها نبهت المسلمين إلى
وجوب ترك الاتكال على الغير وإلى السعي والعمل لملتهم وأمتهم وحماية دينهم
والنظر في أمورهم وإصلاح ذات بينهم وترقية أنفسهم، وإن كان ذلك قد جاء بعد
خراب البصرة.
فقد قعدت هذه الملايين العديدة من المسلمين عن العمل من قبل اتكالاً على هذه
الدولة التي يفتخر سلطانها - ويحق له الفخر- بخدمة الحرمين الشريفين: كعبة
المسلمين قاطبة وروضة نبيهم أجمعين، والذي يحترمه المسلمون كل الاحترام
ويغارون عليه أشد الغيرة، ويفدونه بالأرواح والأنفس والأموال بسبب الاتسام بسمة
هذه الخدمة الشريفة، وتوهم أنها هي التي ترفع شأن الإسلام وتحفظ سلطته والحكم
بشريعته، وتحمي أهله وتعزهم وتنهض بهم وترفع رءوسهم، وتفك أغلال
الاستعباد عن المستعبدين، وتذيقهم نعمة الحرية الكاملة التي يتنعم بها بقية العالمين.
ولما ظهر لهم الآن الصواب من الخطأ، وتبين الرشد من الغي، وأزال
الاتحاديون بأيديهم الأثيمة سجوف الشكوك والأوهام، وتجلت حقيقة هذه الدولة
المنكودة للخاص والعام من هذه الملايين المتواكلة - انتبهوا لحالهم - ورجعوا إلى
أنفسهم وثابت إليهم عقولُهم وندموا على انخداعهم كل هذه المدة، ولات ساعة
مندم، فهبوا من نومهم طائشين مدهوشين يتشبثون كالغرقى بكل ما تصل إليه أيديهم،
وينظرون إلى مستقبلهم ومستقبل دينهم وأمتهم ومآل كعبتهم وقبر نبيهم بعيون
ملؤها الخوف والفزع، وقلوب تحيط بها جيوش الاضطراب والهلع، ولا يدرون
أين يسيرون وماذا يفعلون وأي شيء من الأعمال يقدمون.
ولأذكر لكم مثالاً واحدًا من أمثلة رجوع المسلمين إلى أنفسهم، وخلعهم نير
الاتكال على غيرهم عن عاتقهم، ويأسهم من الدولة العثمانية والحكومة الإسلامية
القائمة بها الأمة التركية. وهذا الرجوع والخلع وإن جاءا متأخرين عن وقتهما كثيرًا
وربما لا تثمر المساعي اليوم ولا ينفع العمل - فإن فيهما بشارة عظيمة لأن اعتماد
المسلمين على أنفسهم بعد اتكالهم على الله، واهتمامهم بشئونهم وأمورهم، والسعي
والعمل لملتهم وأمتهم وتوجه أفكارهم وأنظارهم نحو حماية الإسلام ورفعة شأنه،
وصيانة الشرع الشريف من العبث به لا بد أن ينفعهم إما عاجلاً أو آجلاً، وأن
يحفظ لهم البقية الباقية، إن لم يُعد لهم ما كان لهم في الأيام الخالية، وكل من سار
على الدرب وصل، والقنوط ليس من شأن المسلمين الصادقين، كيف وقد أخبرهم
ربهم بأن العاقبة للمتقين، وأن الله ولي المؤمنين؟
تألفت في لكهنؤ من بلاد الهند جمعية نافعة جدًّا ولكنها لا تزال في طور
التكوين اسمها مجلس أو أنجمن (خدام الكعبة) وقد نشر نظامها وبروجرامها بعد بيان
مقاصدها وأغراضها، وكل ذلك بصورة اقتراح لطلب الموافقة عليه حضرة الكاتب
الغيور، والمحامي المسلم الكبير، مستر مشير حسين القدوائي.
ولما كان الوقت ضيقًا وكان النظام والاقتراح طويلاً اكتفيت اليوم بنقل مقدمة
القدوائي وتمهيده الذي مهد به الكلام على اقتراحه مرجئًا نقل الاقتراح وإرساله إلى
البريد التالي إن شاء الله.
وهذا هو التمهيد مترجمًا عن الخلاصة التي نشرت منه في العدد 16 من
المجلد الثاني من جريدة الهلال الأسبوعية الغراء الصادرة يوم 23 إبريل سنة
1913 من كلكته:
مجلس خدام الكعبة
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8)
لا شبهة في أن الله جل جلاله هو الحافظ لنوره، ولكن ألا نحب نحن بقاء هذه
الأمانة النورانية لدينا؟ هل يختار الله غيرنا للمحافظة على هذا النور؟ ألا يبقى من
يؤتمن على هذا النور من نسل الأمة المحمدية الموجودة؟
منذ سنتين ونحن في ابتلاء شديد، كم استشهد من المسلمين في طرابلس؟ وكم
ذُبح منهم في البلقان؟ ولم يكتفِ الظالمون بسفك دماء إخواننا بل تعدوا إلى
انتهاك حرمات الأماكن الإسلامية في البلاد التي وقعت في أيديهم فجعلوها
اصطبلات واتخذوها كنائس.
ولا تزال قوات البلقان المتحدة ومعها جميع الدول المسيحية في سعي متواصل
لإخراج أدرنة من أيدي المسلمين، تلك البلدة المحتوية على مساجد خلفاء
الإسلام سلاطين آل عثمان ومقابرهم، ولأجل تمكين الرعب من قلوبنا نحن المسلمين
تطلب بلغاريا الاستيلاء على القسطنطينية التي فيها مسجد أيا صوفيا والمزار
المقدس.
إن ما جرى في المشهد المقدس [1] من قريب غير خافٍ على أحد، وإذا كان
هكذا هيجان المسيحيين ذوي التهذيب المادي في القرن العشرين فمن يضمن لنا
خلاص الكعبة المعظمة والمدينة المنورة من جريان مثل ذلك عليهما، لا قدر الله.
إنا قد استفدنا درسًا وافيًا في عدم الاعتماد على قوة أخرى أو دين آخر، فيجب
علينا أن نفكر ونعمل للمحافظة على مواضعنا المقدسة وخدمتها.
إخواني، لا أريد بهذا القول الدول المسيحية بل أريد أن أنبهكم إلى أن
الواجب عليكم من الآن أن لا تتركوا أمر الأماكن المقدسة لشعب من شعوبكم أو
طائفة من طوائفكم، أتْراكًا كانوا أو إيرانيين، فإن هؤلاء عديمي الحيلة لا يقدرون
على الأعداء الكثيرين، سواء كانوا منفردين أو مجتمعين، ولا يمكن لقوة أن تقابل
عشر قوات، ألا وإن الحق في نظر التهذيب المادي هو الشدة والقوة، إن العثمانيين
يجودون بالأرواح: نساؤهم ترمل وأولادهم تيتم، وديارهم تخرب، ومزروعاتهم
تتلف وتنتهب، فماذا يمكنهم أن يفعلوا وحدهم مع ذلك؟ لقد صار من الصعب
العسير على السلطان صيانة قبور أجداده من أيدي الأعداء وإساءاتهم، وقد وجهت
القوات المسيحية بأجمعها ضغطها عليه، فما الذي يطمئنه على صيانة الكعبة
المعظمة والمدينة المنورة وبيت المقدس وكربلاء إذا اجتمع عليها الأعداء؟ وهل
في قدرته وإمكانه حفظها من أيديهم؟ لا أدري لمَ يترك المسلمون فرض حماية
الأماكن الإسلامية المقدسة واحترامها لذمة الأتراك وحدهم؟
أيها المسلمون، إما أن تتركوا من الآن قولكم: إنا معكم مسلمون، وإما أن
تستعدوا على بكرة أبيكم من الآن لحماية وخدمة أماكن دينكم المقدسة وأن تتخذوا
للوصول إلى ذلك ذرائع نافعة، وتدابير قويمة ثابتة، وأن لا تدَعوا الإسلام ذليلاً
في أعين أحد.
إن المسلمين اليوم مع ما هم عليه من الهيجان لم يقدروا على صيانة مساجد
طرابلس وبرقة وسلانيك من انتهاك حرماتها.
إنا إذا كنا نحترم أماكننا المقدسة حقيقة، وإذا كنا نحب ديننا محبة صادقة،
وإذا كنا نرغب في حفظ الحرم المحترم من القذائف، وإذا كنا نود صيانة قبر
أشرف العالمين نبينا وهادينا من حملة الأعداء، إذا كنا لا نريد أن تكون حال قبر
شهيد كربلاء كحال قبر الإمام الرضا، وإذا كنا لا نتحمل تسليم بيت المقدس إلى
مخالب بلغاريا أو روسيا - فمن الواجب اللازم علينا إذن أن نختط لأنفسنا خطة
ثابتة للمحافظة على الأماكن الإسلامية المقدسة وخدمتها وحمايتها، وذلك يفرض
علينا جميعًا الاعتناء بإبقاء أماكننا المقدسة على حالة جيدة سارة، وأن نيسر سبل
تردد المسلمين إليها، وأن نعتني بالمحافظة على الصحة وغيرها فيها، حتى يستدل
من ذلك على عظمة الدين الإسلامي وقدسيته وعلو شأنه وسيطرته وجلاله، وحتى
لا يتجرأ أحد من الملل الأخرى على النظر إلى تلك الأماكن المقدسة بنظرة الازدراء
أبدًا.
... ... ... ... ... ... ... عبد الحق البغدادي
... ... ... ... ... نائب أستاذ العربية في كلية عليكره الإسلامية
(المنار)
إننا ننتظر ترجمة الاقتراح لنبدي فيها رأينا التفصيلي، وأما الرأي
الإجمالي فهو الاستحسان والتحبيذ، فإن هذا في جملته عين ما اقترحناه في آخر
المقالة الخامسة من مقالاتنا: عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية. (راجع
آخر ص192 من هذا المجلد) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) جاءتنا هذه الرسالة من صديقنا صاحب التوقيع ونشرها المؤيد.
(1) المنار: المشهد المقدس، مزار قبر الإمام علي الرضا، من أئمة آل البيت عليهم السلام والرضوان وهو في (طوس) من بلاد فارس وقد انتهك حرمته عسكر روسية وضربه بالمدافع.(16/384)
الكاتب: سليمان باشا
__________
كتاب متصرف عسير
وقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*]
(يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح)
... ... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلى سبل السلام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، وعلى
آله وصحبه الكرام، من سليمان شفيق علي كمال، متصرف وقومندان عسير، إلى السيد محمد علي الإدريسي، أرشدنا الله وإياه لما فيه رضاه وألهمنا تقواه،
وتولى هدانا وهداه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإن الانقطاع الحاصل والتنازع الواقع هو مخالف لما أمر الله تعالى
بقوله: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ولكن كل هذا
بقضاء الله وقدره، ولسنا الآن بصدد البحث عما مضى، وعسى الله أن يجمع
القلوب ويكون الإسلام يدًا واحدة على أعداء الدين، ونذب عن حقوق المسلمين،
كما قال سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم: (الإسلام كالبنيان يشد بعضه
بعضا [1] ) إلى كثير من الآيات والأحاديث الواردة بوجوب الاتحاد والتناصر بالدين،
ولا نزيدكم علمًا بهذه العجالة فأنتم لستم كغيركم بل أنتم بدرجة من العلم. فهلم يا
أخي في الدين نسعى بما فيه صلاح المسلمين، فهذه دول الأجانب من النصارى
أعداء الدين قد تعاونوا وتناصروا واتفقوا على محو الإسلام وهدم قواعد الإيمان،
وأن يجعلوا البلاد الإسلامية مضغة في أفواههم، وقسمة باردة في أطماعهم، وقد
بلغنا ما حل بإخواننا المسلمين في الجهات فواجب علينا معشر الإسلام الذب عن
الوطن، الذب عن العرض، عن النفس، عن الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(قاتل دون مالك [2] ) فما بالك دون نفسك، دون عرضك، دون دينك. ويعفو
الله عما سلف، فبادر لندفع عن الوطن، عن الدين، عن المسلمين هذه البلية،
ونكون يدًا واحدة على حفظ حقوق المسلمين. هذا زمن الحمية الإسلامية والجهاد،
هذا وقت الإخلاص وأوان الخلاص، إن الأمة الإسلامية في أقطار الدنيا ناظرة إلينا
وعندها الظن الجميل بتعاوننا وتناصرنا، وها أنا أنتظر منك الجواب الشافي الذي
يكون فيه حفظ شرف الإسلام، فإن أجدادك الكرام قد أسسوا مجدًا أخرويًّا فهدوا
وأرشدوا وحفظوا كيان الإسلام، وشادوا أركان الإيمان، وهذه نزغات قلم مسطور
باح لك به النصح الواجب، فإن أجبت فأرسل لنا بسرعة هيئة تعتمدون عليها
لنتخابر معها بما يصلح ويحفظ شأن الإسلام والمسلمين على شرط بالوجه والأمان،
وإن شئت بين لنا معالمكم لدفع أعداء الدين فيجتمع الرأي المصيب بما فيه الصلاح،
إن شاء الله. وإني عازم بحول الله على مدافعة أعداء الدين والجهاد أمام المسلمين،
مع ما لدي من قوة هي تزيد عن عشرين ألفًا، ونحن بهذا العزم، ولو فني منا
الصغير والكبير، وعلى الله توكلنا وإليه المصير، فأسرعوا إلينا بالجواب، وفقنا
الله وإياكم للصواب، والسلام. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... في 21 شوال سنة 1329
* * *
... ... كتاب السيد الإدريسي في جواب سليمان باشا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وهو حسبي وكفى، وأتم
الصلاة والسلام المقترنين بالتحيات القدسية على أشرف الخلائق المصطفى،
وصحبه معادن الصدق والوفا.
من محمد بن علي الإدريسي إلى أخينا في الدين صاحب السعادة سليمان
شفيق بن علي كمال متصرف وقمندان لواء عسير، سلك الله بنا وبه مسالك أهل
البصائر المبصرة، وأخذ بيدنا وبيده إلى ما ينفع في الدنيا والآخرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبينما النفس في قلق، والأنفاس تتصاعد
بنيران الأرق، مما فعل المسلمون بأنفسهم، بينما أسلافهم قد رفعوا لهم أعلام العز،
وشادوا على قوائم الدين دعائم العصمة والحرز، أولئك الذين استمسكوا بعروة الله
الوثقى التي ليس لها انفصام، وكان لهم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} (آل
عمران: 102-103) وغير ذلك من آيات الذكر الحكيم أعظم اعتصام - إذ خلف
من بعدهم خلف أضاعوا الحقوق، واستبدلوا بإخاء الدين - الذي به ملاك الأمر-
القطيعة والعقوق، ليستعد أحدهم لأخيه بالمدمرات، ويعد أعظم المفاخر إذا صرعه
فمات، مع أن مجرد الإشارة بحديدة ورد فيها (من أشار إلى أخيه بحديدة لم تزل
الملائكة تلعنه حتى يشيمها [3] ) هذا، وأعداء الملة من وراء هذه الأستار ينظرون
نظر المفترس إلينا، ويترقبون كلَّ آنٍ الفرصةَ لمحونا، ومن الحمق أن نخرب
بيوتنا بأيدينا، فأعنَّاهم بنا علينا، كأننا لم نتلُ في القول الصحيح أن التنازع يوجب
الفشل ويذهب الريح {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) فلا عجب من هذه الغمة، إذا حلت بنا معاشر هذه
الأمة، وانطوى على الهوان يومهم وأمسهم؛ لأنهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: 19) {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35) {إنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} (المجادلة: 20) ولو أنهم اعتصموا
بحبل الله مولاهم، لكان لهم نعم المولى ونعم النصير وكفاهم، ولكان لهم ما كان
لأسلافهم؛ إذ دانت لهم المشارق والمغارب، وما قاومهم أحد إلا خذل؛ لأنهم حزب
الله وحزب الله كما كتب على نفسه هو الغالب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ
* إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: 171-173)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} (محمد: 11)
{وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال: 40)
ومهما هال العدو بما في يده من الآلات الشنيعة، فإنه والله ستنكشف عما هو
كسراب بقيعة {فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 81-82) وأعداء الدين في
كل وقت أعظم عددًا، وأكثر استعدادًا وأقوى مددًا وجندًا ليحق الله قوله: {وَلَن
تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 19) {وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} (يوسف: 21) {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} (الجن: 24) ولا يزال الحق هذه صفاته وفي كل آن
ومكان هذه نعوته {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ} (الأنعام: 115) .
فبينما الخاطر في هذه المهامه، والفكر في هذه المفاوز حيران وواله، وهل
من مستبصر مستهدٍ يأخذ في هذه المضايق بالأيدي - إذ ورد كتابكم الكريم المستحق
للاحترام والتعظيم والتفخيم، مسفرًا عما تحدو إليه الرغائب من الدعوة للاتحاد
ونبذ ما هو بجانب، فانشرح البال وأسرعت إلى داعيك وحمدت الله؛ إذ كانت
نسائم التوفيق تهب بناديك، متوكلين على الملك الجليل، وهو حسبنا ونعم الوكيل،
وهل يرضى الله ورسوله إلا إذا كان المسلمون إخوانًا، يجاهدون في سبيله وعلى
الحق أعوانًا، ولقد أخذنا وأخذتم بذلك، حتى حالت أمور قد ذكرتم لا حاجة إلى
ذكر ما هنالك، وما ذكرتم من الهيئة فقد أرسلنا إليكم أخانا محمد يحيى ومعه جماعة
يتوجهون إلى رجال (المع) [4] ولا تطمئن نفسه بالدخول إلى (أبها) فيتفق
بجانبكم بأطراف (المع) الشام وتحصل المذاكرة، وإن شرفتم بالقدوم فحيهلا
وسهلاً، وغيرنا وغيركم لا يكاد بهذه المقاصد أن يقوم، ولعلنا أن نكون السبب
في كشف هذه المشاكل من جميع الوجوه في أقرب وقت عاجل، فترتاح الدولة في
هذه الديار، بل في جميع الأقطار والأمصار، والأمور وإن تشعبت فإن مرجعها
إلى الله، وبيده الحركة والسكون وهو أهل الكرم، حاشاه أن يخيب من وفقه
للالتجاء إليه ودعاه، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، والسلام عليكم (ورحمة
الله) وعلى من حواه المقام، ورحمة الله وبركاته في البدء والختام.
... ... ... ... ... ... غاية شوال سنة 1329.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) هو الذي أشرنا إليه في الجزء الماضي في هامش كتاب السيد الإدريسي إلى الإمام يحيى.
(1) لفظ الحديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان) إلخ رواه الشيخان وغيرهما عن أبي موسى.
(2) رواه أحمد والطبراني وله تتمة.
(3) المنار: حديث رواه مسلم في صحيحه، والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه) ورواه الحاكم من حديث عائشة وصححه بلفظ: (من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه) ورواه البزار والطبراني عن أبي بكرة بلفظ (إذا سل - وفي رواية: شهر - المسلم على أخيه سلاحًا فلا تزال ملائكة الله تلعنه حتى يشيمه عنه) أي يغمده.
(4) اسم موقع.(16/388)
الكاتب: مأمور مفرزة ميدي
__________
الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسي
من مأمور مفرزة (ميدي)
وهو جواب ما أرسله إليه السيد بالمسعدة [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جناب السيد الجليل، رفيع القدر والمحل، السيد محمد بن علي الإدريسي
سلمه الله، آمين. بعد مزيد شريف السلام مع التحية والإكرام تغشاكم على
الدوام.
اطلعنا على جوابكم المؤرخ في 23 شوال سنة 1329 والجوابات التي بباطنه
نقل (صور) كتاب عزت باشا وكتاب الإمام يحيى الواردة منكم بواسطة السيد يحيى
ابن موسى الرفاعي وقد أسرَّنا ذلك، وقد قرأناهم بين سادة وشرفاء ومأمورين
وأعيان وجملة من الإسلام، وقد أخذنا نقل صور الجميع وعزمنا نرسلهم إلى محل
رجوعنا الآستانة وعند ورود الجواب نعرفكم بكل حقيقة، وربنا يؤلف بين القلوب
ويصلح ذات البين ويعيد الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والسلام.
26 شوال سنة 1329
... ... ... ... ... ... ... مأمور مفرزة العسكرية بميدي
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل
(المنار)
قد رأى القراء كتاب سليمان باشا إلى السيد الإدريسي ورأوا ما فيه من
الاستمالة باسم الإسلام، ورأوا كيف أجابه السيد بالقول والرغبة في الاعتصام،
وقد علموا من كتاب السيد إلى الإمام الذي نشرناه في الجزء الماضي أن كتابة
الباشا كانت خديعة، هكذا فعلوا وهكذا يفعلون: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً
* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:
103-104)
__________
(*) المسعدة: موضع.(16/391)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المؤتمر العربي بباريس
وحزب اللامركزية بمصر
يبحث الأوربيون آنا بعد آن في خطرين وهميين يمكن عقلاً وفرضًا أن
ينازعا دولهم في سيادة الأرض، وهما خطر الجامعة الإسلامية والخطر الأصفر.
فرضوا احتمال رجوع المسلمين إلى الاعتصام بحبل الإسلام واسترجاع
سيادته وقوته، ولو في بعض الممالك الإسلامية، واحتمال ارتقاء الأمة الصينية
وقوتها في بلادها، فحملهم هذان الفرضان على أخذ الأهبة والتعاون فيما بينهم على
إزالة ما بقي من ملك هاتين الأمتين واقتسام بلادهم ولو بالفتح السلمي الذي هو
أرقى ما وصل إليه المبشر في الفتح والسيادة، وهو الفتح بالعلم والعقل والحزم
والمال، تؤيدها قوة الأساطيل والجنود عند الحاجة؛ لأجل حمايتها وهيبتها.
أما الشرقيون فتصخ نذر الأخطار آذانهم، وتفقأ أشباحها المزعجة أعينهم،
وهم يتمارون بالنذر، ويتجادلون في مواضع العبر، وقد كانت الحرب البلقانية
العثمانية آخر صدمة صدمت الشرق فأتت على آخر ركن للاستقلال في آخر مملكة
مستقلة فيه أو كادت، وأهل هذه المملكة يتمارون فيما بينهم ويتجادلون ولا يعتبرون
بما حل بهم ولا يزدجرون.
من يحاول من الشرقيين عملاً ما لأمته فإنما يحاوله في آخر الوقت الذي يمكن
فيه العمل أو بعد ذهاب الوقت، وقد كان يجب على الأمة العربية أن تهب من
رقدتها، وتعمل لنفسها ودولتها، وتثبت لنفسها وجودًا تحترم به حقوقها وتعمر
بلادها، إن لم أقل: إن هذا كان يجب عليها منذ تغلغلت السلطة الحميدية التدميرية
في ولاياتها، وأنشأت تجهز الحملات العسكرية على معاهد القوة منها كاليمن،
والحملات الإفسادية على الولايات الضعيفة كسورية. وإذ لم يفعلوا فليكن ذلك العهد
عهد الإيقاظ والتنبيه، وعهد الاتحاديين الذي هو شر منه وأضر عهد الوحدة والعمل.
رأى العرب من الاتحاديين ما رأوا من سفك دماء إخوانهم وتدمير بلادهم في
اليمن والكرك وحوران، وإفساد ذات بينهم ومقاومة لغتهم في سورية والعراق،
ورأوا أن هؤلاء قد أنشأوا يهدمون ما أبقى عليه عبد الحميد من ملك بني عثمان،
ومع ذلك لم يزدادوا إلا أملاً ورجاءً في عاصمتهم البزنطية عاصمة الجهل والغرور،
والخيلاء والإسراف والظلم والخيانة والتدمير، ولم نر العبر والكوارث المحدقة
بهم والمنذرة لدولتهم قد أثرت فيهم تأثيرًا جمع كلمة أهل الرأي والبصيرة إلى
العمل الواجب {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ *
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (القيامة: 26-29) وظفرت جيوش البلقانيين بإخوانهم
وأبناء دولتهم، وصارت مدافع البلغاريين تزلزل بِدَوِيِّهَا منازل تلك العاصمة،
وتقلق بأصواتها سلطانها في مضجعه بقصر، ضولمه بغجه وصارت الأمم
الأوربية، تتحدث بتصفية حساب المسألة الشرقية، وسُمع من باريس صوت
مزعج يدعي لفرنسة حقوقا في سورية، ورؤيت المدرعات الفرنسية وغير
الفرنسية تتهادى في المواني السورية وغير السورية، بعد هذا كله تحرك أهل
الغيرة والإخلاص من العرب، وحاولوا أن يعملوا عملاً يحفظ بلادهم من استيلاء
الأجانب عليها، وأن يصلح حالهم فيها، فكانت حركتهم هذه في آخر الوقت، إن لم
نقل: إنها كانت أو كادت تكون بعد ذهاب الوقت.
ماذا عملوا؟ ألَّف أهل الإخلاص والغيرة من السوريين المقيمين بمصر
حزب اللامركزية الإدارية العثماني، فلم يجعلوه حزبًا سوريًّا ولا عربيًّا بل عثمانيًا
عامًّا، وقام أهل ولايات سورية (بيروت والشام) والعراق يطلبون الإصلاح
لولاياتهم على أساس وقواعد اللامركزية، وفي باريس مئون من العرب
السوريين أهل العلم العصري والأدب والتجارة وطلاب العلوم العالية، أزعجهم
صوت موسيو بوانكاره - رئيس وزارة فرنسة بالأمس ورئيس جمهوريتها اليوم - إذ
قال في مجلس النواب: إن لدولته حقوقًا موروثة في سورية، وهم أول من سمع
هذا الصوت في مركز قوته وعظمته، فأحسوا بالخطر على وطنهم الخاص
وعلى قومهم ودولتهم، فأجمعوا أمرهم على أن يُسمعوا فرنسة وسائر عالم
المدنية صوتهم المعبر عن إحساسهم ورأيهم في أمتهم ودولتهم، وكراهة افتياتها
عليهم ومقاومة احتلالها لبلادهم، وأن يدعوا لمشاركتهم من شاء واستطاع السفر
إليهم من أمتهم العربية، وهم يعلمون - كما يعلم كل عاقل خبير- أنه قلما يرحل
هذه الرحلة إلا من يشتغلون بالمصلحة العامة من حملة الأقلام الأحرار، وأصحاب
الأفكار، فتكون وظيفة المؤتمر الطبيعية أن يطلع العالم الأوربي على رأي جمهور
كبير من العرب يمثل بطبعه نهضتهم، فيعرفوا حقيقة المسألة العربية التي أحدثتها
جمعية الاتحاد والترقي في عالم السياسة، ولم تكن شيئًا مذكورًا إلا على ألسنة
جواسيس عبد الحميد وأقلام مستغلي أوهامه، ولا شيئًا موجودًا إلا في خياله وخيال
مبغضي العرب من ساسة دولته، وأن هذه المسألة لو وجدت في كتاب تاريخ
السياسة قبل الآن لنجت الدولة بقوة العرب مما وقعت فيه من الخذلان والهوان.
وقد رأى الداعون إلى هذا المؤتمر أنه يجب أن يكون لهم حزب يؤيدهم
ويؤيدونه فانتسبوا إلى (حزب اللامركزية الإدارية العثماني) الذي أسس في مصر
وجعلوا مؤتمرهم تابعًا له، وطلبوا منه أن يرسل إليهم وفدًا يكون أحد أعضائه
رئيسًا للمؤتمر، فتلقى الحزب ذلك بالقبول واختار السيد عبد الحميد الزهراوي
وإسكندر بك عمون لذلك، وسيكون أولهما رئيس المؤتمر. وقد تقرر أن تدور مباحث
المؤتمر على المسائل الآتية:
1- مقاومة الاحتلال الأجنبي للوطن.
2- حقوق العرب في المملكة العثمانية.
3 - وجوب تغيير شكل الإدارة العثمانية الحاضر وجعله من نوع اللامركزية
الإدارية؛ إذ لا يرجى صلاح المملكة بدون ذلك، ولا بقاء لها إلا بصلاحها كما
تقتضيه سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في لسان العلم بالانتخاب الطبيعي
وبقاء الأمثل.
4- المهاجرة من سورية وإليها.
هذه المسائل هي أهم المسائل الاجتماعية الحيوية في المملكة العثمانية،
وأكثرها قد صار حديث ساسة الدول وجرائد الأمم، ولو لم يوجد من العرب حزب
ولا مؤتمر يبحث فيها لجاز لجميع الأمم والدول أن تعتقد أنه لا يوجد في المملكة
العثمانية أمة تسمى الأمة العربية، وأن تصدق مغروري جمعية الاتحاد والترقي في
زعمهم أن العرب ليسوا أمة ولا شعبًا فيحسب لهم حساب في إدارة المملكة العثمانية
ومصالحها، وإنما هم قسمان: عرجلة أو عراجل من الوحوش في اليمن وبوادي
الشام والعراق والحجاز ونجد ينكل بهم الجيش العثماني المظفر، وقطعان من
الغنم في سورية ومدن العراق تتصرف بهم الحكومة المركزية بما تشاء من رعي
ومن منع، وذبح وبيع.
سيكون لحزب اللامركزية ولمؤتمره في باريس ولطلاب الإصلاح المبني على
قواعد هذا الحزب في الولايات السورية والعراقية شأن عظيم في الآستانة وأوربة
المسيطرة على الحكومة العثمانية، وإن كابر الحسَّ والنفس في ذلك زعماءُ جمعية
الاتحاد والترقي واستعملوا سلطة الحكومة وألسنة المثقفين المنافقين المتزلفين لها
وأقلامهم لتحقيرهما وتهوين أمرهما، وهي لم تحقر شيئًا إلا وعظم ولم تعظم شيئًا
إلا وحقر؛ لأنها مخذولة من الله المتنكبة لسنته في خلقه وشرعه، كما ثبت
بالتجربة مرارًا، ومن ذلك أنها تلبس الحق بالباطل فتصف الشيء بضد ما هو عليه،
وتسلك إلى كل غاية الطريق الموصل إلى ضدها، فهي تأمر منافقيها بأن يذيعوا
أن المؤتمر وحزب اللامركزية وطلاب الإصلاح يعملون بإيعاز من الأجانب ليمهدوا
لهم طريق احتلال وطنهم، الأمر بالضد كما هو ظاهر وسيكون في المؤتمر أتم
ظهورًا، كما توعز إليهم أن يقولوا: إنها تعمل لإحياء الجامعة الإسلامية، على حين
نرى بعض كتابها ينشر في مجلة الشرق الإنكليزية مقالاً يحاول فيه إقناع الإنكليز
وغيرهم من الأوربيين بأنه لا يوجد في المملكة أحد غير هؤلاء الفتيان من الترك
يتجرأ على كسر القيود الدينية التي تقيدت بها الدولة العثمانية ويطلب إعانة أوربة
لهم على ذلك.
وجملة القول أن الحكومة الاتحادية قد أضاعت بجهلها وغرورها وخبث
طويتها جميع الممالك العثمانية الأوربية والأفريقية، وهي تساوم أوربة على بيع
منافع الممالك الآسيوية، وكل هذا من فساد الحكومة المركزية التي تجعل أمر الأمم
والممالك في يد واحد أو آحاد، إذا فسدوا أفسدوا وأهلكوا الجميع، ولو كان للأمة
صوت مسموع في مصالحها كالصوت الذي نسمعه الآن من حزب اللامركزية
وطلاب الإصلاح لِما أمكن لهؤلاء وأمثالهم إضاعة الدولة. وهذا الصوت على كونه
قد تأخر عن وقته لا بد أن تكون له فائدة ما، وأقلها أن تحسب أوربة له حسابًا فيما
ستقرره في كيفية إدارة هذه الدولة؛ إذ فوضت الحكومة الاتحادية إليها أمر المملكة،
بل ظهرت فوائد ذلك قبل تمام ظهوره، فبدأت الوزارة الاتحادية تستميل العرب
بعض الاستمالة، ولولا أنها وجدت بهم بعض المنافقين يهونون عليها أمر طلاب
الإصلاح لما تلبثت في قبوله إلا قليلاً.
فإذا كان هذا السعي مفيدًا مع كون أمر الدولة في أيدي الاتحاديين أعداء
العرب والإسلام، فكيف يكون نفعه إذا عجل الله انتقامه منهم ودالت الدولة
للائتلافيين [*] والصباحيين دونهم؟ يومئذ يكون العرب شركاء الترك لا عبيدهم
في هذه الدولة، فلا يكون أحدهما مظلومًا مع الآخر فيمقته ويخذله، ويقوم بناء
إدارة المملكة على قواعد اللامركزية الثابتة، يومئذ يعض المنافقون على أيديهم
يقولون: يا ليتنا اتخذنا مع حزب المصلحين سبيلاً، وخفضنا في إسرافنا في
التملق للاتحاديين المفسدين ولو قليلاً.
وجملة القول أنه قد ثبت قطعًا أن الدولة لا تستطيع حماية بلادها من الدول
الكبرى إن أردن اقتسامها، وأن أمر اقتسامها منوط باتفاق الدول بينهن لا بطلب
الأمة للإصلاح وعدمه، وأنه إذا لم يصلح أمر الأمة ويظهر استقلالها بشئونها
الإدارية والاقتصادية، فإن بلادها ستكون غنيمة باردة للأوربيين، سواء احتلوها
بالجند أم لا، وأنها لن تصلح ما دام أمرها كله بأيدي من يتغلب على السلطة في
عاصمتها ولو بالثورة وسفك الدماء، فنسأل الله أن يأخذ بأيدي المصلحين ويكفيهم
شر المستبدين والطامعين، آمين.
__________
(*) يظن كثير من الناس أن وزارتي مختار باشا وكامل باشا كانتا ائتلافيتين، وهذا خطأ، وقد سمعنا من صادق بك رئيس الائتلافيين أنهم لما أسقطوا وزارة سعيد باشا رأوا أن يثبتوا للأمة أنهم يعملون لها لا لأنفسهم فسلموا الوزارة لأشهر رجال الدولة وكان يجب أن يشاركوهم فيها.(16/392)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلتنا الهندية العربية
(شكر علني لأهل عمان والكويت)
شكرنا في الجزئين الأول والثاني لإخواننا مسلمي الهند حفاوتهم بنا وحسن
ضيافتنا، ووعدنا بأن نشكر مثل هذه الحفاوة لإخواننا العرب الكرام في مسقط
والكويت والعراق، وقضت كثرة المواد التي لا يمكن تأخيرها أن نرجئ الوفاء
بهذا الوعد إلى هذا الجزء.
سافرت من بمبي صباح الجمعة لتسعٍ خلون من جمادى الأولى للعام الماضي
في سفينة إنكليزية قاصدًا مسقط عن طريق كراجي، وكنت حريصًا على السفر في
إحدى بواخر الشركة العربية التي يديرها في بمبى مؤسسوها من أصدقائنا تجار
العرب، وكان ذلك يسرهم أيضا، وقد تحدثنا به مع مدير الشركة الهمام الشيخ
محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومضيفي الشيخ قاسم إبراهيم فعلمنا
أن انتظار مواعيدها يضيع عليَّ أيامًا كثيرة، وقد انتقلنا في ميناء كراجي إلى سفينة
إنكليزية أخرى حملتنا إلى مسقط فوصلنا إليها ضحوة يوم الاثنين (12ج29 أبريل)
وعندما رست كان قد وصل إليها زورق بخاري من السلطان الكريم السيد فيصل
ملك عمان يحمل بعض رجاله لاستقبالي، وكان كلف من يعتمد عليه في بمبي أن
يخبره عن سفري منها ببرقية يعرف بها موعد وصولي، فصعدوا ومعهم صديقي
الفاضل السيد يوسف الزواوي، أكبر سادات مسقط بعد أسرة السلطان وأكبر تجارها
قدرًا وجاهًا وشهرة، فعفرّف الجماعة بي، وبعد السلام نزلنا إلى الزورق فحملنا
إلى رصيف قصر السلطان فصعدنا القصر وبعد السلام والمكث مع السلطان ساعة
من الزمان ذهبنا إلى دار ضيافته التي أعدها لنا. وكان صديقنا السيد الزواوي أعد
دارًا جديدة له على الطرز الحديث؛ لأكون فيها مدة وجودي في مسقط فنفس
عليه السلطان ولم يسمح له بذلك.
أقمت في مسقط أسبوعًَا كان يختلف إليَّ كل يوم وكل ليلة منه وجهاء البلد
وأذكياؤه ويلقون الأسئلة الدينية والفلسفية والأدبية والاجتماعية، وزارني السلطان
في دار الضيافة أيضًا ومكث معي عدة ساعات، وزرته في مجلس حكمه عدة مرات،
وكان يلقي عليَّ في كل مرة الأسئلة المختلفة، وكان يكون معه في مجلسه أخوه
السيد محمد وهو كثير المطالعة في الكتب، ولكنه لا يحب البحث في المجالس في
كل ما يطلع عليه من المسائل، وقد عهد السلطان إلى كاتبه الخاص من أهل السنة
الزبير بن علي أن يتولى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الشيخ إبراهيم بأن
يتعاهدني معه أيضًا.
وأدَّب لي صديقي السيد الزواوي مأدبتين حافلتين، إحداهما في داره العامرة في
نفس مسقط، دعا إليها علماء ووجهاء البلد، والأخرى في دار له بقرية سداب وهي
على مسافة ميل من مسقط ذهبنا إليها بزورق السلطان في البحر، وعدت أنا ماشيًا
مع بعض المدعوين برًّا؛ لأجل الرياضة ورؤية ثنية الجبل التي يسلك منها إلى
مسقط المطوقة بالجبل. وقد دعا إلى هذه المأدبة مع وجهاء مسقط وجهاء القرى
المجاورة لها، فأجاب الدعوة عشرات منهم، وكان الغرض من ذلك أن يسمعوا
كلامي وتذكيري بآيات الله، وقد فاض معين السخاء العربي الهاشمي في هذه المأدبة
على فقراء القرية الذين اعتادوا أن يعشوا إلى ضوء نار السيد الزواوي الذي هو
مظهر لقول الشاعر:
* ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا *
فتراه بين مظاهر الكرم والنعيم، لا يغفل عن مراعاة ما يمكن تحصيله من
فوائد العلم والدين، بنى لنفسه عدة دور فخمة جميلة في مدخل البلد على البحر وهو
موقع غير واسع، يشارك هو فيه السلطان وقنصل الإنكليز في الملك، ويسكن في
دار له فيه قنصل أمريكة، وبنى لله مسجدًا هو أنظف مساجد البلد وأزهاها، وقد
جر إليه الماء بأنابيب الرصاص (المواسير) وجعل له عدة حنفيات، وعلى
هذه الطريقة اقترح عليَّ يوم المأدبة الأولى وكانت للغداء في يوم الجمعة أن أعظ
الناس في مسجده بعد صلاة الجمعة فأجبت، وكان من تأثير الكلام فيهم أن
ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب والنشيج، واقترح عليَّ أيضًا أن أتكلم وأذكِّر من
يحضر المأدبة من الوجهاء والخواص فأجبت، ونجله الكبير الشيخ عبد القادر له
ذوق في النظام وميل إلى الصناعة، وقد مد من دارهم في سداب إلى دارهم في
مسقط مسرة تليفون فكانت هي الوحيدة في تلك القرية.
وسافرت من مسقط ضحوة يوم الإثنين لتسع عشرة خلون من الشهر ومكثت
في مجلس السلطان زهاء ثلاث ساعات من أول نهار السفر كان يلقى فيها عليَّ
الأسئلة الكثيرة في العقائد وما يتعلق بها والأحكام الشرعية والاجتماعية والتاريخية،
وتارة يشير إلى رجاله بأن يسألوا، وكانوا جميعًا يُسرون من الأجوبة، ثم نزلنا
إلى البحر فودعني السلطان على رصيف قصره ونزل معي في زورقه البخاري
جميع من كان ثَم من أنجاله الكرام وهم خمسة أكبرهم السيد نادر، ومعهم بعض
كتابه وحاشيته ومن سوء حظي أن كان ولي عهده السيد تيمور مسافرًا فلم أره، وظل
هو واقفًا على الرصيف حتى بعُد الزورق عنه، فودعته الوداع الأخير بالإشارة.
ونزل معنا أيضًا صديقنا الزواوي ونجله السيد علي ابن عم السلطان وصهره وقد
سافر معنا قاصدًا البصرة فرأيت منه رفيقًا تقيًّا نقيًّا صفيًّا.
وقد مكث معنا أولاد السلطان والزواوي ساعة من الزمن في الباخرة ثم
ودعناهم الوداع الأخير، وعادوا إلى مسقط موشحين بجلابيب شكري الخالص
وودي الدائم، إن شاء الله تعالى (وسنصف مسقط ونتكلم عن حالة أهلها الاجتماعية
في الرحلة) .
جرت السفينة بنا من مسقط ظهر يوم الاثنين، وهي إنكليزية تقطع في
الساعة 12 ميلاً فقط، وفي ضحوة اليوم الثاني خرجت بنا عن محاذاة جبال عمان
ودخلت في الخليج الفارسي فصرنا نرى بر فارس عن اليمين وبر العرب عن
اليسار، ووقفت بنا فجر يوم الخميس في موضع من عرض البحر كان ينتظرنا فيها
مركب شراعي كبير أرسله إلينا الشيخ مبارك الصباح صاحب الكويت، وكان علِم
بأننا نصل إليه في هذا الوقت في هذه الباخرة مما كُتِبَ إليه من بُمْبَي ومسقط، فنزلنا
فيه قبل طلوع الشمس فأقلع بنا والريح لينة والبحر رهو، ثم قويت الريح قليلاً في
النهار فبلغ بنا الكويت قبل غروب الشمس، وكان رجال الشيخ مبارك حملوا فيه
خروفين كبيرين وكثيرًا من الحلوى والمشمش والخيار فأفطرنا وتغدينا فيه، وقد
أعجبني جدًّا طبخ الطاهي الذي كان معهم للخروف بالرز الهندي وهو طاهٍ متفنن،
وطبخ للعشاء ألوانًا متعددة لئلا نتأخر إلى الليل فبقيت للبحارة، وقد استقبلنا أولاد
الشيخ مبارك وبعض الوجهاء في زورق صغير خارج الميناء.
أنزلني الشيخ مبارك في قصره الجديد الذي هو قصر الإمارة وتولى مؤانستي
ومجالستي في عامة أوقاته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب حتى صار له مشاركة
جيدة في جميع العلوم الإسلامية، وأقمت في الكويت أسبوعًا كنت كل يوم ما عدا
يوم البريد، ألقي فيه خطابًا وعظيًّا في أكبر مساجد البلد فيكتظ الجامع بالناس،
وكان يحضر مجلسي كل يوم وليلة وجهاء البلد من أهل التقوى وحب العلم يسألون
عما يشكل عليهم من أمر دينهم، وأما الشيخ ناصر فكان يسأل عن دقائق العلوم في
العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلقَ عن الأساتذة فهو من مظاهر
الذكاء العربي النادر.
ومما أحب أن أذكره هنا، وهو من مباحث الرحلة، مسألة علاقة مبارك
بالدولة العثمانية والإنكليز، كنا نسمع المنافقين لرجال الدولة يصفون صاحب
الكويت بالخيانة للدولة ويعيبونه بطلب حماية الإنكليز له، فسألته عن ذلك
فقص عليَّ قصة سألت عنها بعد ذلك السيد رجبا نقيب البصرة مندوب الحكومة إليه
فيها؛ فكان جوابه موافقًا لجواب الشيخ مبارك، ثم ذكرت ما قاله للشيخ فهد بك
الهزال شيخ قبائل عنزه في العراق؛ إذ كنت في ضيافته على نهر الفرات مع
صديقي مراد بك أخي محمود شوكت باشا فصدق ما قاله الشيخ مبارك، وزادني
فوائد هو أعرف الناس بها.
وملخص ما قاله الشيخ مبارك أنه في أواخر مدة عبد الحميد ساقت الدولة بعض
العسكر مع عربان ابن الرشيد إلى قرب الكويت وأرسل المشير فيضي باشا السيد
رجبا النقيب ومع نجيب بك ابن الوالي إلى الكويت، فبلَّغاه أنه قد صدرت إرادة
سَنية بوجوب خروجه من الكويت إلى الآستانة أو إلى حيث شاء من ولايات الدولة،
والحكومة تعين له راتبًا شهريًّا يعيش به، فإن لم يخرج طائعًا دخل الجند مع
عرب ابن الرشيد وأخرجوه بالقوة، فسألهم ما هو ذنبه الذي استحق به النفي من
بلده وعشيرته؟ وذكر نقيب البصرة بما يعرف من إخلاصه للدولة وإعانته لها
بالمال عند كل حادثة وبما كان من محاربة سلفه وعشيرته لقبائل المنتفك المالكين
للبصرة وإخراجهم منها وجعلها في حكم الدولة كما ملكهم هو وعشيرته بقوتهم
الأحساء وغيرها، وطلب منه أن يعود إلى البصرة فيقنع المشير بمراجعة الآستانة.
فقال: إنما علينا البلاغ وليس في يدنا غيره.
قال: فخرجت من عندهما بقصد مشاورة أهلي، وكانت حكومة الهند الإنكليزية
قد علمت بكل ما دبرته الدولة في ذلك وبمجيء عشيرة ابن الرشيد مع العسكر إلى
جهة الكويت، فأرسلت مدرعتين فوقفتا تجاه البلد، فلما عُدتُ رأيتُ أميرًا إنكليزيًّا
قد نزل من إحدى المدرعتين ومعه بعض الجند فسألني عما جرى فأخبرته الخبر،
فقال: إن حكومتنا متفقة مع حكومة الترك على أن تبقى الكويت على حالها، لا
يتعرضون ولا نتعرض لها؛ وإذ قد غدروا وخالفوا فقد صار لنا حق الدخول في
أمرها، ولا يمكن أن نسمح لجندي عثماني أن يدخلها، وإذا دخلوا برضاكم
دمرناها على رءوسكم ورءوسهم، ثم بلَّغ الأميرال ذلك لنقيب البصرة رسول
الحكومة فقفل راجعًا وبلَّغ المشير ذلك، فأمر المشير بصرف الجنود والعربان،
قال: فما كان من تدخل الإنكليز في أمر الكويت لم يكن بطلب مني بل كان هذا
سببه. وقد عرضوا عليَّ أن أختار لنفسي راية أرفعها على البلد وأعلن الاستقلال
تحت حمايتهم فأبيت ذلك، وهذه الراية العثمانية تراها كل يوم مرفوعة فوق رأسي.
وقد تعجبوا من قولي لهم: إنني أختار أن أكون دائمًا عثمانيًّا، قيل لي:
أتقول هذا بعد أن رأيت منهم ما رأيت؟ قلت: إن الوالد إذا قسا في تربية ولده
أحيانًا لا يخرج بذلك عن كونه والده الذي تجب عليه طاعته. اهـ.
وسأذكر في الرحلة ما أيد به نقيب البصرة وشيخ عنزة هذا الكلام؛ فليعتبر
المعتبرون بإخلاص العرب للدولة على سوء معاملتها لهم.
للكلام بقية
__________(16/396)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار مختصرة مفيدة
(الصلح العثماني البلقاني)
كان الاتحاديون هم سبب اتحاد البلقانيين على قتالنا، وهم سبب إقدام الدولة
على قتالهم، وهم المانعون لكامل باشا من عقد صلح شريف في الجملة وزعموا أنهم
لا يذلون لأوربة وأنهم قادرون على الثأر من البلقانيين وحفظ شرف الجيش وإنقاذ
ولاية أدرنة.
وكان الأمر بالضد فذهبت أدرنة ويانية، وكل ما كان للدولة فيهما من السلاح
والذخائر، ورضيت الوزارة الشوكية الاتحادية بعد هذا الذل والخسران بصلح فوضت
فيه الأمر إلى أوربة بلا شرط ولا قيد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(الشيخ قاسم إبراهيم في دار الدعوة والإرشاد)
ألمَّ صديقنا المحسن الشهير الشيخ قاسم إبراهيم في هذا الربيع بمصر فأقام فيها
أسبوعًا كان فيها محل التكريم من سمو أمير البلاد ووجهائها. ولما كان هو عضو
الشرف الأول في جماعة الدعوة والإرشاد دعاه أعضاء مجلس إدارة الجماعة إلى
شرب الشاي وما يتصل به في مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وأعدوا لذلك مائدة
حافلة شهدها مع الكثيرين من أعضاء الجمعية بعض كبار رجال العلم الديني
والدنيوي يتقدمهم الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وشيخ مذهب الشافعية وبعض
كبار علماء الأزهر وعلي باشا أبوالفتوح وكيل نظارة المعارف وأحمد زكي باشا
كاتب سر مجلس النظار، وقد سئل الطلبة أمام الحاضرين عدة أسئلة أحسنوا
الجواب عن أكثرها، وطاف الشيخ قاسم مع ناظر المدرسة (صاحب هذه المجلة)
معاهد المدرسة فأعجبه نظامها ونظافتها، وسُرَّ بهذا العمل الشريف الذي كان هو
المتبرع الأول له.
(اقتران صاحب المنار)
في الليلة الثامنة عشرة من هذا الشهر بنى صاحب هذه المجلة على سعاد
كريمة الشيخ حسن الصفدي، وبيت الصفدي في طرابلس الشام من بيوتات العلم
التي امتازت بمكارم الأخلاق وطهارة الأعراق، فأسأل الله تعالى أن يجعله بناءً
مباركًا وقرانًا ميمونًا {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً} (الفرقان: 74) .
__________(16/400)
جمادى الآخر - 1331هـ
يونيه - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إشكالان في حديث وآيتين
(س17 و18 من دمياط)
بسم الله الرحمن الرحيم
من مصطفى نور الدين إلى المصلح العظيم والرباني الحكيم، السيد محمد
رشيد رضا، سلام عليك أيها الوارث لهدي النبيين، المجدد لما اندرس من معالم هذا
الدين، المحيي لما أماته الناس من سنة خير المرسلين، سلام عليك وعلى عترتك
الطيبين الطاهرين، وبعد، فقد عرض لي مسألتان من مسائل الدين، وأنتم - في
نظري - أفضل من يوثق به في هذا العصر؛ فلذلك أجدني غير مرتاح إلا لما
تقولون:
الأولى: جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ، ثم يقول الله تعالى:
أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا)
الحديث.
فهل المشركون من المسلمين يشملهم هذا الخروج؛ لأنه يصدق عليهم أن في
قلوبهم مثقال حبة من خردل من إيمان، وقد جعلهم القرآن مؤمنين وهم مشركون
فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) فإنهم
مؤمنون بوجود الصانع وبأن الله خلقهم، وخلق السموات والأرض وسخر الشمس
والقمر: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) ولكنهم مشركون باتخاذ الشفعاء والتقرب
إلى الوسائط من المقربين وتسويتهم برب العالمين في التعظيم والتوجه بالدعاء
والالتجاء؟ أم لا يشملهم هذا الخروج ويكون حكمهم حكم الدهريين الذين ينكرون
وجود الصانع؟ وإذا كان هذه الخروج يشملهم، فهل يشمل مشركي المسيحيين
أيضًا؛ لأنهم مؤمنون بوجود الصانع، أو لا يشملهم حيث إن شركهم يختلف عن
شرك المسلمين فظاعة وشناعة، فإنهم يعتقدون تعدد واجب الوجود؟ أما المشركون
من المسلمين فلا يعتقدون بتعدد واجب الوجود؛ بل يعتقدون تعدد المستحق للعبادة،
هذه هي المسألة الأولى، أرجو بيانها بيانًا شافيًا.
المسألة الثانية: قد نشم رائحة الاختلاف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} (الأعراف: 194-195) الآية.
فإن الصدر يفيد أن المدعوين من دون الله عباد، والعجز يدل على أن
المدعوين جماد، مع أن القرآن لا ريب فيه من رب العالمين؛ ولذا لا يوجد فيه
اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82)
بل هو كتاب متشابه أي لا ينافي بعضه بعضًا بل يؤيد بعضه البعض كما قال منزله
تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} (الزمر: 23) فالرجاء
أن تزيلوا هذه الرائحة الكاذبة وتثبتوا له رائحته الطيبة الحقيقية الصادقة.
وإفادتي عن هاتين المسألتين إما أن تكون على صفحات مجلتكم المنار الشافية
لما في الصدور وإما أن تكون بخطاب خاص، إن كان هناك مانع من الأول.
وعنواني يكون هكذا:
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمياط
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نور الدين حنطر
... ... ... ... حاشية تناسب هذا المقام
إن بعض المشركين بل الغالب من أفرادهم يزعم أن جميع الآيات التي جاء
فيها تقبيح الشرك وتوبيخ المشركين خاصة بالأصنام بمعنى الجماد مع أننا لو تتبعنا
هذه الآيات التي جاءت بشأن الشرك والمشركين لوجدناها مصرحة بأن المشركين
فريقان: فريق يدعو الأصنام المجعولة تماثيل لعباد الله المقربين. وفريق يدعو
المقربين غير ناظر إلى التماثيل، فمما جاء في تسفيه أحلام الفريق الأول قوله
تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (الصافات: 95) {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي
أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) .
ومما جاء في التشنيع على الفريق الثاني قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن
يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا
حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقوله:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً *
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ} (الإسراء: 56-57) وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ
* كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ} (مريم: 81-82) وقوله:
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 20-21) فهل يعقل أن الأصنام بمعنى الجماد
تتصف بهذه الصفات التي وُصف بها المدعوون في هذه الآيات التي جاءت بشأن
الفريق الثاني؛ إذ لا يعقل أن يتصف الجماد بالغفلة أو بضدها أو يتصف بالعداوة
وضدها أو بالكفر وضده، ولا يتأتى أن تبتغي إلى ربها الوسيلة؛ وأن ترجو رحمته
وتخاف عذابه، ولا يمكن أن تكون الأصنام بمعنى الجماد ضدًّا على المشركين يوم
القيامة ولا يتصور أن يوصف الجماد بموت أو حياة أو شعور ببعث، فمن عنده أدنى
مسكة من عقل يدرك أن جميع هذه الصفات لا تنطبق على الأصنام بمعنى الجماد؛ بل
لا تنطبق إلا على المقربين من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين الأولياء. اهـ.
* * *
جواب المنار
عن حديث من يخرج من النار، والإيمان المنجي
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال تعالى: {وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنصَارٍ} (المائدة: 72) وقال تعالى في سياق محاجّة إبراهيم لقومه في التوحيد
والشرك {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك، وهو نكرة
في سياق النفي يفيد أن الأمن من العذاب المقيم الذي أعده الله للمشركين خاص بمن
آمنوا إيمانًا لا يشوبه شيء ما من الشرك، وإن كان مثقال حبة من خردل.
وقد بينا حكمة ذلك في تفسير آيتي {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء:
48) فراجعه في تفسيرهما من مجلد المنار الخامس عشر.
فعلم أنه لا مندوحة عن حمل حديث البخاري المسئول عنه على ما يتفق مع
هذه الآيات، وأن يراد بمثقال الخردلة من الإيمان فيه المثال للإيمان الخالص الذي
لا يشوبه مثقال خردلة من شرك، وهو الذي يعتد به في النجاة وإن لم يترتب عليه
ما يترتب على الإيمان الكامل من الآثار العملية والنفسية لأسباب منعت من ذلك،
كأن يموت المرء عقب اهتدائه إلى التوحيد الصحيح فلم يتم في قلبه، ولم يترعرع
إلى أن يكمل وتصدر عنه آثاره.
فإن لم يكن هذا هو المراد بالحديث كان معارضًا لهذه الآيات، ولا يمكن
ترجيحه عليها أو إرجاعها إليه والقول بأن مثقال حبة من خردل من إيمان مشوب
بالشرك ينجي صاحبه من النار بعد دخولها ويجعله من أهل الجنة، ولم يقل بهذا
أحد من المسلمين بل أجمعوا على أن الشرك بالله لا يغفر منه شيء، ومن تلوثوا به
من المسلمين جنسيةً لا يسمونه شركًا بل يسمونه اسمًا آخر، إلا من لم يبالِ بلقب
الإسلام كالباطنية بعد تكونهم شيعًا ذوات عصبية، ثم إنه لا يمكن جعل ذلك خاصًّا
بأمة من الأمم، ولا شك أنه يصدق على مشركي العرب في زمن البعثة أنه كان في
قلوبهم إيمان كحبة الخردل أو أعظم، وإنما المراد بحبة الخردل منتهى القلة؛ فإن
القرآن شهد لهم بأنهم يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق، وفيهم نزل {وَمَا يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) والآيتان اللتان أوردهما السائل
في سؤاله بعد هذه الآية، لا في المسلمين الذين يشركون كشركهم، فلو كان الإيمان
بوجود الله مع اتخاذ شركاء بذلك المعنى منجيًا لكان مشركو العرب في الجاهلية
ناجين حتمًا.
أما حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، والذي حرم الله على صاحبه الجنة
فهو مبيَّن في القرآن في مواضع كثيرة جدًّا، وينقسم إلى شرك في الألوهية بعبادة
غير الله تعالى، ومخ العبادة وجوهرها الدعاء أي طلب الخير ودفع الشر في الدنيا
والآخرة، وشرك في الربوبية باتخاذ بعض الناس شارعين يحلون لهم ويحرمون
عليهم ويشرعون لهم ما لم يأذن به الله فيتبعونهم، وقد شرحنا ذلك مرارًا كثيرة في
المنار في التفسير منه وغير التفسير.
والمعطِّل المنكر لوجود الله تعالى لا يسمى مشركًا، ولكنه شر من المشرك،
فإذا كان الله لا يغفر لمن يؤمن بأنه الحق الخالق الرازق إذا توجه إلى غيره معه
ودعاه من دونه، ولو ليقربه إليه زلفى، فهل يغفر لمن جحده مطلقًا؟ ولا نرى
وجهًا لتفرقة السائل بين الشرك باعتقاد تعدد المستحق للعبادة وتعدد واجب الوجود،
فإن المسلمين مجمعون على أن المستحق للعبادة هو واجب الوجود، وواجب الوجود
هو المستحق للعبادة، وهو الله تعالى، لا تصدق العبارتان إلا عليه تعالى، وإن
اختلفتا في المفهوم، والعبارة الثانية من اصطلاحات المتكلمين تبعًا للفلاسفة، فما
ذكره من الشرك واحد، والنصارى لا يقولون بتعدد واجب الوجود كما قال، ولكن
لهم فيه فلسفة لا تعقل؛ وهي التوحيد مع التثليث، أما من يتوهم أن عند الله فرقًا
بين المشركين باختلاف من أشركوهم معه في الدعاء أو غيره من خصائص
الألوهية والربوبية فهو - كما يعلم السائل الموحد - جاهل أحمق؛ إذ العبرة بحقيقة
الشرك لا بأصناف الشركاء، فلا فرق بين من أشرك به ملكًا أو نبيًّا، ومن أشرك
به كوكبًا أو حجرًا أو شيطانًا، وفي مشركي المسلمين من أشركوا بالله بعض آل
بيت نبيه بالعبادة والدعاء، ومنهم من أشركهم بالتشريع أيضا كأصناف الباطنية
وآخرهم البابية، ومن هؤلاء من انسلخ من اسم الإسلام كما انسلخ من معناه، ومنهم
من حافظ على انتحال اسمه مع لقب مذهب أو طريقة أو طائفة، ولو على سبيل
التقية، ومنهم من أشرك من دون آل البيت حتى النبات والجماد على نحو ما كان
عليه مشركو الجاهلية وغيرهم، فأما المحافظون على اسم الإسلام وشرائعه الظاهرة
فما نزغ به الشيطان بينهم جهل يسهل على العلماء إرجاعهم عنه إذا بينوا لهم
التوحيد الخالص من غير تأويل، وأما من ليسوا كذلك فقد صاروا أبعد عن الإسلام
من كثير من الوثنيين الخُلَّص، وكل ذلك معروف.
الجواب على تسمية الأصنام عبادًا
لم ير أشهر المتقدمين من المفسرين إشكالاً في إطلاق لفظ عباد على
الأصنام، فابن جرير الذي هو أشدهم عنايةً بتقرير كل ما كان يعد مشكلاً والجواب
عنه، لم يورده في الآية وفسر العباد بالأملاك. وأما من بعدهم فقد أوردوا ذلك
وأجابوا عنه. فالرازيُّ ذكر جوابين:
أحدهما: أن المشركين لما ادَّعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها
كونها عاقلة فاهمة فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم، ولذلك قال:
{فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} (الأعراف: 194) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ} (الأعراف:
194) ولم يقل (التي) .
ثانيهما: أن هذا لغو، ورد في معرض الاستهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن
يكونوا أحياء عقلاء، فإذا ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم، فلمَ جعلتم
أنفسكم عبيدًا وجعلتموهم آلهة وأربابًا؟ ثم أبطل أن يكونوا عبادًا أمثالكم، فقال:
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} (الأعراف: 195) إلخ. ثم أكد هذا البيان بقوله:
{فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} (الأعراف: 194) ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع
وكشف المضارّ من جهتهم. واللام في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا} (الأعراف: 194)
لام الأمر على معنى التعجيز. والمعنى أنه لمَّا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على
الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية. اهـ. المراد منه، وما هو إلا شرح
لعبارة وجيزة في الكشاف لا تبلغ السطرين.
وأقول: إن تنزيل الأصنام منزلة العقلاء يؤخذ من إعادة ضمير العقلاء عليها
إن لم يؤخذ من لفظ (عباد) وأخذها من الضمير أظهر، فإن هذا اللفظ يدل
في أصل معناه على التسخير والتذليل، ولذلك قالوا: إن العبادة مشتقة من قول
العرب: طريق معبد وهو الذي سُلِكَ كثيرًا حتى صار سلوكه سهلاً؛ لكونه ممهدًا
مُذللاً. قال الراغب: والعبادة ضربان: عبادة بالتسخير، وهو كما ذكرناه في
السجود، وعبادة بالاختيار، وهي لذوي النطق. ثم قال: والناس كلهم عباد
الله، بل الأشياء كلها كذلك، ولكن بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار. اهـ.
وقال في مادة سجد: السجود أصله التطأمن والتذلل، وجُعل عبارة عن التذلل
لله وعبادته وهو عامٌّ في الإنسان والحيوان والجمادات، ثم ذكر أنه ضربان: سجود
اختيار وسجود تسخير، وأن هذا عام للإنسان والحيوانات والنبات. وذكر الشواهد
من الآيات، ومنها سجود النجم والشجر وسجود الظلال كأنه جعله تابعًا للشجر.
فعُلم من هذا أن إطلاق لفظ (عباد) على الأصنام له وجه في اللغة، وعدُّه
منافيًا لإثبات كونهم جمادًا ليس قويًّا. وإنما يتجه إذا دعم بالسؤال عن نكتة إعادة
ضمير العاقل عليها، وملخص الجواب أن من سنن البلاغة العربية التي تكثر في
القرآن تنزيل غير العاقل منزلة العاقل، إذا أسند إليه فعل العاقل أو اعتُقد له أو
وُصف به، فما هنا من هذا القبيل، فإن الأصنام لم تعبد بالدعاء إلا وقد جعلها
الداعون ذات علم وإرادة وقدرة، فكان الكلام معهم والاحتجاج عليهم بحسب ذلك.
ويمكن أن يبنى ذلك على أن التوجه إلى الأصنام ليس لذاتها بل لكونها تمثل
من وضعت تذكارًا لهم من الصالحين، وأنهم هم الذين كانوا يدعونهم في الحقيقة
لصلاحهم الذي جعلوهم به واسطة بينهم وبين الله عز وجل، يقربونهم إليه زلفى
ويشفعون لهم عنده، وقد ورد عن السلف ما يثبت أن الأصنام والتماثيل وضعت
لذلك، روى البخاري وابن المنذر عن ابن عباس قال: صارت الأصنام والأوثان
التي كانت في قوم نوح في العرب: أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، وأما
سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق
فكانت لهمدان، وأما نسرًا فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانوا أسماء رجال
صالحين من قوم نوح فلما هلكوا (أي ماتوا) أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا
إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا
هلك أولئك ونُسخ العلم عُبدت اهـ. وروي في هذا المعنى غير ذلك، ومنها أنهم
من أولاد نوح أو آدم. ومنه تعلم أن أصل بلية الشرك الغلو في تعظيم الصالحين
وتعظيم ما يذكِّر بهم أو ينسب إليهم، وقد ينسى المذكر بهم فيعتقد أنه ينفع أو يضر
بنفسه.
__________(16/401)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما الحكمة في الذبح؟
(س19) من صاحب الإمضاء بلوندرة
سيدي الأستاذ العزيز صاحب المنار:
طلب إليَّ أحد أصدقائي أن أنقل إليكم السؤال الآتي راجيًا منكم أن تتفضلوا
بالإجابة عليه في المنار الأغر: ما هي الحكمة من الذبح؟ إذا كان الغرض عدم
تعذيب الحيوان، فهناك طرق أوفق بكثير من الذبح الذي لا يخلو بلا شك من
التعذيب حتى باستعمال أَحَدّ سكين، دع عنك أن الذبح يؤدي إلى تصفية أعضاء
الجسم من الدم الذي هو مادة مفيدة للغذاء ومحتوية على الجزء الأكبر من الحديد.
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي
لوندرة قي 13 مايو سنة 1913 ... ... ... ... بمستشفى سانت جورج
(ج) ليس الذبح أمرًا ابتدأ الإسلام إيجابه على أهله؛ لحكمة فيها يطلبها أو
فائدة يكلف الناس الانتفاع بها، وإنما جاء الإسلام والناس على عادات في أكل
الحيوانات: بعضها لا علاقة له بالدين، وبعضها من تقاليده الخرافية، فمنع
القسم الأخير ألبتة، وهو الذبح للأصنام ونحوها وعلى النصب تعبدًا وتدينًا.
وحرم من القسم الأول ما يستخبث عند أصحاب الطباع السليمة ويستقذر، وهو
على مهانة أكله مظنة الضرر، وهو الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، كما
حرم تعذيب الحيوان بالوقذ وغيره، وأمر بالرفق والإحسان به بقدر الطاقة، وحرم
الموقوذة - التي تضرب بغير مُحدد حتي تنحلّ قواهاة وتموت - فجعلها من الميتة،
وكذا ما اعتاده بعض فقراء العرب الممتهنين من أكل فرائس السباع والنطائح
وما يتردى في الوديان والحفر فيوجد ميتًا، إلا ما وقع من ذلك أمام أعينهم
فأدركوا فيه حياة فأزهقوا روحه بأيديهم، فإن أكله ليس فيه من مهانة النفس
وضعتها وتعريضها للضرر ما في أكل ما يوجد منه في الفلوات والوديان مترديًا أو
مفترسًا مثلاً، ثم أباح لهم ما وراء ذلك مما لا مهانة فيه ولا مظنة ضرر وأقرهم
على ما اعتادوا من أنواع تذكيته وصيده، فكانوا ينحرون الحيوان الكبير في لبته
كالبعير والثور ويذبحون الصغير إذا قدروا عليه وإلا قتلوه بسهم أو حربة،
ويأكلون ما صادوه بأيديهم ورماحهم وسهامهم ومَعَاريضهم وما صادته لهم الجوارح
فجاءتهم به ميتًا، وتجد تفصيل ذلك في باب التفسير من هذا الجزء وما بعده مع
النص بإحلال الإسلام له كله.
__________(16/432)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
(3)
تابع ما قبله
ومما تقدم تعلم أن القول بقيامة المسيح لم يكن - كما يزعم المبشرون الآن-
الحصن الوحيد الذي وقى المسيحية من السقوط، ولا كان محتمًا لإنقاذ التلاميذ
من هاوية السقوط والقنوط.
ومن أكبر ما حدث للنصارى بعد ذلك هو - كما زعموا - اضطهاد نيرون لهم
سنة 64 ميلادية، وهذا الاضطهاد إذا سلم أنه وقع عليهم فهو بإجماع المؤرخين لم
يكن سببه إلا سياسيًّا، أي اتهامه لهم بحريق رومية، ولم يكن لعقيدة قيامة المسيح
أدنى دخل فيه (راجع أيضًا رسالة الصلب صفحة 140 - 142) بل ولا في أيِّ
اضطهاد من الاضطهادات الرومانية العشرة الشهيرة من سنة (64 - 311 م) وإلا
فلينبئونا مَن منهم أو مِن رسلهم قُتل فيها من أجل هذه العقيدة؟ فقول المبشرين أنهم
إنما اضطهدوا لمجاهرتهم بالقول بقيامة المسيح، لا أساس له ألبتة من التاريخ، وإذًا
فقولهم: إن النصارى إنما صبروا على كل ما أصابهم لوثوقهم من هذه القيامة، قد
خوى على عروشه واندكت دعائمه كما لا يخفى؛ إذ لو لم يقولوا بها مطلقًا لأصابهم
ما أصابهم، وهم قائلون بها ما داموا حزبًا ناميًا مخالفين لغيرهم في كثير من
أفكارهم وآرائهم وشئونهم وسياستهم وأمانيهم وسائر أمورهم؛ ولذلك أصيب اليهود
في بعض هذه الاضطهادات بما أصيب به النصارى؛ لاختلافهم أيضًا عن
الرومانيين في مثل ما تقدم؛ فالقول بالقيامة وعدمها سواء بالنسبة لاضطهادهم
وصبرهم عليه. وكيف نسلم صحة كل حكايات الاضطهاد هذه بعد الذي علمناه عن
النصارى من المبالغات والتحريف والأكاذيب والزيادات؟ (راجع رسالة الصلب
ص121 و140 - 142) .
ومن الذي قال: إن جميع القائلين بعقيدة القيامة هذه كانوا كذابين وأنهم ما
كانوا معتقدين لها في الواقع ونفس الأمر، وإن كانوا فيها واهمين؟ وما يدرينا أن
أكثر الاضطهادات التي يحكونها كانت تحصل لهؤلاء المساكين الصادقين في
عقيدتهم؛ إذ مثل هؤلاء هم الذين يندفعون عادة ويتعرضون للناس ويدعونهم إليها
من غير أن يحسنوا السياسة معهم، والرؤساء من ورائهم يحرضونهم سرًّا
ويشجعونهم طمعًا في نجاحهم ونكاية بخصومهم وهم عن الأذى بعيدون؟ وهل
حصول الاضطهاد لشخص اعتقد شيئًا ما يدل على أن عقيدته صحيحة؟ مع أننا
نرى كثيرًا من الناس يتوهمون شيئًا ويعتقدونه فينالهم أذى كثير في سبيل ذلك ولا
يتحولون عنه، وما من دين في العالم أو أي مذهب إلا ونال أتباعه الأولين أذى
كثير واضطهاد فظيع؛ فهل جميع الأديان والمذاهب صادقة وهي كلها متناقضة؟ !
ولنرجع إلى أصل موضوعنا فنقول:
من العجيب أن بولس يذكر كل هؤلاء الأشخاص الذين أريناك حقيقة أمرهم
ويترك ذكر مريم المجدلية وهي أول من قالت أنها رأت المسيح (يو 20: 18
ومر15: 9) ولها فضل السبق في الذهاب إلى القبر، وقد ذكرت الأناجيل الأربعة
اسمها، وهي في الحقيقة البطل الأعظم لهذه الرواية، ومع ذلك لا يذكرها بولس،
ويذكر أشخاصًا آخرين لم تذكرهم الأناجيل، فما السبب في ذلك يا ترى؟ السبب
الأكبر في ذلك هو أن بولس - ككل العقلاء الحريصين - يرى أن شهادات النساء في
مثل هذه الحلة لا قيمة لها وخصوصًا لأنها كانت امرأة مختلة العقل ومصابة
بالشياطين كما تقول الأناجيل (لو8: 2) ولذلك قال بولس في النساء (1 كو 14:
34) : (لتصمت نساؤكم في الكنائس؛ لأنه ليس مأذونًا لهن أن يتكلمن بل
يخضعن كما يقول الناموس أيضًا) وهو صريح في بيان رأيه في قيمة النساء
عندهم خصوصًا في المسائل الدينية، وكذلك نرى أن شهادتهن ما كان يُعَوَّل عليها
عند قومه اليهود حتى ما كانوا يقبلونها في محاكمهم، فلهذا ولعدم ضرورة التملق
لهن لضعفهن وعدم الخوف منهن ترك بولس ذكر شهادة النساء في مسألة القيامة،
مع أن شهادة مريم هذه عند النصارى هي أول شهادة وأعظمها في هذه المسألة.
فمما تقدم يظهر لك شدة مبالغة بولس في هذه المسألة التي هي أصل دعواه،
وأساس دعوته كما قال هو نفسه (1 كو 15: 14) وذكره أشياء فيها - سياسة
منها كما بيَّنا - لم يذكرها أحد قبله ممن رأوا المسيح وشاهدوا أعماله، وهو مع ذلك
لم يقل أنه رواها عنهم، بل قال في رسالته إلى أهل غلاطية (1: 17 - 19)
أنه بعد إيمانه بالمسيح لم يصعد إلى أورشليم إلى الرسل بل ذهب إلى بلاد العرب
ثم رجع إلى دمشق وبعد ثلاث سنين ذهب إلى أورشليم، ولم يقابل فيها أحدًا من
الرسل إلا بطرس ويعقوب وجاء في سفر الأعمال (9: 19 و20) أنه كان في
دمشق يكرز بالمسيح أي قبل ملاقاة الرسولين، فهل كان إذًا يكرز بقيامته أم لا؟
فالظاهر أن كرازته هذه وإخباره بمسألة القيامة والرؤية بعدها مبنية على دعواه
لنفسه الوحي بها لا لسبب آخر، وهيهات أن يثبت ذلك له، ولذلك قال في رسالته
إلى أهل غلاطية (1: 11 و12) أن إنجيله لم يأخذه عن أي إنسان، بل
بإعلان يسوع المسيح، فهذه هي قيمة شهادته من الوجهة التاريخية فهو لم يكن
راويًا شيئًا في هذه المسألة وغيرها عن تلاميذ المسيح باعترافه بنفسه [1] ! !
فمبالغاته السابقة في رؤيته هو وغيره للمسيح لا يعول عليها، فإن من يدعي
ويقول لأهل غلاطية (في آسيا الصغرى) إن المسيح صلب بينهم ورأوه بأعينهم
أمامهم مصلوبًا (غل 3: 1) لا يبعد عليه أن يقول ما شاء وشاء هواه. فإن
قيل: إن المراد بهذه العبارة التي تشير إليها هو أنهم رأوا رسمه وصورته مصلوبًا [2]
كما ترجموه في النسخ العربية، أو المراد تصويره لهم وصفًا وتعبيرًا. قلت: وما
فائدة هذا الكلام إذًا وما قيمته؟ وأي حجة فيه على أهل غلاطية أو غيرهم الذين
سماهم أغبياء؛ لأنهم خالفوه ولم يذعنوا له؟ وهل مثل هذا التصوير الكلامي أو
الكتابي يكفي لإقناع الناس بمسألة الصلب أو بصدقه فيما يدعيه؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ} (ص: 5) ولماذا أضاعه النصارى إن كان مقنعًا للناس لهذه الدرجة؟
الحق والحق أقول: إن النصارى في دينهم واهمون، وعن طريق الصواب
ناكبون، هداهم الله إلى الطريق القويم والصراط المستقيم.
* * *
تذييل للفصل السابق
جاء في إنجيل يوحنا (يو20: 23) أن المسيح حينما قابل تلاميذه بعد قيامته
من الموت قال لهم: (من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت)
ومن لم يأت في عبارته هذه بقيد ولا شرط غير ما تراه فيها من تفويض الأمر كله
للتلاميذ؛ فلنسأل هنا الأسئلة الآتية:
1- هل إذا غفروا لمذنب لم يتب تغفر ذنوبه أم لا؟ فإن غفرت فأين إذًا
العدل الإلهي، وقد ساووا الطالح بالصالح بكلمة منهم واحدة؟ وأي فائدة للتوبة
والاستقامة ما دام الأمر موكولاً لهم يهبونه لمن شاؤوا متى شاؤوا ولو لم يستحقه؟
وهل لا يحمل قول المسيح هذا - إذا صح - النفوس على ترك كل عمل من أعمال
البر والتقوى، والسعي فقط فيما يرضي هؤلاء التلاميذ ونوابهم كالملق لهم أو دفع
مال، أو غير ذلك، وترك ما يرضي الله تعالى ما دام الأمر في يدهم لا في يده
تعالى؟ فأي إباحة للشرور والمفاسد أعظم من ذلك؟ وهل لا تُعذر النصارى الذين
عبدوا هؤلاء القديسين من قديم الزمان بعد أن علموا - من نصوص كتبهم - أنهم
يمكنهم أن يفعلوا بهم ما لم يفعله الله نفسه فيغفروا ذنوبهم ولو كانوا على العصيان
والشر مقيمين؟ وأي قدرة أكبر من ذلك؟ وإن لم تغفر ذنوب المذنب إلا بالتوبة
إلى الله والعمل الصالح فلمَ لم يشترط ذلك المسيح في عبارته هذه، وجعلها مطلقة
كما ترى؟
وإذا اشترط ذلك فما تكون إذًا فائدة غفران تلاميذه؟ وأي فرق بين وجوده
وعدمه؟ وما مزيتهم على غيرهم؟ وهل لا تكون هذه العبارة عبثًا ظاهرًا وقدرة
موهومة أعطاها لتلاميذه؟ وكيف يصل علم هؤلاء التلاميذ إلى أسرار نفوس الناس
والوقوف على حقيقة أمرهم حتى يعلموا إن كانت توبتهم صادقة صحيحة يستحقون
لأجلها الغفران أم لا؟ فهل أصبحوا آلهة بكلمة المسيح هذه؟ فغفرانكم أيتها الآلهة،
غفرانكم للعاصين مثلي، الكافرين بكم.
2- وإذا لم يغفروا لمذنب تاب ورجع إلى الله وحده، فهل يُغفر له أم لا؟ فإن
غفر الله له فما حاجة الناس إذًا إلى طلب الغفران منهم؟ وكيف قال المسيح: (من
أمسكتم خطاياه أمسكت) وإن لم يغفر الله له فكيف وعد التائبين (راجع مثلاً: حز
18: 21 - 24) بالغفران، ولم يشترط شيئًا آخر غير التوبة والصلاح في جميع
كتب الأنبياء السابقين، أي حتى قبل عمل الكفارة المزعومة بصلب المسيح؟ فهل لم
يعلم الله في تلك الأزمنة بأولئك الآلهة الذين أشركهم - بزعمهم - المسيح معه فيما
بعد حتى استقل بالعمل وحده بدون مراعاة رضاهم على التائبين، فماذا يفعل إذا هم
خالفوه في ذلك يوم القيامة؟ وكيف تكون التوبة قبل هذه الكفارة أسهل منها بعدها،
فإنها كانت قبلها قاصرة على إرضاء الإله وحده، وأما بعدها فلا بد من إرضاء
غيره معه وهم كثيرون؟ تعالى الله عما يشركون، وكيف لا يقدر الله الغفور الرحيم
(مز 86: 5 وخر 34: 6) على الغفران بدون إذنهم حتى تكون مشيئته تابعة
لمشيئتهم: أما مشيئتهم فنافذة - بمقتضى وعد المسيح هذا - كالسهام بحيث لا تقف
أمامها إرادة الله نفسه، فهم إذًا أقدر منه تعالى وأولى بالعبادة دونه وأحق، فأي
باعث على الشرك وعبادة البشر أكبر من ذلك؟ فالآلهة إذًا عندهم ليسوا ثلاثة فقط،
بل هم كثيرون متعددون، فما معنى توحيدهم، وأي فائدة منه بعد ذلك؟ وأي ذل
واستعباد للناس أكبر من ذلك؟ وأي مبادئ أشد حضًّا من مبادئهم هذه على استبداد
رؤسائهم وطغيانهم وتصرفهم فيهم كما يشاؤون؟ وكيف بعد ورود مثل هذه العبارة
في الأناجيل ينكر مبشرو البروتستنت الآن أن كل ما حصل في أوربا في القرون
الخالية من مظالم رجال الكهنوت وغيرهم من رؤسائهم (انظر رو 13: 1 و2)
وأكلهم من أموال الناس بالباطل ومفاسدهم واستبدادهم وسفك الدماء والمذابح العظيمة
والشقاق الدائم بين فرق النصارى، وغير ذلك إنما هو كله كان من النتائج اللازمة
لتلك المبادئ التي قررتها كتبهم التي يقدسونها إلى الآن. وكيف يعقل أن عبارة
المسيح السابقة هي من عند الله؟ أليست هي مما اختلقته الشياطين ونسبوه كذبًا
لعيسى عليه السلام، وهو منها ومن أمثالها - والله - لبريء [3] ؟ وإلا فكيف تتفق
هذه العبارة مع قوله عليه السلام لمن سألته أن يجلس ابنيها واحدًا عن اليمنى
وواحدا عن اليسار في مجده، قوله لها: (وأما الجلوس عن يميني وعن يساري
فليس لي أن أعطيه إلا الذين أعد لهم من أبي) . (راجع متى 20: 23 ومرقس
10: 37 - 40) فإذا كان هو نفسه لا يمكنه أن يعطي شيئًا إلا لمن أراده الله
فكيف إذًا تعطي تلاميذه الغفران لمن شاءوا ويمنعونه عمن شاؤوا؟ إن هذا لأمر
عجيب!
وإذا كان النصارى يعتقدون قدرة التلاميذ على التصرف في الكون (مت 16:
19 و18: 18) وغفران الذنوب ودينونة الخلائق والملائكة يوم القيامة (1
كو 6: 2 و3) وأن كلمة أحدهم تنقل الجبال ولا يستحيل عليها شيء كما سبق
(مت 17: 20) فأي شيء أبقوه لله تعالى بعد ذلك كله سوى عمله بحسب مشيئتهم
وانقياده لأوامرهم ونواهيهم؟ وهل هذا هو التوحيد الذي جاء به عيسى وجميع
الأنبياء قبله؟ وهل إلى هذا الشرك والوثنية يدعون المسلمين الموحدين ولا يخجلون؟
فأي عقل أسخف من هذا؟ ومن الذي جن حتى يقبل ذلك منهم؟
ومما تقدم هنا تعلم حكمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمن الذي
بعث فيه، ومقدار حاجة العالم إليه وقتئذ، وحكمة إكثاره - قبل كل شيء - من
الدعوة إلى التوحيد الحقيقي والتنزيه بعد أن امتلأ العالم كله بالشرك والوثنية
والتشبيه والتجسيم، فهو إمام المصلحين وسابق المتأخرين منهم جميعًا الذي أزال
غياهب الباطل وظلماته، ونشر الحق في الأرض ودعا لعبادة الله تعالى وحده،
فخلص الناس من الذل والاستبداد والاستعباد وساوى بين عباد الله أجمعين فمحق بذلك
الظلم ورفع النفوس إلى أعلى ذروة من الكمال البشري وأطلقها من أسر التقليد
والأوهام والخرافات للعمل النافع، والتعقل والتفكر في الدنيا والآخرة (راجع
القرآن 2: 219) فانتشر في العالم بسرعة خارقة للعادة: العلم، والحرية
الصحيحة، والإخاء والمساواة والإيمان بالحق، والمدنية الراقية التي كانت أساسًا
لمدنية أوربة الحالية [4] فلله دره وما أكبره من مصلح عظيم ونبي كريم، ورسول
من الله أتى بالخير العميم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، فلولا وحي الله إليه لما
أمكنه الإتيان بعُشر ما أتى به وهو ربيب الجاهلين المشركين الوثنيين، ولم يغب عن
قومه غيبة تمكنه من تعلم القليل فضلاً عن الكثير، وأيُّ بلاد كان فيها جميع ما
أتى به الإسلام من الحقائق والعقائد الراقية والمبادئ الصحيحة والأصول القويمة
للدين الحق الكامل في كل شيء؛ مع أن بعض هذه الأشياء لم تقف عليها أرقى
علماء الغرب أو لم يجزموا بها إلا في الأعوام الأخيرة.
وقد كانوا قبل ظهور الإسلام إلى مئات من السنين بعده كالأنعام لا يهتدون إلى
العلم والحق سبيلاً، يسوم بعضهم بعضًا سوء الظلم والاستبداد والاستعباد
والاضطهاد حتى أضاء لهم قبس من نور الإسلام في الشرق فكان لهم هاديًا وللرقي
دليلاً، سنة الله في كل من اتبع مبادئ دينه القويم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) ولا يتوهمن القارئ مما ذكرناه هنا أن
أحدًا من المسلمين يقول: إن جميع ما أتى به الإسلام لم يكن معروفًا عند الأمم
الأخرى قبل نزول القرآن، كلا فإن هذه الدعوى لم يدعها أحد من المسلمين ولن
يدعيها، كيف وقد قال القرآن الشريف نفسه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13) الآية، وقال:
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (النحل:
123) وقال: {َوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) وقال:
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (الأعلى: 18-19)
وقال: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ
لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (النمل: 76-77) وغير ذلك كثير، فما في القرآن مما
يوجد مثله في الأديان الأخرى القديمة نوعان:
1- إما أن يكون مما أوحاه الله إليهم وأبقاه الإسلام لما فيه من المصلحة للناس.
2- وإما أنه من الأشياء المستحسنة الصالحة التي وصل إليها الناس بعقولهم؛
وكانت موافقة لحالتهم ونافعة لهم، فأقرها الإسلام ولو لم تكن في الأصل وحيًا فإنَّ
الغرض من نزول القرآن وغيره من الكتب الإلهية هو الإصلاح لا محو كل شيء
موجود من قبل ولو كان صالحًا نافعا، فإن الأنبياء مصلحون لا إعداميون، قال
تعالى على لسان شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} (هود: 88) ولا شيء أكثر موافقة لحال الناس مما وصلوا إليه
بأنفسهم ففائدة الوحي إذًا إلى الأنبياء هي:
أولاً: إرشادهم إلى أصلح الموجود وأنفعه لأممهم ليبقوه وليمحوا الفاسد الضارّ
من بينهم، ولو اعتمدوا على العقل وحده في هذه العمل لوقعوا في الخطأ والضلال
من حيث يريدون النفع، ولذلك قال في الآية السابقة:] إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [ (هود: 88) .
ثانيًا: هي الإتيان بأشياء جديدة لم تكن تعرفها الأمم السابقة وقد بينا بعض ما
أتى به الإسلام مما لم يسبقه به أحد في بعض كتبنا ورسائلنا فلا حاجة للتكرار هنا.
فما في القرآن موافقًا لما عند الأمم الأخرى إنما هو لصحة ذلك عن أنبيائهم أو
لصلاحه ونفعه، وما فيه مخالفًا لها هو لفساده وخطئه وضرره لتحريف كتبهم على
ممر الأزمان، فإن القرآن جاء ليبين لهم ما كانوا فيه يختلفون.
ولو كان وجود أشياء في الدين المتأخر مما في الدين المتقدم يدل على كذب
نبي الدين المتأخر لكان موسى - مثلا - من الكاذبين، فإن بعض شريعته يوجد
مثله مع اختلاف طفيف جدًّا، في شريعة حمورابي البابلي التي اكتشفت سنة
1902 وهي أقدم من التوراة بنحو عشرة قرون، ولكان عيسى أيضًا كاذبًا؛ لأن
جلّ نصائحه وتعاليمه، إن لم نقل كلها، كانت موجودة حرفًا بحرف في كتب اليهود
من قبل كما بينه كثير من علماء الإفرنج (راجع مثلاً كتاب النصرانية والأساطير
ص403، 423 وكتاب شهود تاريخ يسوع ص235، 288) بل إن بعض حِكم
المسيح ونصائحه يوجد مثلها أيضًا في كتب حكماء اليونان والهند والصين
الأقدمين مثل كونفوشيوس الصيني الذي مات سنة 479 قبل الميلاد، حتى إن
حكمة عيسى عليه السلام الذهبية التي يفتخرون بها صباح مساء وهي قوله (مت 7:
12) : (فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم؛ لأن
هذا هو الناموس والأنبياء) قال مثلها تمامًا كونفوشيوس المذكور، وأرسطو
أيضًا في منتصف القرن الرابع قبل المسيح وغيرهما كثيرون (راجع كتاب لغز
العالم، تأليف إرنست هيكل ص124) وجاء في سفر (طوبيت) من أسفار اليهود
غير القانونية قول كاتبه (4: 16) : ما لا تحب أن يفعله بك أحد لا تفعله بغيرك،
وفي التلمود قول هيلل Hillel: (ما لا تحبه لا تفعله بقريبك، فإن هذا هو التعليم
كله) . فإن قيل: إن هذه العبارات اليهودية بصيغة سلبية، وهي لا شك أقل فضيلة
من عبارة المسيح السابقة الواردة بطريقة إيجابية، قلت: إن عبارة المسيح هذه
كانت أيضًا بطريقة سلبية في نسخ الأناجيل القديمة، ولكن النصارى حرفوها فيما
بعد لتكون أكمل وأتم (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص267) .
وجاء في سفر اللاويين (19: 34) الأمر بمحبة الغريب النازل وسط
اليهود كمحبة النفس، وفي سفر الخروج (23: 4 و5) ورد الأمر بمساعدة
العدو (راجع أيضا أمثال 24: 17 و25: 21 و22 وأيوب 31: 29) وغير
ذلك كثير، وفي التلمود قوله: أحب من عاقبك، وقوله: (خير لك أن يسيئك
غيرك من أن تسيء) وقوله: (الأفضل أن تكون من المضطهَدين - بالفتح - لا من
المضطهِدين) .
أما قول المسيح (مت 5: 44) : (باركوا لاعِنِيكُم، أحسنوا إلى [5] مُبْغِضيكُم)
فلا وجود له مطلقًا في أقدم نسخ الأناجيل، كما ذكره العلامة آرثر دروز في كتابه
عن (شهود تاريخ يسوع) ص 269 وإذًا فهو من مخترعاتهم، على أن قول عيسى:
(أحبوا أعداءكم) ليس بأحكم مما نقلناه هنا عن كتب اليهود؛ لأنه تكليف بما لا
تطيقه النفس البشرية، فهو من الغلو الذي لا يمكن لأحد العمل به مطلقًا؛ لأن قلب
الإنسان لا يمكن إرغامه على مثل ذلك. وهل من العدل والعقل أن يساوي الإنسان
بين الصديق والعدو فيضعهما في قلبه وينزلهما منزلة واحدة؟ وهل لا يحمل هذا
بعض الخبثاء الأشرار على الاسترسال في الأذى وعدم الكف عن الطغيان؟ ولماذا
لا يفعل أحد من النصارى بهذه الأوامر، ولا دولة من دولهم؟
وهنا نسأل المبشرين: هل أولئك الشارعون الفضلاء، أمثال حمورابي ملك
بابل وكونفوشيوس حكيم الصين ممن ذكرنا، وصلوا إلى ما وصلوا إليه بالعقل
أم بالوحي؟ فإن كانوا وصلوا إليه بالعقل لكانوا إذًا أعقل وأرقى من موسى
وعيسى اللذين ما وصلا إليه إلا بعون الله ووحيه كما يقول المليون؛ وخصوصًا لأن
شريعة حمورابي أكمل مما في هذه التوراة باعتراف القس روس Rouse
الإنكليزي وغيره في كتابه في النقد ص64، وإذا كان من مبطلات وحي القرآن
عندهم وجود أشياء فيه موجودة عند الأمم الأخرى، فلم لا يبطل ذلك أيضا وحي
التوراة والإنجيل؟ ولم خص الله بني إسرائيل كما يزعمون بالوحي والنبوة وهم
من أقل الأمم عقلاً ومن أكثرهم ميلاً للضلال والكفر حتى إنهم كثيرًا ما ارتدوا هم
وبعض أنبيائهم وعبدوا الأصنام مع كثرة المعجزات فيهم وتعدد الأنبياء بينهم لدرجة
مدهشة؟ وقد انتهى أمرهم أنهم أنكروا المسيح وصلبوه وقتلوه، وبقي اليهود
مصرين على كفرهم به إلى اليوم؟ فهل من الحكمة والعدل أن تكثر الأنبياء بينهم إلى
تلك الدرجة المعروفة، ويحرم الله أمم جميع العالمين قاطبة من رسل إليهم منهم أو
من غير أمة اليهود المعاندين المرتدين الكافرين؟ فكيف يؤاخذ الله تلك الأمم ويلزمهم
بالإيمان بما لم يؤمن به اليهود أنفسهم الذين كثرت بينهم الآيات والمعجزات
وتعددت منهم الأنبياء والرسل؟ وكيف تكون جميع نعم الله تعالى على عباده في هذا
العالم مقسمة بين جميع الأمم على شيء من المساواة التامة أو الناقصة، ويحرم
بالمرة جميع الناس ما عدا اليهود من أكبر نعمه، وهي نعمة التجلي لهم والقرب
منهم بالوحي والنبوة والإرشاد الإلهي الأكبر ويعطي ذلك كله لليهود وحدهم؟
والأغرب من ذلك أن يكون اليهود هم المقصودين أولاً وبالذات من بعثة
عيسى حتى ما كان يجوز له ولا لرسله دعوة غيرهم من الأمم إلا إذا رفض اليهود
الدعوة كما سنبينه (انظر مثلا مت 15: 24 وأع 13: 46 و18: 6 ورو 1:
16) فكأن جميع الأمم عند رب العالمين كلاب، وقد سماهم المسيح نفسه بذلك فقال
(مت 15: 26) : (ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب) وإذا قارنَّا
اليهود بمن في السموات والأرض من ملائكة وأناسيّ ودواب وشياطين وغير ذلك
بما فيهم من صالح وطالح ومهتدٍ وضال، وعلمنا - بحسب دين النصارى - أن الله
لم يهتم بغير اليهود، حتى تجسَّد ونزل إلى الأرض وحُبس في هذا الجسد الإنساني
إلى الأبد من أجلهم أولاً، فرفضوه وأهانوه وقتلوه - أدركنا كيف أن إلههم قد
وضع الشيء في غير محله، وأخطأ المرمى مرارًا وظلم غيرهم بعدم اعتنائه بهم
عنايته باليهود مع احتياج جميع المخلوقات إلى هدايته مثلهم ورعايته وتدبيره لهم،
ولكنه أهملهم، وبعد ذلك كله لم يعرف كيف يخلص اليهود بل أوقعهم في الهلاك
الأبدي بصلبهم له وحكم عليهم بالنار الدائمة، فهو إذًا إله جاهل ظالم عاجز قاسٍ حتى
لم يعمل هو نفسه بما ألزم به الناس - عندهم - من وجوب درء السيئة بالحسنة
والبغض بالمحبة (مت 5: 39 - 48) فصار منتقمًا حقودًا حتى على
مختاريه اليهود، فكيف يوجب على الناس بعد ذلك ما لم يقدر عليه هو نفسه؟ وكيف
جهل كل هذه النتائج ولم يعدل بين مخلوقاته العدل الممكن؟ قارن هذه العقائد
بقول القرآن الشريف: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود: 6) وقوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي
الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى
رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام: 38) وقوله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس: 3) وقوله:
{أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: 54) وقوله:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا
يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: 29) [6] وقوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} (الشورى: 19)
وقوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} (فصلت: 12) إلخ إلخ، فأين الثريا من
الثرى؟ وأين السماء من الأرض؟
فانظر - رعاك الله - إلى هذه الحقائق الدينية العلمية السامية التي جاء بها
الأمي، وهي ما كانت تخطر على بال واضعي دينهم ومؤلفي كتبهم المقدسة، بل
إن وجود دواب في السموات كما في الأرض ما كان يعرفه أحد من العالمين
وخصوصًا مؤلفي كتبهم الذين كانوا يتوهمون أن العالم عبارة عن المملكة الرومانية
فقط. (راجع ص14 من هذه الرسالة) .
ولنرجع إلى ما كنا فيه:
وإن كان وصل أولئك الحكماء إلى ما وصلوا إليه بالوحي الإلهي، فلمَ إذًا أخذ
المبشرون ينكرون على القرآن مثل قوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) [7] وقوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ
وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 164) .
أما عدم علمنا بهؤلاء الرسل فذلك لا يطعن فيما قرره القرآن؛ لغموض
التاريخ القديم ونقصانه واختلاطه كثيرًا بالباطل، كما لا يطعن في صحة قصص
التوراة وغيرها من وجود بني إسرائيل في مصر، وخروجهم [8] منها وغرق
المصريين، وآيات موسى بينهم إلخ، لا يطعن في ذلك عدم وجود ما يؤيدها في
الآثار المصرية القديمة (راجع كتاب صدق المسيحية ص 204 و212 وكتاب
الأصول البشرية ص88 و89 و92) على أن العلماء المحققين قد أصبحوا الآن
يشكون في أكثر ما في التاريخ القديم من الحوادث والحكايات؛ لتعذر الوصول إلى
حقيقته حتى إنهم شكوا [9] في وجود مؤسسي الأديان المعروفة كموسى وعيسى ما
عدا محمد عليه الصلاة والسلام (راجع مثلا كتاب المسحاء الوثنيين ص 238
و239 وكتاب شهود تاريخ يسوع ص294 و295) .
ومما تقدم تعلم فساد، بل هذيان، ما في كتب المبشرين مثل كتاب (مصادر
الإسلام) وكتاب (علم الأعلام في حقيقة الإسلام) وغيرهما؛ فإن وجود أشياء
في القرآن مثل الموجودة عند الأمم الأخرى مما يؤيد صحة قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ونحوه مما سبق ذكره؛ فما في
كتبهم هذه يصح أن يكون حجة للقرآن لا عليه، ليتدبروا في ذلك إن كانوا يعقلون،
وللحق والهدى يطلبون.
* * *
فصل في بعض آيات القرآن في هذه المسألة السابقة
والمقارنة بينها وبين ما جاء في كتبهم عن المسيح وغيره
مما تقدم في الكلام عن الإنجيل تعلم الحكمة في كون القرآن الشريف لم يقل
في موضع ما منه: إن النصارى حرفت الإنجيل، كما قال مثل ذلك في اليهود
مرارًا؛ لأن النصارى لم يكن عندهم في وقت من الأوقات (إنجيل عيسى)
فحرفوه كما كان عند اليهود (توراة موسى) فحرفوا بعضها ونسوا البعض الآخر
منها؛ فلذا قال تعالى في اليهود: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) أما النصارى فلم يكن عندهم من الإنجيل إلا بعض
أقوال قليلة كما بين سابقًا، ونسوا كثيره فلذا قال تعالى فيهم: {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) أي: عقب المسيح مباشرة، كما يدل
عليه العطف بالفاء.
وهذه الأقوال القليلة التي حفظوها عن المسيح تناقلوها أولاً بالروايات الشفهية
ثم كتبوها وضمنوها في كتب كانت تراجم لحياة المسيح، وسموها بالأناجيل وضموا
إليها ما شاءوا من الأقوال والحوادث المخترعة والحقيقية، ونسبوها كلها للمسيح
عليه السلام حتى اختلط عندهم الحق بالباطل بحيث يتعسر الآن أو يتعذر تمييز
جميع أقوال المسيح الصحيحة عن الأقوال المنسوبة إليه كذبًا، وقد اعترف يوحنا
بأنه لم يكتب عن المسيح كل شيء (يو 21 و25) فلم يكن الإنجيل موجودًا
وحرفوه، بل أضاعوا كثيرًا منه، كما قال تعالى: {فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) أي جزءًا عظيمًا منه، وما بقي اختلط بكثير من الآراء المتنوعة
والمذاهب المختلفة باختلاف الأهواء والأغراض والعقول، فقد توخى كل من كتب
منهم إنجيلاً في الأزمنة الأولى تأييد غرض أو مذهب مخصوص أدته إليه معلوماته
أو فلسفته كما سبق.
لذلك قال تعالى للنصارى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا
كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77) وقال في أهل الكتاب عمومًا:
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78) وقال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم
مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) حاشية: اعلم أن الذي اضطره إلى هذا التصريح هو أنه وجد أن بعض الناس وخصوصًا اليهود المتنصرين يفضلون الرسل عليه ولا يذعنون له ولا يثقون بتعاليمه إلا إذا سألوا الرسل عنها، وأقروها فأثار ذلك حقده وغضبه حتى لم يقدر أن يكظم غيظه فكتب في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس ما يُظهر به أنه أفضل من هؤلاء الرسل الذين اتخذوهم حجة عليه، وأن أتباعه أكثر وأعماله أعظم (2 كو 11: 22 - 33) ولما وجد أن هذا الكلام لم يُجدِ مع مخالفيه نفعًا وأنهم لم يزالوا يعتبرون الرسل فوقه ويحكمونهم في أقواله وأعماله، اضطر أن يُظهر في رسالته إلى أهل غلاطية أنه لا يبالي بهؤلاء الرسل مهما كانوا (2: 5 و6) وأن كل من خالفه منهم أو من غيرهم وأتى الناس بتعليم آخر غير تعليمه لهم - ولو كان ملكًا من السماء - يكون ملعونًا مطرودًا من رحمة الله (غل 1: 8 و9) وأن تعاليمه لم يأخذها عن أي أحد منهم بل هي كما ذكرنا بوحي يسوع المسيح إليه (1: 11 و12) الذي رآه في السماء الثالثة وفي الفردوس وسمعه وكلمه (2 كو 12: 2-4) منذ سنين، فلا يجوز لهم إذًا أن يحكموهم في أقواله وهو لم يقل: إنه أخذ شيئًا عنهم أو إنه كان تلميذًا لهم، بل قال: إنه تلميذ المسيح بالوحي ورسوله إلى الأمم وأنه أفضل من جميع الرسل (2 كو 11: 23) بعد أن كان يقول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: إنه أصغرهم وإنه ليس أهلاً لأن يسمى رسولاً (15: 9) فانظر وتعجب! ! ومما تقدم تعلم أنه لم يكن على وفاق تام مع الرسل ولا مع أتباعهم الحقيقيين، وخصوصًا بعد أن علمت مخالفة يعقوب له في رسالته، وذم يوحنا له في رؤياه كما سبق بيانه، والظاهر من كتبهم القانونية أن بطرس كان مسالمًا له؛ وذاك لخوفه منه وضعف مواهبه عنه، ولكن يقال في خطب إكليميدس الروماني أن بطرس هذا كان أيضًا يتتبعه ويحاربه ويكذبه، وكذلك قيل في رسالة بطرس ليعقوب (راجع كتاب دين الخوارق ص 318 و319) وكان كثير من آباء النصرانية الأقدمين يمقتونه ويرفضون رسائله، وكذلك الأبيونيون كافة، فالسبب الحقيقي في شهرته بين النصارى بعد هو اتباع الأمم غير اليهودية له وسرورهم بتعاليمه لسهولتها عليهم بسبب خلوها من جميع التكاليف الموجودة في غيرها؛ ولموافقة عقيدته في الخلاص بالمسيح لعقيدة الوثنيين في آلهتهم المتجسدة النازلة إلى الأرض لخلاص الناس؛ لذلك تهافتت تلك الأمم الرومانية واليونانية على هذه الديانة فنجح معهم بولس في ذلك نجاحًا كبيرًا، نعم كان بعض خاصة اليونانيين طلاب الحكمة الفلسفة لا يبالون بعقيدته في الخلاص بيسوع ويهزأون بها (1 كو 1: 18 و23) ومن كان منهم يعتقد مثلها في بعض آلهتهم اليونانية كان يسخر من بولس لجعله مخلص العالم رجلاً من قومه اليهود وهم قوم محتقرون عندهم، ولكن عامة اليونانيين وجماهير الأمم الأخرى الوثنية كانت عقائدها تشبه من كل وجه عقيدة بولس في الخلاص بالصلب والموت، وإن كان مخلصوهم غير مخلص بولس (راجع مثلاً كتاب ملخص تاريخ الدين ص 108 وكتاب المسحاء الوثنيين ص206، وكتاب شهود تاريخ يسوع ص 67) فسهل عليهم لذلك قبول أفكاره في يسوع وراجت بين الرومانيين شيئًا فشيئًا حتى عمتهم تقريبًا وانتقلت إلى بعض الخاصة أيضا وما زالت هذه الديانة البولسية تنتشر بين الناس شيئًا فشيئًا لملاءمتها لذلك الوسط الروماني اليوناني الوثني إلى أن صارت هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية بعد مضي نحو ثلاثة قرون عليها، ولولا أن مخلصها من اليهود المحتقرين عندهم لكانت أسرع انتشارًا من ذلك بينهم لعدم مباينتها لعقائدهم إلا في أشياء طفيفة قليلة ولاشتمالها على بعض مبادئ اشتراكية (أع 4: 32 وإباحية كو 2: 16) أسهل بكثير مما في بعض الشرائع الأخرى كالموسوية ونحوها التي لا خلاص فيها بالإيمان وحده بل بأعمال شاقة كثيرة معه، ومنذ ذلك الحين صاروا يضطهدون الناس بعد أن كانوا مضطهدين، وكان منهم ما كان مما تتفطر لذكراه قلوب الراحمين، فزادت أيضًا بهذا القهر والإكراه انتشارًا، وإلى الآن تراهم على الضعفاء غالبًا معتدين قاسين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(2) حاشية: إذا صح أن المراد من هذه العبارة صورة المسيح ورسمه، فلماذا إذًا ينكر البروتستانت على الكاثوليك والأرثوذكس وضع الصور في كنائسهم ويدعون أنه لا مسوغ لهم في ذلك في كتبهم.
(3) يعتقد البروتستنت أن المسيح قال حقيقة هذه العبارة، وأنه هو أيضًا الذي وضع لهم فريضة العشاء الرباني التي قال في أثنائها لهم: (خذا كلوا هذا هو جسدي - مشيرًا إلى الخبز - وأخذ الكأس وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي) (مت 26: 26 -28) فبنى النصارى جميعًا من قديم الأزمان على العبارة الأولى وما ماثلها (مت 18: 18) سلطة رجال الدين ووجوب الاعتراف لهم بالذنوب وقدرتهم على غفرانها إلخ، وعلى العبارة الثانية أن الخبز والخمر يستحيلان فعلاً إلى جسد المسيح ودمه، وأنهم إنما يأكلون حقيقة إلههم (يسوع) ويشربون دمه في هذا القربان كما يفعل الوثنيون في آلهتهم، فلذا قست قلوب النصارى على بني البشر، من باب أولى، ما دام دينهم يأمرهم بأكل إلههم وشرب دمه، ولا أدري لماذا غضب على اليهود وعد عملهم به إساءة له مع أنه كان يطلب منهم ويود أن يأكلوا جسده ويشربوا دمه، انظر (يو 6: 52 - 59) وكأن ما فعلوه به أقل مما طلب، ولماذا لا يغضب على أتباعه الذين يفعلون به ذلك مرارًا إلى اليوم؟ أتى البروتستنت في العصور المتأخرة وكذبوا النصارى جميعًا في هذه المسائل وغيرها وأولوها لهم بغير ما عرفوه عن أقدم آباء النصرانية، ولكنا نعجب غاية العجب كيف أن جميع أتباع المسيح حتى أحدثهم به عهدًا لم يفهموا مراده من تلك العبارة، إذا صح أنه هو قائلها، وبقوا على الضلال فيها إلى القرن السادس عشر، فلم يسمع عن أحد منهم ما يقوله البروتستنت فيها الآن، فإذا جاز عند البروتستنت أن يصل ضلال جميع النصارى في دينهم إلى هذه الدرجة وأن لا يفهموا مراد المسيح الحقيقي طول هذه القرون التي كانوا فيها يتخبطون في أعمالهم وعقائدهم، فكيف لا يجوز أنهم ضلوا في غير ذلك وكانوا فيه من الواهمين؟ وكيف إذًا ينكرون حاجتهم إلى بعثة رسول الله، وإلى ما جاء به من الإصلاح الكامل الذي سبق به جميع مصلحيهم حينما كانوا لا يخطر على بالهم أنهم في دينهم واهمون، وفي الضلال هائمون؟ مع أنه لولا أن جاء عليه السلام ما اهتدوا إلى هذا الإصلاح، أو لتأخر رقي العالم في العلم والدين والمدنية إلى زمن أبعد وقرون أكثر، فإنه هو وأمته هم الذين نشروا كل ذلك في العالم القديم أجمع وأيقظوا النصرانية من سباتها العميق الطويل، فلو لم يكن مرسلاً من الله فهل يعقل أنه تعالى الحكيم الرحيم بعباده يتركهم ضالين في أمورهم، حيارى في دينهم، ظالمين مفسدين، أغبياء
جاهلين، لا يعرف أحد منهم للصواب والحق اليقين والعلم سبيلاً حتى كان أكبر قادتهم بولس يمدح الجهل ويذم الحكمة والحكماء، ويقبل الناس ذلك منه على أنه وحي من الله مقدس. (انظر مثلا
1 كو: 17 - 25 و27) فتركوا العلم وحرموا أنفسهم من استعمال العقل في كل شيء حتى ضلوا ضلالاً بعيدًا، فلذا جاء القرآن بعكس ذلك وذم في أكثر صفحاته الجهل والجهال والتقليد ومدح العلم والعقل والتفكر، وأوجب ذلك كله على المؤمنين فنهض بالعقل البشري نهضة لم يسبق بها كتاب: (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (البقرة: 269) .
(4) يقول بعض العلماء الباحثين: إن الإسلام أوجد قديمًا - حينما كان الناس متمسكين بتعاليمه - أكبر دولة في العالم وأعظمها علمًا ورُقيًّا ومدنية، وأنتج في كل علم ألوفًا من كبار العلماء والفلاسفة والحكماء والمفكرين، وأما تعاليم المسيحية فما زالت تفت في عضد الدولة الرومانية، وهي دولتها الوحيدة إذ ذاك حتى قضت عليها، ولم تنتج في مئات السنين عالمًا واحدًا من كبار المحققين بل كان رجال الدين منهم يمقتون العلم ويضطهدونه اضطهادًا شديدًا، وكلما ظهر بينهم أحد بدا عليه شيء من العلم أو التفكر ثاروا عليه وأخمدوا أنفاسه بأفظع طرق الإعدام بحجة مخالفته للدين ولنصوص كتابهم المقدس، وكل ذلك معروف مشهور فلا حاجة لنقل شواهده هنا، وكيف لا تضطهد ديانتهم هذه العلم والعلماء، وهي في كل عقائدها وتعاليمها مناقضة للعقل الصحيح والفطرة البشرية على خط مستقيم كما لا يخفى، وما ارتقت أوروبا إلا بعد أن تركتها بتاتًا وأخذت بتعاليم أشبه بتعاليم الإسلام من كل شيء آخر وما نبغ بينهم الآن عالم محقق وفيلسوف كبير إلا وهو للمسيحية عدو مبين، أما فلاسفة المسلمين فكانوا في كل زمن أشد الناس حبًّا له، وتمسكًا به، وغيرة عليه، فهل تستوي الظلمات والنور.
(5) تذكر قول القرآن: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (الرعد: 22) وقوله: (وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34) ولكن ذلك ليس بمحتم دائمًا لقوله تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) (الشورى: 41-42) إلى قوله: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (الشورى: 43) .
(6) كان الأب مراكي Marracci وغيره من علماء النصارى يطعن في القرآن لقوله بتعدد العوالم في هذه الآية وغيرها مثل قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) وقد أصبحت هذه المسألة حقيقة علمية فلكية لا شك فيها (راجع ترجمة سيل للقرآن هامش 2 لسورة الفاتحة) والدابة تطلق على كل حيوان يدب أي يمشي على الأرض، ولو كان عاقلاً كما يفهم من قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) (النور: 45) كالإنسان
(وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور: 45) .
(7) أما قول القرآن الشريف في إبراهيم: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (العنكبوت: 27) فالظاهر منه أن ذريته كثرت وانتشرت في سائر بقاع الأرض مع القبائل الرُّحَل في تلك الأزمنة وامتزجت بجميع الأمم امتزاجًا تامًّا حتى صارت منهم، ومن هذه الذرية كانت جميع الأنبياء الذين أتوا بعد إبراهيم حتى من ظهر منهم في أمريكا فقد كانت متصلة بالعالم القديم في سالف الزمان ولا ننسى أننا لا نعلم تاريخ وجود إبراهيم باليقين، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى بعد ذكر بعض أولاده
الأنبياء: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 87) إلى قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (الأنعام: 89) ويوافق أيضًا التوراة الحالية (انظر مثلا تك 22: 17 و18) أما تغلُّب الكفر والوثنية والجهل والشر على تلك الأمم في عصور مختلفة كثيرة، فهو كتغلُّب المرض على الصحة في الأحياء جميعًا حتى يقتلها وكتغلب الضعف والاضمحلال على الدول حتى يذهب بها، سنة الله في خلقه ليكون العالم في حركة دائمة ما بين صعود وهبوط، وأخذ وعطاء، وعلم وجهل، وصحة ومرض، وحياة وموت، وتقدم وتأخر إلى غير ذلك من الصفات الملازمة لكيان هذا العالم واللازمة لإظهار كل نواميس الوجود وإبراز جميع مواهب الإنسان وغيره لميدان العمل، وهي أدلّ دليل على حدوث هذا الكون ووجود خالقه الأزلي تعالى، وكل أمر من ذلك سيستقر {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) وهذه الآية الشريفة تنطبق على العلوم الطبيعية وغيرها الحديثة القائلة بتنازع البقاء وبقاء الأنسب وسير كل ما في العالم في سبيل الارتقاء والكمال، فإن العالم كالنهر الجاري ترتفع أمواجه وتنخفض؛ ولكن ذلك لا يوقف سيره ولا يمنع تقدمه للأمام، فتبارك الله أحسن الخالقين.
(8) حاشية: جاء في كتاب (الأصول البشرية) صفحة 88 لمؤلفه لينج أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير نقل عن مانيثو هذه الرواية المصرية القديمة التي ملخصها أن موسى بعد أن هزم فرعون مصر (الذي فر إلى بلاد الحبشة) حكم مصر 13 سنة، وبعد ذلك عاد إليه فرعون هو وابنه ومعهما جيش عظيم فقهروه وأخرجوه منها إلى بلاد الشام، وجاء في (قاموس الكتاب المقدس لبوست مجلد 1 ص410) أن هيرودوتس المؤرخ اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد قال: إن ابن سيسوسترس ضرب بالعمى مدة عشر سنين لأنه رمى رمحه في النهر وقد ارتفعت أمواجه وقت فيضه بسبب نوء شديد إلى علو غير اعتيادي اهـ، ويقول المؤرخون: إن ابن سيسوسترس هذا وهو منفتاح الثاني هو فرعون الخروج، ويتخذون هذه العبارة إشارة إلى غرقه في زمن موسى، ولكن يرى القارئ منها أنها لو كانت إشارة إلى الغرق لكان الغرق في النيل، ومن الرواية الأولى يعلم أن موسى حكم بعد فرعون 13 سنة في مصر، وهاتان الروايتان هما من أقدم الروايات المصرية وأصحها؛ وربما كانتا الوحيدتين في هذه المسألة، ولعل المصريين استغاثوا بمملكة الحبشة فأرسلت إليهم جيشًا فأوحى الله إلى موسى بالخروج حينئذ من مصر وتركها لأهلها، وعليه يجوز أن المصريين تكتموا خبر غرق ملكهم واستبدلوه بدعوى تقهقره إلى الحبشة، وقالوا: إنه هو الذي عاد بعد ذلك وأخرج موسى بالقوة سترًا لخزيهم وخذلانهم وإرضاء لملوكهم وأسر هؤلاء الملوك وربما أنه لولا عظم هذه الحادثة وشهرتها بينهم لأنكروها بالمرة، ومن ذلك تعلم أن الخروج لم يكن عقب غرق المصريين مباشرة كما يفهم من التوراة، ولم يكن السبب في هذه الحادثة التي غرق فيها فرعون وجيشه بل كان بعد ذلك ببضع سنين ويرى المطلع على القرآن الشريف أن هاتين الروايتين صادقتان في مسألة غرق فرعون في النيل ومسألة حكم موسى في مصر 13 سنة أما الغرق في النيل فيفهم من قول القرآن مثلاً في سورة طه (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي
اليَمِّ) (طه: 38-39) ثم قوله في آخر هذه القصة: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا
غَشِيَهُمْ) (طه: 78) فالمتبادر من ذلك أن فرعون غرق في نفس اليم الذي ألقي فيه موسى وهو النيل، ومثل ذلك أيضًا ما جاء في سورة القصص وهو قوله: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ) (القصص: 7) ثم قوله فيها بعد: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ) (القصص: 40) أما مسألة حكم موسى في مصر والتمتع بها هو وقومه مدة من الزمن بعد الغرق فهو أيضًا المتبادر من نحو قوله تعالى: (فَأَرَادَ) أي فرعون (أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً) (الإسراء: 103) إلى قوله: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ) (الإسراء: 104) وقوله:
(فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء: 57- 59) ويجوز أن الشريعة أعطيت لموسى في الطور قبل تركه حكم مصر وفي زمن موسى أعطى الله بني إسرائيل - بدلا عن مصر التي أمرهم بتركها - الممالك التي في شرق الأردن كما في كتبهم، وفي زمن يشوع أعطاهم كل أرض كنعان إلا بعض أجزاء منها (يش 13: 1) وهذه الأرض التي أعطيت لهم هي من أخصب أراضي العالم وأحسنها وهي المسماة عندهم بأرض الموعد؛ لأنهم كانوا وعدوا بها من قبل، فأين لمحمد صلى الله عليه وسلم علم ما بيناه من ذلك التاريخ، وهو أجنبي عنه وعن قومه ومغاير للتوراة ومخالف لما يعتقده جميع اليهود والنصارى من قديم الزمان، ولكنه موافق لأقدم الروايات المصرية وأصحها التي لا يعرفها - حتى الآن - إلا واسعو الاطلاع من محققي المؤرخين؟ أما مانيثو Manetho المذكور هنا الذي وافقت روايته ما جاء في القرآن الشريف، فكان كاهنًا لمعبد من أقدم المعابد وأشهرها، وقد كتب تاريخ مصر بأمر بطليموس فيلادلفوس في القرن الثالث قبل المسيح وكان من أدق مؤرخي القدماء وأصدقهم وقد أخذ بأوثق المصادر وأصحها في كتابة تاريخه، إلا أن هذا التاريخ فُقِدَ مع ما فقد في حريق مكتبة الإسكندرية ولم يبق منه سوى مقتطفات في بعض الكتب القديمة اليونانية وقد أيد أكثر هذه المقتطفات ما اكتشف حديثًا من الآثار المصرية والمكتوبات العتيقة مع أن آباء النصرانية كيوسيبيوس حرفوا كعادتهم كثيرًا مما نقلوه منها لتُطابق نصوص العهد القديم كما ذكره العلامة لينج في كتابه الأصول البشرية ص 11 منه.
(9) من أكبر أسباب شك علماء أوربا المحققين في حوادث كتب العهد القديم وغيرها هو ما جاء فيها من تعيين الأوقات والسنين والأماكن وعدد الرجال وغير ذلك من التفاصيل التي كلما تعمقوا في البحث فيها وطبقوها على الآثار والمكتوبات القديمة ونحوها رجعوا بالخيبة والفشل فلذا أنكروا هذه القصص بحذافيرها (راجع مثلاً الفصل السادس والسابع من كتاب الأصول البشرية تأليف صمويل لينج) ومن ذلك تعلم الحكمة في ترك القرآن أمثال هذه التفاصيل لأنه إن ذكرها كما هي في كتب أهل الكتاب لكانت خطأً وإن ذكرها على حقيقتها وخالف كتبهم فيها كلها لظنه الناس في تلك الأزمنة الجاهلة مخطئًا خطأً كثيرًا فاحشًا وضحكوا منه وسخروا وشك أكثرهم في صدقه، فكان تركها عين الحكمة؛ ولذلك بقي القرآن إلى الآن بعيدًا عن أكثر مطاعن علماء النقد من هذه الوجهة فيا لله ما أحكمه من كتاب ولولا وحي الله لظن الأمي صحة كل ما في كتب أهل الكتاب، ونقل عنهم شيئًا كثيرًا من هذه التفاصيل المغلوطة.(16/433)
الكاتب: جمال الدين القاسمي
__________
تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بحث جمع من تاريخ الجهمية والمعتزلة ما يحق أن يأخذ نفسه بتحققه من
أُنعم عليه بشرف المنزلة، وفُضِّل بالأدب والعلم، والأخذ من الفنون بسهم.
دعاني إلى العناية به ما رأيت - لما أفضت بنا النوبة في قراءة صحيح
البخاري إلى كتاب التوحيد والرد على الجهمية - أن كلام الشراح عليه موجز،
وأن ليس في الأيدي كتاب جمع تاريخهم وأحرز.
جمعت ما تيسر من شئونهم، ثم أشفعته بطرف من أخبار المعتزلة لتوافق
الفرقتين في معظم المسائل المعروفة عنهم، وفي تلقيب كلٍّ غالبًا بلقب الأخرى.
كثر ما يمر بقارئ التفاسير وشروح السنة ومؤلفات أصول الدين والفقه
ومطولات التاريخ وكتب المقالات، ذكر الجهمية والمعتزلة؛ ذلك لأنهما كانتا أول
من ظهر من الفرق الإسلامية في صدر حضارة الإسلام بقواعد الأصول، والعمل
على الجمع بين المنقول والمعقول، وفتح لأولي العلم بابالنظر والتأويلات،
وانتصب للمجادلات والمناظرات، وزحزح الواقفين عند ظواهر الرواية، إلى
منازل تأويل الدراية، وأشاع في الخافقين الآراء الغريبة في أصول الدين، وفي
تأويل آيات الصفات في الكتاب المبين، بله ما اتفق لبعض الجهمية من إخافة
أمراء زمانهم بالخروج على عمال بني أمية الظالمين، وإنكارهم لأعمالهم
الجائرة، ونصبهم الحروب معهم الأعوام المتطاولة، رغبة في تحكيم الكتاب
والسنة والتقرب من الشورى كما سنقصه، ولله أمر التاريخ فإنه {لاَ يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (الكهف: 49) .
قد يُظن أنا نريد الكلام على الجهمية والمعتزلة من جهة عقائدهم ومحاكمتهم
فيما لها وعليها، كلا، فقد حكاها أرباب المقالات والمصنفون في الملل والنحل، ما
بين عادٍّ لها فحسب، وما بين عادٍّ ورادٍّ، وهكذا كبار المتكلمين، وجهابذة السلفيين،
في مؤلفات لا يبلغها الإحصاء، لا سيما المطولات منها [1] .
لا يزال الحوار بين هاتين الفرقتين ومن خالفهما غضًّا طريًّا كلما سنحت
مسائلهم، وما أكثر سنوحها للمفسر والمحدث والمتكلم الأصولي، ذلك بأن مسائلهم
متشعبة من وجوه ما يراد بالآيات والأخبار المأثورة في أبواب مسائلها، وهي
مرجع المستدلين كل حين.
نعم أشرنا إلى جمل من عقائدهم تتميمًا للمقصد من التعريف بأحوالهم، إلا أن
المقصد هو سرد ما أورده المؤرخون من الحوادث التاريخية والوقائع التي جرت من
جرَّائِهِم.
وما عدا ذلك فإنما ذكر تكميلاً إيقاظًا واعتبارًا، ولا غرو فهذا البحث من
المباحث الضافية الذيول، الواسعة الأنواع.
وهذا تفصيل ما تضمنته المقالة في دائرة بحثين:
البحث الأول: في الجهمية
وفيه مطالب:
1- من هي الجهمية؟
2- ذكر الجهم زعيم الجهمية.
3- خروج الجهم مع الحارث بن سريج على بني أمية، ودعوتهما إلى الكتاب
والسنة والشورى.
4- مقتل الجهم بن صفوان والحارث بن سريج.
5- مَن وهِم في عام قتل جهم وسببه وتصحيح ذلك.
6- فلسفة جهم أو مذهبه في الأصول، وتأثيره في العقول.
7- مناظرة الجهم مع بعض السنية وإفحامه إياه، وما علق على هذه
المناظرة.
8- تلقيب الجهمية بالجبرية.
9- التنبيه لما وقع من خلل النقل عن الجهمية وغيرهم.
10- تمثل الشعراء بمذهب الجهمية.
11- بيان أن مذهب الجهم متلقى عن الجعد بن درهم، وشيء من أنباء الجعد
وقتله.
12- نبذة من أخبار خالد بن عبد الله القسري قاتل الجعد أستاذ الجهم.
13- حمل الأثرية على الجهمية والإغراء بهم.
14- رأي الأثرية في الجهمية.
15- رأي الجهمية في الأثرية.
16- تفريط الجهمية في السمع وسواهم في العقل.
17- بيان أن انقسام الناس إلى التجهم، يشبه انقسامهم إلى التشيع، وذلك
ثلاث درجات.
البحث الثاني في المعتزلة
وفيه مطالب
1- التعريف بالمعتزلة.
2- سبب تلقيبهم بالمعتزلة.
3- تلقيب المعتزلة بالجهمية.
4- انتشار مقالة الجهمية بواسطة كبار المعتزلة.
5- ظهور دولة الجهمية (المعتزلة) في عهد المأمون ودعواه إلى مذهبهم وما
جرى على أئمة الرواية في مسألة خلق القرآن.
6- أول من صنف من المعتزلة في محاجة الأثرية.
7- تلقيب المعتزلة بالقدرية وسبب التسمية بذلك.
8- أول من تكلم في القدر.
9- رجال الجهمية والمعتزلة (القدرية) ممن روى لهما الشيخان البخاري
ومسلم في صحيحيهما.
10- بيان أن الجهمية والمعتزلة لهم ما للمجتهدين.
11- شبهة الأثرية في اضطهاد الجهمية، والجهمية في اضطهاد الأثرية، لما
دالت لكلٍّ الدولة، وفيه اعتذار بقلم الجاحظ.
12- ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب.
13- حظر الأئمة المحققين رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق.
14- بيان أنه لا تضليل لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل.
15- ما وصى به الأئمة من إطراح أقوال العلماء بعضهم في بعض، ومن
التماس الحكمة أينما وجدت.
هذا ما قدر جمعه على ضيق الوقت في بعض شهور، وراجعت لأجله عدة
أسفار، واقتبست ألطف ما أُثر عن الكبار، ولم تكن موالاة البحث والتنقيب بأشق
من العناية بالتنقيح والترتيب، بيد أن التذرع للحقائق يُستسهل دونه كل صعب،
ولا لذة تضاهي لذة العلم والحكمة واستنارة القلب، والفضل لله سبحانه فيما هدى
وألهم، فلا نحصي ثناء عليه، نسأله أن يعلمنا ما لم نكن نعلم.
البحث الأول في الجهمية
وفيه مطالب
(1)
من هي الجهمية؟
الجهمية: فرقة من فرق المسلمين، انتحلت مذهب الجهم بن صفوان الآتي
ذكره في مسائله المدونة في كتب المقالات والكلام، ثم توسعت بعد ذلك شأن
المذاهب كلها التي استفحل أمرها، وكثرت رجالها، وتفرعت مسالكها، وتنوعت
مصنفاتها، ولم تك قبل على شيء منها، وقد يظن أنها أمست أثرًا بعد عين، مع
أن المعتزلة فرع منها، وهي في الكثرة تعد بالملايين على ما ستعرف، على أن
المتكلمين المتأخرين المنسوبين للأشعري يرجع كثير من مسائلهم إلى مذهب
الجهمية، كما يدريه المتبحر في فن الكلام، والمُوازن بين أقوال هؤلاء وأقوال
السلف، ولذا قلنا في المقدمة قبلُ: إن الخلاف بين الجهمية وغيرهم لا يزال
غضًّا طريًّا كلما سنحت مسائلهم، ولعل لقب الجهمية غلب على المعتزلة من
عهد المأمون كما سنوضحه. والله أعلم.
(2)
ذكر زعيم الجهمية وطرف من أنبائه
الجهم هذا: هو ابن صفوان، من أهل خراسان، ينسب إلى سمرقند وترمذ،
ومحتده الكوفة. ويكنى أبا محرز. وكان مولى لبني راسب من الأزد، أخذ الكلام
عن الجعد بن درهم، وكان فصيحًا، اتخذه الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه
بخراسان كاتبًا له كما سنفصله، وكان يقص في بيت الحارث في عسكره وكان
يخطب بدعوته وسيرته، فيجذب الناس إليه، وكان يحمل السلاح ويقاتل معه،
وكان صاحب مجادلات ومخاصمات في مسائل الكلام التي يدعو إليها، وكان أكثر
كلامه في الإلهيات.
يقول بعض من أرَّخَه: لم يكن لجهم نفاذ في العلم، يعني بالعلم: علم الحديث
والأثر، فإن الجمهور كان منكبًّا على تحمل الحديث وآثار الصحابة ومروياتهم، إلا
فئة المتكلمين، وفي مقدمتهم الجهم وإخوانه، فلم يكن لهم عناية برواية الحديث ولا
تحمُّله، وكانوا يرون العلم ما هم فيه من علم الكلام، ولذا كانوا يلقبون حملة الأثر
بالحشوية، كما سيأتي.
أول ظهور مذهب جهم كان بترمذ، فإنه أظهره فيه للملأ وأشاعه وحاور فيه،
ثم أقام ببلخ، فكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده، ثم نُفي إلى ترمذ، ولما
اتصل بالحارث بن سريج لم يزل معه إلى أن قُتلا، كما سنفصله.
هذا ما قاله الأئمة من مجمل حال الجهم بن صفوان كالإمام أحمد في كتاب
الرد على الجهمية، والبخاري في كتاب خلق الأفعال، والطبري في تاريخه،
والإمام ابن حزم في الفصل، وابن عساكر وابن الأثير في تاريخهما، وابن
حجر في الفتح.
قلت: ومقاتل بن سليمان الذي كان يصلي في مسجده الجهم، هو مقاتل
البلخي المفسر المشهور، الذي قال فيه الشافعي: (الناس عيال في التفسير على
مقاتل) . وحكى العباس بن مصعب في تاريخ مرو أن مقاتلاً كان يقص في
الجامع بمرو، فقدم جهم إلى مقاتل، فوقعت العصبية بينهما، فوضع كل منهما على
الآخر كتابًا ينقض عليه [3] .
وعن أبي حنيفة رحمه الله قال: (أفرط جهم في نفي التشبيه، حتى قال:
إنه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في معنى الإثبات حتى جعله مثل خلقه) نقله
الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال، وفي حكاية العباس بن مصعب ما يدل على أن
الجهم كان من المؤلفين في مذهبه.
(3)
خروج الجهم مع الحارث بن سريج على أمراء بني أمية
ودعوتهما إلى الكتاب والسنة والشورى
يمر بقارئ حوادث المائة الثانية للهجرة النبوية أخبار عن الحارث بن سريج
عجيبة تدل على حرصه على نشر العدل، وتحرقه من الظلم وأهله، ورغبته في
العمل بأحكام الكتاب والسنة، وفي القضاء على سلطة الاستبداد وجعل الأمر شورى،
وإن نصبه الحرب مع بني أمية، واتخاذه الجهم بن صفوان وزيرًا في بث الدعوة
كتابة وخطابة، إنما كان لهذه المقاصد الحسنة.
وملخص ما ذكره الطبري وابن الأثير وابن خلدون أن الحارث هذا كان
عظيم الأزد بخراسان [4] ، وأنه خلع سنة (116) ولبس السواد، ودعا إلى كتاب
الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والبيعة للرضا. وأنكر سيرة هشام بن عبد الملك
وأعماله، ونزل الفارياب وأتى بلخ، واستولى عليها وأقام بها عاملاً، وسار إلى
الجوزجان، وغلب عليها وعلى الطالقان ومرو الروذ. ثم أقبل إلى مرو بيضة
خراسان في ستين ألفًا ومعه فرسان الأزد وتميم ودهاقين بلاد العجم. واقتتلوا مع
أمير مرو قتالاً شديدًا، حتى انهزم أصحاب الحارث، ولم يبق معه إلا زهاء ثلاثة
آلاف، ثم عاد الحارث إلى بلاد الترك، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ثم روسل
بالعود إلى خراسان، فأخذ الأمان وعاد سنة (126) ولما قدم مرو لقيه الناس
بكشمهين قال لهم: (ما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرت عيني إلا
أن يطاع الله) .
قال ابن جرير الطبري: كان الحارث بن سريج يجلس على برذعة وتثنى له
وسادة غليظة، ولما لقيه نصر بن سيار وأنزله أجرى عليه كل يوم خمسين درهمًا،
فكان يقتصر على لون واحد، وطلق أهله وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه
ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وأرسل إلى نصر: (إني لست من هذه الدنيا
ولا من هذه اللذات ولا مِن تزوُّج عقائل العرب في شيء، وإنما أسأل كتاب الله عز
وجل والعمل بالسنة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوك) .
وقال الحارث لنصر: (خرجت من هذه المدينة - مرو - منذ ثلاث عشرة
سنة إنكارًا للجور، وأنت تريدني عليه) .
هذا كلام الحارث في مشربه نفسه، وفي رأيه في سياسة الشعب، وصدعه
في وجوه إصلاحه، وبه يعلم منزلة عقله، ونبله وفضله، وغيرته وتقواه، رحمه
الله.
(البقية تأتي)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) رسالة فضفاضة أتحف بها المنار صديقه عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
(1) منها كتاب (تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية) ويسمى تخليص التلبيس من كتاب التأسيس للإمام ابن تيمية، ومنها كتاب الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة للإمام ابن القيم، وكتاب البيان عن أصول الإيمان والكشف عن تمويهات أهل الطغيان، تأليف أبي جعفر السمناني البغدادي المالكي صاحب القاضي أبي بكر الباقلاني، رأيته في مكتبة المدرسة العثمانية بحلب أيام رحلتي إليها عام 1330 وهذا الكتاب مخطوط عام 683 ومعه كتاب (حز الغلاصم في إفحام المخاصم عند جريان النظر في أحكام القدر) وكتاب (تحرير التنزيه وتحرير التشبيه) للإمام أحمد بن محمد الإسكندراني المالكي وكلها في الرد على المعتزلة لكن بقواعد الخلف.
(3) لو أبقت الأيام لنا كتابيْ مقاتل والجهم لوقفنا على حقائق مذهب الجهم بما تفوق المعنعنات عنه بمراتب، فوا أسفاه على ما طوته الأعصار من مثل هذه الآثار.
(4) أيام كانت فيالق العرب متغلغلة في أحشاء بلاد فارس والديلم والخزر.(16/449)
الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي
__________
قانون جماعة خدام الكعبة
تمهيد للمترجم:
شغلني شاغل عن إتمام ما بدأت به من نقل (قانون جماعة خدام الكعبة) الذي
أرسلت إليكم من قبل تمهيد المحامي الغيور المستر مشير حسين صاحب القدوائي له،
وقد كان تأليف هذه الجماعة المباركة في طور التكوين، ثم تمخضت الآراء في
هذه المدة عن هذا الجنين الميمون فبرز إلى الوجود صارخًا بدعوة أبناء الإسلام إلى
كفالته والعناية بتربيته؛ ليشب في حجر الغيرة الإسلامية، ويترعرع في حضن
الحياة الدينية، برز إلى الوجود فكفله رجال اتفق أغلب الناس على إخلاصهم في
غيرتهم وصدقهم في إخلاصهم، وعلى اقتدارهم ولياقتهم وصبرهم وثباتهم.
اجتمعوا لأول مرة فتذاكروا وتداولوا ووضعوا مواد القانون الأساسي وقرروا
إجراءه والعمل به، وقد حلف بعض ذوي الغيرة اليمين ودخل في الجماعة طائفة
صالحة، وقد نشر هذا القانون في العدد 72 من جريدة همدود اليومية الصادرة من
دهلي في يوم الجمعة 16 مايو سنة 1913 مفتتحة بتمهيد صغير لا بأس بنقله وهو
هذا:
نزُفُّ في ذيل هذا إلى القراء أغراض ومقاصد وقواعد جماعة خدام
الكعبة (ونريد أن نبين معه أيضًا أنه لأجل إلباس هذه الفكرة لباس العمل عقدت في
6 مايو سنة 1913 جلسة في منزل جناب المولوي عبد الباري صاحب اللكهنوي
وبعد المباحثة والمداولة اتفق الحاضرون على قبول هذه القواعد المنشورة في هذه
المراسلة، وقبل اختتام الجلسة حلف بعض الأشخاص يمين خدام الكعبة ودخل
بمساعيهم في الجماعة إلى تلك الساعة عدد جيد.
من الممكن أن يُعد بعض المحتاطين هذه الفكرة الحسنة بدعة، ولكن الحق هو
أن هذا المشروع ليس بغرض جديد اخترعه (خدام الكعبة) لأنفسهم، بل هو جزء
من دين كل نفس.
إن أقوى وأكثر أسباب غفلة العالم الإسلامي اليوم عن أداء هذا الفرض
الأولى الأهم هو أن المسلمين من بدء الإسلام وصلوا فاتحين وظلوا حاكمين ليس
على جزيرة العرب وما جاورها من ممالك آسية فقط، بل على جزء كبير من
أفريقية وأوربة أيضًا، وفي هذا الزمن المنحوس أيضا كان إخواننا الأتراك الذين
تركوا آسية حكامًا على قطعة من أوربة، وكانوا متعهدين بخدمة الكعبة مع الاهتمام
الكافي، ولا يزال جلالة السلطان المعظم يعد القيام بكنس الحرم المطهر من بواعث
اليمن والسعادة، ولكن لما صرنا نرى السلطنة العثمانية قد زالت عنها تلك اللياقة
التي كانت تقدر بها على المحافظة على حرم الكعبة بالقوة والضبط كالسابق بسبب
الصدمات التي تتوارد عليها من سنين - صار من مقتضى غيرتنا الإسلامية ومحبتنا
الدينية أن نحس بالغرض الذي تركناه خلف أظهرنا وأن ننضم قولاً وفعلاً إلى خدام
الكعبة.
فكل من يعطف ويتوجع لهذا المشروع المسعود المبارك من عظماء الأمة،
وكل من يرغب في الدخول فيه فليراسل خادم الخدام أو معتمديه.
وأخيرًا نريد أن نزيد أيضًا أن قواعد وضوابط خدام الكعبة عارضة يمكن
ترميمها ونسخها في المستقبل باتفاق آراء الأعضاء وبالأغلبية، فكل من يوافق على
ضرورة هذا المشروع وغرضه وغايته يمكنه أن ينضم إلى الجماعة بعد حلف
اليمين، ويمكنه أن يعدل أو ينسخ كل قاعدة أو مادة لا يوافق عليها تمامًا، إن العمل
لخدمة الكعبة وحرمتها غير محتاج في نفسه إلى بيان، ولكن العمل الذي يوضع
فداء لبيت الله يكون نهرًا جاريًا بالفيوض يفيض منه المسلمون على كل مزرعة
يريدون إرواءها لجعلها خضرة نضرة، إن شاء الله تعالى.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله محمد رسول الله
دستور العمل لجماعة خدام الكعبة
الحاجة إلى الجماعة:
1 - إن الاطمئنان الذي كان لنا من قبل على بقاء حرمة الكعبة وعزتها لم
يبق الآن؛ فلذلك ولأجل بقاء حرمة الكعبة أسسنا جماعة خاصة بأبناء الإسلام باسم
جماعة خدام الكعبة.
الأغراض والمقاصد:
2- الغرض الأصلي لهذه الجماعة تمكين حرمة الحرم المحترم، والقيام بكل
خدمة لأول مركز للتوحيد في الدنيا، وهو بيت الله الذي عمره إبراهيم خليل الله،
وصيانته من أيدي غير المسلمين.
3- لأجل الحصول على هذا الغرض اتخذت (جماعة خدام الكعبة) هذه
التدابير.
(أ) يعد حماة التوحيد والبائعون أرواحهم للكعبة جماعة تصمم بقلوب صادقة
على افتداء الحرم بالأرواح والأموال.
(ب) يقومون بكل انتظام بتبليغ الإسلام الذي هو الخدمة الصادقة للكعبة،
وبإرسال الدعاة إلى كل جهة من أقطار الأرض حيثما تدعو الضرورة وتقتضي
الحال لنشر كلمة التوحيد وتوسيع إشاعتها.
(ج) يتصدون لتأسيس ملاجئ للأيتام وفتح مدارس ابتدائية لأبناء الإسلام
في كل موضع ومقام.
(د) يسعون لتقوية وتكثير العلائق بين المسلمين وبين بيت الله الشريف،
وبذل المساعي يومًا فيومًا في توسيع وتسهيل وسائل وذرائع الذهاب والإياب من
الكعبة المعظمة وإليها.
أعضاء الجماعة:
4- يمكن لجميع الناطقين بكلمة التوحيد، وكل أهل القبلة رجالاً ونساء أن
يكونوا أعضاء لهذه الجماعة، ويقال لكل واحد منهم يدخل فيها (خادم الكعبة) .
5- يجب على كل خادم للكعبة أن يحلف وقت الدخول فيها بكل إخلاص أمام
المسلمين واضعًا يده على القرآن المطهر ومستقبلاً القبلة يمينًا بالصيغة الآتية:
أنا فلان ابن فلان أستغفر الله الحاضر لديَّ والناظر إليَّ والمطلع عليَّ وأتوب
إليه من جميع المعاصي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
وأعاهد الله بقلب صادق على أن أسعى بكل إخلاص لأجل إبقاء حرمة هذه القبلة،
ويشير بأصبعه إليها، وأن لا أبخل بمالي وروحي على الكعبة وقت حمل الأغيار
عليها، وأن أتبع أحكام وقواعد جماعة خدام الكعبة تمامًا إن شاء الله تعالى.
6- أما أولئك الخدام الذين يجعلون حياتهم وقفًا على خدمة هذه الجماعة والذين
يقال لهم (عشاق الكعبة) فيكون تحليفهم بصيغة اليمين الآتية:
أنا فلان ابن فلان بعد العلم باطلاع الله عليَّ أقسم مستقبلاً القبلة على أني
أجعل حياتي نذرًا لله على خدمة الحرم المحترم، ومن الآن تكون حياتي وقفًا على
خدمة الكعبة وبقاء حرمة الكعبة وتكون أحكام جماعة خدام الكعبة لي من أهم
الفرائض وأشد الضروريات، وأكون مستعدًّا بقلبي وروحي لامتثالها بلا عذر ولا
تأخير، ومتهيئًا للذهاب من فوري إلى أي قطعة من الأرض يرسلونني إليها لا
يمنعني مشكل ما، ومع هذا الإقرار والعهد والميثاق أقسم مرة أخرى بديني وربي
ونبيي وقرآني وشرفي وعزتي وأنضم إلى جماعة (عشاق الكعبة) .
7- يجوز أن ينضم بعض الأفاضل إلى (عشاق الكعبة) لمدة معينة، وبعد
القسم باليمين المذكور أعلاه يكون متعهدًا بما تعهد به (عشاق الكعبة) .
8- نفقات (عشاق الكعبة) ، ونفقات أهلهم وعيالهم ومساكنهم تكون على ذمة
جماعة خدام الكعبة، وهكذا تتعهد الجماعة بأداء جميع نفقات الخدم التي تفوض
إليهم.
9- وتعطى هذه الحقوق أيضًا لأولئك العشاق الذين دخلوا في جماعة (عشاق
الكعبة) لمدة محدودة ما داموا في عدادهم.
10- يجب على جميع الخدام أن يعلقوا في ثيابهم على صدورهم علامة من
قماش أصفر هلالية الشكل تنقش فيها كلمة خدام الكعبة بحروف سود، ولا بد لكل
عضو من تعليق هذه العلامة في كل جلسة من جلسات الجماعة التي يحضرها، وفي
وقت كل خدمة يقول بها لها، إلا أنه يفرض على (عشاق الكعبة) أن تكون
ملابسهم دائمًا أبدًا خضراء، وأن تكون عليها عدا علامة خدام الكعبة علامة عشاق
الكعبة أيضًا، وتكون ملابس هؤلاء في بعض الجلسات الخصوصية عباءة خضراء
معلقة عليها العلامتان.
نظام الجماعة:
11 - نظام جماعة خدام الكعبة يكون بأيدي الحزب الأعلى من الجماعة الذين
يقال لهم: (جماعة خدام الكعبة الأصليين) والذين تقرر أن يكون مستقرهم الآن
في دهلي.
12- تتفرع عن هذا الأصل فروع عليا في كل ولاية من ولايات الهند، وفي
كل إمارة إسلامية أو وثنية فيها ما تختاره جماعة خدام الكعبة الأصليين، ويسمى
كل فرع منها باسم جماعة خدام الكعبة العليا لولاية أو إمارة كذا.
13- وفرع كل ولاية يؤسس في متصرفيات تلك الولاية فروعًا له يطلق
عليهم اسم جماعة خدام الكعبة لمتصرفية كذا.
14- فرع كل متصرفية ينشئ فروعًا صغيرة له في المواضع التي يختارها
من الفضوات والنواحي والقرى التابعة لتلك المتصرفية بعد تقسيمها إلى حلق
ودوائر وينسب كل فرع منها إلى الحلقة أو الدائرة التي أنشئ فيها ويعبر عنها
(بجماعة خدام الكعبة لحلقة أو دائرة.....)
15- يجب على هذه الفروع الصغيرة أن تنتخب لها منها وكلاء يمثلونها في
الفروع المتصرفية التابعين لها ويتحتم عليهم الدخول في القسمين من الجماعة
جماعة خدام الكعبة العام وجماعة عشاق الكعبة الخاص.
16- يجوز لفرع خدام الكعبة في كل متصرفية أن يبلغ عدد أعضائه من 15
إلى 20 عضوًا.
17- يجب على كل فرع كل متصرفية منفردًا أو مجتمعًا مع فروعه أن
ينتخب عاشقًا يرسله إلى الفرع العالي من الولاية التابعة لها، وتجب عليه الإقامة
في مركز الفرع.
18- يجب على كل جماعة أن تنتخب علاوة على الوكيل والعاشق مشيرًا من
عامة الخدام لا يجب عليه القيام في المركز بل يلزمه حضور كل جلسة.
19- يجوز لكل فرع عالٍ أن يبلغ عدد أعضائه من 15 إلى 20 عضوًا.
20- يجب على كل فرع عالٍ أن ينتخب له وكيلاً من قسم (العشاق) يرسله
إلى جماعة خدام الكعبة الأصليين وتجب عيه الإقامة في مركزها.
21- يجب على كل فرع عالٍ أن ينتخب على الوكيل العاشق (مشيرًا) من
الخدام أيضا يلزمه حضور جلساتها ولا تلزمه الإقامة في مركزها.
22-لهؤلاء المشيرين من الحقوق في الجلسات ما لغيرهم من الوكلاء العشاق.
23- سيكون من الآن في جماعة خدام الكعبة الأصليين وكلاء من الولايات
المذكورة أدناه وهي:
أ- الهند الإنكليزية:
1- بنغال الشرقية.
2- بنغال الغربية.
3- بهار وأرويسه.
4- أود.
5- ولاية آجرة.
6- بنجاب.
7- ولاية حدود الهند
8- السند.
9- بومباي.
10- مدراس.
11- الولاية المتوسطة وبوار.
12- راجبو تانه ووسط الهند.
13- برما.
ب - الإمارات الإسلامية:
1- حيدر آباد الدكن.
2- بهوبال.
3- رامبور.
4- جونا كره.
5- بهاول بور.
6- خبر بور السند.
7- تونك.
ج- إمارات الهند الآخر:
1- كشمير.
2- ميسور.
24- ينتخب العضو لجميع جماعات (خدام الكعبة) لمدة سنتين فقط، لا
فرق بين أن يكون من القسم الأعلى أو الأدنى من الجماعة الأصليين، أو من
جماعات الفروع العليا في الولايات وغيرها.
25- يفرض على أعضاء جماعات خدام الكعبة الأصلية والفرعية أن ينتخبوا
منهم رئيسًا يلقب بخادم الخدام، وذلك بعد الانتخاب العام الذي يكون على رأس كل
سنتين تفوض إليه الإدارة العامة وتسلم له الصدارة العليا.
26- وتنتخب كل جماعة عضوين منها بصفة وكيلين أو معتمدين لخادم
الخدام يكونان تابعين له في أداء الخِدم.
27- الفروع التي في المتصرفيات تكون تابعة لأحكام الفروع العليا في
الولايات وهذه تكون تابعة لأحكام الجماعة الأصلية.
28- حكم الجماعة الأصلية يكون قطعيًّا ولا يعلوه حكم، ويُفرض اتباعه على
كل واحد من الخدام.
* * *
بيت المال - مال الجماعة
29 - يؤخذ على سبيل الإعانة روبية واحدة في السنة من كل عضو لجماعة
خدام الكعبة سواء كان غنيًّا أو فقيرًا من عامة الخدام أو من قسم العشاق الخاص
حتى لا يُرى فرق في المساواة الإسلامية.
30- إن المبلغ الذي يجتمع من هذه الإعانات يقسم إلى ثلاث حصص
متساوية وتتبع الطريقة الآتية في صرفها:
أ- الحصة الأولى منها تعطى لتلك الحكومة الإسلامية المستقلة التي تقوم
بالمحافظة على الحرم المحترم. ولكن بشرط أن تصرفها في الأمور التي تتعلق
بخدمة الحرم المحترم فقط التي تؤول إلى بقاء حرمته وعظمته وتثبيت دعائم الحرية
والأمان في تلك الأرض الطاهرة.
ب - أما الحصة الثانية فتصرف على إدارات جماعات خدام الكعبة
وضرورياتها وتنظيم أمورها، وعلى تبليغ الإسلام وإنشاء المدارس الإسلامية
الابتدائية لأبناء الإسلام والملاجئ الخيرية للأيتام، وعلى ما يماثل ذلك من الأعمال
الصالحة ويصرف - مهما أمكن - ما يبقى من واردات كل متصرفية أو ولاية بعد
النفقات الضرورية في ضروريات تلك الولاية أو المتصرفية.
ج- وأما الحصة الثالثة فتبقى محفوظة لتصرف في المحافظة على الحرم
المحترم وقت اشتداد الضرورة واقتضاء الحاجة، ويمكن استعمال جزء منها في
بعض الأعمال التجارية المفيدة الضرورية مما يكون له تعلق بخدمة الكعبة وغيرها
من الأماكن الدينية، وذلك مثل شراء باخرة تحمل المسلمين إلى أرض الحجاز
وغيرها من المزارات والمعاهد العالية، وتعود بهم بكل سهولة وراحة واقتصاد.
31 - قد تقرر الذوات الآتية أسماؤهم أعضاء لجماعة خدام الكعبة الأصليين
لمدة سنة، ومنحوا إجازة عامة في أن يضيفوا إليهم خدامًا وأن يزيدوا عددهم،
وفرض عليهم البدء بأعمال خدام الكعبة في جميع البلاد، وأن يؤسسوا في بحر هذه
السنة (جماعة خدام الكعبة الأصليين) وفروعها العليا وفروع الفروع ثم يقدموا
استقالتهم وهم:
1- مولانا مولوي عبد الباري صاحب في لكهنو، خادم الخدام.
2- الدكتور ناظر الدين حسن المحامي في لكهنو، عضو.
3- حكيم عبد الولي صاحب في لكهنو، عضو.
4- مستر محمد علي صاحب، منشئ جريدتي (كامريد) الإنكليزية و (همدر)
الأوردية في دهلي، عضو.
5- مستر مشير حسين صاحب قدوائي المحامي في لكهنو معتمد خادم الخدام.
6- مستر شوكت علي صاحب الحائز لحرفي (ب وأ) في رامبور معتمد خادم
الحدام.
... ... ... ... ... ... تم
... ... ... ... ... ... ... ... معتمد خادم الخدام
عليكده الهند في 13 يونيو ... ... ... ... عبد الحق البغدادي
... ... ... نائب أستاذ العربية في الكلية الإسلامية في عليكده.
(المنار)
نرحب بهذه الجماعة من صميم أفئدتنا، فهي خير ما ينفذ به اقتراحنا الذي
اقترحناه في ص192 من المنار. ولما كان قانون هذه الجمعية جائزًا نبادر إلى
إبداء رأينا في بعض قواعده التي نرى تنقيحها ضروريًّا قبل بدء العمل؛ وأول ذلك
غرض الجماعة والمقصد منها يجب أن يكون صيانة الحرمين المحترمين معًا: حرم
الله عز وجل وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، وإعلاء شأنهما بالعلم والعمران،
وتسهيل سبل زيارتهما للطائفين والعاكفين والركع السجود، وطلاب العلم والدين.
ومن فروع هذا المقصد أن لا تبني جماعة خدام الكعبة شيئًا من المدارس
والمكاتب والملاجئ والمستشفيات بمال الجماعة في غير الحرمين الشريفين إلا بعد
كفاية الحجاز من هذه الخيرات وأمثالها كحفظ المياه وتوزيعها، وتسهيل سبل الرزق
على العرب فيه وفي طرقه حتى لا يضطروا إلى الاعتداء على الحجاج.
فهذا أول ما أطلب تنقيحه من هذا القانون، ويليه وهو مترتب عليه، تقسيم
مال الجماعة إلى ثلاث حصص متساوية تصرف على الطريقة التي ذكرت في
القاعدة 35، فالرأي عندي أن لا يخصص للحكومة التي تحافظ على الحرم شيء من
مال هذه الجماعة، بل يجب أن تصرف الجماعة مالها بنفسها وأن تستعين على كل
عمل لها بالحكومة فيما يتوقف على مساعدة الحكومة، إن رأت في أثناء العمل،
وعلى هذا أرى أن تكون الحصة الأولى في الذكر للأعمال المادية التي تتعلق
بعمران الحرمين وأمنهما وتسهيل سبيل المعاش فيهما، والثانية لما ذكر في القانون
من الخدمة المعنوية بشرط جعله في الحرمين لا في كل مكان، وأوافق على ادخار
الثلث لما عساه يطرأ من الضروريات بشرط أن يستغل بطريقة مأمونة، هذا ما
أسارع به وأرجو أن يصادف قبولاً من مؤسسي هذا العمل الشريف الذي أدعو جميع
مسلمي الأرض إلى مشاركة إخواننا مسلمي الهند فيه وتأليف اللجان له على القاعدة
التي بيناها. وسنعود إلى البحث فيه بعد إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(16/457)
الكاتب: يماني
__________
السيد الإدريسي
والحكومة العثمانية
لصاحب الإمضاء
ولد السيد محمد الإدريسي في بلدة (صبية) من أعمال العسير واسم والده السيد
علي وجده السيد محمد وجد والده السيد أحمد الإدريسي رحمهم الله، وهذا هو الذي
هاجر من المغرب منذ سبعين سنة تقريبًا إلى جهات عسير.
اشتهر والد السيد الإدريسي وأجداده وجميع أفراد عشيرته بالصلاح والتقوى
والعفة والاستقامة وخدمة الدين الحنيف والشريعة الغراء فأصبحت هذه الشريعة
الكريمة موضع إجلال اليمانيين واحترامهم، واتفقت كلمة الناس على حب رجالها
وسماع نصائحهم والرجوع إليهم في كثير من الشئون المهمة، وهذا من أهم
الأسباب التي مهدت للسيد محمد سبيل الظهور في هذا المظهر، مظهر السيادة
والإمارة.
حفظ السيد محمد القرآن، وأخذ بعض العلوم والفنون على أساتذة يمانيين في
صبية، وكان والده رحمه الله يمنعه من الاختلاط بالناس. ويقال: إن السيد
الإدريسي لم يخالط الناس إلا بعد أن جاوزت سنه العشرين.
ذهب السيد محمد إلى الأزهر في مصر وهو في سن الخامسة والعشرين
فدرس فيه بقية العلوم والفنون مدة 7-8 سنوات ثم غادر مصر إلى السودان فلبث
هنالك سنة وأشهرًا، ومنها عاد إلى جهات العسير حيث يقيم الآن. وهو اليوم في
سن التاسعة والثلاثين، قوي البنية طويل القامة، صحيح الجسم، أسمر اللون،
وعلائم الدهاء والذكاء والمتانة والرزانة بادية على وجهه.
لا يخاطب السيد الإدريسي اليمانيين في خطاباته إلا بالآيات القرآنية
والأحاديث النبوية، ولم يَسْتَمِلْهم إليه ويمتلك قلوبهم ويتسلط على عقولهم إلا بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وخدمة الدين والشريعة بالفعل، ومنع الغزو وإبطاله،
وإزالة الشقاق والاختلافات القديمة من بين القبائل والعشائر، وإحقاق الحق
وتطبيق العدالة والمساواة بين الكبير والصغير والرفيع والوضيع من الأهلين.
نعم، إن السيد الإدريسي لم يستمل اليمانيين، كما زعم بعض الكاذبين
المنافقين، باستعمال الفوسفور والكهرباء وغير ذلك من الاختراعات العصرية
الجديدة التي لم ترها عربان اليمن بعدُ، قصد إقناعهم بولايته أو نبوته، بل استمالهم
بالحجة والبرهان والمبادئ القويمة الصحيحة، ولم نسمع ونحن من صميم اليمن أن
السيد الإدريسي ادعى هذه الدعوى أي الولاية، وما أشبه.
اليمانيون يحبون السيد الإدريسي حبًّا كالعبادة، وينقادون له انقيادًا أعمى
ويطيعونه طاعة زائدة، وينفذون أوامره بكل ارتياح، والسعيد منهم من يتشرف
بمقابلته ويتبارك بتقبيل يده وركبته، كل ذلك ناشئ من شدة تمسكه بقواعد العدل
والمساواة وتطبيقها بين جميع الطبقات، واعتبار الجميع واحدًا في القضاء
والمعاملات.
قبل أن يعود السيد الإدريسي من مصر إلى عسير كانت الفوضى في هذه
الأنحاء منتشرة والأمن مفقودًا، والراحة مسلوبة والغزو كثيرًا، واعتداء القوي على
الضعيف أمرًا مألوفًا، وكان الابن يخاف على نفسه من والده، والوالد لا يأمن على
حياته من ولده، وكان الإنسان يجلس في الظلام ليلاً خوفًا من أن يراه عدوه إذا أنار
المصباح فيطلق عليه الرصاص، وكانت الطرقات مسدودة لكثرة اللصوص وقطاع
الطريق.
والخلاصة: كانت الأهالي بأشد حالات الضيق من هذه الأحوال التي تسلب
الراحة، ففرج الله عنهم بقدوم السيد الإدريسي إلى العسير حيث بدأ بنصح وإرشاد
القبائل وشرع في نشر مبادئه وتعاليمه الدينية والمدنية بينهم، فاستمالهم إليه،
وامتلك قلوبهم وجمع حوله منهم قوة، ثم أخذ بتطبيق أحكام الشريعة عليهم بدون
محاباة ولا مراعاة، فأعدم المئين من الرجال الذين ارتكبوا جريمة القتل، وقطع أيدٍ
كثيرة إقامة لحد السرقة، فاستتب الأمن، وبطل الغزو، وزال الشقاق، وحل محله
الوفاق بين القبائل، ووقف القوي عند حده، وامتد رواق العدل والمساواة في تلك
الأصقاع، فارتاحت الأهالي وأمنت على أرواحها وأموالها، وصاروا كلما ذكروا
عذاب الماضي وقاسوه بنعيم الحاضر يتضاعف حبهم للسيد الإدريسي، وتزداد
طاعتهم له وانقيادهم لأوامره وتقوى الروابط بينه وبينهم.
أعدم السيد الإدريسي عددًا كبيرًا من كبار القوم الذين ارتكبوا جريمة قتل
الأبرياء الضعفاء قصاصًا ولم يلتفت إلى علو كعبهم ورفعة منزلتهم بين قومهم،
ولا إلى شرفهم وعظمتهم ونفوذهم، فلم يغضب لهذا الأمر إنسان لأنه عدل وحق.
قاعدة السيد الإدريسي في الحكم والإدارة العدل، وهو عنده فوق كل شيء،
وهذا مما جعل الرأي العام في جهات جزيرة العرب وفي جهات العسير منها خاصة
يميل إليه ويحب خطته ويطري مبادئه ويثني على منهجه القويم.
السيد الإدريسي لم يفاجئ الحكومة العثمانية بالعدوان ولم يعلن عليها الحرب
في حين من الأحيان، بل كان الأمر بالعكس، فإن الباب العالي كان يصغي
لأكاذيب ولاة اليمن وقوادها الجهلة المغرورين الذين كانوا يوسوسون له ويدسون
الدسائس ضد الإدريسي فيأمر - أي الباب العالي - بتجييش الجيوش وتسيير
الحملات على السيد فيضطر هذا إلى الدفاع فالهجوم فسحق القوات فحصار المدن
والثغور فالاستيلاء عليها.
في واقعة واحدة من الوقائع العديدة العظيمة التي حصلت بين رجال السيد
وبين الجيش العثماني وهي واقعة جازان المشهورة، قُتل من الجنود العثمانية أكثر من
أربعة آلاف عسكري، ولم يعرف عدد الجرحى، والتجأ قائد الجيش الميرالاي
محمد راغب بك إلى السيد خوفًا من فتك الضباط به بسبب الخطأ الذي ارتكبه في
هذه الواقعة على زعمهم. وبقي هذا القائد التركي عند السيد معززًا مكرمًا مدة سنة
ونصف ثم فر هاربًا بدون أن يستأذن من السيد مع أن السيد كان تاركًا له الحرية في
السفر أو البقاء، على باخرة إنكليزية كانت مرت بجازان.
لما أعلنت إيطالية الحرب على الدولة العثمانية أخلت هذه في الحال ميناء
جازان من العسكر ولم يتيسر لها لضيق الوقت ولقلة وسائط النقل أن تنقل إلى
الحديدة غير الجنود فقط، وتركت السلاح والمؤنة والذخائر والخيام والبغال. تركت
أشياء كثيرة كانت معدة لحملة عسكرية مؤلفة من خمسة وعشرين تابورًا، فاستولى
السيد الإدريسي على ما تركوه ودخل جازان، وهي أعظم ميناء على السواحل
اليمانية بعد الحديدة، ولا تزال في يده كما أنه استولى بعد ذلك على غيرها من
المواني مثل ميدي وشفيق وحبل وبركة والفوز، وفي ميدي قلعة كبيرة مهمة
أخذها الإدريسي بما فيها من المدافع والذخائر.
ولقد تمكن السيد الإدريسي منذ نشبت الحرب بين الحكومة العثمانية وإيطاليا
إلى الآن من جلب أكثر من مائة ألف بندقية وخمسين مدفعًا ونيف من درجات
مختلفة أي كبيرة ومتوسطة وصغيرة؛ لأن الطليان كانوا أغرقوا وأسروا بواخر
خفر السواحل العثمانية كلها فخلا للسيد الجو وانتهز هذه الفرصة الثمينة واستعد
استعدادًا عظيمًا، ولديه الآن أكثر من عشرين مدفعًا من المدافع الكبيرة التي ترمي
إلى مسافة 12-15 كيلو متر وهي موضوعة في الحصون التي أنشأها في السواحل
الثغور التي بيده، وقد تعلمت الجنود العربية استعمال المدافع واستخدامها في
الحروب، وبرعوا جدًّا في إطلاق القنابل، ولا يزال عند السيد عشرات من أفراد
الجند وضباط الصف (الجاويشية) العثمانيين الذين أسروا أو التجأوا إليه في
الحروب ومعظم هؤلاء من صنف المدفعية، وإذا أضفنا عدد المدافع التي أخذها
السيد من جيوش الدولة في الحروب، والبنادق التي استولى عليها والتي كانت عند
العربان من قبل إلى الأرقام السالفة الذكر يمكنا بلا مبالغة أن نقول: إن لدى السيد
الإدريسي الآن أكثر من تسعين مدفعًا ومن مائتي (200) ألف بندقية جديدة من
أحدث طرز، ومعظم البنادق الجديدة محفوظة مع ذخيرتها الكافية الوافية لوقت
الحاجة في المخازن التي بنيت بصورة مخصوصة.
في قبضة السيد الإدريسي الآن عدة مواني أهمها جازان وميدي وشفيق وبركة
وحبل والفوز، كما ذكرنا آنفا، وفي كل ميناء منهن جمرك له عمال موظفون من
قبل السيد لاستيفاء الرسوم الجمركية من الواردات والصادرات، والرسوم التي
يتقاضاها السيد أقل من الرسوم التي كانت تأخذها الدولة.
والتجارة كثيرة جدًّا بين هذه الثغور وبين عدن ومصوع؛ لأن هذه الثغور
هي مواني قطعة العسير كلها وبعض جهات اليمن والحجاز، والسنابك [1] تروح
وتغدو بينها وبين مصوع وعدن دائمًا، والأمن مستتب، والرشوة ولله الحمد مفقودة،
والعدل موجود، والظلم معدوم، والتسهيلات متوفرة، والناس كلها ألسن مدح
وثناء على السيد الإدريسي الذي أحيا هذه القطعة وأصلح شئون أهلها.
ولقد انتشر نفوذ السيد الإدريسي كثيرًا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق
إلى الغرب حتى السواحل بقدر ما قل وتناقص نفوذ الإمام يحيى، لأسباب لا محل
لذكرها هنا. حتى إن كثيرًا من القبائل التي كان عليها معظم المعول عند الإمام
يحيى أتت لعند السيد الإدريسي وبايعته ووضعت عنده الرهائن من أولاد زعمائها،
وفي مقدمة هذه القبائل قبيلة حاشد العظيمة التي يقودها الشيخ ناصر بخيت.
على رأس كل قبيلة من قبائل العسير قاضٍ وأمير من قِبل السيد الإدريسي،
فالأول ينظر في الشئون القضائية، والثاني ينظر في الشئون الإدارية والحربية،
ويجمع الزكاة الشرعية للسيد، والمخابرات الرسمية جارية بكمال الدقة والاهتمام
بين المركز والضواحي.
عند السيد الإدريسي وكيل اسمه يحيى زكريا وهو بمثابة رئيس الحجاب أو
الصدر الأعظم، وأمين لبيت المال واسمه محمد يحيى وهو بمثابة ناظر المالية،
وكثير من القواد وكلهم يحملون السيوف دائمًا ولهم شارات مخصوصة كل بحسب
رتبته ومقامه.
أرسل قائمقام لحية إبراهيم بك خليل بتاريخ 10 مارس سنة 1913 كتابًا إلى
السيد الإدريسي يطلب فيه الإذن بمقابلته فأذن له فجاء وأخبر السيد بأن الوالي
محمود نديم بك تلقى من الباب العالي أوامر تقضي بمخابرته بأمر الصلح وحسم
المشاكل وفض الاختلافات التي بينه وبين الدولة، وسأله هل يقبل بفتح المفاوضات،
فقبل السيد، فقفل القائمقام المذكور راجعًا إلى لحية وأخبر بذلك الوالي برقيًّا،
فغادر محمود نديم بك ومعه القائد سعيد باشا صنعاء ووصلا إلى لحية في 27 مارس
سنة 1913، وأرسلا كتابًا إلى السيد يطلبان فيه حضوره لثغر ميدي ليقترب منهما
فأرسل السيد مِن قِبله هيئة لمخاطبتهما على رأسها أمينه محمد يحيى بخطاب يقول
فيه: بلغوا كل ما تريدون لهذا الأمين وهو يوصله إليَّ حتى أعلم ما تريدون [2] .
كانت مطالب السيد الإدريسي قبل ثلاث سنوات - كما ذكرها هو في كتابه
إلى الإمام بسيطة جدًّا، أما مطالبه اليوم فهي لا تشابه تلك المطالب بوجه من
الوجوه.
ففي ذلك الحين لم يكن في يد السيد الإدريسي ثغر من الثغور البحرية وقد
أصبح اليوم في قبضة يده عدة مواني كما تقدم في كل واحد منهن بضعة مدافع كبيرة
تحميها. وفي ذلك الحين لم يكن قد وقع بين رجاله وبين الدولة سفك دماء، وكان
ذلك قبل حرب الطليان وما تلاها من المصائب وحرب البلقان وما أعقبها من
النوائب، وجملة القول أن كلاً من حالته وحالة الدولة لم تكن مثل ما هي الآن.
يحق للسيد الإدريسي اليوم أن لا يرضى لما كان رضي به قبل ثلاث سنوات،
ولم ترضَ به الحكومة العثمانية؛ لأن نفوذه خلال هذه المدة انتشر بين القبائل
انتشارًا هائلاً، وأحواله انتظمت ورجاله تسلحت، وقبائله استعدت، وعساكره
تعلمت وتمرنت على إطلاق القنابل واستعمال المدافع الكبيرة والصغيرة، وقد
علمت من رجل كبير من رجاله أنه سيستمسك بالمطالب الآتية:
1- الاستقلال الإداري التام تحت سيادة الدولة.
2- أن لا تتدخل الدولة في شئون موظفي البلاد التي في قبضة يده والتي
سيبين حدودها في المعاهدة.
3- أن تكون الراية الهلال والنجم مع كلمة التوحيد لا إله إلا الله من جهة
ومحمد رسول الله من الجهة الأخرى.
4- أن تكون الجنود محلية وعددها كافٍ لحماية البلاد في زمن السلم والحرب.
5- أن تكون الجمارك في الثغور راجعةً إلى الإمارة الإدريسية والمعاهدات
التجارية مع الدول من حقها أيضًا.
6- أن تكون الأحكام طبق الشريعة الغراء، واللغة الرسمية هي اللغة العربية
فقط بحيث لا تعرف لغة سواها في التعليم والقضاء والإدارة وفي المخابرات
الرسمية مع الآستانة.
7- كل ما ينشأ من المنافع العمومية كالسكك الحديدية والتلغراف والتليفون في
جهات العسير يجب أن تكون لمنفعة الإمارة وخاصة بها وخاضعة لها.
8- أن يصدر بهذا الاتفاق فرمان سلطاني قبل أن يجتمع مجلس المبعوثين
العثماني يؤتى به من الآستانة على يد مندوب عالٍ وعلى سفينة حربية ويقرأ
باحتفال عام في المكان الذي يختاره الأمير الإدريسي.
هذه هي أهم المواد الأساسية العمومية التي سيطلبها الإدريسي، وهناك مسائل
أخرى خصوصية وفرعية لا أهمية لها. ولا نظن أن الصلح يتم بين السيد
الإدريسي وبين الحكومة العثمانية إذا رفضت هذه مطلبًا واحدًا من هذه المطالب
الثمانية، ومن قاس هذه المطالب بمطالب السيد الأولى يتبين له الفرق العظيم بين
هذه وتلك كما يظهر له جليًّا بُعْدُ نظر رجال الحكومة العثمانية وطول باعهم في
السياسة والإدارة والسلام.
مصوع 7 مايو 1913 ... ... ... ... ... ... يماني
(المنار)
لم يبق للدولة مع هذه المطالب إلا اسم السيادة فلا يعقل أن تقبلها، فإن كانت
تعجز عنه الآن فإنها تفضل السكوت على إعطائه فرمانًا تقيد به نفسها، والمعقول
أن يكون للدولة مع الاستقلال الإداري بعض الحقوق العامة كاشتراط موافقتها على
العهود التجارية مع الدول وأخذ شيء مما يزيد على نفقات البلاد من دخلها.
__________
(1) المنار: السنابك جمع سنبوك في لغتهم وهي نوع من السفن الشراعية، وفي سواحل الشام يطلقون لفظ السنبك (بضم السين والباء) على نوع من قوارب الصيادين الصغيرة، وجمعه سنابك.
(2) المنار: أورد الكاتب ههنا نبذة من كتاب الإدريسي إلى الإمام استدل بها على كونه لم يكن يقصد عداوة الدولة بل خدمتها والاتفاق معها، وقد حذفناه لأننا كنا نشرنا ذلك الكتاب برمته في ج 4 ص 300 م 16 من المنار.(16/465)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفريط الاتحاديين بحقوق الدولة
في خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب
والتزلف بذلك إلى إنكلترة
إن خليج فارس وشط العرب وبلاد العراق وما يتصل بها من البلاد العربية
خير للدولة العثمانية من الآستانة وما يتصل بها من البلاد الأوربية، ولكن رجال
الدولة وجمهور المتعلمين منهم في مدارس الآستانة مفتونون بعظمة القسطنطينية
ومقامها التاريخي وموقعها الجغرافي ويعدون دولتهم ما دامت هنالك دولة أوربية،
وإن لم يجنوا من هذا الموقع، وهذه النسبة إلا النكال والوبال، والسلاسل
والأغلال، بل فقد الاستقلال وهم مع كل ما أصابهم من الشقاء والخسار في فتح هذه
البلاد الأوربية، ثم في ترك معظمها لا يزالون يعدون بقاءهم في قطعة أرض منها
على شفا من طرف مملكتهم علوًّا وعظمة، وإن كان على حد المثل العامي: علو
ولو على خازوق.
ولو عمرت الدولة تلك البلاد لكان لها منها ثروة تغنيها عن أوربة وتجعلها
دولة آسيوية قوية عزيزة كاليابان بل أهم من اليابان؛ لأنها القلب الذي يصل
الشرق بالغرب.
من المعلوم بالضرورة من السياسة الأوربية الحاضرة أن الدول الكبرى انفرقن
إلى فريقين عظيمين؛ بتنازع إنكلترة وألمانية الأولوية في سيادة العالم، وما أظهر
هذا التنافس والتنازع بينهما إلا سكة حديد بغداد: التي منحتها الدولة العثمانية
للألمانيين، فأقامت بذلك قيامة إنكلترة عليهما وحملتها على موالاة الروسية
ومواتاتها على ما تريد من العثمانية ومن إيران، على معارضتها في إيصال
الألمانيين سكتهم إلى شط العرب أو خليج فارس، فهذا الموقع العثماني العظيم الذي
غير سياسة العالم القديم، وجر على العثمانية والإيرانية الرجز الأليم، لا قيمة له
في نفس ساسة الآستانة، حتى كان من هوانه عليهم ما عهدت به جمعية الاتحاد
والترقي إلى مندوبها حقي باشا الذي أعطته إضاعة طرابلس الغرب مهارة عملية،
في إضاعة الممالك العربية، وذلك أنها أرسلته إلى أوربة ليستميل إليها الدول بما
يبذله لهن من المصالح والحقوق في البلاد العربية العثمانية، تحقيقًا لقول من قال
منهم لبعض أبناء العرب في الآستانة: إنا نبيعكم ونرقي أنفسنا بثمنكم.
بدأ حقي باشا الماهر بأن بذل لإنكلترة منتهى ما تسعى إليه إنكلترة من زمن
طويل في شرق البلاد العربية، بذل لها حقوق الدولة في شط العرب وخليج فارس
وشرقي الجزيرة العربية، وهي تعمل عملها وتمد نفوذها في غربيها وجنوبيها
لتحيط بها من جميع أطرافها، ووالله إنه لو بذل لها الآستانة وما بقي للدولة في
أوربة كله واستبقى ما بذل، لما كان إلا باذلاً الذي هو أدنى ومستبقيًا الذي هو خير.
وإننا قبل بيان ذلك ننشر نبذة لجريدة التيمس من مكاتبها في الآستانة عن مصالح
إنكلترة في البلاد العربية وهي:
كلام التيمس في حقوق إنكلترة في بلاد العرب:
إن اهتمام إنكلترة بما يحدث في البلاد العربية لهو أعظم أهمية مما يتصوره
الناس، فقد استولينا على عدن ولنا حق الحماية على كثير من الزعماء والقبائل في
الداخلية فضلاً عن سلطتنا على أمير عظيم الشأن وهو سلطان لحج ولنا فوق ذلك
نفوذ الحماية على ساحل البلاد العربية الجنوبي إلى عمان ومصالحنا أعظم من
مصالح سوانا وهي مؤيدة بالمعاهدات.
ثم إن زعماء العربان في ساحل القرصان على الخليج العجمي هم تحت
حمايتنا، وتوجد علاقات خاصة بيننا وبين شيخ الكويت وهو عامل عظيم في
سياسة الأعراب، وبذلك نجد أن نصف السواحل العربية كائن فعلاً ومباشرة تحت
نفوذ إنكلترة؛ ولذلك قد تكون الأحوال هناك أحيانًا ذات أهمية خاصة لإنكلترة.
أما عدن بالذات فإنها الآن في شغل داخلي شاغل فقد أدخل فيها مشروع جديد
للضرائب، والغاية منه سد نفقات تحسين المياه، ومنع ذوي السوابق من الدخول
إليها.
هذا المشروع قد أحدث شيئًا من الانقسام والخلاف، وهناك مشروع آخر تحت
النظر لإنشاء ترام بخاري من تواهي إلى الشيخ عثمان، أما تجارة عدن فلا تتقدم
والمناظرة شديدة بينها وبين جيبوتي والحديدة ولا يتيسر لعدن الحصول على نصيبها
من تجارة الداخلية إلا إذا وجدت المواصلات بينها وبين داخلية اليمن، والأحوال
هناك ليست على ما يرام، فالقبائل في نزاع دائم إحداها مع الأخرى، وجميعها مع
الأتراك، والقبائل الموجودة تحت حمايتنا تحارب القبائل الكائنة في آسية تحت
حماية الدولة العثمانية، والجيش العثماني يحارب أتباع إمام صنعاء، وحقيقة الأمر
أن الأتراك لم يستولوا فعلا على اليمن ولم يحسنوا الولاية على القسم الذي
يملكونه.
أما في الساحل الغربي الجنوبي فإن سلطان مكللا الكائن تحت حماية
إنكلترة قد حارب أخيرًا في بلاد حضرموت وهو يزحف على خصومه على أنه لا
يملك إلا ألف مقاتل؛ فلا أهمية لغزواته، والناس لا يعلمون شيئًا عما يحدث في
داخلية البلاد العربية يوميًّا من الغزو والحروب والخلاف الدائم مع أن البلاد العربية
أنجبت فيما مضى رجلاً حمل أتباعه السيف والدين فدخلوا القارات الثلاث ومع أنه
لا ينتظر أن تنجب مثل هذا الرجل فيما بعد؛ فلا يبعد أن تكون عاملاً خطيرًا في
سياسة العالم.
وتكلم المكاتب عن الخلاف القائم بين ابن سعود وابن الرشيد وختم مقالته
بقوله: لئن كان هؤلاء المتحاربون في ظاهر الأمر لا يهمون إنكلترة فربما استطاعوا
يومًا ما بطرق مختلفة أن يؤثروا في مركزنا في خليج العجم المتصل اتصالاً تامًّا
بسلطتنا على الهند. اهـ.
هذا ما كتبته جريدة التيمس لسان حال حكومتها في إثر ما كتبته عن حقوق
دولتها أو مصالحها في مصر، فهل تجهل حكومتنا العثمانية هذا أم تعرفه وتريد أن
تحقق آمال إنكلترة وتنيلها مآربها في البلاد العربية في مدة أقصر مما قدره ساستها
لذلك؟ وما هو حظ الدولة من ذلك؟
نحن نعلم كما يعلم كل واقف على السياسة وسير الأمم والدول أن الإنكليز قد
مدوا أعينهم فأصابعهم إلى خليج عمان وخليج فارس وشط العرب والعراق منذ ثلاثة
قرون، ولكنهم كانوا ينظرون إلى تلك المعاهد خلسة، ويحركون أصابعهم فيها خفية،
وما زاد اهتمامهم في الأمر إلا توجه نابليون بونابرت الكبير الهمة الواسع الفكر
والطمع إلى سلوك طريق الإسكندر المكدوني ووصل الشرق بالغرب، وإنما هو
طريق العراق وذلك الخليج، ومنذ قضى دهاة الأرض وأقطاب سياستها على
نابليون ومطامعه جميعًا طفقوا ينفذون مقاصده لأنفسهم بالتؤدة واغتنام الفرص
كعادتهم، فاحتلوا مصر بعد إخراجه منها بنحو ثلاثة أرباع القرن.
ويظهر أن دولتنا سهلت لهم أن يتمموا الأمر كله في مثل هذه المدة، وكان من
حسن حظهم أن سياسة عبد الحميد الخرقاء مكنت لهم في أرض مصر ثم أرادت أن
توجد لهم خصما قويًّا في العراق ومنفذه البحري إلى الهند فأعطت امتياز سكة بغداد
للألمان وأضرمت نار العداء والتنافس بينهم وبين الإنكليز؛ لمعارضة هؤلاء في
مدها ومشايعة الفرنسيين لهم؛ وبيد الفريقين معظم ثروة أوربة.
وكانت الدولة العثمانية ولا تزال ترى أن حياتها متعلقة بتنازع دول أوربة
الكبرى على المصالح والمنافع فيها، بل كانت محصورة في تنازع إنكلترة وروسية،
فأزال هذا التنازع عبد الحميد بسوء سياسته ولكنه استبدل به التنازع بين إنكلترة
وألمانية، فجاء بعده الاتحاديون فكانوا شرًّا منه وممن قبله وبعده سياسة؛ لأنهم بما
عقدوه من الاتفاق في هذه الأيام بين مندوبهم حقي باشا والحكومة الإنكليزية قد
أزالوا هذا التنازع أيضًا، فأزالوا به كل عقبة تحول بين الدول وبين اقتسام بلادهم،
ويظن أعداء العرب منهم أنهم بذلوا أهم مواقع البلاد العربية وسلمت لهم
الأناضول التركية، ولكن هيهات هيهات، إن عبد الحميد حفر اللغم تحت بلاد
الأناضول، والاتحاديون وضعوا فيه البارود وأضرموا فيه النار.
* * *
وإننا ننشر الآن مواد الاتفاق بين إنكلترة وتركية ثم الآراء فيه، وهذه
ترجمته:
مواد الاتفاق بين إنكلترة وتركية
1- تعترف الحكومة الإنكليزية بحقوق الدولة العثمانية على قضاء الكويت.
2- تتنازل الدولة العلية عن إدارة شئون هذا القضاء الداخلية إلى حكومة
إنكلترة وتعترف بالاتفاق الذي تم مع شيخ الكويت وما له أن لإنكلترة حق التصرف
في مسائل الكويت الخارجية.
3- تتنازل الدولة العلية عن جميع حقوقها في جزيرة قطر وتفوض إلى
إنكلترة إدارتها وإنشاء الفنارات والمحافظة على الأمن في خليج البصرة.
4- تكتفي إنكلترة بمد سكة الحديد إلى البصرة فقط، وتترك الحق في مدها
إلى الكويت لإدارة سكة حديد بغداد، وإنما تطلب تعيين مديرين من الإنكليز في
إدارة الشركة المذكورة.
5- يصادق لإنكلترة على امتيازاتها في نهري دجلة والفرات وعلى تأمين
متاجرها في البلاد العربية، وفي رواية: ضبط الأمن فيه.
6- تؤلف لجنة مختلطة من العثمانيين والإنكليز لتسيير السفن وتطهير الأنهر
وإنشاء الفنارات على شط العرب؛ وتكون الهيئتان: الفنية والتفتيشية، من أعضاء
هذه اللجنة من الإنكليز الاختصاصيين.
7- تحفظ حقوق أمير المحمرة على المحمرة.
8- تسوى الحدود العثمانية الإيرانية في أقرب آنٍ.
9- تتنازل الحكومة العثمانية عن حق مراقبتها على القروض المصرية.
هكذا ذكرت المواد في بعض الجرائد، وزاد بعضها حقوقًا أخرى لإنكلترة
وأدمج في بعض المواد ما ذكر هنا في غيرها، ومن الزيادة ما هو فيه من قبيل
الشرح والتفصيل كإدخال جزيرة البحرين أو جميع الجزر هنالك في دائرة نفوذ
الإنكليز بحيث صارت جميع مغاوص اللؤلؤ في يدهم، وهي التي لم تقدر الدولة أن
تستفيد منها شيئًا لجهل رجالها واحتقارهم للعرب واتخاذهم أعداء لهم.
ومن الزايادات التي زادها بعضهم إطالة امتياز شركة بواخر لنش أولنج
الإنكليزية في شط العرب والدجلة والفرات وبيع البواخر العثمانية لها حتى لا يبقى
في مياه العراق للعثمانيين تجارة ولا بريد إلا وهو في قبضة الإنكليز، ومنها إعطاء
حق استخراج المعادن وزيت البترول في العراق إلى شركة إنكليزية، ومن اطلع
على ما جرت عليه إنكلترة حديثًا من استعمال زيت البترول في تسيير سفنها
الحربيةِ يعلم أن البترول سيرتفع ثمنه وتكون تجارته من أهم تجارات الأرض.
وجملة القول أن في شط العرب وخليج فارس والعراق وما جاوره من بلاد
العرب من ينابيع الثروة ما لا يوجد مثله، ولا ما يقاربه في غيرها من بلاد الدولة،
ولا بلاد غيرها؛ وناهيك بمكانة المكان الجغرافية والطبيعية والحربية والتجارية،
فخليج الكويت القاحلة خير من خليج الآستانة، فإن سمي هذا قرن الذهب ولا ذهب
فيه ولا فضة، فجدير بذلك أن يسمى خليج اللؤلؤ واللؤلؤ أثمن من الذهب.
وقد وهبت الدولة حقوقها العظيمة في تلك البقاع البرية البحرية النهرية
للإنكليز في مقابلة وعدها إياها بالمساعدة على زيادة رسوم الجمرك وما تبغيه من
عقد الفروض وبيع الامتيازات والأراضي في أوربة واشتراء السفن ونحو ذلك،
أعطت أثمن ما عندها نقدًا رجاء أن تُسَاعد نسيئة على شيء مبهم هو مهما عظم
أحقر من أحقر ما بذلت! !
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(16/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(جمعية بيروت الإصلاحية وقتل زكريا طباره)
كان أول عمل عملته الوزارة الشوكية الاتحادية في البلاد العربية عزل أدهم
بك والي بيروت وجعل حازم بك مكانه وبدأ هذا عمله بإقفال نادي الإصلاح وحل
عقد الجمعية الإصلاحية التي تألفت وأنشئ ناديها بإذن رسمي من سلفه الوالي أدهم
بك الائتلافي، ثم قتل أحد رجال جمعية بيروت الإصلاحية زكريا أفندي طباره
اغتيالاً، وأشيع أن قتله كان بإيعاز من الوالي حازم بك فعظم الأمر على الناس،
ولكن مدير الشحنة (البوليس) ومعاون المدعي العمومي (وكيل النيابة) قد نشر
كل منهما في الجرائد بلاغًا رسميًّا كذَّبَا فيه ما أشيع من قتل الرجل بسبب سياسي
أو إداري، وإيعاز خفي.
أما سبب الإشاعة فهو ما اشتهر من أن هذا الوالي الاتحادي العريق قد
اصطنع لنفسه زعنفة من الأشقياء الذين يعيثون في البلد فسادًا بالعدوان وتهريب
السلاح والدخان، وما كان من أعضاء جمعية الإصلاح من حمل جميع أهالي
بيروت على إقفال محلاتهم التجارية ومعاهدهم العمومية يومًا واحدًا احتجاجًا على
عمله وإيذانًا له بأن الجمعية الإصلاحية تمثل وطنها حق التمثيل، وما كان من
إرادته إجبار الناس على فتح البلد بواسطة الضغط على بعض طلاب الإصلاح
ووقف بعضهم في دار الحكومة ومنهم زكريا أفندي طباره، وبذلك زيد الاعتصاب
فأقفلت المدينة يومين آخرين، ثم إن الوالي بادر إلى إطلاق من وقفهم من رجال
الإصلاح بشفاعة كبيري بيروت محمد أفندي بيهم وألفرد بك سرسق، وعلى إثر
ذلك قتل زكريا أفندي طباره اغتيالاً في الطريق وهو ذاهب ليلاً إلى داره، فقيل ما
قيل، ومنه أن الوالي أوعز إلى بعض الأشقياء بأن يقتلوا أحمد مختار أفندي بيهم
وزكريا أفندي، واستحضروا بإذنه أحدهم - المحكوم عليه بالإعدام - من مرسيلية
لأجل ذلك ووعده الوالي بعفو السلطان عنه.
المعروف عند كل الناس أن جمعية الاتحاد والترقي جمعية ثورية وأن لها
أفرادًا تسميهم الفدائيين أعدتهم لاغتيال خصومها، وقد اتهمت بقتل كثيرين من
رجال الصحافة في الآستانة وغيرهم كحسن بك فهمي وأحمد بك صميم، وبعد أن
أعلنت هي رسميًّا أنها تحولت من جمعية ثورية خفية إلى حزب سياسي فعلت فعلتها
بهجوم بعض أشقياء رجالها على الباب العالي وقتل ناظر الحربية وغيره في دائرة
الصدارة منه وإسقاط وزارة كامل باشا بذلك وإقامة وزارة محمود شوكت باشا مقامها،
ثم إن هذه الوزارة الاتحادية لم تحاكم من قتلوا ناظر الحربية ومن قتل معه ولو
محاكمة صورية، فإذا كان هذا أمرًا يعرفه جميع الناس من كل الأمم فكيف يستغرب
ما أشيع بين الناس من كون قتل زكريا طباره كان جناية سياسية؟
إنما نحن ناقلون، لا مثبتون ولا نافون، وغرضنا من النقل العبرة
والنصيحة فنقول للحكومة الاتحادية الحاضرة: إنك أمرت بمعاملة الجمعية
الإصلاحية في بيروت بالشدة والقسوة، فهذه من جملة أعمالك المبنية على ما في
مخاخ رجالك من النظريات التي نرى نحن أنها باطلة ومؤدية إلى ضد ما تريدين،
وقد قلنا مثل هذا القول في غير هذا العمل من أعمالك، فصدق قولنا، وسترين
صدقه في هذه المرة أيضا وفساد تلك النظريات، وأن هذه الشدة تنفع العرب الذين
تريد الجمعية سحقهم ومحقهم ولا تضرهم، فإن الأمم لا تظهر قوة استعدادها إلا
بالضغط عليها، فعسى أن تتدبر الحكومة والجمعية هذا القول فتبادر إلى
الإصلاح بمنتهى السرعة والإخلاص.
***
(أحوال مسلمي روسيا)
افتتان بعض علماء التتار بعبد الحميد
ورأيهم في سبب خذلان الترك حال شبانهم
رأينا في مجلة (دين ومعيشت) التي تصدر ببلدة أورنبورغ في روسية
ويتولى تحريرها بعض علماء التتار الجامدين على التقاليد المألوفة رأيًا غريبًا
نشر فيها بإمضاء (زاري) تحت عنوان (لماذا انهزم الترك؟) فأحببنا أن ننشره لما
فيه من العبرة، بافتتان الناس بالملوك وتأييدهم بنصوص الدين، وإن كانوا ظالمين،
وهذه ترجمته:
انهزم العثمانيون لأنهم استوجبوا غضب الله تعالى فلم ينصرهم؛ ذلك أنهم
خلعوا سلطانهم الذي خدمهم 33 عامًا خدمة جليلة وحفظهم من ذلك الخذلان بحكمه
فيهم حكمًا مطابقًا لرضاء الله تعالى! وأنهم لم يعرفوا قدره بل عزلوه عن منصبه
وأسقطوه من عرشه وفرقوه من تاجه، فإن الله تعالى حرمهم من الأراضي الأوربية
كلها وتركهم أذلاء في العالم تصديقًا لما قاله نبيه المحبوب صلى الله عليه وسلم
لأمته وتفهيمًا لعصيان الأتراك إياه.
روى الإمام الترمذي في باب ما جاء في الخلفاء الحديث الآتي: من أهان
سلطان الله في الأرض أهانه الله. وهذا الحديث ليس مختصًّا بالسلطان التركي بل
يشمل كل سلطان، إذا حقر الناس أي سلطان كان، فلا بد أن تهان أنفسهم ويجازوا
عليه [1] الشبان العثمانيون أهانوا السلطان عبد الحميد، فالله تعالى جازاهم على ذلك،
وأهان أنفسهم وتركهم في ذلة وشقاء، نعم إن الأتراك شبانهم وشيوخهم سواء في
إهانة سلطانهم عبد الحميد بل لم يخل، عن هذه الإهانة العالم الإسلامي كله، ولكن
السبب فيها هم الذين تركوا دين الله وراء ظهورهم، وأبوا الشريعة الإسلامية،
ولم يخافوا الله تعالى. إن الذين أهانوا السلطان عبد الحميد ظهروا أولاً في سلانيك
فالله تعالى أخذ سلانيك من أيديهم أولاً وأعطاها للآخرين.
كان في مقدمة هؤلاء الناس الذين بغوا على السلطان عبد الحميد أنور بك
ونيازي بك اللذان في قدمهما شؤم، فإن أحدهما جاء إلى بلاد الأرنؤوط بقدمه النحسة
فذهبت تلك البلاد من أيديهم، وثانيهما قدم طرابلس الغرب فذهبت إلى الطليان
بشؤمه، هذا الرجل المشئوم بعد ما رجع من طرابلس الغرب قدم البلاد الأوربية
العثمانية فذهبت تلك البقاع إلى الحلفاء البلقانيين، حفظ الله من قدوم هؤلاء الناس
المشئومين إلى بلاد الأناضول، فإذا وطئوها فلا شك حينئذ في ذهاب الأناضول
أيضًا.
إن العثمانيين مع ظهور جزاء الله تعالى فيهم لا يتفكرون في شؤمهم ولا
يبحثون عن إصلاح أحوالهم، بل يمشون على أعقاب هؤلاء الناس، ويجعلونهم
رؤساء فيُعَرِّضُون أنفسهم لغضب الله تعالى وقهره إذا هم لم يفيقوا من غفلاتهم
ولم يتوبوا من قبائحهم ولم يطلبوا عفو السلطان عبد الحميد مقبِّلين يديه ورجليه
فليس بعيدًا أن يأخذ الله تعالى منهم الخلافة والسلطنة بل هذا قريب جدًّا، تفكروا،
أي أمة من الأمم إذا سئمت الشريعة التي بها قوامها وسخرت من طالبي هذه
الشريعة ولقبتهم بـ (شريعت استرز) [2] وكرهت الشريعة كما يكره الارتداد بل
ظلمت فوق ذلك أهل الدين منهم ولم تقف عند هذا الحد خوفًا من الله تعالى بل
خوفًا من أوروبا فقط، فماذا يفعل الله تعالى بهذه الأمة؟ أليس قليلاً، ولو جازاهم بأي
جزاء؟
لئن نسي الشبان العثمانيون ما فعلوا بعلماء الدين من الإهانة عند الانقلاب
وبعده؛ فإن الله تعالى لا ينساه، فإنه يعلم أن قطرة من دماء هؤلاء الفدائيين في
سبيل الدين لا تقابلها دماء ألوف من الناس المشئومين، وزد على ذلك دم ناظم باشا
الغازي في سبيل الله في الانقلاب الأخير؛ وهذا يمنعهم أيضًا من التقدم إلى مدة
طويلة، ودموع السلطان عبد الحميد وأحزانه في حبسه يكفيهم لإطفاء نورهم. وقى
الله الأمة الإسلامية من شرورهم اهـ.
__________
(1) المنار: يدخل في عموم قوله المؤمن والكافر والبر والفاجر والعادل والجائر، ولا يقول بهذا عالم ولا عاقل، وحديث الترمذي غريب ورد في الأمير ابن عامر لا في الخليفة وفيه مقال ومراد راويه عدم إهانة الحكام التي تجرئ على الفوضى ولا يصح إطلاق سلطان الله على حاكم إلا إذا كان يقيم ما أنزله من الكتاب والميزان وإلا فهو عدو الله: وسلطان الله حجته وبرهانه، ويطلق على من يقيم ذلك.
(2) المنار: جملة تركية معناها (نطلب الشريعة) كان يحكيها بعض أحرار الترك بلهجة التهكم بخصومهم من أعضاء الجمعية المحمدية وغيرهم.(16/475)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقتطفات أخرى
من جريدة وقت الروسية الإسلامية
(منع الحكومة الروسية الدخول في الإسلام)
يروون أن غاوريلوف من قرية نيجينكه بولاية أورنبورغ طلب الإذن في أن
يدخل في الإسلام هو وأهل بيته، ولكن جاء الرد من الوزارة الداخلية بعدم جواز
الخروج من الأرثوذكسية إلى الإسلام (فلماذا لا تمنع دولة الخلافة الردة عن
الإسلام؟) .
(عناية روسية بتنصير المسلمين)
إن القسيس واستورغف الذي أرسلته نظارة الأمور الروحانية (السينود) أتى
مدينة طاشقند سعى مدة وجوده فيها في افتتاح مدرسة تبشيرية لتنصير المسلمين
ومقاومة المذاهب المبتدعة الضالة من النصارى.
(منع المسلمين من تأسيس مطبعة)
وصل إلينا أن محرر وناشر مجلة (اقتصاد) استأذن والي ولاية سامار في
افتتاح مطبعة إسلامية في بلدة سامار مركز الولاية ولكن الوالي لم يأذن له بذلك.
(حرية المسلمين وانتخاب النواب)
كان أحمد جان أفندي شريف من أعضاء البلدية دعا العلماء وبعض وجهاء
البلد للضيافة في داره، ولما التأم شمل المدعوين وأراد صاحب الدار تقديم الشاي
لهم جاء مأمور المركز ومعه عدة من الشرط فخاطب الحاضرين بقوله: قد وصل
إلينا أنكم تجتمعون هنا لمداولة الأفكار في أمور الانتخابات للدوما، والاجتماع لأمثال
هذا لا يمكن إلا بعد الحصول على الإذن فيه فأنا أنذركم به. ولما بيَّن له صاحب
الدار أنه دعاهم للطعام لا لشيء آخر، كتب أسماء الحاضرين ثم راقبهم إلى أن تم
الأكل، وكذلك كانوا قد وضعوا عدة من الشرط على الأبواب الخارجية وبعد أن تم
الأكل وانتشر الضيوف ذهب المأمور وأعوانه.
(مسألة الإعانة للهلال الأحمر)
كان مسلمو أورنبورغ وقارغالي طلبوا الإذن من الوالي بجمع الإعانة للهلال
الأحمر وكان الوالي وعد بمراجعة الوزارة الداخلية في ذلك، والآن جاء الجواب من
بطرسبرج بعدم الإذن؛ لأنه لا يعد شيئًا مشروعًا في المملكة الروسية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1013)
كان قادر أفندي رحيف وأربعة من رفقائه من التجار طلبوا من وزارة الداخلية
بالتلغراف منذ 13 يومًا الإذن بجمع الإعانة في أورنبورغ للهلال الأحمر والتزموا
إنفاقها بواسطة قرينة السفير الروسي في الآستانة، وبعد انتظار الجواب أكثر من
عشرة أيام من غير جدوى أعادوا طلبهم مرة ثانية وأرسلوا تلغرافًا في ذلك إلى
بطرسبرج.
... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1070)
قزان - نوفمبر 16: فتشت دار أمير خانف لاتهامه بجمع الإعانة
للهلال الأحمر.
إيركوتسكي (في سيبريا) : جمع المسلمون هناك (3256) روبلاً للهلال
الأحمر أرسلوها إلى قرينة طرخان باشا السفير العثماني في بطرسبرج.
سيواستوبول: بناء على الأمر من بطرسبرج منع متصرف سيواستوبول،
قنصل الدولة العلية فيها من جمع الإعانة من المسلمين للهلال الأحمر. فلا يمكنه
بعد الآن أن يجمع الإعانة إلا من تبعة الدولة العلية.
... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1074)
كنا كتبنا في الجريدة أن مسلمي أورنبورغ طلبوا مرارًا بلسان البرق من
وزارة الداخلية الإذن لهم بجمع الإعانة لجرحى الأتراك وإنفاقها بواسطة السفارة
الروسية في الآستانة. وفي الأخير اهتمت ببرقياتهم دائرة الأديان الأجنبية غير
الأرثوذكس وأخبرت نظارة الداخلية والي أورنبورغ بأنها سترسل الجواب في هذا
الشأن عن قريب.
... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1075) ...
من أخبار بخارى في الأيام الأخيرة أن المسلمين هناك أرادوا جمع إعانة
للهلال الأحمر، وطلبوا الإذن في ذلك من الحكومة المحلية، فأطلقت حريتهم ولم
يمنعهم مانع في أول الأمر من جهة نيابة الحكومة الروسية، ولكن جاء النائب بعد
ذلك وأفهم الحكومة المحلية ضرورة إرسال نصف الإعانة إلى دول البلقان المحاربة
للدولة فلم يرضَ المسلمون بذلك فتركوا جمع الإعانة.
... ... ... ... ... ... ... (جريدة وقت. عدد 1076)
(حرمة شهر رمضان)
عقد أئمة بلدة أورنبورغ جلسة فيما بينهم تحت رئاسة الإمام زاهد الله كاشيف
وتباحثوا في المحافظة على حرمة رمضان المبارك أن تهتك بمناسبة مجيئه سنة بعد
سنة وقت اشتداد الحر، وفي الأيام الطويلة ووجود المفطرين فيه أحيانًا بسبب ذلك،
وأجمعوا على مراقبة آداب الإسلام في الأسواق والأماكن العمومية، فانتخب للقيام
بما أجمعوا عليه عدة أشخاص عن كل حي من أحياء البلدة بعد استصدار الإذن به
من الوالي.
فإذا وجد في الأماكن العمومية من يسكر أو يأكل ويشرب في نهار رمضان
يسلم حالاً إلى الإمام بمساعدة البوليس وهو يعظه ثم يسلمه إليه ليحبسه برهة من
الزمن في مركز البوليس. وكذلك استصدروا أمرًا بإقفال حانات الخمر (المشروبات
الروحية) ثلاثة أيام العيد.
(إعطاء أراضي المسلمين لمهاجري الروس)
وجد لجان المساحة في نظارة الأراضي والزراعة مقدارًا كبيرًا من أراضي
القزاق ومسلمي تركستان زائدة عن حوائجهم فقررت أخذها للحكومة لأجل إسكان
مهاجري الروس فيها.
وهي: 4.950.000 فدان في متصرفية له بسي، و3.872.0000 فدان
في متصرفية قابال و367.000 فدان في متصرفية جاركند و3.238.000 فدان في
متصرفية آلماطا وكل هذه في ولاية يدي صو و5.107.000 فدان في ولايتي
فرغانه وصردريا. (الفدان الروسي: 11 ألف متر مربع تقريبًا) .
__________(16/478)
رجب - 1331هـ
يوليو - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
قصص القرآن وكتب العهد القديم
(س21) كتب إلينا الدكتور أخنوخ فانوس القسيس الإنجيلي القبطي سؤالاً
مطولاً يبين فيه مخالفة بعض قصص القرآن كقصة داود وطالوت لما في أسفار العهد
العتيق من تاريخ اليهود، ويعد هذا شبهة على صحة ما جاء في القرآن العزيز.
وجوابه بالإيجاز أن القرآن منزل من عند الله وخبر الله تعالى أصح من
أخبار مؤرخي اليهود، سواء منها ما تسمى مقدسًا؛ لاشتماله على أخبار الأنبياء
كسفر القضاة وسفر الأيام، وما لم يسم مقدسًا كتاريخ يوسيفوس. وإننا نرى أهل
ملة السائل يجيبون عما خالف العهد الجديد به كتب اليهود بأن كتبته ما كانوا يلتزمون
عبارات تلك الكتب بل روح معناها، أما نحن المسلمين فلا ثقة لنا بلفظها ولا بمعناها
ولا مزية لها عندنا على غيرها من التواريخ القديمة، والجديدة تفضلها ومع هذا نرى
فيها كذبًا كثيرًا، فهل يُعَارض بمثلها كتاب الله المعصوم؟
***
متى يحرم الوقاع؟
(س 20) من صاحب الإمضاء بمكة المكرمة:
ما قولكم - دام إرشادكم - في قول العلامة الفاضل، والقدوة الكامل، الشيخ
إبراهيم الباجوري، رحمه الله تعالى رحمة واسعة في حاشيته على شرح العلامة قاسم
الغزي المسمى (بفتح القريب في محرمات النكاح صحيفة 113 من السطر 20 ما
نصه) : (أما التحريم غير الذاتي وهو العارض بسبب حيض، أو إحرام أو صوم،
أو نحو ذلك) ما المراد منه وما معناه، فهل المراد أن الحائض أو الصائمة يحرم
نكاحهما كما هو صريح كلامه أم لا، وقد أوهم بعضهم أن المراد منه يحرم نكاحهما
حتى أفتى بذلك، بيِّنوا لنا بيانًا شافيًا وافيًا؛ لأن المسألة واقعة كل عام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مستمد ... الدعاء
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بصري الصولوي
... ... ... ... ... ... ... ... ... المجاور بمكة المكرمة
(ج) المراد بالتحريم هنا تحريم الوقاع لا تحريم عقد النكاح، والأمر ظاهر،
ولذلك حذفنا ما أطلتم به السؤال من مقابلة كتب الشافعية بعضها ببعض.
__________(16/520)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
(4)
تابع ما قبله
ولعل الحكمة في إرادة الله تعالى اختلاف آراء النصارى ومذاهبهم في
عقائدهم وغيرها هذا الاختلاف المعروف قبل البعثة المحمدية هي إشباع العقول من
كثرة البحث والتفكير [1] وتوسيع معلومات الناس وتكبير مداركهم وترقيتها بذلك
حتى تتهيأ لقبول العقائد والتعاليم الإسلامية بعد تشويقها إلى معرفة الحقيقة وتطلبها
الوقوف عليها إذا عرفتها، بعد هذا التعب الشديد والضلال عنها، وإن كانت سهلة
كما هو شأن الحق دائمًا، عضت عليها بالنواجذ وما فرطت فيها الأمة المحمدية
تفريط من قبلها كبني إسرائيل الذين أوحي إليهم الحق رخيصًا فلم يعرفوا قيمته.
ولو ضلت الأمة المحمدية كلها عن الحقيقة وهي آخر الأمم لاحتيج إلى وحي
جديد، ولكن أراد الله أن يختم بمحمد النبوة لارتقاء البشر في عهده وكفاية العقل
والقرآن لهدايتهم؛ فلذا كان ما كان وصان القرآن.
ولو أراد الله بقاء كتبهم للعمل بها إلى يوم القيامة كما يزعمون لصانها كما
صان القرآن الشريف من التحريف والتبديل والضياع، ومع ذلك فقد أبقى الله تعالى
فيها من العقائد الصحيحة والحكم والنصائح العالية ما فيه هداية للمفكرين، وما به
إظهار كذب أهل الكتاب ودسهم على أنبيائهم ما لم يأتوا به وما لم يقولوه ولذلك تجد -
إذا تأملت - ما دسوه قلقا مضطربًا لا يتفق مع تعاليم الأنبياء الأصلية كما سبق
تفصيل بعض ذلك في هذه الرسالة، ولكن لا يدرك كل الناس الفرق بين الحق
والباطل في هذه الكتب {وَلاَ يَزَالُونَ} (هود: 118) في أمرها {مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ
مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119)
وما الأديان في هذا العالم إلا كباقي الأشياء الأخرى قابلة للتبديل والتغير الذي
به تسترد شبابها وقوتها، ألا ترى أن الأشجار مثلا تذبل وتسقط أوراقها كل سنة في
زمن الشتاء حتى تصير كالميتة ثم إذا ذهب الشتاء انتعشت، وأورقت وأزهرت
وأثمرت، وصارت أقوى وأبهج مما كانت، فلا يعيق ذلك الذبول المؤقت صحتها
وقوتها بل تكتسب به شبابًا جديدًا في كل سنة، فكأنها تكتسب من الضعف قوة ومن
الذبول والتغير صحة وشبابًا ورقيًّا [2] .
فكذلك سنة الله في الأديان وغيرها فهي وإن تبدلت وتغيرت في بعض الأوقات
إلا أن ذلك يكسبها قوة وتقدمًا ورقيًّا بنهوض العقل البشري للبحث والتفكر فيها،
وبما يوحيه الله للناس من جديد فتعود إليها صحتها ويرجع إليها شبابها وتصير
أحسن مما كانت بعمل الأنبياء والمصلحين الذين يكونون لها كالشمس والماء
للأشجار. (راجع أيضا هامش صفحة 126 من هذه الرسالة) .
هذا وإنما استعمل الله لفظ الأب في التوراة والإنجيل في حق الله ولفظ الأبناء
في حق المخلوقين كما في (مت 5: 9 ويو20: 17) وغيرهما، إذا صحت
رواية اليهود والنصارى، ولم يستعمل ذلك في القرآن؛ لأن الناس كانوا في تلك
الأعصر الأولى ضعاف العقول حتى إنهم قل أن يفهموا شيئًا بدون ضرب الأمثال
والتشبيه لهم؛ فلذا كثرت في كتبهم فلأجل أن يعرفوا أن الله رؤوف رحيم بهم محب
لهم كما يحب الأب أبناءه بل أكثر، سماه أنبياؤهم لهم أبًا، وسموهم أبناءه، ولكن
بعد زمن المسيح بقليل أي: بعد انقطاع الأنبياء فيهم الذين كانوا دائمًا يحذرونهم من
الوثنية صار الناس يحملون كلا من لفظ الأب والابن على معناه الحقيقي وادَّعَوا
(كما في كتابات يوستينوس الشهيد [3] المتوفى نحو سنة 166 ميلادية وغيره كثيرون)
أن الله ولد الابن ولادة حقيقية أي أنه جزء خرج منه، وفهموا ما جاء في سفر
المزامير (2: 7) ورسالة العبرانيين (1: 5) [4] [5] [6] [7] ونحوهما فَهْمًا خطأ،
ولهم في ذلك سخافات اتصلت إليهم بعد أنبيائهم من الوثنيين والفلسفات الأجنبية
كفلسفة سقراط وأفلاطون اللذين قالا بعقيدة الكلمة قبل المسيح بقرون كما اعترف
بذلك يوستينوس نفسه في بعض كتبه، وإن كانت عقيدتها طبعًا أبسط من عقيدة
النصارى المعروفة.
وقد كان الرومانيون وغيرهم يعبدون بعض قياصرتهم في حياتهم ويألهونهم
بعد موتهم (راجع ص44 من كتاب التوراة غير موثوق بها لمؤلفه Wslter
Jekyll) وكانت عبادة البشر [8] وتأليههم شائعين في المملكة الرومانية، في ذلك
الزمن كما يفهم أيضا من نفس سفر الأعمال (12: 22 و41: 11 و28: 6)
فلما فشا في الناس ذلك المعنى الضار في الأب والابن بتأثير الوثنية أبطل الله هذه
الاستعمالات المجازية في القرآن الذي هو آخر الكتب بعد أن حصل الناس على
الغرض منها، وأصبحت لا فائدة فيها لهم سوى أنها قد تجر بعض سخفاء العقول
كما جرتهم من قبل إلى الغلو فتوقعهم في الشرك والوثنية مرة أخرى بعد ختم الوحي
والنبوة فلذا استبدلها الله تعالى باستعمالات أخرى أقرب إلى تصوير الحقيقة، وأبعد
عن الضرر، وتكفي الناس في ذلك الزمن لفهم المراد ما كفتهم تلك في الأزمنة
الأولى والبشر في طور الطفولية، فبين تعالى في كتابه العزيز أن الله رؤوف رحيم
ودود لعباده وأنه يحبهم ويحبونه (قرآن 3: 31 و5: 54 و16: 18 و85:
14) وغير ذلك كثير وأنه وليهم (2: 257) وهم أولياؤه (10: 62) وبدأ كل
سورة منه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) ، وبيَّن رسوله أن
الخلق عياله وأنه أشفق عليهم وأرحم من الأم بولدها وبذلك ونحوه حصلوا على فهم
ما فهمه الأولون من الأب والأبناء بدون أن يلحقهم ما لحق أولئك من الشرك
والوثنية، فإن البشر في زمن البعثة المحمدية كانوا أرقى ممن سبقهم فكانت تكفيهم
كما قلنا هذه العبارات لفهم المراد من محبة الله لهم بدون تشبيه ولا تمثيل، ولا تنس
أن محمدًا هو خاتم النبيين لذلك تركت هذه الاستعمالات المجازية في القرآن لعدم
حاجة البشر إليها في فهم المراد؛ ولأنهم إذا وقعوا بسببها في الوثنية تعسر إبعادهم
عنها بعد ختم الوحي والنبوة.
هذا وفي قول القرآن الشريف: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة:
119) وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) من التكريم الإلهي والتحبب
واللطف ما لا يخفى على متأمل، فكأن الله تعالى {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} (الروم:
27) ساوى عباده به حتى صار يطلب رضاهم عنه وحبهم له كما يطلبون هم ذلك
منه، وهو الذي بدأ - كما في هذه الآيات - بالرضا عنهم والحب لهم، فأي رفع
لنفوس البشر وجذب لقلوبهم، بعد أن أماتها الشرك والوثنية، أكبر من ذلك؟ فهم
وإن كانوا عباده إلا أنه لا يعاملهم معاملة السيد لعبيده بل معاملة الأخلاء بعضهم
لبعض كما هو ظاهر من عبارات القرآن، وهي لا شك أدعى لرفع نفوس الناس
وتشريفهم وجذب قلوبهم إلى الله تعالى من قول الإنجيل: (أبانا الذي في السموات) .
فإن الفرق بين درجة الأب مع ابنه ودرجة النظير مع نظيره لا يحتاج لتوضيح.
وقول القرآن: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) ليس
كقول الإنجيل: (هذا إنه في السموات) ؛ إذ دلالة الأول على القرب لا تقارن
بدلالة الثاني عليه، وشتان بين من يدعو الذي في السموات وبين من يدعو الذي هو
أقرب إليه من حبل الوريد، وفرق بين النصراني الذي ينتسب إلى الله ويقول: إنه
أبوه وبين المسلم الذي يتقرب إليه الله نفسه ويقول له: إني أقرب إليك من أجزاء
جسمك الداخلية، ويخاطب نفسه بقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً *
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 28-30) .
أما قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة:
18) فليس المراد به إنكار تسميتهم أبناء الله بمعنى أحبائه بل المراد إنكار
اختصاصهم بذلك، كما ادعت اليهود والنصارى [9] ، وبعناية الله بالوحي والنبوة
والخير الأكبر، وغير ذلك دون سائر العالمين، فبيَّن تعالى لهم أنهم عنده كسائر
الناس خصوصًا في زمن البعثة المحمدية التي ساوت بين جميع العالمين، وإن
كانوا فضلوا في بعض الأشياء، وفي بعض الأوقات عن غيرهم إلا أن ذلك لم يكن
لكل زمان ولا في كل شيء، ورد عليهم دعواهم المحبة لله بأنهم يعصونه،
والمحب لمن يحب مطيع، فهم كاذبون أيضًا في دعوى محبتهم له، ولو كان لهم
عنده مزية على غيرهم لما ساوى بين الناس جميعًا في العقاب الدنيوي والأخروي؛
ولذلك قال: {يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (المائدة: 18) أي كباقي الناس، فالمراد أن
الخلق كلهم عياله تعالى وأنه محب لهم جميعًا ولم يبق مزية لكتابي على جاهلي ولا
لأبيض على أسود ولا لعربي على عجمي بل الكل عند الله سواء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ويجوز أن مذهب وحدة الوجود كان فاشيًا في
نصارى العرب ويهودهم كما كان فاشيًا في أسلافهم الأولين على ما بيَّنا في حاشية
(صفحة 141) فيكون مرادهم بقولهم: إنهم أبناء الله أنهم مولودون أي أن مادتهم
هي من ذات الله تعالى، فكذبهم القرآن في هذه الدعوى وبين أنهم مخلوقون محدثون
هم وسائر الناس بقدرته وصنعه لا مولودون منه، فيجوز عليهم كل ما جاز على
سائر الأحياء المخلوقة كالآلام والذل والعذاب وغيره، ولا يعقل أن الله يهين نفسه
ويعذبها لو صح قولهم إن ذاتهم هي من ذات الله تعالى، بل له ملك السموات
والأرض بالقهر والإيجاد لا بكونهما أجزاء منه، والوجه الأول عندنا أقرب إلى
ظاهر الآية فإن المتبادر منها أن العطف في قوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: 18) هو للتفسير، فمقصودهم أنهم وحدهم أحب الناس إليه كأنهم أبناؤه؛
لأن ولد الإنسان أحب إليه من كل من سواه كما لا يخفى.
واعلم أن الله تعالى منزه عن الانفعالات النفسية والجولات الفكرية والتأثيرات
القلبية ونحوها من صفات الحوادث؛ فوصفه تعالى بالحب والرأفة والرحمة وغير
ذلك هو أيضًا لا ينطبق تمامًا على صفاته القديمة، وإنما هي ضرورة التعبير
ألجأتنا إلى هذه الألفاظ ونحوها لنفهم منها فضله علينا.
أما الحب عندنا في جانب الله فمعناه [10] إفاضته الوجود، وما يلزم له من النعم
العديدة التي لا تحصى على جميع المخلوقين ولو كانوا به كافرين مشركين ودوام
هذا التفضل والإنعام على عباده المؤمنين إلى الأبد من غير أن يعود عليه تعالى أقل
نفع له منهم جميعًا، أو أدنى فائدة ترتجى له؛ إذ هو الغني عن كل ما سواه،
المفتقر إليه كل من عداه، فحبه تعالى يمتاز عن حبنا في كونه صفة أزلية له تعالى،
وإن تعلق بالموجودات بالفعل في وقت وجودها فهو كباقي الصفات الأخرى، فإن
تعلقها بالحوادث هو في غير الأزل مثل القدرة على الخلق، وأيضًا فحبه أكبر
وأعظم ولا تشوبه أدنى شائبة من الحاجة إلينا أو المنفعة، كما قلنا، لا كالمعتاد
الغالب في حبنا مهما خلص، وهو يشمل جميع مخلوقاته حتى أعداءه منهم بالمعنى
الذي بيناه هنا، وهو دائم أبدًا لعباده المؤمنين الذين يمدهم بالخير العظيم والفضل
العميم، والإحسان الكبير، ومن غير أن يكون شيء من ذلك واجبًا عليه تعالى بل
هو كله محض فضل منه ورحمة، وأيضا فقد ينشأ عن حب بعضنا بعضًا شيء من
الضرر كحب الأم الجاهلة لولدها حتى تمنعه من كل عمل فيه مشقة ولو كان نافعًا
أو ضروريًّا، وأما حب الله لنا فهو خال من كل ضرر، ولا ينشأ عنه إلا النفع
المحض قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل: 18) وأيضًا فالله عندنا غفور رحيم للمذنبين مهما كثرت جرائمهم بشرط
التوبة الصحيحة بدون انتقام ولا سفك دم (ولا يُكَلَّفُ الإنسانُ ما لا يطيق) .
أما أرقى أنواع الحب عند النصارى فهي التي تؤدي إلى الانتحار لخلاص
الناس (كما في كتاب صدق المسيحية لمؤلفه ترتون ص283) ولكن مثل هذا
الحب هو من شأن الضعفاء العاجزين المختلين الذين لا يقدرون على خلاص
محبوبهم؛ فلذا ينتحرون والله منزه عن ذلك وفوق ذلك، على أن مثل هذا الحب
مشاهد بين الناس فكثيرًا ما ينتحر العاشق في سبيل معشوقه والأم لأجل ولدها مثلاً؛
فحب الله -على قولهم هذا- لا يمتاز عن الحب المعتاد بين ضعاف المخلوقين
وشرارهم. ولعل من أسباب كثرة الانتحار بين الإفرنج هذه العقيدة؛ إذ من
مقتضاها أن الانتحار ليس بعار ولا عيب فيه ما دام ربهم نفسه قد ارتكبه ولو أن
الحامل له عليه غير الحامل لأكثرهم، ولكن الانتحار على كل حال هو مظهر من
مظاهر اليأس والضعف والجبن وقلة العقلِ والحيلةِ؛ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
لاحِظْ أيضا أن إلههم هو الذي أباح لهم شرب الخمر وشربها معهم وناولهم
إياها بيده كما سنبينه (مت 26: 27 - 29 ومر 14: 23 - 25 ويو 2: 1 -
11) ، (راجع كتاب دين الله ص 98) فلذا فشا فيهم الانتحار وشرب الخمر وهما
من أكبر الموبقات؛ ومع كل ما تقدم فالله تعالى باعترافهم لم ينتحر هو نفسه
لخلاصهم بل ضحى بالإنسان يسوع، الذي أكرهه على ذلك إكراهًا كما بيناه في
مقالة الصلب وغيره؛ وظلمه وهو بريء ولم يشفق عليه ولم يرحمه كما قال بولس
(رومية 8: 32) فأين الثريا من الثرى، وأين السماء من الأرض؟ فإذا لم يحمل
الناس على حب الله خلقُه لهم وتفضلُه عليهم بجميع أنواع النعم الصغيرة والكبيرة
وهدايته لهم بدون مقابل ورحمته بهم وعفوه عنهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون فهل
يحمل على حبه صلبه البريء يسوع؛ لأجل خطيئة آدم وخطيئتهم وهم لم يقعوا في
العصيان إلا بعلمه وإرادته وتقديره؟ ومهما بالغ بعضهم في إرادة الإنسان واختياره
فإن ذلك مخالف في كتبه (راجع يو 12: 39 - 41 ورو9: 17 و17 و11: 7
و8 و12: 3 وخر 4: 21 و9: 12 و10: 1 و1 صم 2: 25 وتث 2: 30
واش 6: 10 ويشوع 11: 2) .
وقد كان يمكنه أن يمنع وقوع الإنسان آدم في هذه الخطيئة أو يمنع نسله من
التأثر بخطأ أبيهم الذي أدخل بزعمهم الخطيئة في العالم كما قال بولس (رومية 5:
12) مع أنه لولا خلقه آدم بطبيعته ميالاً من قبل للشر والعصيان لما عصاه وخالف
أمره (راجع رسالة الصلب ص 123 - 125) ولو أراد أن ينجيهم من العقاب
تفضلاً منه ورحمة لما عارضه أحد؛ ولما نافى ذلك عدله كما يزعمون وإلا فهل
صلب البريء بدون إرادته فداء للمذنبين هو الذي لا ينافي ذلك العدل الذي ما فهموه؟
(راجع صفحة 11 - 13 من كتابنا دين الله) وهل إيقاعهم في العصيان بخلق
آدم ميالا للشر وخلقهم كذلك ومؤاخذتهم بذنبه وذنوبهم (انظر مثلاتك 3: 15 -
19) وعدم العفو عنهم مطلقًا إلا بسفك الدم هو الذي يحملهم على حبه؟ ولا يحمل
المسلمين ما ذكرنا على حب الله الرءوف بهم الرحيم المنعم عليهم بكل شيء الغفور
لذنوبهم جميعا بدون سفك دم أحد متى صحت توبتهم ورجعوا إليه وحده مستغفرين
خاضعين مطيعين؟ وهو الذي لا يسأل أحدًا منهم إلا عما اكتسبته يداه؟ فتأملوا في
ذلك أيها العاقلون واحكموا بيننا وبين القوم الظالمين. وليس غرضنا بهذه العبارة
البحث هنا معهم في مسألة القضاء والقدر، فقد وفيناها حقها في بعض أعداد المنار
السابقة (م 10 ص731) وإنما الغرض مقارنة العقيدتين وبيان أيهما أشد حملاً
للناس على حب الله.
وإذا كان المسيح باعتبار ناسوته من نسل آدم؛ لأنه مولود من مريم ومتكون
في رحمها من دمها فهو كباقي أولاد آدم واقع في الذنب فهو أيضا يحتاج إلى الكفارة
مثلهم، وإذًا يكون غير طاهر ولا معصوم من الذنوب كما تزعمون؛ لأنه ابن
الإنسان الخاطئ وناسوته مخلوق من مريم بمقتضى التولد الجثماني، وإن كان لم
يتلوث بذنب آدم فلم تلوث غيره (رومية 5: 12 و17 و1 كو 15 و22) وكلنا
من نسل آدم وطبيعتنا هي من طبيعته؟ وإن كان الله طهره من الخطيئة بحلوله فيه
فإذا يجوز التطهير من الذنوب بدون سفك الدم، وهو خلاف ما تدعون؟ وإن كان
حلول الابن مطهرًا من ذلك فلم لم يطهركم حلول روح القدس فيكم وكلكم هيكل الله
الحي كما يقول بولس (1 كو 3: 16 وأف 4: 6 وراجع أيضا أع 2: 4) فإذا
كان حلول الله أو أحد أقانيمه في الإنسان مطهرًا من الذنوب فأيُّ حاجة إذًا إلى
صلب المسيح؟ ولمَ لمْ يجعل الله موت شهدائهم الكثير بزعمهم كفارة عن باقي النوع
الإنساني وكلهم ممتلئون من روح القدس (رو 5: 5) وإن قيل: إنه باعتباره
ناسوته واقع مثلنا في خطيئة آدم، ولكن صلبه وهو ابن الله كافٍ لتكفير الخطيئة
عن جميع بني آدم، وهو من ضمنهم.
قلت: إن كان صلبه باعتبار أنه إله جاز على الله الموت والألم والجزع
والاستغاثة بغيره والضعف، وغير ذلك مما أظن أنكم تنزهون الله تعالى عنه
وخصوصًا بعد قول المصلوب: (إلهي إلهي لماذا تركتني) .
وإن كان صلبه باعتبار أنه إنسان فهو خاطئ مثلنا بمقتضى طبيعته البشرية
فلم لا يكون موته مكفرًا عنه وحده؛ ويكون ما ينال كلا منا في هذه الحياة من
المشاق والأحزان والموت أو القتل وغير ذلك كفارة له عن ذنبه، وقد كان أصل
العقاب على ذنب آدم كما في سفر التكوين الموت والألم والتعب وعداوة الشيطان أو
الحية ونحو ذلك (تك 2: 17 و3: 13 - 19) وكل هذه الأشياء واقعة بنا وباقية
علينا إلى الآن؟ وإن كان لا بد من سفك الدم فهي دعوى لا دليل لكم عليها ولم يكن
موت المسيح بسفك دمه وذبحه، بل إن ما فاض منه من مسامير الصلب لم يكن هو
السبب في الموت كما بيناه في كتاب (دين الله ص 5 و12) وفي رسالة الصلب؟
وإذا كان الله لا يكتفي بما حل بالإنسان من المصائب والبلايا والموت وغيره في هذه
الحياة، ويصر على الانتقام منه في شخص أحد أفراد هذا النوع المسيح، ويحمله
من أنواع الإهانات والفظائع ما جعله يستغيث به فلا يغيثه ولا يرحمه (لو 22:
39 - 46 ورومية 8: 32) مع أنه اتخذه له ابنًا وحل فيه؛ وإذا كان أيضًا لا
يكتفي بحلول روحه القدس في الناس ولا بتوبتهم واستقامتهم ولا باستشهاد كثير منهم
في سبيله إلا بعد سفك دم عيسى، ويحب الضحايا البشرية من قديم الزمان ويتقبلها
من مقربيها له (قض 11: 29 - 40) ويأمر أنبياءه بسفك دماء ما لا يحصى من
الحيوانات (1 مل 8: 63) وقتل ما لا يعد من البشر (تت 20: 16) ويسر
برائحة المحرقات (لا 1: 17) إذا كانت كل هذه صفات إلههم فهو مجرد من كل
رحمة وشفقة وحنان وعدو للإنسان والحيوان.
حتى إنه ندم على خلقه الإنسان (تك 6: 6) لشدة غيظه منه، وبغضه له،
وخوفه منه (تك 3: 22 و11: 6) فكيف يمكن للإنسان أن يحبه بعد ذلك؟ مع
أن الله وهو أقدر منا طبعًا لم يحب الإنسان؛ ولم يرحم إلا بعض أفراد هذا النوع بعد
أن شبع وروي من الدماء التي تملأ الأنهار، فهل يا قوم هذه العقيدة [11] هي التي
تدعون أنها الطريقة الوحيدة لإظهار محبة الله للإنسان، وهل هذا إله محبة كما
يسميه يوحنا (1 يو 4 ت: 16) وهل كل هذه الأشياء التي صدرت منه ضد
الإنسان تحملنا على حبنا له؛ ولا طريقة تحملنا على حبه غيرها؟ إن هذا لشيء
عجيب.
(البقية تأتي)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
... ... ... ... ... ((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لما آلت إلى النصارى السلطة الدنيوية ورأوا أن البحث العقلي يؤدي الناس إلى رفض عقائدهم التي أكرهوهم عليها حاولوا إخماد ميل الفطرة البشرية إلى ما تشرئب إليه فحرموا من قديم الزمان استعمال العقل في مسائل الدين واعترفوا - ولا يزالون يعترفون - بأنه لا يمكن للعقل البشري إدراكها وأنه لا يجوز له رفضها وإن خالفته وناقضت أحكامه، ولا أدري كيف بعد ذلك يثبتون صحة أصل دينهم مع أن دلالة المعجزة على النبوة أساسها العقل؟ وليس هذا فقط بل كان رؤساؤهم يمنعون الناس من الاطلاع على كتبهم الدينية بأنفسهم قبل الإصلاح البروتستانتي؛ لئلا يقفوا على عيوبها وتضاربها ومناقضتها للعلم والعقل فسدوا بذلك كل منفذ للبحث والتفكر بين أشياعهم؛ ولكن لما أباح البروتستانت قراءة هذه الكتب بفضل ما وصلهم من دين المسلمين وكتبهم اشتغل الإفرنج بالبحث في هذه الكتب؛ وهم الآن على وشك أن يرفضوها كلها، وإن كان بعضهم قد نبذها فعلا وراء ظهره قبل الآن بقليل إلا أن المحامين عنها لا يزالون كثيرين، ولله في خلقه شئون.
(2) حاشية: لما لاحظ القدماء ضعف الشمس في زمن الشتاء وذبول الأشجار وسبات بعض الحيوانات أو موتها المجازي في ذلك الفصل وبعبارة أخرى موت الطبيعة وجزئياتها التي كانوا يعبدونها اعتقدوا جواز الموت على الآلهة وقالوا: إنه بسبب هذا الموت يحصلون على حياة أقوى وأرقى كما يسترد الإنسان قواه بعد النوم فلما عبدوا البشر واتخذوا منهم آلهة قالوا أيضًا بموتهم وقيامتهم (بعثهم) وارتفاعهم إلى سماء الكمال والجلال وتغلبهم على الموت الأدبي والحقيقي، ومن ذلك نشأت عقيدة النصارى في موت المسيح وقيامته وصعوده وتغلبه على الموت كما تتغلب الشمس والأشجار وغيرهما على موت الطبيعة (الكون) بعد أن تخضع له مدة الشتاء وهي ثلاثة أشهر، فجعل النصارى في مقابلة ذلك مدة موت المسيح ثلاثة أيام؛ لأنه أرقى من تلك الآلهة فتكون مدة خضوعه أقل؛ لتناسب مقامه وعظمه؛ ولكنهم حافظوا على أصل العدد (أي الثلاثة) ومما زاد رغبتهم أيضًا في جعل هذه المدة ثلاثة أيام بدل ثلاثة أشهر؛ ورود بعض عبارات في العهد القديم أرادوا أن يجعلوها رمزًا أو نبوة عن مدة موت المسيح (راجع هوشع 6: 2 ويونان 1: 17 مع متى 12: 40) وإلى ذلك المعنى السابق في أصل هذه العقيدة أشار يوحنا (12: 24) في إنجيله بقوله عن لسان المسيح: (الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأت بثمر كثير) ومع ما في ظاهر هذا المثل من الخطأ العلمي كما بيناه في كتاب دين الله صفحة 220 يدلنا على منشأ بعض أفكار النصارى وعقائدهم ولذلك جعلوا يوم 25 ديسمبر، وهو يوم ميلاد الشمس عند الوثنيين أي انقلابها الشتائي أو رجوعها الظاهري من عند مدار الجدي، جعلوه يوم الميلاد للمسيح (انظر رسالة الصلب صفحة 138) وجعلوا عيد قيامته في أول الربيع، وهو وقت قيامة الشمس والأشجار والحيوانات من موت الشتاء أي يوم عيد قيامة آلهة الوثنيين الذي يتغلبون فيه على سلطان الظلمة والبرد وموت الطبيعة فقالوا: إن المسيح تغلب في نفس هذا اليوم على الشيطان وظلمة القبر وعلى الموت الروحاني فخلص هو نفسه من الموت الطبيعي، وخلص أتباعه من الموت الروحاني وجعلوا قيامته في يوم الأحد وهو يوم الشمس Sunday أيضا الذي كانت تعبد فيه، وقد أفاض علماء الإفرنج في هذه المباحث وبينوا اشتقاق عقيدة النصرانية في المسيح من تلك الأفكار الوثنية فانظر وتعجب، (راجع مثلا كتاب الأصول البشرية ص62 وكتاب حكايات من العهد الجديد لمؤلفه جولد صفحة 128 - 130) .
(3) حاشية: كان يوستينوس هذا يونانيًّا خاضعًا للرومان ووثنيا وبعد دراسة طويلة للفلسفة اليونانية اعتنق المسيحية مصبوغة بالصبغة اليهودية واليونانية؛ لأن أكثر آرائه الفلسفية كانت مستمدة من كتابات فيلو اليهودي الإسكندري والاطلاع على أقواله في ولادة الله تعالى ابنه قبل جميع المخلوقات راجع كتاب دين الخوارق في الانكليزية (صفحة 456 - 460) والحق أن هؤلاء الوثنية المتنصرين هم الذين حملوا إلى المسيحية وثنيتهم القديمة فبدلوا دين المسيح على الحق وأفسدوه ومنهم انتقل إلى ذراريهم محرفًا مبدلاً فاسدًا، واعلم أن أول من أخذ بعقيدة الثالوث من قياصرة الرومان هو ثيودوسيوس Theodosius جلس على سرير الدولة سنة 379 ومات سنة 395 ومنذ جلوسه أخذ في إكراه الناس على هذه العقيدة إكراهًا شديدًا حتى زال التوحيد الحقيقي من بين النصارى وهو الذي كان فاشيًا وقتئذ في نفس عاصمة الدولة (القسطنطينية) وبعد موته مباشرة انقسمت الدولة بين ولديه إلى قسمين، وفي سنة 476 ضاع القسم الغربي من دولة الرومان وانتهى أمره، فترى من هذا أن النصرانية الحالية لم تنتشر بسرعة بين الناس كما يزعم المبشرون ولم تدخل عقيدة الثالوث رسميًّا في الدولة الرومانية إلا في أواخر القرن الرابع مع وجود أمثالها عند كثير من الأمم الوثنية، ولم يكن انتشارها بين النصارى الأولين إلا بالإكراه الشديد، ومنذ دخول هذه النصرانية فيهم أخذت دولتهم في الضعف والاضمحلال كما قلنا حتى تلاشى قسمها الغربي سريعًا بعد ذلك ثم تلاشى القسم الشرقي أيضا بأخذ المسلمين القسطنطينية سنة 1453، ولولا قوة الدولة الأوربية الآن التي بلغتها بأسباب عمرانية اجتماعية عديدة متنوعة لما قامت لهذه العقيدة قائمة، ومع ذلك ترى أكثر العلماء في أوروبا الآن قد أصبحوا ينبذونها نبذ النواة ويسخرون منها ومن معتقديها الذين جلهم من العامة أو من رجال الدين الذين لا صناعة لهم إلا الاحتراف به.
(4) إن شئت أن تعرف ماذا كان كتبة العهدين يريدونه في أكثر المقامات بالولادة من الله فاقرأ مثلاً (يع 1: 18 و1 يو 4: 7 و5: 1 و4 و5 و3: 9 و5: 18 و19 و1 بط 1: 22 و 23) و (إنجيل يوحنا 1: 12 و13) ومن أكبر المصادمات للبداهة العقلية في عقائد النصرانية؛ وكلها مصادمات قولهم من غير أن يستندوا على شيء من كتبهم المقدسة إن أقنوم الابن قديم ممتاز عن الأب امتياز الأشخاص بعضها عن بعض منذ الأزل؛ ثم قولهم بعد ذلك كما في كتبهم: إنه مولود منه قبل جميع المخلوقات (كو 1: 15 ومي 5: 2) فلو كان امتياز شخصه أزليًّا لما كان مولودًا ولو كان مولودًا لما كان له وجود مستقل بشخصه منذ الأزل، وإلا فما معنى الولادة إذا وكيف تكون منذ الأزل؟ وما معنى اليوم في قول كتبهم: (أنا اليوم ولدتك) فإن كان شخصه مستقلاًّ أزليًّا فكيف ولد في ذلك اليوم؟ وما معنى خروجه منذ الأزل كما قال ميخا (5: 2) أفلم يكن في الخارج ثم خرج؟ وإذا جاز ذلك فكيف تكون ذات الله عندهم غير قابلة للتفرق والانقسام؟ وكيف يبقى بعد ذلك جوهر الابن وجوهر الأب واحدًا؟ (راجع أيضا كتاب دين الله ص 50) وإذا كان الابن قديمًا والله أب له منذ الأزل فكيف قال بولس عن لسان الله في حقه (عب 1: 5) : أنا أكون أي أصير له أبًا وهو يكون لي ابنًا، كما قال ذلك بعينه في سليمان (2 صم 7: 14) .
(5) وكيف يقول بولس أيضا (عب 1: 4) صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسمًا أفضل منهم، فهل مثل هذا الكلام يليق أن يقال في حق الله تعالى؛ وهل تصح مقارنته بالملائكة وإظهار أيهما أفضل؟ ألا يدل ذلك وغيره كما قلنا سابقًا على أن كتبة العهد الجديد ما كانوا يعتقدون ألوهية المسيح حقيقة؛ بل ولا وجوده منذ الأزل بمعنى أنه لم يسبق بعدم إلا إذا كانوا يريدون أن جميع المخلوقات صادرة عن ذات الله تعالى أي أنها جزء من جوهره كأصحاب القول بوحدة الوجود Pantheism وذلك حقيقة هو ما يفهم من كثير من نصوص كتبهم إذا قورنت معا مثل (كو 1: 15 ورؤ 3: 14 وأف 4: 6 و1 كو 8: 6 و15: 28 وأع 17: 28 ورو 11: 36) وغيرها وبناء عليه يكون لفظ الولادة في اصطلاحهم مرادفًا للفظ الخلق في هذا المقام، ويكون المسيح في اعتقادهم هو أول المولودات أو الأبناء أو المخلوقات على حد سواء، وهو وحيد (يو 1: 18) في الأولية والعظم والمقام والقدرة وغير ذلك مما أوتيه دون سائر العالمين على ما يزعمون، فكأن الأبناء الآخرين (تك 6: 2 و4 وتث 2: 19 و20) لا يعدون بجانبه شيئًا؛ لأنه هو خالقهم المسيطر الذي سلطه الله عليهم جميعًا كما يدعون (مت 28: 18 ويو 3: 35 و1 كو 15: 27) وعندهم من هذا القبيل أيضًا تسمية إسحاق في التوراة بابن إبراهيم الوحيد (تك 22: 2 و16) مع وجود ابنه الآخر إسماعيل ولكنه ابنه من هاجر جارية سارة التي طردتها واعلم أن أمه مريم لم تسم أم الله Theotokos إلا منذ زمن أوريجانوس أي في القرن الثالث، وقد حارب هذه الفكرة في القرن الخامس كل من القس أناسطاسيوس ونسطوربوس أسقف القسطنطينية، ولكن لا يزال بكل أسف هذا الاسم مستعملاً إلى الآن عند الكاثوليك الذين يصلون لها ويعبدوها إلى اليوم (راجع كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة ص99 و210) .
(6) وقال بعض ظرفاء اليهود من الإفرنج: لم لا يتيه اليهود عجبًا على سائر الأمم ونصف العالم المتمدن يعبد يهوديًّا والنصف الآخر يعبد يهودية؟ فليضحك القارئون، ولكن من تذكر أن الناس عبدت الحجر والشجر، لا يعجب من عبادتهم للبشر، فإن وثنية هؤلاء لا شك أنها أرقى من وثنية أولئك فليهنأوا بها وليبقوها لهم ليعرض الموحدون عن الضحك منهم، والازدراء بعقولهم، فيريحون ويستريحون، وإلا فليبشروا بالخيبة والفشل في إجابة دعوتهم إلى يوم القيامة، فإن عقول البشر الآن ليست كما كانت في أزمنة الجهل والغفلة وجاء في إنجيل لوقا (3: 22) أن الصوت الذي سمع من السماء بعد معمودية عيسى هو: (أنت ابني الحبيب بك سررت) وفي إنجيل العبرانيين زيادة هذه العبارة: وأنا اليوم ولدتك، ونقل يوستينوس هذا الصوت عن الكتاب الذي كان في زمنه يسمى مذكرات الرسل هكذا: (أنت ابني أنا اليوم ولدتك وذكر القديس أوغسطين المتوفى سنة 430 أن بعض نسخ إنجيل لوقا في زمنه كانت فيها أيضا العبارة هكذا (3: 22) أنت ابني أنا اليوم ولدتك بدل قوله الموجود الآن: أنت ابني الحبيب بك سررت، ولا تزال العبارة الأولى توجد بصورتها المذكورة هنا في نسخة بيزا Bezae وفي الترجمة الإيطالية القديمة توجد عبارة تقرب منها في المعنى، فمن ذلك يعلم أن العبارة كانت في الإنجيل كما نقلها يوستينوس عن المذكرات، ولكن لما استدل بها الموحدون من النصارى على أن المسيح ليس أزليًّا بدليل القول: (أنا اليوم ولدتك) الذي كان في نسخ إنجيل لوقا القديمة، وفي الأناجيل الأخرى الأولية وهو يفيد ولادته في يوم المعمودية لا منذ الأزل كما يزعمون كره النصارى المثلثون هذه العبارة وأبدلوها في الإنجيل بقولهم: (أنت ابني الحبيب بك سررت) ، (راجع كتاب دين الخوارق ص202 و204) فإن قيل: إذا صح قولك هذا إن أصل الصوت كان في الأناجيل: (أنت ابني أنا اليوم ولدتك) كما في رسالة بولس إلى العبرانيين (1: 5) فلماذا حرفوه في الأناجيل ولم يحرفوه في هذه الرسالة؟.
(7) قلت: لما كانت هذه الرسالة مكتوبة للعبرانيين أي اليهود كان الغرض من ذكر هذه المسائل فيها بيان نبوات العهد القديم الواردة في المسيح الذي كان ينتظره اليهود وتطبيقها على عيسى، كما هو ظاهر من الإصحاح الأول من هذه الرسالة، وجملة أنا اليوم ولدتك الواردة في هذا الإصحاح المراد بها الإشارة إلى ما في المزمور (2: 7) فإذا حرفها النصارى في هذه الرسالة ضاعت قيمتها؛ لأن لليهود حينئذ أن يقول لهم: (إن هذه الجملة لا وجود لها في كتبنا فهي ليست حجة علينا؛ لأنها من اختراعاتكم، فلذا تركها النصارى في الرسالة العبرانية وحرفوها في الأناجيل؛ لأنها فيها ليست إشارة إلى هذه النبوات القديمة، ولو حذفوا هذه العبارة من الرسالة بالمرة) وكان هذا العمل في الحقيقة خيرًا لهم من إبقائها لو أمكنهم لقال اليهود: إن المزمور الثاني عندنا هو من أهم النبوات عن مسيحنا فأرونا أيها النصارى كيف تطبقونه على مسيحكم؟ وأيضا ربما أن هذه الرسالة كانت كثيرة التداول بين العبرانيين المتنصرين وغيرهم من الفرق الموحدة، وهؤلاء ما كانوا يعتقدون في المسيح الألوهية الحقيقية فلذا لا يهمهم تحريفها بأنفسهم في هذا الموضع؛ ولو حرفها لهم آخر فيه بالحذف لخاف الفضيحة منهم واتضح لهم أمره وغشه وكان بعض النصارى في بعض القرون الأولى يكرهون أيضًا وصف المسيح بأنه نجار كما في إنجيل مرقس (6: 3) فحذفوا ذلك منه في كثير من النسخ حتى كان إربجانوس في القرن الثالث يقول: إن المسيح لم يسم نجارًا مطلقًا في أي إنجيل من الأناجيل التي كانت مستعملة في الكنيسة في زمنه، وكذلك توجد بعض نسخ خطية من إنجيل مرقس خالية من هذه التسمية؛ ولكنها توجد في جميع ما عثروا عليه من النسخ الأقدم من هذه النسخ المحذوف منها هذا الاسم (انظر كتاب دين الخوارق في الإنكليزية صفحة 199) فيعلم من ذلك ومما تقدم كله أن نسخ كتبهم كانت قليلة جدًّا لا توجد إلا عند بعض الرؤساء حتى باعتراف متعصبيهم (انظر كتاب الإعلام في حقيقة الإسلام ص65) وأنهم كانوا في كل عصر يتصرفون فيها بحسب ما يبدو لهم من الآراء والأهواء، إلا إذا خافوا في بعض المواضع الشهيرة جدًّا أن يفتضح أمرهم فيتركونها زمنًا ما وهم على مضض منهم، حتى تتيسر لهم فرصة لإزالتها وتحريفها سرًّا أو تدريجيًّا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(8) لذلك لا تستبعد على يهود العرب أنهم كانوا يعتقدون أن عزيرا أو عزرا هو ابن الله تعالى كما حكاه القرآن الشريف عنهم (9: 30) فقد كان فيلو اليهودي السكندري المعاصر للمسيح وهو من أكبر فلاسفتهم يعتقد أن لله ابنًا هو كلمته التي خلق بها الأشياء كما سبق، فلذا قال القرآن الشريف بعد أن حكى عنهم قولهم في عزرا (يُضَاهِئُونَ) (التوبة: 30) أي يشابهون (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30) ولا تنس ميلهم القديم للكفر والارتداد وعبادة الآلهة من قديم الزمان كما تشهد به كتبهم، (راجع أيضا كتاب دين الله ص39) .
(9) راجع صفحة 121 - 125 من هذه الرسالة.
(10) المنار: هذا التفسير غير ظاهر؛ والصواب أن كل ما أطلق على الباري تعالى من الصفات التي يوصف بها الناس والأفعال التي تسند إليهم فإنما تفسر مع التنزيه بروح المعنى المستعمل فنفهم من حبه للصالحين من عباده أنه يعاملهم معاملة المحب لمحبوبه من الرعاية والعناية التي يميزهم بها على الكفرة الفجرة الذين جحدوا فضله وخالفوا شرائعه وسننه مع تنزيهه عما لا يليق به كما أشار إليه الكاتب فحبه تعالى لخلقه شأن من شئونه اللائقة بما يترتب عليها ما ذكر فهو أخص من الفضل العام.
(11) كان من أثر هذه العقيدة في نفوس أتباعها أن الإفرنج أغرقوا في حب سفك دماء مخالفيهم في الدين أو المذهب لعلهم يرضون بذلك إلههم هذا ويريحونه من أعدائه هؤلاء في زعمهم ويسرونه برؤيته لدمائهم مسفوحة تتدفق كالأنهار على وجه الغبراء لأنه لا يمكنه العفو عن أحد إلا بسفك الدماء؛ فأنعم به من إله رؤوف رحيم! ! .(16/521)
الكاتب: جمال الدين القاسمي
__________
تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]
(4)
مقتل الجهم والحارث وما أفضى من الوقائع إليه
في سنة 128 ولي ابن هبيرة العراق، فكتب إلى نصر بن سيار بعهده على
خراسان، وطلب البيعة لمروان بن محمد بن مروان، فأبى الحارث، وقال: إنما
أمنني يزيد بن الوليد ولم يؤمني مروان، ولا يجيز مروان أمان يزيد فلا آمنه،
فخالف نصرًا، فأرسل إليه نصر يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة وإطماع
العدو، فلم يجبه إلى ما أراد، وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر: اجعل الأمر
شورى [1] فأبى نصر، وأمر جهم بن صفوان أن يقرأ سيرته؛ وما يدعو إليه على
الناس، فلما سمعوا ذلك كثروا وكثر جمعه، وأرسل الحارث إلى نصر ليعزل سالم
بن أحوز عن شرطته ويغير عماله، ويقر الأمر بينهما أن يختاروا رجالاً يسمون
لهم قومًا يعملون بكتاب الله، فاختار نصر مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان،
واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن
يكتب ما يَرْضَى هؤلاء الأربعة من السنن، وما يختارونه من العمال، فيوليهم ثغر
سمرقند وطخارستان.
وعرض نصر على الحارث أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم
يقبل، ثم تراضيا بأن حكما جهم بن صفوان ومقاتل بن حيان، فحكما بأن يعتزل
نصر وأن يكون الأمر شورى، فلم يقبل نصر، فخالفه الحارث وقدم على نصر
جمع من أهل خراسان، حين سمعوا بالفتنة، وأمر الحارث أن تقرأ سيرته
بالأسواق والمساجد وعلى باب نصر، فقرئت فأتاه خلق كثير، وقرأها رجل على
باب نصر، فضربه غلمان نصر فنابذهم الحارث وتجهزوا للحرب.
ودل رجل من أهل مرو الحارث على نقب في سورها، فمضى الحارث إليها
ونقبه ودخل البلد وقتل من وقف في وجه جماعته، وانتهبوا منزل سلم بن أحوز،
وركب سلم حين أصبح وأمر مناديًا فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة، فلم تطلع
الشمس حتى انهزم الحارث وقاتلهم الليل كله، وأتى سلم عسكر الحارث فقتل كاتبه،
واسمه يزيد بن داود.
وأسر يومئذ جهم بن صفوان فقال لسلم: إن لي وليًّا من ابنك حارث، فقال:
ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب،
وأبرأك إليَّ عيسى ابن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى
أقتلك، والله لا يقوم علينا من اليمانية أكثر مما قمت، فقتله.
ثم غلب الكرماني على مرو، وخطب الناس فأمنهم، وهدم الدور ونهب
الأموال فأنكر الحارث عليه ذلك، ثم أتى الحارث مسجد عياض وأرسل إلى
الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني فانتقل الحارث عنه،
ثم اقتتل معه حتى قتل الحارث وأخوه وعدة، وذلك سنة 128.
هذا مجمل ما رواه الثقات في سبب مقتل جهم ومخدومه الحارث، وبه يعلم ما
كانا عليه من الحرص على إقامة أحكام الكتاب والسنة، وجعل الأمر شورى، وإباء
الانغماس في إمرة الظالمين، ورفض أعطياتهم والعمل لهم.
ومن تأمل ما قص يعلم أن قتل جهم كان لأمر سياسي لا ديني، وقد صرح
بذلك سلم رئيس شرطة نصر قاتله بقوله: (والله لا يقوم علينا من اليمانية أكثر مما
قمت) فتفطن ولا تكن أسير التقليد.
* * *
(5)
من وهم في عام قتل جهم وسببه وتصحيح ذلك
قدمنا أن مقتل جهم كان عام 128 كما حكاه الطبري وغيره. وقال الحافظ
ابن حجر في فتح الباري: أسند أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة له أن قتل جهم
كان في سنة 132 قال: والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة 128، وذكر
ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم
كانت سنة 130 قال: وهذا يمكن حمله على جبر الكسر، أو على أن قتل جهم
تراخى عن قتل الحارث بن سريج ثم قال: وأما القول بأن قتل جهم كان في خلافة
هشام بن عبد الملك فوهم؛ لأن خروج الحارث بن سريج الذي كان جهم كاتبه كان بعد
ذلك.
ولعل مستند القول به ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن
حنبل قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان:
أما بعد فقد نجم قِبَلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله. قال
ابن حجر: ولا يلزم من ذلك أن يكون قتلُه وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور
مقالته وقع قبل ذلك حتى كاتب فيه هشام والله أعلم.
ولا يخفى أن نبز هشام لجهم بأنه من الدهرية، في كتابه هذا - إن صح -
إنما أراد به زيادة الإغراء بقتله، ليكون حجة له، وتمويهًا على العامة، ومن لا
يدري حقيقة الأمر في هدر دمه. وقد علمت أن الباعث على قتله أمر سياسي
محض؛ لأن جهمًا كان خطيب الحارث وقارئ كتبه في المجامع، والداعي إلى
رأيه وإلى الخروج معه على بني أمية وعمالهم، لسوء سيرتهم وقبح أعمالهم وشدة
بغيهم كما أثرناه قبل.
ولا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل أن الدهرية لا يقرون بألوهية ولا
نبوة. وجهم كان داعية للكتاب والسنة، ناقمًا على من انحرف عنهما مجتهدًا في
أبواب مسائل الصفات فكيف يستحل نبزه بالدهرية، وهي أكفر الكفر، ومن هنا
يعلم أن لا عبرة بنبز الأمراء والملوك من ينقم عليهم سيرتهم بالألقاب السوءى،
والتاريخ شاهد عدل؛ وليس القصد التحزب لجهم والدفاع عن مذهبه وآرائه، كلا،
فأنا أبعد الناس عن التحزب والتعصب والتقليد، ولكن الإنصاف يدعو أن يذكر
المرء بما له وما عليه إذا أريد درس حياته ومعرفة سيرته، وذلك ما توخيناه هنا.
* * *
(6)
فلسفة جهم أو مذهبه في الأصول، وتأثيره في العقول
قد حَكَى مذهب جهم وفلسفته أربابُ المقالات والمصنفون في الملل والنحل،
وكذا في كتب الكلام المطولة، وفيما صنف للرد عليه وعلى أتباعه الجهمية.
مرجع فلسفته وخلاصة مذهبه: هو تأويل آيات الصفات كلها؛ والجنوح إلى
التنزيه البحت، وبه نفى أن يكون لله تعالى صفات غير ذاته، وأن يكون مرئيًّا في
الآخرة، وأن يتكلم حقيقةً، وأثبت أن القرآن مخلوق.
هذه أشهر مسائل جهم التي يقال لها (مقالة الجهمية) وله من الآراء سوى
ذلك، كالقول بنفي جهة العلو، والقول بالقرب الذاتي، وأن له تعالى مع كل أحد ذاتًا
كما حكاه الرازي الحنفي في كتابه حجج القرآن عن الجهمية، وأورد أدلتهم من
الكتاب والسنة فانظره.
كان من أعظم شبههم في باب الصفات: اعتقاد أن ظاهرها يفيد التشبيه
بالمخلوق أي أن ما يفهم من نصوصها يماثل ما يفهم من صفات المخلوق، فظاهر
معناها التمثيل، وهو مستحيل فيجب التأويل.
وقد رد عليهم: بأن الظاهر المفهوم لو كان المراد به خصائص صفات
المخلوقين حتى يشبه المولى بخلقه، لما خالف أحد في رده ونفيه؛ لأن هذا ليس
مرادًا بالاتفاق، للقطع بأنه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في
أفعاله، إلا أن هذا ليس هو ظاهرها، وإنما ظاهرها ما يليق بالخالق تعالى. وليس
في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا، والصفة تتبع موصوفها، فكما أن ذاته
المقدسة ليست كذوات المخلوقين فكذلك صفاته.
بهذا يقرب الأمر من رفع الخلاف [2] إذ الظاهر عند خصوم الجهمية غيره
عندهم، فانفكت الجهة وللإمام ابن دقيق العيد تقريب آخر قرره في ذلك حيث قال:
المنزهون لله عن سمات الحدوث ومشابهة المخلوقات بين رجلين: إما ساكت عن
التأويل وإما متأول؛ ثم قال: والأمر في التأويل وعدمه في هذا قريب عند من يسلم
التنزيه، فإنه حكم شرعي أعني الجواز وعدمه، فيؤخذ كما يؤخذ سائر الأحكام.
إلا أن يدعي مدع أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع، أعني المنع من
التأويل، ثبوتًا قطعيًّا، فخصمه يقابله حينئذ بالمنع الصريح، وقد يتعدى بعض
خصومه إلى التكذيب القبيح بالمنع الصريح. اهـ.
قال العلامة المقبلي في العلم الشامخ، بعد نقله ذلك - ونعم ما قال -:
(وتقريب مسافة الخلف بين الفريقين كان يمكن بمثل هذين التقريبين وغيرهما، لولا
تعصب الحزبين كما سنبينه في آفة التعصب) .
وبالجملة فتأثير مذهب الجهمية في الأفكار، إنما كان تنبيها إلى التأويل،
وسلوك منهج المجاز في تلك المسائل، وكان هذا الباب موصدًا قبلها، لا يطرقه
أحد ولا يخطر له.
ثم درج المعتزلة على أثر الجهمية، قال الغزالي في الإحياء، مشيرًا إليهم،
فمن مسرف [3] في رفع الظواهر، انتهى إلى تغيير جميع الظواهر والبراهين أو
أكثرها، حتى حملوا قوله تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} (يس: 65)
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ
شَيْءٍ} (فصلت: 21) وكذلك في الميزان والصراط والحساب ومناظرات أهل
النار وأهل الجنة في قولهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (الأعراف: 50) زعموا أن ذلك كله بلسان الحال ثم قال الغزالي: وأولوا من
صفاته تعالى الرؤية، وأولوا كونه سميعًا بصيرًا، وأولوا المعراج وزعموا أنه لم
يكن بالجسد، وأولوا عذاب القبر [4] ، وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر
الأجساد، والجنة واشتمالها على الملاذ المحسوسة، وبالنار واشتمالها على جسم
محسوس محرق يحرق الجلود. اهـ.
* * *
(7)
... ... ... مناظرة الجهم مع بعض السمنية
... ... وإفحامه إياه، وما علق على هذه المناظرة
روي أن الجهم لقي بعض السمنية [5] الخصمين، فقال له السمني: أريد
مناظرتك، فإن ظهرت حجتي عليك دخلت في ديني، وإن ظهرت حجتك دخلت في
دينك، فكان مما كلم به الجهم أن قال له: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: نعم،
فقال له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه، قال: لا، قال:
فشممت له رائحة، قال: لا، قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا، قال: فوجدت
له مجسًّا؟ قال: لا، قال: فما يدريك أنه إله؟
فأخذ الجهم في حج السمني بمثل حجته، فقال له: ألست تزعم أن فيك روحًا؟
فقال: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال لا،
قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يسمع له
صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون
مكان.
هذا ما حكاه الإمام أحمد في الرد على الجهمية آثرناه باختصار وقوفًا على
موضع الشاهد من فطنة جهم وبلاغته في إفحامه خصمه.
قال الإمام ابن تيمية في التسعينية، بعد حكاية ذلك: لما ناظر الجهم مَن
ناظره من المشركين السمنية من الهند الذين جحدوا الإله؛ لكون السمني لم يدركه
بشيء من حواسه، لا يبصره بسمعه، ولا بشمه، ولا بذوقه، ولا بحسه، كان
مضمون هذا الكلام أن كل ما لا يحسه الإنسان بحواسه الخمس، فإنه ينكره ولا يقر
به، فأجابهم الجهم أنه قد يكون في الموجود ما لا يمكن إحساسه بشيء من هذه
الحواس وهي الروح التي في العبد، وزعم أنها لا تختص بشيء من الأمكنة، وهذا
الذي قاله هو قول الصابئة الفلاسفة المشائين ثم قال ابن تيمية: والحجة التي ذكرها
مشركو الهند باطلة، والجواب الذي أجاب به الجهم باطل، وذلك أن قول القائل ما
لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره، إما أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر
إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس، أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما
أحس به العباد في الجملة، أو بما يمكن الإحساس به في الجملة. فإن كان أراد
الأول، وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات، حيث ذكروا عن السمنية
أنهم ينكرون من العلم ما سوى الحسيات، فينكرون المتواترات والمجربات
والضروريات النقلية وغير ذلك، إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن
جمع من العقلاء في مدينة أو قرية.
وما ذكر من مناظرة الجهم لم يدل على إقرارهم بغير ذلك، وذلك أن حياة بني
آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير
أخبارها وفي الأعمال أيضا، فالرجل منهم لا بد أن يقر أنه مولود، وأن له أبا
وطئ أمه، وأُمًّا ولدته، وهو لم يحس بشيء من ذلك بحواسه الخمس، بل أخبر
بذلك ووجد في قلبه ميلاً إلى ما أخبر به، وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام
والأخوال والأجداد وغير ذلك، وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا، وكذلك لا
ينكر أحد من بني آدم أنه وُلِدَ صغيرًا، وأنه رُبِّيَ بالتغذية والحضانة ونحو ذلك حتى
كبر، وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تمييزه، بل لا ينكر طائفة من بني
آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم وشبعه، ولذته وألمه، ورضاه وغضبه،
وحبه وبغضه، وغير ذلك مما لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة، بل يعلمون أن
غيرهم من بني آدم يصيبهم ذلك، وذلك مما لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة،
وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما في غير مدينتهم من المدائن والسير
والمتاجر؛ وغير ذلك مما هم متفقون على الإقرار به، وهم مضطرون إلى ذلك،
وكذلك لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناءون، والطبيخ الذي يطبخونه
طبخه الطباخون، والثياب المنسوجة التي يلبسونها نسجها النساجون، وإن كان ما
يقرون به من ذلك لم يحسه أحد بشيء من حواسه الخمس وهذا باب واسع، فمن
قال: إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور، فقد قال الباطل.
وقول من يقول من المتكلمين: إن السوفسطائية قوم ينكرون حقائق الأمور،
وإنهم منتسبون إلى رئيس لهم يقال له سوفسطاء، وإن منهم من ينكر العلم بشيء
من الحقائق، ومنهم من ينكر الحقائق الموجودة أيضًا مع العلوم، ومنهم اللاأدرية
الذين يشكون فلا يجزمون بنفي ولا إثبات، ومنهم من لا يقر إلا بما أحسه، قد رد
هذا النقل والحكاية من عرف حقيقة الأمر، وقال: إن لفظ السوفسطائية في الأصل
كلمة يونانية معربة، أصلها سوفسطا: أي الحكومة المموهة، فإن لفظ (سو)
معناه في لغة اليونان الحكمة؛ ولهذا يقولون: فيلاسوفا أي محب الحكمة، ولفظ
فسطا معناه الحكومة المموهة، ومعلم المستأخرين المبتدعين أرسطو لما قسم حكمتهم
التي هي منتهى علمهم إلى برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة، وهي
المغاليط سماها سوفسطا؛ ثم ظن بعض المتكلمين أن ذلك اسم رجل؛ وإنما أصلها
ما ذكر.
وإن كان لفظ السفسطة قد صار في عرف المتكلمين عبارة عن جحد الحقائق،
فلا ريب أن هذا يكون في كثير من الأمور، فمن الأمم من ينكر كثيرًا من الحقائق
بعد معرفتها كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ} (النمل:
14) وقد يشتبه كثير من الحقائق على كثير من الناس كما يقع الغلط للحس أو
العقل في أمور كثيرة، فهذا كله موجود كوجود الكذب عمدًا أو خطأ.
أما اتفاق الأمة على إنكار جميع العلوم والحقائق أو على إنكار كل منهم لما لم
يحسه، فهو كاتفاق أمة على الكذب في كل خبر، أو التكذيب لكل خبر، ومعلوم أن
هذا لم يوجد في العلماء، والعلم بعدم وجود أمة على هذا الوصف كالعلم بعدم وجود
أمة بلا ولادة ولا اغتذاء وأمة لا يتكلمون ويتحركون، ونحو ذلك مما يعلم أن البشر
لا يوجدون على هذا الوصف.
فالقول بوجود أمة لا تقر بشيء من المخبرات إلا أن تحس المخبر بعينه ينافي
ذلك، وإذا كان كذلك فأولئك المتكلمون من المشركين والسمنية الذين ناظروا الجهم
قد غالطوا الجهم ولبَّسوا عليه، حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقر
به، فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم: ما لا يحسه الإنسان لا يقر به: هل المراد
به هذا أو هذا، فإن أراد أولئك المعنى الأول أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة،
وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك، وإن أرادوا المعنى الثاني، وهو
أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به، فهذا لا يضر تسليمه لهم، بل يسلم لهم
ويقال لهم: فإن الله تعالى تمكن رؤيته وسمع كلامه، بل قد سمع بعض البشر
كلامه، وهو موسى عليه السلام وسوف يراه عباده في الآخرة، وليس من شرط
كون الشيء موجودًا أن يحس به كل أحد في كل وقت، أو أن يكون إحساس كل أحد
به في كل وقت، فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك، بل متى كان الإحساس به
ممكنًا ولو لبعض الناس في بعض الأوقات، صح القول بأنه يمكن الإحساس به،
وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (الشورى: 51) وهذا هو الأصل الذي
ضل به جهم وشيعته حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يُرى ولا يُحس به بشيء من
الحواس كما أجاب إمامهم الأول للسمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه،
ولهذا كان أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم على نقض هذا الأصل الذي
بناه الجهمية، وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة من أن الله يُرى ويُسمع كلامه وغير
ذلك، وأثبتوا أيضا بالمقاييس العقلية أن الرؤية يجوز تعلقها بكل موجود فيجوز
إحساس كل موجود، فما لا يمكن إحساسه يكون معدومًا، ومنهم من طرد ذلك في
اللمس، ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من المتكلمة الصفاتية
الأشعرية وغيرهم.
والمقصود هنا أن أولئك المشركين المناظرين قالوا كلامًا مجملاً، فجعلوا
الخاص عامًّا والمقيد مطلقًا حيث قالوا: أنت لم تحسه، وما لم تحسه أنت لا يكون
موجودًا، والمقدمة الثانية باطلة لكن موهوها بالمعنى الصحيح، وهو أن ما لا يمكن
إحساسه بحال لا يكون موجودًا. اهـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في ج 16 م 16 ص 449.
(1) هذا ما عنيناه قبل من حرصه على الشورى وبتر الاستبداد.
(2) فيلق من فيالق العرب كان مرهوب المقام مخشي الخروج عليهم.
(3) قد بسط الكلام في مسألة الظاهر الإمام ابن تيمية في كتاب التسعينية صفحة (122) من المجلد الخامس عشر من فتاويه المعاصرة، وكذا في الرسالة المدنية المطبوعة في الهند في أمر تسر.
(4) سيأتي بيان انقسام الناس في التجهم بأبسط مما هنا.
(5) سيأتي للمقبلي رد كون المعتزلة تنكر عذاب القبر في البحث 9 من التنبيه لما وقع من خلل النقل عن الجهمية إلخ.
(6) بضم السين المهملة وفتح الميم قوم في الهند دهريون.(16/534)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظرة في الحرمين الشريفين
ومشروع جماعة خدام الكعبة
إن السبب الذي دعا مؤسسي مشروع جماعة خدام الكعبة إلى تأسيسه هو
اعتقادهم أن الحكومة العثمانية لم تعد قادرة على حماية الحرمين الشريفين، وقد
دعي الشيخ الجليل النواب وقار الملك الشهير إلى الانتظام في سلك جماعة خدام
الكعبة فقبل ذلك مع الفخر والشكر، ولكنه اعتذر عن حضور جلسات لجنة الجماعة
لضعفه وكتب مقالة في بعض الصحف قال في أوائلها ما ترجمته:
الأصل أن كل دين إذا لم تكن له قوة شديدة تحافظ عليه فبقاؤه وثباته وحفظ
آثاره في منتهى العسر والصعوبة، وقد يخرج أحيانًا عن الإمكان، وإن ما فعله
نصارى البلقان المغيرون من إكراه مئات الألوف من المسلمين على التنصر بقوة
السيف لا وجه له إلا أن الترك ما كانوا يقدرون على كفهم ومنعهم لتلك الأسباب
التي نعلمها كلها، والثاني عدم وجود قوة شديدة في هذا الوقت تحتفظ بها حرية
المسلمين.
ثم قال النواب الجليل: إن الاتكال على مشروع خدام الكعبة يخالف الفتوة
والعزم، وإن من رأيه أنه يجب على المسلمين أن يوقنوا - مع التمسك القوي بهذا
المشروع - أن الترك هم العنصر الإسلامي الوحيد في الدنيا الذين إذا تطهروا من
النقائص الداخلية والخارجية يمكنهم أن يقوموا على أحسن وجه في المستقبل - إن
شاء الله - بما كانوا قائمين به إلى الآن من المحافظة على تلك الأماكن والقيام بخدمة
الكعبة المعظمة.
ثم أورد آراء ونظريات وتمنيات في حال الترك وما يترتب على ميلهم إلى
التجارة والحرفة والصناعة إذا هم مالوا، وبنى على تلك الآراء والنظريات أنهم
يمكنهم حماية إخوانهم وجيرانهم الإيرانيين فوق حماية البلاد المقدسة وغيرها،
وكانت نتيجة آرائه دعوة مسلمي الهند إلى مساعدة الدولة العثمانية بالمال، لتحقيق
هذه الآمال، وذلك بشراء قراطيس الدَّيْن الذي أصدرته نظارة المالية العثمانية.
نتيجة حسنة لا نناقشه في مقدماتها من هذه الجهة بل نشكر له هذه الدعوة فإن
أقل فائدتنا من إمداد إخواننا مسلمي الهند لدولتنا بالمال أنه ربما استغنى بذلك عن
بيع أراضي بلادنا للأجانب وقد عرضتها للبيع رسميًّا، وهذا أكبر المصائب علينا
وعلى حرمنا، ولكنه قال في سياق كلامه كلمة عن العرب لا بد لي من ذكر
ترجمتها هنا، وبناء البحث في خدمة الكعبة المعظمة بل الحرمين الشريفين عليها
وعلى الكلمة الأولى التي قالها في إخواننا الترك، وذكرناها في فاتحة كلامنا هنا،
وهي:
(إن شجعانا أقوياء مثل العرب عشاق الإسلام إذا مزجوا دمهم بعرقهم في
المحافظة على الكعبة وروضة النبي صلى الله عليه وسلم وبقية الأماكن المقدسة مع
الأتراك فلا يمكن لأي قوم في الدنيا مقابلتهم في جبالهم ورمالهم، ومتى ما عرف
العرب ومهروا في العلوم والفنون الجديدة التي بدأ الترك بسلسلتها من إنشاء
الجامعات في البلاد العربية، فاعلموا أن هؤلاء العرب هم أولاد أولئك العرب الذين
نشروا إلى مدة من الزمن أنوار العلوم في جميع الدنيا) اهـ.
أقول: يا ليت صديقنا النواب الجليل الصادق النية كان واقفًا على حقيقة حال
العرب والترك ليؤلف بعقله المنطقي الكبير أقيسة مقدماتها صحيحة فتأتي بالنتائج
الصحيحة التي نحتاج إليها من مثله، وإنني مضطر بسائق المصلحة الإسلامية إلى
أن أقول له:
(1) إن إخواننا الترك ليسوا هم الحماة للحرمين الشريفين إلى الآن.
(2) وإنهم ليسوا أرقى من إخوانهم العرب في العلوم والفنون والعمران.
(3) وإنهم دونهم في التجارة والزراعة والكسب.
(4) وإنه لا يوجد أحد في الدنيا يقدر على حماية الحرمين من العدو الأجنبي
إلا عرب الجزيرة من الحجازيين واليمانيين والنجديين والعراقيين والشآميين.
(5) وإن دولة الترك هضمت حقوق العرب، وتعمدت إضعافهم وجعل
الحرمين وما حولهما أبعد بلاد الدنيا عن العلوم والفنون والعمران.
(6) وإننا قمنا بعد الدستور نطالبها بحقوق العرب كافة على قاعدة
اللامركزية لتقوى وتعمر كل بقعة بحسب حالها المناسب لها في طبيعة الاجتماع
البشري.
(7) وإنها كانت تقابل مطالبنا بالاحتقار والسخرية والسعي في تفريق الكلمة
حتى علمت أن عاقبة هذا خسر وخطر فجنحت للوفاق. وسيتم إن الله تعالى على
الوجه النافع المرضي، فإن نازعني في مقدمة من هذه المقدمات؛ فأنا مستعد لبيانها
له بالتفصيل.
بقيت المسألة الحربية والشجاعة: إن العرب قسمان: بدو وحضر، فالحضر
من القطرين الشآمي والعراقي مشاركون لإخوانهم الترك في علم الفنون العسكرية
الأوربية وفيهم مئات من الضباط أركان الحرب، وغير أركان الحرب متخرجون
في أوربة وفي الآستانة، والعسكر يؤخذ من عرب ولايات القطرين وما بينهما
كالموصل وديار بكر بالنظام الذي يؤخذ به من الولايات التركية، وكل منهما آية في
الشجاعة ولكن ضباط الترك أكثر.
وقد ظهر لنا بالعيان أن الحرب النظامية التي يدير حركتها هؤلاء الضباط هي
التي أذلتنا وأسقطت قيمة شجاعة جنودنا في الحرب البلقانية الأخيرة وفي الحرب
الروسية التي كانت قبلها، وكانت مقدمة لاستقلال هؤلاء البلقانيين بعد أن كان
أكثرهم تابعًا لدولتنا، ونُسِبَ فيهما لقواد الترك من الخيانة ما لم يتلوث بمثله العرب،
ولا يشك أحد في أن سلانيك عاصمة أحرار الترك والمركز العام لجمعية الاتحاد
والترقي قد أخذها اليونان غنيمة باردة بخيانة حسني باشا ورجاله.
ونحن لا نحب المفاضلة بين العرب والترك في أمر مشترك بينهم كالجندية
وإنما ذمنا هنا خاص ببعض القواد والرؤساء الذين كانوا سبب كل بلاء حل بدولتنا
لا للعنصر التركي. على أنه قد كان للعرب في هذه الحرب البلقانية حملات خصهم
العالم بالثناء عليها. لا أفضل شعبًا على شعب في الشجاعة والحرب ولكنني أقول:
إن المدرسة الحربية وغيرها من مدارس الآستانة لم تفسد من دين العرب وأخلاقهم
كما فسدت من غيرهم.
وأما البدو من العرب ومن على شاكلتهم من سكان المدن والقرى في عقر
الجزيرة فهم أشجع قلبًا وأشد بأسًا من حضر العرب والترك الموصوفين بالمدنية
حتى إن عرب اليمن ونجد يصفون الجندي العثماني بالجبن والضعف، ولو كان
هؤلاء القوم يعرفون من النظام العسكري ما يعرفه الجند العثماني ويحملون من
السلاح ما يحمله لكان التابور منهم يغلب عشرة توابير من غيرهم.
قد أصبح من البديهيات التي لا يختلف فيها اثنان أن الجيش العثماني لا يقدر
على صد أية دولة من الدول الكبرى إذا أرادت الاستيلاء على الحجاز وإنما يقدر
على ذلك عرب الحجاز واليمن ونجد والشآم والعراق، لا يحتاجون فيه إلا إلى
القوت الضروري والسلاح والذخيرة، واتفاق الكلمة، فإن هؤلاء كانوا مستعدين بما
ذكرنا للدفاع عن حرمهم وبلادهم لا يمكن أن تتجرأ دولة أوربية على الاصطلاء
بنارهم؛ لأسباب متعددة منها: شجاعتهم وصبرهم وعدم مبالاتهم بالموت، ومنها
أنهم لا يقفون في وجه عدوهم ويحاربونه حربًا نظامية يقضى بها على معسكرهم إذا
غلب، بل يتألفون عصابات تهاجم مكان الضعف منه عند إصابة الغرة، فإن لقيتْ
ما لا قِبَل لها به فرتْ من وجهه في صحاريها واعتصمتْ بجبالها حتى تصيب غرة
أخرى، ومنها طبيعة البلاد وتعذر معيشة الأوربي فيها، ومنها أن الخسارة الكبيرة
فيها ليس وراءها ربح مادي يكون عوضًا منها. وقد انقرض التاريخ الذي كان
الأوربيون يسفكون فيه أنهار الدماء لأجل الانتقام الديني أو عظمة الملوك وقهر
أعدائهم.
كل ما يمكن أن تفعله دولة أوربية بحرية في هذه السبيل هو أن تستولي على
سواحل جزيرة العرب فتبدأ منها بما عدا الحجاز كاليمن وحضرموت والعراق
وسورية ثم تجعل سواحل الحجاز تحت مراقبتها البحرية فتمنع عنه السلاح، وتلقي
العداوة والبغضاء بين أمراء الجزية، فتغري بعضهم ببعض، وتساعد من يستجيب
لها على خصمه بالمال حتى إذا ما فل الحديدُ الحديدَ، وبأس القوم بينهم شديد،
وضبطت موارد الرزق ومنع السلاح تعقد الدولة التي تفعل ذلك مع كل أمير وزعيم
في جهة من جهات الجزيرة اتفاقًا على حرية التجارة وتأمين التجار وغيرهم،
ويدخل وراء ذلك الخمر وتجاره والبغاء وفجاره، والمبشرون وكتبهم، كما وقع في
مسقط والكويت وجميع بلاد الدولة، فيقع العداء الشديد بين الشعب ورؤسائه ويتم
لأعدائهم ما يريدون منهم. وكم أظهر دعاة النصرانية من الإفرنج الشغف والميل
والرجاء والأمل بأن ينشروا دعوتهم في جوار الكعبة وعرفات ومسجد المصطفى
عليه أفضل الصلاة والسلام؟ وكم أظهر متعصبو السياسة ما يتمنونه من نقل الكعبة
والقبر الشريف ووضعهما في اللوفر أو غير اللوفر من دور التحف والعاديات في
أوربة؛ لتكون أثرا تاريخيا يفتخرون به: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) .
فالواجب على الدولة العثمانية أولا وبالذات أن تعترف بالاستقلال الإداري
والدفاعي لجميع إمارات البلاد العربية ومنها الحجاز وعسير واليمن بشرط أن لا
تنفرد إمارة منها بعقد اتفاق ولا معاهدة مع الأجانب لا سياسة ولا اقتصاد، وأن
تساعدها على تنظيم إدارتها، وقوى الدفاع فيها وعمرانها بالوسائل المقنعة المرضية
عند أهلها، وجمع كلمة أمرائها، وأن يكون الجند الذي ينظم فيها عونًا للدولة على
أية دولة أجنبية تحاربها بقدر الاستطاعة وبهذا تربح الدولة قوة كبيرة لا تنفق عليها
شيئا من المال، وتستفيد إخلاص العرب في هذه الإمارات وفي ولاياتها السورية
والعراقية، ولا تخسر في مقابلة هذا الربح شيئًا فإنها منذ أعلنت امتلاكها لتلك
الإمارات في جزيرة العرب إلى هذا اليوم لم تربح خزينتها منها شيئًا بل خسرت
الملايين من الأموال ومئات الألوف من الرجال وتخريب البلاد وإفساد العمران.
فبهذا يحفظ الحرمان الشريفان من عدوان الأجانب، فإن الشيء لا يحفظ إلا بحفظ
سياجه.
فإن قيل: إن الدولة ما تعمدت إضعاف العرب وحرمت بلادهم حتى الحرمين
الشريفين من العلم إلا خوفًا أن يعتزوا ويقووا فيستقلوا دونها ويستعيدوا الخلافة
الإسلامية فكيف تسعى هي إلى تقويتهم؟ فالجواب أن هذا اللقب قد جنى على
الإسلام والمسلمين أكبر الخطوب والمصائب وكان أشد أسباب ضعفهم من حيث لم
ينفعهم شيئًا؛ وأنا أضمن أن أولئك الأمراء يرضون بأن يعترفوا لسلطان الدولة
بالخلافة إذا هي رضيت بما ذكرنا.
والواجب على المسلمين في جميع بقاع الأرض أن يساعدوا أهل تلك البلاد
المقدسة على كل ما به حفظها وحياتها الدينية والمدنية سواء وفقت الدولة للقيام بما
يجب عليها لها أم لم تقم بذلك، وإنما تطلب المساعدة منهم بالمال ثم بالرجال الذين
يصرفون ذلك المال في إنشاء المدارس والملاجئ وأسباب القوة والعمران، وتحسين
معيشة العربان، وإذا نجحت جمعية خدام الكعبة وأصلحت قانونها فإنها تستطيع أن
تؤدي خدمة جليلة يشكرها لها الله تعالى من فوق عرشه ويثيبها عليها ويشكرها لها
جميع المسلمين، ومتى رأوا باكورة ثمرتها يدخلون فيها أفواجًا والله الموفق
والمستعان.
__________(16/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
احتفال لتكريم
أحمد فتحي باشا زغلول
أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية يعد في مقدمة الذين نبغوا
بمصر في هذا العصر، وهو من مريدي الأستاذ الإمام في الفلسفة والأدب
والاجتماع وعلو الهمة، ومن مزاياه التي فاق بها أهل طبقته الذين تعلموا على
الطريقة الأوربية وأتموا علومهم في أوربة أن اشتغاله في خدمة الحكومة بالجد
وترقيه في مناصبها لم يصرفه عن الاشتغال بالعلم مطالعةً وترجمةً وتصنيفًا فله عدة
آثار علمية مطبوعة ما بين مصنَّف ومترجَم، وهو حسن الاختيار لما يترجمه،
وناهيك بترجمته لكتاب روح الشرائع تأليف بنتام الشهير، ولكتاب سر تقدم الإنكليز
السكسونيين لأدمون ديمولان في التربية والتعليم، ولكتابي روح الاجتماع وسر
تطور الأمم، كلاهما لجوستاف لوبون، اللذين هما من خير ما كتب الإفرنج في
علم الاجتماع الإنساني، وكان آخر ما ألفه شَرْحه للقانون المدني المصري الذي
أعجبت به الحكومة وجمهور رجال القانون من القضاة والمحامين.
وقد أسمعني مقدمته قبل إتمام طبعه فرأيته يجول في علم القوانين جولان
الأئمة المجتهدين في علم الفقه فتذكرت له مثل هذه الجولة الاجتهادية إذ حضرت
منذ خمس عشرة سنة محاكمته للأمير سيف الدين بمحكمة مصر الأهلية وكان رئيسًا
لها.
ولما طبع هذا الشرح وانتشر اجتمع بعض رجال القانون والعلم من قضاة
ومحامين وغيرهم تحت رياسة الشيخ محمد بخيت مفتي نظارة الحقانية ودعوا إلى
الاحتفال به في دار الجامعة المصرية فأجاب الدعوة جمهور عظيم من قضاة الشرع
وعلماء الأزهر وقضاة المحاكم الأهلية والمحامين والأدباء والوجهاء، وخطب
شكري باشا وعبد العزيز بك فهمي والدكتور صروف ومحمود بك أبوالنصر فأثنوا
على المحتَفَل به وعلى كتبه عامة وكتابه الجديد خاصة، وختمت الحفلة بخطبة له
كانت أشد الخطب تأثيرًا كما كانت أحسنها إلقاء وهذا نصها:
خطبة فتحي باشا
سادتي!
رجعت إلى المعاجم ألتمس منها كلمات تسمو معانيها إلى سماء فضلكم، أو
صيغة حمد تفي بقليل من واجب شكركم، فما راقني لفظ ولا شاقني معنى،
ورغبت عن التنقيب والاستفادة، إلى الإقرار والشهادة.
أنا عاجز، نعم أنا عاجز عن إيفائكم حق الثناء لقاء صنيعكم، لكني لن أعجز
عن الاحتفاظ بعهدكم، والبقاء على الدوام متأثرًا بجميلكم.
شرفتم هذا المكان لتكريم خادم ظننتم به خيرًا، وما خيره إلا منكم، وأردتم
أن توفوا له فضلاً والفضل أنتم مواليه، ولا أرى في اجتماعكم هذا إلا حركة نفسية
من حركات الأمة تقطع دور السكون، وتعلن يقظتها وشخوصها نحو الرقي، بعد
أن اختمرت الأفكار وتمكن اليقين بأن لا حياة إلا بالحضارة، ولا حضارة إلا بالعلم،
وما أنا إلا ذريعة اتخذتموها للقيام بهذه الحركة المباركة.
هذا مظهر خلق جديد كمُنَ حتى اكتمل، وسكن حتى نما وتم، خلق لا تقوم
أمة بدونه وهو عماد كل رقي، هو محبةُ الكلِ خيرَ الكل في كل فرد من الأفراد،
وظهور هذا الخلق دليل على ما للأمة من الصفات الكريمة الأولية، ومن الأخلاق
الفطرية الاجتماعية، مما إذا عولج صفا، وأعلى مكانتها، ووصل بها إلى الدرجة
التي تستحقها في هذا الوجود.
من يَخْبُر هذه الأمة ويقف على كنه خلقها، ويعرف جيدا حقيقة خصالها،
ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، يقتنع بأن التربة زكية لا
يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق كريم يغشاه ستار من عدم
العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا
يوما ذات اليمين ويوما ذات الشمال، أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون
واجب، ونلهو وكل النجح في العمل، وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ
في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء
كثير من الماضي، ولهو عن الحاضر، وعدم اهتمام بما هو آتٍ، ومحال أن تدوم
هذه الحال، فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لذلك التحول وما هي إلا العلم.
العلم هو سلم الأمم إلى حضارتها، فهو كاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء،
ومنجح كل مجهود، هو الذي اخترق الأرض فأخرج مكنوناتها، وحكم في المادة
فاستلب منها كنوزها، وتسلط على البحار فسادها، ورقى إلى الجو فخلق في القبة
الزرقاء طالبًا للناس علوًّا وكمالاً، وقرب الأبعاد فأضاف إلى الوقت أوقاتًا، وضم
إلى حياة الإنسان حياة وحياة، بهذا أنار البصائر وشد العزائم، وقوى الهمم،
فأنهض الأمم، وأعلى كلمة التي كان حظها منه وفيرًا.
أرجو أن يكون في مظهركم هذا دليل على أننا قطعنا دور التنافر والتفرق،
وعرفنا الصواب بعد أن حجبته عنا الأوهام زمنًا طويلاً، ودخلنا من باب العمل
الصحيح النافع، واقتنعنا بأن الضعف - وما الضعف إلا الجهل - يطمس على
القلوب، ويجعل القوم يرون حسنًا ما ليس بالحسن، يظنون أن التأخر آتٍ من
عارض خارجي وأنهم إذا قعدوا عن التماس وسائل التقدم فالمقصد يجذبهم إلى
الوراء، ولكنهم متى علموا عرفوا أن العلة ذاتية، وأن الدواء في اليد، وأن قتل
الوقت في الظنة والاتهام مضيعة لما يفيد، وداع جديد من دواعي الضعف والتأخر.
أرجو أن يكون في اجتماعكم هذا دليل على السآمة من هذه الحال، بل على
الفزع من أخطارها الاجتماعية الكبرى، وعلى أن العلم الذي ينبث فينا أخذ ينقي
الضمائر ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر ويوحد كلمة المتنافرين، وينير
البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة، وأن
التباغض مجلبة للشر، والتنابذ يمهد سبيل الذل، وأن في التضاغن تهلكة للناس.
لعل رجائي محقق بإقبالكم على هذا المكان ملتفين حول راية واحدة مع
اختلاف العناصر والمعتقدات، ومنبعثين من روح واحد ألف بين قلوبكم جميعًا
فتعارفتم وجئتم إخوانًا فرحين بوجهٍ باسمٍ يحيي موجد هذا الروح وباعث ذاك
الشعور، العلم.
سادتي!
ما خيم الجهل في أمة إلا أذلها، وما انبلج ضوء العلم بين قوم إلا عزوا.
أيها العلماء أيها العظماء أيها الشعراء والأدباء، قادة الأفكار، دعاة الأمة، اربأوا
بها، فالسبيل واضح، علِّموا الأمة علِّموا الأمة.
(المنار)
أشار الخطيب المحتَفَل به إلى ما امتاز به هذا الاحتفال على غيره حتى كان
هو الأول في بابه، وهو اجتماع أصناف من الناس لم يتفق اجتماعهم في أمثاله،
فقد كانت لجنة الاحتفال مؤلفةً من بعض علماء الأزهر وعلماء القانون وغير القانون
من العلوم العصرية، بعضهم من المسلمين وبعضهم من النصارى، وبعض
النصارى من قبط مصر وبعضهم من السوريين، وكذلك الذين أجابوا الدعوة
وحضروا الاحتفال.
ومن أكبر ضروب العبرة في هذا الاجتماع حضور طائفة من علماء الأزهر
وكون رئيسه من أشهر فقهائهم وهو الشيخ محمد بخيت، وقد كانوا من قبل يشددون
النكير على القوانين ومتعلميها، ومن يحكم بها، ولا نقول أكثر من ذلك في هذا
المقام.
ثم صار بعضهم يدخلون أبناءهم مدارس الحقوق ليتعلموا هذه العلوم ويحكموا
بهذه القوانين. على أن القانون المدني أقرب من سائر القوانين إلى فقه المسلمين.
ومن ضروب العبرة فيه: اختلاف ذوق المسلمين وشعورهم الديني والأدبي في
مسألة تدل على مبلغ تأثير التفرنج في البلاد، وهي أن بعض المسلمين الحاضرين
كان أنكر على جماعة العلماء تأخير صلاة المغرب إلى قرب وقت العشاء فلما
صلوها سروا بذلك وأثنوا خيرا، وأنكر آخرون عليهم أنهم قاموا من مكان الاحتفال
قبل انتهائه إلى مكان آخر صلوا فيه وعدوا ذلك من قلة الذوق، ورأوا أنه كان
ينبغي لهم تأخير المغرب عن وقتها، ولعل بعض هؤلاء لا ينكر عليهم ترك صلاتها
ألبتة لأجل الاحتفال، فأين الشعور الإسلامي عند هؤلاء من شعور مسلمي نجد
واليمن الذين لم يبق لهم ثقة بأحد من علماء الأمصار التي دخلها التفرنج وفشا فيها.
يقول أولئك المسلمون: إن هذه المنكرات هي التي أضعفت الإسلام وأضاعته،
ويقول هؤلاء المتفرنجون: إن جمود أولئك المسلمين وجهلهم بحضارة العصر
هي التي أضاعت ملك الإسلام وذهبت بقوته، وأكبر المصائب على الإسلام وأهله
وملكه في هذا العصر هو الاختلاف البعيد بين أهله في مقومات الأمة ومشخصاتها،
وانحلال الروابط القديمة بالتفرنج الذي لم يستطع أهله أن يستبدلوا بما حلوه وقطعوه
منها ما هو منها ولا مثلها. أما أسباب الضعف والقول الفصل فيها فقد بيناه في
المنار غير مرة.
__________(16/550)
الكاتب: صالح مخلص رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(كتاب الجغرافيا التجارية)
تأليف: ج. ج. شيشولم أستاذ الجغرافية بجامعة أدنبرج، الجزء الأول
من الطبعة الأولى بمطبعة المعارف سنة 1330 هـ، وسنة 1912 م.
ص331 بقطع رسالة التوحيد.
الكتاب مطبوع طبعًا نظيفًا على ورق جيد مباحثه:
1- فوائد دراسة الجغرافية التجارية.
2- قيمة البيانات العددية.
3- المنسوجات القطنية، تحسين وسائل النقل، حقائق عامة خاصة
بإنتاج وتوزيع البضائع، الجو، التربة، إلى غير ذلك، ثم فصل الحاصلات
فحاصلات الأقاليم المختلفة فالحاصلات المعدنية.
***
(رسالة في المحاسبة التجارية)
تأليف المسيو: ف. جروفلير أستاذ العلوم التجارية الطبعة الأولى
بمطبعة المعارف بمصر سنة 1330 هـ وسنة 1912 ص 401 بقطع سابقها.
الرسالة مطبوعة كطبع الكتاب السابق من حيث النظافة وجودة الورق
ومباحثها:
الباب الأول: عموميات في الفن وحواصل الأشياء أو القيم وحواصل
الأشخاص إلى آخر الحواصل، وبيان كيفية وضع الدفاتر، وأمثلة لذلك ثم
الباب الثالث في الجرد والميزان، إلخ، والباب الرابع في حواصل القيم
وحواصل الأشخاص وحواصل التاجر.
وقد ذكر في مقدمتها بأن لحسن أفندي فهمي إسماعيل مدرس مسك
الدفاتر بمدرسة المحاسبة والتجارة الخديوية الفضل في تصحيح هذه الترجمة العربية
على أصلها الفرنسي وفي ترجمة التمرينات الموجودة بهذه الرسالة وفي تحويل
الجداول من السكة - العملة - الفرنسية إلى السكة المصرية.
***
(تمرينات على المحاسبة التجارية والمالية)
جزء أول جمعه سليم أمين حداد أفندي المدرس بمدرسة المحاسبة
والتجارة الخديوية الطبعة الأولى منه بمطبعة المقتطف سنة 1912 ص 276
بقطع المنار والكتاب مطبوع طبعًا مضبوطًا على ورق جيد، وكله تمرينات عملية.
هذه الثلاثة الكتب أصدرتها إدارة التعليم الزراعي والصناعي والتجاري
بنظارة المعارف العمومية المصرية، وهي كتب مدرسية تدرس في مدارس
الحكومة باللغة العربية فنشكر الحكومة على قيامها للأمة بما لم تقم هي لنفسها
به، وهي تُطْلَب من الإدارة المذكورة ومن مخزن المعارف ومن مكتبة المنار
بمصر.
***
(حياة البلاد في علم الاقتصاد)
ملخص باختصار من أحدث المؤلفات في هذا العلم بقلم رفيق أفندي رزق
سلوم أحد طلبة الحقوق السوريين في الآستانة طبع بمطبعة قسطنطين يني في
حمص سورية سنة 1912 م ص 126 بالقطع الوسط ثمنه خمسة قروش
ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
الكتاب مطبوع على ورق جيد ويحتوي على 41 درسًا ويعقب كل درس
تمرينات في موضوعه فهو جدير أن يكون كتابًا مدرسيًّا، وقد جعله جامعه هدية
احترام إلى السيد عبد الحميد الزهراوي اعترافًا بفضله وعلمه؛ وقد نشر الكتاب
بجريدة الحضارة التي كان يصدرها السيد الزهراوي في الآستانة.
***
(كتاب معالم الكتابة ومغانم الإصابة)
إنشاء عبد الرحيم بن علي بن شيت القرشي عني بنشره وتعليق حواشيه
الخوري قسطنطين الباشا المخلصي طبع في بيروت بالمطبعة الأدبية سنة
1912 م صفحاته 192 بقطع تفسير سورة الفاتحة ثمنه 12 قرشًا، ويطلب
من مكتبة المنار بمصر.
هو كتاب تعليمي إنشائي حَرِي بالمعلمين والمتعلمين الاطلاع عليه لينسج
واضعو الكتب المدرسية على منواله في موضوعه وقد صدَّره ناشره بمقدمة بيَّن
فيها ما قاساه من التعب في استخراجه لصعوبة قراءة خطه، وأظهر مكانة الكتاب
في عالم الأدب، ونشر فيها صفحة منه نموذجًا من أصله.
***
(الجواب المنيف في الرد على من يدعي التحريف في الكتاب الشريف)
صنَّفه الأستاذ الشيخ يوسف أحمد نصر الدجوي المدرس بالأزهر، طبع
بمطبعة النهضة الأوربية سنة 1331 هـ و1913 م صفحاته 277 بقطع
(الإسلام والنصرانية) على ورق جيد بحروف جيدة، ويطلب من مكتبة المنار
وثمنه 8 قروش.
موضوع الكتاب رد مفتريات كتاب: (هل من تحريف في الكتاب
الشريف) . الذي ألفه القس كولديساك الإنجيلي وقد جاء فيه المؤلف بالنصوص
الواضحة والحجج الدامغة وصدَّره بفاتحة أوضح فيها سبب تأليف كتابه ونعى
على حكام المسلمين وأغنيائهم وعلمائهم ما هم فيه من التواني عن نصرة
الإسلام، فقال: وإني لأعجب من متانة هذا الدين حيث لم يؤثر عليه
(الصواب: يؤثر فيه) ذلك التيار الجارف الذي تؤلف له الجمعيات في أوربا
وأميركا أو تصرف في سبيله مئات الملايين على حين أن حكومات المسلمين
ساهية لاهية لا يعنيها أمر الدين، وأن أغنياء المسلمين لا يبذلون أقل قليل في
ذلك السبيل وأن علماءهم لا يتفقدون عُماتهم بالإرشاد والتذكير ... إلخ، وليت
الأستاذ تذكر بأن نفرًا من الفضلاء أهل الغيرة على الدين قد أنشأوا جماعة الدعوة
والإرشاد للغرض الذي يقصده، وأن عليه وعلى أمثاله تعضيد المشروع، وما أراه
إلا فاعلاً، إن شاء الله تعالى.
ويجدر بمن اطلع على الكتاب: (هل من تحريف في الكتاب الشريف)
والكتب التي ينشرها دعاة النصرانية بمصر أن يطلع على هذا الكتاب.
***
(النصائح العصرية في الخطب المنبرية، والنفحات النبوية في الخطب
العصرية)
ديوانَا خُطَبٍ ألفهما الأستاذ الشيخ حسن خير الدين فتيان خطيب وإمام
الشافعية في جامع النصر وأحد مدرسي العربية في المدرسة الابتدائية في
مدينة نابلس، وكلاهما مطبوع ومضبوط الكلمات بالحركات ويطلبان من
مكتبة المنار، ومن الشيخ أحمد علي المليجي ملتزم طبعهما.
من مميزات هذين الديوانين أن مؤلفهما لم يثبت فيهما من الأحاديث غير
صحيح السند، وجميعها معزوة إلى مخرجيها؛ والمُؤلف من محبي الإصلاح
الغيورين على الملة، فنرجو أن يكون لأعماله - ومنها هذا المُؤلَّف - نفعٌ
عميمٌ.
__________
(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا: السيد صالح مخلص رضا.(16/553)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قتل محمود شوكت باشا
أهم حوادث هذا الشهر قتل محمود شوكت باشا الصدر الأعظم وناظر الحربية.
كان خارجًا بسيارته الكهربائية من نظارة الحربية فدنت منها سيارة أخرى عند
وقوفها في الطريق بسبب مرور جنازة وأطلق عليه الرصاص ثلاثة نفر منها، فخرَّ
صريعًا في الحال وطارت سيارة الجناة فلم يدرك لها أثر، وقد عرا جماعة
الاتحاديين الوجل والذعر لهذه الفاجعة، وهمَّ زعماؤهم بالفرار من الآستانة أو
الاستخفاء فيها؛ فكان أثبتهم جأشًا جمال بك محافظ العاصمة فثبتهم وبادر إلى إلقاء
القبض على كل من وجد من خصوم الاتحاديين السياسيين الذين كان يصرف جلّ
أوقاته في مراقبتهم وأسلمهم إلى ديوان الحرب العرفي، وكل رجاله من الاتحاديين،
فعذبهم وأساء معاملتهم، فألقى الرعب في قلوب أهل العاصمة وتمكنت الحكومة
والجمعية من الاحتفال بجنازة قتيلها فكان عظيمًا، وجعل ناظر الخارجية البرنس
سعيد باشا حليم صدرًا أعظم.
ثم لم يلبث ديوان الحرب أن سجن مئين ونفى مثلهم وحكم بالإعدام على
عشرة من كبار الزعماء الذين جعلهم جمال بك في موضع التهمة بالاشتراك بالقتل
أو التدبير له، وبادرت الحكومة بأخذ توقيع السلطان (الإرادة السنية) بقتل من
قبضت عليه منهم، وفي مقدمتهم صالح باشا بن خير الدين باشا التونسي الشهير
وهو من أصهار السلطان، وروت الجرائد أن أخت السلطان شفعت عنده في زوجها
وبكت وأبكت ولم يمكن العفو عنه لإصرار الاتحاديين على قتله؛ لأنه من أكبر
خصومهم. وحكموا أيضًا على صباح الدين أفندي ابن أخت السلطان فاستخفى
بمساعدة بعض الأجانب وفرَّ كثيرٌ من خصومهم السياسيين لاعتقادهم أن الجمعية
ستغتنم هذه الفرصة للفتك بجميع من تظفر به من المخالفين لها في سياستها.
ومن جملة الذين فروا إسماعيل بك وكيل حزب الحرية والائتلاف وكان
الاتحاديون قبل الحادثة قد عرضوا عليه تأليف الوزارة من الحزبين الاتحادي
والائتلافي فأبى وقال: إن حزبه قد أعلن رسميًّا ترك العمل لمدة الحرب؛ لعدم
التهويش على الحكومة بالسياسة فليس له صفة للاتفاق معهم الآن. وكذلك كانوا
كلموا صباح الدين أفندي في الاتفاق معهم فأبى. ذلك بأنهم كانوا يشعرون بضعفهم
ونفور الأمة منهم وكيد الأحزاب لهم فكان قتل زعيمهم قوة لهم؛ لأنه كان من قبل
الأفراد لا الأحزاب كما علمنا فجعلوه حجة لتنكيل الحكومة بالرجال الذين يخالفونهم.
اختلف العثمانيون والإفرنج في الثناء الحسن والقبيح على محمود شوكت باشا
كما شأن الناس في كل من ينال شهرة، والحق الذي ظهر لي من كلام المختلفين
واختباري الشخصي بلقائه مرارًا متعددة في الآستانة وسماعي كلامه وآراءه وكلام
العارفين فيه أنه رجل عسكري غير سياسي، وأن معارفه العسكرية أكبر من
شجاعته، وأنه كان يخاف جمعية الاتحاد والترقي فجاراها على إشغال الجيش
بالسياسة وكان يتربص الفرص لإزالة سلطتها من الدولة إلى أن اتهمه مجلس
المبعوثين بالتواطؤ مع حقي باشا الصدر الأعظم على إضاعة طرابلس الغرب
وطلب محاكمته معه فلم يجد أمامه ملجأً يحميه من المجلس إلا الجمعية التي أضاعت
نفوذها من المجلس فكاد يسقط وزارتها بتهمة الخيانة، عند ذلك ساعدها محمود
شوكت باشا بنفوذه وتأثيره في القصر السلطاني فأصدر لها إرادة من السلطان بحل
المجلس وصار معها بقلبه وقالبه، ووثقت هي به، فولته منصب الصدارة ونظارة
الحربية بعد إسقاطها وزارة كامل باشا الأخيرة بقتل ناظم باشا ناظر الحربية.
لما جئت الآستانة في أول شوال سنة 1327 للسعي في تأسيس جمعية الدعوة
والإرشاد فيها كتبت إلى هادي باشا قائد الجحفل الثالث في سلانيك أستشيره في بدء
السعي في ذلك فكتب إلي أن أبدأ بعرض المشروع على محمود شوكت باشا وأعمل
برأيه وكتب إليه كتابًا يعرِّفه بي، فلما قابلته بيَّن لي رأيه في المشروع، وأن
الإسلام والدولة في أشد الحاجة إليه وما يخشى من المقاومة له، وعهد إليَّ أن أذهب
من قِبَله إلى الصدر الأعظم حسين حلمي باشا أولاً، ثم إلى ناظر الداخلية طلعت بك
وأن أرجع إليه فأخبره بما يقولان، ثم كانت سيرته معي أو سيرتي معه هكذا: كلما
تجدد شيء في السعي أخبره به ويذكر لي رأيه فيه، وقد كنت أجلس عنده الساعة
والساعتين وأكتب من كلامه ما أراه جديرًا بأن يكتب في دفتر المذكرات المؤرخ،
ومنه كلمة فلتت بالمناسبة في رأيه في زعماء الاتحاديين أشرت إليها في مقال سابق
من غير عزو إليه، وهي قوله بمناسبة وعد طلعت بك وحقي باشا بتنفيذ المشروع:
(هل صدقت؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم) .
لو أن محمود شوكت باشا شجاع لأسقط الجمعية وأصلحها ولو أنه أمر
بمحاكمة قاتلي سلفه ناظم باشا لما اشتد السخط عليه وأقدم مَن أقدم على قتله.
ذهب معي مرة لزيارته صديقي السيد عبد الحميد الزهراوي وكان مبعوثًا فأثنينا
على خطبته التي خطبها في نظارة الحربية بوجوب امتناع الضباط من الاشتغال
بالسياسة وقلنا له: إننا لا نزال نراهم على حالهم لم يمتنعوا، وذكرنا له حادثة
كانت وقعت في نابلس من أقبح حوادثهم وأفظعها في العدوان، فقال: أما هنا فقد
امتنع اشتغالهم بالسياسة، وأما في الأماكن البعيدة كبلادكم فيحتاج منعهم ألبتة إلى
زمن، ولكن ظهر بعد ذلك رسميًّا ما كتبه في عريضة استقالته من نظارة الحربية
أن قوله هذا غير صحيح.
وذكرنا له مسألة التناظر والتغاير بين الترك والعرب وأعمال رجال الدولة
والجمعية التي أحدثت الخلاف وما يجب من تلافيه. فقال: إنني أسمع كلامًا في
هذا لا يعجبني وأرى مستقبل الدولة لنا نحن العرب؛ لأننا أكثر عددًا وأزكى فهمًا
وأنشط في العمل، ولكن يجب أن ندخل أولادنا مدارس الدولة ونرتقي بها، ولكنه
مع هذا لم يساعد العرب ولا كفَّ عنهم شيئا من العدوان بل هو الذي سير الحملات
العسكرية إلى اليمن والكرك وحوران إطاعة للجمعية. على أن هذه الشدة هي
التي كونت المسألة العربية الحاضرة.
وقد بلغنا من الأخبار الخاصة أنه كان في العهد الأخير عازمًا على إجابة
العرب إلى مطالبهم الإصلاحية، وإن كان هو الذي أمر بتشديد حازم بك على
طلاب الإصلاح في بيروت. وقد أشار طلعت بك في كلام له نشرته الجريدة إلى
ميل شوكت باشا إلى إجابة العرب إلى ما يطلبون من الإصلاح المعقول. وبالجملة
فإن للرجل -عفا الله عنه ورحمه - حسنات وسيئات وأمورًا متناقضة، والله أعلم
بالسرائر.
***
احتجاج حزب المحافظة على حقوق الإنسان
على فظائع الاتحاديين
لما اتصل بحزب حقوق البشر الفرنسيين خبر الأعمال الفظيعة التي ارتكبها
الاتحاديون بحجة التحري عن قتلة شوكت باشا أرسل رسالة برقية بواسطة رئيسه
إلى مولانا السلطان من باريس في 18 يونيو احتجاجًا على فظائع الاتحاديين وهذه
ترجمة الرسالة:
اسمحوا يا صاحب الجلالة لأصدقاء مخلصين للدولة العلية أن يستغيثوا بما
اتصفتم به من العدل والإنصاف باسم ستين ألفًا من الرعايا الفرنسيين أعضاء حزبهم؛
إذ قد يتعذر على الرأي العام الأوربي أن يتصور قيام حكومة في أيام سلطان محب
للقوانين والتقدم لإلقاء القبض على الجموع العديدة عقب قتل شوكت باشا، وإلقاء
العذاب الأليم بهم وإعدام المتهمين منهم دون أن تضمن لهم الحق بالدفاع عن
أنفسهم.
أجل، إن الحكومات والشعوب لم تجنِ إلا العلقم من اتباع سياسة الإرهاب ولا
شيء شر وأسوأ من التذرع بحجة جرم سياسي لإلغاء الحزب المعارض والقضاء
عليه القضاء الأخير.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس الحزب
_______________________(16/556)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(الاتفاق التركي الإنكليزي وأثره في بلاد العرب)
بيَّنا في الجزء السابق شأن هذا الاتفاق ومواده وما فيه من الغبن والضرر على
الأمة العربية والدولة العثمانية بالإجمال وأشرنا إلى أن للكلام في موضوعه بقيةً،
وقد ضاق هذه الجزء بكثرة مواده عن نشر ما لدينا من الآراء والأخبار فيه فنكتفي
بذكر نتيجة واحدة من نتائجه وهي وصول سوء الظن بالسلطة الاتحادية إلى أمراء
جزيرة العرب وعشائرها، فاعتقدوا ما يعتقده جمهور أهل الرأي في الولايات أنها
لبغضها للعرب تريد أن تُحَكِّم في رقابهم ورقبة بلادهم دولة أشد منها بأسًا وأصعب
مراسًا وهي الدولة الإنكليزية التي لا يرجى لهم إذا هي ملكت بلادهم استقلال، إلا
إذا انقلب ما عليه الأمم والدول الآن من شئون الاجتماع من حال إلى حال، وقد
حدث في هذه الأثناء حادثتان عظيمتان في تلك البلاد التي يتعلق الاتفاق بشئونها،
وهما استيلاء الأمير ابن سعود على بلاد الأحساء التي تسميها الدولة متصرفية نجد،
والثانية اشتداد الاضطراب في ولاية البصرة، حتى كان من نتائجه قتل قائد
الدولة في البصرة قومندان البصرة ومتصرف المنتفج.
***
(استيلاء ابن سعود على الأحساء)
نشرت جرائد العراق وسورية ومصر خبر استيلاء الأمير عبد العزيز بن
سعود على تلك البلاد الأحساء والقطيف والعقير، وإخراجه لعمال الدولة
وعسكرها منها وإرسالهم إلى العراق، وجاءنا من أخبار تلك البلاد ما لم نر تفصيله
في الجرائد.
وابن سعود يرى أن هذه البلاد من إمارته التي ورثها عن آبائه وأجداده وإنما
استولت عليها الدولة أخيرًا في عهد ولاية مدحت باشا على بغداد بمساعدة الشيخ
مبارك الصباح وآل بيته، وكان الشقاق يومئذ بين آل سعود قد أضعفهم فلم
يستطيعوا مقاومة العشائر التي زحف بها على البلاد آل الصباح مع عسكر من
الدولة.
ثم سلطت الدولة ابن الرشيد على ابن سعود لينزع منه بقية البلاد فاتفق ابن
سعود مع الشيخ مبارك الصباح على ابن الرشيد فاسترجع منه ما كان استولى
عليه حتى لم يعد له نفوذ إلا في عشيرته. ثم إن ابن سعود والشيخ مباركًا تنبها لما
يجب على الملسمين من الاتحاد والولاء فكانا شديدي التعلق والإخلاص للدولة
العثمانية على كثرة ما يريانه من سوء معاملتها.
ولكن بيع الاتحاديين لشرقي بلاد العرب رقبتها أو مصالحها ومنافعها للإنكليز
بعد بيعهم طرابلس الغرب لإيطالية جدير بأن يخيفهم على بلادهم فلا غرو إذا بادر
ابن سعود لاسترجاع بلاد الأحساء.
ومن الأخبار الخاصة أن ابن سعود طهَّر تلك البلاد عند استيلائه عليها من
الرجس فأجلى العاهرات وبائعي الخمر إلى البحرين والبصرة، وأبطل الحكم
بالقوانين وأقام الأحكام الشرعية، ومنها أنه كتب إلى السيد فيصل صاحب مسقط
بأن يكون تابعًا لإمارة نجد كما سبق، وأوعده بأنه سيزحف على عمان فيصل إليه
بعد أربعة أشهر.
وبلاد عمان تتمخض الآن بالفتن فقد نصب الإباضية لهم إمامًا تبرأ أتباعه وهم
عدة عشائر من السيد فيصل لموالاته الإنكليز، ويقال: إن ابن سعود اتفق مع بعض
رؤساء العشائر في عمان على أن يؤيدوا أمراءه ويساعدوه بالمال والرجال عند
الحاجة على أن يصد عنهم مداخلة الإنكليز في بلادهم التي تفسد عليهم دينهم بالبغاء.
***
(الاضطراب في البصرة)
اصطنع الاتحاديون عجيمي بك السعدون من رؤساء عشائر العراق الذي
اعتقلت والده فمات في السجن وسبب اصطناعها إياه أمران:
أحدهما: أنه نهب مال عمه وقدره 170 ألف ليرة عثمانية وهم يدورون حول
الدينار، ولو كان في النار.
وثانيهما: إغراؤه بطالب بك النقيب الذي أعيا الجمعية نفوذه في البصرة على
كونه مقاومًا لسياستها المبنية على إضعاف العرب وهضم حقوقهم حتى انفضَّ بنفوذه
الناس من حولها وأقفل ناديها. وقد كان ناديها في بغداد اقترح على مركزها العام
تعيين عميدها وعتادها في العراق أمير الألاي فريد بك واليًا للبصرة ليكفيها أمر
طالب بك ويُخضع الولاية لعظمتها فلم يقبل اقتراحه خوفًا أن يثير ذلك فتنة تعجز
الحكومة عن تلافيها؛ إذ ليس عندها جند كاف في العراق ولا سبيل إلى إرسال جند
من مكان آخر، وهي في قتال مغلوبة فيه على أمرها في البلقان، فاكتفت بجعل
فريد بك قومندانا لها موقتًا.
فكان أول عمله إغراء عجيمي بك السعدون بالزحف برجاله على البصرة
وطلب إخراج طالب بك منها أو يهجم برجاله عليها، فزحف عجيمي حتى وصل
إلى قرب البصرة فاضطرب الناس وفر الأجانب إلى الأماكن القريبة الآمنة
كالمحمرة وبطلت التجارة، وخاطب وكلاء الدول الحكومة بوجوب إكراه عجيمي
بك على الرحيل، وفي أثناء ذلك هجم بعض أشقياء العرب على فريد بك وهو في
جهة العشار مدخل البصرة من شط العرب، مع بديع بك نوري متصرف المنتفك
فقتلوهما بالرصاص، فسكنت بعد ذلك ثورة عجيمي بك السعدون، وجاء البصرة
مصالحًا لطالب بك طالبًا منه العفو، ثم إنه أرسل برقية إلى الحكومة باسمه واسم
كبراء عشيرته يطلبون فيه اللامركزية الإدارية في البلاد، فهذا مثال من سياسة
الاتحاديين وإدارتهم فنسأل الله حسن العاقبة، وتوفيق الدولة.
__________(16/559)
شعبان - 1331هـ
أغسطس - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من بلدة العطف في القطر المصري
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومن
والاه إلى جناب ينبوع الفضائل، ومتبوع الأفاضل، الأستاذ الجليل السيد محمد
رشيد رضا، مد الله في مدته، السلام عليكم ورحمة الله.
أما بعد فإني سائلكم - لا عدمكم المسلمون - عن أمور اشتدت الحاجة إليها
نلتمس إجابتنا عنها بمناركم الأنور، ولكم من الله تعالى الجزاء الأوفر.
(س22) فنسألكم عن آلات الملاهي من طبول ومزامير وذوات أوتار
وفونوغراف هل فيها قول يجوز تقليده؟ فإنا نجد في بعض كتب المالكية وبعض
رسائل كرسالة الشيخ النابلسي وكرسالة للأمير المالكي ذِكْر قولٍ بالجواز مع إيراد
ما يشعر بجواز العمل به؟
(س 23) وهل يعول على ما يذكره الأئمة من أن من قال كذا شعرًا نال كذا
أجرًا كقول الشعراني من قال عقب كل صلاة جمعة:
إلهي لست للفردوس أهلاً ... ولا أقوى على نار الجحيم
فهب لي توبة واغفر ذنوبي ... فإنك غافر الذنب العظيم
خمس مرات توفي مؤمنًا بلا شك. نقله عنه الباجوري في حاشيته على أبي شجاع
الشافعي؟ فإن قلتم: نعم، فما مستند ذلك، ومثله إنما يؤخذ عن الشارع ولم ينقل
عنه - فيما أعلم - أنه وعد على شعر بأجر خاص؟ وإن قلتم: لا، فكيف استجاز
الأئمة ذكر ذلك مع أن منهم المجمع على جلالته كالسيوطي فقد أورد من هذا شيئا
في كتاب الأرج في الفرج؟
(س 24) هل يجوز لبس شيء شك في أنه حرير دودة أو حرير زراعة؟
وهل من علامة تميز بينهما أو يرجع في ذلك لذوي الخبرة بهذا الشأن؟
(س 25 و26) هل يحرم شرب الدخان في مجلس القرآن؟ إن قلتم: نعم
فهل هو إجماعي أو ثم قول يجوز تقليده بالحل؟ وهل ضابط المجلس العرف أو ما
هو؟ فإن القراء قد يختصون بنحو دكة، والسامعون معهم في نحو خيمة واحدة
على دكك أخرى فيشرب البعض تعللا بأن المجلس إنما هو محل القارئين والعرف
يأبى ذلك، وما دليل تحريم الشرب المذكور مع حدوث الدخان بعد زمن النبوة؟
نلتمس الإجابة عن ذلك، لا برحتم ملجأ للسائلين المبتغين سواء السبيل آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد علي الطباخ
... ... ... ... ... ... ... ... ... بالعطف البحيرة
* * *
سماع آلات الطرب
بينا في الجزء الأول والثاني من مجلد المنار العاشر خلاف العلماء في سماع
آلات الطرب وأدلة من حظرها وأدلة من أباحها والترجيح بينها؛ فعلم من ذلك أن
سماعها مباح لذاته، وقد يعرض له الحظر إذا ترتب على السماع معصية، فليرجع
السائل إلى ما نشرناه هنالك عسى أن يعرف الحق في المسألة بدليله.
* * *
الثواب المعين على إنشاد شعر معين
ما ذكر في السؤال شيء لا دليل له من أدلة الشرع، فلا يعول عليه، ولا
يُلتفت إلى ناقله كائنًا من كان، ولا يقبل كلام أحد في ثواب الآخرة وعقابها إلا
بدليل عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الشعراني الذين نقل عنه
الباجوري ذلك القول في البيتين ليس من الأئمة المجتهدين، ومن اتفق الناس على
إمامتهم في فقه الدين ليس كلامهم حجة ولا شرعًا بالإجماع، وإنما معنى إمامتهم أن
لهم مسالك في فهم النصوص والاستنباط منها وترجيح متعارضها قد استفاد منها
الناس وتبعوهم فيها وهي التي سميت مذاهب.
* * *
لبس المشكوك فيه هل هو حرير أم لا
من شك في ثوب هل هو حرير محرم أم لا؟ يجوز له أن يلبسه لأن الحرمة
لا تثبت بالشك والاحتياط أن لا يلبسه حتى يراجع أهل المعرفة ويخرج من الشك
إلى اليقين. والعبرة في مثل هذا بأهل الخبرة الذين يوثق بمعرفتهم.
* * *
شرب الدخان في مجلس القرآن وحكم شربه
قد سبق لنا إفتاء عن هذا السؤال، ونقول الآن بالإيجاز: تعظيم القرآن
واحترامه واجب قطعًا وإهانته محرمة قطعًا بل يكفر متعمدها، والعمدة في ذلك
القصدُ ويجب فيه مراعاة العرف، والأصل في الدخان الحل إلا إذا كان ضارًّا؛ إذ
يحرم تناول كل ضار بالإجماع.
***
الحلف بالرسول والحلف بغير الله
(س27 و28) من صاحب الإمضاء بمصر (ورد من عدة سنين ونُسِيَ)
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار:
سأل سائل عن الحلف بغير الله تعالى فقال قوم: يجوز الحلف برسوله صلى
الله عليه وسلم فأنكرتُ ذلك لعدم مشروعيته، فنسب آخرُ للمنار تقرير جواز الحلف
بغير الله تعالى من نبي وولي، فأسأل من فضيلتكم بيان الحق بهذه المسألة على
صفحات المنار بدون إحالة على أعداد سابقة خدمة للدين المبين واقبلوا في الختام
سلامًا واحترامًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي يوسف
... ... ... ... ... ... ... ... ... المحامي بمصر
حاشية: وأرجو بيان حكم الحلف بغير الله تعالى.
(ج) صح في الأحاديث المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن الحلف بغير الله، ونقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على عدم جوازه قال
بعضهم: أراد بعدم الجواز ما يشمل التحريم والكراهة؛ فإن بعض العلماء قال: إن
النهي للتحريم وبعضهم قال: إنه للكراهة. وبعضهم فصَّل فقالوا: إذا تضمن
الحلف تعظيم المحلوف به كما يعظم الله تعالى كان حرامًا، وإلا كان مكروهًا.
أقول: وكان الأظهر أن يقال: إن المحرم أن يحلف بغير الله تعالى حلفًا يلتزم
به فعل ما حلف عليه والبر به؛ لأن الشرع جعل هذا الالتزام خاصًّا بالحلف به أي
بأسمائه وصفاته، فمن خالفه كان شارعًا لشيء لم يأذن به الله. وبهذا يفرق بين
اليمين الحقيقي وبين ما يجيء بصيغة القسم من تأكيد الكلام وهو من أساليب اللغة،
وقد قالوا بمثل هذه التفرقة في الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم
للأعرابي: (أفلح وأبيه إن صدق) فقد ذكروا له عدة أجوبة منها نحو ما ذكرناه،
قال البيهقي: إن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم،
والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف.
قال النووي في هذا الجواب: إنه هو الجواب المرضي. وأجاب بعضهم
بقوله: إن القسم كان يجري في كلامهم على وجهين للتعظيم وللتأكيد، والنهيُ إنما
وقع عن الأول. وأقول: إن هذا عندي بمعنى قول البيهقي. وقيل: إنه نسخ وقيل:
إنه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ردوهما.
والظاهر أن ما كان من حلف قريش بآبائها كان يقصد به التعظيم والالتزام ما
حلف عليه، ولذلك كان من أسباب النهي وإلا فلأنهم مشركون غالبًا.
روى أحمد والشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان
حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) وفي لفظ (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله)
فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: (لا تحلفوا بآبائكم) رواه مسلم والنسائي.
وروى الشيخان عنه أيضًا (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله) رفعه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وهو حصر، وفي معناه حديث أبي هريرة عند أبي داود
والنسائي وابن حبان والبيهقي مرفوعًا (لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم
صادقون) .
فهذه الأحاديث الصحيحة، ولا سيما ما ورد بصيغة الحصر منها، صريحة
في حظر الحلف بغير الله تعالى، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم
(غير الله تعالى) والكعبة وسائر ما هو معظم شرعًا تعظيمًا يليق به؛ ولا يجوز أن
يعظم شيء كما يعظم الله عز وجل ولا سيما التعظيم الذي يترتب عليه أحكام شرعية،
ولقد كان غلو الناس في أنبيائهم والصالحين منهم سببًا لهدم الدين من أساسه
واستبدال الوثنية به، ونسأل الله الاعتدال في جميع الأقوال والأفعال.
***
ترك العمل يوم الجمعة
(س29) من صاحب الإمضاء بمصر:
سيدي العلامة المفضال السيد محمد رشيد أفندي رضا حفظه الله.
ربما علمتم بحركة تجار دمشق واتفاقهم على إغلاق حوانيتهم ومحلاتهم في
كل يوم جمعة، ولكن هذا لم يرق لبعض المشاغبين كالشيخ عبد القادر الخطيب
المعلوم عند سيادتكم وأمثاله فتكلموا مع الوالي بعدم صلاحية ذلك وإجبار التجار على
الشغل في ذاك اليوم فطلب الوالي بعضًا من التجار وخاطبهم بهذا الشأن استحسانًا لا
جبرًا، فما قبلوا فلما رأى الشيخ عبد القادر الخطيب المومأ إليه أن سعيه لدى الوالي
لم يفده بشيء خطب في الجامع الأموي وقال: إنه لا يجوز الإغلاق في يوم الجمعة
واستدل بقول الخفاجي على أنه تشبه باليهود والنصارى وأورد الآية الكريمة الواردة
بحق يوم الجمعة، وأنه لطلب الرزق إلى آخر ما أملاه عليه ضميره.
فالمسألة أخذت دورًا مهمًّا في دمشق لذلك كتب إليَّ جماعة من التجار يطلبون
أن أعرض هذا الأمر لفضيلتكم وتقدم لهم النصوص الواردة في يوم الجمعة، ومن
علماء المذاهب الأربع في الأزهر، وترد إليهم ذلك حالاً فلذا لكوني اعتبرت
واعتادت الأمة الإسلامية الاستنارة بعميم فضلكم أرجوكم التفضل بكتابة ما ورد بحق
يوم الجمعة وسبق منذ ثلاث سنين سألت فضيلتكم مثل هذا السؤال من السودان
وأجبتم عليه في المنار وبه عمل فأدام الباري فضيلتكم سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد حمدي النجار
(ج) سبق للمنار بيان هذه المسألة وفصلنا القول فيما ورد في يوم الجمعة
في مقالات المسلمين والقبط، التي جردت من المنار وطبعت في رسالة على حدتها
فيمكنكم إرسال نسخة منها أو أكثر إلى من كفلوكم أن تسألونا عن النصوص الواردة
في يوم الجمعة. هذا وإن قول الشيخ عبد القادر الخطيب: إنه لا يجوز إغلاق
المحلات التجارية يوم الجمعة - إن صح - غريب جدًّا، لا من حيث إنه اجتهاد
منه وهو يحرم الاجتهاد في هذا العصر، فإن هذا ديدن جميع الذين يغلطون بالإنكار
على المصلحين الذين يدعون الناس إلى الاهتداء بالكتاب والسنة يزعمون أن هذا
الاهتداء يستلزم الاجتهاد الذي أغلق أمثالهم بابه بالقول، فهم ينكرون الاجتهاد قولاً
ثم تراهم يحرمون على الناس بأهوائهم ما أحله الله لهم ويستدلون على ذلك بما لا
يدل عليه من الآيات والأحاديث وهو عين ما ينكرون من الاجتهاد.
والاهتداء بالكتاب والسنة الذي يدعو إليه المصلحون لا يستلزم مثل ذلك فإنه
قد يكون مع الاستعانة على فهمهما بكلام ثقات المفسرين والمحدثين.
فإذا كان من يدعي تحريم إغلاق المحلات التجارية يوم الجمعة أو كراهته
شرعًا مقلدًا لأحد الأئمة فليأتنا بنص من كلامه أو نقل ثقات أصحابه المدونين
لمذهبه في ذلك؛ وإن كان مجتهدًا فلكل أحد أن يسأله عن دليله، وفي السؤال أنه
استدل على ذلك بقول الخفاجي: (إنه تشبه باليهود والنصارى) وهذا غير صحيح
بل هو مخالفة لهم؛ لأن اليهود يتركون العمل يوم السبت وخالفهم النصارى فتركوا
العمل يوم الأحد، فلو قال فيمن يتركون العمل يوم الأحد من المسلمين في بلاد
مصر وبيروت إنهم تشبهوا بالنصارى لكان له وجه، وأما من يتركون العمل يوم
الجمعة فلا وجه لدعوى أنهم متشبهون بهم إلا إذا صح الاستدلال بالشيء على ضده،
فإن تشبه الإنسان بقوم إنما هو أن يفعل مثل فعلهم بحيث يشتبه حاله بحالهم فيظن
من لا يعرفه أنه منهم. ولا يقول عالم ولا عاقل: إن التشبه بأجناس العمل العامة
يكون محل بحث، وإلا لكان من مقتضى عموم التشبه أن تترك كل أعمال العمران
التي سبقونا إليها من فنون وضروب الصناعة والزراعة والتجارة، وقد فصلنا
مسألة تشبه المسلمين بغيرهم غير مرة، ومن أوسعها بيانًا الفتوى 69 من المجلد
الرابع عشر (ص907 - 911) فليراجعها من شاء.
__________(16/583)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظرة
في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية
تابع ما قبله
فائدة بعثة عيسى
والفرق بين صورته في القرآن وصورته في الأناجيل
فإن قيل: إذا كانت هذه العقائد التي امتازت بها المسيحية عن الإسلام
واليهودية باطلة؛ فما فائدة بعثة عيسى إذًا، ولِمَ فتن الله الناس به حتى اتخذوه إلهًا؟
قلت: لا شك أن عيسى كان نبيًّا كبيرًا ورسولاً عظيمًا جعله الله مثالاً حسنًا للناس
ليهتدوا بهديه وليقتدوا به في أخلاقه وأعماله وأقواله وسيرته الطاهرة، وقد اشتهرت
تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة والرأفة والزهد في الدنيا كما قال القرآن الشريف
: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (الحديد: 27) وذاع إصلاحه في الأرض منذ وجوده للآن
رغمًا عن كل ما طرأ على دينه من التحريف والتبديل مع كثرته.
ومن فوائد بعثته أيضًا أن الله تعالى جعله دليلاً على قدرته على البعث والقيامة
الأخروية، فإن الناس كانت قد ضعفت فيهم أو تلاشت من بينهم تقريبًا هذه العقيدة
الكبرى لدرجة جعلت الصدوقين من اليهود وهم الأمة التي اشتهرت بكثرة الوحي
فيها والأنبياء ينكرون البعث يوم القيامة (مت 22: 23 وأع 23: 8) وكان يوجد
من النصارى أيضًا من تبعهم في ذلك كبعض أهل كورنثوس كما يفهم من رسالة
بولس الأولى إليهم (15: 12) وتجد أسفار العهد القديم خالية من التصريح بهذه
العقيدة اللهم إلا بعض إشارات طفيفة كما في سفر التثنية (32: 19 - 43) ولعل
السبب في ذلك وجودهم بين المصريين مدة (430) سنة (خر12: 40) واقتباسهم
منهم هذه العقيدة التي كانت عالقة كثيرًا بأذهان المصريين [1] فانتقلت منهم إلى بني
إسرائيل وأصبحت عندهم من الأمور التي لا يترددون في قبولها فلذا لم يحتاجوا
للتذكير بها كثيرًا فاكتفت كتبهم بالإشارة إليها أحيانًا، ولا تنس أن بني إسرائيل
كانوا من أشد الأمم ميلاً للتقليد وخصوصًا للأمم الغالبة، فلذا انتقلت إليهم هذه
العقيدة من المصريين وانتشرت بينهم، أو كان السبب في قلة ذكر كتبهم لها أن
الناس كانوا في تلك الأزمنة قصيري الإدراك بلداء الشعور، وخصوصا اليهود ذوي
الرقاب الصلبة (خر32: 9) فلذا ما كانوا يتأثرون ولا تنفعل نفوسهم بالمواعيد
الآجلة انفعالها بالمواعيد العاجلة التي كثرت كتبهم من ذكرها لهم لغلظ قلوبهم
وقساوتها فلما كَثُرَ بين الناس الشك في هذه العقيدة وارتقى إدراكهم ورق شعورهم
عن ذي قبل جاء عيسى لتبيين هذه العقيدة العظمى، واشتهر بالتصريح بها أكثر من
جميع من سبقه من أنبياء بني إسرائيل، وقد بين قدرة الله تعالى على البعث والنشور
بمعجزاته العظيمة كإحياء الموتى وخلقه من الطين طيرا وبوجوده هو نفسه بدون
أب خلافا لما اعتاده الناس فالله تعالى الذي أجرى على يديه كل هذه الآيات البينات
(أع 2: 22) لا شك أنه قادر على إحياء الموتى يوم القيامة [2] .
فإصلاح الأخلاق وتذكير قومه بكلام الله القديم الذي كانوا هجروه وإرشادهم
إلى حقيقة الشريعة وروحها والدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر والزهد في الدنيا؛
لشدة انغماس الناس في زمنه في الماديات هي أهم ما جاء عيسى به، وهي
أعظم ما عرف عنه بين جميع أتباعها، واشتهر به على اختلافهم في الآراء
والمعتقدات ولو أنهم جعلوا نعيم الآخرة روحانيًّا فقط، مع اعترافهم بالبعث الجثماني
بل والعذاب الجسداني أيضا [3] بسبب تأثير أقوال بعض فلاسفة اليونانيين فيهم
كأرسطو حتى أولوا أقوال المسيح نفسه الدالة على عكس ما ذهبوا إليه تقليدًا لهم كما
في (متى 26: 29 ولوقا 22: 30) .
ولكن من المجمع عليه أن أكثر تعاليم عيسى وشغله الشاغل كان في الدعوة
إلى مكارم الأخلاق والسلم والتمسك بروح الدين [4] وجوهره الإيمان باليوم الآخر
والعمل على نشر ذلك كله بين العامة والخاصة من قومه، ولكنه قل أن تعرض
للإلهيات لعدم حاجة اليهود إليها بل أحالهم فيها إلى ناموسهم؛ إذ فيه الكفاية منها،
وبين أن التوحيد هو أول كل الوصايا (راجع مثلا مرقس 12: 28 - 34) كما كان
معلومًا لديهم من قبل وقد استفاد العالم من تعاليمه كثيرًا منذ زمنه إلى الآن.
وأما افتتان الناس به ودعواهم له الألوهية، وإن كان هو تبرأ من إطلاق لفظ
الصالح عليه كما سبق (مت 19: 17) فذلك لا يطعن في انتفاعهم العظيم به عليه
السلام، وفي أنه كان إمامًا ورحمة لهم وآية للعالمين كما أنه لا يطعن في فائدة
نزول الغيث كونُه قد يصيب بعض البيوت مثلاً فيهدمها على أهلها، ولا يطعن في
نفع النار وغيرها أنها كثيرًا ما تؤذي الإنسان وتهلكه، وهي أقوى ما يستعمله
الإنسان للتدمير في الحروب وغيرها.
فهذه سنة الله في خلقه؛ إذ يندر أن يوجد شيء في العالم خال من الضرر في
جانب نفعه الكبير فكذلك بعثة عيسى وإن أفادت الناس كثيرًا إلا أنها لم تخل من
الأضرار بضعاف العقول الذين ألَّهوه وعبدوه من دون الله، تعالى عما يشركون.
فالاعتراض على بعثته بسبب ذلك كالاعتراض على جميع ما خلق الله مما لا
يخلو من ضرر، ولذلك أيد الله تعالى - كما قال القرآن - أتباع عيسى مع ضعف
إيمانهم وفساد بعض عقائدهم حتى نشروا دينه على علاته في الأرض، وأصبحوا
فيها ظاهرين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14) أي: قل يا محمد كما قال عيسى لأصحابه ما ذكر، والحكمة في
قول القرآن ذلك بدل أن يقول: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله،
أنهم لم يكونوا في دينهم على ما يرام كما يفهم من قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ المَاكِرِينَ} (آل عمران: 54) لأن يهوذا باعتراف النصارى كان منهم وكذلك
بطرس الذي سماه المسيح شيطانًا، وغيرهما كان ضعيف الإيمان أو عديمه كما
سبق بيانه (راجع صفحة 52 و88 و92) وقال القرآن أيضا: {إِذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} (المائدة: 112) الآية، وقال: {فَاخْتَلَفَ
الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} (مريم: 37) الآية.
وإذا كان الله أيدهم مع ضعفهم هذا وفساد بعض عقائدهم بسبب أن في دينهم
أشياء أخرى كثيرة صالحة للبشر، وهي أكثر مما ألحق به من المفاسد فمن باب
أولى يؤيد الله المؤمنين الصادقين الخالي دينهم وعقائدهم من التحريف والتبديل؛
لذلك ضرب الله الحواريين مثلاً للمؤمنين؛ لبيان كرمه وحلمه وتفضله على عباده
بالخير الكبير، ولو لم يستحقوه كله؛ ليعلموا أنهم إن نصروا الله، ولو قليلا،
نصرهم هو كثيرًا كما فعل بأصحاب عيسى، ولم يضرب المثل بغيرهم من الأمم
السابقة المؤمنة؛ لأنهم لم يبق لهم ملك في الأرض مشاهد كاليهود، أو أنهم
انقرضوا كمؤمني قوم صالح وهود.
هذا وقد بين القرآن الشريف تاريخ عيسى كما بيناه هنا فقال الله تعالى فيه:
{إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} (الزخرف: 59) [5]
] وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ [6] لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ
بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا
جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [7] [
أي كاختلاف اليهود (الزخرف: 60-63) في القيامة لعدم صراحتها في كتبهم:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ *
فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} (الزخرف: 63-65) لاحظ العطف هنا بالفاء
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ
لاَ يَشْعُرُونَ} (الزخرف: 65-66) والآيات في بيان فضائل المسيح ومزاياه
وأعماله بالثناء عليه عديدة شهيرة [8] فانظر إلى آداب القرآن العالية في المسيح فهو
يصوره دائمًا بغير الصورة التي تفهم من الأناجيل وفيها كثير من المسائل تؤدي إلى
الطعن الفظيع فيه كما أدت كثيرين إلى ذلك في أوروبة.
فنحن وإن كنا نبرأ إلى الله من مطاعنهم هذه نشير هنا [9] إلى بعضها ولا
نتعرض للبحث فيها طويلا بمثل ما تعرضوا به من المبالغة في الطعن إجلالاً لمقامه
السامي عندنا بسبب شهادة القرآن له ليس إلا، فمما عابوه به:
(1) مسألة تردده وهو شاب عزب جميل على بيت مريم ومرثا أختها وهما
عاهرتان (قارن لوقا 7: 36 - 39 بيوحنا 11: 1-3 و12: 1-8 وحبه لهما يو
1: 5) والأكل في بيتهما والمبيت عندهما ودلك مريم قدميه ومسحه بشعرها ودهن
رأسه بالطيب (لو 10: 38 - 42 ومت 21: 17 و26: 6 - 13) وكثرة
اختلاط غيرهما من النساء به وبتلاميذه ومصاحبتهن لهم في كل مكان وخدمتهن له
من أموالهن (لو 8: 1-3) إلى غير ذلك مما يحرم علينا الإسلام الخوض به وسوء
الظن بالمسيح بسببه، فإن لم يفتتن هو أو تلاميذه بهن فكيف لا تفتتن مثل هؤلاء
النساء بهم وأكثرهن عزبات؟ ومن أراد الاطلاع على بعض ما يقوله علماء الإفرنج
في مثل هذه المسألة فليقرأ الفصل السابع من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة،
تأليف فيلب سدني Philip Sidney.
(2) وجود المسيح في عرس يشرب الناس فيه الخمر بحضرته ويسكرون (يو
2: 10) وهو لا ينكر عليهم ذلك بل ساعدهم على المنكر وحول لهم الإناء خمرًا،
فكأنه زاد الطين بلة (يو 2: 1-11) حتى رماه المعاصرون له من اليهود بأنه
شريب خمر محب للخطاة والعشارين (لو 7: 33 و34) ومن كلامه في لوقا (5:
37 -39 ومتى 9: 17) يفهم أنه كان له دراية بالخمر وأحوالها.
(3) اختصاصه أحد تلاميذه يوحنا بحبه، واتكاء هذا في حضنه والتدلل عليه،
وكان يوحنا إذ ذاك فتى صغيرًا، وعدم تجاسر التلاميذ الآخرين على سؤاله إلا
بواسطة هذا التلميذ المحبوب وحده (يو 13: 23 - 25) وتجرد عيسى عن ثيابه
أمامهم بعد العشاء بدون مناسبة مما يوهم أنه سكر بكأس العشاء (يو 13: 4 و5
ومت 26: 29) .
(4) قولهم: إنه كذب مرة على إخوته وغشهم (7: 8 و10) راجع حاشية
صفحة (12 و13) من هذه الرسالة في النسخة المطبوعة على حدتها.
(5) أمره تلاميذه بشراء السيوف وحملها للدفاع عنه فضرب أحدهم بالسيف
عبد رئيس الكهنة ليقتله فأفلتت الضربة وأصابت أذنه فقطعتها (لو 22: 36 - 38
و50) مع أنه كان في أول الأمر يحض الناس على محبة الأعداء (مت 5: 44)
وهو أمر مغاير للطباع البشرية حتى لم يقدر عليه هو نفسه فخالف بذلك وصيته،
وكان أول من نقضها بعمله هذا [10] راجع أيضا رسالة الصلب ص (122 و123) .
(6) عدم احترامه لأمه مريم وإهانتها مرارًا أمام الناس (يو 2: 4 و19: 26
ومت 12: 46 -50) ومخالفته بذلك قول الله (تث 5: 16) : (أكرم أباك وأمك) ثم
دعواه أنه ما جاء لينقض الناموس (مت 5: 17) مع أنه نقضه في أعظم أركانه
وأكبر دعائمه وهي الوصايا العشر [11] .
(7) إيجاده التقاطع والتفريق بين الناس وحضهم على بغض أهليهم وأقاربهم
حتى آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأخواتهم (لو 14: 26 ومت 10: 34 - 37) وهو
الداعي في أول أمره إلى السلم ومحبة الأعداء كما سبق.
وقوله المشار إليه هنا وهو: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض
ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها
والكنة ضد حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته من أحب أبًا أو أمًّا أكثر مني فلا
يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني) .
وقوله (لو 12: 49) : (جئت لألقي نارًا على الأرض ليتها قد اضطرمت
أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض كلا أقول لكم بل انقسامًا) . كل ذلك
ينطبق بأن إلقاء الحرب في الأرض وإيجاد التفريق والانقسام وعداوة الأهل والأبناء
سيكون صادرًا من جانبه وجانب أتباعه لا من جانب خصومهم كما هو صريح هذه
العبارات، وإن أَوَّلَهَا المبشرون تعسفًا بغير ما ذكرنا فلا نعبأ بتأويلهم لتكلفه
وتعسفهم فيه، ولذلك قال (لو 14: 26) : (إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه
وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا، فلا يقدر أن يكون لي
تلميذًا) .
فكيف يقول المبشرون بعد ذلك: إن البغض والعداوة والحرب ستكون من
جانب الناس لهم لا من جانبهم للناس والمسيح نفسه يقول: إنهم هم الذين يجب
عليهم أن يحبوا أهلهم وأولادهم أكثر منه بل يبغضونهم، فهم البادئون بالتفريق
وبالعداء لا المبدءون به كما يزعمون [12] .
... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الظاهر أن المصريين أتتهم هذه العقيدة من طريق الوحي إليهم وإلا لما سبقوا اليهود بها، وكانوا يعتقدون أن قلب الإنسان سيوزن يوم القيامة لمعرفة إن كان يستحق الرحمة أو العذاب، ولعل مرادهم من ذلك هو كمراد القرآن عند المحققيين مما ذكره مشابها لذلك مثل (21: 47) أي المبالغة في بيان دقة الحساب وكمال العدل الإلهي في دينونة الخلائق كأن أعمالهم أو قلوبهم توزن وزنًا بحيث لا تظلم شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها الله، وعامل الإنسان بحسبها، ولوجود عقيدة البعث عند المصريين تجد أن يوسف كما في القرآن الشريف لما تكلم مع الفتيين اللذين حبسا معه في مسائل الدين لم يحثهما على الإيمان باليوم الآخر كما حثهما على التوحيد، فإن ذلك كان من أكبر عقائدهم حتى من قبل يوسف راجع سورة يوسف (12: 39 و40) وترى أن عزيز مصر لما وجد امرأته خاطئة قال لها: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ) (يوسف: 29) ولولا اعتقادهم بالدينونة في اليوم الآخر ما قال لها ذلك.
(2) لذلك ترى أن أكثر معجزات عيسى هي مما له علاقة بإحياء الميت كخلقه هو نفسه بدون أب أو كإحياء الموتى على يديه وكتحويل الطين طيرًا ليدل بذلك كله على قدرة الله التامة على البعث فإن الذي خلقه بدون استيفاء أهم الشروط المعتادة في خلق الأحياء الراقية وأحيا على يديه الموتى بل الجماد لا شك أنه قادر على بعث الخلائق يوم القيامة مهما طرأ عليهم من الفساد والانحلال والتغير، ومهما فقد من الشروط المعتادة أو اللازمة للحياة في هذه الدنيا، لذلك قال تعالى في عيسى: ... (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ) (مريم: 21) وجاء عن لسانه مكررًا في موضع واحد (3: 49 و50) وقوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (آل عمران: 49) إلى قوله: (وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (آل عمران: 50) أي إذا علمتم مما جئتكم به من الآيات أن الله موجود وأنه سيبعثكم للحساب يوم القيامة كان واجبًا عليكم - إن كنتم تعقلون - أن تتقوه كمال التقوى وتطيعوني، أما في زمن البعثة المحمدية وقد ارتقى الناس في الجملة عن ذي قبل، فكانوا يرون أو يمكنهم أن يروا ما لا يراه القدماء إلا نادرًا من أن آيات الكون الحاصلة أمامهم كل يوم تكفي لإثبات أن الله قادر على البعث؛ لأنه تعالى يخلق فعلا في كل وقت الأحياء النباتية والحيوانية من الجماد كما هو مشاهد لجميع الناس، ولا شك أن إعادة الخلق أهون من بدئه كما قال القرآن الشريف (30: 27) لذلك اكتفى القرآن بتنبيههم إلى هذه الآيات الكونية في أكثر من سورة وناقشهم فيها مناقشة عقلية منطقية كما هو معلوم لمن يتدبر آياته، راجع مثلا سورة الحج (22: 5-7) وما زال يرشدهم إليها ويذكرهم بها ويجادلهم فيها حتى اقتنع العرب اقتناعًا عقليًّا صحيحًا بقدرة الله على البعث وتبعتهم الأمم الداخلة في الإسلام إلى اليوم، فالناس، وإن كفتهم الحجة العقلية في زمن البعثة المحمدية وبعدها إلا أن أكثر الأمم أو كلهم قبل ذلك ما كانت تكفيهم هذه الحجة أو لا تؤثر فيهم تأثيرها في الناس بعد الإسلام؛ فلذا جاء عيسى وغيره لقومهم بالمعجزات الحسية، والغالب أن الأمم القديمة ما اقتنعت بهذه العقيدة اقتناعًا عقليًّا جازمًا، وإنما سلموا بعد أن رأوا من أنبيائهم ما رأوا من المعجزات الحسية ونحوها لا بالحجج العقلة كأهل الإسلام وربما كان اقتناعهم بها بعد ذلك أقل درجة من اقتناع المسلمين، ألا ترى إلى قول إبراهيم وهو أبو النبيين (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: 260) فإذا كان هذا حال إبراهيم فما بالك بغيره من الناس؟ والحق أن استعمال الحجج العقلية لإثبات المسائل الدينية لم يعرف بين أكثر الأمم قبل الإسلام ومن عرف عندهم لم يبلغ مبلغه بين المسلمين كما لا يخفى على المطلعين الباحثين في أحوال البشر وعقائدهم، والفضل في ذلك كله للقرآن الذي نهض بالعقل البشري نهضة لم يسبقه بها كتاب، إن في ذلك لآيات لأولي الألباب.
(3) من غرائب عقول النصارى أنهم مع تسليمهم بقيامة الأموات والبعث الجسماني (1 كو 15: 12 - 45) وبالعذاب الجسداني أيضا، كما قلنا في المتن، الدائم إلى أبد الآبدين (مت 5: 29 و8: 12 و13: 42 ورؤ 19: 20 و20: 10) يعودون فينكرون النعيم الجثماني ويسخرون من المسلمين؛ لأنهم يقولون به، فلا أدري لماذا يقبلون تعذيب الجسد بالنيران وغيرها ولا يقبلون تنعيمه بما يليق به من أكل وشرب وجماع وغير ذلك مع الأدب والكمال، وإذا كان الله قضى بحصول هذه الأشياء في الدنيا للإنسان والحيوان فأي استبعاد إذًا للقول بحصولها أيضًا في الآخرة على نحو أكبر وأبهى وأفضل؟ نعم، إن الجماع شهوة بهيمية ولكنه هو كالأكل والشرب الذي قالت كتبهم بحصوله في الآخرة (لو 22: 30) لذلك سميت دار النعيم عندهم أيضا بالفردوس (لو 23: 43) أي البستان بالفارسية لما فيها من الأشجار والأثمار ونحوها، وإذا استعمل الجماع في محله مع الاحتشام والأدب فلا عيب فيه ما دام الإنسان في الآخرة لم يخرج باعترافهم عن كونه حيوانًا جسدانيًّا، وأي فرق حقيقي بين اللذة الروحية واللذة الجسدية؟ وكلتاهما لا تصل إلى الإنسان ولا تكون عادة إلا بطريق الجسد، وإن كانت الأولى خيرًا وأبقى من الثانية، ولكن في الآخرة ستكون الاثنتان باقيتين، هذا ولم يقل أحد من المسلمين: إن لذة الآخرة كلذة الدنيا ولا إن الآخرة خالية من النعيم الروحاني، وكيف يقول أحد منهم ذلك والقرآن يقول: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (التوبة: 72) ويقول: (وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 22-23) ، (وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر: 34-35) وقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) (عبس: 38-39) و (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) (الغاشية: 8-10) وغير ذلك كثير، (راجع كتابنا الإسلام ص50 و51 منه) وإذا اقتصر القرآن على ذكر اللذات الروحية أيكون لكلامه من التأثير على عامة البشر ما كان له بذكر اللذتين؟ ومَن مِن العامة يدرك اللذة الروحية أو يقدرها قدرها، أو تنفعل نفسه لها؟ هذا وسيرضى كلٌّ في الآخرة بما قسم له من النعيم كما يرضى الصغير بثوبه الصغير والكبير بثوبه الكبير بحيث إذا أعطي للكبير ثوب الصغير لغضب وعد ذلك استهزاء به، وكذلك العكس كما قال المسيح عليه السلام في إنجيل برنابا (176: 1-16) ولذلك قال تعالى في القرآن الشريف: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الحجر: 47) ولما كان الرجل في الدنيا أقوى وأفضل وأعقل من المرأة وأكبر شهوة منها فلا عجب أن كان ثوابه في الآخرة أكبر؛ لأن أعماله أعظم والذي فضله في الدنيا هو الذي سيفضله في الإخرة بسبب عمله ولا يثير ذلك حقد المرأة عليه كما بينا هنا.
(4) لذلك وضع عن اليهود شيئًا من إصر التوراة وأغلال الناموس كما فعل في يوم السبت حيث خفف شدة حكمه (راجع يو 5: 10 - 12 وخر 20: 10 وعد 15: 32 - 36) فلذا قال الله تعالى في القرآن الشريف عن لسانه: (وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (آل عمران: 50) .
(5) فإنه مرسل إليهم أولا وبالذات فإن رفضوا ولم يؤمنوا به دعي حينئذ غيرهم من الأمم، وإلا فلا (مت 22: 1-14 وأع 13: 46 و18: 6 ورومية 1: 16) وأما محمد صلى الله عليه وسلم فمرسل للناس كافة سواء قبله العرب أو رفضوه، ولكن يجب أن يبدأ بدعوتهم ليستعين بهم على دعوة غيرهم، هذا إذا تساهلنا معهم في فهم عبارات كتبهم المتناقضة حتى في هذه المسألة الهامة، وسنتكلم معهم قليلاً في ذلك قريبًا بغير هذا التساهل.
(6) أي سبب للعلم بها فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث، وهذه العبارة في الآية مجاز مرسل علاقته المسببية، فإنه أطلق المسبب وهو العلم وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته كقولك: أمطرت السماء نباتًا أي مطرًا يتسبب عنه النبات وقرئ أيضا (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) (الزخرف: 61) بفتحتين أي أنه كالجبل الذي يُهْتَدَى به إلى معرفة الطريق ونحوه فبعيسى عيله السلام يهتدى إلى طريقه إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها كما بينا في المتن.
(7) إنما لم يقل: ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه؛ لأنه لم يفعل ذلك بل ترك بيان كثير من الأشياء كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للبارقليط محمد الذي يأتي بعده لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه كما قال هو نفسه (يو 16: 12 و13) وخصوصًا إذا تعرض للطعن في كتبهم وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم، ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن وهي التي بعث لأجلها، وأما قول الله تعالى عن لسانه: (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) (آل عمران: 50) فالمراد بمثل هذا التعبير أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه وبه صحت وصدقت، وكلمة التوراة تطلق على كل كتب العهد القديم كما بيناه في كتاب دين الله (ص65) فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأنا به النبيون عنه من قبل، ولولاه لما صدقت تلك النبوات فإنها لا تنطبق إلا عليه، وليس المراد أن عيسى يقر كل ما في التوراة كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية وإلا لما قال بعدها مباشرة: (وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (آل عمران: 50) فكيف يقرها وهو قد جاء ناسخًا لبعض ما فيها، فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويفسرون ما لا يفهمون! ! هذا إذا سلمنا ما في هذه الأناجيل من أن المسيح عليه السلام لم يطعن في كتب اليهود الموجودة في زمنه ولم يبين لهم ما فيها من الفساد ولكن كيف يثق المسلم بما في هذه الأناجيل بعد الذي كتبناه فيها؟ فيجوز أن المسيح بيَّن لهم فساد كتبهم كله أو بعضه المهم؛ ثم إنهم أهملوا أغلب أقواله هذه تدريجيًّا حتى نسوها لعدم موافقتها لأهوائهم، ولما شبوا وربوا وشابوا عليه وورثوه عن آبائهم كما أهملوا أقواله في التوحيد الحقيقي وخالفوا نصائحه ووصاياه في مسائل كثيرة مما بيناه، وتغالوا في شأنه شيئًا فشيئًا حتى جعلوه إلهًا وهو - لا شك - بريء من هذه الدعوى، ولا يخفى أن تلاميذه - وهم ضعاف من وجوه كثيرة - ولو كانوا أكثروا من الطعن في كتب اليهود وترديد أقوال المسيح فيها لنفروا اليهود منهم ومن دينهم ومسيحهم؛ ولزاد اليهود في احتقارهم وإيذائهم فلذا تحاشوا ذلك وخصوصًا؛ لأنه لا يمكنهم إقناعهم بصحة مسيحية عيسى إلا بهذه الكتب فاستمروا على قبولها والتعويل عليها مجاملة وخوفًا من باقي أمتهم اليهود واستمالة لهم لإدخالهم في دينهم بها، وربما أنهم حرفوا بعض أقوال المسيح التي نقلوها في هذه المسألة وجعلوها قاصرة على ذم المسيح اليهود باتباع تقاليدهم الموضوعة لا بتحريف كتبهم المقدسة كما هو الظاهر مما في إنجيل مرقس مثلا.
(7: 6-13) (راجع أيضا كتاب دين الله صفحة 81 - 84) على أن بعض فرق النصارى الأقدمين في القرن الأول والثاني قد أنكروا العهد القديم كله أو أكثره كالأبيونيين والماركيونيين وغيرهم، ويبعد كل البعد أن تنكر هذه الفرق هذه الكتب من غير أن يستندوا على شيء رووه عن المسيح نفسه في
أمرها، وقد كانوا قريبي العهد به عليه السلام فتكون روايتهم أصح من رواية هذه الأناجيل التي لم يعرف لها سند إلا في أواخر القرن الثاني وما خلت من التحريف بعد ذلك كما بينا، وجاء في إنجيل برنابا أن المسيح نص على تحريف اليهود لكتبهم (راجع مثلا الإصحاح 44: 3) منه وهو من الأناجيل
القديمة، وإن يكابروا فيه ويكذبوا وما يدرينا أنه كان يوجد في الأناجيل الأخرى التي رفضوها وأضاعوها مثل ما في إنجيل برنابا أيضًا، ولا تنس أن أناجيلهم هذه الحالية لا تشمل جميع أعمال المسيح وأقواله طبعًا باعتراف مؤلفيها (يو 21: 25) .
(8) من أكبر آيات إخلاص النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه في دعواه أن القرآن الذي عظم جميع الأنبياء تعظيمًا كبيرًا، وأثنى على كل من ذكره باسمه منهم فردًا فردًا، وبرأهم من كل ما رامهم به أهل دينهم من الكبائر والفضائح قلَّ أن اختص محمدًا بمدح أو بفضل أو مزية دون غيره من إخوانه الأنبياء عليهم جميعًا الصلاة والسلام، بل كثيرًا ما يذكر محمدًا مع شيء من اللوم له أو العتاب أو الإرشاد والتأديب ونحو ذلك مما يعرفه المطلعون على القرآن الكريم، ولو كان محمد من الكاذبين لما سجل على نفسه شيئا من هفواته في القرآن الكريم (راجع مثلا 17: 73 - 75 و33: 37) وغير ذلك، ولخصَّ نفسه بالمدح والتعظيم والتبجيل والإكرام في أغلب القرآن، ولرفع منزلته فوق كل منزلة، ولنصَّ على أنه أفضل النبيين وأقرب المقربين من رب العالمين، بل لادعى البراءة من كل عيب ونقص وخطأ، ولنسب لنفسه العصمة من كل زلل أو سهو أو نسيان، ولما أمر في القرآن بطلب الرحمة والغفران من الله ولما ألزم نفسه الفرائض الكثيرة والنوافل العديدة الشاقة في صلواته وصيامه وقيامه بالليل لعبادة الرحمن (راجع كتاب دين الله ص70 و71) ولادَّعى الكمال المطلق في كل شيء، ولقال: إن العالم خلق لأجله ومن نوره وأنه أول موجود كما يقول عامة المسلمين الآن فيه تقليدًا للنصارى في عيسى، بل لقال عن نفسه أكثر مما قال يوحنا في إنجيله عن المسيح، ولما نهى عليه السلام الناس، وبالغ في النهي، عن إطرائه كما أطرت النصارى عيسى أو لعدَّد على الأقل في قرآنه جميع أعماله وأتعابه ومناقبه ومفاخره أو لأعجب بنفسه ومدحها كثيرًا كما فعل بولس في رسائله على ما سبق بيانه في صفحة (80 - 82) ولكن أين ذلك الكبر الباطل والغرور والإعجاب بالذات من تلك الروح العالية، والنفس الطاهرة الكبيرة، روح الصدق والإخلاص والتواضع والانكسار لله تعالى؟ وفوق ما تقدم كله لم يذكر في القرآن حادثة من حوادث حياته إلا عرضًا ولغرض غير مجرد تدوين أخباره وسيرته، فإن الرغبة في ذلك لم تكن منه مطلقًا وإلا لو أرادها لكانت (راجع أيضا كتاب دين الله ص68 - 71) زد على هذا أنه لم يضع للمسلمين موسمًا أو عيدًا أو نحو ذلك لتذكر شيء ما من حوادث حياته الشخصية كيوم ولادته أو هجرته أو إسرائه أو غير ذلك مما ابتدعه الناس بعده، ولو شاء لجعل كثيرًا من أمم الأرض تعبده، أو على الأقل تذكره كل سنة بأعياد عديدة ومواسم متكررة، فأين هذا ممن كان يطلب بنفسه من الناس أن يمدحوه ويظهر رغبته في ذلك كما فعل بولس (2 كو 12: 11) بل قد نهى صلى الله عليه وسلم فوق هذا كله مرارًا عن تعظيم قبره أو اتخاذه وثنًا أو عيدًا حتى قال العلماء: إن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة أو موضوعة لا يصح الاعتماد على شيء
منها؛ ولهذا لم يروها أهل الصحاح والسنن (راجع كتاب التوسل والوسيلة لابن تيمية صفحة 82 - 86) فأي تواضع أكبر من ذلك؟ وأي إنكار للذات أعظم منه؟ لذلك كله ترك القرآن الحكم على هذه النفس العالية العجيبة نفس محمد وتقديرها قدرها للزمان، ولعقلاء الرجال المفكرين، الذين نبذوا التعصب والتقليد وراء ظهورهم وتركوه خلفهم نسيًا منسيًّا، فظهر لهم - ولله الحمد - بعد أن نظروا في أعمال النبي صلى الله عليه وسلم وإصلاحه في الأرض ودينه وشريعته وقارنوا ذلك بغيره من الأديان أنه أكبر مصلح قام في الأرض وأعظم من يسميهم المِلِّيُّونَ أنبياء وأخلص المخلصين، وأصدق الصادقين، وهذا الحكم عليه ليس صادرًا من المسلمين، بل من كبار المفكرين، والعلماء في العالم المتمدن من ملحدين ومؤمنين، أحرارًا ومتعصبين (انظر مثلا: نشوء القرآن التاريخي للقس إدوارد سل ص184) كما يعرف ذلك المطلعون على كتبهم:
... ... ... وأكمل منك لم تر قطُّ عيني وأعظم منك لم تلد النساء
... ... ... خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
(9) تنبيه: نظري إلى المسيح في العبارات الآتية هو ليس من الوجهة الاعتقادية بل من الوجهة التقليدية فقط بحسب روايات النصارى عنه فهو نظر تاريخي محض بقطع النظر عن اعتقاد المسلمين فيه، وفي جميع الأنبياء العصمةَ والكمالَ وبقطع النظر عن اعتقاد النصارى فيه الألوهية فليتنبه لذلك القارئ، فإن جوزت عليه شيئًا من النقص البشري فليس ذلك لاعتقادي فيه ذلك، حاشا وكلا، بل هو لأجل مناقشة الخصوم فيما رووه عنه بأنفسهم، وعقيدتي في المسيح هي عقيدة القرآن أي أنه من أعظم الأنبياء ومن أكرم الرسل مصلحي الأنام وهداة البشر وهي العقيدة التي يلزمنا القرآن الشريف بها ولولاه لما عرفناه قدره بسبب ما يرويه نفس أتباعه عنه من النقائص كما سنبينه، فما يأتي هنا لم أقله عن لساني، وإنما هو عن لسان ملحديهم، وناقل الكفر ليس بكافر، وأنا معذور في ذلك؛ لأن النصارى هم البادئون بالاعتداء علينا وعلى ديننا وقد طغوا وبغوا فوجب علينا أن نوقفهم عند حدهم بسيف الحجة والبرهان وأن نرد كيدهم في نحرهم لعلهم يرجعون.
(10) لذلك كله ولغيره استباح بعض الإفرنج أو جميعهم الكذب في السياسة ونحوها، وإخلاف العهود فيها، وشرب الخمور والسكر، وتبرج النساء وإبداء زينتهن الفاتنة لجميع الناس، والخلوة بهن، والرقص معهن، ووطء غير المتزوجات من النساء ولم يعدوه من الزنا المحرم، والحروب الكثيرة العنيفة لأقل الأسباب والتغلب على الضعفاء والحقد على كل من خالفهم إلخ إلخ، فيجوز أن أسلافهم وكتبة الأناجيل كانوا من الرومانيين وغيرهم الإباحيين والاشتراكيين الذين كان كل شيء عندهم مشتركًا بينهم (انظر أع 2: 44 و45) فما كانوا ينظرون إلى هذه الأشياء نظرنا إليها نحن الآن؛ فلذا نسبوا للمسيح - بلا حياء - ما بيناه هنا في المتن ليظهروا أن كل شيء قد أبيح لهم وأصبحوا غير مقيدين بشرع أو ناموس وما أسرع انتشار مثل هذه المبادئ الإباحية والاشتراكية بين الناس وخصوصًا متبعي أهوائهم والفقراء، وهم الذين يتألف منهم الجزء الأعظم من كل أمة، فمن العجيب بعد ذلك - لأول نظرة - أن المسيحية لم تصر الدين الرسمي للدولة الرومانية إلا بعد ثلاثة قرون من زمن مؤسسها، فهذا شيء من مدنيتهم التي يقولون: إنها من آثار المسيحية فيهم، والمسيحية الحقيقية براء منها، وكذلك المسيح عليه السلام كما يعلم ذلك من تعاليمه الأخرى العالية الطاهرة التي بقيت بعض آثارها في الأناجيل إلى اليوم، وإن كانت مختلطة بغيرها مما أفسده الناس اتباعًا لأهوائهم وشهواتهم، ولولا تعاليم المسيح هذه الحقيقية الشريفة التي حافظ عليها بعض فرق النصارى الأقدمين لكانت المسيحية أسرع انتشارًا بين الرومانيين مما كان، غير أنها ما كانت تسود ولا تدوم بين البشر إلى الآن.
(11) قارن أعمال المسيح هذه مع أمه على ما في الأناجيل بقول القرآن (3: 14 و15) : (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 14-15) (وقوله 17: 23 و24) : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الإسراء: 23) إلى قوله: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 23-24) أما القرآن الشريف فقد كذب الأناجيل في هذه الدعوى أيضًا، ونص على أن المسيح كان بارًّا بوالدته ولم يكن جبارًا شقيًّا كما في سورة مريم (19: 32) أي لم يكن عاقًّا لها ولا قاسيًا على أحد بخلاف ما يفهم من الأناجيل كما ستعرف.
(12) إذا كانت هذه الذنوب كلها، وغيرها مما سيأتي، منسوبة للمسيح بشهادة كتبهم فكيف بعد ذلك يكون شفيعًا للمذنبين (1 يو 2: 1) وكيف يكون موته مكفرًا عن خطيئاتهم جميعًا؟ وأين إذًا قداسته وعصمته؟ وأين قداسة إلههم الذي يقبل خطأً كهذا ليكون وسيطًا بينه وبين الناس المساكين الضعفاء (1 تي 2: 5) وهل يريد الله أن يكون الناس أقدر على ضبط أنفسهم من المسيح نفسه، وهو لم يضبطها مع أنه إله كما يزعمون؟ .(16/588)
الكاتب: جمال الدين القاسمي
__________
تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]
(8)
تلقيب الجهمية بالجبرية
اشتهر عن جهم القول بالجَبْر، بفتح الجيم وسكون الموحدة، وهو إسناد فعل
العبد إلى الله تعالى، ففي المواقف للعضد وشرحها للسيد: الجبرية: متوسطة تثبت
للعبد كسبًا كالأشعرية، وخالصة لا تثبته كالجهمية قالوا: لا قدرة للعبد أصلاً لا
مؤثرة ولا كاسبة، بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها. اهـ.
لم يَعُدّ العضد في (المواقف) الجهمية فئة على حدتها كما فعل غيره من
أرباب المقالات، بل جعلها قسمًا من الجبرية، فلذا عسر السقوط عليها من المواقف
إلا بالسبر، وقد عرفتها.
والجبر المذكور هو أحد آراء الجهمية، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
(ليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف
على ذمهم بسببه إنكار الصفات حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله وإنه
مخلوق) . اهـ.
وعلى قول العضد الأشعرية جبرية متوسطة، اذكر ما قاله العلامة المقبلي في
(العلم الشامخ) [1] ، وعبارته: لما رأى محققو الأشاعرة بطلان مذهب جهم
بالضرورة، وعود مذهب الأشعري وأتباعه إليه بأدنى إلمام، واضمحلال الكسب
كيفما قلبته، وبطلان سعي أهله، تسللوا عنه لواذًا، فمنهم الراجع إلى الحق
صريحًا، ومنهم المقارب ولكن مع التستر باللهج بعبارات الأسلاف وتمويه التقارب
فيما بينهم وبين الأشعري والكون تحت رايته، وقد رفضوه ونسبوه إلى إنكار
الضرورة من حيث المعنى: ثم سمى المقبلي من هؤلاء المحققين إمام الحرمين
والفخر الرازي وغيرهم فانظره.
* * *
(9)
التنبيه لما وقع من خلل النقل عن الجهمية وغيرهم
أرى من واجب كل من يؤرخ مذهب قوم، وكل من يناقش فرقة ما في مذهبها،
أن ينقل آراءها عن كتب علمائها الثقات، ويقوم بالعزو إلى مآخذها ومصادرها؛
لتكون النفس في طمأنينة مما يريبها إن لم يعن بهذا الواجب - هذا كله إذا أمكن
الظفر بكتبها نفسها وآرائها التي دونتها رجالها - وإلا فعلى النَّهِم بتعرف الحقائق أن
يأثر عن كتب الأئمة المحققين ما أثروه، ويبني على ما بنوه، مع التحري والتيقظ،
وما على باذل جهده من ملام.
وبالجملة فلا بد من السند في قبول ما يُعْزَى ويُرْوَى إلى تلك الفرقة، فإما عن
أسفارها أو عن إمام ثقة أثر عنها، وأما رمي فرقة برأي ما بدعوى أنه قيل عنها
ذلك أو يقال، فمما لا يقام له وزن في الصحة والاعتماد، فلا يتعانى في رده أو
مناقشته، وهذه القاعدة يجب أن تؤخذ دستورًا وأمرًا عامًّا في كل ما يؤثر وينقل،
وأصلها مما نبه عليه أئمة الرواية عليهم الرحمة والرضوان، إذ لم يقبلوا الأثر إلا
بعد معرفة راويه وضبطه وثقته وعدالته؛ إذ ليس من السهل تشريع أمر إيجابًا أو
حظرًا، تحليلاً أو تحريمًا، بل أمامه ما أمامه من بذل غاية الوسع، ونهاية الجهد،
في تعرف مورده ومصدره تَحَرِّيًّا للحق، واحتياطًا للصواب، وهكذا كل ما يؤثر
من الأقوال والآراء، سواء كانت في الأصول أو الفروع أو اللغات أو الأقاصيص،
ودليل هذا الأصل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36) والآية {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} (البقرة: 111)
إذا عرف هذا تبين أن التساهل في الحكاية والنقل لا يقول به المحققون،
ويربأون بأنفسهم عن الخوض فيه وإنما يستروح به المتعصبون والمندفعون وراء
كل ناعق، أو المقلدون بدون تمحيص ونقد.
من أعجب ما اتفق لي في ذلك ما رأيته في (طبقات السبكي) [2] من قوله:
(وأما جهم فلا ندري ما مذهبه، ونحن على قطع بأنه رجل مبتدع ... ) إلخ؛ ثم
قال [3] : واعلم أن جهمًا غاص في المعاني بزعمه، وأعرض عن الظواهر فسقط
على أم رأسه، وقامت عليه حجج الشرع، ومنعته عن سبيل الحق أي منع،
إلخ، فتأمل قولَ السبكي: فلا ندري ما مذهبه، ثم تَهجُّمَهُ عليه مع أن السبكي انتقد
على ابن حزم في تحامله على الأشعري قبل أسطر وعبارته: وهذا ابن حزم
رجل جريء بلسانه، متسرع إلى النقل بمجرد ظنه، هاجم على أئمة الإسلام
بألفاظه، وفي كتابه الملل والنحل الإزراء بأهل السنة، ونسبة الأقوال السخيفة
إليهم، من غير تثبت عنهم، والتشنيع عليهم بما لم يقولوه.
ثم قال السبكي: إن ابن حزم ما بلغه بالنقل الصحيح معتقد الأشعري، وإنما
بلغه عنه أقوال نقلها الكذابون عليه، فصدَّقها بمجرد سماعه إياها، ثم لم يكتف
بالتصديق بمجرد السماع حتى أخذ يشنع. اهـ.
فنقول له: لقد كدت تقع فيما رميت به الإمام ابن حزم. وممن نبه على ما
وقع من تساهل بعض المؤلفين الإمام فخر الدين الرازي في رسالته التي جمعها في
المسائل الواقعة له في رحلته إلى ما رواء النهر، فقد قال في المسألة العاشرة ما
مثاله: كتاب الملل والنحل للشهرستاني كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه،
إلا أنه غير معتمد عليه؛ لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بالفَرْق
بين الفِرَق من تأليف الأستاذ أبي منصور البغدادي قال الرازي: وهذا الأستاذ كان
شديد التعصب على المخالفين، فلا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه، ثم إن
الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب، فلهذا السبب وقع الخلل
في نقل هذه المذاهب اهـ كلام الرازي.
وهكذا انتقد العلامة المقبلي في العلم الشامخ من ينقل مذهب المعتزلة من كتب
الأشاعرة بأنه حصل الغلط عليهم في بعض كلامهم. وذكر أن هذا كثير الوقوع في
حكاية المذاهب قال: صحة الرواية تنبني على التحري وعدم المجازفة، ثم أثنى
على الرازي في تحريه النقل عن المعتزلة وعبارته: قد أكثر الرازي في تفسيره
الحكاية عن القاضي وغيره من المعتزلة ثم قال: الرازي أكثر عناية في هذا الشأن،
وأدقهم مسلكًا وأوسعهم مجالاً، وحاله في كتبه تحرير حجج الخصوم على أبلغ ما
يمكنه، وليس كسائر الأشاعرة لا يعرفون مذهب المعتزلة على حقيقته، ولا
ينصفونهم فيما عرفوا قال: وكذلك الزمخشري تنصيصًا وتلويحًا وإيماءً وتصريحًا،
كما قال بعضهم: إنه دس الاعتزال تحت كل ذرة من كتابه.
وقال أيضا: علم من المختلفين في العقائد اتباع الهوى وقبول المثالب من دون
تثبت: ذكر ذلك في نقده على الذهبي في قوله عن الجاحظ: إنه باقعة قليل دين.
قال: هو أجلُّ من ذلك وإن تحامل عليه مخالفوه في العقائد، فلا يصدقون عليه،
وأصحابه المعتزلة أخبر به، فهو عند المعتزلة من جلة العلماء وعند الجميع مقدَّم
الأذكياء الحكماء اهـ.
وقال أيضا: وقد صار كل من الفِرَق يحكي الشر عن مخالفيه ويكتم الخير،
بل يروي الكذب والبهت، كما تذكر الأشاعرة أن المعتزلة تنكر عذاب القبر، ترى
ذلك فاشيًا بينهم، مع أن النقل عنهم باطل، وهو شبيه قذف الغافلات، فإن المعتزلة
لا تكاد تظن قائلا يقول هذه إلا شذوذ مثل المريسي وضرار وهما بيت الغرائب،
مع أن ضرارًا ليس من المعتزلة في روايتهم؛ لأنهم رووا عنه القول بالرؤية بحاسة
سادسة، ورووا عنه القول بخلق أفعال العباد، وأنه رجع عن الاعتزال، قال:
وعلى الجملة فليس شذوذه عن الفريقين بغريب، وإنما المُنْكَر إلزامُ المعتزلة قوله،
وإنما هذه المسألة كسائر المسائل، لا بد فيها من شذوذ كشذوذ العنبري والظاهرية،
وهذا شيء كثير يطلعك عليه كتب المقالات. اهـ.
ويتفرع من هذا البحث مسألة جليلة، وهي إلزام الناس لوازم أقوالهم،
وإضافتها إليهم إضافة أقوالهم أنفسهم، وقد نبَّه عليها أئمة الأصول، قال الإمام أبو
إسحاق الشيرازي في (اللمع) : ما يقتضيه قياس قول المجتهد لا يجوز أن يجعل
قولا له، قال: ومن أصحابنا من قال: إنه يجوز أن يجعل ذلك قولاً له، وهذا غير
صحيح؛ لأن القول ما نص عليه وهذا لم ينص عليه، فلا يجوز أن يجعل قولا له.
اهـ.
ومثله يجري في قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب، وقد رأيت لشيخ الإسلام
ابن تيمية تفصيلاً في هذه المسألة، وهو قوله في بعض فتاويه: (لازم قول
الإنسان نوعان: أحدهما لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه؛ لازم
الحق حقٌّ، ويجوز أن يضاف إليهم إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد
ظهوره، وكثيرًا ما يضيف الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب. والثاني: لازم
قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه تناقضٌ، وقد ثبت
أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين عليهم السلام.
ثم إن مَن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره فقد يضاف إليه، وإلا فلا
يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا
يشعر بفساد ذلك القول ولا بلازمه، قال رحمه الله: وهذا التفصيل في اختلاف
الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أم ليس بمذهب، هو أجود من إطلاق
أحدهما، فما كان من اللوازم يرضي القائل بعد وضوحه به فهو قوله، وما لا
يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضًا.
وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع الملزوم، واللازم الذي يجب
ترك الملزوم للزومه، وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها،
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال) . اهـ كلامه.
وهو تفصيل راعى فيه ما عليه أتباع الأئمة من إضافة ما يجري على
قواعدهم إليهم، وجعله قولاً لهم، بحجة أن قواعدهم لا تأباه، أو أنه يعلم من حاله
أنه لا يمتنع من التزامه، كما قال تقي الدين.
ولا يخفى أن الأقعد هو التورع عن الإضافة مطلقًا، فإن الذي يضاف إلى
المرء هو ما قاله أو رواه عنه ثقة، وأما تقويل الإنسان ما لم يقله وإلزامه إياه،
وأخذ نتائج منه، فهذا لا يدل عليه منقول، ولا يؤيده معقول، ولا جرى عليه
التابعون بإحسان، وإنما نشأ هذا لما استفحل أمر التقليد، وعُومِلَتْ أقوال المتبوعين
معاملة أقوال المعصوم ونصوص الكتاب نعوذ بالله من ذلك، وذلك ظاهر لمن له
أدنى إلمام بسير القرون، واختلاف حال السلف عن الخلف في تحمل العلوم على
أصولها.
* * *
(10)
تمثل الشعراء بمذهب الجهمية
قال الإمام ابن تيمية في كتابه (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) :
أصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمونه من دعوى العقليات التي عارضوا
بها النصوص؛ إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه عقليات موافقًا
للنصوص لا مخالفًا، ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على
النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى كقول أبي تمام:
جهمية الأوصاف إلا أنها ... قد لقبوها جوهر الأشياء
اهـ. ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... * * *
(11)
بيان أن مذهب الجهم متلقى عن الجعد بن درهم
وشيء من أنباء الجعد وقتله
وروى الأئمة أن أول من قال بخلق القرآن وخاض فيه وصيره هِجَّيرَاه:
الجعد بن درهم، وكان مؤدب [4] مروان آخر ملوك بني أمية، ولذا كان يلقب
بمروان الجعدي؛ لأنه تعلم من الجعد مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير
ذلك، وكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه، قاله ابن الأثير.
وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه: أقام الجعد بدمشق حتى أظهر القول
بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب وسكن الكوفة، فلقيه بها الجهم بن صفوان
فتقلد عنه هذا القول.
وقال ابن الأثير في سيرة ابن هشام: قيل: إن الجعد بن درهم أظهر مقالته
بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير
العراق وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشامًا، فكتب إلى خالد
يلومه ويعزم عليه أن يقتله، فأخرجه خالد من الحبس في وثاقه، فلما صلى العيد
يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني أريد أن
أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى، ولا اتخذ إبراهيم
خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا: ثم نزل فذبحه اهـ.
وقال ابن تيمية في الرسالة الحموية: أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة،
وإن كان قد نبع أصلها في أواخر عصر التابعين. ثم قال: وأول من حفظ عنه
مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان،
وأظهرها فنسبت إليه اهـ، ومراده بالتعطيل حمل الصفات الربانية على المجاز
المستلزم للتعطيل؛ لأن التعطيل من لوازم مذهبه.
* * *
(12)
نبذة من أخبار خالد بن عبد الله القسري قاتل الجعد أستاذ الجهم
اشتهر هذا الأمير بقتل الجعد، وحكى ذلك كل من رد على الجهمية، ومن
الناس من أثنى عليه بقتله، وعده غيرة على الدين، ومنهم من رأى أن قتله كان
لأمر سياسي إلا أنه موه باسم الدين إقناعًا للعامة بقتله، ثم منهم من وهم أن هذا
الأمير كان من الأخيار لأثره هذا، ومنهم من رأى عكس ذلك. ولما كان من متممات
بحثنا هذا إماطة الحجاب عن الارتياب في هذا الرجل عوَّلنا على أئمة التاريخ في
ترجمة حاله [5] ، وملخصها أن خالدًا هذا هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن
كرز من بجيلة، فأما جده يزيد فإنه أسلم مع أبيه أسد في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم، وروى عنه رواية يسيرة، ثم خرج في عهد عمر رضي الله عنه إلى الشام،
فكان بها وكان مطاعًا في اليمن عظيم الشأن، ثم صار من قواد معاوية وأمراء
بعوثه.
وأما ابنه عبد الله فلم تكن له نباهة آبائه، وأهل المثالب يقولون: إنه دَعِيٌّ،
وكان مع عمرو بن سعيد بن الأشدق على شرطته أيام خلافة عبد الملك بن مروان،
فلما قتل هرب، حتى سألت اليمانية عبد الملك فيه لما أمن الناس عام الجماعة فأمنه،
ثم مضى عبد الله إلى حبيب بن مسلمة الفهري وكتب له، وكان كاتبا مفوَّهًا،
وذلك في خلافة عثمان بن عفان فنال حظًّا وشرفًا، وكان يقال له خطيب الشيطان،
ووسم خيله (القسري) ، ثم تدسس ليملك خيلاً في بلاد قسر [6] فمنعته بجيلة
ذلك أشد المنع، فلم يقدر عليه حتى عظم أمره.
ثم نشأ ابنه خالد بالمدينة، وكان خالد هذا المترجم، في حداثته يتبع المغنين
والمخنثين، وكان يقال له: (خالد الخريت) [7] ، وقع في شعر عمر بن أبي
ربيعة تلقيبه بذلك، ثم صار في مرتبة أبيه بعده، إلى أن ولاه هشام بن عبد الملك
العراق سنة 105 واستمر إلى أن عزله هشام سنة 120.
وكان الإسلام بالعراق في عهد خالد ذليلاً، فكان يولي النصارى والمجوس
على المسلمين، وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطئوهن، فيطلق لهم
ذلك ولا يغير عليهم، وسبب ذلك أن أم خالد كانت رومية نصرانية، ابتنى بها أبوه
في بعض أعيادهم فأولدها خالدًا وأسدًا، ولم تسلم هي، وبنى لها خالد بيعة في قبلة
المسجد بالكوفة فكان إذا أراد المؤذن في المسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس، وإذا
قام الخطيب على المنبر رفع الناس أصواتهم بالقراءة، فذمه الناس والشعراء، فمن
ذلك قول الفرزدق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد
فكيف يؤم الناس من كانت أمه ... تدين بأن الله ليس بواحد
بنى بيعة فيها النصارى لأمه ... ويهدم من كفر منار المساجد
وكان خالد قد أمر بهدم منار المسجد؛ لأنه بلغه أن شاعرًا قال:
ليتني في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح
فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دَلٍّ مليح
فلما سمع هذا الشعر أمر بهدمها.
وكان يبالغ في سبِّ أمير المؤمنين علي عليه السلام، تؤثر عنه حكايات في
ذلك عديدة وكان مذممًا للغاية، هجاه الفرزدق والأعشى بأشعار كثيرة، ويذكر به
أقوال تقشعر لذكرها الأبدان، وقد قص شيئًا منها ابن الأثير وأبو الفرج الأصبهاني،
ولما قصها أبو الفرج قال في أثرها: اللهم الْعَنْ خالدًا وأخزه وجدِّد على روحه
العذاب.
ثم آل أمر خالد إلى أن غضب عليه هشام، وعزله عن العراق، وولى مكانه
يوسف بن عمر الثقفي، وأمره بحبسه وتعذيبه، فحبسه ثمانية عشر شهرًا بالحيرة
مع ابنه إلى أن أمر الوليد بضربه فضرب، ثم حبس ثم حمل إلى يوسف بن عمر
فعذبه عذابًا شديدًا ثم قتله ودفنه بالحيرة في المحرم سنة 126.
وكانت غلة خالد بالعراق عشرين ألف ألف، ولما ختن نائبه طارق ابنه
بالكوفة أهدى إليه خالد ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب، ولما ولي بعد
خالد يوسف الثقفي قال يحيى بن نوفل يمتدحه، ويعرض بأعمال خالد الذميمة:
أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا ... وحكامُنا فيما نُسِرّ ونجهر
فلما أتانا يوسف الخير أشرقت ... له الأرض حتى كل واد منور
وحتى رأينا العدل في الناس ظاهرًا ... وما كان من قبل العقيلي يظهر
ومن أراد استيفاء أحواله وأخباره، بأفظع من هذا، مما نصون عنه بحثنا
المسطور فليرجع إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني رحمه الله.
* * *
(13)
حمل الأثرية على الجهمية والإغراء بهم
قال الشهرستاني: كان السلف كلهم من أشد الرادين على جهم ونسبته إلى
التعطيل اهـ، ومن أشهر كتبهم في الرد عليه كتاب الإمام أحمد بن حنبل في الرد
على الجهمية، وكتاب الإمام الدارمي، وكتاب التوحيد والرد على الجهمية للإمام
البخاري في آخر صحيحه، وفي كتاب خلق الأفعال أيضا. وكتاب لابن أبي حاتم
وغير هؤلاء.
ومن أوسع من عني بالرد عليهم من المتأخرين الإمام ابن تيمية في عدة من
مؤلفاته وفتاويه، وكذلك تلميذه الإمام ابن القيم في بعض مؤلفاته مثل كتاب اجتماع
الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية، وكتاب الكافية الشافية.
وقد عَدَّ الإمام أبوالقاسم الطبري الحافظ في كتابه شرح أصول السنة، ممن
قال: القرآن كلام الله غير مخلوق نحوًا من خمسمائة وخمسين نفسًا من التابعين
الأئمة المرضيين، على اختلاف الأعصار، ومضي السنين والأعوام، قال: وفيهم
نحو من مائة إمام، ممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم، لا ينكر عليهم منكر،
قال: ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه [8] ، قال: ولا
خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق، جعد بن درهم في سني نيف
وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان. اهـ.
(للرسالة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في ج 7 م 16 ص 534 (1) طبع بمصر.
(2) جزء (1/ ص 43) طبع بمصر.
(3) ص 45.
(4) المؤدب: معلم الأدب، وهو رياضة النفس على حسن الأخلاق وفعل المكارم، بمثابة المربي والمرشد، أو معلم العلوم الأدبية، ولا يخفى أن الأمراء تعنى بانتقاء أماثل الفضلاء لتربية أبنائها على العلوم والأخلاق الفاضلة.
(5) كالطبري وابن الأثير والأغاني.
(6) بفتح القاف وسكون السين بطن من بجيلة، وبجيلة كسفينة حي باليمن من معدّ اهـ قاموس.
(7) الخريت الدليل العارف بأخرات الأرض أي مضايقها.
(8) هذا موضع الشاهد من قولنا في الترجمة: والإغراء بهم.(16/601)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فرنسا الإسلامية
جاء في جريدة (المفيد) المفيدة تحت هذا العنوان ما يأتي:
أثبتنا منذ أيام في صدر هذه الجريدة تعريب مقالة للطان أََنَّبَتْ فيها حكومتها
على إدارتها الجائرة في المستعمرات الإفريقية ثم عثرنا اليوم على العدد الأول من
جريدة فرنساوية صدرت حديثًا في باريس عنوانها فرنسا الإسلامية، ومديرها المسيو
بول بروزون، غايتها البحث في إفريقية الفرنساوية، وحض حكومة الجمهورية
على تبديل شكل إدارتها في هذه البلاد؛ لأجل استرضاء أهلها، والاستيثاق
من مودتهم، وجميع ما تقدم يدل دلالة واضحة على أن أكثر المفكرين من أمة
الفرنسيين يرون أن استمرار فرنسا على إنفاذ الخطة الإدارية المعتادة في إفريقية
الشمالية، أمر يضر بسياستها أعظم الضرر فضلا عن كونه لا يتفق مع مبادئ دولة
اشتهرت بأنها مهد الحرية.
وإذا كان يهم القراء جدًّا أن يعرفوا ما تقول جريدة فرنسا الإسلامية ولا سيما
في عددها الأول، فقد بادرنا إلى تعريب افتتاحيته وهي الآتية:
إن عنوان هذه الجريدة يفيد خلاصة كل آرائنا ويعرف بدون إشكال المقصد
الذي ندعي أننا نتبعه. وإن هذا العنوان بمثابة ضمانة للنصح المتبادل، وبمثابة
صورة للارتباط، ثم على التقريب بمثابة رمز للاتفاق، بين شعبين كانا في الأمس
متناكرين متعاديين، ولكن قضت المقادير بأن يدنو أحدهما من الآخر ليسيرًا غدًا في
طريق مشترك. وإنه يبين أننا المجاهدون المقتنعون بفائدة سياسة الاتفاق، بأكثر
مما يمكن تبيينه بالإرشادات الطويلة.
لا مشاحَّة في أن فرنسا بفتوحاتها الإفريقية قد اكتسبت حقوقًا، ولكن لا مشاحة
أيضًا في أنها بالفتوحات المذكورة أصبحت مسئولة عن واجبات مقدسة، بإزاء
الذين وضعتهم تحت سيطرتها، وهي لا تستطيع إنكار ذلك.
إن مستقبل هذه الامبراطورية الإسلامية الواسعة متوقف جميعه على الصورة التي
تعرف بها فرنسة أن تطابق بين هذه الحقوق، وهذه الواجبات.
إن هذه الامبراطورية التي اكتملت اليوم باحتلال مراكش تشتمل على عدد من
السكان يمكن تقديره بدون مبالغة زهاء عشرين مليون نسمة، وكلهم يجمعهم دين
واحد، ولهم احترام شديد لتقاليدهم القديمة المتشابهة، وهذا ما يجده كل إنسان
مشروعًا لهم، فعلى أية طريقة يناسب فرنسة أن تسلك بإزاء هذا الجمهور القلق
الأفكار الذي يرمقها بنظرات مملوءة من الرجاء، ومملوءة من الوجل أيضًا؟ هل
يبدو لها أن تسحقه بتوحش، وتدفعه نحو الصحراء؟ هل يبدو لها أن تحكم عليه
بالنفي؟ هل يبدو لها أن تستعبده استعبادًا شاقًّا؟ كل ذلك من المناهج الجرمانية التي
لا يستطاع تأليفها مع مزية فرنسا الشريفة الفائقة في العدالة والرقة.
كيف هذه الأمة الكريمة - التي لم يكن المظلومون يستنجدونها عبثًا - ترضى
بأن تتحمل مسئولية ثقيلة مثل مسئولية بولونية، وفنلدنة والإلزاس واللورين؟
هل يتسنى لها أن تنكر أعمالها، والعبارات الجميلة التي كتبتها بدماء شهدائها في
الصفحات الأولى من دستورها؟ كيف تجسر على أن تصادم الأحكام التاريخية،
حين ترتكب هي نفسها شتم الكلمات الثلاث البديعة أي: (حرية، مساواة، إخاء)
التي خطتها في ضميرها النقي، وعلى عتبات جميع هياكلها وقصورها؟ ومع ذلك
فإنه عدا كل مسألة شعورية، فإن مصلحتها عينها تستدعي منها أن تتخذ لها موقفًا
غير هذا. إنها إذا كانت في حكمها بمنزلة الأم الظالمة، فإنها تثير عليها في وسط
حوزتها كثيرًا من الأضغان ذات الخطر. وبالعكس إنها بالعدل والرفق وبإجراء ما
يستلزم عرفان الجميل تزيد قابلية النجاح في عملها العائد إلى نشر المدنية.
إن الاعتماد على القوة وقت مزاولة الفتح هو لازم لسوء الحظ، فما دامت
البلاد الخاضعة في ثورة مستترة، وما دامت غير خالية من الهرج بالكلية، فإن
استعمال الطرق القسرية مما يجوز فيه قبول العذر؛ ولذلك لا نجادل في التدابير
الاستثنائية التي ظنوا أنه كان يجب العمل بها في الجزائر حين كان الشعب بتمامه
خاضعًا لتأثير الجمعيات الدينية المؤسفة، وحين كانت أصوات مشايخ الزوايا
تصادف مكانًا من قلبه، فالذي يحسن منا تقديره الآن هو أنه لم يعد لهذه الخطة حق
في الوجود، وأنه من الواجب على فرنسة أن تستبدل بها في القريب العاجل خطة
أخرى أكثر حرية وعدلاً، وبذلك ترسم في أفريقية أثرًا مفيدًا وثابتًا.
فمن جَرَّاءِ تأثير المدرسة العبدية [1] وهي من أهم المدارس اللاهوتية، وهي
التي أسبابها ونتائجها تنطبق انطباقًا غريبًا على الأسباب والنتائج المكونة للحركة
الفكرية الكبيرة القائمة حول الإصلاح، من جراء تأثير هذه المدرسة أخذ الإسلام في
الانصلاح، إن تلاميذ الشيخ محمد عبده دخلوا في محاربة المتعصبين في الدين
تعصبًا أعمى. وهم يستنكرون كل البدع، ويرفضون سلطة أصحاب المذاهب، وإذ
كانوا خصومًا للتعصب الشديد فهم يعلمون التساهل الواسع، والشيخ عبده في
تفاسيره للكتب الدينية يفصل العلم ومبدأ الاجتماع اللذين يوضحهما إلى أقصى
درجاتهما عن حيز العقيدة الذي ينبغي أن يبقى نقيًّا ضمن أصول ثابتة، وبهذه
الصورة لا يكون الشيخ عبده مقاومًا للدين كما يدعي أعداؤه، بل إن هذا اللاهوتي
العظيم كان متقيدًا تمام التقيد بأحكام القرآن والسنة، وهو بذلك يعيد الإسلام إلى
طهارته الأصلية، ويعيده إلى شبابه من حيث ملامسة التقاليد والنصوص.
وبتأثيره النافع تصير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب أن تكون
في كل آن، أي: دين التوحيد الحر المعقول الخالي من الأكليروس ومن التكاليف
تقريبا، الذي يبث في النفوس أدبًا يقع تحت طاقتها، والذي بقاعدته السالمة من كل
روح إجبارية استطاع أن يخرج إلى العالم مدينتين مثل بغداد وقرطبة.
فالمدرسة العبدية من الآن فصاعدًا تفسح للمسلمين العاملين بدون تقييد مجالاً
واسعًا للنجاح، وهي تسمح لهم فوق ذلك بأن يمتزجوا بالمعاطفة مع الشعوب
الغربية، فالهند ومصر وسورية مدينات لهذه المدرسة بنجاح مدهش، ومنذ
سنوات انتشرت هذه العقيدة في إفريقية الفرنسية ففي بادئ الأمر هزت تونس هزة
نشاط كبيرة، واليوم قد امتدت إلى الجزائر وغدًا ستنبه مراكش.
فلا جرم أن هذه الحركة هي من الحركات التي تستحق اهتمام أوربة،
فإنكلترة وروسية وهولندة اللواتي عندهن مستعمرات إسلامية، وألمانية وإيطالية
اللاواتي لهن الأمل بأن يصير عندهن من ذلك، كل هذه الدول ينظرن إلى هذه
الحركة باعتناء؛ ولكن يظهر أن فرنسة وحدها غير شاعرة بها.
إن هذه الغفلة أي: غفلة فرنسا الخارقة للعادة، والتي هي من قبيل الإثم
وجلب الأخطار قد استمرت زمنًا طويلاً، وهي تعرقل مجهوداتنا في السياسة
الإفريقية فمن اللازم أن تنتهي.
إن فرنسة يجب عليها تلقاء نفسها أن تهتم بهذه المسألة مثل جاراتها بل أكثر؛
لأنه قد يتفق لسوء الحظ أن تصير اثنتان أو ثلاثة منهن عدوات لها في هذا المكان
في المستقبل الإسلامي فينبغي لها أن تتخذ موقفًا بإزاء هذه الحركة التي أشرنا إلى
أسبابها ومنازعها.
هل يخطر لها أن تعتقها؟ إن ذلك لا يكون من الظلم الشنيع فقط، بل من
الطيش الذي لا فائدة منه أيضًا، لا يمكن توقيف الشعوب متى كانت أحكام المقادير
الغامضة تدفع هذه الشعوب رغمًا عن نفسها، إذا تظاهرت فرنسا بمناهضة هذه
الحركة الوطنية في شمالي إفريقية، فإنها لا تستطيع أن تمنع شيئًا، فإن هذه
الحركة مع ذلك تجري، ولا يكون نتيجة لهذا الحساب الفاسد إلا أن تُكون أعداء
ألداء من الذين تستطيع أن تجعلهم معاضدين وأصدقاء إن لم تستطع جعلهم أبناء،
وبالعكس إذا كانت تريد أن تظهر لهم الانعطاف ولا تتوقف عن منحهم مساعدة حرة
خالصة فإنه تستخرج لها من هذه الحركة نفسها فوائد فائقة الحد؛ لأنها أولاً إذا
سلكت هذا المسلك فإنها تقدر أن تراقب الحركة وأن تديرها، وأن تُدخل فيها
معارفها، ثم بعد ذلك تتضافر مع علية القوم على إنفاذ ما تريد أن تعمله من نشر
التمدن، وهذا شيء لا يعادله ثمن.
لا ينبغي لنا أن نقع في الوهم: إذا كنا لا نعتمد على وساطة الأشخاص الذين
لهم علاقة ضئيلة بالتقاليد الموروثة وبالإيمان، فإننا لا نستطيع أبدًا أن نتغلغل إلى
الأجزاء العميقة من الشعب؛ لأن هذه الأجزاء بعيدة، ولا ثقة لها بنا، فهل نستطيع
أن نعرف ما يصدر عنها؟ هل نستطيع أن نقدر الآمال التي تنعقد لديها والأضغان
التي تنمو عندها؟ إنها بلا جدال عرضة لنفوذ الجمعيات الدينية، ومشايخ الزوايا،
ولكن هل نعرف أين؟ وكيف؟ وإلى أية درجة؟ وفوق ذلك ينبغي أن لا ننسى
الأمم المعادية لنا التي ترجو أن تغلبنا يومًا ما من جراء الصعوبات التي
نصادفها هناك، وإن لهذه الأمم هناك عمالاً سريين عديدين يعرفون حق المعرفة أن
يستخرجوا من الجهالة نفعًا. وفي مقابلة ذلك نحن المعدودون أصحاب البلاد،
من أجل أننا أصحاب البلاد ليس عندنا شيء من السلاح، ولعمري إن حناننا ينشئ
لنا سلاحًا كافيًا، إن هذا الحنان يساعد على أن يكون لنا في البلاد من أهل العرفان
والتفكير والفهم رجال يقاومون الجمعيات الدينية ومشايخ الزوايا، فتصير علية القوم
في جانبنا، أو في جانب خصومنا وهو مما يتعلق بنا لا بغيرنا.
في الوقت الحاضر رغمًا عن انجلاء بعض الأوهام، فإن هذه الطبقة التي
ذكرناها لم تزل تتمتع بالالتفات إلى جهة فرنسة وهي مسوقة إلى ذلك بأسباب عديدة:
أهمها ميلها الشديد إلى حفظ مصالحها الأولية، ذلك الميل الذي تكون شدته
على قدر المعرفة لمسائل الأمم، فهل ننكر هذا الاستعداد الميمون ونحتقر الفائدة
التي تنجم عنه لنا؟ إن ذلك يكون خطيئة لا تغتفر، إن هذه المسألة مما لها يستحق
الانتباه، فإن الساسة العالمية عرضة للتبدل، وإنه لدى حالة كهذه قد يعرض لنا
أسباب الندامة من حيث إننا لم نكن أكثر استبصارًا أو كياسة مما كنا، فيلزم أن
نعمل العكس وهو أن نحكم الرابطة التي تربط سكان هذا الوطن بنا، وأن نبدي لهم
بأننا سعداء ومطمئنون بقبول معاضدتهم لنا في الأمر. ومن أجل ذلك فإنه من
الواجب على حكومة الجمهورية أن تعمد في القريب العاجل إلى إنفاذ سياسة حرة
عادلة في أفريقية الشمالية ونحن عازمون على أن نطري هذه السياسة، وأن ندافع
عنها.
إن الذي تحتاج إليه امبراطوريتنا الإفريقية هو القوانين الدستورية اهـ.
(المنار)
إننا لما صار لنا صلة بأهل تونس والجزائر، وعلمنا من عقلائهم وأهل
البصيرة فيهم حقيقة ما يشكونه من سياسة فرنسة وإدارتها لبلادهم كنا نتعجب من
أمر هذه الدولة التي تجمع بين الأضداد؛ إذ هي في أوربة على ضد ما هي في
أفريقية، هي في أوربة أم الحرية والمساواة وناشرة لواء العلوم والفنون وما شم
مسلمو أفريقية رائحة ذلك منها في بلادهم، هذه الرائحة الطيبة التي تحيا بها الأمم،
بل شموا عوضًا عنها رائحة خبيثة، كنا نرى مسلمي هذه البلاد يبغضون هذه الدولة
ويتربصون بها نوائب الدهر، ويتمنون لو تيسر لهم الهجرة من بلادهم ولا نرى
مثل هذا من مسلمي الهند ولا من غيرهم من مسلمي المستعمرات الأوربية، حتى
مسلمي روسية دولة التعصب الديني والسلطة المطلقة الاستبدادية، فقد كتب إليَّ
كثير من أهل القوقاس يقولون: إنه قيل لنا إنه يجب علينا الهجرة من بلادنا إلى
بلاد حكومتها إسلامية، وإننا لا نود أن نبتغي ببلادنا بدلاً إلخ.
كنا نتعجب من هذه الطريقة التي جرت عليها فرنسة في تونس والجزائر ونرى
أنه يمكنها أن تملك قلوب المسلمين كما ملكت إدارة بلادهم؛ إذا هي أخلصت النية
في تعليمهم علوم العمران مع عدم التعرض لحريتهم الدينية وعدم الطمع في سلبهم
رقبة بلادهم، ولا ندري أيجهل أهلها هذا الإمكان أم لا، وكيف يجهلونه على
ذكائهم وفطنتهم؟ ولماذا لا يعملون به إذا كانوا يعلمونه وهم أبعد الناس عن
التعصب الديني الذي يمنع غيرهم من مثل ذلك.
ثم إننا صرنا نسمع حينا بعد حين أصواتًا حرة من جو فرنسة نفسها تنبئ بهذا
الإمكان وتدعو إلى سلوك سبيله، ومن العجيب أن جريدة الطان التي هي لسان
نظارة خارجية فرنسة كان ينعكس منها مثل هذا الصوت الذي سمعناه في هذه الأيام
من جريدة فرنسة الإسلامية، نوَّه أحد مكاتبي الطان منذ سنين بمثل ما تنوه به هذه
الجريدة اليوم، وذكر ما يسميه بعضهم المدرسة العبدية وصرح بأن المنار هو الذي
نشر هذه الفكرة الإصلاحية في تونس وأن أهلها هم المعتدلون الواقفون بين العوام
وزعمائهم من شيوخ الدرس والطريق الجامدين الذين لا يريدون تغيير شيء مما هم
عليه وبين المتفرنجين الذين انسلخوا من دينهم وعاداتهم اتباعًا لشهواتهم. وبمثل
هذا صرح لورد كرومر في تقريره الذي تكلم فيه عن وفاة الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده فقال: (إن تلاميذه وسط بين الجامدين الذين يبغضون المدنية والمتفرنجين
الفاسدين؛ لأنهم دعاة للمدنية والتأليف بين المسلمين وبين غيرهم مع المحافظة على
أصول دينهم، وقال: إنه يجب على جميع الأوربيين العطف عليهم ومساعدتهم) .
مرت السنون ولم نر لكلام الطان تأثيرًا بل إننا نعلم حق العلم أن حزب
المدرسة العبدية في تونس وشعارهم قراءة المنار يرون أنفسهم تحت مراقبة من
الحكومة الفرنسية، وأن أهل التعصب والجمود وأعداء المنار تؤيدهم فرنسة أم
الحرية؛ لأن زعماءهم منافقون تستعملهم الحكومة في غش عوام المسلمين، فلولا
مظاهرة الحكومة لما كان دجال تونس داعية الخرافات ودعي الخوارق والكرامات
يتجرأ على طبع قصيدة أخيه الدجال النبهاني في تكفير إمامي الإصلاح الإسلامي
في هذا العصر السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده وتكفير صاحب المنار أيضًا.
ولماذا يتكئ هذا الدجال على فرنسة وهي تعلم أن خرافات أمثاله هي التي تجعل
الشعب الإسلامي عرضة لقبول الفتن والثورات ومقاومة المدنية؟ السبب معروف
وقد ظهر بأجلى مظاهره في العام الماضي عندما قام هذا الدجال الخرافي يدعو
المسلمين إلى ترك الاعتصاب في حادثة الترام الشهيرة، فكان هو أول من ركب
ودعا المسلمين إلى الركوب في الترام، ولكن لا يليق بفرنسة أن تجعل هؤلاء
الدجالين من أنصارها وأحزابها وقد انقضى الزمن الذي يروج فيها دجلهم في مثل
تونس المستيقظة أو كاد.
إن دعاة المدنية من المسلمين كمريدي المدرسة العبدية يودون الاستعانة على
تعليم أمتهم بفضلاء الإخصائيين من الأوربيين، وقد رأت فرنسة في هذا العام أن
أهل بيروت - أرقى مدن سورية - قاموا يطلبون بقرار من جمعيتهم الإصلاحية أن
يكون في ولايتهم مستشارون ومفتشون من الأجانب، وعلمت فرنسة أن الرأي العام
في بيروت وسائر سورية يفضل كل دولة أوربية على فرنسة فيما يطلبه لبلاده من
مساعدة الأوربيين، وما سبب ذلك إلا إدارتها وسياستها في تونس والجزائر، ولولا
ذلك لفضلوا فرنسة على جميع الأوربيين؛ لأن معظم ما في بلادهم من المدارس
وأسباب العمران هو فرنسي، وقد تفضل ناظر خارجية فرنسة بمجاملة وفد المؤتمر
العربي السوري الذي انعقد في باريس ووعده بالمساعدة، فكان لهذه المجاملة وقع
حسن في سورية.
لأجل هذا كله أظن أن الزمان قد جعل صوت جريدة فرنسة الإسلامية مرجو
القبول عند كثير من أحرار هذه الأمة النجباء، وأنه ليس من المُحَالِ أن ينجح في
حمل الحكومة على سن نظام دستوري عادل لإدارة هذه الامبراطورية الإسلامية
الإفريقية، وسترى فرنسة - إن هي شرعت في ذلك - أن العالم الإسلامي في
سورية وسائر الأقطار يشكر لها عملها شكرًا تحمد أثره في سياستها وأعمالها
الاقتصادية، وتجد لها من سائر المسلمين أنصارًا لهم تأثير عظيم ويليق بمثلها أن
تعتمد عليهم، إن هذا الصوت الفرنسي الفصيح المنعكس عن مدينة باريس الزاهرة
قد تلاقى مع صوت مثله في أرقى مدينة إسلامية وهي مصر، ألا وهو صوت
المجلة الفرنسية المصرية التي أنشئت هنا حديثًا.
__________
(1) يريد بالمدرسة العبدية طريقة أستاذنا الشيخ محمد عبده في فهم الدين والعلم وشئون الاجتماع التي نشرها المنار.(16/612)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المجلة المصرية الفرنسية
ورأيها في المنار
يُصْدِرُ هذه المجلة المفيدة في القاهرة المسيو بول تريبيه مديرها، والمسيو
جاك لاويفر رئيس تحريرها، وقد ذكرت مجلة المنار في العدد الثاني وهذه ترجمة
ما قالته فيها:
أصدر الشيخ محمد رشيد رضا أول عدد من المنار منذ 15 عامًا فلم يمض
رَدَحٌ من الزمان حتى رفع مجلته إلى المكانة الرفيعة التي تشغلها بحق وسط العالم
الفكري الاجتماعي والعالم الديني الإسلامي بفضل الأفكار الحرة الإصلاحية التي لم
يفتر عن نثرها؛ وإذ كان الشيخ رشيد التلميذ المخلص الغيور لرجال الإصلاح مثل
الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فقد أخذ على نفسه أن ينشر أفكار
وعقيدة هؤلاء المصلحين العظام. وأن يدافع عنها بكل غيرة وحمية، مناضلاً بكل
حزم وعزم التقليد الضيق والخرافات العديدة والمحافظة على القديم المحفوفة
بالوساوس وكل هذه الأمور التي ساءت عاقبتها فأخرت ترقي الأمم الإسلامية
وتسلقها مرقاة التقدم.
أهم باب يشغل صفحات مجلة المنار، شأن كل المجلات الإسلامية، هو
المختص بالاجتهاد وبالتالي علم تطبيق الأحكام القرآنية، وهذا العلم عَسِر ومعقد إلا
أنه يصعب أو يتعذر الاستغناء عنه لأجل النجاح في إدخال طرق الإصلاح بين
قوم تمسكوا حرفيًّا بظاهر الآيات على أن كل الأعمال التي يقوم بها المصلحون
المسلمون بين الطبقات الإسلامية ذات المدنية واهتمامهم الدائم متوقفة على توضيح
وبيان أن أحد الإصلاحات ينطبق على الأوامر السماوية، أو أن إحدى العادات هي
من قبيل إساءة تأويل الأحكام القرآنية والسنن النبوية، وأنه ينبغي نبذها أو تغييرها
فتكون منطبقة على حقيقة الدين الإسلامي القويم، وبناء على ما تقدم إذا كان مسلمو
العالم اتفقوا على الميل إلى الحكومات الدستورية وتطلعوا إليها في هذه الأيام فما
ذلك إلا لأن نخبة العقلاء منهم استطاعوا إقناعهم بأن المبدأ الدستوري ليس غير
مناف للعقيدة القرآنية فقط، بل إن القرآن يأمر المسلمين بالشورى وتبادل الآراء
لأجل إدارة الأشغال والمصالح العامة كما يتضح من آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) على أن الشورى هي أساس المبدأ الدستوري، وعلى هذا
النمط يجري المصلحون في الأمور الأخرى، اهـ. ثم أشارت إلى ما جاء في
بعض أعداد المنار من المباحث، وهي أوربة والإسلام، وامبراطورية ألمانية
والإسلام، ومقالة ترجمت من النوفي فريمية الروسية فيما قاله إمبراطور ألمانيا أمام
المبشرين الكاثوليك الألمانيين في إفريقية.
__________(16/619)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاتفاق الإنكليزي التركي
على خليج فارس وشط العرب
نلخص هنا بعض آراء الجرائد الأوربية والعثمانية والمصرية في الاتفاق
ومطامع الدول:
جاء في رسالة لمندوب المقطم في الآستانة (نشرت في 20 جمادى الآخرة
و26 مايو) بعدما ذكر مواد الاتفاق ما نصه:
هذا هو أساس الاتفاق العثماني الإنكليزي وإلى القراء الآن بعض مطالب
فرنسا التي لم تر الجرائد الباريسية ضررًا من نشرها.
أولاً: أن تصدر الإرادة السنية بإنشاء مستشفيات فرنسوية على أساس اتفاق
سنة 1901 بين حكومتي الآستانة وباريس.
ثانيًا: أن يحافظ على شروط هذا الاتفاق في المستقبل.
ثالثًا: أن تعامل المكاتب الفرنسوية معاملة المكاتب العثمانية فيما يتعلق
بالشهادات وبالإعفاء من دفع الأموال الأميرية.
رابعًا: أن لا يسجن فرنسوي في المملكة العثمانية في غير سجون القنصليات.
خامسًا: أن يعترف بالتبعية الفرنسوية للتونسيين والمراكشيين.
سادسًا: أن يلجأ إلى التحكيم في بعض المسائل المختلف عليها بين الحكومة
العثمانية وفرنسا.
سابعًا: أن تعطى فرنسا امتيازًا بإنشاء فروع السكك الحديدية الآتية:
أولا: في أرمينية:
أ - خط سمسون سيواس.
ب - خربوط - ديار بكر.
ت - ديار بكر - أرضروم - طرابزون.
ثانيا: في سورية:
أ- مد سكة حديد الشام من رياق إلى جهات الجنوب.
ب - تقسيم نقل البضائع بين فرع سكة حديد الحجاز التي تبتدئ من حيفا
وسكة حديد الشام التي تبتدئ من بيروت، والعناية بحماية المصالح الفرنسوية وفتح
ميدان واسع لها لتنمو في تلك الأنحاء.
ثامنًا: أن تعطى فرنسا امتيازًا بإنشاء المرافئ التالية، وهي مرفأ أنابولي
وهركله على البحر الأسود وطرابلس وحيفا ويافا في سورية.
ويظهر أن ألمانيا لم تكتف بما لها من الامتيازات المهمة في سكة حديد بغداد
وغيرها في البلاد العثمانية فإنها تسعى الآن لنيل مطالب اقتصادية في فلسطين لم
أتمكن من معرفتها.
وأما روسية فلها آمال كبيرة في البلاد الأرمنية ستعلم في العاجل القريب، إن
لم تتنبه الوزارة العثمانية الحاضرة لسوء العاقبة، وتتدارك المسألة الأرمنية بالحكمة
والعزم والتساهل.
وعلى ذكر المسألة الأرمنية أقول: إن الحكومة لم تتمكن بعد من إنجاز وعدها
للمجلس الملي الأرمني فالحال في ولايات الأرمن تزيد سوءا يومًا فيومًا ولا يعلم
أحد ما سيقرره المجلس الملي في اجتماعه الآتي يوم الجمعة القادم. فإذا عجزت
الحكومة عن المحافظة على حياة الأرمن وأموالهم فلا بد من تفاقم الخطب واتخاذ
وسائل لا تؤمن مغبتها على الدولة فتتحمل الوزارة الحالية بتهاملها هذا تبعة كبيرة
ليس في أوربة أو أفريقية بل في الولايات الأناضولية، وفي قلب البلاد العثمانية.
* * *
الاتفاق وآراء الجرائد الإنكليزية
قال المقطم في 12 رجب ما نصه:
أرسل إلينا صديق لنا من إنكلترة قصاصات من المقالات التي أنشأتها بعض
الصحف الإنكليزية على أثر اتفاق الكويت عن احتمال التفاهم بين إنكلترا وألمانيا
واتفاقهما فآثرنا تلخيص ما ورد فيها لأهميته:
قالت جريدة الكومندايتور: دلتنا نتيجة المفاوضات التي دارت بين حكومتنا
وحكومة برلين على بعض المسائل المعقدة في الشرق الأدنى على أنه أيسر لنا أن
نسوي المسائل المهمة المختلف عليها بيننا وبين ألمانيا من أن نسوي بعض المسائل
القليلة الأهمية كمسألة مسقط مع صديقاتنا وتعني بذلك فرنسا.
وقالت جريدة الديلي كرونكل: ونحن نرجي الآن أن يعقد اتفاق بين إنكلترا
وألمانيا يكون متممًا للاتفاق الذي عقدناه مع الباب العالي إذ على هذا الاتفاق يتوقف
كل شيء عملناه إلى الآن، ولا يغنينا تعيين مديرين إنكليزيين في مجلس إدارة سكة
حديد بغداد ولا جعل البصرة منتهى سكة حديد بغداد فتيلاً من غير هذه الاتفاق.
أما المسألة الأولى من هاتين المسألتين فهي على شيء من الأهمية، ولكن
الثانية قليلة الأهمية جدًّا في اعتبارنا؛ لأن البصرة، وإن تكن مدينة داخلية، فهي
واقعة على نهر كبير يصلح للملاحة ولها طريق نافذ إلى خليج العجم.
وقالت جريدة منشستر غارديان: أما من جهة الكويت فإننا قد اعترفنا بسيادة
الدولة العلية عليها، ولكنا اتخذنا كل الحيطة لمنعها من إتيان أي عمل يشتم منه أن
لها أقل حق فيها. على أننا دفعنا ثمنًا باهظًا جدًّا مقابل هذه الاتفاق، وهو أننا وعدنا
الباب العالي بأن نسمح له بزيادة الرسوم الجمركية [1] .
نعم إن هذه الزيادة تتناول جميع الدول على السواء بلا فرق ولا تمييز ولكنها
ستكون سببًا في إضعاف التجارة الأوربية في السلطنة العثمانية وتقليل مقطوعيتها
ولا سيما التجارة الإنكليزية فإن خسارتها ستكون أكبر من خسارة كل تجارة سواها.
فهل كانت مسألة الكويت وخوفنا على خليج العجم مساويين لهذه الخسارة؟
وهل زيادة الرسوم الجمركية أفضل وسيلة لزيادة إيراد الخزينة العثمانية وتحسين
حالها؟ إننا نرتاب في ذلك كثيرًا.
وقالت الديلي جرافك: لا ندرك الحكمة من جعل البصرة نهاية لسكة حديد
بغداد بدلا من الكويت بعد تصريح الهرفون جاكو ناظر خارجية ألمانيا. فقد قال هذا
الناظر: إن ألمانيا لا توافق على هذا الإبدال إلا إذا جعل شط العرب صالحًا
للملاحة، ومفاد ذلك أن ألمانيا ستجد أمامها بابًا مفتوحًا يوصلها إلى خليج العجم كما
لو كانت في الكويت تمامًا ولكن من غير أن تنفق نفقات طائلة في تمديد الخط
الحديدي إلى هناك.
وهناك مسألة أخرى تفتقر إلى إيضاح وجلاء وهي أن ألمانيا أعيد إليها الحق
بمد سكة حديد بغداد إلى البصرة، وقد كانت تنازلت عنه سنة 1911 مقابل منحها
امتيازًا بمد فرع أو فروع من خط سكة بغداد الرئيسي غربًا إلى الإسكندرونة فهل
يفهم من الاتفاق الجديد أن هذا الامتياز قد نزع منها الآن أم هو باق بيدها؟ فإذا كان
باقيًا بيدها فتكون ألمانيا قد خرجت من المقارعة السياسية التي دارت على نهاية
سكة حديد بغداد غانمة غنيمة كبيرة، فإن ترسيخ قدمها في الإسكندرونة يعد ربحًا
كبيرًا في حد ذاته فكيف بها إذا وقد رسخت قدمها في الإسكندرونة والبصرة جميعًا
(ليتأمل العاقل) .
* * *
كلام جريدة الطان الفرنسية في الاتفاق
ترجمت جريدة الأهرام مقالة لجريدة الطان في موضوع الاتفاق، وخطبة
ناظر خارجية إنكلترة بينت فيه مقدماته ونتائجه ونكتفي ببيان حقيقة واحدة من
الحقائق التي استنتجتها منها،وهي:
السادس: أن الاتفاق بين إنكلترا وتركيا يعقبه اتفاق آخر بين إنكلترا وألمانيا،
وقد قال السير غراي في خطابه: إن بين ألمانيا وتركيا اتفاقات خصوصية بشأن
سكة بغداد، ونحن لا دَخْلَ لنا في تلك الاتفاقات الخصوصية، والآن نعقد نحن
اتفاقات مع تركيا لا دخل لألمانيا فيها، ولكن يجب أن نعلم أن هذه الاتفاقات لا
تمس الحقوق المخولة لها من تركيا، فالاتفاق المراد عقده بين إنكلترا وألمانيا يقصد
منه تسوية المسائل المختصة بسكة بغداد تسوية نهائية، قالت الطان، والسير
غراي صادق في قوله: فإنه متى تمت الاتفاقات الجديدة تسوى مسألة تلك السكة
نهائيًّا، وقد كنا منذ زمن طويل نتوقع هذه التسوية بسبب خطأ سياستها في السنين
السابقة، ولقد كانت فرنسا وإنكلترة في سنة 1909 اتفقتا على طلب امتياز خط
حديدي بين حمص وبغداد والبصرة غير أن معارضة المسيو بومبار في ذلك
المشروع أفضت إلى توقيف المفاوضات في سنة 1910 ثم أهمل المشروع إهمالاً
تامًّا ولا يمكن الآن إعادته إلى بساط البحث، ولا يحق لنا الآن أن نشكو من إنكلترا؛
لأنها حاولت تسوية تلك المسائل دون إشراكنا معها فقد أعرضنا في الماضي عن
الاشتراك معها فموقفنا الآن هو نتيجة خطأ سياستنا في الماضي، ولا أمل الآن في
أن يتمكن وزير الخارجية الفرنساوية من صون مصالح فرنسا في الأجزاء الآخرى
من السلطنة العثمانية. (تأمل واعتبر) .
الأهرام: هذا ما قالته الطان وقد تناولت صحف أوروبا كلها هذا الخطاب
فعقدت عليه الفصول الطويلة وأجمعت صحف إنكلترا على أن الاتفاق يملك إنكلترا
طريق الهند وهذا كافٍ.
* * *
الاتفاق ومغانم الإنكليز والألمان
مقالة افتتاحية للأهرام تصرفنا في عنوانها فقط وهذا نصها:
عرف من أخبار المصادر التي يوثق بها، ومن أقوال الصحف التي يعول
على أقوالها، بل من خطاب السير أدوارد جراي المنشور بين التلغرافات أن الباب
العالي رضي في الاتفاق الجديد بينه وبين إنكلترا أن يترك كل دعوى من دعاوي
السيادة على الكويت وقطر وجزر البحرين ومسقط وعمان، واعترف لإنكلترا
بالحق المطلق في إنارة الخليج الفارسي وخفارته، وحقَّق لها كل أمنية وكل مطلب
في شط العرب، وثبت حقوقها المختصة بالملاحة في دجلة والفرات، كل هذا
وغير هذا مما سبق نقله وبيانه وإيضاحه في هذه الجريدة.
تلك الأماني التي أدركتها إنكلترا وتلك الغنائم التي نالتها بدت عظيمة جدًّا
لأعين الدول الأخرى الكبرى صاحبات المرافق والمصالح في البلاد العثمانية.
ورأت تلك الدول أن الحكومة العثمانية نفسها فتحت الباب وأوسعت المجال للمطامع
والمطامح ومهدت السبيل لعرض المطالب والرغائب، رأت ذلك فإذا بالمطالب تكاد
تغمر الباب العالي؛ وإذا ببعض الدول تريد أن تأخذ من الباب العالي، ومن إنكلترا
أيضًا حصة أو تعويضًا.
أبدت ألمانيا في هذا المجال، وهي صديقة تركيا الصادقة المخلصة، أنها لا
تعرف للقناعة والاعتدال والاكتفاء معنى، وهي التي تطلب التعويض الكبير بملء
فيها، مع أنه إذا كانت إنكلترا في الاتفاق الجديد تأخذ من دولتنا كثيرًا فهي في الوقت
نفسه تعطي ألمانيا على حساب دولتنا ما هو أكثر وأوفر وأغلى قيمة وأعظم شأنًا.
قد يدهش القارئ إذ لم يسمع أن إنكلترا أعطت ألمانيا شيئًا ولكن من ينظر إلى
مضمون الاتفاق أو ما عرف منه حتى الآن يتبين له أن إنكلترا صدقت بصفة نهائية
على سكة حديد بغداد الألمانية وعدلت عن المعارضة والمقاومة والمعاكسة أو إقامة
العراقيل في سبيل ذلك المشروع الخطير، وهي بذلك التصديق على سكة بغداد
الألمانية قد أعطت ألمانيا ما لا تقدر قيمته ولا تحصَى فوائده، وهذه الحقيقة تنجلي
عند البحث في مشروع سكة بغداد.
فمساحة سكة بغداد الألمانية تقارب ثلاثة آلاف كيلو متر، تبدأ من حيدر باشا
على البوسفور وتنتهي عند البصرة على شط العرب ومن مراجعة عقد الامتياز الذي
نالته الشركة الألمانية والاتفاقين اللذين عقد أحدهما سنة 1908 والثاني سنة 1911
يتبين أن الشركة حصلت على الحق في مد الفروع الكثيرة أو الخطوط المتفرعة من
تلك السكة، ومن ذلك فرع بين حلب وأورفه وفرع بين بغداد وخانكين الواقعة
على حدود إيران وفرع يمد إلى مرعش وفرع إلى عينتاب وفرع إلى ماردين وفرع
إلى أربيل، وفروع أخرى تتكون منها الصلة بين السكة الأصلية والبحر المتوسط
وتنتهي عند نقطة واقعة بين مرسين وطرابلس الشام. وتلك الفروع هي التي تزيد
مساحة السكة الأصلية إلى ثلاثة آلاف كيلو متر، وتلك السكة وفروعها تتخلل
آسيا الصغرى وأعالي سوريا وما بين النهرين والعراق العربي وتجتاز من البلاد
العثمانية الجهات والأقاليم التي فيها مصادر الحياة والثروة والخير.
وليس ذلك كل ما نالته شركة سكة حديد بغداد الألمانية فإنها فوق ذلك حصلت
على حق إنشاء بعض المواني والمرافئ والأرصفة اللازمة لرسو السفن والمخازن
اللازمة لتخزين البضائع على تلك الأرصفة وفي بنود الاتفاق بينها وبين الباب
العالي أن الحكومة العثمانية تأذن لها بتسيير السفن في دجلة والفرات بحجة نقل
عمالها والقصد الظاهر من ذكر هذه الحجة أن لا تقلق إنكلترا على مصالحها في
دجلة والفرات، ولكن وراء هذه الحجة مقاصد كبيرة تضمرها ألمانيا.
وفوق ذلك كله يحق للشركة أن تستخرج المعادن على مدى عشرين كيلو مترًا
عن جانبي السكة وهي بذلك تحصل على كنوز لا يمكن تقدير قيمتها. ثم إنها يحق
لها أن تقطع من الغابات المجاورة للخط كل ما تحتاج إليه من الأخشاب، ويحق لها
أن تنشئ المخازن والفنادق ومعامل الكهرباء وغيرها عن جانبي الخط. ويحتمل
كثيرًا أن تنشئ المستعمرات الألمانية في كل جهة طيبة الهواء والماء خصبة
الأرض من الجهات التي تجتازها تلك الخطوط. ولقد كان مديرو الشركة كتبوا إلى
ناظر العثمانية كتابًا في سنة 1903 وعدوا فيه بأن لا يجلبوا النزلاء الأجانب أو لا
ينشئوا المستعمرات الألمانية في الجهات المجاورة للسكة، ولكن المارشال فون
درغولتز باشا صرح منذ عامين بأن السلطان السابق عبد الحميد كان آخر حكمه يود
أن يرى النزلاء الألمان يزدادون ويكثرون في آسيا الصغرى ورجال الحكومة
العثمانية الآن لا يقاومون ألمانيا من هذه الوجهة.
وبواسطة تلك السكة وفروعها وتلك الشروط وتلك الحقوق التي حصلت عليها
ألمانيا تستطيع نشر نفوذها وبسط يدها وإرساخ قدمها وإدراك مآربها الاستعمارية في
بلدان مترامية الأطراف أعيا بعضها الفاتحين وأعجز المغيرين في الأزمنة السالفة،
وكل ذلك دون أن تريق ألمانيا نقطة دم ألماني، وقد تأسست شركة سكة بغداد برأس
مال لا يزيد على مائة وخمسين ميلون فرنك ولم يدفع منه إلا قيمة النصف فقط،
ومع ذلك لم يفشل المشروع ولا رجعت ألمانيا القهقرى في هذا السبيل بل خدمها
حسن الحظ وحالفها النجاح وساعدتها إنكلترا نفسها على تحقيق أمانيها فماذا يكون يا
ترى بعد عشرين أو ثلاثين عامًا حين تتوطد قدم ألمانيا ويعظم نفوذها ويرسخ في
تلك البلدان الشاسعة الواسعة؟ ومهما عززت إنكلترا مركزها في الخليج الفارسي
فإن المنائر الإنكليزية في ذلك الخليج لا يمكن أن تكون قلاعًا منيعة أو حواجز متينة
تصد تيار المطامع الألمانية. فألمانيا قد حصلت على ما لم يحصل عليه غيرها
ومستقبلها يهدد مستقبل سواها.
فمن الغريب - وهذا حظها - أن تطلب الآن تعويضًا.
* * *
التنازل عن العراق
جاء في عدد السبت 2 رجب من المؤيد تحت هذا العنوان ما نصه:
كتب (مسلم) في أحد أعداد المؤيد الماضية مقالة قال فيها: كيف يتأثر القوم
لوقع المصاب وهم الذين تبرعوا بهذه العملية المؤلمة لسواهم، وهي علمية بتر هذه
البلاد الخليج الفارسي والعراق من جسم السلطنة العثمانية، وقد تمت هذه العملية
وجرائدهم ساكتة صامتة لا تبدي حراكًا كأن الحادث لا يستحق أن تراق فيها نقطة
من حبر على صفحات تلك الجرائد.
وأنا لم أكن يومئذ على رأي حضرة (المسلم) فيما قاله عن جرائد الآستانة؛
لأنني خدعت بما قرأته من المقالات الطوال في الاحتجاج على ضم النمسا جزيرة
(أطه قلعه) إلى أملاكها، وقد بلغ عويل صحف الآستانة في هذه المقالات درجة
استغربتها جريدة عزم التركية التي تصدر في الآستانة فقالت في عدد يوم 19 مايو:
لا ندري هل القيامة قامت؟ هل ذهبت البقية الباقية من أملاكنا في أوربا؟ هل
احتل الأعداء عاصمتنا؟ هل أخذت الخلافة من يدنا؟ هل رفعت سوريا لواء
الثورة؟ أم استولى الإنكليز على بغداد؟
لا لم يحصل شيء من هذا ولكن (أطه قلعه) ذهبت، وعليها تبكي الصحف
هي تبكي على أطه قلعه التي خرجت من يدنا منذ ربع قرن.
إلى هذا الحد بلغ اهتمام صحف الآستانة بحادث أطه قلعه ولذلك لم أر معقولاً
أن تسكت عن حادث الخليج الفارسي والعراق، فلما قرأت مقالة المسلم الفاضل
صرت أبحث فيما وصل إلينا من جرائد الآستانة هل هي تسكت حقيقة عما تم في
العراق، وإذا هي سكتت فهل تعتذر، وماذا عسى يكون عذرها؟
بقيت على هذه الحال إلى أن وصل مع البريد الأخير عدد 25 مايو من جريدة
وظيفة وهي الجريدة التي تتكلم بلسان العنصرية التركية وقد صارت في المدة
الأخيرة أكثر صحف الآستانة حرية وشجاعة؟ أو هي أقلهن تذبذبًا وتملقًا في هذا
الوقت الذي لم تبق فيه صحف معارضة هناك، فرأيتها تعتذر عن سكوتها بقولها:
إن المعاهدة الإنكليزية العثمانية التي عقدت بين صدرنا الأسبق حقي باشا
والسير آرثر نيكولسون مستشار ناظر خارجية إنكلترا لم يبلغنا خبرها إلا من
المصادر الأوربية؛ لأن الباب العالي لا يزال على ديدنه الغريب في كتم الأخبار
عن الأمة.
ولذلك لم تصل إلى يدنا أخبار صريحة عن هذا الأمر المتعلق بقطر عظيم من
أقطار الوطن العثماني وهي بلاد الجزيرة، وكل ما علمناه عن ذلك إنما قرأناه في
جريدة التيمس الإنكليزية.
هذا هو عذرها. أما مواد هذه المعاهدة بين جماعة الاتحاديين ودولة الإنكليز
فقد أوردتها تلك الجريدة التركية كما يأتي:
تحوي المعاهدة بيننا وبين الإنكليز أربعة أمور: اثنان منها في مصلحة
الإنكليز واثنان في مصلحتنا:
فأول الأمرين اللذين في مصلحة الإنكليز اعترافنا لهم بحق حماية مقاطعة
الكويت وتنازلنا عن السيادة التي لنا على شبه جزيرة قطر والبحرين، وهذان
القطران لم تحدد مناطقهما ولم تعين أراضيهما وإننا أعطينا الإنكليز وظيفة تقرير
الأمن في خليج البصرة، ووسَّطناهم في حل الاختلافات التي بيننا وبين أمير
المحمرة، واعترفنا لهم بحق حماية تلك المقاطعة.
وبالاختصار إننا اعترفنا لحكومة جلالة ملك الإنكليز وإمبراطور الهند بتنازلنا
له عن خليج البصرة وسواحله.
ذلك هو أحد الأمرين اللذين في مصلحة الإنكليز، وأما الأمر الثاني فيتعلق
بالسياحة وسير السفن على طول نهري الفرات ودجلة ومجرى شط العرب، وهو
مجمع البحرين، والاعتراف بكل ما حصل عليه الإنكليز من الحقوق والامتيازات
هناك. وأنت تؤلف لجنة لتنظيم وإدارة الأصاكل والمواني وتسيير السفن في
مجاري هذه الأنهر حيث تخترق داخلية البلاد وأن يشترك الإنكليز اشتراكًا جديدًا في
هذه اللجنة.
على أن هذا الأمر الثاني لا يزال مظلمًا بالنسبة إلى الأمر الأول، لا سيما
والإنكليز كانوا قد حاولوا فيما مضى أن يكون لهم حق احتكار تسيير السفن في
نهري الفرات ودجلة ومجرى شط العرب فقام أهل العراق وقعدوا لهذا الأمر،
وعارضوا في إتمامه أشد المعارضة حتى اضطروا مجلس (المبعوثان) إلى رفضه.
ولما قرأنا ما قرأناه في هذه الأيام من مواد المعاهدة العثمانية الإنكليزية تذكرنا مسألة
الاحتكار، ولذلك قصدنا الصدر الأعظم محمود شوكت باشا وسألناه عما إذا كان
اعترف للإنكليز بذلك فأجابنا بأن هذا الأمر بقي مسكوتًا عنه.
على أن هذا إذا صح يكون للإنكليز حق الأرجحية ومعنى ذلك أن على
الحكومات العثمانية أن تعضد في المستقبل النفوذ والسلطة الإنكليزية من مصب شط
العرب إلى منتهى سير السفن في نهري دجلة والفرات.
وصفوة القول أن الإنكليز قد تمكنوا أولا من بسط حكمهم إلى مصب شط
العرب وصاروا أصحاب النفوذ والقدرة على ما يلي ذلك من بلاد الإنجليز تلك هي
حصتهم.
أما حصتنا فهي أن الإنكليز كانوا يمانعون في إتمام ما وعدنا به الألمان من
تمديد سكة حديد بغداد إلى البصرة فأذنوا بذلك الآن بشرط أن يكون لهم عضوان في
مجلس إدارة شركة هذه السكة الحديدية وأن يكون للبضائع والتجارة الإنكليزية
نفس الامتيازات التي للبضائع والتجارة الألمانية تلك هي إحدى الفائدتين اللتين
استفدناهما من المعاهدة.
والفائدة الثانية التي حصلنا عليها من وزارة سن جيمس هي أن هذه الوزارة
وافقت على أن نزيد 4 في المائة على الرسم الجمركي [2] .
وهناك فائدة ثالثة للعثمانيين لم تذكر في نص المعاهدة وهي أن العثمانيين
اكتسبوا عطف السياسة الإنكليزية عليهم بصورة غير معينة أي أن الجفاء القديم قد
زال إلى زمان مؤقت وتلك فائدة أدبية لنا بدون شك.
وبعد أن أوردت هذه الجريدة التركية مواد المعاهدة الإنكليزية العثمانية علقت
عليها ما يأتي:
وإذا أردنا تحليل نتيجة هذه المعاهدة ودققنا النظر فيما كسبناه وخسرناه منها لا
نرى أن ذهاب قطر والبحرين والكويت وكل خليج البصرة من يدنا مما يستحق اللوم
والانتقاد؛ لأن مثل هذه المقاطعات تفيد دولة تريد أن تتوسع في قواها ولكنها على
عكس ذلك تضر بالدولة الضعيفة، ويعلم قراؤنا أننا على رأي القائلين بتكثيف
القوى العثمانية لا التوسع فيها، وسياسة التوسع في الملك والسلطة (انبرياليسم)
خارجة عن برنامجنا (يتكلم المحرر باسم حزب العنصرية التركية أي أن بقاء هذه
الأقطار البعيدة في حكم الدولة ضار بالدولة) لأننا مقتنعون بأنه لا يمكن الاطمئنان
على مستقبل الدولة بتوزع قواها بل بتقرب أجزائها، من أجل ذلك نحن لا ننتقد
أبدًا هذه السماحة التي أبداها حقي باشا.
أما عن الأمر الآخر فلا نقول الآن كلمتنا الأخيرة ما دام النص غير معلوم
عندنا، وقد ظهر لنا أن المفاوضات لا تزال غامضة من هذه الجهة ولكننا نقول من
الآن: ينبغي للذين تساهلوا بما وراء فنار الفاو أن لا يتسامحوا بما يليه، والذين
يفرون من الأمور الخشنة يجب عليهم أن يجتنبوا إحداث أمور خشنة، ولعل
السياسة العثمانية في لوندرة تظهر لنا مهارتها في هذا.
ونقول بشأن الأمرين اللذين هما في مصلحتنا: إن الأمر الأول وهو تمديد
سكة حديد بغداد إلى البصرة شيء كنا نتمناه من قبل لأنه يمدد لنا نفوذنا أيضا إلى
هناك، وإن دخولنا إلى الجزيرة بعد خروجنا من الروم إيلي شيء يسرنا جدًّا.
وبعكس ذلك مسألة الرسوم الجمركية فإننا نرى دولتنا تسلك فيها من القديم
مسلكًا مستقيمًا، ومحاولتها ضم 4 في المائة على الرسوم الجمركية تدل على خطئها
في فهم الأمور الاقتصادية العثمانية. لا نحتاج إلى النجاح في ضم 4 في المائة إلى
رسوم الجمرك بل نحتاج إلى تنظيم التعريفة وتأسيسها، أما ضم 4 في المائة فهو
من مصلحة أوربا وليست هل التي ستدفع هذا الفرق بل الذي سيدفعه هم العثمانيون
الذين سيشترون بضائع الأوربيين، وكان ينبغي لنا عندما أعطينا أصدقاءنا حق
الحكم على الخليج وأذنَّا لهم باحتلال الجزيرة أن نجعلهم يعترفون لنا بتنظيم التعريفة،
وحق عقد المعاهدات التجارية، وبذلك كنا نخدم ثروة بلادنا، أما الآن فلا نزال
في موقفنا القديم، وهو أننا كلما أردنا أن نحصل على التعريفة ندفع عليها ثمنًا
باهظًا كهذا، لا سيما ونحن متفقون مع دول المحالفة الثلاثية على ذلك، وكان بقي
علينا أن نتفق مع دول الاتفاق الثلاثي، وكانت هذه فرصة لنا فأضعناها.
وبعدُ، فإني لم أطلع على رأي لجريدة تركية في حادث الخليج الفارسي
والعراق غير هذه الجريدة، وهو كما يرى القارئ مؤيد لقول حضرة المسلم في
صحف الآستانة وأصحابها، ولله في خلقه شئون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ميم)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: اشترطت إنكلترا لهذا الوعد أن ترضى سائر الدول بمثله وألمانية تريد جعل الزيادة من ضمانة الخط الحديدي، وما أرى الجريدة إلا هازلة في قولها هذا.
(2) أي أن الفائدة الأولى للألمان والثانية مقيدة بشرط أن ترضى سائر الدول بذلك والثالثة التي سيذكرها وهمية.(16/620)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذهب الإباضية
في صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين
... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رحم الله أستاذنا وشيخنا السيد محمد رشيد رضا وأكرمه وأعانه ونصره، أما
بعد، فإني أريد أن أعرض من آثار المسلمين أجوبة على سؤالات السائل بالمنار
الأغر الصادر بتاريخ جمادى الأولى سنة 1331.
ولم أقصد بهذه الآثار التفاضل أو التشهير بالأصوب أو الأحرى، وإنما مجرد
عرض أقوال المسلمين أهل الدعوة على معرض أقوال غيرهم؛ ليكون المجال
أوسع للمستبصرين مع أني لم أكن معترضًا ولا منتقدًا ولا مدعيًّا بل إني كثير
الجهل قليل العلم.
الجواب على (س10) أن القصر في السفر رخصة من الله تعالى وتخفيف،
ودليلها من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء: 101) وأما السنة فقوله
عليه الصلاة والسلام للفاروق رضي الله عنه حين سأله عن قصر الصلاة فقال:
(صدقة من الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته) وقوله عليه السلام: (إن الله يحب
أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه) .
فالمفهوم من هذا أن صلاة السفر سنة لا يجوز تركها، وأما المسافة التي
يجوز فيها صلاة السفر ففرسخان، والدليل على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم
خرج ذات يوم ومعه أصحابه حتى إذا صار في ذي الحُلَيْفَة فصلى بهم ثم رجع
فسئل عن ذلك فقال: (أردت أن أعلمكم صلاة السفر أو قيل حد السفر) .
والفرسخ عند علماء أهل الدعوة - رحمهم الله - ثلاثة أميال والميل أربعة
آلاف ذراع.
ولا بد من المسافر أن ينوي سفرًا مسافة تجاوز فرسخين فصاعدًا وإن لم ينو
السفر وتعدى الفرسخين وتجاوز بيوت مصره أو بلده ووجبت الصلاة صلاها قصرًا.
وجائز للمسافر إذا حضرت الصلاة أن يصلي خلف الإمام المقيم أربعًا،
والمسافر يلزمه القصر، وإن في بلده، ما دام لم ينو الإقامة فيها، ولا ينكسر عليه
القصر حتى يصل السور في المنزل، وفي البيت إلى بابه وفي الخص إلى أوتاده،
والمقصود دخوله الوطن فعندها يصلي تمامًا صلاة الإقامة، وقد مضت السنة أن
يقصر المسافرون وإن أقاموا عشر سنين ما لم يتخذوها وطنًا، وقد بلغنا أن
عبد الله بن عمر أقام بأذربيجان سبعة عشر شهرًا يصلي قصرًا، والله أعلم.
ومن آثار المسلمين أن الرجل إذا تزوج امرأة مسافرة وهو مقيم أتمَّت معه،
وإن اشترى عبدًا مسافرًا أتم معه، وإن تزوج امرأة حاضرة لم يتم معها إذا كان
مسافرًا هو وهي في أعداد المقيمين، ولا تقصر معه حتى تتحول معه مكانًا يتعدى
الفرسخين، وإن اشترى عبدًا وهو مسافر وكان العبد مقيمًا كان في عداد المقيمين
حتى يتحول معه ويجاوز الفرسخين.
الجواب على (س13) : المستحب عند المسلمين اقتداءًا بأكابر الصحابة عمر
وعائشة وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة، وجهوا لها
(بسبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) . ثم بالاستعاذة
من الشيطان الرجيم قبل تكبيرة الإحرام أو بعدها كلا الفعلين جائز، وقراءة فاتحة
الكتاب بالبسملة خلف الإمام فقط، وأما فذًّا فقراءة الفاتحة وثلاث آيات من القرآن
على الأقل؛ لقوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) فصاعدًا، وفي
رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم (أمر أعرابيًّا أن يقرأ في الصلاة فاتحة
الكتاب وما تيسر من القرآن) ، وما روي أيضا من طريق آخر أنه قال عليه السلام:
(وشيئًا من القرآن معها) والله تعالى أعلم.
وأما التأمين بعد فاتحة الكتاب فلم يبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه فعله؛ لأنه لم يكن من القرآن، وإنما التأمين في الدعاء بعد أداء الصلاة
والخروج منها؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} (الشرح: 7) أي إذا
خرجت من الصلاة فانصب إلى الدعاء، والله أعلم.
(المنار)
يعني الكاتب بأهل الدعوة من المسلمين الإباضية أهل مذهبه، أما قوله: إن
القصر في السفر رخصة، ثم قوله: إنها سنة، فيوافق قول الشافعية وقد رجحنا في
التفسير وغير التفسير خلافه، وأنه واجب وتمام وعزيمة؛ ولذلك لم يتم النبي صلى
الله عليه وسلم الظهر والعصر والعشاء في سفر قط، وبه صرحت عائشة كما
ثبت في صحيح البخاري، وفي كتاب الجامع الصحيح للفراهيدي المعتمد عند
الإباضية، قال شارحه الشيخ عبيد الله بن حميد السالمي، وهو من أشهر علمائهم
في هذا العصر: وقد أخذ بظاهره أصحابنا والحنفية والهادوية فالقصر عندنا
واجب لا جائز فقط، وهو المروي عن عمر وعلي، ونسبه النووي إلى كثير
من أهل العلم، قال الخطابي: كان مذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار
على أن القصر هو الواجب في السفر. إلخ.
ثم أورد ما اعترض به على هذا القول وأجاب عنه، ومنه آية {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء: 101) قال: إنها نزلت في صلاة
الخوف لا السفر، وإن نفي الجناح لا يستلزم نفي الوجوب.
أقول: وهو الصواب الذي حققناه في التفسير من قبل، ومنه حديث عمر:
(صدقة من الله) إلخ، وأجاب عنه بأن كونه رخصة وتخفيفًا لا ينافي كونه تمامًا،
فإنما ذلك بالنظر إلى الأربع المفروضة في الحضر، وذكر حديثا مرفوعًا بغير سند:
الركعتان في السفر ليستا قصرًا إنما القصر واحدة عند الخوف وأجاب غيره عن
حديث عمر بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقبلوا صدقته) أمر بقبول القصر
وهو للوجوب، وأما ما ذكره في مسافة القصر فهو قريب مما بيناه في التفسير وفي
مجلدي المنار السابع والثالث عشر، وأنه صح (ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ)
والاحتياط الأخذ بالثلاثة فراسخ، وما ذكره من فروع المسألة لم يذكر له دليلاً.
وأما ما قاله في افتتاح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك فلم يصح فيه حديث
مرفوع كما قلنا، وأقوى ما ورد فيه أن عمر رفع صوته به؛ ليعلمه الناس فيقال:
لولا أنه سنة تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل.
وأما قوله في التأمين: إنه لم يبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجوابه أنه بلغ غيرهم، وقد صحت الرواية فيه عند أهل السنة والجماعة، ومن
حفظ حجة على من لم يحفظ، على أن الإباضية يوافقون الحنفية في هذا القول،
ومتى صحت السنة كانت حجة على كل مسلم.
__________(16/630)
الكاتب: مرجليوث
__________
إحراق الكتب الضارة والفرق بينها
جاءنا من العلامة المستشرق الإنكليزي الشهير صاحب الإمضاء ما نصه:
سيدي العلامة منشئ المنار:
بعد التحيات، فقد طالعت ما ورد في الصفحة (383) من المنار من
استصوابكم إحراق الكتب، فذكرني ذلك حكاية جاء بها ياقوت في الجزء السادس
من معجم الأدباء كما يأتي: حدثني محب الدين محمد بن النجار (المتوفى 643)
قال: حضر الوجيه النحوي (هو المبارك بن المبارك بن الدهان المتوفى 612)
بدار الكتب التي برباط المأمونية وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله
فجرى حديث المعري فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من
تصانيفه فغسلته، فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب
نقض القرآن، (يعني كتاب الفصول والغايات) ، فقال له: أخطأت في غسله،
فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه، واستشاط ابن هبة الله وقال: ما مثلك ينهى
عن مثل هذا؟ قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيرًا منه أو
دونه، فإن كان مثله أو خيرًا منه - وحاش أن يكون كذلك - فلا يجب أن يفرط في
مثله، وإن كان دونه - وذلك مما لا شك فيه - فتركه معجزة للقرآن فلا يجب
التفريط فيه، فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه ابن هبة الله على الحق وسكت اهـ،
وما كان أجدر بالمنار أن يفتي مثل فتوى ابن وجيه النحوي، والسلام.
لِسِتِّ بقين من رجب سنة 1331
... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... د. س: مرجليوث في أكسفورد
(المنار)
إنني أشكر للدكتور الفاضل انتقاده وما رأى المنار جديرًا به، وهو كما قال
فلو كنت مكان ابن وجيه لقلت مثل قوله، والفرق بعيد جدًّا بين الواقعة التي قال
فيها ابن وجيه كلمته والواقعة التي استحسن فيها المنار إحراق الكتب، فذلك كتاب
من آثار فيلسوف أديب لا تكاد توجد منه إلا تلك النسخة في دار الكتب، فالواجب
حفظها والضن بها حفظًا لنتائج الأفكار وآثار العلماء، وأما الكتب والرسائل التي
يوزعها دعاة النصرانية بين عوام المسلمين في البحرين والخليج الفارسي وسائر
البلاد فهي - على كونها مثارات فتن - كثيرة العدد، دائمة المدد، إذا أحرق بعض
الناس نسخًا منها لا يجنون على التاريخ ولا تفقد الأرض أثرًا صالحًا ولا فاسدًا،
وإنما تسد ذريعة الفتنة وتفرق الكلمة في بلاد ما اعتادت هذه المجادلات، وهذا أنا
ذا أملك كثيرًا من كتب النصارى القديمة والحديثة، ومن هذه الرسائل التي يطعن
مؤلفوها في الإسلام طعنًا يعتقد أكثرهم أو كلهم أنه متحامل ومشاغب ولو في
بعضه كما أظن، ولم أحرق في زمني شيئًا منها، ولو عثرت بكتاب من نوعها
فقدت نسخه أو قلَّتْ لحرصت عليه إذا كان له قيمة في موضوعه، وإن اعتقدت أن ما
فيه باطل، وقد اقترحت في السنة الأولى من المنار إحراق أكثر كتب علماء المسلمين
التي أعتقد أنها ضارة في أسلوبها وموضوعها، ومنها أكثر كتب التعليم في المعاهد
الدينية المشهورة، وأن يبقى من كل كتاب منها نسخة أو نسخ قليلة تحفظ في دور
الكتب ليطلع عليها الباحثون في تاريخ العلم وسيره، وإننا نرى الحكومات الحرة تمنع
كثيرًا من الكتب والرسائل والجرائد السياسية والمجونية والجدلية إذا كانت ترى في
نشرها ضررًا، وتصادر ما تضبطه منها كما نرى من إنكلترة في السودان وغير
السودان، فما ارتأيناه من هذا القبيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
__________(16/632)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح والاتفاق
بين الاتحاديين والعرب
قد عرف قراء المنار كافةً أنه كان من مقاصد زعماء جمعية الاتحاد والترقي
جعل الدولة العثمانية دولة تركية محضة تقلد فرنسة في سياستها وإدارتها، وكان من
وسائل هذا المقصد العظيم عندهم إضعاف ما عدا الترك من الشعوب القوية التي
تتألف منها هذه الدولة كالعرب والأرنؤوط، وكان من مسارعتهم في هذا أن جيشوا
الجيوش اللجبة على بلاد هذين الشعبين المخلصين لدولتهم، الراضين معها بسوء
حالهم، وفعلوا الأفاعيل الشنعاء في اليمن والكرك، وحوران وبلاد الأرنؤوط،
وعرف قراء المنار أيضًا أننا قد جهدنا حق الجهاد بالقول والسعي لمقاومة هذه
الأعمال الضارة، وصرحنا بأن تتريك العناصر بالسلطة والقوة أو بغير ذلك لم يعد
مما يدخل في حدود الإمكان، وأنه لو كان ممكنًا لعذرنا الاتحاديين على محاولته
سياسة لا دينًا؛ لأن الإسلام وهو دين الدولة الرسمي ودين جميع الترك فيها هو دين
عربي كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) وإن
إضاعة العربية إضاعة له.
وقد عرف القراء أيضًا أن الدولة قد خسرت الملايين من الدنانير والألوف
الكثيرة من الجند في تلك السبيل، وما كانت العاقبة إلا إضاعة الشعب الأرنؤوطي
الباسل بإخراجه من حضن الدولة الإسلامية، وتنبيه الشعب العربي الكريم إلى
الخطر الذي ينذره، وينذر الدولة سرعة الانحلال والزوال، من عالم السلطة
والاستقلال، وزاد في يقظته حادث طرابلس الغرب، فمثُل للعالم كله شدةُ ارتباطه
بهذه الدولة على إضاعة رجالها هذه المملكة العربية العظيمة بإخراج ما فيها من
العسكر والسلاح وإرساله إلى قتال إخوانهم في اليمن، ثم اشتدت اليقظة وعظم
الخوف من الخطر بما كان من انكسار دولتهم في حرب البلقان، فعلم عقلاؤهم
وأهل البصيرة منهم أن استمرار السكوت والسكون يفضي إلى إضاعة بلادهم
المباركة وبلادهم المقدسة، كما ضاعت طرابلس الغرب وألبانية ومكدونية، فهبوا
لمطالبة الدولة بالإصلاح الذي تقوى به الأمة بقوة كل عنصر من عناصرها وشعب
من شعوبها، على قاعدة اللامركزية الإدارية التي لا يُرْجَى ذلك بدونها، وقد قرؤوا
البراهين الكثيرة في المنار على ذلك.
قد اتفق ما عدا الاتحاديين من أهل الرأي والبصيرة من العثمانيين على أن
دولتهم لا يُرْجَى صلاحها ولا بقاؤها إلا بالإدارة اللامركزية، وقد ظهرت الدعوة
إلى أن ذلك من الترك قبل العرب، وقد قويت هذه الدعوة وانتشرت في المملكة
على عهد وزارة مختار باشا، ووزارة كامل باشا الأخيرة، ولم يكد الاتحاديون
يسقطون وزارة كامل باشا ويعودون إلى مقاعد الباب العالي حتى عادوا إلى شنشنتهم
الأولى في مقاومة كل حركة إصلاحية بالقوة القاهرة، وكان قد تأسس حزب
اللامركزية في مصر وانتشرت دعوته في البلاد العربية، وتأسست جمعية بيروت
الإصلاحية وتعارفت مع هذا الحزب، وقام على أثر ذلك نبهاء العرب الذين
يشتغلون في فرنسة بطلب العلوم والفنون والتجارة يطلبون عقد مؤتمر عربي في
باريس لبيان حقوق العرب في الدولة وطلب اللامركزية، وفوضوا أمر هذا المؤتمر
إلى حزب اللامركزية بمصر، وظهرت حركة الإصلاح في العراق بصورة مخيفة،
واتحد أهلها بحزب اللامركزية أيضًا، وامتد الشعور بهذه النهضة المباركة إلى
ضباط الجيش المحارب وغير المحارب وخافت الحكومة أن يؤيدوها.
بدأت وزارة شوكت باشا - رحمه الله وعفا عنه - بالضغط على جمعية
بيروت الإصلاحية فأقفلت ناديها وحبست بعض أعضائها وهددتها بالحكم العرفي،
فظهر لها ولجمعية الاتحاد أن هذه الشدة ما زادت أهل بيروت - وهم تحت ضغط
الحكومة العرفية - إلا اتحادًا وإصرارًا على ما قرروا طلبه من الإصلاح، وكذلك
فعل الاتحاديون في البصرة فأعقبتهم الشدة والتهديد كل حسرة، فماذا يمكن أن يقاوم
به من هم في البلاد الحرة كمصر وأوربة وأمريكة؟ حاولت حكومة الباب العالي
أن تمنع عقد المؤتمر في باريس بالرغبة إلى الحكومة الجمهورية في ذلك؛ فلم
تُجِبْ فرنسة طلبها هذا، فأوعزت إلى أنصار السلطة في سورية من رجال المال
والألقاب وبعض الكتاب أن يطعنوا برجال المؤتمر وطلاب الإصلاح، فلم يغن ذلك
من شيء، على أنه قد قام به كثيرون من أغنياء سورية كعبد الرحمن بك اليوسف
وفوزي باشا العظم، ومن كتابها كالأمير شكيب أرسلان والشيخ محيي الدين الخياط،
ومن أصحاب الجرائد كطه أفندي المدور صاحب جريدة الرأي العام، وعبد القادر
أفندي المغربي صاحب جريدة البرهان، وكذا جريدة الشعب المصرية التي يحررها
أحداث الحزب الوطني، وقد غلا هؤلاء كلهم في التشنيع على المصلحين، والقدح
في اللامركزيين، وصوروا للناس أن ضياع المملكة واستيلاء الأجانب عليها إنما
يكون بهذا الإصلاح الذي يطلبه المصلحون على قواعد اللامركزية الإدارية، وأن
بقاء الدولة وغيرها إنما يكون بتسليم إدارتها إلى فئة الاتحاديين في الآستانة، وما
يعقده مندوبوهم من الاتفاق مع الدول على بيع أراضيها وامتيازاتها ومنافعها وسائر
ما يُقَوِّى نفوذ الأجانب فيها.
بعد هذا كله ثابت الجمعية إلى رشدها ورأت الخير لها وللدولة في إجابة
المصلحين إلى إرضاء العرب والعاقل من استفاد من الحوادث واعتبر، وكان أعقل
شرفاء مكة الشريف علي حيدر مراقبًا لسير الحوادث، وله عند الاتحاديين المكانة
العالية، فلما رأى فرصة إصلاح البين سانحة سعى لها سعيها، وجمع بين طلعت
بك الزعيم الأكبر للجمعية في الحكومة وعبد الكريم أفندي قاسم الخليل رئيس
المنتدى الأدبي لأجل ذلك؛ إذ لا يوجد عربي في الآستانة يعرف من حركة النهضة
العربية الإصلاحية ما يعرفه عبد الكريم هذا؛ لأنه سافر في هذه السنة عدة مرات
بين الآستانة ومصر وسورية، وكان مندوب حزب اللامركزية إلى جمعية بيروت
الإصلاحية وغيرها من أفراد وجماعات طلاب الإصلاح، وله بالجميع صلة لم
تنقطع، فأوقف طلعت بك على مقاصد اللامركزيين وطلاب الإصلاح كافة، وعلى
هذا الأساس وضعوا للإصلاح إحدى عشرة قاعدة عهد إلى عبد الكريم أفندي السعي
لموافقة جميع طلاب الإصلاح عليها.
كتبت القواعد ووقع عليها طلعت بك بالنيابة عن جمعية الاتحاد والترقي،
وعبد الكريم أفندي عن جمعية الشبان العرب، وهي جمعية إصلاحية معظم أفرادها
من المتعلمين في مدارس الحكومة، وكان هذا التوقيع تمهيدًا لإقناع حزب
اللامركزية وجمعية الإصلاح البيروتية بالاتفاق، وهما ممثلان في المؤتمر العربي
بباريس، رجاء أن يقنع به سائر العرب بعد ذلك.
حمل صورة الاتفاق عبد الكريم أفندي إلى باريس واطلع عليه رئيس
المؤتمر السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي وغيره من الزعماء وبعد تنقيح
وزيادة فيها صرحوا بأنهم يرضون أن ترسل جمعية الاتحاد والترقي إليهم وفدًا من
ثقات رجالها للمذاكرة للاتفاق عليه، فعاد إلى الآستانة وبلغ، فندبت الجمعية مدحت
بك شكري والحاج عادل بك من ثقات رجالها ليكونوا وفدها إلى المؤتمر العربي
بباريس، فلما أزمعا الرحيل اعتلت صحة عادل بك فسافر مدحت شكري بك ومعه
عبد الكريم أفندي رسول الوفاق والسلام، وبعد المذاكرة والمناقشة تم الاتفاق
على القواعد الاثنتي عشرة الآتية على إبهامها، رجاء الاتفاق على التفصيل
بعد، واقترح زيادة 13 قاعدة عليها لإرضاء وفد بيروت موضوعها: أن يكون
نصف أعضاء المجلس العمومي في بيروت من المسلمين والنصف الآخر من
غيرهم؛ لأن هذا أكبر ما أرضى به مسلمو بيروت نصاراها وبنوا عليه أساس اتفاقهم
المحمود، فوعد مدحت شكري بك بالسعي لإقناع جمعيته بها، وعلى مسائل
أخرى سرية تتعلق بالأشخاص، وعاد إلى الآستانة على أن ينتظر مندوبو
حزب اللامركزية وجمعية بيروت الإصلاحية في باريس تصديق الحكومة
رسميًّا على القسم الجهري من الاتفاق، وطلبهم إلى الآستانة لأجل مباشرة
التنفيذ، وفي أثناء ذلك كانت الرسائل البرقية والبريدية متصلة بين الحزب في
مصر ومؤتمر باريس، وأرسل المؤتمر إلى الحزب صورة الاتفاق.
أبطأت الحكومة في التصديق على الاتفاق فساءت الظنون، ولما كانت أمثال
هذه الأمور لا تخفى في جملتها، وإن خفي بعض تفاصيلها، أذاعت شركة روتر
برقية قالت فيها: إن الحكومة وافقت العرب على ما يطلبون من الإصلاح رسميًّا
وسَيُعَيَّنُ الزهراوي رئيس المؤتمر شيخًا للإسلام، والشريف علي حيدر رئيسًا
لشورى الدولة، ففرحت القلوب وسارع رفيق بك العظم رئيس حزب اللامركزية
إلى نشر مواد الاتفاق ظنًّا منه أنه لم يبق مانع من نشرها، وقد قررتها حكومة
الباب العالي رسميًّا، وأرسل برقية شكر إلى الصدر الأعظم وعد فيها بأن يرسل
الحزب وفدًا إلى الآستانة لأداء الشكر للحكومة فيها، ولكن تبين بعد ذلك أن كل هذا
كان قبل أوانه، وأن برقية روتر كاذبة.
ساء الاتحاديين نشرُ صورة الاتفاق وحُقَّ لهم ذلك، وهاج عليهم أنصارهم
الذين طعنوا في المؤتمر وجميع طلاب الإصلاح لأجلهم، فلهذا السبب ولأسباب
أخرى كذبت جريدة طنين ما نشر في الآستانة وغيرها من خبر الاتفاق، ونشرت
جمعية الاتحاد بيانًا من مركزها العام فيما عزمت عليه الحكومة من الإصلاح في
الولايات العربية وغيرها، وزعمت أنها عزمت على ذلك من تلقاء نفسها، أي لا
إجابة لطلب أحد، وفي البلاغ تعريض بذم أناس مبهمين وصفوا بالفساد، فكان هذا
وذاك سببًا لإساءة الظن بالحكومة تبعًا لإساءة الظن بالجمعية، وسرى سوء الظن
إلى عبد الكريم أفندي.
وقد كنا عازمين على أن لا نكتب في هذا الموضوع شيئًا إلا بعد القرار
الرسمي من الحكومة والتعارف التام بين الطالبين والمطالبين، ولكننا اضطررنا إلى
هذا عسى أن يكون بيان الحقائق، من أسباب التعارف الصحيح والاتفاق الثابت،
فلنا أن نقول الآن ما نعلم ونرى فيه المصلحة؛ لأننا لا نزال معارضين ونرى أن
مطالبنا لم تُقْبَل، ولولا ذلك لجعلنا مقدمة الكلام على الاتفاق مرضية ولم نُشِرْ فيها
إلى الخطأ السابق، وللجمعية أن تقول ما تراه موافقًا لسياستها، وأن تكذب الاتفاق
وتعرض بعدم المبالاة بطلاب الإصلاح، لا عبرة بالأقوال وإنما العبرة بالعمل
والإخلاص، فمتى رأينا العمل الصالح من الحكومة، وشممنا منه رائحة الإخلاص،
نتناسى الماضي؛ لأن السياسة لا أضغان فيها، وطلاب الإصلاح لا يهمهم إلا
الإصلاح، وسنكف عن حملات المعارضة، وإن كانت بحق، إلى أن ينجلي الأمر،
وهذا نص الاتفاق الأول باللغة التركية:
اتحاد وترقي مركز عموميسيله الشبيبة العربية
هيئتي آره سنده منعقد
اتفاقنامه نك صورتيدر
مادة 1: بتون بلاد عربية تحصيل ابتدائي وإعدادي لسان عربيله تدريس
أولنه جغي كبي تحصيل عالي ها كثيريتك لسانيله أوله جقدر. وآنجق إعدادي
مكتبلرنده لسان عثماني تحصيلي مجبوري أوله جقدر.
مادة 2: بالجمله رؤساي مأمورين لغت عربية يه واقف أولملري شرط
أولوب مأمورين سائره ولا يتجه تعيين أولنه جفلر، آنجق إرادة سنية أيله تعيين
أولنه جق حكام ومأمورين عدليه مركز جه تعيين أولنه جقدر. ولاة مستثنا.
مادة 3: محلي جهات خيريه سنه صرفي مشروط أولان عقارات ومؤسسات
وقفيه شرطلري وجهله جماعات محلية مجالسنه ترك أولنه جقدر.
مادة 4: أمور نافعة إداره محليه يه ترك أولنه جقدر.
مادة 5: أفراد عسكرية زمان صلح وآسايشده خدمت عسكرية لربني بلاد
عربية داخلنده ملاصق قول أوردو منطقه لري دائرة سنده إيفا أيده جكلر. وآنجق
عسير، حجاز، يمن قطعة لرينه شمديلك سوقي ضروري أولان جنود همان
بالعموم ممالك عثمانية دن برنسبت داخلنده كوندريله جكدر.
مادة 6: ولايات مجالس عمومية سنك صلاحيت قانونيه لري داخلنده ويره
جكلري مقررات هرخالده نافذة أوله جقدر.
مادة 7: قابينه ده لا أقل أوج عرب بولنمس أساس اعتباريله قبول أيديله
جكي كبير دوائر مركزية دة مستشار وبا معان صفتيلر عيني عدد دة عرب ذوات
بولنديريله جق ومأمورين انجنلرينه شواري دولت دائرة مشيخت وسائر دوائر
مركزية مجالسنده أيكيشر أوجر أعضا بولند يرلمسي وهر نظارتده مختلف درجة
لرده لا أقل دررت بش مأمورينك بولنديرلمدسي أساس قبول أولنه جقدر.
مادة 8: حال حاضر ده لا أقل بش عرب والي وأوان متصرف بولندريله
جق وديكر رفقا سنه نسبتله وجه قانونيسى أوزره ترقي ايتدبر لمامش مأمورين
ملكيه وعدليه وعلميه مغدوريتلري رفع وإزالة أولنه جقدر. وفيما بعد مأمورينك
نصب وترفيع وتأديب وعزللري برقانون مخصوصله تعيين أولنه جقدر.
مادة 9: هرولايتدن لا أقل ايكي عرب ذات أعيان أعضالته تعيين أوله
ولايت قيدي قالقه جقدر.
مادة 10: هر ولايت شعبات اداره دن لزومي أولا نلرينه أجنبي متخصص
مفتشلر تعيين أولنه جق واومفتشلرك وظيفة وصلاحيتلري كنديلر ندن مطلوب
ومنتظر أولان فوائد انضباطيه وإصلاحية يي متكفل بر نظام مخصوصله تعيين
أولنه جقدر.
مادة 11: أداره سي ولايته ترك أولنان دوائرك بودحه سي حال حاضره ده
أولان آجيقلرين جق مقدار وارداتك ولايت بورجه سنة ضم وعلاوه سيله ومسقفات
وبكوسنك بوزده الليسي أمور معارفه صرف أولنمق أو زره ترك وتخصيص أوله
جقدر ... ... ... ... ... عبد الكريم الخليل ... طلعت
وهذه ترجمة ما صدق عليه المؤتمر، وهي التي نشرها رفيق بك العظم
رئيس الحزب في الجرائد.
* * *
صور الاتفاق
1- التعليم في جميع البلاد العربية يكون باللسان العربي في القسم الابتدائي
والإعدادي ويكون بلسان الأكثرية في القسم العالي في الأصل التركي: ولكن
تحصيل اللسان العثماني في المكاتب الإعدادية إجباري.
2- يشترط أن يكون جميع رؤساء المأمورين ما عدا الولاة عارفين اللغة
العربية، أما ما عداهم من المأمورين فيعينون في الولاية، وإنما يعين في العاصمة
القضاة ورؤساء العدلية الحقانية الذين ينصبون بإرادة سنية.
3- الأوقاف الموقوفة للجهات الخيرية المحلية تترك إدارتها لمجالس
الجماعات المحلية.
4- تترك الأمور النافعة (الأشغال) للإدارة المحلية.
5- العسكر يخدمون في البلاد القريبة منهم. في الأصل التركي: في مناطق
المعسكرات القريبة منهم، ولكن العسكر الذي يلزم إرساله إلى اليمن والحجاز أو
عسير يرسل ضمن نسبة عادلة من جميع المملكة العثمانية.
6- مقررات المجالس العمومية تكون نافذة على كل حال (في الأصل التركي
زيادة: فيما هو من صلاحيتها القانونية) .
7- يُقْبَل مبدئيًّا أن يكون في هيئة الوزارة ثلاثة على الأقل من أولاد العرب،
ومثل ذلك يؤخذ منهم عدد بصفة مستشار أو معاون في النظارات، ويؤخذ اثنان أو
ثلاثة في كل مجلس من مجالس شورى الدولة ومحكمة التمييز ودائرة المشيخة
وجميع الدوائر ويؤخذ أربعة أو خمسة على الأقل في مراكز أخرى مختلفة في كل
نظارة.
8- يعين خمسة ولاة على الأقل من أبناء العرب وعشرة متصرفين وتزال
مغدورية الذين لم يترقوا أسوة بأمثالهم من مأموري الملكية والعدلية والعلمية.
9- يعين في مجلس الأعيان عدد من أولاد العرب، بنسبة اثنين من كل ولاية.
10- يستخدم مفتشون اختصاصيون من الأجانب في الدوائر المقتضية في كل
ولاية وتعين وظائفهم وصلاحيتهم بنظام مخصوص.
11- يعطى مقدار لسد عجز (ميزانية) الدوائر التي تترك إدارتها للولايات
فيضاف هذا المقدار إلى ميزانية الولاية ويعطى غير ذلك نصف رسوم العقارات
على أن يصرف للمعارف.
12- يقبل مبدئيا أن تكون المعاملات الرسمية في البلاد العربية باللسان
العربي وينظر في أمر تنفيذه بالتدريج.
13- توسع سلطة المجالس العمومية ويكون نصف المجلس العمومي في
بيروت من المسلمين ونصفه من غير المسلمين.
__________(16/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم الأنباء والحوادث
الشقاق والقتال بين البلقانيين واستعادتنا لأدرنة:
الشعب البلغاري شعب وحشي شديد القسوة، وملكه فردينند قوي الطمع
والأثرة، فهذه الأخلاق قد أوقعت بين البلغاريين وحلفائهم الشقاق، فاتحدت
اليونان والصرب على البلغار، واستحر بينهم القتال. وافترصت رومانيا ذلك
فزحفت على أرض البلغار واقتطعت لنفسها ما تطمع فيه منها. فدارت الدائرة على
البلغار، ورأت دولتنا أنها أولى بانتهاز الفرصة فزحف جيشنا المرابط في شطالجه
على أدرنة مخترقًا الحد الذي حدده مؤتمر الصلح الدولي في لوندرة. فأنذرتها
إنكلترة عاقبة ذلك إن لم ترجع وتحترم معاهدة لوندرة، وإن لم يحترمها البلقانيون،
فكان هذا أول حظنا من مساعدة إنكلترة لنا في مقابلة ما بذله حقي باشا لها وهو
معظم ما تطمع فيه منا، ولكن الدولة لم تبال بالنذر؛ لعلمها أن دول أوربة لا تتفق
على مقاومتها بالقوة، ويبعد أن ينفرد أحد منها بعمل حربي في البلقان، وقد كان
هذا الانقلاب الأخير، بسعي عاهل الألمان، فرجحت بذلك كفة التحالف الثلاثي في
البلقان على كفة الاتفاق الثلاثي التي كانت هي الراجحة من قبل، ولله الأمر من
قبل ومن بعد، ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.
* * *
عرض الأراضي المدورة وغيرها للبيع:
قلنا من عدة أشهر: إن الاتحاديين إذا تمكنوا من السلطة يبيعون كل ما يمكن
بيعه للأجانب من أرض المملكة ومنافعها، وقد صدقت الأيام قولنا هذا كما صدقت
غيره، فقد عرضت الحكومة المركزية زهاء ستة ملايين فدان مصري من
الأراضي المدورة التي عمرها عبد الحميد وغيرها للبيع من الأجانب في ساعة
العسرة المالية التي لا يشتري أحد فيها أرضًا في البلاد العثمانية إلا أن تكون بعشر
معشار ما تستحقه من الثمن، وهذا أكبر خطر على الولايات العربية التي فيها معظم
هذه الأرض؛ ولذلك قامت قيامة الفلاحين وأصحاب الأملاك، لا السياسيين،
وطفقوا يكتبون المحاضر البرقية والبريدية يستغيثون بالحكومة أن تكف عن بيعها
للأجانب، وأن تقسمها وتبيعها للأهالي. وألف أهل البصرة جمعية للسعي في
مقاومة هذا البيع، وهم يجتهدون في تعميمها في البلاد فعسى أن تصغي الحكومة
إلى استغاثة الأمة، وأن تسلك في بيع هذه الأراضي للأهالي ما سلكته الحكومة
المصرية في بيع أراضي الدائرة السنية، وسنعود إلى هذا في الجزء الآتي إن شاء
الله تعالى.
__________(16/640)
رمضان - 1331هـ
سبتمبر - 1913م(16/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من البحرين
عن حكم الحج وترك الملوك والأمراء وبعض العلماء له
(س30 - 36) لصاحب الإمضاء بجزيرة البحرين:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة سيدي العلامة المصلح العليم مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف
الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير، أدام الله تعالى شريف وجوده
وسلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فالداعي لتحريره عرض مسألة عرضت
لنا في هذه الأيام، وهو أننا عشرة أشخاص نوينا هذه السنة التوجه لحج بيت الله
الحرام والتمتع بمشاهدة مهد الإسلام، وبهذه المناسبة صار بيننا جدال وكلام كثير
بخصوص الحج ومناسكه فالتجأنا إلى طلب الاستهداء من حضرتكم لإرشادنا إلى
السبيل الأقوم والصراط المستقيم، فعليه قدمنا هذا الكتاب مؤملين فيه الجواب من
حضرتكم على هذه الأسئلة وهي:
علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لنا الإسلام دينا وجعل هذا الدين مُقامًا
على خمسة أركان رئيسية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع
إليه سبيلا.
هذا هي الخمسة الأركان التي لا يكمل الإسلام إلا بها، وبفضل المنار المنير
وباقي كتب العلماء المصلحين الأفاضل قد فهمنا المقاصد والحكم من الصلوات
والزكاة والشهادتين والصيام كما قد فهمنا المقصد من الحج على الوجه العام، ولكن
اسمح لنا يا حضرة المفضال الحكيم أن نقول في الحج بعض أعمال لم نعرف
الحكمة منها فلذلك جئنا بهذا الكتاب نلتمس منك هدايتنا إلى ما جهلناه وهو:
1- ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود إذا عرفنا أنه حجر
لا يضر ولا ينفع ولا يخفى ما في ذلك من المظاهرة الوثنية؟
2- ما الحكمة في رمي الحجارة الجمار في القليب في مزدلفة؟
3- ما الحكمة في الهرولة بين المروتين؟
4- ما المقصد في ذبح الذبائح على كثرتها ودفن لحومها في منى، وفي ذلك
ما فيه من النتائج الوخيمة التي تصدر من تعفن اللحوم؛ إذ تنتشر الأوبئة منها،
ولماذا يمنع الناس من أكلها؟ وهل ذلك لازم، ومن المناسك التي لا يتم الحج إلا
بها على هذه الصورة. ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنويًّا
ثمنًا لهذه اللحوم؛ إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه فما قولكم لو صرفوا هذه
المبالغ على إصلاح آبار مكة وطرقها وتكاياها وتنظيفها وعلى كل ما يعود على
الحجاج بالراحة والصحة والسلامة.
5- لماذا أقاموا دون عرفة بِنَائَيْنِ عن اليمين والشمال تعرف بالعلمين؟ وكل
من لم يكن خلف هذين البِنَائَيْنِ ليس مقبول الحج مع أنه تكلف العشاء ووصل إلى ما
دونهما؟ ولماذا يكون من خلفها مقبول الحج، وهو في لهوه ولعبه، وممارسة ما
اعتاده في بلاده من الأعمال، ومن كان دونها غير مقبول، ولو كان على غير ذلك؟
وهل هذان البناءان حد فاصل بين الله والناس أو بين الجنة والنار.
6- نرى كثيرًا من علماء الأمة الإسلامية ومرشديها المصلحين منهم من عاش
ومات وهو لم يحج مع أنه ربما رحل في سنته مرتين أو ثلاثا إلى أوربا أو إلى
غيرها من البلاد ولم يذهب إلى مكة مع أنه كان الألزم والأوجب أن يقصد مكة
والحج كل موسم للنصح والإرشاد. فهذا ساكن الجنان الأستاذ الإمام والمرحوم السيد
عبد الرحمن الكواكبي وغيرهم عاشوا وماتوا وهم لم يروا مكة في وقت الحج.
وحضرتك أيضا كذلك، فما هي الأسباب يا ترى ونحن نعتقد أن امتناعكم جميعًا عن
الحج لا بد له من سبب فما هو ذلك السبب العظيم الذي يمنع رجال الإصلاح العظام
عن الحج المقدس.
7- وكذلك نرى أن جميع ملوك الإسلام وأمراءه وأغنياءه لا يحجون ولا نرى
الحجاج سواهم إلا من فقراء الهند والصين والروسيا وجاوا وبلاد العرب كمصر
وتونس وسوريا والعراق وغيرها. وهذا كثير من سلاطين آل عثمان الخلفاء
وأمراء البيت السلطاني وأعاظم الرجال من الوزراء والحكام والأغنياء المشار إليهم
بالبنان كلهم لا يحجون ولا يدور في خلد أحدهم أن يحج، فما هو السر في ذلك يا
ترى، وكم عجبنا لما سمعنا بحج أمير مصر قبل سنتين، وكثر تحدث الناس في
ذلك حتى تجرأ أحدهم فقال: إن المقصود من حج العزيز غرض سياسي ورحلة في
جهات الحجاز لا غيرُ، وليس له مقصد في الحج قطعًا.
هذا ما وجهناه لحضرتكم ملتمسين التنازل بمجاوبتنا عليه، ولك يا سيدنا
الخيار في المجاوبة أن تكون على صفحات المنار أو كتاب مخصوص، وإذ كانت
في المنار تكون أعم وأنفع، وإن أردت أن تجاوب على بعضها في المنار وبعضها
كتابة مخصوصة فالأمر إليك، ونحن قد اتكلنا بعد الله عليك، ولنا كبير الأمل أن
حضرتك تهدينا إلى سواء السبيل لا سيما وحجنا يتوقف على جوابكم؛ لأنه لا
يخفاك أننا نقصد الحج نطلب الأجر والغفران، لا الإثم والخسران، فأمط لنا - بما
أعطاك الله من سعة العلم - نقاب الباطل عن وجه الحقيقة أدامك الله سراجًا يهتدي
به مَن ضل عن محجة الصواب، والسلام عليك.
4 شعبان سنة 1331 إلى مصر. القاهرة
... ... ... ... ... ... ... ... من المخلص
... ... ... ... ... ... ... ناصر مبارك الخيري
... ... ... ... ... ... ... ... ... بالبحرين
أجوبة المنار
قد سبق لنا القول في مجلدات المنار السابقة عن حكم الحج جملة وتفصيلا،
والانتقاد على ملوك المسلمين وأمرائهم أنهم تركوا هذه الفريضة، وعذر الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى في تأخير هذه الفريضة إلى أن وافاه أمر ربه، وكون عذرنا
عين عذره.
وما نظن أن السائل وأصحابه الذين أشار إليهم قد علقوا حجهم على جواب
هذه الأسئلة، ولعله قال ذلك لنبادر إلى الجواب عنها، وها نحن أولاء نبادر إلى
ذلك، وإن كان لدينا كثير من الأسئلة مقدمة عليها في التاريخ.
* * *
حكمة تقبيل الحجر الأسود
ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى
والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل
قائليه من جهة وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى، ومن عرف معنى العبادة
يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة ولكن يعبدون الله تعالى
وحده باتباع ما شرعه فيهما، بل كان من تكريم الله تعالى لبيته أن صرف مشركي
العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل الإسلام عن عبادته،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ولم يعبدوه. ذلك أن عبادة الشيء عبارة
عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أو دفع الضرر
عنه، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه
السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود فيستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له بأن
يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة الذاتية، ولا يوجد
أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له، ولا أن
سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى، ولا كانت العرب في الجاهلية تعتقد
ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى} (الزمر: 3) ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) وإنما عقيدة
المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله،
قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن.
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله
عنه، وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أثر عمر كان العمدة في
هذا الباب للاتفاق على صحة سنده.
قال الطبري: إنما قال عمر ذلك أي أنه معلوم من الدين بالضرورة؛ لأن
الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر
الأسود من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يعلم
الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر يضر
وينفع بذاته. اهـ.
فإن قلت: روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال ذلك قال له
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنه يضر وينفع، وبين ذلك بأن الله لما أخذ
الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وأنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد)
فالجواب أن هذا الحديث باطل، انفرد بروايته عن أبي سعيد أبو هارون عمارة بن
جوين العبدي، وأهون ما قيل فيه: إنه ضعيف، وكذَّبه حماد بن زيد، وقال
يحيى بن معين: ضعيف لا يصدق في حديثه، وقال الجوزجاني: أبو هارون كذاب
مفتر، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديث، وقال شعبة:
كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم فرأيت عنده كتابًا فيه أشياء
منكرة في علي رضي الله عنه، فقلت ما هذا الكتاب؟ فقال: هذا الكتاب حق،
وقال شعبة أيضا: أتيت أبا هارون فقلت له: أخرج إلي ما سمعته من أبي
سعيد، فأخرج إلي كتابًا فإذا فيه: حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل في حفرته وأنه
لكافر بالله. فدفعت الكتاب في يده وقمت. وأقول: إن طعنه في كل من الصهرين
الكريمين يفسر لنا قول الدارقطني فيه: يتلون خارجي وشيعي.
والذي يظهر لي من كلامهم هذا أنه كان منافقًا. فإن قيل يقوي حديثه هذا
حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وغيرهما. قلت: ليس في حديث ابن عباس
أنه ينفع ويضر وإنما فيه أنه يشهد لمن استلمه بحق، فإذا صحت هذه الشهادة مهما
كانت كيفيتها في عالم الغيب فهي لا تدل على أن الحجر الأسود يملك لأحد من
الناس ضرًّا أو نفعًا هو مختار فيه، ولا يطلب أحد من المسلمين منه هذه الشهادة
بألسنتهم ولا قلوبهم فيقال: إن طلبه عادة، وشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة
أصح من شهادة الحجر وليست معبودة بهذا المعنى.
بقي أن يقال: إذا كان الحجر لا ينفع ولا يضر كما قال عمر في الموسم
تعليمًا للناس وأقره بعض الصحابة عليه. وكان استلامه وتقبيله لمحض الطاعة
والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتبع في سائر العبادات، فما هي
حكمة جعل ما ذكر من العبادة؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه
وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين واستمالة لهم إلى
التوحيد؟
والجواب: أن الحجر ليس من آثار الشرك ولا من وضع المشركين، وإنما
هو من وضع إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، جعله في بيت الله
ليكون مبدأ للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها فيكون الطواف بنظام لا
يضطرب فيه الطائفون.
وبهذا صار من شعائر الله يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها
بيتًا لله تعالى، وإن كانت مبنية بالحجارة، فالعبرة بروح العبادة: النية والقصد،
وبصورتها الامتثال لأمر الشارع، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان، ولهذا لا
تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره
من الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية.
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية بغير قصد العبادة معروف في جميع
الأمم لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون، وأشد الناس عناية به
الإفرنج فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة
ونصبوا لهم التماثيل الجميلة، وهم لا يعبدون شيئا منها، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به
كل قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم
الحجر الأسود فزعم أنه من آثار الوثنية، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني
لأقدم إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من
تاريخهم وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي جمع على تعظيمه مع المسلمين
اليهود والنصارى؟
وبقي من حكمة استلام الحجر وتقبيله ما اعتمده الصوفية فيها أخذًا مما ورد
في بعض الأحاديث الضعيفة كحديث علي السابق، وحديث ابن عباس: (الحجر
الأسود يمين الله في أرضه) رواه الطبراني وهو أنه رمز لمبايعة الله تعالى، فكأن
الحجر يمين الله تعالى ومُسْتَلِمه مبايع له على توحيده والإخلاص له واتباع دينه
الحق، والأعمال الرمزية معروفة في جميع الأديان السابقة، وقال المهلب: حديث
عمر يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ
الله أن تكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختبارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع
الله، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم. اهـ. وليس مراد من
قال: إنه يمين الله أن لله جارحة، وإنما أراد ما ذكرنا، والعمدة في رد هذا القول
عدم صحة الحديث فيه، فإن صح وجب قبوله ومعناه ظاهر.
قال الخطابي: معنى كونه يمين الله في الأرض أن من صافحه لمن يريد
موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحب الطبري: إن كل ملك
إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه، فلما كان الحاج أول ما يقدم سن له تقبيله نزل منزلة
يمين الله، {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) . اهـ.
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم
لتغالوا في ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض، ولوضعوه في
أشرف مكان من هياكل التحف والآثار القديمة، ولحج وفودهم إلى رؤيته وتمنى
الملايين منهم لو تيسر لهم لمسه واستلامه، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه
من وضع إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار
الملوك أو الصناع.
هذا، وإن من مقاصد الحج النافعة: تذكر نشأة الإسلام دين التوحيد والفطرة
في أقدم معابده، وإحياء شعائر إبراهيم التي طمستها وشوهتها الجاهلية بوثنيتها
فطهرها الله ببعثة ولده محمد الذي استجاب الله به دعوته: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة: 129)
عليهما الصلاة والسلام.
روى أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع،
(كمنبر واسمه) يزيد الأنصاري ونحن بعرفة، في مكان يباعده عمرو عن الإمام [1]
فقال أما إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم: (قفوا على
مشاعركم فإنكم على إرث من أبيكم إبراهيم) هذا سياق أبي داود وقد سكت عليه.
وقال الترمذي: حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث
ابن عيينة عن عمرو بن دينار.
وجملة القول أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم وقد أبطل الإسلام كل ما
ابتدعته الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها كطوافهم بالبيت عراة، وإن الكعبة
من بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع
المتواتر بينهم وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم بل والبعيدة عنهم كالهنود،
ومن الثابت أيضا أنهم لما جددوا بناءها أبقوا الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم
وإنما اقتصروا من جهة الركنين الشاميين، ولذلك ورد استلام الركنين اليمانيين دون
غيرهما، ويقال لأحدهما الركن الأسود؛ لأن فيه الحجر الأسود وللآخر اليماني فإذا
ثنوهما قالوا اليمانيين تغليبًا كما يقولون في تثنية الركن الشامي والركن العراقي
الشاميين.
ولما كانت الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم
باليقين أنه من وضع إبراهيم إلا الحجر الأسود لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف
كان هو الأثر الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك
بوضعها وموضعها وسائر خصائصها، زادها الله حفظًا وشرفًا. وقد علم بهذا أن
الحجر له مزية تاريخية دينية، وإن كان الأصل في وضعه بلون مخالف للون البناء
اهتداء للناس بسهولة إلى جعله مبدأً للطواف، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول: إن لله
تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر،
فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام
والمشعر الحرام وشهر رمضان والأشهر الحرم، ومبنى العبادات على الاتباع لا
على الرأي.
* * *
حكمة رمي الجمار
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج أعني
بها مما تَعَبَّدَنا الله تعالى بها لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال سواء عرفنا سبب كل
عمل منها وحكمته أم لا، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام
الموحدين المخلصين، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى، وإن لاستحضار
ذلك لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به، والثقة بأنه دين الله
الخالص الذي لا يقبل غيره، فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها
لا يضرنا ذلك، ولا يثنينا عن إقامتها كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب
من عدة أجزاء، وجهلنا سبب كون بعضها أكثر من بعض، فإن ذلك لا يثنينا
عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به، ولا يدعونا إلى التوقف وترك استعماله إلى
أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء ومقاديرها.
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة أن هذه المواضع التي
تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام فشرع لنا أن نقف
عند كل واحدة منها نكبر الله سبع تكبيرات ترمى عند كل تكبيرة حصاة صغيرة بين
أصابعنا نعد بها التكبير، والعدد بالحصى - ومثله النوى في مثل الحجاز - من
الأمور المعهودة عند الذين يعيشون عيشة السذاجة، فنجمع بهذا الذكر بهذه الكيفية
بين إحياء سنة إبراهيم الذي أقام الدين الحق في هذه المعاهد وبين التعبد لله تعالى
بكيفية لا حظ للنفس ولا محل للهوى فيها، وللعبادة منها شعائر يجتمع لها الناس
وتقصد الأمة بعملها إظهار الدين والاجتماع والتآلف على عبادة الله تعالى، وكل
أعمال الحج من هذا القبيل، ومنها ما يقصد به تربية كل فرد نفسه وتزكيتها فقط
كالتهجد، وذكر الله في الخلوة، فلا يقال: إن الذكر والتكبير لا يختص بذلك الزمان
والمكان؛ لأن هذا القول لا يصح إلا في غير الشعائر؛ إذ الشعائر لا بد فيها من
التخصيص والتوقيت لأجل جمع الناس عليها بنظام كالأذان وصلاة الجماعة
والجمعة والعيدين.
أما كون رمي الجمار شرع لذكر الله تعالى فسيأتي حديث عائشة المصرح به
في جواب السؤال التالي، وأما سبب وقوف إبراهيم في تلك المعاهد لذكر الله
وتكبيره وعده بالحصى فلا يضرنا جهله، ويكفينا أن نقتدي به في هذه الشعيرة
كشعيرة الطواف وغيرها من المناسك.
وورد في بعض الأحاديث الضعيفة السند: أن إبليس عرض له هنالك أي
يوسوس له ويشغله عن أداء المناسك فكان يرميه كل مرة فيخنس ثم يعود. روى
الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس (لما أتى خليل الله المناسك عرض له
الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له
عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض) ثم ذكر الجمرة
الثالثة كذلك.
وروي عن محمد بن إسحاق قال: (لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء
البيت الحرام جاء جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعًا) ثم ساق الحديث
وفيه: (أنه لما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة فقال له
جبريل: كبر وارمه سبع حصيات، فرماه فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة
الوسطى فقال له جبريل: كبر وارمه فرماه إبراهيم سبع حصيات، ثم برز له عند
الجمرة السفلى فقال له جبريل: كبر وارمه، فرماه سبع حصيات مثل حصى
الخذف، فغاب عنه إبليس، ثم مضى إبراهيم في حجه) الحديث.
وليس تمثل الشيطان للأنبياء ولا ظهوره لهم بغريب في قصصهم ففي الإنجيل
المعتمد عند النصارى أنه ظهر للمسيح عليه السلام وجربه تجارب طويلة.
فإذا صح أن إبليس عرض لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في أثناء أداء
مناسكه بظهور ذاته أو مثاله، أو بمجرد التصدي للوسوسة والشغل عن ذكر الله
تعالى فلا غرابة في قذفه ورجمه كما يطرد الكلب، فمن المعروف في الأخلاق
والطباع أن يأتي الإنسان بعمل عضوي يظهر به كراهته لما يعرض له حتى من
الخواطر القبيحة ودفعه عنه وبراءته منه، فأخذ الحصيات ورميها مع تكبير الله
تعالى من هذا القبيل، وإن حركة اليد المشيرة إلى البعد لتفيد في دفع الخواطر
الشاغلة للقلب.. والرجم بالحجارة بقصد الدلالة على السخط والتبري أو الإهانة
معهود من الناس، وله شواهد عند الأمم كرجم بني إسرائيل مع يشوع (النبي
يوشع عليه السلام) لمجان بن زراح وأهله وماله من ناطق وصامت (كما في7: 24
و25) من سفر يشوع، وكرجم النصارى لشجرة التين التي لعنها المسيح، ورجم
العرب في الجاهلية لقبر أبي رغال في المغمس بين مكة والطائف؛ لأنه كان يقود
جيش أبرهة الحبشي إلى مكة لأجل هدم الكعبة حرسها الله تعالى.
والعمدة في رمي الجمار ما تقدم من قصد التعبد لله تعالى وحده، بما لا حظ
للنفس فيه اتباعًا لإبراهيم أقدم رسل الله الذين بقيت آثارهم في الأرض، ومحمد
خاتم رسل الله ومكمل دينه ومتممه الذي حفظ دينه كله في الأرض، صلى الله
عليهم أجمعين.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من الإحياء: وأما
رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد
الامتثال، من غير حظ للعقل والنفس في ذلك؛ ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه
السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه
شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأما أنا فليس يعرض لي
الشيطان، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك
في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به؟
فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي، فبذلك ترغم أنف الشيطان.
واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه
الشيطان وتقصم به ظهره، إذا لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه
وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر، من غير حظ للنفس والعقل فيه اهـ.
* * *
حكمة الرَّمَل في الطواف والسعي بين الصفا والمروة
الطواف بالكعبة المعظمة والرمي والسعي بين الصفا والمروة من مناسك
الحج وشعائر الإسلام، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وروي أن هاجر
رضي الله تعالى عنها كانت تسعى بينهما والِهَةً حَيْرَى عند حاجتها إلى الماء زمن
ولادتها إسماعيل حتى هداها الله تعالى إلى بئر زمزم.
والعمدة في هذه العبادة ما ذكرناه في الكلام على رمي الجمار من إقامة ذكر الله
تعالى في هذه المعاهد التي هي أقدم معاهد التوحيد المعروفة في الأرض وإحياء
سنن المرسلين فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت
وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) رواه أبو داود والترمذي وقال:
حسن صحيح من حديث عائشة. وأذكاره معروفة في المناسك.
وأما الرَّمَل فيه فهو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة ومعناه سرعة في
المشي مع تقارب الخطوات من غير عَدْو ولا وثب، ويسمى الخَبَب أيضا فهو دون
العَدْو وفوق المشي المعتاد، فإن زادت السرعة كان عَدْوًا.
أما سبب الرَّمَل في الطواف والسعي بهمة ونشاط بين الصفا والمروة فهو كما
يؤخذ من عدة أحاديثَ إظهارُ قوة المسلمين للمشركين، وكان قد علم النبي صلى
الله عليه وسلم أن المشركين قالوا عام الحديبية في المؤمنين: قد أوهنتهم حمى
يثرب، وروى في الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة لعمرة
القضاء قال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من
الهزال؛ لذلك أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في ثلاث طوفات
ويمشوا في أربع من الأشواط السبعة من طواف القدوم فقط.
وكان خطر لعمر بن الخطاب أن يتركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله
لسبب عارض، ثم بدا له فمضى عليه؛ لأنه علم أن المحافظة على ما فعله النبي
صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه كالمحافظة على ما كان فعله جده إبراهيم صلى الله
عليه وسلم إن لم تكن أولى، روى أبو داود وابن ماجه عنه أنه قال: فيم الرملان
اليوم والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام (أي: وطأه وأحكمه) ونفى الكفر
وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأصله في البخاري بلفظ: فما لنا والرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم
الله، ثم قال: هو شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه.
وقوله: (راءينا) مشاركة من الرؤية أي أريناهم قوتنا وأننا لا نعجز عن
مقاومتهم، وقيل: هو من الرياء بمعنى إراءة ما هو غير الواقع أي أريناهم من
الضعف قوة. والرياء مذموم؛ لأنه خداع؛ والخداع جائز في الحرب، وهذا من
قبيل الحرب.
وقوله في الرواية الأولى: والكشف عن المناكب: معناه الاضطباع وهو أن
يؤخذ الرداء من تحت إبط اليد اليمنى فيلقى على كتف اليسرى فتظهر المناكب،
وحكمته عين حكمة الرمل، وقيل: إنما هو لأجل التمكن منه.
وقد ورد في الصحيح: أن المشركين قالوا عندما رأوا النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه يرملون مضطبعين: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم أجلد
من كذا وكذا. وفي رواية أجلد منا.
فعلم من هذا أن الرمل أو الهرولة كما قال السائل إنما شرعت في الطواف
لسبب، وإنما نحافظ عليه لتمثيل حال سلفنا الصالحين: رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه رضي الله عنهم اتباعًا وتذكر لنشأة الإسلام الأولى في عهدهم، وهل
توجد أمة من الأمم غيرنا تعرف من نشأة دينها هذه الدقائق بيقين؟ لا لا، فالحمد لله
رب العالمين.
* * *
حكمة ذبح النسك ودفن لحومها في منى
حكمة ذبائح الهدي والأضاحي معروفة لا يجهلها عامة المسلمين، وهي طاعة
الله تعالى وتقواه، وإظهار نعمته بتوسعة المسلمين على أنفسهم وعلى الفقراء
والمساكين في أيام العيد التي هي أيام ضيافة الله للمؤمنين، وهي من مناسك الحج؛
لأنها إحياء لسنة إبراهيم وتذكر لنعمة الله عليه وعلى الناس بفداء ولده إسماعيل من
الذبح الذي ابتلاه الله واختبره به؛ لتظهر قوة إيمانه بالله تعالى وإيثاره لرضاه.
ونعمة الله بذلك على الناس كافة إنما هي من حيث إن إسماعيل هو جد محمد صلى
الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى خاتمًا لرسله وهاديًا للناس كافة.
قال تعالى في البدن التي تنحر للنسك في: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (الحج: 36) وقال في ذبائح النسك عامة: {لَن يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم} (الحج: 37) الآية.
وأما دفن لحومها في هذه الأزمنة، التي كثرت فيها الحجاج وقلت معرفتهم
ومعرفة حكامهم بأحكام الدين وحكمه، فليس من الدين في شيء، وإنما هو من
الجهل بأمر الدين والدنيا. ولو كان للحجاز حكومة عاقلة رشيدة لعرفت كيف تحفظ
ما زاد عن حاجة الناس من تلك اللحوم بجعل بعضها قديدًا، وبعضها مقليًّا من النوع
الذي يقال له (قاورمه) ولأفاضت منها على فقراء الحرم طول سنتهم، وها نحن
أولاء نرى الأمم العالمة التي تعرف كيف تستفيد من جميع نعم الله تعالى تنقل اللحم
الغريض والسمك الطري من قطر إلى قطر، حتى إن الغنم تذبح في استرالية ويباع
لحمها في مصر من شمالي إفريقية وفي شمال أوربة أيضا، ونحن قد جعلنا حسنات
ديننا سيئات بسوء تصرفنا، فصرنا حجة عليه في نظر الأمم كلها، وهو حجة
علينا عند الله تعالى.
وإذا جاز أن تترك هذه الذبائح وينفق ثمنها فيما ذكر السائل فمن يضمن أن
يقوم الناس بذلك؟ كلا إن هذا شعار لا يقوم غيره مقامه، ولو كان للمسلمين من
الاهتمام بعمران الحرمين وخدمة الحجاج ما أشار إليه لما توقف قيامهم به على
تركهم لهذا النوع من النسك؟
فإن كان في الأنعام التي تذبح هنالك ما يضر لحمه الآكلين، وعرف ذلك
بشهادة الأطباء والعارفين، فالواجب على الحكومة أن تمنع دخول هذا النوع الضار
حتى لا يسوق الناس إلى الحرم من الغنم وغيرها من النعم إلا كل صحيح لا يخشى
منه ضرر.
* * *
العَلَمَان وحكمة حدود عرفة
إذا كان من أركان الحج الوقوف بعرفة وجب أن يكون لعرفة حدود معينة،
وإلا بطل معنى فرضية الوقوف فيها، وهكذا كل عبادة اعتبر في فرضيتها مكان أو
زمان كالطواف والسعي بين الصفا والمروة وصيام رمضان وكون الصيام من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس، لا تحصل العبادة لمن خرج عن الحد المكاني أو
الزماني، وأما مسألة القبول فهي شيء آخر: ما كل من أتى بأعمال العبادة الظاهرة
نجزم بأن عمله مقبول عند الله تعالى، إذ يجوز أن يكون مرائيًا بعمله غير مخلص
فيه، وإنما يتقبل الله من المتقين المخلصين، ولكن المخلص إذا لم يأت بالعمل الذي
فرضه الله تعالى كما فرضه تعالى بحدوده من زمان ومكان، فلا مجال للقول بأن
عمله مقبول؛ لأن العمل لم يوجد، فمن سعى إلى الحج ولم يدرك الوقوف بعرفة
وراء العَلَمَين اللَّذيْن هما أول حد عرفة لم يدرك الحج حتى يبحث في قبول حجه
وعدم قبوله، ومثله مثل من سعى إلى صلاة الجمعة ولم يدرك ركعة منها مع الإمام
لا يقال: إن جمعته مقبولة أو غير مقبولة؛ لأنه لا جمعة له، وإن سعى إليها من
أول النهار مخلصًا لله في ذلك، ولكن الله لا يضيع أجر من سعى إلى الحج أو
الجمعة أو غيرهما من العبادات مع الإخلاص فيثيبه على ذلك وإن لم يسقط عنه
الفرض، وكان لا بد في الجمعة من صلاة الظهر في الحج من أدائه تامًّا في ميقاته.
وقد علم مما ذكرنا أن العَلَمَين حدٌّ لعرفة لا حَدٌّ بين الله والناس، ولا بين الجنة
والنار.
* * *
ترك بعض العلماء لفريضة الحج
الحج فرض على من استطاع إليه سبيلاً، وهو على التراخي لا الفور إذا
وُجِدَ العذرُ، والخلاف في المسألة مشهور، ولم يحج رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا في آخر سنة من عمره، ولكنه اعتمر قبل ذلك. ومن ترك الحج وهو
يستطيع السبيل إليه حتى مات، مات عاصيًا لله تعالى. ولا يقتدى به ولا يعد تركه
إياه عذرًا لغيره، والسائل يقول: إنه يرى كثيرًا من علماء الأمة ومرشديها
المصلحين لم يحجوا، وأنا لا أعرف أحدًا من العلماء المصلحين ولا غيرهم من
الجامدين الراضين بحال المسلمين السيئة ترك الحج بغير عذر حتى مات. وقد ذكر
السائل منهم الأستاذ الإمام والسيد الكواكبي - رحمهما الله تعالى - وذكرني معهم.
فأما الكواكبي فهو من علماء الاجتماع والسياسة لا من علماء الدين، وإن كان له
مشاركة ما في الفقه ونحوه لا تنكر، ولا أدري أحج أم لا؟ وأنا ما عرفته إلا في
مصر، ولم يكن ذا سَعَةٍ فيها، نعم إنه ساح بعد هجرته إلى مصر في جزيرة
العرب ثم عاد إليها، ولكن بمساعدة من بعض الناس، ومن لا يستطيع الحج إلا
بمال غيره لا يجب عليه الحج، ولا أن يقبل تبرع غيره له بنفقته إن هو تبرع.
وأما الأستاذ الإمام فأنا أعلم أنه كان عازمًا على الحج وقد سمعت ذلك من
لسانه وأنه يريد أن يقيم في المدينة المنورة وما جاورها طائفة من الزمن، ويبحث
عن مواضع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بحثًا يستعين به على ما كان ينويه
من الكتابة في تاريخ الإسلام، وتحرير سيرته عليه الصلاة والسلام، وقد بينت
عذره وعذري وسبب تأخيرنا للحج من قبل، فمن ذلك قولي في تفسير قوله تعالى:
{وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) من جزء التفسير الرابع ما نصه:
إن كثيرًا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات
سياسية لا يسهل اقتحامها، وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن
السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن.
وقد كان الأستاذ الإمام يعتقد أنه إذا حج يلقي بيديه إلى التهلكة، وأنه لا أمان
له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء. وإن كاتب
هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد، فنسأل الله تعالى أن يحقق لنا ثانية مضمون
قوله تعالى {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) لنمتثل ما فرضه علينا من
حج هذا البيت ... إلخ.
وأقول الآن: قد ظهرت صحة اعتقاد الأستاذ واعتقادنا في هذا في مرض
موته حين قبضت الحكومة الحميدية العثمانية في بيروت على الحاج محيي الدين
حمادة عند عودته من مصر؛ لأنه كان ضيفًا له وكانت بنت أخيه زوجًا له،
وأخذت أوراقه وحبسته على وجاهته وحسن سيرته وبعده عن السياسة ومذاهبها،
ثم علمنا أن الحكومة كانت ترسل العسكر بعد ذلك ليلاً لمراقبة سواحل بيروت وما
يجاورها؛ لأنه بلغها أن الأستاذ يريد النزول فيها.
وكانت هذه الحكومة قبل ذلك وبعده تصادر كل كتاب يدخل المملكة العثمانية
إذا وجد عليه أو فيه اسم محمد عبده أو اسم المنار، أو مطبعة المنار، دع اسم
صاحب المنار، وتمنع أيضا ذكر هذه الأسماء في هذه الجرائد، ويعلم قارئ المنار
في زمن عبد الحميد أنه كان ممنوعًا من ممالكه، وأن والدي مات والعسكر يحيط
بداره وكان أخي في السجن؛ لأن المنار وجد عنده، وكانت الحكومة تعاقب كل من
تعلم أنه يقرأ المنار أو يكاتب صاحبه.
والسبب في ذلك كله وسوسة جواسيس السوء للسلطان عبد الحميد بأننا نريد
إقامة خلافة قرشية في الحجاز أو غير الحجاز وكان من هؤلاء الجواسيس مصطفى
باشا كامل.
خلع السلطان عبد الحميد بعد وفاة الأستاذ الإمام فظهر ورثته من الاتحاديين
بعداء للعرب أشد خطرًا علينا مما كان من عداء عبد الحميد لنا، جئنا الآستانة
وحاولنا أن نقنعهم بحسن نية العرب ووجوب إنصافهم فلم نستطع. ثم جعلوا
صاحب هذه المجلة من أعدى أعدائهم وذنبه عندهم أنه يدعو إلى النهضة العربية،
فكان قصد الحج في هذه المدة مما يقوي سوء ظنهم، ولا يؤمن معه غدرهم، وقد
صادروا المنار في بريدهم، ومنعوا دخوله لبلادهم، كما فعل عبد الحميد لمثل ذلك
السبب، وقد صار خلفاء مصطفى كامل من زعماء الحزب الوطني وكتاب جرائده
جواسيس لهم كما كان زعيمهم جاسوسًا لعبد الحميد، ويتهموننا بما كان يتهمنا به
وفي مقدمتهم محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز شاويش، ولكننا دخلنا مع
الاتحاديين الآن في طور جديد يرجى أن تمحى فيه سعاية الجواسيس، فقد اعترفوا
بأننا نطلب حقًّا وأجابونا إلى بعضه رسميًّا ووعدوا بالباقي وعدًا مؤكدًا.
فعسى أن يتم الاتفاق، ويمحو آية الشقاق، ويكون قد ظهر لهم حسن نيتنا
وإخلاصنا نحن وسائر طلاب الإصلاح من قومنا لهذه الدولة، وحرصنا على
تعزيزها وإصلاح شأنها، وهذا ما يظهرونه الآن، وقد بلغونا أن منع المنار قد
ارتفع. ويترتب على حسن نيتهم في العرب رضاهم بعمران الحجاز، وعدم خوفهم
من زيارة طلاب الإصلاح له في النسك وغير النسك، وحينئذ نرجو أن يوفقنا الله
في العام القابل لأداء الفريضة بفضله وكرمه.
* * *
ترك ملوك المسلمين وأمرائهم الأغنياء للحج
سبق لنا في مجلدات المنار السابقة الانتقاد على سلاطين آل عثمان وملوك
إيران وغيرهم من أمراء المسلمين ترك فريضة الحج، ولكن لم يخطر في بالنا أن
أحدًا من المسلمين يقتدي بهؤلاء الملوك والسلاطين في ترك هذه الفريضة، وكذلك
الأغنياء المترفون لا يصح أن يكونوا قدوة في ذلك ولا أن يكونوا شبهة من الشبهات
على الحج.
ومن سوء الظن القبيح أن يقول مسلم: إن حَجَّ عزيز مصر الأمير عباس
الثاني كان لغرض سياسي، وأي غرض سياسي يتوقف على أدائه لمناسك الحج؟
على أن كثيرًا من الأغنياء يحجون، فإن كان غير الأغنياء أكثر حجًّا؛ فذلك لأنهم
في أنفسهم أكثر عددًا، وأقل فسقًا وترفًا، هذا ما نراه كافيًا في جواب هذه الأسئلة،
فعسى أن يراه السائل كذلك، والله الموفق.
__________
(1) هذه الجملة مُدْرَجَةٌ في الحديث أدرجها راويه عمرو بن دينار، ومعناه أنهم في مكان بعيد عن موقف الإمام بحيث لا يسمعون كلامه، فقوله: يباعده عمرو يعني يذكر عمرو بن عبد الله بن صفوان التابعي أنه بعيد عن الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم فلذلك أرسل إليهم رسولاً.(16/675)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
تابع ما قبله
(8) جاء في إنجيل متى (15: 22 - 28) أن امرأة كنعانية صرخت
إليه ليشفي ابنتها المجنونة، وكانت تقول له: ارحمني يا سيد يا ابن داود، فلم
يجبها بكلمة فصارت تصيح وراءه حتى طلب تلاميذه منه صرفها فقال لهم: لم
أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة. فجاءت وسجدت له قائلة يا سيد أعني.
فقال لها: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فقالت: نعم يا سيد
والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ شفى لها ابنتها
بعد هذا العناء العظيم والإلحاح الكبير. فانظر إلى مقدار عطفه ورحمته بالضعفاء.
وهو الرجل الذي يقولون: إنه جاء لخلاص الناس أجمعين. ألا يدل ذلك على أن
كل ما جاء في تعاليمه مما يفيد معنى الرحمة والمسامحة والإحسان إلى الناس ما كان
يريد به إلا أمته اليهودية فقط لا غيرهم من الأمم كما هو صريح عباراته في هذه
القصة التي تدل على القساوة المتناهية حتى حركت أعمال المرأة عطف تلاميذه
أنفسهم قبله؛ ولذلك طلبوا منه إجابة طلبها فأبى أولا. فهذه هي أخلاق هذا الرجل
الذي يمدح نفسه بقوله (مت 11: 29) : (لأني وديع ومتواضع القلب) فهل يتفق
هذا مع فعله مع المرأة الكنعانية؟ نعم هو وديع ومتواضع القلب ولكن مع من؟ مع
الأقوياء من أمة اليهود [1] ومع الرومانيين حكامه وحكام أمته. أما الضعفاء الأجانب
فهم عنده كلاب. فهذا هو مبلغ تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة على غلوها أحيانًا
فهو نفسه كان يخص بها اليهود رغمًا عن دعواهم الآن أنها للبشر أجمعين.
وهذه القصة تدل على أنه ليس بإله؛ لأنه مقيد بإرادة من أرسله كما يفهم من
قوله: (لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة) . ولذلك تركها يوحنا كعادته
وأتى بقصة المرأة السامرية، وهي تغايرها بالمرة (يو 4: 7 - 30) وغرضه منها
أن يظهر أن بعثته كانت عامة، فقال: إنه كان يتكلم مع هذه المرأة السامرية
ويطلب الشرب معها مع أن اليهود لا يجوز لهم معاملة السامريين حتى صار تلاميذه
يتعجبون من ذلك وهذه القصة - كغيرها مما تقدم - تدل على تأخر زمن هذا
الإنجيل عن الأناجيل التي قبله؛ ولذلك أتى بها ليظهر أن بعثته ليست قاصرة على
اليهود كما يفهم من قصة المرأة الكنعانية ومن (مت 10: 5 و6) بل كانت للبشر
كافة أما قول متى (28: 19) : اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، فهو إن لم يكن
إضافة متأخرة كقول مرقس بدعوة الخليقة كلها (16: 15) الذي ثبت عندهم
إضافته أيضًا (كما سبق في صفحة 50) فالمراد به أمم اليهود كافة فإنهم، كما قال
سفر الأعمال، كانوا في أورشليم وحدها من كل أمة تحت السماء أع 2: 5-13
فما بالك بمن كانوا في أرض اليهودية كلها؟ ويؤيد هذا المعنى قول المسيح لتلاميذه
(مت 10: 23) فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن
الإنسان. فهذه المدن كانت عندهم العالم كله كما أريناك سابقًا ص 14 من هذه
الرسالة، وعلى ذلك يحمل قوله في مرقس (13: 10) ينبغي أن يكرز أولاً
بالإنجيل في جميع الأمم، وقوله في متى (24: 14) في كل المسكونة لجميع
الأمم ثم يأتي المنتهى. ولا تنس قول لوقا (2: 1) (صدر أمر من أوغسطس
قيصر بأن يكتتب كل المسكونة) ، أي أرض اليهودية خاصة كما قال صاحب كتاب
الهداية المسيحي في مجلد (2 ص 255) وغيره.
ومن أمثلة وداعته وتواضعه ورحمته غير ما تقدم ما جاء في إنجيل متى
(18: 21 و22) أن أحد تلاميذه مات أبوه فاستأذنه في الانصراف ليدفنه فلم يقبل
وقال له: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم. والظاهر من هذا القول أن أبا هذا
التلميذ لم يكن مؤمنًا به فلذا حقد عليه حتى بعد موته، ومنع ابنه من الذهاب ليدفنه
ولا ندري ماذا كان يفعل به لو قدر عليه وهو حي؟ فهل هذا خلق الرجل الذي أمر
غيره بمحبة الأعداء. وقد داس بعمله هذا مع تلميذه على أمر التوراة بإكرام
الوالدين وأيضًا بعمله مع أمه مريم ومخاطبته لها بقوله (يو 2: 4) ما لي ولك يا
امرأة) ولكن كان في أول الأمر وخوفًا من اليهود يقول لهم (مت 5: 17) : (لا
تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء) . فما أصدق كلامه هذا وغيره.
وهذه القصة تظهر أيضًا أنه ما كان يريد بتعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة
والإحسان إلى اليهود عامة كما قلنا من قبل تساهلاً (ص191) بل كان يريد بها
من آمن به فقط من اليهود واتبعه ولذلك قال متى (12: 46 - 49) : إن أمه
وإخوته جاءوا مرة إليه ووقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه نحو تلاميذه، وقال: (ها
أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي)
يعني من آمن به فقط [2] .
ولذلك أمر أتباعه ببغض غيرهم كما سبق (لو 14: 26) فهل هذا هو الأمر
بالإحسان إلى الناس كافة حتى الأعداء؟ ومتى عمل هو نفسه بذلك أو أتباعه الذين
استغاثت الأرض من سفكهم دماء بعضهم بعضًا لأقل الأسباب ودماء غيرهم من
الأمم بغير حق إلى الآن. ومنهم من أدار خده الآخر للضاربين (مت 5: 39)
وأحب أعداءه؟ أليست هذه التعاليم كلها حبرًا على ورق، وهي مع ذلك غلو مذموم
مخالف للعقل والعدل وللطبيعة البشرية، وإيجابها في جميع الأحوال مؤد إلى الفساد
بطغيان الأشرار، وبتثبيط همة الأصدقاء وتنفيرهم لمساواتهم بالأعداء فيهملون ولا
يبالون. ومن منهم ترك ما اعتادوه من الانغماس في الملاذ والشهوات والترف،
وباع كل ماله كما في لوقا (18: 22) ووزعه على الفقراء؟ وإذا أطاع الناس
هذا الأمر أتصلح أحوال هذا المجتمع ويتقدم إلى الأمام أم يبطل فيه كل عمل
واختراع واكتشاف واجتهاد ما دامت الأموال كلها توزع من الأغنياء على الفقراء
بلا عمل ولا حساب؟ قال ملحدوهم: الظاهر أن يسوع ما أمر بذلك إلا حيلة؛
ليتمكن هو وتلاميذه من أخذ أموال الأغنياء ليعيشوا بها بلا عمل سوى التجول من
مدينة إلى أخرى صارفين في حاجاتهم كلها من أموال غيرهم حتى من النساء (لو
8: 1-3) كما هو شأن أهل البطالة والكسل المتشردين، وإذا كان كل شيء ينال
بالصلاة كما قال في (مت 18: 19 و20) فما حاجته بعد إلى أموال الناس التي
كان يأخذها منهم ويحملها في صندوق معهم يهوذا الإسخريوطي (يو12: 6)
فلماذا لم يترك المال لأهله ويسأل أباه السماوي فيعطيه كل ما احتاج إليه هو
وتلاميذه الفقراء الذين لا عمل لهم بعد اتباعه (مت 4: 19 - 22) سوى الإنفاق
من المال الذي كان يلقى لهم في الصندوق من الناس.
فهذا شيء قليل من كثير مما أصبح بعض الإفرنج يقولونه في المسيح. ومن
أراد أكثر منه فليقرأ مثل كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة المذكور آنفًا The
Truth about Jesus of Nazareth، وإني أستغفر الله من كل هذا، ومما
جاء في هذا الكتاب الإنجليزي وغيره من تأليف ملحدي النصارى أنفسهم.
وقال هؤلاء الملحدون أيضا: إذا صح أن يسوع صدق في نبوة واحدة من
نبواته فهي قوله (مت 10: 34) : لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض،
ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا. فإن الأرض لم تخضب بدم أكثر مما خضبها به
أتباعه منذ أن صارت لهم قوة ودولة ولم يصدر عن أمة في العالم ما صدر من أمته،
حتى من رؤساء الدين منهم [3] ، من ظلم الأبرياء والأذى والاضطهاد وسائر
أنواع المفاسد والمظالم، حتى الآن كما هو مشاهد. (انظر مثلاً ص 130 و131
من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة) .
ويقولون: إذا كانت هذه ثمرة دينه في الأرض فبئست الثمرة، وإذا كان ذلك
كله مما فعله في ثلاث سنين، وهو فقير حقير ضعيف مضطهد (أش 53: 3)
فكيف به لو كان أوتي عزًّا ومالاً وملكًا كبيرًا وعمرًا طويلاً، لذلك كفر به الناس
وكفروا بدينه، وبكل ما جاء به وألفوا المؤلفات الضخمة في مطاعنهم وردودهم
وصاروا اليوم يدعون الناس في أوربة جهرًا إلى آرائهم وأفكارهم.
فليتأمل في ذلك دعاة النصرانية الذين يطعنون، وهم في بلاد المسلمين خوفًا
من أن يسمعهم الملحدون فيضحكون منهم يطعنون في محمد بمطاعن ضعيفة واهية
لا تعد شيئًا بالنسبة لما فعله المسيح وما يفعله الآن أتباعه كثيرًا كالانتحار وشرب
الخمور والربا والمقامرة وحب المال لدرجة الفناء فيه والفسق والخلاعة والتبرج
والزنا والقتل والظلم والانغماس في اللذات والشهوات، وغير ذلك مما أتت به إلى
بلادَنَا مَدِنَيَّتُهُم الإفرنجية التي يسمونها مسيحية ولا يخجلون ويظنون أن المسلمين
يخجلون من حكم الطلاق وتعدد الزوجات في الإسلام وجهاد الأعداء [4] في سبيل
الله بسبب ظلمهم لنا، على فرض قبحها، ليست كالأشياء التي رووها أنفسهم عن
المسيح، وأشرنا إلى بعضها هنا، والحكم عليها بالقبح مع ذلك ليس مما أجمع عليه
العقل البشري كمسائلهم تلك، بل هي أمور اعتبارية، ألا ترى أن مسألة تعدد
الزوجات في الإسلام هي من المسائل التي يختلف الحكم عليها باختلاف عادات
البلاد واختلاف أذواق أهلها فهي أقل من مسألة التزوج عند بعض الأمم بالأقارب
الأقربين مثلا.
فنحن، وإن كنا نستفظع ذلك التزوج بالأقربين ونستقبحه ونمقته، إلا أنه
ليس من المسائل المجمع على قبحها بين سائر البشر، وكذلك عادة رقص النساء مع
غير أزواجهن وإبداء زينتهن لغير محارمهن هي عندنا قبيحة وشنيعة وعند الإفرنج
حسنة وتعمل رسميًّا في قصور ملوكهم، فالخلاف بيننا وبينهم فيه كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
فإن قيل: إذا كانت هذه المسائل التي حكيتها عن المسيح صحيحة فما جواب
المسلمين عنها وهي تنافي معتقدهم في المسيح الذي عظمه القرآن تعظيما، وإن
كانت كاذبة فهل يعقل أن الإنجيليين وهم أحباب المسيح يخترعونها وينسبونها إليه
كذبًا؟ قلت: إننا لا نقول: إن كل هذه المسائل اخترعها الإنجيليون أنفسهم بل
نقول: إنها روايات كاذبة افتجرها بعض أعداء المسيح الأولين من اليهود وغيرهم
وروجوها بين أتباعه حتى اشتهرت وظنوها روايات صحيحة فدخلت الغفلة على
رواة النصرانية حتى على كتاب الأناجيل لشدة جهلهم وغباوتهم كما دخلت على
كثير من محدثي المسلمين وكتاب السير منهم بعض أشياء من المنافقين والوضاعين
توجب الطعن في محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام مع الفرق العظيم بين رواة
المسلمين ورواة غيرهم في نقد الحديث كما اعترف بذلك بعض علماء الإفرنج
أنفسهم (راجع مثلاً كتاب المسحاء الوثنيين ص238 و239 لمؤلفه المستر
روبرتسن J. M. Robertson) .
ومع ذلك فقد ترك بعض الإنجيليين بعض هذه الأشياء ولم يشر إليها أو ذكرها
لذيوعها بين الناس، بطريقة مخففة لرفع الإشكال بقدر الإمكان بحيث لا يرى منها
أصل القصة جليًّا واضحًا إلا بالرجوع إلى الأناجيل كلها أو بعضها وأخذ عبارة فيها
من هنا وعبارة من هناك حتى يتم فهم القصة، كمسألة تردد المسيح على بيت مريم
ومرثا في قرية بيت عنيا، فإن علاقة المسيح بهما وكونهما عاهرتين يحبهما
المسيح ويكثر مخالطتهما والمبيت عندهما إلخ، إنما يستنتج ذلك كله من مجموع ما
رووه فيهما لا من واحد منهما فقط.
ومن أعظم الأسباب أيضًا أن بعض هذه المسائل كان يوجد مثلها عند الوثنيين
الداخلين في المسيحية كما بيناه في حاشية (صفحة 185) وقد تأصلت في نفوسهم
فلم يهن عليهم تركها فأدخلوها في دينهم الجديد ليجعلوا المسيح كأحد آلهتهم لكي لا
يشعروا بالفرق الكبير بين الدينين، شأن البشر فيما ألفوه من آرائهم ومعتقداتهم،
وقد قبل منهم أكثر النصارى ما أدخلوه جهلاً منهم بحقيقة دينهم أو فرحًا بهم واستمالة
لهم لعلهم لا يرجعون.
وربما كان غرض بعضهم أيضًا من ذكر هذه المسائل إظهار أن المسيح وهو
عندهم يغفر لمن يشاء (لو م7: 47 - 49) وقد أعطى هذه السلطة لتلاميذه أيضًا
كما سبق (مت 18: 18 ويو20: 23) فوق الناموس والشريعة وغير مقيد بها
وله أن يتصرف فيها كما يشاء ويفعل ما شاء؛ لأنه هو واضعها على زعمهم،
وشارعها للناس [5] وأنه إذا اقترب من المعاصي فلا يقع فيها إلا بمشيئته ولحكمة
نجهلها، ولذلك ترى أن أكثر مثل هذه القصص التي أريد بها غالبًا إظهار كبريائه
وعدم مبالاته بالناموس، وأنه فوق كل شيء واردة في إنجيل يوحنا دون غيره أو
مستوفاة فيه أكثر، وهو الإنجيل الذي ذكر أيضًا (8: 2-11) قصة عدم رجم
المسيح للزانية ونقضه شريعة موسى في ذلك (لا 20: 10) راجع أيضًا (يو 4:
9 - 30) .
وأما عبارة إنجيل لوقا (9: 56) التي تشبه في المبدأ مسألة الرجم هذه فقد
وجدوا أنها متروكة من بعض النسخ القديمة، وهو دليل على زيادتها فيه ليجعلوا
إنجيل لوقا كإنجيل يوحنا انظر (يو 3: 17 و12: 47) فيجوز أن يكون اختراع
هذه المسائل والقصص هو لمثل ذلك الغرض أي إظهار أنه فوق الناموس الأكبر،
وأنه أكبر من كل شيء، وإن كان هذا الاختراع قد أدى إلى عكسه فذم الناس
المسيح ذمًّا شنيعًا بسبب ما نسب إليه، ولكن كتابهم ما كانوا ينتظرون حصول هذه
النتيجة المحزنة. وأيضًا فقد كان الاستهتار بالشريعة الموسوية وعدم المبالاة بها
وبأحكامها أكبر ما سعى إليه بولس وتبعه في ذلك كثير من الأمم لسهولته كما هو
معلوم، فلذا قالوا عن المسيح ما قالوا: فإن مبادئهم كانت أقرب إلى الإباحية
والاشتراكية من أي شيء آخر كما سبق (انظر صفحة 59 و105 و187) .
أما غرضنا نحن من ذكر هذه المسائل هنا مع أننا نبرأ منها إلى الله مرارًا
وتنفر منها طباعنا، والإسلام يحرم علينا نسبتها إلى عيسى عليه السلام، ويوجب
علينا التأدب في حقه وحق سائر الأنبياء، فهو أن نظهر أننا يمكننا أن نقابل
النصارى بالمثل لولا ديننا وآدابنا، وأن نري متعصبيهم أن الطعن في محمد عليه
السلام بالروايات الضعيفة والأحاديث الموضوعة أو بالمسائل المختَلف بيننا وبينهم
في قبحها وحسنها ليس من العقل ولا من الإنصاف في شيء وعندهم في أناجيلهم
القانونية لا الموضوعة ما يوجب الطعن في المسيح بأشد مما يوجد عندنا في محمد،
حتى نفر عقلاؤهم وعلماؤهم في أوربة من المسيح والمسيحية، ومن كان في بيت
من زجاج لا يليق به إن كان عاقلاً أن يرمي بالحجارة الساكنين في بيوت من حديد.
ومما تقدم ترى أن الاعتقاد بهذه الأناجيل ضار بمقام المسيح عليه السلام
ضررًا بليغًا ولا خلاص للناس من كل الإشكالات المتقدمة وغيرها التي أوقعت
المفكرين والعقلاء في الإلحاد إلا بنبذ هذه الكتب والاعتقاد بالقرآن الشريف فإنه هو
الذي برأ المسيح بالحق من كل عيب، ومن كل دعوة إلى عقيدة باطلة ورفع مقامه
رفعًا حقيقيًّا عاليًا.
أما هذه الأناجيل فقد حطته من حيث لا تشعر وهي تسعى في تأليهه بنسبة
أقوال إليه تدل لو صحت ولن تصح، على جنون قائلها لشدة بساطة كاتبيها وبعدهم
عن العلم الصحيح والعقل وشدة تأثرهم بالوثنية، ومع أن رواية هذه الأناجيل هي
عند النصارى أصح الروايات بل مكتوبة بالوحي الإلهي، فقد رأيت ما تؤدي إليه
من نسبة ما لا يليق إلى المسيح، وهو منه براء عليه السلام. فكيف يكون الحال
إذا عاملنا النصارى كما يعاملوننا في طعنهم في محمد صلى الله عليه وسلم وأخذهم
بكل سخيف ضعيف من الروايات؟ ولكن ديننا يحول بيننا وبين ذلك، وهو أيضًا
لا يتيسر لنا؛ لأنهم أضاعوا الروايات الأخرى وأغلب الأناجيل، ولم يبق إلا ما
وافق آراءهم وأهواءهم، ومع ذلك فنحن قد أخذنا بأصح رواياتهم في اعتقادهم
وأريناك كيف تؤدي إلى الطعن في المسيح عليه السلام، وهم إنما يأخذون بأضعف
الروايات عندنا وأسخفها بل بالموضوع منها وأحيانًا يفتجر بعضهم الروايات لنا
افتجارًا، فهل أمكنهم بعد ذلك كله نسبة شيء قبيح قبحًا حقيقيًّا لمحمد صلى الله عليه
وسلم [6] كخلوته بالزانيات وحبه لهن وتردده عليهن مرارًا هو وتلاميذه
ودلكهن قدميه بالطيب ودهن رأسه به ومسح رجليه بشعورهن، وعدم إنكاره على
الناس شرب الخمر ومساعدتهم على ذلك بل فرضه عليهم وسكره، وتجرده من
ملابسه مرة أمام تلاميذه وعشقه لأحدهم وإجلاسه له في حضنه، وكذبه على
إخوته، وعقوقه لوالدته ومنعه تلميذه من دفن أبيه، وحقده على كل من لم يؤمن به
إلخ، وهو مع ذلك كله فقير مسكين ضعيف مضطهد، فما بالك إذا أوتي ما
أوتيه محمد من الملك والعز والمجد والعظمة وسعة الرزق وطول العمر.
وقد حثَّ عيسى تلاميذه - وهو ضعيف - على المقاومة للدفاع عنه وحمل
السيوف واستعمالها في ذلك، وأمر الناس كافة ببغض آبائهم وسائر أقاربهم الأقربين
وإلقائه الشقاق والحرب والتفريق بينهم، ثم إن أعظم تعاليمه موجبة لضعة النفس
والذل، وهي ليست عملية ولا يمكن إطاعتها وفيها من الغلو ما فيها وتؤدي إلى
خراب هذا المجتمع، بل القيام ببعضها مستحيل حتى عليه هو نفسه كمحبة الأعداء
وهو نفسه لم يحبهم بل كان يسبهم سبًّا شنيعًا (مت 23: 13 - 36) ويحقد عليهم
وما منعه من الانتقام منهم إلا ضعفه كما بينا، ومن ذلك حثه الناس على بذل جميع
ما لهم للفقراء وعلى عدم اهتمامهم بشئون الحياة وترك العمل [7] [8]
(مت 5: 44 و6: 25 و19: 21 - 25) وحضه لهم على عدم التزوج وعلى
الخصاء (مت 19: 11 و12) وإيجابه الطاعة العمياء والخضوع للرؤساء بلا قيد
ولا شرط لشدة خوفه من قياصرة الرومان، ونصه على أن سلطتهم هي من الله (مت
22: 15 - 22 ويو19: 11) ولذلك قال بولس اتِّباعًا له: (إن من قاومهم فقد
قاوم ترتيب الله وسيأخذ لنفسه دينونة) (رو13: 1 و2) [9] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) نعم إنه لما يئس من اليهود أخذ يسبهم ويلعنهم بأفحش الألفاظ كقوله (مت 23: 13 - 36) : أيها المراءون والقادة العميان والجهال والحيات أولاد الأفاعي إلخ، وقوله لهم (مت 21: 31) : إن العشارين والزواني (وهم الذين كان يحبهم بنص الإنجيل، انظر مثلا يو 11: 5) يسبقونكم إلى ملكوت الله، فهذا مثل آخر من أمثلة محبته لأعدائه، ولكن أتدري ماذا حصل له بعد هذا السب مباشرة؟ هم أخذوه وصلبوه وأهانوه شر إهانة ثم قتلوه فهذه نتيجة شجاعته أمام هؤلاء الأقوياء بعد يأسه منهم وفشله في أمرهم، كل هذا نقوله ونحن بريئون منه إلى الله وإنما نقوله إلزامًا للخصم وإظهارًا لما تجر إليه قصص هذه الأناجيل.
(2) الظاهر من هذه العبارة ومن غيرها في الأناجيل أن مريم أمه وأخوته لم يكونوا به مؤمنين (انظر يو 7: 5 ومر 3: 21) ، ولا عن أعماله راضين، فلذا حقد عليهم وكرههم حتى أمه، وقد بلغ من قسوة قلبه عليها وجموده أنها ذهبت ووقفت عند الصليب لتنظر ابنها وفلذة كبدها وهو مصلوب، (يو 19: 25 - 27) فلما رآها يسوع خاطبها مرة أخرى بقوله يا امرأة، فهذه هي أخلاق المرأة التي عبدها النصارى منذ القدم، وهذه هي قيمتها عند ابنها، ولكن صورتها بحسب الأناجيل تغاير صورتها بحسب القرآن الشريف الذي أثنى عليها مرارًا وعظَّمها وقال: إن الله اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين وجعلها للناس آية، فالظاهر أن قصتها في الأناجيل مما دسه اليهود على النصارى؛ ولشدة جهلهم وبعدهم عن التمحيص والتحقيق إذ ذاك دخلت عليهم الغفلة وصدقوهم فيها كما دخلت عليهم في غير ذلك كثيرًا وصدقوا قصصهم في فسق أنبياء بني إسرائيل ومعاصيهم الكبيرة الكثيرة وصاروا يدافعون عن هذه القصص الفظيعة ويعتبرونها مقدسة إلى الآن، فحاشا لله أن يصطفي من خلقه الزناة السكيرين الكذبة الخونة (تك 26: 7 و27: 19 الكفرة 1 مل 11: 5 و6) الأشرار كما صورهم اليهود لا سامحهم الله.
(3) ولذلك تراهم الآن، وقبل الآن، في كل زمان ومكان يباركون الجيوش ويدعون يسوع لأجلها، ويصلون فرحًا بانتصاراتها ونجاحها في سفك الدماء، وتيتيم الأطفال، وهتك الأعراض، وتخريب الديار، وهدم معالم التوحيد، وعبادة الرحمن، واستبدالها بالسجود للصور والصلبان، عبادة ابن الإنسان وهو في الحقيقة من كل ذلك بريء وعليه حاقد ناقم، وما هم فيه إلا متبعون أهواءهم وشياطينهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
(4) إن شئت أن تقرأ بحثًا مستفيضًا في هذه المسائل كلها فاقرأ رسالتنا: (الإسلام في الرد على اللورد كرومر) .
(5) حاشية: هذا لا يدل على أنهم كانوا يعتقدون ألوهية حقيقية؛ لأنهم يقولون: إن ذلك مما أعطاه الله إياه كالقدرة على الخلق وغيره انظر (يو 14: 24 و5: 30) وقال يوحنا أيضا (3: 35) :
(الأب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده) وهو صريح كما قلنا مرارًا في أن الله هو الذي أعطاه كل شيء فهو عند كتاب العهد الجديد ليس إلهًا لذاته فإن قيل: لعل هذا القول في الابن باعتبار الناسوت، قلت: إن هذا الناسوت باعتراف النصارى عاجز جاهل كباقي البشر وليس في يده شيء وهو أيضا حادث، ولم يخلق شيئا من العالم، وإنما الذي في يده بزعمهم، كل شيء وخلق العالم (يو 1: 3) هو الله الابن وهذا بنص الإنجيل لم تكن له القدرة من ذاته بل الله هو الذي دفعها له كما قال يوحنا وغيره انظر (أع 2: 22 وأف 1: 22 و1 كو 15: 27 و28 ومتى 11: 27) فكيف إذا يكون إلهًا حقيقيًّا مساويًا للأب في كل شيء كما يزعمون؟ .
(6) هذا مع انحطاط الوسط الذي نشأ فيه محمد صلى الله عليه وسلم من أكثر الوجوه عن الوسط الذي نشأ فيه المسيح حيث كانت توجد شرائع اليهود وكتبهم الدينية وآداب اليونان والرومان وكتبهم العلمية والفلسفية وغيرها، وأما أهل مكة والعرب عمومًا فكانوا وثنيين جاهلين منغمسين في الشهوات كالخمر وحب النساء وفي سفك الدماء ووأد البنات والسلب والنهب والأذى والقسوة وفاقهم محمد جميعًا بدرجات عالية منذ صغره، وكان مثال الكمال بينهم في كل شيء، وأما المسيح فلا نعلم في أي شيء فاقه قومه بحسب هذه الأناجيل وجميع تعاليمه الحسنى توجد في كتب اليهود وغيرهم من قبل كما بينه كثير من علماء الإفرنج أنفسهم كما ذكرنا آنفا، (راجع ص 118 - 120) من هذه الرسالة نعم نحن لا ننكر أنه نشر في هذه التعاليم العالية بين عامة اليهود علمًا وعملاً بعد أن كانت في كتبهم لا يقرؤها إلا بعض خاصتهم ويندر وجود من يعمل بها كلها منهم ولذلك قال تعالى فيهم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) (الجمعة: 5) وبسبب عيسى صلى الله عليه وسلم انتشرت بين العامة والخاصة حتى عرفت في العالم الروماني كله واشتهرت بين الناس إلى اليوم، ولكنها مشوبة بشوائب كثيرة حاول بعضهم كالفيلسوف تولستوي تجريدها منها.
(7) مقتضى هذه التعاليم (مت 6: 25 - 34 ولو 12: 22 - 31) أن لا يهتم الإنسان بشيء من حاجاته الجسدية من مأكل وملبس ومشرب ومسكن وأن يهملها كلها، وعلى ذلك تكون قذارة الثوب ورِثتَّه ووساخة الجسد والمسكن وفساد هوائه والفقر من المستحبات ودلائل التوكل والإيمان في المسيحية، فمن من النصارى يعمل بهذه الأوامر؟ وإذا عملوا بها فكيف تكون حالتهم الصحية؟ وهل هذه التعاليم تساعد على الاكتشافات والاختراعات وترقي العلوم الطبية والهندسية والاجتماعية والاقتصادية والنظامات الدستورية وغيرها من علوم العمران والحضارة والمدنية الاجتماعية؟ وما حاجة الناس إلى هذه العلوم إذًا وإهمال الجسد والذل والفقر والكسل عن كل عمل دنيوي من أعظم دلائل الفضيلة والطاعة والإيمان والتوكل على الله بحسب الأناجيل؟ وهل اتهام متعصبي النصارى الإسلام بأنه هو السبب في قذارة المدن وفساد هوائها وضعف صحة أهلها وخرابها واستبداد ملوكها صحيح أم هو مقتضى تعاليم المسيحية التي أخذ بها متصوفوا المسلمين ثم عمتهم كلهم حتى أصبحوا أشد تمسكًا بها من أهلها الذين أهملوها ألبتة حتى ضرب بينهم وبينها بسور من حديد كما هو مشاهد في كل زمان ومكان، قارن عبارات كتبهم هذه بقول القرآن: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس: 101) وقوله: (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون) َ (يوسف: 105) وقوله: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ) (الجاثية: 13) الآية، ونحو ذلك كثير سنذكر بعضه، وقول المسيح بحسب رواية لوقا (12: 22 - 31) : ولا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون تأملوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن والله يقيها، كم أنتم بالحري أفضل من الطيور فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم، فضلا عما فيه من الحض الصريح على ترك السعي والعمل والجد والاجتهاد في الدنيا، هو أيضا غير صحيح فإن سنة الله في هذا الكون أن الإنسان إذا ترك السعي والعمل خسر كل شيء، ولو طلب ملكوت الله كل يوم ألف مرة لما زيد له شيء من مطالب الحياة إلا إذا أصبح عالة على الناس يحسنون إليه بشيء من كدهم وعملهم حتى إذا ورث شيئا وترك العمل فيه خسره تدريجيًّا إلى أن يفقده، فإذا اتبع جميع الناس هذه التعاليم أكان العالم يصل إلى ما وصل إليه من الرقي والتقدم؟ وهل ما وصل إليه الإفرنج الآن هو بفضل هذه التعاليم المسيحية كما يدعي المبشرون؟ ومن منهم يعمل بها إلا أهل البطالة والكسل أو الشحاذون؟ وهل هذه الأوامر تتفق مع سنن الوجود؟ فليجربها مَن شاء منهم وليترك الاهتمام والعمل ثم ليرنا أي شيء زيد له من مطالب الحياة؟ .
(8) أما القرآن الشريف فقال: (وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77) وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) (الملك: 15) وقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10) وقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) (البقرة: 219-220) أي: في أمورها معًا وما به صلاحهما فأين الثريا من الثرى؟ وقال القرآن الشريف أيضًا: (مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الإسراء: 18-20) ونحوه في القرآن كثير وهو يفيد أن من أراد الدنيا وسعى لها سعيها أوتيها، ولو كان كافرًا ومن أراد الآخرة كذلك أوتيها وأما من لم يرد الدنيا ولم يعمل بها فلا يؤتى منها ما يؤتاه العاملون ولو كان صالحًا تقيًّا طالبًا ملكوت الله وهو الحق كما هو مشاهد بخلاف قول الإنجيل فإنه يفيد أن من طلب الآخرة ولم يطلب الدنيا أوتي الدنيا أيضا، وقال القرآن: (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا) (آل عمران: 145) فطلب الدنيا شيء وطلب الآخرة شيء آخر، ولا يعطاهما إلا من طلبهما معا ولا يغني طلب الآخرة وحدها عن طلب الدنيا كما هو صريح الإنجيل فإن ذلك مخالف لسنن الكون المعروفة، وقد كانت هذه الأفكار المسيحية من أسباب تأخر المسلمين فإنها انتقلت إليهم ممن دخل في دينهم من النصارى الأولين وفشت فيهم مع ترك النصارى أنفسهم لها منذ أن ارتقوا ولو اتبعوها لتركوا كل عمل وكرهوا الحياة الدنيا وعدوها سجنًا لهم يجب الخلاص منه بالتجرد عنه حتى يموت الإنسان كبعض أهل الهند، وهي مبادئ لا تتفق مع مبادئ القرآن في شيء كما لا يخفى على الباحثين في المدن الأوربية، أو في الأحياء الإفرنجية الشرقية، في أيام الآحاد، أو الأعياد، وانظر إلى جمال الإفرنج والإفرنجيات وتأنقهم وجمال مساكنهم وملابسهم ومشاربهم ومآكلهم وتمتعهم بسائر أنواع اللذات والشهوات والمسرات وخصوصًا التمتع بالنظر إلى الكاسيات العاريات من الغانيات الحسان، والفتيات الفاتنات الكاعبات الأبكار والثبيات، وقل لي بأبيك في أي شيء تتفق هذه المدنية الأوربية (أو الرومانية باعتبار أصلها) مع التعاليم المسيحية الحاثة على الفقر والتقشف وترك مطالب الحياة وإهمالها كلها، والحاضَّة على الزهد في الدنيا والناهية عن الاعتناء بالجسد والآمرة بطلب الخبز الكفاف من الله يوما بيوم (مت 6: 11) والمحرمة النظر بشهوة إلى الأجنبيات (مت 5: 28) مع أنه لا توجد نساء في الدنيا تبدي من الخلاعة والزينة وكشف أجزاء من أجسامهن واختلاطهن بالرجال والرقص معهم وتبادلهن معا كئوس بنت الكروم أكثر من الإفرنجيات المسيحيات، فبأي حق أو عقل يسمون هذه المدنية الأوربية بالمسيحية وبينهما كما بين السماء والأرض، إني والله لا أجد في الدنيا اسما أكذب من هذا الاسم، ولا يصح اعتبار المسيحية الدين الكامل للبشر الختامي لهم بل كان فقط درجة تمهيدية في ذلك الزمن زمن بعد اليهود عن روح الدين وتعلقهم بقشوره وانتشار المدنية الرومانية وما فيها من الإسراف والترف والملاذ والإغراق في الماديات مع عدم ارتقاء العقل البشري إلى الدرجة التي ارتقى إليها فيما بعد فأتت المسيحية أيضا لنقدر به على مقاومة كل ذلك ولتهيئ النفوس لقبول الإصلاح الإسلامي الختامي الجامع بين مصالح الدين والدنيا ومطالب الروح والجسد والخالي من الإفراط والتفريط لعدم حاجة الناس في زمنه إلى غلو المسيحية لارتقاء العقول والنفوس عن ذي قبل فيكفيها الاعتدال في بيان الحقيقة على أكمل وجهها، فهذا هو سبب اختلاف المسيحية عن الإسلام في أوامرها وتعاليمها فإنها لا تناسب إلا زمنها ولكن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ولذلك تجده أقرب إلى الفطرة البشرية والعقل من كل دين آخر ولا تجد سواه يتفق مثله مع أصول المدنية الصحيحة والحضارة والعمران والعلم، والذي يدلك على ارتقاء الناس في الجملة علمًا وعقلاً ونفسًا في عهده عن ذي قبل مع أن ذلك من مقررات العلم الحديث القائل بترقي المتأخر عن المتقدم أنهم كانوا أبعد عن الوثنية، أميل إلى التنزيه والتوحيد، وكان عندهم ميل شديد ورغبة عظمى في البحث والنقد والتمحيص والفلسفة العقلية مبلغًا لا نكون كاذبين إذا قلنا: إن الإفرنج إلى الآن لم يساووهم تمامًا في ذلك، ولذلك جاءهم الدين خاليا من التكليف بالمحال ومن الغلو، معتدلا في جميع ما شرعه لهم؛ لأنهم كانوا قد ارتقوا عن درجة الطفولية التي كانوا فيها من قبل وأصبح عندهم من التمييز والعقل وقوة الإرادة ما لم يكن عند الأولين، ولو جاءت المسيحية معتدلة مثله لما كان لها ما كان من التأثير في تلك العقول الضعيفة، والنفوس الصغيرة، ولبقي الناس حيث كانوا، فتبارك الله أحكم
الشارعين.
(9) قارن ذلك بقول القرآن الشريف: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59) لاحظ قوله هنا (مِنكُمْ) (النساء: 59) : (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59) وهو صريح في أن طاعة أولي الأمر لا تجب علينا إلا فيما لا يخالف الدين فإن اشتبه علينا الأمر جاز لنا أن نتوقف وننازعهم فيه ووجب أن نرده إذًا إلى الله ورسوله، أي إن كان حيًّا، حتى لا نعمل إلا بما وافق الدين وهو يدل على وجوب العمل بالقياس والاستنباط المَبْنِيَّيْن على العقل والتفكر فيما أوحاه الله إلينا، والرد إلى الرسول في زمنه واجب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أعقلهم وهو أدرى الناس وأعلمهم بأسرار شريعته ومع ذلك فهو مأمور بالشورى بنص قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران: 159) ولذلك كان عليه السلام يستشير أصحابه وكان منهم من يعارضه في أفكاره وآرائه حتى كان يرجع عن رأيه لرأيهم، ولكن إذا قرر شيئا بعد الشورى وبعد النظر في الكتاب العزيز ولو خالفهم فيه وجب الإذعان له وإطاعته فإنه كان يرى ما لا يرونه ولذلك قال تعالى: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59) والرد إليه خاص بزمنه وفي القرآن نحو ذلك من الآيات كثير كقوله تعالى: (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً) (النور: 63) وقوله: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (الحجرات: 2) وقوله: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) (المجادلة: 12) أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيرد الأمر كله إلى كتاب الله أو إلى ما علم عنه صلى الله عليه وسلم باليقين، والذين يردون الأمر هم نواب الأمة ورؤساؤها وأولياء أمرها لقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83) والمستنبطون الأمر من كتاب الله هم هؤلاء الناس الخاصة من المؤمنين لا العامة منهم ويجب عليهم في بحثهم واستنباطهم مشاورة بعضهم بعضا بحيث لا يستبد أحد بالأمر فيهم لقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38) فإذا قرروا شيئا بعد ذلك وجب على عامة الأمة إطاعته ما لم يكن مخالفًا لدين الله فإن ذلك بالضرورة لا يكون مستنبطًا منه، وإذا اختلف هؤلاء المستنبطون معا وتساوى عددهم ولم يمكن الترجيح بينهم كان للأمة الحق في أن تعمل بما تراه من آرائهم أقرب إلى نصوص الدين، هذا هو ما يستفاد من مجموع آيات القرآن في هذا الباب فأي مبادئ أدعى من هذه إلى العدل ومنع الاستبداد وإيجاب الشورى والتفكر والحرية وعزة النفس؟ وأي فرق بينها وبين نظامات أرقى أمم العالم الحالي النيابية والدستورية؟ وإلى أي الدينين الإسلام أو المسيحية ترى أن مبادئ هذه الأمم الراقية أقرب أو أشبه؟ وأنت ترى أن المسيحية توجب عليك الخضوع للسلاطين ولو كانوا ظالمين وتنص على أن سلطتهم هي من الله وأن من قاومها فقد قاوم الله واستحق عقابه كما قال بولس إرضاء للقوة الحاكمة في زمنه وتملقا لها كعادته (رو 13: 1-7) وقال بطرس أيضا (1 بط 2: 3) (فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب إن كان للملك فكمن هو فوق الكل أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير إلى قوله: أيها الخدام (أي العبيد) كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط للعنفاء
أيضًا) فأين ذلك من القرآن الذي قال: (وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) (الممتحنة: 12) وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13) وقال: (وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: 8) والذي ألزم الناس بعتق من طلب الحرية من الأرقاء مكاتبة إن علمنا صلاحيته لذلك وأوجب عليهم إمداده بالمال حتى يقدر على مكاتبة سيده فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33) وأحكام الرق في الإسلام شهيرة، وهي من أعظم ما يفتخر به في هذا العصر وما وصلت إلى مثلها أوربة إلا بشق الأنفس وبعد قرون عديدة بفضل ديننا وكتبه (وقد بينا شيئا مثلها في كتابنا الإسلام في الرد على اللورد كرومر ص 17 - 19 و40 - 46 فليراجعه من شاء) ولكنا نعذر مؤسسي النصرانية كبولس وبطرس فيما قالا، فإنهما لو فاها ببنت شفة يفهم منها الانتقاد على نظامات الرومان إذ ذاك أو الخروج عليهم لما أبقوا للنصرانية باقية فكانت تلك السياسية في منتهى الحسن في زمن ضعفهم وذلهم فإنهم كانوا يتقون كل ما يوجب إيذاءهم واضطهادهم وخصوصًا مثل تلك المسائل السياسية ولذلك ترى الآن محققي المؤرخين من الإفرنج أنفسهم يشكون في أكثر قصص اضطهاد النصارى الأولين بعد أن علمت مسالمتهم وخنوعهم إذ لا يفهم هؤلاء المحققون سببًا لها وقد كان الرومانيون واسعي الصدر أحرارًا في المسائل الدينية وخصوصًا مع رعاياهم الضعفاء الأذلاء الخاضعين لهم كمال الخضوع كهؤلاء النصارى الأقدمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ...(16/689)