الكاتب: محمود سالم
__________
كلمة في السياحة المفيدة
وفي العلم وأهله
] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [[1] (قرآن مبين)
يا أيتها الشبيبة المصرية التي عيونها كلها نور، وقلوبها كلها نار،
وأجسامها كلها قوة وصلابة، لماذا تقصرين الهمة على قراءة الأوراق والصحف،
ولا توجهين عنايتك بقدر الاستطاعة إلى السياحة؛ للاطلاع على ما خلق الله من
الغرائب والمدهشات، وعلى ما عملته أيدي الناس من البدائع؟
الرحلة في طلب العلم أكثر بركة من القراءة في الكتب ما عدا ذلك الكتاب
الحكيم. والاغتراب سنة واحدة بنية الاستفادة الحقيقية من المعارف أكثر فائدة من
القعود عشر سنين على عمى بين المحابر والدفاتر.
فرض الله الحج ورغب فيه كل من استطاع إليه سبيلاً. ومن فوائده العظيمة
التجول من بلد إلى بلد ومن قبيلة إلى قبيلة؛ لتتسع الأفكار وتستنير العقول. وهل
يقال (عالم) لمن لم يتجول في أرض الله الواسعة؛ ليعرف الحقائق؟ !
إن السياحة المقرونة بالحكمة والتبصر، تظهر عادات الأمم وأخلاقها
وفضائلها وعيوبها، ومقاصدها من هذه الحياة وسياستها مع الأقوام. ورُبّ أمور لا
تتأتى معرفتها في سنين من مطالعة الكتب تعلم بالتحقيق من طريق الرحلة في أقل
من لمح البصر. فسيروا في الأرض، واعلموا أن الشعوب كلها سبقتكم في طلب
العلم خارج حدود بلادها، حتى أهل الصين الذين كنا نظنهم أمواتًا، فها هم أولاء
الآن خارجون من ديارهم؛ لاقتباس النور حتى من أوطان أعدائهم؛ لينذروا
إخوانهم ويوقظوهم من سباتهم الطويل، متى رجعوا إليهم.
يا أيتها الشبيبة المصرية، تريدين أن تخرجي من الظلمات إلى النور، فعليك
بالعلم، والعلم كله في الكتاب العزيز، وهو مغلق على من لا يسرح نظره في
عجائب المخلوقات، إن أقرب طريق لفهم كلام الله هو التأمل في صنع الله، وما
خلقه في السماء والأرض. وهل يفسر كلام الله شيء كأعمال الله من الغرائب
المؤثرة والفرائد العجيبة! قال الله عز وجل ردًّا على من شك في أن الكتاب الحكيم
من عند الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) .
* * *
... ... ... ] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
... ... ... ... أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [[2]
... ... ... ... ... ... ... ... ... (قرآن حكيم)
العلم آلة السيادة في كل زمان. به سادت مصركم أم الدنيا على الأمصار كلها،
به ساد الإسلام ويسود عن قريب إن شاء الله، وبه تتسامى الأمم اليوم أمام أعينكم.
فقد كانت شعوب الألمان والطليان واليابان منحلة أكثر من انحلالكم، ومتفرقة
أكثر من تفرقكم، ولكنها أصبحت بفضل العلم تتباهى على إخوانها، وتحكم في
القياصرة والجبابرة. وبالعلوم دخلت في جوف الأرض، وأخرجت الكنوز من
المعادن، وبها قطعت البحار ونشرت نفوذها على العالمين، وبها طارت في السماء
فسبقت النسور والعقبان.
إن الله سبحانه عرفناه بالعقل، فكذلك كتابه فهمناه بالعقل، ولولا هبة العقل
الربانية لما تمكنا من تفسير الكتاب العزيز. والعقل يزيد كل يوم في العلوم وينميها؛
لأن كل أمة تزيد في الكنوز التي أتت بها سابقاتها.
مر على المسلمين زمن كانوا يستعينون فيه على تفسير القرآن بأفكار أرسطو
وأفلاطون وبقراط وفيثاغورس وجالينوس وبيدبا من فحول اليونان والهنود
وغيرهم. أما نحن الآن ففي وقت لا يكفينا فيه رأي الأقدمين وحدهم، فقد استدار
الزمان وحدثت حوادث، وظهرت أقضية وأمور جديدة تستوجب البحث فيما قاله
أهل هذا الوقت مثل: لايبنيتس وأوجست كونت وسبنسر من فطاحل الألمان
والفرنسيس والإنجليز وغيرهم.
القرآن المجيد كثيرًا ما يحتاج مفسره إلى العلوم البشرية؛ لأن المعارف
الدنيوية والتجارب المفيدة والمباحث الدقيقة توضح آياته، كما توضحها
الاجتهادات العقلية والفيوضات الروحية، فكيف تترقى العلوم (العصرية) وتبقى
التفاسير على طريقها القديم في الطب والفلك والكيمياء وباقي العلوم والفنون التي لا
تحصى ولا تعد، بعد أن أفنى ابن آدم حياته فيها.
ترقي العلوم العصرية يضر بالأديان الباطلة، ولكنه من أكبر الفوائد للمسلمين؛
لأن كثيرًا من الآيات القرآنية المبهمة لا تلبث أن يظهر معناها عندما تظهر
حقائق علمية جديدة، كانت خفية على بني الإنسان.
سمعت مرة إنجليزيًّا من المهديين إلى الإسلام يقول:
هل يتأتى لجميع فلاسفة العالم أن يثبتوا غلطة واحدة في القرآن الكريم، ولو
ارتكنوا على كل ما في أيديهم من العلوم العصرية؟ لا يتأتى لهم ذلك. ولو وجدوا
فيه خطأ صغيرًا ما كانوا إلا مظهريه، ولكن أنى لهم ذلك، والعلوم كل يوم في
تبديل وتغيير، وكل لحظة تظهر معان باهرة لآيات ما كنا لنفهم معناها إلا بعد تقدم
العلوم. فلنضرب لكم مثلاً: كان الفلكيون يدعون أولاً أن الأرض ثابتة والشمس
متحركة، ثم قالوا: بل الأرض متحركة والشمس ثابتة، ثم جاءوا اليوم يقولون:
علمنا الآن أن كلًّا في فلك يسبحون، وأن الشمس حقيقة تجري لمستقر لها، فمن
ذلك تتأكد أن العلوم تتغير وتترقى، والقرآن ثابت لا يتأثر بالحوادث، فإن وجد في
الكتاب الحكيم شيء لا نفهمه، وجب علينا أن ننتظر رقيّ العلوم، ولا نشك لحظة
في صحة القرآن.
قصدت في سياحة من سياحاتي مدينة بونتارليه؛ لمقابلة الدكتور جرينيه
المسلم الفرنساوي الشهير؛ الذي كان في السابق عضوًا في مجلس النواب. قابلته
لأجل سؤاله عن سبب إسلامه فقال لي:
إني تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية
والطبيعية، وهي التي درستها من صغري، وأعلمها جيدًا، فوجدت هذه الآيات
منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمت؛ لأني تيقنت أن محمدًا عليه
السلام أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة، من غير أن يكون له معلم أو مدرس
من البشر، ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآيات
القرآنية المرتبطة بما تعلمه جيدًا، كما قارنت أنا لأسلم بلا شك إن كان عاقلاً خاليًا
من الأغراض.
هذا المثل أوردته لمن يريد أن يعتبر. فإن الدكتور (جرينيه) لو اقتصر في
فهم القرآن على ما جاء في أغلب التفاسير القديمة المحشوة بكثير من الخزعبلات
بفضل النساخ الدساسين لما اعتنق الإسلام، ولكنه عوّل على معلوماته المستنبطة
من آخر اكتشافات باستور وكوخ وأقرانهما الذين وصلوا بالميكروسكوب وباقي
الآلات المعظمة إلى نقط دقيقة، ما كان الجنس البشري ليحلم بها في منامه قبل
عشرات من السنين.
وكذلك علماء الفلك مثلاً من غير أهل الإسلام، لو بحثوا بحثًا دقيقًا في الآيات
الباهرات لظهرت لهم أنوار عظيمة، ولعلموا أمورًا كثيرة خفيت عليهم حتى الآن.
وإني أرى أن علماءنا الفلكيين لو فسروا الآيات الحكيمة بالمعارف التي
اكتسبوها من دروس الإفرنج، لازدادوا يقينًا ولأدهشوا معلميهم وأساتذتهم وأبعدوا
عن أذهانهم شبهات كثيرة. ولا يبعد شيء من ذلك على أبناء وادي النيل النبهاء؛
لأنهم ورثوا مجد آبائهم الأولين من أقوام الفراعنة الذين أفاضوا علومهم على ناشري
ألوية المعارف في المشارق والمغارب؛ من كهنة الهند وحكماء الصين وفلاسفة
اليونان؛ ولأنهم ورثوا في آن واحد معارف المسلمين الثمينة وخزنوها في أزهرهم
الأنور؛ ليردها الطلبة العطاش من أنحاء المسكونة. فلتمكُّن أبناء العرب
المصريين في أيامنا هذه من لغات الأجانب ومن لغتهم العربية المبينة، يتأتى لهم
أن يرتقوا مقامًا عاليًا بين الإفرنج والمسلمين؛ كأنهم الترجمان بين الأضداد،
والرابطة بين الأقران والأصفياء.
والعلوم العصرية التي يسهل الحصول عليها في أقرب من لمح البصر، متى
وجد التوفيق، وقصد بها الاستعانة على فهم الكتاب المجيد، لا يصعب بثها في
أقطار المسلمين القدسية الطاهرة التي يؤمها المسلمون من كل فج عميق،
ولارتباطنا بها بأقوى الروابط بعد رابطة الدين، وهي رابطة الجنسية ورابطة اللغة.
الشبيبة المصرية التي نراها الآن ضعيفة، لا حول لها ولا قوة في أعمال
القطر ستكون بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة متربعة في مراكز الحكومة،
وقابضة على زمامها من غير شريك ومعارض، فيلزمها أن تستعد لوظيفتها هذه
العالية من الآن؛ للاتفاق على نوع العمل وعلى طريق السير فيه. إنما لا يمكن ذلك
إلا إذا قامت طائفة مباركة أعضاؤها على السواء من طلاب العلوم العصرية، ومن
طلاب علوم الدين الإسلامي الحنيف، واستعدت تلك العصابة العصامية؛ لتتولى
السيادة العلمية في مستقبل الأيام ولترأس كنقابة عامة أدبية جميع أجزاء الأمة
المحمدية المشتغلين بالعلوم والفنون والمعارف. فليتضافر لذلك من الآن طلبة
الأزهر وطلبة كل المدارس الأخرى، ويمزجوا علومهم وأفكارهم العالية وإحساساتهم
الشريفة، فإن القوة تأتي من الاتحاد، ويجيء الضعف من الافتراق والانحلال،
وعلى الأقل يجب فتح باب (الجامعة المصرية) بكل الوسائل لمن كان من فرسان
العلوم الشرعية وباب (الجامعة الإسلامية الكبرى) لمن كان من فرسان العلوم
(الإفرنجية) فتترعرع من اليوم الطائفة القويمة، وبعد قليل من السنين تخرج
الشعب المصري إن شاء الله من الظلمات إلى النور ومعه إخوانه من عرب وعجم؛
لأن الإسلام جسم واحد، متى صلح عضو منه صلحت باقي الأعضاء. فهكذا
تدرجت قبلكم الشبيبة الألمانية؛ لخلاص شعوبهم من الجهل والضعف، فسافرت
واغتربت وتعبت، ثم اتحدت على مبادئ متينة أساسها خدمة الأوطان وخدمة اللغة
الألمانية. فبأعمالها تكونت الوحدة الجرمانية الكبرى التي ترهب الآن كل متكبر
عنيد، وقد تبعتها الشبيبة الإيطالية ثم اليابانية، فعملت عملها، فكونوا مثلهم
واتصلوا إلى أرقى مما وصل إليه الجميع. فإن تحصلتم على العلوم لأجل تنوير
معاني الكتاب الكريم، وطهرتم نفوسكم بمحاسن الآداب المحمدية في آن واحد،
استفدتم وأفدتم، وسهل الله لكم الأعمال، وأعلى شأنكم بين العباد، وإلا فإن بقيتم
على حالتكم منقسمين {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) هذا
متمسك بالجمود على القديم العقيم، وذاك بالتهافت على الجديد المبني على الفاسد،
فلا تلوموا إلا أنفسكم إذا أزمنتم فيما نحن فيه من الارتباك والفوضى.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .
... ... ... ... ... ... ... القاهرة في 22 رجب الحرام
... ... ... ... ... ... ... محمود سالم
__________
(1) التوبة: 122.
(2) (الرعد: 16) .(14/515)
الكاتب: محمد سعيد
__________
قانون الجامع الأزهر
والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية
نحن خديو مصر:
بناء على ما عرضه علينا رئيس النظار، وموافقة المجلس المشار إليه، وبعد
أخذ رأي مجلس شورى القوانين.
أمرنا بما هو آت
(الباب الأول)
(في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وفي الرياسة الدينية العامة وفي
الإدارات)
(الفصل الأول)
(في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى)
(المادة الأولى)
الجامع الأزهر هو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر، والمعاهد الأخرى
هي معهد مدينة الإسكندرية، معهد مدينة طنطا، معهد مدينة دسوق، معهد مدينة
دمياط، وكل معهد يؤسس في القطر المصري بإرادة سنية
وكذا كل معهد أهلي يتقرر إلحاقه بالجامع الأزهر أو بأحد المعاهد الأخرى
بالشروط والأوضاع التي تبين في لائحة يضعها المجلس الأعلى، ويصدق عليها
بإرادة سنية.
(المادة الثانية)
الغرض من الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى؛ هو القيام على حفظ الشريعة
الغراء، وفهم علومها ونشرها على وجه يفيد الأمة، وتخريج علماء يوكل إليهم أمر
التعاليم الدينية، ويلون الوظائف الشرعية في مصالح الأمة، ويرشدونها إلى طرق
السعادة.
(المادة الثالثة)
تكون مدرسة القضاء الشرعي قسمًا ملحقا بالجامع الأزهر، وتبقى حافظة
لنظامها المقرر لها في قانون 25 فبراير سنة 1907.
ويحل مجلس الأزهر الأعلى محل المعارف العمومية في جميع الاختصاصات
التي له الآن؛ بمقتضى القانون المشار إليه.
وتفصل ميزانية المدرسة عن نظارة المعارف، ويخصص لها باب مستقل في
ميزانية الحكومة العمومية، وتجري عليها الأحكام المتعلقة بها.
ويبقى موظفو المدرسة من مستخدمي الحكومة.
* * *
(الفصل الثاني)
(في الرياسة الدينية العامة)
(المادة الرابعة)
شيخ الجامع الأزهر هو الإمام الأكبر لجميع رجال الدين، والرئيس العام
للتعليم فيه وفي المعاهد الأخرى، والمشرف الأعلى على السيرة الشخصية الملائمة
لشرف العلم والدين بالنسبة إلى من ينتمي لجميع المعاهد من أهل العلم وحملة
القرآن الشريف، وكذا من كان من أهل العلم وحملة القرآن الشريف من غير
المصريين.
(المادة الخامسة)
شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس المجلس الأعلى؛ هو المنفذ الفعلي العام
لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى
وأرباب الوظائف في جميع المعاهد تابعون له بهذه الصفة وخاضعون لأوامره؛
طبقًا لما هو مقرر في هذا القانون.
* * *
(الفصل الثالث)
(في الإدارة العامة)
(المادة السادسة)
يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة بالجامع الأزهر شيخ، وكذا يكون لكل
معهد من المعاهد الأخرى.
ويحوز عند الاقتضاء تعيين وكلاء للجامع الأزهر ولباقي المعاهد، ويكون لهم
جميع الاختصاصات التي للمشايخ في حال غيابهم الرسمي.
(المادة السابعة)
يكون لكل قسم من أقسام التعليم بالجامع الأزهر المنصوص عليها بالمادة
السادسة والعشرين من هذا القانون؛ شيخ ومراقبون وكتبة.
ويجوز إيجاد هذه الوظائف في المعاهد الأخرى بقرار من مجلس الأزهر
الأعلى، إذا اقتضت أحوال التعليم ذلك، بعد أخذ رأي مجلس إدارة المعهد.
(المادة الثامنة)
يكون بالجامع الأزهر مجلس يسمى مجلس الأزهر الأعلى، وتنشأ مجالس
إدارة للأزهر ولمعهدي الإسكندرية وطنطا.
(المادة التاسعة)
يؤلف مجلس الأزهر الأعلى من شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيسًا، ومن
ثمانية أعضاء وهم:
شيخ السادة الحنفية.
شيخ السادة المالكية.
شيخ السادة الشافعية.
شيخ السادة الحنابلة.
مدير عموم الأوقاف المصرية.
ثلاثة ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة، لترقية التعليم وحسن انتظام
إدارته؛ بشرط أن يكونوا من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر
والمعاهد الأخرى.
ويكون تعيينهم بإرادة سنية بناء على قرار من مجلس النظار.
وفي غياب شيخ الجامع الأزهر، ينوب عنه في الرياسة شيخ السادة الحنفية.
(المادة العاشرة)
يختص مجلس الأزهر الأعلى بما يأتي:
أولاً - وضع الميزانية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.
ثانيًا - النظر في إنشاء المعاهد الدينية العلمية الإسلامية، وإلحاق بعض
المعاهد الصغرى بالتي هي أكبر منها أو تغيير تبعيتها.
ثالثًا - النظر في فصل المعاهد من تبعية غيرها، وجعلها تابعة للجامع
الأزهر مباشرة.
رابعًا - النظر في إنشاء مجالس إدارة للمعاهد التي ليس لها مجالس إدارة
خامسًا - وضع النظامات العامة للتدريس والامتحانات.
سادسًا - التصديق على تقرير الكتب التي تدرس بالجامع الأزهر والمعاهد
الأخرى.
سابعًا - النظر في ترشيح مشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء، وترقيتهم ونقلهم
وفصلهم.
ثامنًا - النظر في ترشيح أعضاء مجالس الإدارة.
تاسعًا - التصديق على ما تقرره مجالس الإدارة؛ من تعيين المدرسين
والموظفين وترقيتهم ونقلهم وفصلهم.
عاشرًا - النظر في طلب منح كساوي التشريف العلمية لمستحقيها؛ بناء على
قرارات مجالس الإدارة.
(المادة الحادية عشرة)
ينعقد مجلس الأزهر الأعلى بالجامع الأزهر مرة في كل شهر على الأقل
بدعوة من الرئيس.
ولشيخ الجامع عقده أكثر من ذلك إن دعا الحال.
وينعقد أيضًا عند الاقتضاء، تحت رياسة سمو الحضرة الفخيمة الخديوية.
(المادة الثانية عشرة)
قرارات مجلس الأزهر الأعلى تكون بأغلبية الآراء وإن استوى الفريقان،
فالأرجحية للفريق الذي فيه الرئيس.
ولا تصح مداولته إلا إذا حضر الجلسة ستة من الأعضاء سوى الرئيس.
(المادة الثالثة عشرة)
يؤلف مجلس إدارة الأزهر تحت رياسة شيخ الجامع، وبعضوية ستة من
الأعضاء؛ واحد من علماء الحنفية، وواحد من علماء الشافعية، وواحد من علماء
المالكية، وواحد يختار كل سنتين من علماء أحد المذاهب المذكورة بالدور، واثنان
ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة؛ لترقية التعليم وحسن إدارته؛ بشرط أن
يكونا من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى،
ويكون تعيينهما بالكيفية المبينة في المادة التاسعة.
وفي غياب شيخ الجامع الأزهر، ينعقد المجلس تحت رياسة وكيل المشيخة،
وفي غيابه ينعقد تحت رياسة أكبر الأعضاء العلماء سنًّا.
(المادة الرابعة عشرة)
يؤلف كل من مجلس إدارة معهد الإسكندرية ومعهد طنطا تحت رياسة شيخه؛
وبعضوية أحد علماء الحنفية وأحد علماء الشافعية وأحد علماء المالكية بالمعهد،
وواحد ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة؛ لترقية التعليم وحسن انتظام إدارته،
بشرط أن يكون من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد
الأخرى.
ويكون تعيينه بالكيفية المبينة في المادة التاسعة.
وفي غياب شيخ المعهد ينعقد المجلس تحت رياسة وكيل المشيخة، وفي
غيابه ينعقد تحت رياسة أكبر الأعضاءالعلماء سنًّا.
ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى أن يرأس بنفسه
عند الاقتضاء أيَّ مجلس إدارة في المعاهد الأخرى.
(المادة الخامسة عشرة)
يشترط في من يعيّن عضوًا في مجالس الإدارة من العلماء:
أولاً - أن يكون من أرباب كسوة التشريف من الدرجة الأولى أو الثانية.
ثانيا - أن يكون أمضى مدة أقلها عشر سنوات بصفة مدرس في الجامع
الأزهر أو المعاهد الأخرى.
فإن لم يوجد بالمعاهد الأخرى من يكون حائزًا لكسوة التشريف من الدرجة
الأولى أو الثانية، أو من لم يكن أمضى مدة عشر سنين بصفة مدرس يكتفى بمن
يكون حائزًا لكسوة التشريف من الدرجة الثالثة، أو بمن يكون أمضى في التدريس
مدة أقلها خمس سنين.
(المادة السادسة عشرة)
تختص مجالس الإدارة بما يأتي:
أولاً - تحضير الميزانية الخاصة بكل معهد.
ثانيًا - تقرير تعيين المراقبين والكتبة وكذا ترقيتهم ونقلهم وفصلهم.
ثالثًا - تقرير تعيين المدرسين والموظفين الغير المذكورين في الوجه السابق
وترقيتهم ونقلهم وفصلهم.
رابعًا - تقرير كُتُب الدراسة.
خامسًا - توزيع العلوم على المدرسين وتعيين المساجد أو الأماكن التي
تخصص للدراسة وتعيين عدد الدروس التي يكلف بها كل مدرس وساعة ومكان كل
درس.
سادسًا - تقرير القواعد التي يكون بموجبها ضبط الطلبة وحسن سير الأعمال
وكل ما له علاقة بالإدارة الداخلية.
سابعًا - تقرير طريقة توزيع ما يرد من النقود للمعهد من قبيل الإيرادات
الدائمة للتصديق على ذلك من مجلس الأزهر الأعلى.
(المادة السابعة عشرة)
ينعقد مجلس الإدارة مرة في كل أسبوع على الأقل بدعوة من الرئيس، وله
عقده أكثر من ذلك إن اقتضى الحال.
(المادة الثامنة عشرة)
تصح مداولات مجلس الإدارة متى حضر ثلاثة من أعضائه سوى الرئيس،
وتكون القرارات بالأغلبية، وإن تساوى الفريقان فالأرجحية للفريق الذي فيه
الرئيس.
(المادة التاسعة عشرة)
رئيس مجلس الإدارة هو المنوط به الإدارة العمومية في معهده، وتنفيذ
قرارات المجلس، وله تعيين وترقية ونقل وفصل الخدمة الخارجين عن هيئة
العمال ومباشرة جميع أحوال الضبط والنظام، مع مراعاة القوانين وقرارات مجلس
الأزهر الأعلى ومجلس إدارة معهده، وهذا بدون إخلال بما لشيخ الجامع الأزهر
من الاختصاصات العامة الأخرى المنصوص عليها في هذا القانون.
(المادة العشرون)
يعين للتفتيش بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى العدد اللازم من المفتشين،
ويكونون تابعين لرئيس مجلس الأزهر الأعلى.
وينشأ في الجامع الأزهر وفي كل معهد له مجلس إدارة قلم كُتّاب فيه العدد
الكافي للقيام بالأعمال الخاصة به.
ورئيس قلم الكتاب في كل معهد هو كاتب مجلس إدراته.
وإذا غاب رئيس الكتاب، يندب رئيس المجلس منهم من يقوم مقامه، ويعين
لمجلس الأزهر الأعلى كاتب خاص.
(المادة الحادية والعشرون)
يكون إلحاق بعض المعاهد الصغرى بالتي هي أكبر منها أو تغيير تبعيتها،
وكذا فصل المعاهد من تبعية غيرها وجعلها تابعة للجامع الأزهر مباشرة، وإنشاء
مجالس الإدارة بمقتضى إرادة سنية.
(المادة الثانية والعشرون)
انتخاب وتعيين شيخ الجامع الأزهر منوطان بنا وبأمر منا.
وتعيين مشايخ المذاهب بالأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء وأعضاء
مجالس الإدارة العلماء، يكون بإرادة سنية بناء على عرض شيخ الجامع الأزهر
بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى، مع مراعاة ما نص عنه بالوجهين السابع
والثامن من المادة العاشرة وبالفقرة الثانية من المادة الآتية.
ومدة العضوية في مجالس الإدارة سنتان، ويجوز إعادة تعيين الأعضاء
أنفسهم.
(المادة الثالثة والعشرون)
يختار شيخ الجامع الأزهر من كبار العلماء المنصوص عليهم في الباب السابع
من هذا القانون.
ويختار شيخ كل مذهب من بين فقهائه الذين هم من كبار العلماء المذكورين.
ويختار مشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء من العلماء الحائزين للشروط المبينة
في الفقرتين الأولى والثانية من المادة الخامسة عشرة.
(المادة الرابعة والعشرون)
علماء كل رواق وعلماء كل حارة ينتخبون شيخهم، فإن لم يكن في الرواق أو
الحارة علماء، يكون الانتخاب للمستحقين، وذلك مع مراعاة شروط الواقفين وطبقًا
لما يتقرر في اللائحة الداخلية.
* * *
(الباب الثاني)
(في العلوم وفي زمن الدراسة والمساحات)
(الفصل الأول)
(في العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى)
(المادة الخامسة والعشرون)
العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى هي الآتية:
(علوم دينية) : التجويد، التفسير، الحديث ومصطلح الحديث، التوحيد
الفقه، أصول الفقه، السيرة النبوية، التوثيقات الشرعية، الإجراءات القضائية
(علوم اللغة العربية) : النحو والوضع، الصرف، المعاني، البيان،
البديع، آداب اللغة، الإنشاء، العروض والقوافي، الخط، الإملاء، المطالعة.
(علوم رياضية وغيرها) : المنطق، آداب البحث، الحساب، الهندسة،
الرسم، الجبر، التاريخ، الهيئة، الميقات، نظام الإدارة والقضاء والأوقاف
والمجالس الحسابية، التربية العلمية، التربية العملية.
ويجوز للمجلس الأعلى أن يؤخر البدء بتعليم المواد الآتية أو بعضها، ريثما
تتم معداتها وهي:
التجويد، التوثيقات الشرعية، الوضع، آداب اللغة، الجبر، دروس الأشياء،
قواعد الصحة، التاريخ الطبيعي، الهيئة، الميقات، التربية العلمية، التربية
العملية.
(المادة السادسة والعشرون)
ينقسم التعليم في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى إلى ثلاثة أقسام:
أولي وثانوي وعالٍ.
(المادة السابعة والعشرون)
العلوم التي تدرس في القسم الأوليّ هي:
(علوم دينية) : الفقه، التجويد، التوحيد، السيرة النبوية، الأخلاق الدينية
(علوم اللغة العربية) : النحو، الصرف، المطالعة، الإنشاء، الإملاء،
الخط.
(علوم رياضية وغيرها) تقويم البلدان، الحساب، الهندسة، الرسم التاريخ،
دروس الأشياء، خواص الأجسام، قواعد الصحة، التاريخ الطبيعي.
(المادة الثامنة والعشرون)
العلوم التي تدرس في القسم الثانوي هي:
(علوم دينية) : التوحيد، الأخلاق الدينية، الفقه مع حكمة التشريع،
التوثيقات الشرعية، التفسير، الحديث.
(علوم اللغة العربية) : النحو والوضع، الصرف، المطالعة، المعاني،
البيان، البديع، الإنشاء.
(علوم رياضية وغيرها) : المنطق، آداب البحث، التاريخ، الحساب،
الهندسة، الجبر، الهيئة، الميقات، خواص الأجسام، قواعد الصحة، التاريخ
الطبيعي.
(المادة التاسعة والعشرون)
العلوم التي تدرس بالقسم العالي هي:
(علوم دينية) : التوحيد، الفقه مع حكمة التشريع، أصول الفقه، التفسير
الحديث ومصطلح الحديث، الإجراءات القضائية.
(علوم اللغة العربية) : المعاني، البديع، العروض والقافية، آداب اللغة
العربية.
(علوم رياضية وغيرها) : المنطق، نظام القضاء والإدارة والأوقاف
والمجالس الحسبية، التربية العلمية، التربية العملية.
(المادة الثلاثون)
يجوز لمجلس الأزهر الأعلى بناء على طلب أحد مجالس الإدارة أو من تلقاء
نفسه: أن ينقل علمًا أو أكثر من العلوم المقررة في المادة الخامسة والعشرين من
قسم إلى قسم آخر إذا اقتضى الحال، ويجب على كل حال أخذ رأي مجلس الإدارة
الأخرى.
(المادة الحادية والثلاثون)
بعد تقرير عدد الدروس لكل مادة أول سنة، لا يجوز تنقيص دروس أي مادة
تقرر لها درسان اثنان.
* * *
(الفصل الثاني)
(في زمن الدراسة والمساحات)
(المادة الثانية والثلاثون)
مدة التعليم في كل قسم خمس سنين على الأقل وسبع سنين على الأكثر، في
الأحوال المنصوص عليها في المادة التاسعة والأربعين.
(المادة الثالثة والثلاثون)
تبتدئ السنة الدراسية في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى من اليوم الحادي
عشر من شهر شوال، وتنتهي في اليوم العشرين من شهر شعبان.
(المادة الرابعة والثلاثون)
تعطل الدروس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، ويسامح الطلبة في
الأوقات المعينة بعد:
من 21 شعبان لغاية 10 شوال.
من أول يوليو لغاية أغسطس (مسامحة صيفية) .
عشرة أيام للعيد الكبير.
ويقر مجلس الأزهر الأعلى مدة العطلة للمواسم الخصوصية في كل معهد
فإذا وقعت المواسم والأعياد في شهر يوليو وأغسطس، فلا تعطل الدروس
مدة أخرى.
لكن إذا تداخل آخر شهر شعبان أو شهر رمضان أو أوائل شهر شوال في
الشهرين المذكورين، فيقرر المجلس ابتداء مدة الدراسة ونهايتها، بحيث لا تزيد
مدة العطلة على ثلاثة أشهر ونصف، ولا تنقص عن شهرين ونصف.
(المادة الخامسة والثلاثون)
يعلن بالجريدة الرسمية ابتداء وانتهاء المساحات العمومية ومساحة العيد
الكبير.
(المادة السادسة والثلاثون)
لا يجوز تعطيل الدروس يومًا أو بعض يوم في غير الأحوال المنصوص
عليها إلا بأمر من شيخ المعهد؛ لأسباب استثنائية في الأمر المذكور.
(المادة السابعة والثلاثون)
لا يجوز أن تزيد ساعات التدريس عن سبع ساعات في كل يوم.
* * *
(الباب الثالث)
(في الامتحانات والشهادات)
(الفصل الأول)
(في الامتحانات)
(المادة الثامنة والثلاثون)
شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى هو المدير العام
لأعمال الامتحان والشهادات في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وله أن يراقبها
أيضًا بمن يندبه من الموظفين بعد تصديق مجلس الأزهر الأعلى.
(المادة التاسعة والثلاثون)
الامتحانات التي يجب إجراؤها في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى هي
الآتية:
أولاً - امتحان النقل من سنة إلى أخرى.
ثانيًا - الامتحان الأول.
ثالثًا - الامتحان الثانوي.
رابعًا - الامتحان العالي.
(المادة الأربعون)
الامتحان واجب على جميع طلبة كل سنة من سني الدراسة بالجامع الأزهر
والمعاهد الأخرى؛ ما عدا المحرومين منه بمقتضى ما يتقرر في اللائحة الداخلية.
وكل طالب لم يتقدم إلى الامتحان بغير عذر مقبول يعتبر ساقطًا، ويعامل
بنص المادة التاسعة والأربعين.
(المادة الحادية والأربعون)
الأحوال التي يقبل فيها عذر الطالب في تأخيره [1] عن دخول أي امتحان
تتقرر في اللائحة الداخلية.
(المادة الثانية والأربعون)
إذا تخلف الطالب عن امتحان النقل أو أحد الامتحانات الأولي أو الثانوي أو
العالي في المواعيد المحددة؛ لمرض أو مانع قهري، فلمجلس الإدارة أن يجيز
امتحانه في أول السنة الدراسية التالية.
(المادة الثالثة والأربعون)
يكون الامتحان الأولي والثانوي بالمعهد الذي درس فيه الطالب، وأما امتحان
شهادة العالمية فيكون في الجامع الأزهر.
(المادة الرابعة والأربعون)
الامتحانات الأولي والثانوي والعالي تكون تحريريًّا وشفهيًّا، ويكون الامتحان
تحريريًّا فقط فيما عدا ذلك.
تبين كيفية الامتحانات التحريرية والشفهية باللائحة الداخلية.
(المادة الخامسة والأربعون)
الامتحان السنوي يكون في مقرر السنة الحاصل فيها الامتحان.
وامتحان الشهادات في كل قسم، يكون في مقرر السنة المذكورة؛ وفي العلوم
الدينية وفي علوم العربية المقررة للقسم الحاصل فيه الامتحان.
(المادة السادسة والأربعون)
امتحان النقل يكون في آخر السنة الدراسية، والامتحانات الأولي والثانوي
والعالي، تكون في المواعيد التي يقررها مجلس الأزهر الأعلى.
(المادة السابعة والأربعون)
تكون الامتحانات أمام لجان تؤلف لذلك.
(المادة الثامنة والأربعون)
ينتخب مجلس الأزهر الأعلى أعضاء الامتحان العالي، ويضع لهم التعليمات
التي يراها بمراعاة ما نص عليه في هذا الباب.
وينتخب مجلس إدارة كل معهد أعضاء لجان امتحان النقل والامتحانين الأولي
والثانوي، ويجب التصديق على ذلك من مجلس الأزهر الأعلى.
(المادة التاسعة والأربعون)
المدة التي يغتفر للطالب إعادة الدروس فيها سنتان في كل قسم من الأقسام
الثلاثة، بحيث إن الطالب لا يعيد دروس السنة الواحدة أكثر من مرة.
ومن لم ينجح في امتحان سنة الإعادة يُرْفَت.
إنما يجوز لمجلس الإدارة أن يقرر بقاء الطالب الذي سقط مرتين في الامتحان
سنة ثالثة، بشرط أن لا يكون ذلك موجبًا لإطالة مدة الدراسة أكثر من إحدى
وعشرين سنة.
(المادة الخمسون)
إذا سقط الطالب في امتحان النقل من سنة النقل إلى أخرى أو في امتحان
إحدى الشهادتين الأولية أو الثانوية في علم واحد أو علمين على الأكثر،
فلمجلس الإدارة أن يقرر امتحانه فيما سقط فيه قبل ابتداء الدراسة في السنة التالية،
وذلك إذا كان له من الأحوال الخصوصية ما يقتضي هذا الاستثناء.
(المادة الحادية والخمسون)
من أقام في الجامع الأزهر أو في أحد المعاهد الأخرى أقصى المدة المحددة
لأي قسم من الأقسام الثلاثة؛ ولم يحصل على شهادة هذا القسم، يمحى اسمه من
السجلات، وتقطع مرتباته التي كانت له بمقتضى كونه منتسبًا
ومع ذلك يباح له الدخول في الامتحانات؛ لنيل الشهادة التي سقط فيها، ولا
يسمح بامتحانه لنيل شهادة أعلى منها، وإذا سقط مرتين فلا يسمح بامتحانه بعد ذلك.
ولا يجوز أن يقبل في امتحان بعد مضي سنتين من تاريخ سقوطه السابق
(المادة الثانية والخمسون)
يجور لغير طلبة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى أن يدخلوا في الامتحانات
لنيل إحدى الشهادات؛ طبقًا لما هو مقرر في هذا الباب وبمراعاة ما يأتي:
أولاً - أن يمتحن طالب نيل إحدى الشهادات الثلاث في جميع العلوم المقرر
تدريسها في القسم الذي يطلب نيل شهادته.
ثانيًا - أن لا يقبل من أحد الامتحان لنيل الشهادة الثانوية، إلا إذا كان حائزًا
للشهادة الأولية.
ثالثًا - أن لا يقبل منه امتحان شهادة العالمية؛ إلا إذا كان حائزًا للشهادة
الثانوية.
(المادة الثالثة والخمسون)
يشترط لنجاح الطالب في الامتحان ما يأتي:
أولاً - أن ينال النهاية الصغرى في السلوك، وفي المواظبة، وفي كل علم
من العلوم المقرر لنهايتها الكبرى 30 أو 40 (راجع الجدول الآتي) .
ثانيًا: أن لا ينقص متوسط درجاته في العلوم الأخر عن ثمانية وأن لا
تنقص درجته في أي علم منها عن أربعة (راجع الجدول الآتي) .
ولا تشترط نمرة السلوك ونمرة المواظبة بالنسبة للطلبة الذين يُمتحنون لنَيْل
شهادة العالمية، ولا للطلبة الذين يدخلون في الامتحان طبقًا للمادة السابقة
ويجب امتحان طالبي الشهادة الأولية في حفظ القرآن كله وأن ينال الطالب عشرين درجة على الأقل من أربعين وإلا يعتبر ساقطا في الامتحان كله.
* * *
(الفصل الثاني)
(في الشهادات)
(المادة الرابعة والخمسون)
الشهادات ثلاثة أنواع:
شهادة أولية: وهي لمن أتموا الدراسة في القسم الأولي.
وشهادة ثانوية: وهي لمن أتموا الدراسة في القسم الثانوي.
وشهادة العالمية: وهي لمن أتموا الدراسة في القسم العالي.
(المادة الخامسة والخمسون)
من نجح في الامتحان الأولي ينال شهادة الأولية، ومن نجح في الامتحان
الثانوي ينال الشهادة الثانوية، ومن نجح في الامتحان العالي ينال شهادة العالمية.
(المادة السادسة والخمسون)
يرتب الناجحون في الامتحان على حسب درجاتهم التي نالوها، والدرجة التي
يكون بموجبها الترتيب هي التي تتحصل من جمع متوسط درجات العلوم الدينية؛
ومتوسط مجموع متوسطي علوم اللغة والعلوم الرياضية.
وينشر كشف الترتيب المذكور بالجريدة الرسمية بالنسبة لمن نالوا الشهادات.
(المادة السابعة والخمسون)
توضع الشهادة الأولية أو الثانوية على نموذج، يقرره مجلس الأزهر الأعلى،
ويوقع عليها من شيخ الجامع الأزهر، وتختم بخاتم المشيخة.
(المادة الثامنة والخمسون)
يصدر بشهادة العالمية بيورولدي عال؛ بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر.
(المادة التاسعة والخمسون)
الحائزون للشهادة الأولية يكونون أهلاً لأن يدرجوا ضمن طلبة القسم
الثانوي.
وكذلك يكونون أهلاً لوظائف التعليم في المكاتب التحضيرية التابعة للجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى وفي الكتاتيب.
والحائزون للشهادة الثانوية؛ يكونون أهلاً لأن يدرجوا ضمن طلبة القسم
العالي، وكذلك يكونون أهلاً للتعيين في وظائف مدرسي الخط والإملاء، وفي
الوظائف الكتابية في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وفي المحاكم الشرعية
والأوقاف والخطابة والإمامة والوعظ والمأذونية.
(المادة الستون)
الحائزون لشهادة العالمية، يكونون أهلاً لما تؤهل له الشهادة الثانوية،
وللاحتراف بالمحاماة أمام المحاكم الشرعية، وللتعيين في وظائف التدريس بالجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى، وفي المساجد لتعليم العامة، وفي الوظائف القضائية
بالمحاكم الشرعية؛ إذا كانوا حنفيين.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: الظاهر أن يقال في تأخره.(14/521)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هل للقول من مستمع؟
وهل للداعي من مجيب؟
جاءتنا هذه الرسالة من أحد الملاويين صاحب الإمضاء الرمزي، كتبها بعد
قراءة مقالتنا الأولى (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) .
نطقت ألسن الجرائد والمجلات، وأذن مؤذنوها على منائر الأرجاء أن
سبب سقوط المسلمين وتأخرهم عن الأمم الحية هو الجهل الذي فشا بينهم، فنشأ
منه ما نشأ من عدم الاتفاق والاتحاد , وانتفت به الوحدة والتراحم والتواد , وبه
ورثت دولة منها ملكنا وأرضنا وديارنا وسادتنا، واستبدت فينا، فلم يشعر أحد منا
بما حل بنا من سوء هذا العذاب، فلا حول ولا قوة إلا بالله , نعم.. فشا الجهل بين
المسلمين على الإطلاق، ولكن ما سمعت الجرائد والمجلات وصفت أحوال المسلمين
كما وصفت أحوال مسلمي جاوه في الجهل وضعف النفس والهمجية، على كونهم
أكثر من ثلاثين مليونًا من المسلمين، وعابت علماءهم لعدم استعدادهم واطلاعهم
على أحوال العالم , وسياحهم لعدم اعتبارهم وتفكرهم في المخلوقات وأحوال الخلق
عند سيرهم في الأرض.
أطلقت الجرائد والمجلات كلمة مسلمي جاوه على جميع المسلمين في هاتيك
الأرجاء، على أن مسلمي ملايو (ماليزيا) غير مسلمي (جزائر جاوه) ، ولغتهم
غير لغة الجاويين. كالفرق بينهم وبين الهنود في اللغة والجنس، ولا جامعة تجمع
بين أولئك وهؤلاء إلا الدين الحنيف، غير أن الجاويين أكثر مخالطة للملاويين من
سائر المسلمين، وقد خرجوا من جزائزهم هاربين لأرض ملايو؛ لما أحدق بهم من
الضيق والاستبداد والاستعباد الذي لم يفعل ولن يفعل بغيرهم من رعايا هولندة فعله
بهم.
ذلك بأن الملاويين والجاويين هم سواء في الجهل، وعدم الاتفاق والائتلاف
بينهم، والتباغض والتحاسد فيما بينهم، ولكن ليس في الملاويين مثل ما في
الجاويين من دناءة النفس والخضوع الذميم وإن كانوا في الجهل سواء، ثم إن في
أرض ملايو عدة سلاطين، فكل سلطان يتصرف في بلده كيف شاء , واتفاقهم
محال , وليس في جزائر جاوه إلا سلطانان وهما الأخوان , وأهل ملايو على قلتهم
وتفرقهم وتباعدهم وجهلهم كثيرًا ما قاوموا الهولنديين الذين في بلادهم، ونازعوهم
وعصوا أمرهم، وأتشين (أجيه) في صومطرة تحاربها منذ أربعين سنة هولندة
وهى إلى اليوم لم تخضع لها خضوعاً، هل سمعت أن أهل جزائر جاوه على
كثرتهم قاوموا هولندة وعصوا أمرها؟ كلا ثم كلا؛ بل كانوا ولا يزالون خاضعين
خاشعين لها فوق خضوعهم وخشوعهم لرب العالمين. والحمد لله لم يوجد فيما نعلم
أحد من مسلمي ملايو تنصر أو تهود. هذا، ولا أعني بقولي هذا تفضيل الملاويين
على الجاويين، فكلهم معرضون عن طلب العلم ونشر التعليم بين أبنائهم وعن إزالة
التفرق والاختلاف بينهم، وما داموا في الجهل سواء فلا فرق بين الجنسين.
قول (المنار) : ومن عجائب خمولهم: أي (المسلمين الجاويين) وضعف
استعدادهم أن الذين يرحلون منهم لطلب العلم، يقيمون السنين الطوال بمكة أو
مصر، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا
أحوال هذا العصر شيئًا قط؛ لأنهم يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية،
يتعبدون ببعض كتب متأخري الشافعية؛ كابن حجر الهيتمي والرملي فإن
تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا الأنصاري والنووي ا. هـ
وأزيدك أيها القارئ علمًا بأن من يتعلم العلم منهم في مكة، إنما يتعلمه ليطفئ
نور همة غيرهم من المسلمين في إحياء العالم وإصلاح الطريق الموصلة إلى سعادة
الدارين , وليأمر قومه بالإفراط في الزهد، وترك الدنيا بالمرة، وتحقير النفس
والخضوع الذميم , لا ليعلمهم دينهم ويبين لهم حقيقته وأصوله، ولا لينجيهم من
تنصير الدعاة (المبشرين) إياهم.
ذلك بأن أكثر الشيوخ الجاويين في مكة، ينفقون أوقات تلاميذهم في قراءة
الكتب الفقهية كتابًا فكتابًا إلى ما لا نهاية له. وهؤلاء التلاميذ أكثرهم لم يفهموا شيئًا
من اللغة العربية، وهم يعلمونهم أيضًا النحو والصرف. ولكن لعدم مراعاتهم
طريقة التعليم المقربة للفهم أو لعدم علمهم بذلك، صار التلاميذ لا يفقهون ما
يقولون.
ولهذا نقول: إذا وجدت واحدًا في المئة يتعلم ويفهم بعد أن قضى في مكة
السنين الطوال فخير كثير , وكثيرًا ما سألت إخواني الطلبة هناك الذين جلسوا عشر
سنين و15 سنة عن الإعراب، فوجدتهم لا يعرفون الإعراب الظاهر فضلاً عن
الإعراب التقديري والمحلي، ومع هذا يقرؤون ابن عقيل والأشموني وشرحي
المنهج والمناهج. ومن أحوال أكثر هؤلاء الشيوخ أنهم يعلمون حجاج بيت الله
الحرام ما يسمونه الطريقة، ويأمرونهم بشراء السبح ويزهدونهم فى الدنيا، وهؤلاء
الحجاج المساكين لا يعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا أحكام الحج التي تجب عليهم
معرفتها قبل شروعهم فى العمل، وما ذاك إلا ليتصدقوا عليهم.
وإذا كان الحال كذلك، فكيف لا يكثر الدجالون هناك، وأعداء الإصلاح،
ومروجو الخرافات والخزعبلات وأنصار البدع؟
يا هؤلاء الشيوخ: لا تغلو في دينكم، ولا تأمروا تلاميذكم بترك الدنيا
وإخضاع أنفسكم وإهانتها للأمة المستبدة، فإن الإسلام لا يأمرنا نحن المسلمين بذلك
وإنه لا ينهانا عن المأكل اللذيذ ولا الملبس الحسن، وإنه ليس فيه حرج ولا غلو
ولا إفراط ولا تفريط، وعلّموا تلاميذكم كتاب الله وسنة رسوله.
إنني والله لأخشى يوم يتجلى رب العالمين أن يعاقب المعلمين؛ بصد
المتعلمين عن كتاب الله وسنة رسوله. بكتب أولئك الفقهاء وإن كانت دينية، أقول
قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولمن اتبع الهدى ورجحه على الهوى.
... ... ... ... ... ... القاهرة في 17جمادى الآخر 329
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع
__________(14/537)
الكاتب: مقترح من حضرموت
__________
حضرموت
سيدي صاحب المنار أطال الله بقاءك في مراضيه في عافية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهنيكم بما سمت إليه همتكم العالية من
السعي في إقامة (جماعة الدعوة والإرشاد) تلك المكرمة البكر التي نحن الآن في
أشد حالات الاضطرار إليها؛ لأن وظيفة من يخرج منها هي وظيفة الرسل الكرام
عليهم السلام، حياك الله وكبت عداك، لقد أرضيت بسعيك رب العالمين، وأقررت
عين سيد المرسلين، والأنزع البطين، وإني أتمثل بقول الشاعر:
إذا علوي لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلا حجة للنواصب
إنني على بعد الديار، كتبت إليكم بهذه السطور؛ إعلانًا لما يكنه ضميري من
حب الإسلام وأهله، وحب من يخدمه من أمثالكم، ولو كان حبشيًّا أو أرمنيًّا أو
صينيًّا، فكيف إذا كان من أشرف أرومة، وأطهر جرثومة. وشاهد القول أفعال
تصدقه. ولأقترح على تلك الجماعة الفاضلة بواسطة مناركم الأغر؛ أن تخصوا
أول رجالها المتعلمين بمدرستها بإرساله إلى حضرموت لأن بها عددًا عديدًا من
سلالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قتلهم الجهل، وفقد من بين ظهرانيهم العلم،
وبعد بعض بواديهم عن الدين، وإرشادهم مما يدخل السرور الخاص على
المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قبره. علاوة على أنهم عرب وفي
الجزيرة، والأقربون أولى بالمعروف.
ولأن بحضرموت الآن خلفاً أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وابتدعوا
في الدين، وغرروا العامة، وسلبوا بعضهم البقية الباقية من دينه، وإليك نموذجًا
من مقالهم في وعظهم: كنت منذ أشهر في مجلس أكبر وعاظ حضرموت
المشهورين بالولاية الكبرى، فكان مما قال: إن أتان فلان؛ وسمى أحد المشهورين
بالعلم والولاية من الأولين، كانت تأتي بخبر السماء كل يوم مرتين. فلما مات أتت
به كل يوم مرة. فأفهم قوله هذا من يعظه ويقدم كلامه على كلام الله ورسوله؛ أن
ذلك الولي خير من النبي؛ لأن النبي انقطع عنه الوحي أشهرًا وهذا أتانه، فكيف
هو، يأتي بخبر السماء كل يوم مرتين، وأفهمهم أيضًا أن جبريل أقل قدرًا من تلك
الأتان (أستغفر الله) ؛ لأنه انقطع عن النزول بالوحي بعد موت النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم، وتلك الأتان لم توصد في وجهها أبواب السماء صاعدة
وهابطة , ولولا خوفي أن يسبق رأسي كلامي لسألتة عن صفة معراج تلك الأتان،
أكان على البراق أم على أفضل منها، ومنها ما سمعته عن عظيم فيهم، وهو
روايته بالسند عن بعض الأولياء أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة
والمدعون لهذا فينا كثير بدون نكير؛ فسأله أن يحدثه شفاهًا بحديث ينتفع به وينفع
به الأمة، فقال له يعني النبي - وأستغفر الله من كتابة هذا وإن كان حاكي الكفر
ليس بكافر -: (من اتخذ سبحة كان من الذاكرين الله كثيرًا ذكر أم لم يذكر، ومن
شرب القهوة استغفرت له ما دام في فمه أثر منها، ومن وقف بين يدي ولي لله -
وهنا محل الإشارة - حيًّا كان أو ميتًا، ولو قدر شج بيضة، كان وقوفه أفضل من
عبادة الثقلين سبعين سنة إلى نحو ذلك) مما جعلني خرجت باكي العين على
الإسلام موجع القلب؛ مصدقًا لقول ابن المقري رحمه الله في ضلال المتصوفة.
ليتهم كانوا يهودًا ... ليتهم كانوا نصارى
الأبيات. متحسرًا لأن الحاضرين على كثرتهم وتأبط العدد الجم منهم للكتب،
واشتغالهم بزعمهم في طلب العلم السنين الكثيرة، لم ينتبهوا إلى فساد هذه المزاعم
البديهية البطلان، فإن السيف خير من السبحة ومتخذه لا يعد من المجاهدين إلا إذا
كان جاهد أو صمم عليه إذا لم يحضره.
واللبن أفضل من محروق البن، وقد أمر النبي بالمضمضة منه لا بالتلمظ
ببقاياه أو بخاثره فضلاً عن الإثابة على عدم النظافة، والوقوف بين يدي الله في
الصلاة أفضل العبادات، ولم يأت فيه ما ذكر من الفضل، فعسى أن ينتشل الله ذلك
القطر وأهله على يدكم، وفقكم الله وهداكم لما يحبه، وإني لا أصرح باسمي في
هذه المقالة، وإن كنت الآن في بمباي حيث ما لعباد عليّ إمارة، ولكني أخاف
على قرابتي في حضرموت من ظلم أولئك الذين عنيت أو أتباعهم (وعلى الله
قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... مقترح من حضرموت
... ... ... ... ... بمباي في غزة جمادى الأول سنة 1329
(المنار) هذه هي نتائج الغلو في الصالحين وكراماتهم، ولا أرى في مقابلة
مفاسده الكثيرة مصلحة ما. وأما ما يزعمه الدجالون المتجرون في كتبهم ببث
الكرامات المخترعة من أن هذا يقوي إيمان العامة، فإن أرادوا به إيمانهم بالله
وكتبه ورسله، فلا نسلم لهم ذلك، بل هو الذي أفسد على الكثيرين إيمانهم ودينهم،
وإن أرادوا إيمانهم بالدجل والدجالين فهذا ما نشكو منه، ونسأل الله أن يطهر
الإسلام منه سؤالاً مقترنًا بالسعي والعمل، وعلى الله المتكل.
__________(14/540)
الكاتب: إسماعيل حقي
__________
الدعاء للسلاطين
في الخطب وحكمه شرعًا
ذكر العلامة المحقق الفريد شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي في كتاب
(طراز المجالس) ما نصه:
قال الإمام الغزالي في كتابه المسمى بفاتحة العلوم: لا يحل الدعاء للسلاطين
إلا بأن يقول: أصلحه الله ووفقه للخيرات، وطول عمره في طاعة الله. وأما
الدعاء بطول العمر واتساع النعمة والمملكة والخطاب بالمولى، فلا رخصة فيه؛
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في
أرضه) ، وإن جاوز إلى الثناء وذكر ما ليس فيه، فكاذب منافق مكرّم للظالم،
وهي ثلاث معاص، انتهى.
وأما حكمه شرعًا، فقال أعلم الشافعية الزركشي في كتاب (أحكام المساجد)
قال الشيخ أبو إسحق: لا يستحب. وسئل عنه عطاء فقال: هو محدث، وإنما
الخطبة وعظ وتذكير، وقال القاضي الفارقي: يكره تركه؛ لما فيه من خوف
الضرر بعقوبة السلطان، انتهى. وخالفه من المالكية ابن خلدون فقال في مقدمة
تاريخه: كان الخلفاء يدعون بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والرضا
عن أصحابه لأنفسهم، فلما استنابوا فيها كان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر
تنويهًا باسمه، ويدعو له بما مصلحة العالم فيه؛ لأن تلك ساعة إجابة لما قاله
السلف: من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان وأول من دعا للخليفة في
الخطبة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو بالبصرة عامل لعلي رضي الله
عنه، فقال: اللهم انصر عليًّا واتصل العمل بذلك بعده، انتهى.
ومما يدل على أنه سنة بعد اتفاق الناس على العمل به ما في الإحياء قال: لما
ولي أبو موسى الأشعري البصرة، كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه وصلى على
النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يدعو لعمر، فقام إليه ضبة العنزي وقال له:
أين أنت من صاحبه أتفضله عليه؟ وصنع ذلك مرارًا، فكتب إلى عمر يشكوه،
فكتب إليه عمر أن أشخصه فأشخصه، فلما قدم عليه ضرب بابه فخرج، فقال له
من أنت قال: ضبة العنزي، فقال له: لا مرحبًا ولا أهلاً، فقال: أما المرحب
فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال، بماذا استحللت يا عمر إشخاصي بلا
ذنب؟ قال ما الذي شجر بينك وبين عاملي؟ قال: الآن أخبرك أنه إذا خطب أنشأ
يدعو لك، فغاظني ذلك، وقلت له: أين أنت من صاحبه، فاندفع له عمر رضي
الله عنه باكيًا وهو يقول: أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر ذنبي يغفر
لك الله؟ فقال غفر الله لك يا أمير المؤمنين، فبكى وقال: والله لليلة من أبي بكر
ويوم خير من عمر وآل عمر، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قال: نعم.. قال:
أما الليلة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرًا خرج ليلاً،
فتبعه أبو بكر، وجعل يمشي مرة من أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن
يساره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أبا بكر) فقال: يا
رسول الله: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن
يمينك ومرة عن يسارك؛ لآمن عليك، فمشى صلى الله عليه وسلم على أطراف
أصابعه، حتي خفيت آثاره، فلما رأى أبو بكر أنها قد خفيت حمله على عاتقه
وجعل يشتد، حتى أتى فم الغار فأنزله وقال له: والذي بعثك بالحق لا تدخله قبلي،
فإن كان به شر نزل بي قبلك، فدخل وقال له: ولم ير به شيئًا فحمله وأدخله،
وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فألقمه أبو بكر رضي الله عنه قدمه؛
مخافة أن يخرج شيء منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، فنهشته حية،
فجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألمه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تحزن إن الله معنا) فأنزل الله طمأنينة السكينة على أبي بكر فهذه ليلته.
وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب وقالوا نصلي
ولا نزكي فأتيته؛ لئلا آلوه نصحًا، فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق
بهم، فقال: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟ بماذا أتألفهم؟ قُبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي، فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه، فكان والله رشيد الأمر، فهذا يومه. ثم
كتب إلى أبي موسى يلومه انتهى.
قال الشهاب: (قلت) : وقد علم من هذا أن الدعاء للخلفاء والسلاطين بصدق
وحق سنة مأثورة لا بدعة مشهورة؛ لما عرفته من فعل الصحابة من غير نكير،
فلا وجه لما قاله الزركشي وغيره وقول ابن خلدون: وأول من فعله ابن عباس في
خلافة علي كرم الله وجهه، ليس بصحيح أيضًا لما سمعته آنفًا، وهذا من نفائس
الفوائد التي لا تجدها في غير هذه المجلة والله أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل حقي
(المنار) قال صاحب المهذب وغيره: إن الدعاء للسلاطين مكروه، وقال
بعضهم: لا بأس به، وآخرون أنه مستحب واتفقوا على حظر المجازفة في مدحهم
وصرحوا بأنه يجوز الكلام واللغط عند مدح السلاطين الجائرين، والذي وقع من
بعض الصحابة هو الدعاء المجرد.
__________(14/542)
الكاتب: محمد نجيب حفار
__________
الإلحاد في المدارس العلمانية [*]
حضرة العالم الفاضل اللوذعي الكامل صاحب مجلة المنار الإسلامية فضيلة
السيد محمد رشيد أفندي رضا أدامه الله ركنًا ركينًا لإنارة منار الدين وكهف
المستغيثين.
أما بعد: سلام عليكم من الله ورحمة وبركة، إن الذي حدا بي لأن أسطر
لسيادتكم هذه العجالة؛ هو أنني قد اطلعت على كلام لبعض مدرسي المدرسة
العلمانية اللادينية التي صار إنشاؤها حديثًا في مدينة بيروت (الموسيو أرنولد) في
جريدة الخرج عدد 74 نقلاً عن جريدة البشير، وعندما فرغت من مطالعتها تخيل
لي أن الإسلام قد عاد كما بدأ غريبًا كئيبًا لا ملجأ له ولا مأوى، ولا مجير يجيره ويرد
عن حوزة بيضته، إلى أن استيقظت من رقدتي، وتنبهت من غفلتي، وعلمت أن الله
سبحانه يرسل في رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكنت بحسب
اعتقادي أنك هو هو في هذا الزمان؛ ولذلك بادرت لأقدم لحضرتكم ما تفوه به
ذلك الضال من الطعن في الدين، وفي ذات الله تقدست ذاته من أن تصل إليه أيدي
المعطلين الخائنين الكافرين؛ لتعلقوا على ذلك ما يرد أباطيله وأضاليله
الكاذبة ومفترياته الخاسئة، إذ ليس مثل فضيلتك من يكبح جماح مثله، كما سبق
لحضرتكم ولحضرة المرحوم الأستاذ الإمام كسر رءوس هكذا وحوش ضارية، بل
الوحوش خير منهم، وهذه عبارته بنصها وحروفها.
قال الخائن: (يجب تحطيم الأصنام النخرة، ولا سيما أشدها ثباتًا ونخرًا أي
حقيقة الله … العقل يقودنا إلى الحقيقة، الإيمان يقودنا إلى الكذب، الكذب هو الله
… أمن الممكن أن يكون الله شيئًا سوى ذلك الوعيد الذي رفعه الأحبار منذ القدم
فوق رءوس الشعوب، ولم يزل في أيامنا وفي وسط الحضارة والتمدن آلة القوى
الشريرة، آه! فليسقط كل إله. إن كان عناية ربانية قد اجترمت على الأرض
جرائم لا تحد ولا تحصى، كي يسود الخير الاجتماعي فيما بيننا، وكي تتحرر
الشعوب يجب ليس فقط هدم الكنيسة ونقضها، يجب أيضًا قتل الله!) .
هذه عبارته بنصها وحروفها تمامًا، فالله أسأل أن يلهمكم ردًّا كافيًا شافيًا على
هذا الخائن، وخصوصًا أن كثيرًا من المسلمين من أهالي بيروت أرسلوا أولادهم
للمدرسة المذكورة؛ ليتعلموا بها اللادين، نعوذ بالله من فساد الاعتقاد والدين،
والسلام عليكم.
طرابلس الشام في 28 جمادى الثاني سنة 327 ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم الصادق
محمد نجيب حفار
(المنار) ليس العجيب أن يقذف ذلك الملحد تلك الأباطيل جهرًا، فتنشر في
الجرائد، ولكن العجيب أن تسمح الحكومة العثمانية بنشر الكفر الصريح في
المدارس والجرائد، وهي لا تكاد تسمح في الآستانة بانتقاد أحد من أصحاب
السياسة السوءى. وكل ما قاله ذلك الملحد بديهي البطلان لا يحتاج إلى الرد عليه،
فهو يزعم أن الإيمان يعلم الناس الكذب والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 105) وقول الله هو الحق الذي يصدقه العقل، فإن
من لا إيمان له لا حظ له من حياته إلا التمتع بالشهوات والحظوظ العاجلة، فلا
يمتنع من الكذب لأجل تحصيلها. وأما المؤمن فيمنعه من الكذب خوف العقاب في
الآخرة فوق الحذر من فقد الكرامة في هذا، وإن الذين جربوا هذا التعليم في أوربة
بدأوا يجنون منه الحنظل والزقوم بزيادة الجنايات والجرائم فيهم، وإننا ننقل لك ما
نشر في جريدة الأخبار في العدد الذي صدر في 26 جمادى الآخرة مؤيدًا لذلك وهو:
التعليم اللاديني
بشرنا مكاتب من الإسكندرية في المقطم بأن نخبة من الماسون ورجال
الجمعيات الأخرى، شارعون في إنشاء مدارس التعليم المطلق من كل سلطة
دينية، يعلمون فيها التلاميذ على مذهب ابن رشد، ورحب بهذا المشروع
وأطراه وأمل فيه خيراً عظيمًا وسأل بلدية الإسكندرية أن تساعده مساعدة
فعلية مادية، فرأينا والحالة هذه أن نقول كلمة في التعليم المشار إليه نذكر فيها
نتائجه في البلاد التي أقبلت عليه، ونبين حقيقته عبرة لقوم يعقلون.
أقبلت فرنسا على هذا التعليم منذ سنة 1882، فلم تر منه فائدة في ترقية
الأخلاق، بل دلت الإحصاءات على أن الفساد زاد كثيرًا في الأجيال التي
خرجت في عهده، ولا يزال يزداد في الأحداث نوع خاص فإن عدد المجرمين
الأحداث في سنة 1882كان 16000، فإذا هو 41000 سنة 1892، وكان
معدل المنتحرين من الأحداث الذين يتراوح سنهم بين السادسة عشرة والواحدة
والعشرين 168 في سنة 1875، فبلغ 780 في سنة 1900 وبلغ عدد
الفارين من الخدمة العسكرية - وهي جريمة ضد الوطن - 25787 في سنة
1909، وكان أقل من ذلك بكثير فيما مضى، وانتشر مذهب اللاوطنية أيما
انتشار.
وممّا يزيد هذه الأرقام جسامة أن ازدياد الجنايات؛ لا يقابله زيادة في
المواليد؛ بل نقص فيها على ما هو معلوم.
والعقلاء متفقون على أن ذلك نتيجة التعليم اللاديني.
قال المسيو غيليو وهو من رجال القضاء: ما من رجل صادق مهما كان
مذهبه إلا يضطر إلى الإقرار؛ بأن زيادة الجرائم الهائلة بين الفتيان قد بدأت
بعد ما أحدثوه في التعليم العمومي.
وقال المسيو بونجان وهو قاض آخر: إن فرنسا ستهبط إلى أقصى
دركات الهاوية؛ بسبب هاته الذريات المتوالية التي تفوق كل واحد منها
الأخرى صلفًا وكسلاً وتمردًا. وإنما سبب كل ذلك التربية اللادينية.
وقال المسيو ألار أحد زعماء الاشتراكيين في مجلس النواب مخاطبًا
أعضاء المجلس: … إني أسألكم، أليست طريقة التعليم التي جئتمونا بها سببًا
من أسباب الجنايات؟
ويدعم هذا الرأي الإحصاء الذي أورده المسيو غيليو قال:
إن من مائة ولد يحاكمون، لا يكاد يكون اثنان من تلامذة المدارس
الدينية والباقون من سواها.
هذا ولما كان الشارعون في التعليم اللاديني في مصر يريدون الانتساب
إلى ابن رشد، فلا نرى بدًّا من أن نبدي لهم في المقام رأي ذلك الفيلسوف
نفسه في هذه المسألة.
جاء في الهلال عدد 2 سنة 2 صفحة 41 في ترجمة ابن رشد، وقد قال:
إنه ينبغي للإنسان في حداثته التمسك بالدين، وإنه إذا توصل إلى معرفة
حقائق الدين السامية نظريًّا، فلا ينبغي أن يزدري بالمبادئ التي نشأ عليها.
وسئل رينان شارح فلسفة ابن رشد في هذا العصر: كيف تصلح أخلاق
الأحداث؟ فقال: إني آسف كثيرًا؛ لأن ذوي الشأن لا يهتمون بغرس مبادئ
الدين في صدورهم.
ورأي ابن رشد ورينان يشجب المدارس اللادينية، حتى إذا صحت
دعوتها الأولى؛ وهي أنها تعلم العلوم في معزل عن الدين، فكيف وهي لا
تقصد حقيقة سوى مقاومة الدين ومقاتلته، وذلك بشهادة الزعماء والأركان.
قال المسيو فيفياني في مجلس النواب الفرنساوي: لقد حان الوقت لأن
نجاهر بأن كلمة (الحياد) ؛ لم تكن سوى أكذوبة سياسية وخدعة، قضت بها
الظروف لتسكين خواطر ذوي الضمائر الضعيفة. أما الآن فالواجب أن
نكشف حقيقة مقاصدنا، ونقول: إنه لم يكن في نيتنا سوى أمر واحد؛ وهو
إنشاء مدرسة تقاوم الدين بنشاط وجهاد.
قال المسيو أولار رئيس جمعية التعليم العلماني: كفانا ذكرى الحياد (في
الأمور الدينية) في المدارس، فلا نقول بعد الآن: إننا لا نريد دك الدين بل
لنجاهر أننا نريد دكه دكًّا.
وجاء في مقدمة الجزء الثاني من كتاب (التعليم الجمهوري) الذي
وضعته (جمعية نشر التعليم العلماني) 1905 ما يلي: (دعونا من الله، إننا
لا نريد أن نهدم الكنيسة فقط، بل نريد أن نقتل الله نفسه) (قاتلهم الله ولعنهم) .
وجاء في كتاب (القوى الطبيعية) للمسيو هنري أرنول أحد أساتذة
المدرسة العلمانية في بيروت ما يلي: (الله هو الكذب. اقرأ بوفون وفولتر وكوفيه
وداروين نفسه تجد أن كل مرة لم يتمكن يراع أولئك المفكرين العظام
من جعل حقيقة تنتشر في الكون وتسير في سبيلها، كان المانع لها الله) .
هذه نتائج التعليم الذي يريد أن ينفحنا به ماسون الإسكندرية وأعوانهم،
كأننا في حاجة إلى عوامل جديدة لزيادة الجنايات، وتكثير حوادث الانتحار،
وبث روح اللاوطنية في هذا القطر، وهذه قواعد ذلك التعليم وغايته، ولا نعلم
كيف تطلب مساعدته من حكومة ذات دين رسمي تنفق على إقامة شعائره
مبالغ طائلة، وتبث الأئمة والوعاظ في البلاد مستعينة بمواعظهم على تقليل
الجنايات، وتشترك بثمانية آلاف نسخة من مجلة دينية؛ رغبة في إصلاح
الأخلاق، وكتابها ينادون أنها دينية قبل كل شيء، ويتحاشون ذكر اسم
الجلالة في الجرائد؛ حذرًا من أن يؤدي ذلك إلى امتهانه، ويقومون ويقعدون
إذا فكرت بلدية الإسكندرية بإقامة تمثال لشاعر أهان نبيهم، ألا يرى الكاتب
أن هذه الحكومة إذا أجابت طلبه تقع في التناقض؛ إذ أنها مخطئة: إما في
تعزيز الدين وإما في المساعدة على مقاومته، وإن طلب المساعدة من مثل
هذه الحكومة لمثل هذه الغاية منتهى السذاجة أو غاية الوقاحة. اهـ.
(المنار)
سبق لنا كلام في انتشار الإلحاد في فرنسة، وأنها ستكون أول دول أوربة
هلاكًا إذا لم تتدارك ذلك، وما كنا سمعنا عن أحد من عقلائها كلامًا في ذلك؛
كالذي ترجمته لنا جريدة الأخبار، وما دعا الحكومة الفرنسية إلى هذا إلا خوفها
على جمهوريتها؛ لأن جميع رجال الدين فيها يعتقدون وجوب الحكومة الملكية،
فما جاءتها هذه الفتنة إلا من السياسة الملعونة، ومن العجائب أن ما حاولته
فرنسة ولم تتجرأ على التصريح به إلا بعد عشرات السنين من السعي له، ينفذ
في بلادنا بعد الدستور فجأة، ويعلن إعلانًا، وما نسبة ماسون الإسكندرية هذا
النوع من التعليم إلى ابن رشد إلا غش وخداع، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع
إن شاء الله تعالى.
__________
(*) من صاحب الإمضاء من أهل العلم في طرابلس الشام.(14/544)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(مجموعة الرسائل)
أهدانا الشيخ محيي الدين صبري الكردي الكانيمشكاني أكثر من ثلاثين رسالة،
انتقاها وطبعها في مجموعة بلغت صفحاتها 633 صفحة، من قطع رسالة التوحيد،
وأكثر هذه الرسائل لابن سينا الفيلسوف وللغزالي ولمحيي الدين بن عربي
وباقيها لبعض المشهورين مثلهم كابن تيمية والسيد الجرجاني والفخر الرازي
وغيرهم، وهي في الفلسفة والأخلاق والآداب والعقائد والتصوف، منها أصول
الكلام للرازي والرسالة البعلبكية لابن تيمية، وهي التي يثبت فيها أن القرآن كلام
الله ليس للنبي ولا لجبريل ولا غيرهما شيء منه، وإن القارئ كثيرًا ما يجد في
رسائل أمثال هؤلاء العلماء الأعلام ما لا يجده في كتبهم الكبيرة من التحقيق والفائدة،
وقد تصفحت كثيرًا من رسائل هذه المجموعة، فرأيتها مفيدة للجمهور إلا بعض
رسائل ابن عربي. منها:
كتاب المؤمل، للرد إلى الأمر الأول:
هذا الكتاب الوجيز لعبد الرحمن المشهور بابن أبي شامة الفقيه الشافعي
المتوفى سنة 665، وهو مختصر في رسالة جعلت أول هذه الرسائل في المجموعة،
وإنما أخرت ذكره للتنويه بأهم وأنفس مسائله وفوائده؛ وهي مسألة الاجتهاد
والتقليد المقصودة بالذات منه، فهو يريد بالرد إلى الأمر الأول رد الدين إلى الكتاب
والسنة، وقد بدأ كلامه بذكر ضعف العلم في زمنه واندراسه، وبمدح الله ورسوله
للعلم وأهله، ثم بذكر الأئمة المجتهدين الذين نشروا علوم الاجتهاد في جميع الآفاق
من شرعية ولغوية، قال: وهم في ذلك متفاضون، فمنهم المحكم لعلم الكتاب،
ومنهم القائم بأمر السنة، ومنهم المبرز في العربية، ومنهم الممعن في استنباط
الأحكام، وقل من اجتمع فيه القيام بجميع ذلك، فكان من أجمعهم وأقومهم به إمامنا
أبو عبد الله القرشي الطلبي الشافعي رضي الله عنه، وذكر جملة صالحة من
فضائله وما قاله علماء عصره فيه، ثم تكلم في صفة العلماء وفائدة علم الدين،
وانتقل من ذلك إلى الاجتهاد واستنباط الأحكام، وجعل ذلك خاصًّا بالحكام وهذا هو
الذي كنا حققناه في (محاورات المصلح والمقلد) ثم عقد فصولاً لبحث الاجتهاد
والتقليد، نقلنا بعضها في غير هذا الموضع من هذا الجزء، تحت عنوان (بحث
الاجتهاد والتقليد) .
***
(كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية، وسنن العرب في كلامها)
هذا الكتاب من تصنيف الشيخ أبي الحسين أحمد (ابن فارس) أحد أئمة اللغة
المشهورين المتوفى في القرن الرابع، وسمّاه الصاحبي نسبة إلى الصاحب ابن عباد
الوزير، واسم هذا الكتاب يدل على موضوعه، وهو بمعنى ما يعبرون عنه اليوم
بفلسفة اللغة.
من مباحث الكتاب: هل اللغة العربية توقيف أو اصطلاح؟ ، وبحث كون
اللغات لا تجيء جملة واحدة في زمن واحد، وبحث الخط، وعلم العربية وفنونها،
وفضلها وسعتها، والقرآن وإعجازه واستحالة ترجمته، وخصائص اللغة العربية
في القلب والاختلاس والإدغام والحذف والإضمار والترادف. واختلاف لغات
العرب في الهمز والتليين والتقديم والتأخير.. وفصاحة قريش وما يعاب من لغات
العرب، وما لا تتكلم به إلا للضرورة، والقبائل التي نزل القرآن بلغاتها، وبحث
القياس في العربية.
ومنها الكلام في مراتب الكلام في وضوحه وإشكاله ومصادر الإشكال، وآداب
اللغة العربية قبل الإسلام وبعده، والاصطلاحات الدينية فيها، ومنها أقسام الكلام
وحدود الأسماء والأفعال والحروف وأجناسها وأقسامها، وفي هذه الأبواب مسائل
مهمة كوضع الأسماء للمجاورة، والسبب وكيفية وقوعها على المسميات،
والمشترك والترادف، ومنها الكلام على حروف المعاني بالتفصيل، وعلى حروف
المعجم وما يزاد في الأسماء والأفعال منها.
وأهم من هذه المباحث اللفظية ما جاء أبواب معاني الكلام؛ من مباحث الخبر
والاستخبار، والأمر والنهي والدعاء، والطلب والعرض والتحضيض، والتمني
والتعجب، والخطاب على اختلاف المخاطبين في الذكورة والأنوثة والعدد، وما
خالف الأصل في ذلك، ومباحث العدد والجمع والتثنية، وطرق الإفهام والفهم،
والمعنى والتفسير والتأويل، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والاتفاق
والافتراق، والقلب والإبدال، والاستعارة والحذف، والاختصار والزيادة والتكرار،
والعموم والخصوص، وإضافة الفعل إلى غير الفاعل في الحقيقة، وتحويل
الخطاب من الشاهد إلى الغائب والعكس.
ومن مباحث الكتاب الممتعة: مباحث معاني أبنية الأفعال وأسماء الصفات،
ومبحث التوهم والإيهام، والقبض والمحاذاة، وإضمار الأسماء والأفعال والحروف
والتعويض أي إقامة كلمة مقام أخرى تكون عوضاً عنها لنكتة.
وأعلى من ذلك كله ما عقده من الأبواب لنظم القرآن، وذكر منه عدة نظوم،
وكذلك أبواب الإضافة والتقديم والتأخير والاعتراض والإيماء، وتنزيل بعض
المخلوقات منزلة بني آدم في التعبير عنها بضمير العقلاء، ومباحث التهكم والهزء
والكف أو الاكتفاء والإعارة، وباب أفعل في غير التفضيل، والشرط والكناية
والاستطراد والاتباع والنحت والإشباع والتأكيد، وغير ذلك.
ما ضعفت اللغة فينا إلا بتركنا مدارسة أمثال هذه الكتب التي تبين لنا سنن
العرب في كلامها؛ بالشواهد والأمثلة في أمثال هذه الأبواب التي ذكرناها،
واقتصارنا على درس قواعد النحو والصرف والبيان بالأسلوب الفني الضعيف، مع
قلة الشواهد وعدم بيان طرق الاستعمال، ويا حبذا لو قرر تدريس هذا الكتاب في
الأزهر ومدرستي القضاء الشرعي ودار العلوم، وينبغي أن يطالعه الأدباء والكتاب
ولا سيما المصنفين ومحرري الجرائد، وأن يستعين به مدرسو أدب اللغة وتاريخها
على دروسهم، والكتاب يطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز وثمنه سبعة
قروش صحيحة.
***
(السعادة والسلام)
كتاب في الأخلاق وفلسفة الآداب، وبيان سعادة الحياة، من تأليف حكيم
غربي ذاق لذة العلم والحكمة، وأمير إنكليزي ذاق جميع لذات الدنيا، فهو جدير
بصحة الحكم في مثل هذا الأمر، هذا المؤلف هو (لورد أفبري) صاحب الكتب
المتعددة فيما يقارب معنى هذا الكتاب؛ (منها معنى الحياة، ومسرات الحياة،
ومحاسن الطبيعة) وقد ترجم كتابه هذا بالعربية وديع أفندي البستاني فأحسن
الاختيار، وقدمه للناشئتين المصرية والسورية بعبارة جميلة قال:
(إليكم إخواني في الشبيبة حديثًا فلسفيًّا شعريًّا الحياة وسعادتها وسلامها،
وسائر أحوال أيامها وأعوامها، يبسطه شيخ جليل، وعالم كبير، قطع من مراحل
الحياة ما لم تقطع، واختبر فيها مال لم نختبر، حديثًا موجهًا للعقل والقلب والنفس
جميعا) .
عبارة المؤلف في الترجمة فيها سلاسة وسهولة، تشوبها أغلاط أكثرها في
الأسلوب والتركيب؛ وسببها فيما يظهر قراءة الكتب المسيحية وما كتب على
أسلوبها.
بل رأيت فيه من ضروب الخطأ والضعف في التعبير ما لم أر مثله في غيره
كقوله في ص8: (لكانت هي الحياة محتملة لولا ملاهيها (وصواب التركيب)
لولا ملاهي الحياة لكانت كذا) وانظر هل كلمة محتملة ههنا واقعة في محلها؟
ومن الشواهد على ما ذكرنا قوله في ص3: (ونظريًّا إن لم يكن الجميع فالسواد
الأعظم متفقون على أن السعادة والطمأنينة من أعظم البركات، أما فعليًّا فكثير من
يبيعهما مغبونًا) ... إلخ، وكان ينبغي أن يقول: السواد الأعظم في الناس - إن لم
يكونوا كلهم - متفقون) اتفاقًا (نظريًّا على كذا) أو يقول: جل الناس أو كلهم
متفقون نظريًا على كذا؛ ولكن كثيرًا منهم يبيعها بالفعل مغبونًا ... إلخ ومنها قوله:
(وحتى أعلم العلماء والأطباء قليل ما يعلمون عما في أجسامنا، ومنها قوله عقب
هذه الجملة) ، وهو من المقرر المسلم به أنه إذا تكلمنا أو قرأنا أو تفكرنا ... إلخ،
وكان الصواب أن يقول: ومن المقرر المسلم أننا إذا تكلمنا أو قرأنا أو تفكرنا ...
إلخ.
والكتاب يطلب من مكتبتي المنار والمعارف.
***
(كتاب زراعة القطن ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه)
إن القطر المصري يعد من أغنى الأقطار بزراعته، ولا يزال أهل العلم
والعمل يبحثون في وسائل زيادة إتقانه ومقاومة آفاته، وينشرون في ذلك الفصول
والمقالات والرسائل والكتب، ومن أحسن ما كتب في ذلك وأنفعه هذا الكتاب الذي
ترى عنوانه في أول هذه السطور؛ وهو من تأليف أحمد أفندي الألفي أحد
الموظفين في مزارع الأمير عمر باشا طوسون، قال المؤلف:
جريت منذ اشتغلت بالفلاحة على كتابة مشاهداتي فيها ومطالعاتي عنها في
مذكرات، كنت أنتهز الفرص لتهذيبها واستخلاصها؛ كمؤلف في الزراعة العملية
على الأصول الحديثة.
(وهذا كتاب القطن قسم من ذلك، أودعت فيه أفضل ما يعرف إلى الآن عن
زراعته ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه، وأثبت ضمنه تقرير لجنة القطن الأخير
لمكانه من الأهمية والفائدة) .
(وإني لأرجو أن يكون كتابي هذا خير تذكرة للزارع المستنير، وأفضل
مرشد للفلاح المستفيد، فقد استقصيت في اجتناء الفوائد، والتقاط الفرائد، وإيداعها
فيه إيداعا مهذبًا عن تجربة واختبار، وبحث واستبصار) .
ومن المزايا التي كان بها هذا الكتاب من أحسن الكتب في موضوعه سهولة
عبارته، بحيث يسهل على الفلاحين أن يستفيدوا منه ما لا يستفيدون من غيره،
وثمن النسخة منه ثمانية قروش، ويطلب من مكتبة المنار.
***
(كتاب منتخبات البيان والتبيين)
كتاب البيان والتبيين للجاحظ هو أحد دواوين الأدب التي كانت عمدة العلماء
والأدباء؛ في تحصيل ملكة البلاغة وصناعة الإنشاء منذ القرن الثالث الذي ألف فيه
الكتاب، إلى أن نزل قضاء الله تعالى بهذه اللغة وعلومها وآدابها بعد زوال الدولة
العربية، فصارت الكتب النافعة الممتعة تهجر رويدًا رويدًا وتؤثر عليها كتب
الأعجمين المعقدة، ولما انتعشت هذه اللغة الشريفة بعض الانتعاش في هذا العصر،
طفق الناس يبحثون عن تلك الكتب المهجورة، ويصلون حبلهم بحبلها، فطبع
كتاب البيان والتبيين منذ سنين، ولكن طبعًا غير جيد ولا مصحح، وطبع في هذا
العام منتخباته في رسالة صغيرة تناهز جزءًا من أجزاء المنار، فيها من غرر
الكلام وعقائله ما يصدق عليه قول الشاعر:
تزين معانيه ألفاظه ... وألفاظه زائنات المعاني
فأحث طلاب الإنشاء ومحبي الحكمة والأدب أن يقرءوا هذه المنتخبات المرة
بعد المرة مع التأمل في معانيها، والتفطن لأساليبها ومناحيها، وتوطين النفس على
احتذاء مثالها. وهي تطلب من مكتبة المنار.
***
(ابن تيمية)
كتب الشيخ رضاء الدين أفندي محرر مجلة (شورا) التي تصدر بلغة التتر
في أرنبورغ من روسية ترجمة حافلة لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية،
وطبعها في كتاب على حدته، فنحث أهل اللغة على قراءتها؛ لما نعلم من حسن
اختيار الكاتب لما ينفع الناس.
***
(الدعوة إلى الإصلاح)
قد عرف قراء المنار من قبل اسم الشيخ محمد بن الخضر المدرس في جامع
الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية بتونس، وعرفوا أنه من العلماء المصلحين بما
كتبناه عن مسامرته (الحرية في الإسلام) بين فيها وجه الحاجة إلى الدعوة،
والدعوة في نظر الإسلام، وشرائط الدعوة والإخلاص فيها وآدابها، وآثار السكوت
عنها، والإذن في السكوت وأسباب إهمالها، وما يدعى إلى إصلاحه.
وقد بحث في هذه الفصول كلها بحث البصير المستقل، فنسأل الله أن ينفع به
ويكثر في تلك البلاد وغيرها من أمثاله، ولعلنا ننقل بعض فصول رسالته في جزء
آخر.
***
(صحف جديدة)
(مجلة الطلبة المصريين) أنشأ هذه المجلة إبراهيم صبحي أفندي أحد الطلبة
الأذكياء منذ ثلاث سنين، فلم تصادف من الرواج ما كان ينتظر، فاضطر إلى ترك
إصدارها، ثم اتفق مع طائفة من إخوانه على تأسيس شركة تتولى أمرها فأنفذوا
ذلك، وقد صدر الجزء الأول من المجلة في طورها الجديد في أول جمادى الآخرة
باسم صاحب الامتياز محمود بك سالم رئيس شركة مجلة الطلبة المصريين والمدير
المسئول، ورئيس التحرير عبد الحميد حمدي أفندي، والمجلة شهرية، صفحات
الجزء منها 56 وقيمة الاشتراك فيها للمساهمين في شركتها 20 قرشًا في السنة،
ولغير المساهمين من الطلبة 30، ولسائر الناس 40، وقد نقلنا عنها في الجزء
الماضي مقالة له في عددها الثاني عنوانها: السياحة المقيدة والعلم وأهله، ونحث
أهل الفضل على الإقبال على هذه المجلة؛ تنشيطًا لنابتة البلاد وتقوية لعزيمتهم
على هذا العمل النافع؛ ونشرًا لفوائد المجلة في البلاد.
(الوطنية) جريدة أسبوعية أصدرها في بيروت الشيخ محمد القلقيلي ثم
نقلها إلى مصر، وأذنت له الحكومة بنشرها فيها، وما عرفنا الرجل إلا معتدلاً
حسن النية، وقد كتب في الجرائد المصرية عدة سنين وفي الجرائد السورية سنتين،
فصار له خبرة بأحوال القطرين، وهو معروف بالأمانة، فهو جدير بأن يوثق به
وتروج جريدته، وهذا ما نتمناه له، وفقنا الله تعالى وإياه.
(البلاغ) جريدة أسبوعية صدرت في بيروت مشربها النداء بالجامعة
الإسلامية، أصدرها محمد أفندي الباقر ونصوحي أفندي بكداش، وهذا المشرب
الذي اختاره هو المشرب الذي يستعذبه الكثيرون، فعسى أن يوفق هذان الشابان
الذكيان إلى كل ما يجعل صحيفتهما في مكان الثقة التي تليق بموضوعها الجليل
الدقيق لتبقَى وتفيد.
(المحامي) جريدة أسبوعية، أصدرها في طرابلس الشام أحمد أفندي
سلطان المحامي الذائع الصيت في اللواء بل في الولاية وما جاورها، وستكون
جريدته ممتازة بين أخواتها من جرائد الوطن؛ بأهم ما يهتم به القراء من إبراز
الأخبار والآراء في قوالب من أحكام الشرع ومواد القانون تزيد الثقة بها والأمن
عليها من أحكام المحاكم. وقيمة الاشتراك السنوي فيها بمصر والبلاد الأجنبية 10
فرنكات، فنتمنى لها النجاح والبقاء.
__________(14/548)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فقيد مصر
مصطفى رياض باشا
(2)
قلنا: إن رياض باشا فاق الأقران، وكان من نوابغ الزمان، بفطرته الزكية،
وأخلاقه الشريفة، وإن من تلك الأخلاق والسجايا الاستقلال في الرأي والعمل،
والابتكار والتصدي للإصلاح ... إلخ.
كان هذا الرجل يعمل في عهد إسماعيل باشا وما قبله ما يمكنه أن يعمله من
الإصلاح ومنع الظلم، حتى كان يعرض نفسه للخطر وينقذه الله تعالى منه
بإخلاصه، واعتقاد أميره أنه لا يستغني عن مثله في حكومته، وقد جمع إسماعيل
مرة كبار رجاله واستشارهم في وضع ضريبة جديدة فوق تلك الضرائب الكثيرة،
فما منهم إلا من أظهر الاستحسان وأبدى رأيه في كيفية وضعها وطريق تنفيذها،
إلا رياض باشا فإنه ظل ساكتًا حتى سأله إسماعيل لم لم يتكلم؟ فقال: إن عندي كذا
فدانًا عليها من الضرائب كذا، وهو يزيد عن غلتها بقدر كذا، فأدفع هذه الزيادة من
راتبي، فالذي أراه أن حال الأهالي لا تحتمل أكثر مما عليهم، ولما أمرهم الأمير
بالانصراف طفق بعض الباشوات يلكزون رياضًا قبل أن يبرحوا الباب، ويقولون:
ما لك تعرض نفسك للهلاك؟ فقال لهم بصوت جهوري: إنني أرضى أن أعرض
نفسي للهلاك ولا أعرض أهل البلاد كلهم له، وله وقائع متعددة من هذا القبيل؛
ولذلك قال لورد كرومر: إنه هو الذي تجرأ على تعليق الجُلجُل في عنق الهرّ،
يشير بهذا إلى المثل العربي الذي نظمه (لافوتين) الإفرنجي فيما نظمه من الحكم
والأمثال؛ ولما عز على فقيد مصر العمل بالاستقلال في آخر عهد إسماعيل،
وتعذر عليه الاتفاق معه، هاجر من مصر إلى أوربة، وعزم على الإقامة فيها
طول حياته أو تتغير الحال، ولم يعد منها إلا بعد سقوط إسماعيل، وطلب توفيق
باشا له ليتولى رياسة حكومته الجديدة.
سقط إسماعيل باشا عن عرشه والبلاد على شفا جرف هار مما برّح بها الظلم
وما نشأ عنه من الفقر والذل، والغرق في الدَّين بأخذهم المال من الأوربيين بالربا
الفاحش أضعافًا مضاعفة، فأراد توفيق باشا أن يري البلاد عصرًا جديدًا فوسد
الأمر إلى رياض باشا؛ لعلمه بأنه رجل الهمة والإقدام والرغبة الصادقة في
الإصلاح.
قال الأستاذ الإمام فيما كتبه من أسباب الثورة العرابية في سياق ذكر وزارة
الفقيد وتأثيرها في البلاد ما نصه:
حفظ رياض باشا لنفسه إلى رياسة النظارة نظارة الداخلية أصالة ونظارة
المالية نيابة مؤقتة، كان ولا يزال رياض باشا يألف إدارة الأمور الداخلية؛ لعلمه
أنها روح السلطة الحقيقية في الحكومة، وهي التي تشرف على أحوال الأهالي
مباشرة وتتصل بأهم شؤونهم، فيهمه أن يكون هو الآخذ بزمام تلك الإدارة؛ اعتقادًا
منه أن ذلك يمكنه من أن يعمل بنفسه ما هو خير للعامة. أما نظارة المالية فقد
استضمها إلى وظائفه موقتًا؛ لأن المشاكل المالية هي التي كانت أهم شيء يستدعي
دقة الفكر وشدة الالتفات، فأراد أن يكون المباشر لجميع المخابرات التي تحصل
فيها خصوصًا وله بها إلمام سابق؛ لأنه كان النائب عن الحكومة في لجنة التفتيش
العليا.
قبض رياض باشا على إدارة الداخلية بيد شديدة وعزم ثابت. وأول شيء
توجهت عزيمته إلى محوه بسرعة تامة التسخير الشخصي.
ربما يسأل سائل ما هي السخرة الشخصية: التسخير في البلاد المصرية كان
على نوعين: التسخير باسم المنفعة العامة؛ وهو إلزام الأهالي بالعمل مجانًا بلا
أجر فيما لا بد منه لمصالح العامة؛ كإقامة الجسور على الأنهار العظيمة، وحفر
الجداول الكبيرة التي تستمد المياه منها بلاد كثيرة، وتشييد كل بناء يقام بأمر
الحكومة. والنوع الثاني هو إلزام الأعلياء لمن دونهم بالعمل في منافعهم الخاصة
بدون أجرة، ويسومونهم مع ذلك آلام الضرب والإهانة إن لم يؤدوا ما فرضوه
عليهم من تلك الأعمال الخاصة، أو أدوه وقصروا في تطبيقه على ما في نفس
وكلاء أولئك الأعلياء، أو أتوا به كما ينبغي وكما يريد الوكلاء، ولكن كان الوكيل
أو الناظر أو الخولي يشتهي أن يضرب لمجرد التلذذ بالضرب، ولا يستثنى من
ذلك موظف إلا أن يكون في نهاية العجز الطبيعي، بحيث لا يستطيع أن ينطق
بكلمة (أرميه) [1] أو أن يحرك الكرباج بيده.
(كان كل ذات من الذوات الفخام له بلاد تتعلق به، يستخدم سكانها في
أراضيه بأشخاصهم وماشيتهم في جميع مواسم الزراعة، على شريطة أن يحمل
العاملون أزوادهم وأقواتهم وأدوات العمل وغذاء ماشيتهم من ديارهم إذا كانت البلاد
قريبة، فإن كانت بعيدة سمح لهم بغذاء الماشية فقط دون غذاء الآدميين. ولكن لا
يسمح لهم بأماكن تقي من البرد والمطر أيام الشتاء تبيت فيها العملة الذين يعملون له
مجانًا، بل كانوا يبيتون كراديس في (الدوار) تحت السماء، كما لا يسمح
بمستظل يقيهم الحر أيام الصيف، فالقر يقتلهم شتاء والحر يذيبهم صيفًا، والذوات
الكريمة تجني ثمار أعمال الموتى وتتلذذ بما تطعم من أيديهم. وهكذا كان يصنع
أصاغر موظفي الحكومة وعمد البلاد كل على حسب اقتداره في التسخير؛ العالي
يسخر من دونه إلى أن ينتهي كل استعباد وتذليل إلى أدنى طبقة من الشعب.
ولا أريد بيان ما في هذه الحال من الأضرار المادية والعقلية والأدبية، فكل
من استحق أن يسمى إنسانًا يعلم أنها كانت ضربة قاضية على الحياة الوطنية
والوجود الملي، وقاتلة للشعور بالاستقلال الإداري الخاص بالنوع الإنساني، وزد
على ذلك أنها ما كانت تدع للفلاح وقتًا يعمل فيه بأرضه، فكانت أوقاته موزعة بين
السخرة العمومية والسخرة الخصوصية، فأوقات عمله لنفسه كانت خلسات بين هذه
الأوقات، فكيف كان يعيش؟ لا أدري كيف بقي الفلاح حيًّا مع هذا، لولا ما عرف
من صبر المصريين على أن يعيشوا؟
ساعد رياض باشا على محو هذه الجريمة ما كان يظهر من ميل الجناب
الخديوي إلى العدل والتعفف عن دنيء الكسب؛ فلذلك شدد ناظر الداخلية في أوامره
إلى المديرين وسائر المأمورين أن لا يأتوا عملاً من ذلك، وأن لا يسمحوا لغيرهم
أن يأتيه، وأظهر من الشدة في ذلك ما أخاف رجال الحكومة وغيرهم، فأخذ على
أيديهم وأيدي الذوات، بل وعلى أيدي الأغلب من عمد البلاد، وفي مدة قريبة لم
يبق أثر للتسخير الشخصي إلا في بعض الأطراف على طريق الخفية والكتمان
ونوع من الشفقة؛ خوفًا من الحاكم القوي، وبالغ رياض باشا في ذلك حتى أنه آخذ
مدير القليوبية مرة في إرسال بعض أشخاص من أهاليها؛ لحفر الترعة التوفيقية
التي تصل إلى أراضي القبة لأنها خاصة بالخديو، ووبخ المدير توبيخًا شديدًا،
وعرض الأمر على الخديو فاستحسنه، ولكن لم يذهب بلا أثر في نفسه، فإن
المبالغة في العدالة إلى هذا الحد مما لا يلتئم مع السلطة العليا في مصر مهما كانت
منزلة الحاكم من الكمال. فانظر ماذا يكون في نفوس أكابر رجال الحكومة السابقين،
بل والحاليين من رياض باشا بعد حرمانهم من منافع أبدان الرعية بغتة بلا تدريج؟
وبعد ذلك شرع رياش باشا في إجراء ما كانت أشارت به لجنة التفتيش العليا
(من الأجانب) من إبدال نظام السخرة بنظام آخر أضمن للعدل؛ في توزيع ما
يلزم للأعمال اليومية من منفعة أو عمل على المنتفعين بها، وجمع لذلك كثيرًا من
الأعيان للاستعانة برأيهم، ولكون الأمر غريبًا على أذهانهم لم يهتدوا فيه إلى وجهة
الصواب فانصرفوا، ووضعت الحكومة نظامًا حسبما هداها إليه رأيها، يقضي
بالتخيير بين دفع بدل نقدي وبين القيام بالعمل البدني، وأخذ في تنفيذه ولكن حالت
دونه صعوبات كثيرة، فمن الأغنياء من دفع البدل عن رجاله، ثم أكرهوا بعد ذلك
على العمل بأبدانهم، ومن الناس من أراد دفع البدل النقدي، فلم يقبل منه وألزم بأن
يعمل بنفسه؛ وذلك لعدم التعود على إيفاء الأعمال بطريقة المقاولات، ومع ذلك فقد
خف الويل بهذا النظام عن كثير من الفلاحين، وشعروا بأن أوقاتهم ملك لهم، ولكن
كانوا يظنون أن أبدانهم وأزمان حياتهم وهبت لهم من جانب ملاكها وما كان يخطر
ببالهم أنها كانت مسلوبة منهم ثم ردت إليهم؛ ولذلك كنت تراهم يتعجبون، وينقلون
أخبار هذه القصة بالدهشة والاستغراب، كأنه قد رسخ في نفوسهم أن ليس من شأن
الحاكم أن يعدل، فإن طبيعة الحكم تقضي بالظلم.
وهنا أورد حادثة تدل على شدة حرص رياض باشا في ذلك الوقت على أن
تكون أعمال الفلاحين منحصرة فيما يعود عليهم بالمنفعة العامة والخاصة: هطل
مطر غزير نشأ عنه سيل جرف جانبًا من جسر سكة حديد من خط السويس،
فكتبت مصلحة سكة الحديد العمومية إلى مدير الشرقية وكان فريد باشا، تستنهض
همته في إرسال مئتي شخص لإصلاح الجسر، فأمر المدير بإرسال العدد المطلوب
في الحال وأصلح الجسر، ولم تأت مصلحة سكة الحديد ولم يفعل المدير إلا بعض
ما هو معهود في البلاد، وما لم يكن يعده الأهالي شيئًا نكرًا، خصوصًا وقد كان
الناس يفهمون أن أعمال السكك الحديدية من الأعمال العمومية، فلما بلغ الخبر
رياض باشا استدعى أولاً فريد باشا وعنفه أشد التعنيف مع ما هو معلوم بينهما من
المحبة وشدة القرابة، ولم يكتف بذلك، بل أمر بكتابة منشور عمومي لجميع
المديرين، فكتب المنشور عدة مرات، وكلما قرأه لم يجده وافيًا بغرضه؛ لعدم تعود
الكتاب على التنويه بشأن الأهالي إلى الدرجة المطلوبة له فيمزقه , وآخر الأمر
دعاني لتحرير ذلك المنشور فكتبته وذكرت فيه الحادثة، وأتذكر منه هذه الفقرة:
(وليعلم المديرون والأهالي جميعًا أن الأهالي ليسوا عبيدًا لأحد، ولا لأحد عليهم
سلطان إلا فيما يتعلق بمنافعهم عامة أو خاصة) وهذا تصريح من رئيس الحكومة
النائب عن الجناب الخديوي بإعتاق الأهالي من عبودية التسخير، بل من العبودية
للحاكم على وجه الإطلاق، وهذا مما لم يعهد له مثل من قبل. اهـ المراد هنا.
(المنار)
هذا ما كتبه الأستاذ الإمام في إبطال رياض باشا للسخرة، وفيه ما ترى من الفائدة التاريخية والعبرة.
وسنذكر في النبذة التالية ما كتبه من أعماله الإصلاحية الأخرى؛ كتوزيع مياه
النيل بالقسط لري الأرض ومساواته فيها بين الرؤساء والفلاحين، وإلغاء الضرائب
الكثيرة، وإبطاله استعمال الكرباج، ومنعه الحبس لتحصيل الحقوق الأميرية
والشخصية، وغير ذلك من أعماله الجليلة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أمر من الرمي على ما تنطق به العامة؛ أي ألقه على الأرض لأجل الضرب.(14/555)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سوء التفاهم بيننا
وبين أصحاب مجلة دين ومعيشت
تكلمت مجلة دين ومعيشت فيما رددنا به عليها في الجزء الرابع، وقالت إنه
ليس ردًّا عليها، بل على ذلك التتري الذي ترجم لنا عبارتها ترجمة غير صحيحة،
وجزمت بأنه كان متعمدًا لذلك وساعيًا بالفساد، وكان لها أن تلتمس له عذرًا بضعفه
في الكتابة العربية، وقالت: إن تذييلها ما كانت نقلته عن الجزء الأول من المنار،
لم يكن للتردد في صدقه ولا للرغبة في تكذيب طلعت بك لأقوال المنار، (بل
كان هذا ليتأكد صدق المنار، فإن غاية ما تمنيناه هي بعينها ما يتمناه صاحب
المنار في هذه المسألة، فلهذا لما طالعنا ما رده صاحب المنار وأنه غير موجه إلينا،
واطلعنا على بشارته بقرار طلاب الإصلاح المقاومين لأولئك الزعماء بإبطال
المحافل الماسونية من عاصمة الآستانة، انشرحت صدورنا وانكشفت همومنا شرحًا
وكشفًا لا نقدر قدره، وهذه البشارة لا تعد لها ولا تكافئها الدنيا وما فيها فلله الحمد
وله المنة) .
ثم قالت: وأما نحن أصحاب مجلة دين ومعيشت بحمد الله تعالى مسلمون،
ولسنا بكاهنين ولا متكهنين، فإن الكاهن عدو الله وكافر بالإجماع، فكيف المتكهن؟
(فبإقرار منا على فضيلة صاحب مجلة المنار، لا نلتزم الاتباع له في كل
ما كتبه وبسطه، فإن كان هو حقًّا في اعتقادنا، ووافق لما سبلناه وسلكناه كما هو
في مسألة التياترو صدقناه واتبعناه، وإن كان غير ذلك كما في مسألة الحجاب
رددناه أو سكتنا، وهذه سنة الله في الذين خلوا من قبل) .
المنار:
إن الخلاف يقع بين الناس بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد،
ولو كنا نكتب نحن وأصحاب هذه المجلة بلغة واحدة لسهل الاتفاق بيننا مع حسن
النية في كل شيء. وإني رأيت في عبارتهم العربية ضعفًّا، فأخشى أن خلافهم
للمنار في بعض المسائل جاء من ذلك. مثال ذلك أنهم ههنا جزموا بأن المتكهن
أجدر من الكاهن بالإجماع على كفره، وهم يشيرون بهذا إلى قولنا: إن مجلتهم
(تكهنت في استنباط الباعث) على ما كتبناه. قال في الأساس:
(وتكهن قال ما يشبه قول الكهنة) وبهذا المعنى يستعمل هذا اللفظ في
مصر وغيرها من البلاد العربية، ومن قال ما يشبه قول الكهنة في الأخبار عما لا
يقوم عليه دليل ظاهر؛ كالكلام عن نية إنسان أو مقصده لا يكون كاهنًا ولا يكون
حكمه حكم الكاهن (ولا نبحث هنا في حكمه) فهل يصح أن يكون أولى من الكاهن
فيما يحكم به عليه؟ لا. لا يبعد أن يكون فهمهم لما قلناه في مسألة الحجاب كفهمهم
لهذه الكلمة، وإننا لا نطالبهم باتباع المنار في شيء قط بل باتباع الحق إذا ظهر
دليله، سواء وافق ما كانوا عليه من قبل أم لا؛ فإن الحق أحق أن يتبع. وفقنا الله
وإياهم لاتباعه في كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ آنٍ.
وأما سرور أصحاب هذه المجلة من قيام صادق بك ومن معه لإصلاح ما
أفسده غيرهم، فيشاركهم فيه أكثر العثمانيين وجميع المسلمين الذين يغارون على
هذه الدولة لأنها إسلامية، ولا يرضون أن يكون سلطانها (إمبراطورًا) لا
(خليفة) ولا ندري أيتم السرور أم لا، فإن أولئك الزعماء يجمعون أمرهم الآن
ليستعيدوا نفوذهم. وقد وصلوا بالدولة إلى حيث صارت أوربة تنذرها بالقضاء
عليها، ونسأل الله السلامة وحسن العاقبة.
__________(14/559)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية الاتحاد
ومشروع العلم والإرشاد
علم المركز العمومي لجمعية الاتحاد والترقي أن مسلمي الآستانة ساخطون على
الجمعية؛ لمنعها تنفيذ مشروع العلم والإرشاد فيها، وكذا غيرهم، فأرسل إلى جميع
أندية الجمعية بلاغًا يعتذر فيه عن ذلك؛ مدعيًا أنه كان عين مندوبين من أعضاء
الجمعية في الآستانة؛ ليبحثوا مع صاحب المشروع في حقيقته، وهذان المندوبان كتبا
إلى المركز العمومي بأن رأيهما عدم تنفيذ المشروع لأسباب تتعلق بشخص مقترحه.
سخر المركز من أنديته وغشها بهذا البلاغ، والحق أن الجمعية لم تنفذ المشروع
لأمرين:
(أحدهما) أن من أصوله أن يكون تعليم المرشدين باللغة العربية ويعلمون
التركية إلزامًا.
(وثانيهما) أن مقصده حياة الدين بمعزل عن السياسة، وإلا فإن جمعية المشروع
قد تأسست، والمقترح قد ترك الآستانة يائسًا من العمل، فلينفذوا المشروع بأنفسهم
إن كانوا صادقين.
__________(14/560)
شعبان - 1329هـ
أغسطس - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من الإسكندرية
(س 42 44) من صاحب الإمضاء.
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام بقاه
السلام عليكم، أرجوكم إجابتي عن الأسئلة الآتية:
1 - ما معنى الباقيات الصالحات في قوله تعالى: {المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:
46) .
2 - هل يجوز إعطاء جماعة الدعوة والإرشاد من مال الزكاة؛ ليضعوه
في مشروعهم الخاص بالمسلمين، فإن جاز، فهل يجوز نقلها لهم لمحلهم، ولو
كان أبعد من مسافة القصر كَمِن الإسكندرية لمصر.
3 - ما معنى الدنيا والآخرة وحرثهما في الآيات، وما ماثلها {مَن كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ
فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى: 20) {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15-16)
فهل الذي يعمل للدنيا يبعد عن الآخرة ويقرب من عذابها؟ وما هو العمل الخاص
بالآخرة. أفيدونا ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ميلاد
(الباقيات الصالحات)
أما الجواب عن السؤال الأول فهو أن الباقيات الصالحات هي الأعمال التي
تصلح بها النفس وتتزكى، حتى تكون أهلاً لدار الكرامة في الآخرة، سميت باقيات؛
لأن أثرها يبقى في نفس عاملها بما تطبع فيها من الملكات الفاضلة والصفات
الجميلة التي يترتب عليها الجزاء بالحسنى في الآخرة، وذكرت في مقابلة المال
والبنين اللذين كان المشركون يفاخرون بهما فقراء المسلمين من السابقين الأولين
كعمار وصهيب، ويظنون أنهم ينالون بهما سعادة الآخرة، كما حكى الله عنهم
غرورهم بهما في قوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ: 35) .
***
(إعطاء مال الزكاة لجماعة الدعوة والإرشاد)
وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو القول بجواز إعطاء جماعة الدعوة
والإرشاد من مال الزكاة؛ لأنها تنفق هذا المال في مصارفه الشرعية؛ لأنها تعلم
طائفة من الفقراء والمساكين وتربيهم وتنفق عليهم، ومن هذه المصارف ما فرضه
الله تعالى لصنف المؤلفة قلوبهم وهذه الجماعة، هي الجديرة بمعرفة هذا الصنف
والاستعانة بمال الزكاة على تأليف أفراده؛ ليتمكن الإيمان من قلوبهم بتصديها
للدعوة إلى الإسلام.
وقد اختلف الفقهاء في جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، فمنعه بعضهم؛
واستدلوا بحديث معاذ عند الشيخين؛ إذ أمره عندما أرسله إلى اليمن أن يأخذها من
أغنيائهم ويضعها في فقرائهم، وما في معناه. وأجازه آخرون؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يرسل عماله، فيأتون بالزكاة من الأعراب إلى المدينة، فينفق منها
على فقراء المهاجرين والأنصار، وهذا معروف مشهور، وحديث معاذ وغيره ليس
فيه ما يدل على منع النقل، ولكنه قد يدل على أنه خلاف الأصل؛ إذ النقل لا
يكون إلا لسبب أو مصلحة، وهذا هو المختار عندي في المسألة.
تظهر حكمة الشرع ظهورًا بينًا في قيام أغنياء كل بلد بسد ضرورات
وحاجات الفقراء والمساكين فيها، فإن البائس المعوز الذي تراه هو أولى برحمتك
ورعايتك ممن تسمع ببؤسه وإعوازه على البعد، وأجدر أن تحول بينه وبين حسده
لك على ما يرى من نعمتك، وتمني زوالها عنك، وإنما يكون ذلك بأن تفيض عليه
منها، وتجعل له نصيبًا فيها، والبلاد المجاورة لبلدك التي تعرف فقراءها أو
يعرفونك حكمها حكم بلدك، وهي التي يتردد أهلها بعضهم على بعض عادة، وإن
كانت دون مسافة القصر، فهذه المسافة التي يقدر بعض الفقهاء بها لا دليل عليها،
ولا يظهر ما ذكرنا من الحكمة ولا غيره فيها وحديث معاذ في أهل اليمن كافة، فهو
إن دل على منع نقل الزكاة، فإنما يدل على منع نقلها من القطر اليماني الذي جعل
عاملاً عليه إلى الحجاز وغيره من البلاد التي لا ولاية له عليها، فالمنع لأجل
الولاية لا لأجل المسافة، فيكون مخصوصًا بما يأخذه الولاة والعمال؛ كزكاة الأنعام
والزرع. وإما ما يوزعه المالك من زكاته فلا دليل على الحجر عليه فيه.
ويظهر من عبارة الحديث أيضًا تخصيصه بسهم الفقراء والمساكين، ويلزمه
سهم العاملين عليها خاصة؛ لأنهم يأخذونه مما يجمعونه، فالذي يجمع زكاة أهل
اليمن مثلاً لا يأخذ سهمه من زكاة أهل الحجاز. وهذا إذا كان كل وال يوزع زكاة
البلد الذي يتولاه فيه.
وكذلك المؤلفة قلوبهم والغارمون وأبناء السبيل، يعطون سهامهم حيث
يوجدون، والأقرب منهم أولى من الأبعد على ما ذكرنا في الفقراء، فلا يتجاوز
الأقرب مكانًا أو نسبًا إلا لمصلحة؛ كأن يرى المزكي أن من في البلد الآخر أحوج،
أو أن إعانته أنفع. وأما السهم الذي في سبيل الله فمجاله أوسع ولا سيما على ما
اختاره الأستاذ الإمام من شموله لمصالح المسلمين العامة كلها.
***
(حرث الدنيا والآخرة)
وأما الجواب عن الثالث؛ فهو أن الحرث عبارة عن الزرع، ومنه الأثر
المشهور: الدنيا مزرعة الآخرة والحرث والزراعة هنا من باب المجاز، فمريد
حرث الدنيا هو من يعمل عمله فيها؛ لأجل التمتع بلذاتها، لا يبتغي من حياته فيها
غير ذلك. ومريد حرث الآخرة هو من يعمل أعماله التي هي غرضه من حياته
لأجل الآخرة، أي يكون مخلصًا في عباداته ويلتزم في معاملاته أحكام الشرع التي
تحدد بها الحقوق، فلا يظلم ولا يأكل مال أحد بالباطل، ويتحرى الحق وعمل
الخير، فيتصدق من فضل ماله على الأفراد وفي المصالح العامة، وهو يتمتع
بالطيبات وزينة الدنيا من طريق الحل، ولكن ذلك لا يكون هو مراده من حياته،
بل يكون له مراد أعلى وهو الاستعداد لحياة الآخرة الباقية، وقد فصلنا القول في
هذه المسألة تفصيلاً في تفسير قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 200-201) .. إلخ فراجعه في الجزء الثاني من
التفسير، وقوله تعالى: ?? {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ
نُؤْتِهِ مِنْهَا} (آل عمران: 145) وقوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن
يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران: 152) فراجعهما في الجزء الرابع من التفسير.
__________(14/574)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
علم الفلك والقرآن
نظرة في السماوات والأرض
نشرت هذه المقالة في مجلة الطلبة المصريين، ثم زاد الكاتب فيها بعض
زيادات وحَواشٍ.
{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ
يُؤْمِنُونَ *} (يونس: 101-102) {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (غافر: 57) ...
... ... ... ... ... ... ... قرآن شريف
فهرس المقالة
تعريف الأرض - السيارات والأفلاك - أسماؤها وعددها - الثوابت -
الجذب العام - الكون كالجسم الواحد - الأقمار - مركز السيارات - ذوات الأذناب
- البروج - مجاميع الثوابت - الصور السماوية - سدرة المنتهى- رؤية النبي
لجبريل - الجنة والنار - السماء - السماوات السبع والإسراء والمعراج - خطأ
القدماء في اعتبار الأرض مركزًا للعالم - احتمال أن السماوات أكثر من سبع وأن
العدد لا مفهوم له - نص القرآن على الحركة الذاتية للسيارات وغيرها - سكنى
السيارات بالحيوانات - الدابة في يوم القيامة - الأرض ليست سبعًا - تفسير الآية
الواردة في ذلك - العوالم متعددة العرش أو الكرسي - الملائكة والشياطين - رجم
الشياطين بالشهب - العوالم لم تخلق لأجل الإنسان وليس الإنسان أشرف جميع
الموجودات - فصل في دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن - المحكم
والمتشابه - الخاتمة في بيان الغاية من هذا الوجود.
* * *
ما هي هذه الأرض التي نعيش عليها؟
هي كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس، وتسمى بالسيارات،
ومجموع الشمس مع هذه السيارات يسمى بالمجموعة [1] أو المنظومة الشمسية
فالشمس مركز بالنسبة لها وهي مضيئة لذاتها، ومنها تستمد هذه السيارات النور
والحرارة. ولا ينبغي أن يفهم القارئ من تسميتنا الشمس بالمركز؛ أن مدارات هذه
السيارات هي دوائر، بل هي بيضاوية الشكل، وليست في الوسط تمامًا، بل هي
مائلة إلى أحد الجوانب.
ومدارات هذه السيارات تسمى بالأفلاك، فهي الأشكال البيضاوية التي ترسمها
السيارات في مسيرها حول الشمس.
وأكبر هذه السيارات ثمان: الأرض إحداها واثنان منها في داخل مدار
الأرض، وخمس منها في خارجه، وهذه المدارات أو الأفلاك ليست في مستوى
واحد، بل هي في مستويات مختلفة، فمن المدارات ما هو أفقي ومنها ما هو رأسي،
وفيها ما هو مائل إلى اليمين أو إلى الشمال.
أما السياران اللذان في داخل فلك الأرض فهما عطارد (Mercury)
والزهرة (Venus) ، ويسميهما الفلكيون السيارين الداخلين. أما السيارات الخمس
الباقية فهي المريخ (Mars) والمشتري (Gupiter) وزحل (Satun)
وأورانوس (Uranus) ونبتون (Xeptume) ، وتسمى السيارات الخارجة.
وكلما كان فلك الكوكب أو السيار صغيرًا كانت سنته صغيرة.
وكلما كان كبيرًا كانت سنته كبيرة، فسنة عطارد وهو أصغرها فلكًا هي 88
يومًا من أيامنا هذه، وسنة نبتون وهو أكبرها فلكًا هي 60176 يومًا أي 164 سنة
و8 شهور من سنيننا وشهورنا، أي أنه يدور حول الشمس في المدة المذكورة.
ويوجد بين المريخ والمشتري عدة سيارات صغيرة تسمَّى نجيمات، اكتشف
منها إلى الآن أكثر من 121 نجيمًا (تصغير نجم) ، وأكبر هذه النجيمات هي فستا
(Vesta) أي إلهة النار، ويونو (Gumo) وسيرس (Geres) وبالاس (Pall
as) وهي أسماء وثنية، وجميع هذه السيارات كبيرة كانت أو صغيرة هي أجرام
مظلمة كأرضنا هذه سواء بسواء، ولا يضيئها إلا انعكاس أشعة الشمس عليها.
أما النجوم الثوابت فهي شموس كشمسنا هذه مضيئة بذاتها، وسميت ثوابت [2]
لأنها لا يتغير وضعها بالنسبة لأخواتها، وهي مراكز لسيارات أخرى تدور حولها
كما أن شمسنا مركز للسيارات الثمانية المعروفة، ولكن نظرًا لبعدها العظيم عنا
ترى كأنها نجوم صغيرة، والحقيقة أنها شموس كبيرة وأقرب هذه الثوابت إلينا يبعد
عن الأرض بمقدار 19.131.030.000.000 ميلاً، والنور الذي ينبعث منه يصل
إلينا في ثلاث سنوات وربع [3] ويمكننا تمييز السيارات عن الثوابت بأن السيارات
تغير وضعها بالنسبة للثوابت، وبأن نورها أسطع وهو ثابت لا يتلألأ؛
وذلك لقربها منا. أما نور الثوابت فإنه يرتعش ويتلألأ لشدة بعدها عنا.
والسبب الذي يمسك السيارات في أفلاكها، ويحفظ نظامها في مداراتها؛ هو
جذب الشمس لها، فلولاه لسارت في طريق مستقيم إلى حيث لا يعلم إلا الله،
وكذلك جميع الكواكب يجذب بعضها بعضًا {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (النازعات: 27) {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) [4] فإذا جاء الوقت
الذي يفسد فيه نظام هذا الكون اختل التوازن وزال التجاذب، وتناثرت الكواكب،
واصطدم بعضها ببعض، وانشق عن البعض الآخر وانفصل عنه وتفرق {إِذَا
السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الانفطار: 1-2) ، {إِذَا السَّمَاءُ
انشَقَّتْ} (الانشقاق: 1) الآيات.
أما الآن فجميع الكواكب متجاذبة مرتبط بعضها ببعض من كل جهة، ولا
يوجد فيها ما هو منشق عن بقيتها، منفك عنها، لا ارتباط له بها بل كلها متماسكة
كالبنيان أو كأجزاء الجسم الواحد {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أي ليس لها شقوق تذهب باتصالات الكواكب
فتفرقها وتقطع علاقاتها وأحبال تجاذبها، بحيث يكون بعض الكواكب غير متماسك
بالبعض الآخر ومنفصلاً عنه في ناحية من السماء لا ارتباط له به {فَارْجِعِ البَصَرَ
هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك: 3) أي انشقاق وانقطاع. أما ما بين الكواكب من
المسافات فهي وإن كانت كبيرة؛ إلا أنها بالنسبة لمجموعها وكثرتها وعظمها
كالمسام بالنسبة لأجزاء الجسم الواحد، وكما أن الكواكب تتحرك في هذه المسافات،
كذلك ذرات الجسم تتحرك فيما بينها من المسافات. والأثير (مادة العالم الأصلية)
يملأ هذه كما يملأ تلك، فالكون كله أو السماء كلها جسم واحد لا انشقاق فيه الآن،
ومجموعتنا الشمسية هذه هي جزء من أجزاء هذا الجسم العظيم أو ذرة من ذراته،
فهذه المسافات التي بين الكواكب ليست هي الشقوق أو الفروج المراد نفيها، بل
الفروج المنفية هي كما قلنا التي تباعد ما بين مجاميع الكواكب، حتى تقطع
اتصالاتها وتشتتها وتذهبها مبددة في الفضاء بلا نظام ولا اتصال، وتجعل كل عالم
مستقلاً بذاته منقطعًا عن غيره خارجًا عن دائرة الجذب العام، فانشقاق السماء
وانفطارها الذي سيحصل يوم القيامة هو تبديد عوالمها وتشتيتها وانتثار كواكبها.
هذا واعلم أن أكثر السيارات لها توابع تدور أيضًا حولها، وهي الأقمار
فتعكس النور من الشمس إليها وتضيئها ليلاً] وَجَعَلَ القَمَر [5 {َ فِيهِنَّ نُوراً} (نوح: 16) وسميت توابع؛ لأنها تتبعها في مسيرها حول الشمس، كما يتبع
الخادم سيده. فللأرض قمر واحد، وللمريخ اثنان، وللمشتري أربعة، ولزحل
ثمانية، ولأورانوس ستة، ولنبتون واحد فقط كالأرض، وليس لعطارد ولا للزهرة
أقمار.
أما حجم هذه الأرض بالنسبة للسيارات الأخرى، فيعتبر خامسها في الكبر،
والسيارات التي هي أكبر من أرضنا هذه هي المشتري وزحل وأورانوس ونبتون.
أما عطارد فهو أصغر الثمان، وهو أكبر من قمر الأرض بقليل، ولكنه
أقرب السيارات إلى الشمس، ويمكن رؤيته بعد الغروب بقليل أو قبل الشروق
كذلك.
وأما الزهرة فحجمها تقريبًا قدر حجم الأرض، ولقربها منا ترى أنها أشد
الكواكب نورًا بعد الشمس والقمر، وتشاهد بعد الغروب وقبل الشروق مثل عطارد،
ولكن مدتها أطول وتسمى عقب الغروب (كوكب المساء) ، وقبل الشروق
(كوكب الصبح) .
وأما المريخ فهو أقرب السيارات الخارجية إلى الأرض وحجمه ثمن حجمها،
وتشاهد في قطبية بالتلسكوب نقطًا بيضاء، يقال: إنها ثلج.
وأما المشتري فهو أكبر السيارات على الإطلاق وأشدها نورًا بعد الزهرة
بالنسبة لنا، وتحيط به منطقة من السحب ودورته حول محوره هي عشر ساعات
فقط، فهو أسرع دورة من الأرض، ولكبر حجمه يقال: إن قشرته لم تبرد تمامًا
إلى الآن.
وأما زحل فأغرب شيء يشاهد فيه هو وجود ثلاث مناطق عريضة تحيط به
بعضها خارج بعض، ويقال: إنها مكونة من ملايين من التوابع الصغيرة، وأمرها
في الحقيقة مجهول. وأما أورانوس ونبتون فهما أبعد السيارات في المنظومة
الشمسية وآخرها على ما نعلم.
وهذان السياران لم يكونا معروفين للقدماء؛ لأنه لا يمكن رؤيتهما بالعين
المجردة. وأما باقي السيارات فهي معروفة من قديم الأزمان وعند جميع الأمم؛
لأنها ترى جميعًا بالعين المجردة، وقد كان القدماء يعدون السيارات سبعًا غير
الأرض، مع أنهم ما كانوا يعرفون منها غير الخمس المسماة بالدراري وهي
(عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل) لأنهم كانوا يحسبون الشمس والقمر
من ضمنها، والحقيقة أنهما ليسا منها في شيء، فإن الشمس من الثوابت، وهي
مركز العالم الشمسي الذي نحن فيه. والقمر تابع للأرض كباقي التوابع المذكورة
آنفًا {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) .
أما ذوات الأذناب (Comets) فهي أيضًا سيارات غازية، ولكنها تدور
حول الشمس على أبعاد شاسعة جدًّا، فأفلاكها متسعة اتساعًا عظيمًا، وهي في
بعض الأحيان تقترب من الشمس، حتى تختفي في ضوئها، ثم تبتعد حتى يخيل
لنا أنها خرجت عن المنظومة الشمسية؛ وذلك لأن الشمس كما قلنا: ليست في
وسط الأفلاك بل مائلة إلى بعض جوانبها، وأكثر هذه المذنبات يخرج فعلاً عن
منظومتنا هذه الشمسية، ويذهب إلى منظومات أخرى، والمذنبات تعد بالمئات وإن
كنا لا نرى بالعين المجردة إلا القليل منها لصغرها ومتى ابتعدت عن الشمس،
عادت إليها أذنابها؛ لأن هذه الأذناب عبارة عن أجزاء من أجرامها الغازية، تجذبها
الشمس إليها وتشدها، والصغير منها لا ذنب له مهما اقترب من الشمس.
والخلاصة أن بعض هذه النجوم الغازية لها أفلاك معروفة، والبعض الآخر
وهو الكثير لا تعرف له أفلاك. والظاهر أنها ضالة في الفراغ بين العوالم
العديدة، وأصلها نجوم انحلت وبانحلالها هي تنشأ الشهب.
وأشهر هذه المذنبات التي ظهرت في القرن التاسع عشر مذنب ظهر سنة
1811، وكان طول ذنبه 112مليونًا من الأميال، ومذنب هالي الذي ظهر في سنة
1843 وفي 1880 و1882، وقد ظهر في سنة 1861و1862 مذنبان كانا غاية
في البهاء والجمال، وأخيرًا ظهر واحد شاهدناه في السنة الماضية (1910) .
أما البروج فهي صور وهمية تنشأ من اجتماع الثوابت بعضها بجانب بعض
بحسب ما يتخيل لنا، وهي اثنا عشر برجًا معروفة، نرى أن الشمس تتنقل من
واحد منها إلى الآخر بحسب الظاهر، وباجتماع الثوابت بعضها ببعض تنشأ صور
أخرى غير البروج؛ كصورة الدبين والثريا والجاثي على ركبتيه والنسر الطائر
وغير ذلك، ولعل سدرة المنتهى المذكورة في القرآن الشريف هي صورة كهذه
الصورة [6] فيكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل من الأرض بعينيه على
صورته الحقيقية الأصلية مرتين: مرة في الأفق ومرة عند سدرة المنتهى [7] وهو
نازل من الملأ الأعلى فلا يبعد أن تكون هذه السدرة [8] صورة تشبه شجرة النبق،
ناشئة من اجتماع عدة ثوابت بعضها مع بعض (راجع سورة النجم والتكوير) ،
وشبهت بذلك كما شبه غيرها بصورة النسر الطائر مثلاً.
وقوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (النجم: 16) معناه أنه رأى
جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى، حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها
وتهبط عليها وتحف من حولها، وذلك بأن كشف الله عن بصره وبصيرته
وأنارهما، فرأى ما رأى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم: 18) فكانت هذه
الرؤية للأرواح والملائكة رؤية حقيقية عيانية؛ كرؤية جبريل في الأفق والنبي صلى
الله عليه وسلم لم ينتقل من الأرض {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم: 17) ،
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (النجم: 12) . أما رؤية هذه السدرة المذكورة في
حديث المعراج فكانت في مرة أخرى غير هذه وكانت منامية (أي رؤيا) كما
سيأتي في الحاشية، ولا علاقة لها بما ذكر في سورة النجم، فإنه كان يقظة؛
ولذلك خيل له فيها أن للسدرة نبقًا كقلال هجر [9] وأن أربعة أنهار (منها النيل
والفرات) تخرج منها. هذا إذا لم تكن هذه العبارات زيادات من بعض الرواة؛ فإنها
تشبه الإسرائيليات، وتقرب مما جاء في أوائل سفر التكوين في وصف جنة آدم، وإلا
فإن هذه السدرة لا نبق لها، فإنها مجموعة كواكب على ما نعتقد، والنيل والفرات
لا يخرجان منها ولا ماء السحاب أيضًا. فإن السحاب الذي ينزل منه المطر إلى
الأرض وتتكون منه الأنهار؛ كنص القرآن في عدة مواضع أصله بخار تصاعد
من بحار الأرض؛ ولذلك قال الله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا} (النازعات: 31) أي من
الأرض {مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) وقال: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ
يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} (الزمر: 21) وقال: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا} (الرعد: 17) فكأنه قال: إن ماء الأنهار والينابيع هو من السماء أي
: السحاب بدليل قوله: {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ
الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (فاطر: 9) وقوله في السحاب: {فَتَرَى الوَدْقَ} (النور:
43) المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) والسحاب أخرجه الله تعالى من
الأرض لا من الجنة بدليل الآية المتقدمة، فكيف إذًا يكون النيل والفرات آتيين من
الجنة، وهما يتكونان بشهادة الحس والقرآن من ماء المطر الخارج من نفس
الأرض؟!
كذلك ما ورد في حديث المعراج من شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم،
واستخراج قلبه وغسله بالماء في طست من الذهب إلى غير ذلك مما جاء فيه،
فالأقرب إلى العقل والعلم أن ذلك كله كان رؤيا، يراد بها أن الله تعالى طهر قلب النبي
ونفسه صلى الله عليه وسلم، وملأهما علمًا وحكمة، وأطلعه على كثير من غيبه.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول:
اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الإنسان، فإنه من السمو أي
العلو، فسقف البيت سماء، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} (الحج: 15) أي فليمدد بحبل إلى سقف بيته، وهذا الفضاء اللانهائي سماء،
ومنه قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة: 22) والكواكب سماوات.
فالسماوات السبع المذكورة كثيرًا في القرآن الشريف هي هذه السيارات السبع [10]
وهي طباق أي أن بعضها فوق بعض؛ لأن فلك كل منها فوق فلك غيره كما تقدم،
والشمس مركز لهذه الأفلاك السبعة، ومنها تستمد هذه السيارات النور والحرارة،
فهي سراج وهاج، ونورها كنور السراج غير مستمد من غيره؛ بل ناشئ عن
احتراق موادها كما سبق. وأما الأقمار فهي كالمرآة تعكس نور الشمس على
الكواكب التابعة لها؛ فلذا لم تسم في القرآن بالسُّرج، فإنها لا نور لها من ذاتها،
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ القَمَرَ} (نوح: 15-16) أي جنس القمر {ِفيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح:
16) أي لهم جميعًا، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الشمس والقمر ليست من
السموات السبع المرادة في القرآن، وإن كان يصح أن تسمى بالسموات لغة، ولكنه
يريد بالسموات غيرها، وقد كان القدماء يعدونها من السموات السبع قبل اكتشاف
(نبتون وأورانوس) ويعتبرون الأرض مركزًا للعالم، ولكن القرآن الشريف لم
يجارهم في هذا الخطأ، وبين بهذه الآية وغيرها أن السموات شيء والشمس والقمر
شيء آخر، وأن الأقمار نور في السموات حينما كان الناس يظنون أن لا قمر إلا
للأرض فقط، فانظر إلى هذه الآيات البينات الدالة على صحة القرآن وعلى صدق
النبي الأمي في الوحي، فلو كان القرآن من عند غير الله لوجد فيه مئات الألوف
من الأوهام والغلطات الفاشية في زمنه، كما وجد ذلك في كتب الأولين والآخرين،
فما بالك بهذا النبي الأمي الذي نشأ في زمن الجهل، وبعيدًا عن العلم وعن مجالس
العلماء صلى الله عليه وسلم؟
فإن قيل: إذا كان القدماء لم يروا من السيارات إلا خمسًا، فكيف قال: {أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (نوح: 15) قلت: إن الرؤية هنا علمية
لا بصرية، والاستفهام إنكاري، فالمعنى ألم تعلموا أن الله خلق سبع سماوات..
إلخ، فهي على حد قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحَابِ الفِيلِ} (الفيل: 1) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشاهد هذه
الحادثة بل ولد بعدها، وإنما سمعها من الناس، فكذلك القدماء وإن كانوا لم يشاهدوا
من السيارات إلا خمسًا، فإن ما جهلوه منها هو مثل ما علموه سواء بسواء لا فرق
بينهما، وقد أخبرهم الأنبياء بأنها سبع، فيسهل عليهم تصديقهم في ذلك، إنما خص
الله تعالى هذه السبع بالذكر، مع أن القرآن الشريف لم يذكرها في موضع واحد
على سبيل الحصر، فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع، قال تعالى: {رَبُّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (مريم: 65) أي من التوابع والنجيمات والسحب
وغير ذلك {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) هذا وقد قال
بعض العلماء باللغة العربية: إن العرب تستعمل لفظ سبع وسبعين وسبع مئة
للمبالغة في الكثرة، فالعدد إذًا غير مراد، ومن ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 261) وقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} (الحجر: 43-44) وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي
الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27) .
هذا، وقد أشار القرآن الشريف إلى حركة هذه الكواكب بقوله تعالى: {فَلاَ
أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ} (التكوير: 15-16) وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ} (يس: 40) وهما يدلان أن حركتها ذاتية، لا كما كان يقول القدماء من
أن الكواكب مركوزة في أفلاكها التي تدور بها وبدورانها تتحرك الكواكب.
أما الأرض فهي كما سبق إحدى هذه السيارات، ولم تعتبر سماء بالنسبة
للإنسان؛ لأنه يعيش عليها، فالسيارات الكبيرة وإن كانت ثماني إلا أن سبعًا منها
فقط هي التي تعلو الإنسان فهي السموات بالنسبة له، ويقول العلماء: إنه من
المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه،
ويكون كل كوكب منها أرضًا بالنسبة لحيواناته، وباقي الكواكب سماوات بالنسبة
لها. والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح؛ لأن الله تعالى
يقول في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ
عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: 29) ويقول: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) .
أما كون الأرضين سبعًا كالسموات، فهو أمر نجهله ولا نفهمه إلا إذا أريد به
أن للأرض سبع طبقات، والحق يقال: إن كون الأرضين سبعًا هو كما يظهر لنا
وهم من أوهام القدماء؛ ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعًا
(أي أرضين) ، ولم يرد فيه مطلقا أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات
سبع مرارًا عديدة، وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالإفراد.
نعم.. ورد في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12) وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن
الأرضين سبع، وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقًا، ولنا في تفسيرها وجهان:
إما أن تكون (من) في قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ} (الطلاق: 12) زائدة [11]
وإما أن تكون غير زائدة، أما على الوجه الأول فتقدير الآية هكذا: {اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وعلى تفسيرنا هذا
تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه أي:
أنها إحدى هذه السيارات، وهو أمر ما كان معروفًا في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وذلك من دلائل صدق القرآن،
والأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول
الشمس وتستمد النور والحرارة منها، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى،
وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه
وكلها مخلوقة من مادة واحدة وهي مادة الشمس، وعلى طريقة واحدة، قال الله
تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} (الأنبياء: 30)
أي السموات تمامًا {فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) أي فصلنا بعضها عن بعض،
فالأرض خلقها الله تعالى مثل السموات تمامًا {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) .
وأما على الوجه الثاني وهو أن (من) غير زائدة، فتقدير الآية هكذا:
(والله الذي خلق سبع سماوات وخلق من الأرض أرضًا مثلهن) فالآية واردة على
طريقة التجريد كقولك: (اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق مثلهم)
أي مثلهم في الصداقة أو التقدير، وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها.
وعليه فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما
يزعمون.
هذا، واعلم أن المجموعة الشمسية يوجد في العالم مثلها كثير [12] كما بينا
ومن المعلوم أن الشمس وما حولها من السيارات تدور في الفضاء حول نجم آخر،
يعتبر مركزًا لها، ولا يعرف بالتحقيق ما هو هذا النجم، ويقال: إنه هو نجم من
نجوم الثريا أو من صورة النسر الطائر أو الجاثي على ركبتيه، وإذا كان هذا هو
حال مجموعتنا الشمسية، فالظاهر أن المجاميع قاطبة تدور حول مركزها من
النجوم الثابتة، كما يشاهد ذلك في المجاميع الشمالية، فإنها تدور حول القطب
الشمالي (النجم المعروف) وإذًا فلا يبعد أن جميع هذه المجاميع قاطبة تدور حول
مركز واحد عام لها، وهذا المركز يجذبها جميعًا إليه، ويحفظ كيانها ونظامها،
وربما كانت جميعًا مخلوقة من مادته، وله فيها تأثيرات كالكهربائية والمغناطيسية
وغيرهما مما لا نعلمه، وعليه فيكون هذا المركز أو النجم هو كالعاصمة للعالم كله
بسائر مجاميعه، فهو مركز الجذب والتأثير والتدبير والنظام، و (تخت) العالم أو
كرسيه أو عرشه، والغالب أن ما يريده القرآن بلفظ العرش هو هذا المركز العام
للعالم كله، فهو عرش الله [13] وعرش الرحمن كما يقول القرآن {قُلْ مَن رَّبُّ
السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (المؤمنون:
86-87) وقد اقتبست ما ذكرت في العرش من مذاكرة لي مع السيد صاحب المنار،
ولقائل أن يقول: إذا كانت الشموس أو مراكز هذه المجاميع تسير بمجاميعها حول
هذا المركز العام الذي تقول: إنه هو العرش، فهل هذا العرش يسير أيضًا بها في
الفضاء أم هو ثابت؟ فإن كان ثابتًا فماذا يثبته؟ أما الجاذبية فلا يصح أنها تثبته
في نقطة واحدة من الفضاء، كما أنها لا تثبت الشمس، وإن كانت تحفظ النسبة بين
العرش وبين جميع العوالم (المجاميع) إلا أنها لا تثبته بمعنى أنها لا تمنعه من
أن يسير بها جميعًا في الفضاء، وعليه فإذا قلت: إن العرش ثابت فما هذا الشيء
الذي يثبته؟؟
والجواب أن الله تعالى وكَّل به قوى مخصوصة لا نعلم كنيتها ولا حقيقتها،
وهذه القوى تمنعه من جميع الجهات أن يسير بالمجاميع في الفضاء، وهذه القوى
المجهولة لنا تسمى (حملة العرش) وهي أشياء روحانية لا يمكننا أن ندرك ماهيتها،
كما أننا لا ندرك ماهية المغناطيس أو الكهرباء أو سائر القوى الجاذبة، ومن
ادعى إدراك هذه الأشياء، فليخبرني أي شيء ينبعث من الجسم الجاذب إلى الجسم
المجذوب فيجذبه، وما كُنه هذا الشيء وكيف نتصوره؟؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} (غافر: 7) وقال
أيضًا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: 17) أي ثمانية أصناف
من هذه القوى الروحانية أو ثمان قوى وهي المسماة بالملائكة {وَتَرَى المَلائِكَةَ
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (الزمر: 75) .
وكما أن العرش [14] تحفه الأرواح الغيبية، فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة
مع الحيوانات والدواب بأرواح منها الصالح (ملك) ومنها الطالح
(شيطان) وكذلك أرضنا هذه ففيها من الملائكة ومن الشياطين ما لا نبصره
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) ولا يخفى أن عدم
الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم
وجودها، كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات والكهرباء التي تشاهد الآن
آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم، فمن الجهل
الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه، على أن لنا الآن من مسألة
استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض لا نبصرها ولا
نشعر بها.
وقد قدر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض إذا خرجت عنها إلى حيث
ينقطع الهواء ويبطل التنفس تموت في الحال، وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي
في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بالأرواح التي في
الكواكب الأخرى، انقض عليها قبل أن تخرج من جو الأرض شهاب من هذه
الكواكب أو من غيرها [15] فأحرقها وأهلكها بإفساد تركيبها ومادتها، حتى لا يحصل
اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى، وهذه الشهب التي
تنقض إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة كانت ملتهبة، وإن كانت صادرة من
أجرام غير ملتهبة التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها
في جونا هذا، ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إليه هذه الشهب ويتحد بها؛ كما
تنجذب العناصر الكيماوية بعضها بعضًا: (مثال ذلك عنصر الصوديوم فإنه
يجتذب إليه الأكسجين من الماء فيحلله) . ولا نقول: إن جميع الشهب تنقض لهذا
السبب، بل منها ما ينقض لأسباب أخرى كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له،
ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين كما بينا هنا، والشياطين مخلوقة من مواد غازية
كانت ملتهبة {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر: 27) وهذه
المسائل لا يوجد في العلم الطبيعي الآن ما يثبتها، كما أنه لا يوجد فيه ما ينفيها،
وإنما نحن نصدقها؛ لأن القرآن الذي ثبتت صحته عندنا جاءنا بها، قال الله تعالى:
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لاَ
يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ *
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات: 6-10) والمراد بالسماء
الدنيا هنا الفضاء المحيط بنا القريب منا أي: هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم
كلها. أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا
بمناظيرنا (Telescopse) فهو فضاء محض لا شيء فيه، فلفظ السماء كما قلنا
له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو، وتفسر في كل مقام بحسبه، وكذلك هو
في اللغات الأجنبية: فمثلاً في الإنكليزية لفظ (Lleaven) قد يراد به الجو أو
الجنة أو الذات الإلهية.
فكل مسألة جاء بها القرآن حق لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها؛لأنه وحي
الله حقًّا، والحق لا يناقضه الحق {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
ومما تقدم، تعلم أن العوالم متعددة؛ ولذلك يقول القرآن الشريف في كثير من
المواضع الحمد لله رب العالمين [16] وهذا أيضًا يخالف ما كان عليه القدماء، فإنهم
كانوا يزعمون أن العالم واحد، وأن الإنسان أشرف الموجودات، وأن الكواكب كلها
أجرام فارغة خلقت ليتلذذ بمنظرها الإنسان [17] مع أن القرآن يقول منذ مئات من
السنين: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} (الأنبياء: 16) وقال:
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} (آل
عمران: 191) وقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ولم يقل
وفضلناهم على جميع الموجودات، وقال أيضًا: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ
مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (غافر: 57) فالقرآن ينطبق على
العلوم الحالية أتم الانطباق، ولا يوجد كتاب آخر ديني يدانيه في شيء من ذلك
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} (الشعراء: 192-193)
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) ولذلك لا تجد علمًا في العلوم الصحيحة، ولا
اكتشافًا من الاكتشافات الحديثة، ولا مبدأ قويمًا إلا ويؤيد الإسلام بقدر ما يزعزع
غيره من الأديان الأخرى.
__________
(1) يطلق لفظ مجموعة في هذه المقالة على معنيين مختلفين: 1- على المنظومة المكونة من شمس وسيارات حولها كمنظومتنا الشمسية (system) 2- وعلى مجموعة الكواكب الثابتة كالدب الأكبر المركب من عدة شموس (constelllation) ، والمجموعة بالمعنى الثاني مركبة من عدة مجاميع بالمعنى الأول، والسياق هو الذي يعين أحد المعنيين فيما يأتي.
(2) ثبوت هذه الكواكب أو الشموس هو أمر اعتباري فقط، وإلا فالحقيقة أن جميع الكواكب متحركة سواء سميت ثوابت أو سيارات، كما سيأتي قال تعالى: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] (يس: 38-40) .
(3) تذكر قوله تعالى: [وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ] (الحج: 47) ، وقوله: [تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ] (المعارج: 4) وقوله: [ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ] . (السجدة: 5) .
(4) الحبك: جمع حبيكة كطريقة وطرق، وحبيكة بمعنى محبوكة أي مربوطة فقوله تعالى: [وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ] (الذاريات: 7) معناه ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة، فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يقول الإفرنج: إنهم مكتشفوها، وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العملية، وسيأتي بيان بعضها.
(5) الألف واللام هنا للجنس لا للعهد، كما في قوله تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: 4) .
(6) لا يظن القارئ أن المشابهة تامة بين هذه الصور (المجاميع) وبين ما شبهت به، كما لا يخفى على الفلكيين، بل الحقيقة أن هذه المشابهة تكاد تكون مفقودة ولا وجود لها إلا في نظر التخيل والوهم، فلا عجب إذًا إذا شبهت إحدى هذه المجاميع بشجرة النبق، فإنه يوجد بين الأسماء التي اصطلحوا عليها ما هو أبعد وأعجب، ولا نسبة هناك بين المشبه والمشبه به.
(7) المنتهى: أي الغاية التي تنتهي إليها جميع الخلائق بعد الحساب يوم القيامة [وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى] (النجم: 42) ، فمن كان منهم سعيدًا أدخل في جناتها التي توجد في كواكبها السيارة؛ ولذلك قال تعالى: [عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى] (النجم: 15) وكون عرض الجنة كعرض السموات والأرض لا غرابة فيه، فإن من الكواكب الأخرى ما هو أكبر من مجموع هذه الأرض وباقي السيارات التي حول شمسنا هذه، وهي المسماة في القرآن بالسموات ومن كان منهم شقيًّا أدخل في نيرانها المتأججة المستعرة التي توجد في شموس هذه المجموعة، فهي تسع جميع سكان السموات والأرض وباقي سكان المجاميع الأخرى، وإليها ينتهون وقيل سميت بسدرة المنتهى؛ لأنها أقرب المجاميع إلى العرش أي أنها توجد بعد جميع المجاميع وفي نهايتها، وسيأتي ما يفهمك معنى ذلك ومعنى لفظ العرش.
(8) ويحتمل أن كلمة (سدرة) هنا معربة من كلمة لاتينية (sideris) بمعنى الكوكب أو النجم، وعليه فمعنى (سدرة المنتهى) كوكب الانتهاء، وهذه الكلمة اللاتينية أخذت بهذا المعنى في كثير من اللغات الأجنبية، ولعل العرب نقلتها إلى لغتها من بلاد الروم أو غيرهم مما كانوا يخالطونهم ويكون هذا المعنى مما نسيه الناس كما نسوا غيره من الكلمات الأصلية والمعربة أو من معانيها ولا يخفى أن المفرد المضاف (يعم) ، كقوله تعالى: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ] (البقرة: 187) ، أي ليالي الصيام، فكذلك هنا يصح أن يراد (بسدرة المنتهى) سدرات أي عدة كواكب لا كوكبًا واحدًا.
(9) كما خيل ليوسف أن إخوته كواكب ساجدة له، وكما خيل للعزيز أن سني الخصب والجدب سبع بقرات سمان وسبع عجاف.
(10) أما ما ورد في حديث المعراج من وجود الأنبياء في السموات، فالأرجح عندي أن المعراج كان رؤيا منامية روحانية كما قلنا، وفي هذه الرؤيا فرضت الصلوات الخمس؛ لأن رؤيا الأنبياء من الوحي كرؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده والمعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقًا، وأما ما ورد في سورة النجم والتكوير فلا علاقة له بالمعراج، وإنما هي رؤية النبي لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما سبق أما الإسراء إلى بيت المقدس وهو الذي ذكر في القرآن الشريف؛ فالأرجح أنه كان جسدانيًّا كما هو ظاهر القرآن؛ ولذلك اقتصر عليه، ولم يذكر شيئًا عن المعراج، ولو كان حصل ليلة الإسراء وكان جسدانيا مثله لذكر معه في سورته، فإنه أعجب وأغرب وأدل على القدرة الإلهية من الإسراء، وهذه السرعة العجيبة في الإسراء يقربها إلى عقولنا ما نراه في حركات الكواكب، وما نشاهده من المخترعات البشرية البخارية والكهربائية وقد قال بما قلت هنا كثير من المسلمين، حتى من أزواج النبي والصحابة والتابعين فهو ليس ابتداعًا في الدين؛ فالإسراء إلى البيت المقدس ورؤية جبريل والملائكة كانا في اليقظة، والمعراج إلى السماء كان في المنام وكلها كانت في أوقات مختلفة ولذلك لم يذكر في حديث المعراج (بحسب رواية البخاري التي هي أصح الروايات بالإجماع) أن النبي صلى الله عليه وسلم سار أولاً إلى بيت المقدس، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية بل المذكور أنه كان مصاحبًا له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة هو غير ما ذكر في الحديث مما وقع منامًا في وقت آخر، وإلا لذكرا معًا في سياق واحد: إما في القرآن وإما في أصح الأحاديث، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعول عليها، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض.
(11) الدابة كل حيوان يدب أي يمشي، ومنه قوله تعالى: [وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ] (النمل: 82) ، والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعًا مخصوصًا من دواب هذه الأرض، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى ينطقه فيوبخ الإنسان على كفره، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضًا، فليس المراد من قوله: (دابة) الفرد بل النوع كما في قولك: (أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم) ، أي ديدانًا كثيرة من نوع واحد مخصوص، وربما كانت هي الفرس، فإن الدابة بحسب عرف العرب مختصة بالفرس.
(*) زيادة (من) الداخلة على المعرفة في سياق الإثبات غير جائز.
(12) هذه الحقيقة تطابق القرآن الشريف من جميع الوجوه، فهو القائل: [فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (الجاثية: 36-37) ، فانظر الفرق بين هذا الدين وبين غيره الذي يجعل بني آدم هم كل شيء في هذا الوجود، حتى إن الله الذي وسع كرسيه السموات والأرض لا شأن له إلا التفرغ لهم بنزوله إلى الأرض بنفسه، والمعيشة بينهم وتخليصهم بطريقة لا مناص له منها ولم يجد سواها، وهي أن يتحمل الإهانة والقتل والصلب بدلاً عنهم ثم الموت والدفن والصعود إلى السماء بهذا الجسد الحيواني، والبقاء إلى الأبد كل ذلك لأجل مرضاة جزء صغير حقير من عبيده لا يبلغون عشر معشار ما له من المخلوقات العظيمة الكثيرة في العوالم الأخرى العديدة [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] (المدثر: 31) ، [قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (المائدة: 17) ، [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً] (الإسراء: 43-44) .
(13) أما قوله تعالى: [وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ] (هود: 7) أي قبل خلق السموات والأرض، فالظاهر منه أن الله تعالى خلق أولاً المادة وكانت غازية ثم تكاثفت، حتى صارت سائلاً (وهو الماء) ، ثم تكاثف الماء فظهر في جرم العرش، ثم تكونت بعده الأجرام الأخرى شيئًا فشيئًا، ثم التهبت جميعها لأسباب يذكرها علماء المادة، فكانت هي الشموس، وتحول ما بقي من السوائل حولها إلى غازات، كما كان أولاً (وهو الأثير الآن) ثم انفصلت السيارات من الشموس، فتكونت المنظومات العديدة ومنها منظومتنا هذه التي نحن فيها.
(14) الراجح أن جرم العرش منطفئ ولا نار فيه لشدة قدمه، فإنه أقدم سائر الأجرام، كما انطفأ كثير من الشموس الأخرى القديمة، على ما حققه علماء الفلك، ولذلك لا يمكن أن نبصره لانطفائه،ولا يحترق ما فيه من الموجودات.
(15) يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب، ويحتمل أن بعضها ناشئ، من بعض الشموس المنحلة أو الباقية الملتهبة أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعًا مشتقة من الشموس، كان مصدر جميع الشهب هي الشموس أو النجوم، وهذا يفهمنا معنى قوله تعالى: [وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ] (الملك: 5) .
(16) يطلق لفظ العالمين أيضًا على أمم الأرض المختلفة من الجن والإنس، كما في قوله: [الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 71) ، وقوله: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] . (الأنبياء: 107) أي في هذه الأرض.
(17) المراد بالإنسان هنا الإنسان الأرضي، وإلا فإن هذا اللفظ يطلق على كافة أفراد هذا النوع العاقل من الحيوانات، سواء كانوا في الأرض أو السيارات الأخرى (السموات) ، وعلى هذا المعنى العام يحمل قوله تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ] (الأحزاب: 72) - إلى قوله -[وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ] (الأحزاب: 72) الآية وسجود الملائكة لآدم لا يدل على أن نسله أشرف هذا النوع كله، فقد يجوز أن الله خص الآخرين بما هو أعلى وأعظم من ذلك، ولو كان هذا السجود يدل على التفضيل لكان آدم نفسه أفضل جميع الأنبياء من باب أولى وهو مما لم يقل به أحد.(14/577)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
فصل في بيان دقائق
المسائل العلمية الفلكية
الواردة في القرآن
يلاحظ القارئ مما تقدم أن القرآن الشريف قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية
دقيقة لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسائل تعتبر من
معجزات القرآن الخالدة وهاكها ملخصة:
1 - الأرض كوكب كباقي الكواكب السيارة {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق:
12) وهما من مادة واحدة {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) وهي
تدور حول الشمس {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) [*] .
2 - السيارات الأخرى مسكونة بالحيوانات {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} (الشورى: 29) ، {يُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (الإسراء:
44) ، {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرحمن: 29) ومجموع هذه
الآيات يدل على أن في السموات حيوانات عاقلة كالإنسان.
3 - ليس القمر خاصًّا بالأرض، بل للسيارات الأخرى أقمار {وَجَعَلَ
القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} (نوح: 16) .
4 - ليست السيارات مضيئة بذاتها، بل إن الشمس هي مصباحها جميعًا
{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح: 16) أي لهن كما يدل عليه السياق، فالنور الذي
نشاهده فيها منعكس عليها من الشمس.
5 - السماوات والسيارات السبع شيء، والشمس والقمر شيء آخر،
فهما ليسا من السيارات كما كان يتوهم القدماء {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (العنكبوت: 61) الآية وغيرها
كثير.
6 - العوالم المتعددة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) والعوالم
هي منظومات من الكواكب المتجاذبة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات:
7) .
7 - ليست جميع العوالم مخلوقة لأجل هذا الإنسان {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: 57) أي الناس المعهودين على وجه
الأرض، والإنسان الأرضي أفضل من بعض المخلوقات لا كلها {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ولا ينافي ذلك قوله: {وَسَخَّرَ
لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) إذ لا يلزم من هذا القول
أنها غير مسخرة لغيرنا من الأحياء، فالبحر مثلاً قال الله تعالى فيه: {سَخَّرَ لَكُمُ
البَحْرَ} (الجاثية: 12) مع أنه مسخر لغيرنا من الحيوانات البحرية تسخيرًا أتم
وأعم، فمنه تأكل وتشرب وتتنفس، وفيه تسكن وتحيا وتموت. فما هو
مسخر لبعض الحيوانات تسخيرًا جزئيًّا قد يكون مسخرًا لغيرها تسخيرًا كليًّا،
فكذلك النجوم مسخرة لنا لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر، مع أنها لغيرنا
شموس عليها قوام حياتهم، كما أن شمسنا عليها قوام حياتنا، وهي بالنسبة لهم
نجم من نجومهم الثوابت، وبالجملة فإن جميع العوالم بما بينها من الارتباط العام
والتجاذب الذي بينها مسخرة بعضها لبعض بالنفع الكلي أو الجزئي.
8 - كان القدماء يعتقدون أن جميع الثوابت مركوزة في كرة مجوفة يسمونها كرة
الثوابت أو فلك الثوابت، وبحركة هذه الكرة تتحرك هذه الكواكب كما تقدم، ومعنى
ذلك أن الكواكب لا حركة لها بذاتها، وأن فلك جميع الثوابت واحد، وأنه جسم
صلب. والحقيقة خلاف ذلك؛ فإن لكل كوكب فلكًا يجري فيه وحده، وكل كوكب
يتحرك بذاته لا بحركة غيره، والكواكب جميعًا سابحة في الفضاء، أو بعبارة أصح
في الأثير (مادة العالم الأصلية) غير مركوزة فيه في شيء مما يتوهمون، وبهذه
الحقائق، جاء الكتاب الحكيم والناس في الظلمات والأوهام يتخبطون. قال الله
تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) والتنوين في لفظ (كل) عوض
عن الإضافة، والمعنى كل واحد من الكواكب في فلك خاص به يسبح بذاته. وفي
قوله يسبحون إشارة إلى مادة العالم الأصلية (الأثير) التي تسبح فيها الكواكب
كما تسبح الأسماك في الماء، فليست الأفلاك أجسامًا صلبة تدور بالكواكب كما كانوا
يزعمون.
9 - نص الكتاب العزيز على وجود الجذب العام للكواكب كافة من جميع
جهاتها فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) ، {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (النازعات: 27) ، {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك: 3) راجع تفسير
هذه الآيات فيما تقدم، فالكون كله كالجسم الواحد الكبير محكم البناء لا خلل فيه،
كما قال: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) ، ويتخلله الأثير كما يتخلل ذرات
الجسم الصغير {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) .
10 - كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتي ماء المطر،
ولهم في السحاب أوهام عجيبة، كما كانت لهم في كل شيء سخافات وخرافات،
ولكن القرآن الشريف تنزه عن الجهل والخطأ فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي
سَحَاباً} (النور: 43) إلى قوله: {فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور:
43) وقال: {فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) ومقتضى القولين
أن الماء العذب الذي نشربه ونسقي به الأرض سواء كان من الينابيع أو من الأنهار
هو من الأمطار الناشئة من السحاب، ومن أين يأتي السحاب؟ هو بخار من
بحار هذه الأرض أي: أن السحاب هو من الأرض، وهو عين قوله تعالى:
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) أي أن الماء جميعه أصله من
الأرض، وإن شوهد أنه ينزل من السحاب.
فهذه كلها آيات بينات ومعجزات باهرات دالة على صدق النبي وصحة القرآن.
* * *
(الخاتمة في بيان الغاية من هذا الوجود)
قد علمنا مما تقدم أن العوالم متعددة، وأنها كلها مسكونة بالأحياء العاقلة وغير
العاقلة، فهل كلها مخلوقة عبثًا؟ ؟ وهل لهذا الوجود غاية؟ ؟ أم كل هذه العوالم
سائرة للفناء؟ وخلقت لا لشيء؟ شموس وسيارات وأقمار تجري في أفلاكها
بانتظام ونواميس وسنن وهي مملوءة بالأحياء، وتظهر فيها جلائل أعمال الطبيعة
والمخلوقات، أتنقرض هذه كلها وتنتهي إلى الفناء المحض والعدم الصِّرف؟ كلا ثم
كلا.
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116)
الحياة وخصوصًا حياة الحيوانات العاقلة، هي كما نشاهد غاية الغايات في
هذا الوجود، وإلا كان العالم كله كالقصر المشيد الذي لا سكان فيه، أو كالملعب
الجميل الذي لا يرى فيه ممثلون أو لاعبون.
وإذا كانت الحياة هي غاية هذا الوجود، فهل لهذه الحياة غاية؟ ؟ وإذا كانت
المادة وقوتها في هذا العالم غير قابلة للعدم والفناء كما يقولون، فلم تكون الحياة
فانية؟ وإذا كانت المادة وقوتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور وأطوار
متنوعة ومع ذلك نقول ببقائهما؟ فلماذا نقول بفناء الحياة إذا تغير شكلها أو صورتها؟
أليس من العجيب أن القائلين بعدم فناء المادة والقوة هم المنكرون لبقاء الأرواح
البشرية إذا غيرت المادة المنظورة شكلها؟ مع أن الأرواح قد لا تكون شيئًا آخر
سوى نوع مخصوص بسيط لطيف من أنواع المادة التي لا نعرفها، كالأثير الذي
يقولون بوجوده وأنه مالئ للعالم كله وأنه يتخلل ذرات المادة الكثيفة: {وَمَا أُوتِيتُم
مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
وإذا سلم أن النفوس أو الأرواح لا تفنى إذا كانت من نوع هذه المادة، فهل
أعمال هذه النفوس تفنى، وأنتم القائلون بعدم فناء القوة، سواء كانت كامنة أو
عاملة؟ ! (Potential & Kinctic Energy) .
هذا، ولا يخفى أن لكل عمل أثرًا في النفس [1] وإذا سلم أن النفس وعملها
(قوتها) وأثر عملها لا تفنى كان من السهل علينا أن نسلم أن الأعمال السيئة تطبع
في النفوس آثارًا سيئة (impressions - Bad) لا تمحى. ولا تزال تلك
الأعمال تطبع آثارًا من جنسها في النفس كلما زادت، حتى تجعل النفس شريرة أو
صالحة، كأنها جبلت على الشر أو الخير.
وإذا كان من المشاهد أن الجزاء في هذه الحياة هو النتيجة الطبيعية للأعمال
إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، والنفوس بما انطبعت عليه باقية كما بينا، أفلا تلقى
جزاءها الأوفى في الدار الآخرة، كما كانت تلقى ذلك في الدنيا، وتكون النفس
الشريرة هناك دنيئة غير صالحة إلا للسكنى مع الأشرار الذين هم مثلها في دار
تناسبها أحوالها، كما أن النفوس الصالحة تكون في عكس ذلك {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) .
وإذا سلم أن النفوس كما هي بشرها أو خيرها باقية، أفلا يكون الجحيم
والنعيم لهما باقيين كذلك غير فانيين؟ فالدنيا مزرعة الآخرة أو المدرسة لتربية
النفوس، فمن ربيت نفسه على الخير حتى صارت صالحة، كان جزاؤها النعيم
المقيم في الآخرة، ومن ربيت نفسه على الشر حتى صارت شريرة فاسدة، كان لها
الجحيم لا يناسبها غيره لأنها مجرمة {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي
جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) فالجزاء باق لأن النفوس بما طبعت عليه في الدنيا
باقية، قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:
14) ، وقال: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) فدوام العذاب هو للنفوس الشريرة التي
فسدت، حتى صارت لا تصلح للخير مهما بقيت في الدنيا {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (الأنعام: 28-29) {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: 19) .
... ... ... ... ... ... الدكتور محمد توفيق صدقي
... ... ... ... ... ... ... طبيب ليمان طره
__________
(*) لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة حينما يبيد الله تعالى العوالم كما قال [وَسُيِّرَتِ الجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً] (النبأ: 20) ، وكما قال: [وَإِذَا الجِبَالُ نُسِفَتْ] (المرسلات: 10) لعدة أسباب:
1- إن قوله تعالى فيها [وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً] (النمل: 88) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة على أن حمل هذه الآية على المستقبل مع أنها صريحة في إرادة الحال شيء لا موجب له وهو خلاف الظاهر منها 2- إن سير الجبال للفناء يوم القيام يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال: [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ] (الزمر: 68) أي من الملائكة فما معنى قوله إذَا [وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً] (النمل: 88) 3- إن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة إذا رآه أحد شعر به لأن مادام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان فيحس بحركتها وهذا ينافي قوله تعالى (تحسبها جامدة) أي ثابتة أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا وهذا شيء يراه كل واقف عندها 4- أما ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة فهو كورود آية: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً] (النمل: 86) المذكورة قبلها في نفس هذا السياق والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار ليكون ذلك دليلاً على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه ولذلك ختم هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها بقوله: [إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] فذكر هذه الأشياء في هذا السياق هو كذكر الدليل مع المدلول أو الحجة مع الدعوى وهي عادة القرآن الشريف فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائمًا حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها كقوله تعالى: [مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ] (المائدة: 75) وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره وهو من أكبر آيات البلاغة العليا ومن عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية التي كانت جميع الأمم تجهلها بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به في أي زمن كان مهما كانت معلوماته فالناس قديمًا فهموا أمثال هذه الآية بما يوافق علومهم حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء علمنا أنهم كانوا واهمين وفهمنا معناها الصحيح فكأن هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين تظهر لهم كلما تقدمت علومهم وأما المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم فمعجزته لهم إتيانه بأخبار الأولين وبالشرائع التي أتى بها وبالمغيبات التي تحققت في زمنه وغير ذلك مع علمهم بصدقه وحاله وبعده عن العلم والتعلم بالمشاهدة والعيان فآيات القرآن بالنسبة لهم بعضها معناه صريح لا يقبل التأويل وفيها بيان كل شيء مما يحتاجون إليه والبعض الآخر يقبل التأويل وتتشابه عليهم معانيه لنقص علومهم وهذا القسم لا يهمهم كثيرًا فإنه خاص بعلوم لم يكونوا وصلوا إليها وهو معجزات للمتأخرين يشاهدونها وتتجلى لهم كلما تقدموا في العلم الصحيح، قال تعالى: [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ] (آل عمران: 7) أي لها معان كثيرة يشبه بعضها بعضا وتتشابه عليهم في ذلك الزمن فلا يمكنهم الجزم بالصحيح منها -[فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ]- بتشكيك الناس في دينهم بسببه -[وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلَهُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ] ، في زمنهم لنقص علمهم، [وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً] (الإسراء: 85) -[وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ] (آل عمران: 7) 000إلخ، فإذا جعل قوله تعالى: [وَالرَّاسِخُونَ] معطوفًا على لفظ الجلالة كان المعنى أن تأويله لا يعلمه أحد في جميع الأزمنة إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه وإذا كان لفظ (والراسخون) مستأنفًا كان المعنى أن الراسخين في العلم في زمنهم لا يعلمون تأويله كما قلنا وإنما يؤمنون به لظهور الدلائل الأخرى لهم على صدق النبي ويفوضون علم هذه الأشياء إلى المستقبل من الزمان كما نفوض الآن نحن مسألة رجم الشياطين بالشهب للمستقبل ونؤمن بالقرآن لثبوت صدقه بالدلائل الأخرى القطعية. (1) روى علماء الطب الشرعي عن كثير من الغرقى الذين أنقذوا من الموت بعد أن كادوا يقعون فيه أنهم رأوا جميع أعمالهم شرها وخيرها كبيرها وصغيرها حتى ما كانوا نسوه منها ممثلة أمام أعينهم وتمر عليهم واحدة فواحدة كما تمر الصور المتحركة أمام الناظرين وهذا يدل على انطباع جميع الأعمال في النفوس وأنهم سيرونها مصداقًا لقوله تعالى: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ] (آل عمران: 30) الآية وقوله:
[وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] (الكهف: 49) ولعل ذلك يفسر لنا قوله تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] (ق: 18) وقوله: [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ] (الانفطار: 10-11) وتكون هاتان الآيتان واردتين على سبيل التمثيل كقوله تعالى: [قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] (فصلت: 11) وقوله: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا] (الأحزاب: 72) الآية وقوله: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ] (الأعراف: 172) .(14/594)
الكاتب: محمد سعيد
__________
قانون في الطلبة
والمدرسين والموظفين [1]
الباب الرابع
في الطلبة والمدرسين والموظفين
(الفصل الأول)
في قبول الطلبة وواجباتهم
(المادة الحادية والستون)
يشترط في قبول الطالب في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى ما يأتي:
أولاً - أن لا ينقص سنه عن عشر سنوات، ولا يزيد عن سبع عشرة سنة.
ثانيًا - أن يكون عارفًا بالقراءة والكتابة بدرجة تؤهله للمطالعة في الكتب.
ثالثًا - أن يكون حافظًا لنصف القرآن الكريم على الأقل، وعليه حفظ القرآن
كله عملاً بنص المادة الثالثة والخمسين.
رابعًا - أن يكون خاليًا من الأمراض.
خامسًا - أن يقدم شهادة بحسن سيرته، إذا كان قد بلغ عمره أربعة عشر عاما
كاملة.
* * *
(المادة الثانية والستون)
يجوز قبول العميان ضمن طلبة جامعة الأزهر والمعاهد الأخرى، ويتلقون
من العلوم ما يناسب حالتهم، بحسب ما يقرره مجلس الأزهر الأعلى.
ويجب أن تستوفى فيهم بقية شروط القبول، وأن يكونوا حافظين للقرآن كله.
* * *
(المادة الثالثة والستون)
شروط انتساب الغرباء في الجامع الأزهر يقررها مجلس الإدارة، وكذلك
الامتحانات التي يجب عليهم أن يؤدوها، ونوع الشهادة التي يُمْنَحوها.
* * *
(المادة الرابعة والستون)
يجوز قبول الطالب في غير السنة الأولى من القسم الأول بالشروط الآتية:
أولاً - أن يجوز الطالب الامتحان في جميع مقرر السنين السابقة على السنة
التي يطلب الدخول فيها أمام لجنة يعينها مجلس الإدارة من المدرسين.
ثانيًا - أن يكون حافظًا لنصف القرآن.
* * *
(المادة الخامسة والستون)
لا يسوغ لأحد أن يدخل في القسم الثانوي إلا إذا كان حائزًا للشهادة الأولية،
وأدى الامتحان في علوم السنة أو السنوات السابقة على التي يريد الدخول فيها.
ولا يسوغ لأحد أن يدخل في القسم العالي إلا إذا كان حائزًا للشهادة الثانوية،
وأدى الامتحان في علوم السنة أو السنوات على التي يريد الدخول فيها.
* * *
(المادة السادسة والستون)
لا يجوز قبول أي طالب في سنة من السنوات طبقًا لما هو مقرر في المادتين
السابقتين، إذا كان سنه زائدة عن السن المقرر للسنة التي يريد الدخول فيها باعتبار
نهاية السن المقرر لها [2] .
* * *
(المادة السابعة والستون)
الطلبة مكلفون بمراعاة النظام والمحافظة على ما هو مقرر في هذا القانون،
وما يتقرر في اللائحة الداخلية، وقرارات مجلس الأزهر الأعلى، ومجالس الإدارة
وأوامر المشيخة.
* * *
(المادة الثامنة والستون)
الطلبة ممنوعون منعًا باتًّا من الاشتراك في أية مظاهرة، ومن كل اجتماع
يوجب التشويش على الدروس أو الإخلال بالنظام.
وأما الاحتفالات المألوفة عادة فلا تعد من المظاهرات.
وهم ممنوعون أيضًا من إعطاء أخبار للجرائد، ومن إبداء ملاحظات
بواسطتها، ومن أن يكونوا مكاتبين أو وكلاء لأية جريدة كانت، ولا يجوز لهم
مكاتبتها إلا في المسائل الدينية والعملية.
* * *
(الفصل الثاني)
في المدرسين والموظفين
(المادة التاسعة والستون)
يجب أن يكون المدرس تحت تصرف مجلس الإدارة في جميع ما يكلفه به من
الدروس أو الأعمال الأخرى المتعلقة بالتعليم.
فإذا امتنع بغير عذر مقبول عن أداء عمل كلف به بعد إنذاره من قبل المشيخة
رفت وقطعت مرتباته.
* * *
(المادة السبعون)
كل عالم من غير المتقاعدين انتخب للتدريس في علم من العلوم المقررة في
الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى المبينة في المادة الخامسة والعشرين، ولم يقبل،
ولم يكن له عذر مقبول لدى مجلس الإدارة، يمحى اسمه من سجل المدرسين وتقطع
جميع مرتباته.
* * *
(المادة الحادية السبعون)
المدرس أو الموظف الذي جاء دور ترقيته في معهد غير الذي هو فيه، ولا
يقبل النقل، يفقد حق الترقية في الدور الذي طلب نقله فيه [3] .
* * *
(المادة الثانية والسبعون)
المدرسون والموظفون ممنوعون منعًا قطعيًّا من الاحتراف بأية حرفة في
الخارج غير حرفتهم التي هم فيها.
ولا يجوز لهم أن يشتغلوا بالتعليم في الخارج، ولا أن يقبلوا وظيفة كذلك إلا
بإذن خاص من مجلس الإدارة.
ولا يرخص مجلس الإدارة بما ذكر إلا في حالة الضرورة الشديدة بشرط بيان
ذلك في المحضر.
وكل مدرس أو موظف لدى الحكومة في أية وظيفة، يرفت حتمًا من المعهد
الذي كان يدرس فيه، وتقطع مرتباته ولا يجوز تكليفه بدروس في نظير مكافأة أو
بدونها، إلا بقرار من مجلس الإدارة وبشرط قبول الجهة التي صار الموظف تابعًا
لها.
ويجب تصديق مجلس الأزهر على ما ذكر.
* * *
(المادة الثالثة والسبعون)
المدرسون والموظفون ممنوعون من الاشتراك في أية مظاهرة، ومن مكاتبة
الجرائد في غير المسائل العلمية والدينية، ومن إعطاء أخبار إليها مباشرة أو
بالواسطة.
وأما الاحتفالات المألوفة عادة فلا تعد من المظاهرات.
* * *
(المادة الرابعة والسبعون)
على المدرسين والموظفين أن يكونوا خاضعين لجميع اللوائح والقرارات
والأوامر المختصة بالتعليم وبالنظام.
* * *
(الباب الخامس)
في الإجازات
(الفصل الأول)
في إجازات الطلبة
(المادة الخامسة والسبعون)
لا يسوغ لأحد من الطلبة أن يتغيب عن المعهد الذي يتلقى العلم فيه، في غير
أوقات المسامحات المقررة إلا بإذن كتابيّ من المشيخة التابع لها.
* * *
(المادة السادسة والسبعون)
إذا تغيب الطالب بغير إذن أو تأخر عن الحضور للدرس بعد انقضاء أيام
المسامحات أو بعد انقضاء المدة المرخص له بها، ولم يكن له عذر مقبول،
فللمشيخة عقوبته بإحدى العقوبات الأربع الأولى المنصوص عليها في الفقرة
الأخيرة من المادة الثامنة والثمانين.
* * *
(المادة السابعة والسبعون)
إذا بلغت مدة الغيبة شهرًا، ولم يكن للطالب عذر مقبول، ولم يكن قد أخبر
المشيخة بسبب الغيبة، يرفت، وتقطع مرتباته في سنة الغيبة، وإذا انتسب في
السنة التالية يعتبر معيدًا لدروسه.
وكذلك يرفت وتقطع مرتباته إذا تكررت غيبته بدون إذن وبغير عذر مقبول
ثلاث مرات فأكثر في السنة الواحدة، وبلغ مجموع مدة التأخير في المرات الثلاث
شهرًا، فإذا تكرر ذلك منه مرة ثانية في سنة أخرى بعد قبول انتسابه رفت، ولا
يجوز قبوله في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.
* * *
(المادة الثامنة والسبعون)
إذا مرض أحد الطلبة، وكانت حالته تستلزم الراحة أو المعالجة في الخارج،
جاز لشيخ المعهد أن يرخص له بإجازة مرضية لا تتجاوز ثلاثة أشهر؛ بناء على
شهادة طبية من طبيب المشيخة التابع لها الطالب أو من طبيبه الخاص؛ بشرط
تصديق طبيب المشيخة عليها.
ويصح تمديد مدتها بالشروط المذكورة.
فإن زادت مدة الإجازة عن ستة أشهر، قطعت مرتبات الطالب وبقي منتسبًا.
* * *
(المادة التاسعة والسبعون)
لشيخ المعهد أن يرخص كتابة للطالب بإجازة استثنائية، لا تتجاوز مدتها
خمسة عشر يومًا بناء على طلب بالكتابة من الطالب أو ولي أمره، إن كان له ولي
أمر، متى تبين أن الأسباب الداعية لذلك قوية.
(الفصل الثاني)
في إجازة المدرسين والموظفين
(المادة الثمانون)
يجوز للمدرسين والموظفين الحصول على إجازات استثنائية لمدة لا تتجاوز
أسبوعًا واحد؛ بشرط أن لا يتكرر ذلك أكثر من مرتين في السنة.
* * *
(المادة الحادية والثمانون)
ويجوز لهم أن ينالوا إجازة مرضية لمدة أكثرها ثلاثة أشهر؛ بمراعاة
الشروط المنصوص عليها في المادة الثامنة والسبعين.
ويصح تمديد مدتها بالشروط عينها.
* * *
(المادة الثانية والثمانون)
كل مدرس أو موظف تأخر عن العود إلى العمل المكلف به بعد انتهاء
المسامحة أو الإجازة المرضية أو الاستثنائية المرخص له بها، يحرم من مرتبه
ابتداء من اليوم الخامس لانقضاء المسامحة أو الإجازة إذا قدم عذرًا مقبولاً وإلا فمن
اليوم التالي.
فإذا بلغت مدة التأخير شهرًا من دون إخطار وعذر مقبول، يرفت وتقطع
مرتباته.
* * *
(المادة الثالثة والثمانون)
يكون الترخيص بالإجازات لمدرسي وموظفي الجامع الأزهر والمعاهد
الأخرى فيما زاد عن أسبوع؛ بأمر من شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس
الأزهر الأعلى.
ولا يرخص لأحد مدرسي المعاهد الأخرى أو موظفيها بإجازة؛ إلا بعد أخذ
رأي شيخ المعهد التابع له المدرس أو الموظف.
* * *
(المادة الرابعة والثمانون)
يراعى في الترخيص للمدرسين والموظفين بإجازات استثنائية أن لا يتغيب
منهم في آن واحد عدد تستلزم غيبته تعطيل سير الدروس أو الأعمال الأخرى، أو
الاستعانة بمن يقوم مقامهم في وظائفهم من غير المدرسين.
* * *
(المادة الخامسة والثمانون)
يقرر مجلس الأزهر الأعلى مدة الإجازة الاعتيادية التي يجوز الترخيص بها
للموظفين والكتبة، مع مراعاة القواعد المدونة في هذا الباب.
وكذلك يقرر مدة الإجازات المرضية التي يسوغ الترخيص بها بمرتب كامل
أو بنصف مرتب أو بدون مرتب، كما يقرر المدة التي يجب بعدها رفت المدرس
أو الموظف.
(الباب السادس)
في التأديب
(الفصل الأول)
في تأديب الطلبة والمدرسين والموظفين
(المادة السادسة والثمانون)
تأديب الطلبة والمدرسين والموظفين من خصائص مجالس الإدارة، ويقدمون
للمجلس المختص بتقرير من المشيخة التابعين لها.
ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى؛ أن يأمر بإحالتهم
في المعاهد الأخرى على مجلس التأديب مباشرة إذا تبين له ما يقتضي ذلك.
* * * ...
(المادة السابعة والثمانون)
كل واحد ممن ذكروا في المادة السابعة، خالف حكمًا من أحكام هذا القانون،
أو غيره من القوانين واللوائح الخاصة بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، أو
قرارات مجلس الأزهر الأعلى، أو مجالس الإدارة، أو أوامر المشيخة، أو تعدى
على غيره بالأذى، أو ارتكب أمرًا يخل بالنظام أو بالمروءة وشرف العلم، يعاقب
تأديبيًّا.
* * *
(المادة الثامنة والثمانون)
العقوبات التأديبية التي يجوز الحكم بها على الطلبة هي:
التوبيخ على انفراد أو بحضور الطلبة.
الطرد من الدرس مدة أكثرها أسبوع.
الإنذار.
قطع الجراية مؤبدًا.
الإخراج من المساكن التابعة للمعهد لمدة أكثرها ثلاثة أشهر أو مؤبدًا.
تقليل أو إلغاء اغتفار إعادة الدروس.
(الرفت) محو الاسم من السجلات مدة أقلها سنة، مع الحرمان من الامتحانات.
ولشيخ الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى توقيع العقوبات الأربع الأولى،
وللمدرسين توقيع العقوبتين الأوليين، مع مراعاة أن الطرد من الدرس لا يكون إلا
من الدرس الذي حصلت فيه المخالفة.
* * *
(المادة التاسعة والثمانون)
العقوبات التأديبية التي يحكم بها على المدرسين وبقية الموظفين الداخلين هيئة
العمال هي:
الإنذار.
قطع المرتب لمدة أكثرها خمسة عشر يومًا.
الإيقاف بلا مرتب لمدة أكثرها ثلاثة أشهر.
تنقيص الراتب.
الإنزال من درجة إلى التي دونها.
الرفت.
* * *
(المادة التسعون)
يجوز لشيخ الجامع الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى توقيع العقوبتين
الأوليين.
* * *
(المادة الحادية والتسعون)
تأديب الخدمة الخارجين عن هيئة العمال، يكون بمعرفة شيخ المعهد.
* * *
(المادة الثانية والتسعون)
محو الاسم والرفت يقتضيان عدم قبول المحكوم عليه في أي معهد آخر.
(الفصل الثاني)
في الاستئناف
(المادة الثالثة والتسعون)
يجوز للمدرسين والموظفين دون غيرهم أن يستأنفوا الأحكام الصادرة عليهم
من مجالس الإدارة بالإيقاف، وتنقيص الراتب والإنزال من الدرجة والرفت.
* * *
(المادة الرابعة والتسعون)
يرفع الاستئناف إلى مجلس الأزهر الأعلى بعريضة يقدمها المحكوم عليه،
شاملة لبيان أوجه تظلمه من الحكم بيانًا كافيًا.
* * *
(المادة الخامسة والتسعون)
المدة التي يجوز فيها رفع الاستئناف ثمانية أيام من تاريخ علم المحكوم عليه
بحكم مجلس الإدارة.
* * *
(المادة السادسة والتسعون)
يثبت علم المحكوم عليه بالحكم الصادر في حقه؛ بإخباره وقت النطق به في
جلسة الحكم أو بخطاب رسمي يرسله إليه رئيس المجلس الصادر منه الحكم.
***
(المادة السابعة والتسعون)
يحكم مجلس الأزهر الأعلى في الاستئناف المرفوع إليه بعد اطلاعه على
أوراق الدعوى، وأوجه تظلم المحكوم عليه المبينة في عريضة الاستئناف أو التي
يقدمها بمذكرة خاصة.
وله أن يسمع أقوال المحكوم عليه إذا تراءى له ذلك.
* * *
(المادة الثامنة والتسعون)
يجوز لشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى أن يستأنف
الأحكام الصادرة من مجالس التأديب في ظرف شهر من تاريخ صدورها.
(الفصل الثالث)
أحكام تأديبية أخرى
(المادة التاسعة والتسعون)
ينعقد مجلس الأزهر الأعلى بهيئة مجلس تأديب خاص؛ للنظر فيما ينسب
لمشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء والحكم عليهم بالنقل أو بإحدى العقوبات
المنصوص عليها في المادة التاسعة والثمانين.
* * *
(المادة المئة)
الموظفون بإرادة سنية يجوز فصلهم كذلك؛ بناء على طلب شيخ الجامع
الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى.
ويجوز لمجلس الأزهر الأعلى أيضًا فصل الموظفين الآخرين والمدرسين؛
بدون إحالتهم على مجلس التأديب إذا وجد ما يقتضي ذلك.
* * *
(المادة الأولى بعد المئة)
إذا وقع من أحد العلماء أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ما لا يناسب وصف العالمية
يحكم عليه من شيخ الجامع الأزهر بإجماع تسعة عشر عالمًا معه من هيئة كبار
العلماء المنصوص عليها في الباب السابع من هذا القانون؛ بإخراجه من زمرة
العلماء.
ولا يقبل الطعن في هذا الحكم.
ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أية جهة
كانت وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية.
(الباب الرابع)
في هيئة كبار العلماء
(المادة الثانية بعد المائة)
يكون بالجامع الأزهر ثلاثون عالمًا اختصاصيًّا، لكل واحد منهم بالأزهر
كرسي خاص في المحل يخصص للتدريس العام بمعرفة شيخ الجامع الأزهر.
ويجوز أن يوجد البعض منهم في المعاهد الأخرى بصفة شيخ المعهد أو وكيله
* * *
(المادة الثالثة بعد المائة)
يطلق على العلماء الثلاثين المذكورين في المادة السابقة اسم (هيئة كبار
العلماء) .
* * *
(المادة الرابعة بعد المائة)
الفنون التي يختص كل عالم من هيئة كبار العلماء بواحد منها هي الآتية:
1 - الفقه وأصول اللغة.
2 - الحديث ومصطلح الحديث.
3 - تفسير القرآن الكريم.
4 - علوم اللغة العربية.
5 - التوحيد والمنطق.
6 - التاريخ والسيرة النبوية والأخلاق الدينية.
ويجوز أن يختص الواحد بفئتين اثنين، ولا يعتبر بالنسبة للعدد أو المرتب
إلا فن واحد منهما باختيار صاحبهما.
* * *
(المادة الخامسة بعد المائة)
يكون للسادة الحنفية أحد عشر كرسيًّا؛ وللسادة الشافعية تسعة، وللسادة
المالكية تسعة، وللسادة الحنابلة كرسي واحد.
* * *
(المادة السادسة بعد المائة)
يشترط أن يكون للفقه ثلاثة كراسي للحنفية ' واثنان لكل من الشافعية
والمالكية وواحد للحنابلة.
ويجب أن يخصص ثلاثة كراسي لعلوم اللغة العربية، وكرسيان على الأقل
لكل واحدة من المجموعات الأربع الباقية، وهي التفسير ثم الحديث ثم التوحيد
والمنطق، ثم التاريخ والسيرة النبوية والأخلاق الدينية.
* * *
(المادة السابعة بعد المائة)
يشترط فيمن ينتخب ضمن هيئة كبار العلماء:
أولاً - أن لا يكون سنه أقل من خمس وأربعين سنة.
ثانيًا - أن يكون قد مضى عليه وهو مدرس في الجامع الأزهر والمعاهد
الأخرى عشر سنين على الأقل؛ منها أربع على الأقل في القسم العالي.
ثالثًا - أن يكون قد ألف كتابًا في أحد العلوم المذكورة في المادة الرابعة بعد
المائة، وأن يكون قد منح الجائزة العلمية المنصوص عليها في المادة الثانية.
والعشرين بعد المائة من هذا القانون.
رابعًا - أن يكون معروفًا بالورع والتقوى، وليس في ماضية ما يشين سمعته
* * *
(المادة الثامنة بعد المائة)
يكون تعيين كبار العلماء بإرادة سنية بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر،
بعد الانتخاب بأغلبية ستة عشر من هيئة كبار العلماء، ويبقون في وظائفهم ما
داموا قادرين على أداء العمل المكلفين به.
* * *
(المادة التاسعة بعد المائة)
يعطى كل عالم دخل ضمن كبار العلماء راتبًا شهريًّا قدره عشرون جنيهًا،
وينعم عليه بكسوة التشريف من الدرجة الأولى إن لم يكن حائزًا لها من قبل.
* * *
(المادة العاشرة بعد المائة)
يجب على كل من حضراتهم أن يلقي في كل أسبوع بالجامع الأزهر أو
بالمعهد الموجود به ثلاثة دروس على الأقل في العلم الخصيص هو به، وأن يكون
إلقاء الدرس في وقت يتمكن فيه العدد الأكبر من العلماء من حضوره وله أن يلقي
درسًا عاليًا آخر في غير العلوم المنصوص عليها في المادة الرابعة بعد المائة.
* * *
(المادة الحادية عشرة بعد المائة)
يضع شيخ الجامع الأزهر مع من يختاره من هيئة كبار العلماء نظام الوعظ
والإرشاد وقواعدهما، ويصدرها إلى الجهة المختصة لتنفيذها.
* * *
(المادة الثانية عشرة بعد المائة)
ترجع هيئة العلماء في نظامها وسيرها وسائر ما يتعلق بها إلى لجنة تؤلف
تحت رياسة شيخ الأزهر من ستة علماء تنتخبهم الهيئة، وما تقرره يجب اتباعه مع
ملاحظة ما هو متعلق بالنظام العام بالأزهر من نصوص هذا القانون.
* * *
(المادة الثالثة عشرة بعد المائة)
تتألف هيئة كبار العلماء أول مرة من العلماء الذين ينتخبهم مجلس الأزهر
الأعلى، مع عدم مراعاة نص المادة الثانية بالنسبة لإكمال العدد ثلاثين، ونص
المادة السابعة بعد المائة بالنسبة لاستيفاء الشروط.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في الجزء السابع (ص 251) .
(2) المنار: السن مؤنثة.
(3) المنار: هذا هو نص المادة كما نشرت في الجريدة الرسمية وهي كما ترى.(14/601)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمات علمية عربية
أسوقها إلى المترجمين والمعربين [1]
(مقدمة) لما كان من مستلزمات نهضتنا العلمية العصرية نشر الكتب بين
أمتنا باللغة العربية الشريفة، وكان كثير من الناس يظن أن لغتنا فقيرة في
الاصطلاحات العلمية كالألفاظ الطبية وغيرها، أردت نشر ما عثرت عليه في
هذا الباب من الكلمات الفصيحة التي تفيد المعربين والمؤلفين باللغة العربية،
وهاكها بغير ترتيب، بل أنشرها كلما عثرت على شيء منها، وأرجو الله تعالى أن
ينفع بها الناطقين بهذه اللغة، وأن يرد بها افتراء الذين يرمون لغتنا بالضعف
والنقص، وسأذكرها مع ما يقابلها من اللغة الإنجليزية، إلا إذا لم يوجد لها مقابل أو
كان ما يقابلها معروفًا مشهورًا، وحينئذ يكون الغرض من ذكرها ضبطها بلغتنا أو
بيان أنها ليست عامية، كما قد يتوهم بعضهم فأقول:
القَلَح: صفرة الأسنان.
الظَّلْم: الطبقة اللامعة للأسنان Enamel.
الحثَر: التهاب بثري للعين Phlyctenular Conjunctivitis.
الانتشار في العين تمدد ناظرها Dilatation of Pupil.
الظَفَرة Pterygium: هي جليدة تغشى العين من تلقاء المآقي.
السَّبَل Pannus: كدُورة القرنية مع تكون شريانات فيها، وهي تنشأ من الرمد
الحبيبي.
الغرْب Dacryocystitis: التهاب الكيس الدمعي للعين.
العائر أو الساهك Panophthalmitis: التهاب مقلة العين وتقيحها.
اللَّخَص: التصاق الجفون Blepharo-phimosis.
اسمدرّت عينه ظهر لها سمادير motes: وهي أشباه الذباب، ترى أمام العين.
الكَمَش Astigmatism: عدم اجتماع أشعة الضوء في العين في نقطة واحدة؛ لعدم
انتظام القرنية، فيضعف الإبصار.
البَخَق Glaucoma: مرض يحدث به ضمور الشبكية؛ لشدة ضغط سوائل العين
عليها لكثرتها، فيذهب البصر والعين منفتحة.
الإطراق: استرخاء الجفن Ptosis.
الخَفَش Hyper-metropia: القدرة على رؤية الشيء بعيدًا، مع عدم القدرة على
رؤيته قريبًا؛ لصغر العين أي صغر قطرها الأمامي الخِلْفي.
الشتر Ectropion: انقلاب الجفن.
الحَوَص: ضيق العين الخلقي.
الخَوَص: غُؤور العين.
العقيقة: الشعر الذي يولد به الإنسان Down.
الحاسم [2] Artery foreeps جفت الشريان.
ضمد الجرح Todressit.
الضماد Dressing.
الحجبتان: رأسَا الوركين.
القتير: رؤوس المسامير.
الكراديس أو المُشَاش Epiphysis: هي رؤوس العظام.
السحج Abrasion
النَّدْب أثر الجرح أو البثر Scar.
السِّدَاد Stopper.
الناجود. الكوب Beaker.
الفِلِزّ Mineral.
الإطار هو كل ما أحاط بالشيء Frame.
المِكْوى Cautery.
اللدْن Caouthouc.
المِلاب العطر المائع والكِباء العطر اليابس.
الخُوان للأكل Table.
سرير العملية Operation - Table.
غَوْر أو قعر الكيس Cul de Sac.
كِرْش الدابة. معدة الإنسان. حوصلة الطائر.
الرُضاب: اللعاب.
اللبَأ Colostrum وهو أول اللبن بعد الولادة.
الزفير أول صوت الحمار الوحشي، والشهيق آخره، وفي الإنسان الشهيق جذب
الهواء للرئة والزفير إخراجه Inspiration Expiration.
الحَمَالة بالفتح Suppositroy ما يتحمل به في المستقيم أو المهبل أو مجرى البول.
وجع فلانًا بطنه: أصابه ألم فيه.
النُّقبة أول الجرب.
العِقيُ Meconium أول براز للطفل.
الفنجانة والفنجان Cup.
البكرة من الخشب Trochleur.
القَرَع Favus داء معروف.
البق Bugs.
الجرنفش العظيم الخلقة Acromegaly.
الأرأس Hydro-cephalus العظيم الرأس.
العثجل العظيم البطن.
الأركب العظيم الركبة.
الحنتار أو الحندل Cretin صغير الجسم والعقل.
مح البيضة: صفارها.
مُكاكة العظم Sequestrum: ما ينفصل منه لمرض.
النَّصفان من الآنية: ما بلغ الماء (ونحوه) نصفه، وقربة نَصفَى Half-ful.
الوَتَرة: ما بين المنخرين.
المنخران: Nostrils.
النَّثْرة: ما بين الشاربين أسفل الوترة.
المُرَيطاء Hypogastrium: ما بين السرة والعانة.
البرَص: Leucodermia.
الكَوْكب: بياض في سواد العين Leucoma.
الغربيب jet-black: شديد السواد.
الكُبَاد: التهاب الكبد Hepatitis.
الثنايا: Middle incisors.
الرباعيات: Lateral incisors.
الأنياب: Canines.
الضواحك: Anterior pre-molars.
الرَحَى: Molar.
النَوَاجذ: Wisdom teeth.
اللفف: Hesitation in speech.
الخنخنة: Nasal twang.
الصَّعَر: Torticollis التواء العنق.
ثُندأة الرجل: ثديه.
برثن السبع ومخلب الطائر.
الرعاف Epistaxis: نزيف الأنف.
القضَّة: دم العذرة (أي البكارة) .
والجَسَد Clot: الدم المتجمد.
الشّرق Sarcoma: ورم لحمي خبيث.
ألية الأصبع: Thenar.
الحَمَّاة: لحمة الساق Calf.
الثَّرب الشحم على الأمعاء والكرش Omentum.
الخُشَشَاء Mastoid: العظم الناتئ خلف الأذن.
الحَجاج Orbit: عظم الحاجب.
الداغصة Patella: عظم فوق مفصل الركبة.
الكلس: (الجير) Calcium.
الشَّوَى Scalp: فروة الرأس.
الجُلبة Scab: قشرة تغطي الجرح أو البثر.
القيض: قشرة البيضة.
الغِرقئ: القشرة التي تحت القيض.
السّابياء والحولاء والسُّخْد كلها بمعنى Amniotic fluid أي السائل الأمينوسي الذي فيه الجنين.
الصؤاب (والصئبان) : جمع صؤابة وهي بيضة القمل والبرغوث.
الرَمص Meibomian: وسخ العين.
الأفّ Wax of ear: وسخ الأذن.
الحَزَار والهِبربة والإبرية: وسخ في الرأس كالقشر.
تعفن العضو: Gangarene.
غَبِر العِرق Thrombosed: إذا انسد الوريد والتهب.
الدُّردي: ما يركد في أسفل الدهن والشراب من الكدر وغيره.
مَذِرت البيضة: فسدت.
الزحار الدوسنطاريا Dysentery.
الزحير Tenesumus.
الوَجور: الدواء أو غيره الذي يوجر أي: يصب في الفم.
الشقيقة Migraine: صداع في نصف الرأس.
القُلاع Aphthoe: بثور بيضاء التهابية في الفم.
الرَثْية Rheumatism: التهاب المفاصل.
الخُزَرة Lumbago: داء يأخذ في مستدقّ الظهر بفقرة القطن.
السَّنون: ما يستاك به.
الشَوصة Pleurodynia: ألم الجنب.
الخُناق: Diphtheria.
الذبحة: Angina.
التوصيم Malaise: فتور الجسم.
الهيضة Cholera: الهواء الأصفر.
التشنج والتقلص بمعنى.
غَفَر الجرح نكس وانتقض Became septic.
الشخوص Catalepsy: من شخص، إذا فتح عينيه، جعل لا يطرف مع دوران
في الشحمة (المقلة) .
الصَّرع: Epilepsy.
ذات الجنب Pleurisy: التهاب بلوراوي.
ذات الرئة أو البرسام Pneumonia: التهاب الرئة.
القروة: القليلة وهي سائل يكون في جراب الخصيتين.
عرق النَّسا ألم في العصب الوركي Sciatica.
الحَصبة Measles.
الدوالي Varicose: تمدد الأوردة وانتفاخها.
داء الفيل: Elephantiasis.
الماليخوليا تعريب: Melancholia.
السُّل والهَلس والهُلاس بمعنى: وهو التدرن الرئوي.
الشَّرى: مرض جلدي Tinea Circinata.
الحَصَف Sudimina, Milaria: حبيبات تظهر في الجلد بعد العرق الشديد.
السَّلعة Lipoma: ورم شحمي.
النَّمِلة Herpes: مرض جلدي يحدث نفطات صغيرة.
الخنازير Scrofula.
النار الفارسية Pemphigus: نفاخات ممتلئة ماء رقيقًا، تخرج بعد حكة ولهب
وتحدث حمى شديدة.
النفاخات: (الفقاقيع) Bulloe.
حمى النافض: Malaria.
حمى الدق: Typhoid.
الحمى المطبقة أو المحرقة: Typhus.
الصُّنْبور: (الحنفية) Tap.
الإداوة: Avessel with a tap.
البزاز: هو يسمى بالعامية (بزبوز) .
التقشقش Adesquemation: سقوط البشرة.
الزمانة Partial paraplegia: الإقعاد الجزئي.
الإقعاد Praplegia: الشلل النصفي السفلي.
الحَدب Kyphosis: بروز الظهر ودخول الصدر؛ وهو أحدب وهي حدباء.
القَعس Lordosis: بروز الصدر ودخول الظهر؛ وهو أقعس وهي قعساء.
الفَدَع Talipes: اعوجاج القدم أو اليد.
الأصك Knock-kneed.
الأقفد Has Talipes equinus: من كانت قدمه كقدم الفرس.
الضهياء: المرأة المصابة بانقطاع الحيض.
المثناء Has incontinence: المصابة بسلسل البول.
الرتقاء أو العفلاء Has imperforate: المسدودة المهبل بغشاء صفيقhymcn
الرعدة: ارتعاش المحموم Rigors.
الرعشة: ارتجاف المسن وضعيف Tremors العصب.
القفقفة: ارتعاش البرد.
المِخْوض: الآلة التي يضرب بها الشراب، ليختلط Glass rod.
الخَلْفة Lienteric diarrhoea: خروج الطعام من البطن بدون هضم لشدة
الإسهال.
مراقُّ البطن: ما رقّ منه ولان.
المسام Pores.
الجلمان: آلة لحلق الرأس وغيره.
الأعلم: مشقوق الشفة العليا Hare-lip.
الأفلح: مشقوق الشفة السفلى.
الأشرم: مشقوق الشفتين.
الأخرم: مشقوق الأنف.
هاض العظم: كسره ثانية Refracture.
الرض: Contusion.
المِخَدّة: وسادة معروفة.
الخمْل Villi.
الشريان Artery.
الرِّزمة Dozen.
الأقط: ما يسمى الكشك.
مُصمت أي: غير مجوف أو مسدد.
المحجن أو العُقَّافة Hook.
الشَّغاف Pericardium: غشاء محيط بالقلب.
التامور: دم القلب.
الفالوذج: ما يسمى بالعامية البالوظة.
العيبة: وعاء الثياب.
المِركن: وعاء من الخزف كالذي يوضع فيه المرهم.
التكَبد Hepatisation: صيرورة الرئة كالكبد بعد التهابها.
الرغيدة والصحيرة: هي ما نسميه (مهلبية) .
لَبك معروفة: وهي كلمة صحيحة ليست عامية.
العفِص القابض Styptc: فإذا كان فيه حرافة وحرارة كالفلفل فهو حامز.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) للدكتور محمد توفيق أفندي صديق.
(2) المنار: الحاسم والمحسمة كل مانع قاطع وأصله ما يمنع به العرق أن يسيل دمه وكانوا يحسمون بالكيّ.(14/614)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
علم القراء أن من سُنَّتِنَا نَشْر ما يُنْتقَد على المنار، والجواب عنه إمَّا
بالاعتراف بخطئنا، وإمَّا ببيان خطأ المُنْتَقِد، وليس من هذه السُّنَّة أن نَحْفِل
بمطاعن السفهاء أو الحاسدين، أو أعداء الإصلاح الدجَّالين، فإن مطاعنهم ليست
انتقادًا وليس فيها شيء من العلم، وإنما يفترون كذبًا ويخلقون إفكًا، ويحرفون الكلم
عن مواضعه؛ فيجعلون الكفر إيمانًا والإيمان كفرًا، ويُزَينون جَهْلَهم بالشعريات
والجدليات، ويحمون أنفسهم بما لا يخوض مثلنا فيه ولله الحمد، وقد يكون من
يَبْهَتنا بمثل ذلك ممن اشترك في المنار من السنة الأولى واستفاد منه، وأكل علينا
قيمة الاشتراك عِدَّة سنين، واستحيينا من مطالبته لادعائه صحبتنا، وقد يكون ممن
لا يقرأ المنار ولا يعلم شيئًا مما فيه.
مثال ذلك قول بعضهم: إن صاحب المنار يناظر الله (عز وجل) ويُسَاميه
ويقاسمه سلطانه على النفوس وسيطرته على القلوب.. ويطاوله في كتابه، وإنه
كَذَّبَ كتاب الله واتخذه هزوًا ولعبًا (وحسبك بهذا مروقًا من الدين وخروجًا عليه) .
أما زعمه الأول (منازعة الله تعالى وتَقدّس في ألوهيته) فلم يأت عليها
بشبهة، وأما الثانية المتعلقة بالقرآن العظيم؛ فقد ذكر لها شبهة لا يقولها إلا مثله
وهي: أننا نقلنا منذ أربع عشرة سنة أن بعض أدباء مصر قال في وصف مقدمة
كتابنا الحكمة الشرعية: كدنا أن لا نميز بين كلامها وما فيها من آيات القرآن لولا
الحفظ.
لو كان مثل هذا مما يشتبه على من شم رائحة العلم باللغة العربية لرددنا عليه
- لا بأنه من باب الغلو الشعري في التشبيه الذي قاعدته أن المشبه به أبلغ وأعلى من
المشبه، ولا بأن حاكي الكفر ليس بكافر إذا فرضنا أن هذا كفر أو خطأ، ولا بأن
عدم التمييز بين كلام البشر وبعض كلام الله المقتبس فيه لغير الحافظ لا يعده أحد
من فقهاء المسلمين كفرا، ولا طَعْنًا في القرآن لأنه قد يكون من الجهل بالإعجاز أو
يكون ذلك المقتبس قليلا لم يبلغ القدر الذي قال علماء العقائد إنه معجز، ومن كفر
من يخطئ بمثل هذا فإنه يُكَفِّر أكثر المسلمين، ولا سيما الأعاجم والأميين - بل
كنا نورد بعض الآيات الكريمة من الكتاب المجيد في استعمال مادة كاد استعمالاً لا
يقدر القاذف المُكَفِّر أن يفسره بمثل ما فسر به كلمة ذلك الأديب، كقوله تعالى:
{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً *
وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء: 73-74) .
كاد معناها المقاربة ومن قارب الشيء لا يحكم عليه بأن تلبس به بل يحكم
بأنه لم يتلبس به، وقد يكون ذكر المقاربة للتمهيد إلى نفي الشيء في مظنة وقوعه
بحسب العادة أو ما من شأنه أن يخطر بالبال لا لإثباتها بالفعل، ولذلك قال بعض
المفسرين: إنه صلى الله عليه وسلم ما ركن إليهم ولا قارب الركون. ومعنى عبارة
ذلك الأديب المصري (وهو إبراهيم بك اللقاني رحمه الله تعالى) أن تلك المقدمة بليغة
بحيث يمكن للمبالغ في مدحها أن يقول لولا الحفظ لقاربت أن لا أميز بينها وبين ما
فيها من الآيات المقتبسة حقيقة أو ادعاء على سبيل المظنة، وحاصله أنه ما قارب،
فكيف يكفر هو ومن نقل كلامه.
من قبيل هذا الطعن ما شنع به بعض الدجالين من أعداء الإصلاح علينا
وعلى شيخنا الأستاذ الإمام، وشيخه حكيم الإسلام، ويتجرأ به على رمينا بالكفر
والدعوة إليه ويطعن في أنسابنا ويستدل على ذلك بأوهامه وأحلامه، التي يصورها
له الشيطان في يقظته ومنامه، ومن الناس من تصور لهم أحلامهم أفضل البشر،
بما يناسب اعتقادهم (أي الرائين) من الصور، كما تريهم طواغيتهم بصور
نورانية، وهياكل قدسية، وقد بلغ بعض الصالحين أن بعض مبغضيه رآه بصورة
مظلمة، فقال إنما رأى صورة نفسه في مرآتنا الصافية، ومثله قول الشيخ عبد
الغني النابلسي رحمه الله تعالى في هذا المعنى: (ذا مِن صفانا رأوا أوصافهم فينا)
على أن غير واحد من أهل العلم والصلاح قد رأوا الأستاذ الإمام رحمه الله
تعالى رؤى صالحة تمثل ما كان عليه من كمال العلم والعرفان، واستغراق الأوقات
في خير الأعمال، فهل نعتد برؤى الصالحين، أم بأحلام سيئي الاعتقاد من
الدجالين، الذين تشهد عليهم ألسنتهم بأنهم ينطقون عن الهوى، كما نبين لك ذلك
بالأمثلة الآتية:
فمما قاله من أشرنا إليه في الأستاذ الإمام: أن تفسيره للقرآن كان يبدي فيه
آراءه وهي إما فسق وإما كفر! ! ولكن كيف كان يُقِرّ هذا الفسق والكفر علنًا
علماء الأزهر، فهل أجمعوا على الفسق والكفر، وانفرد ذلك الشاعر الدجال
بالإيمان والتقوى؟ ومن قال هذا القول في تفسير الأستاذ الإمام الذي كان يلقيه في
الأزهر على مسمع الجم الغفير من العلماء والطلاب لا يُستغرب منه أن يقول: إن
صاحب المنار جوز الكفر لتلاميذ المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت في جزء شهر
شعبان سنة 1327 ومن راجع ذلك العدد يرى فيه أننا شددنا عليهم في مسألة مشاركة
النصارى في حضور عبادتهم وذكرنا لهم اتفاق العلماء على حظر ذلك وعدِّه من
الردة بشرطه، ونصحنا لهم بأربع:
1- مطالعة الكتب التي تبين حقيقة الإسلام والنسبة بينه وبين النصرانية.
2- مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم الدينية ككتاب أضرار تعليم التوراة
والإنجيل.
3- المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة وعلى الصيام وسائر
أعمال الإسلام.
4- ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر و.. إلخ (راجع
ذلك في ص 639 م 13) .
فإذا كان هذا هو تجويز الكفر فما هو الإسلام والإيمان؟ هل هما نشر
الخرافات الممهدة لدعوة الدجال؟
***
نقد الروايات
وحديث سجود الشمس واستئذانها بالطلوع
هذان مثالان أو أمثلة من مطاعن الدجالين الذين يملي عليهم الجهل والهوى ما
يكتبون، ولا يميزون بين ما هو بديهي البطلان وما يمكن أن تقوم عليه الشبهة،
ومن النوع الثاني تحريفهم لكلام لنا في نقد الروايات نذكره ثم نبين حقيقة معناه،
وما قالوه فيه. وهذا نصه بعد بيان مكان أحاديث الآحاد من الدين، وهل تفيد الظن
أو اليقين:
(ولا شك في أن كثيرًا من الأحاديث المروية في دواوين المحدثين المشهورة
تفيد هذا النوع من العلم واليقين ولا يعقل أن يكون كل ما رواه المسلمون عن النبي
صلى الله عليه وسلم غير موثوق به بل لا يعقل أن تكون أكثر روايات التاريخ التي
اتفق عليها المؤرخون كاذبة، فكيف يكون أكثر ما رواه المحدثون واتفقوا على
تصحيحه كاذبًا وهم أشد تحرِّيًا وضبطًا من المؤرخين، واحتمال خطأ بعض الرواة
العدول ووقوع ذلك من بعضهم لا يمنع الثقة بكل ما يروونه، كما أن مجرد تعديل
المحدثين لهم لا يقتضي قبول كل ما رووه بغير بحث ولا تمحيص.
فالجامعان الصحيحان للبخاري ومسلم هما أصح كتب الحديث متنًا وسندًا لشدة
تحري الشيخين فيهما (رضي الله عنهما وجزاهما خيرا) ومع هذا لم يتلقهما
المحدثون بالقبول تقليدًا لهما وثقة مجردة بهما، بل بحثوا ومحصوا وجرحوا بعض
رواتهما وبينوا غلط بعض متونهما كتغليط مسلم وغيره لرواية شريك عند البخاري
في حديث المعراج، وتغليطهم لمسلم في حديث خلق الله التربة يوم السبت (وتقدم
ذكرهما) وفي حديث صلاة الكسوف بثلاث ركعات وثلاث سجودات، وفي حديث
طلب أبي سفيان بعد إسلامه أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ويتخذ
معاوية كاتبًا.
ومن دقق النظر في تاريخ رجال الصحيحين ورواية الشيخين عن المجروحين
منهم يرى أكثرها في المتابعات التي يراد بها التقوية دون الأصول التي هي العمدة
في الاحتجاج، ثم إذا دقق النظر فيما أنكروه عليهما مما صححاه من الأحاديث يجد
أن أقوالهما في الغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما لا سيما البخاري فإنه أدق
المحدثين في التصحيح ولكنه ليس معصومًا من الغلط والخطأ في الجرح والتعديل.
وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء
الحديث لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها والقليل منها مختلف فيه، وما من
إمام من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها، فإذا جاز رد الرواية التي صح
سندها في صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله
التربة يوم السبت.. إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة
أيام وللروايات الموافقة لذلك، فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تتخذ شبهة
على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ
التلاوة ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا بدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي
وأمثاله كثيرون) ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم
ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله
عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها، ولأنها مؤيدة لقول الكفار
{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم الله
فيه بقوله بعده {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) .
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين
تذهب بعد الغروب؟ والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله
تعالى بالطلوع إلخ، وقد سألنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا
لم نجد جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن
الأرض طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، فإذا قلنا إنها
يصدق عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى،
ولأن كل مخلوق هو تحت عرش الرحمن - إن لم تكن التحتية فيه حسية لأن
الجهات أمور نسبية لا حقيقية فهي معنوية - إذا قلنا هذا أو إنه تمثيل لخضوعها في
طلوعها وغروبها وهو أقرب فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا
لا مراء فيه؟ اللهم لا. ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد
يخرج بعضه على أنه من باب الرأي في أمور العالم والأنبياء لا تتوقف صحة
دعوتهم ونبوتهم على العلم بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم
معصومون فيها كما يدل عليه الحديث الصحيح في تأبير النخل ولكن يستثنى
الإخبار عن عالم الغيب فهم معصومون فيه.
زعم ذلك الدجال أن في هذه العبارة تصريحًا بصحة رواية حديث سجود
الشمس وإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيبًا له اللهم (سبحانك هذا
بهتان عظيم) واستنبط من ذلك الجزمَ بكفر صاحبها! ! والعبارة بعيدة من هذا
الزعم، كبعد ذلك المحرِّف عن الإخلاص والعلم، إذ الكلام في الرواية التي ترد
لعلة في متنها وإن صح بحسب صناعة تعديل الرجال سندها، ومعنى رد الرواية
عدم تسليم إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي ومثلنا لذلك بما رد
من هذه الروايات لمخالفته لما جرى عليه العمل بالإجماع، وما ردًّ لمخالفته للقرآن
(ومن هذا القبيل رد المفسرين لرواية الصحيحين في سبب نزول {فَمَا لَكُمْ فِي
المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} (النساء: 88) كما ترى في تفسير هذا الجزء) وبما رد منها
لكونه شبهة على القرآن.
ثم قلنا (ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع كرواية السؤال عن الشمس أين
تذهب؟ أي ومثل ما خالف العمل وخالف ظاهر القرآن بحيث يعد شبهة عليه ما
خالف الواقع، وقد عبرنا في هذه المواضع بلفظ الرواية للأشعار بعدم تسليم كون
هذا حديثا.
ثم أشرنا إلى الوقف في معناه بقولنا: إننا لم نجد جوابًا مقنعًا للمعترض، وهذا
بصرف النظر عن مسألة الرواية.
ثم قلنا (ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يخرج بعضه
على أنه من باب الرأي في أمور العالم) إلخ أردنا بهذا النوع ما لا ينطبق على
الواقع المحسوس الذي لا نزاع فيه. قلنا هذا النوع ولم نقل هذا الحديث نفسه،
وقلنا (قد يخرج) وكلمة قد هنا تشير إلى قلة هذا وعدم الجزم به، وقلنا (بعضه)
ولم نجعل ما هو موضع البحث من هذا البعض، وإنما مثلنا له بحديث تأبير النخل
الذي جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمهيدًا ليبين للناس أنهم أعلم بأمور
دنياهم وأن الأنبياء لم يبعثوا ليعلموا الناس الزراعة والصناعة بدقائقها وتفصيلاتها
بل ليعلموهم الدين.
ثم بعد هذا كله استثنينا من هذا النوع الإخبار عن عالم الغيب وقلنا إن الأنبياء
معصمون فيه، نعني أنه إن صح عنهم وجب تصديقهم فيه للإشارة إلى أن هذه
الرواية التي هي محل البحث قد تكون من المسائل الغيبية.
فقد رأيت أيها المنصف المستقل في الفهم، الذي يخاف الله أن يكفر عباده
المؤمنين به بغير علم، أن أصل كلامنا في رد تلك الرواية وعدم تسليم صحتها،
وأن عبارتها تشعر مع ذلك بالوقف في معناها (ولا سيما في حال روايتها بالمعنى
كما هو الأغلب في مثلها ونبهنا على هذا في موضع آخر) وتشير إلى أنه يجوز أن
تكون من باب الكلام عن عالم الغيب الذي نسلم به ما لم يكن محالًا، فأين هو الجزم
بصحة الرواية وتكذيب مضمونها مع الاعتراف بإسنادها إلى النبي صلى الله عليه
وسلم؟ ؟
وهب أننا جزمنا بصحة الرواية وخرجناها على الرأي في الأمور الدنيوية
كحديث تأبير النخل الثابت في الصحيح فهل يعد هذا كفرًا مع قوله صلى الله عليه
وسلم في ذلك الحديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) وروى مسلم في صحيحه والنسائي
في سننه عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر إذا
أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وروى
أحمد وابن ماجه من حديث طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن
الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله) وعلم السيوطي
على هذا الحديث في الجامع الصغير بالصحة، فلو فرض أنني جعلت الحديث الذي
هو موضع البحث من قبيل تأبير النخل، وكان جعله من قبيله غير ظاهر فقصارى
ما يمكن أن يقال إنني أخطأت في الفهم. على أنني لم أجعله من هذا القبيل كما
علمت.
هذا وإننا قد نبهنا مرارًا على أن بدعة التكفير قد أحدثها غلاة المبتدعة
بتكفيرهم من يخالف بدعتهم وإن مما امتاز به أهل السنة (عدم تكفير أحد من
أهل القبلة) وقد اشتهر أن العمدة عندهم في التكفير هو جحود شيء مجمع عليه
معلوم من الدين بالضرورة ممن نشأ بين المسلمين ولم يكن حديث عهد بالإسلام أي
أن يجحده عالمًا به أو جاهلاً غير معذور بجهله، واشترطوا أيضًا أن يكون غير
متأوِّل، فإن من جحد ذلك الشيء بتأويل ظهر له لا يكون كافرًا، ولكن أين هؤلاء
المجازفون من العلم والفقه ومن السنة وأهل السنة.
إننا لم نقصد بما ذكرنا هنا الرد والمناظرة، وإنما قصدنا التذكير والعبرة،
ليتذكر العاقل المنصف أن تصدي أمثال هؤلاء للكلام والكتابة في الدين، هو أكبر
مصائب المسلمين، والتمهيد به لبيان ما انتقد على المنار في هذا العام بنوع من
الاستدلال، سواء كان من حسن الظن أو سيئه وموعدنا بيان ذلك الأجزاء الآتية.
__________(14/620)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(أساس التقديس)
رسالة في علم الكلام للشيخ فخر الدين (محمد بن عمر) الرازي الشهير،
كتبها وأهداها للسلطان أبي بكر بن أيوب. وقد بسط الكلام فيها على تأويل
المتشابهات من الآيات والأحاديث الواردة في صفات الباري تعالى، وأسلوبه في
مذهب الأشعري معروف مشهور يمتاز بالسهولة وكثرة الدلائل التي لم يُسْبَق إليها،
ويتكلم في أواخرها على مذهب السلف.
(الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء في وجود الله تعالى وصفاته ونظام العالم)
هذه الرسالة للشيخ ملا عبد الرحمن الجامي يذكر فيها مذهب المتكلمين في
المسألة ثم مذهب الحكماء ثم مذهب الصوفية، ويرجحه على المذهبين.
ولعمري إن الجميع فلاسفة، ولكل وجهة وطريقة في البحث. والحق ما كان
عليه سلف الأمة الصالحون من أهل الصدر الأول.
طَبَعَ هاتين الرسالتين في كتاب واحد الشيخ محيي الدين صبري الكردي
وشريكاه من قومه الشيخ عبد القادر معروف والشيخ حسين نعيمي. فنثني على
همتهم ونَحُثُّ أهل العلم على قراءة الرسالتين، وتباعان في مكتبة المنار بشارع عبد
العزيز بمصر.
(الواجبات)
كتاب جديد وضعه وطبعه ونشره سامي أفندي بواكيم الراسي من فضلاء
السوريين في (سان باولو - البرازيل) وقدَّمه هدية معنوية إلى والده يواكيم أفندي
مسعود الراسي، قسَّم المصنف الواجبات إلى واجبات عامة وواجبات إفرادية، فمن
الأولى ما يجب للأهل والأقربين والأزواج والأصدقاء بعضهم على بعض وكذا ما
يجب للأعداء وللجنس البشري وللبهائم. ومن الثاني ما يجب على المعلمين
والصحافيين والأطباء والمحامين والجنود والتجار والزراع والصناع. وذكر أنه
كتب ما يشعر به، أي كتب كتابة المستقل الذي يستملي من فكره ووجدانه، لا من
تخيله ومحفوظه، وقد قرأنا جملاً من الكتاب تدل على صدق المؤلف في دَعْواه،
ونرى أن كتابه من الكتب النافعة.
(لغة العرب)
مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية أصدرتها في بغداد (رهبنة الآباء الكرمليين)
وجعلت صاحب امتيازها (الأب أنستاس الكرملي) ومديرها المسئول كاظم أفندي
الدجيلي. صدر الجزء الأول منها في أول هذا الشهر وصفحاته أربعون من قطعة
رسالة التوحيد، واعتذرت المجلة عن ذلك بأنها لم تجد في بغداد ورقًا كبيرًا كورق
المجلات العربية في الشام ومصر كما أنها لم تجد فيها حروفًا كحروفها في حجمها
واستكمال نقطها وحركات شكلها ليتسنى لها ضبط ما تحتاج إلى ضبطه منها
بالحركات.
ومن مزايا هذه المجلة أنها ستبين لنا من أحوال العراق وما اتصل به من
جزيرة العرب ما نحن في حاجة شديدة إليه. وقيمة اشتراكها فيما عدا ولاية بغداد
من البلاد العربية تسعة فرنكات في السنة. والمرجو أن تنجح لقدرة أصحابها على
الخدمة التي انتدبوا لها بالعلم والمال.
(رواية البائسين)
هي القصة الشهيرة التي صنفها باللغة الفرنسية شاعر فرنسة العظيم فيكتور
هيكو. وهي كمصنفها أشهر من نار على علم عند جميع الشعوب الأوربية، وكان
شاعر مصر الشهير محمد حافظ إبراهيم ترجم من بعض سنين جزءًا منها بالعربية
ترجمة تصرف فيها بالمعاني وأبدع في صناعة التعبير ثم لم يتم الترجمة، فانبرى
لترجمتها كلها ترجمة حرفية صديقنا جرجي أفندي وصموئيل أفندي يني صاحبا
مجلة المباحث، التي تصدر في طرابلس الشام، وقد صدر الجزء الأول من
ترجمتهما في 200 صفحة، والمرجو من نشاطهما أن يتما ترجمة الكتاب في وقت
قريب؛ ليستفيد منه قراء العربية ما فيه من الحكمة العالية والآداب السامية، التي
نال بها فيكتور هيكو من العظمة والشهرة ما لم ينله أحد من الشعراء والعلماء، ولا
من الملوك والأمراء.
(شفاء العائلات. من أدران الموبقات)
قصة صنفتها الكاتبة الإنكليزية (ألن وود) وأودعتها تاريخ أسرة كبيرة من
قومها اسمها أسرة (دانسبري) كانت في أوج العلياء ثم هبطت إلى الحضيض
بفشو السكر فيها وما يتبع السكر من الشرور والمفاسد. وقد ترجمها بالعربية
إسكندر أفندي إبراهيم يوسف وطبعت في مطبعة المعارف وتطلب من مكتبتها.
(مصرع الظالمين)
قصة تمثيلية جديدة من تصنيف توفيق أفندي سعيد الرافعي قال في وصفها:
(تمثل الظلم في أبشع مظاهره والانتقام من الظالمين، ثم تمثل الأمانة والطهارة في
الحب، والخيانة والغش في الدولة، وضعف المرأة وقوة الرجل، والانكباب على
الملاذ والشهوات، وما ينتج عن كل ذلك من النتائج السيئة والحسنة، في عبارة لا
تلطف على العامة، ولا تسفل عن الخاصة) .
(عدل القضاء)
قصة أدبية ألفها محمد أفندي حافظ وطبعها الشيخ أحمد علي المليجي الكتبي
الشهير بجوار الأزهر ومنه تطلب) .
(الصهيونية)
(ملخص تاريخها - غايتها، وامتدادها إلى سنة 1905)
نشرت جريدة الكرمل التي يصدرها في حيفا نجيب أفندي الخوري مقالات في
جميعة اليهود الصهيونية التي تسعى لتمليك اليهود بلاد فلسطين وتمهد السبيل لإعادة
ملك بني إسرائيل في تلك البلاد، وقد كنا حريصين على جمع نسخ الجريدة التي
نشر فيها تلك المقالات؛ لما فيها من الفوائد السياسية والتاريخية، ولكن صاحب
الجريدة كفانا ذلك فجمع ما كتبه في رسالة بلغت 64 صفحة. وقد اعتمد في جُلِّ ما
كتبه على دائرة المعارف اليهودية فلخص منها بالترجمة العربية جل ما كتبه فنشكر
له هذه الخدمة، ونحث جميع قراء العربية، ولا سيما العثمانيين على قراءة رسالته
والاعتبار بها.
__________(14/626)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فقيد مصر
مصطفى رياض باشا
(3)
نقلنا في الجزء السابع (الماضي) ما كتبه الإمام في كتابه (أسباب الثورة
العُرابية) عن إبطال رياض باشا للسخرة , ووعدنا بأن ننقل عنه شيئًا آخر من
أعماله الإصلاحية , وها نحن أولاء ننجز الوعد، فنقول: كتب الأستاذ عقب ما
تقدم ما نصه:
(العدل في الري)
واهتم رياض باشا بأن توزع مياه النيل بالقسط، وقد كان الفقراء لا ينالون
من النيل أيام هبوطه إلا فضلات ما يبقى عن ري أراضي الأغنياء، فوضعت
نظارة الأشغال العمومية بعض الروابط، وشددت المراقبة في تنفيذها، فأصاب
التوزيع جانبًا من العدل، غير أن عادة بعض موظفي الهندسة حالت دون الغاية
المطلوبة، خصوصًا مع تعود الأهالي على السكوت عن ذلك وعدم الشكوى منه؛
ظنًا منهم بأن الدعاء لا يجاب في أرض مصر على ما يعهدون , ولكن أتذكر أنني
ذكرت لرياض باشا يومًا حالة قسم الحاجر في مديرية البحيرة وأن الماء محجوز
عنه، وقد كادت تتلف زراعة القطن فيه، فلم تمض بضع دقائق حتى كتب لنظارة
الأشغال بتحقيق السبب، وبعد يومين أطلقت المياه، وأوخذ المتسبب في حجزها،
وهكذا كان شأنه عند سماع أي شكاية من هذا القبيل.
وإني أتذكر حادثة عُدّت في وقتها من أغرب الحوادث؛ ذلك أن بولينو باشا
كانت له آلة بخارية رافعة للمياه على جدول عظيم بجوار دمنهور، وكان يعطي
الماء للأهالي بالأجرة، وكان يستمر في إدارة وابوره إلى ما بعد ارتفاع الغيطان
وتزاحم المياه على فم الترعة؛ ليستزيد من الأجور، وكانت تلك عادته من سنين،
والأهالي متعودون على هذا الظلم؛ لكثرة الشكوى وعدم الإشكاء.
ففي أول نظارة رياض باشا كانت قد ارتفعت مياه النيل، ومن المعروف أن
المياه في شهر سبتمبر تعلو فوق مستوى أغلب الزرع في مصر، فركبت المياه فم
الجدول، ووابور بولينو باشا مستمر الدوران والمياه محجوزة عن الأهالي إلا أن
تكون من مياه بولينو باشا، فشكوا للمدير لإحساسهم بفائدة الشكوى إذ ذاك،
وعرض المدير شكواهم على رياض باشا فأمر بفتح الترعة , وعند التنفيذ جاء
رجال بولينو بالسلاح لمقاومة المنفذين، وأشعر رياض باشا فأمر بفتح الترعة ولو
بقوة السلاح، ففتحت تحت حماية العساكر المصرية.
كانت مديرية البحيرة من أسوأ المديريات حالاً من جهة الري وأعمال
التطهير, فكان أهاليها يسامون العذاب أيام الشتاء في تطهير ترعة الخطاطبة،
ويجلب من سكان المديريات الأخرى عدد عديد لمساعدتهم؛ ليستحصلوا على قليل
من الماء , لا يكفيهم بعد شدة العناء , وكثيرًا ما فتك الموت فيهم أيام العمل لشدة
البرد , فاهتم رياض باشا ليخفف المصاب عنهم، وأنشأت نظارة الأشغال العمومية
نظام شركة ري البحيرة، وكان يوم البدء بإدارة آلاتها يومًا معروفًا، احتفلت فيه
الحكومة احتفالاً عظيمًا، حضره كثير من كبار الموظفين والأجانب، وشرب فيه
رياض باشا كأسًا من ماء النيل على ذكر نجاح عمل يتعلق بمنفعة النيل.
(إلغاء الضرائب)
ولم تمض بضعة أشهر على تعيين هذه الوزارة، حتى ألغي نيف وثلاثون
ضريبة من الضرائب الصغيرة التي كانت أخرت بالمصنوعات، وأوقفت حركة
الأعمال التجارية والصناعية الخاصة بالأهالي، وأساءت حال المزارعين , وزيد
مئة وخمسون ألف جنيه على ضريبة الأطيان العشورية؛ تعويضًا لما فات بإلغاء
تلك الضرائب , ولا يخفى أن أغلب هذا النوع من الأطيان في يد الأغنياء، فقد
خف بذلك عن الفقراء ما ثقل على أهل الثروة، وهو مما لا يمحى أثره من نفوس
الفريقين.
وذهب الأفواج من التجار والصناع إلى سراي الإسماعيلية؛ ليعلنوا شكرهم
للجناب الخديوي على إلغاء تلك الرسوم القاتلة للأعمال في مصر, وكان لذلك
احتفال عظيم. ولكن الذوات الكرام لم يحتفلوا له، ولم ير لجماهيرهم سواد حول
السراي ولا داخلها؛ إلا في أيام التشريفات والمقابلات التي ينحصر موضوع الكلام
فيها في حالة الجو وحره وبرده واعتداله، ولا يذكر فيها أمر إلغاء الضرائب،
وربما ذكر فيها استحسان إبقائها أو الزيادة فيها على أن يكون ذلك على الفقراء.
ثم عفت الحكومة عما عجزت عن تحصيله من الضرائب والرسوم المتأخرة
لغاية سنة 1876، ورفعت بذلك المطالبة به عن الأهالي، وفرح به كثير من
الأغنياء الذين ظهروا بمظهر العجز، وراوغوا في دفع الضرائب فيما سبق،
وساعدتهما الحظوة على الإمهال إلى ذلك الوقت.
(ميزانية الحكومة ونظام الجباية)
ثم نظم برنامج الإيراد والمنصرف من مال الحكومة (ميزانية) ، وشكلت
لجنة لسماع شكايات المطالبين بالضرائب وإنصافهم , ووضع نظام التحصيل في
الأوقات المعينة حسب على مواسم الزراعة، وعرف الفلاح ما له وما عليه , وهذه
الأمور أجريت طبقًا لما كانت أشارت له لجنة التفتيش العليا، كما صرح به رياض
باشا فيما كتب به إلى لجنة صندوق الدَّيْن.
ولما نظمت أوقات التحصيل على حسب مواسم المحصول، نما في الناس
الشعور بأن الحكومة نوع محدود من النظام، وأنها لا تريد منهم إلا مبالغ معينة ,
وليس من شأنها أن تشغل الأهالي كما تشغل الماشية بدون استبقاء شيء في أيديهم,
وبدأوا يوقنون بأن ما زاد من الضرائب المحددة فهو لهم خصوصًا، بعد ما صدرت
الأوامر الصريحة بأن لا ضريبة توضع إلا بنظام معروف، تراعى فيه المصالح
وتبين فيه الأسباب.
ثم ظهر عقب ذلك مبدأ المساواة بين الأغنياء والفقراء وبين الأجانب
والوطنيين , فقد كان الغني أو الذات الكريمة من ذوات الحكومة يماطل في دفع
الضرائب من سنة إلى سنة، وربما عوفي من دفعها بعد ذلك، ويوزع ما لم يدفعه
على أراضي جيرانه من فقراء الأهالي , وهكذا كان شأن الأجانب بعد ما يأخذون
الأراضي من مالكيها؛ إيفاء لديونهم، أو يشترونها بالثمن البخس عند اشتداد
الضيق على الفلاح وإلحاح الكرباج على بدنه بدفع ما لا يلزمه، وليس في يده منه
شيء.
كانوا يماطلون في دفع الضرائب، وما أبوا دفعه يوزع بغير حق على
المساكين الذين لا حامي لهم. أما بعد مضي أشهر من نظارة رياض باشا، فقد
صدرت الأوامر مشددة بتحصيل ما على الأجانب والذوات بالطريقة التي يجري بها
تحصيل ما على الأهالي بدون مراعاة، وقد نفذت الأوامر بعدما لاقت صعوبات
كثيرة , وظهر عند التنفيذ أن بعض الأغنياء والأجانب كان في ذمته ضرائب سبع
سنين، فحصلت منه بقوة الحكومة , وهذا مما لم يكن يسمع به من قبل.
ثم صدرت أوامر في ابتداء سنة 80 بإلغاء لائحة المقاولة، وإعفاء الممولين
من دفع ما بقي منها. ولكن مع إلغاء الامتياز الذي اكتسبه من دفعها جملة، وبعض
الامتياز الذي ناله من دفع بعضها، وفرح بذلك قوم وسيء به آخرون، وسنذكر
شيئًا من أثر ذلك فيما بعد.
(إبطال الكرباج ومنع الحبس لتحصيل الحقوق)
وصدرت الأوامر بإبطال استعمال الكرباج بتحصيل الأموال الأميرية،
وعجب كثير من الناس من ذلك، وقالوا: كيف يمكن أن يحصَّل مال من الفلاح
بدون ضرب؟ وأنكرته نفوس كثير من المديرين، وظنوا أن قد هدم ركن عظيم
من سلطان الحكومة على قلوب الرعية، ولكن لم يمض إلا قليل حتى ظهر الخزي
على وجوه القائلين بأن الفلاح المصري لا يؤدي ما عليه إلا بالكرباج، وأخذ
الممولون يتسابقون إلى دفع ما عليهم حتى قبل الأجل؛ خوفًا من ضياع النقد عند
حلول الآجال المعينة.
وهكذا صدرت الأوامر مشددة في عهد رياض باشا بمنع الحبس؛ لتحصيل
الحقوق، سواء كانت أميرية أو شخصية، وقد لاقى تنفيذ هذه الأوامر مصاعب
ومقاومات؛ لتمكن الميل إلى الظلم في نفوس أغلب المأمورين. لكن رغمًا عن كل
ذلك فقد ظهر أثره ظهورًا بينًا. ولم تأت آخر مدة رياض باشا حتى محي أثر
الحبس لتحصيل الحقوق إلا ما ندر ولم يكن يعرف , ومن غرائب آثار التعود على
الظلم وعلى رؤيته ملازمًا للسلطة في مصر؛ أن الذين حفظت أبدانهم من الضرب
والجلد وأرواحهم وأجسامهم من الحبس في سبيل اقتضاء الحقوق، سواء كانت
للحكومة أو للأفراد، كأنهم يعدون تلك الأوامر مخالفة لما يجب أن يعاملوا به , وأن
لا يفيد فيهم إلا الكرباج، كما لا يزال قوم منهم يقولون بذلك إلى اليوم , وكانوا
يهزءون بتلك الرحمة. اللهم إلا الذين لمع في عقولهم روح الفهم ووصل إلى
أبصارهم شعاع الإحساس؛ بما للإنسان من حق التكرمة التي خصه الله بها. ا. هـ
المراد.
هذا ما ننقله من صفحات هذا التاريخ الصادق؛ للاستدلال به على أن رياض
باشا كان من الرجال المصلحين في إدارة الحكومة , وإن لنا لمجالاً واسعًا في
الاستدلال على سائر ما ذكرنا من أخلاقه وصفاته الحميدة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/629)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأبين رياض باشا
في يوم الجمعة الثاني من هذا الشهر، احتفل بتأبين فقيد مصر ووزيرها
المصلح مصطفى رياض باشا لمضي أربعين يومًا على وفاته. وكان الاحتفال في
حوش قبره وقبور ذويه (مدفنهم) بقرافة الإمام الشافعي. وحضر الاحتفال رئيس
النظار محمد سعيد باشا وكثيرون من العلماء والكبراء والأدباء. فافتتح بتلاوة
مجيدي الحفاظ لآيات القرآن العظيم، ثم بأنشودة أنشدها تلاميذ مدرسة الجمعية
الخيرية الإسلامية في القاهرة. ثم تليت الخطب وأنشدت القصائد في تأبين الفقيد،
ووزع بعض القصائد مطبوعًا.
ابتدأ التأبين حسن باشا رضوان وكيل المؤتمر المصري، فذكر عمل الفقيد
في المؤتمر وخدمته الحسنة في قبول رياسته، وما كان لذلك من التأثير الصالح،
وخطب كثيرون منهم الشيخ محمد بخيت قاضي الإسكندرية الشرعي، وحسن بك
عبد الرازق وأحمد باشا زكي الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، بل تلا هذا
وهو قاعد ملخص تاريخ الفقيد في صحائف طويلة مفيدة. وكانت قصيدة محمد
حافظ أفندي إبراهيم أحسن المراثي، وتليها مرثية الشيخ محمد الحملاوي ناظر
مدرسة عثمان باشا ماهر.
وارتجل صاحب هذه المجلة خطبة ختم بها التأبين، وبين طريق العبرة وهذا
ملخصها:
أيها السادة الإخوان:
لم يترك الخطباء والشعراء المؤبِّنون مجالاً لقائل يجول به في هذا الوقت
القصير، وقد مل الحاضرون من طول المكث وحرارة المكان، فأحب أن أكتفي
بكلمة وجيزة أوجهها إلى الشبان قبل غيرهم فأقول:
قد صار الاحتفال بتأبين الرجال المحترمين عادة مألوفة بيننا في هذا العصر،
وكان التأبين والرثاء للأموات معهودين في العصور السابقة كالأماديح للأحياء.
ولكن بين الرجال الذين يرثون ويؤبنون فرقًا عظيمًا. فما كل من أُبِّنَ ورثي مدح
كفقيد مصر الذي نؤبنه ونرثيه اليوم.
للخطباء والشعراء في كل من ينظمون وينثرون فيه الثناء أقوال متشابهة،
يدخل أكثرها عند الناقدين في باب أعذب الشعر أكذبه. وإذا دققنا النظر، نرى أن
ما قيل في فقيدنا اليوم غير ما كنا نسمعه ونقرؤه في أكثر الذين رُثوا وأُبنوا من قبله
أكثر تلك تخيلات شعرية , وإيهامات خطابية , إذا حللتها لم تحل منها بطائل, إذ لا
تنبئ عن عمل ثابت, ولا عن خلق راسخ. وإنما تجدها أماديح مبهمة , بألفاظ عامة ,
تقال في كل صاحب مكانة وشهرة: كالفضل والنبل والعدل , والمجد والسعد والحمد ,
وما شاكل ذلك. وهذه مدائح عملية ثابتة: رياض باشا فعل كذا وكذا من الإصلاح ,
رياض باشا أزال كذا وكذا من المظالم والمفاسد , رياض باشا كان في أخلاقه كذا
وكذا من الفضائل. إلى آخر ما سمعتم، وللفقيد من المزايا والأعمال ما لم يتناوله
المقال.
الرجال بالأعمال, والأعمال آثار الصفات والأخلاق , وبذلك يتفاضل الناس لا
بالعلوم وشهادات المدارس فقط. لا أريد بهذا أن أغمط قدر العلم وأحط من قدره،
وإنما أريد أن أنبه شبابنا الأذكياء إلى أن العلم وحده لا يكفي لجعل الرجل عظيمًا
في قومه , نافعًا لأمته ووطنه , فإن العلم آلة تديرها الأخلاق , فإذا كانت أخلاق
الرجل فاسدة كان علمه كالسيف في يد المجنون، يضر به ولا ينفع.
قد ثبت في إحصاءات بعض القضاة في أوربة؛ أن الذين يرتكبون الجرائم
والجنايات من المتعلمين وحملة الشهادات العالية أكثر من الذين يرتكبونها من العوام
والأميين، كما بَيَّن غوستاف لوبون في كتابه (روح الاجتماع) ، فإذا كان العلم
وحده لا يمنع الرجل أن يكون من المجرمين , فهل يكفي لرفعه إلى أفق الرجال
المصلحين؟ !
كان رياض باشا رجلاً عاملاً مصلحًا لا بشهادة الشعراء والمؤبنين فقط , بل
شهد له كبار الرجال من أوربا وهم قلما يشهدون لرجل شرقي؛ لأن ضعف الشرق
وانحطاطه الاجتماعي صرف أبصارهم عن النظر فيما عساه يوجد فيه من فضيلة
ومزية؛ ليروها كما هي ويقدروها قدرها. وإنما كان رجلاً بأخلاقه الفاضلة
وصفاته الحميدة؛ من استقلال الفكر والإرادة , وقوة العزيمة , والعفة والنزاهة ,
والإخلاص في العمل , والقيام بالمصالح العامة , وغير ذلك مما سمعتم.
يوجد في الناس من ينتقدون بعض أعمال هذا الرجل , وما كان معصومًا من
الخطأ فيعدوه الانتقاد. ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إن عملاً من أعماله المنتقدة
كان عن سوء نية أو فساد خلق؛ كالتوسل به إلى الشهوات , والمحافظة على
المنصب , أو الاستكثار من المال والعقار, أو ابتغاء مرضاة الرؤساء والأمراء؛
لأجل العروج في معارج الارتقاء. فمن ينتقده في بعض أعمال , يمدحه ويظهر
فضله في أخلاقه. يقولون: اجتهد فأخطأ. وهكذا كان ينتقد على عظماء الرجال
من الصحابة والأئمة فمن دونهم؛ لأن الخطأ من شأن البشر. قالوا: المجتهد
يخطئ ويصيب، وقال أهل السنة اجتهد علي رضي الله عنه في قتاله لمعاوية
فأصاب. واجتهد معاوية في خروجه على علي فأخطأ فلا غضاضة ولا عار على
الرجل العامل أن يجتهد فيصيب تارة ويخطئ تارة , وإنما العار على الذين يقترفون
الخطايا عامدين عالمين لفساد أخلاقهم واتباع شهواتهم.
لم يقل أحد: إن رياض باشا كان يغشى في أوربة حانات السكر ومواخير
الفسق، ولم يقل أحد: إنه كان يلعب القمار, ولا أنه تدنس بشيء من هذه الشهوات
والأطماع , ومن كان هكذا طاهرًا نقيًّا فهو جدير بأن يصرف وقته إلى أفضل
الأعمال , حتى يعد من عظماء الرجال.
من أحب منكم أيها الشبان الأذكياء أن يستفيد من سيرة هذا الرجل العظيم،
وأن يكون في قومه أرقى من الزراع والصناع الذين يعمل كل منهم للهيئة
الاجتماعية عملاً صغيرًا على قدره. من أحب أن يكون رجلاً عظيمًا للأمة، رافعًا
لقدرها مصلحًا فيها فعليه أن يعنى قبل كل شيء بتهذيب أخلاقه , عليه أن يكون
مستقل الرأي والإرادة. ولا يكون ممن قيل فيهم: (أتباع كل ناعق) الذين
يرضون دائمًا أن يكونوا أذنابًا متبوعين. يلتمسون لهم من يقودهم فيسيرون وراءه
كأفراد الجند، دأبهم الطاعة العمياء , والتصفيق للزعماء , إذا كثر في الأمة
المستقلون أصحاب الأخلاق الفاضلة، استقلت وارتقت حتى تكون من الأمم العزيزة
وإلا فلا أمة ولا استقلال. والسلام.
__________(14/633)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع المنتدى الأدبي في التعليم العربي
ومساعدته عليه
قد صار في حكم البديهيات أن حياة الأمم بحياة لغاتها , وارتقاءها الحقيقي
منوط بارتقائها , فالمؤرخون يستدلون باللغة على درجة مدنية أهلها في الزمن
الماضي , وعلماء التربية يربون الأمة بتهذيب لغتها , وجعلها مستودعًا لجميع
العلوم والفنون التي يعلو بها شأنها , حتى أن الشعوب التي ليس للغتها تاريخ في
العلوم والآداب , ولم يؤثر عن سلفها شيء تقر به العين من الكتب والآثار, منها ما
حاولت من عهد قريب ومنها ما تحاول الآن تدوين لغتها , ووضع المعجمات والنحو
والصرف لها , ونقل العلوم والآداب إليها.
وإننا نرى للغتنا العربية الشريفة تاريخًا مجيدًا في العلوم والآداب والشريعة ,
ونرى الملايين من أهلها المختلفين في الأديان والمذاهب والأقطار محتاجين إلى
إعادة مجدها الذي ضيعه من قبلهم؛ لأنه لا يمكنهم مجاراة الأمم الصاعدة في معارج
الارتقاء إلا بذلك. ونرى ملايين من الشعوب الأخرى يرغبون في إحيائها ,
وتسهيل سبيل تعليمها؛ لحاجتهم إليها في دينهم , وهم المسلمون من الترك والفرس
والتتار والهنود والصينيين والجاويين وغيرهم.
في مصر نهضة شريفة في خدمة هذه اللغة , ولما مَنَّ الله على البلاد العثمانية
بالدستور, وصارت حرية العلم والتعليم حقًّا لجميع العثمانيين ثابتًا بالقانون ,
تحركت عزيمة العرب العثمانيين لخدمة لغتهم , ونشر التعليم بها في بلادهم , كما
تحرك غيرهم من الشعوب العثمانية لذلك , وهذه هي الطريقة المثلى لإحياء هذه
المملكة , وإعلاء شأن هذه الدولة؛ إذ به يقوى كل عنصر في الأمة , وتتسع بها
دائرة الثروة , وما ارتقت أمة من الأمم إلا بالتعليم الأهلي، سواء كانت من جنس
واحد كفرنسة , أو من أجناس مختلفة كالنمسة , ولاسيما إذا كان يتعذر على
الحكومة تعميم التعليم بجميع ضروبه لقلة المال.
من أفضل ما قام به العرب العثمانيون من السعي لنشر التعليم بلغتهم مشروع
المنتدى الأدبي في دار السلطنة (الآستانة) ، الذي صادف الارتياح من أعيان الأمة
ونوابها، والعطف من ولي عهد السلطنة (يوسف عز الدين أفندي) ، فنفح المنتدى
بمبلغ من الدنانير مساعدة له على عمله الشريف.
هذا المشروع هو نشر التعليم الأهلي في الولايات العربية لجميع أهلها بلغتهم,
وله لائحة في ذلك نشرت في أشهر الجرائد المصرية كالمؤيد والعلم والمقطم
والأهرام. وقد صادف هذا المشروع العلمي ارتياحًا في هذه البلاد التي هي أم البلاد
العربية في العلوم، فتألفت فيها لجنة لمساعدة القائمين به؛ إجابة لدعوة صديقنا عبد
الكريم قاسم الخليل رئيس المنتدى، الذي زار مصر في هذا الصيف لأجل هذه
الغاية , ووضعوا لهم نظامًا في ذلك.
أما اللجنة التي تألفت بمصر لمساعدة المنتدى الأدبي على نشر وترقية التعليم
العربي؛ فأعضاؤها المؤسسون 17، وقد اختاروا لرياسة اللجنة محمد باشا
الشريعي، وللوكالة رفيق بك العظم، ولكتابة السر عبد الخالق بك مدكور، ولأمانة
الصندوق حسن بك عبد الرازق. والباقون هم: أحمد بك تيمور. أثناثيوس مطران
أفندي السريان. سامي أفندي الجريديني المحامي. الدكتور شبلي شميل. الشيخ
طنطاوي جوهري. عارف بك المارديني. عبد الحميد أفندي حمدي (وهو مأمور
الإدارة) . عبد الستار أفندي الباسل. الشيخ محمد المهدي. محمد علي أفندي كامل
المحامي. محمود بك سالم المحامي. نقولا أفندي شحادة. يوسف دريان أفندي
مطران الموارنة.
__________(14/635)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحريق في الآستانة
فجعت الآستانة يوم عيدِ الدستور من الشهر الماضي بحريق هائل، التهم من
البلد ما تقدر مساحته بالأميال , وقيمته بالملايين من الليرات, حتى قيل: إنه دمر
زهاء ربع إستانبول، ومن المباني التي أكلتها النار في أول شبوبها (دائرة أركان
الحرب) ومن المعاهد المشهورة سوق (الشاهزاده) و (آق سراي) و (قوم
قبو) وما يتصل بذلك من الدور والمساجد والمدارس.
المصاب كبير، ومن حسن الحظ أن كان في الصيف (وبساط الصيف واسع)
كما جاء في المثل، ولو كان في شتاء كالشتاء الماضي في برده وثلجه؛ لهلك
الألوف من الناس. وقد كنا كتبنا في الجزء الثاني من هذه السنة نبذة في بيان كثرة
الحريق في الآستانة، وقلة عناية الحكومة بأمر إطفائها؛ كاتخاذ المطافئ الحديثة
وجرها بالآلات البخارية والكهربائية وإعداد الماء لها في كل مكان. وشددنا النكير
على حكومتنا في هذا؛ لعلها تتألم فتتذكر أو تخشى فما أفاد التذكير.
ومما يذكر مقرونًا بالحمد والشكر والترغيب؛ أن أهل النجدة والسخاء طفقوا
يبذلون الإعانات للمنكوبين. ولكن يخشى أن تصرف هذه الإعانات في غير الوجه
الأنفع.
فنقترح الآن أن تؤلف شركة مالية لبناء ما هدم على الطريقة الحديثة بسرعة،
وإعطائها المساكن للمنكوبين بأثمان رخيصة بالتقسيط، وجعل الإعانات التي تجمع
عونًا للفقراء على دفع أقساطهم.
__________(14/637)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
استدراك [1]
العصمة لله ولكتابه وحدهما، وقد وقعنا في خطأ في مقالة الفلك في صفحة
589 من هذا العدد من المنار، نبهنا إليه الأستاذ المفضال السيد محمد رشيد، وذلك
في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) فأحببت أن أصححه كما يأتي، فيضاف هذا التصحيح في أول
ص589 المذكورة بعد قولنا في الصفحة التي قبلها (ولنا في تفسيرها وجهان: إما
أن تكون.. . إلى قولنا: وعليه فليس في القرآن ... إلخ) .
وصحة العبارة هكذا:
كلمة (الأرض) فيها بمعنى الطين والتراب الذي نعرفه، كما في قوله تعالى
{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ} (الحج: 5) وقوله: {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم: 19)
ونحوه كثير. وإما أن تكون بمعنى الكرة الأرضية كما في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ
جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (الزمر: 67) إلى قوله: {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ
وَمَن فِي الأَرْضِ} (الزمر: 68) .
أما على الوجه الأول، فتقدير الآية هكذا: (الله الذي خلق سبع سموات،
ومن هذا الطين والتراب خلق ما هو مثلهن) وهو هذا الكوكب الأرضي أي الكرة
الأرضية، فكأنه قال: إن هذه الأرض المركبة من الطين والتراب خلقت مثل
السموات أو الكواكب السيارة؛ وذلك لأن الأرض مثل السيارات في المادة [2]
وكيفية الخلق، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها، وكونها
مسكونة بالحيوانات كالكواكب الأخرى، وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو
السموات والأرض هي متماثلة من جميع الوجوه، وكلها مخلوقة من مادة واحدة
وهي مادة الشمس وعلى طريقة واحدة، قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} (الأنبياء: 30) - أي شيئًا واحدًا - {فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) أي فصلنا بعضها عن بعض، فالأرض خلقها الله مثل
السموات تمامًا {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) ؛ لأن
نواميس جميع الموجودات واحدة وعلى تفسيرنا هذا، تكون هذه الآية دالة على أن
الأرض هي إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفًا في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب؛ وذلك من دلائل صدق القرآن.
وأما على الوجه الثاني؛ وهو أن المراد بالأرض الكرة الأرضية، فتقدير
الآية هكذا: (الله الذي خلق سبع سموات وخلق من الأرض أرضًا مثلهن) أي أن
الآية على طريقة التجريد، كقولك: (اتخذت سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق
مثلهم) أي في الصداقة، وقولك: (عرفت من الله ربًّا رحيمًا) والمعنى على هذا
الوجه والوجه الأول واحد، أو التقدير: (وخلق بعض الأرض مثل الكواكب)
على أن (من) تبعيضية، وهذا البعض هو مثلها في عناصرها الكيماوية الداخلة
في تركيبها، فكأنه قال: إن بعض عناصر هذه الأرض، هو مثل عناصر الكواكب
الأخرى نوعًا وكمية. والبعض الآخر موجود فيها عناصر أخرى لا نعرفها ولا
توجد عندنا، وقد ثبت ذلك للفلكيين بتحليل الضوء بالمنشور (Spectral
Analysis) فوجدوا مثلاً في جو المشتري وزحل وأورانوس غازًا لا يوجد عندنا
منه شيء، وكذلك يوجد في الشمس عناصر كثيرة لا توجد عندنا، وقد وجدوا في
بعض الشموس الأخرى أن السلكا (Silica) تقوم فيها مقام الكربون (الفحم)
الذي يكاد يكون معدومًا فيها أو غير موجود مطلقًا، وذلك في مثل نجمي رجل
ودنب (Rigel & Deneb) ، ولا ينافي ذلك ما قلناه في الوجه الأول من تفسير
هذه الآية، فإن العناصر وإن اختلفت في الظاهر لكن مادتها في الحقيقة واحدة؛
لأنها جميعًا مخلوقة من شيء واحد (وهو الأثير) .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
__________
(1) لصاحب الإمضاء.
(2) وقد تحقق العلماء ذلك ببعض طرق علمية؛ كطريقة تحليل الضوء الصادر من الكواكب بالمنشور البلوري والتحليل الكيماوي للأحجار السماوية (النيازك) الساقطة على الأرض ونحوها، فوجدوا أن في السماوات عناصر كعناصر الأرض.(14/638)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مخاطبات المنار
صاحبه وإدارته ومكتبته
إدارة المنار مختصة بالنظر في أمر الاشتراك في المجلة، وأمر المطبعة وما
يطبع فيها , وأمر بيع مطبوعات المنار في الجملة , وستكون الإدارة والمطبعة في
أوائل الشهر الآتي في شارع مصر القديمة بالقرب من كوبري الملك الصالح , وعدد
(نمرة) الدار 91.
ومكتبة المنار مختصة ببيع الكتب المتفرقة من مطبوعات المنار وغيرها،
وإرسالها إلى طلابها حيث كانوا , وبيع الأدوات المدرسية أيضًا , وهي في شارع
عبد العزيز بالقرب من حديقة سراي شريف باشا.
فالمرجو من طلاب الكتب أن يخاطبوا المكتبة بعنوانها هكذا (مكتبة المنار
بشارع عبد العزيز بمصر) .
والمرجو من طلاب الاشتراك ومن المشتركين الذين يكاتبوننا في أمر الاشتراك ,
وممن يريدون أن يطبعوا عندنا شيئًا من الكتب والرسائل أو غيرها؛ كبطائق
الزيارة ورقاع الدعوة والأوراق التجارية , ومن طلاب مطبوعات المنار في الجملة ,
وممن يريدون نشر إعلانات في المجلة، المرجو من كل هؤلاء أن يرسلوا
مكتوباتهم باسم (إدارة مجلة المنار بمصر) والعنوان البرقيّ (التلغرافي) هكذا
(المنار بمصر) .
وأما صاحب المنار، فيختص بالنظر في أمر فتاوى المنار والرسائل التي
يراد نشرها فيه، فالمرجو مخاطبته باسمه في ذلك , ويجوز كتابة اسمه على كل ما
يرسل إلى الإدارة، ولكن من أراد طلبه في أقرب وقت، فلا يخلط في خطاب واحد
بين عدة مطالب.
(1) ينبغي أن تكون المكاتبة الشخصية في ورقة على حِدَتها، فذلك أَرْجَى
لسهولة الجواب عنها.
(2) ينبغي أن تكتب الأسئلة التي يستفتى عنها في ورقة على حِدَتها بخط
واضح؛ لأجل أن تعطى لمرتبي الحروف، ويسهل عليهم جمع ما فيها. وكثيرًا ما
يكون إيداع سؤال في خطاب شخصي أو خطاب يتعلق بالاشتراك أو شراء الكتب
سببًا لإهماله وعدم الجواب عنه , كما أن طلب الكتب في خطاب فيه أسئلة أو أمور
تتعلق بالمجلة يكون سببًا لتأخير إرسال الكتب.
(3) ينبغي أن يكتب ما يطلب من إدارة المنار (وهو ما بيناه آنفًا) في
ورقة على حدته؛ لأجل أن يحول إلى عامل الإدارة، فينفذه في أقرب وقت.
إذا روعيت هذه الأمور، فلا بأس بإرسال عدة مطالب في أوراق متعددة
توضع وترسل في ظرف واحد باسم صاحب المنار؛ لأنه في هذه الحالة ينظر فيما
يخصه، ويحول إلى الإدارة والمكتبة ما يخصهما.
(4) ينبغي أن ترسل جميع الحوالات المالية باسم صاحب المنار (محمد
رشيد رضا) ، سواء كانت ثمن المنار أو مطبوعاته أو أجرة ما يطبع في مطبعته
أو أجرة إعلانات , ولا بأس بإرسال الحوالة الواحدة بأثمان أشياء متعددة.
(5) ينبغي أن تكون الحوالات البريدية كلها باسم (مكتب بوسطة مصر)
وأن لا يرسل شيء منها بعد الآن باسم (مكتب باب الخلق) ، ولا غيره من
المكاتب الفرعية بالقاهرة، وأما الحوالات الخاصة بالمكتبة فترسل باسم مكتبة
المنار بشارع عبد العزيز.
(6) بنك الكريدي ليونه أحب إلينا من سائر البنوك أن تكون الحوالات
عليه.
__________(14/639)
رمضان - 1329هـ
سبتمبر - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
المعراج في اليقظة أم في المنام وروحاني أم لا؟
(ص45 و46) من صاحب الإمضاء من سبس برنيو بمصر.
حضرة فضيلة الأستاذ العلامة المفضال سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب
المنار الأغر، أيد الله بوجوده الإسلام , وذهبت به ظلمات الجهل والبدع المنتشرة
بين الأنام.
أهديكم عظيم تحيتي واحترامي. إن ترك المألوف أمر صعب على الناس،
لاسيما إذا رسخ في اعتقادهم وتمكن من قلوبهم، وإن كان ذلك مخالفًا للحق أو كان
عين الضلال، فلم يهن عليهم أن يتركوه؛ ولهذا آتيكم بمسألة مهمة أرجو بيانها
بالحق اليقين , وما بعد الحق إلا الضلال المبين , وهي: مسألة المعراج، فهل
وافقتم حضرة الفاضل الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي في قوله: فالأرجح عندي
أن المعراج كان رؤيا منامية كما قلنا، وفي هذه الرؤيا فرضت الصلوات الخمس؛
لأن رؤيا الأنبياء من الوحي كرؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده. اهـ. وهل ورد في
السنة الصحيحة أن رؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم تعتبر شرعًا، وأنها من الوحي
كما قال حضرته؟
إنني أول من يسارع إلى قبول قوله: ولو كان المعراج حصل ليلة الإسراء،
وكان جسدانيًا مثله لذكر معه في سورته، فإنه أعجب وأغرب وأدل على القدرة
الإلهية من الإسراء. اهـ. فإن عروجه صلى الله عليه وسلم بجسده الشريف
إلى السموات، مما يؤيد حجته صلى الله عليه وسلم على المكذبين له، في
إخباره إياهم بالإسراء. ولكن أشكل عليّ ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في
شفائه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتيت بالبراق وهو دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال:
فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت
المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن،
فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة , ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح
جبريل، فقيل من أنت قال: جبريل، قيل: ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد
بعث إليه، قال: قد بعث إليه , ففتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير.
الحديث. فما قولكم في هذا الحديث أيحتج به أم لا؟ فالمرجو من فضلكم إظهار
الحقيقة، فإن ما صرح به حضرة الدكتور مما نخاف ذكره عند عامة المسلمين،
خصوصًا عند مسلمي جاوه والملايو فإنهم يتخذون ما وصف لهم من أن السموات
خلقت من حديد ونحاس وفضة وياقوت وزبرجد و.. . واعتقادًا راسخًا , وإيمانًا
صادقًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع
(ج) اختلف علماء السلف والخلف في الإسراء والمعراج , أكانا بالروح
والجسد أم بالروح فقط , وفي اليقظة أم في المنام , وقد كنا من أول العهد بالتمييز
نسمع ذكر هذا الخلاف في المساجد عندما تقرأ قصة المعراج في الليلة السابعة
والعشرين من رجب كل سنة. وإذ كانت المسألة خلافية فما على الباحث من سبيل
إذا ظهر له رجحان أحد الأقوال أن يقول به , وسبق لنا ذكر هذا القول في المجلد
الأول من المنار. وقد رجح بعض المحققين أن الإسراء نفسه كان روحانيًا فما بالك
بالمعراج؟
قال ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) ما نصه:
(فصل) وقد نقل ابن إسحق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان
الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك. ولكن ينبغي
أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء منامًا، وبين أن يقال: كان بروحه دون
جسده , وبينهما فرق عظيم. وعائشة ومعاوية لم يقولا كان منامًا وإنما قالا أُسري
بروحه ولم يفقد جسده وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً
مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى النائم كأنه قد عرج به إلى السماء
أو ذهب إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا
ضرب له المثال.
والذين قالوا: عرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان طائفة قالت:
عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه. وهؤلاء لم يريدوا
أن المعراج كان منامًا، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة،
وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة
في صعودها إلى السمواتِ. اهـ.
وأطال في بيان الفرق، وذكر فيه حل إشكال في حديث المعراج، وهو أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى في قبره بالكثيب الأحمر (من أرض
فلسطين) ، ورآه في السماء السادسة، ولم يعرج جسد موسى من قبره إلى السماء،
وإنما تلك روحه صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن من أدلة القائلين بأن المعراج كان منامًا رواية شريك في صحيح
البخاري، فإنه يقول في آخر الحديث: (ثم استيقظت) والذين لا يقولون بذلك
يغلطون رواية شريك ومنهم من يقول بتعدد المعراج قال ابن القيم:
(فصل) قال الزهري: عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وقال ابن عبد البر
وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى. وكان الإسراء مرة واحدة
وقيل مرتين: مرة يقظة ومرة منامًا وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين
حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات. ومنهم من قال بل
كان هذا مرتين: مرة قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر
الأحاديث , ومنهم من قال بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده , وكل
هذا خبط. وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة
لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى , فكلما اختلفت عليهم
الروايات عددوا الوقائع؛ إلى أن قال بعد تعجب من القائلين بالتعدد مما يلزمه من
القول بتعدد فرض الصلاة، وقد غلط الحفاظ شريكًا في ألفاظ حديث الإسراء.
ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. اهـ. أقول وفي روايات
حديث المعراج: اضطراب واختلاف كثير، طالما ردوا ما وقع فيه مثله.
وحديث أنس الذي أشار إليه السائل، لا يسلم من الاضطراب والاختلاف
الذي قلناه، ولا يتسع هذا الجواب لبيان ذلك ومقابلته بالأحاديث التي منعوا
الاحتجاج بها؛ لاضطرابها واختلاف رواياتها اختلافًا لا يقبل الجمع إلا بتكلف
وتسليم ما تسلم به النفس، ولا يصدقه العقل كقول بعضهم: إن المعراج متعدد كان
بعضه يقظة وبعضه منامًا , ولا يستطيع عاقل أن يقبل أن يتعدد فرض الله الصلاة
على نبيه خمسين ومراجعته فيها، حتى يجعلها خمسًا مرارًا متعددة. ولذلك اضطر
بعض المحققين إلى الجزم بأن بعض روايات الصحيحين في المعراج غلط. ولعلنا
نبين الروايات كلها ووجوه الاختلاف والاضطراب فيها في مقال مخصوص في هذه
المسألة.
والظاهر أن الطبيب محمد توفيق صدقي رجح كون المعراج رؤيا منامية؛
لكونه أقرب إلى العقل وأبعد عن الطعن , لا للجمع بين الروايات والتوفيق بينها
فإنه لم يتتبعها. على أن القول أقرب ما يتفصي به من اختلافها الكثير. وتعدد
الرؤيا واختلاف رؤية الأنبياء في السماوات فيها لا يعد مشكلاً كتعدد ذلك في اليقظة،
وإذا صححنا رواية واحدة من هذه الروايات ورددنا ما عداها وإن كان في
البخاري، فحينئذ يكون ما قاله المحقق ابن القيم هو الأقرب، وهو أن ذلك كله كان
مشاهدة روحية، لم ينتقل فيها جسده الشريف من مكانه.
ولا يبعد أن يقع الغلط في الروايات الصحيحة السند، فإن من قل غلطه
وشذوذه لا ترد روايته ألبتة، ولا شك عند أهل العلم بالحديث في صحة رواية أنس
التي أشار إليها السائل؛ فإنها في الصحيحين ولم يبين وجه استشكاله لها , وهي لا
تدل على ما يعتقده أهل قطره من الجاوه والملايو في السموات، وكونها خلقت من
حديد ونحاس وفضة وياقوت. وما ورد في خلق مادة السموات لا يصح. وكان
الجم الغفير من علماء المسلمين يرى فيها رأي فلاسفة اليونان؛ وهو أنها أجسام
شفافة بسيطة. وما يقوله محمد توفيق صدقي تبعًا لعلماء الفلك في هذا العصر أقرب
إلى اعتقادهم، فإنهم يقولون: إنها مؤلفة من العناصر التي توجد في أرضنا ومنها
الحديد والنحاس.. إلخ.
* * *
(رؤيا الأنبياء وحي)
أما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكونها من الوحي، فقد ثبت في
الأحاديث الصحيحة. وأول أبواب صحيح البخاري (باب كيف بدئ الوحي إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفيه حديث عائشة: (أول ما بدئ به رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا
جاءت مثل فلق الصبح) الحديث.
ومن هذا الباب رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومنه الأحاديث الصحيحة
في رؤيا المؤمن والمسلم والصالح؛ كحديث أنس وعبادة وأبي هريرة مرفوعًا
(رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) رواه أحمد والشيخان غيرهما،
وحديث أبي سعيد عند البخاري، وعبد الله بن عمر وأبي هريرة عند مسلم
الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ويقابل الرؤيا الصالحة
الأحلام، وما يرى الإنسان في النوم مما يحدث به نفسه عادة، وهذا التقسيم ورد
في الحديث الصحيح.
وجملة القول أن مسألة المعراج فيها الخلاف الذي عرفت، فالذي يتتبع
النصوص يرجح ما يراه أقوى وأقرب إلى الجمع بين المعقول والمنقول، ومن لا
نظر له في ذلك يقلد من يثق به أو يطمئن قلبه لقول الأكثرين، وهو أن ذلك كان
يقظة بالروح والجسد. والعبرة في المسائل الاعتقادية بما يطمئن إليه القلب. ولا
ينبغي لمثل السائل من طلاب العلم أن يكون اطمئنانه إلا بعد بحثه ونظره.
وليعلم أننا ننشر من الرسائل العلمية (كرسالة الطبيب محمد توفيق صدقي)
ما يوافق رأينا وما يخالفه، ولا نحكم رأينا في كل مسألة في تلك الرسائل إلا عند
الحاجة. وقد كان الطبيب المذكور ذاكرنا في موضوع رسالة (علم الفلك في القرآن)
قبل كتابتها، ثم ذكر فيها ما وافق رأينا وما خالفه بحسب ما ظهر له، حتى إننا
بعد طبعها في المنار ذكرنا له خطأه في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) فلما ظهر له ذلك أذعن له كعادته، وكتب ذلك الاستدراك الذي
نشرناه له في أواخر الجزء.
* * *
(إنكار صحة حديث المعراج)
(س47) من صاحب الإمضاء في صولو (جاوه)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله القائم بحقوق الله،
وعلى آله وصحبه وناصريه وحزبه. حضرة سيدي المحترم الأستاذ محمد رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الأغر. بعد إهدائكم أوفر التحية والإكرام، أقدم إلى
حضرتكم سؤالاً أرجو الإفادة بالجواب الشافي كما أن عادتكم شفاء الغليل، وأن
يكون في أول عدد يصدر من المنار إذا لم يكن هناك مانع، وأن لا تحيلونا على
الأجزاء والمجلدات المتقدمة؛ لكون في ذلك تفتيش أو لكون بعض المجلدات لا
يوجد عندنا.
(السؤال) طالعت في الجزء الخامس من السنة الثانية من الهداية لصاحبها
عبد العزيز جاويش، فعثرت على سؤال وجواب في قصة الإسراء والمعراج بنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الجواب ما يشعر أن الإسراء روحي أي رؤيا
منامية، واستدل بحديث عائشة ومعاوية، وأن أحاديث المعراج موضوعة بدليل ما
فيها مما جرى له صلى الله عليه وسلم من مراجعة ربه عز وجل، وتردده بينه
وبين نبي الله موسى، وغير ذلك مما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأن ذلك من
الأباطيل والألاعيب والأكاذيب والأقاويل المنتحلة التي يجب أن ينزه الله ورسوله
عنها. فهل صاحب الهداية مصيب في جوابه أم مخطئ؟ وهل إذا كانت رؤيا
منامية أن يستعظم أمرها وتستحيلها العقول، فقد بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم لما
حدث بالإسراء والمعراج افتتن كثير ممن أسلم، ومنهم من ارتد وازداد المكذبون
تكذيبًا.
... ... ... ... ... ... ... ... سالم بن أحمد باوزير
(ج) أما قول الشيخ جاويش: إن الإسراء روحي، فهو شيء سبقه إليه
غيره. وأما قوله: إن أحاديث المعراج موضوعة، فهو حكم بمحض الرأي، لم
يبن على قاعدة من قواعد الجرح والتعديل، فالحديث متفق عليه بين المحدثين لا
خلاف في صحته، وإنما وقع الخلاف في سياقه ومعناه. وقد علمتم الفرق بين
القول بأن ذلك كان في الرؤيا، وأن ذلك كان روحيًّا مما نقلناه عن المحقق ابن القيم
وإذا كانت الرؤيا لا تقتضي الافتتان والارتداد الذي نقل، فعروج الروح إلى السماء
مع بقاء تعلقها بالجسد في الأرض، لا يبعد أن يكون من أسباب افتتان الضعفاء
وتقول السخفاء , والله سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً
لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) فكيف مع هذا يقول قائل: إن الرؤيا لا تكون فتنة.
* * *
أسئلة من فوندق فادغ (جاوه)
(س48-53) من صاحب الإمضاء.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سيدي الأستاذ الفاضل العلامة السيد محمد رشيد رضا دام فضله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فالمرجو من إسداء مراحمكم وإلينا وإلى
البلد الذي عم فيه الجهل وامتد فيه الكسل، أن تنقذوا أهلها من غيابة الجهل، وأن
ترحمونا بتقطيع حبل الجراءة والملل بتحرير هذه الأسئلة، وكشف نقاب الجواب
عنه كي لا يجهل. ثم إن رأيتم إدراجها في صحيفة المنار الأفخم، فلكم الفضل
والإحسان وإلا فرأيكم الأعلى، أو تفضلوا بجواب على سبيل المراسلة والمخابرة
بواسطة البوستة. (ألا وهي) .
(1) هل كلفنا الشارع بلباس معين، بحيث يعد مرتكب غيره من أنواع
الملابس خارجًا عن الدين، كما أفتى به أكثر علماء بلدنا، ومع ذلك أنهم لم يبينوا
ضابط ما يجب منه وما يحرم، وحجتهم فيه حديث: من تشبه بقوم فهو منهم فهل
هذا الحديث من جملة الأحاديث التي يصح الاستدلال بها أم لا وأيضًا فما هي حقيقة
التشبه؟
(2) هل يختل إيمان أحد من المؤمنين بمحض لبس البرنيطة المعروف
على مقدم قلنسوة الإفرنجي، وبلبس وصل الخرقة المربوطة في الحلقة فوق الثياب
كما هو لباس الإفرنجي والتركي أيضًا. وبالأول يقول أكثر علماء بلدنا وحجتهم فيه
أن البرنيطة والخرقة المسماة بالزنار من خصوصية لباس الإفرنجي، وقد نهى
الشرع عن لباس ذلك الزنار.
(3-4) هل لنا قول من أقوال العلماء أو مذهب من مذاهب أهل السنة
والجماعة؛ يجوز تعليق صور الحيوان على نحو الجدار أو الأستار المرتفعة أم لا؟
وهل الكسب الحاصل على يد المحترف بالآلة المعروفة المسماة بالفوتغراف حرام
أم حلال؟
(5) هل يحرم سماع آلة الملاهي مطلقًا أم يجوز مطلقًا؟ أم لذلك تفاصيل؟
(6) إن الأصوليين قد قالوا: إن الأحكام تدور مع علتها وجودًا وعدمًا؛
فبناء على ذلك، فإن في الإحياء ذكروا لتحريم نحو المزامير ثلاثة علل: إحداها
أنها تدعو إلى شرب الخمر. الثانية: أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر
مجلس الأنس بالشرب. الثالثة: أن الاجتماع عليها لما أن صار عادة أهل الفسق،
فيمنع من التشبه بهم. فإذا انتفت تلك العلل كيف الحال وقتئذ، فيا سيدي حرروا لنا
ما في السؤال، فإنها قد أوقعتنا في الإشكال والجدل، ولكم منا كثير الشكر ومن الله
المتعال جزيل النوال.
... ... ... ... ... ... ... ... الراجي من ألطافك
... ... ... ... ... ... ... ... حاج عبد الله أحمد
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فوندق فادغ
(اللباس في الإسلام)
أما الجواب عن الأول والثاني - وهما بمعنى واحد - فهو أن الإسلام لم يكلف
الناس أن يلبسوا لباسًا معينًا بكيفية مخصوصة إلا في الإحرام بالحج أو العمرة،
ومن مقاصدهما أن يكون الإنسان فيهما بعيدًا عن الترف والعادات المألوفة بارزًا في
زي الإنسان الأول في البساطة والسذاجة البدوية، على أن من لا يلبس لباس
الإحرام لا يعد خارجًا من الإسلام، وإنما يعد مخالفًا لواجب من واجبات الإحرام
التي يكون مساويًا بها لسائر القائمين معه بتلك العبادة، ويجب عليه فدية تكون
كفارة لهذا التقصير. ولم يقل أحد من علماء السلف ولا الخلف: إن الشارع كلف
المسلمين زيًّا مخصوصًا في غير الإحرام، وقد ثبت في حديث البخاري أن النبي
صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية من لباس الروم، وفي صحيح مسلم أنه
صلى الله عليه وسلم لباس الطيالسة الكسروية من ملابس المجوس. وقد فصلنا
القول في هذه المسألة في المجلد السادس، وعدنا إليها في غيره لكثرة السؤال عنها
(راجع ص61 و113 من مجلد السنة الماضية) وما كنت أظن أن من يوصفون
أو يسمون بالعلماء في بلد السائل يتجرؤون على تكفير من يخالفهم في لبسهم؛
كالزي الإفرنجي الذي يلبسه الملايين من الترك والتتار والعرب المصريين
والسوريين وغيرهم.
إن أمثال هؤلاء الذين سماهم جهلاء قومهم علماء، قد جعلوا الإسلام
والمسلمين سخرية بأمثال هذه الفتاوى والأقوال التي جعلوا بها بعض العادات هي
جوهر الدين، وهم يرون عقائد الإسلام وأخلاقه وآدابه ومقاصده العالية تنتقض
عروة عروة، فلا ينكرون من ذلك شيئًا حتى إنهم وضعوا نواقيس النصارى في
مساجدهم، وجعلوا ذلك موضع خلاف , وما حرموا على المسلمين إلا ما يرتفع به
شأن الأمم من العلوم والفنون والأعمال , وبعض العادات التي تقتضيها طبيعة بعض
البلاد، ثم إنهم يتبرؤون من الاجتهاد بمعنى الاهتداء بالكتاب والسنة تارة،
ويستدلون بالحديث على ما لا يدل عليه كحديث السؤال من تشبه بقوم فهو منهم وقد
بينا في ص61 من مجلد السنة الماضية ما قيل في ضعفه وتصحيحه ومعناه وكونه
لا يدل على ما ذكروه.
(اتخاذ الصور وتعليقها على الجدر)
سبق لنا ذكر هذه المسألة في المنار غير مرة، منها جواب سؤال من
الإسكندرية، نشر في ص140 من المجلد الخامس وهذا نص الجواب فيه:
(ج) اختلف العلماء في اتخاذ الصور فقيل: إنه محرم مطلقًا, وقيل: إن
المحرم منها ما له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه , وقيل: إن المحرم هو
ما اتخذ بهيئة التعظيم، وهذا أقوى الأقوال عندي لوجهين: أحدهما حديث عائشة
عند أحمد والبخاري ومسلم؛ وهو أنها نصبت سترًا وفيه تصاوير، فدخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونزعه. قالت: فقطعته وسادتين، فكان يرتفق عليهما
وفي لفظ لأحمد (فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما وفيها صورة)
المرفقة: المتكأ والمخدة.
ولو كانت الصورة ممنوعة لذاتها لأزالها من المرفقة , وإنما هتك الستر لأنه
كان منصوبًا كالصورة المعبودة، فهو يذكر بها وفيه تشبه بعابديها. ثانيهما: العلة
الحقيقية في النهي عن التصوير والصور المعظمة؛ وهي محاكاة عباد الأصنام لا ما
قالوه من أن فيها محاكاة خلق الله، فإن هذه العلة تقتضي تحريم تصوير الشجر
والجماد، وقد نقل بعضهم الإجماع على حله؛ فإذا انتفت العلة انتفى المعلول والله
أعلم اهـ.
وبينا في فتوى أخرى أنه لمثل هذه العلة نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن زيارة القبور في أول الإسلام، ثم رخص فيها بشرط أن تكون للعبرة وتذكر
الآخرة؛ لأن ذلك المعنى التعبدي الوثني كان قد زال، فإذا قلت: إن الحكم يدور
مع علته وجودًا وعدمًا، وعلمت أن أهل هذا الزمان لا يتخذون الصور للعبادة ولا
تذكرهم رؤيتها بعبادتها ولا عابديها؛ إلا ما يكون في معابد الوثنيين، وبعض
طوائف النصارى، وفي بعض بيوتهم من صور المسيح وأمه عليهما السلام،
وبعض حوارييه رضي الله عنهم، إذا قلت هذا القول وعلمت هذا العلم، وظهر لك
أن الذريعة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم سدها بنزع ذلك الستر، كان لك
أن تقول: إنه لا يظهر لتعليق صور من لا يعظم تعظيمًا دينيًّا وجه للحظر.
ومن الفقهاء من بحث في اتخاذ الصور من وجوه أخرى؛ كتحقيق معنى
الصورة، وهي صورة الحيوان الكامل الخلقة، فقالوا: إن الصورة إذا كانت غير
تامة لا يمتنع اتخاذها بالتعليق ولا بغير التعليق، وعبر بعضهم بالمنع من الصورة
التي يعيش مثلها، وجعلها هي الممنوعة دون التي لا يعيش مثلها، وكنت أرى
بعض المشايخ المتورعين إذا أتى بورقة فيها صورة، وكانت من الأوراق التي
يحتاج إلى استعمالها كما تراه كثيرًا في الأوراق وغير الأوراق من متاع أوربة،
يأخذ الموسى بيده فيحزّ في الورقة رأس الصورة حزًّا، ويقول: الآن لا يعيش
مثلها. وكنت ولا أزال أتعجب من هذا العمل.
وذهب بعضهم في بيان حظر تصوير الحيوان إلى أن علته مضاهاة خلق الله
تعالى، وقصد ذلك بدليل ما ورد في الحديث الصحيح دالًّا على ذلك، وهذا لا يأتي
في متخذ الصورة بل في المصور.
قال القسطلاني في شرحه للبخاري بعد كلام في ذلك: والحاصل كراهة
صورة حيوان منقوشة على سقف جدار أو وسادة منصوبة أو ستر معلق أو ثوب
ملبوس, وأنه يجوز ما على الأرض أو بساط يداس أو مخدة يُتكأ عليها ومقطوع
الرأس وصورة شجرة. والفرق أن ما يُوطأ ويطرح مهان مبتذل، والمنصوب
مرتفع يشبه الأصنام. ا. هـ.
وهذا هو التعليل الصحيح كما قدمنا، وقد زالت العلة الآن ولاسيما فيما يتخذ
من الصور لأجل العلم؛ كالطب والتشريح والتاريخ الطبيعي أو لمصالح الدول
والحكومات؛ كصور جواسيس الحرب والمجرمين أو تحقيق الشخصية لمصالح
كثيرة.
(الكسب بآلة الفونغراف)
وأما الجواب عن الرابع؛ فهو أنه لا يظهر وجه لتحريم كسب صاحب آلة
الفونغراف؛ والأصل في الأشياء الحل.
(سماع آلات الملاهي)
وأما الجواب عن الخامس، فقد فصلنا القول فيه تفصيلاً في أول المجلد
التاسع من المنار في جواب (الأسئلة الجاوية) ، وهي خمسة أسئلة تتعلق بالسماع،
فذكرنا في جوابها أحاديث الحظر التي يستدل بها المحرمون مع تخريجها، وأدلة
الإباحة مع تخريجها، وخلاف العلماء في الغناء والمعازف (آلات الطرب)
وأدلتهم. ثم بحثنا في السماع من جهة القياس الفقهي ومن جهات أخرى، وكان
حاصل الجواب:
(1) إنه لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء
وآلات اللهو يحتج به.
(2) ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه سمعوا
أصوات الجواري والدفوف بلا نكير.
(3) الأصل في الأشياء الإباحة.
(4) ورد نص القرآن بإحلال الطيبات والزينة وتحريم الخبائث.
(5) لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.
(6) كل ضار في الدين والعقل أو النفس أو المال أو العرض، فهو من
المحرم ولا محرم غير ضار.
(7) من يعلم أو يظن أن السماع يغريه بمحرم حرم عليه.
(8) إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
(9) إن تتبع الرخص والإسراف فيها مذمون شرعًا وعقلاً.
(10) إذا وصل الإسراف في اللهو المباح إلى حد التشبه بالفساق، كان
مكروهًا أو محرمًا.
فإذا اكتفى السائل بهذا الإجمال فيها، وإلا فليرجع إلى التفصيل في المجلد
التاسع من ص35 إلى 51 ومن 141 إلى 147.
وبما تقدم يستغنى عن جواب السؤال السادس، وإذا راجع التفصيل الذي
أشرنا إليه في مسألة السماع، يجد ما يشفي في مسألة تعليل الغزالي لتحريم نحو
المزامير والله أعلم.
__________(14/664)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
كلمات علمية عربية
أسوقها إلى المترجمين والمعربين [*]
(2)
السجيل Pumice stone: نوع من الحجر الخفيف الذي يمتص
الرطوبة، ويعرف بالإنكليزية بالاسم المذكور هنا، وأصله من مواد طينية
(أرضية) متحجرة تقذفها البراكين من جوفها، ومن هذه الحجارة تكونت بعض
الأراضي والجزائر كجزيرة ليباري (Lipari) وهي التي ألقيت على قوم لوط،
قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} (هود: 82) وكانت إذ ذاك
ملتهبة، ولما ألقيت على أصحاب الفيل كانت باردة ولكنها ملوثة بميكروب الجدري،
والظاهر أن الطير التي حملتها كانت تريد بناء أوكارها منها في الجبال أو غيرها،
فأخذتها من أمكنة كثر إلقاء جثث الموتى، فالجدري فيها لانتشار أوبئة هذا المرض
في الأزمنة القديمة انتشارًا مريعًا خصوصًا في زمن حادثة الفيل، فإنه كان منتشرًا
في البلاد المجاورة للبلاد العربية، ولكنه كان غير معروف فيها قبل هذا التاريخ،
ولما كانت السوائل المنتنة المعدية تسيل عادة من هذه الجثث امتصتها هذه الحجارة
التي يكثر وجودها في الجهات البركانية، حتى تشبعت منها، فأخذتها هذه الطيور
بعد نبش الأرض أو وجدتها من غير نبش (وربما كانت هذه الطيور جارحة)
فسقط منها بعض هذه الأحجار على أصحاب الفيل، فانتشر فيهم الجدري حتى
أهلكهم، وكان - على ما يقال - ذلك أول وباء من هذا النوع عرف في بلادهم،
وليعلم القارئ أن جثث الموتى بالجدري تبقى معدية مدة طويلة بخلاف غيره من
بعض الأمراض، فالظاهر أن ميكروبه (الذي لا نعرفه للآن) يعيش فيها بعد
التعفن مدة، ولا يموت بسرعة كغيره من الميكروبات المرضية الأخرى التي
تقتلها بإفرازاتها ميكروبات التعفن بسهولة. قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} (جماعات) (الفيل: 3) {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} (الفيل: 4) .
استطراد لا بأس به بمناسبة ذكر البراكين هنا؛ اعلم أنه كثيرًا ما يحدث من
الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير
كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سد ذي القرنين
المذكور في القرآن الشريف غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئًا من ثورة
بركانية خسفت به وأزالت آثاره، ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم
القيامة. أما قوله تعالى على لسان ذي القرنين {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ} (الكهف: 98) فمعناه أن هذا السد رحمة
من الله بالأمم القريبة منه؛ لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم
أن يفهموا مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه
إنما هو بفضل الله، ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السد
ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة لحظة واحدة أمام قدرة الله، بل
يدكها جمعاء دكًا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول؛ تنبيه تلك الأمم
على عدم الاغترار بمناعة هذا السد أو الإعجاب والغرور بقوتهم، فإنها لا شيء
يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم
القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت، كان وكان هذا السد موجودًا
دكه الله دكًا. وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى؛ كالزلازل إذا قدم
عهده، وكالثورات البركانية كما قلنا، وليس في الآية ما ينافي ذلك.
وأما قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} (الأنبياء: 96)
فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض كما يخرج الشيء المحبوس أو
المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ الفتح مجازًا شائع في اللغة ومنه قولك (فتحوا
البلاد) ، وقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 44) و {لاَ
تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} (الأعراف: 40) فلا الأشياء لها أبواب ولا السماء،
وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم، بل هم من كل حدب ينسلون، والغالب أن
المراد بخروجهم هذا خروج المغول (التتار) وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو
الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري، وناهيك بما فعلوه إذ ذاك
في الأرض بعد أن انتشروا فيها من الفساد والنهب والقتل والسبي، وقد ذكرنا ذلك
في مقالات (القرآن والعلم) في المجلد الحادي عشر من المنار.
أما ذو القرنين فالغالب أنه أحد ملوك اليمن الملقبين (بالأذواء) كذي يزن
وغيره وهم المعروفون للعرب، وقد كان لأهل اليمن مدينة عالية وحضارة كبيرة
وقوة جسيمة كانت مجهولة للأمم، وبدأ الباحثون الآن يقفون على شيء من آثارهم
حتى في غير بلادهم.
والراجح أن السد كان موجودًا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا بين مدينتي
دربند وخوزار Derbend & Khuzar، فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ
القدم يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة (بالسد) وبه موضع يسمى (باب
الحديد) ، وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب
(بجبل قاف) وقد كانوا يقولون: إن فيه السد كغيرهم من الأمم، ويظنون أنه في
نهاية الأرض وذلك بحسب ما عرفوه منها، راجع دائرة المعارف الإنكليزية فيما
يتعلق بكلمة (دربند) . ومن وراء هذا الجبل كان يوجد قبيلتان قديمتان تسمى
إحداها (آقوق) والثانية (ماقوق) ، فعربهما العرب (بيأجوج ومأجوج) ، وهما
معروفان عند كثير من الأمم واسمها بالإنكليزية Gog & Magog، وقد ورد
ذكرهما أيضًا في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في
الروسيا وآسيا. راجع تتمة هذا المبحث في (مقالات القرآن والعلم) . وقد اقتبسنا
بعض ما ذكر عن أستاذ المنار في بعض فتاويه، ولنرجع إلى ما كنا فيه:
الحرّيف: الحاد يلذع طعمه اللسان كالبصل والفلفل.
الرائب من اللبن معروف.
ثع الماء من الجرح: نضح.
النَّعرة Mole: الجنين الكاذب.
الجنطيانا Gentian: نبات خلاصته نافعة للمعدة.
(أمم الصبيان) : هي تشنجهم Infantile Convulsion.
الفرزجة Pessary: آلة توضع في المهبل لتعديل الرحم أو منع سقوطه.
المنفخة Insufflator: آلة لنفخ الدواء في الجروح وغيرها.
تحنَّك: دهن باطن الفم بالدواء.
السلاق Blepharitis: التهاب الجفون.
الارتكاض: حركة الجنين في الرحم.
الصفر: خليط من النحاس والقصدير Bronz.
الشبّه: خليط من النحاس والخارصين Brass.
الدُّوغ: اللبن بعد أخذه زبدة Caseinogen.
التصلب الشرياني: جمود الشرايين Sclerosis of Ariteries.
الدم البحراني: هو الشرياني.
بقر البطن: فتحه (شقه) .
الزكام Coryza.
الطبي: ثدي ذات الخف والظلف.
الجبيرة للكسر معروفة Splint.
الصماخ: فتحة الأذن Meatus.
الصهبة: احمرار الشعر.
الصنان: رائحة العرق الكريهة.
الصمام للقلب Valve: غشاء يسد فتحاته.
الغراء Glue معروف.
رسب Precipitated.
الغلصمة: اللهاة لحمة في الحلق معروفة Uvula.
الأغن: مؤنثه الغناء لمن يتكلم بأنفه.
الزغب: الريش الصغير.
أفرَخ الطائر وفرّخ.
الرُّوبة: خمير اللبن.
المُزَأبق Amalgam: كل خليط من الزئبق مع معدن آخر.
زات يزيت: دهن بالزيت.
أبَّر: لقح Fecundation.
الأبور: ما يؤبر به Pollen Powder.
السأسم: الأبنوس.
أثاث البيت: متاعه Furnitures.
مؤخر الرأس Occiput.
الأدرة: انتفاخ الخصية لالتهاب فيها.
الأراك: شجر المسواك.
الميزاب والمزراب بمعنى.
الصابون Soap.
اليافوخ Fonanel: ما لان في رءوس الأطفال.
المصل Serum: الماء الذي يبقى بعد تجمد الدم إذا وضع في وعاء.
الآنك: الرصاص الخالص.
البثرة Pustule.
سطع الماء: تبخر، وسطعت الرائحة: طارت وارتفعت.
والساطع: هو الغاز والهواء Gas.
بَزل: ثقب الميزل المثقب.
البراجم: رءوس السلاميات، والرواجم: ظهورها وبطونها.
البردة: التخمة.
البرود: هو الششم.
بزغ وشرط وحجم بمعنى.
الباسور Pile: زائدة في الشرج من انتفاخ الأوردة.
المبضع: مشرط صغير.
البطح: البسط Supination.
بط Punctute: ثقب.
بظر المرأة معروف Clitoris.
البلاط للأرض Floor معروف.
البلعوم المريء Oesophagus.
البنج Hyoscyamus.
الترياق Antidote: ما يبطل ضرر السم للجسم.
تهِم Putrefy: فسد.
الجدري Small Pox: داء مشهور.
لفِطة Vesicle: نفاحة صغيرة ممتلئة ماء.
الأنبوب Tube: القصبة الجوفاء.
ذونبرات Dentated: ما له أسنان.
جمد Solidify.
العروق Vessels.
حفر الأسنان: داء بها Caries.
حف رأسه: نتفه.
الحقب: احتباس البول Retention.
النُّوَّارة Flower: الزهرة.
قدم رَحّاء Flat - Foot: ليس بها خمص Not arched.
الخمص: ارتفاع باطن القدم.
النغف Larvae: حينما تكون الحشرات كالدود بعد خروجها من البيض قبل
تمام نموها.
الصُّعقر: البطارخ وهو بيض السمك.
البُوال Diabetes: الديابيطس أي كثرة التبول، وهو إما مائي أو سكري.
استمنى Masturbate: أنزل منيه بيده.
حيوانات قشرية أو صدفية Mollusca.
الجبن: الحالوم معروف.
الفُطر Fungus: الطحلب.
كَزَّ يَكُز: تشنج.
الكزاز Tetanus: مرض يحدث تشنجًا، وينشأ من ميكروب يوجد في
الطين.
البؤرة Focus: تستعمل في الطب بمعنى المركز أو المجمع؛ كمجمع
الأشعة أي: مكان اجتماعها في نقطة واحدة.
الجزيرة Beeftea: نوع من المرق.
البؤبؤ Pupil: إنسان العين.
الجيدار Ergot: دواء يمنع النزف.
الذراريح Cantharidis: الذباب الهندي.
الشيكران Conium: حب سام يشبه الكرويا.
المغناطيس Magnet: ما يجذب الحديد.
الكبابة Cubebs: حب معروف.
الكثيراء Tragacanth: نوع من الصمغ.
المغنيسا Magnesia: أكسيد العنصر المسمى مغنيسيوم.
النعنع: النعناع Mint.
السعتر أو الصعتر Thyme.
خلاصة الشيح Santonin.
خلاصة الصفصاف Salici.
الحماق أو الجاورس: الجدري الكاذب Chicken Pox.
داء التنفط أو النملة Herpes: مرض جلدي يحدث بثورًا صغارًا.
البُرَّة: البثرة الخبيثة أو الجمرة Anthrax.
التقرح: التآكل Ulcerate.
الصفار (بالضم) Anoemia.
اليرقان Jaundice: احتباس الصفراء في الجسم.
السعفة والقوباء Eczema.
سَوّس تسويسًا: كثر سوسه.
نواع: حمى النافض Malaria.
(1) حمى الثاني Quotidian أو الورد.
(2) حمى الغب Tertian.
(3) حمى الرّبع Quartan.
السكتة Apoplexy.
الجذام Leprosy.
البهق Tinea: مرض جلدي.
العِرق المديني Eilaria Medinensis: دودة تسكن في جلد الإنسان.
شحم الحنظل Pulp.
البواب Pylorus: فتحة المعدة إلى الأمعاء.
الميل للجرح Director: آلة للجس.
الفؤاد Cardiac endof stomach: وهو في الاصطلاح طرف المعدة
من جهة القلب.
أقسام الأمعاء الصغيرة:
(1) الإثنى عشري Duodenum.
(2) الصائم Jejunum.
(3) اللفائفي Ileum.
الأعور Coecum: أول الأمعاء الكبيرة.
القولون Colon: الأمعاء الغلاظ الكبيرة.
المستقيم Rectum: آخر الأمعاء الكبيرة.
البطون Ventricles: التجاويف كتجاويف المخ.
الشريانات: الشرايين Arteries.
الباب Portal vein: اسم وريد مشهور.
الأجوف Cava: اسم وريد عظيم معروف.
الأضراس Molars.
الأربطة Ligaments للمفاصل معروفة.
العضل Muscle: اللحم الأحمر.
الوريد Vein: العرق الذي يجري فيه الدم الأسود.
العَصب Nerve: حبل أبيض في الجسم يحصل به الحس أو الحركة.
الحاف Sublingual vein: الوريد الذي تحت اللسان.
السلامى Phalanx: أحد عظام الأصبع.
اليبس Ankylosis: عدم تحرك المفاصل.
النواضح: الرواشح Filters.
النطع Palate: سقف الفم.
الاستحاضة Menorrhagia: زيادة فاحشة في دم الحيض.
الدماميل Boil: الدمامل.
تمتم في كلامه To slurr.
قائمة الزهرة: وهي ما فوق المبيض Style.
البُرعم Bud: زهرة النبات قبل أن تنفتح.
الكِم والكمامة Calyx: وعاء الطلع.
الخرز Beads معروف.
الإحليل Urethra: مجرى البول.
الحالب Ureter: ما ينقل البول من الكلية إلى المثانة.
النوشادر أو النشادر Ammonia.
الخرق Incomplete Hernie: الفتق غير الكامل.
العصابة ما يربط به الفتق Truss
الشبق شدة الغلمة أي شهوة الجماع.
النمش Lentigo: نقط بالجلد خلقية.
داء الضفدع Ranula: ورم كيسي تحت اللسان.
اللقوة: شلل عصب الوجه.
تغرغر بالغرغرة Gargle.
نتوء الرحم Prolapsed Uterus: الرحم البارد.
مدر البول Diuretic.
أسهل البطن: أطلقه.
أمسك البطن: قبضه.
الداحس Whitlow: التهاب الإصبع.
الكِمَاد والكُمُد Fommentations.
(البقية تأتي)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي - تابع لما سبق.(14/674)
الكاتب: محمد سعيد
__________
قانون الجامع الأزهر
والمعاهد الدينية الإسلامية [*]
(الباب الثامن)
في الميزانية والكتب ومراقبة الأوقاف والكساوى
(الفصل الأول)
في الميزانية
(المادة الرابعة عشرة بعد المائة)
تكون ميزانية الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى مستقلة ومنقسمة إلى
قسمين: الأول للإيرادات، ويكون شاملاً لبيانها بالتفصيل. والثاني لبيان
المصروفات نوعًا نوعًا.
ويعرضها شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى على
الحضرة الفخيمة الخديوية؛ للتصديق عليها.
* * *
(المادة الخامسة عشرة بعد المائة)
لا يجوز استعمال مبلغ مخصص لأمر معين في الميزانية لغير ما وضع
له؛ إلا بقرار من مجلس الأزهر الأعلى، وبشرط أن لا يحصل طلب ذلك قبل
حلول الشهر الخامس من السنة الدراسية.
* * *
(المادة السادسة عشرة بعد المائة)
يبطل توزيع بدل الكساوى بالطريقة التي كانت متبعة قبل صدور هذا
القانون، ويضم المبلغ إلى الميزانية.
وكذلك يضم إلى الميزانية كل مبلغ ينحل عن أولاد العلماء، وكل مبلغ
ينحل من مثمن الغلال القابل للانحلال.
* * *
(المادة السابعة عشرة بعد المائة)
لا يجوز الجمع بين راتبين مقررين في الميزانية ما عدا مرتب شيخ
الجامع الأزهر؛ بصفته أيضًا من كبار العلماء.
* * *
(المادة الثامنة عشرة بعد المائة)
يضع مجلس الأزهر الأعلى لائحة؛ لتقاعد الموظفين والمدرسين بالجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى، ويخصص في الميزانية المبلغ اللازم لذلك.
وكذلك يخصص فيها مبلغ لأولاد العلماء.
ويضع لائحة شاملة لبيان القواعد التي يجب مراعاتها في كيفية صرف
المرتبات وبقية المصروفات المقررة في الميزانية، وبيان الجهة التي تكون
فيها النقود، وبيان أوامر الصرف واستماراته وغير ذلك من القواعد المختصة
بتنفيذ الميزانية، وضبط حساباتها طبقًا لما هو مدون بالمواد السابقة.
* * *
(الفصل الثاني)
في الكتب وفي لجنة الكتب
(المادة التاسعة عشرة بعد المائة)
لا يتقيد طلب العلم في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى بكتب مخصوصة
ولكن يجب التصديق على ما يدرس منها من مجلس الأزهر الأعلى.
ويجب أن لا يدرس في أي معهد كتاب لم يكن مقرًا على تدريسه في
المعاهد الأخرى، وأن تكون كتب الدراسة واحدة في جميع المعاهد.
* * *
(المادة العشرون بعد المائة)
تمنع قراءة التقارير بالأزهر والمعاهد الأخرى منعًا باتًّا، ولا يجوز
قراءة الحواشي إلا في القسمين الثانوي والعالي بعد إقرار المجلس الأعلى.
* * *
(المادة الحادية والعشرون بعد المائة)
يؤلف مجلس الأزهر الأعلى لجنة من أربعة من أعضائه برياسة شيخ
الجامع الأزهر؛ لفحص الكتب التي يقدمها مؤلفوها، وتقرير ما تستحقه من
المكافأة.
ويضم إليها شيخا معهدي الإسكندرية وطنطا، واثنان يختاران من كبار
علماء الفن المؤلف فيه الكتاب؛ إن كان موضوعه علمًا من العلوم المختصة
بها هيئة كبار العلماء.
فإن كان موضوع الكتاب علمًا من العلوم الحديثة، ضم إليها اثنان كذلك
من الاختصاصيين في هذا العلم.
* * *
(المادة الثانية والعشرون بعد المائة)
يخصص مبلغ سنوي لا يقل عن خمسمائة جنيه؛ لإيجاد جوائز لا يقل
مبلغ الواحدة منها عن عشرة جنيهات ولا يزيد عن مائة، تعطى لمن يؤلفون
كتبًا في العلوم التي تدرس بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، يتقرر نفعها
طبقًا لما هو مدون في المواد الآتية:
* * *
(المادة الثالثة والعشرون بعد المائة)
على لجنة مكافآت الكتب أن تلاحظ في تقرير نفعها ما يأتي:
أولاً - أن لا يكون الكتاب مخالفًا للعقائد الدينية، وأن تكون عبارته
علمية خالية من التعقيد.
ثانيًا - أن يكون ترتيبه وتبويبه مطابقًا لمقتضى قواعد التعليم من دون
تشويش ولا اضطراب.
ثالثًا - أن لا تقرر مكافأة على كتاب ترى فائدة من تدريسه، إذا كان
مخالفًا في ترتيبه وتبويبه بوجه عام للكتب التي سبق تقرير مكافأة عليها وتقرر
تدريسها.
* * *
(المادة الرابعة والعشرون بعد المائة)
تفضل كتب فقه المذهب الواحد، إذا اتفقت مع كتب المذاهب الأخرى في
التبويب والترتيب دون غيرهما مما سبق تقرير مكافأة عليه.
* * *
(المادة الخامسة والعشرون بعد المائة)
يجوز تقرير مكافأة لمؤلفي كتب يتقرر نفعها للجامع الأزهر والمعاهد
الأخرى بوجه عام، ولو لم تخصص للتدريس.
* * *
(المادة السادسة والعشرون بعد المائة)
للجنة أن تضع نموذج ترتيب الكتب التي ترى نفعًا من تأليفها، وتوضح
مضامينها العامة، وتنشرها للكافة لينسجوا على منوالها.
ولمجلس الأزهر الأعلى أن يكلف اللجنة بوضع نماذج الكتب التي يرى
تأليفها والنشر عنها.
* * *
(الفصل الثالث)
في مراقبة نظارة الأوقاف
(المادة السابعة والعشرون بعد المائة)
لمجالس الإدارة مراقبة نظارة الأوقاف؛ فيما هو مخصص من ريعها للجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى.
ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى ولمجالس الإدارة
ومجلس الأزهر الأعلى عند الاقتضاء؛ أن يأمر بمقاضاتهم للحصول على حقوق
الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وذلك بدون إخلال بما لديون الأوقاف العمومية
من الحقوق والاختصاصات المقررة في اللوائح والقوانين.
* * *
(المادة الثامنة والعشرون بعد المائة)
يؤلف مجلس الأزهر الأعلى لجنة؛ لفحص حجج الأوقاف التي للجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى فيها مرتبات حالاً أو مآلاً من أي نوع كانت،
وحصرها في دفتر خاص، والنظر في طريقة توحيد المرتبات.
وكذلك تنظر بالاتفاق مع مدير عموم الأوقاف فيما يخص العلماء في
الجامع الأحمدي وغيره من صناديق النذور وطريقة صرفه.
* * *
(المادة التاسعة والعشرون بعد المائة)
تختص اللجنة المذكورة أيضًا بالنظر في إبدال الجرايات بنقود، ووضع
القواعد التي يترتب بمقتضاها البدل النقدي لمن يستحقه من الطلبة والعلماء
بشرط عدم مخالفة شروط الواقفين، بحيث لا يحرم واحد من هذا البدل أن لو
كان يستحق الجراية.
* * *
(المادة الثلاثون بعد المائة)
يأخذ شيخ الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى رأي مجالس
الإدارة في نتيجة أعمال اللجنة قبل أن تقررها، ثم يقدمها بعد الإقرار عليها
إلى مجلس الأزهر الأعلى، وما يتقرر منه في ذلك يعرض على الحضرة
الفخيمة الخديوية؛ للتصديق عليها بإرادة سنية.
* * *
(المادة الحادية والثلاثون بعد المائة)
متى تقرر إبدال الجراية بنقود، يستمر صرف ما يترتب منها شهريًّا
طول السنة.
* * *
(الفصل الرابع)
في كساوى التشريف
(المادة الثانية والثلاثون بعد المائة)
يضع مجلس الأزهر الأعلى الشروط اللازم توفرها في العلماء؛ لنيل
كساوى التشريف العلمية، ويصدر بذلك إرادة سنية.
* * *
(المادة الثالثة والثلاثون بعد المائة)
تمنح كساوى التشريف للعلماء غير الموظفين في المصالح الأميرية
بإرادة سنية، بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر
الأعلى بعد إقرار المجلس المذكور.
وأما بالنسبة للموظفين في المصالح الأميرية؛ فإن تقرير استحقاقهم
للكساوى المذكورة ومنحها لهم، يكون بناء على طلب رؤساء الدواوين
التابعين لها بعد أخذ رأي شيخ الجامع الأزهر.
* * *
(المادة الرابعة والثلاثون بعد المائة)
لا تمنح كسوة التشريف لغير العلماء الحائزين لشهادة العالمية، ويستثنى
من ذلك القضاة الشرعيون.
* * *
(المادة الخامسة والثلاثون بعد المائة)
تقرير كساوى التشريف المظهرية، ومنحها يكون بمحض إرادة الحضرة
الفخيمة الخدوية بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر.
* * *
(الفصل التاسع)
أحكام عمومية
(المادة السادسة والثلاثون بعد المائة)
العالم هو من بيده شهادة العالمية.
وكذا كل من ثبت له هذا اللقب قبل العمل بهذا القانون بالتطبيق لنصوص
القوانين السابقة أو بالقدم.
* * *
(المادة السابعة والثلاثون بعد المائة)
تبيّن أسماء العلماء المنوه عنهم في الفقرة الثانية من المادة السابقة في
اللائحة الداخلية، مع إيضاح القوانين التي حازوا هذا اللقب بناء على ما دون
فيها.
* * *
(المادة الثامنة والثلاثون بعد المائة)
يجب أن تراعى شروط الواقفين في جميع ما تقرره مجالس الإدارة
ومجلس الأزهر الأعلى.
* * *
(المادة التاسعة والثلاثون بعد المائة)
يضع مجلس الأزهر الأعلى لائحة؛ لنظام إدارة المكاتب التحضيرية
التابعة للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى والكتاتيب.
وكذلك يضع اللائحة الداخلية العمومية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.
* * *
(المادة الأربعون بعد المائة)
يضع مجلس إدارة الأزهر النظامات الخصوصية لطلبة الأروقة
والحارات وغيرهم ممن لهم نظامات أو قوانين خاصة بهم.
ويجب على كل حال أن لا تخرج تلك النظامات الخصوصية، كما تجب
مراعاته في الجامع الأزهر من النظام العام بمقتضى هذا القانون.
* * *
(المادة الحادية والأربعون بعد المائة)
يقرر مجلس الأزهر الأعلى ترتيب درجات المدرسين والموظفين،
وكيفية تعيينهم وترقيتهم، وتصدر بذلك إرادة سنية.
* * *
(المادة الثانية والأربعون بعد المائة)
تشتمل اللائحة الداخلية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى على البيانات
والقواعد اللازم مراعاتها في تنفيذ هذا القانون بما لا يخالف نصًا من نصوصه
* * *
(المادة الثالثة والأربعون بعد المائة)
على مشايخ أقسام الجامع الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى أن يقدموا كل
سنة لشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى تقريرًا بما
وصل إليه ارتقاء التعليم المنوطة بهم إدارته، ومتضمنًا جميع ملاحظاتهم
ومقترحاتهم المختصة بالنظام والتعليم والمدرسين وبقية الموظفين.
ويرفع الجامع الأزهر إلى الحضرة الفخيمة الخديوية تقريرًا عامًّا عن
سير التعليم، ودرجة ارتقائه في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى.
* * *
(المادة الرابعة والأربعون بعد المائة)
ينظر مجلس الأزهر الأعلى في كل تعديل يراد إدخاله على هذا القانون
قبل عرضه على مجلس النظار.
* * *
(الباب العاشر)
في الأحكام الوقتية
(الفصل الأول)
في أحكام وقتية عامة
(المادة الخامسة والأربعون بعد المائة)
من بيده الآن شيء من المرتبات، ولم ينل وظيفة من الوظائف بالجامع
الأزهر والمعاهد الأخرى، بقي له مرتبه إلى أن ينحل عنه.
* * *
(المادة السادسة والأربعون بعد المائة)
المرتبات الشهرية أو السنوية التي كان أصلها من مرتبات الأزهر،
وخرجت منه بأوامر سابقة، على أن تبقى في أعقاب أربابها تعود للأزهر
متى مات واحد منهم بلا عَقِب.
* * *
(المادة السابعة والأربعون بعد المائة)
تنظر مجالس الإدارة في شؤون أولاد العلماء الذين يقبضون الآن مرتبات
عن آبائهم، فمن ثبت لها منهم أنه مشتغل بالعلم حق الاشتغال، أبقته على
مرتبه إلى أن يؤدي الامتحان طبقًا لنصوص هذا القانون، ومتى نال الشهادة
ودخل في صف العلماء، صار حكمه حكم حاملي الشهادات ويقطع مرتبه.
ومن لم يكن مشتغلاً أو لم يكن مواظبًا، وطلب منه الاشتغال أو المواظبة
ولم يشتغل قطعت مرتباته.
ويراعى في ذلك كله أقصى السن المقرر للدراسة.
ويجب التصديق من مجلس الأزهر الأعلى على ما تقرره مجالس الإدارة
في ما ذكر.
* * *
(المادة الثامنة والأربعون بعد المائة)
إذا مات أحد من أولاد العلماء الذين لهم مرتبات عن والدهم، وترك
أولادًا فلا حق لهم في شيء مما كان مرتبًا لأبيهم، ولو كانوا مشتغلين بطلب
العلم.
* * *
(المادة التاسعة والأربعون بعد المائة)
يبطل تمييز مخصصات الأزهر من حيث المرتبات إلى مال حكومة
ومال أوقاف، ولا يكون هناك بعد الآن مرتب جديد لعالم يبقى كله أو بعضه
لورثته إلا ما يتقرر بشأن ذلك في لائحة التقاعد المنصوص عليها في المادة
الثامنة عشرة بعد المائة من هذا القانون.
* * *
(المادة الخمسون بعد المائة)
العلماء الذين لا تسمح لهم وظائفهم أو أوقاتهم بالانقطاع للتدريس،
ويكون منوطًا بهم تدريس بعض العلوم مجانًا أو في مقابل مكافأة وقتية أو
مستمرة، يقرون على ما هم عليه بقدر الحاجة إليهم.
ولا يعين أحد منهم الآن بهذه الكيفية إلا للضرورة القصوى وبشرط
رضاء المصلحة التي يكون موظفًا فيها.
* * *
(الفصل الثاني)
في أحكام وقتية خاصة
(المادة الحادية والخمسون بعد المائة)
استثناء من النصوص السابقة تطبق الأحكام الآتية على طلبة الجامع
الأزهر المنتسبين فيه وقت وجوب العمل بهذا القانون.
* * *
(المادة الثانية والخمسون بعد المائة)
العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر للطلبة الموجودين به وقت وجوب
العمل بهذا القانون، ماعدا طالبي الانتساب في السنة الأولى الذين يقبلون
بالتطبيق لنصوصه هي الآتية:
أولاً - العلوم الدينية وهي؛ الفقه وحكمة التشريع والتوثيقات الشرعية
وأصول الفقه والتفسير والحديث ومصطلح الحديث والسيرة النبوية والأخلاق
الدينية والتوحيد.
ثانيًا - علوم اللغة وهي؛ النحو والوضع والصرف والمعاني والبيان
والبديع والعروض والقافية والخط والإملاء والإنشاء.
ثالثًا - العلوم الرياضية وغيرها وهي؛ المنطق وآداب البحث والحساب
والجبر والجغرافيا والتاريخ ومبادئ الهندسة.
يخصص مجلس إدارة الجامع الأزهر لكل سنة العلوم التي تدرس فيها،
والمدرسين الذين يدرسونها، ويضع جدولاً بأوقات الدروس وعددها في كل
يوم، ويراعى في ذلك تخصيص أوسع الأوقات؛ لتدريس العلوم الدينية،
وكذلك يرتب الطلبة في السنين باعتبار السنوات التي يكونون قضوها في طلب
العلم إلى وقت وجوب العمل بهذا القانون، ويجوز له بناء على طلب يقدم من
الطالب نفسه أن يضعه في سنة أدنى من السنة التي يجب وضعه فيها؛ طبقًا
لهذه القاعدة.
* * *
(المادة الرابعة والخمسون بعد المائة)
يعين مجلس الإدارة من بين العلماء المدرسين بالجامع الأزهر من يكل
إليهم تفقد سير التدريس وانتظام الطلبة، وله أن يعفيهم من جميع الدروس
المكلفين بها أو من بعضها.
وذلك بدون إخلال بوسائل المراقبة الأخرى.
* * *
(المادة الخامسة والخمسون بعد المائة)
على العلماء المعينين لمراقبة التدريس وانتظام سير الدروس أن يتعهدوا
الطلبة وقت تلقيهم إياها، ويقدموا لمجلس الإدارة في كل خمسة عشر يومًا
تقريرًا؛ بما يتبين لهم من حالة التدريس وانتظام الدروس في أوقاتها، وقيام
المدرسين والطلبة بما هو واجب عليهم.
* * *
(المادة السادسة والخمسون بعد المائة)
على مجلس الإدارة أن يتخذ جميع الوسائل المؤدية إلى ما يراه نافعًا
للتدريس من الوسائل التي يشير بها المراقبون أو التي يستنبطها من تقاريرهم.
* * *
(المادة السابعة والخمسون بعد المائة)
يخصص مبلغ في الميزانية لشراء ما يلزم من أدوات الدراسة والكتب؛
لتصرف إلى الطلبة الفقراء مجانًا.
ولا يعطى لواحد منهم من الكتب إلا ما هو مقرر تدريسه بحسب السنين.
* * *
(المادة الثامنة والخمسون بعد المائة)
تمتحن الطلبة في كل سنة بمعرفة أساتذتهم تحت ملاحظة المراقبين ومن
يعينه مجلس الإدارة لمساعدتهم في ذلك، ويقدم كل مدرس كشفًا بنتيجة
امتحان طلبته لمشيخة الأزهر.
* * *
(المادة التاسعة والخمسون بعد المائة)
يكون امتحان التلامذة السنوي في الكتب وفي المقادير المقرر تدريسها
في السنة.
* * *
(المادة الستون بعد المائة)
النهاية الكبرى لدرجات الامتحان السنوي عشرون والصغرى اثنا عشر،
وكل طالب لم ينل النهاية الصغرى في كل علم من العلوم يعتبر ساقطًا.
* * *
(المادة الحادية والستون بعد المائة)
يترتب على سقوط الطالب في الامتحان السنوي عدم الترخيص له
بحضور دروس السنة التالية.
وعليه أن يؤدي الامتحان مرة ثانية في نهاية السنة الثانية، فإذا لم ينجح
أيضًا محي اسمه من سجلات الأزهر.
وإن نجح جاز له تلقي دروس السنة التي تلي سنته.
ولا يجوز أن يتكرر ذلك من ثلاث مرات لطلبة قسم شهادة الأهلية، ولا
أكثر من مرتين لطلبة قسم شهادة العالمية.
* * *
(الفصل الثالث)
في امتحان الشهادات
(المادة الثانية والستون بعد المائة)
ينقسم امتحان الشهادات إلى قسمين:
القسم الأول يكون بعد مضي ثمان سنوات على الأقل وإحدى عشرة سنة على
الأكثر من وقت الانتساب بالجامع الأزهر، ويكون في الفقه والتوحيد والمعاني
والبيان والبديع والنحو والصرف، وشيء من التفسير والحديث والسيرة النبوية،
والحساب والخط والإملاء والإنشاء.
والثاني بعد مضي اثنتي عشرة سنة على الأقل وسبع عشرة سنة على
الأكثر من التاريخ المذكور أيضًا، ويكون في جميع العلوم المبينة في المادة
الثانية والخمسين بعد المائة.
والامتحان واجب على كل طالب قضى في الأزهر إحدى المدتين
المذكورتين، مع مراعاة ما هو منصوص عليه في المادة السابقة والمادة
الثالثة والخمسين بعد المائة.
* * *
(المادة الثالثة والستون بعد المائة)
من نجح في الامتحان المنصوص عليه في الفقرة الأولى من المادة
السابقة، يعطى شهادة تسمى - شهادة الأهلية - وهي تؤهله لأنْ يستمر في
الدراسة إلى أن ينال شهادة العالمية، مع مراعاة ما هو مدون في المادتين
الثانية والستين بعد المائة والسادسة والستين بعد المائة.
وكذلك يكون أهلاً للتعيين في الوظائف المنصوص عليها في المادة
التاسعة والخمسين، مع مراعاة نص المادة السادسة والستين بعد المائة.
***
(المادة الرابعة والستون بعد المائة)
من نجح في الامتحان النهائي ينل شهادة العالمية، وتؤهل الشهادة
المذكورة لما هو منصوص عليه في المادة الستين، مع مراعاة نص المادة
السادسة والستين بعد المائة.
* * *
(المادة الخامسة والستون بعد المائة)
إذا أقام طالب أقصى المدة المحددة لأي قسم من القسمين المذكورين في
المادة الثانية والستين بعد المائة، ولم يحصل على شهادة هذا القسم يمحى
اسمه من السجلات، وتقطع مرتباته التي كانت له بمقتضى كونه منتسبًا.
* * *
(المادة السادسة والستون بعد المائة)
طلبة الامتحان لنيل الشهادة الأهلية والعالمية الذين أتموا دراسة السنة
الرابعة عند وجوب العمل بهذا القانون، يعافون من الامتحان في مواد الإنشاء
والآداب البحث وتقويم البلدان والتاريخ والهندسة والتوثيقات الشرعية، إلا إذا
رغبوا الامتحان على مقتضى ما هو منصوص عليه في هذه الأحكام الوقتية.
وأما الطلبة الذين انتهت مدة دراستهم بالجامع الأزهر والجامع الأحمدي
قبل وجوب العمل بهذا القانون، فيعافون أيضًا من الحساب والجبر.
ومن أدى الامتحان على مقتضى هذه الأحكام الوقتية، يفضل على غيره.
* * *
(المادة السابعة والستون بعد المائة)
تلغى القوانين والأوامر والإرادات السنية المبينة بالملحق المرفق بهذا
القانون.
* * *
(المادة الثامنة والستون بعد المائة)
على رئيس مجلس نظارنا تنفيذ هذا القانون، ويتم العمل بجميع نصوصه
في أول السنة الدراسية المتداخلة في سنتي 1329 - 1330 (1911 -
1912) صدر بسراي رأس التين في 14 جمادى الأولى سنة 1329 (13
مايو سنة 1911) .
... ... ... ... ... ... ... ... عباس حلمي
... ... ... ... ... ... ... ... بأمر الحضرة الخديوية
... ... ... ... ... ... ... ... رئيس مجلس النظار
... ... ... ... ... ... ... ... محمد سعيد
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء الأول (ص 601) .(14/681)
الكاتب: محمد سعيد
__________
ملحق بقانون الجامع الأزهر
والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية
النصوص الملغاة
23 ذي القعدة سنة 1288 (3 فبراير سنة 1872) إرادة سنية بإنفاذ
قانون التدريس.
7 جمادى الثانية سنة 1302 (24 مارس سنة 1885) قانون امتحان
من يريد التدريس بالجامع الأزهر.
7 محرم سنة 1303 (15 أكتوبر سنة 1885) قرار من مجلس النظار
بضبط أعداد أهل الجامع الأزهر، والشروط المعتبرة في شأن التبعية وكيفية
ما يجري في ذلك.
6 جمادى الأولى سنة 1305 (3 يناير سنة 1887) أمر عال شامل
لقانون امتحان التدريس.
7 رجب سنة 1312 (3 يناير سنة 1895) إرادة سنية بتشكيل مجلس
إدارة الأزهر.
21 رجب سنة 1312 (17 يناير سنة 1895) أمر كريم شامل لقانون
امتحان من يريد التدريس بالجامع الأزهر.
6 محرم سنة 1313 (29 يونية سنة 1895) قانون صرف المرتبات
بالجامع الأزهر.
17 شعبان سنة 1213 (أول فبراير سنة 1896) قانون كساوى
التشريف.
20 محرم سنة 1413 (أول يولية سنة 1896) قانون الجامع الأزهر.
2 صفر سنة 1326 (5 مارس سنة 1908) قانون الجامع الأزهر وما
شاكله من المدارس العلمية الدينية الإسلامية (قانون نمرة 1 سنة 1908) .
22 محرم سنة 1327 (20 فبراير سنة 1909) إرادة سنية بإيقاف
العمل مؤقتًا في الأزهر بالنظام الجديد والرجوع إلى قوانين سنة 1312 وسنة
1324.
4 شوال سنة 1327 (15 أكتوبر سنة 1909) إرادة سنية بالموافقة
على إعادة العمل بمقتضى قانون سنة 1326 تدريجًا.
23 رمضان سنة 1328 (27 سبتمبر سنة 1910) إرادة سنية
باعتماد نظام مؤقت للسير على موجبه بالجامع الأزهر في السنة التي تبتدئ
من 11 شوال سنة 1328 هجرية.
__________(14/693)
الكاتب: أمين المعلوف
__________
الكوليرا [*]
كثر تحدث الناس هذه الأيام بالكوليرا ولا غرابة في ذلك؛ لأنها من أشد
الأمراض فتكًا بالبشر، وقد صارت منا على قاب قوسين أو أدنى، فرأيت أن أكتب
شيئًا عنها معولاً في ذلك على أحدث ما كتب في هذا الموضوع، وأقتصر على ذكر
ما يهم معظم القراء معرفته من تاريخ هذا الداء وانتشاره وأسبابه وعدواه وأعراضه
وتشخيصه والوقاية منه، وأحاول أن أوضح ذلك كله أيضًا بأسلوب يفهمه جمهور
القراء.
(أسماؤها)
لهذا الداء على حداثة العهد به في الأنحاء الغربية من المعمورة أسماء كثيرة
أشهرها الكوليرا، وهي لفظة يونانية منحوتة من كلمتين معناهما جريان الصفراء،
وقد أطلقها أطباء اليونان قديمًا على الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب،
وهي شبيهة جدًّا بالكوليرا الأسيوية، وسببها في الغالب خلل في الهضم، وربما
كان بعضها ناشئًا عن مكروبات لا تزال مجهولة.
وأهم أعراضها القيء والإسهال، وقد تنتهي بالموت، فيتعذر حينئذ تمييزها
عن الكوليرا الأسيوية بغير الفحص البكتيريولوجي، ومن هذا القبيل حادثة باب
الشعرية والحوادث الأخرى التي اشتبه فيها أطباء الصحة والكورنتينات، فلم
يجزموا بصحة التشخيص قبل الفحص البكتريولوجي، وحسنًا فعلوا بالرغم من انتقاد
بعض الكتاب؛ لأن التمييز بين هذين الدائين قد يستحيل بغير هذا الفحص،
علاوة على أن المسؤولية الكبيرة التي تلقى على هؤلاء الأطباء تجعلهم شديدي الحذر
والريب.
وقد غلب اسم الكوليرا على هذا الداء الوافد الخبيث، ولكن الأطباء يميزون
بين الداءين بقولهم كوليرا أسيوية أو وافدة أو هندية وكوليرا منفردة أو محلية،
ويراد بالكوليرا المنفردة الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب؛ لذلك أطلق
بعض أطبائنا اسم الهيضة الوافدة أو الأسيوية على الداء المعروف بالكوليرا
الأسيوية عند الإفرنج، وهي تسمية عربية صحيحة.
ومن أسمائها الهواء الأصفر، وهو أكبر شيوعًا في الشام منه في مصر،
ولعله سمي بذلك في أوائل القرن الماضي؛ لاعتقاد الناس في تلك الأيام أن منشأه
تغيره في الجو أو الهواء.
(تاريخها ومنشؤها)
لم تكن الكوليرا معروفة عند أطباء اليونان والعرب، ولم يذكر التاريخ أنها
تجاوزت حدود الهند وبعض الجزر المجاورة لها قبل أوائل القرن الماضي. وهي
قديمة جدًا في الهند، ذكرها كتابهم منذ أكثر من ألفي سنة. ولم يذكر مؤلفو العرب
في ما أعلم شيئًا عنها، فليست الهيضة كما مر ولا هي الوباء، ويراد به الطاعون
في المؤلفات العربية طبية كانت أو تاريخية، على أن لفظة الهيضة شبيهة جدًّا
بلفظ (هيجة) وهي اسم الكوليرا بلغة الهند، فهل أخذ أطباء العرب هذه اللفظة عن
الهنود أو هو أصلي في العربية؟ تلك مسألة تستحق البحث والنظر.
وقد كان أول عهد الإفرنج بالكوليرا في أوائل القرن السادس عشر أي بعد
دخول البرتغاليين والإنكليز إلى الهند، على أنها لم تحول أنظارهم إليها حينئذ؛
لأنها كانت مستقرة هناك شديدة الفتك والانتشار، فلما كانت سنة 1817 انتشرت
انتشارًا هائلاً في الهند، وفتكت بأهلها فتكًا ذريعًا، ثم أخذت في الانتقال حتى بلغت
الصين واليابان شمالاً وجزر المحيط الهندي جنوبًا، وسارت غربًا فدخلت بلاد
إيران إلى أن وصلت سنة 1823 إلى بر الأناضول وشمال سورية ثم توقف سيرها،
ولم تتجاوزهما إلى أوربا ولا إلى الحجاز أو مصر.
ثم حدثت وافدة أخرى سنة 1830، ففشت الكوليرا في بلاد أفغانستان وإيران،
ودخلت روسيا عن طريق استراخان، وأخذت تنتشر في أوربا فبلغت ألمانيا
وفرنسا والنمسا وأسبانيا، ووصلت إلى بلاد الإنكليز سنة 1831، وانتقلت من
أوربا إلى أميركا ولم يتقلص ظلها عن أوربا قبل سنة 1839، وأما في المملكة
العثمانية فقد كان انتشارها هائلاً، دخلت الحجاز عن طريق العراق وانتقلت إلى
الشام ومصر وشمال أفريقيا، وكان ذلك سنة 1831، وهي أول مرة عرف فيها
هذا الداء في الحجاز ومصر والأماكن التي لم يدخلها قبلاً في الشام.
ثم أخذت الوافدات تتوالى بعد ذلك فكان عددها كلها في مصر تسع وافدات
وهي؛ وافدة 1831 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1838 جاءتها من أوربا،
ووافدة سنة 1848 فشت أولاً في طنطا ولا يعلم من أين جاءتها، ووافدة سنة
1850 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1855 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة
1865 فشت في البلاد بعد رجوع الحجاج وكانت أشدها فتكًا، ووافدة سنة 1883
فشت أولاً في دمياط ويظن أنها انتقلت إليها من الهند ووافدة سنة 1896 وفدت مع
الحجاج، ووافدة سنة 1902 وهي الأخيرة فشت في موشه من قرى الصعيد بعد
رجوع الحجاج، وعسى أن تكون هذه آخر الوافدات.
أما الحجاز فكان عدد الوافدات تسع عشرة وافدة أشدها فتكًا وافدة سنة 1865
وقد كانت أيضًا أشد وافدات الشام فتكًا.
والكوليرا متوطنة في الهند لاسيما في بنغال السفلى أي: وادي نهر الكنج،
فإنها مستقرة هناك لا تنقطع ألبتة. وهذه الأماكن التي تكون الأوبئة مستقرة فيها
كالطاعون والكوليرا تسمى في عرف الأطباء بؤر جمع بؤرة، وهي في اللغة
موضع النار، فاستعارها أطباؤنا لما يسميه الإفرنج Foyer أو Focus وهما
بمعنى البؤرة تمامًا أي: موضع النار، ويريد بهما علماء الطبيعيات نقطة تجمع
النور أو الحرارة، والأطباء نقطة تجمع الداء، وللطاعون بؤر كثيرة منها مصر
على زعم بعضهم. وللكوليرا ثلاث بؤر غير البؤر التي في الهند وهي؛ كانتون
وشنغاي وبانكوك، ويقال: إنها قلما تنقطع من هذه المدن الثلاث في أشهر الصيف،
على أن أهم بؤرة لها وادي الكنج كما مر.
وتشتد الكوليرا في بعض السنين لأسباب لا تزال غامضة، فتنتشر من البؤر
التي تكون مستقرة فيها وتنتقل من بلد إلى آخر. فليس الخوف منها هذه السنة لأنها
قريبة منا فقط، بل لأنها سريعة الانتشار على ما يظهر.
الطرق التي تدخل منها إلى الشام والحجاز ومصر ثلاث: طريق البحر
الأحمر، وطريق إيران والعراق وطريق أوربا. على أنها لم تدخل الحجاز إلا من
طريق البحر الأحمر مع الحجاج الهنود وطريق إيران والعراق.
***
(2)
(انتقالها)
تنتقل الكوليرا مع الناس فتسير في طرق المواصلة التي يسيرون فيها،
وسرعة انتقالها متوقف على سرعة انتقالهم، فقد كان سيرها بطيئًا قبل زمن سكك
الحديد والبواخر، أما الآن فهي سريعة الانتقال جدًّا. وتظهر غالبًا في المواني
البحرية أو الأماكن التي تحتشد فيها الناس؛ لإقامة المواسم والأسواق، لكن ذلك
ليس مضطردًا، فالوافدة الأخيرة التي فشت في هذا القطر كان ظهورها أولاً في
قرية من قرى الصعيد.
وهي غير منتظمة في سيرها، فقد تتخطى عدة أماكن على طرق المواصلة،
وتفشو في غيرها كما حدث سنة 1902، فإنها تخطت مدنًا كثيرة في صعيد مصر،
وفشت في حلفا، فإذا لا سمح الله دخلت القطر وفشت في الإسكندرية مثلاً، فقد
تظهر في مدينة من مدن الصعيد قبل ظهورها في القاهرة.
والعزلة تقي منها، فإن بعض الجزر في المحيط الهندي وغيره لم تدخلها
الكوليرا قط، وكذلك أستراليا ونيوزيلاندا وغرب أفريقية ومواضع كثيرة من
السودان، فإنها فتكت بالجيش المصري سنة 1896، لكنها لم تنتقل إلى الأماكن
التي كان العدو مقيمًا فيها لقلة المواصلة.
ويقال بالإجمال: إن السواحل البحرية والأماكن المطمئنة الرطبة على مقربة
من الأنهار والمزدحمة بالسكان أكثر تعرضًا لها من الأماكن المرتفعة الجافة مثل قرى
جبل لبنان والأماكن البعيدة عن النيل. وقد قيل لي: إنه حالما ابتعد الجيش
المصري عن النيل سنة 1896 وخيم في الصحراء قلت الإصابات كثيرًا بين
العساكر ثم انقطع الداء تمامًا.
والماء أعظم وسائل نقل الكوليرا، والأدلة على ذلك كثيرة، فمدينة بيروت
مثلاً لم تنتشر فيها الكوليرا منذ سنة 1875، مع أنها فشت بعد ذلك في مدن كثيرة
من مدن الشام كدمشق وطرابلس وغيرهما، وكانت تحدث إصابات في محجرها
وفي المدينة نفسها كلما فشت الكوليرا في القطر المصري أو غيره من البلدان
المجاورة، لكن الداء لم ينتشر فيها قط؛ لنظافة مائها وصعوبة تلوثه بخلاف دمشق
وحِمْص وحماة وطرابلس وغيرها من مدن الشام.
أما في القطر المصري، فيستبعد تلوث الماء الذي توزعه الشركات في
البيوت. والخوف ليس منه بل من استقاء الماء من الآبار والترع والنيل قرب الشاطئ
، أو من تلوث الآنية التي يوضع الماء فيها كالأزيار لاسيما هذه الأزيار القذرة التي
نراها على جوانب الشوارع في القاهرة، فإن زيرًا واحدًا من هذه الأزيار قد يكون
سببًا لهلاك مئة نفس إذا تلوث بجراثيم الداء. وقد فتكت الكوليرا سنة 1902 ببعض
أهل القاهرة، وكان عدد الجنود المصريين فيها نحو ثلاثة آلاف لم تحدث بينهم
إصابة واحدة؛ لأنهم عزلوا في ضواحي المدينة، واعتني اعتناءً تامًا بالماء الذي
كانوا يشربونه، وهذا كان شأن الجنود الإنكليزية فيها، وإنما أصيب منهم جندي أو
اثنان شربا ماءً في إحدى فهوات المدينة على ما أتذكر.
(سببها)
لم يكن سبب الكوليرا معروفًا قبل وافدتها التي فشت في مصر سنة 1883،
فانتدبت الحكومة الألمانية حينئذ لجنة رئيسها الدكتور كوخ، وأرسلتها إلى مصر
للبحث عن سبب هذا الداء، فاكتشف الدكتور كوخ في مبرازت المصابين وأمعاء
المتوفين منهم مكروبًا، ترجح له أنه مكروب الكوليرا، لكنه لم يجزم بذلك قبل أن
سافر إلى الهند موطن هذا الداء، ووجد المكروب نفسه في مبرازت المصابين هناك
أيضًا، فتحقق لديه أنه سبب الداء. ولكن هذا المكروب لم يستوف الشروط الأربعة
التي كان كوخ قد سبق فوضعها؛ ليثبت أن مكروبًا معلومًا يسبب مرضًا معلومًا،
ولكن الأدلة الأخرى كثيرة على أنه علة الكوليرا.
***
(3)
(مكروبها)
لقد مر بنا أن سبب الكوليرا نوع من المكروبات اكتشفه كوخ في مصر سنة
1883. وليس غرضي الآن البحث في هذا المكروب بحثًا علميًّا وافيًا، ولا ذكر
المشاحنات التي قامت بسببه، بل غاية ما أريد إيضاح شيء عنه لغير الأطباء؛
لأن الوقاية من الأمراض المعدية تقتضي معرفة ماهية المكروبات المسببة لها،
فأقول: المكروبات أحياء صغيرة جدًّا لا ترى بالعين المجردة أي: بغير الآلة
المعروفة بالمكرسكوب، ولشدة صغرها لا يقاس طولها وعرضها بالمقاييس المعتادة
بل بمقياس خاص بها يعرف بالمكرومليمتر أي المليمتر الصغير، وهو جزء من
ألف جزء من المليمتر أو جزء من مليون جزء من المتر، ويعبر عنه بالحرف
اليوناني الذي يقابل حرف الميم بالعربية، فلا بأس بالتعبير عنه بحرف الميم في
لغتنا، فيقال: إن مكروب التدرن مثلاً طوله ثلاث ميمات أي: ثلاثة أجزاء من
ألف من المليمتر. ومكروب الكوليرا نوع من هذه الأحياء الصغيرة، وهو أصغر
عن باشلس التدرن لكنه ليس أقل منه خبثًا، طوله من ميم ونصف إلى ميمين،
وعرضه نحو نصف ميم، فإذا فرضنا أننا وصلنا واحدًا منه بآخر وهذا بآخر وهلم
جرا، حتى يكون من هذه المكروبات حبل طوله مليمتر واحد فقط لاقتضى لذلك
خمسمائة مكروب على الأقل. وإذا وضعنا حبلاً من الحبال بجانب حبل آخر ثم
آخر بجانب هذا وهلم جرا، حتى تصير الحبال مليمتر مربع، لاقتضى ذلك مليون
ميكروب أي: أن مليونًا من هذه المكروبات الواحد منها بجانب الآخر لا تزيد
مساحة سطحها على مليمتر مربع. فتأمل كم يكون عددها في المليمتر المكعب أو
في زير من أزيار الماء في بركة أو صهرج، وكم يعلق منها على أصبع واحدة إذا
تلوثت ببراز المصابين. فمتى عرفنا ذلك سهل علينا أن نفهم كيف يتلوث الماء
بمكروب الكوليرا. فإذا فرضنا أن الواحد منا لمس مصابًا أو لمس ثيابه، وكان
على المصاب أو على ثيابه أثر من برازه؛ ثم على غير انتباه منه أخذ إناءً وغمسه
في زير الماء ليملأه منه، فإن الزير يتلوث بالمكروبات لا محالة. والمكروبات
سريعة النمو جدًا إذا وافقتها الأحوال، فلا تمضي بضع ساعات حتى يصير في
الزير ملايين منها. ومثلها لو فرضنا أن براز المصاب طرح في بركة ماء أو في
ترعة أو على شاطئ النيل، حيث يكون الماء بطيء الجري، أو لو غسلت ثياب
المصاب في هذه الأماكن أو طرحت فيها فإنها تتلوث بالداء، وتكون سببًا في انتقاله
من شخص إلى آخر.
أما شكل هذا المكروب فهو كالضمة العربية؛ لذلك يعرف عند بعضهم
بالباشلس الضمي، وقد يكون هلالي الشكل، وربما التصق اثنان منه فيصيران مثل
شكل حرف S الإفرنجي، وقد تتصل أفراد كثيرة منه فتصير خيوطًا كاللوالب
ومقر الباشلس في الأمعاء فقط، فإنه لم يعثر عليه في غيرها من أنسجة
الجسم، ولم ير إلا في محتوياتها، وقيل: إنه عثر عليه في القيء أحيانًا، على أن
ذلك نادر، وربما كان القيء في مثل هذه الأحوال مختلطًا بالبراز.
***
(كيفية إثبات الداء)
قلنا: إن مكروب الكوليرا يكون في الأمعاء بالبراز، فإذا اشتبه أطباء الصحة
بإصابةٍ، أخذوا شيئًا من هذا البراز وفحصوه بالمكرسكوب، فإذا كانت المكروبات
كثيرة جدًّا عثروا عليها حالاً وعرفوها ببعض الصفات الخاصة بها دون غيرها،
ويتفق أحيانًا أنهم لا يعثرون على شيء منها، فلا يكون ذلك دليلاً على أن الإصابة
المشتبه فيها ليست بالكوليرا أو أن المكروبات غير موجودة، فعدم رؤيتها ليس دليلاً
على عدم وجودها؛ لأنها قد تكون قليلة جدًّا، فلا يعثر عليها، فيلجؤون حينئذ إلى
الفحص البكتريولوجي القائم على المبدأ الآتي: وهو أن المكروبات تنمو في بعض
المواد كالجلاتين والمرق، ولها في نموها خواص يميز بها النوع الواحد منها على
غيره، فمتى نمت في هذه المواد كثرت جدًّا، وانفصل كل نوع منها على حدة
وعرف بهذه الخواص وبغيرها، ولكن هذا الفحص يستغرق بعض الزمن من ست
ساعات إلى يومين أو ثلاثة.
ثم إن مصلحة الصحة لا تكتفي بفحص براز المصابين فقط، بل تفحص
براز الذين اختلطوا بهم؛ خوفًا من وجود المكروب في أمعائهم قبل ظهور الداء فيهم؛
لأن بعض الأمور المختصة بهذا الداء لا تزال غامضة، ويظن أن بعض الناس
القادمين من الأماكن الموبوءة، قد يكون الداء كامنًا فيهم لا تظهر أعراضه. وربما
كان أمثال هؤلاء الناس سببًا لانتشار الوباء، وقد ثبت هذا الأمر في الحمى
التيفودية، فإن مكروبها قد يكون في أمعاء شخص غير مصاب بها، فينتقل منه إلى
شخص آخر، ويكون سببًا لإصابته بها.
***
(4)
(هل الباشلس الضمي وحده علة الكوليرا)
مما لا شبهة فيه أن الكوليرا مرض شديد العدوى، وأن للباشلس الضمي
علاقة كبيرة به، لكن ذلك ليس دليلاً على أن هذا الباشلس هو سببه الحقيقي، فإنه
لم يستوف الشروط الأربعة التي وضعها كوخ؛ ليثبت أن مكروبًا معلومًا يسبب
مرضًا معلومًا. والشروط هي هذه:
أولاً - يجب إثبات وجود المكروب في دم المصاب أو أنسجته.
ثانيًا - يجب زرع هذا المكروب خارج الجسم في منبت يصلح له، والحصول
على نبت خالص منه بعد أعقاب متوالية.
ثالثًا - إذا أدخل هذا النبت إلى جسم حيوان سليم، يجب أن يصيبه الداء
المذكور.
رابعًا - يجب إثبات وجود المكروب في جسم الحيوان الذي أدخل إليه أو في
أنسجته.
فمكروب الكوليرا قد استوفى الشرطين الأولين ولم يستوف الشرطين
الأخيرين استيفاء تامًّا؛ إذ لا بد لاستيفائهما من إيصال نبت خالص من المكروب
إلى الإنسان أو غيره من الحيوان وإصابته بالداء، وهذا لم يتم حتى الآن في بعض
حوادث. على أن العلاقة بين الباشلس الضمي وبين الكوليرا من الأمور الثابتة.
وغاية ما يهم الجمهور معرفته أن الكوليرا من الأمراض المعدية، وأن عدواها
تنتقل بالبراز، سواء كان هذا الباشلس هو سببها الحقيقي وحده أو كان له أعوان
يساعدونه على ذلك.
ولا بأس بذكر بعض الحقائق التي اتضحت بعد اكتشاف هذا الباشلس، وهذه
أهمها:
(1) اكتشفت أنواع كثيرة من الباشلس شبيهة بالباشلس الضمي في بنائها
ونموها أهمها: باشلس الهيضة الفردية، وباشلس اللعاب الضمي. ويرى كوخ
وأنصاره أن هذه الميكروبات وإن كانت شبيهة بالباشلس الضمي في بنائها، فهي
مختلفة عنه في نموها في المنابت المعروفة.
(2) شرب كثير من الباحثين نبتًا خالصًا من الباشلس الضمي على سبيل
التجربة، فأصيب بعضهم بإسهال خفيف، وعثر على الباشلس في برازهم، لكنه
لم يصب أحد منهم بأعراض تشبه أعراض الكوليرا الحقيقة إلا فيما ندر؛ لذلك
يرى بعضهم أن الباشلس الضمي ليس هو المكروب الحقيقي الذي يسبب هذا الداء
فرد قولهم بأنه لا بد من عوامل أخرى تساعد الباشلس الضمي على إحداث الكوليرا؛
كاستعداد الجسم أو اشتراك مكروب آخر لا يزال مجهولاً في العمل معه. ولا يخفى
أيضًا أن المكروبات إذا كرر زرعها ضعفت كثيرًا، فربما كانت المكروبات التي
جربت قد تلاشت قواها.
(3) حدثت إصابات لا تختلف في أعراضها عن الكوليرا قط، ولم يعثر
على الباشلس فيها بالرغم من شدة العناية في البحث عنه؛ لذلك يرى بعضهم أن
الكوليرا قد يكون سببها غير الباشلس المذكور. ورد قولهم بأن البحث في مثل هذه
الإصابات لم يكن وافيُا، وإن عدم العثور على الباشلس ليس دليلاً على عدم وجوده
(4) عثر على هذا الباشلس في براز أشخاص غير مصابين بالكوليرا،
ففسر بعضهم ذلك بأنه لا بد من استيفاء شروط أخرى للإصابة بهذا الداء، ولم تكن
هذه الشروط مستوفاة في هؤلاء الأشخاص.
(كيفية فعل الباشلس في إحداث الكوليرا)
قلنا: إن مقر الباشلس في الأمعاء فقط، وعلى فرض أنه سبب الكوليرا
الحقيقي، فأعراضها المعروفة ناشئة عن تهييج موضعي في الأمعاء وعن سم خاص
يفرزه الباشلس فيها ويمتصه الجسم، فيؤثر في بعض الأعصاب، ويحدث القيء
واعتقال العضلات وانقباض الأوعية الدموية على سطح الجسم والتهور الجليدي
والزرقة.
(مدة الحضانة)
يراد بالحضانة أو التفريغ الزمن الذي ينقضي بين التعرض للعدوى أو دخول
المكروب إلى الجسم وظهور أعراض الداء، فمدة الحضانة في الجدري مثلاً من
عشرة أيام إلى اثني عشر يومًا أي: أنه إذا دخل سليم على مصاب بالجدري
وانتقلت إليه العدوى، لا تظهر فيه أعراض الداء قبل مضي عشرة أيام إلى اثني
عشر يومًا. فمدة الحضانة في الكوليرا تختلف كثيرًا، وهي من بضع ساعات إلى
عشرة أيام، لكنها على الغالب من ثلاثة أيام إلى ستة أيام.
* * *
(5)
(الوقاية منها)
الوقاية من الكوليرا قسمان: وقاية عامة أو إدارية، وهي ما تتخذه الحكومة
من التدابير لمنع دخول الداء إلى البلاد أو انتشاره فيها. ووقاية خاصة أو شخصية
وهي ما يتخذه الأفراد من الوسائل التي تمنع انتقال العدوى إليهم.
(الوقاية العامة)
أهمها التدابير التي تتخذها الحكومة في المواني والثغور؛ لمراقبة القادمين من
الأماكن الموبوءة والحجر عليهم وعزل المصابين منهم، ومن التدابير الحجر
الصحي أو الكورنتينا، وكان يراد بها قديمًا الحجر أربعين يومًا على القادمين من
الأماكن الموبوءة بالطاعون.
وأول حكومة فعلت ذلك حكومة البندقية، فإنها أقامت محجرًا صحيًّا سنة
1403 في إحدى الجزر القريبة منها وقاية من الطاعون، ثم حذت الحكومات
الأخرى حذوها إلى أن فشت الكوليرا في أوربا سنة 1831، ففعلت مثل ذلك
لاتقائها، وما برحت تفعل ذلك إلى أن اتضح لبعضها أن هذا الحجر يعرقل التجارة
ويوقع البلاد في خسارة كبيرة، وأنه لم يكن كافيًا لدفع الوباء في كثير من الأحيان،
فأخذت الحكومة الإنكليزية تقلل من هذا التضييق على البضاعة والركاب، إلى أن
ألغت الحجر إلغاءً تامًّا سنة 1896، وسنت نظامًا خاصًا للسفن القادمة من الأماكن
الموبوءة.
وكانت الحكومات الأوربية تعقد المؤتمرات لدفع الأوبئة التي قد تدخل أوربا
من الشرق، وأول مؤتمر عقدته لهذه الغاية كان سنة 1852 وآخرها سنة 1897،
وهذا الأخير كان للبحث في أمر الطاعون فقط. وكانت نتيجة هذه المؤتمرات أن
الحكومات الأوربية عدلت عن التضييق الشديد على البضائع والركاب، واتخذ
بعضها التدابير المتبعة في بلاد الإنكليز، وبقي بعضها يضرب الحجر الصحي على
واردات الأماكن الموبوءة. فالحكومات التي لا تزال تضرب الحجر الحجر الصحي
هي الدولة العلية ومصر وحكومة اليونان وروسيا وأسبانيا والبرتغال. أما
الحكومات الإنكليزية فتضرب الحجر الصحي في بعض أملاكها فقط؛ ومنها قبرص
ومالطة وجبل طارق في البحر المتوسط، وتكتفي في موانيها الأخرى بمراقبة
القادمين فتحجر على السفن التي حدثت فيها إصابات مدة سفرها إلى أجل مسمى،
وتنقل المصابين إلى مستشفيات خاصة، ثم تطهر السفن وتراقب القادمين خمسة
أيام في منازلهم.
وأهم المؤتمرات التي عقدت في أمر الكوليرا مؤتمر البندقية سنة 1892،
وكان الغرض منه النظر في أمر دخول الكوليرا إلى أوربا بطريق السويس ,
ومؤتمر درسدن سنة 1893، وكانت الغاية منه البحث في انتشار الكوليرا في
البلدان الأوربية , ومؤتمر باريس سنة 1894 للنظر في أمر الكوليرا في زمن الحج،
وأهم هذه المؤتمرات مؤتمر درسدن، ولا يزال معمولاً بقرارته حتى الآن.
وللحكومة المصرية قانون خاص للمحاجر بوجه عام، وقانون آخر للحجر
الصحي في زمن الكوليرا، وهو مبني على قرارات مؤتمر درسدن وباريس،
وهاك ما يهم الجمهور الاطلاع عليه من مواد مؤتمر درسدن والقانون المصري:
أولاً - على الحكومات الموقعة لاتفاق درسدن أن يُعْلم بعضها بعضًا؛ متى
فشت الكوليرا في إحدى مقاطعاتها، وتواصل الأخبار عن سير الداء مرة في
الأسبوع على الأقل.
ثانيًا - تعد إحدى المقاطعات ملوثة متى أعلن رسميًّا حدوث إصابات فيها،
وتعد نظيفة متى مضت خمسة أيام لم تحدث فيها وفاة أو إصابة جديدة، واتخذت
التدابير لتطهير الأماكن الملوثة.
ثالثًا - تعد السفينة ملوثة متى كان أحد ركابها مصابًا بالكوليرا عند وصولها،
أو حدثت فيها إصابات قبل وصولها بسبعة أيام على الأكثر. وتعد مشتبهًا فيها متى
حدثت فيها إصابة قبل وصولها بسبعة أيام على الأقل , ونظيفة إذا لم تحدث فيها
إصابة أو وفاة بالكوليرا قبل سفرها وفي مدة السفر وبعد وصولها ولو كانت قادمة
من إحدى المواني الموبوءة. ويظهر أن مصلحة الصحة البحرية تعد الذين في
برازهم مكروب الكوليرا كأنهم مصابون بها، ولو لم تكن أعراض الداء ظاهرة فيهم.
رابعًا - تتخذ التدابير الآتية في معاملة السفن الملوثة:
يعزل الركاب المصابون ويبقى الآخرون تحت الحجر الصحي زمنًا لا يزيد
على خمسة أيام، وتطهر الأمتعة التي يرى رجال الصحة أنها ملوثة، ثم تطهر
السفينة.
أما السفن المشتبه فيها فتطهر، ويفرغ ماء الشرب منها ويستبدل بماء نظيف
ويستحسن الحجر على الركاب مدة لا تزيد على خمسة أيام بعد وصولهم. وقد
اشترطت الحكومة الإنكليزية أن لا يحجر على ركاب السفن الملوثة والمشتبه فيها،
بل يراقبون في منازلهم.
والسفن النظيفة يفرج عن ركابها حالاً، لكن الحكومة المصرية تراقب
القادمين من مواني البحر المتوسط في منازلهم ولو كانت سفنهم نظيفة.
خامسًا - جاء في القانون المصري أن ملابس المصابين القديمة والضمادات
الملوثة والأوراق والأشياء التي لا قيمة لها تتلف بالنار.
أما الملابس النظيفة وأدوات الفراش والأوراق ذات القيمة، فتطهر بفرن
خاص لذلك.
وجاء في مؤتمر درسدن أن الثياب القديمة والخرق وأدوات الفراش يمنع
دخولها أو تطهر. أما البضاعة فلا يجوز إتلافها عند تطهيرها، ولا يجوز تطهير
الرسائل والمطبوعات.
سادسًا - لا يحجر على الحيوانات، بل يفرج عنها حالاً بعد غسلها.
سابعًا - يجيز القانون المصري لمجلس الصحة البحرية أن يعد السفن
المزدحمة بالركاب الذين أحوالهم ليست على ما يرام؛ كأنها ملوثة أو مشتبه بها،
ولو لم تكن قادمة من أماكن موبوءة أو يكن أحد ركابها مصابًا بالكوليرا.
هذا أهم ما جاء في اتفاق درسدن والقانون المصري، ولم أر فيهما ذكرًا لمنع
الفاكهة، وهي المسألة التي تناولتها الجرائد هذه الأيام.
والمنصف لا يسعه في هذا المقام إلا الثناء على رجال الصحة البحرية؛ لما
يبذلونه من اليقظة والنشاط لوقاية البلاد من هذا الداء الوبيل، فإذا نجت البلاد منه
وستنجوا بإذن الله، يكون الفضل الأكبر في ذلك إليهم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور أمين المعلوف
__________
(*) مقال علمي طبي صحي للدكتور أمين المعلوف، نشره في المقطم.(14/694)
الكاتب: محمد بك رشدي
__________
الإسعافات الطبية الوقتية
للمصابين بالكوليرا
للدكتور محمد بك رشدي حكيمباشي محافظة مصر
الكوليرا مرض وبائي، يصل مكروبه للجسم بواسطة المياه والمأكولات
ولا تحصل العدوى به بواسطة الهواء، وعدواه من براز المصابين أشد،
وميكروبه ينمو ويتضاعف في الأقمشة المبلولة، وهذا يفسر شدة العدوى
بالملابس الملوثة بالمواد البرازية للمصابين وانتقالها بها.
ويتضاعف أيضًا وينمو في المأكولات: كاللبن والبيض والمرق والبطاطس
المسلوق والخبز واللحوم وكافة الخضر والشكولاتة والأشربة المسكرة والمربات،
وعلى سطح الأرض الرطبة، ويعيش حيًّا في البراز مدة 24 ساعة من التبرز،
ويعيش (في البرد) لغاية درجة تحت الصفر، إنما يكون بدون حركة ثم ينمو
بارتفاع الحرارة، وعلى ذلك فالبرد يضعفه والحرارة تقويه كسائر
المخلوقات الحيوانية والنباتية.
فمتى دخل ميكروب هذا المرض في البنية بواسطة الماء أو المأكولات،
تمضي مدة من الزمن قبل ظهور أعراضه المرجفة، ويسمى هذا الزمن بدور
التفريخ، ويختلف من ثلاثة إلى خمسة أيام، وهذا في الزمن لا يحس المصاب
بشيء، ثم بعده تظهر الأعراض المرضية، وتحصل منه العدوى ببرازه.
الأعراض:
يعرف هذا المرض في مدة انتشاره بتبرز وقيء متكررين، وظمأ شديد
وتناقص في البول أو فقده، وانطفاء الصوت، وآلام شديدة بسمانة الساقين،
وبتلون الجسم بلون أزرق خصوصًا الأظافر وغور الأعين، وانحطاط شديد
في القوى، وبرودة وقشعريرة، وتكون مواد البراز سائلة شبيهة بسائل غسيل
الأرز.
الأسباب:
من ضمن الأسباب التي تساعد على حصول هذا المرض؛ الاستعداد
الشخصي والتعب والحرمان وعدم النظافة وعسر الهضم.
ثم إن تركيب طبيعة الأرض له دخل في شدة انتشاره، فكلما كانت
الطبقات السطحية للأرض ذات مسام كثيرة كان الوباء أكثر شدة وبالعكس.
وعند حصول الإصابة، توجد جواهر دوائية توقف نمو ميكروبه وتميته
كمحلول الشب واحد على مائة، وعطر النعناع الفلفل واحد على مائتين، أو
حمض اللبنيك واحد على ثلاث مئة، أو حمض الليمون واحد على مائتين،
والحرارة تميته، فالملابس الملوثة بالماء المحتوي على ميكروب هذا المرض
إذا جففت في الحرارة الكافية للتجفيف، وبحثت فيما بعد بحثًا ميكروسكوبيًّا،
لا يوجد بها أثر ميكروب هذا المرض.
الوسائط الوقتية:
يجب على كل إنسان ظهرت الإصابة في جواره أن يتحاشى مخالطة
المصاب، ويسارع إلى استدعاء الطبيب من فوره؛ ليرشده إلى ما يلزم اتخاذه
من الوسائل لنجاة المريض وسلامة غيره من عدوى هذا الوباء.
ومن المعين الاستحمام يوميًا بماء طاهر أي: مرشح مغلي (بعد تبريده)
مع تجنب الاستحمام والوضوء والشرب من ماء النيل العكر؛ لما عسى أن
يكون فيه من ميكروب الداء، وتقصير الثياب بحيث لا تصل سطح الأرض؛
اتقاء لما يمكن أن يعلق بها من الميكروبات. ومن الملاحظات الجديرة بالعناية
وجوب خلع النعال وعدم الدخول بها في محالّ الجلوس أو الاستقبال، والامتناع
عن شرب الخمر من أي نوع كان؛ لأن شرب الخمر يعين على إضعاف
المعدة.
ويجتنب السهر الطويل والتعرض للبرد والاعتدال في الأكل وعدم
الإفراط فيه، ويحسن اجتناب المصافحة باليد مع غسل اليدين قبل الطعام
وبعده وقص الأظافر، ويتعين الامتناع عن أكل الخضر غير المطبوخة؛
كالجرجير والفجل والأسماك البحرية كأم الخلول والجنبري ونحوها، ويجتنب
أكل الفواكه غير الناضجة , وتطهر أطباق الأكل بوضع قليل من السبرتو النقي
بها وإشعالها إن لم يغسل بماء مغلي، ومراقبة الطهارة لعدم مسح الأطباق
بمناشفها القذرة. ويحسن أن لا يؤكل الخبز إلا بعد تجميره على النار أو على
لهب اسبيرتو، والامتناع من التدخين أو التقليل منه؛ لأنه يضعف المعدة
والقلب، ويجب غلي مياه الشرب طول مدة الوباء.
الإسعافات الأولية:
تنحصر تلك الإسعافات في مقاومة ثلاثة أعراض مهمة وهي: القيء
والإسهال وبرودة الجسم.
القيء: يقاوم القيء بتعاطي شراب الليمون المثلج أو منقوع النعناع
المثلج المحلى بالسكر أو شراب حمض اللبنيك.
كالمشروب الآتي:
حمض اللبنيك من 10 إلى 15 جرام، شراب السكر 90 جرام كؤلات
الليمون والنعناع 2 جرام , ماء مغلي 1000 جرام.
يؤخذ كل ساعة كأس.
الإسهال: يستعمل حقن شرجية من محلول الشب من 10 إلى 15 جرام
في الألف، تذاب في ماء مغلي، وتعمل الحقنة 3 مرات في اليوم.
برودة الجسم: الدلك بقطع من الصوف بعموم الجسم بعد غمسها بروح
الكافور، ووضع جملة زجاجات مملوءة بماء سخن حول الجسم بعد لفها
بالقماش، وتثبيت سدادتها جيدًا.
ثم يستدعى الطبيب في الحال لإجراء الوسائط الصحية اللازمة، وتتميم
العلاج بحسب حالة الأعراض.
فهذا ما كنا نشير باستعماله من الإسعافات الوقتية الأولية سنة 1896،
حينما كنت حكيمباشي باستبالية مديرية الفيوم، وظهرت فوائدها كما يثبت
الإحصاء ذلك، وقد رأيت أن أكتفي بذكر ما يمكن لغير الأطباء استعماله في
الإسعافات الوقتية لهذا المرض الوبيل، وقى الله البلاد شره إنه سميع مجيب.
__________(14/705)
الكاتب: هبة الدين الشهرستاني
__________
ميرزا علي محمد الباب
وادعاؤه النبوة
وردت من أحد المأمورين بشيراز رسالة تحاول إثبات المهدوية لميرزا
علي محمد بن أقارضا البزاز الشيرازي (مدعي البابية ومؤسس طريقتها)
وما اضطررت إلى الجواب عنها إلا من شدة إصرار مرسلها , ومن اقتحام
بعض الصحف المصرية في أمرهم على العمياء، وتوصيفهم عن غير دراية،
وتقريب العقول الناقصة من شبايك كيدهم.
إني لم أر بعد النظر في أدلة تلك الرسالة دليلاً يكتسب من الأنظار أدنى
أهمية، ولا وجدت قياسًا في كتابه روعيت فيه أصول الاحتجاج غير حجة
واحدة، سنجعلها مدار البحث ومحوره، حيث تناسب أبحاثنا في النبوة ... بيد
أن الكاتب من لباقته وشطارته أبرز تلك الحجة الواحدة في كسوة الحجج
المتعددة.
(وخلاصة تلك الحجة)
أن (علي محمد الشيرازي) تحدى كالأنبياء لدعواه , وأخرج للناس كتابًا
يصدق ما ادعاه , فلو لم يكن نبيًّا صادقًا ناطقًا بالحق، لوجب على الله
(سبحانه) أن يفضحه ويظهر كذبه , ويجازيه أسوأ الجزاء على افترائه وبهتانه
على مولاه وجوبًا عقليًّا (تقتضيه قاعدة اللطف) ونقليًّا دلت عليه آيات الكتاب
وبينات السنة اهـ.
(وهاك جوابي عن هذه الشبهة)
ينبغي لنا في هذا المبحث أن ننظر أولاً في أنه كيف يجب أن يفتضح
المتحدي الكاذب.. ثم ننظر في حقيقة اللطف الواجب.. كل ذلك على وجه
العموم.. ثم نتكلم في افتضاح (علي محمد) وظهور كذبه لدى العقلاء بأجلى
وجوه الفضيحة.
ولا ينقضي عجبي منكم أيتها الفرقة الـ ... تدعون المهدوية لصاحبكم
وهي فرع من الفروع الاعتقادية في دين الإسلام ثم تستدلون على مقصدكم
بدلائل النبوة وتنسبون لصاحبكم تحدي الرسالة, وأنه أظهر كتابًا أكبر من
كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وتتشبثون لمطلوبكم بشبهات النصارى على
الإسلام: فأدلتكم ترمي إلى شيء ودعواكم ترمي إلى آخر يخالفه تمام
الاختلاف فعرفونا وجه التوفيق ومنزع الاحتجاج ومحجة النزاع.
نجعل وجدانكم الصادق أيها المنصف بيننا حكمًا فاصلاً ثم ننشدك نشيدة
الباحث عن حقيقة (ونقول) هل الواجب على المولى (سبحانه) أن يفضح
المتنبي الكاذب بعلامات محسوسة.. مثل أن يكتب على وجنته أو جبهته (هذا
نبي كاذب) ..؟ أو يوكل عليه ملكًا يهتف أمامه بذاك النداء مدى الدهر
فتقصر الحجة في الكتابة على خط واحد بالضرورة , وتقتصر في النداء على
لغة واحدة فلا تتم الحجة على أكثر البشر ولا تبلغهم حقيقة الأمر قطعيًّا مع
اشتراكهم وتساويهم في التكليف ويفوت الشارع بناء عليه مقصده السني من
تشريع السبل , وبعث الرسل , وهل عهدت يا صاح في إحدى الشرائع من إلهك
الحكيم استعمال العلامات الشخصية والصور الحسية في فضيحة متنبئ أو
متحدّ كاذب..؟ كلا ثم إن الصور المحسوسة لا تعم الأعصار والأمصار , كما
أن الخط واللغة لا يعرفان الأقوام المختلفة حقيقة الأمر , فلا محيص من تصديق سنة
الله تعالى والاعتراف بصحة سيرته مع أدعياء النبوة حيث يميز كاذبهم عن
صادقهم بوجه علمي وصورة عقلية , يفتضح بها الكاذب بين الناس أجمعين , على
اختلاف ألسنتهم وألوانهم , فتحصل الغاية المقدسة وتتم الحجة على كل مكلف
بأبلغ منهج وأتم صورة.
حيث إن الوجوه العقلية لا تختص بقوم دون قوم ولا بأبناء لهجة دون
آخرين ولا تختص بعصر ولا بمصر بل تعم ذوي العقول قاطبة في جميع
الظروف والأحوال (العقل دليل في كل سبيل) .
وإتمام الحجة في فضيحة المتنبئ الكاذب مما يجب أن يظهر لجميع
العقلاء والعلماء الذين أضحت عقائد العامة تتبع آراءهم , وأفعالها تناط بأقوالهم {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) .
إذن فالحري بنا أن ننظر في أمر هذا المدعي بالنظر العقلي , والطريق
العلمي , الذي به يظهر المولى (سبحانه) كذبه إن كان مفتريًا عليه.
(الحقيقة تكفينا فضيحة المتنبي)
(وفي ذلك معنى قاعدة اللطف)
قالت العدلية من المسلمين (يجب على الله سبحانه وتعالى أن يفضح
المتنبي والمتحدي الكاذب بقاعدة اللطف) وخاضوا في عباب اللطف كل
مخاض , لكن لي في المقام رأيًا متوسطًا أظن إصابة الحق فيه.
وموجزه أن المتحدي بالنبوة يدعي لنفسه العصمة بالضرورة.. والحقائق
لا تمهله دون أن تظهر كذبه: حيث إن الفاقد لفضيلة العصمة , لا ينفك (حسب
المفروض) عن سهو أو نسيان , فيبدو منه خلال أعماله وأشغاله سهو في
فعل , أو نسيان عن قول , سيما عندما تتراكم الأشغال عليه , ويحاط في المجامع
العمومية بالشواغل القلبية , وتآثير الظواهر في مشاعره ونفسه الضعيفة , ومتى
ما سها في شيء أو نسي تبين كذبه وافتضح.
إن من يدعي بما ليس في ... كذبته شواهد الامتحان
فيحصل المطلوب بتأثير أودعه الله في مظاهر الحقيقة (وهو أمر طبيعي)
في العوالم الأدبية لا بد منه ولا محيص.
وإذا تبينت محافظته على الحقائق , لم يظهر منه خطأ أو زلة في أعماله
وأقواله , ولا عدول عن غايته، ولاتغيير فى مسلكه طول عمره، فذلك
الصديق الذى يجب تصديقه والإيمان بما يدعيه، وهو العاصم المعصوم ولا
ريب فيه.
(افتضاح علي محمد عندنا)
ذكر الناس في ظهور خداعه وكذبه، مظاهر وأشياء، ونشروا كثيرًا
مما يزري بشأنه ويكذب دعواه، وأعلنوا خذلانه في مجالس العلماء بأصفهان
وتبريز وشيزار وغيرها. واستبان انحطاطه وقصوره عن المباحث العلمية
والأدبية والاعتقادية لكنني أعتمد في انجلاء حاله وتكذيبه على منهجين أرى
لهما مقامًا ساميًا كثير الأهمية في عالم البحث الفلسفي عن الأديان والنبوات ,
وعن تعيين الأنبياء والصادقين من المصلحين.
(المنهج الأول) : ظهور خطأ منه في سياسة أمره يمنعه من نجاحه
بحيث يمسي المدعي للنبوة غرضًا لأسهم الملازمة من جمهور العقلاء فإن
ذلك وشبهه من جملة الأمور الفاضحة , وشواهد كذبه الواضحة , يتم الحق
بأمثالها حجته على رائديه.
ولا يبرح عن اعتقادي أن العاقل المنصف إذا تأمل في كلمات (علي
محمد) وبيانه الذي زعم معارضة القرآن به وعرف أغلاطه اللفظية , التي لا
تقبل وجهًا ولا علاجًا في فنون العربية ,.... يجزم بخطأه في عالم السياسة
فمجرد تصديه لمعارضة القرآن العظيم في العربية والبلاغة وهو عاجز عن
التكلم بها غير محيط بأصولها وفنونها يكفينا فضيحته ولا ينفك لوم العقلاء منه
على هذه الفلتة الكبيرة يلومونه من جهات متعددة:
(1) لماذا يا مسكين لم تقنع بدعوى كونك إمامًا أو بابًا إليه كما كنت
عليه في مبدأ أمرك حتى ادعيت النبوة واحتجت إلى إظهار الآيات والمعاجز
وعرضت بنفسك للفضحية.
(2) لماذا اخترت يا مسكين من بين المعجزات معارضة القرآن الذي
أعجز أساطين الفصاحة.
(3) إن لم تطاوعك النفس إلا في معارضة القرآن فلماذا عارضته
بالعربية حتى يصبح أمرها عليك من كل باب تأتيه من حيث أنك أجنبي عنها
نشأت على اللغة الفارسية في إيران وما سبرت أفانين العربية وآدابها ... تعجز
عن أداء جملة لا تلحن فيها , وتعارض قرآنًا خرت لبلاغته الأدباء سجدًا إلى
الأذقان , وخضعت دونه رجال الإصلاح والسياسة وعلماء البيان , تعارضه ببيانك
المشتمل على أغلاط بعيدة الإحصاء في فنون العربية من تصريفها والأعاريب
والبلاغة في التركيب خاليًا عن طريف معنى ولطيف حكمة.
ولو أنك يا مسكين لفقت كتابك من فقرات وجمل بلغتك الفارسية لصنته
من قدح العلماء في ألفاظه وتراكيبه , وانحصرت دوائر اللوم في أغلاطك
المعنوية خاصة , وكان لك في ذلك ولصحبك مندوحة وتخفيف مشقة , وكنت
في راحة من جانب ألفاظه لا تلجأ إلى مضيق الاعتذار (ورب عذر أقبح من
ذنب) عن ألحانك (بأن الألفاظ كانت أسيرة الإعراب فأطلقها) ولا يلتجئ زعيم قومك
اليوم تصحيحًا لأغلاطك إلى قوله: (إن ولي الله لا يكون أسيرًا لأصول اللغات
وإعراب الكلمات) اعتذر به (ميرزا أبو الفضل) الكلبايكاني في كتابه بعد اعتراض
شيخ الإسلام التفليسي عليه بأغلاط البيان وألحانه:
وإنني لا أعدوه وسألتك يا صاحبي ولا أحتطب لك من كلماته في هذه
الوجيزة من هنا ومن هناك وإنما أذكرك ببعضب كلماته التي انتخبتها أنت لنا
وأتحفتنا بها في رسالتك إلينا فمن ذلك قوله: (تالله قد كنت راقدًا هزتني
نفحات الوحي وكنت صامتًا أنطقني ربك المقتدر القدير لولا أمره ما أظهرت
نفسي قد أحاطت مشيأته مشيأتي وأقامني على أمر به ورد على سهام
المشركين امرءًا قرأ ما نزلناه للملوك لتوقن بأن الملوك ينطق بما أمر من لدن
عليم خبير) .
ومن ذلك قوله: (كنت نائمًا على مضجعي مرت علي نفحات ربي الرحمن
ويقضتني من النوم وأمرني بالنداء بين الأرض والسماء ليس هذا من عندي بل
من عنده يشهد بذلك سكان جبروته وأهل مدائن عزه فوا نفسه الحق لا أجزع من
البلايا في سبيله ولا عن الرزايا في حبه ورضائه قد جعله الله البلاء غاديه لهذه
الدسكرة الخضراء) .
وبالإجمال فإنها فلتة عظيمة سياسية وحقيقية؛ صدرت منه بمشيئة الله تعالى
رغمًا على مشيئته ليصبح الحق أبلج , ويمسي الباطل لجلج , وما صرعه الحق
هذه الصرعة الفاضحة ولا أكبه بعثرته الواضحة , إلا من جنايته العظمى
على الحقيقة المقدسة , وهتك حرمة الإسلام وما أبدى فيه من....
(المنهج الثاني) ثبات المدعي واستقامته في مسلكه الخاص الذي دعاه
الناس إليه من مبدأ أمره إلى منتهاه لا يحول عنه ولا يزول في حال ضعفه
وقوته سالكًا فيه بقوله وفعله عن شجاعة أدبية (كيف يميل عن الحقيقة من
نالها أو يعدو الحق صاحبه وما وراء عبادان قرية) .
فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم جرى على سنة الأنبياء من قبله ,
فادعى الرسالة من ربه في مبدأ أمره , واستقام عليها حتى فارق صحبه , فكانت
الرسالة لا غيرها دعواه وخطته من قبل أن يبلغ المسلمون عدد الأصابع ... ثم
اتسعت بلاده وعلت كلمته وفاق المؤمنون به عشرات الألوف وصارت
الأموال والكنوز تجبى إليه من أقطار الأرض: ولم تكن مع ذلك دعواه إلا
الرسالة التي كان يدعيها في أول أمره. وما أورثه ارتقاء شأنه ونفوذ سلطانه ,
فرقًا في أخلاقه ودعاويه , ولا في معيشته وسيرته , ولقد كان يروج منه (ولا
ريب) أن يدعو الناس بعد ذلك إلى تقديسه والاعتراف بألوهيته (والعياذ بالله)
أو يأكل أطيب المأكول ويتخذ لنفسه أجمل وسائل العيش والتنعم من اتساع
سلطته ونفوذ كلمته وتملكه القلوب والمشاعر.
لكنه صلّى الله عليه وسلم كان يزداد تواضعًا وزهدًا كلما ازداد قدرة لئلا
يهابه الناس فيقدسوه تقديس الرعية لسلطانها المستبد.
وأمّا (علي محمد) فلا يجد المرء بعد الفحص أقل ثباتًا منه في مسلكه
ودعواه , فإنه ادعى البابية في مبدأ أمره ويعني من البابية أنه الباب بين الشيعة
وبين إمامهم (المهدي المنتظر) (عج) يبلغهم أحكام الشريعة عنه (ع) كما
كان نواب المهدي (عج) في القرن الثالث يعرفون بهذا الاسم والصفة وكانوا
هم الأبواب إليه والنواب عنه، فكانت البابية أو دعوى (علي محمد) ولأجل
ذلك عرف أصحابه بهذا الاسم والعنوان من مبدأ أمرهم إلى الآن.
ثمّ عظمت وطأته , وانتشرت دعوته , وشاهد ازدحام الناس على نفسه ,
فادعى الإمامة والمهدوية لنفسه , وإنه هو الإمام المنتظر عند الشيعة بعينه , ولا
يخفى عليك اختلاف المسلكين وتفاوت الرتبتين.
ثم ارتقت كلمته وكثر أتباعه لأمور اتفاقية لا يسع المقام ذكرها، واستشعر
من تابعيه , قبول كل ما يدعيه , فادعى النبوة وأظهر كتابًا زعم نسخ القرآن به
والمعارضة معه ... ويحكى عنه الربوبية أيضًا مستدلاً بتوافق اسمه في العدد
أعني (علي محمد) لاسم (رب) فإن كلاً منهما 202 في حساب (أبجد)
الجملي.... ولم يثبت بعد ذلك حتى قتله (ناصر الدين) شاه إيران بعدما عقد
المؤتمرات لأجله , أظهر العلماء كذبه وعجزه في الأبحاث العلمية. ومن طلب
تاريخه فليراجع كتاب (باب الأبواب) أو مفتاحه لمنشئ جريدة (حكمت)
الفارسية المصرية.
وليت شعري ما كان يدعي بعد هذه الدعاوى لو أمهله الدهر وساعدته
العامة؟ (نعم) لا يستقيم سويًّا على صراط مستقيم من حاد عن الحق *
ويضطرب الرأي ممن لم يفز بحقيقة * ولا يثابر على خطة من لم يكن على
يقين *
فهلا يكفيك اضطراب رأيه الظاهر من تلوناته وتقلباته في خطته شاهدًا
على خطأه وزلَله , أم نسيت ما قدّمناه في صدر البحث تمهيدًا لخواتيمه , والسلام على من اتبع الهدى.
... ... ... ... ... ... ... ... من نجف بالعراق
... ... ... ... ... ... ... هبة الدين الشهرستاني
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة العلم
_______________________(14/707)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أرباب الأقلام في بلاد الشام
ومشروع الأصفر
أشرنا في المقالة الأولى التي كتبناها عند إعلان الدستور إلى ما أمامنا من
العقبات والمشكلات السياسية والأدبية والاقتصادية في طريق هذا الطور الجديد من
الحكم , وقد وقع جميع ما كنا نتوقع , ومما أشرنا إليه في تلك المقالة بالإجمال ,
وعدنا إلى بيانه بعد ذلك بالتفصيل قولنا: إن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة
التربية جيدة الإنبات غنية بالمعادن والغابات , قابلة لرواج التجارة والصناعات ,
إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها , وهناك من أبواب الرجاء
للبلاد والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا الأفراد من الناس. فمن
المطالب بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها , والحذر من
قضاء الديون الأجنبية عليها؟ .. إلخ
ثم كان المنار هو السابق لجميع الصحف - على ما نعتقد - إلى التنبيه على
نفوذ اليهود الصهيونيين في جمعية الاتحاد والترقي، وما في ذلك من الخطر على
الدولة، حتى أنكر علينا ذلك بعض أصدقائنا المخلصين من المسلمين وغير
المسلمين بمصر، ورد علينا بعض اليهود في جريدة المقطم , ولم تلبث الحقيقة أن
ظهرت بعد ذلك في مجلس الأمة العثمانية أولاً، ثم على لسان الصدر الأعظم حقي
باشا الذي صرح في خطاب له بأن اليهود هم أصحاب المستقبل في هذه الدولة،
حتى في أمورها الإدارية والعسكرية، فهذه مقدمة أولى للكلمة التي نريد أن نقولها
الآن.
مقدمة ثانية: إننا كنا كتبنا مقالاً نشر في المنار وفي بعض جرائد بيروت،
نبهنا فيه إخواننا العثمانيين إلى المشابهة بين ما يستقبلون في هذا الطور الجديد من
الحياة الذي دخلوا فيه، وبين ما سبقهم إليه إخوانهم المصريون من مثله , وهو
طور حرية الأقلام والأعمال , وذكرناهم بأن يعتبروا بحال مصر، ويتقوا ما استبان
لهم ضرره , ويأخذوا ما استبان لهم نفعه , وبينا لهم ما اختبرناه بنفسنا من ضرر
ومفسدة ما جرى عليه بعض إخواننا الكتاب المصريين؛ من رمي بعضهم بعضًا
بخيانة الوطن وإيثار مصلحة الأجانب فيه على مصلحة أهله. فتن بهذه البدعة
بعض المغرورين الطائشين، وغلوا فيه غلوًّا كبيرًا، حتى لم يخجل بعضهم من
التصريح بأن مشروع الدعوة إلى الإسلام وإرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم، وما
فيه من الخير لهم في دنياهم، يراد به خدمة الأجانب من غير المسلمين! ! فكان
مثل هذا الكاتب كمثل بعض أهل الشام الذي اعتاد أن ينبذ من يخالف رأيه بلقب
وهابي، حتى إذا كان يحدث بعض أدباء النصارى، فلما خالفه قال له أنت وهابي! !
فقال له ذلك الأديب: بل أنا مسيحي ما رغبت عن ديني! قال كلا. إنما أنت
وهابي! !
مقدمة ثالثة: الخلاف في الرأي طبيعي في البشر لا بد منه , ونافع لا شك في
نفعه , ولو لم يكن لوجب أن يوجد بالتكلف إن لم يوجد بالطبع , وهو ضار إذا أدى
إلى الشقاق والتفرق، وإن أهل العلم والفضل يتناظرون في المسائل العلمية
والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فيكون أحدهم موجبًا والآخر سالبًا بالمواضعة
والاتفاق , وإن لم يسبق لهم فيه خلاف , وإنما غايتهم بيان الحقيقة بالبحث عن كل
ما يمكن أن يصل إليه الفكر فيها. كذلك تؤلف الأحزاب في المجالس النيابية؛
ليؤيد بعضهم الحكومة في سياستها وإدارتها , وينتقدها البعض الآخر فيهما ,
وغرض الفريقين واحد؛ وهو بيان المصلحة الحقيقية للبلاد. فلا يصح أن يرمى
الحزب الموافق للحكومة بأنه سيء النية، يريد أن يساعدها على الاستبداد بالأمة ,
ولا أن يرمي الحزب المخالف بأنه عدو للدولة.
بعد هذه المقدمات أقول: إنه قد ساءني في ما كان من خلاف جرائدنا السورية
في (مشروع الأصفر) ونبز بعضهم بعضًا بالألقاب , ونزولهم إلى ما لا ينبغي
من الطعن والسباب , حتى جعل بعضهم أشهر الجرائد بالإخلاص موضع الارتياب.
مشروع الأصفر من المسائل الاقتصادية الجديرة بأن يختلف فيها الباحثون،
ولو لم يختلفوا بالفعل لحسن منهم أن يتواطئوا على الخلاف، فيتكلف بعضهم
استنباط كل ما يمكن أن يستنبط له من المضار , وبعضهم استنباط كل ما يمكن
استنباطه من المنافع , ثم يحكموا بعض أهل الروية والعلم في الترجيح أو يدعوه
إلى الحكومة والرأي العام , مناظر الإنسان نظيره، فمن رمى مناظره بالخيانة
وسوء النية كان طاعنًا في نفسه , وموقفًا لها موقف التهمة والتزاحم على المنفعة.
إنني لم أعن بدرس (مشروع الأصفر) الأول؛ لأنني رأيته يتقلب بين ألسنة
المبعوثين وأقلام الصحفيين , فتركته لهم , ولكنني كنت أميل إلى رفضه , ورأيتهم
كذلك يميلون, ولا عنيت به بعد تنقيحه أيضًا , ولا تتبعت ما يجيئني من الجرائد
التي تبحث فيه , فأنا لا أحكم فيه نفسه , وإنما أقول كلمات يصح أن تكون لمن
وعاها من أسباب الحكم الصحيح فيه , وهي:
(1) إن عمران بلادنا يتوقف على استعمال الأموال الأوربية فيها، وزمام
هذه الأموال في أيدي اليهود , وأضرب لذلك مثالاً وقع بمصر؛ وهو أن بعض
الناس قال لتاجر يهودي وقد ساومه في (ساعة) : إنني لا أريد أن أشتري شيئًا
يربح منه اليهود , فقال اليهودي: إذًا لا تشتر شيئًا قط. ولأجل هذا يصانع
الاتحاديون اليهود الصهيونيين وغير الصهيونيين , فإذا كان إخواننا السوريون لا
يقبلون مشروعًا فيه أموال لليهود، فيعلموا أن معنى هذا أنهم لا يقبلون مشروعًا
عمرانيًّا كبيرًا في بلادهم مطلقًا , وبعبارة أخرى لا يقبلون أن تعمر بلادهم.
(2) إن أهل بلادنا السورية بل العثمانية كلها عاجزون عن القيام
بالمشروعات الكبيرة من زراعية وصناعية وتجارية لا لقلة ما لهم فقط , بل لذلك
ولجهلهم بما تتوقف عليه تلك المشروعات من العلوم والفنون والأعمال الهندسية
والآلية , فهم في أشد الحاجة إلى الاستعانة على تلك المشروعات بأموال الأوربيين
ورجالهم , وإلى الاحتكاك بهم والاشتغال معهم لأجل التعلم منه.
(3) إن الخطر من الصهيونيين ينحصر عندي في شيء واحد؛ وهو
امتلاكهم للأرض المقدسة، فينبغي لكل من يقدر على حمل الحكومة العثمانية على
منعهم من ذلك أن لا يألو فيه جهدًا ولا يدخر سعيًا.
(4) إن الخطر من استعمال أموال الأجانب اليهود وغيرهم ينحصر عندي
أيضًا في أمرين: أحدهما غرق الأهالي والحكومة في الديون , وثانيهما تمليكهم
لرقبة البلاد , بأن يكون أكثر الأرض أو الكثير منها لهم.
(5) إذا عدوْنا هذين الخطرين، فلا يضرنا أن نستخدم أموال اليهود
العثمانيين وأموال الأجانب من اليهود وغيرهم؛ في المشروعات التي تعمر بها
بلادنا بالزراعة واستخراج المعادن وغير ذلك , بل ذلك نافع لنا بل لا بد لنا منه إلا
إذا اخترنا الخراب على العمران , والفقر على الغنى , وماذا نخاف بعد هذا؟
إننا رأينا العبرة في مصر بأعيننا، زادت ثروة هذا القطر بأموال الأوربيين
وأعمالهم أضعافًا مضاعفة , وكثر فيها الأغنياء , ولولا جراءة الفلاح المصري على
الاستدانة بالربا الفاحش وغير الفاحش بغير حساب يوازن فيه بين دخله وبين ربا
الدين الذي يأخذه بغير حاجة شديدة إليه في الغالب، ولولا الإسراف والقمار
والمضاربات لما كان على المصريين دين يذكر بالنسبة إلى ثروتهم العامة , ولكانوا
أغنى شعوب الأرض. على أنهم إذا ثابوا إلى رشدهم , وعني المتعلمون منهم
بالثروة والاقتصاد بعض ما يعنون بالسياسة , فإنه يمكن لهم أن يفوا ديونهم في زمن
قريب , وعند ذلك يكون لهم شأن صحيح في السياسة , أساسه القوة الحقيقية لا القوة
الكلامية.
فاضت أنهار الذهب الأوربي على مصر في زمن لم يكن لمصر فيه مثال
سابق تقيس حالها عليه لشبهها به , ولا منار تهتدي به في حياتها الاقتصادية ,
ولكنها أنشأت تتعلم بالتجارب ونفقات علم التجارب كثيرة , وقد ظهرت بواكر ثمرة
علمها بالتوجه إلى إنشاء النقابات الزراعية؛ لوقاية الفلاحين من غوائل الربا
الفاحش وحفظ ثروتهم , وإنشاء الشركات التجارية والصناعية , وأنشأوا يعملون بما
تعلموا من الأوربيين، فكانوا في أول عملهم كالطفل الذي بدأ يتعلم المشي يمشي
خطوة ويسقط , وقد كنا كتبنا في المنار مقالات ونبذًا في ذلك عنوانها (طفولية
الأمة) .
أما العثمانيون وأخص منهم السوريين، فأمامهم المثال الظاهر والمنار
المضيء وهو مصر , فليعتبروا بحالها , ولا يقبلوا في أمثال هذه الأمور كل رأي ,
ولا يتبعوا فيها كل ناعق , وليحذروا ممن يستميلون العامة إليهم بما يروج عادة في
سوقهم , وهو الإنذار والتخويف وإذاعة السوء، فإن الجمهور يرجح دائمًا خبر
الشر على خبر الخير.
ليس أمر مشروع الأصفر بيد الجرائد التي تراه نافعًا ولا التي تراه ضارًا،
وإنما أمرها إلى مجلس الأمة وحكومتها العليا , فلتقل كل جريدة ما تشاء في بيان
نفعه وضره , من غير طعن ولا لعن , فإذا نفذ بعد ذلك كان أهل البلاد على بصيرة
من الانتفاع به والتوقي من ضرره , وإذا ردته نثلت الكنائن , وفاءت السكائن ,
وكفى الله المؤمنين القتال.
* * *
(مسألة اليمن واتفاق الحكومة مع الإمام)
كنا اقترحنا على الدولة قولاً وكتابة أن تتفق مع الإمام، فتعترف له بزعامته
وتقره على إمامته في قومه حسب اعتقادهم , وترضى منه بما يقبله في مقابلة ذلك
من الاعتراف بسيادة الدولة على اليمن، وكونه هو تابعًا لها. وبعد الاتفاق على
هذين الركنين يسهل الاتفاق على كل شيء , بل نبهنا الدولة على ما هو أعم من
ذلك؛ لتمكين سلطتها في جزيرة العرب كلها بمثل هذا الاتفاق مع أمرائها.
كان من سعيي في مسألة اليمن أن اقترحت على رءوف باشا المعتمد العثماني
بمصر - والفتنة في ريعانها والعسكر يساق إلى اليمن تباعًا - أن يخاطب حكومة
الآستانة في أمر الاتفاق مع الإمام بلسان البرق , وقلت له: إنني موقن بأن الإمام
يرضى بالاتفاق، ويكره أن يحارب الدولة باختياره , وإنني أتجرأ أن أضمن ذلك
بشرط أن تعترف الدولة بإمامة الإمام وزعامته في قومه وعدم نزع السلاح منهم ,
والإمام يعاهدها على عدم الخروج عليها وعلى تأمين البلاد , وما زالت العرب تدين
بالوفاء في الجاهلية والإسلام إلخ ما ذكرته له. فقال: إن الخطابات البرقية وغير
البرقية لا تكفي للإقناع في مثل هذه المسألة، ولعلنا نتكلم فيها عندما نذهب إلى
الآستانة في فصل الصيف.
أما الأصول التي قررتها اللجنة التي ألفت في الباب العالي؛ لأجل وضع
النظام لإصلاح اليمن، فهي على ما نشر في الجرائد عشرة:
(1) تقسيم اليمن وعسير إلى ثلاث ولايات.
(2) أن يعين مشايخ القبائل حكامًا إداريين أي متصرفين في الألوية
وقائمقامين في الأقضية، ومديرين في النواحي.
(3) أن يصرف النظر عن أصول المحاكمات التي عليها العمل في الدولة
هنالك، ويستبدل بها محاكم شرعية تحكم في الدعاوي.
(4) أن تنشأ الطرق والمعابر الكافية، وتؤسس المدارس وأخصها
الابتدائية.
(5) أن يُمنَح الإمام يحيى رياسة اليمن الروحية.
(6) أن تبتاع نسافات تحافظ على السواحل، وتكون سدًا دون تهريب
السلاح والذخائر الحربية، وأن تنشأ المعاقل العسكرية اللازمة.
(7) أن يعفى اليمانيون كافة من الخدمة العسكرية، ويوفد من سورية
وطرابلس أناس يقومون بها هناك , أو يأخذ لها أناس من العربان بالأجرة.
(8) أن يسمح للعربان بحمل السلاح مؤقتًا.
(9) أن تلغى الضرائب ويحصر التبغ (الدخان) ؛ لأنه يسهل تهريب
السلاح.
(10) أن يعين الولاة من أصحاب الفطنة والحنكة والدراية، ويمنحوا
السلطة الواسعة.
هذه الأصول ليست فيما نرى إصلاحًا كافيًا لليمن، ولكنها ترضي اليمانيين
وتسكن ثأرتهم إلى أن تتمكن الدولة من ضبط السواحل ومنع السلاح ومن امتلاك
أعنة الرؤساء والمشايخ بالوظائف والرواتب , وإعداد القوة العسكرية من غير أهل
البلاد؛ لتنفيذ كل ما تريده الحكومة بالقوة. وبعد هذا يجمع السلاح من الأهالي
ويحملون على كل ما تريده الحكومة منهم ومساواتهم بسائر العثمانيين. ولو كان لنا
أن نقترح لاقترحنا، ولكننا نتمنى أن توفق الدولة إلى اختيار الولاة من الرجال
الموصوفين بما ذكر في الأصل العاشر وبالديانة والإخلاص في العمل , فعلى هذا
جل المعوّل , وما حرك الفتن هنالك في كل زمن إلا أولئك الولاة الطغاة العتاة الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وسوف نرى ما هي المدارس التي تنشأ هناك، وماذا يعلم فيها , وما هي
الطرق والمعابر التي تنشأ للعسكر وللزراعة والتجارة , وكيف تكون المحاكم ,
ونبدي رأينا في ذلك فإنه هو كل حظ اليمانيين من الإصلاح العملي. وكان من
مصلحتهم ومصلحة الدولة أن يدخلوا في الخدمة العسكرية ويتعلموا في بلادهم ,
ويقوموا فيها بكل ما تحتاجه الحكومة من الجند في الداخل , وينفروا إذا استنفروا
لمحاربة كل عدو مهاجم , وإذا جرى الإصلاح في طريقه المستقيم وزالت مخاوف
القوم، وريبتهم التي غرستها في نفوسهم المظالم السابقة، فإنهم يطلبون ذلك من
تلقاء أنفسهم.
أما مسألة عسير فكادت تكون أعسر من مسألة اليمن وأعقد , وأعصى على
من يحلها وأبعد , فقد عظم فيها نفوذ السيد الإدريسي الروحي، وارتابت فيه الدولة
فحاربته , واستعانت عليه بأمير مكة الشريف حسين المشهور بالروية والحزم
والإخلاص للدولة , فسار إلى عسير بنفسه وبعض أنجاله، يقود جيشًا مؤلفًا من
عسكره الخاص وعسكر الدولة النظامي، فحارب الإدريسي بقوتيه العسكرية
والمعنوية، حتى فك الحصار عن أبها عاصمة بلاد عسير، وأجلى الإدريسي إلى
عصم الجبال فامتنع فيها , والأمير - أعزه الله - كان أجدر من قواد الحروب
بإيثار الصلح والسلام , وحفظ الدماء بالنفوذ الروحي وقوة الخطابة والبرهان , ويقال:
إنه كان يريد هذا، وأن الإدريسي أبى عليه فتح باب الكلام , وقد داوى الأمير ما
جرح بالإحسان إلى أهل البلاد التي دخلها في عسير وإنشاء المساجد والمدارس
لأهلها , ثم عاد إلى الحجاز مؤيدًا منصورًا , ولكن الدولة ترى أن عقدة عسير
العسكرية لما تنحل.
* * *
(الأزهر وملحقاته بعد القانون الجديد)
أتممنا نشر قانون الأزهر والمعاهد الدينية التابعة له في القطر المصري. وقد
قامت قيامة الأحزاب لهذا القانون وقعدت , واجتمعت وافترقت , وصوبت وخطأت ,
وأرى أن المعارضين للحكومة وقد تركوا الباب، فلم يظهروا الاهتمام به في
جرائدهم ولا في مجلس الشورى , وكان بعض أعضاء مجلس الشورى اعترضوا
على جعل حق اختيار شيخ الجامع للأمير، وعلى انعقاد مجلس الأزهر الأعلى
تحت رياسته , فأطلقت جرائد الأحزاب المعارضة على هؤلاء الأعضاء لقب
الحزب الحرّ، واحتفلوا بهم احتفال التكريم.
أما لب اللباب , والأمر الجديد في هذا الباب , الذي سكت عنه رجال هؤلاء
الأحزاب , فكان سكوتهم العجب العجاب , فهو أن الأزهر وملحقاته كانت من
المدارس الحرة المستقلة في أمرها دون الحكومة الواقعة تحت سيطرة الاحتلال ,
فأصبح الآن مصلحة من المصالح التابعة للحكومة كسائر مصالحها , وهذا ما كان
يتقيه ويحذره الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، كما صرحت به في المنار من قبل.
فالمعارضون للحكومة إما أن يكونوا لم يفهموا هذا الأمر الجديد العظيم وذلك
منتهى الجهل والغفلة , وإما أن يكونوا قد اعتقدوا أن إصلاح التعليم الديني في البلاد
لا يمكن أن يكون إلا بيد الحكومة؛ لأن الأمة عاجزة عنه، ومحتاجة إلى مراقبة
الاحتلال بواسطة الحكومة، حتى على شئونها العلمية الدينية , وهذا يناقض ما
يقولون كل يوم , فهل عندهم من وجه ثالث فيظهروه لنا وللأمة كلها إن كانوا
لخدمتها يحسنون.
* * *
(رأي فاضل في الإنفاق النافع والمنار)
جاءنا الكتاب الآتي من ذلك المحسن المستتر الذي تبرع بستة جنيهات مصرية
لإدارة المنار؛ لتوزع بقيمتها نسخًا منه على من تراهم أحق بها , وقد رأينا أنه يود
نشره ليظهر رأيه للقراء، وينبههم إلى القدوة الصالحة، وهذا نص الخطاب:
القاهرة في 6 أغسطس سنة 1911
حضرة الأستاذ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله وزاده هدى وتوفيقًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأرسل إلى حضرتكم الجنيه الباقي
من الستة جنيهات التي تخصصت للعشرة اشتراكات في مجلة المنار. ولعلي بذلك
أكون جئت بمثال حسن لمسلمي هذا القطر وسائر مسلمي الأقطار الذين يبغون
الإنفاق؛ حبًا في الخير وتقربًا من الله، فلا يهتدون لسبله القويمة وطرقه الصحيحة
فكم من أموال تنفق في النذور , وكم يضيع منها في المآتم والأفراح , وكم يذهب
في تشييد الحيشان والقبور , وكم يصرف في زيارة المقابر في الأعياد والمواسم ,
وكم في إحياء الليالي للأولياء الميتين في الموالد وغير الموالد , وكم من صدقات
تعطى لغير مستحقيها وغير ذلك , إنما أعني هذا الصنف من المسلمين فقط؛ لأنهم
إنما يفعلون ذلك إجابة لداعي الخير الذي يناديهم، فيلبون نداءه في الجملة، ولكن
بدون أن يقفوا على كنه ما يدعون إليه.
ولا أعني غيرهم من المسرفين المبذرين الذين يلقون أموالهم في مهاوي اللذات
والشهوات والشرور والمضرات , ولا غير هؤلاء من البخلاء الجامدين. لعمري لو
أنفق عشر معشار ما ينفق من هذه الأموال فيما يحييهم من الأخذ بيد المصلحين
ومساعدة ما يقومون به من المشروعات العامة لوجدنا بفضل الله أمة الإسلام غيرها
اليوم , ولزال ما ألم بها من البؤس والشقاء , لا أقول هذا محاباة ولا نفاقًا؛ فإني
أخاطبكم مختفيًا عنكم وعن الناس , بحثت فلم أجد في الدنيا دعوة إلى الحق والإسلام
مثل ما تقوم به مجلتكم، ولا شخصًا حيًّا وقف نفسه لخدمة الإسلام والحق والإنسانية
كشخصكم المحبوب. فهل آن للناس أن يعرفوا شأنكم وشأن مجلتكم؟ ألا إنهم (لو)
عرفوا ذلك لالتفتوا حول لوائكم جميعًا، وكانوا لكم من الناصرين , فصبرًا إن الله مع
الصابرين , والعاقبة للمتقين، والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المصري
__________(14/713)
شوال - 1329هـ
أكتوبر - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من البحرين
(س54 - 59) من صاحب الإمضاء
الحمد لله وحده:
حضرة محترم المقام حجة الإسلام وإمام المسلمين السيد محمد رشيد رضا
رضي الله عنه وأرضاه.
سلام واحترام: يرد بجهتنا المنار ونطلع عليه، فنرى فيه من آيات الإرشاد
لسبل الرشاد , والإفصاح عن طرق الفلاح , ما يشهد بفضله وفضل صاحبه أطال
الله بقاءه في سلامة وعافية , ولا زالت آثاره في مناره ماثلة للمسترشدين
والمعتبرين , سيدي، أرجوكم الإجابة عما يأتي بأوجز ما يمكن، وإرساله ضمن
جواب إن لم ترغبوا درجه في المنار.
(1) المعراج كيف كان؟
(2) انقضاض الكواكب وعلته الطبيعية، والتوفيق بين ذلك بين ما ورد
في سورة (قل أوحي) وسورة (والصافات) ؟
(3) أوحي على النبي (صلى الله عليه وسلم) معنى القرآن فقط، والنبي
(صلى الله عليه وسلم) هو أعرب عن ذلك المعنى بهذه الألفاظ، وركبها هذا
التركيب، أم أوحي إليه المعنى واللفظ جميعًا.
(4) هل يصح حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف وما معناه؟
(5) هل من الممكن إنشاء مؤتمر إسلامي، يعود على الإسلام بفائدة في
القريب العاجل؟ وأين ينبغي أن يكون؟
(6) ألا تستحسنون أن تقوم جماعة الدعوة والإرشاد أول مرة لفتح ناد بمكة
تسميه نادي التعارف؟
واقبلوا سلام واحترام الداعي المخلص للمنار وصاحبه.
... ... ... ... ... ... ... محمد صالح يوسف الخنجي
* * *
(الجواب عن السؤال الأول: كيف كان المعراج؟)
لا ندري كيف كان المعراج، ولا نقطع فيه بشيء، فإنه خصوصية أكرم الله
تعالى بها نبيه (صلى الله عليه وسلم) فأراه من آياته في عالم الغيب والشهادة ما لم
ير غيره من البشر , فإن في رواياته أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى يصلي
في قبره بالكثيب الأحمر ورآه في السماء السادسة , وفيها أنه رأى في السماء آدم
ونسم بنيه عن يمينه وشماله , وصلى بالأنبياء إمامًا ببيت المقدس , ورآهم في
السماء , ورأى العصاة يعذبون في صور غير صورهم التي كانوا عليها في الدنيا ,
ولم يقل أحد من المسلمين إن موسى أو آدم رفع بجسده إلى السماء , فما قولك بنسم
بني آدم كلهم , ولا أن العصاة يبعثون بأجسادهم قبل يوم القيامة , وظاهر هذا أن
تلك المرائي روحانية كما قال بعضهم أو منامية كما قال آخرون , وذكرنا الفرق
بينهما في الجزء الماضي , ومنه ما ورد في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم
تمثل له بيت المقدس وهو بمكة فوصفه لمن سأله عنه من المنكرين.
وقد أورد على ما نشرناه في الجزء الماضي إشكالاً، وسئلنا عن حلهما كتابة
ومشافهة: (أحدهما) وهو قديم لو كان الإسراء والمعراج في المنام أو بالروح فقط
لما أنكرهما أهل مكة، ولما كان ذكرهما فتنة للناس , على أننا قد ذكرنا في جواب
(س47) حل هذا الإشكال بالإيجاز. وأما بيانه بالتفصيل فهو أن الفتنة هي
الاختبار الذي يتميز به الإيمان اليقيني من عدمه , فالمؤمن الموقن بصدق النبي
(صلى الله عليه وسلم) في كل ما يخبر به؛ وإن كان من الأمور المخالفة للعادات
والمألوفات، فإذا قال: رأيت كذا وكذا مما هو ممكن عقلاً ممتنع عادة، ولم يبين له
أنه ذلك في اليقظة أو في المنام يتحقق الاختبار، وتظهر درجة إيمانه ويكون النبي
صادقًا في قوله: إنه رأى ذلك لأن فعل الرؤية البصرية والرؤيا المنامية واحد،
فيقال في كل منهما رأيت، والإدراك إنما هو للروح , والجسد آلة لا يتقيد بها إلا
ضعفاء الأرواح , ومن ذلك أحاديث فتاني القبر، فقد ورد أنهما يبهمان السؤال
فيقولان للميت: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم وادعى أنه رسول الله , وقد
قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60)
ووردت الروايات الصحيحة في أن هذه الآية نزلت في شأن ما رآه النبي صلى
الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج. ولفظ (الرؤيا) حقيقة فيما يرى في
المنام؛ ولذلك اضطر إلى تأويل الآية مَنْ جزموا بأن الإسراء والمعراج كانا في
اليقظة، كما اضطروا إلى تأويل رواية شريك في صحيح البخاري الدالة على أنهما
كانا في المنام أو إلى القول بالتعدد، وبعضهم قال إنها غلط. وجملة القول أن آية
الإسراء التي أوردناها آنفًا، وحديث شريك في البخاري يدلان على أن الرؤيا
المنامية هي التي كانت فتنة للناس. نعم.. إن الجمهور قد أولوا الآية، وقالوا
في الحديث ما علمت, وأما إذا قلنا: إن المعراج روحي , وأنه كان بالصفة التي
يعبر عنها الصوفية بالانسلاخ كما يأتي قريبًا، فلا وجه لاستغراب الافتتان بخبره مع
التصريح بالانسلاخ والتجرد , وإن لم يصرح به حمله الناس على أنه بالروح
والجسد وافتتنوا به. على أن افتتان بعض الناس واعتراضهم إنما ورد في شأن
الإسراء فقط؛ ولذلك قال بعضهم: إن الإسراء هو الذي كان بالجسد والروح فقط
دون المعراج، واختاره المازري في شرح مسلم.
(الإشكال الثاني) أورده عالم مشهور من القضاة في هذه الديار قال: إن
الإسراء أو المعراج الروحي لا يعد من الخوارق؛ لأن بعض الهنود الوثنيين
يميتون أجسادهم موتًا مؤقتًا، وتطوف أرواحهم في الأرض طائفة من الزمن، ثم
تعود فتتصل ببدنها، فيخبر صاحبها عما رأت في تلك السياحة الروحية , وقد كان
الإنكليز يسمعون مثل هذا عن الهنود ولا يصدقونه حتى اختبروه بأنفسهم، فأنام
هندي أو أمات نفسه أمام بعضهم، ورأوا جسده جثة لا حراك بها , وعلموا منه أن
روحه تقصد بلدًا معينًا، فلما عاد إلى حياته المعتادة أخبر بأن روحه جاءت ذلك
البلد ورأت فيه كذا وكذا. فاستخبر أولئك المختبرون بعض معارفهم في ذلك البلد
عما وقع فيها في تلك المدة، فوافق الجواب ما قاله الهندي.
والجواب عن هذا على تقدير صحة الرواية من وجوه:
(أحدها) أن الإسراء والمعراج ليسا من المعجزات التي تحدى بها النبي
صلى الله عليه وسلم للاستدلال على نبوته؛ لأن الاستدلال إنما يكون بما يدركه
المنكرون بحواسهم ولا يشكون فيه.
(ثانيها) يكفي في تسمية الخارقة معجزة أن يعجز الناس عنها، وإن أتوا
بشيء من نوعها ولا سيما إذا كان ما أتوا به دونها , فإبراء الأرمد كإبراء الأعمى،
ولا إبراء المزكوم كإبراء المسلول , والروح التي تنسلخ من بدنها فتطوف في بقاع
محدودة من الأرض وترى بعض المحسوسات فيها فقط , لا يقاس عملها بعمل
الروح التي تطوف ما شاء الله أن تطوف في الأرض، وترى فيها أرواح الأنبياء
والملائكة ثم تعرج إلى السماء وترى ما ترى من آيات الله الكبرى كالجنة والنار،
وتسمع وحي الله تعالى في الملأ الأعلى.
(ثالثها) أن المتكلمين يقولون: إن خوارق العادات تكون لغير الأنبياء،
وتختلف أسماؤها باختلاف أحوال من تكون لهم، فتكون إرهاصًا ومعجزة وكرامة
للأنبياء، الأول قبل البعثة والثاني بعدها مع التحدي والثالث بدونه. وكرامة فقط
للأولياء، ومعونة لمن دونهم من الصالحين، واستدراجًا للفساق والكفار , وفي
كلامهم هذا مجال للأنظار.
(رابعها) أن الخوارق التي ذكروا لها هذه الأقسام، إنما جنسها المنطقي هو
الأمر المخالف للمعتاد بين جماهير الناس بحسب الأسباب العامة المعروفة التي تنشأ
عنها أعمالهم , ولا ينافي ذلك عند المتكلمين أن تصدر الخارقة عن كثيرين؛ ولذلك
جوزوا أن تكون معجزة النبي كرامة لكثير من الأولياء، وذكروا وقائع في ذلك منها
إبراء المرضى وإحياء الموتى والمكاشفات التي لا تحصى , وجوزوا أيضًا أن
تصدر الخارقة عن كل أحد، وميزوا بينها بالأسماء التي سمعت. ومن الناس من
يرد هذا ولا يقول به، فقد قال الشيخ محي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر في
عصره: إن الخارقة لا تتعدد، فإن ما يتعدد لا يكون خارقًا للعادة , وهذا هو
المعقول لا من حيث تطبيقه على معنى الخارقة فقط، بل يقال أيضًا: إن ما يتكرر
لا بد أن يكون له سبب معروف وطريقة توصل إليه، كما توصل طريقة الصوفية
سالكيها إلى ما يذكرون من الكرامات التي صارت عادة تتكرر لأصحابها، وإن
كانت مخالفة للعادات التي عليها غيرهم , فالكشف مثلاً معتاد من صنف الأولياء،
وإنما هو خارق للعادة عند جمهور الناس , وسببه الرياضات الروحية , ولأصحاب
الرياضات البدنية أعمال معتادة بينهم خارقة للعادة عند غيرهم؛ كالمشي على
الحبال وتعلقهم بها من أرجلهم، وإلقاء أنفسهم من الأماكن المرتفعة، وما هو أغرب
من هذا.
هذا، وإن الانسلاخ الذي ذكر عند الهنود وطواف الأرواح وحدها أو بأجساد
من الأثير تشبه الأجساد المركبة، مما نعلم منقول عن صوفية المسلمين، وللشيخ
محيي الدين ابن عربي وقائع كثيرة فيه مذكورة في فتوحاته وفي غيرها، ويذكرون
لأنفسهم معارج روحية , ويقول محي الدين: إن النبي (صلى الله عليه وسلم)
عرج به إلى السماء 30 مرة. والله أعلم.
وإننا نورد هنا ما قاله ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) في
الإسراء والمعراج على طريقة الصوفية؛ لتعرف المذاهب والآراء المشهورة فيهما
كلها، وهذا نصه: وأسري به إلى المسجد الأقصى ثم إلى سدرة المنتهى وإلى ما
شاء الله، وكل ذلك لجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ولكن ذلك في موطن
هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما، فظهر على الجسد أحكام الروح،
وتمثل الروح والمعاني الروحية أجساد؛ ولذلك بان لكل واقعة من تلك الوقائع تعبير،
وقد ظهر لحزقيل وموسى وغيرهما عليهما السلام نحو من تلك الوقائع، وكذلك
لأولياء الأمة؛ ليكون علو درجاتهم عند الله كحالهم في الرؤيا والله أعلم.
أما شق الصدر وملؤه إيمانًا، فحقيقته غلبة أنوار الملكية وانطفاء لهب الطبيعة
وخضوعها لما يفيض عليها من عالم القدس. وأما ركوبه على البراق فحقيقته
استواء نفسه النطقية على نسمته التي هي الكمال الحيواني، فاستوى راكبًا على
البراق كما غلبت أحكام نفسه النطفية على البهيمية وتسلطت عليها. وأما إسراؤه
إلى المسجد الأقصى؛ فلأنه محل ظهور شعائر الله، ومتعلق همم الملأ الأعلى،
ومطمح أنظار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه كوة إلى الملكوت. وأما ملاقاته
مع الأنبياء صلوات الله عليهم ومفاخرته معهم، فحقيقتها اجتماعهم من حيث
ارتباطهم بحظيرة القدس، وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال.
وأما رقيه إلى السماوات سماء بعد سماء، فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى
الرحمن منزلة بعد منزلة، ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها، ومن لحق بهم من
أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه الله فيها، والاختصام الذي يحصل في ملأها.
وأما بكاء موسى فليس بحسد، ولكنه مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصله
مما هو في وجهه. وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون، وترتب بعضها على بعض
وانجماعها في تدبير واحد؛ كانجماع الشجرة في الغاذية والنامية ونحوهما، ولم
تتمثل حيوانًا لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده، وإنما أشبه
الأشياء به الشجرة دون الحيوان؛ فإن الحيوان فيه قوى تفصيلية والإرادة فيه
أصرح من سنن الطبيعة. وأما الأنهار في أصلها فرحمة فائضة في الملكوت حذو
الشهادة وحياة وإنماء؛ فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل
والفرات. وأما الأنوار التي غشيتها فتدليات إلهية , وتدبيرات رحمانية , تلعلعت
في الشهادة حينما استعدت لها. وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإلهي الذي
يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها، يتمثل بيتًا على حذو ما عندهم من الكعبة
وبيت المقدس , ثم أتي بإناء من لبن وإناء من خمر فاختار اللبن، فقال جبرئيل:
هديت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك، فكان هو صلى الله عليه وسلم جامع
أمته ومنشأ ظهورهم , وكان اللبن اختيارهم الفطرة والخمر اختيارهم لذات الدنيا ,
وأمر بخمس صلوات بلسان التجوز؛ لأنها خمسون باعتبار الثواب , ثم أوضح الله
مراده تدريجًا؛ ليعلم أن الحرج مدفوع، وأن النعمة كاملة وتمثل هذا المعنى مستندًا
إلى موسى عليه السلام، فإنه أكثر الأنبياء معالجة للأمة ومعرفة بسياستها) ا. هـ
(تنبيه) ذكرت في الجزء الماضي من المنار أن حديث المعراج مضطرب،
وعنيت بهذا اضطراب المتن. وقلما يطلقون لفظ الاضطراب ويريدون به المتن.
* * *
(الجواب عن الثاني الشهب علتها وكونها رجومًا)
اختلف علماء الفلك في أصل الشهب (ويسمونها النيازك) ، وقد ذكر الطبيب
محمد توفيق أفندي صدقي بعض آرائهم فيها في مقالته التي نشرت في الجزء الثامن،
ومنهم من يقول: إن بعضها من مقذوفات براكين الأرض تحلق في الفضاء ثم
تسقط , وهذا أبعد الآراء عن الصواب، وأقرب منه أن تكون من براكين الكواكب،
ومنهم من يقول: إن أكثرها من قطع النجوم المتكسرة، وبعضها ينفصل من
الكواكب الثابتة. وكل ما قيل في ذلك من رجم الظنون , لم يصل شيء منه إلى
مرتبة اليقين , إلا أن لبعضها مدارًا يعرف بالحساب , وسبب سقوطها هو جذب
الأرض لها عند دنوها منها بدخولها في فلكها. وقد بينا من قبل أن السبب مهما كان
لا ينافي ما يترتب على سقوطها من رجم الشياطين، وتأذيهم بها، وحيلولتها بينهم
وبين الدنو من ملائكة السماء، واستراقهم السمع منهم. وقد ثبت أن الشهب كانت
كثيرة في سنة البعثة، وهي تكثر كذلك كلما دنا مدارها الذي تكثر هي فيه من
الأرض، فكان ذلك من توفيق أقدار لأقدار, والله الموفق وكل شيء عنده بمقدار.
* * *
(الجواب عن الثالث: نزول القرآن باللفظ والمعنى)
أسلوب القرآن غير أسلوب الحديث النبوي، والفرق بينهما ظاهر لا يخفى
على قارئ من أهل هذه اللغة ولا سامع , والحديث القدسي وغير القدسي في ذلك
سواء. فالقرآن معجز بأسلوبه وفحواه، لا يقدر النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا
من دونه من البشر على الإتيان بمثله. والذي نجزم به أنه كان يلقى إلى النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب والنظم، فيلقيه صلى الله عليه وسلم إلى الناس
كما ألقاه إليه الملك، حتى إنه يذكر لفظ الأمر الذي يخاطب هو به، فيقول مثلاً:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) وهو المخاطب بلفظ قل وكان الظاهر في
الامتثال أن يقول ابتداء (اللَّهُ أَحَدٌ) ولكنه أمر أن يبلغ ما يلقى إليه كما هو , وإن كان
إلقاء الملك غير إلقاء البشر في كيفيته، فهو مثله في حاصله وما يدرك منه ,
وسنذكر ما ورد في ذلك في وقت آخر.
* * *
(الجواب عن الرابع: أنزل القرآن على سبعة أحرف)
الحديث رواه باللفظ الوارد في السؤال أحمد والترمذي عن حذيفة، وأشار
السيوطي في الجامع الصغير إلى تحسينه، فهو لا يصل إلى درجة الصحيح ,
وروي بلفظ آخر وبزيادة فمن قرأ على حرف منها، فلا يتحول إلى غيره رغبة
عنه، وهو عند الطبراني عن ابن مسعود , ورواه عنه أيضًا بزيادة أخرى
وحسنوهما. وروي على ثلاثة أحرف , وعلى عشرة أحرف , وكلاهما ضعيف.
وقيل: إن العدد ليس للتحديد، والمعنى على أحرف متعددة.
والمختار عندي في معنى الأحرف أنها اللغات العربية المختلفة في الأداء التي
عبر عنها عند كتابنا الآن باللهجات؛ كالهمز وعدمه والإمالة وعدمها والمد والقصر
وصفة حرف الهجاء من ترقيق وتفخيم , فقد كان هذا مما تختلف فيه العرب، حتى
يعسر على من كانت الإمالة لغة لهم أن يتركوها وهكذا غيرها من الحروف , فأذن
الله بأن يقرأ كل قوم بحرفهم الذي اعتادوه؛ لأن ذلك لا يغير شيئًا من معنى القرآن
ولا من جوهر لفظه، بل هو يتعلق بأعراض الكلم دون جوهره , ولا ينافي أنه
نزل بلغة قريش.
* * *
(الجواب عن الخامس: المؤتمر الإسلامي)
يظهر لنا أن المسلمين لما يستعدوا كما يجب لعقد مؤتمر عام؛ لأجل البحث
في مصالحهم وما يرقي شؤونهم , وقد ذكرهم بذلك العقلاء مرارًا، فلم يلقوا إليهم
سمعًا , ولا أداروا نحوهم طرفًا , ولا أمالوا عطفًا , والذي يسبق إلى ذهن كل من
يبحث في هذه المسألة أن المؤتمر يجب أن يكون في مكة المكرمة أو المدينة المنورة ,
وهذا ما سبق إلى التنبيه عليه السيد جمال الدين الأفغاني، وما كنا اقترحناه منذ
أربع عشرة سنة , ثم كونه الكواكبي أوسع تكوين في كتابه (سجل جمعية أم
القرى) ، وكلنا نعلم أن السلطان عبد الحميد ما كان ليرضى بعقد هذا المؤتمر في
الحرمين، وكذلك لا يرضى به زعماء جمعية الاتحاد والترقي الآن. وكان إسماعيل
غصبر نسكي صاحب جريدة ترجمان التي تصدر في بغجه سراي (عاصمة بلاد
القريم الروسية) اقترح عقد هذا المؤتمر بمصر من عدة سنين، فأجاب دعوته
فئة من المصريين، وجعلوا للمؤتمر قانونًا، ونشروا الدعوة إليه في جميع الأقطار،
فلم يجب دعوته أحد.
ومصر هي البلاد المتمتعة بالحرية التي يمكن أن يكون فيها المؤتمر متى تم
الاستعداد له , وتليها بلاد الهند. ونرجو أن تكون جماعة الدعوة والإرشاد هي
المعدة للمسلمين إلى عقد مثل هذا المؤتمر بعد تأسيس شعبها في جميع الأقطار ,
ويتوقف عقد المؤتمر ونجاحه على وثوق الحكومات التي تسوس المسلمين بأنه لا
عمل له إلا إحياء العلم والفضيلة , والجمع بين الدين والمدنية النزيهة , وعدم الدخول
في مآزق السياسة والتعرض لفتنها , نعم إن من حكام المسلمين من لا يرضيهم ترقي
المسلمين بدينهم كما نريد، ولكنهم لا يشتدون في مقاومة المؤتمر إذا كان هذا هو
مرادنا منه، وكنا بمعزل عن السياسة فيه.
* * *
(الجواب عن السادس: إنشاء ناد للتعارف بمكة)
إننا نستحسن اقتراح الفاضل أشد الاستحسان، ولكن إنشاء الجماعة ناديًا لها
في مكة المكرمة أو في غيرها من البلاد يتوقف على إنشاء شعبة لها هناك تكون
ضليعة بذلك، فالاقتراح يعد الآن مبتسرًا , والبسر قد يصير رطبًا فتمرًا , والرجاء
في الله (عز وجل) أن نجد في خيار المسلمين من المساعدة على عملنا هذا ما
يمهد لنا السبيل إلى ما فيه الخير لنا وللبشر أجمعين.
* * *
(المندل وخواص القرآن)
(س60) ورد من جاوه إلى مكة المكرمة وأرسل إلينا منها.
ما قولكم دام فضلكم في علم المندل وخواص بعض الآيات القرآنية أو السور،
ومنها ما إذا قرأ على كف صبي دون البلوغ أو جعل وفقًا وحمله الصبي، يظهر له
في كفه أو قدامه شخص أو أشخاص على صورة الإنسان، بحيث يراه الصبي دون
غيره بعينه ويخاطبه ويسأله عما يريد، فيخبره الشخص بمقتضى سؤاله ويأمره
بأمر أراد فيه (كذا) ، وكذلك وجد في كتاب (الرحمة في الطب والحكمة) للعلامة
السيوطي، وذكر فيه لرؤية السارق عبارته فيه (لرؤية السارق يكتب على بيضة
دجاجة من أول سورة الملك إلى حسير، ثم تدهنها بالقطران وتعطيها لصبي، ثم
تقرأ سورة يس والصبي ينظر إليها، فإنه ينظر السارق، فاعرف هذا السر وصنه
عن غير أهله) اهـ. فما الحكم على هذا شرعًا، هل يجوز استعماله أم لا؟
وهل يكون من قبيل السحر أو الكهانة أو من خواص الآيات القرآنية؟ أفتونا
مأجورين يوم الدين؛ لأن هذا شيء جرب واستعمل وصح في بعض الأحيان.
(ج) خلق الإنسان ضعيفًا , ومن آيات ضعفه أنه يفتتن بكل ما لا يعرف
سببه، ويسرع إلى تصديقه قبل تمحيصه , ولا سيما إذا لون بلون الدين أو جاء من
ناحيته , أو من قبل من يعدون من علمائه.
قال علماء المنطق: إن التجربة من طرق العلم اليقيني، وإن المجربات
إحدى اليقينيات الست , ويعنون بذلك المجربات المطردة التي لا تختلف متى
استوفت شروطها؛ ككون الخبز مغذيًا والماء مرويًا، وبعض الأملاح والزيوت
مسهلاً , ونرى جماهير الناس يجربون الشيء مرة أو مرتين تجربة ناقصة،
ويجعلون له حكم المجربات المطردة، ويسلمون به وبكل ما كان من جنسه تسليمًا ,
وهذا وذاك هما سبب شيوع الخرافات في الناس , فمن فقه هذا لا يثق بكل ما قيل:
إنه جرب وصح سواه، قاله المعاصرون بألسنتهم أو الميتون في كتبهم , وإن لم
يكن أحد من الفريقين متهمًا بالكذب , فقد ينظر صبي أو كبير في المندل أو في غير
المندل كالرمل والحصا؛ لأجل الاهتداء إلى معرفة سارق أو غير سارق، فيتراءى
له شيء يذكره , أو شيخ يصفه , ثم يظهر الواقع موافقًا لذلك ولو من بعض الوجوه،
فيحفظه الناس لغرابته. وأما إذا ظهر الواقع مخالفًا لذلك وهو الأكثر، فإنهم
ينسون ما قيل، ولا يعدونه دليلاً على كون التجربة لم تثبت المندل أو الرمل طريقًا
لمعرفة بعض المغيبات.
إن التجربة إذا صحت ظاهرًا في بعض الجزئيات دون بعض، يجب البحث
عن سبب ذلك. وكان يجب أن يكون أول ما يخطر ببال العاقل أن قول صاحب
المندل أو الرمل: إن سارق كذا شاب طويل القامة واسع العينين طويل الذراعين
ونحو ذلك، قد يكون من التخيلات التي تتراءى عادة , وإن صدق الوصف جاء
بالمصادفة والاتفاق؛ لأن من يقول شيئًا من شأنه أن يقع مثله، فإن الواقع يوافقه
تارة ويخالفه تارة، ولا مقتضي لمخالفته دائمًا , وهذا الأمر المعقول هو الواقع في
مدعي معرفة بعض الغيب بالمندل والرمل وما أشبههما , يصيبون مرة ويخطئون
مرارًا , فتجربتهم لا تسفر عن إثبات صحة دعواهم لمن ينظر إلى مجموع وقائعهم
ولكن صغار العقول يكتفون بالجزئية الواحدة أو الجزئيات القليلة، ويعدونها قضايا
كلية مطردة.
ويقول بعض المتقدمين والمتأخرين: إن تجربة المتقنين للمندل وما يشبهه
صحيحة، وإن المتقن لا يكاد يخطئ إلا إذا فقد بعض شروط العمل , فإذا صح هذا
القول يكون هذا الأمر من الصناعات التي تعرف أسبابها وتتخذ لها عدتها، ولا من
الخوارق الحقيقية , ولا من الخواص المجهولة , وهذا هو الراجح. وينبغي حينئذ
البحث عن تلك الأسباب ومعرفة حقيقة هذه الصناعة التي يقل المتقن لها، حتى
يؤمن غش الأدعياء. وابن خلدون وغيره من الحكماء الذين أثبتوا أن لهذا أصلاً
صحيحًا، يقولون: إن المدار فيه على استعداد الأنفس البشرية لإدراك بعض
الأمور الغائبة بالتوجه التام إليها , وأن بعض النفوس أقوى استعدادًا لذلك من بعض،
والغلام أقوى استعدادًا له من الكبير في مثل وسيلة المندل، والعصبي المزاج
أقوى استعدادًا له من غيره ولا سيما من اللمفاوي، وإن ما ينظر فيه من الزيت أو
الماء أو الكتابة أو البيضة أو الحصا ليس مقصودًا لذاته ولا تأثير له في نفسه،
وإنما المراد منه جمع الهمة وإشغال النفس عن الخواطر بحصر توجهها في شيء
محسوس واحد؛ لتنتقل منه بعد حصرها وتوجهها فيه إلي ما تريد معرفته من ذلك
الأمر الغائب، وهذا تعليل معقول، فإذا كان المسلمون يكتبون شيئًا من القرآن
الكريم فغيرهم يكتب شيئًا آخر من كتبهم الدينية أو يكتب حروفًا مفردة لا معنى لها،
والمقصد منها اشتغال الحس، وتوجيه النفس، ومن هذا الباب ما يدركه بعض
أصحاب الأمراض العصبية من الأمور الغائبة؛ وهو يؤيد نظرية ابن خلدون
وأمثاله، وإذا كان هذا صناعة يجوز شرعًا لمن أتقنها أن ينتفع بها وينفع، وإنما
المحرم الغش الذي يفعله الدجالون الذين لا يحصى عددهم، وهو الذي قد يعد من
قبيل السحر لأنه خداع وتلبيس.
* * *
(العمل بالسياسة والقوانين)
(س61) جاء من أحد آل الشيبي في مكة المكرمة، وقد ورد من جاوه.
ما قولك دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو
نائبه، وأمر وألزم بلده وقضاته بإجرائها وتنفيذها، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله
لإطلاق قوله تعالى: {وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (آل عمران: 32) إلخ، أم
كيف الحكم؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار.
(ج) إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح
من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجب علينا أن نعمل بها؛ إذا وضعها أولو
الأمر منا وهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضروريات،
وإن كانت جائزة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا خلاف فيها لم تجب
الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهذا نص
حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري
وصححوه. ورواه الشيخان في صحيحيهما وأبو داود والنسائي من حديث علي
كرم الله وجهه بلفظ (لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) ولا
يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛
لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن، ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل
والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم، فلا يخرجوا عنه
ولو لمصلحة تطلب أو مفسدة تجتنب، ولا بغير هذا القيد.
وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم من القوانين
التي ليس فيها معصية للخالق، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل
والعقد لأجل المصلحة لا عملاً بالآية، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير
ما وضعه السلطان، وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو؛ لأنهم
هم نواب الأمة، وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة، ولا يكون إمامًا للمسلمين إلا
بمبايعتهم، إن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم، وبناء على هذه
القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم،
قال الخليفة الأول في خطبته الأولى: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت
فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة، وقال الخليفة
الثالث علي المنبر أيضًا: (أمري لأمركم تبع) ، وقال الخليفة الرابع في أول
خطبة له، وكانت بعدما علمنا من الأحداث والفتن: (ولئن رد إليكم أمركم إنكم
لسعداء وأخشى أن تكونوا في فترة) وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) والفتنة التي قتل فيها عثمان لم تكن بالشورى بين أولي
الأمر، بل كانت بدسائس هاجت الرعاع، وأرز (انكمش) فيها مثله وهو إمام أولي
الأمر وأعلمهم وأعدلهم إلى كسر بيته. وما قاله بعض الفقهاء خدمة للمستبدين من
الأمراء، من وجوب طاعتهم في كل شيء خوفًا من الفتنة؛ مخالف لنص الحديث
الصحيح وللإجماع على مضمونه، ولعمل الصدر الأول؛ وهو الذي كان السبب في
إضاعة ملك المسلمين وترك العمل بشرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،
فالخضوع للمستبدين الظالمين هو الذي مهد السبيل للخضوع للكافرين، ولأجل هذا
كان الحكام المستبدون يضطهدون العلماء المستقلين، ويرفعون رتب المعممين
المقلدين، الذين كانوا أعوانهم في كل حين، نعم.. إن مقاومة الأمة لأمراء الجور
المتغلبين؛ يجب أن يكون بالحكمة والتدبر؛ واتقاء استشراء الفتن وانتشارها والعمل
بقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
* * *
(الفرق بين الزواج والزنا)
(س62) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة الأستاذ الفاضل
السلام عليكم ورحمة الله وبعد، نطلب من حضرتكم الإجابة على سؤالنا الآتي
نشرًا في مجلة (المنار) ، ولكم منا الشكر ومن الله الأجر.
رجل لا يرغب في الزناء ولا يمكنه أن يتزوج، وليس في استطاعته أن
يعصم نفسه عن النكاح، فهل إذا اتفق مع بغي، وتزوج بها في ليلته، وعقدا عقدة
النكاح بينهما بدون واسطة وحين يصبح يطلقها، أفهل هذا يعد زناء أم لا؟
أفيدونا على ذلك ولكم الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ع. المللواني
(ج) كيف لا يعد هذا زناء؛ وهو يعلم علم اليقين أنه يأتي زانية، كانت
البارحة كما تكون غدًا في حجرة غيره، وهو لم يستبرئ رحمها، ولم يعقد عليها
عقدًا صحيحًا؛ والعقد الصحيح هو ما تعقد به رابطة الزوجية بقصد العيشة الزوجية
وأما اشتراط الشهود فيه وسنية إعلانه، فليتميز عن السفاح الذي من شأنه أن يكون
في الخفاء كالصورة التي تسأل عنها، وأنت موقن أنك لا تقصد الزوجية بالكلمات
التي سميتها عقدًا، وإنما تقصد السفاح أي الاشتراك مع البغي في سفح ماء الشهوة،
وأين أنت من قوله تعالي: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ
يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (النور: 3) ، فاعتبر بهذا،
واعلم يا أخي أن الفرق الحقيقي بين الحلال والحرام والخير والشر والحق
والباطل لا يكون كلمة يلوكها اللسان، بل الفرق أمر حقيقي يعبر عنه اللسان لأجل
بيانه، فلا تغش نفسك، وتظن أنك تخادع ربك، وإذا كنت تحب أن تبقى طاهرًا
نقيًا من فتن الفاحشة فتوجه إلى ربك، وانتزع فكرة التمتع من قلبك، واشغل نفسك
عنها بما يقوي إيمانك كالصيام وذكر الله تعالى بالتدبر والحضور؛ إلى أن يهيئ الله
لك زوجًا صالحة والسلام.
__________(14/731)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بحث الاجتهاد والتقليد
تابع لما نشر في الجزء السابع
عن مختصر كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول
لابن أبي شامة من فقهاء الشافعية في القرن السابع
(فصل) ثم إن المتصفين من أصحابنا بالصفات المتقدمة من الاتكال على
نصوص إمامهم، معتمدين اعتماد الأئمة على الأصليين (الكتاب والسنة) ، قد وقع
في مصنفاتهم خلل كثير من وجهين عظيمين.
(الأول) إنهم يختلفون كثيرًا فيما ينقلونه من نصوص الشافعي، وفيما
يصححونه منها، وصارت لهم طرق مختلفة (خراسانية وعراقية [1] فترى هؤلاء
ينقلون عن إمامهم خلاف ما ينقله هؤلاء، المرجع في ذلك كله إلى الإمام واحد،
وكتبه مدونة مروية موجودة، أفلا كانوا يرجعون إليها وينقون تصانيفهم من كثرة
اختلافهم عليها؟ وأجود تصانيف أصحابنا من الكتب فيما يتعلق بنصوص الشافعي
كتاب التقريب [2] . أثنى عليه أخبر المتأخرين بنصوص الشافعي وهو الإمام الحافظ
أبو بكر البيهقي.
(الوجه الثاني) ما يفعلونه في الأحاديث النبوية والآثار المروية من كثرة
استدلالاتهم الضعيفة؛ على ما يذهبون إليه نصرة لقولهم، وينقصون من ألفاظ
الأحاديث وتارة يزيدون فيها، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد [3]
نحو: (إذا اختلف المتبايعان وترادا) ومن العجيب ما ذكره صاحب المهذب في
أول باب إزالة النجاسة قال: وأما الغائط فهو نجس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
لعمار: (إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء) ، ثم ذكر
طهارة مني الآدمي، ولم يتعرض للجواب عن هذا الحديث الذي هو حجة خصمه
عليه في أمر آخر، ومن قبيح ما يأتي به بعضهم أن يحتج بخبر ضعيف؛ هو دليل
خصمه عليه، فيوردونه معرضين عما كانوا ضعفوه، ففي كتاب الحاوي والشامل [4]
وغيرهما شيء كثير من هذا، وهم مقلدون للإمام الشافعي، فهلا اتبعوا طريقته
في ترك الاحتجاج بالضعيف، وتعقبه على من احتج به وتبين ضعفه.
ثم إن مذهبه ترك الاحتجاج بالمراسيل إلا بشروط، ولو ذكر سند الحديث
وعرفت عدالة رجاله إلى التابعي، وسقط من السند ذكر الصحابي، كان مرسلاً،
ويورد هؤلاء المصنفون هذه الأحاديث محتجين بها بلا إسناد أصلاً، فيقولون: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظنون أن ذلك حجة، وإمامهم يرى أنه لو سقط
من السند الصحابي وحده لم يكن حجة، وكذا لو سقط غير الصحابي من السند،
فليتهم إذ عجزوا عن أسانيد الأحاديث ومعرفة رجالها عزوها إلى الكتب التي
أخذوها منها. ولكنهم لم يأخذوا تلك الأحاديث إلا من كتب من سبقهم من مشايخ،
ممن هو على مثال حالهم، فبعضهم يأخذه من بعض فيقع التغيير والزيادة والنقصان
فيما صح أصله، ويختلط الصحيح بالسقيم، بل الواجب في الاستدلال على الحكام
وبيان الحلال والحرام، إن من يستدل بحديث يذكر سنده ويتكلم عليه بما يجوز
الاستدلال به أو يعزوه إلى كتاب مشهور من كتب أهل الحديث المعتبرة، فيرجع
من يطلب صحة الحديث وسقمه إلى هذا الكتاب وينظر في سنده وما قال ذلك
المصنف أو غيره فيه.
وقد يسر الله تعالى وله الحمد؛ الوقوف على ما يثبت من الأحادث وتجنب ما
ضعف منها؛ بما جمعه علماء الحديث في كتبهم من الجوامع والمسانيد، فالجوامع
هي المرتبة على الأبواب من الفقه والرقائق والمناقب وغير ذلك، فمنها ما اشترط
فيه الصحة؛ إذ لا يذكر فيه إلا حديث صحيح على ما شرطه مصنفه ككتابي
البخاري ومسلم، وما ألحق بهما واستدرك عليهما وكصحيح إمام الأئمة محمد بن
إسحاق بن خزيمة. وكتاب أبي عيسي الترمذي وهو كتاب جليل مبين فيه الحديث
الصحيح والحسن والغريب والضعيف، وفيه عن الأئمة فقه كثير. ثم سنن أبي
داود والنسائي وابن ماجه، ومن بعدهم سنن أبي الحسن الدارقطني والتقاسيم
لأبي حاتم بن حبان وغيرهما، ثم ما رتبه وجمعه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه
الكبير من الأوسط والصغير التي أتى بها على ترتيب مختصر المزني؛ وقربها إلى
الفقهاء بجهده فلا عذر لهم، ولا سيما الشافعية منهم في تجنب الاشتغال بهذه الكتب
النفيسة، (والكتب) المصنفة في شروحها وغريبها بل أفنوا زمانهم وعمرهم
بالنظر في أقوال من سبقهم من المتأخرين، وتركوا النظر في نصوص نبيهم
المعصوم من الخطأ، وآثار أصحابه الذين شهدوا الوحي وعاينوا المصطفى صلى
الله عليه وسلم، وفهموا مراد النبي فيما خاطبهم بقرائن الأحوال؛ إذ (ليس الخبر
كالمعاينة) ، فلا جرم لو حرم هؤلاء رتبة الاجتهاد وبقوا مقلدين.
(وقد كان العلماء في الصدر الأول معذورين في ترك ما لم يقفوا عليه من
الحديث؛ لأن الأحاديث لم تكن فيما بينهم مدونة إنما كانت تتلقى من أفواه الرجال
وهم متفرقون في البلاد، ولو كان الشافعي وجد في زمانه كتابًا في أحكام السنن
أكبر من الموطأ لحفظه مضافاً إلى ما تلقاه من أفواه مشايخه، فلهذا كان الشافعي
بالعراق يقول لأحمد بن حنبل: أعلموني بالحديث الصحيح أصر إليه. وفي رواية:
إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه.
(ثم جمع الحفاظ الأحاديث المحتج بها في الكتب، ونوعوها وقسموها
وسهلوا الطريق إليها، فبوبوها وترجموها (أي وضعوا لها التراجم والعناوين)
وبينوا ضعف كثير منها وصحته، وتكلموا في عدالة الرجال وجرح المجروح منهم
وفي علل الأحاديث، ولم يدعوا للمشتغل شيئًا يتعلل به. وفسروا القرآن والحديث،
وتكلموا على غريبهما وفقههما، وكل ما يتعلق بهما من مصنفات عديدة، فالآلات
متهيئة لطالب صادق ولذي همة وذكاء وفطنة.
(وأئمة الحديث هم المعتبرون القدوة في فنهم، فوجب الرجوع إليهم في ذلك
وعرض آراء الفقهاء على السنن والآثار الصحيحة، فما ساعده الأثر فهو المعتبر
وإلا فلا، فلا نبطل الخبر بالرأي ولا نضعفه إن كان على خلاف وجوه المضعف
من علل الحديث المعروفة عند أهله، أو بإجماع الكافة على خلافه، فقد يظهر
ضعف الحديث وقد يخفى. وأقرب ما يؤمر به في ذلك أنك متى رأيت حديثًا خارجًا
عن دواوين الإسلام؛ كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي
والنسائي ونحوها مما تقدم ذكره مما لم نذكره، فانظر فيه فإن كان له نظير في
الصحاح والحسان قرب أمره، وإن رأيته يباين الأصول وارتبت به فتأمل رجال
إسناده، واعتبر أحوالهم من الكتب المصنفة في ذلك، وأصعب الأحوال أن يكون
رجال الإسناد كلهم ثقات، ويكون متن الحديث موضوعًا عليهم أو مقلوبًا أو قد
جرى فيه تدليس، ولا يعرف هذا إلا النقاد من علماء الحديث، فإن كنت من أهله
فبها وإلا فاسأل عنه أهله، فما عرفوا منه أخذناه، وما أنكروه تركناه.
(فالتوصل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة؛ إذا رزق
الإنسان الحفظ والفهم ومعرفة اللسان أسهل منه قبل ذلك، لولا قلة همم المتأخرين
وعدم المعتبرين.
(ومن أكبر أسباب تعصبهم برفق الوقوف [5] وجمود أكثر المتصدرين منهم
على ما هو المعروف، الذي هو منكر مألوف.
* * *
(فصل) فإذا ظهر هذا وتقرر، تبين أن التعصب لمذهب الإمام المقلد ليس
هو باتباع أقواله كلها كيفما كانت، بل الجمع بينها وبين ما ثبت من الأخبار والآثار
والأمر عند المقلدين أو أكثرهم بخلاف هذا؛ إنما هم يئولونه تنزيلاً على نص
إمامهم.
(ثم الشافعيون كانوا أولى بما ذكرناه؛ لنص إمامهم على ترك قوله إذا ظفر
بحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافه، فالتعصب له على
الحقيقة إنما هو امتثال أمره في ذلك وسلوك طريقته في قبول الأخبار والبحث عنها
والتفقه فيها، وقد نقلت ما روي عنه في تاريخ دمشق: قال الربيع قال الشافعي:
(قد أعطيتك جملة تغنيك إن شاء الله تعالى، لا تدع لرسول الله حديثًا أبدًا إلا أن يأتي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه؛ فتعمل بما قلت لك في الأحاديث إذا
اختلفت) وفي رواية: (إذا وجدتم عن رسول الله سنة خلاف قولي فخذوا بالسنة
ودعوا قولي؛ فإني أقول بها) وفي رواية: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله ودعوا ما قلت) وفي رواية
(كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع
في حياتي وبعد مماتي) [6] .
(قال: وسمعت الشافعي يقول - وروى حديثًا - قال له رجل: تأخذ بهذا يا
أبا عبد الله، فقال متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا فلم
آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب) وأشار بيده إلى رأسه، وفي رواية: روى
حديثًا فقال له قائل: أتأخذ به؟ فقال له: أتراني مشركًا؟ أو ترى في وسطي زنارًا؟
أو تراني خارجًا من كنيسة؟ نعم.. آخذ به آخذ به آخذ به، وذلك الفرض على
كل مسلم) وقال حرملة: قال الشافعي: كل ما قلت وكان قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم أولى ولا تقلدوني) وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبي ثور قال: سمع
الشافعي يقول (كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه
مني) وفيه عن الحسين الكرابيسي قال: قال لنا الشافعي: (إذا أصبتم الحجة في
الطريق مطروحة فاحكوها عني فإني القائل بها) وقال الربيع: سمعت الشافعي
يقول: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب
عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي.
قال وجعل يردد هذا الكلام. قال: وقال الشافعي: (من تبع سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وافقته، ومن غلط فتركها خالفته، صاحبي اللازم الذي لا أفارقه هو
(الثابت عن رسول الله) وقال الزعفراني: كنا لو قيل لنا سفيان عن منصور عن
إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: هذا مأخوذ
وهذا غير مأخوذ حتى قدم علينا الشافعي، فقال: (ما هذا؟ إذا صح الحديث عن
رسول الله فهو مأخوذ به لا يترك لقول غيره) قال: فنبهنا لشيء لم نعرفه، يعني
نبهنا على هذا المعنى.
قال أبو بكر الأثرم: كنا عند البويطي فذكرت حديث عمار في التيمم، فأخذ
السكين وحته من كتابه وجعله ضربه [7] وقال: هكذا أوصانا صاحبنا إذا صح
عندكم الخبر فهو قولي) .
(قال المؤلف) قلت هذا من البويطي فعل حسن موافق للسنة ولما أمر به
إمامهم، وأما الذي يظهر التعصب لأقوال الشافعي كيفما كانت وإن جاءت سنة
بخلافها، فليسوا متعصبين في الحقيقة؛ لأنهم ما أمر به إمامهم بل دأبهم وديدنهم إذا
ورد عليهم الحديث الصحيح الذي هو مذهب إمامهم من قول قد أمر بتركه عند
وجدان ما يخالفه من السنة، هذا مع كونهم عاصين بذلك لمخالفتهم ظاهر كتاب الله
وسنة رسوله، والعجب أن منهم من يجيز مخالفة نص الشافعي لنص له آخر في
مسألة أخرى بخلافه ثم لا يرون مخالفته؛ لأجل نص رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقد أذن لهم الشافعي في هذا.
قال البوطي سمعت الشافعي يقول: (لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها
جهدًا ولا بد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فما وجدتم في كتبي هذه مما
يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه) وفي رواية (إني ألفت هذه الكتب مجتهدًا،
بنحو ما قبله وفي آخره، فاشهدوا على أني راجع عن قولي إلى حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ وإن كنت قد بليت في قبري) .
وقال إبراهيم بن المنذر الخزامي: حدثنا معن بن عيسى القزاز قال: سمعت
مالكًا يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي: فكل ما وافق
الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) .
وذلك الظن بجميع الأئمة، وقد كره الإمام أحمد أن يكتب فتاويه، وكان يقول:
لا تكتبوا عني شيئًا ولا تقلدوني ولا تقلدوا فلانًا وفلانًا، وخذوا من حيث أخذوا) وقال
بعضهم: لا تقلدوا دينكم الرجال إن آمنوا آمنتم وإن كفروا كفرتم. وكان أحمد لا يفتي
في طلاق السكران شيئًا، ويقول: إن أحللناه بقول هذا حرمناه بقول هذا: وقال نعيم
بن حماد: سمعت أبا عصمة يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: ما جاءه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن أصحابه اخترنا، وما كان من
غير ذلك فنحن رجال وهم رجال.
وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلد من كان من القضاة المفتين
من الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة، ولا أستجيز خلافهم
في رأيي إلا ثلاثة نفر - وفي رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي
إلا ثلاثة نفر -: أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب، فقيل له
في ذلك، فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى (فيفتي) من عقله وأنا
لا أقلد عقله. وأما أبو هريرة كان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في
المعنى ومن غير أن ينظر في الناسخ والمنسوخ [8] .
وقال ابن المبارك: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم فعلى الرأس، وإذا جاء عن أصحابه نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين
زاحمناهم، وفي رواية قال: آخذ بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد
في كتاب الله ولا سنة رسول الله آخذ بقول أصحابه، ثم آخذ بقول من شئت منهم
وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. فأما إذا انتهى الأمر
إلى إبراهيم أو الشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب؛ وعدَّ رجالاً
من التابعين؛ فقوم اجتهدوا لرأيهم. وكان سوَّى بين الصحابة والتابعين في أنهم إذا
أجمعوا في مسألة على قولين؛ لم يجز إحداث قول ثالث، وجوز أبو حنيفة ذلك، وأما
ما أجمع عليه الصحابة فلا كلام في أنه لا تجوز مخالفته.
فقد وضح لك من أقوال الأئمة أنه متى جاء حديث ثابت صحيح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فواجب المصير إلى ما دل عليه الظاهر ما لم يعارضه دليل آخر
، وهذا هو الذي لا يسع أحدًا غيره، قال الله عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً} (النساء: 65) . فنفى سبحانه الإيمان عمن لم يحكم رسوله فيما وقع
التنازع فيه ولم يستسلم لقضائه، وقال: يضمنها في طاعة غيره، وقال تعالى:
{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: 71) وأوعد على
مخالفة، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب: 36) .
قال يونس بن عبد الأعلى: حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد
قال: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم،
وروي عن مجاهد بإسناد آخر، وروي معناه عن الشعبي، وكذلك روى شعبة عن
الحكم بن عتيبة، وروي عن مالك بن أنس وقال: (إلا صاحب هذا القبر)
وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ا. هـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ثم حدثت بعد المصنف الوجوه الشامية والمصرية بعد مصنفات محيى الدين النووي في الشام، ثم زكريا الأنصاري فابن حجر الهيتمي والرملي بمصر، وكل هؤلاء قد اعتمدوا على كتب النووي وقلما يخالفونه، وعمدة أهل الحجاز واليمن وحضرموت إلى هذا العهد كتب ابن حجر، كما أن عمدة أهل مصر الشام كتب الرملي كما كان الخراسيون يعتمدون كلام فقهاء خراسان، والعراقيون كلام فقهاء العراق والمدار على الثقة بالرجال لا على الدليل والنص، حتى إنك لو أطلعت الحجري أو الرملي عنهم على نص الشافعي المخالف لنص ابن حجر أو الرملي لنبذه واتبع ابن حجر أو الرملي.
(2) هو للشيخ قاسم القفال الشاشي، قال ابن خلكان: هو أجل كتب الشافعية بحيث يستغني من هو عند غيره.
(3) أبو المعالي إمام الحرمين وأبو حامد الغزالي.
(4) الحاوي للمواردي، والشامل لابن الصباغ وهما من أعظم كتب الشافعية وأوسعها.
(5) قال في هامش الأصل: يعني ارتفاق الأوقاف والانتفاع مما شرط على المالكية أو نحوهما فنقيدهم بالارتفاق بها وحصرهم جهة الارتزاق منها أورث تعصبهم وجمودهم انتهى, يعني أنه لولا تلك الأوقاف التي حبست في العصور الأولى على أصحاب هذه المذاهب لسلك جميع العلماء مسلك الأئمة وسائر السلف في الاستقلال وتحكيم الكتاب والسنة.
(6) المنار: في الأصل المطبوع تحريف وتقديم وتأخير في هذه النقول صصحناه من الكتب التي نقلته نقلا مضبوطًا.
(7) أي جعل التيمم ضربة واحدة يمسح بها المتيمم وجهه ويديه وكان في الكتاب ضربتين واحدة للوجه وأخرى لليدين، وحديث عمار ضربة واحدة فأصلح البويطي بها كتابه وترك قول الشافعي أستاذه بحديث عمار.
(8) قال في (مرأة الوصول وشرحها مرقاة الأصول) من أصول الحنفية رحمهم الله في بحث حال الراوي، وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيها تقبل منه الرواية مطلقًا، سواء وافق القياس أو خالفه وإن لم يكن فقيها كأبي هريرة وأنس رضي الله عنهما فترد روايته إن لم توافق الحديث الذي رواه اهـ بحروفه، ولابن القيم في إعلام الموقعين بحث كبير في أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس فراجعه اهـ من هامش الأصل المطبوع، لم يشر صاحب الهامش إلى سقوط سبب ترك رواية سمرة.(14/743)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة الشرقية [*]
واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب
وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، فوجفت القلوب،
وامتدت الأعناق، وشخصت الأبصار، وعميت الأنباء على الناس فهم يتساءلون:
كيف أقدمت إيطالية على مفاجأة الدولة العثمانية بالعدوان، واغتصاب مملكة كبيرة
وهي ولاية طرابلس الغرب ومتصرفية بنغازي، وإيذانها بالحرب من غير عداء
سابق ولا خلاف على شيء بني عليه هذا العدوان؟
كيف رضيت الدول العظمى بهذا العدوان المشوه الذي هدمت به حقوق الدول
ونقضت به معاهداتها، وبطلت الثقة بكل ما عدا القوة فيها، فهي كالوحوش
المفترسة، والذئاب الضارية، ولا يصدها عن الولوغ في الدماء، وتمزيق الأشلاء
إلا العجز فقط؟
كيف سكتت الشعوب الأوربية لدولها على هذه السياسة الوحشية التي لا شائبة
فيها لشيء من شرف الإنسانية؟
هل الحقوق والعهود والقوانين والعدل والرحمة والإنسانية ألفاظ تلوكها الألسنة
وترسمها الأقلام؛ لأجل مخادعة الغافلين والتغرير بالجاهلين، أم هي خاصة بمن
يدعون الانتساب إلى المسيح، وإن كانوا أبعد الخلق عن آدابه وتعاليمه في القناعة
والزهد والرحمة ومحبة الأعداء، والصفح عن المعتدين؟
هل تقصد أوربة بالسماح لإحدى دولها الكبرى بهذا العدوان المشوه، المخالف
لما اعتاده سائر دولها من العدوان المموه؛ لجعله مقدمة لإسقاط هذه الدولة الإسلامية
واقتسام بلادها بعد أن أسقطن دولة المغرب الأقصى، واتفقن على انقسام دولة
إيران، وسمحن لروسية بإنشاب براثنها في القسم الشمالي منها، وترك القسم
الجنوبي لدولة إنكلترة؟
أتريد هذه الدول الأوربية المسيحية العادلة الرحيمة البريئة من الظلم
والتعصب بزعمها هدم الدول الإسلامية الثلاث في سنة واحدة؟ هذا ما يتساءل به
الناس.
قد انهتك الستر، وانكشف القناع، وأظهرت أوربة ما كانت تخفيه بالتمويه
من قصد إزالة سلطان المسلمين من الأرض، والقضاء عليهم بالذل والعبودية، وأن
يكونوا خدمًا وعبيدًا لأوربة؛ بعد أن تقتسم ما بقي من ممالكهم، وتقطع عليهم جميع
طرق العزة والقوة، وتحرمهم إلى الأبد من إنشاء حكومة ذاتية.
كانت أوربة تتوسل إلى مقصدها هذا بالبحث عن ذنوب للحكومات الإسلامية
وإن لم تخل من مثلها حكومة، أو انتحال ذنوب لا حقيقة لها، وإنما أوجدتها
الدسائس الأوربية؛ ليبنى عليها مرادها منها.
ابتلي المسلمون بملوك وأمراء وأعوان لهم من العلماء والزعماء بينهم وبين
كل علم وعمل تعتز به أمتهم، وتقوى به دولتهم، فمكنوا بذلك أوربة من مقاتلهم،
وفتحوا لها الثغور؛ لاحتلال بلادهم وإزالة استقلالهم، فزال أكثرها وبقي أقلها
مستقلاً في الظاهر، ولكنه تحت نفوذ أوربة في الواقع.
هذه الدولة العثمانية قد اضطرها مركزها في أوربة، واحتكاكها بدولها وكونها
في الأصل دولة حربية إلى اتخاذ جيش منظم؛ كالجيوش الأوربية التي صار أساس
قوتها العلم والصناعة والنظام لا الكثرة والشجاعة والقوة البدنية فقط، فكانت الدولة
بهذا الجيش وبقليل من النظام أشد الحكومات الإسلامية بأسًا، وأقوهن استقلالاً.
ولكن أوربة تعبث باستقلالها الداخلي، فلا تدعها تتصرف في بلادها كما تتصرف
الدول الأوربية القوية منها والضعيفة في بلادها، بل لا يسمحن لها من التصرف
بمثل ما يسمحن به الولايات التي فصلنها منها وجعلنها دولاً مستقلة؛ كاليونان
والبلغار والجبل الأسود، فهي تريد (مثلاً) أن تزيد في المكوس (الجمارك) على
ما يرد إلى بلادها ولا تقدر على ذلك أو ترضى جميع الدول الكبرى به.
قد علم القاصي والداني أن دول أوربة تطمع في تقسيم ولايات هذه الدولة
بينهن، وأنهن يتربثن بذلك لتنازعهن في القسمة، وخشيتهن أن تؤدي إلى حرب
طحون، يتمزق بها شمل أوربة ويسحق بعضها بعضًا، وكان بعضهن يحسب
لسخط المسلمين الخاضعين لها ولهرجهم حسابًا، فهذا هو السبب في عدم اتحاد دول
أوربة الكبرى باسم الصليب على اقتسام بلاد الدولة العثمانية.
ويلي هذه الدول في دول الإسلام دولة إيران فدولة المغرب الأقصى، كانت
أوربة تتربص بهما الدوائر، وتنتظر الفرص، ترى أن سلاطين هذه الدول
وأعوانهم يستعجلون الطامعين فيها بالاستيلاء عليها؛ لأنهم يظلمون الناس، ويبغون
في الأرض، ويسوقون الناس إلى اليأس من حكمهم، وتوقع زواله وتوطين النفس
عليه، ومتى وصلت البلاد إلى هذا الحد سهل وجود أو إيجاد الفتن والحوادث فيها
والتوسل بها إلى احتلالها أو حمايتها أو امتلاكها، أو ما شئت من الأسماء اللغوية أو
العرفية الدالة في هذا العصر على الفتح السلمي أو الحربي.
كان جل التنازع في السياسة العثمانية والإيرانية بين الدولتين الروسية
والبريطانية، حتى نجم قرن ألمانية في أوائل هذا القرن الهجري وظهرت شرة
عاهلها المستوى على عرشها لهذا العهد في منازعة إنكلترة، فاستمال إليه السلطان
عبد الحميد فخنق الإنكليز على الدولة العلية، وقلبوا لها ظهر المجن، واتفقوا مع
روسية عليها، ومهدوا السبل لتقسيمها.
كانت روسية هي السابقة إلى السعي في إزالة دولة العثمانيين ومحو اسمها من
لوح الوجود، وإرث موقعها البحري الذي لا نظير له في الأرض؛ لتجمع بين
القوتين البرية والبحرية، وتكون لها السيادة العليا في البرية. وكانت قاعدة السياسة
الإنكليزية أنه يجب أن تبقى الدولة العثمانية سدًّا في وجه روسية، وحائلاً بينها
وبين البحر المتوسط الذي هو قلب البحار وسيدها، بشرط أن لا تقوى، ولا تكون
دولة بحرية تخشى، وإن شئت قلت: (بشرط أن لا تموت ولا تحيا) فلما استقرت
قدمها في مصر والسودان، ودمر الأسطول الروسي في محاربة اليابان , وظهر
الأسطول الألماني في منتهى القوة، وصار في سنين قليلة بعد الأسطول الإنكليزي
في الدرجة، تغيرت السياسة الإنكليزية، وتبع ذلك تغير سياسة أوربة كلها في
المسألة الشرقية؛ لأن إنكلترا لا تزال صاحبة النفوذ الأول في عالم السياسة.
كان من سوء حظ العالم الإسلامي في مشرقة ومغربه أن انخدع في هذا الطور
السياسي الجديد بعاهل الألمان، فاغترت الآستانة ثم طهران ثم فاس؛ بإظهار ميله
ووده للعالم الإسلامي ورغبته في بقاء دوله مستقلة عزيزة قوية، فكان غرورها
وانخذاعها، هو الذي حمل إنكلترة على التعجيل بالقضاء عليها، ولم يغن عنها وداد
عظيم الألمان الوهمي شيئًا، بل كان صوته في تحية الثلاث مئة ومن الملايين
المسلمين نذير الشؤم وفاتحة الشقاء.
ألمانية دولة بنيت سياستها على الأثرة والشح، فهي تريد أن تربح بشرط أن
لا يربح منها أحد، بل تريد كسبًا بغير رأس مال، فلا تسمح بدرهم ولا دينار ولا
بجندي ولا بكرة مدفع ولا رصاصة بندقية؛ لأجل المسلمين الذين منَّاهم
إمبراطورها بصداقته؛ لأجل الربح منهم. فكان إذًا كان لا بد لهم أو للدولة العثمانية
كبيرة دولهم من الاعتماد على صداقة دولة أوربية، فلا يشك عارف خبير بأن
صداقة إنكلترة خير لهم ولدولتهم من صداقة ألمانية؛ فإن إنكلترة إذا أرادت أن
تضر لا تقدر دولة أخرى على مثل ضررها، وإذا أرادت أن تمنع الدولة من
اعتداء غيرها عليها، فلا تقدر دولة أخرى على مثل منعها وحماتيها. وأما النفع
فلا ينبغي أن نعتمد فيه على دولة أجنبية، فمن لم ينفع نفسه لا ينفعه غيره.
هذا هو رأيي في الدولتين، وقد صرحت به منذ سنين للبارون أو بنهايم الذي
كان مندوب الإمبراطور غليوم الثاني غير الرسمي بمصر؛ إذ كان يريد أن يقتضي
بضد هذا الرأي، ولكن ظهرت حجتي على حجته ولم يستطع إقناعي ولا خداعي
بمثل ما خدع به بعض الناس، وهذا هو رأي جميع من أعرف من إخواننا
العثمانيين المعتدلين في آرائهم السياسية.
وأذكر أن أحمد مختار باشا سألني عن رأيي في انكسار إنكلترة في حرب
الترانسفال وكانت الحرب في ريعانها: هل من مصلحتنا نحن العثمانيين أن يستمر
انكسار الإنكليز ويسقط نفوذهم، فقلت: أرى أن المصلحة في أن يقف الانكسار
والغلب عند هذا الحد، وأن تنتصر بعده إنكلترة، ويبقى نفوذها في أوربة محفوظًا،
فإن سقوطها خطر على دولتنا؛ لأن من مصلحتها أن تبقى دولتنا، ومصلحة
روسية في زوالنا، ولا يقف في وجهها سواها، فأهوى بيده ورأسه، وقال هذا هو
الرأي.
كانت سياسة عبد الحميد السوء تهدم ما كان لإنكلترة من المصلحة في بقاء
الدولة، وتقرب بينها وبين روسية، وتزيل ما بينهما من الأضغان والأحقاد. فلما
زال سلطانه وجاء الدستور، كانت إنكلترة أول دولة رحبت بحكومتنا الجديدة،
وأظهرت لها الميل، وأنحت على النمسة بأشد اللائمة عندما أعلنت ضم البوسنة
والهرسك إلى أملاكها، وكادت وزارة كامل باشا تعيد لها سياستها الأولى معنا بأكمل
مما كانت عليه. ولكن قام في وجهه أغيلمة غلطة وسلانيك وأسقطوا وزارته
بإرشاد اليهود الصهيونيين الألمانيين، وما زال الغرور بأولئك الزعماء الذين نزوا
على الدولة بقوة جمعية الاتحاد والترقي وضباطها، حتى أيأسوا إنكلترة منا في
وقت يرون فيه فرنسة وروسية وإيطالية تابعات لها في السياسة، ويرون النمسة
مغتصبة البوسنة والهرسك تطمع في سلانيك مركز عظمتهم وفيما جاوروها من
مكدونية، ويرون فيه ألمانية تتفق مع الروسية سرًّا على بلاد إيران شقيقة دولتنا
وجارتها، وذلك من أكبر الأخطار علينا، ولم يفيقوا من غرورهم حتى سمعوا
صيحة إيطالية في يوم انعقاد مؤتمر جمعيتهم السنوي تقول: قد آذنتكم بالحرب،
وأخذت منكم طرابلس بالقوة والقهر، ورأوا الدولة العلية تراجع الدول العظمي
وتذكرهن بالحقوق الدولية والمعاهدات والإنسانية، فيتصاممن عن ندائها، ويدعن
إيطالية تغتصب هذه المملكة الإسلامية الواسعة من الدولة الإسلامية التي لم يبق في
يدها في إفريقية الإسلامية سواها، وقد كان معظم سواحلها الشمالية والشرقية لها.
إن سكوت أوربة على هذا العدوان المشوه الذي تتبرأ منه الأعذار، وتنكث به
العهود وتنسخ القوانين برهان واضح على أنه عدوان متفق عليه، وإذًا لا يقف هذا
العدوان عند طرابلس، ولا سيما إذا ظهر لأوربة أن التجربة الأولى ناجحة بعجز
الدولة العثمانية عن كل عمل، وعدم تأييد الأمة العثمانية بجميع شعوبها التي يعتد
بها لها، وعدم تهييج شعور العالم الإسلامي كله لأجلها.
يظهر أن دول الاستعمار ولا سيما إنكلترة وفرنسة، يعتقدن أن العالم
الإسلامي قد مات شعوره وتقطعت روابطه؛ بما نفثت فيه أوربة من سموم الجنسية
الوطنية واللغوية والقومية، ومن التعاليم الفاسدة المزعزة لأركان الإيمان، المغرية
بالنعيم والشهوات، وقوَّى اعتقادها هذا عدم ظهور الغيرة والحمية الإسلامية عند
العبث باستقلال دولة المغرب الأقصى ودولة إيران، فتجرأن على العبث باستقلال
الدولة العثمانية، ولم يحفلن باعتقاد المسلمين أنها دولة الخلافة، وأن بذهابها زوال
الحكم الإسلامي من الأرض، وهو الذي يجب على كل مسلم أن يبذل ماله ونفسه
في سبيله.
ألا فليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض والعثمانيون أينما كانوا وحيثما
وجدوا؛ أن ذهاب طرابلس الغرب غنيمة باردة، يتبعه اغتصاب النمسة لسلانيك
وما جاورها، فاقتسام بقية ولايات مقدونية، فوضع الولايات السورية تحت حماية
الدول الكبرى، فتجزئة بقية ولايات الدول.
لا يغرنكم انتقاد بعض جرائد لغدر إيطالية وعداونها، سواء كان صادرًا عن
مخادعة وخلابة، أو عن استقلال في الانتصار للمعاهدات والقوانين، أو لأجل أن
لا يناقض إقرارهن لإيطالية ما كان من إنكارهن على النمسة عندما اغتالت البوسنة
والهرسك.
الجرائد في أوربة مرآة أممها وحكوماتها، فإذا كانت تلك الأمم والحكومات
غير راضية من عدوان إيطاليا؛ فما حل عقدتها على أوربة بعسير.
أمامنا شيء واحد فيما أرى؛ تأليف وزارة تثق بها أوربة، واجتماع مجلس
الأمة في الحال وتأييده، وإزالة سيطرة أولئك الأحداث على الدولة بقوة جمعيتهم؛
فهم مصدر هذا البلاء كله، فإذا تم هذا وأمكن لهذه الوزارة أن تقنع دول الاتفاق
المثلث بوجوب كف عدوان إيطالية؛ والمحافظة على جميع أملاك الدولة فذاك وإلا
فالخطر واقع ماله من دافع.
إن عجزنا عن تأليف هذه الوزارة وليس لها مثل كامل باشا، وعن تأييد
المجلس لها بمعارضة أولئك الأحداث، فذنب هلاكنا علينا ولا عتب لنا على أوربة
وإن قدرنا على تأليفها وتأييدها، وعجزت هي عن إقناع الدول بما ذكرنا، علمنا
أن البلاء من أوربة كلها، وأنها متفقة على محو سلطتنا من الأرض كلها لا من
طرابلس فقط، والحكم حينئذ للطبع لا للرأي، فإذا كان قد زال منا كل شعور
بالشرف وقيمة الحياة الإنسانية نخلد إلى الذل والعبودية؛ وإلا نفعل كما نفعل كل ما
يفعله الإنسان الذي يشعر ويحس إذ يئس من الحياة الاستقلالية الشريفة، وقضى
عليه بالذل والعبودية، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ننشر في جريدة المؤيد مقالات متسلسلة تحت هذا العنوان اكتفينا منها هنا بالأولى.(14/750)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
كلمات علمية عربية
أسوقها إلى المترجمين والمعربين [*]
تريبة جمعها ترائب Chest- bondds: وهي عظام الصدر في الذكر
والأنثى، ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ
القيس:
(ترائبها مصقولة كالسجنجل) وقد وردت هذه الكلمة في قوله تعالى:
{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 5-7) والمعنى أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من
شيء ممتد بين الصلب: (أي فقرات الظهر في الرجل) والترائب: أي عظام
صدره، وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطي) وهو أكبر شريان في
الجسم، يخرج من القلب خلف الترائب، ويمتد إلى آخر الصلب تقريبًا، ومنه
تخرج عدة شرايين عظيمة ومنها شريانان طويلان يخرجان منها بعد شرياني
الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن، حتى يصلا إلى الخصيتين فيغيانهما، ومن
دمهما يتكون المني في الخصتين، ويسميان شرياني الخصتين أو الشريانين
المنويين Spermatic Arteris؛ فلذا قال تعالى إن المني: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 7) لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي
أو الأبهر، وهذه الآية على هذا التفسير تعتبر من معجزات القرآن العلمية. وقال
الأستاذ الإمام: إن الصلب كناية عن الرجل والترائب كناية عن المرأة أي: من
باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، والمعنى على قوله رضي الله عنه؛ أن المني
يخرج من بين الرجل والمرأة إذا اجتمعا، فينزل من ذكر الرجل وهو ما بينهما إلى
رحم الأنثى فيحصل الحمل. وهو قول وجيه ولكن الأول أوجه وأدق.
الذرور Powder: ما يذر علي الجروح من المساحيق.
تليين الطبيعة Laxtion
النفطات Vescales
الشكال للقضيب Froenum، معروف الشلل Pralysis يحدث من فساد الأعصاب
الشمع Wax
اللحم المشوي Roastedمعروف
المشيمة للجنين Plccnta
السَّلى Foetal membrane غشاء الجنين.
الصبغة Tincture هي اصطلاحات نوع من الخلاصة الدوئية السائلة.
الصندل Sandal
الخلاف هو الصفصاف Salicis
الودك Gelatin (الجلاتين)
الهاضوم ما يهضم الطعام Pepsin
الصلم قطع الأذن
الضوى Marasmus الضعف الشديد والنحافة
الطبق: من أمتعة البيت
العُثة: معروفة
الطست: معروف
عجب الذنب العصعص Cocyx
العرقوب Tendo Achiilis
العذرة: غشاء البكارة Hymdn
العرنين الأنف Bridge ofncse أو ما صلب منه.
العسم Amkylosis: يبس المفاصل.
العظلم النيل البقم بمعني Aniline
التقبض Astringency
عفلت المرأة: سقط رحمها
التعفن والعفونه كلمات صحيحة
الطُّنُب أو العقب Tenden: وتر العضل
احقن بكذا أو المحقنة (الآلة للحقن) والحقنة: (المادة التي يحقن بها) .
الحكة Prurigo: مرض جلدي يحدث أكلانًا شديدًا.
خُمرة Erysipelas: مرض عفن.
استحم: اغتسل.
الحنف: اعوجاج الرجل إلى داخل Talipes varus.
الحشفة: Glans Penis رأس الذكر.
الجص: الجبس.
خرف: يخرف فهو خرف Tobccome dclirifous.
الخُرء: Foeces الغائط.
الخزام Seton معروف.
الخس Lettuee: نبات.
الخشخاش: ما يسمي أبا النوم PoPPy.
الوَرِك Femur: فخذ الإنسان.
الخضروات Vegetables.
الاختلاج Ataxy: اضطراب الحركة.
خَللة فتخلل: أي صار خَلا.
خلية: جمعها خلايا Cells.
الرمص والغمص: وسخ العين Mcibomian Secretion.
الدمام: حمرة تحمر بها النساء وجوهن.
الودج Gugular Vein: وريد في العنق.
الأبهر Aorta: أصل الشرايين وأكبرها.
الأبجل: عرق في الرجل، والأكحل في الذراع Basilic، والضافن في الفخذ،
والنياط في الظهر.
المرحاض: المستراح.
الرسغ: Wrist oramkle.
الرضفة: قطعة من الحجارة المحماة.
عملية الرقع Grafing: هي وضع قطع من الجلد بدل قطع ماتت وسقطت.
الزنبق Lily: نوع من الزهور.
الزر Button.
المسبار Probe: ما يجس به الجرح.
الاست Anus: حلقة الدبر.
السرخس الذكر Filix Mas.
السعوط ... دواء الأنف
السقمونيا المحمودة Scammony نوع راتينحى مسهل
أنبوب التصريف Drainage Tube وهو ما يوضع لإنزال المدة من الجروح.
استسقاء البطن Ascites ماء ينزل به المرض.
السقي Ascitic fluid وهو السائل الذي يوجد في البطن.
السلس Incontinence نزول البول بدون إرادة.
السهك: ريح العرق الكريهة.
الشب Alum.
القوتياء الزرقاء هي كبريتات النحاس الشبث هو المسمى بالعامية أبو شبت.
الشثن: غلظ الأصابع.
الشرم: قطع الأرنبة، انشقاق الشفة العليا Hare - lip.
الشظية Fibula أحد عظمى الساق.
شحمة الأذن معروف.
الشغى عدم انتظام الأنتظام الأسنان.
الدسام والشف Gauze هو المسمى عندنا بالشاش.
الغضروف Cartilage ما لان من العظم.
الغدة Gland عضو صغير للإفراز.
غروت الجلد أغروه أي ألصقته.
الاغتصاب Rape الفسق كرها.
الغضون مكاسر الجلد.
الغلفة القُلفة prepuce جلدة الذكر.
الفتق Hernia عاهة معروفة.
فحصت عن كذا ولا يقال فحصت كذا.
القحف vertex أعلى الرأس.
الفرصة pledget قطعة من القطن أو غيره توضع في المهبل بالدواء.
فروة الرأس أو الشوى Scalp.
الفص lobe.
فضخ الرأس أي كسره وأخرج مخه.
فك المظم أزاله من مفصله.
الفالج Hemiplegia الشلل النصفي الجانبي وهو ينشأ نزف في المخ.
القذال Occiput مؤخر الرأس.
قصبة الرجل والرئة Tibia, Trachea.
القص Sternum العظم الأمامي للصدر.
القلس Eructaions رجوع الطعام أو الشراب من المعدة إلى الفم.
قنيت القناة to groove.
القولنج Colic المغض وهي كلمة معربة.
القيح: الصديد
الزنبيل هو المقطف بلغة العامية.
اكلدم Ecchymosis.
الكرسوع طرف الزند الذي يلي الخنصر والناتى عند الرسغ.
الكزبرة Coriander.
الخلف ثدي ذوات الخف.
كشط نحّى
الكلب Hydrophobia داء مميت
الكلف Chloasma تلون الجلد في الحبل.
الكلية Kidney.
الكاهل Dorsal.
الكوع طرف الزند الذي يلي الإبهام
الساعد forearm
اللتادة معروفة
السمحاق periosteum غشاء فوق العظم يغذيه.
اللصوق plaster دواء يلصق بالجلد.
المطاء سمحاق الرأس pericranium.
اللعوق ما يعلق من الدواء.
اللفافة Bandage.
بيمارستان Asylum وهي كلمة معربة.
المرارة إفراز الكبد Bilc.
الذور Giddiness.
ولد منكوسا أي خرج رجلاه قبل رأسه نُكس المريض نكسا عاوده المرض.
نكأت القرحة أنكأها إذا قشرتها.
أنموذج يجمع نماذج.
الأنملة Terminal phalanx.
النهك Exhaustion الضعف المتناهي.
النَّوبة fit.
الوباء Epidemic المرض العام كالطاعون.
الزرنيخ Arsenic.
الوشم Tattooing.
الأرق Insomnia عدم النوم.
المسفرة Brush ما نسيه (فرشة) .
البيض النمرشت نصف المسلوق.
الشمر Fennel.
داء الثعلب Alopecia.
الماء في العين Cataract وهي كدورة بلورية.
الهاون Mortar.
(الأسفيداج معروف.
القيفال تعريب Cephalic)
... ... ... وهما وريدان
الباسليق تعريب Basilic.
الأخدعان عرقا الصدغين.
استرخاء المعدة Diolation تمددها.
القراقر Borbovygmi صوت الأمعاء.
مرض Nurse.
مرق اللحم Soup معروف.
المارن: ما لان من الأنف.
الماست كلمة فارسية معناها.
لبن الزبادي ويسمى اللبن.
الماضر بالعربية.
المصارين Intestinse الأمعاء.
معَط سقط شعره
موق العين Canthus.
المروخ Linimer الدهان.
الناتئ process.
الاستنثار قذف مخاط أنفه.
النَّخَر Necrosis وهو داء يفسد العظم ويميته.
المنديل معروف.
النزف Hoemorrhage خروج الدم والدم نزيف أي منزوف.
الناصور والناسور واحد Sinus, fistula.
الحرس الزفت pitch
الأنفخة والمنفخة Rennet معروفة.
النقرس Gout ويسمى أيضا داء الملوك لأنه يكثر في المترفين.
المدة Pus هي القيح.
النقيع Infusion ما يستخرج من الدواء بصب الماء المغلي عليه كالشاي.
الطبيخ أو المطبوخ Decoction ما يستخرج من الدواء بغليه في الماء.
النقه Convalescence الإبلال الشفاء.
المنكب shoulder الكتف.
العضد Humerus.
النقي والنقو Marrow هو مخ العظم.
النخاع Spinal cord.
المناعة. الحصانة. وهي في الاصطلاح عدم قابلية بعض الأجسام لبعض الأمراض Immunity.
فهذا ما أردت نشره من الكلمات العلمية التي عثرت عليها الآن، والله يوفقنا لنشر غيرها في المستقبل إن شاء، إنه سميع النداء مجيب الدعاء.
الدكتور محمد توفيق صدقي
__________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي ـ تابع لما سبق.(14/756)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حالة المسلمين في جاوه والإصلاح
لا جرم أن من إخواننا الفضلاء قراء (المنار) من يحب أن يطلع على حالتنا
الحاضرة بجاوا؛ لأن وشيجة الرحم الدينية بل والطينية لما تنفصل بعد بيننا وبينهم
طالما وددت أن أزيح الغشاء عن حالتنا الحاضرة، حتى أصورها للقراء كما
هي؛ لولا أن العي والحصر قد ختما على فمي، وكدما رأس قلمي، فلا أستطيع
أن أبدي من الأمر إلا قليلاً.
نعم.. وقد يعتورني بعض الخواطر فأقول: ما لي ولعصر يافوخي في تدوين
حالة تتعثر الأقلام خجلاً من تسطيرها، ويتعلثم اللسان تنزهًا عن شرحها، على أن
شأننا لا يخفى على من له أدنى اطلاع على شؤون الأمم، وجمودنا العريق لا ينكره
من له أقل نظرة في سطح معترك الطوائف الحيوي.
ما كان في المخدع من أمرنا ... فإنه في المسجد الجامع
ومع هذا أجدني مرغمًا على القول بأن حالتنا سيئة، وأراني مضطرًّا إلى
شرحها والشكوى منها؛ بحكم العوامل التي تدفع المريض إلى الأنين والتأوه وشرح
مرضه إلى كل من يراه.
ولكن منا فئام هداهم الله يُحفظهم التنديد بحالتهم المحزنة، ويغيظهم نصح
الناصحين، وإصلاح المصلحين، وعليه فقد أصبحنا جامدين مغرورين (حشفًا
وسوء كيلة) .
بماذا أبتدي وعلام أنتهي؟ يقف بعض الجامدين هنا باهتًا مندهشًا أمام تلك
الكلمات؛ التي ملستها أقلام الكتاب من كل أمة على صفحات الجرائد والمجلات،
وصقلتها ألسن الخطباء على ذرى المنابر والمنصات، حتى أصبحت والحمد لله
فيهم سلوة كل كئيب، وعكازة كل خطيب.
هي تلك الكلمات التي يتبجح بها المتبجحون من الأمم الراقية بقولهم:
(عصر العلم، عصر التقدم) ... إلخ، فترى الجامدين منا يحسبونها من قبيل
الأماني والأحلام، حتى يدفعهم حسبانهم واندهاشهم الناشئين عن جمودهم وجهلهم
إلى تفنيد أولئك المتبجحين وتزييف أقوالهم، ويا ليتهم قاسوا ما جهلوه وما استمحلته
عقولهم من وجود معان لتلك الألفاظ، بما يشاهدونه ولا يشكون فيه مما اكتشفه العلم
الحديث من العجائب التي لم يحلموا بها؛ لا هم ولا قومهم المحرومون من أسرار
الطبيعة والمنبوذون من علوم الكون:
إن تقدم رجال الغرب وعلومهم ومدنيتهم أعظم مما تتوهم، وأضعاف ما قد
نعلم، وإننا لم نر إلا النزر اليسير من بخار تلك المدنية العظيمة التي لا تحتمل
تصديق مثلها عقولنا الضعيفة، ولو أنعم المنصف منا بصره وأعمل فكره في هذا
التقدم المادي والأدبي الذي أحرزته الأمم الغربية ومن ضارعها، ثم كر بصره في
حالتنا الحاضرة؛ لجزم جزمًا صارمًا بأنه مع صرف النظر عن كلمة الشهادتين
التي فضلناهم بها، لم تكن نسبة حالنا إلى تقدمهم إلا كنسبة حال متوحشي نيام إلى
تمدننا، وعلى هذا فلا نجد مسوغًا للوهم إذا هم عاملون بمثل ما نعامل به من هم
أحط أخلاقاً من الإهانة والاحتقار.
مهلاً مهلاً أيها القارئ، ولا تعجل بالوثوب حفظك الله إلى تفنيدي وتكذيبي؛
فإن الشواهد حاضرة، والأدلة قائمة، ولئن آلمك قولي ففي ما نحن عليه معاشر
الحضارة من التأخر والانحطاط ما هو أجدر بالتألم وأحرى بالتأسف، وإن منا والله
أقوام لا يضيرهم الهون، ولا تستفزهم الحمية ولا يؤلمهم القول.
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
إن لبني الغرب في هذا العصر علمًا جمًّا، وفكرًا دقيقًا، وإدراكًا عاليًا،
وهمة جزلة، وأموالاً طائلة، وممالك فسيحة، ومستعمرات ذهبية، وإن لهم من
نفع الإنسانية بل والبهيمية ما لا يستطيع هذا القلم الضئيل وصفه، ولا تدرك
معلوماتنا كنهه.
ليس هذا هو موضوع القلم اليوم، ولكني وددت لو أمثل للمغرورين من قومنا
بعض حال رجال أوربا؛ فيقابلوا بينها وبين حالنا التي نظل شامخين بأنوفنا تيهًا
بها وغرورًا على أنفسنا وزورًا! ! !
من آية وجهة أشرفت علينا معشر الحضارم لا تشاهد إلا منظرًا يصهر الفؤاد
ويذرف العيون، ويفتت الأكباد، ويرقق قلب الشامت.
أمور يضحك السفهاء منها ... ويبكي من مغبتها الحليم
أجل والله، من آية وجهة ألقيت بصرك على مجموع العرب هنا، تجدهم قد
أجادوا في تمثيل أدوار الهمجية الغابرة، والجهالة الفاضحة، وأحسنوا الارتطام في
حمأة التوحش، وأطربوا الشامتين بغطيطهم الناشئ عن سباتهم العميق بل موتهم
الفظيع، وإنه وأيم الحق لينبغي لإخواننا المصريين والسوريين والحجازيين
والمراكشيين وكل من الطوائف العربية؛ أن يبعث بعضهم لبعض مسنون التعزية
في إخوانهم الحضارم الذين ذهبوا ضحية الجهل، وفريسة الغرور، وماتوا
مجاهدين في سبيل الدينار والدرهم.
أخذ الجمود من كبرائنا مأخذه، وتمكن في نفوسهم اعتقاد أن كل جديد ضار،
وأن العكوف على العادات القديمة أنفع ما كان وما يكون، وأن ما سبقتنا إليه رجال
أوربا من الخير لا يجوز لنا فعله شرعًا. رسخ هذا الاعتقاد في قلوبهم، وامتزج
بعقولهم وأرواحهم، حتى صدهم عن استماع الدين، وسدوا فجاج الإصلاح،
ودفعوا في صدر الأمة، حتى قهقروها عن التقدم، زاعمين أن التحسين والتنظيم
وتسهيل وسائل التعليم مخل بالنسب الكريم أو الدين القويم، ومعاذ الله أن يكونوا في
هذا من الصادقين، فإن الفتن في الإصلاح شيء، والدين والأنساب شيآن آخران.
بلغ من تعصب كبرائنا أن حظروا جعل المدارس على الطريقة الحديثة من
إقامة طاولات ومكتبات قدام التلاميذ، توضع عليها أدواتهم، وسرر يجلسون عليها
ولوح خشبي توضح فيه مشكلات المسائل، وعدوا ذلك من المنكرات، والواجب
تغييرها باليد لمن قدر عليهم؛ لأن في هذا كما لا يخفى تشبهًا بالكفار ومجاراة
لأصحاب النار، بل الواجب علينا أن نقشف مداركنا ونهين تلاميذنا؛ فنجلسهم على
قاعة المدرسة مباشرة أو بواسطة حصير في هذه البلاد الندية، حتى يصابوا
بمرض البيري بيري المخوف فيموتوا قريبًا، وننفض أيدينا منهم نفض الأنامل من
تراب الميت، وحينئذ نستريح من انتظار نفعهم في المستقبل.
كنا لما أن رأينا العجمة الجاوية تمكنت جيدًا في أولاد العرب هنا، حتى إن
بعضهم لا يفهم لفظ الأعداد البسيطة بالعربية، ورأينا الأوربيين يدأبون في نشر
لغتهم وعقائدهم الدينية بين أولاد الجاويين، ويحاولون ردهم عن دينهم الإسلامي
الذي ما بقوا متمسكين إلا باسمه، ورأينا إخواننا العرب جامدين سامدين لا يتألمون
ولا يتكلمون، لما رأينا كل ذلك نهضنا على ما بنا بمساعدة بعض الإخوان،
وفتحنا مدرسة لتعليم اللغة إجمالاً: فأولاً يدرس فيها إتقان الألفاظ وتركيبها ثم النحو
والصرف وغيرها من الفنون العربية، ويدرس أيضًا فيها الجغرافية والتاريخ
الإسلامي والعقائد الإسلامية وطرفًا من اللغة الإنجليزية.
وقد باشرت التعليم العربي بنفسي، فجعلت تعليمهم اللغة على أحسن الطرائق
الناجعة الرائجة في هذا العصر؛ وهي طريقة برليتز الأمريكاني التي هي عبارة
عن نظر في المحسوسات والمشاهدات، وعلم في العمليات، (انظر المنار م8 ج
22ص87) وهي أشبه شيء بطريقة تعلم الطفل لغة أبيه وأمه؛ إذ يدرس التلميذ
الأفعال بالأعمال كأن يحمل الكتاب ويفتحه، ثم يطبقه ويقوم ويذهب إلى اللوح
الأسود ويمسك الطباشير بيده ثم يكتب، وتعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية،
فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة، يتزايد كل يوم عددها بسرعة عجيبة. وهذه
الطريقة هي بدون شك أحسن طريقة لتعليم اللغات، فقد جربناها فوجدناها نافقة
نافعة، كما شاهدنا تأثيرها فينا حينما تعلمنا اللغة الإنكليزية عليها، وكما يشهد
المنصفون تأثيرها أيضًا في تلاميذنا الذين يطلبون العربية عندنا على خطتها، بل
قد جربت هذه الطريقة في أجمل عواصم أوربا، وما برحت مدارسها تتكاثر بتلك
الأصقاع حتى صارت اليوم تعد بالمئات، وكلها أسفرت عن نجاح أكيد، وارتقاء
عظيم، واقتصاد في الوقت والمال (انظر المنار) وأما الذي تولى تعليم القسم
الإنجليزي فهو شاب من خيرة الناشئة العربية هنا؛ وهو حضرة الأستاذ عبد
الرحمن القدسي المتخرج من مدرسة المعلمين بسنغافورة والحامل للشهادة.
ولكن مع كل هذا نرى الجامدين والمتعصين من قومنا العرب؛ لم يرضهم
فعلنا، بل قاموا يشتموننا ويقدحون في أعراضنا، ويصادرون نهضتنا، وينفرون
الناس عن مدرستنا، في وقت نحن أحوج الناس فيه إلى مساعدتهم.
حقًّا أقول: إن للمنار هنا اليد الطولى في الإصلاح وترقية العقول، وإحداث
هذه الحركة الفكرية في أدمغة الشبان، فقد أثر معها أيما تأثير ما غذاها به من لبان
الغيرة، وأنشقها إياه من نسيم النهضة، وقذفه إليها من المعارف، فالمنار اليوم هو
أنشودة النابتة هنا ومورد أنظارهم؛ اعتمادًا على ما يرونه غير ما مرة على
صفحاته من ضروب الذكر للحضارم بجاوه، فتارة نصحيًا، ومرة موبخًا، وأخرى
مثنيًا، وطورًا باحثًا عن أحوالهم، متفقدًا لأمورهم، وكل هذا مالا تفعله معهم أية
جريدة أخرى، فالنابتة بهذا لا تعد المنار إلا أكبر أستاذ وأشفق والد.
نعم.. ظهرت أيضًا شبه حركة عربية بسنغافوره محصورة في بعض
الأفراد، فأنشأت منذ زمن غير بعيد جريدتين أو ثلاث، ولكنها والحق يقال: إنما
هي حركة عدائية، قام بها عباد الأهواء والأغراض بعضهم ضد بعض، فياليت
تلك الجرائد التي نحن أحوج الناس إلى إرشاداتها العمومية، واستنهاض الهمم إلى
المعالي، والقيام بالمشروعات المفيدة، عدلت خطتها ورجعت عن غيها إلى ما يعود
بالخير الجزيل على الحضارم وغيرهم.
ولكن من يسمع ما نقول وأنت ترى أولئك سادتنا وقادتنا: إما ساكتين أو
عاملين مثل تلك الأعمال، ولا شك أن سمعة العنصر العربي هنا ستكون سيئة جدًا
حينما يطلع الملايو وغيرهم على جرائدنا وما ينشر فيها، وعوائدنا وما ينجم عنها
فرحماك اللهم رحماك، اللهم لا تشمت بنا عدوًّا ولا تسئ بنا صديقًا، وأنزل
صاعقة من صواعق نقمتك على من قام عثرة في سبيل تقدم هذه الفئة المنكودة الحظ. آمين آمين.
... ... ... ... ... ... ... محمد بن هاشم طاهر
... ... ... ... ... ... مدرس العربية بفليمبغ سوماترا
(المنار)
كاتب هذه الرسالة من أذكى شبان الحضرميين المقيمين في تلك الجزائر ذهنًا،
وأزكاهم نفسًا، وأشهم غيره؛ فهو يحب أن يعمل ويخذله شيوخ من قومه، وأقوى
الخاذلين للإصلاح في تلك البلاد جاهًا وعضدًا الشيخ الهرم عثمان بن عقيل، وقد
يسوء الكاتب أن نصرح بذلك؛ لأنه من أسرته أو هو عمه كما أظن، ونحن
نكره أن نذكر المفسدين في الأرض بأسمائهم لولا الضرورة.
كان المسلمون يكتبون إلينا في السنة الأولى والثانية والثالثة للمنار (أي منذ
14 سنة) مقالات في بيان ظلم هولنده وضغطها على العرب واضطهادها لهم،
ويقولون: إن عونها عليهم هو واحد منه اسمه السيد عثمان بن عقيل؛ لأنها جعلته
جاسوسًا عليهم ومستشارًا لها في أمورهم، وما كنا ننشر شيئًا مما يكتبون لكراهتنا
الخوض في سيئات الأشخاص؛ ولأننا كنا نظن أن ذلك الطعن في الرجل يوشك أن
يكون لهوى أو غرض أو منافسة، وأما الضرورة التي دعتنا إلى التصريح باسمه
والتحذير منه بعد ذلك؛ فهي ما رأيناه من رسائله التي يطبعها وينشرها بين
المسلمين في التنفير من الإصلاح والمصلحين، الخبط والخلط في أحكام الدين،
وتحريم العلوم والفنون والنظام، وشبهته أن إنشاء المدارس المنتظمة وتعلم العلوم
الرياضية والطبيعية من التشبه بالإفرنج، وهو حرام مطلقًا في اجتهاده الجهلي،
وكذا يحرم عنده تعلم العلوم العربية والشرعية بطريقة جديدة وعلى هيئة صحية؛
كما عليه العمل في مصر والآستانة وغيرها، كل ذلك عنده من التشبه المحرم في
شرعه، وليس منه تعليقه هو وسام هولنده على صدره، وقد رسم فيه الصليب
علامة على خدمته له ولأهله! ! فهكذا يقتل هؤلاء الجهال المسلمين باسم الإسلام،
وقد زاد الطين بلة أن أنشأ بعض أنصاره جريدة في سنغافوره لعداوة الإصلاح
وأهله، والتبجح بخرافاته ودجل دجال بيروت المعروف.
كان أول من سلط عثمان بن عقيل على إغواء المسلمين ومنعهم من أسباب
الترقي عدو الإسلام الدكتور (سنوك فخرونية) الهولندي المنافق الذي ادعى
الإسلام، وسمى نفسه عبد الغفار، وأقام زمنًا في الأزهر، وذهب إلى مكة فأقام
فيها يتجسس على المسلمين، ثم أخرج منها بدلالة وكيل فرنسة السياسي في جدة،
ثم جعلته هولنده مستشارها في معاملة المسلمين فأعانه عثمان بن عقيل على ظلمهم
ومنعهم من الترقي، وعلى اضطهاد العرب، فكافأته هولنده بالمال وبوسام صليبي
يفتخر بوضعه على صدره، فهكذا يكون أنصار الإسلام! ! ولولا هذا المفسد
وأنصاره لتقدم الحضارمة هناك في العلم والعمل، وأصلحوا تلك الجزائر كلها وكانوا
أئمة العلم والنور والهداية فيها؛ لما أوتوه من الذكاء النادر، ولا بد أن يزيل الله
هذه العقبات من طريقهم، ويصدق رجاءنا فيهم، فليعلم السيد محمد بن هاشم أن الله
لا بد أن يظهر دينه كما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ينصر حزبه
أنصار كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الدجالين والمنافقين، ولتعلمن
نبأه بعد حين.
هذا، وإننا نحث محبي العلم وأنصار اللغة العربية على إمداد مدرسة فليمبغ
بالكتب والمال؛ لتكون ينبوعًا للترقي والإصلاح في تلك البلاد، وقد علمنا أن
جمعية نشر اللغة الإنكليزية قد ساعدتها بالكتب التعليمية، ألسنا نحن أولى بهذا
الخير وأحوج إليه.
__________(14/761)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
في بحث اختلاف الأمة
جاء في مجلة دين ومعيشت الإسلامية التي تصدر في البلاد الروسية ما
ترجمته.
كنا ترجمنا في العدد 27 من المجلة مقالة من مجلة المنار في حديث:
(اختلاف أمتي رحمة) ، ووعدنا ببيان كون بعض الكلمات منها لا يطمئن به
الخاطر؛ فإنجازًا للوعد نبين فكرنا في المسألة: تقول المنار في آخر المقالة:
(ولكن لما جاء دور التقليد والتشيع والتعصب للمذاهب حلت النقمة، وتفرقت
الكلمة، وذهب الريح والشوكة، إلى أن وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف: ذهب
ملكنا الكبيرة وصارت المملكة الكبيرة من ممالكنا تقع في قبضة الأجانب) يريد
بقوله هذا: إسناد السبب في ضعف الإسلام، وكون أهله متفرقين شذر مذر إلى
انقسامهم إلى مذهبي: السنة والشيعة والمذاهب الأربعة المشهورة؛ بسبب اختلاف
الأئمة في الأحكام، وإلى أن كل فرقة من أتباع الأئمة الأربعة تقلد إمامها، بذلك
يسند الغيب إليهم. هذا الفكر خطأ من المنار على ما نظن، والسبب في ضعف
العالم الإسلامي وصيرورته إلى تلك الحال؛ هو كون المسلمين مغلوبين أمام
خصلتين من أقبح الخصال في الشريعة الإسلامية واتصافهم بهما: الأولى منها
الحمية الجاهلية؛ أعني بها الاهتمام بالقومية والجنسية العربية والتركية والفارسية
والهندية والتتارية والجركسية وأمثالها، وتقديم كل قوم وملة حفظ قوميتهم ومليتهم
على حفظ الوحدة الإسلامية، والقرآن يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103) .
(وهنا فسر معنى الآية بالتتارية ثم قال) : معلوم عند كل من يطلع على
كتب التفاسير والتواريخ أن العرب قبل مجيء الإسلام؛ كانت قبائل وطوائف كل
واحدة منها عدوة للأخرى تعيش بالقتل والنهب (وبعبارة أخرى. كانوا يمضون
الأوقات بالقتل والنهب) وبعد مجيء الإسلام تركوا العداوة فيما بينهم واتحدوا
وتآخوا حتى اضطربت أطراف الأرض بقوتهم وشوكتهم، وإذا أسلم أناس من أي
ملة كانوا عدهم العرب إخوانًا لهم، وكذلك الذين أسلموا؛ بسبب هذا الاتحاد
والتآخي، لم يبق بين المسلمين للعصبية ولا الرومية ولا الفارسية ولا غيرها من
القوميات والجنسيات، وعاش المسلمون كلهم كما يعيش الإخوان مع إخوتهم.
الزمان لا يدوم على حال واحدة، بل لا بد من التقلب من حال إلى حال؛
فالفرس الذين ذهبت الدولة من أيديهم بشوكة الإسلام، كانوا مسلمين كسائر الناس،
ولكن البعض منهم لا سيما الذين لم تذهب لذة الإمارة من أفواههم، لم يهضموا في
نفوسهم رياسة العرب الذين كانوا قبل الإسلام غير معدودين من البشر على
اعتقادهم. فأرادوا إلقاء الفتن بين المسلمين؛ ومن ورائه حفظ قوميتهم ومنصب
الرياسة في ملتهم بأي طريق كان، هكذا أخذوا يعملون بالحمية الجاهلية.
للوصول إلى تلك الأماني ألقوا الفتنة أولاً بين العرب، وأخذوا يفضلون طائفة
منهم ويستخفون بالآخرين. فبهذه الكيفية حملوا العرب أنفسهم على زرع بذور
التفرقة بينهم الممنوعة بالآيات القرآنية المار ذكرها؛ وللإيهام بحسن أعمالهم
ومشروعيتها أظهروها في روح الذين دعوا الناس إلى لعن الخلفاء الأولين
وتكفيرهم؛ لأنهم غصبوا الخلافة من عليّ كرم الله وجهه، وكانت من حقه.
وهذه الأعمال منهم إنما يريدون بها سترة حميتهم الجاهلية وإبداءها في صورة
حسنة؛ كشيء مشروع في أعين الناس وأصل الخلاف ليس هناك، هم في الحقيقة
لا يرون كون الخلافة في عليّ كما لا يرون كونها في أبي بكر أو عمر، بل تلك
الأعمال منهم كما قلنا إلقاء للفتنة بين العرب والأمل باختطاف شيء من الرياسة لهم
أثناء الفتن، بناء على ذلك ما كان ذلك الاختلاف بعد مجيء دور التشيع كما قال
صاحب المنار، بل كان موجودًا قبل التشيع، ولكن ظهر في الميدان صباغ التشيع؛
لتقوية ذلك الاختلاف فقط.
أما تقليد الأئمة الأربعة، فليس له أدنى مناسبة لذلك الاختلاف؛ والدليل على
ذلك أنه لم يوجد في وقت من الأوقات فتن تنحر إلى الحرب بسبب الاختلاف في
الحنفية والشافعية أو المالكية ولا الحنبلية، لا ترى حربًا من الحروب الإسلامية إلا
وتجد سببها الأول ترجيح القومية والملية على الوحدة الإسلامية. وإذا قلنا بلسان
العرب فهو الحمية الجاهلية، والإثبات ذلك يكفي النظر في حال تركيا الآن: فتنة
في اليمن، وعصيان في الدروز، وشق عصا الطاعة في الألبان، كل تلك
الاضطرابات ليس سببها الاختلاف في كون بعضهم مسلمًا أو غير مسلم، أو في
كون بعضهم شافعيًّا أو حنفيًّا. بل السبب في الكل تلك القومية والملية.
كنا ذكرنا في أول المقالة خصلتين، وقلنا: إنهما السبب في وصول العالم
الإسلامي إلى تلك الدرجة من الضعف، الخصلة الأولى قد بيناها. وأما الثانية فهي
حب الرياسة. كون تلك الخصلة من الأخلاق الذميمة في الشريعة الإسلامية مبين
بالتفصيل في كتب الأخلاق. فلا حاجة هنا إلى البيان من تلك الجهة، كل قوم
يريدون رياسة قومهم على الآخرين دون غيرهم. ولا يتجنب في ذلك أي عمل
يمكن مجيئه من يديه، وكذلك كل فرد من أفراد القوم يريد أن يترأس في قومه دون
غيره، وهذه الخصلة شائعة جدًّا بين الجهلاء ولا سيما بين غير الممدنيين في ديار
القزاق والباشقرط، فهم يجتهدون في نيل منصب بولص وأستر شينه (كلاهما
منصب حاكم في درجة واحدة) حتى ينجر الأمر في بعض الأوقات إلى الحنابلة كل
ذلك أمام العيون، شيوع حب الرياسة بين أفراد قوم، لا شك في كونه يجلب
أضرارًا جسيمة على القوم، وذلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة، نيل شخص غير
منتظر الظهور في الميدان على منصب الرياسة وقت تخاصم اثنين فيها يصادف
كثيرًا جدًّا، ولا يكون نصيب المتخاصمين فيها إلا إضاعة الوقت وصرف القوى،
كذلك الدولة المتشكلة من الأقوام الكثيرين إذا شاع في أبنائها حب الرياسة أو
تطاول كل قوم إلى اتخاذ رئيس فيما بينهم، فلا شك في سريان الضعف إلى تلك
الدولة من جميع أطرافها، وتلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة ومعروف لكل من يطالع
كتب التواريخ. ولا حاجة إلى مراجعة كثير من الكتب ليعرف، بل يكفي قليل من
التفكير في أسباب دخول ممالك الهند المتشكلة من الأقوام العديدة مقدارهم ثلاثمائة
مليون أو زيادة في قبضة الإنكليز وعددهم ثلاثون مليونًا فقط.
الأقوام والقبائل في الهند، كانوا لا يتحملون رياسة الأقوام الآخرين من
جيرانهم، وكانت الحروب الدموية لا تنقطع فيما بينهم في نصب رئيس من أنفسهم
دون الأقوام الآخرين، ففي ذلك الوقت جاءتهم الإنكليز، وقالت لهم: (اتركوا
الحرب فيما بينكم ولا تقاتلوا من غير جدوى، كلكم لا تصلحون للرياسة أبدًا،
ولنجرب نحن أمر الرياسة عليكم) حتى أخذوا جميع الهند في أيديهم الصغيرة من
غير مشقة أو بمشقة قليلة، وصاروا رؤساء عليها يحكمون. فالسبب في استسلام
هؤلاء الأقوام الذين لا يعد عددهم ولا يحص إلى الإنكليز وهم عدة ملايين ليس
اختلافهم في الحنفية والشافعية أو النسبية أو الشعبية، بل السبب من غير شك
خصلة حب الرياسة المذمومة المزوجة بالاختلاف في القومية والملية.
نظن أن صاحب المنار المحترم؛ لا شك يعرف أكثر منا سبب دخول
الإنكليز مصر التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز، السبب في ذلك من غير
شك ليس اختلافهم في الحنفية أو الشافعية؛ لأن المصريين كلهم شافعيو المذهب إلا
القليل اليسير، بل السبب فيها أيضًا تلك الخصلة الذميمة خصلة حب الرياسة،
وبعد ذلك لا حاجة بنا إلى قراءة تواريخ تونس أو الأندلس، فنحن ما عرفنا كيف
نؤول كلام رشيد رضا أفندي المحترم؛ حيث يقول: السبب في دخول ممالك
الإسلام في يد الأجانب التقليد والتشيع. والحال أن تلك الأسباب المار ذكرها في
الميدان أمام كل الناس، لذلك قلنا: إن هذا الفكر خطأ من المنار، وما قلنا ذلك إلا
تأدبًا وإلا ما يعوزنا الكلام لمقابلة تلك الكلمات من المنار؛ لأن المذاهب الأربعة قد
توورثت (أو تنوقلت) عن الأولين إلى الآخرين منذ عشر قرون أو أكثر قرنًا بعد
قرن، وما قال أحد في قرن من القرون لا سيما العلماء بعدم لزوم تلك المذاهب،
بل عدوها عين الرحمة كما يقول الحديث.اهـ.
__________(14/767)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رد المنار
المسائل الاجتماعية والسياسية التي يبحث فيها عن أحوال الأمم وطبائعها
وأسباب ترقيها وتدليها وحياتها وموتها؛ هي أعلى وأرقى وأعوص مسائل العلوم
البشرية كلها، ولا سيما إذا كان فهمها يتوقف على معرفة الباحث دين الأمة التي
يبحث عن أحوالها؛ وفقه أصوله والاستقاء من ينبوعه الأول كالأمة الإسلامية.
والمناظرة في هذه المسائل أصعب من المناظرة في سائر العلوم والفنون؛
لأسباب منها أن كل أحد يظن أنه يعرف حقها وباطلها، وقل من يعرف ذلك،
ومنها أن تحرير محل النزاع عسير ولا سيما بالكتابة في لغتين أو لغة واحدة
يتفاوت المتناظران في فهمها، فلهذا وذاك نرى أن مناظرة رصيفتنا الغراء (مجلة
دين ومعيشت) لنا في هذه المسألة من المشكلات؛ لأن ما يترجمه لنا عنها أهل
لسانها من التتار الذين يطلبون العلم عندنا؛ يدلنا على أن محرريها لا يفهمون كلامنا
حق الفهم، بل نراها تخطئ فيه خطأ تستند إلينا به ما لم يخطر لنا على بال وقد
كتبت هي أيضًا في عبارة ترجمت لنا عنها أن الترجمة كانت خطأ. وههنا نقول:
إننا جعلنا التقليد والتشيع هو سبب استيلاء الأجانب على بلاد الإسلام، ويظهر أنها
فهمت أنه هو السبب المباشر لهذا المسبب، وقد أخطأت في هذا الفهم كما أخطأت
في جزمها بأننا ولدنا في مصر وتربينا في قبضة الإنكليز، وفي قولها إن مصر
وقعت في قبضة الإنكليز بسبب حب الرياسة، ومع هذا كله لا بد أن نكتب في هذه
المسألة المهمة (أسباب اختلاف المسلمين وضعفهم واستيلاء الأجانب عليهم) ما
ترجى فائدته في التفاهم بيننا وفي إيقاظ أمتنا من نومها، وأو تنبيهها من غفلتها عن
نفسها، فنقول:
(1) إن لضعفنا الذي كان سبب استيلاء الأجانب علينا أسبابًا كثيرة، من
أطال النظر في بعضها دون بعض يمكنه أن يطيل القول في جعله هو السبب دون
غيره، فيكون خطأه في الحصر فقط، ويكون هذا الخطأ فاحشًا إذا كان السبب
المحصور فيه من الأسباب الفرعية غير الرئيسية؛ كحب الرياسة الذي عدته
رفيقتنا للضعف بذاته لما وجدت دولة قوية، وإننا نذكر من الأسباب التي يمكن
للمرء أن يطيل في بيان كونها المضعفة للأمة خلق الحسد الذي يغري محبي الرياسة
بالبغي على من يسبقهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم؛ أو يرونها أحق به ممن ناله
دونهم، فالذي يظهر لنا أن عليًّا كرم الله وجهه كان يرى أنه أحق الناس بإمامة هذه
الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يبغ على من سبقه إلى ذلك كما بغى
عليه معاوية، ولا خلاف في كون خروج معاوية على أمير المؤمنين هو الصدمة
الأولى التي أصابت الإسلام، فكانت علة العلل لكل ما جاء بعدها من أسباب
الضعف، فذلك أن تقول: إن ذلك البغي علته الحسد؛ لأن من لا يحسد صاحب
النعمة لا يبغي عليه؛ ولذلك ورد في الحديث (وإذا حسدت فلا تبغ) رواه ابن
أبي الدنيا من حديث أبي هريرة بسند ضعيف ورسته عن الحسن مرسلاً،
والحسد كما يقع بين الأفراد يقع بين الأمم وأهل الملل كما ورد في تفسير] أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [ ... الآية؛ أنها أنزلت في حسد اليهود
للعرب أن بعث نبي آخر الزمان منهم، وعلى هذا يمكنك أن تقول: إن الحروب
التي وقعت بين الشعوب الإسلامية كان سببها الحسد.
(ومنها) أي أسباب ضعف المسلمين عدم وضع نظام سياسي للخلافة وشكل
الحكومة تكفله الأمة، وهذا ما يرجحه أكثر الباحثين في السياسة اليوم.
(منها) أنهم لم يوفقوا إلى تأليف جند دائم بنظام يكفل طاعته لأولي الأمر؛
كالنظام المعروف اليوم.
(ومنها) وهو أعمها الجهل بعلم الاجتماع والسياسة والفنون التي عليها مدار
القوة، وهو الذي أزال ممالكنا في هذا القرن وما قبله لا التعصب الجنسي ولا حب
الرياسة، وسبب هذا الجهل جمودنا على التقليد الذي أضعف عقولنا لعدم الاستقلال
في استعمالها، وأضعف رابطتنا الدينية ووحدتنا العامة.
ومنها غير ذلك من الأسباب الاجتماعية والدينية التي بحثنا فيها من قبل،
وبحث غيرنا من الناس كثيرًا، وناهيك بما جمع من تلك الأبحاث في سجل جمعية
أم القرى، وغرضنا من هذه الأمثلة أن نبين أن ما بيناه من ضرر اختلاف الأمة
في دينها وتفرقها إلى مذاهب وكونه من أسباب ضعفها، لا ينافي ما جاء في مجلة
(دين ومعيشت) من ضرر العصبية الجنسية وحب الرياسة، وكونها من أسباب
ضعف المسلمين، ونحن لم نحصر جميع الحروب والفتن بين المسلمين في
الاختلاف والتقليد كما حصرها أصحاب تلك المجلة في التعصب للجنسية والقومية
(وهم يعبرون عن ذلك بالملية كالترك والفرس، فقد استعملوا الملة بغير معناها
الشرعي واللغوي) وفي حب الرياسة.
(2) أخطأت أختنا مجلة دين ومعيشت فيما ذكرته من الشواهد التي استدلت
بها على ما ذهبت إليه، أخطأت في قولها: إن الخلاف الضار والتقاليد حدث في
الأمة قبل التشيع، والصواب أن التشيع حدث في القرن الأول، وأخطأت في
قولها: إن العصبية الجنسية هي التي كانت سبب الحروب بين المسلمين في القرون
الأولى، وأنه لم يكن للتشيع والمذاهب أدنى تأثير فيها، والصواب أن سم العصبية
الجنسية والقومية لم يسر في المسلمين في تلك القرون سريانًا قويًّا يؤثر فيها، وقد
كنا بينا ما فعله زنادقة الفرس بسائق هذه العصبية من الإفساد في الإسلام ومحاولة
رد أهله عنه وإزالة ملكه، وكونهم ألبسوا ذلك لباس الدين وبثوه في شيعة عليّ
وأبنائه آل بيت الرسول عليهم السلام، التي تفضلهم على بني أمية الباغين
الجائرين، وكانت هذه الشيعة مؤلفة من خيار المؤمنين، فسرى بعد ذلك إلى عامتها
الغافلة بعض دسائس أولئك الزنادقة، وما أحدثوا من تعاليم الباطنية الكفرية ولكن
المسلمين الصادقين من العرب والعجم لم يفطنوا لدسيستهم، وظلت أخوة الإسلام
جامعة بينهم، ولا يستثقل عربي إمارة عجمي ولا مشيخته، وكانوا كلهم يتعاونون
على نقد ما وضعه الزنادقة من الأحاديث وما بثوه من البدع وروجوه بزعمهم أنه
مذهب شيعة آل البيت الطاهرين، وقد كانت الحروب والفتن التي أثارها الباطنية
من القرامطة والإسماعيلية وغيرهم تشب نيرانها باختلافه التعاليم الدينية لا
باختلاف الجنسية والقومية. والعبيديون ما استولوا على مصر وأسسوا ملكهم باسم
الجنسية بل باسم المذهب، وما أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي بالعصبية الجنسية
والقومية بل بعصبية المذهب، ولم يكن أحد من العرب يكره حكم نور الدين التركي
ولا صلاح الدين الكردي، ولا يخطر في باله أنه من غير قومه، بل لا يزال
العرب يعدونهما خير خلف للخلفاء الراشدين.
نعم.. إن فتنة العصبية الجنسية الجاهلية قد أضرت بالدولة العثمانية كما بينا
ذلك مرارًا بالنقد المر، ومع هذا نقول على علم وخبر: إن عرب اليمن وحوران
لم يقاتلوا الدولة ولم يعصوها؛ لاختلاف الجنس والعنصر. فأما أهل اليمن فهم
يدافعون الدولة ويحاربونها عندما تحاربهم؛ لاختلاف المذهب ولظلم رجال الدولة
وإفسادهم هنالك، كما اعترف كتاب الترك بذلك في جرائدهم في أثناء الفتنة الأخيرة
في هذا العام، ولم يكن اليمانيون هم البادئين في الحرب الأخيرة، بل كان الإمام
يطلب الاتفاق مع الدولة. ومذهب الزيدية الذين جل تلك الحروب معهم وجوب
الخروج على أهل الجور وقتالهم، وأما دروز حوران فهم على كونهم من الباطنية
لم يعصوا الدولة؛ لأنها تركية وهم عرب، والقتال بينهم وبين العرب الخلص
المجاورين لهم مستمر، وإنما تحرشت بهم الحكومة لتستريح من شقاوتهم وكثرة
اعتدائهم على من حولهم، ولم يكن تحرشها بهم من حسن الإدارة في شيء إذا كان
يمكن إخضاعهم بحسن السياسة؛ كما يعرف الخبيرون من رجال الدولة، وكذلك
أخطأت في تلك الفعلة الشنعاء في الكرك.
إنني أرى تأثير الإسلام في إزالة عصبية العرب القومية لا يزال أقوى من
تأثيره في إزالة عصبية غيرهم من المسلمين، فأهل جزيرة العرب الذين لم يروا
من الدولة خيرًا قط، وإنما رأوا منها الغارات الشعواء، وسفك الدماء، يودون لو
يفدونها بأرواحهم، ويتمنون لو توفق إلى إدارة بلادهم بإقامة حكم الشرع فيها، مع
كونهم لم يتعودوا الخضوع لسلطة غريب عنهم، فهم من أعرق أهل الأرض في
الاستقلال، ولو كان أهل اليمن يكرهون سلطة الترك؛ لأجل العصبية الجنسية
لخرجوا عليهم في هذا الوقت الذي لا تستطيع الدولة أن ترسل فيه إليهم جندًا،
ولكنهم في هذا الوقت عرضوا أنفسهم واستعدوا لبذل أرواحهم في الحرب مع الدولة
التي لم يروا منها خيرًا قط، وما ذلك إلا لأن رابطة الإسلام فيهم أقوى من رابطة
الجنسية والقومية.
نعم.. إن الأرنؤط يطلبون ما يطلبون باسم العصبية القومية، وما ألجأهم إلى
ذلك إلا سوء سياسة المتفرنجين في الآستانة الذين يحاولون تتريكهم بالقوة القاهرة،
ولو جروا معهم على سنة الإسلام؛ لما كان للعصبية الجنسية أثر يذكر فيهم.
(3) أخطأت رصيفتنا أيضًا فيما أشارت إليه من سبب احتلال الإنكليز
لمصر كما أخطأت في قولها عن صاحب المنار: إنه ولد في مصر وتربى فيها،
كما قلنا في أول هذا الرد، ونزيد هنا أن زمن وجودنا بمصر هو أربع عشرة سنة
كعمر المنار ويزيد أشهرًا، وأنه لم تكن العصبية الجنسية ولا حب الرياسة سبب
دخول الإنكليز في مصر؛ وإنما سببه سوء إدارة إسماعيل باشا وضعف توفيق باشا،
فالأول أغرق البلاد بالديون وجعل إنكلترة وفرنسة رقيبتين على حكومته، حتى
أدى ذلك إلى خلعه، والثاني أحدث حركة عسكرية ليتخلص بها من وزارة رياض
باشا، ولم يستطع تسكينها فاستعان بالإنكليز عليها. وليس هذا محل شرح ذلك،
أفرأيتم أيها الرصفاء كيف تبنون أحكامكم على أسس من الرمل لا تمسك بناء ولا
تحقق رجاء.
وبعد هذه الإشارة الوجيزة والتذكرة المختصرة، أقول: إنني صرحت في
الكلام على ذلك الحديث؛ بعد بيان أنه لا يصح بأن أهون الاختلاف الأمة اختلاف
السلف في فهم أحكام الدين؛ ومنهم علماء الأمصار كأئمة الفقه المشهورين: أبي
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم (رحمهم الله تعالى ورضي عنهم)
وقلت: إن مثل هذا الاختلاف طبيعي لا ضرر فيه، ثم بينت أن ضرر الاختلاف
في الدين قد نجم في دور التشيع والتعصب، وكان من أسباب ضعف الأمة الذي
فرق شملها حتى صارت إلى ما نحن فيه، ولم أقل: إن الضعف زوال الممالك لا
سبب له إلا الاختلاف والتشيع، على أن من يقول هذا لا يعجزه أن يستدل عليه،
وبيان ذلك حتى يصعب المراء الظاهر فيه يطول، وليس هذا محل التطويل، وإنما
هو محل التذكير، فنذكر إخواننا الفضلاء أصحاب تلك المجلة وغيرهم من القراء
ببعض المسائل في ذلك فنقول:
إن كتاب الله تعالى قد بين في آيات كثيرة ضرر الاختلاف والتفرق ولا سيما
في الدين، وتوعد على هذا بمثل ما يتوعد على الكفر، حتى صرح بأن الذين
يكونون شيعًا وفرقًا في الدين هم برآء من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينا هذا
مرارًا في التفسير وغير التفسير تارات بالإطناب وتارات بالإيجاز.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بين مثل ذلك في قوله وعمله، حتى لم يكن
يغضب لشيء كما يغضب إذا رأى الاختلاف بين أصحابه قد أفضى أو كاد يفضي
إلى التفرق؛ وانتصار كل طائفة لرأي، والنقول في ذلك كثيرة وفيما يقابله من
الأمر بالاتفاق والاعتصام كثيرة جدًا.
إن السلف الصالحين كانوا يتحرون هذا الهدي النبوي، ويحذرون من إفضاء
الخلاف في الفهم؛ وهو طبيعي لا مندوحة عنه إلى التفرق والتشيع المحظور،
حتى إن الشافعي ترك القنوت في الصبح عندما صلى في مسجد أبي حنيفة مع
أصحابه ببغداد، ورأى أن ترك سنة غير مجمع عليها مرة (أو أكثر) أهون من
مخالفة جماعة من المسلمين؛ أداهم اجتهادهم إلى عدم سنيتها. وقد خفي هذا على
من علل ذلك بأنه ترك القنوت تأدبًا مع أبي حنيفة وهو في قبره إذ لا يعقل أن يترك
مثل الشافعي سنة الرسول تأدبًا مع أحد الناس، وخفي أيضًا على من زعم أن
اجتهاده في المسألة تغير في ذلك الوقت ثم عاد، وهذا بعيد أيضًا كبعد الأرض عن
السماء. وأما ما قلناه فهو معهود من السلف، يترك الواحد اجتهاده والعمل بظنه في
مثل هذه المندوبات؛ ليوافق الجماعة الذين خالف اجتهادهم اجتهاده فيه إذا كان
عمله به يظهر به الاختلاف والتفرق؛ كالقنوت وتكبيرات صلاة العيد، وإلا عمل
كل باجتهاد نفسه وعذر الآخر في اجتهاده. ومن هذا الباب جواب الإمام أحمد لمن
سأله: أيصلي من لم يتوضأ من خروج الدم، وكان يرى الوضوء منه، قيل له:
فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال كيف لا أصلي
خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان مالك قد أفتى هارون الرشيد بأنه لا
وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى خلفه أبو يوسف ولم
يعد الصلاة، وقال بعض الفقهاء: إن من علم أن الإمام مخالف له في اجتهاده أو
تقليده في مثل ذلك لا يصلي خلفه، وجعلوا المسألة خلافية وصوروها بقولهم: هل
العبرة برأي الإمام أم برأي المأموم؟ وفرقوا بين المؤمنين في ذلك وغيره، حتى
إنهم صاروا يعقدون في بيت الله تعالى بمكة وفي سائر المساجد عدة جماعات في
وقت واحد، ولا يرون في هذا بأسًا وإن خالفوا السنة وعمل السلف؛ لأجل تمتع
أئمة الصلوات بالرواتب الموقوفة عليهم.
يري أصحاب مجلة (دين ومعيشت) أن هذا الخلاف والتفرق لا ضرر فيه،
وأنه لم يترتب عليه حرب ولا عداء، ولم ينكره أحد من العلماء في كل هذه
الأعصار، وكتب التاريخ ومصنفات أشهر العلماء الإعلام ترد رأيهم هذا وتنقضه
عروة عروة.
لا يماري أحد فيما جرى بين المسلمين من الفتن والحروب باختلاف أهل
السنة مع الخوارج والشيعة؛ ومنها فتنة ابن العلقمي المشهورة، وآخرها ما جرى
بين العثمانيين مع شيعة إيران الإمامية ومع شيعة اليمن الزيدية فلا نخوض في هذا،
بل نشير الآن إلى بعض الفتن التي شوهت التاريخ باختلاف أهل المذاهب الفقهية
الحنفية والشافعية والحنبلية، ومن أخذ مثل تاريخ الكامل لابن الأثير وتصفح
فهرسه، يستخرج من كل مجلد عدة فتن ولا سيما في بغداد.
أثبت لنا التاريخ أن إغارة التتار على المسلمين، قد كانت أول مزلزل لقوتهم
وخاضد لشوكتهم، وأنه كان للعداوة بين الشافعية والحنفية يد في إغراء التتار
الوثنيين بالمسلمين وتنكيلهم بهم، وكانوا قد كادوا يعودون أدراجهم، بعد إخضاعهم
الأعاجم وأخذ البلاد منهم، وموت ملكهم وقائدهم جنكيز خان، وعجزهم عن فتح
أصبهان الإسلامية، قال ابن أبي الحديد في (ص329) من الجزء الثاني من
شرحه على نهج البلاغة: (المطبوع بمصر) ما نصه:
(ورجع جنكيز خان إلى ما وراء النهر وتوفي هنالك، وقام بعده ابنه قاآن
مقامه، وثبت جرماغون في مكانه بآذربيجان، ولم يبق لهم إلا أصبهان، فإنهم
نزلوا عليها مرارًا في سنة 627 وحاربهم أهلها، وقتل من الفريقين مقتلة عظيمة،
ولم يبلغوا منها غرضًا، حتى اختلف أهل أصبهان في سنة 633 وهم طائفتان
حنفية وشافعية وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة، فخرج قوم من أصحاب
الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار، فقالوا لهم: اقصدوا البلد
حتى نسلمه إليكم، فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكيز خان بعد وفاة أبيه والملك يومئذ
منوط بتدبيره، فأرسل جيوشًا من المدينة المستجدة التي بنوها وسموها (قراحرقم)
فعبرت جيحون مغربة، وانضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيأة المدد
لهم، فنزلوا أصفهان في سنة 23 المذكورة وحصروها. فاختلف سيفا الشافعية
والحنفية في المدينة، حتى قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة فتحها الشافعية
على عهد بينهم وبين التتار؛ أن يقتلوا الحنفية ويعفو عن الشافعية، فلما دخلوا البلد
بدأوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعًا، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا
الحنفية ثم قتلوا سائر الناس، وسبوا النساء وشقوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال
وصادروا الأغنياء، ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان، حتى صارت تلولا من
رماد) اهـ.
ومن فضائح الخلاف بين الشافعية والحنفية؛ ما ذكره المؤرخون في خبر
انتقال ابن السمعاني من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، وما جرى من
التعصبات والمطاعن والفتن، حتى إن ابن السبكي لم يستحِ من نقل الرؤى التي
تقدمت ذلك، ومنها أنه لما اختلج في ذهنه تقليد الشافعي وتردد فيه، رأى رب
العزة جل جلاله في النوم فقال له: (عد إلينا أبا المظفر) قال: فانتبهت وعلمت
أنه يريد مذهب الشافعي فرجعت إليه! ! فهذا العالم العلامة من المقلدين الذين قالوا
عنه إنه شافعي وقته، قد فهم من الرؤيا التي رآها أن الله تعالى يريد بقوله له:
(عد إلينا) الرجوع عن مذهب أبي حنيفة الذي مكث ثلاثين سنة يناظر علماء
الشافعية في ترجيحه على مذهبهم؛ ويتقلد مذهب الشافعي الذي كان يجتهد تلك المدة
كلها في إبطال ما خالف الحنفية منه، ويؤخذ من هذا الفهم أنه كان يرى أن مذهب
أبي حنيفة بعيدًا عن الله وعن مرضاته كأنه ليس من دينه في شيء، أي كان هذا
منه وهو متقلد له، ولماذا لم يفهم من العودة إلى الله العودة إلى الأصل دينه من
كتابه المنزل وسنة نبيه المرسل، ومن غير شوب لهما بظنون الحنفية والشافعية
جميعًا؟
المراد من الإشارة إلى هذه الواقعة من وقائع تعصبات المذاهب وتفرقها بين
السلمين؛ هو بيان أن كبار المقلدين كانوا يعبرون عن المخالفين لهم في المذهب
بمثل ما يعبرون به عن المخالفين لهم في أصل الدين وإن لم يصرحوا بتكفيرهم
بلفظ الكفر والردة، ومن ذلك قول بعض الحنفية: إنه يجوز للحنفي أن يتزوج
البنت الشافعية قياسًا على الذمية! ! بل غلا بعضهم وصرح بالتكفير، ولا يزال
هذا التعصب شديدًا في بعض بلاد الأعاجم كالهند وغيرها على ضعف المذاهب كلها،
ولا تخلوا البلاد العربية من نزغات في ذلك، فقد قال أحد متفقهة الحنفية في
طرابلس الشام في درسه مرة إنه لا يصلي خلف إمام شافعي؛ لأن الشافعية يشكون
في إيمانهم (أي إن علماءهم أجازوا أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله)
فذهب بعض الشافعية إلى المفتي، وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين الحنفية،
فانتهر المفتي ذلك الحنفي وأطفأ الفتنة، ولعل مصر الآن أشد بلاد الإسلام تساهلاً
وأقلها تعصبًا في ذلك.
تقول مجلة (دين ومعيشت) : إن العلماء قد أقروا خلاف المذاهب الموروثة
وعدوه رحمة، كما ورود في الحديث فلم يكره أحد وهذا غير صحيح؛ فإن العلماء
النابغين المستقلين قد أنكروا ذلك في كل عصر، وحثوا المسلمين على هداية الكتاب
والسنة، وترى في هذا الجزء كلامًا لفقيه شافعي مستقل في ذلك، ولكن ضاع أكثر
أقوالهم في الجماهير التي غلب عليها الجهل والمشتغلين بمدارسة هذه المذاهب؛
لأجل الأوقاف التي حبست على المنتمين إليها، والمناصب التي يخصهم بها الملوك
والأمراء، فلولا الأمراء والسلاطين والأوقاف التي وقفوها على المشتغلين بهذه
المناصب اندرست كما اندرس غيرها، بل لما وجدت بهذه الصفة، وإنما كان
يحفظ منها مثل ما حفظ من مذهب الثوري والأوزاعي وأضرابهم، وهو أقوال
الأئمة ودلائلهم تذكر في شروح الحديث وكتب الفقه التي لا تجيز فيها إلى فئة، ولا
افتراق فيها بين جماعة المسلمين، وهؤلاء المقلدون للمذاهب المتعصبون لها لأجل
ما ذكر، لا يعدون من العلماء حقيقة وإن عدوا منهم عرفًَا، وكان السلف يعبرون
عن المقلد بالجاهل مهما اشتغل بالعلم، وعن المجتهد بالعالم، وترى مثل هذا في
الهداية وشروحها من كتب الحنفية في أحكام القضاء والإفتاء، على أن مقلدي كل
مذهب أنكروا مسائل الخلاف في غير مذهبهم، فكان لنا من مجموع أقوالهم إنكار
جميع ما اختلف فيه، ولا يمكن الترجيح بينهم إلا بالرجوع إلى الأصل الذي أمرنا
الله به في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء:
59) كما كان يفعل السلف الصالح رضي الله عنهم.
كان المسلمون في خير القرون أمة واحدة، وكان العلماء فيهم أدلاء ونقلة لدين
الله لا يدون ظن أحد منهم (اجتهاده) في المسائل؛ ليتخذ دينًا يدعي إليه ويلتزم
دون غيره، وكان سبب انتشار هذه المذاهب تعين الحكام من أهلها، ثم انتماء
الملوك والأمراء إليها، فلو بقيت دولة العبيدية في مصر لصار جميع أهلها أو
أكثرهم شيعة ثم باطنية، ولولا تعقب السلطان صلاح الدين لمذهبهم وتعمد محوه
واستبدال مذهب الشافعية وكذا المالكية به؛ لما صار أكثر أهل مصر شافعية
والكثير منهم مالكية كما بين ذلك المقريزي في خططه، ولولا استيلاء العثمانيين
وأسرة محمد علي باشا على مصر وهم حنفية، وجعلهم القضاة والحكام من أهل
مذهبهم؛ لما كثر علماء الحنفية في الأزهر وانتشر مذهبهم في هذه البلاد، فملوك
الدنيا ومناصب الدنيا ومتاع الدنيا وزينة الدنيا وجاه الدنيا هي التي قررت هذا
الخلاف بين المسلمين وحفظته ونصرته؛ كما بين ذلك الإمام الغزالي في كتاب العلم
من الربع الأول من إحياء علوم الدين، وحسبك أن تراجع منه الباب الرابع الذي
عقده لبيان (إقبال الخلق على علم الخلاف) فإنه صرح فيه بنحو ما ذكرناه آنفًا
وبينه كما بينه غيره من العلماء والمؤرخين.
وما زال علماء الدنيا - أو علماء السوء كما يقول الغزالي - يؤيدون الحكام
الظالمين في كل حين لأجل المال والجاه، بل يؤيدون غير المسلمين أيضًا؛ كما
كان بعض علماء مصر يقنعون المسلمين بوجوب الخضوع لفرنسة عندما استولت
على مصر بجيش بونابرت، يفعلون ذلك باسم الإسلام. فلا عجب إذا أيدوا كل
حكومة منسوبة إلى الإسلام، مهما كانت جائرة ومهما كان مذهبها في الأصول
والفروع، وقد وجد من أصحاب العمائم في مصر من أنشأ في هذا العصر مسجدًا في
مصر باسم ملك إيطالية الكاثوليكي، ووقفه على روحه ليكون له ثواب الصلاة فيه،
وهذا المعمم الذي يعد من طائفة العلماء وشيوخ المتصوفة هو ابن الشيخ عليش الذي
كان يعد أشهر علماء الأزهر، وأشدهم تشددًا في الدين. وكان من هذا الخزي أن
اسم الشيخ عليش وشهرته مما استعانت به إيطالية على أخذ مملكة طرابلس الغرب
وبرقة من الدولة الإسلامية، كل ذلك لأجل عرض قليل وحطام حقير يستفيده من
فضلات وكالة إيطالية السياسية بمصر.
فهل يستغرب مع هذا ما قاله الغزالي والمقريزي وغيرهما من المتقدمين في
سبب التعصب للمذاهب ونصرها، وهو أنه طلب المال والجاه والتمتع بالأوقاف
والمناصب؟ أم يستغرب ما كان يكتبه الشيوخ الدجالون من عبيد الدنيا في مدح
السلطان عبد الحميد مدمر الدولة العثمانية، ومذل الأمة الإسلامية من المدائح فيه،
وتكفير المخالفين له، كقول الشيخ يوسف النبهاني في ذيل قصيدة له في مدحه
ومدح كاتبه عزت باشا العابد؛ إنه يتقرب إلى الله بمحبته وموالاة من ولاه ومعاداة
من عاداه، قال: (وذلك لازم لكل مسلم، وإن عكسه من أكبر الكبائر وأعظم
الذنوب الموجبات لسخط الحق سبحانه، بل ربما أدى ذلك إلى الكفر) ثم ذكر
أن الذين عادوه يعني أحرار العثمانيين طلاب إصلاح الدولة (قد عصوا الله
ورسوله، وأسخطوا جميع المؤمنين، واستحقوا لعنة الله وغضبه في كل حين) وذكر
في تلك القصيدة أن عبد الحميد جدد الدين والدولة، وأنه لا يوجد له مثل في
الأرض. ولكن عسى أن يوجد له مثل فوق السموات. والقصيدة مطبوعة، فهل
مكن المستبدين من إهلاك المسلمين إلا أمثال هؤلاء المقلدين الجاهلين
الطامعين في الأموال والمناصب بعنوان هذه المذاهب، وإذا كان الأمر
كذلك، فأي رحمة استفادها المسلمون من اختلاف أولئك المقلدين المتعصبين غير
تلك الأموال والمناصب التي تمتع بها أولئك المفرقون بين المسلمين باسم
المذاهب، وأئمة الذاهب برآء من ذلك ومن الرضى به.
وجملة القول: إن حديث (اختلاف أمتي رحمة) لا أصل له كما صرح بذلك
غير واحد من أئمة الحديث، وذكر الخطابي له في عرض كلامه، لا يثبت أن له
أصلاً عنده، ولكن قد يشعر بذلك كما قال السخاوي، ووجود أصل له لا يستلزم
صحته ولا حسنه، وهو لا يعرف له سند، ومعناه كلفظه لا يصح ولا يثبت، بل
الثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف، وفي
الواقع ونفس الأمر أن الاختلاف قد أدى إلى التفرق والعداوة والبغضاء، فكان من
أسباب ضعف المسلمين وتمزقهم كل ممزق، فهم للتعصب للمذاهب قد أضعفوا
وحدتهم وأضعفوا استقلال عقولهم، فلما ارتقت الأمم باستقلال العقل في فنون العلم،
وما يترتب عليه من الأعمال علوهم وسلبوا ملكهم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله
بين وجوهكم) متفق عليه في الصحاح والسنن كلها، وفي رواية أبي داود (أو
ليخالفن الله بين قلوبكم) وفسرت الوجوه في رواية الجمهور بالقلوب كما فسر به {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (الأنعام: 79) قال النووي في
شرح الحديث: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء، وقال القرطبي: معناه
تفترقون، فيأخذ كل واحد وجهًا غير الذي يأخذه صاحبه، ولا يفقه هذه الحكمة
النبوية إلا العليم بصفات الأنفس البشرية وأخلاقها ونظام الاجتماع الإنساني،
ومن سنن الله في ذلك أن ما ينفق فيه الإفراد من الأعمال الظاهرة المشتركة بينهم،
يكون سببًا لائتلافهم واتفاقهم ووحدتهم، والضد بالضد؛ ولذلك تتحرى الأمم
المرتقية في العلم والنظام أن تربي أفرادها على نظام واحد في الأعمال الظاهرة،
وأن تنشر عاداتها في الأمم الأخرى؛ لتجذب بها قلوبها إليها، وقد أوضحنا
هذا المعنى في مقالاتنا (المسلمون والقبط) فليرجع إليها.
(يا سبحان الله) إن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يسمح لنا أن تختلف
أفرادنا في صف الصلاة، فيتقدم بعضهم على بعض، وأقسم على أن ذلك يكون
سبب اختلاف قلوبنا ووقوع التفرق بيننا، ثم نحن نجيز لأنفسنا أن نقيم في المسجد
عدة جماعات في وقت واحد لاختلاف المذاهب، ونعد هذا رحمة بنا، ونحن نشعر
في أنفسنا بأن ذلك يبعد بعضنا عن بعض ولا شك في ذلك، ونجيز لها غير ذلك
من الفتن والفساد.
لو شئت أن أنقل بعض ما أعلم من وقائع الفتن والعداوة بين أهل المذاهب
لجئت بالفضائح، وكل ذلك قد جرى باسم الانتصار لأئمة العلم والفقه، وما هو إلا
انتصار للأهواء كما قال الغزالي: لا شيء منه يوافق أصول أولئك الأئمة ولا
سيرتهم الشريفة، بل يقل أن يوجد مدعي اتباعهم من يعرف حقيقة ما كانوا عليه،
وإنما يتبع أهل كل عصر علماء عصرهم الذين أشرنا إلى حالتهم لثقتهم بهم وإن
كانوا جاهلين، حتى بالمذاهب التي جعلوها حرفتهم وسبب رزقهم، وهؤلاء القادة
الجاهلون هم الذين منعوا المسلمين من أسباب الرقي المالي العلمي والصناعي؛
فضاعت بلادهم.
منشأ عصبية التقليد الثقة، وأكبر مفاسده أن تكونت بهذه الثقة مذاهب
المبتدعة وطرقهم، بل مذاهب الكفر والزندقة باسم الإسلام كمذاهب الباطنية،
فالبكداشية يعدون الآن في بلاد الترك والأرنؤط بالملايين ويقولون: إنهم من
المسلمين، وما كان الآخذون بتعليم (الفضل الحروفي) من المسلمين في شيء،
أفرأيت لو لم توجد بدعة التشيع أو التعصب من كل طائفة لتعليم معين، هل كان
وجد هذا الضلال، أرأيت لو أن المسلمين يعملون في كل عصر وكل مكان بقوله
تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) هل كان وجد هذا
التفرق والتمزق والانحلال؟ ؟ لا لا وإنما وجد بالتقليد لأن كل طائفة وثقت
برؤسائها فاتبعتهم بغير دليل، وسنزيد هذا بيانًا في وقت آخر إن شاء الله تعالى.
__________(14/770)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار التاريخية والآراء
(محاربة إيطالية لطرابلس الغرب)
نعني بطرابلس الغرب الإقليم الواقع بين القطر المصري والقطر التونسي،
ومنه برقة المعبر عنها في عرف الدولة بمتصرفية بنغازي، وهو مملكة كبيرة
مساحتها أربعمائة ألف ميل أو تزيد، ولكنها لسوء الإدارة والظلم والفوضى قد غلب
عليها الخراب وقل فيها السكان، فأهلها يقدرون بمليون ونصف، يدخل في ذلك
بدوهم مع حضرهم، وموقع هذه المملكة البحري والتجاري عظيم، وهي قابلة
للعمران والترقي، وقد كنا نسمع منذ وعينا أن دولة إيطالية طامعة فيها، وكانت
الحكومة الحميدية على سيئاتها قد عنيت بتعليم أهل طرابلس النظام العسكري،
فأنشأت فيها فرقًا من الفرسان (الألايات الحميدية) كما فعلت في بلاد الأكراد،
فقلنا يومئذ إن للسلطان عبد الحميد في هذه الدولة حسنتين: سكة الحديد الحجازية
والألايات الحميدية. وقد اقترحنا على الدولة العلية منذ أكثر من عشر سنين؛ أن
تعمم التعليم العسكري في طرابلس الغرب وفي سائر البلاد العثمانية، وتجعل فيها
مستودعات للسلاح؛ ليكون الأهالي مستعدون للدفاع عن أنفسهم إذا فاجأهم
الطامعون، وتعذر على الدولة أن تمدهم بالجند الكافي، بل قلنا: إن الطامعين إذا
علموا أن أهل البلاد مستعدون للحرب والكفاح يحجمون عن مهاجمة البلاد؛ لأن
أوربة - ولا خوف إلا منها - تؤثر الفتح السلمي الذي لا تخسر فيه كثيرًا من
أبنائها وأموالها على الفتح الحربي.
كانت نصائحنا كنصائح غيرنا تحمل على معاداة السلطان، ولا يترتب عليها
إلا إيذاء الناصح في نفسه أو أهله وماله، ثم زالت الحكومة الحميدية وحل محلها
الحكومة الجديدة، التي سيطرت عليها جمعية الاتحاد والترقي بقوة الجيش وديوان
الحرب العرفي، فكان حظ طرابلس الغرب في عهد هذه الحكومة شرًا من حظها في
زمن عبد الحميد، فقد أضعفت وزارة حقي باشا حمايتها، ومهدت السبيل لتعجيل
إيطالية باحتلالها، كما يعلم من التقرير الرسمي الذي قدمه بعض المبعوثين إلى
المجلس في طلب محاكمة حقي باشا.
إن إيطالية تستعد منذ سنين كثيرة لامتلاك طرابلس الغرب، وكان هذا
الاستعداد على أشده بعد الدستور؛ إذ كان حقي باشا سفير الدولة في رومية عاصمة
إيطالية، فصدرًا أعظم للدولة، يسهر أكثر لياليه في سفارة إيطالية يقامر مع النساء
والرجال… وكان يشهد دائمًا لإيطالية بحسن النية وصداقة الدولة العلية، حتى إن
سفير فرنسة حذره منها، وأنذره سوء معاقبة مقاصده، فماراه بالنذر، حتى حل
الخطر، ووقع البلاء المنتظر.
وهاك ترجمة البلاغ الذي أعطاه سفير إيطالية لصديقه حقي باشا بإمضاء سان
جليانو رئيس وزارة إيطالية.
* * *
(إنذار إيطالية للدولة العثمانية)
لبثت الحكومة الإيطالية منذ سنين تنبه الباب العالي لضرورة وضع حد لسوء
النظام وإهمال الحكومة العثمانية في طرابلس وبنغازي، ولوجوب تمتيع هذه البلاد
بما تتمتع به سائر أقسام إفريقية الشمالية، وهذا التغيير (المشار إليه من حيث تأييد
الأمن وترقية البلاد) الذي يقتضيه التمدين، يجعل المصالح الحيوية بحسب ما
تستلزمه مصلحة إيطالية في الدرجة الأولى؛ بالنظر لقصر المسافة الفاصلة بين تلك
البلاد وشواطئ إيطالية.
وبالرغم من حسن مسلك الحكومة الإيطالية التي كانت دائمًا توالي وتعضد
تركية في كثير من المسائل السياسية في العهد الأخير، وبالرغم من اعتدالها
وصبرها حتى الآن، كانت الحكومة العثمانية تجهل رغائبها في طرابلس، حتى إن
جميع مشروعات الطليان في تلك الأصقاع كانت تصادف دائمًا مقاومة لا تحتمل.
فالحكومة العثمانية التي كانت حتى الآن تبدي العداء والسخط من الحركة
الإيطالية الشرعية في طرابلس وبنغازي، وما زالت كذلك حتى الساعة الحادية
عشرة من هذا اليوم (أي الساعة التي كتب أو قدم فيها البلاغ) ، اقترحت على
الحكومة الملكية (يعني الطليانية) أن تتفاهم معها، وأعلنت أنها ميالة أن تمنحها
أي امتياز اقتصادي يتفق مع المعاهدات النافذة، ومع شرف تركية الأعلى
ومصالحها. ولكن الحكومة الملكية لا تشعر الآن أنها في أحوال توافق الدخول في
المفاوضة بهذا الموضوع - المفاوضة التي برهن الاختيار الماضي على عدم نفعها
وهي لا تشتمل على ضمان المستقبل، ولا تكون إلا سببًا للاحتكاك والنزاع.
ومن جهة أخرى، قد وردت الأخبار إلى الحكومة الملكية من قنصلها في
طرابلس وبنغازي تفيد أن الحالة هناك خطرة جدًّا؛ بسبب التحريض العام ضد
الرعية الطليان، التحريض الذي زاده الضباط وسائر موظفي الحكومة، فهذا النهج
خطر شديد على الطليان وعلى سائر الأجانب على اختلاف جنسياتهم. ولما
أصبحوا قلقين على حياتهم، ابتدأوا يهجرون البلاد بلا إبطاء، ووصول (السفن)
العسكرية العثمانية إلى طرابلس زاد الحالة خطرًا وحرجًا؛ مع إن الحكومة الملكية
نبهت الحكومة العثمانية إلى نتائجه السيئة من قبل، ولهذا تضطر الحكومة الملكية
أن تتخذ الاحتياطات اللازمة؛ دفعًا للخطر الذي ينشأ عنه.
ولما وجدت الحكومة الإيطالية نفسها مضطرة إلى الحرص على شرفها
ومصالحها، قررت أن تحتل طرابلس وبنغازي احتلالاً عسكريًّا، وهذا هو الحل
الوحيد الذي تعول عليه إيطالية، والحكومة الملكية تنتظر أن تصدر الحكومة
السلطانية أوامرها بأن لا يصادف الاحتلال معارضة من رجال الحكومة العثمانية،
وأن لا تجد صعوبة في إنفاذ ما تريد إنفاذه، وبعد ذلك تتفق الحكومتان على تقرير
الحالة اللازمة التي تلي ذلك الاحتلال.
وقد صدرت الأوامر للسفير الإيطالي في الآستانة أن يلتمس جوبًا حازمًا في
هذه المسألة من الحكومة العثمانية في مدة 24 ساعة منذ تسليمه هذا البلاغ، حتى
إذا لم تجاوب عليه اضطرت الحكومة الإيطالية لتنفيذ المشروعات المدبرة لضمان
الاحتلال.
ونرجو أن يبلغ جواب الباب العالي المنتظر في 24 ساعة لنا عن يد السفير
العثماني في رومية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
سان جليانو
* * *
(جواب الدولة على الإنذار)
تعلم السفارة الملكية كل العلم الظروف التي لم تسمح لطرابلس وبنغازي بأن
تقدم التقدم الموموق.
ودرس المسألة بغير غرض يكفي في الحقيقة لأن يثبت أن الحكومة الدستورية
العثمانية لا يجوز اتهامها بحالة؛ هي نتيجة الحكم الماضي، فإذا ظهر ذلك، وعدنا
إلى تاريخ حوادث السنين الثلاث التي مرت يصعب جدًّا على الباب العالي أن يجد
ظرفًا واحدًا ظهر فيه بمظهر العداء للمشروعات الطليانية في طرابلس وبنغازي، بل
إنه يجد عكس ذلك؛ أي أن إيطالية كانت تساعد بمالها ونشاطها الصناعي على
إنهاض ذلك الشطر من السلطة إنهاضًا اقتصاديًّا.
وتعتقد الحكومة السلطانية أنها أظهرت ميلاً حسنًا مطردًا إلى كل المقترحات
التي كانت تقدم لها بهذا المعنى، بل إنها درست وحلت حلاً وديًا كل طلب طلبته
السفارة الملكية.
ولا حاجة بنا إلى أن نريد أنها كانت بذلك تنقاد دائمًا لإرادتها أن تحفظ صلات
الصداقة والثقة مع حكومة إيطالية وفي أن تنميها، وهذه الإدارة الحسنة هي التي
دفعتها مؤخرًا إلى أن تقترح على السفارة الملكية اتفاقًا يكون أساسه الامتيازات
الاقتصادية التي تفتح مجالاً واسعًا للنشاط الطلياني في تلك الأقاليم، على شرط أن
يكون حد تلك الامتيازات كرامة السلطنة ومرافقها والمعاهدات النافذة.
بهذا برهنت الحكومة العثمانية على ميولها السليمة، دون أن يغيب عنها حفظ
العهود التي تربطها بالدول الأخرى. تلك العهود التي لا يسقط شطر منها بإرادة
فريق من المتعاقدين.
أما ما يختص بالنظام والأمن في طرابلس وبنغازي؛ فإن الحكومة العثمانية
القادرة جيدًا على تقدير الحالة، لا يمكنها إلا أن تؤكد كما فعلت سابقًا أنه لا يوجد
أقل سبب داع للخوف على الطليان والأجانب النازلين هناك.
ففي تلك الأقاليم لا يوجد اضطراب ولا تهيج، ومهمة الضباط وغيرهم من
موظفي الحكومة ضبط الأمن، وهم يقومون بمهمتهم خير قيام.
وأما وصول النقالات العسكرية العثمانية إلى طرابلس المتمسكة به السفارة؛
لأنها تتوقع منه نتائج خطرة، فجواب الباب العالي عليه أنه لم يرسل سوى نقالة
واحدة، سافرت قبل وصول مذكرة 26 سبتمبر ببضعه أيام وزيادة، على هذا أن
تلك النقالة لا تحمل جنودًا، فلا يمكن أن يكون لوصولها تأثير على أفكار الأهالي
غير تأثير الهدوء.
فإذا تبين ذلك لا يبقى إلا عدم وجود الضمان الذي يضمن للحكومة الطليانية
توسع مصالحها الاقتصادية في طرابلس وبنغازي، إذا كانت الحكومة الملكية لا
تعمد إلى عمل خطير كالاحتلال العسكري، فإن الباب العالي مستعد لإزالة هذا
الخلاف، والحكومة السلطانية تطلب من الحكومة الملكية أن تبيّن لها نوع الضمان
المطلوب، فهي توافق عليه إذا لم يمس الأملاك وتتعهد بأن لا تغير شيئًا من الحالة
الحاضرة أثناء المفاوضات، من حيث الهيأة العسكرية في طرابلس وبنغازي،
وتأمل أن الحكومة الملكية توافق الباب العالي على مقصده السلمي الآستانة 29
سبتمبر سنة 1911.
(المنار)
تلا ذلك الإنذار بالحرب والشروع فيه، وقد كتبنا مقالات عنوانها العام (المسألة
الشرقية) ونشرناها في المؤيد؛ لبيان ما يجب بيانه في هذه الكارثة الخطرة، ونشرنا
في هذه الجزء الأول منها، وسننشر عمائرها في الأجزاء الآتية.
__________(14/781)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) .
(صفة المدرسة)
(الأصل الأول) دار الدعوة والإرشاد مدرسة كلية إسلامية، تدرس فيها
جميع العلوم والفنون التي تدرس عادة في الكليات مع التربية الدينية، وزيادة العناية
بالعلوم الإسلامية، وتنشأ أقسامها بالتدريج، يبدأ منها بقسم عال؛ لتخريج الدعاة
إلى الإسلام والمرشدين بالوعظ والتدريس وهو المقصد الأساسي.
(الأصل الثاني) هذه المدرسة تابعة لجماعة الدعوة والإرشاد، ويكون لها
لجنة مدرسية يتولى مجلس إدارة الجماعة تأسيسها، وناظر يكون من أعضاء هذا
المجلس (وفاقًا للأصل السابع من النظام الأساسي للجماعة) .
(الأصل الثالث) مجلس إدارة الجماعة، هو الذي يعين المدرسين الموظفين
عدا الخدم من العاملين في المدرسة بناء على طلب لجنة المدرسة.
(الأصل الرابع) لسان التدريس في هذه المدرسة هو اللسان العربي،
ويتحتم فيها تعلم لغة من لغات العلم الأوربية. ويجوز أن تدرس فيها عدة من
اللغات الشرقية والغربية لا سيما لغات الشعوب الكبيرة من المسلمين؛ كالتركية
والفارسية والأوردية والملاوية، ويكون ذلك بقرار من مجلس الإدارة بعد استشارة
لجنة المدرسة، وللمجلس أن يقرر تدريس بعض العلوم والفنون أو اللغات التي لا
نص عليها في هذا النظام من تلقاه أو بناء على طلب لجنة المدرسة.
(الأصل الخامس) العلوم التي تقرأ في قسم الدعاة والمرشدين وطريقة
تدريسها، تبين في فصل يلحق بهذا النظام.
(الأصل السادس) برنامج الدراسة وجدول الدروس، تضعه لجنة المدرسة
عند إدارة الشروع فيه، ويقرره مجلس الإدارة.
(الأصل السابع) القسم العالي الذي يبتدأ به في تأسيس المدرسة، يكون
صنفين: صنف المرشدين ومدته ثلاث سنين، وصنف الدعاة ويختار طلابه من
متخرجي صنف المرشدين، ويمكثون ثلاث سنين أخرى، فمجموع مدته ست سنين
ماعدا السنة التمهيدية الأولى.
(الأصل الثامن) يكون للمدرسة سنة تمهيدية؛ لإعداد الطلاب وترشيحهم
للدخول في السنة الأولى، وللمدرسة أن تتسامح في السنة التمهيدية بما ترى
التسامح فيه من شروط الطلبة.
(الأصل التاسع) التعليم في قسم الدعاة والمرشدين من المدرسة مجاني،
والمدرسة تنفق على الطلاب الداخلين فيه وتكفيهم كل ما يحتاجون إليه فيها،
وتعطيهم إعانة شهرية بحسب الحاجة الاجتهاد والتهذيب، لا تقل عن ريال مصري
في الشهر، وأما الطلاب الخارجيون فلا تنفق عليهم شيئاً.
(الأصل العاشر) مدة الدراسة في السنة تسعة أشهر.
(الأصل الحادي عشر) تعطل المدرسة دروسها ثلاثة أشهر الصيف؛
وأسبوعًا لكل من عيد الفطر وعيد الأضحى إذا وقعنا في أيام العمل.
(الأصل الثاني عشر) الطلاب الداخليون مخيرون في مدة العطلة بين البقاء
في المدرسة والسفر إلى بلادهم وزيارة أهليهم، وعلى من بقي فيها أن يلتزم ما
تكلفه إياه من الدراسة ومدارسة القرآن والمطالعة والكتابة.
(الأصل الثالث عشر) طلب الدخول في المدرسة للتعلم أو التعليم أو غير
ذلك من الخدم فيها يقدم إلى الناظر، وهو يراجع لجنة المدرسة فيما يتعلق به
نظرها من ذلك.
(الأصل الرابع عشر) يكون للمدرسة طبيب، ومراقب عام (ضابط)
وكاتب، ومأمور إدارة يناط به حفظ موجودات المدرسة وشراء الأدوات وتوزيعها
على الطلبة، ويجوز أن يكون لكل منهم معاونون بحسب الحاجة.
(الأصل الخامس عشر) يكون في المدرسة الأنواع الآتية من الدفاتر:
(1) دفتر قرارات ومحاضر لجنة المدرسة.
(2) دفتر أسماء الطلاب الداخلين، وما يتعلق بحالهم في المدرسة.
(3) دفتر أسماء الطلاب الخارجين، وما يتعلق بحالهم في المدرسة.
(4) دفتر الأمور الصحية.
(5) دفتر كوبيا؛ لطبع الوسائل التي تصدر من المدرسة.
(6) دفتر الرسائل الواردة والصادرة، يذكر فيه تاريخها وأسماء المرسلين
والمرسل إليهم الموضوع.
(7) دفتر الآلات والأدوات المتعلقة بالتعليم.
(8) دفتر الأثاث والماعون.
(9) دفتر التبرعات والهبات التي ترد إلى المدرسة خاصة.
(10) دفتر المدرسين وأحوالهم في مواظبتهم وغيبتهم.
(11) دفتر المستخدمين وأحوالهم في مواظبتهم وغيبتهم.
(12) دفتر رواتب المدرسين والمستخدمين.
(13) دفتر النفقات العامة.
(14) دفتر مكتبة المدرسة وما فيها من الكتب المهداة إليها والمشتراة لها.
(15) دفتر شهادات أهل الفضل والمكانة الذين يزورون المدرسة بخطوطهم.
* * *
(شروط الطلاب وآدابهم في قسم المرشدين والدعاة)
(الأصل السادس عشر) يشترط في قبول الطالب الداخلي:
(أولاً) أن يثبت بالكشف الطبي أنه صحيح الجسم والحواس، سليم من
الأمراض والعاهات، قادر على التحصيل.
(ثانيًا) أن تثق المدرسة بأنه حسن السيرة طاهر الأخلاق، لم يعرف عنه
أمر يخل بالدين والشرف.
(ثالثًا) أن تكون سنه بين 20 و25.
(رابعًا) أن يكون حافظًا لطائفة من القرآن الكريم، بحيث يسهل عليه إتمام
حفظه قبل إتمام دراسة الصنف الأول.
(خامسًا) أن يكون قد حصل قدرًا صالحًا من النحو والصرف والفقه،
وعرف القواعد الأربع من الحساب على الأقل، وأن يكون صحيح الإملاء، حسن
الخط في الجملة، جيد المطالعة في الكتب العربية.
(سادسًا) أن يكون من أصل قديم في الإسلام.
(سابعًا) أن يكتب على نفسه وثيقة، يبين فيها أنه اطلع على نظام المدرسة
ورضي بأن يكون من طلابها ملتزمًا لنظامها خاضعًا لجماعتها، يتوجه إلى حيث
توجهه بعد إكمال الدراسة.
(ثامنًا) أن يكتب طلبًا للناظر، يبين فيه اسمه واسم أبيه وجده وعشيرته
وبلده وحكومته وسنه، ويقدمه متصلاً بالوثيقة.
(الأصل السابع عشر) يرجح الفقير من حائزي الشروط على الغني،
والعارف بلغة أوربة على غير العارف، وحافظ القرآن كله على حافظ بعضه.
(الأصل الثامن عشر) تتحرى المدرسة أن يكون طلابها من الأقطار المختلفة،
فإذا تساوى اثنان من طلاب الدخول في الاستعداد، رجح من كان من قطر أو
بلد لا يوجد في المدرسة منه أحد على غيره، ومن كان من قطر أو بلد فيه قليلون
من الطلاب على من كان من بلد فيه كثيرون منهم.
(الأصل التاسع عشر) على كل طالب من هؤلاء الطلاب أن يصلي
الصلوات الخمس في الجماعة، والرواتب المسنونة، وأن يقرأ كل يوم طائفة من
القرآن مع الترتيل، وأن يذكر الله تعالى في أوقات الفراغ من العمل منفردًا ما
حضر قلبه ونشطت نفسه، وأن يلتزم أحكام الدين وآدابه في المأمورات والمنهيات
ولا سيما المحافظة على الصدق في الجد والهزل، وأن يكون دائمًا نظيف البدن
والمكان والفراش وسائر ما بيده من الكتب وغيرها، محافظًا على النظام والآداب،
مطيعًا للناظر والمعلمين والمراقبين، وللناظر أن يكلف الطلبة ما يراه من النوافل
حسب الطاقة.
(الأصل العشرون) يتمرن هؤلاء الطلاب على الرياضات البدنية بأنواعها؛
كالعمل في الأرض والسباحة والمشي والعدو، ويراقبهم في أثنائها بعض المعلمين.
(الأصل الحادي والعشرون) لا يسمح للطلاب بشرب الدخان مطلقًا.
(الأصل الثاني والعشرون) لا يجوز لأحد من الطلاب أن يخرج من
المدرسة إلا بإذن من الناظر لعذر مقبول، فإن كان العذر مرضيًا يشترط في قبوله
عند عودته أن يكون قد برئ منه، وأن يكون سليمًا من كل داء بشهادة الطبيب الذي
تثق به المدرسة.
(الأصل الثالث والعشرون) يحظر على الطلاب الاشتغال بالسياسة،
والدخول في الجمعيات والأحزاب السياسية والتشيع لها بنحو المظاهرات، ومكاتبة
الجرائد السياسية.
(الأصل الرابع والعشرون) لا يجوز لأحد من الطلاب أن يعيب أحدًا من
إخوانه، أو يترفع عليه بجنسه أو نسبه أو نشبه أو مذهبه، وإذا بحثوا في مذاهب
العلماء وخلافهم في الأصول أو الفروع؛ عليهم أن يبحثوا بالإنصاف وحسن الأدب
ولا سيما مع الأئمة والمصنفين.
(الأصل الخامس والعشرون) يكلف هؤلاء الطلاب الكلام الفصيح في
المدرسة وخارج المدرسة.
(الأصل السادس والعشرون) تحترم المدرسة استقلال الطلاب في أفكارهم
وآدابهم، وحريتهم في أقوالهم وسؤالهم. ولهم التصريح لمن شاءوا من المعلمين
والناظر بكل ما يخطر في بالهم من المسائل الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية
وإن كانت من باب الشكوك والشبهات في مسائل الدين، ولكن مع حسن الأدب في
التعبير.
وعليهم أن لا يظهروا الاقتناع بشيء لم تطمئن له قلوبهم، ولم تستبنه عقولهم
(الأصل السابع والعشرون) يشترط في الطالب الخارجي أن يكون حسن
السيرة والآداب نظيف الثياب؛ عارفًا باللغة العربية وعلومها معرفة تمكنه من فهم
الدروس التي يريد حضورها سالمًا في الأمراض؛ بشهادة الطبيب الذي تثق به
المدرسة.
(الأصل الثامن والعشرون) من أراد أن يكون طالبًا من القسم الخارجي؛
فعليه أن يقدم طلبًا لناظر المدرسة، يبين فيه اسمه واسم أبيه وجده وبلده وحكومته
وسنه، ويعين الدروس التي يريد حضورها، ويتعهد بأنه يلتزم آداب المدرسة
ونظامها.
(الأصل التاسع والعشرون) المدرسة مخيرة في قبول الطالبين وردهم.
(الأصل الثلاثون) يكون لكل تلميذ دفتر مجلد، يكتب اسمه في أوله،
ويكتب في سائر صفحاته أسماء العلوم والفنون المفروضة في البرنامج في كل سنة
من سني المدرسة، ويقيد بجانب كل علم وفن اسم الأستاذ الذي حضر عليه الطالب
وشهادة الأستاذ له بالمواظبة والتحصيل بحسب الواقع.
* * *
(المعلمون)
(الأصل الحادي والثلاثون) يشترط أن يكون المعلمون الموظفون من أصحاب
الشهادات والتآليف أو الأعمال الدالة على قدرتهم على تدريس ما يعهد إليهم،
وأن تكون سيرتهم حسنة في أخلاقهم وآدابهم الدينية والاجتماعية.
(الأصل الثاني والثلاثون) المعلمون مطالبون بتعليم الطلاب وتربيتهم الدينية
والعقلية والجسمية، ولهم الاستقلال التام في ذلك بشرط التزام نظام المدرسة.
(الأصل الثالث والثلاثون) على المعلمين القيام بالأمور الآتية:
أ - أن يكونوا في المدرسة قبل ابتداء الوقت المحدد لدروسهم ببضع دقائق
على الأقل.
ب - أن يلقوا الدروس بعبارة فصيحة موضحة بالشواهد والأمثلة.
ج - أن لا يشتغلوا في أثناء الدرس بغير موضوعه، ولا يخلطوا في
الاستطراد إلا أن يكون ذلك في درس الوعظ.
د - أن يختبروا فهم الطلاب في كل درس، فإن علموا أن فيهم من لم يفهم
بعض المسائل، فعليهم أن يعيدوها له إلى الثلاث مرات، فإن لم يفهم أرجئ
إفهامه إلى ما بعد الدرس.
هـ - أن يقبلوا من كل طالب كل سؤال يلقيه عليهم، فإن لم يكن من
موضوع الدرس، أرجأوا الجواب عنه إلى ما بعده.
و أن يحترموا استقلال الطلاب، ويعذروهم في خطأهم وشكوكهم،
ويرفقوا بهم ولا يحقروا أحدا منهم؛ لسوء فهمه أو شكه واشتباهه، وأن يتلطفوا في
إقناعهم مع حفظ كرامتهم؛ ليربوهم على الصدق والاستقلال وعزة النفس،
ويرشحوهم بذلك للقدوة الصالحة والأسوة الحسنة.
ز - أن يقيدوا في دفاتر الطلاب المذكورة في (الأصل 29) : الشهادة لهم
بالحضور، ودرجة التلقي فيما حضروه، واستفادوه من الدروس في كل علم.
ح - أن يراقبوا الطلاب في اجتماعاتهم للطعام والرياضة والصلاة، ويؤموهم
في الصلاة، ويؤاكلوهم ويكون هذا بالتناوب بين المعلمين.
ط - أن لا يكون بينهم وبين الطلاب معاملة مالية ألبتة ولا علاقة خاصة، بل
يجب على كل أستاذ أن يساوي بين جميع تلاميذه، كما يجب عليه أن يساوي بين
أولاده في التربية القويمة، فإذا عهد أحد أولياء الطلاب إلى بعض المعلمين بأن
ينفق عليه أو يخصه بعناية منه، فعلى هذا المعلم أن يراجع الناظر في ذلك ويعمل
برأيه.
(الأصل الرابع والثلاثون) جميع المعلمين متساوون في المرتبة وإن تفاوتوا
في الرواتب، فيجب أن يكونوا مظهرًا للأخوة والمساواة والتناصف، وأن يلتزموا
في أنفسهم ما يربون عليه تلاميذهم من الأخلاق والآداب والأعمال الصالحة من
العبادات والمعاملات.
(الأصل الخامس والثلاثون) يحظر على موظفي المدرسة؛ أن يشتغلوا
بسياسة الدولة العلية الداخلية أو الخارجية أو بسياسة غيرها من الدول، وأن يكاتبوا
الجرائد بذلك، وأن يتحزبوا للأحزاب والجمعيات السياسية، ومن أراد أن يكتب في
بعض الصحف مقالة في غير السياسة الممنوعة، فعليه أن يستطلع رأي الناظر فيها،
وأن يطلعه على ما كتب ويعمل برأيه. أما من يريد منهم أن يكتب شيئًا عن
المدرسة أو عن جماعة الدعوة والإرشاد للنشر في الصحف أو رسالة إلى بعض
الناس، فعليه أيضًا أن يستشير الناظر فيه، والناظر لا يأذن إلا بعد مراجعة مجلس
الإدارة.
(الأصل السادس والثلاثون) المدرسون المتبرعون يظهرون رغبتهم لمجلس
الإدارة، وهو يقررهم حسب الحاجة، وليس عليهم إلا حفظ نظام المدرسة العام.
* * *
(لجنة المدرسة)
(الأصل السابع الثلاثون) تؤلف لجنة المدرسة من ناظرها وأربعة أعضاء، يعينهم مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد من أعضاء الجمعية.
(الأصل الثامن والثلاثون) تجتمع اللجنة في المدرسة مرة في كل شهر على
الأقل، وللناظر أن يدعوهم للاجتماع في غير الأوقات التي يعينون مواعيدها أن
عرض ما يقتضي ذلك.
(الأصل التاسعة والثلاثون) لأعضاء اللجنة أن ينتخبوا لهم رئيسًا دائمًا،
وأن يجعلوا لكل جلسة رئيسًا، وفي حالة انتخاب رئيس سوى الناظر، يكون
الناظر هو كاتب سر اللجنة.
(الأصل الأربعون) تنعقد الجلسة بثلاثة على الأقل، إذا كان الناظر والرئيس
منهم، ولا تكون قراراتها صحيحة نافذة حينئذ إلا باتفاق الآراء، وفيما عدا هذه
الصورة يكون الحكم للأغلبية مطلقًا، فإن تساوت الآراء نفذ رأي من كان الرئيس
معهم.
(الأصل الحادي والأربعون) تناط بلجنة المدرسة الأعمال الآتية:
أ - اختيار وترشيح المعلمين وسائر موظفي المدرسة وتقدير رواتبهم.
ب - وضع الميزانية السنوية للمدرسة.
ج - النظر فيما يلزم المدرسة من الكتب وأدوات الكتابة والرياضة البدينة
والأجهزة والآلات لتعليم بعض الفنون، والأثاث والماعون والطاعون واللباس
وتقرير ذلك.
د - تقدير وتقرير المكافأة للناجحين في الامتحان.
هـ - النظر فيما تحتاج إليه المدرسة من المصنفات الجديدة، ومن يعهد إليه
بتأليفها، وما يقرر للمصنفين من المكافآت. والنظر فيما يعرض على المدرسة من
المصنفات الجديدة الموافقة لطريقتها في التعليم وما يقرر منها.
و ترتيب أوقات الدروس ومسائلها.
ز - النظر في كل ما يتعلق بامتحان الطلاب، وتقرير أوقاته وأنواعه
ومسائلها (مع موافقة الأصل الثاني والسبعين من هذا النظام) .
ح - النظر في نقل الفائزين في الامتحان من سنة إلى أخرى، ومن صنف
إلى آخر.
ط - اختيار الكتب النافعة للتدريس والمطالعة.
ي - النظر فيما يهديه أهل الفضل إلى المدرسة ووضعه في مواضعه.
ك - محاكمة من يقصر فيما عليه من الأعمال من موظفي المدرسة غير الخدم.
ل - النظر في جميع ما يتعلق بترقية المدرسة وحفظ ما فيها.
م - التفتيش على الدروس.
ن - الإجازات المرضية وغيرها للطلاب والمستخدمين (وفاقًا للأصل
الخامس والستين من هذا النظام) .
(الأصل الثاني والأربعون) : تنظر لجنة المدرسة في كل ما تحتاج إليه
المدرسة مما لا نص عليه في هذا النظام، وما تقرره من ذلك يقدمه الناظر إلى
مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد للتصديق عليه.
(الأصل الثالث والأربعون) : لا تنفذ ميزانية المدرسة ولا شيء من قرارت
لجنتها المتعلقة بالنفقات المالية إلا بعد تصديق مجلس إدارة الجماعة عليه.
* * *
ناظر المدرسة
(الأصل الرابع والأربعون) يشترط أن يكون ناظر المدرسة من أهل العلم
والاستقامة، والرغبة الذاتية في مقصد الدعوة والإرشاد، والإذعان لغرضها من
التربية والتعليم المبين في هذا النظام.
(الأصل الخامس والأربعون) الناظر هو المسئول عند مجلس إدارة جماعة
الدعوة والإرشاد عن تنفيذ نظام المدرسة وإقامة التربية والتعليم فيها، وهو المنفذ
لقرارات لجنتها؛ الذي يضع اللوائح والتنظيمات الداخلية لها، وعلى كل من في
المدرسة أن يعمل بهذه اللوائح والتنظيمات بعد تصديق لجنة المدرسة، وجميع
الموظفين فيها يكونون تحت إدارته.
(الأصل السادس والأربعون) الناظر هو الذي يعين خدم المدرسة، وله حق
عزلهم وتأديبهم.
(الأصل السابع والأربعون) الناظر هو صاحب الحق في الإذن بدخول
المدرسة والمنع منه، فليس لأحد من الأجانب عن المدرسة أو عن مجلس إدارة
الجماعة أن يدخلها بدون إذنه.
(الأصل الثامن والأربعون) للناظر أن يعهد إلى بعض موظفي المدرسة
بحفظ دراهمها والنفقة منها، وعليه أن يراجع عمله، ويحصر النقود في كل شهر
على الأقل، ويجوز أن يعطي العامل مكافأة على ذلك.
(الأصل التاسعة والأربعون) يرسل الناظر إلى أعضاء لجنة المدرسة بيانًا
بالمسائل التي ينظرون فيها قبل انعقاد كل جلسة بأربع وعشرين ساعة على الأقل.
(الأصل الخمسون) الناظر يضع مشروع ميزانية المدرسة ويقدمه للجنتها
في أواخر السنة الدراسية، ويبين لها أيضًا ما يرى من زيادة عدد الطلاب في السنة
التي بعدها، ومن التغيير والزيادة في الكتب والأدوات المدرسية والزيادة في رواتب
الموظفين.
(الأصل الحادي والخمسون) على الناظر أن يبين للجنة المدرسة في آخر
كل سنة ما يوجد في المدرسة من كتب الدراسة وأدوات التعليم وغيرها.
(الأصل الثاني والخمسون) على الناظر أن يبين للجنة المدرسة نتيجة كل
امتحان يكون في المدرسة؛ لتبني عليه قراراتها في قبول من يدخل المدرسة عقب
امتحان الدخول، ونقل من يصلح للنقل من سنة إلى أخرى ومن صنف إلى آخر؛
بعد الامتحان السنوي والامتحان الأخير للصنف الأول، ومن يصلح للتعليم من أهل
الشهادتين العالية والعليا بعد امتحانهما؛ لتختار منهم من تحتاج إليه المدرسة من
المعلمين.
(الأصل الثالث والخمسون) على الناظر أن يقدم لمجلس إدارة الجماعة
كشفًا بأسماء من فازوا في امتحان الشهادتين العالية للمرشدين والعليا للدعاة،
وأسماء من اختارتهم لجنة المدرسة منهم للتعليم؛ ليعين المجلس المعلمين ويرسل
الباقين إلى البلاد التي يختارها؛ لأجل قيامهم بالدعوة والإرشاد فيها.
(الأصل الرابع والخمسون) على الناظر أن يقدم عقب كل جلسة للجنة
المدرسة بيانًا لمجلس إدارة الجماعة بقراراتها؛ لأجل النظر فيها والتصديق على ما
يتوقف تنفيذه على تصديقة.
* * *
(المراقب العام)
(الأصل الخامس والخمسون) لا يتلقى المراقب أمرًا إلا من ناظر المدرسة.
(الأصل السادس والخمسون) على مراقب المدرسة القيام بما يأتي.
أ - حفظ النظام في المدرسة وصيانة مبانيها وأثاثها.
ب - تعهد الخدم في قيامهم بخدمتهم ولا سيما النظامة.
ج - التنبيه على أوقات الدروس والأكل والرياضة.
د - مراقبة الطلاب في الحضور والاجتماع والتفرق والأكل والرياضة
والصلاة والنوم.
هـ - حضور عيادة الطبيب وتنفيذ الأوامر الصحية.
و معاونة أمور الإدارة فيما يحضره للمدرسة.
ز - القيام بكل ما يكفله الناظر إياه من أعمال المدرسة.
* * *
(المخالفة والتأديب)
(الأصل السابع والخمسون) الذنوب التي تعاقب عليها المدرسة نوعان:
ذنوب مدرسية كإتلاف بعض أدوات وأثاث المدرسة، أو كترك التلميذ أو المستخدم
ما تكلفه إياه المدرسة في نظامها العام، أو بألسنة رؤسائها كالمعلمين والمراقب مع
الطلبة والناظر مع الجميع، فليس لطالب أن يعصي أستاذه ولا الراقب عليه، ولا
لأحد من المدرسة أن يعصي الناظر.
(الأصل الثامن والخمسون) جميع الشكايات في المدرسة تقدم إلى الناظر،
وما كان منها في حق الناظر فإنه يرفعها مع بيان رأيه وعمله فيها إلى مجلس إدارة
الجماعة في مدة لا تتجاوز الأسبوع، وللشاكي بعد الأسبوع أن يراجع المجلس
مباشرة؛ إذا لم يشكه الناظر أو يقنعه.
(الأصل التاسع والخمسون) من أتلف شيئًا من أشياء المدرسة؛ لتقصير
منه غرم ثمنه.
(الأصل الستون) يعاقب الطلاب على ذنوبهم بالتعذير والتأنيب النزيه سرًّا
فجهرًا في الدرس أو غيره من الاجتماعات، فالوقوف في الدرس، فالحرمان من
الرياضة مرة أو أكثر، فالقيام ببعض الأعمال النافعة وقت الرياضة، فالحرمان من
الإدام مرة أو أكثر، أو من الأكل مع الجماعة، فقطع المرتب شهرًا أو أكثر،
فالحرمان من الإجازة الصيفية فالإخراج من القسم الداخلي فالطرد من المدرسة.
ويجوز الجمع بين عقوبتين فأكثر من هذه العقوبات. ولا يجوز أن يعاقب أحد
بعقوبة بدنية، ولا الحرمان من الدرس إلا إذا هوش فيه، فاللمدرس أن يخرجه منه
ولا من الطعام ألبتة.
(الأصل الثاني والستون) كل من ارتكب ذنبًا مخلاً بالدين والشرف يطرد
من المدرسة حتمًا. ومن أشد الذنوب قبحًا الكذب، فمن ثبت عليه أنه كذب وأنكر
كذبته ولو مرة واحدة يطرد من المدرسة، ومن ثبت عليه الكذب ثلاث مرات مع
الاعتراف والاعتذار والتوبة يطرد من المدرسة بعد المرة الثالثة، ويلي ذلك طعن
بعض الطلاب في مذهب غيره وتهييج العصبية أو الجنسية، فمن تكرر ذلك منه
يطرد طردًا.
(الأصل الثالث والستون) للناظر الحق في تأديب التلاميذ بما عدا الطرد
من المدرسة. وأما الطرد فيكون بحكم من لجنة المدرسة، ولا يعلن هذا الحكم ولا
ينفذ إلا بعد تصديق مجلس إدارة الجماعة عليه.
* * *
(غياب موظفي المدرسة أو إجازاتهم)
(الأصل الرابع والستون) للناظر أن يغيب عن المدرسة في أيام العمل إلى
ثلاثة أيام، وإذا احتاج إلى إجازة أكثر من ثلاثة أيام، يطلب ذلك من مجلس إدارة
الجماعة، ويختار له وكيلاً عنه في مدة الإجازة من مدرسي المدرسة أو لجنتها،
ويخبر مجلس إدارة الجماعة ذلك.
(الأصل الخامس والستون) إجازات جميع موظفي المدرسة تطلب من
ناظرها، وللناظر أن يستقل بإعطاء إجازة ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك يعرضه
على لجنة المدرسة.
(الأصل السادس والستون) ليس لأحد من المدرسين غير المتبرعين أن
يغيب عن وقت الدرس إلا بعذر صحيح، وعلى كل مدرس يريد الغياب عن درسه
أن يخبر الناظر قبل الدرس ليتدارك الأمر.
(الأصل السابع والستون) من غاب من موظفي المدرسة عنها لمرض،
فللناظر أن يكلفه إحضار شهادة طبية من طبيب تثق به المدرسة، فإذا زادت مدة
غيابه بعذر المرض عن ثلاثة أيام، ولم يقدم شهادة طبية بمرضه، وكونه مانعًا له
من عمله، فللناظر أن يكلف طبيب المدرسة أو طبيبًا آخر ولو بالأجرة أن يعوده،
ويقدر المدة التي يظن شفاؤه فيها، ثم يخبر بذلك لجنة المدرسة ومجلس إدارة
الجماعة.
(الأصل الثامن والستون) من غاب من الموظفين أكثر من ثلاثة أيام بغير
عذر المرض، يعرض الناظر أمره على لجنة المدرسة، ولها أن تعده مستعفيًا
وتنتخب بدله، ثم يعرض الناظر ما تقرره على مجلس الإدارة للتصديق عليه.
(الأصل التاسع والستون) من غاب من الموظفين أو المدرسين المندوبين
عن المدرسة وقت عمله بغير عذر المرض مطلقًا أو بعذر المرض أكثر من 15
يومًا، جاز للجنة الإدارة أن تقرر اختزال راتبه في المدة التي فيها أو مدة أكثر منها
أو أقل.
* * *
(الامتحان)
(الأصل السبعون) الامتحان ثلاثة أنواع: امتحان الدخول في المدرسة
وامتحان الاختبار في منتصف كل سنة وآخرها الشهادة الدراسية، وكل منها يكون
لسانيًا وقلميًا.
(الأصل الحادي والسبعون) يمتحن الطلاب الداخليون في جميع مواد العلوم
التي يدرسونها، ويمتحن الطلاب الخارجيون في مواد الدروس التي واظبوا عليها
وفيما يطلبون أن يمتحنوا فيه من غيرها.
(الأصل الثاني والسبعون) يتولى معلمو المدرسة امتحان الدخول والامتحان
الذي يكون في أثناء السنة وفي آخرها تحت رياسة الناظر. وأما امتحان الشهادة
فيتولاه لجنة يعينها مجلس الإدارة ويعين رئيسها، ويجوز له أن يندب بعض
الأجانب عن المدرسة؛ لمشاركة أساتذتها في امتحان آخر السنة.
(الأصل الثالث والسبعون) إنما يكون الفوز والنجاح في الامتحان السنوي
وامتحان الشهادة بحسب النسبة المبينة في الجدول الآتي:
الأخلاق والآداب العملية ... ... 90 في المئة
حفظ القرآن الكريم ... ... 80 في المئة
تجويد القرآن الكريم ... ... 50 في المئة
التفسير ... ... 70 في المئة
الحديث ... ... 60 في المئة
مصطلح الحديث ... ... ... 50 في المئة
التوحيد ... ... 50 في المئة
الكلام (ويدخل فيه رد الأغاليط والشبه والمطاعن عن الإسلام) 50 في المئة
البدع والخرافات والتقاليد والعادات ... 50 في المئة
أصول الفقه ... ... 50 في المئة
الفقه ... ... 50 في المئة
حكمة التشريع ... ... 60 في المئة
علم النفس والأخلاق والتصوف والتربية العلمية العملية ... 60 في المئة
الإرشاد والمرشدون والدعوة والدعاة ... 60 في المئة
تاريخ الإسلام ودوله ... ... 60 في المئة
تقويم البلدان ... ... 60 في المئة
التاريخ العام قديمه وحديثه ... ... 50 في المئة
الملل والنحل (ومنه تاريخ الأديان والجمعيات الدينية) ... 50 في المئة
أصول القوانين وحقوق الدولة وضروب النظام ... 40 في المئة
المنطق ... ... 40 في المئة
المناظرة وآداب البحث ... ... 40 في المئة
سنن الاجتماع ... ... 50 في المئة
سنن الكائنات ... ... 40 في المئة
الرياضيات (حساب وجبر وهندسة وهيئة) ... 50 في المئة
فنون العربية [1] ... ... ... 50 في المئة
أدبيات العربية وتاريخها ... ... 60 في المئة
اللغة الأوربية ... ... 60 في المئة
سائر اللغات ... ... 30 في المئة
قانون الصحة ... ... 50 في المئة
الاقتصاد ... ... ... 50 في المئة
الخط والرسم ... ... 30 في المئة
(الأصل الثالث والسبعون) من فاز في الامتحان الأخير للصنف الأول،
يعطى الشهادة العلمية العالية ويلقب فيها بالمرشد، وهذه الشهادة تؤهله لمنصب
إرشاد المسلمين بالوعظ والتعليم وللتدريس في مدارس جماعة الدعوة والإرشاد ما
عدا صنف الدعاة بدار الدعوة والإرشاد.
(الأصل الرابع والسبعون) من فاز في الامتحان الأخير الصنف الثاني،
يعطى الشهادة العلمية العليا، ويلقب فيها بالداعي إلى الله. وهذه الشهادة تؤهله
للدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه؛ وللتدريس في الصنف الأعلى من دار الدعوة
والإرشاد وفي سائر مدارس الجماعة.
(الأصل السادس والسبعون) من خاب في امتحان إحدى الشهادتين؛
لتقصيره في بعض العلوم، يجوز للجنة المدرسة أن تقرر امتحانه فيما قصر فيه في
أثناء السنة، وأن تقرر تكليفه حضور جميع دروس السنة التي خاب فيها، وإعادة
الامتحان مع طلابها في آخر سنتها. فإن خاب في المرة الثانية ضربت له موعدًا
قريبًا لإعادة امتحان ما قصر فيه، فإن خاب في الثالثة حرم من الشهادة العالية وبقي
من صنف المرشدين. وإن كان امتحان الشهادة العالية، أخرج من القسم الخارجي
ويمتحن مع طلابه.
(الأصل السابع والسبعون) إذا خاب أحد الطلاب الداخلين فيما عدا امتحان
الشهادة من امتحانات آخر السنة؛ بتقصيره في بعض العلوم وفوزه في الآخر،
فيجوز للجنة المدرسة أن تقرر إعادته دروس تلك السنة كلها، وأن يعاد امتحانه قبل
دخوله السنة التالية فيما خاب فيه إذا لم يزد عن ثلاثة علوم، فإذا نجح نقل إلى
السنة التالية، وإلا كانت مخيرة بين تقرير إخراجه من القسم الداخلي وبين قبول
إعادته لدروس السنة كلها، ولا يعيد طالب دروس سنة أكثر من مرتين.
(الأصل التاسع والسبعون) إذا حال المرض أو مانع اضطراري آخر دون
أداء بعض الطلاب امتحان آخر السنة مطلقًا، كانت المدرسة مخيرة بين أن تمتحنه
قبل الشروع في درس السنة التي بعدها وبين إلزامه إعادة دروس تلك السنة كلها.
(الأصل الثمانون) من برع في امتحان بعض العلوم وخاب في بعضها،
يجوز للمدرسة أن تعطيه شهادة خاصة فيما برع فيه. والخطابة كالعلوم فمن أتقنها
يعطى شهادة بها.
(خاتمة)
(الأصل الحادي والثمانون) لمجلس إدارة الجماعة تعديل أحكام هذا النظام
باتفاق ثلاثة أرباع جميع أعضائه؛ بشرط أن يكون بعد أخذ رأي أعضاء لجنة
المدرسة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هي فقه اللغة ومفرداتها وأساليبها، والنحو والصرف والعروض، والبلاغة والإنشاء والشعر والخطابة والإملاء.(14/785)
ذو القعدة - 1329هـ
نوفمبر - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العلوم والفنون
التي تدرس في دار الدعوة والإرشاد
وطريقة تدريس كل علم منها في قسم الدعاة والمرشدين [1]
(تنبيه) إن إصلاح طريقة التعليم الإسلامي مع التربية الدينية هو الغرض
الأول الذي تقصده جماعة الدعوة والإرشاد في هذه المدرسة، وإنما نفع التعليم
بتربية ملكة استقلال الفهم في تحصيل مسائل العلوم والحكم بها، وملكة الاستحضار
لها عند الحاجة إليها، وملكة العمل بالعملي منها، ولا يتم تسهيل التعليم إلا بتأليف
لجنة علمية لتصنيف الكتب التي تصلح للتعليم والمطالعة على الوجه المبين هنا
بالإجمال، أما في بدء العمل فتختار المدرسة بعض الكتب المعروفة، وترشد
المعلمين في هذا الفصل، وفيما تبلغهم إياه من قرارات لجنتها إلى كتب أخرى
يقتبسون منها دروس بعض العلوم إلى أن يتم لها ما تقصد إليه من إيجاد الكتب
الدراسية الجديدة، فعليهم أن يرموا إلى ذلك الغرض، ويتوخوا تربية الملكات
الثلاث.
* * *
(تجويد القرآن الكريم)
تقرأ رسالة في علم التجويد لصنف المرشدين، ويعلمون التجويد بالعمل بأن
يقرأ كل طالب على حافظ المدرسة طائفة من الآيات بالتجويد؛ في الأوقات التي
تعين في البرنامج، فيصحح له الحافظ تجويدها إلى أن يكون ذلك ملكة في اللسان.
* * *
(التفسير)
يقرأ درس عام دائم في التفسير لطلاب جميع السنين، على طريق الوعظ
والخطابة بلغة فصيحة؛ ليتعلموا كيفية الإرشاد والوعظ الذي يرجى تأثيره في
القلوب؛ وليكون مثالاً لهم في الأسلوب الذي يطبع ملكة الخطابة الدينية في نفوسهم
وألسنتهم، وغذاء لإيمانهم، ومهذبًا لأخلاقهم، ومذكرًا لهم بمقصد الدين، من
إصلاح المؤمنين.
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين تفسير القرآن كله بالاختصار والسهولة؛ مع اجتناب
اصطلاحات العلوم والفنون العربية والشرعية، ويتوخى فيه فهم الآيات بغير تكلف
كما يعطيه أسلوب اللغة، وينطبق به بعض القرآن على بعض، فيراعى فيه أخذه
بجملته وتفسير بعضه ببعض، ويراجع فيه المأثور، ويعتمد ما يصح منه، وينبه
فيه على أجوبة الشبهات عن بعض الآيات التي يعترض عليها المبطلون، أو يشتبه
فيها الجاهلون من غير شرح للشبهة، بحيث إذا أوردت على الطالب يفطن لجوابها
وإلا بقي غافلاً عنها.
(صنف الدعاة)
ويقرأ لصنف الدعاة تفسير الآيات التي ترد عليها الشبهات، ويجادل فيها
الكافرون أو أصحاب المقالات، مع شرح الشبهات المتعلقة بالعلوم الكونية والفلسفة
والتاريخ والقوانين ومجادلة أهل الأديان، والجواب عنها بطريق المناظرة، وكذلك
الآيات الدالة على ما امتاز به الإسلام على جميع الأديان، وبيان حقائق العلوم
التي لم تكن معروفة في زمن التنزيل ولا سيما للعرب، سواء كان ذلك في علوم
الكون أو علوم الاجتماع والشرائع والآداب.
* * *
(الحديث)
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين مثل مختصر البخاري، ومختصر الزواجر، أو
الترغيب والترهيب للمنذري، والشفاء، يقرأ ذلك بأسلوب سهل، فيبين لهم
معنى الحديث بالاختصار من غير بحث؛ فيما يتعلق به من العلوم والفنون
والإعراب إلا النادر الذي يتوقف عليه الفهم أحيانًا، ولا شرح للشبهات إلا ما يشكل
على العامة عادة؛ مما يبثه المبطلون في أحاديثهم وخطبهم، والمشككون في
رسائلهم وكتبهم.
(صنف الدعاة)
ويقرأ لصنف الدعاة مثل المنتقى للشيخ مجد الدين ابن تيمية أو غيره من
مختصرات دواوين الحديث، ويتوسع لهم في فقه الحديث وحكمه وفي التعارض
والترجيح بين الأحاديث، وشرح الشبهات الواردة عليها، والبحث في مشكلاتها
وأسانيدها وعللها؛ إذ المطلوب أن يكون الدعاة من علماء الحديث رواية ودراية؛
لأجل تحرير ما هو صحيح متفق عليه مقبول عند الأمة، فيجب الدفاع عنه
والاحتجاج به حتمًا، وما ليس كذلك فيكون من دفاع المعترضين عليه؛ أن أئمة
المسلمين لم يتفقوا على قبوله، فلا يلزمهم ما يرد عليه.
* * *
(أصول الحديث أو المصطلح)
يقرأ هذا العلم قبل قراءة الحديث نفسه، وطريقة قراءته أن يعرف كل
اصطلاح تعريفًا واضحًا، ويوضح بعدة أمثلة. ويبين ما اختلف فيه اصطلاح
بعض المحدثين عن بعض؛ كاصطلاح الترمذي في الحديث الحسن والغريب.
* * *
(التوحيد)
المراد بعلم التوحيد: علم العقائد الإسلامية المبينة في القرآن الحكيم، التي
قامت بها دعوة الدين، ومباحثه تدخل في ثلاثة أبواب: الإلهيات والنبوات
والغيبيات، أي ما يجب الإيمان به بالغيب، ويعبر عنها أيضًا بالسمعيات.
(صنف المرشدين)
هذا العلم خاص بصنف المرشدين، يجب أن يبرعوا فيه قبل الانتقال إلى
صنف الدعاة. فأما الإلهيات فتقرأ على هدي القرآن وسنته في الاستدلال بالكائنات
أكثر من الاستدلال بالنظريات، وعلى الوجه الذي يودع في القلوب حب الله تعالى
وتعظيمه ومراقبته، والجمع بين الرجاء الذي يرغب في طاعته والخوف الذي ينفر
من معصيته، والاستغراق في توحيده، ومعرفة كماله بصفاته، ويشرح في هذا
الباب ما فشا الخطأ في فهمه بين الناس؛ كمسائل القضاء والقدر والجبر، والتوكل
والكسب، والغرور والرجاء، واليأس والأمل، والدعاء والتوسل، والولاية
والبراءة.
وأما مسائل النبوات، فتقرأ على الوجه الذي يعرف به احتياج البشر إلى
إرسال الرسل، وتفضل البارئ الحكيم بإيتائهم ما يحتاجون إليه من هذه الهداية التي
تكمل بها فطرتهم، بوحيه إلى أفراد كملتهم، ليفقهوا عنهم ويقتدروا بهم، فتصلح
أحوالهم، وترتقي عقولهم وأرواحهم، ويتوقف ذلك على بيان أخلاق الرسل عليهم
السلام وصفاتهم، وسيرتهم في أقوامهم، ورفعهم إياهم من حضيض الوثنية إلى
أوج التوحيد، وعلى بيان مفاسد الوثنية التي كانوا عليها، وبيان ارتقاء الدين
بارتقاء استعداد البشر للاهتداء به، إلى أن تم وكمل بالإسلام، وختمت النبوة
والرسالة بمحمد عليه الصلاة والسلام، ومعنى كون دين الله واحدًا في كل زمان،
وسنة الله في ارتقائه وإكماله، وبيان ما امتاز به القرآن على سائر الكتب،
والإسلام على سائر الأديان إجمالاً، ويبين في هذا الباب ما يشتبه فهمه على الناس
من الشفاعة المثبتة في القرآن والشفاعة المنفية فيه، والهداية المثبتة للأنبياء
والهداية المنفية عنهم، ومعنى عصمتهم وعدم التفريق بينهم، مع تفضيل الله
بعضهم على بعض.
وأما السمعيات الثابتة في الخبر عن عالم الغيب، فتقرأ على الوجه الذي
يعرف به الإنسان فوائد الإيمان بالغيب وحياة الآخرة الأبدية؛ كتوسيع نطاق العقل
بإخراجه من مضيق علم المحسوسات المشتركة بين كل ذي حس إلى فضاء مدارك
الروح والعقل، وإعلاء مقام النفس بتوطينها وإعدادها لتلك الحياة العالية، التي
تحتقر بالنسبة إليها هذه الحياة الفانية، فتهون عليها مصائب الدنيا وخطوبها،
ويسهل عليها احتمال المتاعب وترك الشهوات في سبيل الحق.
ويجتنب في تقرير هذه العقائد ذكر الخلاف بين المذاهب والفرق، ويعتمد
على ما كان عليه الصدر الأول من السلف، ولا بد من وضع رسائل على هذه
الطريقة تكون على ثلاث مراتب: إحداهما للتعليم الابتدائي وللعوام، والثانية
للتعليم المتوسط، والثالثة للتعليم العالي، وإرشاد الطلاب بها إلى الطريقة التي
يعلمون بها كل صنف من الناس على قدر فهمه وحسب ما يليق بحاله.
* * *
(الكلام)
المراد بعلم الكلام علم حماية العقائد الإسلامية والدفاع عنها، ورد ما يورده
الملاحدة والمبتدعة من الشبهات عليها والتحريف فيها، بالدلائل الحقيقية والإلزامية
وقد تجدد في هذا العصر شبهات لم تكن معروفة في عصر المتكلمين السابقين،
وبطل كثير من تلك الشبهات التي كانت رائجة في عصرهم المستنبطة من العلوم
اليونانية وغيرها، فتجب العناية في هذا العلم بما يحتاج في هذا الزمن على
الطريقة التي ترجى فائدتها فيه.
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين رسالة مختصرة من كتب المتكلمين؛ كالسنوسية أو
النسفية بحيث يفهمون عباراتها، ويعرفون اصطلاحهم منها. ويقرأ لهم رسالة
أخرى تذكر فيها الشبهات الرائجة بين العامة في هذا العصر من قبل دعاة النصرانية
ومقلدة الملاحدة ونحل الباطنية، مع بيان وجه بطلانها.
(صنف الدعاة)
يتوسع لهذا الصنف في رد الشبهات المتولدة من العلوم الرائجة في هذا العصر؛
كالفلسفة والهيئة والتاريخ والقوانين أو غيرها، على النحو الذي ذكر في الكلام على
التفسير.
* * *
(البدع والخرافات، والتقاليد والعادات)
(صنف المرشدين)
هذا العلم خاص بصنف المرشدين، فتقرأ لهم دروس خاصة في بيان البدع
التي نجمت في المسلمين، والخرافات التي فشت بينهم، يبين فيها مثاراتها وأسبابها
وتاريخها، وتأثيرها الضار في الدين والدنيا، وفي بيان التقاليد والعادات التي
سرت إليهم من الأمم والشعوب التي دخلت في الإسلام أو جاورها المسلمون،
والتمييز بين الضار منها والنافع، وبين ما صبغ بلون الدين منه في شيء.
ويبين المدرس في مقدمة هذه الدروس وجه الحاجة إليها، وأن ما تكون عليه
الأمة من هذه الأمور يعد من مقوماتها أو مشخصاتها التي تمتاز بها عن غيرها،
وأن ما به الامتياز والتشخص ينبغي أن يكون حسنًا نافعًا، وأن ينقى من القبح
وأسباب الضرر، وأن أطباء الأمم الروحيين والاجتماعيين لا يستطيعون معالجة
أمراضها أوحفظ صحتها إلا إذا عرفوا كل ذلك منها.
وقد كان علماؤنا يبينون هذه الأمور في كتب الكلام والمواعظ والرقائق
والأخلاق والآداب وكتب التاريخ، فالمدرس يستمد من هذه الكتب؛ ومنها كتاب
الاعتصام للشاطبي، وكتاب المدخل لابن الحاج، وكتاب تلبيس إبليس لابن
الجوزي، وكتاب إيثار الحق على الخلق لابن المرتضى اليماني، وكتاب الطريقة
المحمدية للبركوي. ويبحث عما حدث من ذلك بعد عصر المؤلفين الذين وصلت
إلينا كتبهم، ويذكر منه كل ما عرفه.
* * *
(الفقه ومنه الفرائض)
يشترط في كل طالب أن يكون محصلاً قدرًا من فقه مذهبه، يعرف به
أسلوبه ويسهل عليه به أن يراجع في كتبه منه ما يحتاج إليه.
(صنف المرشدين)
يُقرأ لصنف المرشدين شيء من فقه المذاهب كلها بالإيجاز في العبادات
والأحكام الشخصية؛ ومنها الإيمان والنذور والذبائح والأشربة والأضحية، فتفصل
بعض التفصيل؛ ليعرفوا اصطلاحات هذه المذاهب، فيسهل على كل واحد أن
يتوسع في فقه أي مذهب منها بنفسه، إذا صار مرشدًا في جهة يغلب فيها اتباعه،
واحتاج فيها إلى ذلك التوسع، ومن فوائد ذلك أن يعرف كل طالب أن هذه المذاهب
متقاربة، فلا يتعصب لبعضها على بعض، وأنها متفقة في المسائل القطعية التي لا
يسع مسلمًا جهلها، وأن ما وقع من الخلاف بالاجتهاد فيما دون ذلك، لا ينبغي أن
يكون سببًا لتفرق المسلمين في دينهم، بل عليهم أن يعذر بعضهم بعضًا وإن خالفه
في مثل هذه المسائل؛ كما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.
ويكتفى في الفقه ببيان المسائل التي يحتاج إليها في العمل دون الشواذ
والفرضيات، ويوضع لذلك رسائل تذكر فيها المسائل مفصلة معدودة على طريقة
مجلة الأحكام العدلية، ويجب أن تكون عبارتها في غاية السهولة والانسجام؛ لأنها
هي الطريقة التي تسلك في تعليم العوام، وتقرأ لهم رسالة في الفرائض ويمرنون
على عمل المناسخات.
* * *
(حكمة التشريع)
بهذا العلم يكون المسلم على بصيرة من دينه منبعثًا إلى العمل به بوازع من
نفسه، وبه تكون حجته بالغة في الاستدلال على حقيته، ودفع شبهات المعترضين
على شريعته، وبه يعلم وجه كون هذه الشريعة هي الحنيفية السمحة الصالحة
لجميع البشر في كل زمان ومكان، توافق أهل السذاجة والبداوة، وترفعهم إلى
أرقي أنواع الحضارة، وكون كل حضارة تخرج عن هديها لا تسلم من الرذائل
المادية، والآفات الشائنة للإنسانية، فلبيان هذه الفوائد يدون هذا العلم، ولأجلها
يقرأ.
(صنف المرشدين)
يوضع كتاب في حكم الشريعة وأسرارها على طريقة كتب فروع الفقه، يذكر
في كل باب منه حكم ما ثبت في الكتاب والسنة من الأحكام بالتفصيل، ومنه يعلم
حكمة ما استنبطه العلماء منها أو قاسوه عليها، ويقرأ هذا الكتاب لصنف المرشدين.
(صنف الدعاة)
ويوضع كتاب آخر، تجعل فيه مقاصد الشرع وحكمه قواعد، وتذكر الفروع
على سبيل التمثيل، ويقرأ هذا الكتاب لصنف الدعاة، مثال ذلك قاعدة اليسر في
الدين ورفع الحرج وقاعدة المحرم لذاته والمحرم لسد الذريعة، وقاعدة الضرورات
تبيح المحظورات وكونها تقدر بقدرها، وفروعها كثيرة معروفة.
ويستعان على تأليف الكتابين بالمصنفات التي تذكر فيها هذه الحكم؛ كإحياء
العلوم للغزالي وإعلام الموقعين وزاد المعاد لابن القيم، والموافقات للشاطبي
والفروق للقرافي، وحجة الله البالغة للدهلوي ومجلة المنار.
* * *
(أصول الفقه)
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين بعض الرسائل المختصرة في الأصول على طريقة
الجمهور، ودروس في المسائل المهمة من كتاب الموافقات للشاطبي، ويستكثر لهم
من الأمثلة فيها.
(صنف الدعاة)
يقرأ لصنف الدعاة مختصر الموافقات، وكتاب آخر على طريقة الجمهور،
تؤخذ دروسه من الكتب المبسوطة الواضحة العبارة كالمنخول للغزالي والمسودة لآل
تيمية، وإرشاد الفحول للشوكاني من الأمثلة فيها أيضًا.
* * *
(علم الأخلاق والتصوف والتربية العلمية والعملية)
من المختصرات الجديرة بالتدريس لصنف المرشدين كتاب الأخلاق والسير
لابن حزم، والذريعة للراغب الأصفهاني، و (مختصر الإحياء) إن وجد مختصر
موافق وإلا فيختصر على حسب الغرض [2] ويزاد عليه في مباحث ذم الدنيا والفقر
والزهد بيان الفرق بين زماننا وزمان القرون الأولى من المسلمين؛ في الحاجة إلى
سعة الثروة وتوقف حياة الأمة عليها الآن، وعدم توقفها في ذلك الزمان، وكون الزهد
الصحيح والقناعة الفضلى لا ينافيان تحصيل الثروة وعمارة الدنيا؛ لأنهما من صفات
القلب، وفائدتهما أن يجعل الإنسان فضل ماله لنفع أمته ومجد ملته، وأنه لا ينبغي
تعمد ترك تحصيل الثروة، إلا لعمل أنفع للأمة والملة.
ويوضع له كتاب في الأخلاق، وكتاب في التربية العلمية والعملية ونظام التعليم
على الطريقة التي تمس إليها حاجة هذا العصر، يقتبس فيها من كتب حكمائه ما
زادوه على المتقدمين من الفوائد والحقائق التي اقتضتها حال الاجتماع، ويلخص
في كتاب التربية والتعليم ما كتبه الغزالي في نظام التعليم من كتابه الإحياء، وما
كتبه ابن خلدون في مقدمته، وما يختار من كلام غيرهما كأبي بكر بن العربي والشيخ
زكريا الأنصاري، ثم ما اهتدى إليه علماء الغرب من ذلك بالنظر والاختبار،
وبذلك يظهر اتصال سلسة هذا العلم، وتعرف الطريقة المثلى التي ينبغي أن يجري
عليها المسلمون في هذا العصر.
ويدخل في باب التصوف؛ بيان طرق الصوفية واختلافهم فيها، وتأثيرها في
الأمة، وأسباب انتشار بعضها في قطر دون آخر، وما وافق السنة منها وما خالفها
وبيان وسائل إصلاح ما فسد منها.
* * *
(علم الإرشاد والدعوة والدعاة والمرشدون)
الإرشاد ضرب من ضروب التربية والتعليم، وهو ما كان دينيًّا منهما كالوعظ
وتربية المكلفين، فهو بمعنى التصوف على ما كان يفهمه بعض المتقدمين، والمراد
به هنا ما يشمل إرشاد المسلمين إلى مصالحهم الدنيوية؛ كالمحافظة على قوانين
الصحة بحسب ما وصل إليه العلم، والاقتصاد في المعيشة كما يليق بحال العصر،
والعناية بأمور الكسب بالطرق الحديثة، مضمومًا هذا إلى الوعظ وتربية الأخلاق
والآداب، والمرشدون هم العلماء العاملون الذين قاموا بالإرشاد ونفعوا به العباد،
وأما المراد بالدعوة إلى الدين والدعاة القائمين بها فظاهر.
(صنف المرشدين)
علم الإرشاد المستمد من عدة علوم خاص بصنف المرشدين؛ لأنهم يعلمون
تلك العلوم لأجله، فتدرس لهم طرقه العلمية والعملية وأساليبه ومسائله واختلافها
باختلاف أحوال البلاد في سياستها وأحكامها وطبائعها؛ ككونها زراعية أو صناعية
واختلاف أهلها في المذاهب والأخلاق والعادات، واختلاف أعمار المخاطبين
وأفهامهم، وتذكر لهم تراجم أشهر المرشدين في الأمم وأساليب إرشادهم، ومبلغ
تأثيرهم ووجه الاعتبار بهم.
(صنف الدعاة)
الدعوة إلى أصل الدين أعسر من الإرشاد إلى العمل بأحكامه والأخذ بآدابه
وأخص منه؛ لأنها تستلزمه وتحتاج إلى أكثر مما يحتاج إليه من العلوم ومن الحكمة
والكياسة، وتختلف مثله باختلاف أحوال البلاد وأهلها والأديان وتاريخها،
ودروسها خاصة بصنف الدعاة، فتقرأ لهم على الطريقة المشار إليها في قراءة علم
الإرشاد، ومنها الاعتبار بما عند الأمم الأخرى منها، وتراجم الدعاة المشهورين،
ويتوسع لهم في بيان أسباب سرعة انتشار دعوة الإسلام في العصر الأول وبعده،
وكيف كانت دعوته وتأثيره في الأمم والأقطار، وما سرى من أصوله وتعاليمه
الإصلاحية إلى أهل الملل الأخرى.
* * *
(تاريخ الإسلام ودوله)
المراد بتاريخ الإسلام سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء
الراشدين، وما فيهما من الأحكام والحكم والعبر، وسيرة أئمة العلم والدين من
السلف الصالحين، فيوضع في ذلك كتاب خاص على الطريقة العلمية، يبين في
مقدماته ومقاصده أحوال الأمم الدينية والاجتماعية عامة والعرب خاصة قبل الإسلام
وحاجة الجميع إلى إصلاح روحي اجتماعي يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي
كانت عليهم، من الوثنية التي جعلتهم عبيدًا للمخلوقات التي سموها آلهة، والمخلوقين
الذين جعلوهم ملوكًا؛ إذ لم يكن لأحد منهم حرية في استعمال عقله، ولا في
التصرف ببدنه، إلا بمشيئة رؤساء الهياكل والمعابد، أو رؤساء العروش في
القصور، ثم ما تتضمنه تلك السيرة المباركة من الإصلاح العام في العقائد والعبادات،
والعادات والمعاملات، والحروب والسياسات، وسائر أمور البشر الاجتماعية
والمدنية والأدبية، ولا سيما رابطة الزوجية ومعاملة النساء، ويلي ذلك بيان تأثيره في
المسلمين بوضع السلف للعلوم واشتغالهم بالفنون التي كانت أساس حضارة
الإسلام، يبين كل مقصد من هذه المقاصد في باب من أبواب الكتاب.
ويوضع كتاب آخر في تاريخ دول الإسلام، يبين فيه أسباب تكون كل دولة
منها، وما قامت به من الأعمال كالفتوحات والصناعات وسائر شؤون العمران
ومقدماتها وسيرتها في القضاء والمدنية، ثم أسباب ضعفها وزوال ما زال منها
وحالة ما بقي منها إلى اليوم.
* * *
(التاريخ العام قديمه وحديثه وتاريخ الأديان)
(صنف المرشدين)
يقرأ التاريخ العام للصنف المرشدين مختصرًا، ويجعل له مقدمة في بيان
حكمته وفوائده ونقده، وما يعرض فيه من الهوى والوهم، يذكر فيها رأي ابن
خلدون في أول مقدمته في ذلك، ويزاد عليه ما يختار من كتب حكماء الغرب.
(صنف الدعاة)
يقرأ لصنف الدعاة بالتوسع المناسب لحالهم، ويزاد لهم تاريخ الأديان عامة
وتاريخ الكنيسة خاصة، وما له من التأثير في الانقلاب الاجتماعي والسياسي
والمدني في أوربة وغيرها، ويرشد من يراد إرسالهم إلى قطر من الأقطار للإرشاد
أو للدعوة أن يطالعوا المطولات في تاريخ ذلك القطر وسكانه من تصانيف
المتقدمين والمتأخرين؛ ليكونوا على بصيرة في عملهم، وينبه الطلاب في كل
درس على ما فيه من العبرة والموعظة، ويدل الأستاذ الطلاب على الكتب التي
تسهل عليهم المراجعة في كتب العهد العتيق والعهد الجديد؛ كقاموس الكتاب المقدس
للدكتور بوست، وكتاب مرشد الطالبين، وكتاب مغني الطلاب، وكتاب ذخيرة
الألباب.
* * *
(الملل والنحل والجمعيات الدينية)
(صنف الدعاة)
علم الملل والنحل خاص بصنف الدعاة، وتؤخذ دروسه مما كتبه علماؤنا
كابن حزم والشهرستاني ومن الكتب الأوربية، ويختصر الكلام في الملل والنحل
المندرسة ويتوسع في غيرها، ويتبع هذا بيان أحوال الجمعيات الدينية، ويتوسع
أيضًا في بيان أحوال أهل النحل الرائجة بين المسلمين في هذه الأزمنة في هذه
الأزمنة؛ كالبكداشية والبابية البهائية منهم وغير البهائية.
* * *
(تقويم البلدان وخرت الأرض)
يقرأ لصنف المرشدين خرت الأقطار الإسلامية وتقويم بلدانها مفصلاً تفصيلاً
وخرت سائر الأرض بالإجمال. ولكنه يفصل لصنف الدعاة بأنواعه الدينية
والسياسية والتجارية، وينبه الطلاب في أثناء الدروس إلى العبرة بسنن الله تعالى
في إدالة الدول وإرث الأرض.
* * *
(حفظ الصحة)
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين علم حفظ الصحة، وما يتبعه من علم الإسعافات
الوقتية التي يمكن استعمالها في غيبة الطبيب عند حدوث المرض أو الجرح أو
الحرق، ويذكر في مقدمة هذا العلم ما ورد في الكتاب والسنة من الدلائل على
مشروعية الطب والتداوي وتحرير مسألة العدوى، ويبين فيه أن قوام هذا العلم في
اتباع الشريعة في الطهارة والعفة والاعتدال في الأمور كلها.
* * *
(الاقتصاد - أو - تدبير الثروة)
يوضع للدروس التي تقرأ من هذا العلم مقدمة في الآيات والأحاديث الواردة
في الاقتصاد وذم الإسراف والتبذير ومراعاة الشريعة لذلك بحظر إضاعة المال
وإنفاقه في المضار أو ما لا يفيد، حتى في مثل النهي عن الإسراف في الماء عند
الوضوء والغسل، وتبين فيها المقابلة بين الإسلام والنصرانية في ذلك، وفي
اختلاف أثر الدينين في التابعين لهما؛ إذ عمل جماهير كل من المسلمين والنصارى
في هذه العصور بضد ما يهدي إليه دينهم، ويبين فيها مكانة الثروة من حياة الأمم
والدول في هذا الزمان.
* * *
(أصول القوانين وحقوق الدول وضروب النظام)
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين قدر صالح من نظام الشركات والنقابات والجمعيات
والمحاكم الشرعية والمجالس الحسبية والبلدية ونظام الإدارة والقضاء الأهلي
والمختلط، بحيث يكونون على بصيرة مما عليه الحكومات القانونية في عصرهم.
(صنف الدعاة)
ويقرأ لصنف الدعاة قدر صالح من حقوق الدول وأصول القوانين وفلسفتها،
ويبين لهم في كل باب منها نسبة مسائله إلى الشرع. ويستعان على هذا بما كتبه
بنتام ومونتسيكو وغيرهما من حكماء الغرب
* * *
(المنطق)
يجتنب في تعليمه إيراد الأمثلة بالحروف، ويتحرى أن يكون أكثرها من
الوجوديات وأقلها من النظريات، ويتوسع في مباحث الاستقراء والتمثيل وسائر
مواد القياس، ويبين في باب البرهان منه خطأ الحس، ويحرر فيه بحث الواتر
وشروطه، وما يعده الناس منه وهو ليس منه، ويشرح في بحث الخطابة والشعر
طرق التأثير بهما، وفي مباحث الجدل والمغالطة والسفسطة ضروب التلبيس بها،
ويستكثر من الأمثلة على ذلك، ويكلف الطلاب استخراج الأمثلة في ذلك من
مناظرات الجرائد بإرشاد الأستاذ وتنبيهه.
* * *
(المناظرة وآداب البحث)
كان علماء المعقول منا يستعملون اصطلاحات في آداب البحث في مناظراتهم
كما يستعملون اصطلاحات المنطق؛ كلفظ السند والمنع والنقض والمعارضة لاتفاق
المتناظرين عليها، ولا يكاد يستعملها الآن أحد، ولكنها تفيد العارف بها بصيرة
وقوة، فتقرأ مع بيانها بالأمثلة.
(صنف الدعاة)
يمرن صنف الدعاة على المناظرة بالفعل؛ بأن يجميع بعض الطلاب شبهات
الملاحدة أو النصارى على الإسلام، ويناظر فيها بعض إخوانه فيكون كل منهما
سائلاً تارة معللاً أخرى، ولا يدخر مورد الشبهات وسعًا في تقريرها على النحو
الذي يقرره به أهلها مع النزاهة والأدب في العبارة، فقد أطلق إبراهيم عليه وعلى
آله الصلاة والسلام لفظ الرب على الكوكب والقمر والشمس؛ تمهيدًا لإثبات
التوحيد، فإن عجز المدافع عن الإسلام أو الداعي إليه عن رد شبهات الآخر،
وإثبات مدعاه هو - جاء حكم الحكم بينهما مبينًا للحق في المسألة.
* * *
(علم النفس والحكمة العقلية)
يقرأ هذان العلمان بأسلوب الصوفية وعلى طريقتهم، وإن اقتبست المسائل
من كتب الحكماء المتأخرين، والمراد بأسلوب الصوفية وطريقتهم ما يعين على
تربية النفس على الكمال، وتربية العقل على الاستقلال؛ بأن توجه المسائل إلى
الطالب توجيه مطالبة بأن يكون سالمًا من أمراض النفس والعقل، متمتعًا بصحتهما
شاكرًا لله تعالى نعمته بهما باستعمالهما فيما خلقا له، والعروج بهما إلى سماء الكمال،
بقدر الطاقة والإمكان، لا توجيه من يريد أن يرسم في لوح الدماغ صورًا يمتع
صاحبه بزينتها إذا عرضها على خياله، أو على أنظار الناس في الصحائف، أو
أسماعهم في المجالس، ويذكر في مقدمة كل منهما خلاصة ما وصل إليه المتقدمون
فيهما؛ ككلامهم في الحواس الباطنة، وما ذكروه من مراكز الحس المشترك
والحافظة والواهمة.
* * *
(علم سنن الاجتماع)
هذا العلم من أجل العلوم التي هدانا إليها القرآن الحكيم، فأجدر بالمسلمين أن
يكونوا أشد الأمم عناية به، وتحريرًا لمسائله، واهتداء بحكمه، وينبغي أن يقرأ
على الطريقة الإسلامية التي هي أرجى للعبرة وأدعى إلى العمل.
(صنف المرشدين)
تؤخذ من مقدمة ابن خلدون المسائل الاجتماعية، ويعقب على بعض الفضول
منها بما لا بد من التنبيه عليه؛ كبيان خطئه في بعض ما قاله عن العرب، وبيان ما
اختلفت فيه طبيعة العمران وأحوال الاجتماع؛ كتغلب أهل الحضارة والترف في
زماننا على أهل البداوة والخشونة، خلافًا لما كان في عهده وقبل عهده، ويجعل
ذلك دروسًا أو فصولاً تقرأ لصنف المرشدين.
(صنف الدعاة)
ويوضع كتاب في هذا العلم على النسق الذي ارتقى إليه لهذا العهد، وتنفخ
فيه روح العبرة والهداية الإسلامية ويقرأ لصنف الدعاة. مثال ذلك أن يذكر في
مقدمة العلم وبيان موضوعه ما ورد في ذلك من الآيات الحكيمة، والأحاديث
الشريفة، كقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} (آل عمران: 137)
وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:
62) وما ماثلها، وفي باب أصول البشر وأصنافهم ومراتب الاجتماع فيهم مثل
قوله عز وجل:] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا [] وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213) الآية، وفي باب قوة
الاجتماع والجمعيات الآيات والأحاديث الواردة في الإنفاق والاعتصام، والناهية عن
التنازع والتفرق وهي كثيرة، وفي معناها حديث الترمذي (يد الله على الجماعة) ،
وفي باب انتقال الأمم والدول من حال إلى حال مثل قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ} (آل عمران: 140) وفي باب الاشتراكية والتعاون ما ورد من الآيات
والأحاديث والآثار في الزكاة والصدقات، وينبه الطلاب على وجوه العبرة في هذا
العلم وما ينبغي من العمل به.
* * *
علوم سنن الكائنات في المواليد وسائر الموجودات
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين دروس مختصرة في المواليد الثلاثة، يتوسع فيها بعلم
النبات والحيوانات الداجنة والسائمة بعض التوسع، ورسائل مختصرة أيضًا في
الحكمة الطبيعية والكيمياء ووظائف الأعضاء، ويقرن تعليم كل علم بما يمكن من
التجارب العملية التي يتمكن بها العلم، ويظهر للمتعلمين مبادئ فوائد العمل به؛
ليرشدوا الأمة إلى أن العمل هو المقصود بالذات.
(صنف الدعاة)
ويقرأ لنصف الدعاة دروس متوسطة في ذلك.
تقرأ هذه العلوم كلها على طريقة إسلامية، يعبر فيها عن كل قاعدة من
قواعدها بالسنة الإلهية، فيقال في العنوان: سنة الله تعالى في الجاذبية العامة،
سنة الله تعالى في تمدد الأجسام بالحرارة، ويقال في أثناء الكلام: سنة الجاذبية،
سنة التمدد، سنة ضغط السائلات.. إلخ، ويذكر في كل موضوع ما يرى مناسبًا
له من الآيات الحكيمة والأحاديث الشريفة في الحث على النظر في الكائنات
والاعتبار بها، والاستدلال بما فيها من النظام على علم الله وحكمته، وبما فيها من
المنافع على سعة رحمته بعباده، وكذا ما ورد مناسبًا لكل موضوع في بابه، تمزج
التنبيهات بالمسائل مزجًا يغذي الإيمان، ويرسخ به الإيقان، وينبهون على منافع
هذه العلوم في العمران، وما يجب على الأمة من الاستعانة بها على إتقان الصناعات،
وعمل الآلات والأدوات، والجواري المنشآت، وما يترتب على إهمالها من عجز
الأمة وضعفها، وصيرورتها عالة على غيرها.
* * *
(العلوم الرياضية)
تقرأ العلوم الرياضية كلها على الطريقة المعروفة في المدارس إلا الهيئة
الفلكية، فإنها تقرأ على النحو الذي أشرنا إليه في طريقة قراءة علوم سنن الكائنات
من مزج المسائل بالآيات الحكيمة في الاستدلال بها على قدرة البارئ الحكيم،
وعلمه وقدرته، وبيان موافقة ما ارتقى إليه العلم في هذا العصر؛ لما أنزله الله
تعالى على نبيه الأمي صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة عشر قرنًا.
يقرأ لصنف المرشدين الحساب بالتفصيل التام، وقليل من الهندسة ومبائ
الجبر والهيئة، ويتوسع لصنف الدعاة في ذلك بعض التوسيع.
* * *
(اللغة العربية وفنونها وتاريخ آدابها)
الغرض من تعليم اللغة العربية وفنونها وآدابها؛ أن يكون كل متعلم قادرًا
على التعبير الفصيح بهذه اللغة قولاً وخطابة وكتابة بلا تكلف، وأن يفهم أقوال
بلغائها منظومة ومنثورة، ثم أن يفهم كتاب الله تعالى ويدرك إعجازه بعقله وذوقه،
ويتأثر قلبه ويخشع بتلاوته، ويفهم كذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن
يفهم أيضًا تصانيف علمائها في العلوم والفنون والآداب، ويقدر على التدريس
والتصنيف بها فيما علمه منها، فينبغي أن يراعى هذا الغرض في جميع الدروس،
ويقرن فيها العلم بالعمل في مادة اللغة وفقهها وفنونها المبينة فيما يأتي.
* * *
(فقه اللغة ومفرداتها وأساليبها)
هذا العلم هو الأصل المقدم في علوم اللغة والنحو والصرف والبيان وغيرها
من الفنون فروع أو وسائل له، ويحتاج في هذا العلم إلى قليل من القواعد والقوانين
في الوضع والمعاني العامة؛ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمشترك والمترادف
وغير ذلك، وإلى كثير من قراءة الكلام البليغ في الأغراض المختلفة، وكثير من
مراجعة الكتب المصنفة في ذلك. فمن الكتب المشتملة على القواعد والقوانين الكلية
التي تدرس أو تجعل مادة للمدرس كتاب (الصاحبي) في فقه اللغة وسنن العرب في
كلامها (لابن فارس) وكتاب (أدب الكتاب) لابن قتيبة، وكتاب (الأدب)
للزمخشري و (المزهر) للسيوطي و (الخصائص) لابن جني (والكليات)
لأبي البقاء. ومن الكتب التي تراجع عند الحاجة كتاب (أساس البلاغة)
للزمخشري، و (لسان العرب) لابن منظور وكتاب (المخصص) لابن سيدة
و (فقه اللغة) للثعالبي (وإصلاح المنطق) و (تهذيب الألفاظ) كلاهما لابن
السكيت، فأمثال هذه الكتب تكون بين أيدي المعلمين والطلاب، يردون حياضها
بقدر الحاجة عند المطالعة وعند الكتابة. وأما مراجعة المفردات لأجل ضبطها أو
الوقوف على معناها، فيعتمد فيه على أحسن المعاجم ترتيبا، وأسهلها في الكشف
عن الألفاظ طريقًا.
* * *
(النحو والصرف والعروض)
(صنف المرشدين)
يقرأ لصنف المرشدين بعض المختصرات التي ألفت في هذه الفنون، أو تؤلف
على الطريقة العصرية في سهولة العبارة وكثرة الأمثلة وإن سبق لهم حضور ما هو
أكبر منها من الكتب على غير هذه الطريقة؛ ليتعلموا بذلك طريقة التدريس
للمبتدئين، ويقرأ لهم كتاب آخر في النحو، تختاره لجنة المدرسة ويتحامى في
قراءته ما لا فائدة فيه من التعليلات المخترعة والفلسفة العقيمة، وكل ما ليس من
موضوع الفن ولا يوصل إلى غايته.
* * *
(المعاني والبيان والبديع)
تسمى هذه الثلاثة فنون البلاغة، والبلاغة في الحقيقة ملكة طريق تحصيلها
مزاولة الكلام بالقراءة والحفظ والتكلم والكتابة، وقواعد هذه الفنون تعين على فهم
الكلام البليغ إذا قرنت الأمثلة الكثيرة من ذلك الكلام، فعلى هذه الطريقة تقرأ،
وينبه الطلاب على ذلك المرة بعد المرة؛ لكيلا تشغلهم القواعد والاصطلاحات عن
المراد منها، فيجعلوها مقصودة لذاتها، كما جرى عليه الذين جعلوا منتهى تحصيل
البلاغة مدارسة مختصر السعد التفتازاني ومطوله في بلاد العرب والعجم، ويراعى
هنا ما ذكر في الكلام على النحو والصرف والعروض، ويعتمد المدرسون على
كتابي إمام الفن الشيخ عبد القاهر الجرجاني (أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز)
ومثل (كتاب الصناعتين) لابن عساكر من الكتب الجامعة في البلاغة بين العلم
والعمل، ويراجعون أيضًا كتاب (المثل السائر) على ما فيه من التكلف والدعوى،
وغير ذلك من الكتب التي يستعان بها على وضع الدروس بإقرار لجنة المدرسة.
* * *
الإنشاء والشعر والخطابة
يعلم الطلاب طرق الإنشاء وأساليبه، وقرض الشعر ونقده، وكيفية
الخطابة ومواقفها وإشاراتها، ويمرنون على ذلك بالعمل، ولا يكلف نظم
الشعر من لا يميل إليه بسليقته، وأما الإنشاء والخطابة فيكلفهما كل طالب
تكليفًا، إلى أن يكونا ملكة له، ومادتهما ما يحفظ ويقرأ مع الفهم من القرآن
الكريم وجوامع الكلم من الأحاديث النبوية، والسنن وما يقابلها من البدع، وما
يوعى من التاريخ وعلم سنن الاجتماع، وكذا مختارات الحكم والأمثال
والخطب المأثورة عن البلغاء في الجاهلية والإسلام وغير ذلك، كما أن مادة
الشعر في أسلوبه هي حفظ بعض المختار من جيده وقراءة الكثير منه مع الفهم،
ولا بد مع ذلك من مراعاة ما تقدّم في الكلام على فقه اللغة ومفرداتها وأساليبها،
وما سيأتي في الكلام على المطالعة، وأما صورة الخطابة وطرق الأداء فيعتمد
في تعليمها على العمل الذي يقوم به الأستاذ أمام الطلاب، وما يسمعونه من
مصاقع الخطباء في نادي المدرسة وغيره.
* * *
آداب اللغة العربية وتاريخها
في كل أمة عَوَامّ وخَوَاصّ، ومما يمتاز به الخواصّ في الكلام: الفصاحةُ،
والبلاغةُ في التعبيرِ والتأثير والقدرة على الشعر والخطابة والمحاورة والمناظرة
والمفاخرةِ والكتابةِ بأنواعها. ومنها الرسائل وكتابة المصالح العامة للحكومة وغيرها ,
وكذا التصنيف في العلوم والفنون المختلفة، وتلك الضروب من الكلام هي التي
يعبرون عنها بآداب اللغة العربية، وهي تختلف باختلاف الأزمنة التي تتغير فيها
أحوال الأمة الاجتماعية والعلمية والسياسية والدينية، وغير ذلك من ضروب
التغيير، فكما تحتاج الأمم إلى تاريخ جميع أحوالها التي أَشَرْنَا إلى تغيرها تحتاج إلى
تاريخ اللغة التي يعبر بها عن المقاصد التي تختلف باختلاف تلك الأحوال.
فتاريخ اللغة العربية له عصور أو عهود: عصر الجاهلية أو عهدها
(صدر الإسلام، الأمويين، العباسيين، الأندلسيين، الدول الأعجمية،
النهضة العصرية في مصر وسورية) ومادة تاريخها في هذه العصور متفرّقة
في الكتب، ولا يوجد فيما نعلم كتاب مُدَوُّن في ذلك صالح للتدريس، وأما
عصور دول العرب البائدة فَقَلَّمَا يوجد في كتبنا التي بين أيدينا شيءٌ عنها يعتد
به، وقد طَفِقَ المنقبون في البلاد، والمستنطقون للآثار، والباحثون عن
كتابات الأقدمين المنقوشة في الأحجار، يستخرجون ويكتشفون بعض تلك
المخبآت والأسرار، المكتومة في بطن الأرض أو مجاهيل القفار؛ فتاريخ
اللغة يتناول كل ما عرف عنها في عصر من الأعصار، وقد توجهت الهمم
إلى جمعه في الصحف وتدوينه في الأسفار.
يقرأ هذا العلم لصنف المرشدين في السنة الأخيرة فإن وجد في ذلك
الوقت مؤلف مختصر تراه المدرسة صالحًا قَرَّرَتْهُ لجنتُها، وإلا وُضِعَ غيرُه،
ويقرأ لصنف الدعاة بالتوسع الذي تحدده لجنة المدرسة.
ومما تعنى به المدرسة في هذا العلم الإسهاب في الكلام عن القرآن
الحكيم، وتأثيره في هذه اللغة وأهلها ببلاغته وحكمه، ويراجع في هذا الباب
ما كتبه فُحُولُ العِلْمِ وفرسان البلاغة كالقاضي أبي بكر الباقلاني في كتابه
إعجاز القرآن والجاحظ وغيرهما.
* * *
المطالعة والحفظ
أفضل ما يحفظ وأنفعه لتقويم العقل والنفس واللسان كتاب الله - القرآن
المجيد - فلا بد لكل طالب داخلي في دار الدعوة والإرشاد من حفظه كله،
وتبالغ المدرسة في النصح للطلاب الخارجيين وتُلِحُّ عليهم بأن يحفظوه أيضًا.
وتختار المدرسة للحفظ طائفةً من الأحاديث الشريفة في الحكم والأخلاق
والآداب ومقاصد الدين، وطائفة من الأمثال ومختار الشعر والنثر.
وتختار للمطالعة أحاسن الكتب التي تغذي العقل والروح وتطبع ملكة
البلاغة في النفس، كنهج البلاغة وكتب الجاحظ وأمالي أبي علي القالي
والكامل للمبرد، وبعض كتب وآثار المتأخرين، ومن كتب حكماء الغرب
المترجمة مثل كتاب (التربية الاستقلالية) وتعنى بوضع كتب جديدة
للمطالعة يراعى فيها أفْهَام جميع طبقات القراء لتكون عونًا على تقويم اللسان
والنفس فيهم.
* * *
الإملاء والخط والرسم
تعلم هذه الفنون على الطريقة المعتادة؛ لأنها طريقة معبدة لا تطلب
المدرسة أكمل منها إلا أن تشترط أن يكون ما يملى من خير الكلام وأنفعه،
ويُراعى فيه سِنُّ الطالب ومعارفُه، ويكون بالتدريج اللفظي والمعنوي،
ويصحح ما يكتبه الطلاب بالدقة التامة، ويعلمون رسم البلاد والأقطار وكل ما
يباح رسمه؛ ولو على بعض الأقوال والوجوه التي يعتد بها.
* * *
اللغات
من يراد جعلهم مرشدين أو دعاة في قطر من الأقطار يعلمون اللغة
المنتشرة في ذلك القطر، وطريق تعليم اللغات الأوربية معبد معروف ومعلموه
كثيرون، وكذلك بالتركية والفارسية من لغات المسلمين، ومتى احتيج إلى
تعليم لغة منها أو من غيرها يستعان عليها بصالحي أهلها.
هذا ما اقتضت الحال بيانه من إصلاح التعليم الإسلامي في دار الدعوة
والإرشاد، والله الموفق وبه الاستعانة وله الحمد.
__________
(1) هذا هو الفصل المشار إليه في الأصل الخامس من نظام المدرسة المنشور في الجزء العاشر.
(2) يشترط أن يكون مختصر الإحياء خاليًا من الأحاديث الموضوعة والواهية وأن يذكر في هوامشه تخريج الأحاديث، والتنبيه لما يستدرك على الأصل أو يبين الفرق في تأثيره بين زماننا وزمان من قبلنا.(14/801)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة عن أحاديث ومسائل
س63: من صاحب الإمضاء في بيتاوي (جاوه) .
سيدي الأستاذ الحكيم: إن الأحاديث الضعيفة وما قاربها في الرتبة أعظم
تكأة للدجالين، وأكبر شبهة على الصادقين المسترشدين، ولعلمي أنه لا يوجد
طبيب لأدواء المسلمين المزمنة غيركم - غلو لا نرضاه ولا نَوَدُّ صحته -
جئتكم متطفلاً على أعتابكم، راجيًا من جميلِ فضلِكُم وكرمِ إحسانكم، أن
تُحققوا رجائي، وتُفِيضُوا عليّ من صيب علمكم وإرشادكم ما يفعم إنائي
ويشفي أدوائي، ولعله قد سبق لكم جواب على بعض هذه الأسئلة في أعداد
سابقة؛ فأرغب إليكم أن لا تحيلوني على ما ليس عندي، وإن تفضلتم بالمبادرة
بالجواب فأنتم أهل الفضل ومعدن الإحسان، فما قول سيدي في:
1- حديث: (أكثر أهل الجنة البله) ، وكيف يتفق مع قول النبي صلى
الله عليه وسلم:
2 - (إِنَّمَا يُثَابُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ) ؟
3- وحديث: (يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ) ؛ وهل تعرج
من العرج أو من العروج؟
4- وحديث: (خُذُوا نِصْفَ دِيِنِكُمْ عَنْ حُمَيْرا) ؟
5- وحديث ثناء النبي على أويس ولقيا عمر وعلي له، وطلبهما منه
الدعاء؟
6- وحديث: (أَرواح الشهداء في جوف طير معلقة تحت العرش)
وهل روح الشهيد هي روح الطير أم لا؟
7- وهل يثاب قارئ القرآن وإن لم يفهم معناه أو فهمه على غير المراد؟
8- وما يروى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه أكل طعامًا، فبان
له أن فيه شبهةً أو حرامًا فَتَقَايأَهُ، فهل لنا قُدْوَةٌ في عمل الصديق؟
9 - ألا وإن من أكبر الشبه الفاتكة بالعقول ما يدّعيه المشعوذون من
عبدة الجن من قولهم: إنهم يتصورون بصور مختلفة، ويتشكلون بأشكال
متنوعة إلى آخر ما يدعون ويزعمون، وقديمًا كنت لا أُعَوِّلُ على مختلقاتهم،
ولا أُعِيِرُ أذني لسماع خرافاتهم وخزعبلاتهم؛ حتى سمعت كلام الأستاذ الإمام
في هذا الموضوع فانشرح له صدري، وزال به غين الإشكال عن فهمي،
غير أني ارتبكت في تأويل قول الله تعالى عن أضياف إبراهيم حيث تَصوّروا
في صورة البشر ... إلخ ما يقول أهل التفسير.
10 - وهل القائل:
علة الكون أنت ولولاك ... لدامت في غيبها الأشياء
يعني بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، مصيب في قوله أم مخطئ؟ فقد
اتخذ هذا القول بعض السذج من عقائد الدين الواجبة التسليم. أفيدوني سيدي
عن هذه الكلمات، وإن كانت ليست من الأهمية بمكان فقد أنزلت أملي بأعتابكم،
وأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَمَّمَ النَّفعُ بِكُم ويُؤْتِيكُم مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا.
ع. ب. ح.
(الجواب)
1- حديث: (أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ)
هذا الحديث رواه البيهقي في الشعب، والبَزَّار في مسنده عن أنس
وهو ضعيف، قال ابن الأثير: هو جمع الأبله، وهو الغافل عن الشر
المطبوع على الخير، وقيل: هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور،
وحسن الظن بالناس؛ لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها،
وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا أنفسهم بها، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل
الجنة، فأمّا الأبله وهو الذي لا عقل له فغير مراد في الحديث، وفي حديث
الزبرقان (خَيْرُ أَوْلادِنَا الأَبْلَهُ الْعَقُوُلُ) ، يريد أنه لشدة حيائه كالأبله وهو عقول
اهـ. وفَسّر في مادة عقل بأنه الذي يُظَنُّ به الحُمْقُ فإذا فتش وُجِدَ عَاقِلاً،
وقال سهل التستري الصوفي: هم الذين ولهت عقولهم وشغلت بالله عز
وجل، وقال بعضهم في تفسيره: إن من عبد الله تعالى لأجل الجنة فهو
أبله في جنب من يعبده لكونه ربًّا مالكًا، وقد يقال: إن هذا يُعَدُّ أيضًا أبله
في جنب من يعبده لعلمه بكماله الذي تدل عليه جميع أسمائه الحسنى
وصفاته العليا. وقال بعضهم: إن المراد بالجنة ما يقابل الدرجات العلى من الجنة
التي هي منازل المقربين الذين هم أرقى من هؤلاء.
* * *
2- حديث: (إِنَّمَا يُثَابُ النَّاس عَلَى قَدْر عُقُولِهِمْ)
لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في دواوين المحدثين بهذا اللفظ، وما
أراه إلا من موضوعات المتأخرين، ولكن ورد في معناه حديث عائشة
في نوادر الأصول للحكيم الترمذي وهو أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم:
بأي شيء يتفاضل الناس؟ قال: (بالعقل في الدنيا والآخرة) قالت: قلت:
أليس يجزى الناس بأعمالهم؟ قال: (يا عائشة وهل يعمل بطاعة الله إلا
من عقل؟ فبقدر عقولهم يعملون وعلى قدر ما يعملون يجزون) ، وحديث
أنس عند الحكيم الترمذي في نوادره أيضًا: (إن الأحمق يصيب بحمقه
أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس الزلف عقولهم) ورواهما داود
ابن المحبر في كتاب العقل وتختلف ألفاظهما عنده وهو نفسه مختلف فيه
قيل: هو ثقة، وقال أحمد: لا يدري ما الحديث، وقال الدارقطني فيه: متروك.
وقال في كتابه كتاب العقل: وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه
منه داود بن المحبر فَرَكَّبَهُ بأسانيدَ غير أسانيد مَيْسَرة إلخ ما قال. أما سند
حديث أنس في النوادر ففيه جهالة، وأما سند حديث عائشة عنده فحسبك
أن في إسناده ميسرة بن عبد ربه الفارسي البصري قال ابن حبان: كان
يروي الموضوعات عن الأثبات، وهو واضع أحاديث فضائل القرآن،
وقال أبو داود: أقر بوضع الحديث. فعلى هذا لا حاجة إلى الجمع بين
الحديثين فأحدهما ضعيف والآخر موضوع، ولو فرضنا أنهما صحا فما
قاله ابن الأثير في تفسير الأول كاف في منع التعارض.
* * *
3 - حديث عرج العقول
حديث: (يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ) موضوع أيضًا.
* * *
4 - حديث: (خُذُوا شَطْرَ دِيِنِكُمْ عَنْ الحُمَيْرَاءِ)
هكذا ذكر الحديث في الكتب قال السخاوي: يعني عائشة رضي الله
عنها، قال ابن حجر: لا أعرف له إسنادًا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث،
إلا في النهاية لابن الأثير، ولَمْ يذكر من خرجه.
وذكر الحافظ عماد الدين أنه سأل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه اهـ،
أقول: وإذ لم يعرفه هؤلاء الحفاظ الذين أحاطوا بجميع كتب الحديث علمًا
وحفظًا فمن يعرفه؟ وقد قال بعضُ العلماء في تفسيره على تقدير ثبوته: إن
المراد بشطر الدين الأحكام الخاصة بالنساء باعتبار قسمة الأحكام الشرعية إلى
قسمي المكلفين من النساء والرجال.
* * *
5 - حديث ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على أويس القرني
روى مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر
وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس، فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين؟
فجاء ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال:
(إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أُمٍّ له قد كان به
بياض؛ أي بَرَصٌ فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن
لقيه منكم فليستغفر لكم) وروى أيضًا عنه عن عمر أنه قال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له
أويس له والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم) ؛ وروى عنه أيضًا قال:
كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر
حتى أتى على أويس فقال له: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من
مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع
درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن
من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة
هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)
فاستغفر لي. فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا
أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. فلما كان من
العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس فقال: تركته
رث البيت قليل المتاع (فذكر له عمر الحديث) قال: فأتى أويسًا فقال: استغفر
لي، فقال: أنت أحدث عهد بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال:
نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه، قال أسير (الراوي) :
وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟ اهـ.
هذه رواية مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر، وروى حديثه ابن
سعد وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تاريخه مطولاً
في قصة لأويس عن حاله في الكوفة، وروى قصته ابن عساكر وغيره
عن صعصعة بن معاوية وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك بأسانيدَ
ضعيفة كلها عن عمر بن الخطاب، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس
عند ابن عساكر أن عمر وعليًّا ركبا حمارين، وأتيا الأراك حيث كان
أويس وأنهما طلبا منه الدعاء فدعا لهما وللمؤمنين والمؤمنات.
وهذه الرواية لا تصح وإنما الصحيح من كل ما روي عن أويس هو ما
أخرجه مسلم عن أسير بن جابر ويقال ابن عمرو، وكان يقال له يسير أيضًا
على أن ابن حبان قال عند ذكره له في الثقات: (في القلب من روايته
قصة أويس شيء إلا أنه حكى ما حكى عن إنسان مجهول فالقلب إلى أنه
ثقة أميل) . وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث. وذكره العجلي في الثقات
من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن حزم: أسير بن جابر ليس بالقوي، الجمهور
على توثيقه تبعًا لمسلمٍ.
* * *
6 - حديث: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ)
حديث: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ) ، قد رواه أحمد في مسنده،
ومسلم في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة، وهو وارد في شهداء أحد، وقد
اختلفت ألفاظه عند رواته، ففي بعضها أنها تكون في حواصل طير، وفي بعضها في
صورة طير وفي بعضها (كطير خضر) ، ومجموع الروايات يدل على أن
أرواحهم تتشكل بصورة الطير فترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، ويكون
ذلك شأنها إلى يوم القيامة فتبعث مع سائر الخلق في الأجساد المعروفة،
وليس معناه أنها تحل في طير من الطير الموجودة كما يقول أهل التناسخ،
والحديث يمثل لنا حياة الشهداء الغيبية في عالم الغيب، قال بعض العلماء: إنه
خاص بشهداء أحد، وقيل: بل يعم من كان مثلهم في الإخلاص، ولا يمكن أن
يعم كل من قتل في الحرب لما ورد من عقاب من يقاتل رياء وسمعة.
* * *
7 - ثواب تالي القرآن بغير فهم
الأصل في مشروعية تلاوة القرآن الاهتداء والاعتبار والاتعاظ به،
ولا يكون ذلك إلا بالتدبر والفهم، وتلاوة القرآن مع الغفلة عن معناه ذنب
كما ورد في الأثر: (رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ) وقد يثاب التالي
بغير فهم إذا كان يتلو لغرض شرعي آخر كتجويد التلاوة والحفظ؛ فإن
توجه الذهن إلى ضبط الألفاظ وإتقان مخارج الحروف مثلاً يشغل عن تدبر
المعاني؛ ولكن مثل هذا يكون غرضًا عارضًا لا دائمًا.
* * *
8 - ورع الصديق والقدوة به.
روى البخاري عن عائشة أنه كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج،
وكان أبو بكر يأكل من خراجه؛ فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال
له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في
الجاهلية فأعطاني، وفي رواية أبي نعيم كنت مررت بقوم في الجاهلية
فرقيت لهم فوعدوني فلما كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني،
فأدخل أبو بكر أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج،
ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
وروى مالك من طريق زيد بن أسلم مثل ذلك عن عمر الفاروق، قال زيد:
شرب عمر لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على
ماء - قد سَمَّاهُ - فإذا نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا لي من ألبانها، فجعلته في
سقائي فهو هذا. فأدخل عمر يده فاستقاء.
أين أهل زماننا وغير زماننا من هذا الورع وقد صار من يتقي الحرام
الصريح المجمع على تحريمه يعد من النوادر في أكثر الأمصار والحواضر،
التي يزعم متفرنجة أهلها أنهم أرقى وأكمل من السلف الصالح؛ لأنهم في
زمن اتسعت فيه دائرة الفنون والصناعات؟
* * *
9 - تشكل الملائكة والجن
لا حاجة إلى تأويل ما ورد عن ضيف إبراهيم، وهو لا يدل على صدق
أولئك الدجالين في حكاياتهم الخرافية عن الجن، وهل تقاس الملائكة
بالحدادين؟ ! نقبل كلَّ ما ورد في التنزيل عن عالم الغيب، وكذلك ما صح
في الأخبار ولا نقيس عليه، ونقول: صدق الله ورسوله وكذب الدجَّالون.
* * *
10 - القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم علة لخلق الكون.
المشهور المعروف عن متكلمي الأشاعرة الذين يتبعهم أكثر المسلمين
أن أفعال الله تعالى لا تعلل، ولكنهم يقبلون أمثال هذا البيت في الإطراء
وقصائد المدح.
وهذا المعنى في البيت مأخوذ من حديث: (لَوْلاَكَ لَمَا خُلِقَت الأَفْلاَكُ)
وهو موضوع كما قال الصغاني وابن تيمية وغيرهما.
* * *
(حَدِيثُ: الْعَمَائِمُ تِيِجَانُ الْعَرَبِ)
س46: من صاحب الإمضاء في فليمبغ بجاوه.
سيدي أسألك عن لفظ: إذا وضعت العرب عمائمها فقد ذلت، هل هو
خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أم أثر وما هو معناه؟ تفضل أجبني
على صفحات المنار.
... ... ... ... ... ... ... عقيل بن عبد الله الحبشي
ج: روى الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس مرفوعا:
(الْعَمَائِمُ تِيِجَانُ الْعَرَبِ، فَإِذَا وَضَعُوا الْعَمَائِمَ وَضَعُوا عِزَّهُمْ) وسنده
ضعيف، ولعل معناه أن العمائم لما كانت هي العلامة التي تمتاز بها
العرب عن غيرها من الأمم في المشخصات الظاهرة، وكان وضعها لها
وتركها إياها تركًا لرابطة من الروابط العامة بينها، ولا يكون غالبًا إلا
لتفضيل زي آخر من أزياء الأمم عليها، لما كان ذلك كذلك كان ترك
العمائم احتقارًا لهذا الزي المشخص يتضمن احتقارًا ما لأهله وتفضيلاً لمن
استبدل زيَّهم به عليهم، وذلك مبدأ ترك العز - عز الاستقلال - وتفضيل
الأفراد أمتهم على غيرها.
* * *
(تمثيل الوقائع التاريخية والخيالية للاعتبار)
س65: من صاحب الإمضاء الحرفي في دمشق الشام.
سيدي الأستاذ صاحب المنار الأغر.
ما رأي الأستاذ حفظه الله في تمثيل الروايات الأخلاقية التي لا
يشوبها من ضروب الخلاعة، أو من ظهور النساء حاسرات على
المسارح والتي تحبب الحضور بالفضيلة وتنفرهم من الرذيلة؟ وهل يجوز
لنا أن نعتبر التمثيل غيبة فنحرمه بدعوى أن الغيبة محرمة؟ وهل ورد في
النصوص الشرعية تصريحًا أو تلميحًا ما يدل على حرمة التمثيل الأخلاقي،
أو يشير إلى اجتنابه، وعهدنا بهذا النوع من التمثيل أنه خير ما يغرس
في النفوس حب الفضائل وكره الرذائل؟
أرجو إجابتي على هذه الأسئلة حتى لا يبقى مجال لتغرير المسلمين
باسم الشريعة، ورميها بسهام غير سديدة، هدانا الله بمناركم الوضَّاح إلى
أقوم طريق. (ع..)
ج: جاءنا مثل هذا السؤال أيضًا من دمشقي آخر أشار إلى اسمه
بحرفي م. ن، وجاء في سؤاله أن للسؤال واقعة حال في دمشق، وهي
أن تلاميذ المدرسة العثمانية بدمشق مثلوا قصة زهير الأندلسي التي تشرح
كيفية انقراض المسلمين من الأندلس فقام بعض الحشوية من طلاب الشهرة
وأصحاب الدعوى يشنعون على المدرسة ويكفرون تلاميذها ومعلميها
ويزعمون أنهم حاولوا هدم الإسلام بتذكير المسلمين بأسباب انقراض
المسلمين من مملكة إسلامية كانت زينة ممالك الأرض بالعلوم والفنون
والآداب، وخطبوا بذلك على المنابر في رمضان فصدق فيهم قول من قال:
إن لمتعصبي دمشق في كل رمضان ثورة.
أشار السائل الذي نشرنا نص سؤاله إلى ما صرح به السائل الآخر
من احتجاج محرمي التمثيل على تحريمه بأنه يتضمن الغيبة وقال هذا
المصرح: إن بعضهم حرّم قراءة الجرائد والمجلات بمثل هذا الدليل.
نقول: إن صح قولُهم: إن تلك القصة أو الواقعة التي مثلت في
دمشق كانت متضمنة لشيء من الغيبة، وهو ما يستبعد جدًّا، فالمحرم فيها
هو الغيبة لا جميع القصة ولا القصص التي تمثل ولا التمثيل نفسه. وكان
الأظهر أن يقولوا إنها تتضمن الكذب في بعض جزئياتها، وكأنهم فطنوا
إلى كون الكذب غير مقصود فيها، ولا يتحقق إلا بالنسبة إلى مجموع القصة إذا
كان ما تقرره وتودعه في الأذهان من مغزاها المراد غير صحيح؛
كأن تصور قصة زهير لقرائها وحاضري تمثيلها أن الأسبانيين اضطهدوا
المسلمين وفتنوهم عن دينهم وخيروهم بين الكفر والخروج من الوطن،
ويكون هذا الذي تصروه لم يقع أو وقع ضده.
هذه القصص التمثيلية من قبيل ما كتبه علماؤنا المتقدمون من
المقامات التي تقرأ في المدارس الدينية وغير الدينية كمقامات البديع
ومقامات الحريري، وقد كان الحريري رحمه الله تعالى توقع أن يوجد في
عصره أمثال أولئك المتنطعين الذين حرموا قصة زهير الأندلسي فرد
عليهم بقوله في فاتحة مقاماته:
على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب
المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر (حقد) متجاهل،
يضع مني لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء
بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في
سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات،
ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات، أو أَثِمَ رواتُها في وقت من
الأوقات، ثم إذا كانت الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات، فأي
حرج على من أنشأ مقامات للتنبيه، لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب،
لا الأكاذيب، وهل هو إلا بمنزلة من انتدب لتعليم، وهدي إلى صراط
مستقيم.
فهو يقول إنه لم يعرف عن أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم
أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ككتاب كليلة ودمنة وغيره؛
لأن المراد بها الوعظ والفائدة وصورة الخبر في جزئياتها غير مرادة،
وما سمعنا بعده أيضًا أن أحدًا من العلماء حرّم قراءةَ مقاماتِه، ولكن اجتهاد بعض
المغرورين بالحظوة عند العوام يتجرءون على تحريم ما لم يحرمه الله
ورسوله، ولا حرم مثله أحد من علماء الملة، وهم مع هذا يتبرمون بألسنتهم من
دعوى الاجتهاد واسم الاجتهاد، ويشنعون على من يقول: إنه يمكننا أن
نعرف الأحكام بأدلتها الشرعية، فهم يعترفون بأنهم ليسوا أهلاً للاستدلال
ولا لمعرفة حكم بدليله، ويَدَّعُون أنهم مقلدون لبعض الأئمة المجتهدين رضوان الله
عليهم فليأتونا بنص من أولئك الأئمة على تحريم ما حَرَّمُوه إن كانوا صادقين.
ثم نقول من باب الدليل: قد فسر الحرام في بعض كتب الأصول بأنه
خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا فليأتونا بخطاب الله المقتضي
لتحريم تمثيل الوقائع الوعظية والتهذيبية، أما أصول المحرمات في الكتاب
فقد بينها الله تعالى بالإجمال في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) ؛ أفلا يخشى أولئك
المتجرئون أن يكونوا من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، الذين قال فيهم
أيضًا: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل: 116)
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا
مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيِرٌ مِنَ النَّاسِ) الحديث، وهو في الصحيحين والسنن
كلها من حديث خيار الآل والصحب علي وولده الحسين والعبادلة
الثلاثة وعمار والنعمان بن بشير رضي الله عنهم، فإذا كان الحرام بَيِّنًا؛
فكيف يخفى منه مثل هذا الحكم على جميع المسلمين في هذه القرون
الطويلة، ولا يهتدي إليه إلا أولئك المضيقون في هذا العام؟ إننا لا نرى
وجهًا ما لهذا التحريم ولو سلَّمنا أن في القصة الممثلة كلامًا يصح أن يعد
غيبة أو كذبًا فإننا نعلم أن في كثير من كتب الحديث والفقه والوعظ أحاديث
موضوعة، ولم يقل أحد إن ذلك يقتضي تحريم تأليف تلك الكتب وقراءتها
وطبعها، وفي كتب الحديث طعن في الرجال فهل نحرم علم أصول
الحديث؟ إلا أنه ليحزننا أن يكون لأمثال هؤلاء المفتاتين المتنطعين كلمة تسمع
في مدينة دمشق الفيحاء التي هي أجدر البلاد بأن تكون ينبوعًا لحياة
الدين والعلم والارتقاء في سورية وجزيرة العرب كلها، وما آفتها إلا نفر من
المتنطعين قد جعلوا الدين عقبة في طريق الارتقاء العلمي والعملي،
فنسأل الله تعالى أن يلهمهم الرشد، ويهديهم طريق القصد، أو أن يبصر
العامة كالخاصة في تلك المدينة الزاهرة بحقيقة أمرهم، حتى لا تتبع كل
ناعق منهم.
* * *
(خطبة الجمعة بالعربية والعجمية)
س66 من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
الحمد لله الذي جعل السؤال متوسلاً لمزيل الإشكال، والصلاة
والسلام على النبي ذي الجمال، وعلى آله وصحبه ذوي الكمال، أما بعد،
فما قولكم دام فضلكم في أداء بعض خطبة الجمعة بالعربية وبعضها بالعجمية؛
لأجل تفهيم من يحضرها من الأعاجم الذين لا يفهمون العربية فهل تكون
هذه الخطبة والحال ما ذكر تعد فاصلاً أم لا؟ أفتونا بالجواب، ولكم الأجر
والثواب، والسلام في المبدأ والختام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه أضعف الطلبة
... ... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم المكي
ج: هذا السؤال مبني على ما قاله الفقهاء الشافعية في بحث اشتراط
كون الخطبة بالعربية لاتباع السلف والخلف الذي هو إجماع عملي متواتر؛
ولأنها من الأذكار التي شرعها الله لنا في عبادتنا كتكبيرة الإحرام وقراءة القرآن
في الصلاة، ونزيد على هذين التعليلين والدليلين أن وحدة الأمة الإسلامية
أمة التوحيد لا تتم إلا إذا كان لها لسان مشترك يعرفون به دينهم من مصدر
واحد وتأثير واحد؛ وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون
مصالح دنياهم، كذلك فيكون بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.
قال الفقهاء في هذا البحث: إن الأعاجم إذا أمكنهم تعلم الخطبة
بالعربية وجبت عليهم على سبيل فرض الكفاية فإن لم يقم بها أحد منهم
أثموا كلهم ولا جمعة لهم بل يصلون الظهر، وقالوا: يجب السفر لأجل
تعلمها إذا تعين ولو زاد على مسافة القصر وقالوا في حال عدم إمكان تعلم
الخطبة بالعربية، وهذا لا يكون إلا نادرًا وفي بعض المواضع والأحوال، خطبوا
بلغتهم مترجمين أركان الخطبة العربية فإن لم يحسن أحد منهم الترجمة
فلا جمعة لهم، وقالوا: إنه يشترط الموالاة بين أركانها وبين الخطبتين،
وبينهما وبين الصلاة.
إذا تبين هذا نقول: الظاهر أن السائل يريد بأداء بعض الخطبة
بالعربية أداء جميع أركانها من الحمدلة والتصلية والوصية بالتقوى وقراءة
الآية والدعاء، ويريد بأداء بعضها بالعجمية إيراد طائفة من الوصية
والوعظ بالعجمية لأن هذا هو الذي يضر فيه الفصل الذي جعله موضع
الاستفهام وجوابه بناء على مذهب الشافعية أن الفصل الذي يضر هو ما
كان بقدر صلاة ركعتين بأخف ممكن فأكثر وهو زهاء دقيقتين فإن كان
أقل من ذلك لم يضر، على أن اشتراط الموالاة ليس متفقًا عليه وجعله في
المنهاج أظهر القولين، وقد سبق لنا استحسان ما يفعله بعض علماء
الأعاجم من ترجمة الخطبة بعد الصلاة.
* * *
الموالاة وتعاون المسلمين مع غيرهم
واستعانتهم بهم على الخير
س67: من صاحب الإمضاء في دمشق الشام صاحب سؤال 34
و35 في ص 429.
حضرة مدير مجلة المنار الأجل
نشكركم على بيانكم للأحكام المتعلقة بمسألة دخول المسلم في جمعية
سرية بيد أنه استشكل علينا قولكم: إنه يجوز للمسلم أن يدخل في كل
جمعية عملها مشروع؛ وإن كان أعضاؤها أو رئيسها من غير المسلمين
اهـ.
وهنا لنا سؤال نرغب إليكم أن تجيبونا عنه وهو: ألا يعد دخول
المسلم حينئذٍ موالاة لأبناء الملل الأخرى، واستعانة بهم، واستراشادًا
بآرائهم؟ وإذا كان كذلك فهل هو سائغ.
وذكرتم أن المسلم إذا دخل في جمعية على أنه ليس فيها شيء مخالف
للشرع الثابت ثم ظهر له فيها ما يخالفه، ولم يستطع إزالته وجب عليه أن
يتركها ويتبرأ منها اهـ، وهنا نسألكم عن الحكم فيما إذا كانت تلك
الجمعية تمنع الداخل فيها من الانسحاب منها بمقتضى حلفه اليمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ابن الأمير محمد
ج: نهي المسلمون أن يوالوا غير المسلمين في دينهم ونصرة أقوامهم
على المسلمين، وهذا ما كان يُفْهَمُ من النهي عن اتخاذهم أولياء من دون
الله، وما ورد في الحديث من نفي الاستعانة بالمشركين إنما ورد في
الاستعانة بهم في الحرب، وله معارض؛ ولذلك كانت المسألة خلافية
والظاهر أن عدم الاستعانة كان عند الاستغناء عنها؛ وإلا فقد ثبتت
الاستعانة في السنة وسيرة الصحابة - رضي الله عنهم - وليس هذا المقام
هو مقام التفصيل في ذلك، وقد سبق لنا بيانه في موضعه من قبل، وهو
ليس مما نحن فيه، وأما التعاون على دفع الشر أو فعل الخير فهذا لا مجال
للخلاف فيه، وينزه الإسلام أن يمنعه، مثاله ما ذكرنا في جواب السؤال
السابق من التعاون في جمعية الإسعاف، وهل يوجد مجال للخلاف في
الاستعانة بالكتابي أو الوثني أو الملحد على إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق
وإقامة الحمل يقع في الطريق؟ إنه لا يستطيع أحد أن يهجو دينًا بحق أشد
من هجوه بتحريم مثل هذه الأعمال.
أما الجمعيات التي يشترط فيها الحلف على عدم الخروج منها
فالاحتياط اجتنابها فإن احتاج أحد إلى الدخول فيها لمصلحة مشروعة
يستثنى أو يقيد الحلف بما إذا لم يظهر له فيها ما يخالف اعتقاده، فإن حلف وأطلق
ثم رأى منكرًا لم يستطع إزالته، ورأى أن بقاءه في الجمعية يتضمن إقرار
هذا المنكر أو تقويته وجب عليه أن يترك ويُكَفِّرَ عن يمينه؛ فإن المنكر لا
يلزم باليمين، وقد ورد الإذن بنقض اليمين فيما دون ذلك ففي الحديث الصحيح:
(مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ) رواه مسلم وغيره.
* * *
(استدراك على الفتوى في إنزال القرآن على سبعة أحرف)
فاتنا أن نذكر في تلك الفتوى المنشورة في الجزء الماضي ص736 ما
ورد في حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف من الروايات الصحيحة عند
الشيخين وغيرهما؛ فقد بنينا الجواب على اللفظ الذي أورده السائل
وروايته ضعيفة، فوجب التنبيه.
_______________________(14/821)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة الشرقية
تابع المقالات التي نشرناها في المؤيد
بمناسبة حرب إيطالية لطرابلس الغرب
(2)
(ما يجب على المسلمين والعثمانيين من مساعدة الدولة)
صفة العناصر العثمانية ومكانة السلطة الإسلامية من أهلها
عدوان إيطالية على الدولة العثمانية هو فتح لباب المسألة الشرقية، دفعت إليه
أوربة أشد دولها حماقة وغرورًا وأقلها بصرًا بالعواقب، وإن فرنسة وإنكلترة لا
يطيب لهما مجاورة إيطالية لتونس ومصر لولا الضرورة، وهما تعلمان أن
طرابلس الغرب لا تكون لقمة سائغة لها كما ساغت حماية تونس للأولى واحتلال
مصر للثانية، فسمحتا لها بأعسر اللقم ازدرادًا وهضمًا، وأقبحها أحدوثة وذكرًا،
وأشنعها سُبَّةً وعَارًا. إذا لم يكن مراد أوربة بهذا العدوان فتح باب المسألة الشرقية
بهذا العمل لا يكون أقل من طرق لهذا الباب، وانتظار لما يسمع من الجواب،
فبماذا يجيب العثمانيون والمسلمون؟
العثمانيون مؤلفون من عناصر وملل شتَّى، وقد رضيت دولتهم التركية
العنصر؛ الإسلامية الدين، بأن يكونوا كلهم شركاء لعنصرها فيها، وما قام يحاوله
أولئك الأحداث الأغرار من هضم حقوق عناصرهم، واضطهاد لغاتهم، عرض
يزول بزوالهم، أو زوال سلطتهم المؤقتة، فلا ينبغي أن تؤاخذ الدولة بذنب تلك
الزعنفة التي قذفتنا بها سلانيك وأزمير وأدرنه؛ بل يجب أن يعلم كل عنصر،
وأهل كل ملة أنه لا توجد دولة أوربية تعاملهم بمثل ما تعاملهم به الدولة العثمانية،
وتعطيهم من الحقوق مثل ما تعطيهم هي، فإن الأوربيين قد تألَّهوا بالعظمة
والكبرياء، فهم يرون أنفسهم آلهة للشرقيين، وإن شاركوهم في الدين، فعلى من لم
يعم التعصب الديني قلبه، ولم تفسد الوساوس الأجنبية لبه، أن يفكر بخطر
العبودية، والحرمان من المساواة وحقوق الحاكمية، اللذين يتهددانه بسقوط الدولة
العلية (لا سمح الله تعالى) .
ثم لا يثقل على غير المسلمين من إخواننا العثمانيين أن يكون
المسلمون من غير العثمانيين مشاركين لهم في الغيرة على هذه الدولة
والانتصار لها باسم الإسلام، فإنَّما ذلك مزيد قوة واحترام لدولتهم التي
يعتزون بعزتها ويذلون بذلتها حماها اللهُ تعالى.
الدين الإسلامي دين سلطة وحاكمية، وهذه الصفة من صفاته تكاد
تكون أرسخ من عقيدة التوحيد في نفوس أهله، والمسلمون في مشارق
الأرض ومغاربها يعتقدون أن الدولة العثمانية هي التي تقوم بها هذه الصفة،
وهي سياج عقائد الإسلام وعباداته، وأن ما عرض لها من التقصير في
خدمة الإسلام باستبداد بعض السلاطين وفساد دين بعض الباشوات، أو
بضغط أوربة، هو من الأعراض التي لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها ما
دامت الدولة باقية مستقلة، آخذة على نفسها القيام بمنصب الخلافة.
هذا الاعتقاد سار في جميع الشعوب الإسلامية سريان الدين في
مداركهم وشعورهم، ولبعض همج أفريقية وجزائر المحيط الجنوبي من
الغلو في هذه الدولة وفي سلطانها ما يدخل في باب الخرافات، حتى إن في
البرابرة المقيمين في القاهرة من يعتقدون أن السلطان هو الحافظ لهم في
بلادهم، وهو الذي منع العرابيين وغير العرابيين من الاعتداء عليهم.
هذا الاعتقاد الذي تجهل الدولة كنهه فلم تعرف كيف تستفيد منه قد
أفاد دول الاستعمار، ومهد لها سبيل الاستيلاء على الممالك الإسلامية
الكثيرة والتمكن فيها، بضعف المسلمين في مقاومتهم لها، إذ كان من
أسباب هذا الضعف في كل قطر اعتقاد أهله أنهم ليسوا هم الذين يقيمون
حكم الله؛ وإنما تقيمه دولة الخلافة فهو في أمان واطمئنان، يمكن الالتجاء
إليه في كل آن، فإذا وقعت الواقعة، وبدأت أوربة بتقسيم البلاد العثمانية بالعدوان
المحض، وشعر المسلمون في كل مكان بأن أوربة جعلتهم كاليهود لا دولة لهم ولا
سلطان، فهنالك يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.
ليس هذا القول بالتهديد ولا بالوعيد، وليس الذي يقوله جاهلاً بقوة
أوروبة العلمية والصناعية والاجتماعية؛ بل هو يعرفها ويعلم أنها جعلت
بها أكثر المسلمين مسخرين لخدمتها كالسوائم، وأن الجاهلين منهم، وهم
السواد الأعظم لا يعلمون ماذا يعملون، وأن المتعلمين قد أفسدت التعاليم
الأوروبية نفوس الكثيرين منهم، وحلت الرابطة الإسلامية التي تربط كل
قطر من بلادهم منهم بالآخر وهم لا يشعرون، وأحدثت لهم روابط أخرى
بدلاً منها تسمى في مصر الوطنية وفي الآستانة الحاكمية للتركية، وفي
طهران الجنسية الفارسية، وأن من المصريين من صار يفاخر بفرعون
ويعد المسلم السوري والحجازي دخيلاً في أمته، وأن جميع الطبقات
تأثرت بهذا، وأنه وجد في الآستانة أناس يقولون إن أسباب ضعفنا
وتأخرنا جاءتنا من الإسلام، وفي طهران من ينشر تاريخ المجوس
وعظمة ملوكهم، وينفر من الإسلام الذي دفع العرب إلى سلب ذلك الملك
منهم، وأن منهم من استحوذ عليه شيطان الجبن لشدة ما قاسى من
الاضطهاد والظلم، كل هذا أعرفه كما يعرفه الأوربيون الذين زرعوا
بذوره وتعهدوا غرسه بالسقي حتى بدت لهم ثمراته دانيةُ القطوف،
ولكنني أعلم مع هذا كله أن هذه الجنسيات الجديدة لمَّا تَتَمَكَّنَ من نفوس
جميع الذين ابتدعوها، وأن أكثر الذين تدنسوا بها لم يعرفوا أنها مخالفة
لأصول الإسلام وفروعه الذي جعل المسلمين أمة واحدة؛ بل أعضاء
لجسدٍ واحد، وأن الشعور بالخطر على الحكومة الإسلامية كافٍ لمحوِ كل
هذه الوساوس الأوربية من نفوسهم، وزلزال الجبن الذي أَلَمَّ بقلوبهم،
وعودة الرابطة الإسلامية القلبية إلى أشد ما كانت قوةً ومتانةً، وهذا هو
الذي عنيته بقولي: يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.
إن أوربة قد علمت كنه حرص المسلمين على الحكومة الإسلامية
وشدة نفورهم من الحاكم الأجنبي عنهم، فهي لذلك تخادعهم بنصب أشباح
منهم تجعلهم آلات للحكم عليهم والتصرف بهم، حتى إن إيطالية التي هي
أشد دولها غرارة وغرورًا، وأقلهن علمًا وتجربةً، تبحث عن أمير مسلم
تجعله تمثالاً تحكم طرابلس الغرب باسمه، ولولا أن أوربة تعلم كنه شعور
المسلمين بالحرص على السلطة الإسلامية، لما أطلقت على ذلك لفظ
التعصب الديني وجعلت هذا اللقب مثار البغي والعدوان، والخطر على
نوع الإنسان، تنفر المسلمين منه، وتهددهم بالعقاب عليه، ولكن هل
يخشى أن يكون من سوء تأثير التعصب الإسلامي المخيف أكثر مما كان
من تساهل أوربة وعدلها ورحمتها في دفعها إيطالية إلى اغتصاب مملكة
إسلامية كاملة والسماح لأسطولها بتدمير ما يستطيع تدميره منها ومن
أسطول الدولة العلية؟ كلا إنه لا يوجد عدوان في الأرض أقبح ولا أوضح
ولا أفظع من هذا العدوان.
إنه مهما بالغ كتابنا وكتاب أوربة في إقناع المسلمين بأن أوربة تريد
إزالة ملكهم من الأرض لا لأجل دينهم؛ بل لنفعها المجرد، فلن يستطيعوا
أن يقنعوا بذلك رجلاً واحدًا من كل مليون رجل، نعم إن ضعفنا هو الذي
يجرئهم علينا؛ ولكن حكومات البلقان المسيحية أضعف منَّا فلماذا يعطونها
من أملاكنا، ولا يقتسمون بلادها كما يقتسمون بلادنا؟ يقولون إن إيطالية
حاربت الحبش وأزالت سلطة البابا، ونقول نعم وطالما حارب المسلمون
بعضهم بعضًا، ولو استولت إيطالية على الحبش لما كان ذلك في نظر
أوربة إلا استبدال دولة مسيحية بدولة مسيحية، وأما إزالتها لسلطة البابا
فقد مكنتها أوروبة منه لاعتقادها أن الدين المسيحي لا يعطي البابوات تلك
السلطة الدنيوية التي انتحلوها لأنفسهم، وإن كان فيهم ملحدون ففينا ملحدون،
ومنهم من يريد إزالة سلطة الخلافة ويجعل السلطة دنيوية محضة تقليدًا
لهم، فلماذا يُبَرَّؤُونَ مِنَ التَّعَصُّبِ وَنُرْمَى بِهِ؟
إنني شرحت اعتقاد المسلمين كما هو فما جئتهم بشيء جديد إلا
التذكير بما يجب من إظهار شعورهم وآلامهم من اعتداء أوربة وبغيها على
دولهم الثلاث ومساعدتهم للدولة العلية بكل ما تمكن فيه المساعدة من المال
والحال.
لا أقول: إنه يجوز لهم أن يعتدوا على أحد الأوربيين أو المسيحيين؛ لأن
إيطالية أوربية مسيحية فإن الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وللقتال
طرق قانونية لا ينبغي إلا بها، وهي قتال الجيش المنظم ومن يتطوع
معه فقط، وقد أنبأنا البرق بأن كثيرًا من فضلاء الإنكليز عرضوا على
سفارة دولتنا في لندره أن يتطوعوا لقتال إيطالية معنا، فالمسلمون أولى
بإظهار هذه العاطفة في كل قطر من الأقطار، سواء احتاجت إليهم الدولة أم
لا، فَأَدْعُو المسلمين إلى التطوع.
ثم أدعوهم إلى إظهار شعورهم بالقول والكتابة والمظاهرة
والاحتجاج، وقد رأينا الجرائد الأوربية عندنا ولا سِيَّما الفرنسية منها قد
أظهرت التحيز إلى إيطالية بمدح عدوانها، وإظهار العداوة والبغضاء للدولة
العلية، وكذلك بعض الجرائد المسيحية العربية المتعصبة للدين، وحاشا
الجرائد العثمانية الراقية كالمقطم والأهرام فإنهما قامتا للوطنية العثمانية
بحقها، فلم لا يظهر المسلمون تحيزهم إلى دولتهم وبغضهم ومقتهم
للمعتدين عليها.
ثم أدعوهم إلى مقاطعة التجارة الإيطالية وترك معاملة الطليان بكل
نوع من أنواع المعاملة، وأرى أن كل مسلم في أي بلد يعامل طليانيًّا
معاملة مالية أو زراعية فهو مستحق لِلَعْنَةِ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ.
ثم أدعوهم إلى مساعدة الدولة العلية بالمال وجمعه بالاكتتاب المنظم،
وليتذكروا أن الله تعالى قدم ذكر الجهاد بالأموال على ذكر الجهاد بالأنفس حيث
يمكن الأمران. وأما من عجز عن الجهاد بنفسه فليس له حظ إلا في
الجهاد بماله، فإن تركه فلا عذر له عند الله ولا عند رسوله ولا عند المؤمنين،
ولا يوجد دليل على صدق الإيمان أقوى من بذل المال في سبيل الله ولا
دليل على ضعف الإيمان أو النفاق فيه أقوى من البخل والإمساك عن البذل
في سبيل الله، ومن أهمه أو أهمه حماية الملة وحفظ كيان الأمة والدولة.
إن مسلمي مصر والهند أجدر المسلمين بأن يكونوا أرفع المسلمين
صوتًا وأنداهم كفًّا في الانتصار للدولة العلية؛ لأنهم يمتازون على سائر
المسلمين بثلاث العلم والمال والحرية، وفي هذا المقام نعترف لدولة
إنكلترة بالفضل على جميع دول أوربة التي تضطهد المسلمين وتضيق
عليهم مسالك الحرية الشخصية، وإن كنَّا في مقامٍ نشكو فيه من إقرارها
لإيطالية على عدوانها الوحشي.
للدولة على المصريين حق الأخوة الإسلامية، وحق السيادة السياسية،
ولولاية طرابلس عليهم حق ثالث وهو حق الجوار، فيجب أن يكونوا هم
السابقين إلى كل أنواع المساعدات الممكنة، وهم أهلٌ لذلك، فلا يألون
جهدًا، ولا يدخرون وسعًا، وقد رأينا الاضطراب ظاهرًا على عوامهم
وخواصهم، والغيرة شاملة لجميع طبقاتهم، ويليهم مسلمو تونس فالواجب
عليهم أن يرفعوا أصواتهم، ويمدوا سواعدهم، ويكذبوا هانوتو في زعمه
أن فرنسة قد فصلت ولاية تونس من مكة، أي بترت هذا العضو من جسم
الملة الإسلامية، هذه فرصة يجب أن يغتنموها هم وأهل الجزئر ليظهروا
للعالم الإسلامي كنه صدق فرنسة في قولها إنها بدأت تغير سياستها في
معاملة المسلمين، تغيير تساهل وتحسين، وليعلموا أن الجبن والإحجام في هذا الوقت
لا يزيدهم عند فرنسة إلا مهانةً واحتقارًا، وذلةً وصغارًا، ولا أحتاج إلى تذكيرهم
بقيمتهم في نظر العالم الإسلامي؛ بل العالم الإنساني.
هذا ما أُذَكِّرُ به إخواني المسلمين في الشرق والغرب وأدعوهم مع
سائر الكتاب إليه، ولي معهم قول آخر فيما يجب عليهم من العبرة في هذه
الحادثة، وما يجب أن يعتقدوه في أوربة كلها ويعاملوها به إذا هي بقيت
مصرة على غيِّها في إقرار إيطالية على عدوانها.
وأما أنتم أيها العثمانيون الخُلَّص فإنَّما أَعِظُكُمْ بواحدة أن تقوموا مَثْنَى
وفُرَادَى وجَمَاعَات، ثُمَّ تتفكروا فتجزموا بأنكم مهددون بالزوال، وأنَّ هَذَا
الوقتَ ليسَ وقتَ مطالبةٍ بإصلاح، ولا مؤاخذة على إفساد، وإنما هو وقت
لا يَتَّسِعُ إلا لشيءٍ واحد، وهو تأييد الدولة ببذل الأموال والأرواح.
واعلموا أيها الإخوة الألبانيون أن حكومتنا صائرة بطبعها إلى
اللامركزية فلا تعجلوا، ولا تغوينكم دسيسة أوربة باضطرارها الدولة إلى
إعطاء تلك المطالب للماليسوريين، واصفحوا عن جهل إخوانكم
المغرورين، الذين رجحوا قتالكم وقتال إخوتكم الآخرين، فهذا وقت العفو
والسماح، هذا وقت الاعتصام والاتحاد، فإن الخطر محدق بالجميع،
فيجب أن يتحد الجميع على دفعه.
هذا وإنني أرجو من إخواننا السوريين الكرام في خارج المملكة أن
يظهروا صدق وطنيتهم، ويعرفوا دولتهم بقيمة إخلاصهم، وبأنهم ما
كانوا يشكون إلا من سوء المعاملة، وأنهم حريصون على سلامة الدولة،
ولا يكرهون منها صبغتها الإسلامية؛ لأن هذه الصبغة لم تمنعها من
مشاركتهم فيما يسمونه الحاكمية، ولا من مساواتهم بغيرهم في الحقوق
العمومية، وما كان من التقصير في ذلك فهو من ذنب بعض الأفراد
والإصلاح لا يجيء إلا بالتراخي والتدريج.
... ... ... ... مصر في يوم الجمعة 13 شوال سنة 1329
* * *
(3)
(ما يجب من العبرة والاستفادة من هذه الشدة)
لسان الحال أفصح من لسان المقال وأصدق، والحوادث أشدُّ تأثيرًا
في نفوس الناس من الأحاديث والأقوال التي تُلْقَى إِلَيْهِمْ، وحوادث الشدائد
في البأساء والضراء، أَبْلغ في التأثير والعبرة من حوادث النعمة والرخاء،
فيجب على الخطباء والمرشدين أن يغتنموا فرصة نزول البلاء والشدة
لتنبيه شعور الأمة، باستخراج فنون الموعظة والعبرة.
كان الأستاذ الإمام يقول: إن عِلَّةَ هذه اليقظة والحركة الفكرية في
المسلمين هي الحرب الروسية العثمانية الأخيرة، وكانوا قبلها في غفلة لا
يِتَأَلَّمُ قطر من أَقْطَارِهِمْ لِمَا يُصِيبُ قُطْرًا آخر؛ بل لا يكاد يشعر بمصابه،
فقد دخل الإنكليز قبلها بلاد الأفغان محاربين فاتحين ولم تبالِ بذلك الآستانة ولا
مصر، بل ولا الهند ولا إيران جارتا تلك الإمارة، فتلك الحرب هي التي
أيقظت المسلمين هذه اليقظة على ضعفها بانتصار الروسية عليها،
وبلوغ الجيش الروسي ضواحي عاصمتها.
وأعرف كثيرين من أحرار العثمانيين يعتقدون أن انتصار الدولة
على اليونان في حربها الأخيرة كان شرًّا مِنَ الانكسار الذي كانوا يتمنونه
للقضاء به على استبداد عبد الحميد، فهم يقولون: إن ذلك الانتصار هو
الذي كان سبب رسوخ استبداد ذلك المخرب لبناء الدولة، ولولاه لفاز
طلاب الإصلاح بإعلان الدستور قبل الوقت الذي أعلن فيه بسنين كثيرة.
هذا القول معقول وقد بَيَّنَ لنا كِتَابُ اللهِ تعالى ما كان في انكسار
المؤمنين مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد من الفوائد، وما كان
من تمحيصه لهم وإرشاده إياهم إلى تدارك ما فَرَّطُوا فيه بغرور بعضهم
في الانتصار.
إن دول أوربة تعلم من فوائد الشدائد ما لا نعلم، فهي تحاول أن تحول بيننا
وبين الانتفاع بما ننزله بنا منها، فلا تقطع منَّا عضوًا إلا بعد تخدير أعصابِنَا،
وإبطال شعورنا، بنحو ما يسميه الجراحون عملية التبنيج، فيسمون
البغي والعدوان والفتح والتمليك بغير أسمائها هزؤا بنا، وضحكًا وسخريةً
مِنَّا، حتَّى إنَّ إيطالية تريد بعد هذا البغي والعدوان المشوه أن تسخر
من الدولة والأمة العثمانية بتسمية امتلاكها لطرابلس احتلالاً تحت سيادةِ
تركيا، وأن تدفع للدولة دريهمات تسميها ثمنا أو أجرة أو خراجا لتلك
المملكة الإسلامية العثمانية ليسخط العثمانيون والمسلمون على الدولة
وييأسوا منها.
إن أخذ إيطالية لطرابلس بالقوة القاهرة لبعدها عن مركز قوتنا أشرف
للدولة وأنفع للأمة من أخذها بثمن بخس، وكل ما تباع به الأوطان فهو
بخس، وفيه من الخسة والضرر لإيطالية بقدر ما فيه من الشرف والفائدة
لنا.
لا عار على من يشتري ملك غيره، ولكن العار الكبير على من
يختلسه اختلاسا عند غيبة من كان يحميه، ولا يغني الأمة مال قليل أو
كثير نأخذه مع الإذلال والإهانة وإضعاف رجائها في الحياة، وإيئاسها من
العزة والشرف، ولكن الأمة تغني وتتسع ثروتها بالمنبهات القوية التي
تعرف بكيد أعدائها وغدرهم، وتقوي شعور الشرف والإباء فيها، وتحفز
همتها إلى اتخاذ جميع الوسائط لحفظ الموجود، ورد المفقود على أن
العثمانيين الصادقين، وغيرهم من المسلمين الغيورين، سيبذلون للدولة
من الإعانة لحفظ شرفها أكثر مما تبذله عدوتها لإضاعته.
علمت من الثقات في عاصمة دولتنا أعزَّها الله تعالى أن بعض
المتفرنجين المارقين الذين نفثوا سموم العصبية الجنسية الجاهلية فيها،
يميلون إلى بيع أوربة بعض الولايات العربية التي في أطراف المملكة
كطرابلس وجنوب بلاد العرب لأجل أن يرقوا بثمنها ولايات الرومللي
والأناضول، وما يتصل بها من البلاد الخصبة ويجعلوها مركز قوة الدولة،
فتكون لهم دولة صغيرة قوية كدول أوربة في كل شيء، لكن بشرط أن
يكون ذلك في غمرة من الحوادث يظهرون للأمة فيها أن الدولة فعلت ذلك
مضطرة لا مختارة، وأنها افتدت رأس الدولة وقلبها ببعض أصابع من
يديها أو رجليها، أو بما هو دون ذلك عندهم.
قد اضطررت إلى بيان هذه المسألة الآن اضطرارًا لنفطن لها الأمة
فتقطع الطريق على وساوس شياطينها، ولا شكَّ أن السواد الأعظم من
الأمة العثمانية يسفه أولئك الزعانف من الأفراد المتفرنجين المارقين،
الذين يقال: إن من آثارهم ترك تحصين طرابلس الغرب، فيرجى أن لا
تلدغ الأمة من جحرهم مرة أخرى.
المسلمون أشجع الناس وأثبتهم في القتال، وقد بشرهم الرسول صلى
الله عليه وسلم، بأنه لا يغلبون من قلة، وما خذلت دولتنا وغلبت في الحرب
الروسية إلا بخيانة من بعض القواد والرؤساء، بعد أن نفث التفرنج
فيهم سم الإلحاد، وجعل همهم من حياتهم التمتع باللذات والشهوات، ولعل إيطالية
ما جمحت إلى هذا العدوان إلا اتكالاً على أفراد من هذا الصنف الممقوت
الذي يهون عليه إضاعة هذه المملكة (طرابلس وبرقة) لذلك الغرض
الوهمي.
مولانا السلطان الأعظم وأعضاء أسرته الكريمة كلهم ينبذون رأي
أولئك الزعانف المارقين إن ظهر، وسروات العنصر التركي المبارك
وجمهور الطبقة المتعلمة، وجميع العامة من هذا العنصر العريق في
الإسلام كلهم يخالفون أولئك الأوشاب الذين لا يعرف لهم الأمة أصل ثابت
ولا أثر صالح.
يظنون أن مثل هذا الرأي الأفين يروج عند بعض طلبة المدارس
الرسمية المغالية في التفرنج، ونرجو أن يكون هذا الدرس الذي ألقته علينا
إيطالية قد أبطل ظنهم، ونَبَّه نابتة تلك المدارس على بطلان ظن آخر وهو
أن تقليد بعض الأوربيين في العادات ونبذ الدين ظِهْرِيًّا يجعلنا مثلهم في
قوتهم وعظمتهم، وكانوا يجاهرون بهذا الظن حتى تجرؤوا على كتابته
في الجرائد، وكتب بعض ساسة الآستانة: إن قومنا الترك والمجر من
أصل واحد؛ فلماذا ارتقوا في المدنية والحضارة ونحن منحطون واستعداد
الجميع واحد؟ يجب أن نسلك مسلكهم حتى نكون مثلهم باحترام أوربة لنا
ومساعدتها إيَّانا ورضاها بأن يكون عنصرنا عنصرًا أوربيًّا.
كان هؤلاء المساكين ومقلدتهم من طلبة المدارس الرسمية يتوهمون
أن أوربة يمكن أن ترقيهم وتجعل لهم دولة قوية كدولها، وأنه لا وسيلة
إلى ذلك إلا بإرضائها بالتفرنج ونبذ الإسلام.
نعم إنه يرضيها منهم التفرنج؛ لأنه هو الذي يجرف ثروتهم إليها،
ويرضيهم منهم ترك الإسلام لأنه هو الذي يحل رابطتهم ويفصلهم من مئات
من الملايين يغارون عليهم ويودون أن يروهم سالكين سبيل الرشاد
ليمدوهم بأموالهم ونفوذهم المعنوي، وكذا بأرواحهم إن وجدوا إلى ذلك
سبيلاً، ولا يرضيها ذلك منهم لأجل أن يرتقوا ويعتزوا؛ بل يناديهم لسان
حالها كل يوم ولسان مقالها في بعض الأوقات بهذا المثل (وجودك ذنب لا
يقاس به ذنب) وهل يمكن أن يوجد نداء أفصح لهجة وأصرح صيحة من
بتر طرابلس الغرب من جسم الدولة.
هؤلاء الذين أفسدت تعاليم أوربة علينا قلوبهم وأفكارهم، وجعلتهم
عونًا لها على إزالة استقلالهم من حيث لا يشعر بذلك أكثرهم، يوجد
أشباه لهم وأمثال في الهند ومصر وتونس والجزائر، يظن أكثرهم أن
بلاده تكون مستقلة بمساعدة أوربة إذا تركت جنسيتها ومقوماتها ومشخصاتها الأولى
واستبدلت بها ما تأخذه عن أوربة من الجنسية الوطنية واللغوية، وقد وطنت نفوس
بعضهم على الرضى بالسلطة الأوربية ظاهرًا وباطنًا لا محاء شعور الدين
والجنس منها وعفاء أثره.
كتبت هذه النبذة لتذكير هؤلاء المتفرنجين بما يجب عليهم من العبرة
في الكارثة النازلة بنا، وتذكير سائر الأمة بالاعتبار بهم، لعلها تقدر على
إبعاد من بقي منهم على غَيِّهِ من مناصب الدولة، ومن النيابة عنها في
مجلس الأمة، ولتذكير الجميع بما يجب أن نأخذه عن أوربة وما يجب أن
ندعه ونتقيه كما نتفي العقارب والثعابين وجراثيم الأمراض (وميكروبات)
الأوبئة أو أشد اتقاء.
كارثة طرابلس الغرب حجة قطعية محسوسة يشترك في إدراكها
السمع والبصر فلا يمكن أن يوجد في الحجج أقوى من دلالتها على حكم
أوربة علينا بالإعدام، واتفاقها على قسمة تركتنا قبل الإجهاز علينا، فيجب
أن يعرف هذا كل فرد من أفراد رجالنا ونسائنا وأولادنا.
وهذه الحجة تدل على بطلان عقيدة نظرية كان يعتقدها بعض ساستنا
والمفكرين منَّا، وهي أن أوربة لا تعتدي على بلد من بلادنا إلا إذا حدثت
فيها فِتْنَةٌ اعْتُدِيَ فيها على بعض الأوربيين من أية أمة منهم، أو على
النصارى منَّا، فإذا قدرنا على منع أسباب الفتن والتعدي وتلافي ما تحدثه
الدسائس فيها فإننا نتقي بذلك تعدي أوربة علينا، ونجعل لأنفسنا فرصة بذلك
نرقي بها أنفسنا. أبطلت كارثة طرابلس الغرب هذه الشبهة وقامت بها
الحجة على أن أوربة تغتصب بلادنا بمحض العدوان وكونها محتاجة إليها
وأحق بها منا، فإرضاؤها عنا متعذر ما دمنا أحياء، وإننا نراها قد استعجلت علينا
بعد أن أظهر لها بعض المتفرنجين منا فسقهم وإلحادهم، كما صرّحَتْ به
بعض الجرائد الفرنسية في المقارنة بين تركيا الفتاة ومصر الفتاة.
إن أوربة تجربنا بهذا البدع الجديد من العدوان هل نرضى أن نقتطع
جسمنا قطعة بعد قطعة كلما هضمت واحدة منها قطعت أخرى والتهمتها
من غير مقاومة منَّا ولا معارضة أم لا، فإن رضينا بهذا الخسف فهو
القصد والغرض والأمنية العليا لأن المملكة تكون كلها غنيمة باردة لها لا
تخسر عليها نقطة من الدماء الأوربية المقدسة التي تفضل كل نقطة منها
على جميع أهل آسية وأفريقية.
وإن أبينا الذل والخسف وقاومنا جهد استطاعتنا، وأثبتنا لها أننا بشر
نحس ونشعر وأن بيننا اتصالاً وتضامنا في الجملة، فهي تكون حينَئِذٍ بيْنَ
أمرين إما أن تحل المسألة الشرقية عاجلاً خشية أن يقوى هذا الشعور
والتضامن فتصعب إبادة أهله، وإمَّا أن يكون الاتفاق لم يصل بين دولها
إلى هذه الدرجة فتتركنا نحن وإيطالية إلى أن يتم لهذه الاستيلاء على
طرابلس بقوتها وحدها أو لا يتم، ويتربصون بباقي بلادنا فرصة أخرى.
والذي أراه أنه لا يمكن أن نموت ميتة شرًّا من أن نقطع قطعًا قطعًا
كالشلو ونؤكل بالتدريج فيكون موتنا إماتة لشعور جميع المسلمين وإيئاسًا
لهم من الحياة، فيجب إذًا أن تبذلَ الدولةُ والأمة كل طاقتها في صد إيطالية
عن طرابلس وإن عَرَّضَتْ كل ما فيها للخراب وكل من فيها للقتل؛ ولأََِنْ
تَأخذها إيطالية أطلالاً دَارِسَةً ليس فيها أنيس، لا من البشر ولا من اليعافير
والعيس، خير من أن تأخذها بقلاعها وحصونها ودورها وأهلها.
وإذا أرادت أوربة بسبب مقاومتنا لإيطالية أن تقتسم بقية بلادنا فخير لنا أن
نُعَرِّضَ جميع جيشنا وجميع أفراد أمتنا للقتل كما قلنا في إخواننا أهل طرابلس، وأن
نُعَرِّضَ جميع بلادنا للخراب، ولا ندعها غنيمة باردة لأوربة الباغية الطاغية، كما
نعرض طرابلس لذلك.
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموتَ جبانًا
إن تفعل ذلك أوربة وهو ما لا ترضاه لها شعوبها التي يوجد فيها
الجماهير من المهذبين الذين يكرهون العدوان وسفك الدماء حقيقة لا رياء
ونفاقًا كما يدعي ساستُها - يكن ذلك درسًا للشرقيين عامة والمسلمين
خاصة يقرب أن يعلمهم كيف يعاملون هذه الوحوش المفترسة بمثل ما
عاملتنا به، وإنه ليغلب على اعتقادي أن سلب الدولة الإسلامية الكبرى
ملكها حماه الله بمثل هذه الصورة بعد ذلك العدوان على مملكتي إيران
والمغرب الأقصى يكون سببًا قريبًا لحياة المسلمين والصينيين حياة قريبة
وأن القوة الآلية القليل عمالها لا يدوم لها القهر للكثرة العديدة تنفق آحادها.
أيتها القسطنطينية العظمى، اعلمي أنه يجب أن نحيا، وأنك أنت التي
تحكمين اليوم بوجوب حياتنا إذا أبيت أن تبيعي طرابلس ولو بملء الأرض ذهبًا،
وجعلت الدم مع العزة والشرف، أرخص من الذهب مع الذل والهوان،
يجب أن تختاري العز على الذل، وجميع قلوبِ المسلمين معك اليوم،
وسيتبع ذلك أموالهم وأنفسهم.
هذا إذا أقدمت أوربة على الخطر الأخير، وإن هي أحجمت عنه فلا
تأسفي على طرابلس إذا ذهبت وبقي الشرف، ونمي الشعور بالحياة
الاستقلالية، فإنها لا تلبث أن تعود هي وغيرها، والواجب على الأمة
العثمانية في حالة الإحجام، وحفظ كيان الدولة أن تبعد عن كراسي
الوزارة والرياسة والقيادة والنيابة في مجلس الأمة جميع المارقين
المفتونون بالتفرنج، وأن لا تقتبس من أوربة إلا الصناعات والفنون التي
تمدها بالقوة والثروة، دون الآدابِ والعاداتِ والأزياءِ وسائرِ الأمورِ
المعنويةِ، يجب حينئذٍ أن تؤسسي جامعة عثمانية حقيقية، وأن تحفظي
رابطتك الإسلامية أشد الحفظ، وسنبين هذه الواجبات بالتفصيل إن شاء الله
تعالى.
* * *
(4)
الاعتبار بالمقارنة بينها وبين الجامعة الإسلامية
المسألة الشرقية عبارة عن إزالة ملك المسلمين كالوثنيين واقتسام
أوربة لجميع ممالكهم، وهي من الحقائق الثابتة المقررة لا ينكرها أحد،
ومسألة الجامعة الإسلامية عبارة عن اتفاق المسلمين وتعاونهم على حفظ
سيادتهم والدفاع عن أنفسهم، وهي من الخيالات التي تصورتها أذهان
الأوربيين ورسمتها في لوح الإمكان والاحتمال لأجل الصد عنها، واتقاء
وقوعها، عملاً بقاعدة: اتقاء وقوع المرض خير من معالجته بعد وقوعه.
ترى أوربة أنه لا إثم في حل المسألة الشرقية ولا حرج، ولا يعد من
الطمع ولا من التعدي على حقوق الأمم؛ بل هي فضيلة وكمال إنساني،
وإنما يخشى الإثم والحرج في اختلاف الدول الكبرى في القسمة اختلافًا
يُضْرِمُ نيرانَ الحربِ بينهنَّ.
وأما الجامعة الإسلامية فهي في نظر أوربة أكبر الأنام، وأظهر أمثلة
البغي والعدوان، وأشنع صور التعصب الوحشي؛ لأن المسلمين ميَّالون
إلى الحرب والاستيلاء على الممالك وهذه تجارة خاصة بأوربة يجب عليها
احتكارها.
صَوَّرُوا الجامعة الإسلامية بتلك الصور الشنيعة المشوهة، وتفننوا ما
شاءت بلاغتهم في هجومها وذمها، ووصف مضارها ومفاسدها، حتى
نفروا قومهم منها، ومن المسلمين الذين يتهمونهم بها، بل نفروا المسلمين
أنفسهم منها بضربين من ضروب التنفير أحدهما: تهديدهم بأن أوربة
تسومهم سوء العذاب إذا هي أنست منهم عملاً ما لهذه الجامعة، وثانيهما:
أنها أحدثت لهم جنسيات جديدة، وأحدثت لهم أماني واعتقادات بأنه يمكن
لكل جنس منهم أن يستقل بنفسه، ويكون له دولة عزيزة ممدنة، إذا هو
انسلخ من الجنسية الإسلامية، ونهض بجنسية النسب أو اللغة معًا أو
أحدهما فقط، فكون الترك دولة تركية فقط، والفرس دولة فارسية فقط،
والمصريون دولة مصرية فقط، والسودانيون دولة سودانية فقط بشرط أن
تكون هذه الجنسية بمعزل عن الدين لا شِيَة فيها، وحينئذٍ يجد أهلها من
مساعدة أوربة عاشقة الإنسانية وعدوة التعصب الديني ما يبلغهم أمنيتهم من
هذا الاستقلال.
من عجائب تصرف العلم في الجهل أن وساوس أوربة تروج في
سوق المستمسكين بكل ما يعتقدون أو يظنون أو يتوهمون أنه من الدين،
المبغضين الماقتين لكل ما عليه الأوربيون كما تروج في سوق المتفرنجين
الذين زلزلت التعاليم الأوربية الناقصة عقائدهم وجميع مقوماتهم
ومشخصاتهم الملية؛ بل هي في سوق أولئك المتعصبين لعقائدهم وتقاليدهم
أشد رواجًا وأقبح تأثيرًا.
تعبث أوربة بجميع الشرقيين وتلعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة،
فهم ألعوبة بين يديها، حتى في حال مقاومتهم لها؛ لأن من المقاومة ما لا
بد منه فهي تمهد لهم سبيله، كمقاومة أهل المغرب الأقصى لفرنسة في تلك
المدة القصيرة، هي التي حركتهم للثورة، وهي التي دفعتهم إلى المقاومة؛
لأن الطريقة التي رسمتها للاستيلاء على بلادهم وأعناقهم لا تتم إلا بذلك،
وكم لها من أمثال هذه الوسائل؛ ولكن من تستعملهم فيها لا يدرون كُنْهَ
عَمَلِهِمْ ولا غايتَه ولا يعرفون مَنْ هم الدافعون لهم إليها، ولا أنهم يبخعون
أنفسهم بها (ينتحرون) .
إن المسألة الشرقية حقيقة لا ريب فيها، ومن عجائب غفلة المسلمين
أنهم لا يزالون كالأطفال يدركون الجزئيات عندما تتصل بإحدى حواسهم
ولا يفطنون للكليات التي تندرج هي تحتها ليدركوا كل ما هو محيط بهم
من المصائب والأخطار، حتى إن أوربة تتجادل في قسمة ممالكهم وهم
يسمعون تحاورَها في جدالها، ويكتبون بعضَ أخبارِها في جرائدهم،
وتلوكها ألسنتهم في مجالسهم، ولا ينتقلون من كل جزئية منها إلى الأمر الكلي
الحامل عليها وهو إزالة ما بقي من ملكهم، والاتفاق على قسمة سائر تراث
أجدادهم، وهو ما يسمى بالمسألة الشرقية، فهم يعدون مسألة طرابلس الغرب مسألة
جزئية سببها طمع إيطالية وغرورها، وإقدامها على نكث قتل المعاهدات ونسخ
أصول حقوق الدول، وليس الذنب ذنب إيطالية وحدها، وإنَّما هو عمل أوربة كلها
بدليل إقرارها إياها عليه، وعدم إجابة الدول نداء الدولة العلية إذ استصرختهن
لحماية القوانين والعهود والمواثيق.
لو أن مثل هذا العدوان وقع من الدولة العلية على بعض حكومات
البلقان لقامت قيامة أوربة كلها، وجهزت أساطيلها، وصاحت جرائدها
على اختلاف لغاتها يجب على دول المدنية أن تطهر الأرض من هذه
الدولة الإسلامية الباغية العادية المتعصبة المتوحشة حفظًا للعهود والقوانين
التي يرعاها البشر، ولا يتعدى حدودَها إلا الهمجُ والمتوحشون.
قلت: إن الجامعة الإسلامية مسألة خيالية، وها نحن أولاء نرى
الذين يتهمون المسلمين بها؛ لأجل تنفيرهم عن التوجه إليها، لا يعدون
لهم عملاً ما في سبيلها، وإنما يؤاخذوننا كلنا إذا كتب كاتب منَّا مقالة ذكر فيها
حكومة إسلامية أو بلادًا إسلامية بما يدل على أنه يكره لها الشر، ويحب
لها الخير، كما كانت الجرائد الأوربية هنا تنكر على بعض الجرائد
الإسلامية إلى عهد قريب استنكار نكث فرنسة لمعاهدة الجزيرة بالاعتداء
على مملكة المغرب الأقصى وإرسال جنودها لاحتلال مدينة (فاس) ثم
استنكار عمل ألمانية في حملها فرنسة على امتلاك تلك البلاد امتلاكًا تامًّا
بشرط أن تعطيَها بدلاً عمَّا تستحقه فيها بمقتضى قاعدة المسألة الشرقية،
وهي أن الدول العظمى هي الوارثة لجميع الممالك الشرقية التي تسقطها.
لا يزال يرن في آذاننا صوت تلك الجرائد التي قامت اليوم تتعصب
لإيطالية الباغية على الدولة العثمانية التي بغي عليها، كانت تقول: إنه لا حق
لمسلم في إظهار الشفقة على مملكة مراكش لأنها ليست وطنه فشفقته إذًا
من التعصب الإسلامي المذموم ومن دلائل الميل إلى الجامعة الإسلامية
الممقوتة، وأمَّا تعصب الجرائد الفرنسية والإنكليزية التي تصدر في بلادنا،
لإيطالية الباغية علينا، فهو محمود مشكور وإن لم تكن وطنها لأن التعصب فرض
عليهم ومحرم علينا.
أعجب من هذا أن هذه الجرائد المتعصبة لا تستحي الآن من ذم
المصريين ورميهم بالتعصب لاستنكارهم بغي إيطالية على دولتهم التي
يخفق علمُها فوق رؤوسِهم، ويخطب باسم سلطانها على منابرهم،
وعطفهم على إخوتهم في الدين والعثمانية واللغة، وجيرانهم المتصلين بهم
في الوطن من أهل طرابلس، فمن المنكر العظيم في مدنية أوربة التي تلقي
دروسَها علينا هذه الجرائد أن نتألم لتدمير إيطالية لبلادنا، وسفكها لدماء
إخواننا، وأن نستنكر همجيتها ووحشيتها ونهتم لتخفيف المصائب عن
أولئك الجيران الذين لم يقترفوا ذنبًا تحكم به أوربة عليهم بهدم وطنهم على
رءوسهم! ! أما آن لنا أن نفهم ونعقل ونتدبر هذه الدروس؟ !
قال حكيمُنا: (الناسُ من خوف الذل في الذل) وقد ذللنا حتى إنه
يساء إلينا ونؤمر بالشكر، فإلى متى يَقْذِفُونَ في قلوبنا الرعبَ والخوفَ من
لفظ التعصبِ الذي نجد معنَاه عندهم ولا نجده عندنا، وإنما يخافون أن
نستفيد منه الاتحاد والتكافل كما استفادوا.
إلى متى يقذف في قلوبنا الرعب والخوف من لفظ (الجامعة الإسلامية)
التي نرى مثلها عندهم مشاهدًا محسوسًا بالاتفاق على حل المسألة الشرقية، ولا
نرى لذلك المعنى أثرًا في شعب من شعوبِنا، ولا في قطر من أقطارنا، أنخاف
من سطوتهم أن تفتك بنا بأكثر من البغي باغتصاب بلادنا عنوة واقتدارًا
ليضربوا علينا الذلة والمسكنة إلى الأبد؟ يذبحوننا ويأكلوننا، ويمنُّون
علينا بعد ذلك بأنهم يمدنوننا، لا كانت هذه المدنية ولا كان الراغبون فيها
والناشرون لها.
أراد رجل من المغرب الأقصى أن يُرْسِلَ ولدَه إلى بيروت لِيَتَعَلَّمَ فِيَها،
قبل نزول البلاء عليها باحتلال فرنسة لها، فأنذره الفرنسيون سوءَ عاقبةِ
تعليمِهِ في بيروت وقالوا له: إننا سنملك هذه البلاد فيحرم ولدك من كل
شيء فيها إذا لم تعلمه في مدارسنا، فقال: إن مدارسكم لا تعلمه لغته ولا
دينه وهما أهم ما أريد أن أعلمه إياه، إنه لا يوجد أحدٌ من أهل المغرب
الأقصى يأمن على ما يرسل إليه من خارجه في البريد الفرنسي؛ لأنه يعلم
أنه لا يصل إليه إلا بعد أن يطَّلعَ عليه المفتشون ويرون أنه ليس فيه ما لا
يُحِبُّون أن يقفَ عليه، وسيكون أهلُ تلك المملكةِ عن قريبٍ محرومين من
كل ما لا تريده فرنسةُ لهم، وهذا أهون ما في هذه المدنية.
أنا لا أدعو بهذا إلا إلى شيءٍ واحدٍ، وهو أن نعرفَ أنفسنا، ونعرف
ما حولنا وما يحيق بنا؛ لنكون على بصيرة من أمر هذا البلاء الذي أنذرنا
به بغي إيطالية علينا باتفاق أوربة وإقرارها، ونفهم كنه المسألة الشرقية
قبل أن يتم حل عقدتها، وتنفيذ المقصد منها، ونفهم سرَّ تهديدِنا بلفظ
التعصب ولفظ الجامعة الإسلامية اللَّذَيْنِ هما من الألفاظ المهملة التي لا
معنى لها عندنا.
إن مسلمي المغرب الأقصى كانوا عونًا لفرنسة على فتح الجزائر،
وهي الآن قد احتلت مملكة المغرب بقوة مسلمي الجزائر، فهل كان هذا
من التعصب الإسلامي وفروع الجامعة الإسلامية؟ !
احتلت فرنسة تونس واستولت عليها وهي محاطة بالمسلمين من كل
جانب فهل عارضها أحد من المسلمين أو قاتلها عليها؟ فأين التعصب
الإسلامي والجامعة الإسلامية؟ !
أراد إسماعيل باشا أن يجعل بلاد مصر مملكة أوربية؛ فاعتمد على
أوربة وتدهور في الحفرة التي حفرتها، ولم يمنع ذلك خلفه من الثقة
بأوربة ودعوتها إلى حفظ أريكته من ثائري رعيته، فهل هذا من التعصب الإسلامي
والعمل بالجامعة الإسلامية؟
فصلت إنكلترة مملكة السودان من أختها مملكة مصر ثم فتحتها بجنود
المصريين وأموالهم وهم وادعون ساكنون، لا يكادون يعترضون إلا
على الاستمرار على أخذِ أموال مصر للسودان، مع الاجتهاد بقطع كل
علاقة للسودانيين بمصر وللمصريين بالسودان، ولا يزال الإنكليز يفتحون
بالجيش المصري كل ما أرادوا من السودان، وحفظ كل ما أرادوا حفظه
من بلاد السودان، وكل مصري يعرف أنه لا حظ لبلاده من ذلك، وها
نحن أولاء نرى وفودهم تغشى دار الوكالة الإنكليزية كل يوم لتهنئة فاتح
السودان بتولي إدارة الأعمال في مصر، يأتون هذا في الوقت الذي أحسوا
فيه بالخطر على دولتهم صاحبة السيادة الرسمية والشرعية عليهم، مع
علمهم بأن إنكلترة قطب الرحى في هذا الخطر ولو شاءت لأزالته، فهل
يتوسلون بهذا إلى نَيْل مساعدتها للدولة أم هذا من التعصب الإسلامي
والعمل للجامعة الإسلامية؟
ما هي القوة التي تمد فرنسة بها سلطتها في أحشاء أفريقية وتحفظ بها
ما تستولي عليه وتحفظ به تجارتها؟ أليست من أهالي البلاد المسلمين ليس
معهم إلا عدد قليل من الضباط البيض؟ ما هي قوة إيطالية المستولية بها
على مصوع والتي تطمع بها أن تضم إلى مستعمراتها الأفريقية بلاد اليمن
كلها أو بعضها؟ أليس معظمها من المسلمين، يسوسهم ويسيرهم عدد قليل
من الإيطاليين؟ لو كان هناك تعصب إسلامي أو عمل للجامعة الإسلامية
في الآستانة أو مصر أو الهند أو ما دون هذه البلاد الراقية من بلاد المسلمين، أما
كان يكون منه إرسال المحرضين على هؤلاء الأفراد من الأوربيين الذين
يستعبدون الملايين من المسلمين؟ ما كان شيء من ذلك ولا نعلم أحدًا فكر
في تكوينه، ولم يستطع الأوربيون أن يجدوا شبهة على ذلك يلصقونها بمسلم،
فأين التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية؟
ولو شئت لرجعت إلى تاريخِ الشرقِ وذكرتَ اتفاقَ العثمانيين مع
أعدائهِمْ الروس على اقتسام البلاد الإيرانية عندما تغلب الأفغانيون على
أصفهان في عهد (شاه سلطان حسين) ومحاربتهم للإيرانيين من طريق
بايزيد عندما كان (عباس ميرزا) يدافع الروسية عن بلاده، ثم مكافأة
إيران العثمانيين بمساعدة الروسية عليهم في حربها لهم، فهل هذا من
التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية؟
كان سلطان ميسور (تيبو سلطان) أرسل سفيرًا إلى الدولة العثمانية
يعرض عليها احتلال بلاده لصد إنكلترة عنها فردته خائبًا، ولو أجابته
لهان عليها أن تملك بلاد الهند بلا مشقة ولا عناء.
وإن شاه إيران (فتح علي) أنذر الأفغانيين بالحرب مساعدة للإنكليز عندما
أراد الأفغانيون الزحف على الهند، وإن أمير الأفغان (دوست محمد خان) نكث
عهد (رنجت سنك) صاحب بنجاب ومحالفته على صد الإنكليز، ولولا ذلك
لما ظفر الإنكليز بجيش (رنجت) وأخذوا تلك المملكة بتلك السهولة، كذلك
أمراء البنغالة والكرنانك ولكنهو قد مهدوا للإنكليز السبيل إلى الاستيلاء
على السلطنة التيمورية في الهند فهل كان كل ذلك من التعصب الإسلامي، ومبادئ
العمل للجامعة الإسلامية.
وإذا تحولنا عن الهند إلى الممالك الإسلامية التي استولت عليها
الروسية نراها كلها كانت متخاذلة يشمت بعضها ببعض، فقد سر أهل
بخارى باستيلاء تلك الدولة على بلاد التركمان وخوقند وقابلها هؤلاء
بالمثل عندما استولت عليها هي أيضًا، ولم نر أحدًا من هؤلاء المسلمين
ساعد الآخر على صد الأجنبي عن بلاده، فأين تجدون لنا في التاريخ
الإسلامي جرثومة من جراثيم التعصب النافع لنا أو الضار بكم، وأين
تجدون الدليل على ما سمَّيْتُمُوهُ الجامعة الإسلامية؟ هل اتحد ملوك
المسلمين في الماضي على محاربة النصارى كما اتحد ملوك أوربة على
المسلمين في الحروب الصليبية؟ أو كما اتحدت دولها الآن في المسألة الشرقية؟
إلى متى هذا الغش والتغرير، والسخرية من هؤلاء المسلمين المتخاذلين
المتقاطعين؟ ! !
هذا نذير من النذر الأولى، وهذا نذير من النذر الآخرة، وإن أمامنا
خطرًا كبيرًا فيجب أن ندرك كنهه، وأن نبحث عن مستقبلنا مع الباغين
المعتدين، وإلا ضاع كلُّ شيءٍ وصرنا أذل البشر، وصعب علينا مع هذا
الاتحاد العام علينا أن نرتقي عن طبقة العبيد الأذِلاء، وأول درس عملي
يجب أن نقوم به هو بذل المال لمساعدة طرابلس الغرب على نكبتها، وأن
نستفيد بذلك كيف يكون التكافل والتعاون بيننا.
وإذا كنَّا لم نهتدِ لكل ما أصابنا فيما مضى إلى العمل للجامعة
الإسلامية التي نصون بها أنفسنا ونكون أمة عزيزة فعسى أن تكون
الكارثة الحاضرة مبدأ هذه الهداية، وتكون إيطالية المغرورة هي الملجئة
إلى وضع الحجر الأول في هذا البناء الشريف الذي يوقف بغي أوربة عند
حدِّه ويعيد إلى الشرق أفضل ما سُلِبَ من مجدِه، وقد قال حكماؤنا في
أمثالِهم: الشيءُ إذا جاوزَ حدَّه، جاوزَ ضدَّه، وإلى الله المصير.
* * *
(5)
ما يجب على العثمانيين المختلفين في اللغة والدين
إن وثوب إيطالية على طرابلس كما يثب الذئب الجائع على الشاة
وتأييد كل من حليفتيها ومن دول الاتفاق الثلاثي لها على عدوانها على ما
بين الفريقين من الخلاف والنزاع برهانٌ قاطعٌ على أنهم يريدون بذلك حل
المسألة الشرقية حلاًّ حاسمًا (إن أمكنَ) وإنه ليس عند أحدٍ من تلك الدول عاطفة
رحمة أو إنسانية أو نزعة عدل أو حق تحملها على كف عادية الظلم،
وإطفاء نائرة البغي، فهن في أرقى وأعلى مدنيتهن التي يسمونها مسيحية أشد قسوة
وأشوه وحشية من أهل البوادي والقِفَار، وأين هم من العرب في جاهليتهم
وأدنى أحوالهم الذين عقدوا حلف الفضول على أن لا يدعوا ظالمًا إلا كفوه عن
ظلمه، ولا مظلومًا إلا أعانوه على حقه، وهن على هذا البغي والوحشية
والهمجية لا يخجلن من حمل قوسٍ بلادهم وكتابها وأساتذتها على مفاخرةِ
الإسلامِ بدينِهم ومدنيتِهم وآدابِهم وفضائِلِهم، أعاذ الله الشرق منهم ومن شر
قوتهم التي يدعون بها كل تلك الدعاوى الكاذبة الخادعة، وأكذبها دعوى
الانتساب إلى دين المسيح عليه الصلاة والسلام.
إن هؤلاء الوحوش الضواري ليس لهم دين إلا الدينار والنار والبارود
والديناميت التي هي وسائل اللذات والشهوات والكبر والفخر والخيلاء، ألا
ترى إلى ملك إيطالية كيف ملأ ماضغيه فخرًا ببغي دولته وعدوانها
الوحشي، وقال: إنه يريد أن يري أوربة عظمتها وقوتها في حرب طرابلس،
لتقر عينها ويسر قلبها ببغي كثرتها على قلة العثمانيين هنالك؟ ولا يخفى
على أحد قرأ الإنجيل وعرف سيرة المسيحيين الأولِيِنَ قبل أن تشوِّه أوربة
الديانةَ المسيحيةَ وتقلِّب أوضاعَها بأن المسيح ما أمر بالبغي والعدوان وسفكِ دماءِ
الأبرياء، وهو ما تفاخر به أوربة، وإنما أمر بالرحمة والرأفة ومحبة الأعداء
المبغضين، ومباركة السابِّيِنَ اللاعِنين، وأنه يجب على المسيحي أن يديرَ خدَّه
الأَيْسَرَ لمن ضربَه على خدِّه الأيمن.
إذا كان أولئك السياسيون السفاكون للدماء، الشديدو الضراوة بتمزيق
الأشلاء أعداء للإسلام باعتدائهم على أهله، فهم أشد عداوة للمسيحية
الحقيقية بقلبهم لوضعها، وتغييرهم لطبعها، ونفثهم لسموم التعصب
الذميم فيها، فهم الذين أبادوا من أوربة جميع الوثنيين، باسم المسيح
الرؤوف الرحيم، وهم الذين أكرهوا بالسيف مسلمي الأندلس على
النصرانية أو الجلاء من البلاد باسم المسيح أيضًا، وهم الذين أنشأوا
محكمة التفتيش لتعذيب العلماء والعقلاء الذين يصرِّحون بما تصل إليه
عقولُهم من حقائق العلوم باسم المسيح أيضًا، وهم الذين أجْرَوا الدماءَ
أنهارًا لاختلاف المذهب في الدين الواحد كما أجْرَوْهَا أنهارًا من قبل
باختلاف الدين، ولا يزالون يضطهدون اليهودَ والمسلمين في بعض البلاد،
ويمنعون الكاثوليك من احتفالاتهم الدينية في إنكلترا.
ثم لما صارت الغلبة للماديين منهم لم يتركوا تلويث المسيحية بقسوتهم
التي ورثوها عن أجدادهم الرومانيين فكانوا إلى هذا العصر يغشون
المتدينين من شعوبهم بأنهم يريدون باعتدائهم على الدولة العثمانية إنقاذ
رعاياها المسيحيين من ظلم المسلمين، والإدالة للصليب من الهلال، حتى
إن الإيطاليين سالبي سلطة البابا عميد الدين الأكبر - ولا يقاس بهذا
تعديهم على الأحباش المخالفين لهم في المذهب - قد أخذوا من أحد
رؤساء الدين (مطران كريمونا) منشورًا يدعو فيه الإيطاليين إلى حرب
المسلمين في طرابلس الغرب ويثبت لهم مشروعيتها باسم المسيح، وقد
جعلت إحدى الجرائد المسيحية بمصر عنوان هذا الخبر كلمة يعزونها إلى
المسيح وهي: ما جئت لألقي سلامًا على الأرض، وتتمتها كما في إنجيل متَّى
(10: 34) ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا.
وجملة القول أن دول أوربة دول مادية وحشية غلب عليها الكِبْرُ
والعتو والغطرسة، وما الدين المسيحي عندهم إلا آلة سياسية يغشون بها
المتدينين من شعوبهم، ويتوسلون بها إلى العدوان على غيرهم، فإذا هم
غلبوا على بلادٍ جعلوا أهلها كالعبيد والخدم لهم ولا يرضون أن يساويهم أحد من أهل
الأرض في الحقوق ولا في غير الحقوق؛ بل يترفع الإنكليزي من
أدنى الطبقات عن الركوب في السكة الحديدية مع أشرف الهنود مَحْتَدًّا،
وأعلاهم أدبًا، وأوسعهم ثروةً، على أن الإنكليز أقرب من سائر الأوربيين
إلى حب الحرية والعدل، وهذا الكبر والعتو لم يُعْهَدَا في شعب من شعوب
الشرق؛ حتى في طور البداوة والجهل.
يصف ملطبرون وغيره من مؤرخي أوربة الترك بالكبر والقسوة،
وقد مضى على الترك عدةُ قرونٍ وهم أقوى دول الأرض بأسًا، ولم يفعلوا
في زمن جهلهم ما فعلته أوربة من التعصب الفاحش بإكراه الناس على ترك
أديانهم أو مذاهبهم لاتباع دينها ومذهبها؛ بل ترى هذه الدولة العثمانية ما
زالت أوسع حرية منهم وأشد تساهلاً حتى في هذا العصر الذي بلغوا فيه
أَوْجَ الحرية والمدنية والدليل على ذلك وجود الملل الكثيرة والنحل المتعددة
في بلادها إلى اليوم، وهي الآن قد جعلت حكومتها مشتركة بين المسلمين
وغيرهم من أهل تلك الملل الكثيرة، ولم تكلفهم ما تكلف فرنسة أهل
الجزائر وغيرهم من شروط الجنسية الفرنسية؛ وهي أن يخالفوا اعتقادهم
الديني ويخونوا ضمائرهم بترك أحكام الإسلام في النكاح والطلاق
والميراث وغير ذلك من الأحكام.
إن كثيرًا من جهلة المسيحيين الشرقيين مغرورون بمسيحية أوربة،
فهم يظنون أن الدول الأوربية إذا استولت على البلاد العثمانية تكون خيرًا
لهم من الدولة العلية فتساويهم بالأوربيين في الحقوق ورتب الشرف بحيث
لا يكون بين الفريقين فرق، والدولة العثمانية لَمَّا تصل في المساواة بين
المسلم وغير المسلم إلى هذا الحد، ويخالف أولئك الأغرار في ظنهم هذا
جميع أهل العلم من نصارى الشرق الذين عاشروا الأوربيين واختبروهم،
والذين عملوا معهم حتى في مصر والسودان؛ وهما القطران اللذان قضت
حالتهما السياسية والاجتماعية الممتازة وموقعهما الجغرافي أن يكون
الإنكليز فيهما خيرًا منهم أنفسهم في زنجبار؛ بل وفي الهند، يشهد هؤلاء
أن الإنكليزي المرءوس يرى نفسه فوق رئيسه المصري أو السوري
(الذي ما كان رئيسًا له إلا لأنه أرقى منه علمًا وخبرا في العمل المشترك
بينهما) ، وإن كان هذا الرئيس على دينه ومذهبه، فهو يرى نفسه فوق
كلِّ شرقي لأنه إنكليزي، وهكذا شأن جميع الأوربيين مع جميع الشرقيين،
والإنكليز أحسن أخلاقًا ومعاملة من سائر الأوربيين.
ألا فَلْيَعْلَمْ كلُّ نصراني عثماني أنه إذا وقعت بلادُه تحت سلطةِ دولةٍ
أوربية فقد حرم من حقيقة السلطة وشرف الرياسة وعزة الحكم التي يرجى
أن يكون له منها النصيب الوافر ببقاء الدولة العثمانية دستورية، ولا يذهب
بهذا الرجاء من قلوب غير الترك من العثمانيين ما عرفوا من تعصب
زعماء جمعية الاتحاد والترقي لجنسهم، ومحاولتهم تمييزه على جميع
الأجناس، فإن هذا من الغرور الذي يزول بزوال أولئك الزعماء أو بزوال
نفوذهم العارض أو برجوعهم عنه، وقد زعم صاحب جريدة طنين وهو
لسان حالهم أنهم قد رجعوا عن سياسة تتريك العناصر، فإن كان مخادعًا فسيذهب
الزمان بخداعه، وستؤول حكومة هذه الدولة إلى ما يسمونه اللامركزية
حتمًا؛ إذ لا بقاء لها بغير ذلك إذا هي سَلِمَتْ من بغي أوربة وعدوانها.
فعلينا أيها الإخوان في الوطن والعثمانية أن نمحوَ من أذهاننا وساوسَ
أوربة التي بثَّتْها في بلادنا وفَرَّقَتْ بها كلمتَنا، وأن نكون إلبًا واحدًا على
من يعاديها، ويدًا واحدة في القيام بكل ما يحفظ كيانها ويرقيها، وأن نستفيد من تعلق
قلوب المسلمين غير العثمانيين بها، ونشكر لهم إخلاصهَم لها، علينا أن نظهر
لها في هذه الشدة كل ما نستطيعه من المساعدة بأموالنا وأقوالنا وأفعالنا وشعورنا،
وأن لا نؤاخذها بما ظهر من سوء سياسة بعض رجالها، فإننا إذا جمعنا
كلمتنا على مساعدتها في هذه الأزمة نكون أقوياء بعدها على إحباط كل سعي لأولئك
المسيئين أو لغيرهم بقوة وحدتنا وظهور إخلاصنا الذي يقطع ألسنتهم؛ فلا
يستطيعون أن يتبجَّحوا باحتكار الوطنية العثمانية ورمي غيرهم بالتعصب
للدين أو الجنسية.
هذا ما أُذَكِّرُ به أبناءَ الدولة العلية المخالفين لها في الدين، وأما
أبناؤها المخالفون لأسرة السلطنة في اللغة فقط فلا أراهم يحتاجون إلى
التذكير بوجوب الاتحاد والتعاون على نصرها وتأييدها، وموالاة من
والاها، ومعاداة من عاداها.
أين سروات الألبان ورؤساء عشائر الأكراد، وأمراء العرب الأنجاد،
هذا وقت النجدة، هذا وقت الوحدة؛ {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ
قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة: 38-39) .
اعلموا أن أوربة لا تبقي على أحد منكم، وإذا ساغت لها لقمة
طرابلس الغرب فستكون ألبانيا لقمة للنمسة، وبلاد الأكراد لقمة للروسية،
واليمن كالخليج الفارسي لقمة لإنكلترة، أو مشتركة بينها وبين إيطالية،
وأما سورية فيقال إن إنكلترة لا ترضى إلا بجعلها فاصلة بين مصر وبين
الأناطول الذي هو حصة ألمانيا حبيبة الترك، وذلك بأن تكون مستقلة
تحت حماية الدول الكبرى كلها ويكون حاكمها العام أوربيًّا.
هكذا قد اقتسموا البلاد ولا يقيها من تنفيذ القسمة إلا نجدتكم واتحادكم
واستعدادكم بالفعل للذود عن بلادكم، فوالله لئن ظفروا ببغيتهم ليجردن بلادكم كلها
من السلاح، وليتحدن على أن لا يبيعوكم بعد ذلك سلاحًا، ولا يدعوكم
تعملون ولا تتعلمون كيف تعملون، وليسومنكم سوء العذاب، وليحرمنكم
من السلطة والثروة، وليسلطن عليكم قسوسهم ومقامريهم وخماريهم
وبغاياهم ليفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وصحتكم وآدابكم.
أين أنت يا أمير مكة وسيد الشرفاء، أين أنت يا إمام اليمن يا ذا
النجدة والإباء، أين أنتم يا أمراء نجد الأمجاد، أين أنت يا صاحب كويت،
أين أنت يا ابن سعود، أين أنت يا ابن الرشيد، ألا يدعو بعضُكم بعضًا إلى
الاجتماع والتعاون على نصرة الدولة، ألا يجب أن تزحفوا على مصوع
والأرتيرة، ألا تبذلون المال والنفس في هذه الشدة؟
وأنتم يا علماء النجف وكربلاء وإيران، هذا أوان يجب عليكم من خدمة الإسلام
هذا أوان شد أَوَاخِي أُخُوَّةِ الإيمان، والتعاون على حفظ ما بقي له من
الاستقلال، عليكم بما لكم من النفوذ الروحي أن تستلوا من نفوس المتفرنجين نزغة
الجنسية الجاهلية، وأن تجذبوا الأمة الفارسية إلى الأمة العثمانية، كلا إن
الأمة واحدة؛ ولكن فَرَّقَتْها الأهواءُ، وهذا أوانُ جمعِ المُتفرِّق ولَمّ الشتاتِ.
وأنت أيتها الآستانة أما آن لك أن تعلمي أن حمل هؤلاء كلهم للسلاح
خير لك من جمعه منهم، وأن تعلميهم النظام العسكري خير لك من جهلهم
به؟ ! أصلحي ما أفسده المتفرنجون الملحدون، فبالإسلام تجعلين ملايين
من أولئك الليوث فداءً لاستقلالك، كما نصحنا لك إذ كنا في جوارك، وقبل
ذلك وبعد ذلك.
... ... ... ... ... ... ... في 21 شوال سنة 1329
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(14/833)
الكاتب: محمود ناجي وصادق
__________
مقدمات الحرب
في طرابلس الغرب
لمَّا أُعْلِنَتِ الحرب بتلك الصورة المنكرة، وظهر أن الدول الكبرى موافقة
لإيطالية عليها بادرنا إلى نشر مقالات (المسألة الشرقية) في المؤيد لننذر المسلمين
والشرقيين عامة إلى الخطر الأوربي الذي أوشك أن يقضي على الشرق الأدنى كله،
معتقدين أن هذا الإنذار قد يصد بإيقاظ المسلمين هذا التيار، ويحصر شر الحرب في
طرابلس الغرب، ثم كانت إيطالية عونًا لنا بسوء تصرفها على تنفير أوربة منا،
وعطف أكثر جرائدها علينا، بعد ما كان من فظائع الجيش الإيطالي بقتل النساء
والشيوخ والأطفال من العرب؛ فلهذا كففنا عن التنديد بأوربة كلها.
ثم إننا نشرنا في الجزء الماضي إنذار إيطالية الأول للدولة العلية
وجواب الدولة عنه، وسننشر بعد ذلك ما ينبغي حفظه من تاريخ هذه الحرب
وقد نشر بعض الذين كانوا موظفين في طرابلس قبل الحرب مقالةً في المؤيد
بَيَّن فيها مقدماتِها وأسبابها، فرأيْنَا أن ننشرها في المنار وها هي هذه؛ قال:
يعلم كل من له أقل عناية بتتبع سياسة إيطاليا في طرابلس الغرب أن هذه
الحكومة ما زالت موجهة نظرها وأملها إلى هذه الولاية منذ خمسة وعشرين عامًا أو
أكثر قصد الاستيلاء عليها بالسلم أو بالحرب لما لإيالة طرابلس من الأهمية الكبرى
لاحتوائها على معادن شتَّى؛ ولأن سعتها تبلغ ثلاثة أضعاف سعة البلاد الإيطالية
من أعلاها إلى أدناها.
وكانت إيطاليا تحاذر أن تتعرض للاستيلاء على طرابلس الغرب
بالقوة الحربية، مع ما تعلمه من انقطاع هذه الولاية عن عاصمة الملك
العثماني، وبعدها عنها وعن سائر بلاد السلطنة وضعف القوة البحرية
العثمانية؛ لأنها كانت ترى أن استيلائها على طرابلس لم يكن يوافق
مصلحة إنكلترا وفرنسا لأسباب لا حاجة الآن إلى شرحها.
ولهذا طرقت للوصول إلى هذا الأمل مسالك أخرى فنصبت لذلك من
مدارسها فخًّا أولاً؛ إذ أسست في طرابلس الغرب مدارسَ إيطالية كثيرة
واختصت للإنفاق عليها الألوف من أموال خزينتها قاصدةً بذلك أن تشيعَ
اللغةَ الإيطالية بين عربِ طرابلسَ، وتُؤَلِّفَ قلوبَ الأطفال والناشئة.
ولقد أدرك وزيرُنا الغيورُ المرحوم أحمد راسم باشا يوم كان واليًا
على طرابلس ما ترمي إليه إيطاليا من هذا العمل؛ فجعل يقاومه بالوسائل المشروعة
وينبه الأهالي إلى ما عرفه من حقيقة أمر هذه المدارس وأنها لا توافق مصلحة
المسلمين، وكان له من العلماء والمدرسين عضد وساعد على نشر هذه
النصيحة بين الطرابلسيين العثمانيين إلى أن نجح في عمله واتفق الجمهور على
اتقاء هذا الفخ السياسي فلم يكن يوجد في صفوف هذه المدارس غير نفرٍ قليل من
أطفال اليهود الفقراء.
ومهما كانت الحال فإن إيطاليا جَنَتْ شيئًا من ثمارِ هذه المدارس؛
لأن الذين تخرجوا فيها من شبان اليهود صاروا يخابرون غرف التجارة
في إيطاليا ويستجلبون بضائع الإيطاليين ومصنوعاتهم وينشرونها في
طرابلس وينشرون معها اللغة الإيطالية حتى بلغ مقدار الذين يتكلمون
بالإيطالية من الموسويين وبعض المسلمين ثلاثين في المائة من أهل مدينة
طرابلس؛ مع أن الذين يتكلمون بالتركية لا يبلغون خمسة في المائة.
على أن هذا كله لم يقنع أصحابنا الإيطاليين؛ بل زاد في أطماع
حكومتهم، فقامت جرائدهم تنتقد خطبة السنيور (كريسبي) وحزبه قائلة
إن ما أنفق على هذه المدارس كان أعظم من الثمرات التي جائت بها وإن المصلحة
تقضي بإقفالها ما دامت كذلك، أما الحكومة فلم تلتفت إلى أقوال الصحافيين؛
بل أصرت على المثابرة في هذه الخطة وظلت تصرف مرتبات موظفي
هذه المدارس ونفقاتها، ودامت الحال على ذلك إلى أن انعقد مؤتمر
الجزيرة فتقرَّر فيه أن لا تعارض الحكومات الموقعة على صك المؤتمر
شيئًا من المصالح الاقتصادية والسياسية التي للإيطاليين في طرابلس
الغرب، ومن ذلك الحين أسست إيطاليا في طرابلس الغرب فرعًا لبنك (دي
روما) فكان هذا البنك قطب رحى المصائب على هذه الولاية العثمانية
والمصدر لكل دسيسة سياسية، زِدْ على ذلك أن الثلثين من رأس مال (بنك
دي روما) هي لحضرة البابا والثلث الآخر للحكومة الإيطالية.
تأسس هذا البنك فعلاً في طرابلس، ولم تلاحظ في تأسيسه حرمة البلاد
وأحكام قوانينها، وبيان ذلك أن القانون يقضي بأن لا يؤسس مرفق من المرافق
المالية الأجنبية في سلطنة آل عثمان إلا بإرادة سلطانية، وفضلاً عن ذلك فإن
الخاصي والعامي يعلم أن هذا البنك إنما أُسِّسَ لاستملاك الأراضي، واستعمال
الإيطاليين لها، ولإقراض الأهالي بالربا الفاحش، ولاحتكار التجارة في طرابلس،
ولأخذ امتيازات لاستثمار المناجم وإنشاء المرافئ وما أشبه ذلك، ثم إظهار القلاقل
والاختلافات بين الحكومة المحلية والقنصلية الإيطالية التي يعظمها الخيال الإيطالي
بالطبع حتى تصل إلى الآستانة ورومة؛ فتكون منها مسائل يختلقون منها الوسائل
للخطة التي وضعوها لأنفسهم.
كان والي طرابلس الغرب وقائدها في حين تأسيس (بنك دي روما)
ذلك الرجل الكبير المرحوم رجب باشا، فقاوم - رحمه الله - هذا المشروع غير
المشروع بكل قوة لديه طالبًا من مؤسسيه أن يحصلوا على إرادة سلطانية
بتأسيسه أولاً، وفي الوقت نفسه كان يكتب إلى الآستانة مبينًا النتائج
السيئة التي تكون من نجاح الإيطاليين في تأسيس هذا البنك فلم يرض
الإيطاليون بالخضوع لقانون البلاد وأوعزت الآستانة إلى المرحوم رجب
باشا بأن لا يتشدد كثيرًا لئلا يكون سببًا في إحداث مشكلات سياسية.
ولما يئس ذلك الرجل العثماني الحكيم من معاونة الآستانة له
واهتمامها بأمر هذه الولاية البائسة توسَّل بوسائل حكيمة لمقاومة النتائج
بعد عجزه عن مقاومة المقدمات، فصار يتمسَّك بنصوص القانون ما أمكنه
في مسائل بيع الأراضي والعقارات، ويعرقل الحيل والدسائس التي تعمل
لأجل نقلها من ملك العثماني إلى ملك الإيطالي تحت ستار الحيلة، فكلما
أراد أحد أن يبيع قطعة أرض أو عقارًا واشْتَمَّ المرحوم رجب باشا منها
رائحة الإيطاليين دعا صاحبها وبَيَّنَ له الأضرار العظمى التي تلحق
وطنه من بيعها إلى إيطالي، فإذا لم يقنع البائع بحث له عن عثماني يشتري منه
أو جار يضطر البائع إلى تفضيله بحكم الشُفْعَةِ، وإن لم يجد أَوْعَزَ إلى
المجلس البلدي بأن يشتري ذلك ولو كانت قيمته فاحشة، وإذا أخفق سَعْيُهُ
في ذلك وهذا أَمر دائرة (الطابو) بأن تنفذ أحكام القانون بعدم إفراغ تلك الأرض
أو ذلك العقار باسم البنك؛ لأن البنك شخص معنوي، والبيع والشراء
يشترط فيهما الإيجاب والقبول، كل ذلك كان يفعله المرحوم رجب
باشا لئلا يتمكن (بنك دي روما) أو أحد من الإيطاليين من شراء الأراضي
العثمانية واستعمارها.
كانت العوائق المشروعة التي وقف بها والي طرابلس الأسبق في
وجه (بنك دي روما) خير وسيلة ممكنة لعرقلة مساعيه بالرغم عن
الشكاوى الطويلة العريضة من البنك والتهديدات المختلفة الأساليب التي
كان قنصل إيطاليا وحكومة إيطاليا يجيئان بها في كل يوم.
ولما أعلن الدستور العثماني، ثم عين حقي بك (حقي باشا) سفيرًا
للدولة العلية في روما علم بنك دي روما وحكومة إيطاليا أن السكون على
الوسائل التي كان يتخذها رجب باشا ربما عادت مؤيدة بالقانون في زمن
الدستور، وفي ذلك من القضاء على الآمال الإيطالية ما فيه، فأكثر الإيطاليون من
الشِّكَايَةِ واتخذوا حقي بك نصيرًا وآلةً لهم.
ومما كتبه حقي بك في ذلك الحين إلى الباب العالي أن إيطاليا تبذل
جهدَها لمساعدة الحكومة العثمانية، خصوصًا بعد الدستور، ومن الواجب
على الباب العالي أن يتسامح مع بنك دي روما تثبيتًا لأواصر المودة بين
الدولتين وإحكامًا لمباني الحب والصداقة، فأثَّر هذا القول من سفير الدولة في
حكومته المركزية، وأوعز الباب العالي إلى الحكومة المحلية في طرابلس
الغرب بأن تقبل فراغ الأراضي باسم المدير العام لبنك دي روما.
وفي ذلك الحين كان المرحوم رجب باشا قد نقل من ولاية طرابلس
الغرب وعيَّن وزيرًا للحربية العثمانية، وخلفه على طرابلس أمير اللواء
محمد علي سامي باشا؛ وهو رجل جندي لا يعرف شيئًا من شئون الإدارة
وأساليب السياسة، ثم جاء بعده فوزي باشا، وأعقبه حسني باشا، وهؤلاء
الولاة الثلاثة لم يزد مجموع مدتهم في طرابلس على سنتين، وقد وجد
البنك منهم في أثنائها تسهيلات كثيرة وتسامحًا كبيرًا وكانت الجرائد
المحلية وفي مقدمتها (تعميم حريت التركية) و (الترقي) و (أبو قشة)
و (المرصاد) العربية تبين للحكومة والرأي العام مقاصد إيطاليا وأعمالها
وأغراض بنك دي روما، وتصرخ بأعلى صوتها منبهة أولياء الأمور إلى
المصائب المنتظرة التي سيكون البنك المذكور مصدرها وسببها، فلم تجد
هذه الجرائد الصادقة أذنًا صاغيةً من الحكومة ورجالها، ولكنها أثرت في
الرأي العام وصحَّحَت اعتقاده بشأن البنك؛ فصار يعتقد أنه مرفق سياسي
بعد أن كان يحسبه تجاريًّا بَحْتًا ولمَّا شعر مؤسسو البنك أن معاملاته
ستقف بسبب الحملات الصحَافية قام فأسس في طرابلس مطبعة وجريدتين
إيطاليتين؛ إحداهما جريدة (إيكودي تريبولي) والثانية (جريدة استيللا) وصارت
هاتان الجريدتان تدافعان عن البنك ومصالحه وتبثَّان في أذهان الناس أنه
تجاري لا سياسي فلم ينخدع الرأي العام بأضاليلهما.
وفي ولاية حسني باشا قَدِمَ طرابلس رجل من أهل الأرجنتين في
جنوب أمريكا اسمه المستر (كوزمان) فأصدر جريدة سمَّاها (بروجريسو)
وصار يطعن فيها على الحكومة الإيطالية ويُبَيِّنُ مقاصدها في طرابلس
الغرب، ويفضح نيَّة بنك دي روما السيئة، وظل على ذلك مدة شهر
ارتفعت فيها شكوى البنك منه إلى عنان السماء؛ ولكن لم يكن للحكومة
العثمانية وجه لسماع تلك الشكوى.
واتفق أنه جاء إلى طرابلس أيضًا مصور أميريكي من أهل الولايات
المتحدة، وبَيْنَا كان يصور (جامع أحمد باشا) مرَّ من أمامه صبيٌّ صغير
حال بينه وبين الجامع فغضب المصور الأميركي وضرب الطفل.
ولما تداخل البوليس حصل بينه وبين المصور سوء تفاهم فتطاول الأميريكي
على البوليس، وضربه فقبض عليه البوليس باسم القانون وأخذه إلى قسم البوليس
للتحقيق، ومن الغريب أن قنصل أمريكا عَدَّ هذه الحادثة إهانة للأميركي (!) وطلب
من حسني باشا ترضيتَه؛ فأجابه حسني باشا إليها وطرد البوليس من خدمة الحكومة
بمراسم علنية وبحضور كثير من الأجانب.
فلما علم قنصل إيطاليا بطرد البوليس من خدمة الحكومة بصورة غير
قانونية عاد فطلب نفي محرر جريدة (البروجريسو) بصورة غير قانونية
أيضًا استنادًا على العمل السابق من الوالي في مسألة الأميركي والبوليس،
أما حسني باشا فقد أجاب قنصل إيطاليا أيضًا إلى طلبه ونفى المستر
كوزمان بصورة استبدادية استاء لها جميع العثمانيين من أهل طرابلس
وضَحِكَ منها الكثيرون من الأجانب، وهي حادثة مؤسفة في الحقيقة
لحدوثها في زمن إدارة دستورية.
كانت حادثة إخراج الصحافي الأرجنتيني فوزًا كبيرًا للسياسة
الإيطالية في طرابلس الغرب عقدت لها الصحف الإيطالية فصول الابتهاج
والسرور، وامتلأ بها قنصل إيطاليا غرورًا وزهوًا وخُيَلاَءَ، فأصدر أمرًا
تحريريًّا إلى الصحف والمطبعة الإيطالية التي في طرابلس بأن لا تلاحظ
بعد الآن قانون المطبوعات العثماني، وما عليها إلا أن تراعي القانون
الإيطالي فقط معلنًا بذلك لحكومته أنَّه فتح لها في طرابلس فتحًا جديدًا،
ووالينا حسني باشا ظلَّ محافظًا على راحته ووظيفته ساكنًا عن كل إهانة
واعتداء وخيانة تلحق بالوطن العزيز.
فاتني أن أُطْلِعَ القارئ على أن (بنك دي روما) كان في خلال هذه
المدة قد قَدَّمَ إلى المحاكم العثمانية قضايا على بعض أشخاص فرفضت
المحاكم قبول هذه القضايا؛ لأن البنك لم تتوفر في تأسيسه الشروط
القانونية، وكان سفيرنا في رومية حينئذٍ قد جيء به الآستانة صدرًا أعظم، ووجهت
عليه رتبة الوزارة فصار (حقي باشا) فانتهز (الكفالير برششاني) مدير بنك
دي روما هذه الفرصة السانحة وذهب إلى الآستانة شاكيًا لحقي باشا ما يلاقيه البنك
من مشاكسات المحاكم الطرابلسية له.
فأصدر حقي باشا أمرًا إلى نظارة العدلية ونظارة الخارجية بوجوب
قبول القضايا من بنك دي روما في المحاكم العثمانية، ولا حاجة إلى
الحصول على إرادة سلطانية بشأنه؛ لأن سفراء الدول اعترضوا على
القانون العثماني الموضوع بشأن الشركات والمرافق المالية الأجنبية،
ومنذ ذلك أخذت المحاكم تنظر في قضايا البنك مضطرة غير مختارة.
وفي ولاية حسني باشا أيضًا جاءت طرابلس لجنة فرنسوية مؤلَّفة من
أربعة أشخاص للبحث عن مَنَاجِمِ الفسفاط، ومعها أمر من نظارة الداخلية
العثمانية بوجوب المحافظة على أعضائِها بقوة الجند أثناء بحثهم في
المناجم، فلم يهضم بنك دي روما والإيطاليون هذا الأمر، وقامت جرائد
إيطاليا تحتجُّ على حكومتها لتفريطها في المصالح الإيطالية، وإن قدوم
الفرنسويين إلى طرابلس يمس شرف إيطاليا صاحبة السيادة على هذه
الولاية وعلى معادنها بالطبع.
ثم جاءت لجنة أمريكية إلى بني غازي للبحث عن الآثار القديمة؛
فقامت قيامة الصحف الإيطالية أيضًا، وأصرت على مطالبة حكومتها بمنع
هذه الاعتداءات وإعلان سيادة إيطاليا على طرابلس وإجبار الحكومة
العثمانية على إخراج اللجنتين المذكورتين.
وكانت الجرائد المحلية تدافعَ عن حقوق العثمانيين وتُصَرِّح بأن
الحكومة العثمانية حرةٌ في منحِ الامتيازات لمن أرادت فزادت هذه
الكتابات في استياء الإيطاليين، وصارت صحفهم تتهدد حكومتنا
بالاستيلاء على طرابلس الغرب، وبإرسال أساطيلها إليها واحتلالها،
فصارت حضرة الكاتبة الإفرنسية الفاضلة (مادام كي دافليين) عقيلة طبيب
الصحة في طرابلس تُفَنِّد مزاعم الصحف الإيطالية وتُصَرِّح بعجز إيطاليا عن
احتلال طرابلس سيَّما في الدور الدستوري، فهاج الإيطاليون وهاجموا
قنصليتهم مطالبين حكومة إيطاليا بعزل زوج مادام كي دافليين وإخراجهما
من البلد، وتعرَّض لها بعضُهم بالأذى في الشوارع، أما هي فلم تكن
تقابلهم إلا بالحزم والعزم ضاحكة من أفعالهم وآرائهم السخيفة، ومن
الأسف أنه لما احتج سفير إيطالية على هذه السيدة الفاضلة لدى الباب العالي
وعده الباب العالي بأن يستبدل بزوجها طبيبًا غيره عند أول فرصة.
وفي بعض الأيام جمع حسني باشا بعض أعيان الولاية وكان صهره
(رحمي بك) مبعوث سلانيك وأحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي
حاضرًا فصار يَحُضُّهُمْ ويُحَرِّضُهُمْ على الاشتراك مع بنك دي روما ومع
تاجرين مصريين كانا في طرابلس، وأن يطلبوا من الحكومة امتيازًا
باستثمار مناجم الفسفاط بالاشتراك مع البنك المذكور فحصل ذلك بالفعل،
وعقدت الشركة رسميًّا وتوجه بعض هؤلاء إلى الآستانة لأخذ الامتيازات
فهاجت الجرائد العثمانية الكبرى لهذا المشروع وشرحت مضارَّه للرأي
العام حتى اضطر الباب العالي إلى عدم منح الامتياز به ورجع أولئك
الأشخاص بالخيبة والخسران.
وجهت ولاية طرابلس الغرب وقيادتها بعد ذلك إلى المشير إبراهيم
أدهم باشا، ولما وصل هذا إلى مقر وظيفته شعر بواجبه الوطني الكبير؛
إذ تحقق الأضرار الحاضرة والمستقبلة التي تنشأ عن ازدياد النفوذ
الإيطالي في طرابلس الغرب، فأجاب نداء ضميره بمقاومة هذا النفوذ
بالوسائل المشروعة وعدم التساهل بما لا يجيز القانون التساهل فيه،
وسعى من جهة ثانية إلى زيادة القوة العسكرية والذخائر الحربية لسببين
كبيرين: الأول ردع الإيطاليين وتقليص فكرة الاستيلاء من رؤوسهم،
والسبب الثاني وجوب تحصين (جنت) وقضاء (غات) وهو الحد
الفاصل بين الأملاك العثمانية وإيالة تونس، وقد وضع - حفظه الله -
خرائط جغرافية وحربية متعددة للأماكن التي تصلح للدفاع أو لحشد الجنود.
أما الحكومة المركزية (وزارة حقي باشا) فكانت مستغرقة في رقادها
مستمرة على سخائها وتساهلها غير مبالية بما يعرضه عليها هذا الشهم
الغيور.
وأول ضربة صدرت من المشير إبراهيم أدهم باشا لبنك دي روما أنه
منع البنك من إخراج الحجارة التي في أرض (قرقارش) وناحية (جنزور)
الملاصقة للحصون العثمانية مستندًا في عمله على القانون الخاص
القاضي بعدم استخراج المعادن الحجرية بدون رخصة من الحكومة،
وكون هذه الأماكن لا يجوز إيجارها أو استئجارها لقربها من الحصون
العسكرية وقانون الطوبجية يحظر مثل هذا العمل.
ولما رأى الإيطاليون هذا الحزم من ذلك المشير العثماني الصادق
هاجت عليه حفائظهم ورفعوا عقائرهم وتطاولت عليه صحفهم بالقذف
والتحقير؛ مع أنه حاكم البلد وقائدها، وهو لا يقابلهم إلا بالتؤدة والسكون،
وكانت الصحف الإيطالية تسميه عدو إيطاليا الأكبر.
وحدث أن بنك دي روما عرض على المشير إبراهيم باشا استعداده
لإنارة المدينة بالكهربائية بدون مقابل لا من الحكومة ولا من المجلس
البلدي؛ وذلك للمودة القديمة بين الحكومة الإيطالية والحكومة العثمانية،
فرفض الوالي هذا الطلب، فازداد غضب الإيطاليين على الوالي وكثرت
شكاواهم منه.
ثم ورد على قنصل إيطاليا تلغراف بأن المستر (كوزمان) صاحب
جريدة (البروجريسو) عزم على العودة إلى طرابلس، ومن الواجب
السعي لدى الحكومة المحلية في منعه من دخول المدينة، ولما راجع
القنصل إبراهيم باشا في الأمر أجابه بأن الحكومة العثمانية اليوم حكومة
دستورية، ولا يمكنها منع أحد من أمر لا يحظره القانون، وقد زال زمن
الإدارة الكيفية، وما فعله حسني باشا مع كوزمان لم يكن عملاً قانونيًّا.
فوصلت الوقاحةُ بالقنصلِ أن أَرْسَلَ من قبله أناسًا يمنعون كوزمان بالقوة
من دخول المدينة. أما الوالي فلم يتعرض للقنصل؛ بل أرسل قوة من
البوليس لكي يمنعوا كل اعتداء من أحد على آخر بدون سبب على الرصيف،
على أن هذا لم يمنع جماعة القنصل من رشق البوليس بأقوالهم البذيئة،
ولكن كوزمان نزل المدينة بدون أن يمسه سوء، وهنا لم يعد الإيطاليون
يفقهون معنى للسكينة والقانون والحق؛ بل جعلوا يصخبون ويضجون
ويملأون الصحف بالشكوى الكاذبة وقام سفير إيطالية في الآستانة يهدد
الباب العالي إذا بقي كوزمان في طرابلس فأوعز الباب العالي إلى
إبراهيم باشا بأن ينفي كوزمان حفظًا لمودة إيطاليا.
ولما أيقن إبراهيم باشا بضعف الحكومة المركزية خاف أن يمس
الشرف العثماني العار، فأرسل إلى كوزمان ليلاً واقترح عليه أن يسافر
وأن يُشِيعَ بين الناس أنه يسافر من تلقاء نفسه لا بأمرٍ من الحكومة، ودفع
له بعضَ نفقاتِ سفره، وفي صباح تلك الليلة سافرَ كوزمان مُعْلِنًا ما قاله
إبراهيم باشا، فلم يشعر أحد بأسرار الحادثة، وكتب إبراهيم باشا إلى
الباب العالي أن كوزمان الذي كتبتم لي بشأنه بحثت عنه عند وصول
أمرِكم فوجدته قد سافر من طرابلس، وبهذا حفظ الوالي العثماني الشرف
العثماني.
وأعقب ذلك أن دفعت القحة سفير إيطاليا إلى مطالبة الباب العالي
بعزل إبراهيم باشا؛ لأنه يعرقل مصالح الإيطاليين في طرابلس الغرب،
وبينما كان حقي باشا الصدر الأعظم وخليل بك ناظر الداخلية على عزم
تنفيذ إشارة سفير إيطاليا اتصل الخبر بالصحف العثمانية فاحتجت على
الباب العالي، وأنذرته خطر هذا العمل الوبيل، وأن ذلك عمل استبدادي
والقانون الأساسي لا يجيز عزلاً بدون محاكمة، فخشي البابُ العالي هياج
الرأي العام كما كان يحسب حسابًا لتهديد السفير فأراد أن يوفق بين
المتناقضين ولذلك أذن للإيطاليين بالبحث عن معادن طرابلس فأرسلوا
لجنة قيل إن أكثرها من أركان الحرب وكبار الضباط الإيطاليين فصارت
تطوف في جميع أنحاء الولاية حتى قضاء (سوكنة) في (فزان) .
وبعد ثلاثة أشهر فقط ورد الأمر من الباب العالي بعزل إبراهيم باشا
بلا سبب ولا محاكمة، فعلم الناس أن سفارة إيطاليا هي التي عزلته، وسافر
هذا وهو يائس، والشعب في كدر، وبقي الدفتردار أحمد بسيم بك وكيلاً
على الولاية.
وبعد خمسة عشر يومًا وصلت أساطيل إيطاليا إلى مياه طرابلس
الغرب وأعلنت الحرب. اهـ.
المنار: هذا نموذج من سياسة وإدارة دولتنا وضعف رجالها وجهلهم،
فالبلاد ما وصلت إلى هذا الخطر إلا بسوء تصرفهم، وما كانت الأمة
لتعقل أو تفهم.
* * *
ترجمة التقرير الذي قدمه مبعوثا طرابلس الغرب
لمجلس المبعوثين وطلبا فيه محاكمة حقي باشا
أيها السادة
إن طرابلس الغرب وبني غازي معرضتان اليوم لخطر عظيم، فقد
حاول بترهما من جسم الوطن المُقَدَّس عدو لا يعرف عدلا ولا إنسانية.
فالوطن العزيز المُقَدَّس يفقد بفقدهما رُبْعَ أملاكِهِ، وتفقد الأمة
العثمانية المبجلة نحو مليوني نسمة من أبنائها، وتضيع الدولة سلطتها في
القارة الأفريقية ويقطع مقام الخلافة المفدى روابطه المادية مع تسعين
مليونًا من المسلمين في تلك القارة.
إن العالم الذي يفتخر بمدنيته وحبه للإنسانية التزم جانب الطاعة
والإذعان في مقابلة ادَّعاء إيطاليا الكاذب؛ إذِ الحقُّ هو القوة في هذا
الزمان؛ فلهذا كانت قلوبُنا تَقْطُرُ دَمًا لِمَا آلَتْ إليه حالُ طرابلس الغرب
وبنغازي البعيدتين والمعزولتين عن القوة العثمانية والملك العثماني الواسع
وعاصمته، وكثيرًا ما حوَّلنا نظر الحكومة ونظركم إلى ذلك قائلين إنهما
محتاجان إلى قوة بحرية عظيمة حفظًا للمواصلات والدفاع في أحوال كهذه،
فما كان لهما حظ من ذلك.
إن المحافظة على طرابلس الغرب ومنع الأعداء المجاورين من
التسلط عليها يتوقفان على جعل القوة العثمانية مساوية لقوة الأعداء ونعني
بهذا أن تكون البحرية العثمانية محاكية لبحريتهم في القوة، ولا يخفى أن
الحكومة السابقة أَهْمَلَت الاعْتِنَاءَ بالقوة العثمانية البحرية، ولا يتسنى لها
إبلاغُها درجة الكمال في أعوام قليلة؛ ولكنَّ الجميع يعترفون أنه كان في
الإمكان إجراء تدابير سياسية لتخليص الوطن المنكود الحظ وتأخير أطماع
الأعداء والاحتفاظ بشرف الأمة.
إن المحافظة على حقوقنا في ولاية طرابلس وبنغازي لا تتوقف على
قوة بحرية الدولة فقط؛ بل على سياسة خارجية أيضًا نعتمد عليها وعلى
إصلاحات داخلية واقتصادية تلتئم مع ما يحيط بالمملكة وعلى تنظيم حربي
يناسب الموقع والمكان.
إن هذا المُلْكَ العثمانيَّ المقدس لا يظل أمرُه مستوثقًا بالقول ولا آمنًا
بالمعاهدات الكاذبة كما هي حاله اليوم؛ وإنما هو في احتياج إلى عقد اتفاق
بين الدول التي أخذت على نفسها تأييده وتمكينه بقواها الحربية والبحرية.
إن ولاية طرابلس الغرب وبنغازي يجب بالنظر إلى موقعها
الجغرافي والملي أن يكون فيها حكام يحسنون الإدارة والاقتصاد وأن تكون
لها إدارة ملكية ومالية قائمة بذاتها وأن تكون لها قوة عسكرية محلية - أي من
أبنائها - لتظل مستظلة بظل العَلَمِ العثماني إلى الأبد، نعم إنه لم يكن في الإمكان
إبلاغ بحريتنا في سنوات قليلة درجة تنطبق على آمال الأمة؛ ولكن عجبًا؛ ألم
يكن في الوسع إجراء الأمور التي أشرنا إليها؟ !
كلا إننا لم نجتهد ولا التفتنا إلى سياستنا الخارجية ولا إلى إدارتنا
المالية ولا ترقية عسكرنا؛ بل تركنا طرابلس الغرب وبنغازي لسياسة
الوفاق والاتفاق مع الدول ولنتائجها المشئومة التي تلبس كل يوم لبوسًا،
وخدعنا نفوسنا بالتبجُّحِ بِمَقَاصِدِنَا السِلْمِيَّةِ ورغبتنا في مصافاة سائر دول
العالم، فانتهجنا طريقًا معوجًّا في التشكيلات (الإدارة) الملكية هو في
نظر كثيرين من أبناء وطننا في البلاد العثمانية جهل مطبق، ذلك أننا
أظهرنا أن لا ثقة لنا ولا اعتماد على إخواننا الطرابلسيين الذين يظهرون
اليوم حميتهم الملية العثمانية ببكائهم دمًا على الوطن المحبوب، عرضنا
جسم الوطن للضعف حتى كادت روحه تبلغ التراقي بإيقادنا نار الحروب
الداخلية ونار الاحتلال، وعدم التروي والتبصر، وإنفاق المال على ما
يقضي به حسن التدبير، ثم إننا تركنا خزينة المالية تئن تحت حمل
الملايين الثقيل، وتركنا طرابلس الغرب تئن من ألم الجوع والفقر فألقينا في
نفوس أهلها جبنًا، وصيرنا قوتهم ضعفًا.
وجملة القول أننا لم نعد شيئًا على الإطلاق لهذا اليوم العصيب، فلا
عسكر ولا وسائط دفاع في يد الشعب، وما سبب ذلك كله إلا تراخ وإهمال
بلغا حدًّا ما بعده حد.
لندع الآن كل هذا جانبًا ونحاسب وزارة حقي باشا على تغاضيها،
غفلة وتعطيل وإهمال لم نشهد لها مثيلاً حتى في عهد الإدارة السابقة،
ومن نكد الطالع أنها وجدت في هذه الوزارة، ومن جملة ما يُذْكَرُ عن
إهمالها وتخاذلها أنه بينما كان أعداؤنا يطمحون بأنظارهم إلى الاستيلاء
على ولاية طرابلس الغرب وبنغازي لم تفكر هذه الوزارة في إلقاء الخوف
فيهم وإرجاعهم عن أطماعهم بتوفير الأرزاق والمهمات والجنود في
طرابلس توفيرًا كافيًا.
نحن مبعوثي طرابلس نبكي دمًا لاضطرارنا إلى عد سيئات وزارة
حقي باشا السياسية والإدارية التي ارتكبتها في طرابلس الغرب فقط
وعرضها على أولي الحل والعقد ونحصر كلامنا في ما يلي:
1- كان عدد الجيش المرابط دائمًا في طرابلس الغرب حتى في
العهد السابق يتراوح بين 15 و 20 ألفًا، وأنشئت في ذلك الحين فرق من
الأهالي (قول أوغلي (يتراوح عددها بين أربعين وخمسين ألفًا وكانوا
يتمرنون على استعمال السلاح حتى صار في إمكانهم معاونة الجيش
النظامي.
أما وزارة حقي باشا فلم تكتف بإهمال هذه القوة الأهلية كل الإهمال
بدلاً من أن تعنى بتنظيمها؛ بل سَيَّرَتْ عددًا من الجيش النظامي في هذه
الولاية إلى اليمن ولم ترجعه ولا استبدلت به سواه، وكانت هذه القوة
مؤلفة من ألايَيْن فأُنْزِلَتْ إلى ألاي واحد، وبناء على هذا هبط عدد جنود
طرابلس من أربعين ألفًا إلى أقل من خمسة آلاف.
2- أن الأهالي ما فتئوا منذ أعلن الدستور يطلبون متشوقين
الانتظام في الجندية لدفع التعدي عن وطنهم، ولكننا نقول إنه بالرغم من
مخاطبتنا الشفاهية والتحريرية في طلب ذلك ومن قبول مجلس المبعوثان
والحكومة فتح اعتماد في ميزانية سنة 1326 مالية لعسكر طرابلس
وبنغازي - لقائم مقام وكاتب ألاي واحد وأربعة يوزباشية وثلاثة عشر
ملازمًا أولاً وواحد وعشرين جاويشًا - لم يبدأ بإجراء ذلك إلا في هذه
السنة أي منذ أربعة أشهر وذلك في طرابلس الغرب فقط، ونقول - والأسف
ملء صدورنا -: إن هذا العمل لم ينفذ في شكل ملائم لحاجة البلاد، فقد أخذ
ثلاثة آلاف وأربعمائة شخص فقط من الأفراد الداخلين في الأسنان
العسكرية مع أن عددهم كان ستة عشر ألفًا، ولم تطلب الحكومة سواهم
فكان إهمالها هذا سببًا في تثبيط همم الأهالي مع أنهم كانوا قبلاً يريدون
أداءَ الخدمةِ العسكرية بشوقٍ عظيم، ثم إنها لم تهتم بأمر القرعة فقط؛ بل
أهملت أمر الرديف أيضًا.
3- كانت حكومة العهد السابق قد احتاطت للطوارئ في طرابلس
فحفظت فيها أربعين ألف بندقية من طراز مارتيني وشنايدر لتسليح الفرق
المؤلفة من الأهالي عند الحاجة إلى معونتها فنقلت هذه البنادق إلى الآستانة
بحجة الاستعاضة عنها بسلاح جديد ولم ترسل أسلحة بدلاً منها.
كانت المدافع وغيرها من الأسلحة ترسل إلى طرابلس الغرب في
العهد السابق بكل تحفظ وضبط مع أن خصومنا كانوا يعترضون على
إرسالها في ذلك الحين؛ ولكن هذا المحذور زالَ في عهد الدستور، ولم
يبق هناك ما يعوق إرسال الأسلحة وتحصين ولايتنا؛ لأن مجلس المبعوثان كان مستعدًّا أن ينفق المالَ في سبيلِ الدفاع عن الوطن، مع هذا تركت الوزارة ولايتنا ولم تعمر استحكاماتها وهي مطمح أنظار الأعداء.
4- يعلم الأولاد قبل الحكومات أن الإيطاليين طامعون بالاستيلاء
على ولاية طرابلس الغرب إن عاجلاً وإن آجلاً، ولهذا كان واجبًا على
الضباط الذين في طرابلس والموظفين أن يكونوا ملمين باللسان المحلي
وواقفين على الأحوال العسكرية وطبيعة الأراضي ليستطيعوا قيادة
العساكر الأهلية التي يجب ضمها إلى العساكر النظامية حين حدوث خطر
كالخطر الذي نحن فيه الآن؛ ولكن الحكومة استقدمت جميع الضباط
المحليين المخرجين من الكتب الحربي إلا قليلين منهم وضباطًا آخرين
تعلموا اللسان المحلي وعرفوا طبيعة الأراضي لطول مدة استخدامهم هناك،
فظلت محلاتهم خالية، ولم يرسل ضباط سواهم مع شدة الحاجة، ولم
تشترط الحكومة على العدد القليل الذي أرسلته بدلاً منهم وجوب معرفة
اللسان المحلي، وبناء على هذا حرم الأهالي الذين تسلحوا للدفاع عن
بلادهم من أطماع الأعداء قوادًا يفهمونهم ويقودونهم إبَّان الحرب، ولقد
بات هؤلاء المنكودو الحظ في يأس وألم عظيم.
5- إن أهل طرابلس الغرب الذين قاموا في وجه العدو مدافعين عن
ولايتهم التي فقدت أسباب الدفاع تقريبًا أمحلت بلادهم منذ أربعة أعوام،
وابتلوا بغلاء وجدب شديدين هما فوق حد التصور، ولقد أوضحنا ذلك
لحضراتكم منذ سنتين بمخاطباتنا الشفاهية وتقاريرنا الخطية، علمت
وزارة حقي باشا ذلك كله منَّا؛ ولكنَّها لم تحرك ساكنًا؛ بل تركت أهل
طرابلس في احتياج شديد وضيق خانق يتضورون جوعًا.
ولما رجعنا إلى بلادنا في عطلة مجلس المبعوثان رأينا مئتي ألف
نفس من أهلها قد هاجروا إلى تونس والبلاد الأخرى من شدة الفاقة وسوء
الحال، والتجأ أربعة آلاف نفس من الشيوخ والمرضى والأطفال والنساء
إلى مركز الولاية لعلهم يجدون بلغة بالسؤال والاستعطاء، وقد مات 514
نفسًا من هؤلاء جوعًا في أثناء أربعة أشهر أي من شهر آذار إلى نهاية
حزيران، هذا بالرغم مما عرض على مقام الصدارة خطيًّا وتلغرافيًّا في
أوائل تموز يوليو 1307 لإعطاء الثمانية آلاف ليرة الباقية من العشرة
آلاف ليرة - وهو المبلغ الذي طلبت الحكومة تخصيصه وصادق مجلس
المبعوثان على صرفه - ولم تعمل الحكومة شيئًا.
ثم إن الست مئة ألف كيلة شعير التي قررت الحكومة توزيعها على
الأهالي على سبيل القرض للبذار والأكل ونظمت المادة القانونية لها
وصدق عليها لم ترسلها الحكومة حتى إعلان الحرب، فالولاية جردت من
القوة النظامية وترك أهلها مهملين فباتوا في حال لا تمكنهم من المدافعة؛
بل تركوا عرضة للجوع ولجور عدو ظالم.
6- إن الواجب على المأمورين الملكيين الذين يعينون في ولايات
معرضة لأطماع الأعداء أن يكونوا ذوي مقدرة وكفاءة وعارفين اللسان
المحلي ليستطيعوا تولي المهام وإدارة الشئون، وأن تُعَيِّنَ الحكومةَ أشراف
أهل البلاد وذوي النفوذ في بعض البلاد بوجه استثنائي، ووزارة حقي باشا
أهملت ذلك كله وعينت بعض الأخصاء (المقربين) في طرابلس الغرب
فأضاع الأهلون الرجاء من الانتفاع بخدم مأموري الحكومة.
7- إن أهمية هذه الولاية تستغني عن البيان والتعريف فكان
الواجب أن لا تترك يومًا واحدًا بلا والٍ ولا قومندان؛ ولكن الحكومة
عزلت أخيرًا واليها إبراهيم باشا بناء على طلب إيطاليا واستدعته إلى
الآستانة قبل أن تعين آخر مكانه.
وبينما الإيطاليون يستعدون لقضاء أغراضهم تركت الحكومة القيادة
بيد ضابط برتبة أميرالاي والولاية بيد مكتوبجي غير مجرب ولا ممرن
ولا يفهم اللسان المحلي ولا العادات المحلية، فكان لهذه الأحوال في أهل
الولاية تأثيرٌ سيئٌ عظيمٌ حتى عادت الإشاعات الكاذبة التي كان خصومنا
يجتهدون في نشرها منذ زمان، ونجتهد نحن في محوها من الأذهان،
كقولهم للبسطاء والعوام: إن الحكومة العثمانية كفَّت يدها عن إدارة هذه
الولاية أو إن الدولة تريد بيع مملكتكم، فهذه الأقوال وأمثالها صغرت
النفوس وأضعفت الهمم وثبطت العزائم.
هذا وقبلما تقع هذه الحوادث المهمة استقدمت الحكومة إلى الآستانة
البكباشي وحيد بك المتخرج في المكتب الحربي وقومندان الاستحكام الذي
يُعَوَّلُ عليه وحدَه في الدفاع حين هجوم الأسطول الإيطالي، ولم ترسل
قومندانًا آخر بدلاً منه ففقدت المدينة أسباب الدفاع تمامًا بهذا الشكل.
8- غني عن البيان أن الطليان لم يخفوا ما يضمرونه وهو الاستيلاء على
طرابلس الغرب وبنغازي منذ سنين كثيرة، ولقد كانوا يجاهرون بذلك
لجميع الملل ولا سيَّما العثمانيين كلما وجدوا إلى المجاهرة سبيلاً، وقد
تنبهوا لمد نفوذهم في الأيام الأخيرة تنبهًا عظيمًا متربصين الزمن
المساعد، فكان الواجب على حقي باشا قبل كل شخص آخر أن يعرف
حقيقة الأمر وهو في سفارة رومية، وأن يعرف أهمية هذه المسألة أكثر مما
يعرفها سواه.
ولكن لما لم ينتبه إلى إنذارات مجلس النواب ولا إلى ما شهده واطَّلع
عليه بالذات، ولا إلى بلاغات خلفه سفير رومية، ولا كتابات قائم مقام
الولاية العديدة اغتنمت إيطاليا الفرصة التي سنحت، (وبينما كانت) إيطاليا
تفاتح الدول في أثناء مسألة فاس لتحقق آمالها في طرابلس الغرب وتعد
جيشها وأسطولها للاستيلاء كان حقي باشا يشهد هذه الأمور من بعيد،
وأغرب من هذا أنه صرَّح لسفرائنا في أوربا بإجازات حتى إذا تعاظم
الإشكال وبلغ حده من الشدة لم يكن إلا قليلون منهم في أماكن وظائفهم،
فيظهر من هذا البيان ما ساعدت الحوادث به خصومنا علينا.
9- كان الواجب بذل الهمة في جعل القوة القليلة النظامية المحلية
التي هناك قادرة على المقاومة ولو زمنًا قليلاً بينما كان الأعداء يستعدون
للهجوم؛ ولكن الحكومة لم تُعْنَ بهذا، وظلت حتى إعلان الحرب لا تحرك
ساكنًا ولا تصدر أوامرَ؛ بل إن النقود الكافية التي يتوقف عليها الدفاع لم
تكن قد وصلت فجعل ذلك الدفاع مستحيلاً مع أنه كان ممكنًا، فهذا كله
سَهَّل للعدو الاستيلاء على الولاية. فيتبين مما تقدم أن الحكومة تركت
طرابلس الغرب وبنغازي ميراثي أجداد العثمانيين عاجزتين عن الدفاع من
كل وجه تركتهما بلا عسكر ولا سلاح ولا ذخيرة ولا ضباط ولا والٍ ولا
قومندان ولا مؤن ولا نقود، تركتهما جائعتين فقيرتين.
أَشَهِدَ تاريخُ الأممِ عَمًى إلى هذا الحد؟ أرأى إهمالاً كهذا الإهمال،
أوجد ضعف محبة للوطن كهذا الضعف؟ فنحن مبعوثي طرابلس الغرب
نمثل صورة ضمائر موكلينا وأبناء الأمة كافة بهذه النكبة التي جرتها علينا
وزارة حقي باشا وزملائه.
إن وزارة حقي باشا خالفت أول مادة وآخر مادة من القانون الأساسي
في الأمور الخارجية والداخلية والمالية والحربية، ذلك القانون المعظم
الذي هو أس الدولة الدستورية، فلهذا نطلب من مجلس المبعوثين أن
يقومَ بوظيفته في الشأن.
هذا ومبعوثو طرابلس الغرب يطلبون عملاً بالمادة الحادية والثلاثين
من القانون الأساسي محاكمة وزارة حقي باشا تخليصًا للوطن في المستقبل
من تهلكة يقع فيها حتى إذا وفقنا إلى تحديد المسئولية ووجوب إنزال
العقاب علمنا أننا خدمنا الوطن.
... ... ... ... ... مبعوثا طرابلس: محمود ناجي وصادق
__________(14/854)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الجديدة
(شرح نهج البلاغة)
للشيخ عز الدين أبي حامد عبد الحميد، الشهير بابن أبي الحديد.
قد اشتهر نهج البلاغة في سورية ومصر وسائر البلاد العربية بشرح
الأستاذ الإمام له، وكثر استفادة الناس من هدايته وبلاغته، فلو كان شرح
ابن أبي الحديد له قاصرًا على تفسير غريبه، وبيان ما لا تصل إليه جميع
الأفهام من معاني جمله وأسرار حكمه، لكان لنا في تعليقات الأستاذ الإمام
غنى عنه، ولكن هذا الشرح كتاب من أجمع الكتب في الأدب والتاريخ
والكلام والفقه والخلاف والجدل، وقد وصفه مؤلفه أبلغ وصف وأجمعه
بقوله عن نفسه:
وشرع فيه بادي الرأي شروع مختصر، وعلى ذكر الغريب والمعنى
مقتصر، ثم تعقب الفكر، فرأى أن هذه النغبة لا تشفي أوامًا، ولا تزيد
الحائم إلا حيامًا، فتنكب ذلك المسلك، ورفض ذلك المنهج، وبسط القول
في شرحه بسطًا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان، وما عساه
يشتبه ويشكل من الإعراب والتصريف، وأورد في كل موضع ما يطابقه
من النظائر والأشباه نثرًا ونظمًا، وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع
والأحداث فصلاً فصلاً، وأشار إلى ما ينطوي عليه من رقائق علم التوحيد
والعدل إشارة خفيفة، ولوَّح إلى ما يستدعي الشَّرْح ذِكْره من الأنسابِ
والأمثالِ والنكت تلويحات لطيفة، ورصعه من المواعظ الزهدية والزواجر
الدينية والحكم النفسية والآداب الخلقية المناسبة لفقره، والمشاكلة لدرره،
والمنتظمة مع معانيه في سمط، والمنسقة مع جواهره في لط، بما يهزأ
بشنوف النضار، ويخجل قطع الروض غب القطار، وأوضح ما يومئ
إليه من المسائل الفقهية، وبرهن على أن كثيرًا من فصوله داخل في باب
المعجزات المحمدية، لاشتمالها على الأخبار الغيبية، وخروجها عن وسع
الطبيعة البشرية، وبيَّن من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما
لا يعقله إلا العالمون، ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون، وكشف عن
مقاصده عليه السلام في لفظة يرسلها، ومعضلة يكني عنها، وغامضة
يعرض بها، وخفايا يجمجم بذكرها، وهنَّات تجيش في صدره فينفث بها
نفثة المصدور، ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة
المكروب، فخرج هذا الكتاب كتابًا كاملاً في فنه، واحدًا بَيْنَ أبناءِ جنسِهِ،
ممتعًا بمحاسنِهِ، إلخ.
والمصنف من المعتزلة وهم متفقون على أن بيعة أبي بكر بيعة
شرعية صحيحة وكذا بيعة سائر الخلفاء الأربعة واختلفوا في التفضيل
فبعضهم كالأشعرية يجعلون ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في
الخلافة ومن هؤلاء عمرو بن عبيد والجاحظ والنظَّام وغيرهم من قدماء
البصريين، وبعضهم يفضل عليًّا على الجميع وذكر أن الجبائي والقاضي
عبد الجبار ذهب إلى ذلك في آخر عمرهما، وبعضهم توقَّف في التفضيل،
وقطع بعض هؤلاء بتفضيل علي على عثمان، وإنما توقف في التفضيل
بينه وبين أبي بكر وعمر، والمصنف على رأي من يفضلون عليًّا على
الجميع رضي الله تعالى عنهم.
إن هذا الشارح على تشيُّعِه لأمير المؤمنين لم يكن مقلدًا لطائفة
الشيعة؛ بل كثيرًا ما يفند أقوالهم في بعض المسائل ولا سيَّما الطعن في
الشيخين، ويورد كلام قاضي القضاة عبد الجبار من شيوخهم في رد كلام
الشيعة ورد الشريف المرتضى عليه ويحكم بينهما بالاستقلال. ولكنني
رأيته التزم التسليم على علي كلما ذُكِرَ حتى في الحكاية عن الصحابة وعن
الجاهلية - ولم يكن هذا من عرفهم - ولا يقول عند ذكر أبي بكر ولا
عمر، دع من دونهما من الصحابة، كلمة رضي الله عنه لا في كلامه ولا
في نقوله عن علماء أهل السنة الذين جرت عادتهم بذلك، على أنه يقولها
عند ذكر شيوخ المعتزلة، فهل يصح أن يتعمد هذا وهو معتقد صحة
خلافتهما ويورد كثيرًا من مناقبهما وفضائلهما؟ أم محا دعاءه لهما من
نسخ الكتاب بعض غلاة الشيعة؟ الله أعلم، ويمكن أن يقال: إن كان تعمَّد
ذلك فهو فيه مصانع للوزير ابن العلقمي الشيعي المشهور الذي جعل الكتاب
باسمه وأهداه إلى خزانته، والمصانع غير عدل فلا يوثق به، وإن كان
ذلك من تصرف نساخ الكتاب من غلاة الشيعة فهو تصرف لا أراه مزيد
قوة في نصر الكتاب لهم؛ بل ربما كان ضعفًا؛ لأنه يفتح الباب لرمي
المصنف بالهوى أو المصانعة ولا يبقى مجال للقول بأنه ليس سُنِّيًّا ولا
شيعيًّا فيكون حكمه في مسائل الخلاف بين الطائفتين أقرب إلى الإنصاف،
وأبعد عن الاعتساف.
على أن العبرة بقوة الدليل لمن كان من أهله، والمصنف ضليع في
الدلائل العقلية واللغوية إلا أنه على سعة اطلاعه في المنقول ليس من أهل
النقد والتمحيص في علم الرواية فلا يعتد بنقله لذاته في باب الحجة إلا أن
يعزوه إلى الثقات كالصحيحين، وكثيرًا ما ينقل عنهما، وفيما عدا ذلك ينظر في
تصحيح الرواية التي يراد الاستدلال بها.
وجملة القول أن هذا الكتاب من أعظم المصنفات العربية في الفنون
التي أشرنا إليها، يجد الناظر فيه من فنون العلم والأدب ما لا يجده مجموعًا في
غيره، فهو مما يحتاج إليه كل متكلم وجدلي ومؤرخ وأديب، وقد كان أعز
من بيض الأنوق، وأبعد على منال ناشديه من العيوق، فقرب مناله ودنت
قطوفه بطبعه وبقلة ثمنه، فقد طبع في مطبعة البابي الحلبي بمصر، فكان
أربع مجلدات كبيرة يباع في مكتبته المشهورة، وثمنه 100 قرش.
* * *
(كتاب المجازات النبوية)
للشريف الرضي الشهير؛ كتاب في بيان مجازات القرآن وكتاب في
مجازات الحديث لم ينسج على منوالهما ناسج، ولم يسبقه إلى مثلهما سابق
ولم يلحقه لاحق، والمراد بالمجازات ضروب المجاز في البيان، ومن
أجدر من الشريف الرضي وهو إمام البلاغة وقائد فرسانها، بشرح ما
ينطوي في كلام جده صلى الله عليه وآله وسلم من فنونها، واقتطاف ما
يتدلى من أفنانها، ألا إن هذا الكتاب خير أستاذ تؤخذ عنه البلاغة، وتتلقى
عنه الفصاحة، ويتعلم منه كيف تستخرج درر المعاني من أصدافِهَا،
وكيف تجري دراري الهداية في أفلاكها، وقد طبع كتاب المجازات النبوية
في مطبعة الآداب ببغداد على ورق نظيف؛ ولكن لم يعن طابعه بتصحيحه
كما يجب فقد كَثُرَ فيه الغلطُ والتحريفُ ويمزج فيه الشعر والرجز بالكلام
أحيانًا لا يميز بعضه من بعض، ولعلنا ننقل للقراء فيما يأتي من الأجزاء
نموذجًا منه، يعلمون به أنه على عدم العناية بتصحيحه لا يستغنى عنه.
* * *
(كتاب التنبيه)
هذا الكتاب كان عمدة الشافعية منذ وضعه كبير فقهائهم الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي إلى أن ظهرت وانتشرت كتب النووي ثم شروحها
للرملي وابن حجر وكتب الشيخ زكريا الأنصاري وكانوا إذا ترجموا فقيهًا
شافعيًّا قالوا إنه حفظ التنبيه أو قرأ التنبيه، وقد طبع التنبيه في مطبعة
البابي الحلبي وطبع على هامشه تصحيح التنبيه للنووي؛ وهو شرح وجيز
له ويباع ببضعة قروش في دار الكتب العربية الكبرى.
* * *
(مطبوعات الشيخ محمد جمال الدين القاسمي)
بارك الله تعالى في وقت صديقنا القاسمي وعمره فإنه يخرج لنا في
كل عام كتابًا أو كتبًا من تأليفه أو مما يختاره من آثار علمائنا النافعة،
وبين يدينا الآن أربعة مصنفات مطبوعة مما ألفه واختاره وقد نشرت في
هذا العام وهي:
لقطة العجلان: للشيخ بدر الدين الزركشي من فقهاء الشافعية في
القرن الثامن، وهو كتاب وجيز أو رسالة في مقدمات ومهمات مسائل
العلوم العالية من الفلسفة وأصول الحديث وأصول الفقه وأصول العقائد
والمنطق - وقد أطال فيه - والهيئة.
قال الزركشي رحمه الله تعالى: إنه جمع هذه المسائل لسؤال بعض
الإخوان لتستعمل عند المناظرة، وتعين على الدخول في فنون العقول لدى
المحاورة، وقد شرحها الشيخ القاسمي شرحًا لا يقل عن ضعفي الأصل
ووضعه في أواخر الصفحات معلمًا على مواضع الشرح بالأرقام، وطبع
على نفقة صديقنا محمد عبد الخالق أفندي إسماعيل من فضلاء الإسكندرية،
وثمن النسخة منه 3 قروش.
تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب: رسالة للقاسمي اشتملت
على ما ينيف على مئة قاعدة من قواعد الواجب المقررة في علم الأصول
والمأثورة عن الأئمة المحققين، كذا كتب المؤلف، وأقول هي 103
مسائل أو مباحث معدودة بالأرقام ربما كان أكثرها في أحكام الواجب
وروعي في التسمية الغالب. وهذه المسائل نافعة لطلاب العلم - إن شاء
الله تعالى - ولا سيما في البلاد التي قلَّ فيها الاشتغال بعلم الأصول وهجرت كتبه
النافعة، وقد طبعت هذه الرسالة أيضًا على نفقة صديقنا محمد عبد الخالق
أفندي إسماعيل تبرع بطبعها وطبع ما قبلها تبرعًا حبًّا بنشر العلم.
وثمنها قرشان.
إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق: كتاب جديد للقاسمي في جواز
العمل بخبر التلغراف شرعًا، وفيه مباحث نافعة لا يستغني طلاب العلوم
الشرعية عن تدبرها منها في المقدمة أن الإسلام موافق لنواميس العمران،
وأنه لا يخلو عصرٌ من قائمٍ لله بالحجةِ، وأن الاجتهاد في الوقائع الحادثة
ضروري لا بد منه، وأما المقصد فيدخل في ثلاثة أبواب أولها في مدارك
أصولية لمسألة التلغراف وتحته 15 فصلاً، وثانيها في مدارك ومآخذ
فروعية للمسألة وتحته 7 فصول، وثالثها في الاستدلال على العمل بخبر
التلغراف في الصوم والفطر وتحته 15 فصلاً، ويلي ذلك خاتمة في معنى
التلغراف وتاريخه وما نظم فيه من الشعر وما يناسبه من الآلات المخترعة
في هذا العصر وفيما كان يستعمل في الزمن الماضي لنقل الأخبار
كالمشاعل والمناور في الجبال وحمام الرسائل.
ويلي ذلك طائفة من الفتاوى في العمل بالتلغراف للعلماء المتأخرين
المشهورين في مصر والشام والعراق، وقد بلغت صفحات هذا الكتاب
بالطبع أكثر من مائة صفحة من قطع المنار بمثل حروفه، وثمنه خمسة قروش
صحيحة.
الفتوى في الإسلام: رسالة أو كتيب للقاسمي بحث فيه عن منشأ
الفتوى في الإسلام، وكيف كانت في القرون الثلاثة الأولى وفيما بعدها، وأول
من قام بهذا المنصب وما قاله الفقهاء في شروط المفتي وآدابه وتغيير
الفتوى بتغيير الأحوال، وغير ذلك من المسائل والفوائد، وصفحات هذه
الرسالة 72 كصفحات المنار، وتطلب كسائر مؤلفات القاسمي من مكتبة
المنار بشارع عبد العزيز بمصر.
* * *
(مطبوعات الدكتور محمد أفندي عبد الحميد)
طبيب مستشفى قليوب
إن لضعف العلوم والفنون في بلادنا وعدم نبوغ أحد من المشتغلين
بها مِنَّا أسباب أقواها وأظهرها أن أكثر طلاب العلوم عندنا لا يطلبونها
لأجل العمل بها ولا لأجل أن يكونوا فيها أئمة مستقلين يحققون ويحررون،
ويكتشفون ويخترعون؛ بل يتلقون بعض المبادئ، ويحفظون بعض
الاصطلاحات ليؤدوا بها امتحانًا يأخذون به شهادة ينالون بها رزقًا
مضمونًا من الحكومة في الأكثر ومن غير الحكومة في الأقل، ومتى
وصل أحدهم إلى هذه الغاية أو يئس من الوصول إليها يترك العلم والكتب
ولا يكاد يبقى عنده مما تعلمه إلا الرطانة الإفرنجية التي يكون حظه منها
جذبه إلى إضاعة ما تصل إليه يده من المال في سوق الأزياء والعادات
والشهوات، وجرف ما يستطيع جرفه من ثروة البلاد إلى أوربة.
وأما الذين يتلقون العلوم التي لا ينال المعاش إلا بالعمل بها كالطب
والهندسة؛ فإنهم في الغالب يقنعون بعد نيل الشهادة بالوظيفة والعمل الذي به
الرزق، وقلما تتوجه همة أحد منهم إلى مداومة المطالعة والبحث والتأليف
والترجمة لتنمو علومهم ويبرعوا في أعمالهم، ويرتقوا عن طبقة الصناع
الذين لا ينفعون البلاد إلا نفعًا جزئيًّا يزول بزوالهم، إلى طبقة العلماء
الذين تعم منافعهم، ويتركون الآثار الصالحة لمن بعدهم.
ونحمد الله تعالى أننا كدنا ندخل في دور العلم الصحيح النامي بهمة
بعض المتخرجين في هذه السنين، فبينا الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب
في سجن طرة يبحث ويكتب ويؤلف بين الدين الصحيح والعلم الصحيح
إذا نحن بطبيب آخر قد أتحفنا في هذين العامين بعدة مصنفات طبية
جراحية نافعة وهي:
1- التشخيص الجراحي: وهو سفر كبير صفحاته 656 صفحة
بقطع المنار ما عدا المقدمة والفهرس، يبحث فيه عن تشخيص جميع
أجزاء البدن في الأمراض والعلل التي تعالج بالأعمال الجراحية،
وليس نفعه خاصًّا بالجراحين؛ بل يمكن أن يستفيد منه كل قارئ في
الجملة وإن لم يفهم كل ما يقرؤه منه، وقد طبع طبعًا حسنًا على ورق
جيد، وثمن النسخة منه خمسون قرشًا صحيحًا.
2- الحمل خارج الرحم: الحمل أنواع، ويعرض للنساء في المعتاد
وغير المعتاد منه أمراض كثيرة، ومن تلك الأنواع الحمل ما يقع خارج الرحم
وهو الذي ألف فيه هذا الكتاب المختصر المفيد، وفيه ذكر أنواع أخرى
من الحمل وأمراضه ومعالجتها وصفحاته 68 صفحة كصفحات رسالة
التوحيد، وثمنه عشرة قروش.
3- العملية القيصرية: رسالة صفحاتها 39 صفحة كصفحات رسالة
التوحيد أيضًا شرح فيها هذه العملية التي تعمل في الرحم بشقه بعد شق
البطن ثم خياطته أو استئصاله، وثمنها خمسة قروش.
4- العلاج بعد العمليات: لم أر هذا المصنف بين ما أرسله إلينا
المؤلف من مطبوعاته فلا أدري أرسله واختزل دوني أم لم يطبعه،
واسمه يدل على موضوعه.
5- سركليومبير: قصة من تأليف السر آرثر كونان دويل،
وترجمها الدكتور محمد عبد الحميد عن الإنكليزية، ولم يأذن لي الوقت بقراءة
شيء منها وصفحاتها 216 صفحة كصفحات الرسائل المذكورة قبلها،
وثمنها 5 قروش صحيحة، وتطلب المطبوعات المذكورة من مكتبة المنار وغيرها.
وإنني أقترح على الدكتور أن يجعل لكل كتاب يصنفه أو يترجمه
مقدمة وجيزة يبين فيها موضوع الكتاب ومكانته وفائدته، والمواد التي
استعان بها على تأليفه، ويجعل له فهرسًا مفصلاً فإني رأيته لم يجعل لكتبه
الصغيرة فهارس، ورأيت فهرس كتاب التشخيص الجراحي موجزًا لم يذكر
فيه إلا عناوين الفصول دون ما فيها من المباحث المفصلة التي تستحق أن
يجعل لها فهرس مرتب على حروف المعجم.
* * *
(البيان)
مجلة تبحث في الأدب والتاريخ والفلسفة والأخلاق والتربية
والاجتماع والنقد والروايات والقصص والصحة وتدبير المنزل، وتعنى
بنشر آثار الغرب وآثار العرب، وتضرب بسهم في كل فن ومطلب،
صاحبها الشيخ عبد الرحمن البرقوقي، ويساعده في تحريرها محمد أفندي
السباعي وهي بحجم المنار، وتصدر مثله في آخر كل شهر عربي وقيمة
الاشتراك فيها 50 قرشًا مصريًّا في السنة تدفع مقدمًا.
ماذا ينوي أو يحب صاحب هذا المجلة أن تتقنه مجلته وماذا يرجى
من عنايته بها؟ كتب في مقدمة الجزء الأول منها أنه سأل الأستاذ الإمام:
كيف يكتب العالم وكيف يكتب الصحفي، وكيف يكتب الأديب، وما هي
مفاصل الحدود بين الثلاث؟
قال: فنظر إلي رحمه الله نظرته التي تنفذ إلى أعماق النفس فتكشف جوانبها،
وتتصفح جهاتها، وتقابل فيها بين معاقد الأمل ومقاصده، وقال: أراك تمتهد
لغرض وإن وراء لفظك القلق لمعنى مطمئنًا، ويخيل إلي أن لك هوى في مزاولة
الصحافة. قلت: هو ذاك يا مولاي، وما بي أن أعلم إلا ما أعمل وإلا فأين أقع
من أدبك إذن؟
قال: فاعلم أن الحقائق النفسية مطلقة لا قيد لها، وأن الحد لا يثبت على
الحقيقة بتمامها، وهي معنى الكمال إلا إذا كان للكمال المطلق حد محدود، وإنما تؤتى
هذه الحقائق من جهة العرف، وتنتقص من مواضعات الناس، وأنت خبير بأن
مجرى العرف في أمة من الأمم لا يكون إلا بحسب ما في مجموعها العقلي من القوة
أو الضعف، فقد اصطلحنا في بلادنا على أن من يحفظ كتابًا أو يقرأ درسًا أو يقرر
مسألة يسمى عالمًا، ثم توسعنا في ذلك حتى صار من يحمل كتابًا أو درسًا في
ملزمةٍ من كتاب أو مسألة من درس يسمى عالمًا أيضًا.
وتواطأنا على أن من ينشئ صحيفة وإن كتبها غيره وكان هو
وصحبه كل قرائها سميناه صحفيًّا كذا، ثم غلونا في ذلك حتى صار كل
من يقرأ صحيفة يرى من هوان الحرفة عليه أن أيسر الأشياء عملاً أن
يكون صاحب تلك الصحيفة أو كصاحبها.
وتواضعنا من قديم على أن من يحفظ قطعة من اللغة نظمها ونثرها
سميناه أديبًا؛ وإن كان يرى الأمم الحية بعينيه وهو نفسه كبعض الموتى
لا أثر له في قومه ولا لغته، ثم بالغنا في ذلك حتى صار كل من يحصل
على شذرة من ذينك المعدنين النفيسين وإن كانت سرقة سميناه أديبًا أيضًا.
واصطلح غيرنا ممن فهموا أسرار الحياة ولم يقدسوا الموت تقديس الزهاد -
والأمة إذا فَرَّطت في واجبات الموت فرَّطت في أغراض الحياة - اصطلحوا على
أن من قام به فن من الفنون فهو العالم، ومن تعلقت بعلمه مصلحة الأمة فهو
الصحفي، ومن كان لأمته في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ فهو الأديب.
وليست الصحافة عندنا بأحوج إلى الحقيقة الصحفية عند غيرنا منها
إلى حقيقة العلم وحقيقة الأدب، فإن أردت أن تصحح معنى العرب وتصلح
خطأ الاصطلاح ورغبت أن تكون بحق أحد الثلاثة، فكن الثلاثة جميعا اهـ.
هذا ما نقله صاحب هذه المجلة عن مفكرته من حديث كان بينه وبين
الأستاذ الإمام، وإنما نقل كلام الأستاذ بمعناه لا بحروفه قطعًا، وقال: إن
من نيته أن تكون مجلته كما قال الإمام (تصحيحًا لمعنى العرف وإصلاحًا
لخطأ الاصطلاح) .
ونحن نرحب برصيفنا الجديد وصاحبنا القديم، ونتمنى لو يصل به
الجد إلى ما انتوى، وأكبر ما نرجو منه أن يكون لنا من بيانه صحيفة
أدبية متقنة، ويتوقف هذا على توجيه وجهه وصرف عزيمته كلها إلى علم
الأدب، وإن استعداده له لأقوى من استعداده لغيره من الفنون ومصالح
الأمة، وقد أصاب حظًّا منه يؤهله لإدراك لقب من ألقابه، يحفظه له
التاريخ في بعض أبوابه، وله من صاحبه السباعي ولي نصير، وعون
وظهير يمده بالأدبيات الإفرنجية المثبتة في الصحف الإنكليزية، وقد
أصبحت لغتنا وحظها من الصحف الأدبية أقل مما تحتاج، وحاجتها إليها
أكثر مما تجد، وإن النبوغ في العلوم والفنون والسياسة والاجتماع،
موقوف على ارتقاء اللغة وبلوغها درجة الكمال في حسن التعبير، وقوة
التأثير.
لا ترتقي المجلات عندنا ما دام الواحد منا يستقل بمجلة تبحث في كل
علم وفن؛ إذ لا يمكن أن يتقن الواحد كل علم وفن، فشرط الإتقان أن
يعنى صاحب المجلة بشيء واحد يتقنه أو يكون للمجلة عدة محررين
أخصائيين. نعم؛ إنه لا يوجد عندنا لكل علم وفن قراء يقوم بهم أمر مجلة
لا تبحث في غيره، إلا الأدب فإن أكثر المتعلمين يتمنون لو يكون له مجلة
متقنة، ويرجى أن يكون قراؤها إن وجدت أكثر من قراء جميع المجلات،
فهذه نصيحتنا لصاحبنا منشئ مجلة البيان، وما أرى الأستاذ الإمام قال له
كن الثلاثة جميعًا إلا لإنهاض همته وإرشاده إلى التوفيق بينها مع توجيه
العزيمة إلى إتقان أمر واحد منها، ولا يمكن أن يكون أراد حثَّه على الكتابة في
علوم الفلسفة، والاجتماع والصحة وأن يضرب بسهم في جميع الفنون ويتقن كل
ذلك في صحيفة واحدة، وقد كان من غرضنا - إذ أنشأنا المنار - أن نجعل لأدب
اللغة حظًّا عظيمًا من صحائفه فأبت العناية بالإصلاح الديني والاجتماعي أن
تؤتيه هذا الحظ، فهذه نصيحة أخ قد جرب لأخ يريد أن يجرب.
__________(14/868)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عِبَرُ الحرب في طرابلس الغرب
نشرنا في هذا الجزء مقالة لكاتب عليم خبير، والتقرير الذي قدمه
مبعوثان من طرابلس لمجلس الأمة في الآستانة بيَّنَّا فيه حالة طرابلس
وتقصير وزارة حقي باشا فيما يجب من تحصينها؛ بل جناية هذه الوزارة
بتجريد هذه الإيالة بل المملكة مما كان فيها من العدة والجند وجعلها
عرضة لاستيلاء الأجنبي عليها، وإنشاب أظفار مطامعه فيها، ولدينا
مزيد من أخبار مقدمات هذه الحرب بنوعيها: إعداد الحكومة العثمانية
إياها للخروج من سلطتها، واستعداد إيطالية للاستيلاء عليها، وفي ذلك
من العبرة ما يمثل لكل ذكي وغبي كيف تدول الدول، وكيف تموت وتحيا
الأمم؛ نجَّانا الله.
ومن وجوه العبرة بكارثة طرابلس أننا لم نجد أحدا ولم نعلم أنه يوجد أحد
كان يرتاب عند إعلان الحرب في الخروج طرابلس وبنغازي من المملكة
العثمانية، وكان أشد الناس يأسا منها قواد الدولة ووزراؤها حتى نقل عن ناظر
الحربية، وعن مختار باشا الغازي التصريح بأن الدفاع عنها جناية، وإنما
تجددت لبعض الناس الآمال بما ظهر من نجدة العرب أهل البلاد وشجاعتهم
وكسرهم الجند الطلياني الجرار المنظم الكامل العدة والسلاح مرارا بمعاونة من
هناك من الجند المنظم القليل العَدد والعُدد، وجله أو كله من بلاد سورية
وفلسطين، فكانت الحرب سجالا، والنصر في الغالب للمعتدى عليهم حتى
اضطر المعتدون إلى لزوم الثغور التي احتلوها ليكونوا تحت حماية أسطولهم،
فثبت بهذا أن اليمن والخليج الفارسي لا رجاء في حمايتهما من الأعداء إلا
باستعداد أهلهما للحرب بالتعليم العسكري والسلاح الجديد الكافي.
ومن وجوه العبرة أن أكثر الشعوب الإسلامية قد انتدبت لمساعدة
المجاهدين بالإعانات المالية وكان العرب في مصر وسورية أبسطهم يدًا،
وقصر الشعب التركي الذي كان يجب أن يكون أشد الجميع غيرة وحمية
ونجدة ولا سيَّما أهل الآستانة والرومللي الذين بيدهم أزمة السيادة على هذه
البلاد والسلطة فيها وفي غيرها، وقد ظهر تقصير رجالهم في المحافظة
عليها، بل ما هو أعظم من ذلك، وكان ينتظر من جمعية الاتحاد والترقي
ذات الملايين أن تجود بمبلغ عظيم مما تكنزه من أموال العثمانيين.
من هذه العبر ومن اتحاد دول أوربة كلها علينا، على ما كانت عليه
من التنازع في قسمة النفوذ والامتلاك لبلادنا، نرى أننا على خطر عظيم،
وأن المسألة الشرقية قد حان أوانها ولا نرى أمامنا رجالاً يتداركون
الخَطْبَ؛ بل نرى التفرَّق في مجلس الأمة لا يزداد إلا شدة، ونرى زعماء
الاتحاديين على ظهور خطئهم، ونفور السواد الأعظم منهم لا يزالون
مستمسكين بالمحافظة على سلطتهم الرسمية، وسلطتهم الخفية غير
مبالين بالخطر الذي ينذر الدولة العلية.
وقد بينا رأينا في طريقة تدارك الخطر، ولا نرى أمامنا رأيًا غيره،
وهو أن تسند الصدارة إلى رجل الدولة كامل باشا ويؤيده مجلس الأمة تأييدًا
يعتد به؛ فقد ظهر بالتجربة أنه هو الوزير المستقل الذي تثق به الأمة، ودول
أوربة عامة وإنكلترة خاصة، وإنكلترة هي ميزان سياسة أوربة وصاحبة
الترجيح فيها، فإذا وثقت بحكومتنا يوشك أن تساعدها على درء الخطر
وتخرجها من المأزق الذي وقعت فيه، نظن هذا ونرجوه ولا نوقن به،
ومن العجب أن مكاتب جريدة العلم في الآستانة قال إن حزب الحرية
والائتلاف الذي تألف في الآستانة بسعي زعيم الدستور صادق بك متفق مع
سفير إنكلترة على ترشيح كامل باشا للصدارة، وإن مقابلة ملك الإنكليز
لكامل باشا في سفينته ببورسعيد وحفاوته به يراد بها إظهار ميل إنكلترة إلى
تقليده الوزارة.
قال المكاتب هذا ليثبت به أن توسيد الصدارة إلى كامل باشا ليس من مصلحة
الدولة في شيء، فإذا صح قوله فالرجاء في إنكلترة إن وثقت بحكومتنا أكبر مما نظن
، وليته يتم ولو كره العلم وزعماء الحزب الوطني كلهم الذين يدهنون الآن لجمعية
الاتحاد والترقي، ويتملقون لها، ويجعلون سيئاتها حسنات، وهواها هدى
منزلاً من السماء، كما كانوا يقولون في عبد الحميد أيام سلطانه وجبروته.
أيها العثمانيون إن دولتنا على خطر فاتركوا الأهواء والحظوظ وكونوا
إلبًا واحدًا عسى أن توفقوا لتلافي الخطر، ويا أيها المسلمون إنكم خرجتم
من عهد بعيد عن صراط ربكم، وهداية دينكم، خصوصًا في تمزيق
وحدتكم، وتعديد سلطتكم، وتفرق شيعكم، وكانت لكم ممالك كثيرة لم يبق
منها إلى هذه السنة إلا ثلاث، فواحدة قضي عليها فيها وهي مملكة المغرب الأقصى
والثانية أنشبت أظفار أوربة وبراثنها في أحشائها وهي إيران، والثالثة
بُدِئَ بتقطيعِ أعضائها، ولا يعيش الرأس بغير أعضاء وهي العثمانية، فتأملوا
في حالكم ومستقبلكم إن كنتم قد استيقظتم من رقدتكم، ولا تكونوا كالذين
يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
* * *
جمعية الإخاء الإسلامي في بيروت
تألفت هذه الجميعة في بيروت من عهد قريب لأجل التعاون على البر
والتقوى والأعمال التهذيبية والاقتصادية، وبث محبة الوطن العثماني في
نفوس جميع العناصر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نشرت
نظامها فرأينا أهم أحكامه أنه لا يقبل فيها من يقصر في أداء الفرائض
والواجبات، أو يرتكب بعض المحرمات، وأنه يتحتم على كل عضو يدخل
فيها أن يعطي العهد والميثاق باليمين على الاعتصام بحب الدين والتقوى
والصلاح وحب الدولة والوطن والصدق والأمانة والإخلاص لأفراد
الجمعية ومعاملة جميع الناس بالحسنى، وأنه لا يجوز الاشتغال فيها
بالسياسة، وعلى كل عضو أن يدفع بشلكا فأكثر في الأسبوع لأجل ما تقوم
به الجمعية من الاقتصاد والتوفير، واختير الشيخ محمود فرشوخ رئيسًا
لهذه الجمعية. ووضع لها صديقنا عبد الرحيم أفندي قليلات هذا التاريخ:
إن دين الإسلام دين سلام ... واعتصام بحبل رب الأنام
دين عدل وحكمة واتحاد ... واقتصاد وألفة ووئام
وستبدو هذي الفضائل في تا ... ريخ (جمعية الاتحاد الإسلامي)
(1329)
ونحن نتمنى من صميم الفؤاد أن يكون الإقبال على هذه الجمعية
عظيمًا لأن القيام بها إذا انتشرت وكثر أهلها يقلل الجرائم والمنكرات
والمعاصي فيستريح الناس والحكومة وترتقي البلاد بسرعة عظيمة، فما
أهلك البلاد إلا الفسق والفواحش والمنكرات الناشئة من الجهل وعدم
الاعتداد بالدين، وكُنَّا قد ألَّفْنَا جمعية كهذه في طرابلس الشام عند زيارتنا
لها عقب إعلان الدستور، ورجونا أن يتسع نطاقها فلم يوجد رجال يقومون
بأمرها؛ فعلة خيبتنا في كل شيء إنما هي فقد الرجال العاملين للمصلحة
العامة.
* * *
مؤتمر علمي ديني في أزمير
كتب إلينا من أزمير أنه تألفت فيها لجنة لأجل عقد مؤتمر إسلامي في
15 المحرم سنة 33 للبحث في الفلسفة الإسلامية والتربية والتعليم في
الإسلام وأسباب ضعف المسلمين بعد أن ارتقوا في دينهم ذلك الارتقاء
المدني الذي يشهد به تاريخ المدنية الشرقية والأندلسية، وتعدى أثر
سعادتهم بدينهم إلى غيرهم من أهل الملل، وأرسل إلينا مؤسسو هذه اللجنة
كتابًا عربيًّا بيَّنوا فيه مقصدهم ووجه الحاجة إليه، وأنهم سينشرون نتيجة
بحثهم وما يكتب إليهم من أصحاب العقول الكبيرة والأفكار النيِّرة الذين
كاتبتهم اللجنة في ذلك ثم طلبوا مِنَّا ما يأتي بقولهم:
فنرجوكم أن تُبينوا لنا فكركم قبل التاريخ المذكور بتحرير من
حضرتكم والأمل قوي أن أمثالكم يعينون المشاريع العالية وبحثكم يكون في
النزاع القائم ضد الإسلامية وحكمتها وإصلاح المدارس والتكايا حتى
يتسنى للإسلام أن يأتي إلى مدينة العلم من بابها، وهو نفس العلم والتربية،
ومثلكم أوسع نظرًا في هذا الموضوع فنرجوكم أن تدبجوا تحريركم
بأمراض أهل الإسلام وتلافيه وما هو المحتاج إليه في هذا الموضوع، إلخ.
6 ذي الحجة سنة 1329
* * *
إغراء بعض كتاب الإفرنج قومه بالترك والإسلام
قرأنا في جريدة المهاجر السورية التي تصدر في نيويورك من
أمريكة ما يأتي (وفيه من العبرة أن جميع الإفرنج الذين نقول إنهم تركوا
الدين يعلمون ديانتهم في بلاد الدولة حتى المسلمين والدولة لا تعنى بتعليم
الإسلام لأهله ثم إنهم يقولون فيها ما ترى) .
كتبت جريدة (المايل) مقالة سألت فيها الأمريكان ماذا نصنع بتركيا،
وبالأتراك الذين يعلمون الناس الديانة بالسيف؟ ! ! ثم طلبت إلى الحكومة طرد
الأتراك من بلادهم إلخ، ولم تنتشر هذه المقالة حتى قام أحد القراء ورد
على الجريدة المذكورة ردًّا انتشر في الجريدة نفسها وهذا هو:
إلى المحرر؛
عجبت كثيرًا لمقالة (ماذا نصنع بتركيا والأتراك؟) فأتيت بهذه
الأسطر أسألكم أي حق لنا بالتداخل في شئون تلك البلاد وأهلها؟ ومن أين
يحق لنا نحن أن نجبر الأتراك على وضع التوراة والتلمود مكان القرآن؟
إن تركيا تخص الأتراك وليست إيطاليا التي اغتصبت طرابلس مؤخرًا
سوى لص يجب تأديبه ومعاقبته.
قلتم إن الديانة لا يتعلمها الناس بالسيف ثم رأيتكم تدعون الأميركان
إلى امتشاق الحسام وطرد الأتراك المسلمين من بلادهم ونشر المسيحية
فيها، ألا تكونوا أنتم بذلك تستعملون السيف لتعليم الناس الديانة، ألا
تستاءون أنتم إذا حاول الأتراك طرد الأميركان من بلادهم؟ والأفضل لكم
أن تقولوا للشعب المسيحي أن يعمل بقول الكتاب وهو: أخرج القذى من
عينك أولاً.
* * *
(استعانة بعض الجرائد الأوربية على تعصبها بقول الزور)
كتب المستشرق الشهير (فمبري) المجري إلى جريدة وقت الروسية
يكذب ما نقلته عن جريدة (بودابست هيرلات) معزوًّا إليه من التحريض
على إزالة ملك المسلمين من الأرض، والقول بوجوب انقراضهم، وقال:
إن ذلك الكلام مفترى عليه في تلك الجريدة المجرية لخصومة شخصية،
وصرَّح بأنه صديق للترك وسائر الشعوب الإسلامية منذ خمسين سنة وأن
المثل التركي يقول: الصديق القديم لا يكون عدوًّا.
ولما كنت قد أشرت في بعض مقالات المسألة الشرقية إلى ما نسب
إليه وجب عليَّ أن أُبَرِّئَهُ منه، وأنبه على مبلغ تعصب تلك الجريدة الكاذبة.
* * *
(تصحيح أغلاط في الجزء العاشر من المنار)
1- أرسل إلينا مترجم مجلة دين ومعيشت التي ناقشناها فيها في الجزء
الماضي يقول: إنه قابل الترجمة التي نشرت في المنار بالأصل فوجد فرقًا في
موضعين؛ أحدهما في السطر السابع من ص 769 ونص ما نشر هكذا: (ولا سيَّما
بين غير المتدينين في ديار القزاق والباشقرط، فهم) وحقه أن يكون هكذا (ولا
سيما بين غير المتمدنين، في ديار القزاق والباشقرط مثلاً) ، وثانيهما في السطرين
الثالث والرابع من ص 770 ونص ما نشر هكذا: (سبب دخول الإنكليز مصر
التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز) ، وحقها أن تكون هكذا: (سبب دخول
مصر التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز) .
2 - جاء في السطر السابع من ص 782: (رئيس وزارة إيطالية) ،
وصوابها (ناظر خارجية إيطالية) .
3 - في السطر السابع من ص 791 (الأصل 29) وصوابه (الأصل
30) .
4 - في السطر 18 من ص 798 (علم النفس والأخلاق) ، وصوابه
زيادة (والحكمة العقلية) بين علم النفس والأخلاق، فليصحح ذلك بالقلم.
هذا ما عدا أغلاط الطبع المدركة بالبداهة.
* * *
(حوالات المنار)
المرجو أن ترسل جميع الحوالات باسم منشئ المجلة (محمد رشيد
رضا) وأن لا يرسل شيء منها باسم وكيل ولا غيره، وأن تكون حوالات البريد
كلها على مكتب (بوسطة مصر) دون فروعها.
* * *
(تأخر المنار عن موعده)
تأخر صدور الجزء الماضي بسبب نقل إدارة المجلة من شارع درب الجماميز
إلى شارع مصر القديمة وتعطل أعمال المطبعة والإدارة أكثر من شهر، وتبع ذلك أن
هذا الجزء يتم في آخر ذي الحجة ويتأخر الذي بعده أيضًا ثم ينتظم الصدور في
المواعيد إن شاء الله تعالى.
__________(14/876)
ذو الحجة - 1329هـ
ديسمبر - 1911م(14/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(أخذ الأثاث واللباس من أهل الكتاب)
(والنفقة على الزوجة الممكنة)
(س 68 - 69) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
(1) ما قولكم، رضي الله عنكم، فيما عمت به البلوى في هذه الأيام من
اتخاذ المسلمين نحو اللباس وأثاث البيت من النصارى واليهود، ولم يتمكن عليهم
(كذا) تجنبه إلا بعسرة شديدة، وهل هو جائز أم حرام أم كيف الحال؟ فإن قلتم
بالجواز فما المراد من هذا الحديث الشريف: (من تشبه بقوم فهو منهم)
فإن قلتم بالتحريم فذاك، أفتونا فلكم الأجر والثواب.
(2) ما قولكم - عز قدركم - في امرأة لا تمكن نفسها على الزوج بأن لا
تعرضها عليه، كأن لا تقول: (إني مسلمة نفسي إليك) ولكنها تطيع لزوجها
بأن تجيب أمره الذي يجب عليها، هل تجب لها النفقة عليه أم لا؟ فإن قلتم
بالوجوب، فما تقولون في عبارة فتح القريب ونصها: وتجب النفقة على الزوجة
الممكنة. قال العلامة الباجوري: بأن عرضت نفسها عليه كأن تقول: (إني مسلمة
نفسي إليك) فإن قلتم بعدمه فما قولكم في إفتاء بعض العلماء بالوجوب؛ لأن
إجابة أمر الزوج الذي يجب عليها عين التمكين، ولسان الحال أفصح من لسان
المقال، بينوا لي بيانًا واضحًا، هذا وأسأل الله أن يعطيكم الفضل والرضوان،
بجاه سيد ولد عدنان، اللهم آمين.
... ... ... مكة المؤرخ في 14 القعدة سنة 1329 هجرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علوي
(تشبه المسلمين بغيرهم ومخالفتهم لهم)
(ج) اتخاذ اللباس والأثاث من اليهود والنصارى ظاهر لفظ السؤال؛ أن
المراد اتخاذ ذلك من مصنوعاتهم واشتراؤه منهم، ولا أعلم أن هذا كان موضع
خلاف بين الفقهاء، وما زال الناس سلفًا وخلفًا يشترون ما يحتاجون إليه من
مصنوعات أهل الكتاب وغيرهم، من تجارهم وغير تجارهم، وقرينة الحال وإيراد
حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، يدلان على أن مراد السائل باتخاذ اللباس والأثاث منهم هو أن يلبس المسلم مثل لبساهم، ويستعمل مثل أوانيهم فيكون متشبهًا
بهم، وإن كان ذلك اللباس والأثاث من صنع المسلمين.
وهذه المسألة قد كثر السؤال عنها من جزائر جاوه والملايو؛ ولعل السائل
منهم، وأجبنا عنها مرارًا كثيرة في عدة مجلدات من المنار. وبينا أن الإسلام لم
يفرض على المسلمين زيًّا مخصوصًا لذاته ولا حرم عليهم زيًّا مخصوصًا لذاته، وأنه
ثبت في السنة الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الجبة الرومية
والطيالسة الكسروية. ولم يثبت عنه ولا عن خلفائه أنهم كانوا يأمرون من يدخلون في
الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس أن يغيروا أزياءهم، ولكن الذين كانوا
يدخلون في الإسلام كانوا يتبعون المسلمين حتى في أزيائهم وعاداتهم.
أما مسألة تشبه المسلمين بغيرهم؛ فإن كان في أمر دينهم أو ما حرمه ديننا
وإن لم يبحه دينهم فلا شك ولا خلاف في حظره، بل صرح بعض الفقهاء بأن من
تشبه بهم في أمر دينهم وشعائرهم بحيث يظن أنه منهم يعد مرتدًّا، ويجري عليه
حكم المرتد قضاء. وإن كان هذا في أمور الدنيا المباحة في نفسها؛ كالأزياء
والعادات فهو مكروه، ولكنه إذا فعل مثل فعلهم ولبس مثل لبسهم غير قاصد للتشبه
بهم، فلا يسمى متشبهًا، ولا يكون منه ذلك مكروهًا.
هذا ملخص ما حرره الفقهاء ومن أخذ الحكم من حديث: (من تشبه بقوم فهو
منهم) جزم بأن القصد في المحاكاة داخل في معنى التشبه؛ لأن صيغة التفعل
تدل على ذلك. وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع من المنار، وبينا في
ص 61 من المجلد الثالث عشر أن ابن حبان قد صححه، وكان يتساهل في
التصحيح، وأن غيره ضعفه، وأن معناه من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم في
شيء بتكرار محاكاتهم فيه؛ انتهى التشبه به إلى أن يكون مثلهم في ذلك الشيء، وهذا من قبيل حديث: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) رواه الطبراني، ولذلك قالوا:
إن التشبه بالكرام فلاح
والحديث لا يدل على ذم التشبه في كل شيء، ولا على مدحه في كل شيء،
ولا على أن المتشبه بقوم في شيء يكون مثلهم في جميع الأشياء.
لو لم يكن في هذه المسألة إلا هذا الحديث الذي جعله عبيد العادات العتيقة
هجيراهم عند مقاومة كل جديد؛ لسهل على عبيد العادات الحديثة الرد عليهم
والاحتجاج بما هو أحص منه متنًا وسندًا من لبس النبي - صلى الله عليه وسلم -
لزي مشركي قومه في الغالب، وزي النصارى والمجوس في بعض الأحوال،
ولأمكنهم أن يزيدوا على ذلك مثل قولهم: إن الدولة العثمانية لو لم تأخذ عن أهل
أوربة هذا السلاح الجديد والنظام العسكري الحديث وتتشبه بهم في أعمال الحرب؛
لسهل على حكومة صغيرة كانت بلادها ولاية عثمانية كالبلغار أن تدمرها وتأخذ
عاصمتها في أسبوع واحد، كما سهل على الأوربيين أخذ أكثر الممالك الإسلامية
التي لم تتشبه بهم في ذلك أو جميعها. ولكن وراء ما نسمعه من هؤلاء وأولئك من
العلم النقلي والعقلي والاجتماعي المؤيد بالاختبار ما لم تصل إليه روايتهم، ولم تسم
إليه درايتهم.
ثبت الهدي النبوي بمخالفة المسلمين لغيرهم فيما يتعلق بأمر الدين والدنيا؛
كحديث: (صوموا عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يومًا وبعده يومًا)
رواه أحمد والبيهقي في سننه بسند صحيح، وكان أمر بصومه وحده، فقيل له:
إن اليهود تصومه؛ فأمر بمخالفتهم بالزيادة، كما أمر بمخالفتهم بتغير الشيب وكانوا
لا يخضبون. رواه الشيخان وغيرهما، وخالفهم في سدل الشعر، فكان يفرق شعره
(كما ثبت في الشمائل) وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى عامله في بلاد العجم
عتبة بن فرقد ينهاه ومن معه عن زي الأعاجم.
والحكمة في هذه المخالفة أن يكون للأمة الإسلامية التي كانت تتكون في ذلك
العهد مقومات ومشخصات ذاتية تمتاز بها عن سائر الأمم، فتجعل نفسها تابعة لا
متبوعة وإمامًا لا مقلدًا. وأن لا تأخذ عن غيرها شيئًا لأن غيرها يفعله؛ بل تأخذ ما
تراه نافعًا أخذ العاقل المستقل الذي يستعمل عقله وعلمه في عمله، ولا يكون إمعًا
يتبع غيره حذو النعل للنعل الحكمة ضالة المؤمن.
ولو اتبع كل جيش من الصحابة فتح بلادًا لعادات أهلها وأزيائهم لفني فيهم،
ولكن المسلمين على قلتهم كانوا يجذبون الأمم باستقلالهم إلى أتباعهم، حتى انتشر
الدين الإسلامي ولغته في العالم سريعًا. ثم كان من شؤم التقليد الذي أصبنا به أن
نتقل جماهير المسلمين في هذه الأزمنة من التقليد في الدين والعلم إلى التقليد في
العادات، حتى غلبت عليهم عادات الأمم الأخرى فوهت قوتهم، وسحلت مرائرهم،
وصاروا عالة على غيرهم، فأين نحن اليوم من حكمة عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - حين زينوا له في الشام أن يظهر بمظهر العظمة والزي الرائع لأهل البلاد
الذين تعودوا أن يروا حكامهم كذلك، إذ قال: إنما جئنا لنعلمهم كيف نحكمهم لا
لنتعلم منهم كيف يُحكَمون.
إننا أسهبنا في هذه المسألة في كتابنا (الحكمة الشرعية) الذي هو أول كتاب
ألفناه، ونحن في طور الطلب والتحصيل، وفرقنا هنالك بين حكم الأزياء في نفسها،
إذا تزيّا بها الأفراد لحاجتهم إليها، وبين تشبه الأمة بغيرها، وما فيه من المضار
الاجتماعية والسياسية، وكذا بين اقتباس الفنون والصناعات الحربية والعمرانية عن
الإفرنج، وبين التشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم، وما في الأول من النفع الذي لا
نحيا بدونه، وما في الثاني من الضرر الذي يحل جامعتنا، ويفسد كياننا، على أننا
مفتونون بالضار معرضون عن النافع، ونقلنا في العدد 29 من سنة المنار الأولى
نبذة في بيان ضرر الثاني أولها:
(إذا نظرنا إلى التقليد والتشبه من طرف السياسة تجلى لنا أن الصواب
امتناع أمتنا عن التشبه أو التقليد لغيرها من الأمم في الأزياء والعاد (جمع عادة) ،
وكل ما لا فائدة فيه ولاسيما المناصبين والمحادين لنا) .. إلخ، فليراجعه من شاء
في ص 551 من الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول.
ولو أردنا أن نبين هذه المسألة بالتفصيل التام، لاحتجنا إلى تأليف مجلد كبير
أهم مباحثه؛ ما ورد في الكتاب والسنة، وعمل الصحابة من النصوص والأفعال
في ذلك، وما أخذه المسلمون عن غيرهم في الصدر الأول، وما تحاموه من ذلك
بقصد المخالفة لغيرهم لتكوين جامعتهم، وما يفعله المسلمون في هذه الأزمنة، وما
يتركونه من ذلك اتباعًا للهوى أو العادة لا للمصلحة ولا للشرع، وإن ادعى بعضهم
اتباعه فيه.
إن النصوص والمسائل التي تتعلق بالتشبه وعللها وحكمها، تختلف باختلاف
المنافع والمضار والمقاصد. وقد ألف ابن تيمية فيها كتابًا كبيرًا سماه: (اقتضاء
الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) توسع فيه ببحث مشاركة المسلمين
لغيرهم في أعيادهم، وشدد في ذلك بالدليل والبرهان، وناهيك بسعة اطلاعه ودقة
فهمه، ومع هذا تمكن أن يزاد ويستدرك عليه، ولكن لكل مقام مقالاً، ولكل زمن
مصالح وأحوالاً، وما يعقلها إلا العالمون المستقلون، وإن من موانع العقل والفهم
أن تجعل المسألة دينية تعبدية، وما هي إلا من المصالح الاجتماعية السياسية، فلا
نجمد فيها جمود بعض المغاربة الذين تحرجوا من زيّ الجند الأوربي الذي يتوقف
على مثله إتقان الحركات والأعمال العسكرية التي تعد من أعظم أسباب تفوق جند
على جند، ولا نغلو غلو بعض المشارقة الذين يقلدون الأوربيين في كل زي تقليدًا
أعمى من غير حاجة إليه، كالحازقين الذين يلبسون الثياب الضيقة الضاغطة التي
تعوقهم عن العبادة والحركة، ولا هي من أسباب الصحة ولا الراحة في بلادهم
الحارة، بل نتأمل فيما عند غيرنا من أمثال هذه المستحدثات الدنيوية، فما وجدناه
ضارًا بأجسادنا أو بثروتنا أو بآدابنا اجتنبناه ألبتة ونجتنب أيضًا ما لا يضر ولا
ينفع، وما كان ضره أكبر من نفعه. وأما ما وجدناه نافعًا نفعًا لا ضرر معه أو معه
ضرر قليل يزيد عليه ضرر تركه وإهماله فإننا نقتبسه لا بقصد التشبه والتقليد، بل
بقصد النفع الذي ثبت عندنا، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - في اقتباس
حفر الخندق من الفرس، ونجتهد مع هذا في جعله أحسن مما عليه غيرنا أو مخالفًا
له نوعًا ما من المخالفة التي تكون عنوان استقلالنا وتميزنا، وسدًا دون فنائنا في
غيرنا من الأمم.
أنا أعتقد أن تقليد المسلمين في الآستانة ومصر وغيرهما للأوربيين،
وتحريهم التشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم، قد كان مفسدة من المفاسد التي أضعفت
جامعة الأمة، وراخت عقدتها، وأوهنت أخلاقها، وجرفت ثروتها. وترى هذه
المفاسد على أشدها فيمن تعلموا لغات الإفرنج، وولعوا بزيارة أوروبة، فإن ما
يبذله المصريون منا في أوربة كل عام على الشهوات واللذات والزينة والقمار يكفي
لتعميم التربية الملية والتعليم النافع في القطر المصري كله؛ ومنه الفنون التي يجب
أن تقتبس من أوربة لإحياء الصناعة والتجارة، وإننا نرى الشاب أو الكهل منا
يترك زيه الوطني ويستبدل به الزي الإفرنجي ما عدا القبعة (البرنيطة) التي
يلبسونها في أوروبة فقط؛ لأجل أن يأمن الانتقاد إذا هو جلس في الحانات العامة
لمعاقرة الخمر، أو دخل مواخير البغايا لأجل الفسق، ونرى أن لابسي هذه الأزياء
تضعف رابطتهم بلابسي الأزياء الوطنية الأولى، وتقل ألفتهم وأنسهم بهم، ونسمع
منهم من انتقاد بعضهم على بعض، كما نسمع من المتغايرين في الجنس أو الملة أو
الوطن، ومن أغرب ضروب هذه التفرقة أن المتخرجين في المدارس العليا؛ لم
يقبلوا أن يكون المتخرجون في دار العلوم (مدرسة المعلمين العربية (أعضاء في
ناديهم، عندما أسسوه وهم أساتذتهم ومعلموهم، فاضطر هؤلاء إلى تأسيس ناد لهم
خاص بهم، وإني أعتقد أن اختلاف الزي مباعد بين القلوب أنه سبب باطن من
أسباب ذلك، ناهيك بما يضاعفه من لوازمه وغير لوازمه من اختلاف التربية،
وليس ضرر هذه التفرقة بين جماعات الأمة، ولا سيما جماعات المتعلمين بالأمر
اليسير، كلا. إنه لأمر كبير يستحيل أن تكون الأمة معه مستقلة عزيزة، وليس
هو الداء الوحيد الذي رمانا به التفرنج، بل إن أرقى المتفرنجين منا يتلذذ بإنفاق
ألوف الدنانير في القمار والفسق، ولا يخرج منه الدينار أو الدرهم لمصلحة الأمة
أو لأصحاب الحق عليه من قومه إلا نكدًا، وهو يزعم مع هذا الفساد أن الأمة ما
أفسدها إلا الدين أو أهله وعلماؤه. وحسبنا هذه العجالة هنا.
* * *
(2 - الجواب عن مسألة طاعة المرأة لزوجها)
لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما
يدل على أن الطاعة الواجبة؛ تتوقف على النطق بمثل ما ذكره بعض الفقهاء في
مسألة طاعة المرأة لزوجها، ولا يدل على ذلك إجماع ولا قياس، ولم يمض به
عرف، وإنما قاله من قاله من الفقهاء تصويرًا للطاعة بما خطر في باله أنه يكون
حجة على الزوج؛ إذا أراد أن يمتنع عن النفقة متعللاً بعدم الطاعة، وإنما العبرة
في الطاعة بالفعل لا بالقول إلا ما كان الأمر فيه بالقول، وطاعة أولي الأمر واجبة
بنص الكتاب، ولم يقل أحد من الفقهاء بأنها تتوقف على قول يشعر بها أو أنه
يشترط فيها ذلك.
وظاهر عبارة السائل أنه يفرض المسألة في المرأة في حجر زوجها، وإنما
صور الفقهاء التمكين بمثل ذلك القول في ابتداء وجوب النفقة، فكان مذهب
الشافعي القديم أن النفقة تجب بالعقد ثم رجع عنه إلى وجوبها بالدخول، وهو
الصواب الموافق للسنة، ومتى دخل الرجل بامرأته وجبت عليه نفقتها إلا إذا
عصته في نفسها؛ إذ معنى ذلك أنها تأبى أن تكون زوجًا له، ويكتفى بالطاعة
بالفعل ولا يشترط أن تقول له شيئًا، وإنما يحتاج إلى مثل ذلك القول إذا عقد النكاح،
ولم يطلب هو من عقد عليها إلى بيته حسب العادة والعرف، وأرادت أن تطالبه
بالنفقة وتقاضيه فيها، وعلمت أنه يحتج بعدم الدخول وهو المقصر فيه، فلا بد لها
في مثل هذه الحال من مطالبته بالحياة الزوجية التي تترتب عليها النفقة مطالبة
يمكن الاحتجاج بها أمام القاضي، وهو ما عبروا عنه بالتمكين، وإن كان تعبيرًا
يمجه ذوق الأدباء والمنشئين. وهذه المطالبة يصح أن تكون منها أو من وكيلها أو
وليها، ولكن بعض الشافعية صرحوا بأن المكلفة والسكرانة تعرض نفسها بنفسها،
ويعرض غيرهما وليها بناء على سعة تصرف المرأة في الشريعة، وصرح بعضهم
بأن هذا غير شرط وأنه يعمل بالعرف، وهو أن المرأة يتكلم في شأن زواجها وليها
ولا سيما البكر، كما ترون في حاشية الشبراملسي على النهاية، وهذا هو الذي
يتجه لأن المحكم في مثل هذا هو العرف.
* * *
تفسير:] وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [[*]
(س 70) من صاحب الإمضاء بدمشق الشام
حضرة المصلح الكبير سيدي السيد محمد رشيد رضا أدام الله نفعه آمين.
بعد تقديم واجب الاحترام أعرض أنني قرأت في مناركم الأغر (ج6م14)
جوابًا على سؤال ورد من دمياط من مصطفى نور الدين حنطر عنوانه: (القدر
وحديث خلق الإنسان شقيًّا وسعيدًا) وحقيقة لقد أجدتم في الجواب بحيث قطعتم
ألسنة الذين يحتجون بالقضاء والقدر (أي على الجبر والكسل) ، وظهر فساد رأيهم
بحجج ناهضة لا يعقلها إلا العالمون، وأزلتم من الشكوك والخطرات ما يصعب
على غيركم إزالته، فجزاكم الله خير الجزاء، لا زلتم ملجأ للتائهين عن المحجة
البيضاء، وداحضين شبهات المتنطعين المقلدين الذين لم يعرفوا من الدين إلا قوال
هذا وذاك. هذا وقد وقع في خلدي شبهة في مسألة القضاء والقدر في قوله تعالى:
{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة: 13) ، فأرجوكم كشف قناع تفسير هذه الآية حتى
يطمئن القلب ويظهر الصبح لذي عينين؛ لأنها أوقعتني في ارتباك لا يزول إلا
باستنشاق نفحات علومكم وورد معارفكم، وأتمنى أن يكون الجواب في أول عدد
يصدر من مجلتكم، حفظكم الله وجعلكم منارًا لكل مستنير آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الفتاح ركاب السكري
(ج) معنى الآية الحكيمة والله أعلم {وَلَوْ شِئْنَا} (السجدة: 13) أن
نجعل الناس أمة واحدة مهتدين صالحين كالملائكة {لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: 13) ، وجعلناه أمرًا خلقيًّا فيها لا تستطيع غيره ولا يخطر في بالها
سواه، وحينئذ لا يكون هذا النوع هو النوع المعروف الآن، ولا يكون مكلفًا مجزيًّا
على عمله؛ لأنه لا اختيار له فيه، ولا يكون ثم حاجة لوجود دار للجزاء على
الحق والخير، ودار للجزاء على الباطل والشر.
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي} (السجدة: 13) إلخ معناه: ثبت
وتحقق القول المؤكد مني بأن يكون الجن المستترون، والناس المتجسدون مكلفين؛
لأنهم يعملون بالاختيار، ومثابين معاقبين لاختلاف الأعمال بالتفاوت في العلم
والاستعداد؛ ليكون لجهنم منهم ملؤها، كما يكون للجنة قسطها، أي فلهذا لم نؤت
كل نفس هداها بأصل الخلقة بل هديناها النجدين، ودللناها على الطريقين، بأن
خلقناها مستعدة لقبول الحق والباطل، وعمل الخير والشر، وآتيناها علمًا وإرادة
واختيارًا ترجح بها سلوك أحد الطريقين على الآخر، وجرت سنتنا بأن يكون
عمل كل نفس بقدرة صاحبها متوقفًا على ترجيح الفعل أو الترك على ما يقابله،
وأن يكون الترجيح بإرادة العامل، وأن تكون الإرادة تابعة للعلم بالمنافع والمضار
والمصالح والمفاسد، كما جرت سنتنا وسبقت كلمتنا بأن يكون من خلق الإنسان
ومقتضى فطرته أن يرجح دائمًا فعل ما ينفع وترك ما يضر بحسب علمه بذلك،
فعلى هذا تكون سعادة الإنسان وشقاوته تابعين لعلمه بالحق والباطل والخير والشر،
فإن كان علمه صحيحًا وجدانيًّا أو عقليًّا غير معارض بوجدان غالب رجح الحق
والخير على ضدهما فكان سعيدًا، وإلا رجح الباطل والشر فكان شقيًّا، ولكن الناس
كثيرًا ما يجهلون الحقائق في ذلك، فيرجحون ما فيه شقاوتهم على ما فيه سعادتهم.
وقد لطف الله تعالى بالإنسان فأمد علمه المسكوب الناقص بالوحي، الذي هو كالعقل
للنوع.
لا يذهب بك الظن إلى أنني خرجت عن معنى الآية بما أشرت إليه من سنة
الله في خلق الإنسان فيها، فإنك إذا راجعت ما قبلها من السورة، تجده في خلق
الإنسان وحكمة الله وإبداعه فيه، فإنه تعالى ذكر في أولها إنزال الكتاب وكفر من
كفر به، ثم ذكر خلق السماوات والأرض وتدبيره الأمر بينهن، وكونه أحسن كل
شيء خلقه، وخلق الإنسان وتسويته، ونفخ الروح فيه، وإعطاءه الحواس والعقل
وأنه قليلاً ما يشكر له هذه النعم باستعمالها فيما خلقت له، ثم ذكر إنكار المشركين
للبعث، ثم الموت والجزاء، وتمنيهم الرجوع إلى الدنيا في يوم الحساب، ثم ذكر
الآية. فلا بد في تفسيرها من التوفيق فيها بين مقتضى المشيئة، ومقتضى سنن
الخلقة، فإن مشيئة الله تعالى إنما تجري بسننه في خلقه، كما بينا ذلك مرارًا،
والسياق هنا جامع للأمرين.
والقول في هذه الآية تكويني كقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء والأرض:
{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11)
وقوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء: 69) ومنه
كلمة التكوين العامة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس:
82) وتسمية عيسى المسيح كلمة الله، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ} (الصافات: 171-172) كل هذا وأمثاله مما
يذكر في بيان خلق الأشياء، وسنن الله في تكوينها ليس من القول اللفظي ولا الكلام
النفسي، وإنما هو القول والكلام التكويني الذي هو من متعلقات صفة الإرادة
والمشيئة التي يتبعها الإيجاد والتكوين، لا متعلقات صفة الكلام التي يكون بها
الوحي والتكليف، فمعنى {حَقَّ القَوْلُ} (السجدة: 13) بما ذكر في الآية أنه
مما تعلقت به مشيئة الله تعالى في التكوين، فإنه تعالى شاء أن يكون الناس كما قال
في آية قبلها ذوي حواس وعقول متمكنين من الشكر والكفر، كما نعرف من أنفسنا
وأبناء جنسنا، وبذلك كانوا مستعدين للأشياء المتقابلة المتضادة، مختارين في
الترجيح بينها، ويترتب على ذلك أن يحسن فريق منهم الاختيار فيكونوا من
أصحاب الجنة، ويسيء فريق منهم الاختيار فيكونوا من أهل النار، وتتم كلمة الله
في تكوين الفريقين على ما سبق بيانه، وهذا ينطبق على ما شرحناه في تفسير
القدر، وكونه عبارة عن النظام الإلهي والسنن.
__________
(*) (السجدة: 13) .(14/906)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة عالم مسلم
لدعاة البروتستانت في بغداد
تنشر المجلات الدينية التي يصدرها دعاة النصرانية مناظرات خيالية،
يصورون وقوعها بين بعض المسلمين وبعض النصارى، يدعون فيها أن المسلم
يذعن لكل ما يقوله له النصراني، فلا يكون إلا محجوجًا في كل مسألة، ومنها
مناظرة رأيتها في هذه الأيام منشورة في مجلة الشرق والغرب، ادعى فيها
النصراني أن القرآن فرض العقاب أي الدنيوي على المرتد والحبس على المرتدة!
وأجاز المسلم ذلك وقبله، وهو لا أصل له، وها نحن أولاء ننشر لهم مناظرة
حقيقية بين عالم مسلم مشهور وهو السيد هبة الدين صاحب مجلة العلم في النجف
وبين قسوسهم في بغداد، وهو الذي اختار نشرها في المنار على نشرها في مجلته؛
لأن المنار كما قال أوسع انتشارًا، وهذا نصها:
(بحثنا مع الدعاة البروتستانتيين. حفلة أُنْس مع رفقة فضلاء)
قضينا حزيران (يونيو) هذه السنة في مدينة السلام، نتجول في محافل
فضلائها الأعلام، نستفيد من موائد فوائدهم، ونستأنس من طيب أخلاقهم وعوائدهم،
ومن جملة الأندية العلمية الدينية أو الحفلات الأنسية الودادية، حفلتان شريفتان
اجتمعنا فيهما بالفضلاء المبشرين الفلاسفة الدكاترة دعاة البروتستانتية النصرانية
المشهورين بطبيب الأخلاق والتقدم في الطب العملي، والروحي الملكوتي، وهم
حضرة القس بيسي وينسنت بويس [1] والدكتور الكبير جونس [2] وفضيلة داود فتو
أفندي البغدادي والدكتور جورج ويلديل ستانلي [3] . وكان معنا في المحضر بعض
البغداديين، وجمع من أجلاء النجف الأشرف من العائلة الجليلة الجواهرية
وغيرهم.
جرت في ذينك المحفلين الجليلين محاورات أدبية، وملاطفات ودادية، انتهت
بنا إلى محادثة دينية فلسفية، نتلو خلاصتها لمن ألقى سمعه طلبًا لتعميم الفائدة
وتمحيص الحقيقة.
(تقدس الإنجيل)
قلت للفاضل داود أفندي: ما تلك بيمينك؟ قال: الكتاب المقدس. فقلت: ما
المقصود من تقدسه؟ قال: إنه منزه من كل كذب وخطأ وشبهة. فقلت: من
جمعه وألفه؟ قال: الحواريون: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، فقلت: هل كان
هؤلاء مقدسين في أنفسهم؟ قال: كلا. ليس في العالمين مقدس غير سيدنا المسيح
عليه السلام.
فقلت: إذا كانوا غير مقدسين عن الأخطاء والكذب، كيف يصير ما ألفوه
مقدسًا عنهم، أم كيف يطمئن أحد بتقدس مجموعة يحتمل الخطأ والكذب في جامعها؟
قال: إن روح القدس موجود في هؤلاء فيعصمهم ويقدسهم.
قلت: من أين تعلم بوجوده فيهم؟ وكيف عرف الناس ذلك؟ وبأي سبب
اختصوا بحلول تلك الروح فيهم دون البرية؟
قال: إن روح القدس يملأ كل إنسان عمومًا ولا خصوصية له بهؤلاء فقط.
قلت: حتى الوثنيين والمسلمين وغيرهم؟
قال: نعم.. وهو الذي يهديهم إلى الخير ويحذرهم عن الشر.
فقلت: تختلج في ضميري ها هنا مشكلات:
1- إنك قد قلت: ليس في العالم مقدس غير المسيح عليه السلام، والآن تقول
جميع من في الأرض مقدس، وهذا تناقض في القول.
2 - إن روح القدس (الذي بنيتم على أنه يقدس من حل فيه) ، لو أصبح
موجودًا في كل إنسان عمومًا كما أفدت لزم أن تصحح كل متناقضين، وتصدق كل
أمرين متنافيين؛ لأن القائل بكل منهما بشر حل روح القدس فيه، فلو اعتقدت
التوحيد في الله - سبحانه - وبرهنت عليه، واعتقد غيري الشرك فيه تعالى
واستدل عليه، وجب أن تصحح كلا الاعتقادين وتصدقهما جميعًا؛ لأن فينا معًا
الروح القدس (المستوجب لتقدس مظهره) وبديهة العقل؛ كإجماع العقلاء قاضية
ببطلان هذه المسألة.
3 - لو صح وجود روح القدس في كل إنسان عمومًا لزم من صحة هذه
القضية فساد نفسها، وكل ما يلزم من وجوده عدمه أو من صحته فساده أو من إثباته
نفيه فهو باطل مستحيل، ألا ترى أنك لو أيقنت بوجود روح القدس في كل إنسان،
وأنه يعصم من وجد فيه عن الخطأ، لزمك أن تعتقد بأنني (المخاطب لك) أيضًا
معصوم بحلول روح القدس في باطني، والحالة أنني مثلاً أعتقد بعدم وجود روح
القدس في كل إنسان، أو أنه لا يعصم من حل فيه، فيلزمك أن تعتقد بصحة جميع
ما أراه، ومن جملة ما أراه فساد تلك القضية التي صححتها أنت، فقتلت القضية
نفسها.. (مسرة في الجميع كأنهم استظرفوا هذا الكلام) .
ثم قلت (4) إنكم معنا تعتبرون (ولا شك) الصدق والكذب في المحاولات،
وتقولون: هذا كاذب أو مبطل، وهذا صادق أو محقن، وتتحرون العلائم
والأمارات فيهما، فلو كان الناس كلهم مقدسين بروح القدس لم يبق موقع للتحري،
ولغت أكثر الأمور أو خالفتم فطرة الناس وجبلتكم، ولكان الإسلام حقًّا والقرآن
صدقًا.
قال: هذه مسألة فلسفية طويلة.
(بشرى الائتلاف، في معنى قولهم المسيح ابن الله)
تذاكرنا في نسب المسيح عليه السلام المذكور في الإنجيل، وفي آخره ابن
فلان ابن آدم ابن الله.
فقلت: كلمة (ابن الله) هاهنا صفة لآدم عليه السلام أو لعيسى عليه السلام
مع كثرة الفواصل؟ فقال داود أفندي: إنما هي صفة آدم عليه السلام.
قلت: كيف يكون آدم ابن الله؟
قال: إذ لم يكن له أب جسماني، وإنما خلق بقدرة الله ومشيئته.
فقلت: لم لا تقولون في عيسى عليه السلام أنه ابن الله بهذا المعنى؟
قال: بلى نقول فيه أيضًا بهذا المعنى لا غير.
قلت: إذن توافقتم مع المسلمين في المعنى واختلفتم في اللفظ؛ إذ المسلمون
أيضًا يعتقدون في آدم وفي المسيح أنهما مخلوقان من أمر الله وبقدرته بلا انتساب
منهما إلى أب جسماني، ويستدلون بما في القرآن العظيم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59) .. إلخ.
نعم اختلفتما من جهة أنكم تسمونه (ابن الله) فهذه الملاحظة، والمسلمون
يتنزهون من هذه الكلمة تقديسًا لله تعالى عن شوائب المجسمة، ويقولون: عيسى
روح الله وكلمته، فاتفقتم معهم في الجوهر في أمر عرضي لا أهمية فيه.
(أساس الطب التجربة)
قال. د. (جونس) : هل عنكم في النجف أطباء؟
قلت: نعم.. كثيرون.
قال: يحكمون بالطب الجديد؟
قلت: فيهم من اشتغل بالطب الجديد، وهو موظف من الحكومة المحلية..
ولكن مسلك الأكثر منهم الطب القديم.
قال: مسلكهم مسلك العجائز والبدو؛ يعالجون المرضى بالكي ونحوه.
فقلت: أساس الطب ومبناه هو التجربة، فإذا جرب الناس عملاً علاجيًّا
وعهدوا منه الفائدة العمومية دائمًا، فلا لوم عليهم إذا رجعوا إليه عند مسيس الحاجة
قال: ليست التجربة مبنى الطب وأساسه، بل العلم هو أساس الطب.
فقلت: التجاريب تهدي الناس إلى معرفة الضار والنافع، والعلم يظهر لهم
علة المضرة والمنفعة، فالتجربة تقضي مثلاً بضرر المحموم إذا اغتسل بماء بارد
والمفكرة تشتغل بتعليل ذلك، فيظهر العلم سره وأن برودة الماء تسد مسام البدن
ومنافذ الأبخرة، فتحتبس في الباطن فيتضرر المحموم منه، فالتجربة أساس الحكم
والتعليل، التجربة طب سطحي والعلم يكسوه فلسفة..، التجربة من مبادئ حصول
العلم.. التجربة تجمع الأشباه والنظائر، فتمهد السبيل لوصول العلم إلى الحكم
الكلي، والناموس العام.
(هل المسيح عليه السلام واسطة لخلق العالم؟)
قال د. (جونس) في ضمن محادثته: (إن الرب هو المسيح.. كذا..)
فقلت: كيف يكون المسيح عليه السلام ربًّا؟
قال: لأنه خلق الأشياء كلها.
قلت: فهل كان في نفسه مخلوقًا مع ذلك أم لا؟
قال: نعم.. كان مخلوقًا من الأب تعالى.
قلت: كان إذن واسطة في خلق الأشياء بيننا وبين المولى سبحانه وتعالى.
قال: نعم.
فقلت: لم لم يخلق الله الأشياء بنفسه حتى احتاج إلى توسطه؟
قال: لأن الله مقدس من كل جهة، والخلق كلهم غارقون في بحر الخطأ
والذنوب، فكيف يتلطف عليهم الله ويجود عليهم بالوجود من دون واسطة.
قلت: تصورت من هذا الكلام إشكاليات متعددة.
(1) كيف غرقوا في بحر الخطأ قبل أن يوجدوا؟
(2) إن المسيح ليس بأسخى من الله، ولا هو أرأف منه بالعباد، حتى
يحتاج الناس إليه في عطوفة الله بهم وإفاضته عليهم.
(3) إن تقدس الله لو عد مانعًا من تعلق فيضه بالناس، حيث إنهم غير
مقدسين (من باب عدم المناسبة بين العلة والمعلول) فكيف جاز على المسيح أن
يخلق الخلق؛ إذ المانع سواء أكان من طرفه (وهو التقدس) أو من طرفنا (وهو
عدم التقدس) موجود على كل حال؛ بسبب عدم المناسبة المذكورة أو لنحتاج إلى
واسطة أخرى بيننا وبينه، فيعود الكلام ويتسلسل، فالتفت. د. (جونس) إلى.
د (جورج ويلديل ستانلي) وتكالما بالإنكليزية مدة ثم ساد الجميع سكوت.
(الحديث اللطيف)
إني قلت بعد ذلك: إن في مجمعنا من يقولون: إن الواسطة غير منحصرة
بحضرة المسيح عليه السلام أي: المقدسون في البرية كثيرون ومنهم محمد نبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم، ويثبت هؤلاء تقدسه بمثل ما تثبتون به التقدس
لعيسى عليه السلام، فلماذا لا يجوز أن يتوسط محمد صلى الله عليه وسلم بيننا
وبين المولى سبحانه وتعالى في الوجود وفي كل جود؟
قال متبسمًا: كيف يجوز ذلك، وقد خلق محمد بعد المسيح؟
فقلت: وقد جاء عيسى بعد آدم وجمهور الأنبياء، فكيف جاز أن يتوسط لهم
في الخلق؟
قال: توسط المسيح للخلق في عالم الملكوت، وجاء بعدهم في عالم الناسوت
فقلت: يقولون في محمد أيضًا مثل ذلك، وإنه تقدم في الخلق على الكل في
عالم الملكوت فتوسط لهم، ثم جاء في عالم الناسوت بعد الرسل جميعًا.
(الشر في المأكول أو في آكله)
قال. د. (جونس) : يتذاكر الناس أن الشيء الفلاني شر، والحالة أن الشر
من الإنسان المستعمل لذلك الشيء لا من نفس ذلك الشيء. مثلاً: من أكل شيئًا
فأصابه ضرر منه، تراه يشتكي من ذلك الشيء، مع أنه لا شر فيه وإنما الشر في
نفس الآكل؛ لأن الإنسان هو صاحب الخطيئة لا غيره.
فقلت: ههنا جهات لفظية يجب أن تنقشع غيومها، حتى لا تختلط الحقائق
بسببها.
قال: وما تلك الجهات؟
قلت: تفرقة الشر عن الضرر الذي تتصف به الأدوية والأشياء، فإن الضرر
في العرف أمر منتزع من خاصية في الشيء تؤثر أثرًا يخالف الصحة كالسم، أو
يخالف الهيئة الاجتماعية كالحسد والظلم، و. و.، ويقابله النفع وهو أمر منتزع
من خاصية في الشيء تؤثر أثرًا يوافق الصحة كالماء، أو يوافق نظام الاجتماع
كالعدل والإحسان و ... و ...
وأما الشر فقد يستعمل ويراد به الضرر، وقد يستعمل ويراد منه إنسان فاسد
الأخلاق وله استعمالات أخر. وإني ما عرفت المقصود منه في كلامكم؛ ولذلك ما
بادرت إلى الحكم عليه بشيء، فهل تقصدون من الشر الضرر أو غيره؟
قال: الضرر.
قلت: لا يشك أحد في أن الأشياء فيها بأنفسها خواص طبيعية تؤثر من ذاتها
ضررًا أو نفعًا، فالنار محرقة، والشمس مشرقة، والسم قتال، والماء رطب،
والزيت دسم، فهذه الخواص موجودة لهذه الأشياء سواء استعملها أحد أو لا،
وسواء تعلقت بجماد أو نبات أو حيوان أو إنسان صغير أو كبير مخطئ أو مقدس.
ثم إنكم في طبكم ومطبكم تتذاكرون على الدوام في خواص الأشياء، وتسمون
منها ضارًّا ومنها نافعًا من دون نظرة إلى الإنسان المستعمل لها.
فقال: المقصود من الشر الخطيئة (كأنه استدرك) .
قلت: نعم.. إذا كان المراد من الشر الخطيئة، لم يكن في العالم شيء ذو
خطيئة من الجماد والنبات والحيوان غير الإنسان؛ لأن الخطيئة تتوقف على
عصيان أحكام المولى، والعصيان فرع ثبوت أحكامه وتكاليفه ولا تكليف إلا على
الإنسان القادر، فلا يكن لغيره خطيئة. لكنني أذكر منكم كلامًا قد سبق؛ وهو أن
الإنسان عمومًا مقدس بوجود روح القدس فيه، فمن أين تكون له خطيئة؟ (سكوت
ساد الجميع) .
(رجعة المهدي ونزول عيسى عليه السلام)
قال. د. (جونس) : إن الشيعة يعتقدون برجوع المهدي وظهوره، وإن
عيسى عليه السلام ينزل من السماء ويؤمن به ويصلي خلفه.
قلت: نعم.. ولا تختص الشيعة بهذه العقائد، فإن أكثر المسلمين يعتقدون
ذلك، ولا يفارقونهم إلا في جزئيات وراء ذلك.
قال: كيف يجوز في العقل رجوعه بعد ألف سنة.
فقلت: مثلكم لا ينبغي أن يسأل هذا السؤال، ويطلب تعليل ذلك بالعقل،
فإنكم تعتقدون نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان بجسده الناسوتي، فكيف
جاز لديكم ذلك عقلاً بعد ألفي سنة أو أكثر؟ قال: نعم.. يجوز ذلك؛ لأن المسيح
مقدس، فلا تؤثر في بدنه عوامل الفساد، وغير المقدس لا يكون كذلك.
فقلت: اسمحوا لي بالإصغاء إلى جمل قصيرة.
(1) إن الشيعة أيضًا يدعون العصمة والتقدس في المهدي المنتظر،
ويحسبونه من الأئمة الإثني عشر (عج) .
(2) إن التقدس من الخطايا، لا يمنع تأثير العوامل الطبيعية في عالم
الكون والفساد، فإن الدين والأمور الروحية تتعلق بالعوامل الأدبية وتهذيب النفس،
وهي خاضعة للعوامل الطبيعية، فيموت الإنسان وإن كان نبيًّا مقدسًا، ويمرض
وينعس ويجوع ويعطش، أفلا تقرؤون تاريخ المسيح عليه السلام؛ وأنه كان يصفر
لونه من الصيام جوعًا وعطشًا، ويخضر من أكل النبات وغير ذلك، وأعظم منها
أنكم تعتقدون قتله بأيدي اليهود بتلك الكيفية الفجيعة، وتقرؤون خبر مقتله عليه
السلام وتبكون على ما أصابه، وقد اتخذتم الصليب تذكارًا لواقعته، فمن جوزتم
عليه هذه الانفعالات الجسمانية، وإن تقدسه لم يمنع هذه التأثيرات الطبيعية فيه،
كيف تقولون بأنه باق وسيعود بجسده الناسوتي من دون أن يخضع جسده للفواعل
الكونية.
(لست أنا الآن في صدد إبطال هذه القضية، ولكنني أذكرها نقضًا على ما
أسلفتموه) .
فتناجيا (جونس) و (جورج ويلديل ستانلي) بالإنكليزية طويلاً.
ثم قلت:
(3) لو كان تقدس الإنسان من الخطأ سببًا لتقدس بدنه عن الفساد وتنزهه
من العوامل الطبيعية، لزم أن لا يتأثر الطفل منها إذ لا خطيئة له، ولا سيما بعد
التعميد الذي يغفر له الخطيئة السارية إليه من آدم (أي على قولهم) مع أنا نجد
الأطفال أسرع تأثرًا بعوامل الفساد.
قال: ليس الطفل مقدسًا؛ لأن خطيئة أمه وأبيه تسري فيه فيصير خاطئًا.
فالتفت إليه حضرة السيد ك.. مهدي جمال الدين الهندي (وهو من علماء
النجف الأجلاء) وقال له: لو أثرت خطيئة الأم في الابن لزم على قولك أن يكون
المسيح عليه السلام أيضًا مخطئًا غير مقدس؛ لأن أمه السيدة مريم عليها السلام
ليست عندكم بمقدسة، فتسري خطيئتها في ابنها عيسى عليه السلام.
ثم قلت للدكتور (جونس) :
(4) لو كان تقدس الإنسان من الخطايا مانعًا من غلبة النواميس الطبيعية،
لزم أن لا يفسد شيء من الحيوانات العجم والبهائم؛ لأنها لا ترتكب خطيئة ولا
تعصي ولا تسري فيها خطيئة آدم عليه السلام، مع أنَّا نراها أخضع لسلطة الطبيعة
كونًا وفسادًا من الإنسان، والإنسان بقوته العلمية والعملية أقدر على مدافعة المضار
من الحيوانات الأخر.
قال: إن الحيوانات أيضًا في خطيئة؛ لأن بعضها يظلم البعض في حوائجه
قلت: نفرض حيوانًا منفردًا في جزيرة.
قال: أفيأكل من الأشجار ويقتات النبات أولاً؟
قلت: نعم.. بالضرورة.
قال: فهو ظالم على النبات، وبذلك يصير مخطئًا غير مقدس.
قلت: أفلم يكن عيسى عليه السلام يقتات النبات ويأكل مما نأكل، مع أنه لم
يعد ظالمًا، وكان مقدسًا بتمام معنى الكلمة؟
وأيضًا ما تقولون في النبات؟ هل يظلم أحدًا ويخطئ مع أنه يفسد بفواعل
الطبيعة ويتغير.
قال: نعم.. النبات أيضًا مخطئ.
قلت: يا سبحان الله، ولماذا؟
قال: لأنه يفيد الحيوان والإنسان في المأكل والملبس وغيرهما، مع أنهما
ظالمان خاطئان، ومن أفاد خاطئًا أو أعان ظالمًا كان مخطئًا غير مقدس.
قلت: إذن يلزم أن يكون المسيح عليه السلام مخطئًا غير مقدس (والعياذ
بالله) ؛ لأنكم تقولون وتكتبون عنه أنه أول من أفاد البشر وآخر من يفيدهم، وأنه
فدى نفسه للناس حتى يغفر الله لهم خطيئاتهم جميعًا، وتسمونه (الفادي) فهو
يفيد (جنس) البشر الظالم الخاطئ أكثر من إفادة النبات بما لا يقاس، ومع
ذلك لا تثلمون تقدسه.
وأعظم منه إفادة للناس المولى - سبحانه وتعالى - وهو في منتهى القدس.
فجعل د. (جونس) يناجي البقية بالإنكليزية مدة، ثم سكتوا وسكتنا طويلاً
وجرت بعد ذلك بيننا مظاهر الألفة والعطوفة، وتفرق الجميع مستأنسين مستبشرين.
وذكرت هؤلاء الدكاترة الكرام بالخير والمدح مرارًا؛ لأنهم يبذلون تمام جهدهم في
معالجة المرضى والمصابين ولو مجانًا، ولهم أياد بيضاء في خطتهم، ولقد
شاهدت منهم الاهتمام في أداء وظائفهم وتنبيه الغافلين، والصيحة والدعوة إلى
الديانة المسيحية عند اجتماع المرضى وغيرهم، حتى إنهم كتبوا على جدران
المستشفى:
(آمن بالرب اليسوع، ينجيك وأهلك من كل سوء) .
وقد كانوا دائبين في هذه الوظائف في بغداد منذ سنين طويلة، ويباشرون
معالجة المرضى بمداواة كاملة. وقد عزموا على شراء جنينة على ضفاف الدجلة
بألفي ليرة عثمانية؛ ليجعلوها المستشفى الوحيد في القطر العراقي، إلا أن الحكومة
العثمانية (أدام الله استقلالها) ما نزعت حتى الآن إلى قبول ذلك، فيسر المولى
لطلاب الخير كل عسير، وقابل أهل المعروف بكل جميل، وهو الهادي إلى سواء
السبيل.
... ... ... ... ... ... ... النجف الأشرف بالعراق
... ... ... ... ... هبة الدين الشهرستاني صاحب مجلة العلم
(المنار) ليتأمل المنصفون مبالغة المسلمين في التساهل والتسامح، فهذا
عالم من شرفائهم يثني على دعاة النصرانية، ويتمنى لهم النجاح ويدعو لهم به،
وهو يعلم أنهم لا يقصدون من التطبيب إلا دعوة المسلمين إلى دينهم، ولكنه لا يعلم
أن بعض قسوسهم صرح ببعض مقاصدهم، فقال: إن طريق الشيطان لا ينقطع إلا
إذا زال الإسلام من جزيرة العرب! !
__________
(1) هو من أهالي (لندن) وعمره 31 سنة.
(2) هو من أهالي (برتين) الواقعة على البحر الجنوبي لمدينة (لندرا) بمسافة 50 ميلاً وعمره 44 سنة.
(3) هو أيضًا من أهالي (لندن) وعمره 25 سنة.(14/914)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة الشرقية
(6)
(بعض ما يجب من العبرة في الحالة الحاضرة)
قد أتى علينا حين من الدهر ونحن في غمة من أمرنا، وأوربة تتصرف فينا
كما يتصرف الأوصياء الخونة في كفالة المعتوهين والقاصرين عن درجة الرشد،
لا همَّ لهم إلا بقاء الحجر عليهم؛ ليتمتعوا بأموالهم وما ورثوا من آبائهم وأجدادهم.
فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا بجميع فتن السياسة. وزينت لهم تقليدهم في
زخرف مدنيتها، وأوهمتهم أنها تهديهم إلى سبيل الرشاد التي يصلون بسلوكها إلى
ما وصلت هي إليه؛ من المدنية الجميلة التي تدهش الأبصار وتفتن الألباب، حتى
سلبت ممالكهم، وثلت عروشهم، فمنهم من ذهب من سلطانه العين والأثر، ومنهم
من بقي له الاسم والرسم دون التصرف والحكم، ولم يعتبر اللاحق منهم بما حل
بالسابق، وأنى لهم العبرة وهم بين قاصر العقل وفاقد الرشد، وقد عمهم كلهم
الجهل، وحيل بينهم وبين ما يجب عليهم من العلم.
فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا، ولم تقصر في فتنة شعوبنا، فقد هاجمتنا بجنود
من القسوس والمعلمين، والتجار والسماسرة والمرابين، والبغايا (المومسات)
والقوادين والقوادات، وأصحاب الملاهي والحانات، فحاربتنا في عقائدنا الدينية،
وفي مقوماتنا ومشخصاتنا الملية، وفي آدابنا وعادتنا القومية، وفي رزقنا وثروتنا
العمومية، تريد بهذا كله الفتح والاستعمار باسم المدنية.
راجت في سوقنا كل هذه الفتن، فحلت روابطنا، وأضعفت جامعتنا،
ومزقت نسيج وحدتنا، واغتالت معظم ثروتنا، ونحن نتوهم أننا نرقي بذلك أنفسنا
ويظن الذين تفرنجوا منا أنهم صاروا أرقى من سائرنا عقولاً، وأعلى آدابًا،
وأصلح أعمالاً، حتى إن بعض أحداث المدارس منهم يرون أنفسهم بتأثير فتنة
التفرنج أنهم أرقى من سلفنا الصالح الذين فتحوا الممالك ومصروا الأمصار،
ودونوا العلوم، وبنوا لنا ذلك المجد الذي ساعدنا أعداءنا على هدمه منذ قرون ولما
ينهدم كله، ألا إننا قوم جاهلون مخدوعون، نخرب بيوتنا بأيدينا، وأيدي أولئك
الفاتحين المخادعين لنا، ولا ندري ماذا نفعل.
كان سفراء أوربا ووكلاؤها، وقسوسها وعلماؤها، وتجارها ومومساتها، هم
القواد الفاتحين، والملوك السائدين، الذين ما دخلوا قرية من ممالكنا إلا أفسدوها،
وجعلوا أعزة أهلها أذله وكذلك يفعلون، ومن عجائب جهلنا وغفلتنا أن أمرنا معهم
لا يزال غمه علينا، ولا نزال نرجو الخير منهم، والترقي بتعلم لغاتهم، واتباع
عاداتهم.
ما صخت العبر آذاننا، وخطفت أبصارنا، وقرعت أذهاننا، كما فعلت في
هذا العام الذي تواطأت فيه أوربة على مرأى منا ومسمع، متفقة على ابتلاع
الممالك الثلاث التي كانت باقيه لنا، وهي الدولة المغربية والدولة الإيرانية والدولة
العثمانية، بدأت أوربة بالجناحين (إيران ومراكش) فلم تر في المجموع
الإسلامي شعور ألم يذكر، ولا حركة دفاع تخشى، فتجرأت على القلب. وإذا
جاز أن يعيش من قطعت أطرافه كما فعلت أوربة بجسم ملكنا، فهل يجوز أن
يعيش الجسم بغير قلب، فمتى نفيق، ومتى نشعر؟
وصل البغي والعدوان علينا إلى هذه الدرجة، ولم تزل الغشاوة كلها عن
أبصارنا، ولا الرين عن قلوبنا، ولا يزال في آذاننا وقر، وبيننا وبين الحقيقة
حجاب، ولا تزال أوربة تنظر إلينا نظرة الوصي القوي المنة الشديد الطمع إلى
الغلام السفيه، وهي ترجو أن لا تحمل في الإجهاز علينا كبير عناء ببركة اتحادها
وتخاذلنا، وحزمها وتواكلنا، ثم خلابة من ربت لنا من تلاميذها الذين يزينون لنا
أن مدنيتنا لا تتحقق إلا بتقطيع أوصال جامعتنا الملية الأولى، وصيرورة كل عضو
منا جسدًا كاملاً باستقلال كل قطر من أقطارنا بجنسية جديدة، وبراءته من سائر
الأقطار؛ إرضاء لأوربة التي أرشدتنا إلى هذه الحياة الجديدة وحببتها إلى تلاميذها
منا، وبغضت إليهم رابطتنا الملية الأولى؛ لأنها من التعصب المذموم في عرف
مدنيتها الشريفة المبنية بزعمها على حب الإنسانية وإرادة الخير لجميع البشر.
أفيقوا أفيقوا أيها المساكين المخدوعون، وانظروا إلى ما تفعل أوربة بكم،
إنها ما قطعتكم أفلاذًا لتمدن كل واحدة منكم على حدتها حبًّا في الإنسانية، وإنما
قطعتكم كما تقطع الحمل المشويّ لتأكله لقمة بعد لقمة، لستم بأعلم بحب هؤلاء القوم
للإنسانية من فيلسوفهم الأكبر الحكيم هربرت سبنسر، الذي نصح لليابانيين بأن لا
يتحدوا بقومه الإنكليز، ولا يجعلوا لهم موطئًا في بلادهم؛ لئلا يفسدوا عليهم أمرهم،
ويلتهموا ثروتهم، ويزيلوا ملكهم من الأرض، أو يجعلوه أثرًا بعد عين، ليس
لهم منه إلا الاسم.
اعلموا أن أمر أوربة كله في أيدي رجال السياسة ورجال المال، وهؤلاء كلهم
من أصحاب الأثرة والبغي، لا يعرفون الحق إلا للقوة القاهرة، وكل ما يتشدقون به
من ألفاظ الإنسانية والمدنية والحق والعدل والقانون وما يشاكل هذه الكلمات؛ فهو
من خدعة الحرب وغش التجارة، ومن يوجد في أوربة من أهل الفضيلة ومحبي
الحق والعدل مخدوعون مثلكم بأكاذيب السياسيين والماليين، ودعاة الدين الذين
ينفرونهم من الشرق والشرقيين والإسلام والمسلمين، فرجاؤنا في استقلالهم أن
ينفعنا قليل، ليس عليه تعويل.
لماذا تقوم قيامة الشعوب الأوربية كلها إذا حارب العثمانيون حكومة من
حكومات البلقان المسيحية، أو حاولوا إخماد ثورة كتلك الثورة الأرمنية، لماذا
تستنفر تلك الشعوب حكوماتها على دولتنا، وتساعدها بالمال والتطوع لمحاربتنا،
ولماذا نراها وادعة ساكنة، وقد بغت إيطالية واعتدت علينا، وتنظر بعين الرضا
والارتياح إلى أسطولها وهو يمطر على ولاية من ولايتنا قذائفة الجهنمية؟ وهذا مع
إجماعها على بغي إيطالية واحتقارها للقوانين ونكثها للعهود الدولية (هذا وما كيف
لو) هذا وما جاءت إيطالية بشبه من الشبه التي اعتادت أوربة أن تدلي بها إلى
شعوبها، ليوافقوها على الاعتداء علينا، كإنقاذ المسيحيين من تعصب المسلمين أو
منع الثورات، وتأييد عروش الحكومات، فكيف كان يكون تأييدهم لها لو جاءت
بمثل ذلك.
ألا إن الخطب كبير والبلاء عظيم، وكل من ظهر من تأثيره فينا فهو قليل
بالنسبة إلى ما يراد به منا، ماذا عملنا، جمعنا شيئًا من الإعانة بمصر لإنقاذ
جيراننا وإخواننا أهل طرابلس من براثن الموت مصابرة أو صبرًا، ولكن لما يبلغ
ما دفعه العشرات والمِئِين من أمرائنا وسرواتنا ومثرينا نصف ما دفعه غني واحد
من أغنيائنا الذين أفسدهم التفرنج في هذه السنة وحدها لمقامري أوربة ومومساتها؟
إن الجرائد الأوربية التي تصدر عندنا تنفرنا من إعانة دولتنا والعطف عليها،
وتظهر أنها قد استكبرت منا ما تصدينا له، وهي إنما تسخر منا وتستصغر ما
تظهر أنها تستكبره، وتعرف حقيقة ما تظهر أنها تستنكره، وترى كدولها أننا نعمل
عمل الصغار، فهي كدولها تعبث بنا كما يعبث الرجال بالأطفال {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
إن الأمة التي تعرف قيمة الحياة هي التي تحتقر الحياة والمال، في سبيل
الشرف والاستقلال، فيجب أن تعرف أوربة منا في مثل هذه الحال أننا أمة واحدة
وأننا لا نحمل الضغط إلا إلى درجة معينة، وأنها إذا تجاوزت بنا تلك الدرجة فما
ثم إلا الانفجار، الذي لا يعلم عاقبته إلا الله الواحد القهار، فلتربع على ظلمها،
ولتقف عند هذا الحد في طمعها، وإذا لم تكف عنا بغي دولة الفوضويين
واللصوص، فلتتركنا وشأننا معها، ولا تعارضنا فيما نفعله في بلادنا من إرسال المدد
والذخيرة من مصر، وعن طريق مصر إلى طرابلس الغرب، ومن معاملة الطليان
في بلادنا، بما يجوز لكل أمة وحكومة منهم أن تفعله في بلادها. أما إذا كانت
ألمانية تمنعنا من مقاطعتهم أو إخراجهم من ديارنا، وإنكلترة تمنعنا من إرسال
الرجال والذخائر من مصر، فلا تكون إيطالية وحدها هي المحاربة لنا، وإنما
تحاربنا أوربة بأسرها، وهل لنا ذنب يقتضي كل هذا إلا ديننا؟ فأين التعصب؟
ومن هم المتعصبون؟ ألا تعتبرون أيها الغافلون.
أظهرت إيطالية من الجبن شجاعة ومن العجز قوة، وبغت وتكبرت في
إنذارها لدولتنا، وإنما جرأها على ذلك علمها بأن دول أوربة الكبرى كلها معها،
واعتقادها أنها تنصرها أولاً وآخرًا عملاً بقاعدة: ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود
إلى الهلال، وما أخذه الهلال من الصليب، يجب أن يعود إلى الصليب.
ولأجل هذه القاعدة قالت: إنها لا تقبل مناقشة ولا مذاكرة في مسألة طرابلس
إلا بعد احتلال عسكرها فيها، ونتيجة القياس المنطقي الذي يتألف من هذه القاعدة
ومن استحلال أوربة وإقدامها على مثل هذا التعدي؛ أنه يجب أن لا يبقى للهلال
ملك في الأرض.
إن إيطالية لم تحتقرنا بجمع البحرية والبرية وهجومها بها على طرابلس
العزلاء الخالية من الحامية والاستعداد، بل احتقرت نفسها والدول المساعدة لها،
وأقامت الحجة على أنه لا قيمة للحق ولا للفضيلة ولا للإنسانية عندها، وإنما
تحتقرنا هي وحليفتها ألمانية بمساومتنا في بيع شرفنا وديننا بثمن بخس تعرضه
على دولتنا؛ لتقر إيطالية الباغية على بغيها، وتجعل طرابلس ملكًا شرعيًّا لها،
ولعل عاهل ألمانية صديق السلطان والدولة والمسلمين (؟ ؟) لا يجهل أن نصيحته
هذه تكون أشأم على الدولة من زيارته لطنجة وإظهاره الميل والمساعدة لسلطان
مراكش، لعله يعلم أن العمل بنصيحته يسخط العالم الإسلامي كله على (صديقته)
الدولة، ويثير عليها رعيتها، وإذا ترتب على ذلك (لا سمح الله أن يكون) هلاكها
تكتفي أوربة أمرها، وتسلم من تبعتها أمام العالم الإسلامي.
ألا فيعلم الإمبراطور العظيم وحليفه الملك المتعظم، أن الدولة العثمانية ليست
الآن في يد عبد الحميد فينالا منه ما أراد، ولا بيد تلك الزعنفة التي خدعتهم ألمانية
بمكر يهودها الصهيونيين، وإنما أمرها إلى مجلس كبير، لا يبيع دينه وشرفه بمال
اليهود ولا ينخدع بمكرهم، وقد انكشف له الستار عن كنه صداقة ألمانية لنا التي
جرت علينا كل هذا البلاء، فإن استطاع مجلسنا أن يؤلف وزارة تقدر أن تقنع
إنكلترة وصديقتيها بذلك، ويكف بغي دول التحالف الثلاثي عنا فذاك ما نحب من
السلم والحق، وإلا فالرأي ما بينا من قبل، ورأينا كلَّ من نعرف من المسلمين
متفقين معنا عليه، وهو أن نحب الموت في سبيل حفظ ما هو لنا أكثر مما يحبه
غيرنا في سلب ما ليس له، وحينئذ إما نبقى أصحاب دولة وشرف، وإما أن نموت
كما يموت الكرام، بعد أن نميت أضعافنا من أعدائنا البغاة.
أيها المبعوثون المخلصون، إنكم تعلمون أن بيع طرابلس بيع للدولة كلها
وقضاء عليها، فإذا عجزتم عن إنقاذها ولم تجدوا من أوربة مساعدًا، فاعلموا أنه
ليس بعد اليوم كوفة، فادفعونا إلى عمل اليائس من الحياة، ووزعوا كل ما عند
الدولة من السلاح علينا، واطردوا جميع أعدائنا من بلادنا، وتعرضوا لجهر أوربة
كلها بمحاربتنا، فذلك أشرف لنا من إسرارها لذلك، وربما كان خيرًا وأبقى. 23
شوال.
* * *
(7)
(أماني إيطالية وظنونها في مسألة طرابلس الغرب)
صرّح علماء الحرب الذين عرفوا طرابلس الغرب من ألمانيين وغيرهم؛ أنه
ليس في استطاعة إيطالية أن تتجاوز سواحلها، وتتوغل في داخليتها بالقوة العسكرية
لأسباب متعددة:
(منها) شجاعة عرب هذه الولاية الخارقة للعادة، وتصديهم للحرب والكفاح
من سن البلوغ إلى سن الشيخوخة، مع وفرة السلاح عندهم وتمرنهم على استعماله
وبراعتهم فيه، وكراهتهم لسلطة الأجنبي المخالف لهم في الدين والجنس والعادات
واللغة.
(ومنها) أن العسكر الأوربي إذا تجاوز الساحل دخل في صحاري رملية
وعثاء يعوزه فيها الماء، وما ثَمَّ إلا آبار قليلة ماؤها خمجرير (ثقيل) ، لا يعرف
مواقعها إلا الوطني الخرّيت. وقد يطمونها ويطمسون معالمها فلا يهتدي إليها
غيرهم، على أن ماءها يؤذي الأوربي ولا يؤذيهم.
(ومنها) قلة الزاد، فليس هناك أسواق ولا أهراء، يأخذ منها الجند
الأوربي ما اعتاد التغذي به من الخبز والبطاطس والحبوب والخضر واللحم والخمر،
وأما العربي الوطني فهو يكتفي من الزاد في يومه بكسرة من الخبز أو قبضة من
الشعير أو التمر، ويحارب على ذلك طول العمر.
(ومنها) أن عرب البلاد يستمدون ممن وراءهم من البلاد السودانية وكلها
إسلامية؛ تمدهم وتساعدهم على جهاد عدوهم الذي فرض الله عليهم قتاله بعد تعديه
عليهم، ولا سيما إذا استنجدهم السنوسيون وعرفوهم أن الجهاد يكون فرض عين
على كل مسلم ومسلمة؛ إذا دخل الكفار بلاد المسلمين محاربين فاتحين.
ولا يعقل أن تجهل إيطالية من حالة هذه البلاد ما عرفه الألمان والإنكليز،
فإنها منذ عشرات السنين تمهد السبيل لامتلاكها، وفيها كثير من تجارها وعلمائها،
وكم أرسلت إليها من الضباط للوقوف على شؤونها الحربية، فلماذا أقدمت الآن
على فعلتها الشنعاء بهذه الصورة الشوهاء؟ أفلم تحسب لتلك الأسباب حسابًا، أم
ترضى من الغنيمة باحتلال السواحل، وجعل الأسطول أمامها يحميها إلى ما شاء
الله، أم لها في ذلك رأي آخر رازه ساستها، واعتمد عليه قادتها؟
أقوال حكومة إيطالية وجرائدها تدل على أنها تعتقد أن أهالي طرابلس لا
يحاربونها حربًا ذات بال يخشى أن يطول أمرها، ويتفاهم شرها، وقد استنبطنا
من هذه الأقوال ومما نعرف من سعيها ودسائسها في طرابلس أنها تبني اعتقادها هذا
على عدة دعائم:
(1) ما بذلته من المال والدسائس لاستمالة شيوخ العرب وزعمائهم إليها
وتنفيرهم من الترك، ولاستمالة الشيخ السيد السنوسي وإقناعه بأن إيطالية محبة له
وللإسلام والمسلمين! ! وقد أتعبتها الوسائل حتى استطاعت إرسال هدية إلى الشيخ
السنوسي، وأقنعته بقبولها بسعي أحد التجار المسلمين بمصر، بعدما أخفق سعي
جاسوس وكالتها السياسية هنا في ذلك.
ونحن نرى أن هذه الدعامة متداعية لا تمسك هذا البناء، فهدية ملك إيطالية
إلى الشيخ السنوسي لم تفد ذلك الملك أدنى ميل من السنوسي إليه ولا إلى دولته،
وكل ما بذل لمشايخ العربان يمكن أن يهدم بكلمة واحدة تلقى إليهم وتذاع بينهم،
وهي أن هؤلاء الإيطاليين يريدون إزالة حكم القرآن من هذه البلاد وإخضاع
المسلمين لأحكامهم وإزالة سلطانهم، والتمهيد بذلك لإذلال دولة الخلافة ومحوها من
الأرض.
(2) مخادعة العرب وغشهم بإيهامهم أنها تريد أن تجعل حكمهم لشيوخهم
وزعائمهم تحت حمايتها، وأنها تحترم شعائر دينهم وتمكنهم من إقامته والعمل به
كما يشاؤون، وقد أوصت الحكومة الإيطالية جيشها الذي أرسلته لاحتلال هذه البلاد
بأن يحترم المساجد وكل ما هو ديني، وأن يبلغوا مشايخ العرب وسائر الأهالي نحو
ما شرحناه من الخداع، ويقيس الإيطاليون مسلمي طرابلس على غيرها من
المسلمين الذين خدعوا من قبل بمثل هذه الوعود، حتى إذا تمكن نفوذ الأجنبي فيهم
هدم أكثر مساجدهم، واغتصب جميع أوقافهم، ومنعهم من تعلم أحكام دينهم، وإنما
يأذن ببعضها دون بعض، وضيق عليهم الخناق لأجل أن يتركوا أحكامهم في النكاح
والطلاق والميراث، وبث فيهم دعاة دينه يفترون على الإسلام وينفرون عنه هذا
ولا يجعل لأحد منهم أدنى سلطة في حكومة بلاده، وشبهته أن هذه حكومة مدنية
وأن المسلمين جاهلون متوحشون، لا يصلحون لإدارة الأحكام وإقامة العدل فيها ما
داموا كذلك.
وهذه الدعامة أوهى من تلك؛ فإن في طرابلس على غلبة الجهل عليها كثيرًا
من العلماء ومشايخ السنوسيين، يعرفون حقيقة ما عليه كثير من إخوانهم المسلمين
الذين سقطوا تحت سلطة الدول الأوربية التي هي أقرب إلى الحرية والعلم والمدنية
والشرف من إيطالية الماكرة الغادرة المجاهرة بالبغي عليهم وعلى دولتهم، وما هم
عليه من الذل والفقر والجهل والحرمان من الحرية والمدنية، ويعلمون أن تلك
الدول لم تف لهم عهدًا، ولم تصدقهم وعدًا، وأنها لا ترقيهم، ولا تمكنهم من ترقية
أنفسهم، وقد يوجد الآن من يبلغهم أن البلاء المبين الذي تدخره إيطالية لهم؛ هو
أضعاف ما يشكو منه غيرهم من المسلمين الذين يعرفون أخبارهم، وغيرهم ممن لا
يكادون يعرفون عنهم شيئًا، وأين المدينة التي أقامت أركانها إيطالية في الإرتيره؟
وكيف وأكثر بلادها الجنوبية نفسها في قارة أوربة (المقدسة) محرومة من المدنية
والعمران، يفر أهلها منها إلى أميركة وغيرها من البلاد، كما يفر الموسوس من
الأرض الموبوءة.
(3) بثها في هذه الولاية وسوسة الجنسية العربية، والتنفير من الترك
بأنهم أهل ظلم وجور، يبغضون العرب ولا يعرفون لهم حقهم ولا ما يوجبه الإسلام
لهم وقد كادت تقوى هذه الفتنة في طرابلس الغرب وفي غيرها من البلاد بسوء
ذكرى الحكام المستبدين في العصر الماضي، وبما ذاع من أمر السياسة الجنسية
السوءى التي بها عرف زعماء جمعية الاتحاد والترقي في الثلاث السنين الماضية
وحذرناهم من سوء عاقبتها، وأنذرناهم مغبتها، فتماروا بالنذر، وأقدموا على ما
أقدموا عليه من الأقوال والأعمال السياسية والحربية، وهذه التفرقة الجنسية بين
المسلمين، وتقطعهم أممًا مختلفة في الوطن أو اللغة هي أقتل آلات الفتك التي
حاربتهم بها أوربة؛ بإعانة تلاميذها المتفرنجين الذين لا يزالون يبالغون ما
لا يبالغ الإفرنج في التنفير من الرابطة الإسلامية والجامعة الدينية.
كنت أخشى أن تكون هذه الدعامة أقوى الدعائم التي تمهد لأوربة تقطيع
أوصال الدولة العلية، وجعل كل إقليم من مملكتها يغلب فيه جنس من الأجناس
مملكة مستقلة بالاسم فقط، كنت أخشى هذا وهو الذي كان يمكن لإيطالية فيه أن
تزيل سلطة الدولة العلية من طرابلس بمعونة أهل طرابلس أنفسهم. ولكنني أحمد
الله أن استعجلت أوربة باستيفاء جميع غلة هذه الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن
(شجرة عصبية الجنسية) ، فكانت إيطالية هي السبب في اجتثاثها من طرابلس
قبل رسوخ جذورها فيها.
نزعة الجنسية الشيطانية لم تنتشر كثيرًا في طرابلس؛ لأنه قلما يوجد فيها من
قرأ جريدة عبيد الله التي سماها (العرب) وجريدة (طنين) وأمثالها، فلا تزال
الرابطة الإسلامية هي الحاكمة على قلوبهم. وما وصل إليهم من جواسيس إيطالية
ضعيف، ويوجد فيهم من يرشدهم إلى أن الترك إخوتهم في الإسلام، وإن كان الظلم
الذي عرفوه منهم؛ سببه الجهل بأحكام الدين وبالمصلحة العامة، وأنهم كانوا
يظلمون في بلادهم كما يظلمون في البلاد العربية ونحوها. وأن الدولة دخلت الآن
في طور جديد يرجى أن يصلح به حال الجميع، ولكن أعداءها وأعداء الإسلام،
يريدون أن يقضوا عليها قبل إصلاح شأنها؛ لأنهم يكرهون صلاح الشرقيين عامة
والمسلمين خاصة، ويريدون أن يظلوا ضعفاء فقراء ليكونوا خدمًا بل عبيدًا
لأوربة.
إن إيطالية لم تجتث شجرة عصبية الجنسية من طرابلس الغرب فقط، بل
هي قد زعزعت هذه الشجرة الخبيثة في سائر البلاد الإسلامية بهذه البغي والطغيان
وتبع ذلك رسوخ شجرة الرابطة الإسلامية الطيبة، وتشعب أفنانها في مصر
وتونس والجزائر واليمن وسورية والأناطول والأرنؤط وبلاد التتار وإيران
والهند. كان يقول القائل ويكتب الكاتب في الجنسية المصرية وانفصالها من الجنسية
التركية أو العثمانية، واستقلال أهلها دون إخوانهم العثمانيين وغيرهم، وتفضيل
القبط عليهم، فلا يلقى إلا التحبيذ والتصفيق، فنبه هذا العدوان الذي أصفقت عليه
أوربة مسلمي مصر إلى أنهم مسلمون قبل كل شيء، فمن عرض الآن بصرف
المصري عن الاتحاد بالعثماني ومساعدته بماله ونفسه، وعن اعتقاد كون مصلحته
عين مصلحته، وحياته مرتبطة بحياته، لا يلقى إلا اللعن والتحقير من الكبير
والصغير إلا أفراد من غلاة التفرنج أو من المنافقين.
تبيّن بهذا فساد ما كانت تظنه إيطالية؛ من أن عرب طرابلس لا يقاتلونها
قتالاً شديدًا يطول أمره بضعف الدعائم التي بنته عليها، وكانت ترى أن الأمر
ينحصر في مقاومة الجند النظامي، وقد مهدت السبيل إلى جعل هذه المقاومة لا
تأثير لها باستعمال حقي باشا وغيره من أنصاره، كما تستعمل الآلات التي تمهد بها
الطرق التي تمشي عليها، أولئك الأنصار الذين يبخلون بالمال أن ينفق على مثل
طرابلس لحمايتها أو لترقيتها، ولكنهم لا يبخلون به أن ينفق على محاربة الدولة
لأبنائها وأخواتها؛ كما فعلوا في اليمن وغيرها لغير سبب موجب وغير نتيجة
صالحة.
أهمل تحصين طرابلس، وفرق شمل الألايات الحميدية الأهلية التي كانت
مرابطة فيها، ولم يوضع فيها من الجند إلا ما قد يحتاج إليه؛ لأجل تحصيل
العشور والضرائب وحفظ هيبة الحكومة في نفوس الأهالي، وما كان هذا وحده هو
الذي أطمع إيطالية وجرأها على مهاجمة البلاد وإنزال عساكرها فيها، وإنذار الدولة
صاحبة البلاد بأنها تريد ضمها إلى أملاكها، وطلب إقرارها إياها على ذلك بالتهديد
والوعيد.
نعم.. ما كان المجرئ لإيطالية على فعلتها؛ هو خلو البلاد من الحصون
المنيعة والحامية الكافية، ولا الظن بأن مدافعة العرب لا تكون شديدة طويلة، ولا
مشايعة أوروبة لها في الباطن؛ فإن أوربة وإن سكتت لها على عملها ولم تعارضها
فيه لا يمكن أن تعترف لها به رسميًّا، وتعدها به صاحبة البلاد الشرعية، إذ لا
يعقل أن تغمط جميع الدول الكبرى أمام شعوبها الحق بصفة رسمية إلى هذه الدركة
السافلة، وفرق عظيم بين السكوت للمبطل بين السكوت للمبطل على باطله، وبين
الإجماع على تسمية باطله حقًّا بالتصريح الرسمي. وإذا لم تعترف الدول بامتلاكها
لتلك البلاد بمثل هذا البغي والعدوان، يكون للدولة صاحبة البلاد الرسمية أن تطالب
بحقها بالقوة الحربية أو بغيرها في كل وقت، وتكون الباغية في مركز حرج في
جميع تصرفاتها.
إيطالية تعلم هذا، وتعلم أنه إذا تيسر لها احتلال ما وراء الثغور البحرية من
البلاد في زمن قريب أو بعيد بعد خسارة كبيرة أو صغيرة، فإنه لا يتيسر لها أن
تسوسها وتدبر شؤونها، وتكون آمنة مطمئنة فيها، تأتيها المكاسب رغدًا من كل
مكان وهي ليس لها صفة رسمية فيها، تلك أمنية لا ينالها الغاصب لأرض يعلم هو
وأهله وجيرانه والعاملون في الأرض، وجميع من يريد معاملتهم فيها أنه غاصب
ناهب، وأن تصرفاته غير شرعية، ويخشى في كل وقت أن تعصف ريح الحق
فتزلزله أو تزيله منها، فماذا أعدت إيطالية لذلك؟ وما هي الوسيلة التي تتوسل بها
لحمل الدولة العلية على إقرارها على عملها، وجعل مقامها في طرابلس جائزًا في
قانون حقوق الدول؟ ولا تكون اللقمة سائغة هنيئة بل لا يسهل ازدرادها بدون ذلك؟
يمكننا أن نستنبط جواب هذا السؤال العويص من فحوى الأقوال، ومن قرائن
الأحوال، ومن الوقوف على بعض مخبآت السياسة، ومذاهب الزعماء وأهل
الرياسة، وهو أن إيطالية ترى أنها إذا احتلت طرابلس بالفعل، فإن حمل الدولة
العثمانية على إقرارها على الاحتلال أمر يسير غير عسير لأربعة أسباب:
(أحدها) علمها بأنه لا يمكنها إخراجها بالقوة؛ لضعف أسطولها، ومنع
إنكلترة لها من إرسال جندها بطريق مصر.
(ثانيها) علمها بأن أوربة لا تكره إيطالية على الخروج عملاً بالقاعدة (ما
أخذه الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال) .
(ثالثها) إن بعض أصحاب النفوذ من المتفرنجين العثمانيين؛ يرون مثل
هذا الولاية من الأطراف البعيدة عن كرسي السلطنة، لا تستحق أن ينفق عليها
شيء من المال لأجل حمايتها أو ترقيتها، وأنه إذا أمكن الاستعاضة عنها بمال ينفق
في العاصمة وما يليها يكون أولى، وأن بيع طرابلس الغرب أسهل وأولى من بيع
البوسنة والهرسك.
(رابعها) مساعدة الحزب الألماني في الدولة على ذلك. ونفوذ هذا الحزب
في جمعية الاتحاد والترقي وفي ضباط الجيش العثماني عظيم، ومن رجاله المؤثرين
دهاقين اليهودية في سلانيك والآستانة وأبناء عمهم من الصابئين. هذه هي آراء
إيطالية أو أمانيها.
أما الصورة التي رسمتها بإرشاد حليفتها ألمانية لتنفيذ ذلك فهي - على ما
ظهر لنا - أن إيطالية تدعي بعد احتلال طرابلس؛ أنها تريد جعلها ملكًا خالصًا لها
وتنذر الدولة العثمانية بطشتها الكبرى إذ لم تقرها على ذلك، بأن تأذن لأسطولها
بضرب ما شاء من موانيها وجزرها واحتلال ما شاء منها، فعند ذلك تنبري ألمانية
للصلح باسم الصداقة والمحبة الخالصة لهذه الدولة ولجميع العثمانيين والمسلمين؛
لأجلها كما قيل: لأجل عين ألف عين تكرم، وتخدمها كما خدمتها في مسألة بيع
البوسنة لحليفتها الأخرى النمسة، فتأخذ لها مبلغًا من المال، وتحمل إيطالية على
الاعتراف بسيادة السلطان الاسمية على طرابلس.
نعم.. تذيع إيطالية أنها لا ترضى بأن يبقى للسيادة العثمانية هنالك اسم ولا
رسم، وهذا تمويه تمهد به السبيل لإرضاء العثمانيين باسم السيادة؛ ليقال: إن
إيطالية تنازلت عن بعض مطالبها في الصلح؛ إكرامًا لحليفتها ألمانية، وحبًّا
في السلام وكراهة الحرب.
ربما يكون قد بدا لإيطالية ما لم تكن تحتسب في هذه الأسباب الأربعة، كما
بدا لها ما لم تكن تحتسب في تلك الدعائم الثلاث، فخاب من ظنها في الترك مثلما
خاب ظنها في العرب، وربما كان اعتمادها الظاهر على نفوذ ألمانية في الدولة،
هو الذي يزلزل هذا النفوذ منها أو ينسفه في اليم نسفًا، ولم يبق في هذه المقالة
مجال للإطالة في هذه المسألة، ولكن لا بد من ختمها ببيان كون إيطالية لا تريد أن
تزيل اسم السيادة العثمانية كما تزيل جميع رسومها، ولا سيما إذا كان بغير إقرار
الدولة العثمانية ورضاها.
تعلمت أوربة من إنكلترة داهية الاستعمار وفيلسوفته أن حكم الشعوب ولا
سيما الإسلامية منها باسم الحماية أو الاحتلال المؤقت أو غير المؤقت، وإدارة
بلادها بواسطة رجال من أفرادها، هو أسلس قيادًا وأسهل طريقًا، وأسلم عاقبة
وأخف تبعة، وأفعل في تخدير الشعور واطمئنان القلوب، وصرف العقل عن
استنباط الحيل للمقاومة والخروج، ولهذا تريد أن تسوس فرنسة المغرب الأقصى
كما تسوس دابة تونس السلسة المذللة، لا كما تسوس دابة الجزائر الجموح الصعبة.
لم تدخل أوربة بلادًا شرقية أوسع علماء ومدنية من مصر، ومع هذا ترى
إيطالية أن أحزاب مصر السياسية لا يشكون من الإنكليز المتصرفين في كل شيء
عشر معشار ما يشكون من الحكام الوطنيين في جميع الأعمال، فالإنكليز يعملون
والتبعة واللائمة على غيرهم فيما ينتقد، والعالم كله ينسب إليهم كل ما يستحسن،
ولم يضر مصالحهم اعترافهم بسيادة الدولة العثمانية على البلاد، بل هو نافع لهم
ومضعف للنفور منهم.
بعد كتابة ما تقدم بشرتنا أنباء الآستانة بأن الوزارة قد أبرمت العزم على
مقاومة إيطالية، وعدم الجنوح لسلم يضيع به شيء من البلاد، وصلح يذهب به
شرف الأمة والدولة، وأن مجلس المبعوثين أيد الوزارة بناء على عزمها هذا،
فحمدنا الله تعالى أن حقق رجاءنا في دولتنا وحكومتنا، وخيب ظنون الدولة الباغية
علينا، وسوف على الباغي تدور الدوائر.
وههنا نصرّح لحكومتنا العلية بما وصل إليه علمنا واختبارنا، وهو أن بيع
طرابلس لإيطالية المهينة لنا التي عجزت عن حرب الحبشة من قبلنا، يعد بمثابة
انتحار الدولة (حماها الله تعالى) ، سواء كان استيلاء هذه الباغية على طرابلس
باسم الاحتلال أو باسم آخر، نعم.. إنه انتحار لأنه يسقط قيمة الدولة ونفوذها
وقيمتها الدينية والسياسية من نفوس رعيتها ومن نفوس جميع المسلمين، بل يخشى
أن تكون عاقبته شرًّا من ذلك، أعز الله الدولة ووفقها لما فيه قوتها وشرفها دائمين
ما دامت السموات والأرض.
... ... ... ... ... ... ... ... في آخر شوال 1329
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(14/923)
الكاتب: بورياريجي
__________
منشورات إيطالية الخداعية في طرابلس الغرب
وزعت إيطالية في طرابلس الغرب بعد احتلالها عدة منشورات تخادع
بها الغرب هناك، ومنها ما ألقي من الطيارات والمناطية في المعسكرات،
وهم يظنون أنهم يخاطبون أطفالاً يُصدقون كل ما يسمعون، ونحن ننشر أهم
هذه المنشورات لأجل الاعتبار بها في الحال والاستقبال.
(منشور قائد الجيش الاحتلال الإيطالي)
بسم الله الرحمن الرحيم
(والصلاة والسلام على كافة الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم
أجمعين) .
بأمر ملك إيطاليا المعظم فكتور عمنويل الثالث نصره الله وزاد مجده.
أنا الجنرال كارلوس كانيفا قائد العساكر الإيطالية الموكل إليها محو
الحكومة التركية في طرابلس وبرقة والمقاطعات التابعة لها، فبناءً عليه أعلن
الشعوب جميعهم القاطنين في المقاطعات المنوه عنها في شاطئ البحر إلى آخر
الحدود الداخلية الذين يملكون بيوتًا في المدن وبساتين وحقولاً ومراعي حول
المدن نفسها أو بعيدًا عنها ما يلي:
إن العساكر الخاضعة لأمري، لم يرسلها جلالة ملك إيطاليا (حماه الله)
لإضعاف واستعباد سكان طرابلس وبرقة والفزان، والبلاد الأخرى التابعة لها
التي توجد الآن تحت سيادة الأتراك، بل لتعيد إليهم حقوقهم وتقتص من
المعتدين عليهم، وتجعلهم أحرارًا يحكمون أنفسهم، وتحميهم من كل من
يعتدي عليهم، سواء كان من الأتراك أو أي شخص كان يريد استرقاقهم.
وعليه فأنتم يا سكان طرابلس وبرقة والفزان والبلاد الأخرى التابعة لها
من الآن سيحكمكم رؤساء منكم، موكل إليهم أن يقضوا بينكم بالعدل والرأفة؛
عملاً بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) ،
وستكون هذه الأحكام تحت حماية ورعاية ملك إيطاليا السامي حرسه الله.
واعلموا أن ستبقى الشرائع الدينية والمدنية محترمة، ويحترم الأشخاص
والأملاك والنساء والحقوق وجميع الامتيازات المختصة بأماكن العبادة والبر؛
لأن غاية أعمال الرؤساء يجب أن تكون واحدة؛ وهي تحسين حالتكم والعمل
على استتباب راحتكم، ويجب أن يكون ذلك مطابقًا للشريعة الغراء والسنة
المحمدية السمحاء، وسيقضي بينكم بالعدل طبقًا للشريعة وحسب أوامرها
بواسطة قضاة قد اشتهروا بتفقههم في الشرع ذوي استقامة وسيرة حميدة، كما
أنه لا نغض الطرف عمن يظلم من الرؤساء، ولا نغتفر غشًّا أو خداعًا من
أحد القضاة، فالكتاب والشريعة فقط تقضي وتحكم عليكم.
واعلموا جيدًا أنه لا تؤخذ منكم ضرائب؛ لتصرف خارجًا عن بلادكم،
والضرائب التي توجد الآن عليكم ننظر فيها، وتنقص أو تلغى كما يقتضي
العدل.
واعلموا جيدًا أنه لا يدعى أحد منكم للخدمة العسكرية بالرغم من إرادته،
وفقط يقبل بها أولئك الذين يرغبون الانضمام تحت اللواء الطلياني باختيارهم؛
لأجل حماية النفوس والأملاك؛ ولكي يتكفلوا للبلاد السلم والنجاح. وأما
الآخرون فيبقون في بيوتهم منعكفين على العمل في الحقول ورعاية المواشي
أو معاطاة التجارة والصناعة والحرف الضرورية لقيام المدنية.
وعلى هذا، فكل امرئ يمكنه أن يقيم الصلاة في معبده (جامعه) حسب
تعليم دينه، ويلزمكم أن تتضرعوا لله - عز وجل - أن يرفع مجد الشعب
الإيطالي ومجد ملكه؛ لأنه أخذكم تحت ظل حمايته.
والإيطاليون يرومون أن يكون اسمهم مهابًا من جميع أعدائكم، وأما
منكم فقط فيكون محبوبًا ومباركًا.
وبناءًا عليه وحسبما خولني جلالة ملك إيطاليا العادل المنصور وحكومته
أعلنتكم بما تقدم، وسيجري مفعوله من هذا اليوم من شهر شوال سنة 1329
هجرية؛ ليبقى كأساس للعلاقات المستقبلة التي ستوجد بين الحامية والمحتمين،
وبين الإيطالي وسكان هذه البلاد، وإني واثق بأنكم تقبلون هذا المنشور
بسرور قلبي؛ لأنه سيكون قانونًا يجب أن يحفظ بأمانة واستقامة ضمير
وشهامة من كلا الطرفين.
وإذا وجد من لا يحترم الشرائع ولا يعتبر الأشخاص، أو يمس حرمة
النساء، أو يخترق حرمة الملك، أو يقاوم أو يثور على إرادة العناية الإليهة
التي أرسلت إيطاليا إلى هذه البلاد، وباسمها صدرت لي هذه الأوامر وقبلها
ممن يمتلك حق الأمر، فسيكون الانتقام منه عظيمًا، وسأحافظ على تنفيذها
بالقوة الموكلة لعهدتي لنبراس العدل والحق.
فيا سكان طرابلس وبرقة والمقاطعات التابعة لها، اذكروا أن الله قد قال
في كتابه العزيز: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)
وقد جاء أيضًا {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: 61)
وجاء أيضًا {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) أي: الذين يصلحون الأرض ويمنعوا
(كذا) منها الفساد وينشروا (كذا) فيها العدل والعمران، وجاء أيضًا {وَإِن
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) أي إن تفسدوا
في الأرض إن توليتم أمور الناس وتقاتلوا بعضكم بعضًا، إن الذين يفعلون ذلك
يلعنهم الله ويصمهم ويعمي أبصارهم ويستبدلهم بغيرهم، وجاء أيضًا {قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ
مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) ، وجاء أيضًا
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) فإرادة الله
ومشيئته - سبحانه وتعالى - قضتا أن تحتل إيطاليا هذه البلاد؛ لأنه لا يجري
في ملكه إلا ما يريد، فهو مالك الملك وهو على كل شيء قدير، فمن أراد أن
يظهر في الكون غير ما أظهر مالك الملك رب العالمين المنفرد بتصرفاته في
ملكه، الذي لا شريك له فيه، فقد جمع الجهل بأنواعه وكان من الممترين،
وبناءً عليه يلزم على كل مؤمن أن يرضى ويسلم بما تعلقت به الإرادة
الربانية وأبرزته القدرة الإلهية، فالملك له سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء.
فإيطاليا تريد السلام وتريد أن تبقى بلادكم إسلامية تحت حماية إيطاليا
وملكها المعظم، ويخفق فوقها العلم المثلث الألوان (أبيض وأحمر وأخضر)
إشارة إلى المحبة والإيمان والعشم في وجه الله.اهـ بحروفه.
(المنار) لا يسخر الأجانب من المسلمين بمثل هذا المنشور إلا بمعونة
المنافقين منهم، فهذا المنشور كتبه لإيطالية أحد أصحاب العمائم بمصر، وهل
يستغرب هذا من يرى المسجد الذي بناه صاحب العمامة الكبيرة ابن الشيخ
عليش الكبير باسم ملك إيطالية السابق أمبرتو والد ملكها الباغي المعتدي على
طرابلس وبرقة؛ ليصلى فيه على روحه! ! . فهذا حظ هؤلاء المنافقين من
القرآن: يحرمون على المسلمين أن يهتدوا به؛ لأن الاهتداء به من الاجتهاد
الممنوع أو المقفل بابه على زعمهم، ولكنهم يحرفونه على معانيه؛ ليضلوا به
المسلمين ويفسدوا عليهم أمر دينهم ودنياهم حتى صار بعضهم آلة للأجانب في
إزالة حكم المسلمين من الأرض، وقيل: إن بعض هذه المنشورات كتب أو وزع
برأي ومساعدة حسون باشا القرامنلي الذي وعدته إيطالية بجعله واليًا لطرابلس.
أورد هذا المنافق الذي استعمل القرآن في خدمة الصليب وتحويل مملكة
إسلامية إلى دولة نصرانية قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} (الممتحنة: 8) ..
إلخ، يريد به أن إيطالية لم تقاتل أهل طرابلس في دينهم، ولم تخرجهم من
ديارهم! ! فكيف يقبلون تحريفه والمدافع تدمر ديارهم، وقد خرج الكثيرون
منها، وسيرون ما هو أشد من ذلك، والظاهر أن إيطالية لما كلفت المنافق
كتابة المنشور، كانت تظن أنها تأخذ طرابلس غنيمة باردة من غير قتال، ثم
أعطوه لقائدهم فوزعه بعد الشروع في تدمير البلاد، وقتل من فيها حتى
النساء والأولاد، وهو لا يعلم ما فيه.
وأورد المنافق الآية التي جعلها شهادة لإيطالية بالصلاح الذي تستحق به
إرث البلاد، وقد شهد عليها حتى أهل دينها وجنسها بالفساد والإفساد، وأورد
آية {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال: 61) وإيطالية قد بغت بالحرب،
ولا تريد من السلم إلا أن يكون المسلمون عبيدًا لها في تلك الأرض، فهل
معنى السلم الذي أمر به القرآن أن نحكم غيرنا في رقابنا ونملكهم أرضنا
وديارنا وأموالنا؟ وأورد آية إيتاء الملك ونزعه بمشيئة الله؛ ليستدل بها على
أنه يجب على المسلمين أن يقبلوا الذل وسيف الأجنبي لأنه بمشيئة الله! ! فهل
يقول ذلك المنافق: إن دفاعهم عن أنفسهم وبلادهم، وقيامهم في ذلك بما
أمرهم به دينهم، يكون إرغامًا للمشيئة وخروجًا من سلطانها؟ أليس ذلك وقد
وقع بمشيئة الله تعالى؟ وأورد آية {ُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) فليطبق لنا قانون إيطالية على كتاب الله! ! !
وأورد آية {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} (محمد: 38) وهي أدل الآيات
على جهله وفضيحته في التحريف بوضع الشيء موضع نقيضه، فإن المعنى
أننا إذا تولينا عن إنفاق أموالنا على الجهاد في سبيل الله، يستبدل الله بنا غيرنا،
وهو يجعل دليل الجهاد دليلًا على تركه! ! - إلى هذا الحد وصل الأجانب
والمنافقون من السخرية بالمسلمين والعبث بدينهم وأمرهم.
* * *
(منشور بورياريجي الذي جعلته إيطاليا واليًا لطرابلس)
يا أيها الأهالي الكرام:
لا يخفاكم أنه لما كانت الحكومة العثمانية المنقرضة من هذه الديار،
توسلت بجميع الوسائط لأجل تأخير جميع مصالح دولة إيطاليا، وعكس كل
مشروع لها تجاريًّا كان أم اقتصاديًّا في هذه البلاد.
ولما كان كل ما بذلناه من السعي والجد مع الحكومة المذكورة عدة سنين للحصول
على صورة اتفاق، يؤلف الاختلاف بين الطرفين؛ لأجل تأمين منافع الدولة الإيطالية
وفوائدها في هذه الأقطار حبط وذهب جفاء وسدى، فقد أتيناكم رغمًا عما كنا نويناه
بصورة الاحتلال لأجل توطين لا فقط منافعنا، بل ومنافعكم أيضًا، وعليه فإننا من
هذا اليوم تقلدنا باسم ذي الشوكة ملك إيطاليا الأعظم ولاية هذه البلاد؛ لأجل إدارة
أمورها الملكية والعسكرية معًا، وناهيكم أيها الأهالي العزاز أن جُل مرامنا أن نؤكد
لكم كل التأكيد نؤيد لكم أي تأييد أننا سنعتني أي اعتناء بكل ما يؤول إلى المحافظة
على دينكم.
وسنتخذ جميع الوسائط للذب والمحاماة عنه، فكونوا من هذه الجهة مطمئنين
خالي البال آمنين، واعلموا أن محاكمكم الشرعية ثابتة كما في السابق بأعظم ما يمكن
من الحرمة والرعاية لها، وأن أحكامها جارية كالأول، وأنا نتعهد بإنفاذ الأحكام عند
الحاجة (ليتأمل هذا القيد) ، وكذلك جميع أموال الوقف ثابتة، كما كان جاريًا في
السابق تحت إدارة الأوقاف بدون أدنى مداخلة من طرف الحكومة الإيطالية في
شؤونها، إلا على طريق النصيحة العائدة لتثبيتها وتنميتها ونجاحها وترقيها (أي
في أيدي الإيطاليين) ثم إننا نتعهد لكم تعهدًا قويًّا بصرف عنايتنا وإفراغ جدنا
وجهدنا لأجل صيانة العرض والناموس في هذه الديار، وإجراء تمام الحرمة
والرعاية من هذه الجهة، فإن عرضكم عرضنا وناموسكم ناموسنا (هذا ما نخاف
منه، فإن المومسات الإيطاليات قد أفسدن كثيرًا من البلاد) وويحًا ثم ويحًا
للمتجاسر.
أما أموالكم وأملاككم المنقولة وغير المنقولة فأنتم أصحابها، وسنتخذ
جميع الوسائط لأجل تحكيمها وصيانتها لكم خالية من كل ريب وشبهة أحسن
مما كانت عليه في زمن الحكومة العثمانية المندرسة، وكذلك جميع حقوقكم
فهي مقدسة مصونة من كل ظلم وتعد، فالمحاكم ستدورعلى محور لا يفرق
بين المذاهب والأديان، ولا يميز بين العروق والأجناس.
أبشروا أيها الأهالي المحترمون، إننا قد أبطلنا الخدمة العسكرية في هذه
الديار (يا لها من بشارة) وألغينا كثيرًا من الضرائب والجبايات. وأما
التكاليف القليلة التي صوبنا إثباتها، فهذه أيضًا لم نثبتها إلا بعد أن خفضناها
ونزلناها عما كانت عليه في دور الحكومة السابقة، وجل مقصدنا من ذلك
توسيع نطاق أرباحكم وتجارتكم وترقي صنائعكم في هذه البلاد، وتقدم هذه
الديار في الزراعة والحراثة؛ لتحوز في زمن قليل هي أيضًا ما حازته
جاراتها من التمدن والترقي، فتنقلوا من الضراء إلى السراء، ومن البؤسى إلى
النعمى، ومن الشدة إلى الرخاء.
وإياكم أن تصغوا إلى إغواءات المفسدين الذين لا قصد لهم سوى زرع
الفساد والمضرة بنفسهم وبكم فهؤلاء (سيعلمون أي منقلب ينقلبون) ، بل
اسمعوا معنا وعاضدونا أنتم أيضًا بحسن نيتكم، وآزرونا بنشاطكم وأعمالكم،
لعل يحفظ لكم تاريخ المستقبل في بطونه ما شهد به لأجدادكم من العز والمجد
والشرف والرغد، وهذا ما تتمناه لكم يا أيها الأهالي النجباء من صميم قلبنا،
بل هذا ما يتمناه لكم كل إيطالي إذ قد أصبحتم من أبنائنا، وحقكم علينا كحق
كل فرد من الإيطاليين، ولا فرق بينكم وبينهم فاصرخوا معنا: ليحيا الملك
لتحيا إيطاليا!
... ... ... ... ... ... ... في 15 شوال سنة 1329
... ... ... ... ... ... ... والي طرابلس بورياريجي
(المنار)
لو انخدع أهل طرابلس بهذه الأماني، وخضعوا لإيطالية بدون حرب، لحفظ
عليهم التاريخ ضد ما حفظه لأجدادهم، فإن أجدادهم أباة الضيم والذل، ورجال
الحرب والفتح. أما وقد شرعوا بما يجب عليهم من الدفاع، فلم يبق عليهم إلا
الصبر والثبات؛ ليحفظ لهم التاريخ ما حفظه لأولئك الأجداد الكرام.
وقد نشر هذا الوالي منشورًا آخر، ذكر فيه أن جميع موظفي الحكومة
العثمانية صاروا منفصلين من وظائفهم، وأنه يجب على الترك منهم أن
يتركوا مدينة طرابلس في مدة ثمانية الأيام، وبعد المدة يعاملون المعاملة
القانونية.
... ... ... ... ... ... ... ... والإمضاء
... ... ... ... (القونتراميرال والي طرابلس رفائيل بورياريجي)
__________(14/934)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعانة أمير أفغانستان وكبراء قومه
لأهل طرابلس الغرب
وخطبة الأمير في ذلك
كتب إلينا أحد أساتذة المدرسة الحربية الأفغانية العثمانيين في كابل وهو من
قراء المنار الرسالة الآتية مع كتاب خاص، فننشر الرسالة شاكرين وهي:
(يوم من أعظم الأيام في الإسلام)
اليوم الثاني من ذي الحجة الحرام من هذه السنة، كان يومًا من الأيام التي
يخلد لملك أفغانستان الذكر الجميل في صدر التاريخ، نعم.. هذا اليوم هو الذي
انبرى فيه أميرها المحبوب ومد يد الإعانة لإخوانه المسلمين القاطنين في شاسع
الأرض.
صباح هذا اليوم صدرت الأوامر لجميع الأمراء ورجال الدولة وأعيان المملكة
وتجارها ووجوهها تدعوهم إلى الاجتماع في الدربار (ردهة الاجتماع) ، فما
جاءت الساعة الثانية بعد الظهر إلا وتقاطر أرباب المناصب وكبار الدولة وتجارها
من كل فج، واجتمعوا في ردهة عظيمة عالية البناء معدة لمثل هذه الأمور، ثم بعد
ساعة شرَّف الأمير الكبير الشأن الردهة، يغشاه العز والجلال، فقامت الناس
إجلالاً فرحين مستبشرين برؤية محياه الذي كان يتلظى غيرة وحمية، ثم ألقى
تحيته على الجمع، فحيوا بأحسن منها، وبعد برهة تلا خطابًا يلين الصخر ويذيب
القلوب، وهذه ترجمته:
ترجمة الخطاب الملكي
لا يعزب عن فكر أحد من الأعزة والأشراف وجميع رعيتي الصادقة من كل
صنف من سكان مملكتي المحروسة (أفغانستان) أن كل إنسان يعيش في هذه
الدنيا الفانية، لابد أن يكون نظره موجهًا إلى أمرين عظيمين في جميع أعماله:
أحد هذين الأمرين مادي والثاني معنوي، وفي هاتين الحالين يرى على نفسه
وظائف كثيرة، ويراها مكلفة بأعمال متعددة، بناء على الكرامة والشرف النوعي
الذي امتاز به الإنسان على سائر المخلوقات بحكمة وقدرة البارئ جل شأنه، وأنه
بقيامه بتلك الأعمال، وأدائه لتلك الوظائف، يقضي حاجاته الطبيعية، ويزيل
ضروراته الجسدية، وينال أيضًا من المثوبات الروحانية الأخروية ما ليس له حد.
وكما أن إطاعة الرب المعبود يوصل المرء للمقامات العالية الروحانية، هكذا
تعاون الناس على دفع احتياجاتهم الفرعية؛ بجعل المتعاونين ممتازين بين أقرانهم
في هذا المقام أريد أن أورد مثالاً أو مثالين:
نفرض أن بلدًا يحتوي على ثلاث مئة من السكان، وأن ذلك البلد لا يوجد فيه
ماء صاف يصلح للشرب والاستعمال، ولكن على بعد ستة أميال يوجد ماء صاف
سائغ نافع للصحة، فلا شك في أن سكان ذلك البلد لا بد لهم من أن يطووا ستة
أميال حاملين قربهم على أكتافهم؛ لأجل الإتيان بذلك الماء، وفي هذا لا بد أن
يلحقهم خسارتان: الأولى تعب الجسم والثانية إضاعة الوقت، وبإضاعة هذا الوقت
لا مناص من أن تعطل كثير من الحوائج الإنسانية التي لا بد منها؛ لأن المرء
المحتاج إلى الشرب محتاج أيضًا إلى أشياء كثيرة عليها مدار حياته، فإذا صرف أربع
أو خمس ساعات من نهاره لأجل تحصيل الماء فقط، فمن أين يأتي بالوقت
اللازم لتدارك سائر حاجاته الباقية.
بناء على ذلك إذا أكمل سكان ذلك البلد وظيفتهم المدنية وتعاضدوا وصاروا
يدًا واحدة، وأعطى كل واحد منهم روبيتين مثلاً، يحصل من هذا ستمائة ألف
روبية، وبهذا المقدار يتيسر لهم جر الماء المذكور إلى بلدهم بسهولة تامة، وبهذا
التعاقد يمكنهم أن يتخلصوا من مشاق نقل الماء بالقرب، ويخلصوا من هذا الاحتياج
بدون عناء ولا مشقة، وإذا فرضنا أن كل واحد من سكان ذلك البلد كان ينفق في
السنة ثماني روبيات ثمنًا للفاكهة فاكتفى كل منهم بخمس روبيات ووفر ثلاثة -
وذلك سهل للغاية - ثم جمعوا ذلك المتوفر وصرفوه فيما يعود عليهم نفعه من
مصالحهم العامة، فإننا نجزم بأنهم يدركون بهذا التعاون من المنافع ما لا يمكننا
حصره وتحديده.
(المثال الثاني) خلق الناس بإرادة الخالق الأزلي أكفاء، أبوهم آدم والأم
حواء، وانقسموا بعد ذلك إلى شعوب متعددة وقبائل مختلفة، ولكنهم من حيث
الوجود كأنهم جسم واحد، وخصوصًا إذا كان بينهم علاقة جنسية ورابطة مذهبية
وملية، فإن كل فرد من أفراد ذلك الجنس والمذهب يكون حينئذ كعضو من أعضاء
ذلك الجسم الواحد، يتألم ويضطرب من تألم أي عضو من الأعضاء الباقية، كما إذا
عرض لإحدى الحواس الخمس ألم، فلا شك في أن الحواس الأربع الباقية كلها تتأثر
وتتألم إذا رمدت عين المرء مثلاً، فإن سامعته تتألم حتى من نغمات البلبل
والهزار، حتى قد تكون عندها كوخز النبال وتتأثر شامته من رائحة الورود،
وينكر فمه طعم الماء، ويدمي بنانه لمس الحرير هذا ليس في الحواس
الخمس فقط، بل تجري هذه الأحكام في كل عضو من أعضاء ذلك الجسم.
أيتها الرعية الصادقة، وأيتها الأمة الأفغانية ذات العقيدة الصحيحة، مرادنا
الملوكي من جميع هذه التمهيدات؛ هو إيقاظكم لعمل صالح كثير الخير، وترغيبكم
في أمر ذي بال جامع لخيري الدنيا والآخرة، وإني أشكر المولى جل جلاله، وعم
نواله أن جعلني بفضته ورحمته لم أتفكر في شيء قط يتعلق بأمتي الصادقة المتدينة
بدين الحق غير الخير، ولست متفكراً في غير ذلك في ما بعد.
أيتها الأمة: اعلموا أن الدولة العلية العثمانية التي هي من جنسنا وعلى
مذهبنا، قد صارت هدفًا لعدوان فجائي مخالف للحق والإنسانية، جعلنا نتألم
ونضطرب دهشة من هذا العدوان الفظيع، وأن معاونة إخواننا المسلمين تجب علينا
من حيث الدين والإنسانية معًا، وبما أن بُعد الشقة قد حرمتنا معاونتهم فعلاً وبدنًا،
وجب علينا أن نمد لهم المعونة بالمال على الأقل.
إنكم إلى الآن لم تحسوا بالفوائد العظام التي تحصل من مثل هذه المعاونات،
فهذه أول مرة أرشدكم إلى هذا العمل الصالح النافع بالذات، وأفتح كتاب الاكتتاب
بيدي الملوكية وأقيد وأثبت به مبلغ (20) ألف روبية من عين مالي الشخصي
الملوكي.
أؤمل من غيرتكم الدينية وجودكم الملي أنتم رعيتي الصادقة أن تشاركوني
بهذا العمل الخيري كل على قدر حاله، ودرجة آماله، ليس عليكم جبر أو تضييق
في هذا الباب؛ لأن هذا الأمر يتعلق بالضمير والإنسانية، وكل صاحب ضمير
صاف وعقيدة خالصة يعطي شيئًا من ماله الزائد عن نفقة أهله وعياله، ويثبت
اسمه في هذا الكتاب، يكون عمل عملين عظيمين:
(الأول) يكون سعى وجد بماله لاكتساب رضاء الباري جل وعلا، وفي
هذا ما لا يخفى من إطاعة أمر الله والتلذذ باللذائذ الروحانية.
(والثاني) يكون أعان بني نوعه ودينه، وفي هذا أيضًا ما لا يعزب عنه
فكركم من أداء حقوق الإنسانية، وحفظ الشرف والغيرة الملية.
أيتها الرعية الصادقة، اسم هذا الكتاب: (كتاب إعانة اليتامى شهداء
ومجروحي محاربة طرابلس الغرب) افتحوا كيس حميتكم، وبلوا قلوبكم بماء
الشفقة الأخوية، أعينوا يتامى أولئك المجاهدين الذين جادوا بأرواحهم؛ لأجل حفظ
وطنهم وشرف ملتهم، أعينوهم على الأقل بلفائف يشدون بها جروحهم، لا تنظروا
إلى قلة ما تعطونه من المال وكثرته، أعطوا ما تتمكنون من إعطائه، وأثبتوا
أسماءكم في هذا الكتاب (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً) .
وأسأل المولى سبحانه وتعالى أن يهديني وجميع إخواننا المسلمين، وأبناء نوعنا
الإنساني كافة لما فيه الخير والصلاح. اهـ.
* * *
(قال المراسل) : وكان أبقاه الله ذخرًا للإسلام والمسلمين يفسر للسامعين
بلسان طلق وبيان عذب، ما حواه الخطاب من المزايا الباهرة، وكان يقول وكله
حماس:
(ألا ليتني قريب منهم أمدهم بالفعل لا بالقول، ألا ليتني طائر أطير
لمساعدة إخواني المسلمين) .
وكأن قائمًا على قدميه ينظر يمينًا ويسارًا كالأسد الرئبال، وأمامه أنجاله
الفخام وإخوته العظام وأعيان مملكته، يحثهم على الاكتتاب قائلاً:
(لا أظن أن أحدًا من رعيتي يتأخر عن مد يد المعونة لإخواننا في الإنسانية
والدين؛ وإن وجد على فرض المحال، فإني أستجدي منهم شيئًا يسد عوز أولئك
المجاهدين الذين جادوا بأنفسهم؛ فداء لحفظ شرف ملتهم ووطنهم. أعينوا أولئك
الجرحى، أعينوا أطفال الشهداء، فما في الدنيا شيء يقرب من ثواب الآخرة
كإغاثة الملهوف) .
وبعد أن ختم مقاله، قام جميع العثمانيين القاطنين في أفغانستان، ورفعوا له
عريضة الشكر، فقرأها على رؤوس الأشهاد وأظهر سروره بها - أبقاه الله - وهذه
ترجمتها.
__________(14/940)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عريضة الشكر
من العثمانيين المستخدمين في أفغانستان إلى أميرها
نحن العثمانيين المفتخرين بالخدمة تحت حماية وعاطفة إمارتكم السنية،
نفتخر بتقديم إحساساتنا وتشكراتنا القلبية لسدتكم الملوكية.
طرابلس الغرب تلك البلاد الوحيدة في أفريقية التي حافظت إلى الآن على
استقلالها وحريتها الإسلامية، قد صارت هدفًا لعدوان وحشي من قبل إيطاليا خلافًا
لجميع القوانين الدولية، وخلافًا للقواعد البشرية والآداب الإنسانية.
مجالس الصلح، جمعيات الأمن العام، جميع الدول المعظمة التي لا تفتر في
كل فرصة سنحت عن بيان أنها هي المكلفة بنشر المدنية في مشارق الأرض
ومغاربها، كلما غضت النظر عن هذا التجاوز الوحشي، ولم تشأ أن تنبس ببنت
شفة، لكن ضربة غدر واعتساف نزلت على فئة إسلامية في هذا القرن العشرين
قرن العلم والتمدن، ضعضعت أركان جميع المسلمين القاطنين في جميع أقطار
الدنيا وجرحت أفئدتهم. وجرائد العالم أجمع - ما عدا الجرائد التي باعت ضميرها
بثمن بخس - مجمعة على تقبيح حركات إيطالية الجنائية، وإنا نعرض بكمال
الصدق أن هذا الفعل العظيم الملوكي الذي أتيتم به، قد أحيا آمال جميع العثمانيين
الذين يشعرون بالاحترام والمودة لإخوانهم الأفغانيين من أمد بعيد، ويسر جميع
المسلمين في أنحاء الأرض؛ المتألمين من هذا العدوان الفجائي الدنيء على إخوان
دينهم.
الحق نقول: إن كل كلمة من خطابكم الملوكي ستبقى منقوشة في أذهان جميع
المسلمين أبد الآبدين، وسيخلد للإسلام شرفًا ومجدًا لا يمحوه تعاقب الأيام والسنين
اهـ.
* * *
ثم بعد ذلك، قام أخوه الأكبر نائب السلطنة السردار نصر الله خان - حفظه
الله - وفاه بخطاب ارتجالي بليغ، يشكر فيه حضرة الأمير الخطير على إرشاده
الأمة الأفغانية لهذا الصراط السوي، ويدعو الجميع لتلبيته. ألقى خطابه بصوت
متهدج مؤثر، فما بقي في المجلس إلا وأسبل الدموع الغزار.
ثم استقبل الأمير المعظم القبلة ودعا الله أن ينصر المسلمين، وأمَّن الجميع
على دعائه.
ثم أمر حاشيته بتوزيع الرقاع والأقلام المعدة للاكتتاب، وكان من جملة
الموزعين لهذه الرقاع نجلاه الفخيمان عينا الدولة، السردار أمان الله خان
والسردار محمد كبير خان، فكان المجتمع في هذه الجلسة مئة ألف روبية أو أكثر، ثم
صلى العصر وودع الجمع، وقال: إني ذاهب غدًا لجلال آباد أستودعكم الله،
وأعدكم بجمع الخلق من الأطراف يوم عيد الأضحى وتشويقهم للاقتداء بكم. وأمر
بإرسال دفاتر الاكتتاب إلي جميع أنحاء مملكته، فودعه الحاضرون وأعينهم تذرف
بالدموع على فراق هذا الأمير الخطير الشأن، داعين بقاء ملكه وذاته، وانفض
الجمع وكلهم ألسن تشكر.
... ... ... ... ... ... ... أفغانستان ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... في 5 ذي الحجة سنة 1239
... ... ... ... ... ... (علي)
(المنار)
إننا نشكر لهذا الأمير العظيم عمله هذا بلساننا ولسان إخواننا أعضاء جمعية
الهلال الأحمر المصرية، الذين يتشرف صاحب هذه المجلة بكونه منهم، ثم بلسان
جميع المسلمين، فإنه نطق باسم الإسلام، وعمل بهدي الإسلام، أدام الله ملكه ما
دامت الأيام.
__________(14/943)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(مجموع تسعة كتب ورسائل سلفية)
طبع الشيخ فرج زكي الكردي هذا المجموع المؤلف من الكتب والرسائل
الآتية على نفقة بعض محبي السلف، ومُروجي كتب أنصارهم، ومحي آثارهم،
وهي:
(1) (الرد الوافر، على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام
كافر) تأليف حافظ الشام أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر (ابن ناصر
الدين الشافعي) المتوفى سنة 843، وقد أورد المؤلف في هذا الكتاب شهادة أئمة
العلم وحفاظ الحديث لابن تيمية بالعلم والعرفان وتلقيبهم إياه بشيخ الإسلام، منهم
الحافظ ابن سيد الناس الأشبيلي والحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عماد
الدين، والحافظ الذهبي، والحافظ المقدسي الصالحي، وحافظ الشام في عصره
أبو العباس أحمد ابن شيخ الشافعية علاء الدين حجي بن موسى السعدي، والحافظ أبو
العباس أحمد بن مظفر النابلسي، والحافظ أبو الفضل سليمان بن يوسف
المقدسي، والحافظ ابن رجب، والحافظ العراقي، وغيرهم من الحفاظ، ومنهم
كثير من فقهاء المذاهب الأربعة وكبار القضاة والمفتين، حتى قاضي القضاة تقي
الدين السبكي الذي اشتهر التغاير بينه وبين شيخ الإسلام، ونقل عنه كلام فيه،
فكتب إليه الحافظ الذهبي يسأله عن ذلك فاعتذر وأثنى على شيخ الإسلام؛ بأنه
نادرة الأعصار في علمه واجتهاده ودينه وورعه.
وقد قرظ هذا الكتاب وأجازه كثير من حفاظ ذلك العصر وأكابر علمائه وفقهائه؛
منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقاضي قضاة الشافعية شيخ الإسلام البلقيني
الشافعي، وقاضي قضاة الحنفية ومحدثهم العيني، وقاضي قضاة المالكية البسطامي،
وقاضي قضاة الحنابلة نصر الله بن أحمد البغدادي، وكل هؤلاء كانوا في مصر.
(2) (القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي) للعلامة المحدث السيد
صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس.
(3) (الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) للشيخ مرعي
بن يوسف الكرمي الحنبلي من علماء الحنابلة المشهورين، وفي هذا الكتاب بيان
ثناء أئمة العلماء على ابن تيمية، وذكر تصانيفه، وسعة حفظه، وتمسكه بالكتاب
والسنة، ونصره لمذهب السلف، ومحنته وسببها، ومن انتصر له من علماء
المذاهب في الأقطار، وما رُثِي به بعد موته من كبار العلماء، وذكر قصيدة منها.
(4) (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) للشيخ أحمد بن
إبراهيم بن عيسى النجدي رد به على رجلين ردَّا على شيخ الإسلام، وهو كتاب
مطول مفيد في تأييد عقيدة السلف.
(5) (رسالة الزيارة) للعلامة محيي الدين محمد البركوي صاحب الطريقة
المحمدية، وقد طبعوها في هذا المجموع؛ لأنها تؤيد مذهب السلف في زيادة القبور،
وترد بدع من خلف من بعدهم.
(6) عقيدة الإمام موفق الدين أبي عبد الله بن قدامة المقدسي صاحب
المصنفات المفيدة، ومنها المغني الذي فضَّله العز بن عبد السلام مع المحلى لابن
حزم على جميع كتب الإسلام في الفقه.
(7) (فائدة في الكبائر) للشيخ موسى الحجاوي وهي قصيدة دالية.
(8) (عقيدة أهل الأثر) للكلوذاني وهي قصيدة أيضًا.
(9) (كتاب ذم التأويل) للشيخ موفق الدين بن قدامة، وكان ينبغي أن لا
يفصل بينه وبين عقيدته.
صفحات هذا المجموع 582، فنحث القراء على اقتنائه ومطالعته، ولا سيّما
الذين يسمعون من الدجالين الذين لا خلاق لهم طعنًا في ابن تيمية لا حجة لهم عليه
ولا بينة إلا ما يتوكأ عليه بعضهم من كلمات بذاء وسباب وجدت في فتاوى ابن
حجر الهيتمي، ينبغي لمن يحترمه ويكرمه أن يقول: إنها مدسوسة عليه، وإلا
فأين الهيتمي هذا من شيوخه وشيوخ شيوخه وغيرهم من أجلاء مذهبه وسائر
المذاهب، الذين أثنوا على هذا الرجل بما لم يثنوا بمثله على أحد؛ كأحفظ الحفاظ
ابن حجر العسقلاني، وأفقه الفقهاء والأصوليين ابن دقيق العيد من الشافعية
وغيرهم.
* * *
(تحريم نقل الجنائز)
فشت في طائفة الشيعة بدعة شنيعة، مرت القرون عليها ولم يرتفع صوت
علمائهم في إنكارها بل أقروهم عليها، كما أقر غيرهم كثيرًا من البدع إرضاء
لأهواء العامة، وناهيك بالبدع التي ينتفع بها بعض المعممين. تلك البدعة هي نقل
الموتى من البلاد البعيدة والأقطار النائية إلى حيث مقابر أئمة آل بيت النبي -
عليه وعليهم الصلاة والسلام -؛ لتدفن بجوار مشاهدهم، فيجيئون بهم، وقد
تقطعت أوصالهم، وتمزقت أبدانهم، وأنتنت جثثهم. وفي هذه البدعة إماتة كثير
من الفرائض والسنن، ولا شك في أن كثير من العلماء كان يتألم ويتأوه لانتشار هذه
البدعة، ولكن لم يتجرأ أحد على الجهر بإنكارها والنهي عنها بمثل ما صدع به في
هذا العام صديقنا السيد هبة الدين الشهرستاني من علماء النجف الأعلام، وصاحب
مجلة العلم المفيدة التي يصدرها في النجف، فألَّف في ذلك رسالة بَيَّن فيها شناعة
هذه البدعة، وما اشتملت عليه من المحرمات، ومن أجدر بالسبق إلى مثل هذا
الإصلاح والاضطلاع بهذا الهدي والإرشاد من جحاجحة الهاشميين وصناديد
العلويين، الذين يؤثرون رضوان ربهم، وخدمة شريعة جدهم، على إرضاء
الخواص والعوام، والطمع في أموال الناس.
وقد علمنا من أخبار العراق أن هذا السيد بعد أن صدع بكلمة الحق في هذه
المسألة، وأيده فيها كثير من العلماء الكملة، تصدى له من خذله وأغرى العامة به،
حتى قيل: إنه كان مهددًا بالقتل، ثم هدأت الفتنة، وخذلت البدعة، وسوف يستنير
القوم يرجعون إلى هذه الفتوى، داعين لمن دعا إليها، ذاكرين بالسوء من صد
عنها، والعاقبة للمتقين.
ومن مآثر هذا السيد المصلح أنه كان قد سعى أشرف السعي وأفضله؛ للتأليف
بين علماء أهل السنة والشيعة في العراق وجمع كلمتهم على التأليف بين المسلمين،
وحثهم على مساعدة المجاهدين في طرابلس الغرب وغيرها، وقد نفع سعيه وإن
صد عنه المتعصبون، وظهر أثر إصلاحه وإن كره المفسدون، فأهنئك أيها
الصديق الكريم، والولي الحميم، وأبشرك بالفوز العظيم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 35) .
* * *
__________(14/945)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتابٌ رصيفٌ ورأيٌ حصيفٌ
في المساعدة على الحرب بطرابلس الغرب
لما أنذرتنا إيطالية البأس، وآذنتنا بالحرب، كتب إلينا صديقنا الأمير شكيب
أرسلان الكاتب الشهير الكتاب الآتي من صوفر (لبنان) في 13 شوال، وكتب
فوقه (خصوصي) فلم ننشره في وقته، ثم استأذناه في نشره لما فيه من أصالة
الرأي، وإيقاظ الفكر، وإذكاء نار الغيرة، وإنارة مصباح البصيرة، والتنويه
بالإصلاح الديني، والإيماء إلى نفعه الدنيوي، ولم يصدنا عن ذلك إطراء الصديق
لصديقه، وإعطائه أكثر من حقوقه، فأذن لنا فنشرناه، وها هو ذا بنصه البليغ:
سيدي الأخ الفاضل:
أعلم أن جهادكم في تهذيب الأنفس، وإقامة الشريعة على قواعد العلم، وأخذ
المؤمنين بحقيقة الدين، وإثلاج الصدور ببرد اليقين هو الجهاد الأكبر والبلاء
الأسنى، والذي فيه استكمال الحسنى، وإن الأمة التي تفهم الدين فهمكم، وتفقه
الشرع فقهكم، لا يخشى عليها من اعتداء إيطالي ولا استبداد أجنبي، ولكن جهادكم
هذا غرس لم يحن إيناعه، وزرع لم يئن ارتفاعه، ودون وصول ثمرته إلى درجة
الوفاء بالغرض أيام وليال وأعوام طوال، بما رسخ من الأوهام، وسدك بالعقول
من صدأ الترهات، ونحن الآن في خطب مستعجل الرأب، وفتق مستلزم سرعة
السد، ولا يفيدنا فيه تعنيف مفرط، ولا لوم مقصر، ولا جزاء خائن أو مستهتر،
ولا يغنينا مع إلحاح وافد الشر، وإطلال نازل البأس، إكبار الإهمال، والوقيعة
بمديري هذه الأعمال، بل علينا قبل ذلك واجب أعجل؛ وهو تلافي ما فرط فيه
غيرنا، وإبلاء العذر فيما يطلبه الرأي العام منا، وقد ظهر لنا بعد تقليب وجوه
الحيل كلها، وتمحيص آراء الإغاثة بأجمعها أنه لم يبق إلا طريق البر، وأن هذا
الطريق مهما كان شاقًّا صعبًا طويلاً معطشًا فإنه هو الوصلة الوحيدة، والممر
الممكن، وأنَّ طريقًا سلكه آباؤنا مرارًا في فتوحاتهم ومغازيهم لجدير بأن نسلكه
نحن في أحرج موقف وأضيق مجال.
فإن لم تساعد السياسة على إمرار جنود منظمة، فلا أقل من متطوعة، وإن
لم يمكن نهوض متطوعة، فلا أقل من تسريب ذخائر وأرزاق على ظهور الجمال،
بحيث لو بدئ بتسيير قطر الجمال قريبًا صار المدد متصلاً، فإن في طرابلس
وبنغازي والصحراء ومن قوم السنوسي رجالاً يشاغلون إيطاليا سنين طوالاً، لو
جرى تأمين مسألة معيشتهم؛ إذ هناك رجالات كثيرة وفروسية ونجدة وبغضاء
للعدو، ولدى الدولة عدة آلاف من الجند وأسلحة وعدة، وإنما يخشى على أولئك
من الجوع وقلة الطعام. أفلا ينهض الإسلام في كل هذه الممالك إلى إغاثتهم بما
يمسك أرماقهم على الأقل، حتى تطول الحرب ويستمر الدفاع؟ فإن طول أجل
الحرب يستدعي تدخل الدول، ويفت في عضد تجارة إيطاليا، ويثير عليها ثائر
سكانها، فتنتهي النازلة بصورة ليست فيها هذه الغضاضة وهذا الذل، ولا يطأطأ
فيها الرأس أمام الطلياني، فيا ما أحلى الغلبة للانكليزي بالقياس إلى هذه الحالة،
ويا ما أحلى طعم الموت إذا صرنا ننهزم أمام من هزمهم الأحباش، أفلا يمكنكم في
مصر عقد الاجتماعات؛ لوضع هذه الإعانة في موضع التحقيق، وإيفاد السعاة إلى
الهند وإلى السنوسي.
فأما من الهند فتمكن النجدة بالمال، وأما من الصحراء فبالرجال، وأما
من جهة الضباط لتدريب الأهالي فالدولة تقوم بهذا الأمر، وما نستصرخ إخواننا
المصريين أولي اليسار وأصحاب الحمية إلا للمدد المادي إن تعذر كل مدد غيره، وأي
شهم يضطلع بمثل هذا العمل أكثر منكم، وأي عمل هو أشرف من هذا، وأي سقوط
حالاً واستقبالاً أعمق من سقوطنا إذا ذهبت طرابلس الغرب، لا جرم أن حسن الدفاع
عنها ليقف بالطامحين عن سائر حوزتنا، ويحفظ علينا هذا النزر الباقي من كرامتنا،
وإن التخاذل عن هذه النجدة يكون الإجهاز على مهجتنا العمومية؛ إذ تعلم أوربا أنه
ليس ثمة من حياة ولا من أحياء، وإن هناك إلا أعداد بدون إعداد. قصدت استيراء
زندكم في هذا الغرض، وليس ذلك على همتكم بعزيز، ونحن في انتظار الجواب
شد الله بكم الأزر، ووفقكم إلى هذه الغاية أفندم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
(المنار)
جاءنا هذا الكتاب يرمي عن قوس عقيدتنا، ويرينا في مرآته الصقيلة صورتنا وقد استفزنا الذعر، وقد استنفزنا العدوان النكر، فطفقنا نستوري زناد الهمم،
ونستسقي سحاب الجود والكرم، فذو المال يجود بماله، وذو القلم واللسان بمقاله،
فكتبنا إلى الصديق نبشره بأن حسن ظنه بالمصريين قد صدق وأن كل ما يمكن من
تنفيذ رأيه قد نفذ.
__________(14/948)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخطر الأكبر على بلاد العرب
والرأي في تلافيه
طرابلس الغرب مملكة عظيمة مساحتها أضعاف مساحة إيطالية الطامعة في
استعمارها، وإغناء فقراء أمتها بخيراتها، وكانت في يد الدولة العثمانية من عهد
بعيد، ولم تقدر على الاستفادة منها ولا على مساعدتها على الترقي والعمران؛ لأن
فاقد الشيء لا يعطيه، ثم إنها لم تحصن فيها الثغور، ولا أقامت فيها معدات الدفاع
لحفظها من الأجنبي الطامع، بل كان من سياسة الاتحاديين الذين حلوا محل
السلطان عبد الحميد أن أخرجوا منها معظم ما كان فيها من العسكر والسلاح،
فبادرت إيطالية إلى احتلال ثغورها، ولولا قيام أهلها بالدفاع عنها لاحتلوا سائر
أرجائها، كل هذا معروف، ولكن ماذا كان بعده؟
انبرت إيطالية بعد فعلتها بطرابلس إلى سواحل جزيرة العرب المقدسة،
فأنشأت تضرب ثغورها بمدافع أسطولها، تقتل من تقتل وتدمر ما تدمر، والدولة
تسمع وتبصر ولا تستطيع أن تعمل شيئًا، بل نراها تهدد إيطالية بطرد رعاياها من
المملكة العثمانية؛ إذا هي اعتدت على بعض جزائر الأرخبيل أو سواحل الرومللي
أو الأناطول، ولكنها لا تهددها ولا تفعل شيئًا، ولا تقول كلمة في ضرب إيطالية
لثغور اليمن وحصرها هي وثغور الحجاز (ما عدا جدة التي تعارض الدول الآن
في حصرها، وما يدرينا عاقبة أمرها) ومن أسباب ذلك أن الدولة جعلت من
تقاليدها أن مركز عظمتها وشرفها ومجدها هو الرومللي ثم الأناطول، فهي تهتم بأدنى
قرية أو جزيرة من الرومللي، وإن كان جميع سكانها من الروم أو البلغار، ما لا
تهتم لمملكة عربية، وإن كان سكانها أبناء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وقومه، وهذا من أكبر أسباب ضعف الدولة.
لولا معارضة فرنسة لضربت إيطالية ثغور سورية واحتلتها كلها أو بعضها،
ولو كانت ترى لها ربحًا أو نفعًا من احتلال بعض ثغور اليمن والحجاز لاحتلتها،
ولكنها قد تخشى من الضرر أكبر مما ترجو من النفع، وهي على كل حال لم تعتد
إلا على البلاد العربية؛ إذ هي البلاد التي لا تدافع عنها أوربة؛ لأنه ليس فيها
نصارى أو إفرنج، ولا الدولة ذات السيادة عليها؛ لأنها عندها من أطراف نعم
السلطنة، لا من الأعضاء الرئيسة في الدولة؛ ولذلك لم تحصن ثغورها، ولم
ترسل إليها عسكرًا إلا لقهر أهلها على كل ما تطلبه من المال، أو إكراههم على
التجرد من السلاح، فقد علم المصريون مما نشر في الأهرام نقلاً عن مدير معارف
اليمن ما كان يعلمه أهل الآستانة قبل من أن حملة اليمن الأخيرة كانت مبنية على
طلب الوالي من الإمام إعطاء ما عند قومه من السلاح للدولة وامتناع الإمام من ذلك.
لم تكن محاربة اليمن وحدها هي التي قصد بها جمع السلاح من أهالي البلاد،
بل كانت حملة حوران والكرك لأجل جمع السلاح من أرجاء سورية، وكانت
الحكومة الاتحادية تريد جمع السلاح من عرب طرابلس الغرب أيضًا، ولكنها لقيت
من معارضة المبعوثين ما حال دون تقرير ذلك وتنفيذه، وقد سمعت في الآستانة من
مصادر مختلفة أن من أصول سياسة جمعية الاتحاد والترقي جمع السلاح من العرب
في كل ولاياتهم، ومن الألبانيين والأكراد، ثم ظهر صدق ذلك.
نحن لا نبحث الآن عن مقصد الاتحاديين ونيتهم، ولا عن ضرر سياستهم
التي جروا عليها أو عدم ضررها، ولا في إثبات ما يقوله خصومهم من عزمهم
على بيع بعض الأطراف للأجانب بتجريده من أسباب الدفاع، والسماح لهم بالنفوذ
فيه، ووسائل الانتفاع الذي هو الطريق المعبد للفتح السلمي والاستعمار. وإنما
ننبه أهل الغيرة والروية في الآستانة وسائر المملكة، ثم المسلمين عامة على ما ظهر
بالحس والعيان فهدم جميع النظريات المخالفة له، وهو أن البلاد العربية لا يمكن
حفظها من اعتداء الأجانب عليها، ودوام ارتباطها بسائر المملكة العثمانية، إلا
بقوتها الذاتية وتعميم السلاح والتعليم العسكري فيها.
فالواجب المُحَتَّم الذي لا تخيير فيه هو أن تبادر الدولة العلية إلى إرسال
السلاح الكامل، حتى المدافع بأنواعها إلى بلاد الشام والعراق والحجاز ونجد وكذا
اليمن من غير سواحل البحر الأحمر، وأن ترسل الضباط البارعين لأجل تعميم
التعليم العسكري، والأهالي كلهم يقبلون ذلك، ولا يكلفون الدولة مالاً ولا نفقة تذكر،
ويجب على جميع الأهالي مطالبتها بذلك ملحين ملحفين، وإلا فلينتظروا الساعة
تأتيهم بغتة، كما أتت أهل طرابلس وبرقة، فقد جاء أشراطها، وأنى لهم إذا
جاءتهم ذكراهم؟ ؟
__________(14/950)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
جاءنا في أوائل العام أسئلة من (لنجه في خليج فارس) أجبنا عنها في الجزء
الثالث، وكانت تلك الأسئلة مبنية على انتقاد بعض الناس على المنار الاستقلال
بتفسير القرآن وإتيانه بمعان فيه لم تنقل عن المفسرين، وقد سئل عن ذلك عالم
لنجه الشيخ عبد الرحمن يوسف الملقب بسلطان العلماء فأجاب عنها، وقد كتب إلينا
ولده بعد ذلك أن المنتقد أنكر من جواب المنار أمورًا.
(أحدها) قول المنار (ص 186) : (الذي يؤخذ من مجموع الروايات في
تفسير السلف لهذه الآية: أن اللام في العدل ليست للجنس) .. إلخ. قال المنتقد: إن
الآية ليس فيها لفظ العدل فيبحث عن لامه، وإن العبارة تدل على أن صاحب المنار
مضطر إلى التقليد (وتوقيف الذهن على ما ذكره المفسرون) (كذا) .
(ثانيها) قول المنار (ص187) : إن العدل الذي يدخل في استطاعة
الإنسان واجب حتى في معاملة الأعداء وقال: (يا لله العجب إذا فرق زيد صدقته
المندوبة، فأعطى عمرًا مئة وخالداً ألفًا، هل يعد مخالفًا للواجب.. . وإنما العدل
الواجب في الأقضية) .
(ثالثها) قول المنار: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفيدان
المأمور والمنهي علمًا، يبعث إرادته إلى العمل به) قال المنتقد: (إنه استنباط
معنى من النص يخصصه؛ وهو وإن كان مختلفًا فيه عند الأصوليين، إلا أن قولنا:
إن العالم بما يفعل لا يؤمر ولا ينهى، قول منكر ينهى عنه) .
(رابعها) قول المنار: (ولهذا كان واجبًا) أي: لأنه يفيد ما ذكر. قال
المنتقد: (هو استنتاج عجيب، ولا شك أنه من عثرة القلم سيما حصره علة
الوجوب) .
ثم طلب الكاتب دفع خرافات هذا المنتقد ووصفه بعدة أوصاف لا نذكر منها
إلا أنزهها، وهو أنه متهور يؤذي العلماء والدين، وإن دفع خرافاته يفيد أهل تلك
البلاد. فأقول:
يظهر أن هذا المنتقد من أهل المراء والجدال لا من طلاب الحق فيما يقوله أو
ينتقده، ومن كان كذلك ينبغي عدم الالتفات إلى انتقاده إلا إذا كان يؤذي الناس. فإذا
كان همه موجهًا إلى تخطئة المنار في بعض المسائل، فالخطب سهل؛ فالمنار غير
مؤيد بالعصمة، وليدلنا على كتاب من تأليف البشر ليس فيه خطأ ولا غلط، ولم
ينتقد أحد عليه شيئًا.
أما عبارة المنار في لام (العدل) فالمراد بها ظاهر لغير المماري الذي
يلتمس حرفًا ينكره، ولا ينظر في جملة القول والمراد منه؛ ذلك بأنه علل في
السؤال كون العدل غير واجب (بإخبار الله تعالى بأن العدل غير مستطاع) هذه
عبارته، فإذا كان الفعل لا يدل على المصدر عنده ولا يؤول به وإن اقترن بأن
المصدرية، فلماذا صرح هو نفسه بأن الله أخبر بأن العدل غير مستطاع، ولفظ
العدل لم يرد في الآية؟ وإذا كانت عبارة المنار جوابًا عن قوله هذا، فلم لم يجوِّز
أن تكون كلمة العدل فيها قد ذكرت حكاية للفظه هو؟ وأن يكون تقدير الكلام أن
العدل الذي قلت: إن الله تعالى قد أخبر بأنه غير مستطاع، ليس هو جنس العدل
وإنما هو عدل خاص.. إلخ ما هناك، أي: فلا يتم زعمك أنه غير واجب، على
أن لفظ العدل ورد في بعض روايات تفسير الآية، فيجوز أن تحمل عبارة المنار
على حكاية ذلك.
وأما زعمه أن نقل المنار روايات المفسرين يدل على اضطرار صاحبه إلى
القليد، فهو بديهي البطلان؛ فما كل من نقل مضطر إلي تسليم ما نقله، وما كل
من سلم ما نقله وقبله يكون مقلدًا لمن نقله عنه؛ لجواز أن يقبله لقوة دليله، وقد
اشترط بعض الأصوليين في الاجتهاد العلم بفروع الفقه منهم: الأستاذ أبو إسحاق
الإسفرايني والأستاذ أبو منصور وأبو حامد الغزالي وخصه هذا بمثل أهل زمنه -
وزمننا أولى - فإذا جاز أن يتوقف اجتهاد الإنسان على وقوفه على اجتهاد غيره،
أفلا يجوز أن يتوقف على ما روي عن السلف في فهم القرآن، وهو أقرب إلى
تحرير اللغة وتفسير الاصطلاحات الشرعية منه إلى الاجتهاد والاستنباط؟
وأما إنكاره ما أوجب الله من العدل الممكن في المعاملة، وحصره العدل
الواجب في الأقضية، فهو أغرب ضروب تهافته وأدلة جهله، وأقرب الحجج
الدامغة له ما يجادل ويماري في موضوعه، وهو العدل بين النساء، فهل يصل به
التهور الذي وصف به إلى أن يزعم أن العدل لا يجب بين الزوجتين إلا في
القضاء بين يدي الحاكم؟ وقال الله تعالى: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) وليس في الآية قرينة تخص هذا
العدل بالحكم، وصرح المفسرون بعموم العدل فيها مع الأعداء وشموله للأحكام
والأعمال، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152)
كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فهذا هو العدل في الأحكام، وذاك هو العدل
بالأقوال، ومن الأمر بالعدل العام الشامل لكل قول وفعل وحكم، قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90) وقال صلى الله عليه وسلم: إن
الله كتب الإحسان في كل شيء. أي بنص هذه الآية وأمثالها، والعدل أولى بأن
يكتب، لأنه أهم، والحاجة إليه أعم، وعدمه سبب الخراب والدمار.
وأما شبهة المنتقد التي أوردها، فتدل على أن المِراء قد أفسد عليه فهم
ضروريات اللغة والعرف، فإن صدقة التطوع وإعطاء بعض الفقراء منها أكثر من
بعض ليست مما يدخل في باب العدل والظلم؛ إذ ليس لأحد الفقيرين حق على هذا
المتصدق المتطوع ولا ماله شركة بينهما فيقسمه بالعدل والمساواة، وإنما هو محسن
والله تعالى يقول: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) .
وأما قوله: إن المنار قد استنبط معنى من النص يخصصه.. إلخ، فهو قول
من لم يفهم عبارة المنار، وما أظن أن يستطيع أن يفهمها وهو يجهل ضروريات
اللغة والشرع، فهذه عبارة تهدم أقوى شبهات فلاسفة هذا العصر التي يؤيدون
بها مذهب الجبر، وهي قولهم بالأفعال المنعكسة المركبة، ومن إضاعة الوقت
وخسارة الصحف أن نطيل الكلام مع مثل هذا المماري في مثل هذه المسألة.
* * *
(التبرك بزيارة الصالحين)
كتب إلينا بعض القراء من دمشق يقول بعد الثناء:
قرأت في مناركم الأغر في الجزء الرابع من المجلد الرابع عشر جوابكم على
سؤال الاستمداد من الأنبياء، قلتم: ومن طلب من المخلوق مددًا معنويًّا فهو على
نوعين: نوع يعدّ شركًا كطلب الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من
الله تعالى، فمن طلبه من غيره فقد أشركه معه. وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان،
وأما الذي غمض عليَّ، فهو قولكم: (ونوع لا يعد شركًا؛ لأنه داخل في دائرة
الأسباب، وهو ما يطلبه المتصدقون من أهل العلم بزيارة الصالحين، وقربهم أو
ذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى
ويعبرون عن هذه الزيادة الذي يجدونها في نفوسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا
يدعونهم من دون الله، ولا يفعلون ما لم يفعله السلف) وإني أرى هذا هو عين
الشرك؛ بدليل قولكم: وهو ما يطلبه المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين
وذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم، وهذا الطلب لا يكون إلا من الأموات،
ومعلوم أن الاستمداد من الأموات شرك لا مرية فيه. وأما قولكم: ولا يفعلون ما لا
يفعله السلف، ففيه أنه لم ينقل عن أحد من السلف الصالح زيارة الأموات مع ذكر
المناقب بل الأمر بالعكس، كانوا يناضلون هذه البدع أشد المناضلة، وإني أعتقد أن
من جملة الأسباب التي أوقعت الإسلام في الكسل والخمول هو سموم بعض أفكار
المتصوفة الذين ظنوا أن الدين بالتقشف واعتزال الناس، ثم سرت في أفئدتنا حتى
أصحبنا نظن أن كل ما قاله المتصوفون حق. هذا، وأرجو من إخلاصكم إظهار
هذه الحقيقة حتى يتبين الصبح لذي عينين، وإن الله مع المتقين.
(المنار)
يظهر أنكم فهمتم من كلمة (يطلبه المتصوفون) الدعاء والطلب
القولي، وأننا أبحنا دعاءهم كما يدعى الله عز وجل، مع علمكم بأننا نصرف معظم
العمر في مقاومة أمثال هذه البدع، وغفلتم عن تصريحنا بكونهم (لا يدعونهم) ،
وعن قولنا: (بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وتصور أحوالهم) وهو
متعلق بيطلبه المراد منه، يقصده ويبغيه. والمعنى أن الصوفي العالم بدينه الملتزم
لسيرة السلف، يبغي ويقصد من زيارة الصالحين والقرب منهم في حال حياتهم،
ويذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد مماتهم أن ينمو في نفسه حب الخير
والصلاح والتقوى التي هي صفات الصالحين، وذلك أن رؤية الصالحين والقرب
منهم ومشاهدة سمتهم وهديهم يؤثر في النفس ويبعث فيها القدوة، وكذلك ذكر
مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد موتهم، وبضد ذلك معاشرة الفساق والأشرار
وقراءة أخبارهم، وتصور أحوالهم في فسقهم وإسرافهم، يشوق النفس إلى المعاصي
ويقودها إلى الاقتداء بهم؛ ولذلك صرحنا بأن هؤلاء الذين أجزنا فعلهم، وبينا
قصدهم، يلتزمون سيرة السلف الاستمساك بالسنة واتقاء البدعة، ولا يدعون
مع الله أحدًا، وما كل المتصوفة هكذا.
* * *
(الذكر بالألفاظ المفردة)
كتب إلينا صديقنا الشيخ أحمد محمد الألفي ينتقد ما كتبناه في الجزء الثاني؛
ردًّا عليه في عدم مشروعية الذكر بالألفاظ المفردة، فنترك مما كتبه مناقشاته في
أقوال زيد وعمرو، ممن ليس قولهم حجة في الدين بإجماع المسلمين، ومنهم
الفقهاء والصوفية الذي نقل عنهم، بل عزى إليهم مشروعية ما ذكر، وقال: إنه لا
يعقل أن يبنوا عملهم على غير أصل ثابت، فإنهم هم لا يدعون أن كلامهم حجة،
ونترك دعواه: (إن المذاهب الأربعة أجمعت على مشروعية الذكر بالاسم المفرد
مطلقًا) فإن المذاهب لا يعزى إليها الإجماع، وإنما يعزى إلى جميع المجتهدين،
فإن أراد أن الأئمة الأربعة هم الذين أجمعوا، فليأتنا بنصوصهم وإن كان إجماعهم
وحدهم ليس حجة عند الأصوليين؛ ولنترك البحث في نقله عن أبي حنيفة أنه
أوصى أبا يوسف بما نصه: (وأكثر ذكر الله فيما بين الناس ليعلموا ذلك منك)
فإن هذا لو كان نصًّا في محل النزاع لكان له غنى عنه بمثله في القرآن الكريم،
فهنالك الحجة البالغة، ولكنه ليس نصًّا وإلا لما كان ثمَّ محل للخلاف، وإذا كان
يسمي مثل هذه العبارة نصًّا في المسألة، فلا يعتد بشيء من فهمه ولا نقله بالمعنى؛
نبرئه من قصد هذا، ونترك مثل ما أشرنا إليه من قوله، ونكتفي منه بما هو
مظنة الدليل، ونبحث فيه وهو:
(1) قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180)
قال: أي نادُوه بها بأن تقولوا: يا الله، كما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه -
وأقول: إن صديقنا حفظه الله قد ذهل ذهولاً ما كان ينتظر منه؛ إذ جعل النداء
ذكرًا مفردًا، ونسي نصوص النجاة في ذلك، وما عهده بدراسة النحو وتدريسه
ببعيد.
قوله: حديث الأنوار وارد في فضائل الأعمال، ولا يخفاكم جواز العمل فيها
بالحديث الضعيف، ولم نعلم أن أحدًا من الحفاظ قال بوضعه، وإن قال أحد فليس
متفقًا عليه، وحينئذ فلا معنى لمنع الاستدلال به اهـ.
أقول: يعني بحديث الأنوار ما تقدم في (ص100) وهو: (إذا قال العبد الله
خلق الله من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يقول الله الله حتى يغيب في علم الله، وهو
يقول: الله الله) ومن العجائب أن يشترط اتفاق المحدثين على القول بوضع الحديث
لمنع الاستدلال به، ولا يكتفي بقول واحد منهم: إنه موضوع. وهذا شرط ليس له فيه سلف ولا يجد له فيه خلفًا. وهبْ أنّه لم يقل أحد قط بوضعه ولا بتصحيحه
ولا بتحسينه ولا بتضعيفه، فهل يكون حجة على مشروعية عبادة من العبادات
بمجرد ذكره في كتاب مثل الأنوار بغير سند؟ ليذكر لنا المنتقد الفاضل من
خرج هذا الحديث من الحفاظ أصحاب الصحاح أو السنن أو المسانيد ذات الأسانيد
المعروفة. وأما الذين جوزوا العمل بالحديث الضعيف في الفضائل، فقد اشترطوا
فيه شروطًا ثلاثة:
(أولها) أن لا يكون ضعفه شديدًا.
(وثانيها) أن يكون العمل الذي يحث عليه، قد ثبتت مشروعية جنسه.
وعبارة السخاوي نقلاً عن شيخ الحافظ ابن حجر: أن يكون مندرجًا تحت أصل عام،
فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. قال السخاوي عن شيخه:
(الثالث) أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - ما لم يقله. قال: والأخيران عن ابن عبد السلام وعن صاحبه ابن
دقيق العيد، والأول نقل العلائي والاتفاق عليه اهـ. ونقل قبل ذلك عن ابن
العربي المالكي أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا. وأما الموضوع فلم يقل أحد
بجواز العمل به في حال من الاحوال، والشروط الثاني والثالث أن الحديث
الضعيف يعد مقويًا لتلك الفضيلة التي ثبتت بدليل آخر، وموضوع بحثنا إثبات
الحكم بالحديث الضعيف استقلالاً، وهو لا يدخل في ذلك، ولا يقال: إن تكرار
الأسماء المفردة داخل في عموم الأمر بالذكر، فيتحقق فيه الشرط الثاني؛ لأنه محل
النزاع، ومثل هذا نهي الفقهاء عن صلاة الرغائب وصلاة شعبان وعدهما بدعتين،
ولم يقولوا: إنهما داخلتان في عموم صلاة التطوع.
هذا، وإن الحديث الذي يتعلق به المنتقد على عدم جواز الاحتجاج به، ليس
نصًّا في محل النزاع؛ لجواز أن يكون المراد بذكر العبد اسم الله: ذكره في صيغ
الأذكار لمشروعه كالتهليل والتسبيح، إلا أن يقال: إن ما يرد من أقوال الملائكة
في أخبار عجائب الخلق، يعد من العبادات التي يكلفنا الله إياها. وإنما ذكرنا هذه
العبارة عنه لأجل التذكير بهذه الفوائد، وإلا فالحديث ليس مما يجعل محل البحث.
وجملة القول في هذه المسألة: أن الكتاب والسنة حثَّا على ذكر الله -عز
وجل- وورد فيهما تفسير ذلك وبيانه مفصلاً تفصيلاً: كالتهليل والتكبير والتسبيح
والتحميد والتلاوة والدعاء والاستغفار؛ ففي حديث أبي هريرة في الصحيحين (إن
لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون
الله، تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم
ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي؟ قال يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك
ويمجدونك) الحديث وهذا لفظ البخاري وزاد مسلم: ويهللونك ويسألونك. ورواه
البزّار من حديث أنس بلفظ آخر أوله إن لله سيّارة من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذّكر
وفيه أنهم يقولون لله - عز وجل -: ربنا أتينا عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون
كتابك، ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم؛
فهذا هو تفسير الذكر وبيان ما يكون في مجالس الذكر وحلق الذكر كما أخبر
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن خطاب الملائكة لرب العالمين، ولم نجد
في حديث ما أنهم عدوا منه: هو هو هو، حق حق، وما أشبه ذلك من الألفاظ
المفردة كما أننا لم نجد في شيء من كتب الحديث الأمر الصريح بذكر هذه
الألفاظ المفردة وتكراراها، ولا ذكر ثواب لمن يقولها، ولا أن النبي صلى الله عليه
وسلم أو أصحابه رضي الله عنهم كانوا يكررونها كما نعهد من أهل الطريق، ولكن
الأحاديث كثيرة في التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد وغير ذلك من الأذكار المركبة
ذات المعاني، فلماذا لم يروِ لنا أصحاب الصحاح والسنن حديثًا في
الترغيب بذكر اسم من الأسماء يكرر مفردًا؟ ولماذا يترك أهل الطريق الأذكار
الواردة ويلتزمون هذه الألفاظ المفردة، وتُلحُّون في الانتصار لهم، وتحيلون وقوع
الخطأ منهم، مع مشاهدة كثير من البدع فيهم؟
أما حديث السنن في قيام الساعة، فقد بينا معناه في الجزء الثاني، وهو لم
يرد في سياق تشريع من ترغيب أو ترهيب، وإنما ورد في الخبر عن الغيب
وكيف يكون الناس عند قيام الساعة، أي: إنهم يكونون ملاحدة أشرار لا يقول أحد
منهم: الله فعل كذا، الله أنعم بكذا. وإنما يضيفون كل شيء إلى سببه أو إلى نفسه أو
إلى الطبيعة، ولا يذكرون خالقهم وخالق الأسباب كلها رب الطبيعة ورب كل شيء
ومليكه، ولا يعقل أن يكون معنى الحديث أن شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة
هم الذين لا يكرون ذكر لفظ الجلالة مفردًا غير واقع في كلام مركب مفيد؛ لأن هذا
ليس عنوانًا على منتهى الكفر والشر، وزوال الخير من الأرض، بل ولا على
التقصير في عبادة الله عز وجل، فقد كان السلف الصالحون أعبد الناس وأقواهم
إيمانًا، ولم ينقل عنهم المحدثون مثل هذا.
ثم إنني أختم هذا الجواب بتذكير أخينا المنتقد؛ بأنه إذا كان يريد أن يكون
على بصيرة في أي حكم أو مسألة دينية ويأخذها بدليلها، فعليه أن يراجع فيها كتاب
الله ودواوين السنة المعتمدة، وألا يجعل من أصول الدين ودلائل الشرع ما فشا بين
الناس في شر القرون، وإن شايعهم فيه المؤلفون وأوله لهم المؤولون. وأما إن كان
لا يعقل أن ما يقوله: زيد وعمرو، وخالد وبكر، وما دون في مثل كتاب الأنوار
والأسرار، ونزهة المجالس وربيع الأبرار، إلا أنه هو الحق، الذي شرعه الله
للخلق. فعليه أن يترك الدلائل، ويجاري الناس فيما هم عليه، فالمقلد ليس من
أهل الاستدلال، ثم إذا كان يرى أنه معذور في اتباع رأي كل مؤلف أو بعض
المؤلفين الذين يثق بهم، هو ومن تربى بينهم، كما يفعل جماهير الناس من أهل
كل ملة، فعليه أن يعذر من يتبع نص الكتاب والسنة؛ إذ هو أحق بأن يعذر
والسلام.
_______________________(14/952)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة السنة الرابعة عشر
قد تمت السنة الرابعة عشرة من سني المنار بفضل الله وتوفيقه، فله الحمد
والشكر والثناء الحسن كما يحب ويرضى، وقد شغلنا عن العناية بالمنار في هذه
السنة بتأسيس مشروع الدعوة والإرشاد وإنشاء مدرسته، وقاسينا في سبيله من
البلاء هنا ما لم نقاسه في الآستانة؛ لأن أعداء الإصلاح هنا الذين يتجاذبهم الهواء
والحسد، ذوو شراسة وسفه، وضراوة بالإرجاف والكذب. وأما أمثالهم في
الآستانة فقد مرنوا في الطباع، ومردوا على الأعمال، وتأدبوا في الأقوال، فكان
أشدهم للمشروع مقاومة، أحسنهم لقاء ومراجعة، وألطفهم معاملة، يخصني
بإكرامه، ويمنيني بكلامه.
وقد اقتضى إنشاء المدرسة في ضواحي القاهرة نقل مطبعة المنار، والإدارة
والدار، فاغتال النقل من وقتنا أكثر من شهر لم نكتب فيه حرفًا، ولم نعمل في
الإدارة عملاً، ثم أكل ترتيب الإدارة والمطبعة شهرًا آخر، فلهذا تأخر إصدار
المنار عن مواعيده في النصف الثاني من السنة، وطبع عدة أجزاء منه في مطابع
أخرى، فلم يكن طبعها كما ينبغي، فهذا هو تقصيرنا في حق المشتركين علينا
وهذه أسبابه.
(المشتركون) أما المشتركون فإنهم كانوا في هذه السنة أشد تقصيرًا وأقل
وفاء منهم فيما قبلها، فلم يؤد ما عليه إلا قليل منهم. رأونا مشغولين عن تذكيرهم
ومطالبتهم فتشاغلوا عنا، ورأونا لا نطالبهم فقل منهم من طالب نفسه، فزادت
نفقات المنار عن دخله (وارداته) ألوفًا، فنرجو من أهل الغيرة منهم على الدين
والعلم، بل من أهل الوفاء والحق أن يحاسبوا أنفسهم، ويكلفوها عملاً واحدًا في
السنة لمساعدة من يخدمهم بماله ونفسه طول السنة، وهو أن يرسل كل واحد منهم
حوالة بما عليه.
مرّ علينا عدةُ سنينَ، ونحن نخص جمهور المشتركين في القطر التونسي
بالشكوى، وقد أذكت هذه الشكوى نار النعرة الوطنية في نفوس بعض أهل الغيرة
والوفاء من فضلائهم فَلاَمَنَا، وانتدب لتحصيل مطلوبنا، ولم يلبث أن ظهر له
صدق قولنا.
***
(الانتقاد على المنار)
نشرنا في هذا الجزء ما وجدناه في الظرف الذي تحفظ فيه رسائل الانتقاد إلا رسالة
مطوّلة من صديق لنا من أهل العلم والفضل في الآستانة، جاءتنا في أثناء الاشتغال
بنقل الإدارة والمطبعة، فرأينا أن نراجعه فيها قبل نشرها؛ لأننا لا نحب أن نجعله
ممن يرد عليهم قبل تنبيهه إلى ذلك، وسنفرغ لهذه المراجعة بعد فتح المدرسة.
وإننا نرجو منه ومن سائر أهل العلم أن يتعاهدونا بالتذكير والنقد، بعد الروية
والتأمل، والشكر للناصحين المخلصين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب
العالمين.
__________(14/960)
المجلد رقم (15)(15/)
المحرم - 1330هـ
يناير - 1912م(15/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الخامس عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، والهادي إلى سبيل الرشد، ولك الأمر من
قبل ومن بعد، لكل شيء عندك قدر، ولكل قدر أجل و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *
يَمْحُواللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) ونصلي ونسلم
على محمد نبيك المصطفى، ورسولك المجتبى، الذي أرسلته كافةً للناس بشيرًا
ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وآتيته الحكمة وفصل الخطاب،
وأنزلت في محكم الكتاب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
وبعد، فقد دخل المنار في هذا العام في السنة الخامسة عشرة من عمره وهي
سن بلوغ الحلم الغالب في الإنسان، وبدء الرشد في عرف شريعة الإسلام، فنسأل
الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا فيه رشدنا ويبلغنا قصدنا، وينفعنا بما نطلبه في هذه
الفواتح من نصح الناصحين، ونقد الناقدين ومن آيات الفوز والرشاد، أن وفقنا عزَّ
شأنه للشروع على رأس هذه السنة في تنفيذ مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) التي
نرجو أن تكون خير ما أنشئ في البلاد، لإصلاح ما استشرى من الفساد.
قطع المنار هذا الطور الأول من حياته وحده، فدرج درجان الطفل غادر مهده،
إلى أن بلغ رشده، فلا أخذ بيده أمير، ولا أعانه وزير، ولا أمده غني كبير،
اللهم إلا أن مصطفى رياض باشا - تغمده الله برحمته - وكان نسيجًا وحدَهُ في
كبراء هذه البلاد، في إعانة الصحف ومساعدة أرباب الأقلام، وكذا سائر ما يعتقد
نفعه من الأعمال، أرسل إلي مرةً قيمة الاشتراك مضاعفة أضعافًا، فقلت لرسوله
إنني لا أقبل من أحد مالاً لا مقابل له مني، فعاد إليه بها فاشترك بعد ذلك بعشر
نسخ من المنار، ثم جعلها خمس عشرة نسخة، وجعلها نجله محمود باشا من
الباقيات الصالحات له، وإني أعلم كما يعلم كثير من الناس، أن المنار لو صدر
على عهد وزارة رياض، للقي من مساعدته بنفوذه، أضعاف ما لقي من مقاومة
غيره، فإنه كان مغرمًا به، كثير الذكر له والثناء عليه في مجالسه، وكان مثل هذا
أمرًا مفعولاًَ في عهد وزارته، وإذا كان رياض باشا قد حسن قوله في المنار وعمله،
فما لي لا أذكر بالخير من حسن قوله ونيته، ذلك إبراهيم باشا فؤاد الذي كان
ناظر الحقانية رحمه الله تعالى، كان يرى أن المنار أنفع الصحف للمسلمين، ويود
لو يعم انتشاره بين طلاب العلوم وجميع الطبقات، وقد سمعت منه منذ السنة الأولى
ما يدل على رأيه هذا، وأخبرني بمثل ذلك عنه أحمد فتحي زغلول باشا، وقال:
إنه ذاكره في وضع مشروع لتوزيع المنار على طلاب العلم والفقراء من القراء
بثمن قليل جدًّا لا يثقل على أحد منهم أو جعل ثمنه قليلاً لكل قارئ بجمع مال
بالاكتتاب يرصد لذلك. فكر رحمه الله تعالى في ذلك وقدَّر، وذاكر وشاور، ثم لم
يعمل شيئًا، فجزاه الله على نيته خيرًا.
أشرت في فواتح السنين الماضية إلى ما كان يلقى المنار من المقاومة
والمعارضة، والمناصبة والمناهضة، وذكرت في بعضها شيئًا من تاريخه
الإصلاحي والسياسي، وأحببت أن أذكر في فاتحة هذه السنة ما فيه العبرة من
تاريخه المالي، إذ يظن بعض الناس أنه أصاب كِفْلاً من المساعدة والإمداد المعتاد
مثله في هذه البلاد، فلم أجد فيه إلا ما ذكرته لرياض باشا من قول وعمل،
ولإبراهيم باشا فؤاد من قول ونية، ورياض باشا هو الذي أخذ بأيدي أصحاب
الصحف الكبرى بمصر في أيام وزارته، سواء كانوا من نصارى السوريين، أو
القبط أو المسلمين، فهو صاحب الفضل الأول على الأهرام والمقتطف وجريدتَيْ
الوطن فالمؤيد، ساعد هذه الصحف مساعدة الوزير النافذة إرادته، المسموعة كلمته،
المطاع أمره وإشارته، الطويل باعه المبسوطة يده، فمساعدته للمنار لا تقرن
بمساعدته لتلك الصحف، وإنما أقول هذا مزيدًا في تكبيره في نفسه وتمييزه بين
أبناء جنسه، لا لتصغير معروفه والتقصير في شكره.
لعله لولا مثل تلك الموازرة لما نبتت تلك الصحف في أرضنا نباتًا حسنًا ولما
استغلظ نباتها واستوى على سُوقه، ولمَا أينعت ثمرتها وآتت أكلها، ذلك بأن الجهل
وضعف الأخلاق وفساد نظام الاجتماع جعل بلادنا كالأرض السبخة، لا تنمو فيها
شجرة العلم إلا بعناية خاصة من الخاصة , وها نحن أولاء قد تعودنا قراءة الصحف
اليومية عشرات من السنين وصرنا نعدها من حاجات الحضارة والمدنية، ولكن
هيئتنا الاجتماعية لا تزال قاصرة أو مقصرة في القيام بما يجب من حقها، لما ذكرنا
من ضعف النفوس ومرض الأخلاق فيها، حتى إن كثيرين من رجال الطبقة العليا
فينا كالمدرسين والمؤلفين والقضاة يمطلون ويسوفون فيما يجب عليهم من اشتراك
الجريدة أو المجلة، ومنهم من يهضم هذا الحق ويستحل أكله، ومن الوقائع القريبة
في ذلك أن بعض المعروفين بشرف النسب والثروة والعلم والتأليف قال لوكيل
المجلة بعد أن أرجأه طويلاً: إنني لا أدفع قيمة الاشتراك؛ لأنني من العلماء! !
فإذا كان أكل أموال الناس بالباطل، مما يجهر به الشريف الغني العالم، ويعده من
ثمرات العلم ومزايا العلماء، فممن ننتظر الوفاء؟ دع التعاون على المصالح العامة
والإصلاح لا أقول: تقطعت من هذه الأمة جميع أسباب الوفاء والتعاون، وانبتَّت
سائر حبال التكافل والتضامن، وإنما أقول: إن ذلك قد قل فيها وضعف، على نحو
ما أصف، وكان من أثره ضياع ملكها وهوان أمرها، وهذا ما نعنى بعلاجه،
ونسعى لتلافيه، والله لو كان هذا المنار يراد للكسب لما بلغ سن الرشد.
الخير والكمال للمرء أن يعمل باستقلاله، وأن لا يكون لأحد عليه فضل ولا
منة، بألا يأخذ منه مالاً بغير مقابل ولا جزاء لمنفعته الخاصة، وإن كان يستعين
به على المصلحة العامة، وأما قبول المال لإنفاقه في صالح الأعمال، فهو لا ينافي
الفضيلة والكمال، كأن يشترك مريد الإعانة المالية للصحف الدورية، أو الكتب
العلمية، بنسخ من الكتاب، توزع على من شاء هو أو شاء المؤلف من القراء،
كما قبلنا اشتراك المرحوم رياض باشا بخمس عشرة نسخة من المنار، واشتراك
ذلك المحسن المستتر في العام الماضي بست نسخ منه، واشتراك (مولوي محمد
إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) في مدينة (لاهور) بمائة نسخة من كل جزء
يصدر من تفسير المنار، توزع على خطباء المساجد في بعض الأقطار، وكان
اقترح علينا هذا الفاضل أن يجعل لنا راتبًا شهريًّا مدة الاشتغال بإتمام التفسير،
بشرط إتمامه في زمن قريب، فلم نقبل هذا منه؛ لأنه جزاء على عمل نعمله لله
عز وجل، لا ترويج له كالاشتراك، ولنا بذلك أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم،
وصاحبه الصديق الأكبر، فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قد أنفق جميع ماله في
سبيل الله ورسوله، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه الراحلة يوم
الهجرة إلا بثمنها، وورد أن أبا بكر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا
قط، وإنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً لإنفاقه في نشر دعوة الإسلام لا
لنفسه , وقد كان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى النفقة على أهله أحيانًا فيقترض من
اليهود، وكان يجزي على الهدية، ولا يقبل الصدقة ألبتة؛ لأن الله أكرمه بتحريمها
عليه وعلى أهل بيته ليكونوا قدوةً للناس بعزة النفس ورفعتها.
تلك هي الفضيلة وذلك هو الكمال، ولمثل هذا هدانا الإسلام، ولكن العمل بما
دون هذه الدرجة العليا من الكمال الإسلامي صار عسرًا جدًّا لقلة المُوَاتي والمُشارِك
فيه، والمعين عليه، وأما ارتقاء تلك الدرجة، بل العروج إلى تلك الذروة، فأوشك
أن يكون من خوارق العادات، التي قد ينالها بعض أهل العزلة والانفراد، دون
أصحاب الأعمال العامة التي تصلح بها أحوال الناس.
علمنا من كتاب الله تعالى ومن الاختبار المصدَِق له أن الناس أزواج ثلاثة
في كل شأن، كما كانوا في كتاب الله عز وجل {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) وإنما تسعد
الأمم وتشقى بحسب النسبة العددية في كثرة هذه الأزواج وقلتها , فالأمة التي يكثر
فيها الظالمون لأنفسهم [1] بترك ما يجب عليهم، ويقل المقتصدون الذين هم
للحقوق يؤدون، فلا يلوون ولا يمطلون، ويندر أو يُفقد السابقون بالخيرات،
الذين لا يقفون عند حدود أداء الواجبات، بل يزيدون عليها ما شاء الله من النوافل
والتبرعات، وينهضون بالمصالح العامة، ويقومون بالمنافع المشتركة، فتلك هي
الأمة التي يتهدم بناء مجدها، ويزول عزها وملكها، وتصير مستعبدة لغيرها،
وتخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وأما الأمة التي يقل فيها الظالمون، ويكثر فيها المقتصدون، ويكون زعماؤها
والقائمون بمصالحها من السابقين بالخيرات، المتعاونين على أنفع الأعمال، فتلك
هي الأمة التي ترث الأرض، وتستمتع بنعمة السيادة والملك، وتتسابق مع من
يشاركها في صفاتها إلى غايات المجد المؤثل، ويكون السبق للأمثل فالأمثل.
نحن ولا كفران لله من المتخلفين المقصرين وقد سبقتنا الأمم كلها بعد أن كنا
نحن المقتصدين والسابقين، والظالمون لأنفسهم وأمتهم منا فريقان: فريق يجعلون
علته ما جهلوا أو تركوا من هدي الدين، وهو ما عمل به سلفهم فكانوا هم الأئمة
الوارثين، ويحاولون أن يقطِّعوا هذه الأمة أممًا، ويسلكوا بها إلى المدنية طرائق
قِددًا، وهم ما عرفوا حقيقة المدنية الفاضلة وكنهها، ولا ما يصلح للمسلمين ويتفق
مع طبائعهم منها، ولكنهم في طلب قشورها مقلدون، هذا تركي يقول: يجب أن
تكون السيادة والسلطة للترك، وهذا عربي يقول: إذا لم تكن المساواة فالعرب أولى
بالملك، وهذا مصري يقول: مصريون قبل كل شيء، وهذا فارسي يقول: إننا
فارسيون قبل كل شيء، والأمم الظالمة من ورائهم تقول: إنكم مسودون قبل كل
شيء، ومستعبدون بعد كل شيء؛ لأنكم لستم بشيء، فأولئك هم المتفرنجون،
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) .
ومن دونهم في الجناية على الأمة وإطالة أجل الغمة فريق آخرون، لا
يسيرون بالناس ولا يدَعونهم يسيرون، وهؤلاء هم الذين يُدْعَوْن أهل الجمود،
الذين رُزئوا بالخمول أو القنوط، ويعتذرون بقرب الساعة وفساد الزمان،
وخروج الإصلاح من محيط الإمكان، وفُسوق أرباب الملك والسلطان، وإنك
لتجدهم على ما لبسوا من ثياب الدين أذلةً على المفسدين والظالمين، أعزةً
على الصالحين المصلحين، فهم يجذبون الأمة من ورائها لتصبر على المكث في
جحر الضب، كلما جذبها أولئك من أمامها لتخرج إلى باحة الفسق، يضيعون على
الأمة دنياها، ويعجزون أن يحفظوا عليها دينها، ذلك بأنهم في دينهم من المقلدين،
فلا يستطيعون إقامة حجته على المستقلين، ولا دفع الشبهات التي ترد عليه من
المعارضين، وقد وعد الله بنصر من ينصره وما هم بمنصورين، وكتب الغلب
لحزبه وما هم بغالبين ونراهم قد غلب عليهم الذل {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) .
هذه حالنا التي ننذر أمتنا سوء مغبَّتها في كل عام، فيتمارون بالنذر
ويتبارون في الآثام، ويزدادون في التفرق والانقسام، إلى أن شعروا بزوال
ملكهم في هذه الأيام، صخت سمعهم صيحة سقوط الدولتين اللتين لهم في الشرق
والغرب، وتلتها صيحة الدولة العلية، وهي في مكان القلب فعسى أن
يكون الوقر قد زال من أسماعهم والغشاوة قد انقشعت عن أبصارهم، والرين قد
انكشف عن قلوبهم، وأن يدركوا بعد هذا كله أن المصلحين فيهم هم الأمة الوسط،
التي تجمع بين مطالب الروح والجسد، وتقيم أمر الدنيا والدين، كما هدى إليه
الكتاب المبين، والمنار هو لسان حال هذا الحزب، الذي يزداد أهله نموًّا في
الأرض، وقد وفقهم الله في عام الرشد لتأسيس دار الدعوة والإرشاد، وستفتح
أبوابها لجميع المسلمين من جميع العناصر والبلاد، ويتلو لسان الحال على رؤوس
الأشهاد،] يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [ {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ
أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .
... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
... ... ... ... ... ... ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر
__________
(1) إن الذي يمنع الحق الذي عليه للناس يكون أشد ظلمًا لنفسه ممن يمنع حق الله؛ لأن الله لا يغفر له حقوق عباده؛ ولأنه يكون قدوة سيئة مغريًا لغيره بظلمه.(15/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى الهجرة النبوية الشريفة
وجعلها تاريخًا عامًّا للبشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الله أكبر، هذا هلال العام الجديد عام 1330 للهجرة النبوية الشريفة. هذا
هو الهلال الذي يذكرنا في كل سنة بذلك النور الذي كان خفيًّا في مكة المكرمة،
فأشرق بالهجرة في المدينة المنورة، ثم امتد منها إلى جميع أرجاء العالم، فدخل به
العالم الإنساني في عصر جديد، فكان تاريخًا للإنسانية جديدًا.
الله أكبر، هذا هو الهلال الذي يذكرنا في فاتحة العام بذلك الإصلاح العام،
الذي جاء به الإسلام، فاستفاد منه جميع الأنام، ثم حالت الأحوال، فصار حظ
المسلمين من سعادته دون حظ غيرهم، حتى آل أمرهم في العام الذي ودعناه إلى ما
يعرفه كل أحد، من وقوع خطر وتوقع خطر، فعسى أن يكون حظ هلالنا السياسي
الاجتماعي في هذا العام الجديد خيرًا منه فيما قبله، ولا يكون كذلك إلا بالرجوع إلى
تلك الهداية العليا: هداية التوحيد والاعتصام بعد الشقاق والخصام، {وَلاَ
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وبالسير على سنن الله في خلقه
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137)
وبتغيير ما بأنفسنا من الأخلاق والأفكار، التي خالفنا فيها سلفنا الأخيار {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .
دخل العالم بالهجرة النبوية في عصر جديد لم يسبق له نظير في التاريخ فكان
جديرًا بأن يكون تاريخًا للبشر كافةً، لا للمسلمين خاصةً.
قضى الإسلام قضاءه المبرم على الوثنية التي أذلت البشر واستعبدتهم للملوك
المستبدين، والرؤساء الروحانيين، ولمظاهر الطبيعة وما يمثلها في الهياكل من
الأصنام والأوثان، وقرر حرية الاعتقاد والوجدان، والاجتهاد الاستقلالي في العقائد
والأعمال، والشورى في السياسة والأحكام، وأبطل امتيازات الأنساب والأجناس،
التي كان يستعلي بها الناس على الناس، بغير علم نافع، ولا عمل رافع، وجعل
قاعدة الإنسانية العامة قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) .
هذا درس عام في حقوق الإنسانية العامة، علمه الإسلام لجميع البشر بالقول
والفعل، فاستفادوا منه بقدر استعدادهم في كل عصر من الأعصار، فإذا كانت
العرب قد سبقت غيرها إلى الاستفادة منه؛ لأنه ألقي بلغتها وظهر فيها، فأزالت
ظلم الرومان وغيرهم من المتغلبين القاهرين للإنسانية، وأحيت العلوم والمعارف،
وأنشأت جنات المدنية في الشرق والغرب، - فرب لاحق يبذُّ السابق، كما رأينا
الشعوب الإفرنجية قد أخذت المدنية عن أجدادنا أهل الأندلس وغيرهم وبرزت علينا
فيها، فكل هذا مما يجب أن يذكرنا به تاريخ الهجرة فنعلم أن البشر لو أنصفوا
لجعلوه التاريخ العام لهم.
كان البشر قبل الإسلام متقاطعين ليس بينهم صلة عامة، وكانت المدنية تظهر
في قطر من أقطارهم، ثم تخفى وتزول قبل أن تتصل بسائر الأقطار، بل كانت
الأديان ذات السلطان الأعلى على البشر تشرع وتنسخ فلا يمر زمن قليل إلا ويذهب
أصلها وينقطع سندها، وما اتصلت حلقات سلسلة العلم الإلهي والبَشري، وسلسلة
المدنية والأعمال البشرية، إلا بهذا الانقلاب الإسلامي الذي جدد تاريخ البشر،
فصار جميع ما يؤلف في بغداد وسمرقند وخراسان وغيرها من مدن الشرق،
ينسخ ويقرأ في عصر مؤلفيه بقرطبة وغرناطة وسائر مدن الأندلس في أقصى
الغرب، (واحكم على العكس بحكم الطرد) فبهذا كانت الهجرة أجدر حوادث الكون
بأن تكون مبدأ تاريخ عام للبشر - كذلك أشرعت مذ ذلك العصر طرق التجارة
بين الخافقين في البر والبحر، وصار يتحقق بالتدريج ما هدى القرآن البشر إليه من
حكمة التعارف بين الشعوب والقبائل، الذي يمهد السبيل إلى الأخوة الإنسانية
العامة.
ولولا ذلك الروح الإلهي الذي بثه الإسلام في الناس لما تيسرت له تلك
المواصلة في ذلك العهد الذي لم تكن تُعرف فيه الكهرباء ولا البخار، وإنما كانت همة
المسلمين نائبةً عن قوى الطبيعة التي عرف منها تلاميذهم من بعدهم، ما كانوا أعدوا
عدته ومهدوا طريقه لهم، فكما سرت جميع شعوب المدنية في ذلك
وغيره على طريقهم، كان ينبغي أن يشاركوهم في تاريخهم.
أحيا المسلمون ما كان أماته الزمان من علوم اليونان، فإذا هي علوم أكثرها
نظري وأقلها عملي، وكان من هداية الإسلام لهم أن يقرنوا العلم بالعمل، فكانوا هم
الذين وضعوا قواعد التجربة والعمل للعلوم الطبيعية، فجعلوا الكيمياء الخرافية
كيمياء عملية، وعلى هذه القاعدة بنى تلاميذهم الإفرنج علومهم التي قامت بها
المدنية الحديثة، فبهذا كان الإسلام فاتحة عصر جديد أيضًا، وكان تاريخ الهجرة
الشريفة جديرًا بأن يكون تاريخًا عامًّا للبشر كلهم.
إن فيما شرعه الإسلام من الهجرة تربية عالية للبشر، الذين قرن الله تكريمهم
في كتابه بتعظيم شأن السفر، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ
وَالْبَحْرِ} (الإسراء: 70) فالهجرة عبارة عن فرار الإنسان بحريته في فكره
ووجدانه وعمله من الأرض التي يُضطهد فيها ويُظلم إلى الأرض التي يكون فيها
حرًّا عزيزًا.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) ولما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين في مكة أمر النبي صلى الله
عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وعلل ذلك بأن ملكها النجاشي لا يظلم
عنده أحد، فثبت بالكتاب والسنة أن الهجرة قد شرعت لتكريم البشر، وتعظيم شأن
الحرية، وإباء الظلم والذل والضعف، وقد كان المسلمون أعز الناس وأكرمهم
نفوسًا، وأشدهم إباء للذل والظلم، عندما كانوا عالمين بأسرار هذا الإصلاح الذي
جاء به دينهم عاملين به، ثم سرى هذا الإباء والعز منهم إلى غيرهم، بعد ما ضعف
فيهم، فكان خيره عامًّا منتشرًا في البشر، فما أجدر الهجرة الشريفة بأن تكون تاريخًا
عامًّا لهم.
أشرق نور النبي صلى الله عليه وسلم على مدينة يثرب عند دخول الشمس
في برج الميزان أول الاعتدال الخريفي، (23 سبتمبر) فكان ذلك إشارة إلى ما
دخل فيه العالم من عصر العدل والاعتدال، فكان ينبغي للمسلمين أن يجعلوا ذلك
مبدأ للتاريخ الشمسي للهجرة الشريفة عند حاجتهم إليه لأجل المعاملات المالية، كما
جعلوا التاريخ القمري للمعاملات الدينية، فإذا كنا قد دخلنا اليوم في عام 1330
الهجري القمري فقد دخلنا منذ ثلاثة أشهر في عام 1290 الهجري الشمسي، فهل
لمصر أن تكون السابقة إلى استعمال هذا التاريخ الشمسي، كما كانت هي السابقة
للعالم الإسلامي كله إلى الاحتفال بذكرى التاريخ القمري، بعد أن كاد يُنسى فيها
باستعمال التاريخ الإفرنجي الذي أخذناه عن الإفرنج في هذا العصر وما كنا
لترجيحه على تاريخنا بمحتاجين.
لولا أن انحلت روابطنا، وسحلت مرائرنا، لما استبدلنا بتاريخنا تاريخ غيرنا
ولقد كان يوم تقرير الحكومة المصرية جعل التاريخ الإفرنجي رسميا يوم فرح
وسرور في أوربة؛ لأن ما تقلد به أمة أمة في أمر من الأمور الملية العامة يكون
دليلاً على ضعف المقلِّدين (بكسر اللام) وعلو شأن المقلَّدين (بفتح اللام) ومقدمةً
لاستيلاء المتبوع على التابع والسيطرة عليه.
يقول المقلدون منا: إنه لا بد لنا من التاريخ الشمسي وإن التاريخ الإفرنجي
قد اشتهر فهو أولى من إحياء تاريخ الهجرة الشمسي الذي لا يفهمه أحد. وكذلك
ينصح بعض الناس للدولة العثمانية أن تختار هذا التاريخ في معاملاتها المالية
والرسمية. وهذه حجة الضعيف في استقلاله الشخصي والملي , ويرد هذا بأن
الاستعمال يجيء بالشهرة ويجعل المجهول معروفًا، فقد كان بدء جعل الميلاد أساسًا
للتاريخ في سنة 464 هجرية ولم يكن مشهورًا ولا معروفًا، ثم ظهر لهم الخطأ فيه
فحرروه وصححوه ولا يزال مبنيًّا على خطأ استقلال رأي الأكثرين فيه على قاعدة
(الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور) فما هو الموجب لترك ما عندنا من
الصواب وتقليد غيرنا في الخطأ؟ وتاريخنا أحق بالتعميم وأجدر، وتقدم المرجوح
في الزمن لا يجعله راجحًا، فالقِدم أمر نسبي كما قال الشاعر:
إن ذاك القديم كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديث قديمًا
لا يكفي في تعظيم الهجرة وإحياء ذكرى تاريخها أن نحتفل في هذا اليوم بإلقاء
الخطب، وإنشاد القصائد، وإنشاء المقالات في الجرائد، وإنما يجب علينا تعظيمها
بالعبرة والعمل، والمقابلة بين ماضينا وحاضرنا، لا لأجل التلذذ بذكر الماضي
الجميل، والغرور بما مضى وانقضى من ذلك التاريخ المجيد، ولا لأجل الشكوى
من الضعف العتيد، واليأس من المستقبل القريب أو البعيد، بل لأجل أن نتذكر
ونتدبر، فنعلم أنه لا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا، كما قال أحد أئمة العلم من
سلفنا، وإن في تاريخ الهجرة من دروب العبرة وآيات الحكمة {لَذِكْرَى لِمَن
كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
نودع عامًا ونستقبل عامًا فلا تطوى صحف عامنا الغابر على عمل يذكر، ولا
ينشر في صحف العام الحاضر مشروع للأمة يُشكر، إلا ما يرى في بعض البلاد
من الحركة الضعيفة، ودروج كدروج الأطفال وراء الشعوب القوية، التي تسير
أمامنا بقوة البخار والكهرباء، فتسبق الأرقام على الأرض والطيور في الهواء،
وإننا لنرى حولنا في كل عام فتنًا كقطع الليل المُظلم، كلما غشيتنا قطعة منها وجمنا
وتألمنا، وصحنا ونُحنا، فإذا هي انجلت عدنا كما كنا. لا نحسب لما بعدها حسابًا
ولا نعمل لها عملاً، أرضينا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
كلا إنا إلى ربنا تائبون، ولما هدانا إليه من الجمع بين العلم والعمل متوجهون،
بهذا تبشرنا الحوادث، وإلى هذا تدعونا الكوارث، ورب مصيبة أفادت عبرة
خير من نعمة أحدثت غرورًا وفترة، وإننا نهنئ إخواننا المسلمين على رأس هذا
العام، بما تجدد لهم من شعور الأخوة العام، ونبشرهم بأن جماعة الدعوة والإرشاد
قررت تنفيذ نظام مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) من غرة هذا الشهر فاتحة
العام الهجري المبارك إن شاء الله تعالى، وسينشر هذا النظام في الجرائد فيرون فيه
أنه هو الضالة التي ينشدها المصلحون، والرغيبة التي ينتظرونها المحسنون
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) .
... ... ... ... ... ... ... ... ناظر دار الدعوة والإرشاد
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(15/9)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
علاوة للمقالة
كتبت هذه المقالة في سلخ ذي الحجة سنة 1329 في إدارة المؤيد؛ إذ كلفت
ثمة أن أكتب مقالة افتتاحية لعدد المؤيد الذي يطبع في ذلك اليوم، ويصدر في
صبيحة المحرَّم افتتاح سنة 1330 أو ليلتها، كتبتها على عجل ومرتبو حروف
المؤيد يأخذون مني كل ورقة قبل أن يجف حبرها ويستعجلونني بما بعدها، فلم
يسمح ضيق الوقت واستعجال العمل بشرح مسألة إحياء التاريخ الهجري الشمسي
والتوسع فيها، لهذا رأيت أن أجعل لها هذه العلاوة الآن، وأن أطبعها على حدتها
وفي المنار.
من اختبر أحوال المسلمين في هذا العصر يرى في أخلاقهم وأحوالهم تناقضًا
عجيبًا إذ يراهم من أشد خلق الله غيرة على دينهم وحرصًا على جامعتهم الإسلامية،
ومن أشد خلق الله تهاونًا وإهمالاً في أمر دينهم، وعدم المبالاة والاكثرات بما يحفظ
جامعتهم ويقوي رابطتهم، وإذا بحث في اختلاف الوجوه بين هذه الأمور المتناقضة
يرى شواهد كثيرة تدل على أن ما ذكرنا من حرص السواد الأعظم وغيرتهم
محصورة في حب استبقاء الموجود، وأما تهاونهم وإهمالهم وعدم مبالاتهم فلا
تنحصر في تركهم السعي لاسترداد ما فقدوا من علم وعمل، ونور وهدى، ومجد
تليد، وسيادة قديمة، بل تتناول مع هذا ضعف الهمة في طلب المجد الطريف،
وعدم العناية في البناء والتجديد.
ولو كان هذا التفصيل الذي يدل عليه الاختبار، ويثبته التمحيص والاعتبار،
عامًّا شاملاً لجميع المعروفين من أهل الرأي والعمل من المسلمين (على قلتهم)
لكان دليلاً على أن المسلمين يموتون موتًا طبيعيًّا، وأن أعداءهم لا يحتاجون إلى
أدنى سعي في الإجهاز عليهم، ومبادرة ما يخشونه من يقظتهم وانتباههم؛ لأن
أخص صفات الأحياء الذين يزدادون حياة وقوة هو أن يطلبوا ما يمد حياتهم وينميها،
وأخص صفات الموجودات المشرفة على الموت والفناء أن تنحل وتنقص يومًا
بعد يوم فتتألم لما ينقص منها، ولا تطمع في زيادة تمد حياتها ولا تطلبها.
نرى بعض الشعوب تحيا بعد موت لتجدد ما كان اندرس من مقوماتها
ومشخصاتها، كاليونان والأرمن على تفرقهم، والقبط على قلتهم، ونرى المسلمين
على كثرتهم، واتصال أقطارهم، قد صاروا طُعمة لكل آكل، ونهبة لكل طامع،
وأكثرهم راضون بسوء ما هم فيه، ومنهم من يطلب تغييره بالانسلاخ من ماضيه،
والاندغام في شعب غريب لا يرتضيه، وهؤلاء هم الذين يسمون أنفسهم المجددين،
وطلاب المجد والحضارة، ومكوني الوطنية، وخالقي الشعور بالحياة المدنية،
والحق أنهم شر من الراضين بما وصلنا إليه من الضعف والخمول؛ لأن هؤلاء
الخاملين قد رضوا بهذه الحالة التي لا نجد لها تفسيرًا إلا أنها مما يسمونه (الموت
صبرًا) وأما المقلدون الذين رضوا بانحلال رابطتهم الملية، وعفاء مقوماتهم
ومشخصاتهم الموروثة، وانتحال جنسية لغوية أو وطنية جديدة، لا اضطلاع لهم
بها، وليسوا إلا مقلدين في انتحالها، فإنما رضوا أن يبخعوا أنفسهم، وينحروا
أمتهم، ويجعلوها غذاء لأعدائهم.
هنالك حزب ثالث وسط بين ذينك الحزبين، وهم حزب الله المفلحون إن شاء
الله، الذين يطلبون المجد الطريف، ليكون متحدًا بالمجد التليد، الذين يريدون
الحياة بمقوماتهم ومشخصاتهم الخاصة بهم، لا بانتحال ما هو من ذلك لغيرهم،
الذين يريدون صقل جوهرهم لتظهر خواصه ومزاياه في أكمل ما يمكن أن يكون
عليه، لا تحويله ولا تمويهه بما ليس منه.
إن ما يُرى من ظواهر الحياة على حزب الجمود إنما هو الذماء الباقي لهم من
الحياة القديمة، وإن ما يرى من أعراض الحياة على حزب التقليد إنما هو صناعي
مستعار من الأمم الغريبة، والذماء لا يلبث أن يزول، والمستعار مهما طال زمنه
مردود، وأما حزب الوسط فهم شهداء على الفريقين، ولكنهم لا يزالون غرباء في
ديارهم، والرجاء كما قلنا متعلق بهم أو محصور فيهم، وهم المخاطَبون بإقناع أهل
الإخلاص بإحياء ما اندرس من السنن: وسن ما يعد من النافع الحسن، عملاً بقول
النبي صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) وقد سن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه - ووافقه المسلمون كافة - سنة التأريخ بالهجرة في الحساب القمري،
ثم اشتدت الحاجة إلى إحياء التأريخ بها في الحساب الشمسي، فما لنا لا نستعمل
كِلا التاريخين، وقد هدانا الله تعالى في كتابه ونظام خليقته إلى الحسابين {الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) .
إننا نرى أهل الملل كافة والنصارى منهم خاصة يحافظون على تواريخهم
الملية، ولا يكادون يستعملون معها غيرها، حتى إننا نراهم ينقلون الشيء عن
غيرهم كالمسلمين ويكون فيه تاريخ بعض الوقائع والحوادث فيحولونه في أثناء
النقل إلى تاريخهم حتى لا يفكر قراء ما يكتبونه أو يقولونه - ولو نقلاً - في غير
ما هو لهم.
بل نرى الملايين من الروم الأرثوذكس لا يتركون ما اعتادوا من الغلط في
تاريخ الميلاد الذي يعبرون عنه بالحساب الشرقي، ونرى القبط يقدمون تاريخهم
الخاص بهم الذي يسمونه تاريخ الشهداء على تاريخ الميلاد العام بين أهل ملتهم،
ولو تركوا تاريخ الشهداء إلى تاريخ المسيح الذي يقولون: إنه رب الشهداء وإلههم
لم يكونوا قد تركوا شيئًا من شئونهم الملية إلى ما ليس منها. فما بالنا نحن المسلمين
نرغب عن تاريخنا الذي هو أجدر جميع التواريخ بالتعميم إلى تواريخ الأغيار من
الروم والإفرنج والقبط وغيرهم؟ إن ديننا يهدينا إلى أن نكون أئمة متبوعين، فلماذا
ذللنا حتى رضينا أن نكون مقلدين تابعين، ونحن نرى الذين جعلناهم أئمة لنا
يسخرون منا ويدعوننا متعصبين.
إلا أن من الذل والخسف الذي سنته الحكومة المصرية ما نراه في كثير من
أوراقها الرسمية وأعداد البيوت والمركبات وغير ذلك من تشريف الكلم والأرقام
الإفرنجية على مثلها العربي، فإما أن تجعل ما يكتب بالإفرنجي هو الأعلى وإما أن
تجعله هو الأيمن، ومن طَمَسَ التفرنج نور بصيرته، أو طبع الذل على قلبه، فعدّ
هذا مما لا يبالى به، ولا يُؤبه له، يقال له إذًا: كيف اهتم به سادتك الإفرنج
ونفذوه في بلادك؟ وأنَّى ينفع القول، ومن هان عليه الذل في الأمر الصغير، لا
يأبى حمله في الأمر الكبير، وقد قلت في المقصورة.
من ساسه الظلم بسوط بأسه ... هان عليه الذل من حيث أتى
إذا أردنا أن نحيا فعلينا أن نهتم بكل ما نحفظ به مقوماتنا ومشخصاتنا الملية
الموروثة، وأن نقتبس كل ما نراه نافعًا من حضارة هذا العصر، بهذه النية وهذا
القصد، وأن نهتم بالصغير والكبير من ذلك على السواء، وأن نجتهد لنكون رءوسًا
لا أذنابًا، وأئمة لا أتباعًا، وما دمنا لا نستغني عن التاريخ الشمسي في معاملتنا
المالية ونحوها، فلا مندوحة لنا عن جعله هجريًّا كالتاريخ القمري في المعاملات
الدينية.
إذ أردنا أن نسنَّ هذه السنة فالطريق قد أشرع، والحساب قد وضع، فقد
صنف أحمد مختار باشا الغازي كتابًا فيه سماه (إصلاح التقويم) وطبع بالعربية
والتركية سنة 1307 تكلم فيه عن تواريخ الأمم والشعوب المشهورة وبيَّن وجه
الحاجة إلى العمل بالتاريخ الهجري الشمسي وضع له جدولاً مطولاً بيَّن فيه السنين
الشمسية الهجرية مع المقارنة بينها وبين السنين القمرية والسنين الشمسية الميلادية
من ابتداء السنة الشمسية الهجرية الأولى إلى سنة 1591 التي توافق آخر سنة
1639 القمرية وسنة 2212 الميلادية، وقد استحسن أن تسمى الشهور بما هو نص
في الدلالة على المسمى في تحديد الفصول، فالسنة الهجرية الشمسية تبتدئ من أول
الخريف فتسمى شهورها هكذا: الخريف الأول، الخريف الثاني، الخريف الثالث
الشتاء الأول الشتاء الثاني الشتاء الثالث ... إلخ.
وسمَّى الربيع بهارا وهو لفظ تركي - وذكر وجهًا ثانيًا نذكر بقية الشهور به
وهو: أول الربيع، أوسط الربيع، آخر الربيع، أول الصيف، آخر الصيف،
أوسط الصيف. ويمكن أن يقال: الربيع الأدنى، الربيع الأوسط، الربيع الأقصى
وهكذا، ولعل هذا هو الأولى، وأي التعبيرات اختير فكل من سمع اسم الشهر يفهم
معناه من لفظه.
وأخبرني أحمد مختار باشا الغازي في القسطنطينية أنه كتب تقريرًا يطلب فيه
من مجلس الأمة العثمانية العمل بهذا التاريخ وجعله رسميًّا للدولة. ولكن ما دامت
الغلبة في المجلس للمتفرنجين المعروفين، فلا تُرجى إجابة هذا الطلب، إلا أن
تطالب الأمة به من كل ولاية.
وإذا سبق مسلمو مصر إلى استعمال هذا التاريخ والدعوة إليه، فالمرجو أن
يعم انتشاره في أقرب وقت، والله الموفق.
__________(15/15)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نقل كلام المخالفين أو المبطلين
(س1) من صاحب الإمضاء في دمشق حضرة مولانا أوحد الأعلام نفع الله بعلمه الأنام.
اطلعت على كتاب لأحد علماء فاس ينتقد فيه ما جاء في مقدمة شرح نهج
البلاغة لابن أبى الحديد (صحيفة 4 من طبعة الحلبي الجديدة) من نقله مذهب
البغاة والخوارج، ومقالة أبى القاسم البلخي في عبد الله بن الزبير (فى الصفحة
نفسها) يقول الفاسي: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقبح الله قائله فكيف يليق نقل
هذه العبارة ونشرها بين أهل الإسلام والزمان كما ترى، وأهله إلى ورا (ثم قال
الفاسي) ولما ذكر العلامة الأبي في شرح صحيح مسلم ما ذكره أهل السير من
الأمور التي نقمت على سيدنا عثمان رضي الله عنه في خلافته. قال العلامة
السنوسي في اختصاره ما نصه: قلت وقد نقل الأبي هنا كلامًا في عثمان رضي الله
عنه لا يحل له أن يفوه به، ولا أن يكتبه، وأخاف أن لا يفي بسيئته حسنة ما تعب
في تأليفه كله فنعوذ بالله من سوء الأدب في حق الطاهرين المطهَّرين، وأسأل الله
لي وله العفو والصفح والمغفرة، والواجب على من نسخ تأليفه هذا أن لا يكتب فيه
هذا المحل، ومن اطلع عليه فلا يحل له أن يفوه به ولا أن يعتقد صدقه بلا شك،
وبالله التوفيق اهـ كلام السنوسي.
فهل من ملام على إمام ينقل مذاهب الفرق وأقوالها ومعتقداتها وما تدين الله به
مما تراه حقًّا وصوابًا وطاعة مشيًا مع اجتهادها وما أداه إليه نظرها؟
وهل يلام من ينشرها ويعد مسيء الأدب مع أنه أوردها إيقافًا على المذاهب
والآراء، وإراءة لوجوه الخلاف، وإرشادًا لمواضع الشبه التي منها أتى من أتى.
وهل للسنوسي مستند في حظر التفوه به وكتابته وعده سيئة وجريمة تُحبط
عمل المؤلف في تأليفه كله؟
وهل يسلم له دعواه وجوب حذف مثل ذلك من التآليف حتى يفتح باب
التلاعب في مؤلفات الأعلام بالحذف والزيادة والنقص؟ وكان السنوسي لم يرَ كتب
المقالات والمؤلفات في الملل والنحل لمثل الإمام أبي منصور البغدادي وللإمام ابن
حزم والشهرستاني وأمثال ما جاء في آخر المواقف للعضد , فما سبب هذا الجمود
ونبذ مشرب سلفنا المحققين؟
وهل هذا يؤيد ما يرمى به القطر المغربي من التعصب الذي سبب له ما سبب
مما حاق به ويحيق.
وقد اطلعت على جواب كتبه بعض الأساتذة عندنا إلا أني رغبت أن أزداد من
العلم فيما يهم الوقوف عليه من ذلك لذا أرجو شرح هذا والتفضل بجوابه -لا زلتم
مظهرًا للإفادة-، وكوكبًا في أفق الفضل.
حامد بن أديب الشهير بالتقي.
(ج) تختلف آراء الناس باختلاف معارفهم ومشاربهم، وحال الذين يعيشون
معهم، حتى إن الرجلين ليحكمان في مسألة واحدة بحكمين مختلفين، أو يريان فيها
رأيين متضادينٍ، وكل منها صحيح القصد، متوخٍّ للمصلحة والنفع، وربما يرد كل
منهما على الآخر ويقع التعادي بينهما أو بين أنصارهما فيصدق على كل من
الفريقين أنه يجاهد في غير عدو , ومن هذا الباب وضع بعض علماء السلف
الصالحين لعلم الكلام وردهم على المبتدعة، وإنكار آخرين عليهم وعد علمهم بدعةً
ضارةً، حتى قال بعضهم لبعض: ويحك ألست تحكي بدعتهم ثم ترد عليها؟ أي
أن ذلك كافٍ في ذم علم الكلام وتحريم التأليف فيه لئلا يرى البدعة من لم يكن
يدري بها.
إنني أرى ما قاله العالم المغربي المشار إليه في السؤال، وما نقله عن
السنوسي يدخل في هذا الباب، على أن السنوسي من المصنفين في علم الكلام الذين
نقلوا عقائد الكفار والمبتدعة وردوا عليها.
لو كان ذلك المغربي عائشًا في مصر أو الشام أو الأستانة أو تونس يرى كتب
الملاحدة والنصارى في مدح دينهم والطعن في غيره، ويرى جرائدهم منشورة
متداولة أيضًا لما تهيج عصبه وتبيغ دمه لجملة أو جمل قرأها في شرح نهج البلاغة
لبعض فرق المسلمين. وسيرى في بلاده، وقد أوقعها الجهل والتعصب للمألوف في
قبضة فرنسة ما يهون بالإضافة إليه كل ما رآه في شرح نهج البلاغة مخالفًا لرأيه
ومذهبه، سيرى الكتب الكثيرة في الطعن في نفس القرآن العظيم، والنبي الكريم،
عليه الصلاة والتسليم، والكتب الداعية إلى الإلحاد، المؤلفة لهم كل اعتقاد،
وسيرى أن شبهات هذه الكتب ومشاغبات دعاة النصرانية من جهة ودعاة الإلحاد
والتفرنج من أخرى قد راجت في أذهان بعض قومه، وأن كشفها بالتسليم لقول
أمثاله من العلماء المعاصرين، أو التقليد لما في بعض كتب الميتين، غاية لا تدرك،
وأمنية لا تُنال.
إن اطلاع العوام والطلاب المبتدئين على العقائد الباطلة ومقالات المبتدعة، لا
ينكر ضرره، ولا تؤمن فتنته، كاطلاعهم على سيرة أهل الفسق والفجور، وطول
استماعهم لما يزينها للنفوس، كالأشعار والأغاني المشتملة على المجون، فإذا كنا لا
نستطيع منع افتتان أولادنا وعَوَامَّنا بالباطل إلا بإزالته وإزالة أهله من الأرض، ولا
منعهم من الفسق إلا بإعدام كل مبذولة العِرض، فما نحن بحافظيهم من الكفر ولا
من الفسق.
إن الله تعالى - وهو العزيز الحكيم - قد حكى في كتابه المجيد كفر الكافرين
وإلحادهم في آياته: وطعنهم في كتابه ورسوله، ولم يمحهم بقدرته من الأرض
ليحمي المؤمنين من أباطيلهم، ويحول بينهم وبين شرورهم، وهكذا فعل حماة الدين،
وحراس عقيدة الموحدة، نقلوا عقائد المخالفين ومقالاتهم وردوا عليها بالدلائل.
إنما يُشدِّد النكير على من يكتب ما يخالف عقيدته أو مذهبه أحدُ رجُلين رجُل
شديد التعصب لما هو عليه، يرى أنه يجب على جميع الناس موافقته فيه، وأن
يتبعوا من اتبعهم، ويقلدوا من قلدهم، ورجل حريص على عقيدته ومذهبه، وهو
على غير بصيرة منه، ولا ثقة به، فهو يخاف أن تطير به كل ريح، وأن تذهب
به كل شبهة، ولا يليق هذا الضيق في الذرع، والحرج في الصدر، بالمسلم
البصير في دينه، المعتصم بيقينه، وهو يعتقد أن الحق يعلو ولا يُعلى، وأنه متى
جاء الحق زهق الباطل، وأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق،
وأن بقاء الباطل في نومة الحق عنه، وإنما اللائق بصاحب هذا الحق واليقين أن
يقذف بحقه على باطل غيره ليدمغه، لا أن يشكو منه ويلعن من قاله أو كتبه،
ويوجب تحريفه والتصرف فيه.
من الصواب أن نمنع أولادنا وتلاميذنا من قراءة كل ما نعتقد أنه ضار أو
باطل إلى أن نكمل تربيتهم وتعليمهم ونثق بمعرفتهم للحق، واستقلال عقولهم في
الحكم، وإذًا نبيح لهم أن يقرءوا ما أحبوا فلا خوف من الباطل الضعيف اللجلج
على الحق القويِّ الأبلج؛ لأن الحق هو صاحب السلطان والفلج، ومن الصواب أن
ننصح للعوام بأن يتحاموا كتب الكافرين والمبتدعين حفظًا لأذهانهم من الاضطراب
ونأيًا بنفوسهم عن مهابِّ الأهواء، وأن نرشد محبي المطالعة منهم إلى الكتب
النافعة لهم، التي لا تفسد عليهم نعمة الطمأنينة، وهي النعمة التي لا تساميها نعمة.
لنا أن نُعْنَى بهذا وذاك، وأن نجعل لما نكتبه أو نطبعه حواشي ننبه بها على
مواضع الخطأ والصواب، وليس لنا أن نطلق القول في تحريم قراءة كل ما يخالف
اعتقادنا وحرمة كتابته وطبعه، ولا أن ننقل كلام مؤلف فننقص منه أو نزيد فيه،
فإن هذا من الكذب والخيانة، وإن قومًا يأتونه أو يستحلونه لا يثق أحد بنقلهم، ومن
زعم أن هذا جائز في الشرع فقد أهان الشرع، وصد عنه جميع العقلاء من الخلق،
وجعله دينًا خاصًّا ببعض البلداء، ووقفًا على من تلقنه من الجهلاء، وإن كان لا
يقصد شيئًا من هذه المفاسد، ويا لله العجب من شدة جرأة المتحمسين على التحريم،
والافتيات على الدين بقصد حماية الدين.
لو جرى المتكلمون والمؤرخون ونقلة اللغة ورواة الأخبار والآثار على فتوى
السنوسي والمغربي لبطلت ثقتنا وثقة جميع الناس بجميع العلوم النقلية لجواز أن
يكون كل ناقل قد حذف من منقوله شيئًا مما يخالف اعتقاده أو يرى نشره ضارًّا
ببعض أهل مذهبه ونحلته، أو حرفه واستبدل به غيره، وحينئذ لا يبقى عند
المسلمين شيء يمكن أن يحتج به أحد على آخر إلا القرآن الكريم، وما عساه يوجد
من حديث متواتر مجمع على تواتره. فظهر مما تقدم أن السنوسي مخطئ في
تحريمه التفوه بما قاله أهل السِّيَر في عثمان وكتابته، وفي إيجابه على من نقل
كتابًا فيه شيء من ذلك أن يحذفه منه، فإننا نقرأ في كتاب الله مثل قوله تعالى:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: 88-89) ، وقوله جل
ذكره: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) وقوله تبارك اسمه:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا
ظُلْمًا وَزُورًا} (الفرقان: 4) وقوله - صدق وعده -:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) والشواهد على هذا كثيرة , وليست
حكاية الطعن في عثمان - وهو غير معصوم - بأعظم من حكاية هذه الأقوال ,
والمسألة واضحة، وهذا ما رأينا في كتابته من العبرة والفائدة.
__________(15/21)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من الهند
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف الحكيم صاحب المنار المنير دام
إقباله ثم سلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فقد اطلعت على الجزء الرابع
من المجلد الثاني عشر لمناركم المنير، ورأيت في باب الفتاوى السؤال الذي هو
لأحد أبناء البلاد العربية في صدد (الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر)
والجواب عليه من علماء الأزهر الشريف مع تذييلكم عليه بما فيه من التشديد
والنكير على الإطلاق وتكفير فاعله ومن حضره [1] . فعجبت جدًّا لهذا الجواب
الذي لا يشوبه أدنى ريب؛ لأن أمثال هذا في نواحينا كثير، والعلماء أكثر، وكلهم
من شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي يجوِّز ذلك ويعده من الشعائر الدينية.
والحقيقة يا سيدي أن الإنسان لَيحار جدًّا وتكاد تُشكل عليه أمور دينه من حيث
إن الأزهريين ومن أشرت إليهم من علمائنا كل منهم مقلد لمذهب من هذه المذاهب
ومع ذلك نرى الفرق كبيرًا بين ما يقوله هؤلاء وأولئك من جواز وتحريم، فلَيْت
شِعري ما هذا الخلف وما هذا الإشكال؟ وليت شعري كم لمالك من مذهب وكم
للشافعي وأخويه من مذاهب؟ أرشدونا إلى الطريق القويم أرشدكم الله إلى خير
الدارين. ثم يقول الأساتذة الأزهريون (وأما نشيد الأشعار بتلك الألحان المحدثة
والنغمات المطربة فهو حرام لا يفعله إلا أهل الفسق والضلال -إلى قولهم- قال
الإمام الأذرعي: إني أرجح تحريم النغمات وسماعها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:
(إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) إني أسلم بتحريم النغمات
إذا كان يراد منها الأشعار المحدثة والنغمات المطربة، ولكن ما قول سيدي الأستاذ
في خطبة الجمعة وتلاوة القرآن الكريم حيث إن الاثنين لا يتلوان إلا بالألحان كما لا
يخفاكم، فهل هذا الفسق والنفاق والكفر يتناول هذين أم لا؟ وإذا كان ذلك فما هو
ذنب من حضره -أعني السامع- وما هو إلا متبع ومقلد، كما أن الخطيب في
نواحينا وسائر الأقطار الإسلامية إلا القليل لا يُدعى خطيبًا إلا إذا كان ذا صوت
جميل وكذلك تالي القرآن الحكيم فما هو قولكم في ذلك؟ وما هو معنى قوله تعالى:
{وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) أجيبونا عن ذلك وسامحني يا سيدي إذا
أخذت جانبًا من وقتكم النفيس أدامكم الله سراج هدى يهتدي به من ضل عن محجة
الصواب واقبلوا في الختام فائق احترام المخلص ناصر مبارك الخيري.
(أجوبة المنار عن هذه الأسئلة)
المذاهب واختلاف فقهائها
اعلم يا أخي أن المجتهد لا يكون له في المسألة إلا رأي واحد ومن نُقِلَ عنه
قولان أو أكثر في مسألة واحدة فإما أن يكون قد قال أحدهما في وقت ثم رجع عنه
فقال القول الآخر في وقت آخر، وإما أن يكون النقل عنه غير صحيح، والمسائل
التي يتردد فيها ليس له فيها رأي.
والمذهب له في عرف الناس إطلاقان، عامي وخاصي (فالأول) هو نقل
الأحكام التي قررها أو أفتى بها المجتهد، فمن عرفها وعمل بها من غير وقوف
على دليل المجتهد عليها واقتناعه به يسمى مقلدًا له، وهذا هو معنى المذهب الذي
يدعيه الآن جميع المنتسبين إلى المذاهب؛ لأنهم يظنون أن ما يقوله فقهاء مذاهبهم
وما هو منقول في كتبهم كله مروي عن أئمتهم، وأن هؤلاء الفقهاء لا حظ لهم منه
إلا نقله وتفسيره، وعلى هذا بنيتم تعجبكم من تناقض فقهاء كل مذهب في المسألة
الواحدة. والصواب أنه يقل في هؤلاء الفقهاء من اطلع على كتاب للإمام الذي
يدعي أنه درس فقهه أو قرأ شيئًا مما نقله عنه تلاميذه ككتاب الأم للشافعي والمدونة
لمالك وكتب أبى يوسف ومحمد صاحبي أبى حنيفة رحمهم الله ورضي عنهم،
وإنما قرءوا بعض كتب المتأخرين التي سنذكر لها وصف أصحابها، وما فهموها
حق فهمها، وكلهم يتجرأ على الفُتيا فتختلف فتاواهم، وتتناقض آراؤهم، وفي كل
قطر أفراد منهم، يثق بهم عوام بلادهم، كما هي عادة جميع العوام من جميع
الملل مع رؤسائهم، يقلدونهم كيفما كانوا ومهما كانت درجة علمهم أو جهلهم، فإن
قاعدة التقليد والاتباع هي أن يثق الأدنى بمن هو أرقى منه ولو في القراءة والكتابة
مطلقًا، فالأمي يرى متعلم القراءة أو الكتابة أرقى منه، وإن كان عاميًّا مثله. وكل
هؤلاء المفتين عاميهم ومثقفهم وفقيههم (إن وجد) ينسبون كل ما يفتون به إلى أئمة
المذاهب ويتعززون بأسمائهم ويتخذون هذه الأسماء أتراسًا ومجانَّ يدافعون بها كل
من يتصدى لإرشاد العامة وينهاها عن البدع والخرافات، بل يتخذونها سلاحًا
يحاربون به السنة وأنصارها.
الإطلاق الثاني هو بمعنى ما يسمونه الآن بالمسلك والمبدأ وهو طريقة المجتهد
في استنباطه للأحكام وأصوله التي يفرع عنها كما بين ذلك في علم الأصول، وهذا
هو المعنى الذي كان يقصده أصحاب أولئك الأئمة من الانتماء إليهم في عصرهم.
ولم يكن أصحابهم مقلدين لهم يأخذون كلامهم قضايا مسلَّمة بغير دليل بل تعلموا منهم
الاستدلال، ونقلوا عنهم علمهم ليكون مثالاً يُحتذى في استنباط الأحكام، كما صرح
بذلك المُزَني صاحب الشافعي في أول مختصره إذ قال: (اختصرت هذا الكتاب
من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله لأُقرِّبه على من أراده مع إعلامية
نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) .
ثم جرى على ذلك من بعدهم من العلماء ووسعوا دائرة الاجتهاد والاستنباط
على ذلك النحو والمذهب، ثم خلف من بعد هؤلاء خلف رضوا أن يكونوا عيالاً
على من قبلهم واستنبطوا الأحكام من عباراتهم، وفشت بدعة التقليد والأخذ بقول
من يوثق بشهرته من غير دليل، وما زال الناس يتدلون إلى أن وصلوا إلى قرار
الهُوة التي تعجب السائل من اضطرابهم واختلافهم فيها. وسننشر إن شاء الله تعالى
في جزء تالٍ جملة مفيدة في هذا البحث عن كتاب الإرشاد للعماد السكري رحمه الله
تعالى.
وجملة القول أن سبب اختلاف من يسمونهم الفقهاء من أهل المذهب الواحد،
هو أنهم ليسوا ملتزمين للنقل عن إمام أو عالم معين كما هو مقتضى التقليد الذي
يدَّعونه ولا جارين على أصول واحدة في الاجتهاد الذي يأتونه وينكرونه، فلا
عجب إذًا في اختلافهم واضطرابهم، ولا عبرة في دعواهم الانتساب إلى أولئك
الأئمة رضي الله عنهم.
وهاهنا مسألة ينبغي التفطن لها وهي دعوى المقلدين أن فائدة التقليد منع
تشعب الخلاف في عامة الأمة، وخاصة إذا حصر في عدد قليل كالأربعة. وهذه
الدعوى ممنوعة لا في مجموع المذاهب فقط بل في مقلدة كل مذهب مذهب أيضًا
كما بين السائل، وكما هو مشاهد لكل ناظر، وسبب ذلك أنه لم يتفق للمنتمين إلى
مذهب من المذاهب المشهورة، المنتشرة في أقطار كثيرة، أن يتفقوا على دراسة
كتاب أو كتب معينة ويعملوا بها على سواء، سواء كانت كتب إمام ذلك المذهب أو
كتب بعض المؤلفين المنتمين إليه، وإنما يتبعون في كل قطر من تصدروا فيهم
للتعليم والفتوى فيحرمون ما حرموا عليهم، ويحلون ما أحلوا، ويجرون على ما
أقروهم عليه من البدع، ويتركون ما تركوا من السنن، وهؤلاء المتصدرون
يتفاوتون في علمهم واجتهادهم - وكل منهم يجتهد في الوقائع التي تحدث في عصره،
وإن أنكر الاجتهاد بلسانه وقلمه، وإنما ينكره على غيره إذا خالف هواه فيه؛
ولذلك تتفاوت أعمال المتبعين لهم.
وثَمَّ مسألة أخرى يغفل عنها الناس وهي أن علم الفتوى عند كثير من المتفقهة
في أكثر البلاد الإسلامية لا صلة له بالعمل، فترى أحدهم يحضر الدعوات
والاحتفالات، التي تؤتى فيها البدع والمنكرات، ويهنئ أهلها ويدعو لهم، ولا ينكر
عليهم شيئًا من عملهم، ولكنه قد يقرر في الدرس أو يكتب في الفتوى أو المصنفات
أن هذه الأشياء من البدع والمنكرات، وربما يصفها بأنها مما عمت به البلوى،
ومنها ما يحلونه بالتأويل، ومنها ما لا يجدون له تأويلاً، فإذا فطن السائل لما ذكرنا
يذهب تعجبه ويزول استغرابه مما ذكره. وسيرى في الفتوى السادسة بعد هذه أن
بعضهم أحل أكل أموال المعاهدين والمستأمنين ولو بالخيانة والسرقة، وهذا من
أغرب شواهد المسألتين.
ويدلنا ما ذكر على أن الهداية التي يجب الرجوع إليها إذا اختلفت الأدلاء،
وعمي الأمر على الناس، هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وسيرة السلف الصالح في العمل بها {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} (النساء: 59) .
إنشاد الشعر بالنغمات
إذا حكَّمنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة لا نجد
فيهما دليلاً على تحريم إنشاد الشعر بالنغمات والحديث الذي ذكروه لا يصح فقد رواه
أبو داود والبيهقي عن ابن مسعود وفي إسناده شيخ لم يسمَّ، وفي بعض طرقه ليث
بن أبي سليم قال النووي: إنه متفق على ضعفه. وقد فصلنا القول في هذه المسألة
تفصيلاً في الجزء الأول وما بعده من مجلد المنار التاسع وفيه أن الغناء قد يحرم
حرمة عارضة ويكره الاستكثار منه ولكن الأصل فيه الإباحة. ويستحب في الزفاف
والعيد وعند قدوم المسافر كما بيناه هنالك فلا هو فسق ولا كفر ولا نفاق.
الخطبة بالألحان والسنة فيها
روى مسلم وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أنه قال (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر
جيش يقول: صبحكم مساكم) الحديث فهذه هي السنة في كيفية أداء الخطبة، وهذا ما
يُرجى به التأثير والاتعاظ بها التي شرعت لأجله، وكل أداء يخالفه فهو مكروه وأشده
كراهة تكلف الألحان والنغمات فيها كما يفعله بعض الترك وغيرهم، وإذا قيل بحرمة
هذه الألحان والنغمات الموسيقية في الخطبة لم يكن بعيدًا؛ لأنه على مخالفته للسنة
الصحيحة تشبُّه بالكفار في خطبهم الدينية وعبادتهم، ولو من بعض الوجوه فإن لم يكن
تشبهًا؛ لاشتراط القصد في معنى التشبه كان تركًا لما أمرنا به من مخالفتهم في أمثال
هذه الأمور، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء وقيل له: إن
اليهود تصومه أمر بمخالفتهم بصيام يوم قبله أو بعده؛ ولأنه مفوت لحكمة الدين في
الخطبة وهو الزجر المؤثر في القلوب، والوعظ الذي يزع النفوس، وهذه النغمات
من اللهو الذي ترتاح إليه النفوس وتستلذه، وترويح النفوس بالمباح غير محظور
ولكن الخطبة لم تُشرع له والمساجد لم تبن لأجله.
وقد صارت الخطبة في أكثر البلاد الإسلامية رسومًا تقليدية مؤلفة من أسجاع
متكلفة كسجع الكهان، وتؤدى بنغمات موقعة كنغمات القسوس والرهبان، وقد قارب
السنة فيها بعض الخطباء المصريين والسوريين، ولم أر خطيبًا ذكَّرني خطبة النبي
صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة. زارني سيد عراقي مثَّل لي تحريض العرب
على القتال بخطبة تضطرب لها القلوب، وتثير كوامن الحمية والنجدة من قرارات
النفوس.
تلاوة القرآن بالألحان
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن) رواه البخاري
عن أبي هريرة وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وأبو داود عن أبي لبابة
بن عبد المنذر والحاكم من حديث البراء بن عازب وصححه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا) .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التغني بالقرآن معناه الاستغناء به عن غيره،
وهذا غير صحيح بدليل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين ومسند أحمد
وسنن أبي داود والنسائي (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى
بالقرآن) فأي علاقة للاستغناء بحسن الصوت. ودليل قول أبي موسى الأشعري
للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره أنه استمع ليلة لقراءته: لو كنت أعلم أنك
تسمعه لحبَّرته لك تحبيرًا.
على أن علماء السلف قد اختلفوا في هذه المسألة فأنكر قراءة الألحان بعضهم
وعرفها آخرون. وقد أورد حجج الفريقين ابن القيم في (زاد المعاد) وجمع بينها
بأن المنكر هو تكلُّف الألحان الموسيقية، والتطريبات غير الطبيعية، والمعروف
هو ما اقتضته الطبيعة من التطريب والتحزين والتشويق إلى ما يشوق إليه،
والتنفير مما ينفر منه، وهذا هو الصواب الذي يتفق مع حكمة الشرع ومقصد الدين،
أعني الاهتداء بالقرآن وتدبره والاتعاظ به. ومن شاء التفصيل في ذلك فليراجع
كتاب زاد المعاد، وربما ننقله في فرصة أخرى، إذا اقتضته الذكرى.
ترتيل القرآن
الترتيل من الرتَل (بالتحريك) وهو انتظام الشيء واتساقه وحسن تنضيده
يقال: ثغر رتِل ومرتَّل إذا كانت الأسنان حسنة النظام والتنضيد. فترتيل القرآن
عبارة عن تجويد قراءته وإرساله من الفم بالسهولة والتمكث وحسن البيان {لاَ
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: 16) {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلَى مُكْثٍ} (الإسراء: 106) والغرض من الترتيل الذي ينافي العجلة ويقتضي
المكث والتأني هو أن يفهمه السامع كالقارئ ويتمكن كل منهما من تدبره وفهمه،
ويصل تأثيره إلى أعماق قلبه، وحَسَن الصوت أقدر على إتقان الترتيل، وفصيح
اللسان أملك لحسن البيان والتجويد، وأجدر بقوة الإفهام والتأثير، وإنما كرهت
النغمات المتكلفة، والألحان المتعملة؛ لأنها تشغل القارئ والسامع بالصوت
والصناعة فيه، عن تدبر الكلام والاتعاظ به، فالفرق بين التغني المحمود والتغني
المذموم، والتلحين المعروف والتلحين المنكر، هو أن المحمود المعروف ما يشغل
نفسك بالفهم والتدبر، والاتعاظ والتأثر، والمذموم المنكر ما يشغلها بالصوت،
وإتقان الصناعة في اللفظ، والله أعلم وأحكم.
__________
(1) ليس في تلك الفتوى تكفير كما قال، وتذييلنا هناك فيه تخفيف ما وعبارته توهم أن التشديد والتكفير في تذييلنا تبعًا أو استقلالاً.(15/25)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أموال الشركات الأجنبية في بلادنا
وحقوق المعاهدين
(س6) من محمد جمال أفندي سبط الفواردي بدمشق الشام سؤال موجه إلى
العالم العامل والمحقق الكامل منار الفضل والعرفان الشيخ رشيد أفندي رضا حرسه
الله وحفظه آمين.
ما قولكم - ساد مجدكم - في مس حقوق الشركات الأجنبية وأرباب الامتيازات
المعطاة لهم من الخليفة الأعظم هل هم معاهدون مستأمنون مصونو الحقوق أم
حربيون؟ وهل يجوِّز الشرع لأحد هضم حقوقهم بدعوى أنهم دخلوا بلادنا وأخذوا
الامتيازات من حكومتنا قهرًا، وإن كان بالصورة الظاهرة بأمان ورضى، أفيدونا
الجواب، ولكم الشكر والثواب.
(ج) إن احترام الأجانب المعاهدين أو المستأمنين واحترام أموالهم وحرمة
التعدي عليهم أو عليها من المسائل المجمع عليها بين المسلمين المعلومة من الدين
بالضرورة فليست مما يُسأل عنه أو يستفتى فيه، لولا تأويل المضلين. وقد كتب
إلينا هذا السائل الفاضل كتابًا خاصًّا يعتذر فيه عن سؤاله هذا ويبين سببه وهو أن
شيخًا من شيوخ الدجل معروفًا بمخادعة العامة واستمالتهم إليه بذم النصارى والتنفير
منهم، وتلفيق كتب الأوراد والصلوات والكرامات قد أفتى من يظنون أنه من أهل
العلم والتقوى بأن أموال الأجانب الذين في بلادنا مباحة للمسلمين فيجوز لمن قدر
على أكل مال شركة الترام أو سكة الحديد أو غيرهما من الشركات الأجنبية أو
الأفراد أن يأكل ما استطاع أكله سواء كان مستخدماً فيها أو غير مستخدم , ويتأول
الحكم الشرعي المجمع عليه بأن هؤلاء الأجانب معاهدون أو مستأمنون في الظاهر
ولكنهم حربيون في الواقع؛ لأنهم أخذوا الامتيازات بهذه الشركات من حكومتنا
بالجبر والإكراه، لا بالرضى والاختيار. وهذا هو باطل التأويل، ومحض الكذب
وقول الزور، فالامتيازات أخذت باختيار الدولة والسلطان الذي كان يقدسه مفتي
الإباحة ويضلل مطالبيه بالإصلاح أو يكفرهم، والمعاهدات بين دولتنا ودول
أصحاب هذه الشركات لا شك فيها، وإلا كانوا محاربين، ولا حرب بيننا وبين أحد
منهم (إلا الإيطاليين الآن) والمصلحة في هذه المعاهدات لنا ظاهرة، وإذا نقض
بعضهم شيئًا من شروط العهد فليس لأحد من أفراد الرعية أن يعده محاربًا ويستحل
ماله ودمه، وإنما ذلك حق السلطان وأولي الأمر، ولولا ذلك لم يستقم نظام ولم
تثبت مصلحة، ولو كان شرعنا العادل يبيح مثل هذا لما وثقت دولة من دول
الأرض بعهودنا وأماننا، ولكانت معذورة في الاتحاد على استئصالنا، سبحان الله!
جعل الشارع ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ولعن من أخفر ذمتهم، كما
ورد في حديث علي كرم الله وجهه في الصحيحين والمسند وكتب السنن الثلاثة
وغيرها ومن حديث غيره أيضاً. ومعنى (يسعى بها أدناهم) أن العبد أو الأجير
من المسلمين إذا أمن بعض الحربيين وجب على كل مسلم أن يحترم أمانه ويحرم
عليه أن يتعدى على من أمَّنه، أو يؤذيه في نفسه أو ماله.
وقال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا
ذكره عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك قال: إن أمر الأمان إلى الإمام (الخليفة)
ورد قوله بالحديث، واشترط أبو حنيفة في العبد أن يكون مقاتلاً ليصح تأمينه.
وأما تأمين آحاد الصناع والزراع فلا خلاف فيه، ولكن دجال سورية ومفتي الإباحة
فيها لا يعتد بتأمين السلطان نفسه ولا بعهده وعهد دولته بل يبيح السرقة والخيانة في
الإسلام، وهما لا يباحان في حال من الأحوال.
__________(15/30)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدخول في الماسونية
(س7) من السيد أحمد بن يوسف الزواوي في (مسقط) .
غب إهداء مراسم السلام، والتجلة والاحترام، لحضرة الماجد الهمام،
والأستاذ الإمام، السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير، نهرع إلى بابه،
ونلتمس من سماحة جنابه، كشف ما يحوك في صدورنا عن هذه الجمعية، المدعوة
بالماسونية، فقد تضاربت فيها الأقوال، واستحكمت حلقات الجدال وفشى الخلف
في شأنها بين العلماء والأعلام، فمن مادح وذامّ، ومبيح الانتظام، ومفتٍ بأنه حرام،
إلا أننا نرى القائلين بالحظر يكيلون جزافًا، ويقتضبون اقتضابًا، على حين
استناد المبيحين إلى أصل الحل، ولما كان الناس لا يقتنعون إلا بجوابكم المؤيد
بالحجة المتكئ على البراهين، تيممناكم، ولنا وطيد الأمل وأكبر الرجاء بأن تثلجوا
غلتنا بالجواب الضافي الذيول، الكاشف عن موضوع تلك الجمعية وبُروغْرَامها
نِقاب الخفاء، حتى نقدم رافعين الرءوس على الانتظام في سلكها، أو نرفضها
رفض السقب غرسه ونحمل النفوس على فركها، ولا شك أن يكون كلامكم فصل
الخطاب وحاسم النزاع.
(ج) قد بينا من قبل أن هذه الجمعية سياسية أنشئت في أوروبة لإزالة
استبداد الملوك وسلطة البابوات، وفصل السياسة عن الدين بأن يكون التشريع من
حقوق الأمة غير مقيدة فيه بدين، وقد فعلت في أوروبة فعلها وأدت وظيفتها.
والذين ينشرونها في الشرق لهم أهواء مختلفة، ومنافع متعددة، والرياسة العامة
التي يرجعون إليها أوروبية، وإذ قد عرفتم حقيقتها وغرضها، فقد عرفتم حكم
الدخول فيها، وما سبب اختلاف الأقوال في حكم الانتظام في سلكها إلا اختلاف
العلم بحقيقتها، ولا يتسنى لأهل بلادكم أن يعرفوا هذه الحقيقة؛ لأن الذين يدعونهم
إليها لا يبينونها لهم، وإنما يرغِّبونهم فيها ترغيبًا إجماليًّا ويعدونهم بكشف الستار
عن الأسرار، بعد الترقي في الدرجات، ولم يقرءوا ما كتب فيها دعاتها وناشروها
من المدائح، وما يلطخها به خصماؤها - ولا سيما رجال الدين - من الفضائح،
ورُب مدح يمدحها به قوم يراه آخرون ذمًّا، وقد نشرها الإفرنج وأعوانهم
المتفرنجون في مصر والمدن العثمانية منذ عشرات من السنين فلم يكن لها من ثمرة
إلا إعداد النفوس لفصل السياسة والحكومة من الدين، والاستغناء عن الشرع
بالقوانين، والمؤاخاة بين المسلمين وغيرهم، وموالاتهم لهم، ولعله تبين لكم بهذا
الشرح كنه ما يمنونكم به من النفع، كما عرفتم ما يحكم به الشرع، وعسى أن
يزيل ما بينكم من الخلاف، الذي هو أول ثمراتها في تلك البلاد.
__________(15/32)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة الشرقية
سلسة مقالات لنا نشرنا ستا منها في المجلد الرابع عشر
(7)
الجهاد في الإسلام
يقع الخلاف والنزاع والعداء بين البشر بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد،
وأعم أسباب سوء الفهم والتفاهم اختلاف المواضعة والاصطلاح: يطلق زيد
القول بمعنى فيفهمه عمرو بمعنى آخر فيؤاخذ زيد عليه، ويرى زيد أن قوله لا
يقتضي المؤاخذة وهو مصيب في هذا الرأي، وأن عمرًا ما آخذ، عليه إلا لسوء
أراد به، ونية رديئة أضمرها له، وإلا لم يؤاخذه على الصواب، وهو مخطئ في
هذا الرأي لأن عمرًا إنما آخذه؛ لأنه فهم من قوله ما لم يرد هو به.
واختلاف المواضعة والاصطلاح الذي قلنا: إنه أعم وأكثر أسباب سوء الفهم
له مناشئ متعددة، فإن اللفظ الواحد يكون به معنى أو عدة معانٍ في أصل اللغة،
ومعنى آخر في اصطلاح الشرع، ومعنى آخر أو أكثر في اصطلاح بعض العلوم
والفنون، ومعنى آخر في العُرف العام، ومعنى آخر في العُرف الخاص ببلد من
البلاد أو طائفة من الطوائف كالكتاب أو الفقهاء مثلاً. وقد قال علماؤنا (لا مشاحة
في الاصطلاح) وهذه الكلمة تجري دائمًا على ألسنتنا وأقلامنا ولكن لا يكاد يعامل
بها أحد منا غيره. فنحن في مشاحات وملاحاة لا تنقضي. وقد يكون غير معذور
ولكن البيان هو الذي يقطع التعلات والأعذار.
من الألفاظ التي من هذا القبيل لفظ (الجهاد) في الإسلام والظاهر لنا أن
بعض النصارى يفهمون أن المراد به اتفاق المسلمين كافة على قتال أو قتل كل من
ليس بمسلم سواء كان محاربًا لهم أم لا , وهذا المعنى ليس مدلولاً له في اللغة
العربية ولا في عرف القرآن والسنة ولا اصطلاح الفقهاء، وربما سرى فهمهم هذا
إلى بعض المسلمين الذين يجهلون اللغة والشرع ويأخذون المسائل الدينية من
المعاشرين لهم، وإن لم يكونوا من أهل دينهم، وكذا من جرائدهم.
ومنهم من يفهم من الجهاد القتال باسم الدين أو لأجل الدين ويقسمون الحرب
إلى دينية ومدنية ويفرقون بينهما بالتسمية وإطلاق لفظ الجهاد على الحرب الدينية
فقط، ويخصونها بالذم والتشنيع والتنفير. كأنهم الحرب التي يسمونها مدنية من
طرق الكسب والتجارة المحمودة، ويرون أنه لا حرج على من يحارب قومًا
يستضعفهم ليزيل استقلالهم ويجعلهم كالعبيد المسخرين لأبناء جلدته.
نشر أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة) مقالاً فيها ذكر فيه أن الحركة
الحاضرة بمصر الموجهة لإعانة الدولة العثمانية على حرب إيطالية قد ظهرت
بشكل الجهاد الديني أو الدعوة إلى الجهاد الديني، وأن هذا خطأ ضار بمصر ,
فساء قوله هذا جميع من ذكره أمامي من المسلمين، وسر جميع من ذكره من
النصارى. وما رأيت الكُتَّاب والباحثين في السياسة من هؤلاء حمدوا لمدير هذه
الجريدة غير هذا المقال. وقد اجتمعت في بعض السُّمَّار بطائفة منهم وخضنا في
هذه المسألة وكان مما ذكرته أن الجهاد ليس بالمعنى الذي يفهمونه، ولا أدري أي
معنى قصد به مدير الجريدة ولكنني أجزم بأن اتهام المصريين بالتأليب على
النصارى كافة والدعوة إلى قتالهم باطل، ويمكنني أن أحلف على أنني لا أعرف
أحدًا من المسلمين على هذا الرأي ولا سمعت الدعوة إليه ولا استحسانه بل ولا ذكره
من أحد منهم. ثم ذكرت معنى الجهاد في اللغة والقرآن، وورود ذكره في كتب
النصارى، فاقترح عليَّ بعضهم أن أكتبه وأنشره في المؤيد فقبلت الاقتراح ولم أُتم
ما بدأت بشرحه في السامر.
الجهاد والمجاهدة مصدر جاهد، وهو بناء مشاركة من مادة الجهد أي التعب
والمشقة (ومن هذه المادة الاجتهاد أيضًا) وصيغة المشاركة تُشعر بأن الجهاد عبارة
عن احتمال الجهد والمشقة في مقاومة خصم أو عدو، فلا يدخل في معناه حرب مَن
لا يحارِب وقتل من لا يقاتل إذ لا مشاركة في ذلك.
قال الراغب في مفرداته التي شرح بها غريب القرآن أدق الشرح ما نصه:
(الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو (تأمل قوله: مدافعة)
والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس،
وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) ،
{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 41) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) وقال
صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) المجاهدة تكون
باليد واللسان قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم) اهـ
كلام الراغب، ولا أذكر من أخرج هذين الحديثين، ولكن روى الإمام أحمد وأبو
داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وجاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) وقد ذكر لفظ الجهاد في القرآن
بمعنى المعالجة والمكابدة في مواضع لا تحتمل معنى الحرب كقوله تعالى:
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15) يعني الوالدين , وأكثر أحكام الحرب ذُكرت في
القرآن بلفظ القتال؛ لأن لفظ الجهاد ليس نصًّا في معنى الحرب والقتال، ولم تذكر
مادة الحرب فيه إلا قليلاً ولم تسند إلى المسلمين. وكل ما ورد في أحكام القتال في
القرآن كان المراد به مدافعة الأعداء الذين يحاربون المسلمين لأجل دينهم منها ما هو
صريح في ذلك كقوله تعالى في سورة الحج وهو أول ما نزل في القتال:
} أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ (الحج: 39) وقوله
في سورة التوبة، وهي آخر ما نزل في أحكام القتال:] أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (التوبة: 13) قوله] أَيْمَانَهُمْ [بفتح
الهمزة ومعناه عهودهم، وذلك كما فعلت إيطالية الآن فهي من الدول المعاهدة، وقد
نكثت العهد وبدأتنا بالقتال. ونزل فيما بين هاتين الآيتين آية البقرة
] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [ (البقرة: 190) .
وما ليس بصريح مثل هذه الآية يمكن أن يحمل عليه بقرينة الحال فإن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مع من حوله في حرب هم المعتدون فيها وكان يعاهد كل
من يقبل معاهدته على ترك الحرب مهما ثقل احتمال الشروط، وما عاهده أحد من
المشركين أو اليهود إلا من عَلِمَ منهم بأنهم أضعف من المسلمين، ثم هم الذين كانوا
ينكثون عندما يشعرون بقدرة، ويصادفون غرة، كما فعلت اليهود غير مرة، وكما
فعلت قريش بعد صلح الحديبية.
ويحمل على ذلك أيضًا ما ورد من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء والإلقاء إليهم
بالمودة سواء ورد ذلك في المشركين وأهل الكتاب أو عامًّا كما صرح بذلك في
سورة الممتحنة فقد قال تعالى في أولها:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [ (الممتحنة: 1) أي يخرجونكم من وطنكم مكة
ويطردونكم منها بسبب أنكم آمنتم بالله ربكم، فهذه علة أولى للنهي عن ولايتهم أي
نصرتهم وعن مودتهم، والعلة الثانية بينها في الآية الثانية فقال:] إِن يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [ (الممتحنة: 2) ثم قال بعد آيات:] لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (الممتحنة:8،7)
فلم يكتفِ بنفي النهي عن موالاة ومودة غير المقاتلين المعتدين، وحصر الوعيد
فيمن يتولاهم، فإن كلمة] إِنَّمَا [للحصر وجملة:] أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [تفيد الحصر
أيضًا.
هذه جملة أحكام القتال في القرآن المتعلقة بمن يقاتلون، وهي في منتهى العدل
والحكمة، وبينا أن لفظ الجهاد فيه ليس مرادفًا للحرب والقتال، ولكن الفقهاء
اصطلحوا على تسمية القتال جهادًا، وهذا اللفظ ألطف وأخف من لفظ القتال ولفظ
الحرب؛ لأن معناه يتحقق ببذل الجهد في مقاومة لا يقتل فيها أحد أحدًا، والقتال
ليس كذلك إذ لا يتحقق معناه إلا بسفك الدم.
كل هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وقد زال من دونها كل
سحاب، فمن أين صار لفظ الجهاد الإسلامي هو المخيف الدال على الظلم والبغي
والوحشية وذبح الأبرياء من أهل السلم والولاء؟ أليس هذا من تعصب غير
المسلمين على المسلمين بتشويه محاسن دينهم وتحريف آياته عن مواضعها، وقلب
معانيها وتغيير أوضاعها، أو من الجهل بها على الأقل.
هذا وإن لغير المسلمين مع المسلمين أربع حالات ينقسمون بها إلى أربعة
أقسام:
1- أهل الذمة: وهؤلاء يساويهم الإسلام بأهله في الحقوق ويوجب حمايتهم
والدفاع عنهم إذا اعتدي عليهم وسد ضروراتهم، فإذا وجد فيهم من لا يقدر على
قوته كفوه أمره، وكذا غير القوت من الضروريات.
2- أهل عهد وميثاق كجميع الدول الآن بعضها مع بعض ما عدا إيطالية مع
دولتنا، فهؤلاء تجب مسالمتهم والوفاء لهم بعهدهم كما هو، حتى إنه إذا حاربهم
بعض المسلمين غير الداخلين في جماعتنا العامة التي عاهدتهم واستنصرونالا
ننصرهم كما في الصورة التي بيَّنها الله تعالى في أواخر سورة الأنفال بقوله:
] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ
اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ (الأنفال: 72) .
3- أهل أمان وهم الذين يكونون أو يدخلون في بلادنا من المحاربين لنا
بالأمان على أنهم لا يعتدون على أحد ولا يعتدي عليهم أحد، ويسمون المستأمنين،
ويجب الوفاء لهم بالأمان.
4- أهل حرب أو محاربون وأحكامهم طويلة، وكل ما ثبت منها في الكتاب
والسنة فهو مبني على قواعد العدل والرحمة. ومنه أن لا يقاتل إلا من يباشر القتال
فيمتنع قتال الشيوخ والولدان والنساء ورجال الدين المنقطعين للعبادة.
ومما ورد في ذلك الآية التي أساء في تفسيرها لورد كرومر وكأنه تبع في ذلك
بعض القسوس أو السياسيين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه عمدًا، تعصبًا منهم
وبغيًا، وهي قوله تعالى:] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: 4) فهذه الآية من
آيات الرفق والرحمة في الحرب، والمسلمون متفقون على أن المراد بقوله تعالى:
] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ (محمد: 4) لقيتموهم في المحاربة، وحاصل معنى
الآية أنكم تقتلون من تقدرون على قتله إلى أن تظهروا عليهم بالإثخان فيهم فعند ذلك
اتركوا القتل، واكتفوا بالأسر، وأنتم مخيرون بعد ذلك بين أن تمُنّوا على الأسرى
بإطلاقهم فضلاً وإحسانًا، وبين أن تأخذوا منهم فداءً. هكذا يكون شأنكم حتى تضع
الحرب أوزارها أي أثقالها أو آثامها. قال:] وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [ (محمد: 4) فأمركم بجعل القتل على قدر الضرورة، وهو أن تأمنوا شرهم بالظهور
عليهم] لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: 4) أي: ليختبر بعضكم ويجربه
بمعاملة الآخر بما يخالف هواه ويوافق المصلحة، ويتفق مع العدل والرحمة، بجعل
الحرب ضرورة تقدر بقدرها. هذا هو معنى الآية التي يشوهون بها جهاد الإسلام،
وهي شرف يفتخر به بين منصفي الأنام.
إذا محاسني اللاتي أدل بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
طال المقال فزاد على ما قدرت له ويمكنني أن أؤلف في هذه المسألة كتاباً
حافلاً يفتخر به كل مسلم، ويخذل به كل متعصب سيئ النية والقصد، وحسبك من
القلادة ما زين النحر.
فإذا كان هذا هو الجهاد والقتال في الإسلام، وكان كل ما خالفه من حروب
ملوك المسلمين خروجًا عن هدي الدين في حروب كلها مدنية لم تقصد بها حماية
دعوة الإسلام إذا تركوا الدعوة بعد عصر السلف، فلماذا تقوم القيامة على المسلمين
كلهم إذا ذكر واحد منهم لفظ الجهاد أو حرفًا مما اشتق منه، ويعد هذا خطرًا على
النصارى أصحاب الدول الحربية القوية التي تحميهم وتنتصر لهم أينما كانوا ولو
بالباطل؟ ولماذا يحرض غير المسلمين بعضهم بعضًا على سلب مُلك المسلمين
والتنكيل بهم، وينفذون ذلك بالفعل، ولا يعدونه إثمًا ولا حرجًا، وإنما ينحصر
الإثم والحرج في الشكوى منه، حتى صار المسلمون أنفسهم يحجر بعضهم على
بعض أمثال هذه الألفاظ، التي لا ضرر فيها ولا ضرار، ولا تدل على جواز ذرة
من الظلم والعدوان؟
لو كان في كتابنا الإلهي من القسوة في أحكام الحرب مثل ما في التوراة التي
في أيدي أهل الكتاب لما كتمناه ولما تبرأنا منه كقوله في سِفر تثنية الاشتراع:
(20: 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تَسْتَبْقِ
منهم نسمة ما) بل يوجد في أناجيلهم من النصوص القاسية ما لا يوجد في القرآن
مثله كرواية لوقا عن المسيح - عليه السلام - في الفصل التاسع عشر ونصها (أما
أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) ولفظ
الجهاد الممقوت عند القوم ومقلدتهم؛ لأنهم يعدونه إسلاميًّا يوجد أيضًا في كتبهم
كقول مقدسهم: بولس (2 تيم 2: 5 لا ينال أحد الأكاليل إلا ويجاهد جهادًا شرعيًّا)
وقوله (تيم 6: 12 جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي
إليها دعيت) يقولون: إن المراد بهذا جهاد النفس والشيطان، ونحن قد قال علماؤنا
مثل هذا في جهاد القرآن كما تقدم، وكان سلفنا يسمون جهاد النفس الجهاد الأكبر،
وجهاد العدو الجهاد الأصغر، وروي هذا عن الصحابة رضي الله عنهم.
إني أختم مقالي هذا بذكر شيء مما يقال فينا، وما يحرض به علينا، وأعيذ
المسلمين منذ وجدوا إلى اليوم وإلى آخر الزمان من مثل ذلك.
جاء في العدد 843 من جريدة (وقت) الروسية التي صدرت في 18 سبتمبر
(أيلول) بالحساب الشرقي ما ترجمته:
جاء في برقية من بودابست أن فمبري المستشرق المشهور كتب مقالة في
جريدة (بودابست هيرلاب) قال فيها: إن حماية الإسلام بعد الآن خطأ لا يفيد فائدة
ما، وهو سيفنى ألبتة ولا يستحق غير الإفناء، المدنية توجب أن تنقرض من
ممالك الإسلام عدوة المدنية. المسلمون قوم لا طبيعة لهم ولا يعرفون كلمة الطبيعة
هم يعبدون ولكن لا يعملون، ولا شيء فيهم من الحياة غير شعورهم الديني،
وليس لهم مسلك (مبدأ) ولا مقصد , ولا ينبغي أن تهتم جد الاهتمام بدستور تركية
فإن حالها الآن شر مما كانت عليه، واحتمال حياة ثلاثمائة مليون مسلم خيال باطل
لا شائبة للحقيقة فيه اهـ.
وقد تعجبت جريدة وقت من قول فمبري هذا؛ لأنه مشهور بمحبة الترك
والمسلمين وقالت: إنه يجب التأمل فيه، ونحن نقول إذا كان هذا قول من يحبنا
منهم فهل يقول أحد من المتهمين منا بالتعصب وبعض الأغيار مثله أو قريباً منه.
يقولون يجب إعدام هؤلاء الملايين من المسلمين باسم المدنية وفي روسية
ملايين من النصارى هم أبعد عن المدنية من مسلميها ومسلمي العثمانيين فلماذا يجب
لهم البقاء؟ إذا كان مثال المدنية ما فعلته إيطالية فالصلاة والسلام على التوحش
والهمجية.
بل قال بعض أساطين السياسة مثل كلام هذا المستشرق أو أشد، منهم الأستاذ
مكسيليان هاردن صاحب جريدة (زنكفت) النمسوية قال في خطبة له أرسل
ملخصها مكاتب التيمس في فيينا إلى جريدته فنشرت فيها (أنه لا توجد دولة تقدر
أن تساعد الحركة الحاضرة التي تسوق الإسلام إلى الوراء، ثم قال: إن الإسلام
دين خطر وبقاؤه خطر، وإني على رأي أن كل ولاية أخذت من الإسلام فهي غنيمة
للدول الأوروبية) .
هكذا يقولون جهرًا في خطبهم وجرائدهم ولا نزال نغش أنفسنا بقول الذين
يسخرون منا من الإفرنج والمتفرنجين بزعمهم أن هذه الحرب لا علاقة لها بالدين
ولا يقصد بها المسلمون لأجل دينهم.
يقولون المنكر ويفعلونه ويمدحون أنفسهم عليه، ونقول الحق فنلعن عليه
ونهدد. ولا ندري ماذا بقي عندهم من التهديد فنخافه، أولئك عبيد القوة القاهرة،
ولو أنهم أقوياء لما سموا حقنا باطلاً، بل كانوا يسمون ما ربما تدفعنا إليه القوة من
الباطل عين الحق ولباب الفضيلة، والإسلام نفسه هو المظلوم المهضوم بيننا وبينهم،
نحن تركنا هدايته وجنينا عليه، وهم جعلونا حجة عليه، حتى أقنعوا أبناءنا الذين
تولوا تربيتهم المادية الشهوانية وتعليمهم الفاسد في مدارسنا ومدارسهم بأن يلصقوا
ذنوبهم بالإسلام ويصدون عنه على علم أو جهل.
إذا عوقب جناة النصارى أو تعقبت عصاباتهم الثورية في مكدونية قامت
أوروبة لهم وقعدت، وأرغت وأزبدت، وإذا أظهرنا التألم من تدمير مدافعهم لبلادنا
وحصدها لإخواننا، نلعن على تعصبنا، فإلى متى يبغي الأقوياء، وينخدع
الأغبياء، ربنا افصل بيننا بالحق وأنت خير الفاصلين.
... ... ... ... ... ... ... فى 2 ذي القعدة سنة 1329
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(15/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما يجب من إعانةالدولة العلية بإنجادطرابلس الغرب
(9)
تابع المسألة الشرقية
سيرت دولة إيطالية أساطيلها كلها وجيشًا عرمرمًا من جنودها المنظمة إلى
طرابلس الغرب، لمحاربتها في البر والبحر، والاستيلاء عليها بالبغي والقهر،
وإلباسها لباس الخوف والجوع، وأهانت الدولة العلية صاحبة ذلك القطر بمساومتها
في بيعها وحملها بالتهديد والوعيد على الإذعان لاحتلال الجيش الإيطالي فيها.
طمعت دولة إيطالية المغرورة في تلك البلاد لإهمال دولتها أمرها، وتقصيرها
في إقامة المعاقل والحصون في برها، ووضع الحامية القوية فيها، وفي بث الألغام
وأنابيب التدمير في بحرها، فانقضت عليها بأساطيلها وجنودها، وصبت عليها
جحيم قهرها، وقطعت عنها موارد الرزق، في عام وباء ومجاعة وقحط، فأصبح
أهل تلك البلاد يحاربون دولةً عاتيةً، باغيةً قاسيةًً، لا ترحم امرأةً ضعيفةً ولا شيخًا
كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ويصارعون جوعًا ديقوعًا دهقوعًا، ويصابرون وباءً
مريعًا، فهم أحق خلق الله بعطف الكرماء، ورحمة الرحماء، وإعانة الواجدين،
وإغاثة القادرين.
نعم: إن الدولة العثمانية هي صاحبة هذه البلاد المرزوءة بقسوة الطامعين،
وهي التي يجب عليها إغاثتها وإمدادها قبل كل أحد، ولكن حيل بينها وبين إنجادها
إن أرادته، فلا أسطول قويّ تنجدها به بحرًا، ولا أوربة تمكنها من إنجادها برًّا،
وإذا كانت الدولة عاجزة عن القيام بهذا الواجب انتقل الوجوب إلى من قدر عليه،
وأقدر الناس عليه أهل مصر فصار متحتمًا عليهم بحق الجوامع الست التي تتعاطف
بها الجمعيات البشرية لا بجامعة واحدة منها، وإننا نبين هذه الجوامع الست ونبدأ
بالأعم منها فنقول:
الجامعة الأولى الإنسانية
خلق الناس ليعيشوا بالتعاون فهو معيار ارتقائهم، وميزان مدنيتهم، فكلما عم
كانت المدنية أعم، والارتقاء أشمل، و (خير الناس أنفعهم للناس) كما ورد،
وللتعاون أسباب أعمها التعارف، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) وأن سهولة طرق
المواصلة وتعدد وسائلها زاد في تعارف الناس وتعاونهم، فلا تقع الآن نكبة كبيرة
في قطر من الأقطار إلا ويسارع أهل الأقطار الأخرى إلى إعانة أهله وتخفيف
مصيبتهم، ومن الشواهد القريبة العهد على ذلك عطف المصريين على الإيطاليين
الذين نكبوا بالزلازل والبراكين في صقلية ومسيني [1] فقد نظمت في ذلك القصائد
العربية المؤثرة، وجمعت الإعانات المالية، وأرسلت إلى الحكومة الإيطالية.
لو حكمنا العقل المجرد من الهوى في أحق الناس أن تبذل لهم المعونة، وتمد
إليهم سواعد المساعدة الذين نكبوا بالجوائح الطبيعية، أم الذين نكبوا بظلم إخوانهم
البشر لهم، وقهرهم إياهم، واعتدائهم على حريتهم واستقلالهم؟ لحكم حكمًا عادلاً
بأن هؤلاء المظلومين أحق بالمعونة، وأجدر بالمساعدة، ولرأينا من أسباب هذا
الحكم (حيثياته) أن مساعدة المظلوم وإعانته على ظالمه أكبر خدمة للإنسانية
وأعظم نفعًا للبشر؛ لأن فائدتها مزدوجة، ونفعها يتعدى من المظلوم إلى الظالم
بكفه عن ظلمه ومؤاخذته عليه، وبذلك يقل الظلم والعدوان بين الناس حتى يكونوا
إخوة في الإنسانية، وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك
ظالمًا أو مظلومًا إن يك ظالمًا فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلومًا فانصره)
رواه بهذا اللفظ الدارمي وابن عساكر عن جابر، وفي رواية أحمد والبخاري
والترمذي عن أنس أنه قال (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) فسئل قبل إتمام
الحديث: (كيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) .
فبحق هذه الجامعة يجب على كل إنسان يؤثر حب الإنسانية على العصبية
المفرقة والهوى والطمع المفسدين للأخلاق أن يساعد أهل طرابلس ودولتهم، على
كف ظلم إيطالية وبغيها عنهم، أو على تخفيف مصيبتهم على الأقل، ولولا
المطامع، والمبادلة والمعارضة في المنافع، لما أقرت أوروبة هذه الدولة على بغيها
وظلمها، مع اعتراف المنصفين من جميع شعوبها ببغيها وطغيانها، وإنه ليوجد في
كل شعب أوروبي كثيرون من أهل الإنصاف وحب الإنسانية، ولولا أن حكومتها
وجرائدهم تخادعهم لما كانوا يسكتون عن الانتصار لأمثال هؤلاء المظلومين، على
أنه وجد في إنكلترا كثيرون قد عرضوا أنفسهم على السفارة العثمانية للتطوع في
جيشها الذي يحارب إيطالية، ومع هذا نرى فينا من ينكر مثل ذلك منا نحن
المشاركين لأهل طرابلس في الجوامع الست كلها.
الجامعة الثانية الشرقية
الناس كلهم إخوة في الإنسانية والإخوة قد يختلفون على المنافع، ويغلب طمع
القوي منهم على ما تطالبه به الفطرة وعاطفة الأخوة من التسامح والإيثار، بل من
العدل والإنصاف، فيتفرقون ويختصمون، ويستعين بعضهم على بعض، ويقع
الخصام والعدوان بين الجماعات كما يقع بين الأفراد، وهذا هو السبب في تكوين
عصبية الجامعات المختلفة فقد كانت وما زالت الشعوب والقبائل والأمم والدول
تتخالف وتتحالف، وتتنازع وتتصارع، والأصل في هذه العصبيات الاشتراك في
الصفات والمقومات التي تقتضي التآلف ومقاومة المخالف فيها كالنسب والوطن
واللغة والحكومة والدين والعادات والآداب، وكلما كان ما به الاشتراك أكثر، كان
التآلف والتعاطف أعم وأشمل، فالمشتركون في النسب قد يخاصمون الغريب عن
نسبهم من أبناء لغتهم ووطنهم ودينهم، وكذلك أهل الوطن واللغة مع الغريب عنهما
المشارك في غيرهما مثلاً، وعلى هذا المنهج تصغر العصبيات وتكبر.
كثر ما به الاشتراك بين أهل أوروبة، فهم مشتركون في الدين والعادات
العامة، والأحوال الأهلية والاجتماعية، وطرق الكسب، وفنون الحرب، ونظام
الحكومة، وأكثر خواصهم يعرفون من لغاتهم الكبرى ما يتخاطبون بها مع الآخرين
ويقرءون جرائدهم وكتبهم، وينقل بعضهم عن بعض في كل يوم كل أمر ذي بال،
وينشرونه للجمهور في جرائدهم، فيشعر كل شعب منهم مما يشعر به الشعب الآخر
من مؤلم أو ملائم، فهم بهذه الأمور كلها عصبية واحدة على من يخالفهم فيها، وقد
اتحدوا بها على المخالفين فصار العالم كله (أو ما يعبر عنه بالعالم القديم إذا استثنينا
أميركة) عصبتين يعبر عن إحداهما بالغرب، ويراد به أوربة الطامعة، وعن
الأخرى بالشرق، ويراد به آسية وأفريقية المطموع فيهما. وكان الأولى أن يقال:
والشمال مكان الشرق والغرب، ولكن لا مشاحة في الإصطلاح كما يقال.
يرى كثير من الكتاب والمؤرخين أن المراد بالشرق الإسلام وبالغرب
النصرانية ولكن المختبرين من علماء نصارى الشرق الذين عرفوا كنه سياسة
أوربة ورأوا سيرتها في مستعمراتها يعلمون أن أوربة تحتقر جميع الشرقيين ولا
تعد النصارى منهم أهلاً لمساواة الأوربيين في شيء، وأن أية دولة من دولها
تستولي على بلاد شرقية تحتقر جميع أهلها، وتستعلي عليهم بعظمتها الجنسية؛
لأنها ترى أن الأوربي يجب أن يكون سائدًا؛ لأنه أوربي، وأن الشرقي يجب أن
يكون مسودًا؛ لأنه شرقي.
لا يزال الشرق ضعيف التماسك جاهلاً أنه مضطهد من الغرب كله، وأنه
يجب عليه التناصر لدفع سيل الغرب الآتي وعدوانه المخشي، وقد رأينا الخبيرين
بكُنْه هاتين الجامعتين من شبان النصارى الأحرار في مصر وسورية يميلون
كالمسلمين إلى انتصار اليابان الوثنية، على روسية النصرانية، يوم وقعت الحرب
بينهما، فإذا مال هؤلاء الأذكياء إلى ظفر طرابلس الغرب الشرقية المظلومة،
وانتصارها على إيطالية الغربية الظالمة، فذلك أولى، بل لا يكفي أن يميلوا
ويعطفوا، دون أن يساعدوا وينصروا، فالأقربون أولى بالمعروف.
الجامعة العثمانية
أهل الولايات العثمانية البحتة والممتازة والمستقلة في إدارتها مختلفون في
الأجناس والأديان، واللغات والعادات، وليس في استطاعة أهل ولاية منها أن
يكونوا دولة قوية تحمي نفسها من أوروبة إذا صالت عليها بجيشها وأساطيلها،
ومصر في ذلك كغيرها، فإن كانت أغنى وأعلم، فهي أضعف في الحرب وأعجز،
فمن مصلحة الجميع تأييد الجامعة العثمانية، وإصلاح حال الدولة العلية، وهذا
الإصلاح يتوقف على شكل الحكومة الذي يعبرون عنه باللامركزية، وهو ما
ستصير الدولة إليه، ولا بقاء لها بدونه، إذا هي سلمت من كيد أوروبة لها،
وحالت سياسة التنازع دون التعجيل عليها -سلمها الله تعالى وكفاها كيد الكائدين-
وحينئذ تكون الولايات العثمانية كالولايات الجرمانية أو الولايات المتحدة كل منها
داخل في إدارتها الداخلية ومشتركة مع سائر الولايات في السياسة العامة وقوة
الجيش والأسطول إلخ.
فعلى العثمانيين في جميع الولايات من جميع العناصر والملل أن يستمسكوا
بعروة العثمانية ويبذلوا النفس والنفيس في حفظ كيانها، وتأييد سلطانها، والفرصة
الآن سانحة فينبغي اغتنامها، وما ذاك إلا بمساعدة أهل طرابلس العثمانيين على
حفظ أنفسهم وبلادهم وبقائهم عثمانيين مثلنا، متصلين في ظل هذه الجامعة بنا،
وأخص غير المسلمين من العثمانيين بتأييد هذه الجامعة، واغتنام هذه الفرصة
السانحة، فإنهم بذاك يوثقون عُرى الاتحاد بينهم وبين إخوانهم في الوطن والعثمانية
توثيقًا لا تجهل فائدته.
أين العقلاء الأذكياء من نصارى السوريين والقبط ومن اليهود؟ أين الذين
يقولون منهم: إننا نود أن نجعل الرابطة الوطنية أو السياسية أقوى في أمور الدنيا
من الرابطة الدينية، ألا يعلمون أن إيجاد هذه الرابطة وتوثيقها وتقويتها من نتائج
الأعمال، لا من نتائج الأقوال، إن كُتاب المقطم والأهرام في مصر وبعض كُتاب
اليهود في جريدتهم (جون ترك) قد أظهروا ميلهم إلى الدولة وضلعهم على إيطالية
فشكرنا لهم ذلك، ولكن لماذا نطق بعض أرباب الأقلام، وسكت أرباب الأموال، فلم
يسمع لهم صوت بكلمة التبرع لإعانة الحرب يذكر، ولا لمساعدة جمعية الهلال
الأحمر.
قال بعض غلاة التعصب الديني من السوريين: إن النصارى لا يدفعون إعانة
في حرب سماها بعض كتاب المصريين جهادًا دينيًّا مع دولة مسيحية، ولست أرى
هذا عذرًا صحيحًا لمن لم يصل إلى درجة الشيخ يوسف الخازن صاحب جريدة
الأخبار في بغض المسلمين والتعصب عليهم، وإغراء الإفرنج بهم، فإن دفاع أهل
طرابلس الغرب عن أنفسهم يسمى في اللغة العربية وفي اصطلاح الشرع جهادًا
يوجبه الدين. فإذا كنتم لا تساعدون أهل طرابلس في مصابهم إلا إذا غيرنا وضع
اللغة وعرف الشرع فما أنتم بمساعدين؛ لأن هذا التغيير ليس في استطاعة أحد من
العالمين، على أن إعانة جمعية الهلال الأحمر ليست إعانة لمسلمي طرابلس على
مدافعة نصارى إيطالية، بل هي إنقاذ كل من يمكن إنقاذه من الجرحى والمصابين
بنكبات هذه الحرب ولو كان إيطاليا باغيًا، ولكنها باسم العثمانية وتحت هلال علمها
فما بالكم تقبضون أيديكم عنها.
إن نصارى السوريين المقيمين بمصر وأمريكة هم أرقى السوريين علمًا وأدبًا
وأكثرهم فضة وذهبًا، وأوسعهم مروءة وكرمًا، وأشدهم نجدة وشممًا، وإني
لأنتظر منهم البرهان الناصع على تأييد الجامعة العثمانية، وتوثيق الرابطة الوطنية،
بل سمعت هنا حسيس همساتهم، وخفي مناجاتهم، يأتمرون بينهم، ويتحفزون
للمكرمة اللائقة بهم، وكأني بها وقد ظهرت في مصر، وإن ظهورها في أمريكة
لأدل على الفضل والنبل.
جامعة اللغة العربية
الإنسان حيوان ناطق، فالنطق أظهر مقوماته التي بها امتاز على سائر أنواع
الحيوان، وارتقى في مدارج العلم والعرفان، وإن صُحبتك لمن لا تعرف لغته لا
تبعد عن صحبة الحيوان الأعجم، فأنس الإنسانية والاستفادة من مزاياها بالتعاون لا
يتم إلا بالكلام فلهذا كانت اللغة أقوى الروابط بين البشر في المصالح والمنافع
والترقي الصوري والمعنوي.
رابطة اللغة تشبه نعمة الهواء والماء في كونها لا يشعر المرء بقيمتها ومنفعتها
في حال التمتع بها، ولا أقول لك تصور فضلها، بتخيل فقدها، بل أقول لك:
تخيل أنك هبطت بلدًا لا تعرف لغة أهله، وأحاطت بك الحيرة من كل جانب في
كل معاملة تعاملهم بها، ثم ظفرت فيه بمن يعرف لغتك، ماذا يكون قدر سرورك
واغتباطك به وحنينك إليه، واستفادتك منه، ولاسيما إذا كان من أهلها غير دعيٍّ
فيها؟
إن أهل طرابلس الغرب، لهم على أهل البلاد التي تحيط بهم من الشرق
والغرب حق جامعة اللغة التي يبذل الأوربيون الملايين لنشرها في جميع بقاع
الأرض، وما هي هذه اللغة التي يشاركنا فيها أهل طرابلس؟ ومن هم أهلها؟ وما
أشهر صفاتهم؟ تلك اللغة هي اللغة العربية الشريفة، وأهلها هم العرب الكرام الذين
اشتهروا في العالم كله بالسخاء والكرم، حتى صار السخاء العربي والكرم العربي
مما يضرب به المثل، وقد كان من سخاء بعض أجوادنا أن أعطى سيفه لخصمه في
الحرب إذ طلبه منه، واختار تعريض نفسه للقتل، على الإمساك والبخل، ومنا من
قيل فيه بحق:
فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتقِ الله سائله
فهل يليق بأمة هذا شأنها في الجود والسخاء، أن يرى أغنياؤها المدافع تحصد
إخوانهم، وتهدم بنيانهم، والجوع يغتال أطفالهم ونسوانهم، ولا يواسونهم ببعض ما
أنعم الله عليهم من الرزق الواسع، والمال الكثير؟
الجامعة الخامسة جامعة الجوار
للجوار حقوق كحقوق القرابة قضت بها الفطرة البشرية، وأيدتها الشريعة
الإلهية، فمن شأن الجار أن يشعر بكل ما يشعر به جاره ويشاركه فيما يسر منه وما
يسوء، فإذا فرح أطربه صوت غنائه، وإذا حزن أحزنه نشيج بكائه، وإن وقع
الحريق في داره، أصابه شواظ من ناره، وقد أوصى الله بالجار في كتابه، وفي
حديث الصحيحين والسنن (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه) .
ألا وإن جوار الشعوب والبلاد، كجوار البيوت والأفراد، وإننا نرى الدول
الطامعة قد تواطأت على إعطاء الجار القوي حق سلب جاره الضعيف، فكانت
إنكلترة والروسية، هما السالبتين لاستقلال الدولة الإيرانية، وفرنسة وأسبانية هما
السالبتين لاستقلال الحكومة المراكشية.
ألا وإن لطرابلس الغرب حق الجوار على مصر وتونس، ومصر أقدر على
إعانتها من تونس؛ لأنها أوسع ثروة وحرية، ومن مصلحتها السياسية أن لا تستقر
قدم إيطالية الغادرة في أرض جارتها وأختها طرابلس؛ لأن الإيطاليين جيران سوء،
وأصحاب بغي وغدر، فإذا قُدِّر لمصر أن تخرج من سيطرة الإنكليز لا تأمن على
نفسها والإيطاليون في طرابلس من اعتدائهم عليها بمحض البغي والعدوان، ودعوى
أنها أحق بها لمصلحة الجوار.
الجامعة السادسة الجامعة الدينية
الدين هو صاحب السلطان الأعلى على الأرواح، والحاكم المتصرف في
العزائم والإرادات، ورابطته أقوى الروابط وجامعته أعم الجامعات، فالمسلم الهندي
الذي لا تجمعه بالمسلم العثماني جامعة نسب، ولا لغة ولا وطن، ولا منفعة مادية
أو سياسية، يغار عليه ويألم لألمه ويحزن لمصابه، ما لا يغار ويألم المشارك له
فيما عدا الدين من الجامعات، فلا عتب إذًا على المسلم إذا فضَّل أخاه البعيد في
الإسلام على أخيه القريب في الوطن أو اللغة أو الجنسية السياسية، وهو يراه أشد
حبًّا له وحدبًا وعطفًا وحنانًا عليه من هذا الأخ القريب ولكن تفضيل ذاك لا يقتضي
التقصير في حق هذا.
روى أحمد ومسلم في صحيحه عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى
له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وفي حديث الصحيحين عن أبي
موسى الأشعري (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وهذان الحديثان
وأمثالهما تفسير لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10)
وقوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) .
غلب على المسلمين الجهل بدينهم وترك جماهيرهم هدايته، ومزق نسيج
اتحادهم ما كان من اختلافهم في المذاهب: هذا شيعي يعادي سُنيًّا، وهذا أشعري
يعيب حنبليًّا، وهذا جَهمي يكفر وَهَابيًّا، (واحكم على العكس بحكم الطرد) ثم
مزقته أهواء السياسة ونزغات التفرنج، بما أحدثت بينهم في هذه الأزمان، من
التفرق في الأجناس والأوطان، ومع هذا كله نرى بصيصًا من ذلك النور الإلهي لا
يزال يلوح بين أفئدتهم مُشرقًا من أفق الكتاب العزيز والسنة النبوية، عندما تُصَبّ
عليهم المصائب، وتنتابهم النوائب، فبنوره يبصرون، وبحرارته يتعاطفون، فبينا
ترى التركي يحتقر العربي ويحاربه، والآخر تارة يعاتبه وأخرى يواثبه، إذا بهما
بعد هُنيهة متحدان يفدي أحدهما شرف الآخر وحقه بدمه وماله. بالأمس كانت
الدماء تتفجر من سيوف الترك والعرب في اليمن، واليوم نسمع عرب اليمن ونجد
ينادي زيديهم وشافعيهم ووهابيهم الأستانة: إننا مستعدون لبذل أنفسنا في سبيل حفظ
سيادتك على إخواننا عرب طرابلس الغرب.
إن جميع الأمم والملل لتعجب من قوة هذه الرابطة الإسلامية على ما وصل
إليه المسلمون من التقاطع والجهل، وإن أعداء الإسلام دائبون في اتخاذ الوسائل
لنكث فتلها، ونقض غزلها، ولهم من ملاحدة المسلمين أعوان على ذلك ربّوهم على
كراهة هذه الرابطة الشريفة، وأقنعوهم بوجوب استبدال الرابطة الجنسية أو
الوطنية بها، فهم يعملون لأعدائهم ولا يشعرون.
بهذه الرابطة المقدسة نرى المسلمين يبسطون أيديهم لمساعدة إخوانهم في
طرابلس على الدفاع عن أنفسهم، لا يمتنع منهم عن المساعدة إلا العاجز منها لفقره
أو جهله بطريقها، أو منع حكومته له منها، وبهذه الرابطة نعلم الجاهل، وننبه
الغافل، بل لا ينبهنا إلا المصائب، ولا يعلمنا إلا النوائب، فهي التي ستعيد إلى
الجامعة الدينية قوتها، حتى تصدر عنها آثارها اللائقة بها، وما هي إلا العدل
والفضل، والمدنية المطهرة من أدران البغي والغدر، واستباحة الفجور والفسق.
كل جامعة من تلك الجامعات الست كافية لبسط اليد في إعانة أولئك المنكوبين
المظلومين، فكيف إذا اجتمعت كلها وتحققت في مثل مسلمي مصر؟ أفلا يكون
الذي يبخل منهم جانيًاعلى تلك الجامعات كلها: الإنسانية والشرقية والعثمانية
والجوارية واللغوية والإسلامية؟ بلى. فيا أيها المسلمون -وأخص مسلمي مصر
بالذكر- أنتم أهل النجدة، وأجدر الناس بتفريج هذه الشدة، اعلموا أن لله عليكم فيما
أوجبه من زكاة أموالكم سهمًا للمجاهدين في سبيل الله وهي سبيل الحق والعدل.
وأفضل الجهاد الدفاع عن النفس والوطن، ومقاومة البغي والعدوان، وهو ما وجب
على إخوانكم وجيرانكم من أهل طرابلس. فأعينوهم يعنكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.
أيها المسلمون إن دينكم يوجب عليكم إغاثة المضطر، ولو كان كافرًا غير
محارب لكم، بل يوجب عليكم إغاثة الحيوانات المضطرة إلى القوت، وكل ما
يقيها الهلاك، وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم: (في كل ذات كبد حرى أجر)
رواه أحمد وابن ماجة بسند صحيح، فما بالكم إذا كان المضطر من إخوانكم
وجيرانكم كأهالي طرابلس الغرب، الذين قطعت إيطالية عنهم جميع موارد الرزق،
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) , {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ} (التغابن: 16) .
((يتبع بمقال تالٍ))
______________________
(1) هكذا ضبطها العرب أيام استعمارهم لها، ومن ذلك قول شاعرهم فيها: من ذا يمسيني على مسيني ويقولون الآن: مسينا تبعًا للإفرنج.(15/40)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات
(10)
لكل شيء مادح وقادح، ولكل كلام مقرظ ومنتقد، ولقد رأيت أن أختم هذا
المقال بشكر الراضين عن مقالات المسألة الشرقية، والاعتذار عما اقترحوا،
وتفصيل القول في نقد الناقدين والعفو عما اجترحوا.
رأيت أكثر من عرفت راضين عن هذه المقالات ناقلين أحاديث الرضاء بل
الإطراء عن غيرهم، معتقدين أنها مثلت الحقيقة، وبينت الطريقة، واقترح
بعضهم ترجمتها ونشرها ببعض اللغات الأوروبية، وبعضهم طبعها على حدتها
باللغة العربية، شافهنا بذلك كثيرون، وكاتبنا به قليلون، فنشكر لهم ذلك ونعتذر
عن طبعها على حدتها، ولكننا ننشرها في مجلتنا (المنار) وعن ترجمتها ولكننا
نأذن بالترجمة وطبعها بغير العربية لمن شاء ذلك.
أما الساخطون فهم أعداء الدولة والملة، وأنصار إيطالية الباغية، وأما
المنتقدون فمنهم المخلص في انتقاده، المستقل في رأيه مع احترام رأي غيره،
ومنهم غير ذلك، وقد كانت تظهر أمارات وعبارات السخط من بعض الجرائد
الإفرنجية وجريدة (الأخبار) العربية، وكتب إلينا رئيس جمعية قبطية (بأبي
حنظل ومصر والإسكندرية) كتابًا قال فيه: (خط يراعك كلمة شلت يد كاتبها
الذي يصف قومًا أعزاء كرماء وصفوا بالصلاح والتقوى والإنسانية (لا التوحش
كما تقول) وحب الخير (يعني الإيطاليين) بأنهم متوحشون وإنك تعلم أيها
الفيلسوف الكبير أنه لا يقدر على الحكم على قوم إلا من كان منهم (؟) وإن تكن
إساءة الدخيل الذي أوجدناه من العدم (؟) وفتحنا له صدورنا ورفعنا له اسمًا ومنارًا لا
تحتمل [1] ! ! ثم قال الكاتب: إنه يعفو عن ذنبي هذا الذي أسأت به إلى
المصريين (بزعمه) وأنا دخيل فيهم. هذا ملخص ما كتبه. والعقلاء المنصفون
يعرفون أينا أحق بالعفو عن إساءته إلى الآخر، وقد ظهر بعد أن أشرنا إلى وحشية
الإيطاليين بزمن غير بعيد أن الجرائد في جميع الممالك الأوروبية والأمريكية وافقتنا
على قولنا وأيدته بروايات مراسليها في طرابلس الغرب، وبتصويرها لعدوانهم
الوحشي على النساء والأطفال والشيوخ وتقتيلهم والتمثيل بهم. وإنني قد عفوت
عن ذلك الساخط الساخر الساب الشاتم، بعد أن ظهر أنني على الحق وهو على
الباطل.
وبعد هذا وذاك أذكر جميع ما بلغني من الانتقاد في محاورة مع منتقد وهو من
عدة مصادر وأجيب عنه: قال لي صديق لا أرتاب في إخلاصه: إنك قد اشتهرت في
الاعتدال فيما تكتب وأراك قد بالغت في هذه المقالات - أو قال تطرفت - حتى
شايعت العلم والمؤيد في ذكر الجهاد والحرب الدينية وأنحيت باللائمة على أوربة
كلها، وهذه السياسة ضارة بنا.
فقلت له: إن صورة البغي المنكرة التي فاجأتنا بها إيطالية قد كانت صاخَّةً
أصمت المسامع، وقارعةً صدعت القلوب، وإن ما تضمنته من مخالفة حقوق
الدول وإبطال العهود الضامنة لسلامة دولتنا، وما أجابت به الدول الكبرى حكومتنا
حين راجعتها في ذلك من أنها على الحياد، لا تعارض إيطالية في نسخ القانون الدولي
وإبطال المعاهدات، كل من هذا الجواب، وذلك العدوان الصريح قد دلنا وأشعرنا بأننا
مهددون بزوال دولتنا، وذهاب ما بقي من ملكنا، وبأن القوم قد أنفقوا
على حل المسألة الشرقية حلاًّ سريعًا حالاً إذا لم يروا فينا من الحياة ولوازمها ما
يقتضي التلبث في ذلك والرجوع عنه، فقل لي بحقك ماذا يخاف الذي أنذر بزواله
من الوجود إذا هو دافع عن نفسه بكل ما يستطيع؟ أليس كل ما دون الزوال أسهل
منه؟ ألم يصدق علينا في هذه الحال، قول شاعرنا الذي سار مسير الأمثال (أنا
الغريق فما خوفي من البلل) ؟ بلى إنني بتأثير هذه القارعة التي ظهر أن أوربة متفقة
عليها أردت أن أبين لأوربة نفسها ولجميع العثمانيين والمسلمين أننا نعتقد أن أوربة
كلها تكون خصمًا لنا إذا ساعدت إيطالية علينا، ومكنتها من كل ما تريده من البغي
والعدوان على بلادنا.
كتبت هذا معتقدًا أن تذكير المسلمين في جميع بقاع الأرض بما أوجبه الإسلام
في مثل هذه الحال، وظهور أثر هذا التذكير فيهم - هو أرجى ما ترجو من أسباب
حذر أوروبة من مساعدة إيطالية على كل ما تريد من بغيها، واستمالة الدول الذي
بهما إرضاء المسلمين وحسن اعتقادهم فيها، وأولاهن بذلك إنكلترة ثم فرنسة
وروسية المتفقتان معها في السياسة والمصلحة، وكل واحدة من هذه الدول الثلاث
مستولية على عشرات الملايين من المسلمين. وقد صرحت بمقصدي هذا في
المقالات الأولى، ولم أقطع الأمل من مساعدة كل الدول.
قال صديقي المنتقد: إن المسلمين الرازحين تحت سيطرة هذه الدول كلهم
ضعفاء بالجهل والتفرق، فالدول إذا أرادت إنفاذ هذا الأمر (حل المسألة الشرقية)
لا تبالي رضاهم ولا سخطهم، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا، قلت: إني لا أرى
هذا الرأي بل إنها تبالي وتهتم أشد الاهتمام برضاهم، وتحسب ألف حساب
لسخطهم، إذا كان سببه اعتقادهم أنها تريد إزالة دولة الخلافة وإبطال حكم الإسلام
من الأرض.
إن رأيك هذا يشبه رأي لطفي بك السيد مدير (الجريدة) إذ قال: إن إظهار
مسلمي مصر لعواطف الميل إلى الدولة العلية وإعانة أهل طرابلس على حرب
عدوهم ينافي مصلحة مصر، فهو من ترجيح سياسة العواطف على سياسة المنافع،
التي تتبعها كل العقلاء من أمم المدنية ودولها، وأنا أرى أن العواطف والمنافع متفقة
في هذه الحال فإذا جرى جميع المسلمين على ما طالب لطفي بك به المصريين،
وعلمت دول أوروبة أن تقسيم بلاد الدولة العثمانية بينهن لا يهيج لمسلم عاطفة، بل
يرى كل شعب منهم أن رضاه بزوال هذه الدولة عين المنفعة له والمصلحة، فإنها
لا تتلبث بقسمة هذه البلاد إلا ريثما تتفق على توزيع الحصص، وليت شعري ما
هي المنفعة التي تنالها مصر من هذا التقسيم، وخرت سقوفها على أهلها، وأتاهم
العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعن أيمانهم وشمائلهم.
قال المنتقد: أما ينبغي أن نخاف أن تشدد أوروبة وطأتها على المسلمين، إذا
هم أظهروا العطف على الدولة بباعث الدين؟ قلت: إنني لا أرى هذا الخوف في
محله، ولو فعلت أوروبة ذلك لكان أنفع للمسلمين، فإنه لا شيء يربي الأمم ويجمع
كلمتها مثل الضغط عليها في وقت تهيج شعورها، ومصادرتها فيما يتعلق باعتقادها،
على أن كل بلاء يمكن أن يحل بالمسلمين في مثل هذه الحال يجب أن يحتمل في
سبيل الدفاع عن كيان الدولة كما فهمت من جوابي السابق - الخوف من الذل مجلبة
للذل، وإنما السلامة في الشجاعة لا في الجبن، ولكن.
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وأقول الآن إن ما جرينا عليه، ووجهنا النفوس إليه، من كون عدوان إيطالية
يعد طرقًا لباب المسالة الشرقية، قد ذكر بعد ذلك في كثير من الصحف الشرقية
والغربية. وإن ما ارتأيناه من تحريك شعور المسلمين لاتقاء الخطر به قد وافقنا فيه
العارفون بالسياسة من المسلمين المقيمين الآن في عواصم أوربة ومسلمي الهند
وتونس وغيرهم، وأشهر هؤلاء القاضي أمير علي الشهير. وكان من مسلمي
الهند ورأس الرجاء الصالح أن عقدوا الاجتماعات الكثيرة لإظهار استيائهم
وتألمهم لحكومتهم ومطالبتها بالسعي إلى منع هذه الحرب الجائرة ومساعدة الدولة
العلية.
وكان من تأثير ذلك أن إنكلترة لم تضغط على مسلمي مصر، وفرنسة لم
تضغط على مسلمي تونس والجزائر، ولم تمنعهم هذه ولا تلك من جمع الإعانات
لإخوانهم مسلمي طرابلس حتى إن جرائد إيطالية قد رفعت عقيرتها بالشكوى من
هاتين الدولتين وطالبتهما بالتشدد في منع إنجاد طرابلس وبنغازي من تونس
ومصر [1] .
بل كان من تأثير ذلك ما هو أعظم مما ذكرنا وهو ظهور مبادئ الاتفاق بين
دولتنا وإنكلترة بإرسال سلطاننا أكبر أنجاله ضياء الدين أفندي لتحية ملك وملكة
الإنكليز في سفينتهما التي تحملهما إلى الهند عند وصولهما إلى ثغر بورسعيد
ذاهبين على الهند بقصد الاحتفال في عاصمتها القديمة دهلي بنصب الملك
إمبراطورًا على الهند. وكان لقاء وفد نجل سلطاننا لملك الإنكليز مع أميرنا خديو
مصر بالغًا منتهى الوداد اللائق بالزائر والمزور وجواب الملك عن كتاب السلطان
وخطبته في مقابلة خطبة نجله، وإهداؤه الوسام الخاص بأسرة الملك إلى هذا النجل
السعيد بعد الزيارة - كل ذلك قد بشرنا بقرب تحقق ما أشرنا به من استمالة دول
الاتفاق الثلاثي إلينا وفي مقدمتهم إنكلترة [2] وهذا ما صرحنا به في أوائل هذه
المقالات منذ شهرين كاملين.
وجملة القول أننا رأينا العدوان من إيطالية إحدى دعائم التحالف الثلاثي،
ورأينا دول التواد الثلاثي قد سكتن لها، ولم يجبن نداءنا وطلبنا المحافظة على
القوانين والمعاهدات الدولية، فصحنا من شدة الألم أن أوروبة كلها متفقة علينا،
واستصرخنا الشعور الإسلامي وذكرناه بالخطر على ما بقي للإسلام من السلطة،
لنستعين بذلك على استمالة إنكلترة ووديدتيها إلى مساعدتنا، ودفع الخطر الأكبر عنا،
ولما قيل لنا: إن الدول حصرت الحرب في طرابلس الغرب ورأينا مبادئ الرجاء
في إنكلترة وغيرها تومض أمامنا، سكتنا عن الشكوى من أوروبة كلها، ولم نشرح
ما كنا عزمنا على شرحه.
قال المنتقد: إنك صبغت المسألة الشرقية بصبغة الدين فجعلتها
كالحروب الصليبية كما تقول جريدة العلم المتطرفة المغالية وهي مسألة سياسية كان
ينبغي أن تستصرخ فيها العثمانيين خاصة، فاتفاق المعتدلين بتلك مع المتطرفين على
صبغ هذه الحرب بصبغة الدين قد أخاف نصارى بلادنا أن يتضمن ذلك التحريض
عليهم والإيقاع بهم، فيجب الإقلاع عن تسمية هذه الحرب بالجهاد
وجعلها دينية فإنها ليست إلا سياسية.
قلت: إنني قلما أقرأ جريدة العلم وقلما أراها فأنا لا أدري ما هو حكمها في
هذه المسألة وأرى أننا إذا جعلنا حربنا لإيطالية دينية فذلك خير لإيطالية ولجميع
البشر لا لنصارى بلادنا فقط، وليت إيطالية نفسها تتبع أحكام الإسلام في الجهاد
فإن القاعدة الأساسية عندنا في ذلك هي قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) فلا يجوز لنا أن
نقاتل غير المعتدي علينا.
والمعتدي هو المحارب لا جميع أهل جنسه فلا يجوز لنا أن نقاتل من
الإيطاليين أنفسهم من لا يقاتلون كالرهبان والنساء والشيوخ والولدان. وإيطالية لا
تبقي على أحد من هؤلاء ولا تذر إلا من تعجز عن الوصول إليه، وأما الحرب
الدينية والجهاد الذي معناه أن يقاتل إنسان كل من يخالفه في الدين وإن كان ذميًّا أو
معاهدًا أو مستأمنًا فهذا معنى بثته أوروبة في الشرق بحروبها الصليبية ولم يقل أحد
من المسلمين به، ولو تجردنا من أحكام الدين لاستبحنا في هذه الحرب كل ما نقدر
عليه من إيذاء خصمنا والإسلام لا يبيح لنا كل ذلك.
قال المنتقد: إن النصارى لا يفهمون الجهاد الديني في الإسلام بمعناه الشرعي
الذي تعنيه بل يفهمون عنه ما هو مشهور عندهم وكثير من عوام المسلمين يفهمون
منه مثل فهمهم فيجب أن لا يذكر الدين والإسلام في الكلام عن هذه الحرب لأجل
ذلك.
قلت: إنني بينت حكم الإسلام وأنه لا يجيز لنا أن نقاتل في هذه الحرب غير
العسكر الإيطالي وسأزيد ذلك بيانًا في مقالة خاصة (وكان هذا قبل كتابة مقالة
الجهاد في الإسلام في الشهر الماضي) ومهما قال المسلم منا فهو لا يمكن أن
يرضي بعض المتعصبين منهم، الذين يحسبون كل صيحة عليهم، أو يدَّعون ذلك
لتحريض أوروبة علينا كصاحب جريدة (الأخبار) ، ولو شئت لنقلت من كلام
نصارى الشرق والغرب ما صرحوا به من كون المسألة الشرقية مسألة دينية كقول
أمين شميل (شقيق صديقنا الدكتور شميل) في كتابه الوافي: إن هذه المسألة ولدت
بولادة نبي الإسلام، وترعرعت من ابتداء ترعرع ملك خلفائه إلى الآن. وعندي
نُقول كثيرة عن الأوروبيين في ذلك لا أحب الآن أن أنشرها، ونسأل الله أن يكفينا
شرها.
لا يسع أحدًا أن ينكر أن المراد من هذه المسألة أن لا يبقى للمسلمين ملك على
وجه الأرض، فإذا فرضنا أن هذا لا يضر الإسلام في عباداته، فهل يقول عاقل
مسلم أو غير مسلم: إنه لا يبطل سلطته وأحكامه القضائية والسياسية؟ كلا إن هذا
هو الذي نعنيه بكون المسألة الشرقية عداوة للإسلام وأهله، فحسب أوربة ما
سلبت من ملكه، ونقصت من أرضه، ولتترك لنا هذه البقية القليلة، فإن أبت إلا
الاعتداء عليها، وجب أن نبين لها أننا عارفون مستيقظون، وأن لا تلومنا هي على
ما نفعل للمحافظة على هذا الذماء، فهل يصح أن نلوم نحن أنفسنا، ونتخاذل في
المحافظة على رمقنا؟
ولا يمنعنا السعي لذلك أن نستصرخ سائر الشعوب الشرقية ونتعاون معها سرًّا
أو جهرًا على هذا الدفاع الشريف، فكلما اعتُدي على قطر إسلامي تحرك شعور
المسلمين باسم الإسلام، وتحرك شعور غيرهم من الشرقيين باسم الشرق، ونحب
أن تكفينا أوروبة مؤنة ذلك بمنع بعضها بعضاً عن الإجهاز على الدولة العثمانية
والدولة الإيرانية، وإطلاق حرية الدين والعلم والاجتماع في البلاد الإسلامية التي
أدخلتها في حمايتها كمراكش وتونس وزنجبار وفي البلاد التي ضمتها إلى
مستعمراتها كالجزائر وجاوه.
إننا الآن بين الخوف من أوروبة والرجاء فيها، والرجاء في إنكلترة أقوى كما
بينت ذلك في المقالات السابقة، ومن أسباب قوة الرجاء فيها ما ظهر من التواد بين
المسلمين والوثنيين في الهند منذ ظهر عدوان إيطالية بعد اشتداد العداوة بينهم في
السنين الأخيرة لمخالفة المسلمين الهندوس فيما يقاومون به الحكومة الإنكليزية وإنني
أورد في هذا المقام جملة من كتاب خاص كتبه إليّ سائح من حيدرآباد الدكن بعد ما
ساح في كثير من تلك الممالك. قال: (أفيدكم أن الهند كلها بقضها وقضيضها،
مسلميها على اختلاف نحلهم، وكفارها على تشعب مللهم، لا أستثني غير
الأوروبيين وميتي الشعور من همج الهمج وأشباههم، قد تغيظوا وتحمسوا أشد
الغيظ والتحمس لما صار من إيطالية في الترك، وقد عقدت المؤتمرات العديدة
وأرسلت الاحتجاجات ولا حديث للقوم إلا في هذه المسألة، وهم لا يفهمون منها إلا
أنها عداء من أوروبة لآسيا، وظلم من القوي للضعيف، ودرس في التعصب
يجب على الشرقي حفظه في سويداء قلبه لا خلاف في ذلك بين مسلم وبين برهمي أو
مجوسي أو وثني، حتى لقد أنسى القوم ما بينهم من الإحن والحزازات.
وتتجلى هذه المظاهر بأتم وضوح في البلاد التي تحكمها الإنكليز مباشرةً،
وهي أقل ظهورًا فيما تحكمه مهراجات الهندوس، وهي أقل في الممالك المحكومة
بأمراء (نواب) مسلمين، ولعل السبب في هذا هو خوف هؤلاء من غول التعصب
الذي يقذفهم به الأجانب عند كل صغيرة وكبيرة.
ولو كان المنار صحيفة إخبارية لأطلت النفس وشرحت له الأخبار. ثم إن ما
صار وظهر في جميع أقطار الهند من هذه الحركة المباركة لما أفزع رجال الإنكليز
وحسبوا له ألف حساب، وإذا لم ترضهم الإنكليز بأفعالها -؛ لأن دور الإرضاء
بالأقوال قد ذهب - لتندمن حيث لا ينفع الندم، وستكون بعملها إذ ذاك جامعة لكفار
الهند ومسلميها، وفي ذلك من الضرر عليها ما تعرفه هي أكثر من غيرها ولا
يرضاه لها محبوها ومحبو الإنسانية، سيما مع قرب موعد الدربار (الاحتفال
بإلباس الملك تاج إمبراطورية الهند، وفي العبارة ما يدل على ميل الكاتب على
إنكلترة) .
نعم إن رجال ساستها يزعمون أن اتفاق المسلمين مع الهندوس مضر
بالمسلمين؛ لأنهم الآن نحو مائة مليون نفس فقط (أي بحسب إحصاء هذا العام
الذي لما يعلن رسميًّا) مع أن الهندوس أكثر من ضِعفيهم، ولكن هل درى سادتنا
الساسة أن المسلمين قد حكموا الهندوس في وقت لم يكونوا فيه إلا نحو خمسة في
المائة؟ ثم زاد الآن عدد المسلمين مع مغلوبيتهم كما تضاعف عددهم بالصين كذلك،
فلهذا لا يعلّق المسلمون كبير أهمية على نحو هذا، وإنهم لكما كانوا شجاعة وشدة،
وأكثر مما كانوا علمًا وحبًّا للإسلام واستماتة في نصره (وما راءٍ كمن سمع) .
إن أهل الهند لم يروا من آثار الترك سوى الطرابيش المجلوبة من النمسا ولو
كان للترك في الهند مدارس عالية كما لأكثر الدول في سائر القارات لكان نفوذ
الدولة هناك مما ترجف له أعصاب أعدائها، وإني أنصح للدولة بأن لا تبقي جهدًا
في فتح مدارس دينية علمية في جميع الأقطار التي خضعت لنير الأجنبي وبها
مسلمون وإن ضعفت ماليتها وكلفها هذا الاقتراح ما كلفها، فلابد دون الشهد من إبر
النحل) اهـ.
هذا ما كتبه إلينا السائح الذكي الذي نعلم من سياسته الميل إلى اتفاق مسلمي
الهند مع حكومتهم دون الاتفاق مع أهل وطنهم عليها، ولكنه مسلم قبل كل شيء
ولو كره المتفرنجون المفتونون بالجنسية، أما اقتراحه على الدولة فما هو بالذي
يسمع ولا الدولة بقادرة عليه لا لقلة المال، بل لعدم الرجال، وأقرب منه أن تنشئ
الدولة هذه المدارس العالية في الحرمين الشريفين أو تسمح للقادرين على إنشائها من
المسلمين بذلك من أموالهم، ويكون لها الغنم، وعليهم الجهد والغرم.
(النتيجة العامة) إن مقالاتنا في المسألة الشرقية لم نقصد بها إلا ما ذكرنا
من دفع الخطر عن دولتنا وأمتنا، وقد دعونا فيها غير المسلمين من أهل مملكتنا
لمشاركتنا في هذا الدفاع عن الدولة من حيث الجامعة العثمانية، كما دعونا فيها
المسلمين إلى مشاركتنا من حيث الجامعة الإسلامية، والشرقيين إلى مساعدتنا من
حيث الجامعة الشرقية، وإن غير المسلمين من العثمانيين لم يكونوا أشد غيرة وحدبًا
علينا من وثنيي الهند، ومع هذا كله لا ندعو إلا إلى تقوية الرابطة بهم، وحفظ
الحقوق الوطنية بيننا وبينهم، ونحن مع من يساعدنا من الأوربيين، ولا ينكر علينا
أحد أننا نشكر للمحسن إحسانه، ونعرف لصاحب الجميل جميله ولا ننكره، بدليل
توددنا إلى إنكلترة مع جفوتها لنا زمنًا طويلاً، ونجعل ذنب هذه الجفوة على سلطاننا
السابق بتودده إلى خصيمتها ألمانيا. فهذه هي سياستنا فمن أنكر علينا منها شيئًا
فليبده لنجيب عنه بالإنصاف وقواعد العقل، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح
العقل على الهوى.
... ... ... ... ... ... ... 20 ذي الحجة سنة 1329
(المنار)
بعد أن نشرنا هذه المقالة في المؤيد تذكرنا أن جريدة معروفة بالتعصب على
المسلمين حتى لإيطالية في عدوانها وبغيها قد أنكرت علينا كلمتين من تلك المقالات،
ولما كنا نتحرى الأدب والحق في كلامنا وأن لا يوجد فيه ما ينكره الخصم وإن
نظر إليه بعين السخط كتبنا الاستدراك الآتى:
استدراك في الانتقاد على مقالات المسألة الشرقية
إنني أتحامى بطبعي وسجيتي كل ما تأباه مصلحة الارتباط بيننا وبين أهل
الملل التي تشاركنا في وطننا، وكل ما لا يرضاه الذوق والأدب في التعبير عن
الحقائق التي أعتقدها، وإن من القوم من ينظر في كلام كل كاتب مسلم بعين السخط
من وراء نظارة مكبرة، ولم يصل إليَّ من الانتقاد على هذه المقالات الطويلة إلا
إنكار بعض هؤلاء الذين يجعلون الحبة قبة , عبارتين اثنتين أذكرهما وأجيب عنهما.
إحداهما: نقلي لقول الفقهاء الذي أتوقع أن يبلغه شيوخ السنوسية للناس
حيث الحرب تشتعل نيرانها، وهو أن الكفار إذا دخلوا دار الإسلام فاتحين وجب
على كل مسلم فيها مدافعتهم.
قال الساخط: إنني عبرت عن الإيطاليين بالكفار وهم أهل كتاب وعدّ هذا
إهانة لجميع المشاركين لهم في دينهم.
وإنني أجيب عن هذا: بأنني نشرت في الأعداد الأولى من السنة الأولى
للمنار نبذًا متسلسلة في بيان اصطلاحات كتاب العصر بينت في الأولى منها وهي
في العدد الأول أن لفظ الكفر قد أطلق في الشرع على ما يقابل الإيمان والإسلام ولم
يرد بهذا الإطلاق الإهانة ولا السب والشتم؛ لأن اللفظ لا يدل في اللغة على شيء
قبيح ولا معيب فإن معناه العام هو الستر والتغطية، ولذلك سمي الليل كافرًا والبحر
كافرًا، وأطلق في القرآن الكريم لفظ الكفار على الزراع؛ لأنهم يكفرون الحَبّ
بالتراب أي يسترونه، وذلك قوله تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) ثم بينت بعد ذلك أن هذا اللفظ صار في عرف أهل هذا العصر
مرادفًا للإلحاد والتعطيل وصار يعد من ألفاظ السب والإهانة، وأفتيت بحرمة
إطلاقه في التخاطب على من حرم الإسلام إيذاءهم كالذميين والمعاهدين، ونقلت
مثل هذا الإفتاء عن بعض الفقهاء. ولكن هذا لا يمنعنا من ذكر الاصطلاحات
الشرعية في كتبها وعند البحث فيها كما هي، ومن هذا الباب العبارة الفقهية التي
انتقدها الساخط هنا، على أن الحربيين كالإيطاليين لا يجب علينا مجاملتهم في
الخطاب والتعبير عنهم ولا تجنب إيذائهم كما يجب مثل هذا في خطاب الذميين
والمعاهدين.
يشبه هذا الانتقاد إن كان عن جهل بالاصطلاح ما رأيته في بعض جرائد
السوريين في أمريكة من إنكار ذكر الجرائد التركية لفظ الملة والأمور الملية ظنًا من
المنتقد أنهم يعنون بالملة الدين وإنما يعنون به الأمة، وما رأيته في بعضها من
استنكار عزل شيخ الإسلام لبعض النواب ظنًا من الكاتب أن المراد بهم المبعوثون.
والعبارة الثانية هي ذكر البغايا مع الخمارين والمقامرين والتجار والقسوس
ووكلاء الدول في سياق ما أصابنا من ضرر هذه الأصناف في أموالنا وآدابنا
وسياستنا وديننا.
وإنني ترويت في كتابة تلك العبارة خشية أن يكون فيها سوء أدب، وبعد
التروي رأيت مثل هذا في أبلغ الكلام وأنزهه، رأيت ذكر اسم الجلالة الكريم، في
الآيات التي فيها ذكر الشيطان اللعين، وذكر الطيبين والطيبات، مع الخبيثين
والخبيثات، معطوفًا بعضهم على بعض، وقال الشاعر:
ثلاثة تشقى بها الدار ... العرس والمأتم والزار
فذكر أولئك الأصناف من قبيل الأشياء المذكورة في البيت، أي أن كل صنف
منها آذانا نوعًا من الإيذاء وإن كان لكل منها مقام في نفسه ليس للآخر، كما أن
العرس ضد المأتم، وإنما ذُكرا معًا؛ لأن في كل منهما ضررًا ماليًّا لما اعتيد فيهما
من الإسراف، وفي الزار أيضًا ضرر مالي وهو مع ذلك معيب مذموم عند أهل
الدين والعقل. فهل يقول أحد: إن الشاعر جعل هذه الثلاثة في مرتبة واحدة من كل
وجه؟ ؟
كلا، إن الذي انتقد تلك العبارة وعابها هو معروف بسوء القصد وتتبع
العثرات واستقراء الزلات في أقوال المسلمين المشهورين وأفعالهم، وهو معهم من
الذين قال فيهم الشاعر:
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا
فهو لما لم يجد في مقالات المسألة الشرقية كلمة يستدل بها على ما يرمي به
كل كاتب مسلم يغار على ملته من التعصب وتحقير النصارى والإغراء بهم زعم
أنني أهنتهم بإهانة إيطالية لأنني قلت: إن السنوسية سيقولون للناس: إن دفاع
الكفار وصدهم عن المسلمين إذا دخلوا بلادهم مقاتلين فرض عين، ولأنني ذكرت
وكلاء الدول والقسوس في سياق ذكرت فيه أصحاب الحانات والقمار! ! ولو لم
ينخدع بكلامه بعض القوم ويشر إليه بعض دعاة النصرانية في مقالة له رماني فيها
بالخروج عن الأدب معهم في بعض العبارات، لما كتبت هذه الكلمات في بيان أن
تلك العبارة ليس فيها شيء من سوء الأدب؛ لأن مثلها معهود في أفصح الكلام العربي
وأنزهه. وهب أن فيها شيئًا من ذلك فأنا بريء من القصد إليه وتعمده
لأنني أكرم نفسي وأربأ بها أن تأتي ذلك.
_______________________
(1) المنار: لم يشترك القبط في المنار ولم يساعد أحد منهم صاحبه في شيء ولم يسمع من أحد منهم كلمة خير فيه إلا شتم جرائدهم له وهو لم يذكر أحدًا منهم بسوء، فكيف لا يخجل قائلهم من مثل ما قال وهو ما لا يقوله صادق من المسلمين؟ .
(2) بعد كتابة هذه المقالة شددت الحكومة المصرية بإيعاز الإنكليز في المحافظة على حدود مصر من الشرق والغرب؛ لئلا يتسرب شيء إلى بنغازي مما يسمونه مهربات الحرب، حتى ضايقت التجار والمسافرين، ثم إنها عادت إلى اللين.
(3) لما يتحقق ذلك ولن يتحقق ما دامت جمعية الاتحاد تتصرف بالدولة.(15/48)
الكاتب: شبلي النعماني
__________
نقد تاريخ التمدن الإسلامي
الشيخ شبلي النعمانى
(1)
تمهيد للمنار
تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي أفندي زيدان صاحب الهلال مشهور، وقد
سبق لنا تقريظه في المنار ونقد بعض مباحثه، وذكرنا أننا كنا نود لو نجد سعة من
الوقت لمطالعته كله ونقده نقدًا تفصيليًّا. ولما عرضه مؤلفه على نظارة المعارف
المصرية وطلب منها أن تقرره للتدريس في مدارسها عهدت النظارة إلى بعض
أساتذتها بمطالعته وإبداء رأيهم فيه، فلما طالعوه بينوا للنظارة أن فيه غلطًا كثيرًا
وأنه غير جدير بأن يعتمد عليه في التدريس ولا المطالعة، فلأجل هذا لم تقرره
النظارة. وكنت انتقدت الأساتذة الذين طالعوا الكتاب وانتقدوه أنهم لما يكتبوا ما
رأوه فيه من الغلط وبينوه للناس وللمصنف أيضًا لعله يرجع إلى الصواب إذا ظهر
له، فإنه يدعو الكتاب دائمًا على نقد كتبه.
نعم إن بعض من قرأه قد انتقده بمقالات نشرت في جريدة المؤيد وأجاب
المصنف عن بعض ما انتقد عليه واعترف ببعض، وقد ذكرت هذا في المنار.
ويرى بعض الناقدين لهذا التاريخ قولاً وكتابة أن مؤلفه يتعمد التحامل على العرب
وعلى الإسلام نفسه، وكنت إذا سمعت ذلك منهم أعارضهم وأرجح أنه غير متعمد،
وأن السبب في أكثر ما أخطأ به هو عدم فهم بعض المسائل كتفسيره لمسألة القول
بخلق ألفاظ القرآن بأن القرآن غير منزل من عند الله وكخطئه فيما ذكره عن ثروة
المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك مما انتقدناه عليه في المنار،
وإما جعل بعض الوقائع الجزئية قواعد كلية عامة، وهذا معهود في جميع مؤلفاته،
ولكن ظهر لنا مما كتبه بعد ذلك ومن بعض حديثه معنا ومع غيرنا من أصحابه أنه
يكاد يكون من الشعوبية الذين يتحاملون على العرب ويفضلون العجم عليهم وكان
هذا سبب ترجمة هذا الكتاب بالتركية.
وقد انبرى في هذه الأيام الشيخ شبلي النعماني العلامة المصلح الشهير مؤسس
جمعية ندوة العلماء في الهند ومحرر مجلتها إلى الرد على هذا التاريخ، وكتب إلينا
أنه يريد أن يرسل إلينا ما يكتبه ويطبعه من هذا الرد بالتدريج لننشره في المنار،
كلما طبع منه شيئًا في (لكنؤ) أرسله إلى أن يتم، ولما كان الانتقاد من مثل هذا
العالم المؤرخ هو ضالتنا وضالة صديقنا وصديقه المؤلف، بادرنا إلى نشره
معتذرين عما في أوله من شدة الحكم، وودنا لو لم يصرح به وإن أثبته، ولولا أنه
طبعه لحذفناه منه. قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه
أجمعين إن الدهر دار العجائب. ومن إحدى عجائبه أن رجلاً من رجال العصر [1]
يؤلف في تاريخ تمدن الإسلام كتابًا يرتكب فيه تحريف الكلم وتمويه الباطل، وقلب
الحكاية، والخيانة في النقل، وتعمد الكذب ما يفوق الحد، ويتجاوز النهاية، وينشر
هذا الكتاب في مصر وهي غرة البلاد، وقبة الإسلام، ومغرس العلوم، ثم يزداد
انتشارًا في العرب والعجم، ومع هذا كله لا يتفطن أحد لدسائسه [2] {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ} (ص: 5) .
لم يكن المرء ليجترئ على مثل هذه الفظيعة في مبتدأ الأمر ولكن تدرج إلى
ذلك شيئًا فشيئًا، فإنه أصدر الجزء الثاني من الكتاب وذكر فيه مثالب العرب دسيسة
يتطلع بها على إحساس الأمة وعواطفها، ولما لم يتنبه لذلك أحد، ولم ينبض لأحد
عرق، ووجد الجو صافيًا، أرخى العنان، وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية،
في العرب عمومًا وخلفاء بني أمية خصوصًا.
وكان يمنعني عن النهوض إلى كشف دسائسه اشتغالي بأمر ندوة العلماء ,
ولكن لما عم البلاء، واتسع الخرق، وتفاقم الشر، لم أطق الصبر، فاختلست من
أوقاتي أيامًا وتصديت للكشف عن عوار هذا التأليف والإبانة عما فيه من أنواع
الإفك والزور وأصناف التحريف والتدليس.
معذرة إلى المؤلف
إني أيها الفاضل المؤلف غير جاحد لمننك فإنك قد نوهت باسمي في تأليفك
هذا وجعلتني موضع الثقة منك، واستشهدت بأقوالي ونصوصي، ووصفتني بكوني
من أشهر علماء الهند، مع أنى أقلهم بضاعة، وأقصرهم باعًا، وأخملهم ذكرًا،
ولكن مع كل ذلك هل كنت أرضى أن تمدحني وتهجو العرب غرضًا لسهامك ودريّة
لرمحك، ترميهم بكل معيبة وشين، وتعزو إليهم كل دنية وشر، حتى تقطعهم إربًا
إربًا، وتمزقهم كل ممزق، وهل كنت أرضى بأن تجعل بني أمية لكونهم عربًا
بحتًا من أشر خلق الله وأسوئهم، يفتكون بالناس، ويسومونهم سوء العذاب،
ويهلكون الحرث والنسل، ويقتلون الذرية وينهبون الأموال، وينتهكون الحرمات،
ويهدمون الكعبة ويستخفون بالقرآن.
وهل كنت أرضى بأن تنسب حريق خزانة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب،
الذي قامت [1] بعدله الأرض والسماء، وهل كنت أرضى بأن تمدح بني العباس
فتعد من مفاخرهم أنهم نزلوا العرب منزلة الكلب، حتى ضرب بذلك المثل، وأن
المنصور بنى القبة الخضراء إرغامًا للكعبة، وقطع الميرة عن الحرمين استهانة
بهما، وأن المأمون كان ينكر نزول القرآن، وأن المعتصم بالله أنشأ كعبة في
(سامرَّا) وجعل حولها مطافًا واتخذ منى وعرفات.
وهب أني عدمت الغيرة على الملة والدين، وافتخرت كصنيع بعض الأجانب
بأني فلسفي بحت عادم لكل عاطفة ووجدان، فلا أرضى ولا أغضب ولا أسر ولا
أغاظ ولا أفرح ولا أتألم، وهب أني حملت نفسي على احتمال الضيم، وقبول
المكروه، والصم عن البذاء، ومجازاة السيئة بالحسنة، ومكافأة الخبيث بالطيب،
فهل كنت أرضى بأن تشوه وجه التاريخ، وتدمغ الحق، وتروج الكذب، وتفسد
الرواية، وتقلب الحقيقة، وتنفق التهم، وتعود الناس بالخرافة، بئس ما زعمت
أيها الفاضل، فإن في الناس بقايا وإن الحق لا يعدم أنصارًا.
إن الغاية التي توخاها المؤلف ليس إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها
ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة غير مجرى القول، ولبس الباطل بالحق. بيان
ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية،
ودور بني العباس، فمدح الدور الأول وكذلك الثالث (ظاهرًا لا باطنًا كما سيجيء)
ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين، وبمدحه
لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبهم فخارنا في بث التمدن
وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع
عنهم، تفرغ لهم، وحمل عليهم حملة شنعاء، فما ترك سيئة إلا وعزاها إليهم، وما
خلى حسنة إلا وابتزها منهم، ثم لو كان هذا لأجل أنهم من آل مروان أو لكونهم من
سلالة أمية لكنا في غنى عن الذب عنهم، والحماية لهم، ولكن كل ذنبهم أنهم
العرب على صرافتهم ما شابتهم العجمة مطلقًا كما قال: (وتمتاز- أي دولة بني
أمية - عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة) - الجزء الثاني من تمدن الإسلام -
(وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية أساسها طلب السلطة والتغلب) -
الجزء الرابع صفحة 103 -.
عصبية العرب على العجم
أطال المؤلف وأطنب في إثبات هذه الدعوى فذكر طرفًا منه في الجزء الثاني
مدسوسًا - انظر صفحة 18 - ثم جعل له عنوانًا خاصًا في الجزء الرابع (58)
وهذه نصوصه:
فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، وإذا صلوا خلفهم في المسجد
حسبوا ذلك تواضعًا لله.
وكانوا يحرمون الموالي من الكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا
يمشون في الصف معهم.
وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى.
فكان العربي يعد نفسه سيدًا على غير العربي ويرى أنه خلق للسيادة وذاك
للخدمة.
فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم حتى في أبدانهم وأمزجتهم
فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، وأن الفالج لا يصيب
أبدانهم.
ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا لا يصلح
للقضاء إلا عربي وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيًّا.
ولا يزوجون الأعجمي عربية ولو كان أميرًا وكانت هي من أحقر القبائل
وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء وتكاثروا فأدرك
معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم.
اعلم أن للمؤلف في إنفاق باطله أطوارًا شتى:
فمنها تعمُّد الكذب كما سترى، ومنها تعميمه لواقعة جزئية، ومنها الخيانة في
النقل وتحريف الكلم عن مواضعه.
ومنها الاستشهاد بمصادر غير موثوقة مثل كتب المحاضرات والفكاهات.
وهاك أمثلة من كل نوع منها قال: (إذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك
تواضعًا لله وكانوا يحرمون الموالي من الكنى إلخ , وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة
إلا ثلاثة إلخ) .
غير خافٍ على من له إلمام بتاريخ الفرس والعرب أن الفرس كانت قبل
الإسلام تحتقر العرب وتزدريهم ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه
إلى كسرى العجم اشمأز وقال عبدي يكتب إليَّ! ! وكتب يزدجرد إلى سعد بن أبي
وقاص فاتح القادسية أن العرب مع شرب ألبان الإبل وأكل الضب بلغ بهم الحال
إلى أن أفنوا دولة العجم فأفٍّ لك أيها الدهر الدائر , وكانت ملوك الحيرة تحت إمرة
ملوك العجم.
ثم لما شرف الله العرب بالإسلام انتصفت العرب من العجم واستنكفوا من
سيادتهم عليهم، وجاءت الشريعة الإسلامية ماحية لكل فخر ونخوة فقال رسول الله
في خطبته الأخيرة في حجة الوداع، أن لا فضل للعربي على العجمي ولا للعجمي
على العربي كلكم أبناء آدم) .
وحينئذ ارتفع التمايز وتساوى الناس ولكن مع ذلك بقيت في بعض الناس من
كلا الطرفين حزازات كامنة في صدورهم كانت سببًا لحدوث حزبين متقابلين يسمى
أحدهما الشعوبة وهي التي تحتقر العرب وترميه بكل معيبة حتى إن أبا عبيدة
صنف كتبًا عديدة يطعن فيها على أنساب كل قبيلة من قبائل العرب، والثاني
المتعصبون للعرب. وقد عقد العلامة ابن عبد ربه في كتابه العِقْد الفريد بابًا في
حجج كِلا الطرفين وأقوالهما. ومعظم ما نقله المؤلف في إثبات عصبية العرب هي
أقوال ذكرها صاحب العقد في هذا الباب، كما لوَّح به المؤلف في هامش الكتاب.
وإذا تصفحت الكتب يظهر لك أن الأقوال التي نسبها إلى العرب عمومًا إنما
هي أقوال شرذمة خاصة موسومة بأصحاب العصبية، وصاحب العقد حيثما ذكر
هذه الأقوال صدرها بقوله (قال أصحاب العصبية من العرب) وأنت تعلم أن هذه
العصبة ليست كافة العرب ولا أكثرها، بل ولا عشر معشارها، فإنك سترى أن
هؤلاء أناس شرذمة مغمورون في الناس. ثم إن المؤلف ما اقتنع بذلك بل ربما
نسب قول رجل معين معلوم الاسم إلى العرب عامة.
فقال ناقلاً عن كتاب العقد: (وكانوا يكرهون أن يصلُّوا خلف الموالي وإذا
صلوا خلفهم قالوا: إنا نفعل ذلك تواضعًا لله) قال صاحب العقد: نسب هذا القول
إلى نافع بن جبير فأخذه المؤلف وجعله قولاً عامًّا للعرب، وهذه الصنيعة أعني
تعميم الواقعة الجزئية هي أكبر الحيل التي يرتكبها المؤلف لترويج باطله بل هي
قطب رحى تأليفه.
قال المؤلف: (فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن
يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم) - الجزء الرابع صفحة 59 - إن نص معاوية الذي
نقله المؤلف بعد هذه العبارة هو هذا (كأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب
والسلطان فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا) فأنت ترى أن الرواية على تقدير
صحتها ليس فيها إلا أن معاوية رأى أن يقتل شطرًا منهم. ولكن المؤلف زاد على
العبارة وقال: إن معاوية همَّ أن يأمر بقتلهم كلهم.
قال المؤلف: فكانوا يعتقدون أن الفالج لا يصيب أبدانهم، - الجزء الرابع
صفحة 6 - استشهد في هذه الدعوى بطبقات الأطباء كما لوح في هامش الكتاب.
وايم الله لو كنت تقف على عبارة الطبقات لوقعت في أشد حيرة من اجتراء المؤلف
على قلب الحكاية، وتغيير الرواية، ذكر صاحب الطبقات تحت ترجمة عيسى
الطبيب (الراجح أنه نصراني) أن المهدي ضربه فالج فحضر المتطببون ومنهم
عيسى صاحب الترجمة فقال (المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله
بن عباس يضربه فالج، لا والله لا يضرب أحدًا من هؤلاء ولا نسلهم فالج أبدًا إلا
أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن) .
قد نقل صاحب الطبقات بعد الحكاية المذكورة عن يوسف الطبيب أن إبراهيم
بن المهدي لما اعتل بعلة شبيهة بالفالج دعا يوسف وقال له: ما العلة عندك في
عروض هذه العلة لي؟ (قال يوسف) : فعلمت أنه كان حفظ عن أمه قول عيسى
أبي قريش في المهدي وولده أنه لا يعرض لعقبه الفالج إلا أن يبذروا بذورهم في
الروميات وأنه قد أمل أن يكون الذي به فالجًا لا عارض الموت. فقلت: لا أعرف
لإنكارك هذه العلة معنى إذ كانت أمك التي قامت عنك دنباوندية و (دنباوند) أشد
بردًا من كل أرض الروم، فكأنه تفرج إلى قولي وصدقني وأظهر السرور.
فأنت ترى أن الظن ببراءتهم من الفالج إنما كان مبناه حَرّ أرض العرب وليس
له أدنى مساس بشرف النسل. ولو كان كما يتبادر إلى الذهن من عد أسماء آباء
المهدي فهو يختص بعائلة النبي عليه السلام لا يفهم منه العموم مطلقًا، ولذلك لما
ذكر لإبراهيم (وهو ابن الخليفة المهدي) أن أمه من (دنباوند) وهو أشد بردًا من
كل أرض الروم، ذهب عنه استغرابه عروض الفالج له.
فانظر كيف كان مجرى الحكاية فغيرها المؤلف وارتكب لذلك خيانات تترى،
ثم إن هذا قول عيسى الطبيب ولا يدرى أنه عربي أم لا وغالب الظن أنه نصراني
وهب أنه عربي فهو رجل من حاشية الدولة يريد التزلف إلى الخليفة والتملق له
فهل يكون قوله قول العرب كافة؟ .
قال المؤلف: ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا:
لا يصلح للقضاء إلا عربي - الجزء الرابع صفحة 60 - وأسند هذه الرواية إلى
ابن خلكان.
حقيقة هذا القول أن الحجاج لما أسر سعيد بن جبير التابعي المشهور وكان من
الموالي قال له ممتنًّا عليه: أما جعلتك إمامًا للصلاة في الكوفة ولم يكن في الكوفة إلا
العرب، قال ابن جبير: نعم، ثم قال له الحجاج: أليس أني لما أردت أن أوليك
قضاء الكوفة ضجَّ العرب وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي؟ وقد ذكر الرواية
ابن خلكان بطولها ولا يخفى عليك أن كوفة لم يكن إذ ذاك فيها إلا العرب وظاهر أن
القضاء لا يصلح له إلا من كان عارفًا بعوائد الأمة مطلعًا على خصائصهم وكيفية
تعاملهم فيما بينهم، وسعيد بن جبير لم يكن من العرب، ولو كان استنكاف أهل
كوفة من قضائه لأجل كونه من الموالي لاستنكفوا من إمامته للصلاة فإن الإمامة
أعظم شرفًا وأرفع محلاً من القضاء. وهذا أبو حنيفة كان من الموالي وأرادوا أن
يولوه القضاء في عصر بني أمية فامتنع ولم يرض بذلك وقد ذكر الواقعة ابن خِلِّكان
مفصلاً.
قال المؤلف (وحرموا منصب الخلافة على ابن الأَمَة ولو كان قرشيًّا) نعم
ولكن لم يكن هذا للاستهانة به.
قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد فكان الناس يرون
أن ذلك للاستهانة بهم ولم يكن لذلك ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد أم
ولد [1] .
أما ما استدل به المؤلف من قول هشام بن عبد الملك لزيد بن علي: إنك ابن أمة
ولذلك لا تصلح للخلافة، فقد رده عليه زيد وقال: إن إسماعيل كان ولد الجارية
وكان سيد البشر محمد من سلالته , ومن المعلوم أن زيدًا وهو ابن الإمام زين
العابدين أرفع شأنًا وأعظم محلاًّ وأطيب أرومة وأصدق قولاً من هشام. ثم لو كان
هذا الأمر حقًّا ما كانوا يولُّون الخلافة يزيد بن الوليد الأموي ومروان الحمار وهما
ابنا أمة.
ولما فرغنا من إبداء شطر من خيانات المؤلف ليكون كالعنوان على دأبه في
تأليفاته حان لنا أن نحقق أصل المسألة أي أن العجم والموالي هل كانوا أذلاء
ساقطين مرذولين يعاملون معاملة العبيد في عصر بني أمية كما يدعيه المؤلف أو
كانوا بمحل من الشرف والعزة يعترف لهم العرب بالفضل والسؤدد، ويوفَّى لهم
أوفى قسط وأكمل حق.
اعلم أن البلاد التي كانت عواصم الأقاليم وقواعدها في عصر بني أمية هي
مكة والمدينة والبصرة والكوفة واليمن ومصر والشام والجزيرة وخراسان
وكان لكل هذا الأصقاع إمام يقودهم ويسود عليهم وهذه أسماؤهم.
مكة المشرفة عطاء بن أبي رباح هو أستاذ الإمام أبي حنيفة
اليمن ... ... طاوس
الشام ... ... مكحول
مصر ... ... يزيد بن أبي حبيب
الجزيرة ... ميمون بن مهران
خراسان ... ضحاك بن مزاحم
البصرة ... الإمام الحسن البصري
الكوفة ... إبراهيم النخعي
وكل هؤلاء غير إبراهيم النخعي كانوا من الموالي وبعضهم أبناء الإماء ومع
كونهم أعجامًا وكونهم أولاد الإماء كانوا سادة الناس وقادتهم تذعن لهم العرب
وتحترمهم خلفاء بني أمية وولاة الأمر.
فأما (عطاء بن أبي رباح) فمع كونه ابن سندية كان شيخ الحرم وإليه
المرجع في الفتوى وعليه المعول في المسائل، قال ابن خلكان في ترجمته: قال
إبراهيم بن عمرو: ابن كيسان أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج صائحًا
يصيح (لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح) وهل يمكن أن ينادى بمثل ذلك من
غير رضى الخلفاء [1] .
وأما (طاوس) فلما قضى نحبه بمكة ازدحم الناس في جنازته حتى تعذرت
الصلاة عليه وكان إبراهيم بن هشام إذ ذاك واليًا على مكة فاستعان بالشُّرَطة ومشى
في جنازته عبد الله ابن الإمام حسن عليه السلام واضعًا نعشه على عاتقه وصلى
عليه الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي، ذكر كل هذا العلامة ابن خلكان في
ترجمة طاوس فهل يكون منزلة أعظم من ذلك؟
وأما (مكحول الشامي) فأحد الأئمة المتبوعين وقال الزهري: العلماء أربعة
فلان وفلان ومكحول.
وأما (يزيد بن أبي حبيب) فهو الذي أرسله عمر بن عبد العزيز ليفقه الناس
في مصر ويفتيهم في المسائل وهو المعلم الأول لهم كما صرح بذلك السيوطي في
حسن المحاضرة.
وأما (ميمون بن مهران) فمع فضيلته وسيادته كان أميرًا على الخراج في
الجزيرة كما صرح به ابن قتيبة في المعارف.
أما (حسن البصري) فحدث عن البحر ولا حرج، يذعن له الملوك والسادة
والقواد وعليه المعول وإليه المنتهى [1] .
ذكر السخاوي في شرح ألفية الحديث للعراقي (طبع لكهنو صفحة 498
و499 أن هشامًا قال للزهري: من يسود أهل مكة؟ . قال: عطاء، قال: بم
سادهم؟ قال: بالديانة والرواية، قال هشام: نعم من كان ذا ديانة حقت الرياسة له
ثم سأل عن يمن قال طاؤس، وكذلك سأل عن مصر والجزيرة وخراسان
والبصرة والكوفة فأخذ الزهري يعد أسماء سادات هذه البلاد وكلما سمى رجلاً كان
هشام يسأل هل هو عربي أم مولى؟ وكان يقول الزهري: مولى، إلى أن أتى
على النخعي وقال: إنه عربي. فقال هشام (الآن فرَّجت عني والله ليسودن
الموالي العرب ويخطب لهم على المنابر والعرب تحتهم) .
إن التابعين لهم أعلى محل في تاريخ الإسلام - ورأسهم سعيد بن جبير وهو
أسود وقد ولاه حجاج بن يوسف إمامة الصلاة في الكوفة كما ذكره ابن خلكان في
ترجمته والكوفة إذ ذاك جمجمة العرب وقبة الإسلام، وهل يصح بعد ذلك دعوى
المؤلف أن العرب كانت تستنكف من الصلاة خلف الموالي.
وهذا سليمان الأعمش أستاذ الثوري كان عبدًا عجميًّا وكان بمنزلة من العز
والشرف أنه لما كتب إليه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب له مناقب عثمان
ومساوئ علي أخذ كتاب هشام وألقمه عنزًا كان عنده وقال للرسول قل لهشام هذا
جواب كتابك.
... ... ... ... ... ... ... (ابن خلكان ترجمة الأعمش)
وهذا حماد الراوية الذي دوَّن المعلقات وله المكانة الكبرى في الأدب والشعر
كان عبدًا أسود وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره كما ذكره ابن
خلكان.
وهذا سالم بن عبد الله بن عمر كان ابن أمة ولما دخل الخليفة هشام بن عبد
الملك المدينة أرسل إليه يدعوه فاعتذر فدخل عليه هشام ووصله بعشرة آلاف ثم لما
حج ورجع كان سالم إذ ذاك مريضًا فذهب لعيادته ولما توفي صلى عليه وقال: لا
أدري بأي الأمرين أنا أسر: بحجتي أم بصلاتي على سالم؟ ولو أخذنا في تعداد
أمثال هذه الوقائع لطال الكلام ومل الناظرون.
ويظهر مما مر عليه أن الموالي كانوا في أيام بني أمية بأعلى محل من
الشرف والمكانة وكانت العرب تذعن لهم وتقدمهم وتقتدي بهم وترفع شأنهم، فهل
يصح قول المؤلف بعد ذلك: إن الموالي وأبناء الإماء كانوا في عصر بني أمية
مرذولين ساقطين يزدرى بهم ولا يقام لهم وزن وكان العرب وبنو أمية يعاملونهم
معاملة العبيد؟
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو جرجي زيدان صاحب مجلة الهلال اهـ من خط المؤلف في هامش الأصل.
(2) المنار: قد علم من التمهيد أن كثيرين قد فطنوا لما في الكتاب من الخطأ وبعضهم انتقدوه.
(3) لعل الأصل شهدت بدل قامت.
(4) انظر الجزء الثاني من العقد الفريد طبع مصر صفحة 330.
(5) المنار: الأمر أكبر من ذلك، كان عطاء يشدد في وعظ عبد الملك والوليد فيقبلان منه راجع في صفحة 422 و 423 من مجلد المنار التاسع وعظه لعبد الملك وهو جالس معه على كرسيه وترفعه عن الأخذ منه وقول عبد الملك عند خروجه: (هذا وأبيك الشرف) ومخاطبته للوليد باسمه وتشديده في وعظه حتى أغمي عليه.
(6) راجع في 423 وما بعدها من مجلد المنار التاسع إغلاظ الحسن على الحجاج، وفي صفحة 498 منه نصيحته لوالي بني أمية على العراق.(15/58)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
القرابين والضحايا في الأديان
الدكتور محمد توفيق صدقي
الطبيب بسجن طره
كثر لغط المجلات التبشيرية النصرانية في هذه المسألة مفسرين لها بحسب
أهوائهم وأغراضهم زاعمين أن وجود الذبائح والقرابين والضحايا في الأديان عمومًا
وثنية كانت أو إلهية هو رمز لذبيحتهم العظمى وهو صلب المسيح بحسب اعتقادهم.
عجيب أمر هؤلاء القوم! ! فإنهم منذ نشأتهم في العالم لما لم يجدوا لهم
برهانًا عقليًّا أو نقليًّا على إثبات دعاويهم وعقائدهم عمدوا إلى طريقة هي من
الغرابة بمكان عظيم وذلك أنهم نظروا في كتب من سبقهم من بني إسرائيل وغيرهم
فعرفوا بعض ما فيها من النصوص أو الشرائع والقصص وغير ذلك ثم اخترعوا
للمسيح صلى الله عليه وسلم [1] ما شاءوا من الحوادث التي قد يكون لبعضها أصل
تاريخي صحيح مراعين في ذلك أن يكون هناك شيء من التشابه بين ما يدعون
وبين ما يوجد من النصوص في كتب المتقدمين ليتخذوا ذلك دليلاً على صحة
دعواهم أن السابق إشارة أو رمز إلى اللاحق مما يلفقون.
ولم نجد لهم دليلاً على عقيدة من عقائدهم سوى هذه الطريقة التي ملئوا الدنيا بها
صياحًا وعويلاً مدعين أن كل ما سبقتهم من الكتب هو تمهيد أو رمز إلى دينهم وأن
كل شيء خلق لأجلهم مع أن جميع الأمم التي سبقتهم لم يكن يخطر على بال أحد
منها أن ما عندهم من الشرائع رمز لدين آخر.
لا يظن القارئ أني أنكر بذلك النبوات والبشائر التي وردت في كتب
الأنبياء السابقين إخبارًا عن الأنبياء اللاحقين إذا كانت صريحة في ذلك، ولكن
الذي أنكره على النصارى هو أنهم جعلوا كل شيء في أديان من سبقهم حتى
من الوثنيين رموزًا للمسيح عليه السلام مع أن بعض هذه الرموز المزعومة
ربما لا يكون لها أدنى علاقة به ولا بتاريخه عليه السلام، وإنما هو التحكم
يجعلهم يتوهمون أنها تنطبق عليه ولولا ذلك ما خطر على بال أحد هذا
الانطباق البعيد العجيب، فتراهم مثلاً يجعلون خروج بني إسرائيل من أرض
مصر إشارة إلى حضور المسيح فيها ورجوعه منها إلى بلده (راجع متى 2: 15
وهوشع 11: 1) وفى الأناجيل من مثل ذلك كثير, ولله در السيد جمال
الدين الأفغاني حيث قال ما معناه (إن مؤلفي العهد الجديد قد فصلوا قميصًا
من العهد العتيق وألبسوه لمسيحهم) .
هذه مسألة الضحايا والقرابين في الأديان لها فيها معانٍ وأغراض أخرى ولكن
يتحكم النصارى فيها ويدعون أنها رمز على (صلب المسيح) , ولنبين هنا كيف
أنه لا يوجد أدنى انطباق أو أي علاقة بين هذه المسألة وبين مسألة الصلب فنقول:
1- إن الضحايا والقرابين موجودة في جميع الأديان حتى الوثنية منها من قديم
الأزمان، فإذا سلمنا أن ما يوجد منها في الأديان الإلهية هو إشارة إلى المسيح عليه
السلام فكيف نفسر وجودها في الأديان الوثنية وهي لا تعرف المسيح ولا دينه؟ !
سيقولون: إن الأديان الوثنية لها أصل صحيح وكانت فيها قديمًا هذه المسألة رمزًا
إلى المسيح، ولما طال الزمان نسي الناس ذلك، ونقول: كيف تتفق الأمم في
جميع الأزمنة وفي جميع بقاع الأرض على نسيان ذلك وهو كما يزعم النصارى
أساس الدين كله؟
وكيف لا يوجد أدنى أثر في كتبهم أو معتقداتهم على أن الأصل في الذبائح هو
الرمز للمسيح وهو أمر لم يخطر على بالهم؟ وهب أن جميع الأمم الوثنية نسيت
ذلك فكيف نسيه بنو إسرائيل وأنبياؤهم وهم أقرب الناس إلى المسيحيين؟ وكيف لا
يوجد في كتب العهد العتيق المسلَّمة عند النصارى تصريح بهذه المسألة العظمى
التي كان يجب أن تذكر صريحًا في كل كتاب من كتب الأنبياء السابقين؟ وأن
يخبروا أممهم بأن القرابين جميعًا والذبائح ليست مقصودة بالذات بل هي إشارة إلى
ذبيحة كبرى ستأتي بعد؟
2- إذا سلمنا أن الذبائح كانت إشارة إلى هذه الذبيحة الكبرى (صلب المسيح)
فماذا يقولون في القرابين الأخرى التي لم تكن من جنس الذبائح وهي كثيرة في
الشريعة الموسوية كالمحرقات التي تقدم من أثمار الأرض ومن الدقيق والزيت
واللبان والفريك وغيرهما مما كان يحرق بالنار قربانًا للرب ورائحة لسروره كتعبير
التوراة.
3- إذا سلم أن الذبائح إشارة إلى الصلب فإلى أي شيء يشير إحراق نفس
الذبائح كلها أو بعضها بالنار؟ فهل أحرق المسيح بها! !
4- كيف يكون الذبح إشارة للمسيح عليه السلام مع أنه مات صلبًا - على
قولهم - لا ذبحًا أي أنه لم يهرق دمه حتى يموت بنزف الدم بل ظاهر عبارتهم أنهم
اكتفوا بتعليقه على خشبة الصليب بثقب يديه ورجليه فقط ولم يكسروا عظمًا من
عظامه (يوحنا 19: 36) فلذا لم يرد في الأناجيل أنهم ثقبوا عظم صدره بمسمار
دق في قلبه كما قد يتوهم بعضهم وإلا لمات في الحال ولما بقي حيًّا من الساعة
الثالثة إلى التاسعة كنص إنجيل مرقص ولو كان ثقب يديه ورجليه أحدث نزيفًا
عظيمًا لما بقي ست ساعات وهو حي ولما كان هناك وجه لتعجب بيلاطس من
موته بسرعة (مرقص 15: 44) فالظاهر على هذا أن الدم الذي سال منه كان
قليلاً وأنه لم يمت بسبب نزف دمه بل مات بسبب ألم الصلب والجوع والتعب
وإعاقة التنفس بتعليقه، فكان الواجب لكي يتم التشابه بين الرمز والمرموز إليه أن
تصلب الحيوانات عند بني إسرائيل وغيرهم حتى تموت مثله أو أن يذبح هو بيد
تلاميذه قربانًا للهِ لا أن يموت صلبًا بيد أعدائه بدون أن يسفك شيء يذكر من دمه.
نعم ورد في إنجيل يوحنا (19: 34) أن بعض العساكر طعنه بعد أن مات وأسلم
الروح بحربة في جنبه فخرج منه دم وماء ولكن هذا شيء والذبح شيء آخر كما لا
يخفى ولم يخرج منه دم يذكر قبل مماته كما بينا ولم يكن خروج ما خرج منه من
الدم سببًا في وفاته. أما خروج الدم والماء منه بعد مماته فهو من الوجهة الطبية
عجيب غريب وليس تفسيره بالسهل الجلي [1] .
ولنبدأ الآن ببيان الغرض الحقيقي من الضحايا والقرابين في الأديان فنقول:
كان الوثنيون يقدمون هذه القرابين لآلهتهم لاعتقادهم أنهم ينتفعون بها كما كان
يعتقد بعض الأمم أن الأموات يأكلون ويشربون فيضعون في قبورهم شيئًا من ذلك
كثيرًا على أن بعض هذه المعبودات الوثنية كان ينتفع فعلاً بأكل بعض القرابين
كالعجول والثيران وغيرها فإنها كانت تأكل مما يقدم لها من الحبوب والنبات
ونحوها. وكانت الكهنة وسدنة الهياكل وخدمة الأصنام تنتفع أيضًا بهذه القرابين
فيرغبون الناس فيها للإكثار منها، وكذلك أيضًا كان بعضها يستعمل في الهياكل
والمعابد لفرشها وإضاءتها وزينتها كما تنفع الآن نذور العامة لأضرحة الأولياء
والقديسين فتضاء بها وتفرش ويأخذ منها الخدم ما يلزم لمنازلهم.
ولكن الأديان الصحيحة لم تأمر بالقرابين؛ لأن الإله ينتفع بها - حاش لله
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) وإنما أمرت بها هذه الأديان لفوائد أخرى نأتي هنا على بعضها:
1- الفقراء عيال الله فمن نفعهم رضي الله عن عمله وكأنه نفعه تعالى لو لم
يكن غنيًّا عن العالم، وكما أن الله تعالى أمر الأغنياء ببذل شيء من مالهم للفقراء
سواء كان نقودًا أو ملبوسًا [1] أو حبوبًا أو ثمارًا أو أي مطعوم آخر أو مشروب
كذلك أمر بإطعامهم أنواع اللحوم فإنها أشهى إلى نفوسهم وأبعدها عنهم. وإنما
أوجب الإسلام في كفارة بعض جنايات الحج ذبح الذبيحة قبل إعطائها للفقراء ولم
يبح إعطاءها لهم بدون ذبح ليتيسر توزيعها على عدة فقراء بدل اختصاص فقير
واحد بها ولينقطع بذلك كل أمل للذابح في عودتها إليه واستردادها من الفقير بمال أو
بدل أو غير ذلك ولينقطع أيضًا أمله في الانتفاع بها وهي عند الفقير بركوب أو
نسل أو لبن أو وبر أو صوف أو غير ذلك فيكون التصدق بها تامًّا وخالصًا لوجه
الله تعالى وليضطر الفقير أن يأكل منها هو وولده وأهله فإنها إذا أعطيت له حية
فإنه يبخل بها على نفسه ويحرم أهله وولده من أكلها حبًّا في إبقائها أو بيعها أو كنز
ثمنها فيبقى هو وأهل بيته محرومين من أكل اللحم طول حياتهم وهو من أشهى
المأكولات وألذها وأكثرها تغذية وأبعدها عن الفقراء وللتوسيع عليه وعلى أهله
أمرنا بذبحها ولتكثر تربية المواشي والأنعام والانتفاع بها وهي أنفع الأشياء للناس
خصوصًا في الأزمنة القديمة ولتتسع أيضًا دائرة التجارة فيها فيربح منها التجار
الأغنياء منهم والفقراء قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى
البَيْتِ العَتِيقِ} (الحج: 33) فإن قيل: ولماذا لا يعطى ثمن الذبيحة للفقراء في
الحج بدل الذبح؟ - قلت: ذلك لقلة النقود بين العرب وعدم انتشار استعمالها بينهم
في ذلك الزمن لذلك كان أكثر تقدير أنواع الزكاة في الإسلام بالأعيان كالغلال
وغيرها لا بالنقود، وأيضًا فإن الفقير إذا أعطي نقودًا بدل اللحم كنزها أو أنفقها في
شيء آخر، وأما اللحم فإنه يضطر أن يأكله هو وأهله ولا يحرمهم منه كما تقدم.
ومن أحكام الذبح أيضًا أن يذكر الذابح اسم الله تعالى على الذبيحة شاكرًا له على
نعمه، وذاكرًا أنه لولا أمره تعالى له بالذبح ما جاز له إزهاق روح هذا الحيوان
للتمتع به، وبذلك ترتفع قيمة الحياة والأرواح في نظر الناس فلا يستهترون بها.
قال الله تعالى في الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى
مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 28)
ولذلك حرم أكل الحيوان إذا لم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم غيره تعظيمًا لأرواح
الحيوانات , وقد جعل الله لكل أمة مذبحًا يذكرون اسم الله فيه على ما يذبحون
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (الحج: 34) .
2-إن الذبائح والقرابين قد تكون عقوبات أو غرامات لمن يرتكب شيئًا من
الآثام أو من المنهيات كما قال الله تعالى بعد ذكر عقوبة من قتل الصيد وهو محرم
{لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (المائدة: 95) وهذا الأمر يظهر جليًّا خصوصًا في ذبائح
بني إسرائيل وقرابينهم التي كانوا يقدمونها كفارة لكثير من الذنوب ويحرقونها بالنار
فكأنه كان في الشريعة الموسوية أن من يرتكب بعض الذنوب يعاقب عليها في الدنيا
بفقد جزء من ماله كالغرامات الموجودة في سائر القوانين المدنية.
3- إن الذبائح والضحايا يراد بها أيضًا تعويد الناس على الاستعداد لبذل المال
والنفس والولد في سبيل الله فهي تذكرنا بأكبر حادثة من حوادث الإسلام لله تعالى
والانقياد إليه في كل شيء، ولو أدى ذلك إلى ضياع النفس أو الولد وهذه الحادثة
هي إرادة إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده طوعًا لأمر الله وامتثالاً له وذلك أكبر
علامات صدق الإيمان. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم
بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (التوبة:
111) ومن أعطى شيئًا في سبيل الله فكأنما أعطاه لله تعالى نفسه كما قلنا سابقًا
{مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245) فالمؤمن الحقيقي أو المسلم لله هو الذي لا يبخل
بماله ولا بنفسه ولا بولده في سبيل الله لنفع الناس وهم عياله تعالى.
فإن قيل: لماذا فدى الله تعالى ابن إبراهيم بالكبش ولم يكتف بنهيه له عن
ذبحه؟ قلت: ليزيل كل شك في نفس إبراهيم ونفس غيره بأنه إنما امتنع عن الذبح
لضعف عزيمته فتأول كلام الله أو لم يفهمه على حقيقته فأظهر الله تعالى بهذا الفداء
أن إبراهيم لم يمتنع عن الذبح لتأويل ضعيف أو اشتباه بل لنهي الله تعالى له عنه
نهيًا لا شك فيه ولا يقبل التأويل بظهور هذا الكبش الذي بعثه الله تعالى له ليذبحه
بدل ابنه. وفى هذا الفداء أيضًا إشارة إلى أن الله تعالى يتقبل من عباده المخلصين
أعمالهم وإن لم تتم ويكافئهم عليها بالجزاء العظيم كأنها أعمال تامة متى خلصت
نيتهم وصحت عزيمتهم مهما كان العمل صغيرًا أو حقيرًا تفضلاً منه وكرمًا.
وهناك أيضًا فائدة أخرى وهي أن يمثل الناس بعد إبراهيم هذه الحادثة على ممر
الأيام بالضحايا وليذكروها بالعظة والاعتبار تنبيهًا لهم على وجوب تقديم أنفسهم لله
كأبيهم إبراهيم، الذين سماهم لله مسلمين.
4- إن الناس بسبب ما يرتكبون من الذنوب يستحقون الهلاك العاجل والمحو
من الوجود {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} (فاطر: 45) فهم يقدمون هذه الذبائح إشارة إلى أنهم يستحقون أن يقتلوا أنفسهم
لكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، ولولا لطف الله تعالى ورحمته بهم لما تقبل منهم سوى
قتل أنفسهم فالذبائح تشير إلى الشكر لله والندم على الذنوب والاعتراف باستحقاق
عذاب الله ولذلك قال {وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) كما سبق.
5- إن إبراهيم بعد أن بنى الكعبة بيتًا لله دعا الله أن يسوق الناس إلى ذريته
من إسماعيل الذي أسكنه هناك، وأن يرزقهم من الثمرات، وأن يجعل بلدهم آمنًا،
فأجاب الله تعالى دعاءه و {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش: 4)
وجلب إليهم من كل الثمرات والخيرات وأكثر بينهم من كل شيء حتى أنواع اللحم
كله يأكلونه غريضًا أو قديدًا , ووحد لذلك مذبح المسلمين ومعبدهم، وربما كان
اختبار إبراهيم بذبح ولده في مكة لا في الشام فكرم نسل إسماعيل كما كرم نسل
إسحاق كوعد التوراة (تكوين 17: 20) وقد جاء في إنجيل برنابا أن الذبيح هو
إسماعيل [1] .
فهذه بعض حكم الذبائح والقرابين في الإسلام وغيره من الأديان، وأما قول
النصارى إنها رمز إلى المسيح فقد أريناك ما فيه ونقول أيضًا: إذا سلم أن معنى
الضحايا والقرابين في الأديان القديمة هو ما يزعمه النصارى الآن - وهذا المعنى
لم يكن يخطر على بال تلك الأمم القديمة كما هو ظاهر من كتبهم - فما فائدة الذبائح
والقرابين إذًا بالنسبة لهم وهم لم يفقهوا منها ما يفقهه النصارى الآن؟ ألا تكون لهم
لغوًا وعبثًا كانوا يفعلونه أزمانًا طويلة وخصوصًا لأنهم لم يخبروا صريحًا بالمراد
منها ولم يعرف بينهم هذا المعنى الذي يدعيه النصارى اليوم , ولماذا أبطلت الذبائح
في الديانة النصرانية ولم تبق فيها تذكارًا للصلب والخلاص مع أنها لو بقيت في
النصرانية لكانت أفيد وأظهر من وجودها في الأديان القديمة من غير أن يفهم المراد
منها؟ ولماذا استبدلت الذبائح بالعشاء الرباني في المسيحية؟ وأي مناسبة بين الخبز
والخمر، وبين الجسد والدم؟ ولماذا فعل المسيح العشاء الرباني قبل الصلب مع أنه
كان الأليق أن يُفعل بعده ليكون هناك معنى لكونه تذكارًا له؟ وإلا فهل يعمل التذكار
للشيء قبل وقوعه مع أن المناسب والمعتاد أن يكون بعده؟
فكأن الذبائح والقرابين كان يجب عملها قبل المسيح حينما كان الناس لا
يفهمون أنها رمز أو إشارة إلى صلبه ولم يكن غفران الذنوب حينئذ لأجلها في
الحقيقة ثم تركت بعد الصلب حينما كان يسهل على الناس فهم أنها للتذكار ففي
الوقت الذي لا يكون لها فائدة ما يجب أن تعمل، وفى الوقت الذي يكون لها فائدة
تترك وتهجر فما حكمة ذلك يا ترى؟
على أننا لا نفهم كيف يكون المسيح كفارة لذنب آدم الذي عم بنيه كما يدعون
وذلك؛ لأنه إذا كان ما ينالنا في هذه الدنيا من المتاعب والمشاق هو جزاء لنا على
ذنب آدم فهذا الجزاء لم يرتفع عنا بعد الصلب. وإن كان الجزاء سيحصل لنا في
الآخرة على ذنب آدم ففي الآخرة كل نفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) وإلا فأين العدل
الإلهي الذي يكثرون الكلام فيه؟ فهل من العدل عندهم أن يعاقب الأبناء في الآخرة
على ما ارتكبه أبوهم؟ وهل من العدل أن يُترك المسيئون (وهم آدم وبنوه)
ويعاقب المسيح - وهو بريء - على ذنوبهم وبدون رغبته وإرادته كما هو ظاهر
من عبارات الأناجيل في وصف حالته قبل الصلب وحزنه واكتئابه وكثرة تضجره
وصلواته كقوله لربه (إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس) وقوله وهو مصلوب
(إلهي إلهي لماذا تركتني) فإن كان المسيح باعتبار ناسوته - كما يعبرون - غير
راضٍ عن الصلب كما يظهر من هذه العبارات فهل من العدل أن يحمل ذنب غيره
ويصلب بسببه رغم إرادته؟ الحق أقول إنكم أردتم أن تفروا من تناقض موهوم بين
عدل الله ورحمته فوقعتم فيما هو شر منه وهو نسبة الظلم إلى الله تعالى في مؤاخذة
بني آدم بذنب أبيهم وفى مجازاة المسيح بغير رضاه بدلاً عنهم.
وأين تضحية الذات في سبيل نفع الناس التي تزعمون أن المسيح علمكم
إياها وتطنطنون بها؟ وإذا كان المسيح باعتبار ناسوته من نسل آدم؛ لأنه مولود
من مريم العذراء ومتكون في رحمها من دمها فهو كباقي أولاد آدم واقع في ذنب
أبيه فهو أيضًا يحتاج للكفارة مثلهم وإذًا يكون غير طاهر ولا معصوم من الذنوب
كما تزعمون؛ لأنه (ابن الإنسان) وناسوته مخلوق من العذراء بمقتضى
التولد الجسداني وإن كان لم يتلوث بذنب آدم فلم تلوث غيره وكلنا من نسل آدم
وكيف إذًا يعاقب بغير رضاه من أجلنا وهو بريء من كل ذنب؟ فما بالكم يا قوم
تدَّعون أنكم تعرفون معنى العدل الإلهي وحدكم وأنتم في الحقيقة لم تدركوا شيئًا من
معناه؟ !
العدل هو عدم نقص شيء من أجر المحسنين وعدم الزيادة في عقاب المسيء
مما يستحق فهو توفية الناس حقهم بلا نقص في الأجر ولا زيادة في العقاب وعدم
المحاباة ومعاملة جميع الناس بالمساوة [1] فلا ينافي ذلك أن يزيد الله تعالى أجر
المحسنين تفضلاً منه تعالى وكرمًا، ولا أن يعفو ويغفر للمسيء رأفةً منه ورحمةً.
ولكن من الجمع بين العدل والعفو أن لا يضيع حقًّا من حقوق الآخرين إلا برضاهم
وأن لا يُخص به فردًا دون غيره من عبيده، بل إذا عفا عن أحد منهم بسبب ما،
ووجد هذا السبب بعينه عند غير عامله بالمثل لضرورة المساواة بين العباد في
المعاملة والجزاء الأخروي , ومنه أيضًا أن لا يُساوى بين المحسن والمسيء في
الثواب بل لكلٍ درجات فعفوه تعالى عن المسيء يقابل إعطاء المحسن زيادة عما
يستحق من الأجر ولكن لكل منهما مقام معلوم في الآخرة فلا ظلم في العفو عن
المسيء كما أنه لا ظلم في زيادة أجر المحسنين , فهذا هو معنى العدل والغفران
للذين ظنوهما ضدين لا يجتمعان إلا بطريقتهم العجيبة الملفقة ودعواهم أن لا غفران
إلا بصلب البريء (المسيح) وسفك دمه، فوقعوا بذلك في شر مما فروا منه على
أن دم المسيح في الحقيقة لم يُسفك كما بينا سابقًا.
ولا ندري كيف اشترطوا وجوب سفك الدم، للغفران وخضب الأرض به
إرضاء لإلههم الذي يحب الدم كثيرًا كما يزعمون، وفاتهم أن ما سفك من دم المسيح
كان قليلاً جدًّا لا يكفي للموت ولم يكن هو السبب فيه، ولذلك لم يذكر في الأناجيل
أن دمه فاض على الأرض أو خضبها كدم الذبائح التي يزعمون أنها رمز له.
وإن كان مجرد الموت يكفي للغفران فجميع الناس يموتون مع شيء من الألم
قليلاً أو كثيرًا بحسب الأحوال فلم لا يكفر موت كل شخص عن ذنبه؟ ومن أين لهم
اشتراط هذا الشرط: أي وجوب سفك الدم للغفران؟ ؟ وما هذا التحكم في معنى
العدل الإلهي وهو ما لم ينطبق على العقل ولا على اللغة , فإن كانوا أخذوا هذا
الشرط من وجوب الذبائح في الشرائع الإلهية السابقة للمسيح فقد بينا لك حكمة الذبح
فيها. وكان الواجب عليهم أن يشترطوا أيضًا إحراق الكفارة بالنار؛ لأن القرابين
كانت تحرق بها كما هو معلوم من التوراة.
أما العدل الإلهي الذي ضلوا في بيان معناه فقد بيناه لك هنا بما ينطبق على
قواعد اللغة والعقل ويتفق مع ما جاء في الكتاب العزيز.
فكما أن الله تعالى يوصف بكونه عادلاً أو حكمًا عدلاً فهو كريم غفور رحيم
منتقم جبار شديد العقاب خافض رافع معز مذل قابض باسط أول آخِر ولم يقل أحد
من العقلاء إن القائل بهذه الصفات قائل بالمناقضات أو الأضداد.
وهاك بعض ما جاء في القرآن الشريف في هذا الموضوع وهو الذي يتفق
مع العقل الصحيح والحكمة. قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن
جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأنعام:160) ، {وَلاَ تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) {وَنَضَعُ
المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا
بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47) ، {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ
سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) ، {فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7- 8) ، {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) ،] وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [6 {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة:
48) ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 21- 22) .
الدكتور محمد توفيق صدقي
__________
(1) حاشية: الأظهر أن لفظ المسيح كما قال صاحب المنار علم على عيسى ابن مريم ولذلك قال تعالى {اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 45) ومعنى المسيح الملك الممسوح؛ لأنهم كانوا يمسحون ملوكهم بالزيت عند توليتهم، واللفظ إذا أطلق علمًا على شخص لا يجب أن يتحقق مدلوله في هذا الشخص فإذا سميت رجلاً (صادقًا أو سلطانًا) فلا يجب أن يكون صادقًا ولا سلطانا فلا عجب إذا سمي عيسى بهذا الاسم وإن لم يمسح ملكًا وهو أفضل من ملوك الأرض وسلاطينها وأكثرها تابعًا.
(2) المنار: ألا يمكن أن يخرج من الميت إذا طعن شيء من رطوبات الجوف إذا نفذت الطعنة إليه؟ وهذه الرطوبات قد تكون مختلفة اللون والمادة؟ .
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} (المائدة: 89) .
(4) حاشية: في هذه التوراة أن الذبيح كان إبراهيم الوحيد، فالظاهر أن تسميته بعد ذلك بإسحاق تحريف من اليهود ليفتخروا بأنهم من نسله ولكراهتهم أن يشاركهم غيرهم من الأمم في مزية من المزايا أو أن يختص بها وخصوصًا بني إسماعيل وإلا فإن إسحاق لم يكن ابن إبراهيم الوحيد بل كان مسبوقاً بإسماعيل والاختبار بذبح الابن الوحيد أشق على النفس من ذبح الابن الذي يوجد غيره، فلهذا ولغيره نرجح أن إسماعيل هو الذبيح لا إسحاق.
(5) العدل لغة المماثلة والمساواة ومنه قولك: هذا الشيء يعدل هذا أي يساويه والظلم للنفس كما يستفاد من كتب اللغة وقواميسها ونصوصها.
(6) أما الشفاعة الثابتة في القرآن فهي ضرب من ضروب التكريم لبعض عباد الله الصالحين المقربين بأعمالهم فيأذن لهم فيتكلمون ويدعونه في وقت ترتعد فيه الفرائس وترتجف القلوب {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28) {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (النبأ: 38) فالشفاعة هي تكريم للشافع ولا تنفع في الحقيقة أحدًا من المشفوع لهم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 48) اهـ من الأصل وهذه الآية نزلت في الكفار.(15/67)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إنا لله وإنا إليه راجعون [1]
المصيبة الجلى بشقيقنا الشهيد الحسين آل رضا
يعزُّ عليَّ يا حسين أن أسمع لك نعيًا، وأن أراك مَبْكِيًّا مَرْثِيًّا، يعزُّ عليَّ يا
حسين أن أكون أنا الذي يُعَزَّى عنك، وأنت أنت الذي كنتم أودُّ أن تُعَزَّى عنِّي،
يعزُّ عليَّ يا حسين أن لا يمرَّ عشر المحرم من هذا العام، إلا وأنت الشهيد الذي
يجدد لنا ذكرى جدنا الحسين عليه السلام، يعز عليَّ يا حسين أن تُرْثَى في المنار،
وقد كنت أرجو أن تَرِثَ المنار، يعز عليَّ يا حسين أن تغتضر في ريعان شبابك،
وعنفوان قوتك، وأول العهد بتحقيق رجائي ورجاء الأمة فيك، فلئن بكيتك فأنت
أحق الناس ببكائي، وأجدرهم ببثي وحزني؛ للصفات والمزايا التي اجتمعت فيك،
وما كانت ولن تكون لسواك، فأنت أخي الشقيق، وتلميذي النجيب، وولدي البارّ،
ليس في إخوتي ولا سائر أهلي من هو أقرب إليَّ منك، ولم أعن بتربية أحد ولا
تعليمه كما عنيت بك، على ما آتاك الله تعالى من سلامة الفطرة، وعلو الهمة
وذكاء الفطرة، وشرف النحيزة، وعزة النفس، والميل إلى معالي الأمور،
والعزوف عن سفسافها.
ألا إن مصيبتي فيك أيها الشقيق العزيز لأكبر من مصيبة أمك الرءوم، ولكنها
ليست بأكبر من مصيبة أمتك العقور، المبتلاة في ولدها بالعقم أو العقوق، تثكل
البارّ منهم قبل أن تجني ثمرة خيره وبره، ويعمر العاق فتتجرع الحميم والغسلين
من عقوقه وشره، فإن بكيتك معهما، فإن مصيبتي بين مصيبتيهما، وإن العين
لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك لمحزونون.
ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
فإن كان رُزْؤُك كبيرًا فالله أكبر، وإن كان الرجاء فيك عظيمًا فالرجاء في الله
أعظم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:
156) ، فهنالك الملتقى إن شاء الله تعالى، فأنت في قوة إيمانك، وسلامة قلبك،
وعظم إخلاصك، وطهارة شبابك، وقيامك بالواجبات، وتنزهك عن الفواحش
والمنكرات، بل ترفعك عن مواقع الدنايا والهفوات، وبما رزقك من الشهادة، وما
حباك به من حسن الخاتمة، جدير بأن تكون في مقعد الصدق، من حظيرة القدس،
وهذا أعلى ما يعزينا عنك.
إن الله جلت حكمته، ونفذت مشيئته، قد امتحن قلوبنا بخطبك، وابتلى
إيماننا برزئك، فأرجو أن أكون من الصابرين على قضائه، المستحقين لصلواته
ورحمته، الشاكرين له ما أنعم به من صدق الإيمان، وقوة الإرادة، واتباع هدي
الكتاب والسنة، فقد جاءتني الصدمة الأولى وأنا بين صحبي، فملكت بفضله تعالى
نفسي، وحبست مجاري الدمع من عينيَّ , وربطت على قلبي وكاد يتصدع بين
جنبيَّ، وعقدت جلسة لجنة مدرسة الدعوة والإرشاد، ولم أُشعر بمصابي أحدًا من
الإخوان، وإنما أذكر هذا تحدثًا بالنعمة، ورجاء أن أكون أهلاً للأسوة الحسنة،
فاجعل اللهم هذا جهادًا في سبيلك، وسببًا لمرضاتك، وآتنا به ما وعدتنا على رسلك،
وعوضنا خيرًا مما أخذت منا فإنك على كل شيء قدير.
كان هذا المصاب أثرًا من شر آثار الفوضى واختلال الأحكام، وفساد الحكام
في البلاد السورية، وغيرها من البلاد العثمانية، فقد اشتدت هذه الفوضى في
وطننا (لواء طرابلس الشام) في السنة الماضية حتى ترك كثير من الأحداث
والشبان الأعمال، وتدججوا بالأسلحة النارية في عامة أوقاتهم، وكثر حديثهم في
الرجولية باستعمالها، والفتك بها، وزالت من نفوسهم هيبة الحكومة، واعتقدوا أن
القصاص قد نسخ منها، ولم يبق بين الواحد منهم وبين قتل العمد إلا غضبة تعرض
له، أو استياء من أحد يلم بنفسه، واتفق أن الفقيد صادف واحدًا من هؤلاء التحوت
الأنذال يؤذي بنتًا في الطريق فنهره فاستلَّ النذل مديته وهجم بها على فقيدنا وقال له:
إنني أنتظر هنا لأقتلك أنت، فقبض عليه الفقيد وما زال يعالجه حتى أخذ منه
المدية، وأراد أن ينصرف، فأخرج الشقي مسدسه وأطلقه عليه ست مرات وكان
في كل مرة يروغ فتخطئه الرصاصة حتى أصابته السادسة فحملها وذهب إلى الدار.
وعلم بذلك الأصدقاء في طرابلس فبادروا مع طبيب عسكري وطبيب غير
عسكري إلى الكشف عليه فلم يهتد الأطباء إلى الرصاصة وظنوا من غير عملية
جراحية أنها غير قاتلة، وقد كتب الفقيد إليَّ وإلى شقيقنا السيد صالح بطاقة هذا
نصها:
سيدي الشقيقين:
إني أحمد الله إليكما أن نجاني من مصاب كبير، وخطر خطير، وذلك أن
الشقي عبد الوهاب الباشا أطلق علي عيارات نارية أصابني واحد منها في أليتي وقد
ضمد الجرح الآن، على أنه لم يمض عليه أسبوع، ولا بد من بقائي في البيت أيامًا.
وصل كتابك الأخير وسأجيبك عنه إن شاء الله تعالى، الجميع بخير.
... ... ... ... ... ... ... ... 3 المحرم سنة 1330
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا
فكتبت إليه وإلى غيره إنني لا أطمئن ولا يرتاح قلبي إلا إذا استخرجت
الرصاصة أو عرف مكانها وأنه غير مقتل، ولكن لم يرجع إلا النعي، فقد تبين أن
الرصاصة اخترقت الجنب ووصلت إلى الأحشاء، وفعلت فعلها في الأمعاء، وذلك
مساء عاشر المحرم، وخرجت روحه الطاهرة في صبيحة حادي عشره، بعد أن
نطق بالشهادة وحمد الله أنه لم يسفك دمًا، ولا قارف محرمًا، وكانت هذه البطاقة
آخر العهد بكتابة فقيدنا رحمه الله تعالى.
كان المصاب بالحسين عظيمًا على كل من عرفه من أهل العلم والفضل
والأدب أو عرف شيئًا من مزاياه العالية، وما عارِفُوه على حداثة سنه بالقليلين.
وسنذكر نموذجًا من تعازيهم في جزء آخر، ونكتفي هاهنا بكلمة من كتاب تعزية
لأحد أهل العلم والأدب في طرابلس الشام في سوء الحال والفوضى هناك وهو
الشيخ محمد نجيب الحفار قال:
أرفع لمقامكم السامي هذه العريضة، وإن قلمي يضطرب من شدة هول تلك
الحادثة التي أودت بجميع من عرف ومن لم يعرف صفات فقيدكم بل فقيد جميع
الناس المرحوم أخيكم السيد حسين رضا من رصاصة أتته من يد أثيمة كلا بل من
دولة أثيمة لا تعرف للإنسانية حقًّا ولا للرعية ذمة يجبرانها على القيام بحفظ أموالهم
وأعراضهم وأرواحهم وخصوصًا أهل العلم والفضل والشرف منهم الذين يذهبون
كل يوم ضحية تهاملها وتكاسلها عن تعقيب أولئك الكفرة الفجرة الذين يعيثون في
الأرض فسادًا لا يهابون الناس ولا الحكومة بدليل أنها أرسلت منذ عشرة أيام أحد
ضباطها رديف بك وهو من خيرة رجالها لتعقيب بعض الأشياء الذين عجزت عن
إلقاء القبض عليهم نظرًا لعدم اهتمامهم بقوة الحكومة وسطوتها فرجع المسكين
محمولاً على الأكف مدرجًا بدمائه الطاهرة بعد أن كان كالأسد لا يهاب من وظيفته
أحدًا فواروه جدثه ولم تزل الأشقياء للآن زُمرًا زمرًا داخل البلدة وخارجها يقومون
بأعمال لا قِبل للإنسانية على تحملها وأصبحت الأهالي في اضطراب شديد من هول
هذه الأعمال القبيحة، ومن جملتها مصيبتنا بالغصن الرطيب والركن العلمي والذكي
المفرط المرحوم السيد حسين رضا) إلخ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) سورة البقرة آية 156.(15/78)
صفر - 1330هـ
فبراير - 1912م(15/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيد حسين رضا
(1)
ولد شقيقنا فقيد الإصلاح والفضيلة السيد حسين لبضع ليال خلت من شهر
ربيع الأول سنة 1299 (الموافق شهر يناير 1882) وقد اغتبط والده بولادته ما
لم يغتبط بولادة غيره من ولده، وكان يقول: إنه ولد ليلة المولد النبوي وأنا أرى
أنه ولد قبلها بليلة فإن ليلة المولد هي ليلة تسع على التحقيق. وكان يحبه حبًّا شديدًا
حتى كان يظهر حبه له في حضرته خلافًا لعادته مع أولاده، ويلهج المرة بعد المرة
بقوله (هذا الحسين بن علي) فكأن هذا كان منه إشارة إلى الفجيعة به في المحرم.
تعلم مبادئ القراءة والكتابة في القلمون ولاحت عليه من نشأته الأولى مخايل
الذكاء والنجابة والعقل، واعتصم منذ طفولته بحبوة الحياء والأدب، وإنني لا أتذكر
أن أحدًا أهانه بقول أو فعل، وكنت أنا الذي حملت الوالد رحمه الله تعالى على
وضعه في مدرسة الحكومة الابتدائية في طرابلس (وكنت يومئذ أطلب العلوم
الدينية والعربية في تلك المدينة) وكان يضن به على المدن خوفًا على أخلاقه،
ويحب أن يطلب العلم في غير المدارس الرسمية، وكنت أتعاهده بكل ما يحتاج إليه،
فتلقى فيها شيئًا من مبادئ التركية والفرنسية والحساب والصرف والنحو بالتركية!!
وعلم الحال (العقائد والعبادات) ولكن حالة المدرسة الأدبية لم تكن تلائم
فطرته فتركها باختياره ولم يتم مدتها.
ثم أقرأته النحو والصرف والتوحيد والأخلاق وشيئًا من الفقه ورغبته في
الأدب , فقرأت له مع آخرين كتاب الإظهار وطائفة من كتاب ابن عقيل في النحو
(وحفظ الألفية كلها أو بعضها) ، وحضر عليَّ بعض دروس الإحياء والعقائد وفقه
الشافعية.
ثم هاجرت إلى مصر وأنا ضنين به أن يبقى في وطنه، وقد اشتد الضغط فيه
على العلم وأهله وكتبه، فكنت أطلبه من الوالد (رحمهما الله تعالى) فيرجئ
ويُسوِّف في إرساله، حتى سمح به في أوائل سنة 1321 فوضعته في الأزهر فكان
يحضر درس التفسير والبلاغة على الأستاذ الإمام ودرس فقه الحنفية على الشيخ
أحمد أبي خطوة ودروسًا أخرى كان ينتقل فيها من حلقة ينتقدها، إلى حلقة يرجو
أن يجد طِلْبته فيها، ويقرأ المنار ويحاول اتباع أسلوبه في الكتابة، ولم يلبث أن
ترك الأزهر بعد وفاة الشيخين محمد عبده وأبي خطوة، وما أراه أتم حضور كتاب
على أحد فيه؛ لأنه لم يستطع الصبر على أسلوبهم - فهذا مُجمل القول في دراسته
وكل من عرفه من أهل العلم كان يرى أن معارفه أكبر من سنه. هكذا قال الأستاذ
الشيخ عبد الكريم سلمان والدكتور شميل والدكتور يعقوب صروف وغيرهم.
كان رحمه الله تعالى كاتبًا أديبًا وشاعرًا وسطًا وخطيبًا مفوهًا، وكان يعرض
علي في بدء الأمر بعض ما يكتبه وما ينظمه فلا أجد فيه إلا القليل من الخطأ الذي
يقع في مثله أشهر الكتاب والأساتذة، وما عتم أن استقل بنفسه، وصار ينشر
المقالات الأدبية والسياسية والاجتماعية في الجرائد والمجلات الكبرى، فتارة
يمضيه باسمه الصريح، وتارةً بلقب مستعار، وقد كنت أنكر عليه أولاً استعجاله
بالاستقلال التام، وأنا أعلم أن سببه الذي ساعد استعداده الفطري عليه هو الاقتداء
بشقيقه وأستاذه الأول، وأرى أنه فاته بهذا الاستقلال قبل أوانه ما كنت أحبه له من
التوسع في العلوم الشرعية استعدادًا لتحرير المنار، وأن يكون ذلك برغبته
واختياره، فلم أستطع أن أحدث له هذه الرغبة، وحثثته على إتقان اللغة الفرنسية
فاشتغل بها زمنًا ولكنه لم يتقنها كما يجب ولم يطلقها ألبتة؛ لأنه كان يجري على
سجيته ولا يطيق التكلف. وما كنت يائسًا من عودته إلى إتقان ما كنت أحب أن
يتقنه وأنا أعلم أن رغبته إذا تحركت فإنها تكون كالكهرباء مضاء وسرعة.
وجملة القول في علمه أنه علم الأديب، من كل فن حظ ونصيب، وكان
دقيق النقد، حاضر الحجة، قوي الذاكرة، شديدًا على الخصم مع النزاهة والأدب ,
وله آثار وحكم وخواطر حسنة مدونة في مذكراته، سننشر بعضها في المنار إحياء
لذكره، وشرحًا لمكنونات صدره وخبايا فكره.
أما أخلاقه وسجاياه فهي التي كانت أكبر مواضع الرجاء فيه، وأظهرها
وأعلاها استقلال الفكر وقوة الإرادة والإباء وعلو الهمة وعزة النفس والصدق
والأمانة والعفة والنجدة والمروءة والشجاعة والإقدام والروية والوفاء والإخلاص،
وكنت أخشى أن يغلب ميله إلى الشجاعة والرجولية ميله إلى العلم والأدب. أرأيت
إذا أشرب صاحب هذه الأخلاق حب المصلحة العامة، ووجه وجهه إلى خدمة الأمة،
مع حسن البيان بالقلم واللسان، ألا يرجى أن يكون من المصلحين المجددين؟
بلى، وإن فقيدنا الشاب قد كان مرجوًّا لهذا وأهلاً له، لو قدر الله له عمرًا طويلاً.
إنني وإن كنت أشهد لأخي وتلميذي فشهادتي حق، وما تعودت بفضل الله إلا
قول الصدق، ولا فائدة لي ولا له في إطرائه وإعطائه ما ليس له بحق، ويشهد له
بذلك جميع من عرفه من أهل العلم والفضل الذين يقدرون الفضيلة حق قدرها أو
جملتهم ومجموعهم، كما تشهد له به آثاره التي هي مرآة نفسه؛ لأنه لم يكن يكتب
إلا ما يمليه عليه اعتقاده وشعوره، وإنني أنقل هاهنا بعض ما كتبه إليَّ فضلاء
المعزين.
وإنما أختار من التعازي الكثيرة التي كتبت إلى ما فيه تصريح أو إشارة إليَّ
رأي الكاتب لها في فضل الفقيد وأخلاقه والرجاء في خدمته لأمته. والتعازي
ضروب بعضها وعظ عام، وبعضها ثناء على المعزى، وأكثرها إكبار للمصيبة
بالكلام المجمل والوصف الشعري.
(1)
كان أجدر الناس بأن يحفظ كلامه وينشر في هذا المقام صديقنا الأكبر الأستاذ
العالم الصوفي الشيخ محمد كامل الرافعي أفضل الفضلاء في طرابلس الشام، ولكن
ما كتبه في هذا المصاب شجون فيها ذكر ما وقع ووصف حاله هو فيها وما يعتقده
في صديقه كاتب هذه السطور، فلا يتعلق شيء كثير منها بغرضنا، ويصح أن
يكون منه بعض عباراته في إكباره المصاب على ما هو عليه من وقار المشيب،
وما اعتاده من مصارعة الخطوب، كقوله حفظه الله تعالى:
(فلم يفجأني إلا خبر نعيه الذي أصم السمع، وصدع القلب، وكان له من
التأثير على وجودي كله ما تمنيت معه أني لم أخلق، وأسرعت إلى القلمون آسفًا
جازعًا، فرأيت القيامة قائمة، وشهدت من هول المصاب ما يذيب القلوب ويفطر
المرائر، ويذهب بالنفوس حسرات، واجتهدت بحسب ضعفي إذ ذاك لتخفيف
الهول على غير جدوى. وبالحقيقة إن مصابنا بالحسين عظيم، والخطب فيه جسيم،
وإنما يُقوى عليه بقوة من الله) .
ومن كتاب له إلى ابن أخته جميل أفندي الرافعي:
(فجعت بعد أخي أحمد عارف رحمه الله [1] بمثل انفجاعنا لوفاة السيد
الحسين رضا، ولا أمضني خطب كخطبه، ولا أسفت لأحد كما أسفت لفقده، ولو
شئت لعددت مواهبه بلسان الندب، ولكن قلبي من الحزن لا يطيق. ولقد صعب
على تعزية (السيد) [1] به حتى لا أكاد أعقل ما كتبت. ولو أني حملت جبال
رضوى لكان أهون علي ممن حملت من الكتابة إليه، على أنه لا بد منه، والأمر
لله، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .
(2)
ما كتبه إلي لسان الصدق والحكمة السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي من
الآستانة:
كتابي اليوم كتاب أسى وحزن، ولولا أن الجزع قبيح بعباد الله المؤمنين لكان
قلبي اليوم جديرًا أن يتسع للجزع وحده ويضيق عما سواه ولا أجد غضاضة عليَّ
في ذلك لولا الإيمان؛ لأن فقيدنا ليس من هذه الأعراض الفانية المتبدلة، كلا بل
هو جوهر من أكرم الجواهر التي حظينا من الزمان باكتساب صحبتها، والتعزي
في هذه الحياة برؤية صفائها، هو من أعظم الهدايا الإلهية التي آنستنا في المعامع
الموحشة، معامع قيل وقال، وكثرة الجدال، هو من أفضل الأعيان التي تصبح
زينة التاريخ برونق محامدها، هو (السيد حسين رضا) ويا لهف قلبي حين يُرى
هذا الاسم محشورًا في صفوف الغابرين، بعد أن عرفناه جمال محافل المعاصرين.
إذا كان فقد الفضلاء ليس ببدع في عالم الكون والتحول، فالجزع لفقدهم ليس
ببدع أيضًا، وإذا كان ذوي الغصون النضرة أمرًا معهودًا فذرف الدموع لأجلهم أمر
معهود كذلك، لكننا نجلّ سنة الله تعالى في أنفسنا، ونتكلف تقديم الأُنس بروحه
على الأُنس بأشباحنا، فنتزحزح بذلك عن الجزع القلبي مستغفريه سبحانه عن
الدموع التي لا نملك سدًا لتيارها، ولا حول ولا قوة إلا به، هو ولي الفطرة ومازج
الضعف بالقوة.
إذا أسي الآل الرضوي على الحسين فلا غرو، كيف والآسون عليه من
سواهم يعدون العد، ويتعاصون على الحد، فمحافل الآداب، ومعاهد العلوم،
وبيوت الحسب، ومآهل الشبيبة، ومناهل الفضائل، كل ذلك بعض من أسي على
هذا الغصن النضير الذي أنجبته دوحتهم، وأوحشت منه اليوم رياضهم، وإن
يلتمس الآل الرضوي عزاء فليس لغيرهم مثل ما يجدونه من العزاء بوجود مولاي
الأخ الذي هو اليوم عزاء عالم الإصلاح كله.
كتبت هذا وما أملي بأن أكون معزيًا في الحسين أكثر من أن أكون مُعزى فيه،
وذلك أن أخي الرشيد أغنى بقوة معرفته بالله سبحانه وأُنسه بروح هديه وتجلياته
عن تعزية إخوانه، أما أنا فلا أستغني ولا أجدني ساليًا ذاك الشاب الذي لا فضل لي
في عشق لطفه، فإن كل من عرفوه محكوم عليهم بالتقيد والتعلق بمناقبه، فالله
سبحانه مسئول أن يثيبنا في هذا المُصاب، ويكفي الآل الرضوي، سائر الأوصاب،
و] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: 156) [.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوكم
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الزهراوي
وكتب في جريدته الحضارة التي تصدر في الآستانة
... ... ... ... ... ... ... ... السيد حسين وصفي رضا
شاب نشأ في مهد المجد، ورضع أفاويق المعالي، وتضلع من الآداب والحكم،
وبلغ في المروءة والشهامة الغاية، أتانا نعيه فوقع لدينا وقعًا مؤلمًا، وكان أسفنا
عليه عظيمًا، فقد كان فوق كل ما تقدم من صفاته صديقًا من أعزِّ أصدقائنا، وأخًا
من أكرم إخواننا، فنعزي فيه الفضائل والمعالي وأخانا العلامة المصلح شقيقه السيد
محمد رشيد رضا صاحب (المنار) أجزل الله أجره، وأطال عمره، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) ، منه سبحانه نستنزل الرضوان على جدث الفقيد
العزيز، والصبر والسلوان على أفئدة أهله وعارفيه.
(3)
ما كتبه أكتَب علماء طرابلس الشام وأعلم كتابها الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ
المدرس في دار الفنون العثماني ومكتب النواب بالآستانة.
سيدي الأخ الرشيد عزى الله نفسه بما يرجوه من صلاح الإسلام وإنزال
السكينة على قلبه. أكتب هذه الكلمات بيد ترتجف أسفًا، وأنفسا تتقطع لهفًا، وبين
قلبي قلب يكاد يقطر دمًا، ويتفطر تأثرًا وألمًا، وعلى عارضي دمع ينهل مدرارًا،
ويتسابق انحدارًا، ثم لا يلبث أن ينقلب نارًا، تذكى فيّ أوارًا، دمع كأني أحس
بسويداء قلبي تسيل في وليه، وسواد عيني يمتزج بأتيه، حتى لو استعملته مدادًا،
لرقم على هذا الطرس سوادًا، وذلك شأني منذ قرأت في جرائد طرابلس نعي ذلك
الشاب الغض والحس المحض، والأدب الموفي على الروض جمالاً، والخلق
المزري بنفحات الزهر أريجًا، والذكاء الذي يكشف أعقاب الخطوب، ويكاد يشق
حجب الغيوب، ويستجلي خواطر القلوب، فيا له من خطب رُزئت به الفضيلة
بجمالها، والمكارم بكمالها، والمروءة ببهجتها، والنجدة بمهجتها، ويا حسرة الأقلام
والمحابر، والكتب والدفاتر، وياما أطول أسفي على ذلك الفقيد، وما أشد إشفاقي
على قلب (السيد) كيف يحتمل المصاب به والصبر على نضرة شبابه، وهو أكثر
أشقائه جريًا في سبيل الإصلاح، وأقدرهم على مساعدته وتأييده، ولكن علمي
بمبلغ صبر السيد واحتماله، وثقتي بتمكنه في موقف الجهاد النفسي، واستهانته
بصروف الأيام، وزهده في متاع الدنيا الفانية، قد يهون بعض آلامي، وينهنه من
غلواء جزعي وإشفاقي، وهو ما هيأ لي سبيلاً إلى التقدم إليه بهذه التعزية الحزينة.
وأما أنت أيها الأخ الصالح [1] فإني أعلم رقة شعورك، وشدة تعلقك بالفقيد،
وضعفك عن احتمال المصيبة به، ولذلك كففت عن تقديم تعزية خاصة بك، جزعًا
من ذكر هذه الفاجعة، وإشفاقًا وكآبة وحزنًا، عزى الله قلبكما بفضله وألهمكما
الصبر الجميل، وجزاكما الأجر الجزيل، على أنني لست أغنى منكما عن التعزية
بهذا المصاب. وهبنا الله جميعًا جميل العزاء والسلوان، وعوض الفقيد على شبابه
بالرَّوْحِ والرَّيْحَانِ، وأعلى غرف الجِنان، وهو على فراقه المستعان.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الحافظ
(4)
وكتب الأستاذ الأكبر، بقية السلف الصالح، الشيخ عبد الرزاق البيطار
الدمشقي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} (البقرة: 155-157) والصلاة والسلام على فقيد الأوائل والأواخر، وعلى آله
وصحبه إلى اليوم الآخر.
أما بعد: فيا أيها الأخ العزيز الذي نحن شركاؤه في حزنه وبكائه، ونظراؤه
في كدره وأسفه وبلائه، إن المصائب تتفاوت في المقدار، والحوادث تختلف
باختلاف الأقدار، وعلى قدر المشقة يكون الثواب، ويضاعف الأجر بحسب
المصاب، وأنت وإن كنت أعلم منا بثواب الصبر، وما أعد الله للصابرين من
الثواب والأجر، ولكن لا بأس بالمذاكرة والتذكير، والقيام بأوامر السنة بلا فرق
بين جليل وحقير، فيا مولاي الجليل، هل - للخلق من خلاص ونجاة، مما حكم
به الحاكم المطلق وقضاه، وإني وايم الله حينما علمت بهذا الخطب دارت بي
الأرض دهشة وحيرة، وأظلمت الدنيا في عيني أسفًا وحسرة وكتبت معزيًا والقلم
هائم، والدمع هامٍ والكرب داهم، فيالها من مصيبة ما أعظمها، وداهية ما أفظعها
وأجسمها، وعلى كل حال ليس لنا سوى التسليم لولي الأمر، ولزوم الصبر، على
ما هو أمر من الصبر، وقد قال من له الأمر والشأن، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: 26) فالله يبقي لنا وجودكم جميعًا وينيلكم كل مراد ومرام، ويختم لنا
ولكم بجميل الإنعام وحسن الختام.
... ... ... ... ... ... ... حرر في 19 محرم سنة 1330
... ... ... ... ... ... عبد الرزاق البيطار
(5)
وكتب العالم الكبير، رب التصنيف والتحرير، الشيخ جمال الدين القاسمي
الدمشقي:
حضرة مولانا أوحد الأعلام -أطال الله في بقائه وبارك لنا في حياته-، وافانا
اليوم نبأ أذرف الدموع، وأطار الهجوع، وخطْب أورث الشجن، وأطال الحزن،
وأنزل بنا أعظم مصاب، وأرانا ما لم يكن بحساب.
أدهشني والله ما فجعني، حتى حرت كيف أعزي وأنا حقيق بأن أُعَزَّى، أم
كيف أتلو ما للصابر وأنا الجدير بما يُتلى، ولقد أبى القدر المحتم إلا أن يمثل في
المحرم فاجعة الحسين، وأن يجعل لنا - وإن لم نتشيع - من الشجو ضِعفين، فإنا
لله وإنا إليه راجعون، نسأله تعالى أن يُفرغ علينا الصبر، ويوفي لنا بعظيم مصابنا
الأجر، ويهب للسيد الأكبر من العمر أطوله، ومن العيش أكمله، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... فى 15 محرم سنة 1330
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الأسيف جمال الدين القاسمي
(6)
وكتب صاحب الفضيلة، والمزايا الجميلة، الشيخ مصطفى أفندي نجا مفتي
بيروت:
سلام الله على حضرة الأستاذ الجليل، أعظم الله أجره وأحسن عزاه بمنِّه
تعالى وكرمه. وبعد فإن نبأ الفاجعة الأليمة والمصاب العظيم، بصديقنا الأخ الكريم
قد جرح الفؤاد وأورثنا الأسف الشديد، وساء كل من عرف فضل هذا الفقيد
الأديب، والكاتب النجيب، عامل الله من اعتدى عليه بما يستحقه. وعلى كل
فالموت على العباد أمر محتم، والتسليم لله تعالى أولى وأسلم، والأستاذ حفظه الله
جدير بأن يتدرع لهذا الخطب الكبير بصبر أكبر منه، فإنا لله تسليمًا لأمره تعالى،
ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم أفض على الشهيد سِجال رحمتك، وأسكنه بفضلك
في عالي جنتك، وسهل لأسرته الكريمة سبيل الصبر، وتحصيل الأجر، إنك
سميع الدعاء.
... ... ... ... ... ... ... ... الفقير مفتي بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم)
(7)
وكتب صفوة أدباء بيروت أصحاب التوقيعات كتابًا مشتركًا قالوا فيه:
الأستاذ العلامة مولانا السيد محمد رشيد رضا أطال الله بقاءه
السلام على الأستاذ ورحمة الله وبركاته. وبعد فإنَّا نكتب واليد مرتجفة والقلب
يخفق والعين تدمع للرزء الجليل الذي أصيب به الأدب والفضل والخلق الكريم
والغيرة الصادقة. فكان هذا المصاب عامًّا لكل من عرف الفقيد رحمه الله ولم
تُخَصص بذلك أسرته الكريمة. فنتقدم بتعزية الأمة عمومًا ولفضيلتكم خصوصًا.
ألهمنا الله جميعًا الصبر وأعظم لنا ولكم الأجر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي القصاص
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن سلام
... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى الغلاييني
(8)
وكتب صاحبا الإمضاء من سروات بيروت وكبار وجهائها إلى السيد الحكيم
أدام الله بقاءه.
مصابنا بالحسين عظيم، ووقعه في قلوبنا أليم، وما لهذا الخطب العميم، إلا
جميل الصبر مما يعد من فضائل السيد الحكيم، الصادع بأمر ربه، الراضي بحكمه
وقضائه، فمنك وإليكم سنة التعزية، عظَّم الله أجركم، ويرحم الفقيد العزيز
وعوضنا ببقاء السيد خيرًا والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... 16 محرم سنة 1330
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي سنو
... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي حسن بيهم
(9)
وكتب الكاتب الخطيب الشهير الشيخ أحمد طبارة صاحب جريدة الاتحاد
العثماني في بيروت: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .
مولانا العلامة الأستاذ الرشيد:
تناولت القلم لأكتب للأستاذ تعزية بالشهيد الحسين، فتراءى لي هول المصاب
وتمثل أمامي فضل الفقيد، وأدبه الغض، وخلقه الكريم، فلم أدر ماذا أقول سوى
أني أدعو إلى الله تعالى بأن يفرغ على قلب الأستاذ الصبر الجميل، والأجر الجزيل
وأن يتغمد فقيدنا بوابل رحمته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... 19 محرم الحرام سنة 1330
... ... أحمد حسن طبارة
(10)
وكتب الأديب الفاضل، سليل بيت العلم والفضائل، في بيروت (وهو الآن
بمصر) .
حضرة السيد الفاضل النبيل حفظه الله.
أعرض أن المصاب بأخ الطرفين شقيق حضرتكم، لقد أصاب وايم الله كبدي
الفضل والنُّبل وأضاع الوطن بفقده شهمًا غيورًا وعاملاً بل أملاً كبيرًا نشأ في
حجري العلم والحكمة وشب متشبعًا بالأفكار السامية والمبادئ الراقية إلخ إلخ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد مصباح الحوت
(11)
وجاءنا من جمعية الإخاء الإسلامي ببيروت هذا الكتاب فنشرناه بعد حذف
رسوم الخطاب، فإن لم يكن على شطرنا في موضوعه فللجمعية معنى يتصل به
من وجه آخر، وليكن ختام ما ننشره من تعازي بيروت التي هي في مجموعها،
أعرف البلاد السورية بقيمة رجالها:
نبدي أن نبأ الفاجعة الأليمة بوفاة الشقيق قد ملأ القلوب أسفًا وحزنًا، وأسال
من العيون حزنًا، قضى رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه دار الكرامة مع الأخيار،
مضى في سبيل لا بد لكل حي من المسير فيه والمصير إليه بحكم مقدر الأعمار
لأجلها، والآجال لميعادها، فلا ينفع الفائت الحزن، ولا يرفع الهم غير الاعتصام
بالصبر، وكل ذلك لا يخفى على فضيلتكم، ومعالي إرشادكم أحسن الله لكم العزاء
ولقاكم من الصبر أكمله، ومنحكم من الأجر أجزله، ولا أراكم بعده ما تكرهون،
و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *} (البقرة: 156-157) .
... ... ... ... ... ... ... 20 محرم الحرام سنة 1330
... ... ... ... ... ... ... ... عن عموم أعضاء جمعية
... ... ... ... ... ... ... الإخاء الإسلامي في بيروت
رئيسها: محمود فرشوخ
(سنذكر في الجزء الآتي نموذجًا من تعازي سائر البلاد والأقطار)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو أكبر إخوته وأنفعهم وقد مات له غيره.
(2) إذا أطلقوا لفظ السيد يعنون به صاحب هذه المجلة.
(3) يريد خطاب شقيقنا السيد صالح.(15/97)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدولة العلية واليمن
نشر كاتب إنكليزي شهد حصار صنعاء في العام الماضي وعاد في هذه الأيام
إلى إنكلترة مقالة في التيمس وصف فيها ذلك الحصار وحالة البلاد في هذا الأوان ,
ترجمت جريدة المقطم خلاصتها، فرأينا أن ننشرها لتكون تتمة لما نشرناه من قبل
في مسألة اليمن قال الكاتب: (عقدت الحكومة العثمانية صلحًا غير مجيد مع الإمام
يحيى بعد ما رَشَتْ زعماء الثورة بالأموال الطائلة ووعدتهم بالإصلاح، فنال الإمام
بذلك أكثر مما كان يطمع فيه، وثبت في مركزه حاكمًا على قبائل الزيدية ولم تتغير
الحال في ما سوى ذلك عما كانت عليه قبل بدء القتال , فالأتراك يملكون صنعاء
وقد استرجعوا معظم المراكز التي كانوا يحتلونها في الماضي، والإمام يملك شهارة
وسائر المعاقل التي كانت له , وقد أطلق الإمام أخيرًا سراح خمسمائة أسير من
الجنود ولكنه لم يُعِدْ المدافع التي غنمها في هذه الثورة أو في ثوراته السابقة ,
واضطرت الحكومة أن ترسل خمسين ألف عسكري بقيادة عزت باشا وهو من أكبر
قوادها للحصول على النتائج التي مر ذكرها.
ولا يستطيع الواقف على حقيقة أحوال اليمن أن يقابل الأنباء التي وردت من
الآستانة عن استعداد الإمام لتقديم مئة ألف مقاتل ليحاربوا الإيطاليين في طرابلس
الغرب إلا بالابتسام. ذلك؛ لأن سلطة الإمام اسمية أكثر مما هي فعلية؛ ولأن
الحكومة العثمانية تعجز عن نقل هؤلاء المتطوعين إلى ساحة الحرب. فالإمام إذًا
في حِلّ من ذلك ولا تثريب عليه إذا لم يبر بوعده.
قد أتيح لي أن أكون في صنعاء لما كان الإمام محاصرًا لها وظل الحصار من
شهر يناير إلى أواخر شهر إبريل من العام الماضي. وكان عدد الحاصرين يتراوح
بين عشرة آلاف وخمسين ألف مقاتل. ولو هجم الثوار على المدينة بغتة لتيسر لهم
فتحها عنوة؛ لأن حاميتها - وكانت مؤلفةً من خمسة آلاف من المشاة وبعض
الفرسان ونحو 30 مدفعًا - لم يكن في استطاعتها الدفاع عن السور الذي يبلغ
محيطه اثني عشر كيلو مترًا. ويقال: إن الإمام كان عازمًا على إتيان ذلك وأعد
السلالم اللازمة لتسلق الأسوار ولكن المقربين إليه ثنوه عن عزمه.
وقد أنفق الفريقان مقدارًا عظيمًا من الذخائر سدى، ولم يحتدم وطيس القتال
إلا لما دنا عزت باشا بجيشه من صنعاء فكانت الحامية تخرج من المدينة حينئذ
وتهاجم الثوار فتنشب بينهما معارك شديدة يخسر فيها الفريقان خسارة جسيمة.
وكان الثوار مسلحين ببنادق موزر من عيار 74 وغني عن البيان أن هذه
البنادق شديدة الفتك، ولقد كانت الذخائر متوفرة عندهم وإلا ما استطاعوا أن يطلقوا
على الأسوار نارًا حامية أكثر من ثلاثة أشهر، ومما يستغرب في هذا الأمر أن
البنادق والذخائر في شبه جزيرة العرب أرخص منها في أوروبا، ولم يستعمل
الثوار المدافع العديدة التي غنموها من الأتراك كثيرًا؛ لأنه ليس بينهم من يحسن
الرماية بها؟ ؛ ولأن معظم الذين تصيبهم قنابلها داخل المدينة هم من إخوانهم
وأتباعهم.
وحدث أنه لما عصفت ريح الثورة خرج بعض الجنود المحليين من العرب
من المدينة وانضموا إلى الثوار فشدد ولاة الأمور على من تخلف من هؤلاء الجنود
واعتقلوهم هم وسائر الذين اشتبهوا فيهم من الأهالي إلى أن انتهى الحصار، ولم
يشددوا إلا في هذا الأمر وتجاوزوا عن سيئة الذين سعوا في نسف الثكنات، ويأوَّل
تسامحهم هذا بخوفهم من قيام العرب عليهم إذا سقطت صنعاء وانتقامهم منهم
وحرصهم على حياة الجنود الكثيرين الذين أسرهم العرب.
وزحف عزت باشا بجيشه من الحديدة على داخلية البلاد من غير أن يلاقي
المقاومة التي كان يتوقعها، نعم إنه قاتل كثيرًا في طريقه، ولكن الثوار لم يدافعوا
عن معقل من معاقلهم العديدة بين الحديدة وصنعاء مدافعة تستحق الذكر، وقد دلت
النتائج على أن تقاعدهم عن مقاومة الجيش كانت حكمة من الإمام وليس جبنًا منه
ومن رجاله، ولما بلغ الجيش صنعاء رأى أنه لا يستطيع أن يخطو إلى ما وراءها،
ولم تكن خسارته في الحرب عظيمة ولكن الأوبئة فتكت به فتكًا ذريعًا، وزد على
ذلك أنه لقي في طريقه مشاقَّ وصعابًا وأنفق مالاً كثيرًا في الانتقال من مكان إلى
مكان، وشاع بعد رفع الحصار أن الجيش كان ناويًا التقدم، إلى شهارة، ولكن
عرب السواحل استأنفوا القتال الذي انتهى بواقعة جيزان المشئومة فحال ذلك دون
إخراج هذا العزم واضطر ولاة الأمور أن يسرعوا بمفاوضة مشايخ عرب الجبال
ليشتروا خضوعهم وولاءهم بالمال.
ويستدل من هذه النتائج السلبية أن الحكومة العثمانية لا تستطيع إخضاع اليمن
إخضاعًا تامًّا وأن الأسباب التي تمنع الإدريسي من الاتحاد مع الإمام , وهي
اختلافات دينية - تمنعه أيضًا من الاتفاق مع الحكومة، هذا وإن منع تكرر الثورات
في تلك البلاد ضرب من المحال إلا إذا نزع السلاح من الأهالي ولكن الحكومة بدلاً
من أن تفعل ذلك مكنت العرب من غنم عدد عظيم من البنادق وبعض المدافع من
جيشها وهم يرفضون الآن ما تعرضه عليهم من الاقتراحات لرد هذه الأسلحة أو رد
بعضها رفضًا باتًّا.
وعلاوةً على ما تقدم فإن التغلب على البلاد الجبلية في اليمن محفوف بأخطار
ومصاعب جمة إذا كانت الحال ملائمة لذلك؛ لأن البلاد وعرة المسالك تتخللها
الجبال والهضاب من جميع الأنحاء فتجعل المواصلات أمرًا صعبًا جدًّا إن لم نقل
محالاً، وفيها كثير من المعاقل الطبيعية ويسكنها قوم أشداء عُرفوا بالبسالة والإقدام؛
لأنهم شبوا على الحرب وشن الغارات؛ ولأنهم مستكملو العدة والسلاح، نعم إن
التمرس والتدرب على القتال يعوزانهم ولكنهم متحدو الكلمة تراهم قلبًا واحدًا ويدًا
واحدة في الذود عن كل ما يوجب إذلالهم وإخضاعهم) اهـ.
(المنار)
يعتقد الكاتب أن الدولة لا تستطيع إخضاع اليمانيين بالقوة، ثم هو ينصح لها
بأن تأخذ منهم أسلحتهم فكأنه ينصح لها بأن تستمر على إنفاق الملايين مما تقترضه
من أوربة بالربا الفاحش وعلى بذل دماء الألوف من المسلمين كل عام لأجل أن
يهلك الفريقان ويكونا غنيمة باردة للطامعين فيهم جميعًا. ولو كان مخلصًا في
نصحه لاستنبط من علمه واختباره أنه يجب على الدولة وهي لا يمكنها إذلالهم
وإخضاعهم أن ترضى بأن يتولوا أمور أنفسهم بمساعدتها تحت سلطتها وأن تؤلف
منهم قوة يحمون بها بلادهم من الأجانب إذا اعتدوا عليها ويكونون عونًا للدولة عند
الحاجة إليهم. فحسبها أنها حاربتهم أربعة قرون وخسرت في ذلك الملايين من
الرجال وبذر المال، ولم تستفد في مقابلته شيئًا قط.
__________(15/106)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسي
إلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة
المنشور الذي نشره في القبائل
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا
إنه من عبد ربه سبحانه أحمد بن السيد محمد الشريف بن السيد علي السنوسي
الخطابي الحسني الإدريسي إلى كل واقف عليه من عموم المسلمين خصوصًا البلاد
التي استولى عليها أعداء الدين.
الحمد لله العزيز الجبار، والصلاة والسلام على من أطال عز الدين بالبتار،
وعلى آله الأنصار، القائمين بواجب {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ} (التوبة:
123) الصادقين ما عاهدوا الله عليه، الذائقين من حلاوة الشهادة ما أحبوا مفارقة
النعيم المقيم للرجوع إليه.
أما بعد إهدائي أطيب السلام، والدعاء لثبات الإقدام بثبات الأقدام، اعلموا
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) ،
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} (التوبة: 111) وجاهدوا متخذين نصره سيفًا وولايته جُنَّة،
واسمعوا ما نبهكم به على الوفاء بتسليم المبيع من الوعد بالربح الجسيم، في قوله:
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ
العَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (الصف: 13) واحذروا ما توعدكم به المماطل من العذاب والتدمير في قوله:
{مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ
الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} (التوبة: 38-40) .
واعلموا أن الأجل محتوم، فما خائض المعركة ميت إلا به، ولا القصور
المشيدة مانعة ملائكة الموت عن ساكنها، فما أصاب لم يكن ليخطئ، وما أخطأ لم
يكن ليصيب، على أن الموت في الجهاد هو منتهى أرب اللبيب، إذ هو الحياة
الحقيقية، وكمال المنزلة بالرزق في مقام الحضرة الربانية، فلهذا آثره من ينفرد
في الدنيا بعز الخلافة على ما هو فيه، فكيف بمن به يكون خلاصه من أسر الأعداء
وسبيهم نساءه وأولاده وما يحميه.
واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الشهيد لا يجد الموت إلا
كالقَرْسِ لما هو به مشغوف، يجد ريح الجنة، وتتراءى له الحور إذا أثخن. وقد
قال (أنس بن النضر) في وقعة أحد (واهًا لريح الجنة. إني لأجد ريحها دون أحد)
ثم انغمس في المشركين حتى قتل.
ولا تصدنكم عن جهادكم كثرة عدد ولا عدة، فإن قوة الإيمان يتلاشى في
جنبها كل عدد، فجموعهم المعسكرة مكسرة، وعزماتهم المؤنثة مصغرة، وإن
كانت ذواتهم مذكرة مكبرة، وقد وعد الله ناصره بالنصر والتثبيت، والعدو بالتعس
والتشتيت، ولا ترتدُّوا على أدباركم، لضعف من بعض أمرائكم، فإن المرء لو
جاهد لله وحده، لصدق وعده، وأعز جنده، بل جاهدوا ولو فرة، واثبتوا ولو مرة،
فقد كان في الغزوات، يتداول الرايات الجماعات، كلما حيي أمير أخذها الآخر
لينال المرام، وفى الحديث الحث على الجهاد مع كل إمام، فلا تنكسرن قلوبكم لقلة
عدد، ولا تجبنوا لضعف مدد، بل ليقاتل أحدكم ولو وحده، منتظرًا بالنصر وعده،
فقد قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249)
والأحاديث في الترهيب من ترك الجهاد والترغيب فيه لا يحاط بها كثرة، من
الأول (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط
الله عليكم ذلاً لا يُنزع عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) أي الواجب عليكم من جهاد
الأعداء والإغلاظ عليهم وإقامة الإسلام ونصرة الدين وآله وإعلاء كلمة الله وإذلال
الكفر وأهله. ومنه (إن ترك الجهاد خروج عن الدين) إذ لا يرجع إلى الشيء إلا
من خرج عنه. هذا في الجهاد الكفائي فكيف بالجهاد الذي تعيَّن بمفاجأة العدو [1] .
وإذا كان القاعد عنه خارجًا عن الدين فكيف بمن يبايع الكفار بحُطام على قتال
المسلمين وكتابة نفسه في جندهم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (من غزا غزوة في سبيل الله فقد أدى إلى الله جميع طاعته
{فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} (الكهف: 29) قال:
قيل يا رسول الله بعد هذا الحديث الذي سمعناه منك من يدع الجهاد: (قال: من
لعنه الله وغضب عليه وأعد له عذابًا عظيمًا. قوم يكونون في آخر الزمان لا يرون
الجهاد، وقد اتخذ ربي عنده عهداً لا يُخلفه: أيُّما عبد لقيه وهو يرى ذلك أن يعذبه
عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) وفى مسلم (من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه
مات على شعبة من النفاق) ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله أي
الناس أفضل (مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) وفيه أنهم قالوا يا رسول الله:
ما يضحك الرب من عبده؟ قال (غمسه يده في العدو حاسرًا) وفيه (إن درجات
المجاهدين إلى مائة درجة في الجنة ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) .
فالله الله عباد الله، خلصوا أنفسكم وأعراضكم من أيدي الكفار، واغسلوا يا
ذوي الهمم ملابس مروءتكم من العار، وجاهدوا بالأنفس والأموال، فدرهم الجهاد
بسبعة آلاف، وكونوا كرجل واحد في التعاون والائتلاف، وأبشروا بنصر من الله
وفتح قريب فما أمر بالجهاد إلا ليهدي السبيل ولا حرَّك الألسن بالدعاء إلا ليجيب،
ولا تقر نفس منكم قرارها، حتى تضع الحرب أوزارها، وليكن همُّ كل منكم وهواه
قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. فالمثابرة المثابرة فما هي إلا القليل ,
وإن قيل إنهم {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الوَكِيلُ} (آل عمران: 173) فهم عما قليل مدحورون، وهذا إبان إعطاء
جميعهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون فلا يوجبن لكم -ما المسلمون فيه الآن- جبنًا
ولا تقصيرًا، فالله ولي الذين آمنوا {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} (النساء: 45) واصبروا فإن الفرج قريب، وإني إن شاء الله قادم إليكم عن
قريب، وعليكم منا أتم السلام.
__________
(1) يراجع القارئ ص 928 من المجلد الرابع عشر يرَ في أولها أننا توقعنا هذا البيان من السنوسية في المقالة السابعة من مقالات المسألة الشرقية التي كتبناها في أواخر شوال ثم ليراجع المقالة العاشرة والبحث في هذه المسألة فيها.(15/109)
الكاتب: جبر ضومط
__________
اللغة العربية
بحث تاريخي فلسفي في موطن العربية المضرية
ونسبتها إلى أخواتها من اللغات السامية [*]
أيها السادة والسيدات: اللغة العربية فرع من أرومة تعرف بالأرومة السامية
ومن فروع هذه الأرومة اللغات الآتية وهي: البابلية القديمة وتعرف بالأشورية
أيضًا، والأرامية (وهي السريانية) والعبرانية الفينيقية، والحميرية، والحبشية أو
الأثيوبية. إلا أن العربية من بين هذه الفروع هي أمدها أغصانًا وأملاها جذمًا
وأورفها ظلاًّ وأنضرها أوراقًا وأطيبها ثمرًا يانعًا شهيًّا.
وعلماء اللغات الغربيون يقولون: إن أرومة هذه الدوحة السامية انشعب منها
فرعان اثنان فرع شمالي وفيه اللغة البابلية القديمة، والأرامية والعبرانية الفينيقية،
وفرع جنوبي وفيه العربية المضرية والسبئية والسقطرية والمهرية والأثيوبية (أو
الحبشية) .
وصحح العلامة أرثر نولدكي على ما في دائرة المعارف البريطانية الأخيرة
سنة 1911 هذا التقسيم فجعل اللغة البابلية القديمة فرعًا مستقلاًّ بنفسه وجعل الفرع
الثاني ينشعب إلى جذمين شمالي وجنوبي وجعل في الشمالي الأرامية، والعبرانية
الفينيقية، وجعل في الجنوبي العربية المضرية، والسبئية، والسقطرية، والحبشية
أو الأثيوبية.
هذا ما يراه العلماء الغربيون في تقسيم اللغات السامية وتفرعاتها عن الأم التي
نشأت منها. ولهم في موطن هذه الأم السامية الأصلي آراء ثلاثة الأول أن موطنها
أفريقيا، والثاني أنه العراق وما يجاور الخليج الفارسي من أعلاه إلى اليمين
والشمال، والثالث أنه شبه جزيرة العرب , أما الرأي الثاني فرأي العلامة الأستاذ
جويدي صاحب المحاضرات المشهورة في الجامعة المصرية في العام الفائت , وأما
الرأي الأول فالظاهر من كلام العلامة نولدكي أنه من القائلين به أو الذاهبين إليه ,
وأما الثالث فيقول فيه هذا العلامة: إنه مما ذهب إليه فريق من العلماء الباحثين ولكنه
لا يسمي أحدًا من الذين يقولون به , ومع أنه يقول في هذا الرأي: إن عليه مسحة
من القبول وفي الظواهر ما يعضده، يعود فيعطف على مقاله هذا ما يُشْتَمُّ منه
تضعيفه والجرح فيه. راجع مقالة هذا العلامة النفيسة المدرجة في المجلد الرابع
والعشرين من دائرة المعارف البريطانية الطبعة الأخيرة سنة 1911 وجه 620 إلى
630.
***
عود إلى تفريع اللغات السامية
قلنا: إن علماء الغربيين يفرعون الدوحة السامية العظمى إلى فرعين كبيرين
شمالي وجنوبي ويشعبون من الفرع الشمالي البابلية القديمة والأرامية والعبرانية
الفينيقية، ومن الجنوبي العربية العدنانية المُضرية والسبئية والمهرية والسقطرية
(نسبة إلى مهرة وجزيرة سقطرة) والإثيوبية ويندرج تحت الإثيوبية الحبشية
والأمهرية. وقد ذكرنا أيضًا تصحيح العلامة نولدكي لهذا التفريع أي أنه جعل
البابلية القديمة فرعًا مستقلاً بذاته وجعل ما سواها من بقية اللغات السامية في الفرع
الثاني وشعب من هذا الفرع شعبتين أو جذمين شمالي وجنوبي على ما مر بنا.
ولم أر سندًا لما ذكره هذا العلامة إلا ما بين اللغات من التقارب والمشابهات
في الألفاظ المفردة والاشتقاقات الصرفية وما يلحق ذلك من التراكيب وأدوات
المعاني ولا سيما أدوات وطرق التعريف والتنكير، وقد أغفل الوجه التاريخي تمام
الإغفال. والذي يظهر لي أن إغفال الوجهة التاريخية نقص في البحث وأنه لو تُنبه
إليها وأضيفت مآخذها إلى مآخذ الأبحاث اللغوية الصرفة لكان فيما يستنتج من
مجموع وجهتي البحث ما يضعف آراء القوم في التقسيم والتفريع ويضعف أيضًا
تصحيح العلامة نولدكي.
وعندي أنه لو أضفنا إلى ما نعرفه من التشابه والتقارب بين الألفاظ
والمشتقات وضروب التراكيب النحوية والإضافية وطرق التعريف والتنكير ما
نعرفه من النقول التاريخية والتقاليد العمومية المتعارفة لأدى بنا ذلك إلى التقسيم الآتي
وهو أن الدوحة السامية العظمى تنقسم إلى فرعين كبيرين هما الفرع القحطاني
والفرع العادي، وأن الفرع الأول أي القحطاني تشعب منه الأرامية والحميرية
والحبشية، وأن الثاني أي العادي انشعب منه البابلية القديمة والعبرانية الفينيقية
والعربية العدنانية المضرية. وأما السبئية التي يشير إليها العلامة نولدكي فإن كان
يراد بها لغة بلاد سبأ أي البلاد التي عاصمتها مأرب ذات السد المشهور، فالتاريخ
يعارض قول هذا العلامة وينافيه؛ لأنه يشير إشارة لا تقوى على معارضتها (إلى)
أن لغة هذه البلاد كانت منذ الجيل الأول للمسيح لحد هذه الساعة لغة عربية
مُضَرية وسنقيم الدليل على ذلك. وعليه فالأرجح أن هذه اللغة السبئية التي يقولها
هذا العلامة إنما هي الحميرية القحطانية يخالطها شيء من العربية المضرية بما
يتخيل معه أنها شعبة من الجذم العربي العادي. وأما لغة مهرة وسقطرة فخليط من
الحميرية والحبشية ولا يبعد أن يكون بين ألفظاها بقية كبيرة من اللغة السبئية
العادية العدنانية التي زعمها العلامة نولدكي قسيمة للعربية وما هي قسيمة لها وإنما
هي لهجة أو لغة من لغاتها على الأرجح.
***
مهد اللغة السامية أو وطنها الأصلي
قبل إقامة الدليل التاريخي على ما ذكرناه في شأن لغة سبأ أي أنها لغة ولهجة
من لهجات العربية وبعبارة أخرى أن أهل بلاد سبأ كانوا يتكلمون العربية المضرية
من (زمن) سيل العرِم إلى الآن. وقبل أن أذكر الدليل في إثبات أن فرعي الأمِّ
السامية هما القحطانية والعادية ومنهما تفرعت بقية اللغات السامية الأخرى لا بد لي
من الرجوع إلى الكلام عن موطن اللغة السامية الأصلي ومهدها الذي ربيت فيه
فأقول:
وجدنا اللغات السامية في البلدان الآتية:
1- في شمالي أفريقيا على شواطئ المتوسط من الشام شرقًا حتى تصل إلى
بوغاز جبل طارق والأتلانتيكي غربًا ويشتمل ذلك على برقة وطرابلس الغرب
وتونس والجزائر وبلاد مراكش.
2- في مصر وما يليها جنوبًا من بلاد الإثيوبيين أو ممالك الحبشة.
3- في جزيرة العرب وما والاها من فلسطين وسوريا حتى تصل آسيا
الصغرى.
4- في بادية الشام والعراق من رأس الخليج الفارسي جنوبًا حتى تصل
المُوصل وديار بكر شمالاً، وليس في التاريخ ولا في الآثار ولا في التقاليد
المتناقلة ما يشير أدنى إشارة إلى أنها كانت في غير هذه البلدان.
هذه هي البلدان التي عاشت فيها الأمم التي تكلمت اللغات السامية لم يعرف
عنها قط أنها كانت في غيرها من البلاد اللهم إلا حيث كانت المستعمرات الفينيقية
لكنها لم تثبت هناك، بل انقرضت حالاً عند انقراض المستعمرين وتغلب من
حواليهم من الأمم عليهم، ولا شك أن مهد السامية لم يتجاوز البلدان التي ذكرناها
ولا بد أن يكون في إحداها، وعلى هذا أجمع أرباب البحث من علماء اللغات
والتاريخ قديمًا وحديثًا على ما أعلم وهو ظاهر قول العلامة نولدكي أيضًا.
قلنا فيما مر: إن هنالك آراء ثلاثة في موطن السامية، الأول أنه أفريقيا
والثاني أنه جزيرة العرب والثالث أنه العراق أو إقليم بابل وما يليه من بلاد
الآشوريين. فلننظر في كل من هذه الآراء واحدًا واحدًا ولا شك أن الرأي الذي
تتوفر فيه الأدلة التاريخية والعقلية هو أولى من صاحبيه بالقبول، دعونا ننظر أولاً
إلى بلدان شمالي أفريقيا ونسأل تقاليد أهلها عن أهلها من أين جاءوا؟ إن البربر
وأعني بهم سكان شمالي أفريقيا من الذين كانوا يتكلمون باللغة السامية ولا يزالون
يتكلمون بها إلى الآن يرفضون بتاتًا أن يكون أصلهم من زنوج أفريقيا، ويصلون
أنسابهم بأنساب العرب وأهل اليمن والشام، والقول المعتبر في ذلك إنما هو قول
العلامة ابن خلدون صاحب التاريخ المشهور، فراجع ما نقله في أنساب البربر -
المجلد السادس طبعة بولاق من صفحة 89 إلى 98.
إن الواقف على ما يذكره هذه العلامة في أنساب القوم لا يشك أنهم جاءوا إلى
تلك البلاد الواسعة من الشام والبلاد العربية، ولا أقول: إن البربر استعمروا بلادهم
ابتداء لم يكن فيها قبلهم أحد من الأمم ولكني أقول: إن هؤلاء الذين جاءوا البلاد
ولغتهم من الدوحة السامية جاءوا من الشام وجزيرة العرب فتغلبوا مع الأيام على
أهل البلاد، وصارت إليهم الدولة والسلطة واختلطوا مع من غلبوهم بالزواج
فصاروا من ثمَّ جميعهم (الغالبون والمغلوبون) ينتسبون إلى الأمم التي كان منها
الغالبون، لا أستطيع أن أنقل كل ما ذكره العلامة ابن خلدون في أنساب البربر
ولكني أنقل ما جاء له في الجزء الثاني من تاريخه (وجه 51 طبعة بولاق) قال:
قال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحارث الرائش وهو الذي
ذهب بقبائل العرب إلى أفريقيا وبه سُميت وساق إليها البربر من أرض كنعان مر
بها عند ما غلبها يوشع وقتلهم فاحتمل الغل منهم فساقهم إلى أفريقيا فأنزلهم بها -
ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى
الآن بها وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعودي وابن
الكلبي والسهيلي وجميع النسابين. انتهى النقل، ويظهر من هذا الذي نقلناه ومن
كثير أمثاله أن التبابعة أجلوا غير مرة العرب وأهل كنعان إلى بلاد المغرب وأقاموا
مهاجرًا فيها لقبائلهم من سبأ وحمير.
ولا أحتاج أن أذكر جاليات الصيدونيين والصوريين إلى تلك البلاد فإن الحالية
منهم التي استعمرت قرطاجنة ومن ثم صار لها الغلب على كل شمالي أفريقيا سنينًا
طويلة هي أشهر من أن تذكر، وكادت دولتهم هناك أن يكون لها الغلب على أشهر
الممالك المعروفة حينئذ لو لم تسبقها رومية العظمى إلى ذلك، وبناء على هذا
جميعه أعيد ما قلته من أن التقاليد والتواريخ كلها تشير إلى جهة واحدة وهي أن
الأمم السامية هم دخلاء على شمالي أفريقيا وقد جاءوا إلى هناك من الشام وجزيرة
العرب، فليس شمالي أفريقيا إذن موطنًا للسامية ولا يعقل أن يكون هناك أيضًا.
فرغنا الآن من الكلام عن شمالي أفريقيا، بقي علينا مصر والحبشة , أما
مصر فلم أسمع عمن ذهب إلى أنها موطن السامية الأصلي وهذا مما يغنيني على
الإطالة وإقامة الدليل على أمر يُنازع فيه، ومع ذلك أقول: إن الأثري والمؤرخ
الشهير العلامة رولسن يرجح أن التمدن المصري القديم ليس أصليًّا فيها إنما جاءها
عن العراق وبلاد العرب، ومن المشهور في الآثار والتواريخ العربية أن دولة
الرعاة في مصر وكانت سامية جاءتها من البلاد العربية، بقي علينا بلاد الحبش -
وعامة المحققين وعلماء اللغة لا يشكون في أن الحبشة هؤلاء أعني الذين يتكلمون
بهذه اللغة السامية هاجروا إليها من البلاد العربية، ومثل ذلك أقول في الأمهريين إن
لم يكن قد قيل فيهم ذلك من قبل، والفرق بينهم وبين الحبشة أن الحبشة نزحوا
جماعة كبيرة، وأما أولئك فكانوا قلائل في العدد وباختلاطهم مع الزنوج غلبت
عليهم وعلى لغتهم ملامح هؤلاء وألفاظ لغتهم وكثير من عباراتها وتراكيبها ولكن لم
تقو لغتهم الزنجية على إزالة الأصل السامي فبقي من آثاره ما يدل عليه بعد التنقيب
وإمعان الروية، وأرى أن العقل لا يستطيع الحكم بأن هؤلاء الساميين بقوا ما بقوا
في أفريقيا وكانوا ما كانوا ثم خرجوا عن بَكرة أبيهم من موطنهم الأصلي في بلاد
الزنوج ولم يتركوا أثرًا هناك يدل عليهم أصلاً، إن هذا الرأي لا يُقبل إلا مع
البرهان الراجح إن لم نقل البرهان القاطع للشك والنافي للاحتمال.
بقي علينا بلاد العراق من الخليج الفارسي إلى الموصل وديار بكر -
والباحثون على اتفاق بينهم أن الآشوريين جاءوا من بابل وأن لغة الآشوريين ولغة
قدماء البابليين واحدة، والآثار البابلية تقول إن أصحاب آثارها من الذين تكلموا بهذا
اللسان السامي لم يكونوا أصليين في البلاد وإنما كان قبلهم قوم على جانب عظيم من
التمدن، وكان لهم لغة لكن من غير الأرومة السامية وعلى جانب من الارتقاء، فلما
تغلب عليهم هؤلاء الساميون أخذوا عنهم الكثير من آدابهم وترجموا لغتهم
ومكتوباتهم إلى لغتهم السامية، والمأخوذ من هذا عقلاً والواجب اعتماده أيضًا أن
الساميين أو السامية جاءت إلى العراق وبابل من مكان آخر وكان أهلها غزاة فاتحين،
ولا أقرب إلى العقل من أن يكونوا نزحوا إلى هناك من الجزيرة العربية فإن
المشاهد والمعروف في كل العصور التاريخية إلى الآن أن هؤلاء أعني أهل
الجزيرة العربية كانوا يهاجرون من سائر أنحائها إلى الشام والعراق يستوطنون
هناك تجارًا أو زرّاعين يحرثون الأرض ويربون المواشي وإذا وجدوا نهزة للتغلب
والتسلط على مجاوريهم انتهزوها.
***
رجوع إلى تقسيم اللغات السامية
الأرومة السامية تتشعب إلى فرعين: القحطاني والعادي
ظهر لنا مما مرَّ أن البلاد العربية هي موطن السامية والساميين أي المتكلمين
بالسامية (سواء كانوا ساميين أو حاميّين في النسب) فننظر إلى ما في شبه جزيرة
العرب من اللغات فإن كان هناك لغة أو آثار لغة واحدة لا غير فتلك اللغة هي
الأرومة السامية الكبرى وإن كان هناك لغتان فاللغتان هما الفرعان اللذان انشعبا من
الأرومة الكبرى.
إن التقاليد العربية والتواريخ المكتوبة الباقية عندنا إلى اليوم تذكر أن قد كان
في شبه جزيرة العرب لغتان هما القحطانية والعادية. وأن القحطانية كانت بين
السريانية والعبرانية وهي أميل إلى السريانية كما نرجح. وبيانه - قال المسعودي:
وكان الهيثم بن عدي الطائي يقول إسماعيل تكلم بلغة جُرهُم؛ لأن إسماعيل كان
سرياني اللسان على لغة أبيه خليل الرحمن حين أسكنه هو وأمه هاجر بمكة على ما
ذكرنا فصاهر جرهم ونشأ على لغتها ونطق بكلامها ونزار تأبى أن يكون إسماعيل
نشأ على لغة جُرهُم ويقولون: إن الله عزَّ وجل أعطاه هذه اللغة - إلى أن يقول:
ووجدنا ولد قحطان بخلاف لغة ولد نزار بن معد - ويقول: وقد وجدنا (قحطان)
سرياني اللسان وولده (يعرب) بخلاف لسانه. (راجع المسعودي مجلد أول وجه
192 طبع المطبعة الأزهرية المصرية سنة 1353) . وقال العلامة ابن خلدون:
وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية - وقيل إنما نزلت
جرهم الحجاز ثم بنو قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن فلم يزالوا بمكة
إلى أن كان شأن إسماعيل عليه السلام ونبوته فآمنوا به وقاموا بأمره وورثوا ولاية
البيت عنه حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة فخرجت جرهم من مكة ورجعوا إلى
ديارهم باليمن إلى أن هلكوا (ابن خلدون مجلد ثان وجه 30 طبعة بولاق) .
وقال العلامة ابن هشام إنهم وجدوا في ركن الكعبة كتابًا بالسريانية قرأه لهم
رجل يهودي (راجع سيرة ابن هشام جزء 1 وجه 66 طبعة بولاق) .
يظهر من النقول التي أوردناها أن الإمامين ابن خلدون والمسعودي متفقان
على أن جرهم قحطانية وكانت ديارهم اليمن أولاً (وهذا نص ابن خلدون) إلا أن
الإمام المسعودي يقول: إن لغة جرهم السريانية، وأما ابن خلدون فيقول: إنها
العبرانية، وأرى أن التوفيق بينهما إذا قلنا: إن القحطانية أقرب إلى السريانية سهل
؛ لأنه يمكننا حمل العبرانية في كلام ابن خلدون على اللغة التي كان يتكلم بها اليهود
في أيامه وهي السريانية أو العبرانية البابلية. وإذا كانت القحطانية هي السريانية
القديمة أو لغة قريبة منها فيترجح عندنا بل ينبغي أن تكون الحميرية التي خلفت
القحطانية، وبقيت في الجزيرة العربية في اليمن إلى الجيل الثالث بعد الهجرة -
على ما نصه العلامة الهمداني [1] قريبة من السريانية أيضًا وأرجح أن قد بقي أثر
كبير من هذه الحميرية في مخلاف حضور وحوالي مدينة ظفار إلى اليوم وفي
الشحر وسواحل حضرموت أيضًا.
قلنا: إن لغات شبه جزيرة العرب لغتان القحطانية الأولى، وقد خلفتها
الحميرية التي بقيت في اليمن إلى الجيل الرابع بعد الهجرة على ما نص العلامة
الهمداني كما أشرنا قبيل الآن، والعادية وهي العربية الأولى، وأهلها من عاد
وثمود وطسم وجديس والعماليق هم العرب العاربة، وقد انقرضوا على ما يقولون
وخلفهم العدنانيون أو النزاريون في أغلب مواطنهم التي كانوا فيها تكلموا بلغتهم.
ولغتهم أى العدنانيين هي هذه اللغة العربية المضرية لغة القرآن والحديث والمعلقات
وغيرها من الشعر العربي المشهور. ونسبتها إلى العربية الأولى لغة عاد وثمود
كنسبة الحميرية إلى القحطانية الأولى على ما أرجح.
دعوني أنقل ما ذكره الطبري في هؤلاء العرب العادية وفي لغتهم ومواطنهم
وسأختصر في النقل ما استطعت. قال رحمه الله - فعمليق أبو العماليق كلهم أمم
تفرقت في البلاد وكان أهل المشرق وأهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل
مصر منهم. ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، ومنهم كانت
الفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وأهل عمان منهم أمة يسمون جاسم , وكان
ساكنو المدينة منهم - وأهل نجد منهم - وأهل تيماء منهم. وكان ملك الحجاز منهم
بتيماء واسمه الأرقم وكانوا ساكني نجد مع ذلك - فكانت طنم وعماليق وأميم
وجاسم قومًا عربًا لسانهم الذي جبلوا عليه لسان عربي - وولد إرم بن سام بن نوح
عوض بن إرم وغاثر بن عوص وعاد بن عوص وعبيل بن عوص، وولد غاثر
بن إرم ثمود بن غاثر وجديس بن غاثر وكانوا قومًا عربًا يتكلمون بهذا اللسان
المضري، فكانت العرب تقول لهذه الأمم العرب العاربة؛ لأنه لسانهم الذي جبلوا
عليه، ويقولون لبني إسماعيل بن إبراهيم العرب المتعربة؛ لأنهم إنما تكلموا بلسان
هذه الأمم حين سكنوا بين أظهرهم , فعاد وثمود والعماليق وأميم وجاسم وجديس
وطسم هم العرب. فكانت عاد بهذا الرمل إلى حضرموت واليمن كله، وكانت ثمود
بالحِجْر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، ولحقت جديس بطسم فكانوا
معهم باليمامة وما حولها إلى البحرين واسم اليمامة , إذ ذاك جوّ ٌ، وسكنت جاسم
عمان فكانوا بها.
(انظر الطبري مجلد 1 وجه 213 و214 و214 طبع ليبسك)
يظهر مما نقلناه عن هذا المؤرخ الثقة الصلة التامة في اللغة بين هذه القبائل
البائدة وأشهرها عاد وبين القبائل العدنانية الباقية إلى اليوم وأشهرها كان بعد قريش
قيس وتميم. ويظهر منه أيضًا الصلة بين أهل نجد والحجاز وبين الكنعانيين في
الشام فإنهم جميعًا من العمالقة. ومن الصلة بينهم في النسب نستنتج الصلة في اللغة
وعليه فتكون العربية والعبرانية من فرع واحد؛ لأنها أي العبرانية الفينيقية
والكنعانية من فرع واحد إن لم يكونا لغة واحدة. ويظهر منه أيضًا البلدان التي
احتلتها هذه القبائل، فإن عادا نزلت الأحقاف إلى حضرموت واليمن كله، وثمود
الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وطسم وجديس اليمامة وما حولها
إلى البحرين، وجاسم عمان والعمالقة نجدًا والحجاز وتيماء، فما كان صالحًا للفلح
والزرع فلحوه وزرعوه وما كان في طريق التجارة أقاموا فيه محطات لها من خليج
فارس شرقًا إلى أيلة وبحر الشام، غربًا ومن حضرموت واليمن جنوبًا إلى برية
الشام وفلسطين شمالاً، فكانت من ثم مواطنهم لذلك الحين من أحسن النقط التجارية
. ولذلك كثر غناهم وعظمت دولتهم وأصبحوا مضرب مثل عند من خلفهم في الغني
والقوة والعظمة وتناقلوا عنهم لعظم آثارهم أخبارًا هي أشبه بأخبار القصاص
الموضوعة للتسلية والإغراب منها بالإخبار الممكن أن تقع، فإنهم نسبوا معظمها
إلى الجن وتسخير القوات غير المنظورة كما نسبوا مثل ذلك إلى بعلبك وتدمر
وبعض آثار بابل وآشور.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) خطاب لصديقنا الأستاذ جبر أفندي ضومط معلم اللغة العربية في المدرسة الكلية الأمريكانية
ببيروت ألقاه في تلك المدرسة ثم أتحفنا به.
(1) همداني وصف جزيرة العرب طبع ليدن وجه 134 - 136.(15/112)
الكاتب: شبلي النعماني
__________
نقد تاريخ التمدن الإسلامي
بقلم الشيخ شبلي النعماني
(2)
مثالب بني أمية
المقصد الذي جعله المؤلف نصب عينه ومرمى غايته هو أن الأمة العربية إذا بقيت على صرافتها فهي جامعة لجميع أشتات الشر، أي الجور والقسوة والهمجية وسفك الدماء والفتك بالناس. ولكن لما كان لا يقدر على إظهار هذا المقصد تصريحًا
احتال في ذلك فغمض المذهب وجعل الكلام طيب الظاهر وذلك بأن قسم
عصر الإسلام إلى ثلاثة أدوار - فمدح سياسة الخلفاء الراشدين، وقال بعد مدحها:
(على أن سياسة الراشدين على الإجمال ليست مما يلائم طبيعة العمران أو
تقتضيه سياسة الملك وإنما هي خلافة دينية توفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في
عصر.
فأهل العلم بالعمران لا يرون هذه السياسة تصلح لتدبير الممالك في غير ذلك
العصر العجيب وأن انقلاب تلك الخلافة الدينية إلى الملك السياسي لم يكن منه بد.
(الجزء الرابع صفحة 29 و30)
فأثبت بذلك أن سياسة الخلفاء الراشدين ليست فيها أسوة للناس، وأنها من
مستثنيات الطبيعة، أما دور العباسيين فمدحه ولكن لا لأجل أنه دولة عربية بل
لكونها فارسية مادة وقوامًا مؤتلفًا ونظامًا وصرح بذلك فقال:
(دعونا هذا العصر فارسيًّا مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية؛ لأن تلك
على كونها عريبة من حيث خلفاؤها ولغتها وديانتها فهي فارسية من حيث سياستها
وإدارتها؛ لأن الفرس نصروها وأيدوها ثم هم نظموا حكومتها وأداروا شئونها
ومنهم وزراؤها وأمراؤها وكتابها وحُجَّابها) .
(الجزء الرابع صفحة 106)
ثم أشار في غير موضع إلى أن الدولة العربية الساذجة إنما هي دولة بني أمية
فقال:
(وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية) (الجزء الرابع صفحة
103) وظل العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفاوتهم وكان خلفاؤها يرسلون
أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم (الجزء الرابع
صفحة 61) .
ولما أثبت أن خلافة الراشدين لم تكن تلائم النظام الطبيعي وأن دولة بني
العباس دولة فارسية وأن الباقية على صرافتها هي الدولة الأموية أخذ يعدد مثالب
بني أمية تحت عنوانات مستقلة منها الاستخفاف بالدين وأهله، ومنها الاستهانة
بالقرآن والحرمين، ومنها الفتك والبطش، ومنها قتل الأطفال، ومنها خزانة
الرءوس. وأتى في مطاوي هذه العنوانات من الإفك والاختلاق والتحريف والتبديل
بما تجاوز الحد وخرج عن طور القياس. والآن أذكر نبذًا منها وأكشف عن جلية
حالها.
***
الاستهانة بالقرآن والحرمين
قال المؤلف تحت هذا العنوان:
(أما عبد الملك فكان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف ولو
خالف الدين؛ لأنه صرح باستهانة الدين منذ ولي الخلافة.. . ذكروا أنه لما جاءوه
بخبر الخلافة كان قاعدًا والمصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك -
أو- هذا فراق بيني وبينك. فلا غَرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب
الكعبة بالمنجنيق وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة. وظلوا
يقتلون الناس فيها ثلاثًا وهدموا الكعبة وهي بيت الله عندهم وأوقدوا النيران بين
أحجارها وأستارها) (الجزء الرابع صفحة 78 و79) .
الحكاية على الإجمال أن ابن الزبير ادعى الخلافة فملك الحرمين والعراق
وكاد يغلب على الشام وكان أمره كل يوم في ازدياد وبإزائه بنو أمية في الشام فلما
تولى عبد الملك الخلافة أرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره ولاذ ابن الزبير
بمكة فنصب الحجاج المنجنيق على الزيادة التي كان زادها ابن الزبير (كما يجيء
تفصيله) .
يعرف كل من له أدنى إلمام بالتاريخ أن الحجاج ما أراد إلا قتال ابن الزبير
ولكونه لائذًا بالكعبة اضطر إلى نصب المنجنيق على الكعبة، ولكن مع ذلك تحرز
عن رمي الكعبة فحوَّل وجهها إلى زيادة ابن الزبير. فانظر كيف غير المؤلف
مجرى الحكاية فصدر الباب بالاستهانة بالقرآن والحرمين. ثم ذكر أن عبد الملك
قال للقرآن:
هذا فراق بيني وبينك. وأنه أباح للحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدم
الكعبة وإيقاد النيران بين أستارها، فالناظر في عبارته يتوهم بل يستيقن أن
عبد الملك تفرغ من بدء الأمر للاستهانة بالدين والقرآن والحرمين وجعل الاستهانة
نصب عينه ومرمى غايته، وقتل ابن الزبير كان إما لأنه دافع عن مكة أو لكونه
أيضًا جنس الاستهانة بالحرم.
أما تفصيل الواقعة وتعيين بادئ الظلم فهو أن ابن الزبير لما استولى على
الحرمين أخرج بني أمية من المدينة فخرج مروان وابنه عبد الملك وهو عليل مجدر
فاستولى على الشام، وصدرت من ابن الزبير أفعال نقموا عليه لأجلها فمنها أنه
تحامل على بني هاشم وأظهر لهم العداوة والبغضاء [1] حتى إنه ترك الصلاة على
النبي في الخطبة ولما سألوه عن هذا قال: إن للنبي أهل سوء يرفعون رءوسهم إذا
سمعوا به [2] ومنها أنه هدم الكعبة ومع أن هدمها لم يكن إلا لرمتها وإصلاحها ولكن
لم يكن هذا مألوفًا للناس، ولذلك تحرز النبي عليه السلام عن إدخال الحطيم في
الكعبة فاتخذ الحجاج هذه الأمور وسيلة لإغراء الناس على ابن الزبير. ولعل ابن
الزبير كان مضطرًّا إلى هذه الأعمال ولكن من شريطة العدل أن نوفي كل واحد
قسطه من الحق، فإذا اعتذرنا لابن الزبير فعبد الملك أحق منه اعتذارًا، فإن ابن
الزبير هو البادئ والبادئ أظلم. ويظهر من هذا أن عبد الملك ما أراد الحط من
شأن الكعبة ومس شرفها ولكن اضطر إلى قتال ابن الزبير فوقع ما وقع عرضًا غير
مقصود بالذات ولذلك لما نصب الحجاج المناجيق على الكعبة حولها عن الكعبة
وجعل الغرض الزيادة التي كان زادها ابن الزبير، صرح بذلك العلامة البشاري في
أحسن التقاسيم. ثم إن من مسائل الفقه أن البغاة إذا تحصنوا بالكعبة لا يمنع هذا
عن قتالهم ولذلك أمر النبي في وقعة الفتح بقتل أحدهم وهو متعلق بأستار الكعبة
وابن الزبير كان عند أهل الشام من البغاة والمارقين عن الدين.
ولو كان أراد الحجاج الاستهانة بالحرم فما كان مراده من رمته وإصلاحه بعد
قتل ابن الزبير، ومعلوم أن تعمير الحَجاج هو كعبة الإسلام وقبلة المسلمين كافةً.
أما قول عبد الملك للقرآن هذا فراق بيني وبينك، فحقيقته أن عبد الملك كان
قبل الخلافة ناسكًا منقطعًا إلى العبادة لا يشتغل بشيء من الدنيا، قال نافع: ما
رأيت في المدينة أشد نُسكًا وعبادة من عبد الملك، ولما سألوا ابن عمر إلى من
ترجع في الفتوى بعدك؟ قال (ولد لمروان) وكان يقول ابن الزناد الفقهاء في
المدينة سبع أحدهم عبد الملك. ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقال الإمام الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت عليه الفضل إلا عبد الملك
بن مروان. ذكر كل هذه الأقوال العلامة السيوطي في تاريخه للخلفاء. فلما جاءته
الخلافة وهو يقرأ القرآن تصور خطارة الأمر، وأن مثل هذا العبء لا يمكن تحمله
إلا المنقطع إليه فقال تحسرًا: هذا آخر العهد بك. أي الآن لا يمكن الانقطاع إلى
العبادة وقراءة القرآن كما كان دأبي أولاً، وليس هذا على سبيل الاستهانة بالدين
مطلقًا فإنا نرى اشتغال عبد الملك بالفرائض والسنن فيما بعد فهو يصوم ويصلي
ويحج قال اليعقوبي في تاريخه: وأقام الحج للناس في ولايته سنة 72 الحجاج بن
يوسف وسنة 73 وسنة 74 الحجاج أيضًا وسنة 75 عبد الملك بن مروان وسنة 76
أبان بن عثمان بن عفان، وسنة 77 أبان أيضًا وسنة 78 وسنة 79 وسنة 80 أبان
أيضًا وسنة 81 سليمان بن عبد الملك (وسرد باقي السنوات فتركناها) وعبد الملك
هو الذي كسا الكعبة الديباج، فهل هذا صنيع من يريد الاستهانة بالحرم؟
قال المؤلف:
(ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة) (الجزء الرابع صفحة 79) استند
المؤلف في هذه الرواية بالعِقد الفريد لابن عبد ربه والاستناد بمثل هذه الكتب في
مثل هذه الوقائع هو من إحدى حيل المؤلف المعتادة بها فأنت تعلم أن حادثة قتل ابن
الزبير مذكورة في الطبري وابن الأثير وغيرها من المصادر التاريخية المتداولة
الموثوق بها وعليها المعوَّل وإليها المرجع لكن لما لم تكن كيفية الحادثة في هذه
الكتب وفق هوى المؤلف أعرض عن هذه كلها وتشبث بكتاب هو في عداد
المحاضرات وإنما يرجع إلى أمثاله إذا لم يكن في الباب مستند غيره ومتى لم
يخالف الأصول.
والمذكور في الطبري وغيره أن عبد الله بن الزبير أصيب في الحجون وقتل
هناك قتله رجل من المراد، وما احتز رأسه داخل الكعبة.
قال المؤلف: (وهدموا الكعبة) .
قدمنا أن الكعبة لم تكن غرضًا للحجاج وإنما كان نصب المناجيق على الزيادة
التي زادها ابن الزبير، ولما كانت متصلة بالكعبة نالت الأحجار من الكعبة ولكن
كان أول ما فعله الحجاج بعد ما استتب القتال أمره بكنس المسجد الحرام من
الحجارة والدم كما نص عليه ابن الأثير فهل كنس المسجد الحرام من الحجارة والدم
وهدم الكعبة شيء واحد؟
أما ما نقل المؤلف عن كفر الوليد وأنه أمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس
والنبل وجعل يرميه حتى مزقه وأنشد:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربك يوم حشر ... فقل لله مزقني الوليد
ونقل هذه الرواية عن الأغاني فهي من خرافات الأغاني، ومعلوم أن صاحب
الأغاني شيعي ديانته شنآن بني أمية والحط منهم. وأما الأبيات فأثر التوليد ظاهر
عليها، ومن له أدنى مسكة بالأدب يشهد أن نسجها غير نسج الأوائل، فأما جهابذة
المحدثين المرجوع إليهم في نقد الروايات والذين قولهم فصل في هذا الباب
فيجحدون أمثال هذه الروايات المختلقة. قال العلامة الذهبي: هو رأس الحديث
ومرجع الرواية -: (لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوط
فخرجوا عليه لذلك) (تاريخ الخلفاء للسيوطي ترجمة الوليد) .
ثم إن هناك أمرًا آخر وهو أن الناقم على الوليد وقاتله هو خليفة أموي،
فكيف ينسب استهانة الدين إلى خلفاء بني أمية عامتهم. ثم إن هذا الذي عزا إليه
صاحب الأغاني الاستهانة بالقرآن قد ذكر له صاحب العقد ما ينبئ عن تعظيمه
للقرآن وتفخيمه شأنه وحث الناس على حفظه وتعهده قال صاحب العقد [1] : إنه
شكا رجل من بني مخزوم دينًا لزمه فقال (الوليد) : أقضيه عنك إن كنت لذلك
مستحقًّا قال: يا أمير المؤمنين كيف لا أكون مستحقًّا في منزلتي وقرابتي؟ قال
قرأت القرآن؟ قال: لا، قال فادن مني فدنا منه فنزع العمامة عن رأسه بقضيب
في يده فقرعه قرعة وقال لرجل من جلسائه ضم إليك هذا العِلْج ولا تفارقه حتى
يقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال يا أمير المؤمنين اقض دَيني، فقال له أتقرأ القرآن؟
قال نعم فاستقرأه عشرًا من الأنفال وعشرًا من براءة فقرأ، فقال: نعم نقضي دينك
وأنت أهل لذلك. فأنت ترى أن الوليد يعد من لا يقرأ القرآن عِلْجًا والمؤلف يعد
الوليد علجًا.
فأما ما ذكره المؤلف من أقوال الحجاج وخالد القسري وأنهما كانا يُفضلان
الخلافة على النبوة فمع أن أكثر هذه الأقوال مأخوذ من العقد الفريد وهو من كتب
المحاضرات لسنا نحتاج إلى الذب عن الحجاج وخالد فإنهما من أشرار الأمة حقًّا،
ولكن كم لنا من أمثال هؤلاء الملاحدة في الدولة العباسية كالعجاردة وابن الرواندي
الذي عمل كتابًا رد فيه على القرآن وسماه بالدامغ، فإذا كان العباسيون مسئولين
عن أوزار هؤلاء عند المؤلف فكذلك بنو أمية. وإن كان عبد الملك والوليد
يرتضيان بسوء أعمال الحجاج فمعلوم أن غيرهما من بني أمية كانوا ناقمين عليه
كافة حتى أن هشامًا قال (هل الحجاج استقر في جهنم أو يهوي إلى الآن) ولما
وصل إلى هشام أن خالدًا القسري استخف بامرأة مؤمنة عزله من الإمارة وسجنه
كما ذكره ابن خلكان.
والحاصل أن المؤلف لو خص رجلاً أو رجلين من بني أمية بالمطاعن لاعترفنا
به، ولكن من سوء مكيدة المؤلف أنه يجعل الفرد جماعة والفذ توءمًا
والنادر عامًا والشاذ مطردًا.
جور بني أمية
سمعنا بمظالم بختنصر، وأحطنا علمًا بشنائع جنكيز خان، واطلعنا على ما
جنته أيدي التتر، فوالله - لو صدق المؤلف - هم ما كانوا أشد قسوة ولا أفظع
أعمالاً ولا أسفك دماء ولا أجمع لأنواع الفتك من بني أمية.
قال المؤلف (حتى في أيام معاوية فإنه أرسل بسر بن أرطاة وأرسل معه
جيشًا ويقال: إنه (أي معاوية) أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من
وجدوه من شيعة علي ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان (الجزء الرابع صفحة
82) .
قبل أن أكشف عن جلية الأمر لا بد من تقديم مقدمة، وهي أن المؤلف مدح
بني العباس وجعل أعمالهم مناطًا للعدل ودلالة على الرفق فقال:
(ولا غرابة فيما تقدم من عمران البلاد في ظل الدولة العباسية فإن العدالة توطد
دعائم الأمن، وإذا أمن الناس على أرواحهم وحقوقهم تفرغوا للعمل فتعمر
البلاد ويرفه أهلها ويكثر خراجها (الجزء الثاني صفحة 81) .
وعلى هذا إذا وجدنا بني أمية معادلين لنبي العباس في جميع أعمالهم سواء
بسواء كان اختصاصهم بالذم دون بني العباس جورًا فاحشًا وميلاً عظيمًا. ثم إن
هناك أمرًا آخر وهو أن المؤرخين بأسرهم كانوا في عصر بني العباس ومن المعلوم
أنه لم يكن يستطيع أحد أن يذكر محاسن بني أمية في دولة العباسيين، فإذا صدر
من أحد شيء من ذلك فلتة كان يقاسي قائلها أنواعًا من الهتك والإيذاء ووخامة
العاقبة، وكم لنا من أمثال هذه في أسفار التاريخ. ومع أننا نفخر بأن مؤلفي الإسلام
كانوا أصدق الناس رواية وأجرأهم على إظهار الحق ما كان يمنعهم عن بيان
الحقيقة سلطة ملك ولا مهابة جائر، ولكن مع ذلك فرق بين تعمد الكذب والسكوت
عن الحق، ولذلك نعتقد أنهم ما قالوا شيئًا افتراء على بني أمية ولكن إن قلنا:
إنهم كثيرًا ما سكتوا عن محاسنهم فذلك شيء لا يدفع وليس فيه غض منهم.
أما بنو العباس فكانوا في عصرهم ولاة البلاد، وملاك رقاب الناس، رضاهم
الحياة، وسخطهم الموت، فالوقيعة فيهم والأخذ عليهم ما كان يمكن إلا بعد
مخاطرة النفس والاقتحام في الهلاك ونصب النفس للموت.
رجعنا إلى قول المؤلف: إن معاوية أمر بقتل النساء والصبيان اعلم أن هذه
الواقعة أي إرسال (بسر بن أرطاة) إلى شيعة علي من أشهر الوقائع المذكورة في
سائر كتب التواريخ، وليس في أحد منها قتل النساء والصبيان بل فيها ما يخالف
هذه الرواية قال المؤرخ اليعقوبي: (ووجه معاوية بسر بن أرطاة وقيل: ابن أبي
أرطأة العامري من بني عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل فقال له: سر حتى تمر
بالمدينة فاطرد أهلهم وأَخِفْ من مررت بها وانهب مال من أصبت له مالاً ممن لم
يكن دخل في طاعتنا وأوهمْ أهل المدينة أنك تريد أنفسهم وأنه لا براءة لهم عندك ...
حتى تدخل مكة ولا تعرض فيهما لأحد وأرهب الناس فيما بين مكة والمدينة ثم
امض حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم. فخرج بسر فجعل لا
يمر بحي من أحياء العرب إلا فعل ما أمره معاوية (اليعقوبي طبع أوربا صفحة
231 من الجزء الثاني) .
فترى في هذه العبارة أنه لم يكن هناك إلا تخويف وتهديد وإيهام. ولما رأى
المؤلف أن المصادر التاريخية الموثوق بها لا يوجد فيها ما يوافق هواه جنح إلى
الأغاني ونقل أمر معاوية بقتل النساء والصبيان ثم اعتذر عن معاوية بأن المظنون
خلاف ذلك لحلمه ودهائه، والظن أن معاوية أطلق يد بسر ولم يعين له حدودًا وكان
بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.
قد قلنا: إن الأغاني من كتب المحاضرات، فإذا كان الأمر هينًا والحديث
فكاهة أو تسللاً من كد العمل إلى استراحة فلا بأس به وبأمثاله أما إذا كان الأمر ذا
بال وكانت الواقعة معترك الاختلاف ومتعفر الأهواء رافعًا لشأن أو هادمًا لأساس
فأمثال هذه الكتب لا يؤذن لها ولا يلتفت إليها مطلقًا.
ثم إن الرجل (أي صاحب الأغاني) شيعي إذا جاءه شيء مما يشين معاوية
ويدنسه وجد في نفسه ارتياحًا إلى قبوله، ولو كان من أوهن الأحاديث وأكذبها.
نعم إن بسر بن أرطاة قتل طفلين ولكن القتل لم يتجاوز الاثنين [1] فأين هذا
من قول المؤلف:
وكان بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلاً ولا شيخًا.
قال المؤلف (فإذا كان هذا حال العمال في أيام معاوية مع حلمه وطول أناته
فكيف في أيام عبد الملك مع شدته وفتكه فهل يستغرب ما يقال عن فتك الحجاج
وكثرة من قتلهم صبرًا، ولو كانوا 120000 (الجزء الرابع صفحة 83) .
نعم قتل الحجاج مئة ألف أو مائتين ولكن أين هذا من صنيعة أبي مسلم
الخراساني القائم بدعوة بني العباس المؤسس لدولتهم فإنه قتل صبرًا بدون حرب ما
يبلغ ستمائة ألف، وقد اعترف به المؤلف في هذا التأليف نفسه (الجزء الثاني
صفحة 112) والمؤلف ينتحل لذلك عذرًا ويحسبه من طبيعة السياسة. فالحجاج
أحق بالعذر وأجدر بالعفو، فإن الحجاج عربي قح طبعه الجفاء والقسوة. أما أبو
مسلم فعجمي تربى في حجر التمدن، وغذي بلُبان الظرف ودَماثة الأخلاق (! !) .
أما قوله إن عبد الملك كان أشد وطأة منه (أي من الحجاج) فلم يأت عليه
بشاهد غير غدره بعمر بن سعيد، وأين هذا من غدر المنصور العباسي بأبي مسلم
الذي هو رب الدولة العباسية، ولولاه لما قامت للعباسيين قائمة، ولا كان لهم ذكر،
وكذلك غدر المنصور بابن هبيرة.
وغاية ما يقضي منه العجب أن المؤلف بعدما ذكر فتك بني أمية بقوله: (وقد
نفعتهم هذه السياسة (أي سياسة الفتك) في تأييد سلطانهم (قال) : صارت سُنَّة
من مَلَك بعدهم من بني العباس وغيرهم وأنت تعلم أن المؤلف يبرئ ساحة العباسية
من الجور والظلم فضلاً عن الفتك، فهل هذا تناقض في القول أو أراد بهم نفعًا
فضرهم من حيث لا يعلم؟ لا والله لا هذا ولا ذاك، بل هي من مكايد المؤلف التي
لا يهتدي إليها إلا فطن خبير لطوية الرجل وكامن ضغنه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) اليعقوبي طبع أوروبا صفحة 311 من الجزء الثاني.
(2) الجزء الثاني من اليعقوبي صفحة 311.
(3) الجزء الثاني صفحة 258.
(4) المنار: في هذا النفي بل فيما أورده الناقد في هذه المسألة نظر فقد نقل الحافظ في الإصابة عن ابن يونس أن معاوية وجه بسرًا إلى اليمن والحجاز سنة أربعين (وأمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ففعل) فهذا كلام المحدثين لا الشيعة وأهل المحاضرة، وقد أشار في الإصابة إلى أنه لا ينبغي التشاغل بأخبار بسر الشهيرة في الفتن أي لما قيل من أن له صحبة وهل يعقل أن يكون إيقاعه بالمطيعين لعلي قاصرًا على قتله طفلي ابن عباس رضي الله عنهما؟ ؟ .(15/121)
الكاتب: عن جريدة الطان الفرنسية
__________
الجامعة الإسلامية [*]
أرسل إلينا أحد علماء اللغة العربية المقالة الآتية باللغة الفرنسوية في مسألة
هي في الوقت الحاضر أكبر المسائل التي تهم أوربا بمقدار ما تهم المسلمين،
وهي مسألة الجامعة الإسلامية التي نجهل منها أكثر مما نعلم، قال الكاتب:
ولدت الجامعة الإسلامية تحت شمس مصر الحارة وظلت زمانًا طويلاً
محصورة في دائرة عدد صغير من أنصارها، وكانت هذه الجامعة في نشأتها الأولى
دينية محضة أشبه بكنيسة كاثوليكية ترمي إلى ضم جميع الفرق الإسلامية أو
بالحري إلى تجديد ذكرى الوحدة القديمة التي فقدت منذ زمن بعيد، إلا أنها لم يمض
عليها زمن حتى وسعت دائرتها وأصبحت تعقد الرجاء بتكوين دولة إسلامية شديدة
البأس كالدولة التي كانت في زمن الفراعنة لتظهر للعالم في بعض أجزائها أنها
المعيدة بصفة شبه قومية (؟) للتمدن الشرقي الذي توارى خلف مدنية أوربا
المسيحية.
ولما كانت الجامعة الإسلامية لم تزل حديثة النشأة لذلك كانت أعمالها صادرة
عن حمية عمياء حمية الحداثة وعدم الاختبار التي تئن مصر والجزائر من تحتها
إلى أن دخلت في دور السكينة مشتغلة بنشر مبادئها ومنتظرة بلوغ قوتها.
والسيد جمال الدين الأفغاني الحسيني هو أول من اشتغل بنشر فكرة الجامعة
الإسلامية إن لم يكن المحرض على إنشائها وقد ظل زمنًا طويلاً معروفًا بأنه المثال
الحي لتلك الجامعة.
ولد السيد جمال الدين في ولاية كابل في أسعد آباد من أعمال بلاد الأفغان
واشترك في ثورات عديدة أُريقت فيها الدماء، ثم فارق وطنه سائحًا في العالم
خصوصًا في العالم الإسلامي فاخترق الهند الإنكليزية إلى فارس فبلاد العرب
فالسلطنة العثمانية، ثم القطر المصري، ومنه إلى أوربا فراقب كفيلسوف كل
الحوادث العظمى التي شهدها القرن الماضي وراقب أدوار الرقي العقلي في أوربا
بنظر من يود الوقوف على الحقائق، وانخرط في سلك الماسونية في مصر ثم ذهب
إلى الآستانة فتوفي فيها عام 1897 وكان السلطان عبد الحميد قد جذبه إليها وغمره
بإحسانه وهداياه، وفي جملة الذين حظي بصداقتهم وودادهم أثناء سياحاته المسيو
رينان حتى اختصه هذا بالمدح والتقريظ في أحد مؤلفاته.
وكان جمال الدين مَهيب الطلعة، ويقال: إنه مع مقدرته الفائقة في فن
الخطابة كان واسع الاطلاع في الشئون العامة حتى إنه خلف تلاميذ كما فعل
أفلاطون ولم يخلف مؤلفات، وكانت سيرته تاريخًا في العالم الإسلامي الذي كان
جمال الدين يسعى إلى تأليفه فكانت الجامعة الإسلامية أملاً له يحلم به في كل أيام
حياته، وكان ينتقل في العالم الإسلامي من بلدة إلى أخرى رسولاً للوحدة والتضامن
يعظ الناس ويدعوهم للعودة إلى التقاليد القديمة ولكن من غير تعصب فكانت غايته
أن يكون الإسلام عامًّا طيبًا ووسيلة للتسامح وحب المدنية والارتقاء.
وكان في القطر المصري جمعية تدعى (جمعية العروة الوثقى) طلبت من
الأفغاني أن يرفع مدة إقامته في باريس صوت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية فأصدر
هناك جريدة (العروة الوثقى) وناط تحريرها بالشيخ محمد عبده الذي ذاع صيته
في ذلك الوقت فظهر منها ثمانية عشر عددًا فقط؛ إذ إن الحكومة الإنكليزية التي
كان يهمها أكثر من غيرها أمر الجامعة الإسلامية الجديدة استعملت الضغط لإيقاف
حركة تلك الجامعة.
ثم ظهرت فكرة عقد مؤتمر إسلامي عام فاتجه نظر الأفغاني نحو مكة
واستحسن العالم الإسلامي ذلك إلا أن السلطان عبد الحميد قد راعه اتجاه الجامعة
الإسلامية نحو بلاد العرب التي أقلقته ثوراتها الماضية فأخفقت فكرة عقد المؤتمر
في مكة.
أما الكواكبي فقد كان مع ذلاقة لسانه في الخطابة صاحب نظر دقيق نير، وقد
أخذ فكرة الأفغاني في عقد المؤتمر الإسلامي فشرحها شرحًا مطولاً في كتابه الذي
صدر باسم (سجل جمعية أم القرى) وضمن هذا الكتاب أعمال المؤتمر الذي لم
يمكن عقده، ووصف بأسلوبه الحسن حالة العالم الإسلامي وشخص أمراضه بكل
انتباه مع ذكر الدواء اللازم لها.
الكواكبي هو العالم النظري الذي نفر للجماعة الإسلامية، وهو المفكر الذي لم
يؤثر فيه الوعيد والتهديد، وإذا كان الأفغاني قد أظهر الميل إلى عبد الحميد بمجيئه
إلى الآستانة حتى مات فيها فإن الكواكبي ظل دائمًا العدو الألد لعبد الحميد حتى ألف
كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) تشنيعًا على حكومته.
أما عبد الحميد فإنه بما اتصف به من الحكمة والدقة أدرك القصد من فكرة
الجامعة الإسلامية فبعد أن كان أول خصم لها أراد أن يرعاها برعايته ليستأثر
بفائدتها، ولذلك جذب الأفغاني وكثيرًا من الأطباء وأئمة الإسلام إلى الآستانة
وأغراهم بالالتحاق به وأجزل الهبات والهدايا والعطايا والألقاب والوسامات وظهر
هو نفسه بمظهر ديني وجعل نفسه نصير الإسلام في العالم ورتب المرتبات للمعاهد
الدينية وللعلماء ومشايخ الطرق وللجوامع والمساجد وشيد أماكن خاصة بضيافة
الحجاج وتسهيل واجباتهم الدينية كما أنشأ السكة الحديدية الحجازية التي لم يكن
ينظر العالم الإسلامي إليها إلا أنها عمل صادر عن شفقة على المسلمين وحنان
عليهم، فتبرع لها المسلمون بمبالغ طائلة إعانة على إتمام هذا المشروع.
ولم يقتصر الأمر على جذب المسلمين والحصول على انعطافهم بل كان من
اللازم أيضًا تنويرهم وضم بعضهم إلى بعض والقبض عليهم فأرسل خليفة الآستانة
إلى أنحاء العالم الإسلامي أولئك العلماء الذين التفوا حوله وجعلهم رسلاً للجامعة
الإسلامية التي كانت محيط أحلامه.
وفوق ذلك فإنه أراد أن يراقب الدول الأجنبية التي كانت تضم بين رعاياها أو
في مستعمراتها فريقًا من المسلمين فبث في كل جهة حتى في الجزر الصغيرة رسله
السريين الذين لم يكن يشعر أحد بوجودهم، وتمكن أيضًا من الحصول على
مخبرين سريين في الدوائر العليا لتلك البلاد، وكان ينقدهم المبالغ الطائلة أجرة
على عملهم.
ولما خلع السلطان عبد الحميد أصبح كل الذين يعيشون من هذا الطريق لا
مورد لهم، والحكومة الدستورية الجديدة لم تشأ أن تعترف بهم، وقطع أعضاء
جمعية الاتحاد والترقي الصلة بينهم وبين الجامعة الإسلامية منذ قاطعوا شخص عبد
الحميد وتظاهروا أيضًا بمقاومة هذه الجامعة ونسخ اللغة العربية وهي لغة الدين
المقدسة بل هي لغة المسلمين العامة التي بزوالها يزول الإسلام وببقائها يبقى ويحيا.
ظل هؤلاء دائبين وراء أمانيهم الجميلة فابتكروا مشروع الإقدام على صبغ
السلطنة العثمانية بالصبغة التركية، وهذا المشروع لم يخطر في بال السلاطين
الفاتحين ولا عللوا النفس بتحقيقه مع ما كان لديهم من القوة التي إن لم تكن أعظم
من قوة أحداث سلانيك الغارقين في الأوهام فهي على الأقل تساويها، وبهذا صارت
الجامعة الإسلامية بلا سند وعادت حقًّا مشاعًا فبدأ كتاب الصحف وحدهم يشتغلون
بها وقوة هؤلاء لا يستخف بها.
انتشرت الصحف الإسلامية في العالم بكيفية غير محسوسة وأكثر هذه
الصحف عربية فتجد منها بآسيا وأفريقيا وأميركا وأوروبا بل في الأوقيانوسية ولو
بنسبة غير متساوية، ولما كانت هذه الصحف حديثة النشأة لذلك ترى لها عيوبًا كما
أن لها مزايا وفوائد، فإذا كان ينقصها الأخبار السريعة من جهة فهي من جهة ثانية
ذات سلطة على قرائها وهي التي تكون الرأي العام بدل أن تردد صداه.
تكثر الصحف العربية بنوع خاص في القطر المصري، وكانت في سوريا قد
نهضت بنشاط في مدة قصيرة حتى جاءها الحكم الحميدي ووقف في وجهها فجعلها
نسيًا منسيًّا إلى أن أعلن الدستور سنة 1908 وكان الكتاب السوريون ينزلون ضيوفًا
في مصر، وهي الأخت الشقيقة لسوريا فانتشرت الصحافة في وادي النيل
وفازت فوزًا باهرًا.
صورة مصطفى باشا كامل تتقدم بما لها من المكانة صحف الجامعة الإسلامية
في القطر المصري، وهذه الجامعة الإسلامية هي الجامعة المدنية التخيلية القريبة
الوصول لكل من بذل ذاته وأبدى سخاء وعلو همة إلا أن هذه الجامعة مصرية أكثر
منها عمومية وقومية أكثر منها دينية.
أما المثل الحي المقدام للجامعة الإسلامية الدينية فهو بلا نزاع الكواكبي
والأفغاني والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وكان مرمى آمال الشيخ محمد
عبده أن يكون الإسلام عامًّا حيًّا يرجع إلى حاله الأولى ويتجرد مما زيد فيه بمرور
الزمان.
ومما قاله - رحمه الله - في كتابه (الإسلام والنصرانية) ص 117 إن ما
يؤخذ على المسلمين في الوقت الحاضر ليس هو من الإسلام في شيء ولكنه شيء
آخر أدخله أهل البدع على الإسلام ودليلنا على ذلك القرآن الذي انصرفوا عن تدبره
واتباع سننه.
إن الجامعة الإسلامية الدينية التي خلفها الشيخ محمد عبده لتلاميذه عند وفاته
يتوسل للعمل لها بثلاث وسائل المؤتمرات والصحافة والتعليم بالمبادئ الصحيحة،
وقد كانت آمال الجامعة الإسلامية ترمي إلى عقد مؤتمر يجمع جميع الطوائف
الإسلامية، وقد سبق لنا الكلام على السبب الذي من أجله لم يفلح مؤتمر أم القرى،
إلا أن العزيمة لم تفتر في هذا الشأن حتى قام قبل بضع سنوات إسماعيل غصبر
نسكي مدير جريدة ترجمان التي تطبع في بغجه سراي في القريم فاقترح عقد
المؤتمر في القطر المصري وقابل المصريون هذا الاقتراح بحمية ونشروا على
العالم الإسلامي منشورات حماسية إلا أن هذا المؤتمر أخفق أيضًا.
وقد قرأت في أحد أعداد مجلة المنار التي تصدر في مصر، وقد تفضل
بإرسالها إليَّ المسيو ماسينيوس اقتراحًا لأحد المكاتبين يقترح به عقد المؤتمر إلا أنه
لم يكن سببَ إخفاق المشروع فسادٌ في إدارته بل كانت هنالك صعوبات مادية تحف
به من كل جانب.
وأما الوسيلة الثانية وهي الصحافة فإنها جعلت فكرة الجامعة الإسلامية تتقدم
تقدمًا سريعًا؛ لأن كل الجرائد الإسلامية في العالم ترمي إلى هذا الغرض وهي
منتشرة في كل مكان. وإذا فتح الإنسان واحدة من هذه الجرائد أو المجلات يأخذه
العجب من الخطوات التي اجتازتها الصحف العربية، وإن كانت إربًا لا تكاد
تحسب لوجودها حسابًا.
وتهتم الصحافة العربية باستعراض أحوال العالم الإسلامي بأسره وتشرحها
وتعلق عليها وتشير بإصلاح المعوج وتشجعها وتحنو عليها حنو الوالدة على رضيعها
وتفيض هذه الصحف بالبحث في تاريخ الإسلام وعلومه وتقاليده في قالب يسهل
فهمه على جميع القراء؛ لأنه يكتب بأسلوب بسيط حديث. وإن مجلة كمجلة
المقتبس تعد كدائرة معارف حقيقية يهم المسلمين الاطلاع عليها وهي تقرأ في كل
جهة من البلاد العربية كما تقرأ في الأوقيانوسية والهند وأميركا.
وقد وقف أحد مسلمي الهند في لاهور مائة نسخة من كتاب تفسير القرآن
الحكيم الذي يكتبه الشيخ رشيد رضا لتوزع هذه النسخ على المساجد وتتلى فيها.
ولدينا أمثلة كثيرة من هذا القبيل تدل على وجود روح التضامن التي تبثها هذه
الصحف بين المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم.
وأما الوسيلة الثالثة فهي التعليم الذي اشتد الميل إليه والشوق إلى نشره
فانتشرت المدارس في كل مكان. وكان الإنسان يقرأ منذ حين على كل جدر في كل
مدينة من مدن سوريا هذه الجملة: (تعلم يا فتى فالجهل عار) .
والجامعة الإسلامية لا تكتفي بتأسيس المدارس البسيطة بل هبت لتأسيس
مدارس الجامعة الكبرى. فهذا الجامع الأزهر قد تأهب لتجديد عهد شبابه واستعد
للقيام بالوسائل الحديثة. وهنالك مشروع تأسيس جامعة في الهند وأخرى في سوريا،
وقد تكلموا في هذه منذ مدة ولكن لم يتم شيء من ذلك بعد.
ويرجع فضل حركة النهضة الإسلامية في الهند لأحمد خان الذي ولد في سنة
1871 وتوفي سنة 1897 وهو المؤسس لجمعية الترجمة التي صارت بعد ذلك
باسم جمعية عليكرة العلمية، وهو الذي اهتم بإنشاء جامعة إسلامية ورغَّب الناس
فيها بواسطة جريدته وجسم هذه النهضة الدينية بعمله وكتاباته وخطاباته، وقد
أنشئت في كلكتا مؤتمرات للتربية الإسلامية حتى انتشرت هذه الحركة. وقد تحصل
الراجا محمود أباد أخيرًا على رضاء حكومة الهند بتأسيس مدرسة جامعة إسلامية
كبرى في عليكرة وهو المشروع الذي كان يشتغل به منذ زمن.
وأما مسلمو الأوقيانوسية فقد أسسوا الآن مدرسة إسلامية لتعليم اللغة العربية
في صومطرة، وفي جاوا تنشر الجرائد العربية.
أما المشروع الذي يفوق المشروعات الأخرى ويدل على الجامعة الإسلامية
قبل غيره فهو مشروع (الدعوة والإرشاد) الذي قام به الشيخ رشيد رضا تلميذ
الشيخ محمد عبده الذي سبق لنا الكلام عليه، وكان قصده من هذا المشروع في بادئ
الأمر أن يكون في الآستانة إلا أن حزب الاتحاد والترقي كان يظهر له القبول
والترحاب إلى أن انقلب عليه فعاد السيد رشيد رضا لأرض مصر الكريمة فألف
فيها جماعة الدعوة والإرشاد ووضع بمساعدتها أساس مدرسة كلية إسلامية كبرى
مجانية وتبدأ المدرسة بسنة تمهيدية، ثم يكون لها صنفان مدة كل واحد منهما ثلاث
سنوات أحدهما صنف المرشدين الذي سيحيي بلاغة منبر الخطابة الإسلامية الراقد
منذ أجيال، والصنف الثاني لتعليم الدعاة إلى الإسلام، وهؤلاء ينتخبون من عِلْية
متخرجي صنف المرشدين فيتممون في السنوات الثلاث المعارف اللازمة لتأدية مثل
هذه المهمة العظيمة.
من هذا نعلم أن الجامعة الإسلامية تشعر أنها قادرة ليس على الدفاع عن نفسها
فقط بل على الشروع بفتوحات جديدة.
قال محمد أحمد في مقدمته لكتاب (الإسلام والنصرانية) تأليف الشيخ محمد
عبده: إن هذه الديانة السمحة ستمحو كل دين آخر وتزيل كل طريقة وتبقى وحدها
على الأرض.
والواقع أن الدين الإسلامي ينتشر في أواسط أفريقيا ومن الممكن أن ينتشر
أكثر. ويتضح من إحصائية الحج الأخيرة أن قد ظهرت في الوجود حركة دينية
شديدة. فإن عدد الحجاج صار 17500 بعد أن كان 7500 وعدد الحجاج الذين
مروا بالقطر المصري 16000.
إن الجامعة الإسلامية تسير بصراحة، وأنا أعرف جامعة أخرى لا صلة لها
بالدين. وهذه الجامعة أهلية محضة، والغرض منها إحياء تلك المدنية الإسلامية
الشرقية القديمة وإظهار جمالها وريحها العاطر القديم. وذلك أمل تشترك فيه ضفاف
الفرات الغنية الخصبة ودمشق القديمة من ورائه أن تتجدد عجائب مدائن الأندلس.
وليس هذا الأمل إسلاميًّا فقط بل إن الحمية التي يبديها الكتاب المسيحيون
حديثو السن لا تقل عن حمية إخوانهم المسلمين قوة وشغفًا. إلا أن هذا الميل لا
يمكن اشتراكه بالجامعة الإسلامية الدينية بدون تكلف في الألفاظ وتوسيع للدائرة إلى
حد لا يسعه مجال مقالة واحدة. ومع ذلك فإني أردت أن أشير إلى هذا الميل الذي
يهم البحث فيه كل من يهتم بشئون هذا الشرق القديم الذي لم تزل شهرته قليلة.
... ... ... ... ... ... ك. ت. خير الله
(المنار)
كتب هذا الكاتب اللبناني البليغ مقالته في الطان لتزداد فرنسا وسائر دول
أوروبة مقاومة لكل ما يرتقي به المسلمون ولذلك كبر الصغير، واستعان بالإيهام
والتهويل، فجعل عبد الحميد مؤيدًا لما يسمونه الجامعة الإسلامية وباثًّا لدعاتها،
وهو أشد خصومها وأكبر أعدائها، وإنما كان يصطنع بعض أصحاب الصحف في
البلاد الإسلامية ليمدحوه ويدافعوا عنه بلقب الخلافة كما اصطنع أمثالهم في أوروبة
للدفاع عنه ومدحه، وهو لم يحتل على جذب السيد جمال الدين إلى الآستانة إلا
ليحبسه فيها ويبطل عمله، ومن كلام السيد فيه (إنه سُلّ في رئة الدولة) .
كذلك جعل المقتبس من الصحف الجامعة الإسلامية وأوهم أن قراءه في
الأقطار الأمريكية والأوقيانوسية من أركان الجامعة الإسلامية وأنهم كثيرون يعدون
بالألوف، والصواب أن جلهم إن لم نقل كلهم من النصارى وهم قليلون. وقد صرح
في الجزء الأول من المقتبس بأنه علمي مجرد من النزعات الدينية، وقد صدق،
فإذا كان مع هذا يعد من صحف الجامعة الإسلامية فالمقتطف والهلال منها كذلك! !
وفى المقالة مبالغات أخرى خرج بها الكاتب عن محيط الحقيقة فمثّلها لأوربة
من وراء زجاجة الآلة المكبرة (الميكروسكوب) ولكنه أراد أن يجعل منها مسألة
الحج فأخطأ في الأرقام وجعل الكثير قليلاً والكبير صغيراً.
جعل السيد جمال الدين هو الواضع الأول لأساس هذه الجامعة وقال: إنها
أسست في مصر وأنها كانت دينية محضة. والصواب أن السيد رحمه الله تعالى لم
يَدع في مصر إلى جامعة دينية محضة بل أسس في مصر جامعة شرقية وحزباً
وطنياً دخل فيه السوريون وغيرهم من سكان مصر الشرقيين.
ومن أغلاطه ما ذكره عن جمعية الاتحاد والترقي من مقاومة الجامعة
الإسلامية، وهذا الغلط مبني على الخطأ في دعوى أن السلطان عبد الحميد كان
نصير الجامعة الإسلامية يبث الدعاة لها في أقطار العالم. والصواب أن الاتحاديين
هم الذين حاولوا دون جميع أصحاب السلطة قبلهم أن يستفيدوا من تعلق قلوب
المسلمين بالدولة فبثوا الدعاة لذلك في جميع أقطار العالم الإسلامي في الوقت الذي
يبذلون فيه جهدهم بإضعاف الدين ورجاله في المملكة نفسها، فزعماؤهم المشهورون
يقاومون نفوذ الدين ونشره من حيث هو دين ويحاولون الانتفاع به من حيث علاقته
بالسياسة.
ومن أغلاطه ذكر اسم مصطفى كامل في بحث الجامعة الإسلامية ووطنية
مصطفى كامل والجامعة الإسلامية ضدان لا يجتمعان، وإنما كان يقدس عبد الحميد
لأجل الانتفال بذهبه، وأوسمته ورتبه، وكذلك خليفته محمد فريد نصير زعماء
الاتحاديين ومقاوم مشروع الدعوة والإرشاد بإغرائهم.
وهنالك أغلاط أخرى لا حاجة إلى تتبعها، ومنها ما لا يترتب عليه شيء
كقوله: إن الكواكبي كان خطيباً مصقعًا وهو لم يكن خطيبًا، وقوله: إنه كان في
القطر المصري جمعية تُدعى العروة الوثقى طلبت من الأفغاني كذا وكذا،
والصواب أن الأفغاني هو الذي ألف جمعية العروة الوثقى.
وجملة القول أن الكاتب يعد كل عمل يعمله المسلمون سعيًا إلى الجامعة
الإسلامية، فإذا قرأوا أو كتبوا، أو أكلوا أو شربوا، يقول: إن كل ذلك استعداد
للجامعة الإسلامية , والمسلمون نائمون يغطون، لم يستيقظ منهم إلا نفر قليلون، قد
رأوا ملكهم ورزقهم يُغتال، وكل ما هو لهم مهدد بالزوال، فهم يقولون لهم في
بعض البقاع استيقظوا، وانظروا كيف تعيشون مع من معكم، ومن جاءكم من
فوقكم، ولا أعرف أحداً يسعى إلى اتحاد حكوماتهم، على أن أوروبا لم تدع لهم
حكومات، وإنما بقي لهم هذه الدولة المنكوبة التي يخربها أصحاب النفوذ فيها من
الداخل، وأوروبا من الخارج، كما قال المرحوم فؤاد باشا الشهير، ونسأل الله
وقايتها من هذه الأرزاء، فقد وصل الأمر إلى حد الدعاء.
__________
(*) مترجمة عن جريدة (الطان) الفرنسية من العدد الذي صدر في 17 ديسمبر وهي لكتاب من
نصارى لبنان.(15/129)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصلح بين الدولة والإمام
رسالة طويلة أرسلها إلى جريدة الحقيقة البيروتية من اليمن ضابط عثماني
شهد الحرب والصلح هنالك بنفسه، لما فيها من الفوائد الجديرة بالتأريخ قال:
كان يوم السبت الواقع في 8 ت 1 سنة 327 يومًا عظيمًا في اليمن حيث
تجلت السعادة على تلك الربوع وانمحى الشقاء والبؤس اللذان كانا يرفرفان عليها
وأراني فخورًا في زف هذه البشرى لإخواني في الدين والوطنية.
إن قرية (دعان) الواقعة على مسافة خمس ساعات من الشمال الشرقي من
قضاء (عمران) سيكون لها شأن في التاريخ حيث عقد فيها الاتفاق، وتم توقيع
شروط الصلح بين الإمام يحيى بن حميد الدين وقائد الحملة عزت باشا فانحسم بذلك
الخلاف وهدأت الخواطر وارتاحت النفوس، ولعمري إن الاتفاق خير وسيلة لحقن
الدماء؛ لأن التطاحن لا يجدي نفعًا بل يكون سببًا لتأصل البغض وضعف القوة.
وقد قام الإمام بحضور القائد وأركان حربه ونواب اليمن وألوف من سكانها
داعية للدولة بدوام العز حتى اعتقد الناظر أن رابطة الاتحاد والإخاء ستكون أبدية
إلى ما شاء الله لما ظهر على الوجوه من علائم الإخلاص وسيماء الاتحاد.
وفي اليوم الرابع من الشهر المذكور كان العلم العثماني يخفق على
(قلعة عمران) بين دخان كثيف حيث كانت أحد عشر مدفعًا تطلق استقبالاً للقائد
وهيئة أركان حربه الذي جاء من صنعاء لاقتطاف ثمرة أتعابه ومساعيه التي صرفها
منذ ستة أشهر في هذه الأصقاع فلم تكد تنتهي أصوات المدافع حتى ظهر ذلك البطل
والتعب بادٍ على وجهه والشيب عام رأسه فشعرت عندئذ بفضله؛ لأن الصلح كان
على يديه وذلك لحكمته ودرايته، وكم من قواد أوفدتهم الحكومة إلى ذلك القطر
رجاء إصلاحه فآبوا من حيث أتوا ولم يستطيعوا أن يفيدوا شيئًا , وإليك أسماء الذين
جاءوا معه:
الميرالاي أحمد عوني رئيس أركان حرب الحملة. والميرلوا عبد السلام باشا
رئيس أطباء الحملة. والقائمقام رجب بك. البكباشية عاصم وعزت. والقول
غاسية قدري وعصمت بك، واليزباشية عاشور وسيفي وصالح وصفوت
وناظم بك، وياور القائد الملازم سرور بك، والكاتبان إلهامي وسليمان بك،
ومبعوث الحديدة محمود نديم بك مع مبعوث صنعا، وقومندان الجندرمة برتو بك،
ومدير مكتب الرشدية والعسكريةبصنعاء، والبكباشي بهاء الدين بك وأحد علماء
الروضة والميرالاي أحمد بك، والسيد أحمد قاسم من أشراف اليمن وأحد الساعين
في هذا الصلح. وقد ضُرب موعد الاجتماع في قرية دعان الواقعة على بعد خمس
ساعات من الشمال الشرقي من عمران (بينهما) وبين قرية (حمر) التي هي
مركز لاجتماع رجال الإمام يحيى كما ذكرنا.
وقد قدم الإمام يحيى إلى دعان قبل أن يغادر عزت باشا صنعاء لكي يعد
المعدات لاستقباله. وفوق ذلك فإنه أرسل لاستقباله حفيد الإمام الأسبق السيد محمد
بن المتوكل الملقب بسيف الإسلام مع كثير من المشايخ ورؤساء القبائل، وهو الذي
حاصر قلعة عمران قبل ستة أشهر وضيق عليها الحصار بدفاعه مدة أربعة أشهر،
وها هو ذا قد قصد اليوم هذه القرية حيث تستقبله الجنود التي كان يحاربها وتحييه
التحية العظمى.
كانت مخايل النجابة وعلائم الذكاء تتلألأ على ذلك الوجه الذي يخالط سمرة
لونه شيء من الاصفرار فكان يخيل للناظر إليه في أول وهلة أنه في حضرة هونغ
هنغ زعيم الثورة الصينية من حيث بهاء طلعته ورَبعة قامته وقلة شعر لحيته
وسدول شاربيه ولباسه الحرير الأصفر.
وكان بين وفود الإمام الموفدين لاستقبال القائد أيضًا ناصر مبخوت من
مشاهير قواد الإمام، وقد كان مستخدمًا برتبة يوزباشي بالجندرمة (أى الشرطة)
ثم فر منها ولحق بالإمام وهناك ظهر منه ما ظهر من قوة وشجاعة.
وفي صباح يوم الأربعاء توجه عزت باشا من (عمران) إلى (دعان) مع
من ذكرنا أسماءهم وعشرين من الخيالة النظامية وخمسة وعشرين من خيالة
الجندرمة، ولو كان ذلك قبل هذا اليوم لما تسنى لعزت باشا أن يبتعد عن عمران
مسافة ساعتين إلا بقوة ألاي (4 توابير) كامل العدد والعدة؛ لأنها آخر الأراضي
الداخلة تحت إدارة الدولة، أما اليوم فقد أصبح تحرسه قلوب اليمانيين وترعاه
نفوسهم. فلما اقتربنا من دعان مسافة ساعة ونصف وجدنا المستقبلين على وجوههم
آثار الشجاعة والنبل وفي مقدمتهم سيف الإسلام السيد أحمد قاسم والمقدم المشهور
مقداد والشيخ عبد الله أبو منصر وعلي سراجي ويحيى شبام وراجح باشا شيخ
قبيلة (سراح) وكانت الحكومة وجهت عليه رتبة ميرميران لاستمالته إلا أنه بقي
من رجال الإمام حتى الآن. والسيد عبد الله بن إبراهيم وهذا كان قد أرسله الإمام
للآستانة في السنة الماضية للمفاوضة مع الدولة بشروط الصلح.
كان هؤلاء الأبطال يقودون العربان ويحاربون الحكومة من مناخة إلى صنعاء.
ويلقب الإمام ثلاثة من رجاله بسيف الإسلام وهم السيد محمد بن المتوكل والثاني
السيد قاسم والثالث أبو نبيلة إلا أن هذا الأخير لم يكن حاضرًا الاحتفال بل بلغني
أنه موجود مع رجاله بجهة (سعدا) .
أما السيد قاسم فهو عم مبعوث صنعاء الميرلاي أحمد بك، وقد خرج من
صنعاء منذ خمسة وثلاثين سنة وهو من ذاك التاريخ بجانب الإمام، وقد رويت عنه
رواية قالها يومًا: إنني لما خرجت من صنعاء كنت لا أملك سوى بندقية إبراهيمية،
أما اليوم فإننا نملك على مئة ألف بندقية من أحدث طرز وما يقرب من مئة مدفع.
أما علي المقداد فهو من عائلة قديمة يرجع تاريخها إلى ألفي سنة، وقد حارب
الدولة منذ عشرين عامًا إلا أن لذلك أسبابًا عظيمة حملته على محاربتها والوقوف
بوجهها وهي أنه قدم أحد القواد العثمانيين في الزمن السالف وأراد أن ينتقم من
العربان فدعا الأمير إليه فلما حضر لديه أمر أتباعه بربط هذا الجليل بعجل المدفع
ثم أمر بإطلاقه فقطعت يداه من عظم القوة وكادت روحه تخرج من صدره، ثم فكه
وتركه مغمى عليه، فلما أفاق عاهد الله والرسول على أن لا يقرب هو ولا أولاده
من الدولة وأن يقف حياته لمحاربتها ما دام فيه عرق ينبض.
هذا نموذج من الإساءة التي يستعملها رجال الدولة الذين يقصدون اليمن
للإصلاح فلذا كان اليمانيون يقفون في وجه الدولة مهما أرسلت إليهم من المصلحين؛
ذلك لأنهم رأوا الإساءة من السابقين وذهبت ثقتهم من اللاحقين.
يبلغ الأمير من العمر 85 سنة وكان رجاله ينقلونه على ألواح الخشب أثناء
المحاربة لعجزه وعدم استطاعته ركوب الخيل، وكان يصدر أوامره الحربية وهو
على هذه الحالة ويدير شئون المحاربين ويقودهم بكل رصانة.
أما عبد الله أبو منصور فقد كان سببًا في انكسار حملة فيضي باشا سنة 1321
شرقي (كذا والمراد السنة المالية) وكيفية ذلك أنه لما هجم التابور المنسوب إلى
ألاي (ريزا) على (شهاره) ودخلها استولى الرعب على قلوب العربان فأوشكوا
أن يفروا من وجه الجنود، لولا أن قام عبد الله أبو منصور وعقل ركبتيه كي لا
يستطيع الفرار إذا هاجمه العدو - وهي وسيلة استعملها لتشجيع العربان وأمثولة
وضعها ليعلمهم الثبات إبان القتال - وقتل بعض الفارين من العربان عبرة لغيرهم
فكانت النتيجة أن ثبت العربان حتى أفنوا التابور عن آخره وضعفت بذلك قوة
الحملة.
نرجع إلى مسألة الصلح: كنا نتقدم إلى (دعان) وكان يتقدمنا ألوف من
العربان يلعبون بخناجرهم ويطلقون بنادقهم في الفضاء احتفاء بنا وهي نفسها التي
كانوا يطلقونها علينا في الوقائع. وكانوا يسيرون إلى جانبنا وهم ينشدون الأناشيد
الحربية التي لا تحلو إلا بالأمم المتصفة بالشجاعة والوفاء.
هناك أثَّر فيَّ هذا المنظر وقلت في نفسي: ما أحلى هذه المؤاخاة وما أسلم
هذه القلوب التي تزينها النية الصافية.
لا شك أن ما رأيناه من مظاهر الإخلاص وعلائم الاتفاق هو نتيجة سعي قادة
الأفكار من الفريقين في إصلاح ذات البين، وأنا على يقين أنه لولا وجود عزت
باشا في اليمن لما تم الصلح ولا رجعت السكينة إلى تلك الربوع، فكم من قواد أموا
هذه البلاد فأهلكوا الحرث والنسل ولم يتركوا نوعًا من أنواع الظلم إلا فعلوه فكان
ذلك سببًا في إبادة ألوف من الجنود الذين ذهبوا ضحية جور هؤلاء القواد من أبناء
الأناضول والروم أيلي.
تلك هي سياسة القواد السابقين التي لم يلتفت إليها عزت باشا بل نظر إلى
المصلحة العامة قبل كل شيء، ولولا ذلك لما تسنى له الحصول على وفاق ووئام
بين طائفتين من المسلمين تقتتلان، فهيأ للجيش العثماني عضدًا قويًّا يبلغ عدده
ثلاثة ملايين؛ لأن الإمام يحكم على هذا العدد ويمكنه أن يكون محاربًا مع الجيش
العثماني جنبًا لجنب إذا مست الحاجة ولا يستبعد القارئ هذا، فالمثال حسي ظاهر
وهو أنه لما بلغ الإمام إعلان إيطالية الحرب على الدولة أرسل نبأً برقيًّا إلى مقام
الخلافة العظمى يقول بأنه مستعد لتقديم مئة ألف مقاتل كاملي العَدد والعُدد.
بينما كنت غارقًا في بحور هذه التأملات إذ تذكرت صحيفة الماضي حيث
كنت شاهد عدل على المقابلة التي وقعت منذ سنتين مع السيد الإدريسي في صبيا
وجرى لنا استقبال حافل وأرسل لنا الإدريسي رؤساء العشائر والمشايخ وبقينا عنده
ثمانية عشر يومًا لم يدُر في خلالها على ألسنتنا غير حديث وجوب اتحاد المسلمين
يدًا واحدة دفعًا للطوارئ الخارجية المحدقة بنا، وكان السيد يقول لنا: إنه لا سلامة
ولا راحة ولا سعادة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا بإطاعة أكبر دولة
إسلامية والالتفاف حولها وهي دولة الخلافة العظمى. إلا أن هذا الائتلاف كان وقتيّا؛
لأن بيننا وبينه الآن دماء تجري كالأنهر وسيوف تلعب بالرقاب فشتان ما بين
ائتلاف الأمس واليوم [1] .
كان الاتفاق مع الإدريسي على أثر تهديده فكنا الساعين إليه قبله خوفًا من
إراقة الدماء فعد ذلك ضعفًا من الحكومة، أما اليوم فإن الاتفاق بخلاف ذلك فقد
أدرك الإمام أن لا فائدة من هذه المحاربات ولا نتيجة من التطاحن وأن ذلك يضعف
القوى فتصافحنا مصافحة ولاء وإخلاص وتعاهدنا أن نكون يدًا واحدة في السراء
والضراء.
(دعان) بلد مبني على قمة جبل يتألف من مئة منزل بين دور وأبراج جعل
واحد منها للإمام يحيى والثاني لعزت باشا قائد الحملة، وبعد أن استرحنا من عناء
السفر ساعتين قصدنا البرج الذي نزل فيه الإمام.
هناك وجدنا بعض العربان وقوفًا على الأبواب حاملين سلاحًا حديثًا ثم انتقلنا
إلى رواق ضيق مظلم حتى بلغنا حجرة الإمام حيث كان جالسًا على مقعد بسيط
يلاصق الأرض متكئًا على وسادة وأمامه أدوات الكتابة وأوراق منها ورقة مكتوبة
ممضاة بختم الإمام ولم تكن الغرفة مزينة إلا أننا رأينا على جدران الغرفة سبحة
وساعة ومصحفًا في محفظة قماش خضراء وسيفًا ونظارة.
وأما الإمام فسنه يناهز الأربعين وعلى وجهه أثر الجُدري حنطي اللون أسود
العينين حادهما قليل شعر الحاجبين والشاربين واللحية، وكنا نرى حينما يبتسم
أسنانه الناصعة البياض , وخلاصة القول فإن سيما الذكاء والنبل كانت تتلألأ على
ذلك الجبين الوضاح والوجه المنير الذي يجذب القلوب.
وسأذكر لكم من قبل الاستطراد أربعة عشر شرطًا من شروط الإمامة سبعة
منها فطرية والباقي كسبي.
الفطري أن يكون علويًّا فاطميًّا سليم الحواس صحيح البنية حرًّا أن لا يكون
ابن أمة عالمًا عادلاً.
والكسبي أن يكون مستقلاً في رأيه سخي الكف جسورًا لا يهرب من القتل وأن
لا يتقاعد عن الحرب إذا كان هناك مسوغ شرعي، وأن يكون وحيدًا في الإمامة
وذكرًا قادرًا على استمالة الأكثرية أي مصيبًا في رأيه [2] .
وقد رأيت أثناء إقامتي في تلك الربوع أن أحسن حكومة ديموقراطية هي إدارة
الإمام.
وجدت الشيخ ناصر مبخوت واقفًا على باب حجرة الإمام حاملاً السلاح كأنه
يؤدي وظيفة الخفر، وكان هذا الشيخ قد قدم للإمام خدمات جليلة حين وفاة والده
وهو الذي سعى مع العلماء في إتمام البيعة له.
إن للإمام يحيى سلطة عظيمة على اليمن حتى إنه يمكن للرجل أن يتجول
الأراضي اليمانية دون أن يمسه سوء إذا كان لديه رخصة من الإمام والعرب
يحترمونه احترامًا زائدًا وذلك لشدة تعلقهم به.
كان الوافد على الإمام حينما يقرب من منزله بدعان يطلق عياره الناري في
الفضاء دلالة على الاحترام والتعظيم.
إن هذا الاحترام العظيم وتلك السلطة المطلقة هما معلقان على كلمة تخرج من
فم شيخ الإسلام الزيدية وذلك إذا ظهر من الإمام عمل استبدادي أو أمر يخالف
الشريعة الإسلامية فعندئذ ينزل عن تلك العظمة وأحيانًا تقود هذه الفتوى الإمام إلى
محل القصاص. وخلاصة القول أن فتوى شيخ الإسلام الزيدية كسيف بتار معلق
فوق رءوس الأئمة.
قبل أن أبين لكم شروط الصلح التي عقدت في هذه المرة أرى أن أذكر للقراء
شروط الصلح السابقة التي طلبها الإمام قبل الدستور لنقابل بين هذه وتلك.
لا يخفى أن الحكومة في الدور السابق كثيرًا ما سعت في الائتلاف والصلح
وكانت الوفود تلو الوفود ولكنه يا للأسف لم يتسن لهؤلاء حقن الدماء ودفع الخسائر
التي كانت تتكبدها الحكومة من إزهاق الأرواح وضياع الأموال، وآخر وفد أرسلته
الحكومة في سنة 1324 هجرية للإصلاح ذات البين بين الطائفتين طلب منه الإمام
الشروط الآتية مفتتحة بهذه المقدمة:
شروط الصلح التي
كان اقترحها الإمام
(وافقت مستمدًّا بعون الله على شروط الصلح ما بيني وبين مأموري سلطان
الإسلام الذي أدعو الله أن يؤيد ملكه لإطفاء نار الحرب الموقدة، وأن نستبدل
الفوضى والعداوة بالصداقة لتسلم البلاد من القلاقل وتحقن الدماء وتزول المحن من
هذه البقعة ويستتب الأمن ويُربط المؤمنون برابطة الإخاء التي لا انفصام لها ويرتفع
الظلم من بينهم.
1- أن تطبق الأحكام على الشريعة الغراء.
2- أن يرجع عزل وتعيين القضاء وحكام الشرع إلى الإمام.
3- أن تكون معاقبة الخائنين والمرتشين منوطة بالإمام.
4- تخصيص رواتب كافية للحكام وللمأمورين كي لا تدفعهم القلة إلى
الارتشاء.
5- إحالة الأوقاف إلى عهدتنا لإحياء المعارف في هذه البلاد.
6- إقامة الحدود الشرعية على مرتكبي الجرائم من المسلمين والإسرائيليين
كما أمر الله بها وأجراها رسوله التي أبطلها المأمورون كأن لم تكن شيئًا مذكورًا.
7- يؤخذ العُشر من المزروعات التي تُسقى بماء السماء، وأما التي تسقى
بمياه الآبار فيؤخذ منها نصف عشر بعد أن يقدر ذلك أرباب الخبرة، وإذا حصل
اختلاف يرجع إلى الأصول التي وضعها عبد الله بن رواحة في الخرص. ويؤخذ
عن البقر والغنم والإبل النصاب الشرعي، وأما الأراضي التي تغل مرتين أو ثلاثًا
فيؤخذ عنها نصف العشر أو ربعه ورفع ما سوى ذلك من التكاليف.
8 - إن جباية الأموال المارّ ذكرها تكون بواسطة مشايخ البلاد تحت نظارة
مأموري الدولة، وإذا تجاسر أحد على أخذ زيادة عن التكاليف المار ذكرها فعزله أو
تحديد الجزاء له راجع إلينا ولا يكون لنا علاقة بقبض الأموال الأميرية.
9- تعفى عشائر حاشد وحولان وحدا وأرحب من التكاليف.
10- يسلم كل منا الخائنين الذين يلتجئون إليه.
11- إعلان العفو العمومي في البلاد كي لا يُسأل أحد عن ماضيه.
12- أن لا يولى أحد من أهل الكتاب على المسلمين.
13- أن تشمل أحكام هذه المواد المار ذكرها صنعاء وتعز وملحقاتها.
14- أن لا تتداخل الحكومة في شئون (آنس) ولا تعارضني في تعيين
المأمورين من قِبلي لهذا القضاء لفقرهم وقلة حاصلاتهم، ولما يخشى من وقوع
محظور في مخالطة مأموري الحكومة لهم.
15- أن تكون المحافظة على هذه البلاد من تعديات الدول الأجنبية راجعة
للدولة.
إن تنفيذ هذه الشروط في البلاد اليمانية يكون سببًا لسلامة الأفراد البشرية
وترقي البلاد وإحيائها فيظهر الأمن بأبهى مظاهره ويحصل منه خير كثير.
لا يخفى أن البعض يستفيدون من كثرة سَوْق العساكر إلى البلاد اليمانية إذ لا
يخلو ذلك من الفائدة المادية لهم، ولعلهم لا يرضون بهذه الشروط؛ لأن باتباعها
يستتب الأمن وينقطع ورود العساكر إلى هذا القطر فيخسرون بذلك ما كانوا يؤملون.
لذلك أطلب صدور فرمان سلطاني يتضمن قبول الشروط المار ذكرها كي
يطمئن اليمانيون وترتاح قلوبهم ولا يعترضني المأمورون في إجراء الأحكام التي
تخولنيها الشروط وإحالة إدارة بلاد (الشرقية) من اليمن التي تشابه بلاد (آنس)
إلى عهدتي.
... ... ... ... ... ... ... ... 13 صفر سنة 1324
هذه هي شروط الصلح التي كان طلبها الإمام من موفدي الدولة إلا أنه لم يتم
الاتفاق عليها في زمن الحكومة الماضية؛ لأن الذين نيط بهم أمر الصلح لم يكونوا
أهلاً له.
كانت المسألة اليمانية بعد إعلان الدستور شغل الدولة الشاغل، وقد كادت
تقرر أن تترك الجبال الآهلة بقبائل الزيدية للإمام يديرها كيف شاء لولا أن ظهرت
في اليمن تلك الحركة الأخيرة وحصل ما حصل.
أنقل للقراء اليوم الشروط التي حصل الاتفاق عليها وهي أخف وطأة من
الأولى [*] [3] :
1- عقد الاتفاق ما بين الإمام المتوكل على الله يحيى بن حميد الدين وقائد
الحملة اليمانية عزت باشا على إصلاح أمور بلاد صنعاء، عمران، حجه، كوكبان،
حجور، آنس، ذمار، بريم، رداع، حراز، وتعز، التي يقطنها الزيديون
الذين هم اليوم تحت إدارة الدولة.
2- ينتخب الإمام حكام مذهب الزيدية ويبلغ الولاية ذلك، وهذه تخبر الآستانة
لتصدق المشيخة على ذلك الانتخاب.
3- تتشكل محكمة استئنافية للنظر في الشكاوى التي يعرضها الإمام.
4- يكون مركز هذه المحكمة صنعاء وينتخب الإمام رئيسها وأعضاءها
وتصدق على تعيينهم الحكومة.
5- يرسل الحكم بالقصاص إلى الآستانة للتصديق عليه من المشيخة وصدور
الإرادة السنية به، وذلك بعد أن يسعى الحاكم في التراضي ولا يفلح. ولا ينفذ
الحكم إلا بعد التصديق وصدور الإرادة بشرط أن لا يتجاوز أربعة أشهر [4] .
6- إذا أساء أحد المأمورين (الحكام والعمال) الاستعمال في الوظيفة يحق
للإمام أن يبين ذلك للولاية.
7- يحق للحكومة أن تعين حكامًا للشرع من غير اليمانيين في البلاد التي
يسكنها الذين يتمذهبون بالمذهب الشافعي والحنفي [5] .
8- تتشكل محاكم مختلطة من حكام الشافعية والزيدية للنظر في دعاوى
أصحاب المذاهب (المختلفة) .
9- تعين الحكومة محافظين تحت اسم مباشرين للمحاكم السيارة التي تتجول
في القرى لفصل الدعاوى الشرعية وذلك دفعًا للمشقات التي يتكبدها أرباب المصالح
في الذهاب والإياب إلى مراكز الحكومة.
10- تكون مسائل الأوقاف والوصايا منوطة بالإمام.
11- صدور عفو عام عن الجرائم السياسية والتكاليف (الضرائب) الأميرية
التي سلفت.
12- عدم جباية التكاليف الأميرية لمدة عشر سنوات من أهالي أرحب
وحولان لفقرهم وخراب بلادهم على شرط أن يحافظوا على صداقتهم وارتباطهم
التام بالحكومة.
13- تؤخذ التكاليف الأميرية بحسب الشرع [6] .
14- إذا حصلت الشكوى من جباة الأموال الأميرية لحكام الشرع أو للحكومة
فعلى هذه أن تشترك مع الحكام في التحقيق وتنفذ الحكم الذي يحكم به عليهم.
15- يحق للزيدية تقديم الهدايا للإمام بشرط أن تكون بواسطة مشايخ الدولة
أو الحكام [7] .
16- على الإمام أن يسلم عشر حاصلاته للحكومة [8] .
17- عدم جباية الأموال الأميرية من (جبل شيرق) لمدة عشر سنوات [9] .
18- يخلي الإمام سبيل الرهائن الموجودين عنده من أهالي صنعاء وما
جاورها وحراز وعمران.
19- يمكن لمأموري الحكومة وأتباع الإمام أن يتجولوا في أنحاء اليمن بشرط
أن لا يخلوا بالسكينة (بالأمن) .
20- يجب على الفريقين أن لا يتعديا الحدود المعينة لهما بعد صدور الفرمان
السلطاني بالتصديق على هذه الشروط اهـ[10] .
استفدنا من هذا الاتفاق فوائد جمة أهمها ترك الإمام لقب أمير المؤمنين للخليفة
والاكتفاء بالإمامة.
ثانيًا: ثبوت القطر اليماني تحت إدارة الدولة وإقرار الإمام بحاكمية الدولة
على البلاد اليمانية كما طلب أحمد مختار باشا في تقريره. اليوم بعد أن كانت الدولة
تعتبر الإمام يحيى عدوًّا مبينًا أصبح الصديق الحميم واعترفت له بالإمامة رسميًّا
لتنظيم إدارة الزيديين.
أعلن الإمام يحيى عدم صلاة الجمعة صباح هذا اليوم لأننا كنا مسافرين فذهبنا
لتناول الطعام حيث كنا مدعوين عند الإمام فعند وصولنا إلى المنزل وجدنا العربان
مصطفين بأيديهم البنادق من طرز موزر لأداء السلام.
دخلنا المنزل فوجدنا شرشفًا (أي سماطًا) ممدودًا على الأرض حوله الأرغفة
فجلسنا حوله وكان إذ ذاك الإمام لابسًا لباسًا من الحرير أبيض حاملاً خنجرًا ذا
حمائل من ذهب حتى إن الناظر إلى الإمام كان يرى في شخصه ولباسه حالة السلم.
كان شيخ إسلام الزيدية جالسًا على يمينه وعلى شماله (سيد عمرو) وهو
أول من سعى في الائتلاف والوفاق مع السيد قاسم بين الإمام يحيى وعزت باشا
الذي كان حينئذ بجانب سيد عمرو فكأن هذا يفتخر وهو جالس بالتوفيق بين قائد
الحملة وقائد اليمن.
كان سيف الإسلام جالسًا عن شمال السيد قاسم وعلى يمين شيخ الإسلام رئيس
أطباء الحملة اليمانية عبد السلام باشا الذي كانت له اليد البيضاء في تطمين قلوب
العساكر حين أصابتهم الكوليرا بين صنعاء ومناخة فجمع أطباءه وأوصاهم أن لا
يفشوا خبر وجود الوباء بين الجند لئلا ترتعد فرائصهم وتنحل قواهم.
كان على يسار عبد السلام باشا الميرالاي أحمد عوني بك رئيس أركان حرب
الحملة الذي مكث في اليمن عامين في حملة سنة 1314 مع المرحوم عبد الله باشا
وهو الذى أخمد فتنة الألبان في السنة الماضية، ولم يكد يتم مهمته حتى ندب
للذهاب إلى اليمن حيث كانت المسألة اليمانية في دورها الأخير فلبى الطلب فخورًا.
هناك أقام خطوط الهجوم والدفاع بين صنعاء ومناخه حتى تمكن من
الاستيلاء على الأول وشهد له بالمقدرة الحربية كثيرون.
كنت أرى على وجهه مخايل التعقل فكأني به يقول للناظر إليه والمستطلع
فكره: إن الذي يود فتح اليمن والاستيلاء عليها يجب عليه أن يجذب قلوب أهلها
ويعاملهم بالرقة لا أن يخرب بلادهم ويدعها قاعًا صفصفًا. وكان لا يحول نظره
عن الإمام؛ لأنه لم يتمكن مدة وجوده باليمن عامين من رؤية ذلك الوجه الوضاح.
دار البحث أثناء جلوسنا حول مائدة الطعام في علم الحكمة والكيمياء وخاض
كل في هذين الموضوعين، وكنا نقارن بين اجتهاد الأقدمين والمتأخرين من هذا
العصر.
ولما أزف وقت الظهر من يوم الجمعة قام الأعراب لتأدية فريضة الجمعة فأمر
عندئذ الإمام الخطيب أن يخطب في القوم الخطبة الآتية:
أحمد الله - سبحانه وتعالى - الذي وفق بين المسلمين الذين تجمعهم كلمة
التوحيد، وفرض عليهم أن يكونوا يدًا واحدة في السراء والضراء، وأمرهم أن
يقاوموا كل من يتعدى عليهم بقوله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194) {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78)
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103) بعد أن كنتم أعداء تضمرون الوقيعة بعضكم ببعض. عباد
الله! ابتعدوا عن الاختلاف فإنه مدعاة للشر والشر مجلبة الخراب {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) [11] إلخ ما قال.
كثيرًا ما دار الحديث بين القواد ورؤساء القبائل عن المحاربات التي كانت
تجري في القطر اليماني وتوصلنا بالحديث إلى أسرار المحاربة، وكم كانت قوة
العربان في المحاربات الأخيرة في كل موقعة.
كان عدد جيش العرب في واقعة بيت شعبان 800 فقتل منهم خمسون وجرح
كثيرون، واضطر الجيش إلى الانسحاب ليلاً.
أما في محاربة مفحق فقد كانت قوة العرب مؤلفة من ثلاثة آلاف محارب وفي
بيت سلوم وغملان كانت عشرة آلاف وقد قال لي أحد المقدمين: إننا نعترف
ببسالة الأرنائوط لأنهم كانوا يهجمون ولا يبالون بالرصاص الذي كان ينصبّ عليهم
كالمطر.
وقد قال لي رئيس ثان من العربان: إننا لا نلتذ بمحاربتكم ولا نقدم عليها إلا
مكرهين؛ لأننا نتدين بدين واحد فلذا كنا في أكثر المواقع مدافعين ولا نهاجم لا
مضطرين ونحن نود أن نكون في محاربة دولة ترغب في التعدي على حقوقنا هناك
ترون منا ما يشيب له الطفل الرضيع وتتأكدون أن العرب يحقرون الموت في سبيل
الدفاع.
إن هذا الاتفاق جعل ما كان بيننا نسيًا منسيًّا غير أننا آسفون محزونون لما
أصاب إخواننا بطرابلس الغرب من تعدي تلك الدولة الطاغية.
كان العرب جميعهم يتألمون من الحرب القائمة بين الدولة وإيطاليا وكثيرًا ما
وفد علينا رؤساء العشائر يسألوننا: هل من سبيل للوصول إلى طرابلس الغرب
لمساعدة إخواننا؟
بينما الجميع في هذا الحديث إذ قام سيف الإسلام بين الجميع وصرخ بصوت
جهوري ملأ الفضاء وقال: إن أعظم قوة للإسلام هي الاتفاق ووحدة الكلمة ثم رفع
يديه ودعا للطرابلسيين بالنصر وسأل الله أن يثبت أقدامهم على محاربة الدولة
الطاغية. وأمن له الجميع.
ثم التفت عزت باشا وخاطب الجميع بقوله: إننا نفضل الموت على أن نرى
الإسلام مستذلاً - فأجابه سيف الإسلام: إن ذلهم يتوقف على انشقاقهم وجهلهم وإني
لا أجد معرة أعظم من هذه فيجب أن تتجدد للإسلام قوته ويرجع مجده وعظمته.
وفى يوم السبت أخذنا نستعد للرجوع فخرج الإمام يحيى بموكب عظيم ودعا
لنا بالتوفيق، وقد أرسل معنا ابن المتوكل وناصر مبخوت لمرافقتنا إلى عمران فلما
اقتربنا منها أطلقت المدافع من القلعة أحد عشر طلقًا كأنها تشير إلى أن السلم في
اليمن قد انتشر والأمن استتب بفضل حكمة القائد عزت باشا.
إن هذا الاتفاق كان سببًا لحقن الدماء وعدم تيتم الأطفال وثكل الأمهات أبناءهم،
ولا شك أنه سيزين تاريخ العثمانية.
كانت الدولة تنظر إلى اليمانيين بنظرة العداء وقد روت أرضهم من دماء أبناء
الرومللي والأناضول (وغيرهم) فقتل فيها ما ينيف على الخمسمائة ألف [12]
وأنفقت الملايين من الدراهم في هذا السبيل إلا أن ذلك يرجع لسوء الإدارة في تلك
القطعة.
لما حصل الانقلاب في المملكة العثمانية أخذ رجالها يبحثون عن علاج يداوون
به هذا الداء العُضال المتأصل في جسم الدولة إلى أن قُدِّر لعزت باشا أن يكون
الشفاء على يديه وقد وُفِّقَ لعقد الائتلاف مع الإمام يحيى الذي هو رئيس مليون
ونصف من الزيدية الذين لا يبالون بالحروب يأتمرون بأمره ويخضعون لإشارته
وللإمام ثروة عظيمة يبلغ ريعها 200000 ليرة سنويُا، وله نفوذ عظيم في اليمن.
يجدر بنا أن نعترف بأن سياسة القوة التي سارت عليها الدولة في اليمن لا
تفيد شيئًا وأنه لمن الظلم الفادح أن تغتصب أموال اليمانيين وتخرب ديارهم لا لذنب
جنوه بل لهوى في نفوس القواد الذين كانوا يؤمون البلاد اليمانية فيهلكون الحرث
والنسل.
أي صلاح أدخلناه في اليمن منذ استيلائنا عليها. وأي صلاحية تخولنا
الحاكمية عليها ما دامت الإدارة سيئة وأرباب الحل والعقد في الحكومة السالفة لا
يرقون لحال اليمانيين ولا يرحمون.
كانت إدارتنا لليمن حتى اليوم بالمدفع وتمنعنا -يا للأسف- عن تنفيذ خطة
الإصلاح التي وضعت له فنحن لا ننكر على الحكومة الحالية ما أجرته في المدة
الأخيرة؛ لأن الإصلاح لا يتأتى إلا بالقوة [13] .
على أن فرنسا لما دخلت الجزائر أدارت أمورها بستين ألف جندي لكنما نحن
العثمانيين لا يجمل بنا أن نفعل فعلها في اليمن من حيث الظلم بل من حيث
الإصلاح.
أخطأ الذين كانوا يقولون بوجوب الزحف على (شهارة) فماذا ينفعنا؟
فقد سبق لنا الدخول إلى (غفلة) غير أننا رجعنا بخُفَّيْ حُنين بعد أن أريقت
دماء كثيرة من الطائفتين الإسلاميتين. فليس الإصلاح في الاستيلاء على البلاد،
وإنما الإصلاح كل الإصلاح أن نجذب قلوب اليمانيين فيميلون بطبيعتهم إلى الدولة
ويعترفون بحاكميتها ويتفيئون ظلالها.
لو استعمل القواد السابقون ما استعمله عزت باشا من الحكمة والدراية لكانت
اليمن جنات تجري من تحتها الأنهار.
إن عزت لما أعلن أنه سيأمر بين الناس بالعدل ما كان من اليمانيين إلا أن
وفدوا عليه في صنعاء زرافات زرافات واثقين من كلامه، ثم كانوا لا يلبثون بعد
دخولهم ومحادثتهم له أن يخرجوا من عنده ملآنة أعينهم بالدموع؛ (لأنهم أيقنوا
إخلاصه في الخدمة) وحاملي الهدايا الثمينة، إلى أن حصل الاتفاق بينهم ورفع
الخلاف، وبدل اليمن ثوبه البالي بثوب جديد.
نعم إن هذا الاتفاق الذي حصل بين الزعيمين سيدر بالخير والبركة على
الأقطار اليمانية فتنجلي سماؤها التي كانت متلبدة بدخان البنادق والمدافع الكثيف
وتحرث أرضها ويشتغل فيها أهلها ويذوقون طعم الأمن والسكنية فيهدأ بالهم،
وتسعد حالهم، وستكون الحوادث الماضية درسًا لرجال الدولة فلا يضعون الشدة
حيث يجب أن يكون اللين اهـ ما نشر في الحقيقة بتصحيح قليل للعبارة.
***
حديث في صلح اليمن لضابط عثماني كبير
نشرت جريدة المفيد البيروتية حديثًا لأحد صاحبيها أو محرريها مع أميرالألاي
إحسان بك الذي كان رئيس أركان الحرب لفيلق اليمن عند إلمامه ببيروت عائدًا من
اليمن قال الكاتب:
ضمني وأميرالألاي إحسان بك مجلس، ولما علمت أن قدومه من اليمن وأنه
من كبار الضباط استطردته في الكلام إلى البحث في شئون الاتفاق مع الإمام. قلت:
وهل لإحسان بك معرفة بعزيز بك؟ قال: نعم هو من أعز أصدقائي وهو الرجل
الذي جمع إلى همة الشباب حكمة الشيوخ، قلت: وما عندك من نبإه؟ قال: إنه
بطل هذا الاتفاق.
(قلت) : وكيف كان ذلك؟ قال: (إن عزيز بك شاب غيور أنِف فخور
يعز عليه أن يستمر القتل بين الجنود العثمانية وبين عرب البادية (كذا) وقد أتى
هذا القطر والتحق بحملة اليمن وفي النية أن يوفق بين عزت باشا والإمام يحيى
حقنًا للدماء، وقد نجح مسعاه لدى قائد الحملة، فإن عزت باشا لم يكن ممن يحبون
سفك الدماء دون طائل ولا ممن يقودون الجيوش بقصد التخريب والتدمير.
هذه العاطفة التي وجدها عزيز بك في قلب عزت باشا سهلت عليه سبيل
الاتفاق مع الإمام.
قلت: إن عزيز بك هو بطل الاتفاق وأؤكد لكم أن هذا البطل هو من أصدق
الرجال الذين خدموا الدولة والأمة معًا، فإن خوفه على دولته من الانقراض
لاشتغالها عن الأمور الخارجية بتجريد الحملات على أبنائها، و (حبه) بقاء
العرب ذخرًا للدولة تستصرخهم عند الحاجة، حملاه على عقد الاتفاق، وقد تمكن
بطلاقة لسانه من إقناع الإمام بأن القتال إذا استمر بينه وبين الدولة فإن الأجانب
الذين يتربصون بنا الدوائر سوف يستولون على هذه البلاد.
على هذه الفكرة بني أساس الاتفاق بين عزت باشا والإمام يحيى ومن ذلك
يظهر لكم أن عزيز بك هو بطل هذا الاتفاق.
- ما وجه الخلاف الذي من أجله كانت تسفك دماء الأبرياء؟
إن الإمام منذ أعوام كثيرة يدعي الإمامة وإنكم إذا قرأتم نص ختمه تعلمون
وجه الخلاف وسبب خروجه على الدولة. كان للإمام قبل الاتفاق ختم كبير نقش
عليه: (نصره الله) ومن تحتها بصورة هلال (السيد يحيى بن محمد حميد الدين)
ويلي ذلك كلمة (أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين) هذا هو ختم الإمام
قبل الاتفاق. وأما بعده فأصبح كذلك (إمام الزيود السيد يحيى بن محمد حميد الدين)
ومن ذلك تعلمون بسبب الحروب اليمنية، فعزت باشا وعزيز بك لم يحقنا دماء
أبناء الأمة اليوم فقط بل إنهما حقنا دماء أبناء كثيرة لم يخلقوا بعد، والله يعلم كم
كانت هذه الحروب تستغرق من الأجيال لولا هذا الاتفاق.
كم يبلغ عدد الجند في اليمن اليوم وما هي خسارتهم في الحرب الأخيرة؟
(يناهزون ستين تابورًا وتقدر خسارتهم بستة آلاف ومعظمهم مات بسبب
الأمراض التي كثيرًا ما تنتشر بين الجنود لحرارة الإقليم) .
- هل يتقاضى الإمام راتبًا من الدولة؟
(نعم يتقاضى ألفًا ومائة ليرة عثمانية مشاهرة ولمشايخ العربان رواتب
مقننة أيضًا) .
- ماذا كانت فوائد الاتفاق بعد أن عقد؟
(وزع الإمام منشورًا على جميع القبائل الموالية له يحذرهم من الخروج
على الدولة والتعدي على الجنود النظامية والانصراف عن مناوئة الدولة إلى
الاهتمام بزراعة الأرض فكان من ذلك أن الجندي النظامي أصبح يروح ويغدو
بسلاحه الكامل في أنحاء اليمن دون أن يعارضه معارض) .
(أما الرسوم الأميرية فتجبى بواسطة رجال الإمام الذين يصحبون رجال
الجندرمة، ولم نسمع بعد عقد الاتفاق بشيء مما كان يقع بين الجباة وبين العربان
الأمر الذي كان يفضي إلى امتشاق الحسام وسفك الدماء بين الفريقين) .
(أكثر بلاد الدولة أمنًا اليوم هو القطر اليماني غير أن اليمن هي اليوم في
حالة البداوة، وإن في خصب أرضها وطيب تربتها ما يساعد الدولة على نقلها من
حال إلى حال) .
(تمد الدولة اليوم خطًّا حديديًّا من الحديدة إلى جميلة وما مدته إلى الآن يقدر
بثلاثة كيلو مترات، إلا أنها ساعية بتسوية الأرض وبسط الطريق لكن مد السكة
الحديدية لا يجدي الأهالي نفعًا؛ إذا لم تكن البلاد غنية، وإذا أتيح لهذه البلاد أن
تغنى فأرضها ستكون كنز هذه الثروة) .
(إن الخط الحديدي يسهل نقل الجنود إلا أن الدولة إذا جرت على سياسة
عزت باشا عقدت مع مشايخ القبائل عقود الاتفاق في بطن الجزيرة وساعدت على
زراعة الأرض أصبح هذا الخط اقتصاديًّا أكثر منه عسكريًّا، فإن اليمانيين متى
قعدوا عن قتال الدولة وتعهدوا معها انصرفوا إلى الزراعة والصناعة، وإن ذكاء
هؤلاء القوم يساعد كثيرًا على انتشار المدنية في تلك الربوع، وإن من مصلحة
الدولة أن يساس هؤلاء سياسة الحلم لا سياسة العنف والشدة.
(فى بعض الأنحاء من اليمن تنبت الأرض أربع مرات في السنة وبعضها
تنبت مرتين فإذا عنيت الدولة بزراعة البلاد اليمنية كان لها مورد جديد يزيد في
ماليتها، وإنه ليؤسفني أن أصرح لكم بأن الحكومة أرسلت كثيرًا من الأدوات
الزراعية ولكنها لم ترسل معلمين زراعيين حتى الآن وهذا الإهمال كان السبب في
تعطيل هذه الأدوات.
(إن حكومة الآستانة لم تغفل هذا الأمر فقط بل إنه مضى على عقد الاتفاق
شهور ولم يصادق عليه إلا أول من أمس، وكثيرًا ما كان عدم وفائنا سببًا في
خروج مشايخ اليمن علينا فإن الوفاء بالعهد عند العرب من الأمور التي يتوقف
عليها بقاء ثقة المحكوم بحاكمه) .
هل تعهد الإمام لقاء الامتيازات التي منحته إياها الدولة بالمساعدة عند الحاجة؟
(نعم وعد بتقديم مائة ألف مقاتل بالعدة الكاملة، وهذه قوة لا يستهان بها.
- ما هي سياسة عزت باشا مع الإدريسي وهل يمكن عقد اتفاق معه؟
(من رأيي أن تعقد الدولة اتفاقًا مع الإدريسي ولكن الامتيازات التي تكون
للإدريسي هي لا شك غير امتيازات الإمام، فإن الإدريسي حديث في المهدوية غير
أن في عزم عزت باشا أن يجرد عليه قوة من الجيش اليمني وستبدأ عما قريب
الحركات العسكرية في عسير، ومن رأي عزت باشا أن الإدريسي قد ادعى
المهدوية حديثًا، وأما الإمام يحيى فنسبه ثابت والإمامة وراثية في عائلته، فإذا عقد
القائد معه اتفاقًا يخشى من ظهور مئات أمثال الإدريسي، فقضاء على كل دعوى
من هذا القبيل يرى القائد من الضرورة خضد شوكة الإدريسي، ولكن رأيي الخاص
هو أن عزت باشا إذا جرد على الإدريسي عسكرًا لا بد وأن يرجع إلى فكرة الاتفاق،
فإذا كان لعقد الاتفاق سبيل فمن واجب الحكومة أن لا تدع هذا السبيل) .
- وهل في تلك الأنحاء غير الإمام يحيى والإدريسي من مشايخ العرب يعتد
بهم؟
(يوجد شرقي اليمن بعض السلاطين وسياسة عزت باشا اليوم استمالة هؤلاء
السلاطين دفعًا لما يتهدد البلاد من الأخطار، فإذا تغاضت الحكومة عن إرضاء
هؤلاء فإن دولة أجنبية تستميل إليها هؤلاء خفية بما تمنحهم إياه من الأموال وما
تقدمه لهم من الأسلحة. وأذكر لكم من هذا القبيل أن سلطانين من سلاطين شرقي
اليمن لما سمعا باتفاق عزت باشا مع الإمام وعلما باستقامة هذا القائد ورويته قدما
إليه وعرضا عليه الإطاعة للدولة، وقد اعترفا لعزت باشا بدسائس بعض الدول
وأطلعاه على رسائل سرية كان عمال تلك الدولة يبعثون بها إليهما.
(إن عزت باشا يتبع الآن سياسة حسناء وقد أحسن وِفادة هذين السلطانين
واعترف بسلطتهما شرقي اليمن وأعطى كلاً منهما علمًا عثمانيًّا وأنعم عليهما بالخلع
ومنحهما الأموال، وعندي أن من الواجب على الحكومة أن تسير على هذه السياسة
مع العرب ومع بقية العناصر العثمانية.
(وقد ينبغي للحكومة حفظًا لهذا الملك من الانقراض أن تسير في الداخلية
على سياسة الحلم واللين وأن تدَّخر هذه القوات للعدو الخارجي الذي يتهدد
البلاد اهـ.
(المنار)
إن ما رآه هذا الضابط العاقل من وجوب اتفاق الدولة مع الإدريسي هو
الصواب المحتم، وإن قتاله خطأ أو خطر، وإنه هو يتمنى الاتفاق والخضوع
للدولة كما نعتقد، وهنا قبل أن تقاتله الدولة وتقاتل الإمام اقترحنا عليها الاتفاق
معهما كليهما، وكلمنا رءوف باشا في ذلك وجزمنا له بأن الإمام والإدريسي يرغبان
فيه ويخلصان للدولة ما وفت بعهودهما، كما بينا ذلك في المنار. وقد تبين صدق
رأينا في الاتفاق مع الأول وسيتبين في الثاني. ثم يتبين صدق رأينا في الاتفاق مع
سائر أمراء جزيرة العرب وزعمائها أيضًا. وكان بعض الزعماء في حضرموت
وغيرها كتبوا إلينا من بضع سنين يخبروننا بدبيب الدسائس الأجنبية في بلادهم،
ورغبتهم في أن ترسل الدولة إليهم أعلامها وعمالها ليديروا أمرهم، فعرضنا ذلك
على أحمد مختار باشا الغازي فقال: إنه الآن غير ممكن لوعورة الطرق وقلة، أو
فقد الرجال الأكفاء الذين يرضون أن يقيموا في تلك البلاد، وتعذر إقناع السلطان
بذلك. والآن قد سنحت الفرصة فعلى الدولة أن تغتنمها، وتجعل جزيرة العرب هي
الركن الأقوى لمظاهرتها وتأييدها، على نحو ما أشرنا إليه في الجزء الأخير من
السنة الماضية.
كان ساسة الدولة يظنون أن إصلاح جزيرة العرب وتقويتها خطر على سلطة
الترك يخشى أن يفضي إلى إيجاد دولة عربية مستقلة يدعي حاكمها الخلافة، وهذا
هو السبب لجعلهم بلاد الحجاز خرابًا، ومتابعة الحرب في اليمن وغيرها كما أشار
إلى ذلك إحسان بك، ولكنه لا يرجى منه أن يذكره بغير الصيغة التي ذكره بها.
ولم يوجد في الدولة رجل أمكنه أن يجعل الجزيرة ولايات تركية أو عثمانية، ولا
أن يجعلها ولايات ممتازة مرتبطة بالدولة بعسكريتها وخارجيتها، مع بقائها مستقلة
في إدارتها.
أما الآن وقد ظهر للعيان أن العرب أشد العناصر العثمانية حرصًا على
الارتباط بالدولة والإخلاص لها، باستقتالهم في حرب إيطاليا بطرابلس الغرب،
وشرائهم بقاء التبعية العثمانية بكل ما يملكون من مال ودم - وظهر أيضًا أن الدولة
تعجز عن حفظ جزيرة العرب - وهي مهد الإسلام - من تعدي الدول البحرية كما
عجزت عن الدفاع عن طرابلس الغرب ونيط الدفاع عنها بأهلها - وظهر أيضًا أن
الدولة العلية نفسها على خطر، بعد ما أجمعت أوروبا على عدم التزام معاملتها
بقوانين حقوق الدول، - أما وقد ظهر كل هذا فقد صار من الواجب المحتم على
الدولة أن تعقد الاتفاق مع جميع أمراء الجزيرة فتقر كل أمير منهم على ما هو عليه،
وتساعده على التعليم والتمرين العسكري وسائر ضروب الإصلاح، ويكون أهم
أصول الاتفاق بينها وبينهم هو الاتحاد العام في الجيش عند الحاجة وكيفية الإنجاد
والدفاع عن المملكة.
***
حال اليمن على عهد السلطان
محمود الثاني
كان ابتداء تحرش الدولة العثمانية باليمن في سنة 934 في عهد السلطان
سليمان القانوني أي زهاء أربع مئة سنة، وقد بينا ذلك في المجلد الثالث عشر نقلاً
عن كتاب (البرق اليماني في الفتح العثماني) ومن ذلك أن الحرب كانت سجالاً
بين الدولة واليمانيين، وبقيت كذلك إلى الآن.
ولما ولي السلطان محمود الثاني كانت الدولة محفوفة بالنوائب والأحداث،
ففي زمنه كانت فتنة الإنكشارية، والحرب الروسية، وعصيان والي يانية ووالي
بغداد، وثورة اليونان، وحرب إيران، وحرب محمد علي باشا ودخوله الشام، ثم
حرب الوهابية في نجد والحجاز، ولكن اليمن كانت راضية في ذلك العهد بالصلح
بينها وبين الدولة العلية على مال تؤديه. وقد وقف بعض أصدقائنا في بعض دور
الكتب في الآستانة على صورة بعض المكتوبات الرسمية في ذلك وهذا نصها:
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
من خليل باشا إلى الجناب العالي الفاضل الأديب والكامل الأريب العالم
العلامة والمنصح الفهامة حضرة أخينا الشيخ محمد بن أحمد الحرازي سلمه الله
تعالى آمين. وبعد السلام على الدوام وصلت كتاب حضرة أخينا الإمام حفظه الله
تعالى وذكر قدومكم إلى بندر الحديدة وصحبتكم المبلغ المائة الألف الريال الفرنسية
المعجلة فصادر إلى طرفكم معتمدنا الحاج يوسف أغا لقبض المبلغ المذكور وتسليم
البنادر إلى طرفكم ويقيم عندكم لقبض المائة الألف الريال الفرنسية المؤجلة كل شهر
خمسة وعشرين ألف ريال فرنسيًا من أول شهر شوال عام 1234 وآخرها شهر
محرم الحرام عام سنة 1235 فليعلم ذلك.
حرر في شهر رمضان عام ألف ومائتين وأربعة وثلاثين سنة 1234
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صورة الختم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... رب سهل
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمور خليل
(2)
الحمد لله تعالى
بلغني من يد القاضي محمد الحرازي وسيد الفيروز وأمير اللحية فتح الله
موكلين من طرف الإمام المهدي مائة ألف ريال معجلة التي يوكلني بقبضها أفندينا
خليل باشا حفظه الله تعالى بتاريخ شهر شوال سنة 1234 وقبضتها بالتمام والكمال
من المذكورين الموكلين والسلام ختام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صورة الختم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... يوسف عبده
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 1328
__________
(1) البعد بين الائتلافيين أن الأول كان غير مبني على الإخلاص من مندوب الدولة فيه وهي التي لا ترضى إلى الآن بالصلح مع الإدريسي بل ترى سحقه كما سيأتي بيانه عن ضابط عثماني آخر.
(2) المنار: هكذا أوردها، وقد خلط فيها بين الكسبي وغيره.
(*) نشرت طنين هذا الاتفاق بالتركية وترجمه مندوب المقطم فرأينا أن نشير إلى الفروق القليلة بين النسختين ونشير إلى المواد بأعدادها في الهامش دون الأصل.
(3) في المادة الأولى عند ذكر بريم كلمة (ميوم) بين قوسين كما رأيت. وفيها زيادة (وما حولها) بعد سرد أسماء البلاد وآخرها في الذكر تعز ورداع.
(4) في نسخة طنين أن الفريقين يسعيان في الصلح والتراضي.
(5) في نسخة طنين (الحكومة تعين الحكام للشافعية والحنفية فيما عدا الجبال) .
(6) (لا تكلف الحكومة أهل اليمن غير التكاليف الشرعية) .
(7) للزيدية أن يقدموا الهدايا للإمام إما توًّا وإما بواسطة مشايخ الدولة أو الحكام، ففيها زيادة جواز تقديمها بغير واسطة.
(8) (يؤدي الإمام عشر أراضيه) وليس فيها ذكر الحكومة.
(9) في نسخة طنين أن جبل شيرق حوالي آنس وأن أهله في غاية الفقر.
(10) (بعد التصديق على هذه الوثيقة الائتلافية) ائتلافنامه (بالفرمان السلطاني لا يتعدى أحد الفريقين على البلاد التي هي تحت إدارة الفريق الآخر.
(11) المنار: نقل الكاتب ما عدا الآية الأولى من الآيات (وكذا سائر الخطبة) بالمعنى؛ لأنه لم يكن يحفظها فزاد ونقص وقدم وأخر فنقلناها كما هي لأنه الواجب.
(12) يريد الكاتب قتلى الحروب الأخيرة من عهد حملة أحمد مختار باشا إلى حملة عزت باشا، وإلا فالقتلى هنالك يعدون بالملايين إذا ارتقينا في عدهم إلى أول تصدي الدولة لليمن في زمن السلطان سليمان وكان أكثر الجيش الذي يرسل إلى هنالك من العرب المصريين وغيرهم (راجع ص 225 من المجلد الثالث عشر) .
(13) إن الكاتب على إنصافه لم ير بدًّا من عذر الحكومة الحاضرة على سوقها الحملة التي هو أحد رجالها لحرب اليمن ليبرئ نفسه بتبرئتها والحق أن إثمها كإثم من سبقها أو أكبر، وقد أخطأ في تقليده بعض ساسة الدولة بجعل الترك من العرب كالفرنسيس من أهل الجزائر، وأخطأ أيضًا في جعله هذا الصلح أثر قوة الحملة وهي لم يتم لها الظفر، وكان الإمام قد رغب في الصلح قبلها وكاد ثم في وزارة حلمي باشا لولا أن أوقفه الاتحاديون لتنفيذ سياسة المدفع السابقة.(15/138)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(هداية الباري، إلى ترتيب أحاديث البخاري)
رتب السيد عبد الرحيم عنبر الطهطاوي أحاديث (التجريد الصحيح لأحاديث
الجامع الصحيح) المعروف بمختصر الزبيدي لصحيح البخاري على حروف
المعجم وسماه بالاسم الذي تراه في العنوان وطبعه مشكولاً بالشكل الكامل، وجعل
في جانب كل صفحة جدولين يذكر في أحدهما اسم الراوي من الصحابة وفي الثاني
اسم الكتاب، وفي الهامش الباب الذي ورد فيه الحديث من كتب صحيح البخاري.
ووضع في هامشه شرحًا وجيزًا للأحاديث مفصولاً بينه وبين المتن بخط عرضي
دالاًّ عليه بالأرقام. فكان مؤلفًا من جزئين صفحاتهما 528 - فهذه النسخة أمثل نسخ
هذا الكتاب للمراجعة والمطالعة فنثني على همة السيد عبد الرحيم عنبر ونشكر له
عمله هذا ونحث القراء على الإقبال عليه.
(توجيه النظر إلى أصول الأثر)
سِفر كبير ألفه الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي نزيل مصر، وطبع على نفقة
الجمالي والخانجي الشهيرين. وظاهر التسمية أن الكتاب في علم أصول الحديث
ومصطلحه، وقد قال المصنف في التعريف به: إنه فصول (ينتفع بها المطالع في
كتب الحديث وكتب السير والأخبار، وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول
الحديث) وكتب على طرة الكتاب: إن الداعي إلى تأليفه ما وقع عليه العزم من
تحرير الكلام في السيرة النبوية المنتقاة مما كتبه ابن هشام.
مهما قال المؤلف في تعريفه، وسبب تأليفه، فلا يخرج عما سبق إلى الذهن
من قراءة اسمه، فهو في علم الحديث. ولكن فيه استطرادات نافعة، ومسائل
محررة، وأوابد مقيدة، لا تكاد توجد مجموعة مع ما يناسبها في كتاب. وناهيك
بسعة اطلاع الشيخ طاهر وحُسن استحضاره واختياره. فمن ذلك الكلام في جمع
القرآن وتدوين الحديث، وابتداء التأليف، وبحث التواتر، والحديث المتواتر، وقد
أطال فيه كما أطال في بحث الحديث الصحيح، وكتابي الصحيحين، وبحث الجرح
والتعديل وعلل الحديث. ومن الاستطرادات المفيدة الاستطراد في كتابة الحديث
وضبطه والتصحيف فيه إلى الكلام في الخط العربي وتدرجه في الترقي وعلائم
الفصل فيه والحركات العربية والوقف وما ينبغي من وضع العلامات له وللإمالة
والإشمام وغيرهما من كيفيات الأداء. وقد أطال في ذلك للحاجة إليه والبحث عنه
في هذا العصر.
وجملة القول أن هذا الكتاب لا يُستغنى عنه بغيره وهو من الكتب الشرعية
النافعة. ويطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز وثمن النسخة منه 15 قرشًا.
__________(15/159)
ربيع الأول - 1330هـ
مارس - 1912م(15/)
الكاتب: عبد الحميد شكري
__________
الوفاق بين الإسلام والنصرانية
أرسل إلينا صاحب الإمضاء هذه الرسالة من بضعة أشهر فحالت كثرة المواد
عن نشرها قبل الآن.
دعاني حب الإنسانية والسلام أن أبذل ما في وسعي للتصافي بين بني الإنسان
والتآخي بين بني آدم وتطهير قلوبهم من البغضاء والشحناء ونزع التعصب الذميم
من بينهم ليعيشوا إخوانًا في صفاء ونعيم. ولما كان الإسلام والنصرانية أكثر
شيوعًا وأعظم عنصرًا في الأرض أبدأ في التآلف بينهما وأرجو القراء أن لا
يستنكروا كبيرًا على إنسان ولا يستبعدوا مقدورًا على أحد فإن الله يهب الفضل لمن
يشاء ويؤتي الحكمة من يشاء ويهدي من يشاء، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله.
ولما قامت النصرانية بالكتاب المقدس وقام الإسلام بالقرآن الشريف أستهدي
كُلا بكتابه وأستميله بحكمه وألفته إلى محكم آياته فإن الناس عن كتاب الله لاهون،
وعن العمل بدينهم تائهون، وإنه لا تعصب بين الدينين، ولا كراهية بين الفريقين
إلا ما ابتدعته سلطة الفرد من التنافر والدين نفسه منه بريء. قرأت التوراة
والإنجيل والقرآن فلم أجد فيها كرهًا ولا بغضًا بل اتحادًا وارتباطًا (وما أشقى
الإنسانَ إلا الإنسانُ) فكلنا خلق الله نعبد الله ولا نتخالف إلا من سوء التفاهم بيننا
فهلموا نعقد الاجتماعات ونتفاهم كتاب الله أولى من المراقص والملاهي. وكل فرد
منا يمكنه أن يقرأه حتى إذا تدبره لا بد وأن ينزع من نفسه كل تعصب منكر، وإن
قلمي ليرتعش طربًا وسرورًا وفؤادي ينتعش حنانًا وإشفاقًا لما سأقوله محققًا لكل
عالم حليم حكيم وهو:
إن الكتاب المقدس يأمر المسيحي أن يكون نصرانيًّا مسلمًا والقرآن الشريف
يأمر المحمدي أن يكون مسلمًا نصرانيًا نعم نعم بينهما حب وسلام، وائتلاف ووئام،
قال تعالى في سورة البقرة: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64) لماذا لا نسمع داعي الله إلى هذا الحق هذا الاتحاد هذه
الرابطة المتينة؟ أليس لنا قلوب نعقل بها أم على الصدور أقفالها؟ كلا فمنا
العالمون ومنا المحامون ومنا الحكماء والمهندسون وكلنا أحرار. وإذا لم نرجع إلى
الحق في عصر النور والحرية ونفك نفوسنا من قيود التقليد فمتى يا تُرى؟ أنتبع
آباءنا ولو كانوا خاطئين؟ وإذا لم نعدل لنفوسنا في ضمائرنا فإلى من يا ترى؟
واأسفاه والله واأسفاه. فإننا إذا نظرنا في شيء واتضح لنا الحق ظاهرًا مبينًا
وكان خلاف ما يتبعه آباؤنا نجد في نفوسنا حرجًا وصلابة وجمودًا لما ألفينا عليه
آباءنا مهما كان باطلاً. ألا ترى أن من يعبد العجل يعبده بقلبه؛ لأنه وجد أباه له
عابدًا؟ والمسلم والنصراني يعلمان أنه آثم كافر ويريد كلاهما أن يهديه إلى الحق
ويود المسيحي أن يكون المسلم نصرانيًّا كما يرغب المحمدي أن يكون النصراني
مسلمًا ويرى كلاهما أنه على الحق وغيره على الباطل. لماذا لماذا لماذا! لا شك
أننا لآبائنا مقلدون ولو كانوا في ضلال مبين. عجبًا عجبًا! أين العلوم العصرية؟
أين النور الساطع؟ أين الذكاء؟ أين الحرية؟ ألم تنقشع غيوم الجهالة؟ أفلا تنمحي
ظلمة التقليد الأعمى؟ كدنا اليوم نلمس السماوات بالاختراعات فلماذا لا نفكر في
الاتحاد والسلام؟ لم لا نسير على طريق البحث لنهتدي إلى الحق؟
أيها القراء إني سرت مستقيمًا فوصلت إلى باب الحقيقة بالبحث والبرهان فمن
وجدني زائغًا فليقومني بقلم حادّ وله مني مزيد الشكر وله الأجر من الله.
ورد في الكتاب المقدس في إنجيل متّى إصحاح 5 - (28) سمعتم أنه قيل
عين بعين وسن بسن (29) وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك
على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا… (43) سمعتم أنه قيل: تحب قريبك
وتبغض عدوك (44) وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا
إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.
انظر أيها النصراني إلى هذه الوداعة وإلى هذا الاستسلام المنتهي هل تجد في
ذلك تعصبًا أو كراهية لأخيك المسلم؟ كلا. وإن الله يعلم أن الناس لا يصلحون
بهذا الاستسلام المتناهي وظهرت عليهم آثار علمه بالمخاصمة والشحناء فأمرهم
بالحكمة البالغة فقال في القرآن الشريف في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ *
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 38-43)
أمر بالشورى وأمر بالقصاص إذا كان لمصلحة واستحسن الصبر والغفران، أليست
هذه الآيات القصيرة كافية وحدها لأن تكون توراة وإنجيلاً وقرآنا؟ لو عمل الناس
بها لعاشوا في هناء وسرور. فيا أيها النصراني أحب عدوك وبالأولى المسلم ابن
عمك ويا أيها المسلم عليك بالصبر والغفران.
ورد في الكتاب المقدس في إنجيل يوحنا إصحاح 17 (3 وهذه هي الحياة
الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فما هو
السبب الذي يدعوك أيها النصراني أن تخاصم المسلم وهو يؤمن بأن الله واحد وأن
السيد المسيح عليه الصلاة والسلام رسوله كما ورد في القرآن الشريف {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف: 110) أيها المسلم اقتد بما قاله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ
* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ} (الروم: 1-5) فافرح بما يكون لأخيك النصراني من النصر المبين
على الكافرين وكن معه على اتحاد ووفاق. أغير ذلك دلائل على وجوب
التصافي والتضامن بين الفريقين ونزع البغضاء من الطرفين؟ نعم يوجد أكثر من
ذلك اقرأ رسالة يوحنا الأولى إصحاح 2 (1 يا أولادي! أكتب إليكم هذا لكي لا
تخطئوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار 2 وهو كفارة
لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا) فهو يقول: إن
المسيح يشفع ليس للنصراني فقط بل للمسلم بل لخطايا كل العالم أيضًا. فعلام أيها
المسيحي تبغض أخاك المسلم الذي آمن بالتوراة والإنجيل وآمن بالمسيح وأنه كلمة
الرب. هل لأنه آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنه ليؤمن به بحق كما بشر به
إبراهيم وموسى وداود وأشعيا وعيسى نفسه في الكتاب المقدس عليهم صلوات الله أجمعين.
اقرأ الكتاب المقدس بتدبر واعتدال، وإذا وسوس إليك الجمود فاقطعه بسيف
الحق وحرر نفسك من رق التقليد وإذا أردت الاختصار فإني أورد لك بعض
البشارات الصريحة. منها ما ورد في التكوين ص 17 (20 وأما إسماعيل فقد
سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًّا اثني عشر رئيسًا يلد واجعله
أمة كبيرة) فمحمد عليه الصلاة والسلام هو ابن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم.
وورد في التثنية إصحاح 18 (18 أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك
وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به 20 وأما النبي الذي يطغى فيتكلم
باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي
21 وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي يتكلم به الرب؟ 22 فما تكلم به
النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان
تكلم به النبي فلا تخف منه) فمحمد هو النبي الذي مثل موسى أتى بكتاب من كل
الوجوه ولم يقم مثله من بعده غيره. انظر إلى التخصيص في قوله: (بين إخوته)
أي بني إسماعيل جد محمد وقد دلنا على كيفية التمييز بين النبي الكاذب والصادق
ونعلم أن محمدًا صدق في كل ما أخبر به من الغيب وقوم الله طريقته وساعده ونشر
دينه ولم يكذب قط، ولو كان كاذبًا لأهلكه الله. وكما ورد في التثنية ورد في القرآن
الشريف في هذا المعنى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} (الحاقة: 44-46) .
واقرأ قول داود مزمور 45 (فآمن قلبي بكلام صالح متكلم أنا بإنشائي للملك،
لساني قلم كاتب ماهر أنت أبرع جمالاً من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك،
لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاؤك)
وذلك لا ينطبق على عيسى؛ لأنه لم يتقلد سيفًا بل على محمد تمامًا.
واقرأ أشعياء إصحاح 42 (1 هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت
به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع
في الشارع صوته 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان
يخرج الحق 4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر
شريعته 5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها
معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحًا 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك
بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم 7 لتفتح عيون العُمْي فتخرج من
الحبس المأسورين من بيت السجن المساجين في الظلمة 8 أنا الرب هذا اسمي
ومجدي لا أعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات 9 هوذا الأوليات قد أتت والحديثات
أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلنكم بها10 غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحة من أقصى
الأرض أيها المنحدرون في البحر وملؤه الجزائر وسكانها 1 لترفع البرية ومدنها
صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رءوس الجبال ليهتفوا 12
ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر… 22 لكنه شعب منهوب
ومسلوب……) تظن يا حبيبي النصراني أن كل هذا الإصحاح خاص بعيسى عليه
السلام بما ورد في إنجيل متى إصحاح 12 (هوذا فتاي) يقول: فتاي ونرجع إلى
الأصل نجد هوذا عبدي، وعندك أن عيسى ليس عبدًا لله، وأما محمد فهو عبد الله
لم يكل ولم ينكسر ومات على فراشه محفوفًا بآله وأصحابه، وأما عيسى عليه
السلام فتعتقد أنه صلب، تذكر ما ورد في إنجيل مرقص إصحاح 15 (25 وكانت
الساعة الثالثة فصلبوه) أما محمد فقد حفظه الله وكان يوحد الله وكسر الأصنام وهو
ابن قيدار بن إسماعيل، وأن سالع من بلاد العرب، وتأمل في كيفية الحج فإن
الناس من كل فج يفدون من الجزائر والبحر وملئه، ومن أقصى الأرض ينحدرون
إلى جبال عرفات ويغنون بتسبيحة جديدة قائلين: الله أكبر لبيك اللهم لبيك ألوفًا
ألوفًا وترفع البرية صوتها في البلاد التي سكنها قيدار جد محمد وتترنم سكان سالع.
فهيئة الحج منطبقة تمام الانطباق على هذا الإصحاح في آيات 8 و9 و11 وآية 22
تدل على العرب وهم شعب محمد فإنهم كانوا قبله شعبًا منهوبًا ومسلوبًا.
وإذا لم تكتف يا سيدي بالعهد القديم (التوراة والزبور) فها هو العهد الجديد
(الإنجيل) أصرح بيانًا وأوضح عبارة وأعظم دلالة على محمد صلى الله عليه وسلم
إني ألفتك أولاً إلى أول إنجيل يوحنا من آية 19 إلى آية 25 (فسألوه وقالوا: فما
بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي) ثم تذكر ما في ص 6 آية 14
(وهذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم) ثم تدبر ما في ص 8 آية 40
(فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا: هذا بالحقيقة هو النبي (41)
آخرون قالوا: هذا هو المسيح (فهذه الآيات تقول لنا بوضوح وبدون أدنى شك ولا
تأويل: إن الناس كانوا ينتظرون إيليا والمسيح والنبي وحيث إنه من ذلك الحين لم
يظهر إلا إيليا والمسيح لغاية 600 ميلادية، وكان من الضروري أن يأتي النبي
المنتظر فلا شك أن يكون هو محمدًا عليه الصلاة والسلام وقد أثبت ذلك الإنجيل
نفسه. قال لوقا ص 17. (20 ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله؟
أجابهم وقال: لا يأتي ملكوت الله بمراقبة … (26) وكما كان في أيام نوح كذلك
يكون في أيام ابن الإنسان (27) كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون إلى
اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع (فملكوت الله هو
الشريعة أي طريقة النجاة بدليل إنجيل متى ص 21) 43 لذلك أقول لكم: إن
ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) فكأنه قال: إن الشريعة المطهرة
تنزع منكم وتعطى لأمة غيركم تعمل بها. أما الأمة التي أعطيت ملكوت الله أي
الشريعة المطهرة وتعمل بها الآن فأترك للأذكياء ذوي العدل (الحكم) بأنها أمة
محمد أم لا. وأما ما ورد عن المسيح عليه السلام في الآية السابقة وهي قوله: -
وكما كان في أيام نوح إلى وقت دخوله الفلك كذلك يكون أيضًا في أيام ابن الإنسان
(المسيح) فإنه يشير إلى أيام شريعته بأنها 600 سنة؛ لأن نوحًا دخل الفلك بعد
600 سنة كما ورد في التكوين ص 6 (6 ولما كان نوح ابن ست مئة سنة صار
طوفان الماء على الأرض) . فمتى أثبتنا أن ظهور شريعة محمد صلى الله عليه
وسلم كان بعد شريعة المسيح عليه السلام بمقدار 600 سنة كان قول المسيح عيسى
ابن مريم حقًّا، وذلك لا يحتاج إلى أدنى شك فتطبيق التاريخ الميلادي على التاريخ
الهجري يتضح أن ابتداء الوحي ونزول الشريعة على محمد كان سنة 610 ميلادية
وأن ابتداء شريعة المسيح كان بعد 30 سنة من ميلاده كما في إنجيل لوقا ص 3)
23 ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة (فتكون المدة بين الشريعتين هي 580
سنة إفرنكية تساوي 600 سنة قمرية وذلك من أعجب العجب؛ لأن سنين نوح
كانت قمرية. فيا إلهي رحماك! اللهم رحماك بعبيدك بني الإنسان كافة، واهدهم
صراطك المستقيم الحق، واجعلنا اللهم مصدقين لما قاله عيسى عليه السلام بأن
ظهور شريعة محمد يكون بعد ستمائة سنة نعم ستمائة سنة.
إنك يا ربي هديت بني الإنسان، بعبدك ورسولك محمد عليه الصلاة والسلام
كما قلت: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) فكيف أشكرك يا
إلهي وكيف أشكرك يا أيها المسيح عيسى على قولك الحق: ستمائة سنة.
وإذا لم يكفنا هذا الدليل الكتابي فأمامنا الدليل العقلي والتاريخ أيضًا وهو أننا
جميعًا بني الإنسان على وجه الأرض في زماننا سنة 1911 (مسيحية) كثير منا
يتصفح التوراة والإنجيل والقرآن وسمعنا بالتواتر عن موسى وعيسى ومحمد
صلوات الله عليهم أجمعين ولكنا ولكنا ولكنا ما رأينا واحدًا منهم بل سمعنا وقرأنا
فقط أنهم أتوا بالكتب والمعجزات وكان كل منهم يقول: اعبدوا الله وأطيعوه. فهم
في نظر الحق سواء ولا يصح بأي وجه أن نصدق بواحد أو اثنين ونكذب الآخر،
وحيث إننا صدقنا موسى وعيسى بمجرد كتابيهما وما سمعناه عن معجزاتهما فيلزمنا
حتمًا أن نصدق محمدًا؛ لأنه جاء بكتاب وأظهر معجزات فهو معهما بالحجة سواء.
هل هذا يكفيك أيها النصراني لأن تمد يدك إلى أخيك المسلم وتصافحه على
الاتحاد والحب والارتباط بينكما فإذا لم يكفك ذلك فاقرأ الإنجيل المقدس إصحاح 14
من إنجيل يوحنا (30 لا أتكلم معكم كثيرًا؛ لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ
شيء) أليس رئيس هذا العالم هو محمد رسول الله؟ أفلا يثبت ذلك ما ورد في ص
16 (7 لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم
المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم 8 ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية
وعلى بر وعلى دينونة 9 وأما على خطية؛ فلأنهم لا يؤمنون بي 10 وأما على بر؛
فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا 11 وأما على دينونة؛ فلأن رئيس هذا
العالم قد دين 12 إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا
الآن 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق هو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني؛ لأنه يأخذ مما
لي ويخبركم 15 كل ما للآب هو لي لذلك قلت: إنه يأخذ مما لي ويخبركم) .
إن الرئيس الذي أتى إلى العالم بعد المسيح عليه الصلاة والسلام هو لا شك
محمد رسول الله وإنه هو المعزي هو روح الحق نعم هو محمد عليه الصلاة والسلام؛
لأن لفظ المعزي معرَّبة عن اللفظ اليوناني الأصلي (بير كلوطوس) الذي معناه
محمد أو أحمد وإذا كان اللفظ هو (باركليطوس) على زعم بعضهم فمعناه يكون
المعزي أو المعين أو الوكيل، وعلى كلا اللفظين فالمعنى ينطبق تمامًا على محمد
رسول الله وإن روح الحق هذا الاسم العظيم الذي يليق بهذا الرئيس جدير أن يطلق
على محمد سيد بني آدم، ثم تأمل أنه حقيقة الرئيس فإن المسيح عليه السلام فضله
على الجميع لعلمه أن الله آتاه الكمال الأعظم ولذلك قال: - لكني أقول لكم الحق،
إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي - فيكون بانطلاقه خير
عظيم ليأتي محمد المعزي الرئيس الأكبر وأكد ذلك بقوله: إن لديه أمورًا كثيرة لا
يستطيعون أن يحتملوها الآن وأما متى جاء محمد روح الحق ورحمة العالمين فهو
يرشدهم إلى جميع الحق بأحكام القرآن الشريف وإنه لا ينطق من عنده بل بكل ما
يسمع كما ورد في القرآن الشريف: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى} (النجم: 3-4) ويخبركم بالغيب وذلك كثير وإنه بكت العالم الذين لم
يؤمنوا بالمسيح ولام من عاب أمه مريم، وشهد له بالبر وبكل كمال وعززه ووقره
ومجده تمجيدًا فنفى عنه القتل والصلب كما قال: - يأخذ مما هو لي ويخبركم وكل
ذلك في القرآن الشريف في قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن
شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} (النساء: 156-159) وإن
هذا المختصر لبرهان كافٍ ودليل واضح وبيان صحيح على أن محمدًا رسول الله
وجزى الله يوحنا خيرًا؛ لأنه لم يلبس بمحمد شيئًا وقد أزال عنا الشكوك والأوهام
بأفصح كلام.
فيا أيها المسلم اعلم وتحقق أن أقرب الناس حبًّا إليك هو النصراني كما أراك
الله ذلك بقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 82-83) فأقرب الناس مودة وحبا للمسلمين هم النصارى؛ لأن منهم
قسيسين ورهبانًا يعلمون من التوراة والإنجيل جميع البشارات التي تدل على محمد
رسول الله فإذا سمعوا القرآن تفيض أعينهم دمعًا ويخشون إظهار إيمانهم به
ويقولون في نفوسهم: ربنا آمنا. نعم تفيض أعينهم؛ لأنهم علموا أنه نبي مثل موسى
نعم تفيض أعينهم؛ لأنهم تأكدوا أنه أبرع جمالاً من بني البشر وانسكبت النعمة على
شفتيه، نعم تفيض أعينهم من الدمع؛ لأنهم تحققوا أن محمدًا هو عبد الله بن
قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم نعم تفيض أعينهم دمعًا؛ لأنهم كانوا يطلبون من
الله مجيء شريعته في صلواتهم في كل حين قائلين: (ليأت ملكوتك) نعم أعينهم
تفيض من الدمع لعلمهم أنه رئيس هذا العالم وأنه المعزي روح الحق وهم
يريدون الحق.
فيا أيها المسلم والنصراني تصافحا وتعانقا وانزعا من نفوسكما جهالة التعصب
الأعمى؛ لأن الدين يأمر بالوفاق والإخاء فتصالحا ولا تفرقا يحبكم الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد شكري
__________(15/176)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاجتهاد والتقليد
هذه هي النبذة
التي وعدنا بها في جزء سابق التي نقلناها من شرح الإحياء
إن رعاع الفقهاء وضعفة الطلبة يخيل إليهم أن النظر في مسائل الشرع قد
انسدت طرقه، وعميت مسائله [1] وأن الغاية القصوى عندهم أن يُسأل واحد منهم
عن مسألة فيقول: فيها وجهان أو قولان: وقال الشافعي في القديم كذا وفي الجديد
كذا، وقال أبو حنيفة كذا، ومالك كذا، ويرى أنه علم قد أبرزه. وتراهم أبدًا
يقدحون في المجتهدين، ويجادلون الطالبين، ويحثون على تحصيل الأم للشافعي،
ولباب المحاملي، أو غير ذلك من الكتب المبسوطة. حتى إذا وقعت واقعة كشف
الكتاب فإن رأى المسألة مسطورة حكم بها وإن رأى مسألة أخرى فزعم أنها تشابهها
حكم بحكم تلك المسألة فهم حشوية الفروع كما أن المشبهة حشوية الأصول،
والعجب أنهم لا يقنعون بقصورهم حتى يضيفوا القصور إلى من سبق من الأئمة
ويقول بعضهم: ما بقي بعد الشافعي مجتهد ويقول (آخر) : ما بقي بعد ابن شريح
مجتهد. فانظروا إلى قدح هؤلاء في الأئمة المبرزين، وأنهم كانوا يقدمون على ما
لا يعلمون، فإن الأئمة ما زالوا في جميع الأقطار يراجعون في الفتاوى، ويفتون
باجتهادهم مع اختلاف أصنافهم، كالمعروفين بنشر مذهب الشافعي كأبي إسحق
صاحب المهذب وأشياخه من أئمة العراق كلهم مبرزون مفتون، وكذلك أئمة
خراسان كإمام الحرمين وأشياخه وتلاميذه كأبي حامد الغزالي والكياء والخوافي
وكذلك أتباعهم كمحمد بن يحيى ومن كان في درجته من أصحاب الغزالي وكلهم قد
طبق فتاويهم وجه الأرض مع صريح من فقه الشافعي. ومن تأمل فتاويهم رأى ما
ذكرناه، وكذلك الأئمة المشهورون في مذهب مالك وأبي حنيفة لم يزالوا يفتون
ويجتهدون في جميع الأقطار والمناكرة في ذلك مكابرة (ثم قال) :
(واعلم أنه لا يجوز الكلام في أحكام الله تعالى بمحض الشهوة والرأي بل لا
بد من طريق نصبها الشارع وللشارع طريقان نصبهما: طريق في حق المجتهد،
وطريق في حق العامي المقلد، وطريق المجتهد النظر في الأدلة الشرعية
المنصوصة من قبل الشارع والتوصل بها إلى أحكام الله تعالى كما كان دأب
الصحابة والتابعين، وطريق العوام هو تقليد أرباب الاجتهاد كما كان في زمن
الصحابة والتابعين، وهذان متفقان على نصبهما) .
ثم أطال العبارة وذكر مسائل مهمة لا بد من معرفتها.
(الأولى) إذا نقلت لكم أقوال الشافعي في الواقعة الواحدة، تعملون بكل قول
أم بالبعض دون البعض؟ فإن قالوا: نعمل بكل قول سقطت مقالتهم، فإن الفعل
الواحد كيف يكون حلالاًُ حرامًا في وقت واحد من وجه واحد بالنسبة إلى شخص
واحد، فهذا مما لا يمكن أن يقال به فإن قالوا: نعمل بالمتأخر دون المتقدم فنقول:
ما بالكم تنقلون المتقدم، وتقولون في أكثر محاوراتكم: يصح على قول وبيع الغائب
صحيح على قول الشافعي، وتعتمدون عليه، وهذا لا يجوز أن يفعل على هذا
الوجه بل ينبغي إذا نقلتموه لمن سألكم أن تقولوا: هو قول مرجوع عنه لا يجوز
الاعتماد عليه وإنما ذكرناه لفقهه لا لحكمه. فيكونون ملتبسين بهذا الإطلاق مع أني
رأيت بعضهم إذا أنكر عليه أمر فعله اعتذر بأنه قول الشافعي.
(الثانية) العمل بالأرجح فالأرجح من الأقوال، فنقول: الترجيح طرف من
أطراف الاجتهاد فلا حظ لك فيه؛ لأنك اعترفت أنك من جملة العوام المقلدين،
وترجيح أحد القولين على الآخر إن كنت تنقله عن الشافعي أو من عندك ولا يمكنك
نقل الترجيح إلى الشافعي، ولعل الإمام تَرَجح عنده القول الآخر بترجيح آخر لم
تطلع عليه أنت، ولعله لا يدري ما ذكرته مرجحًا، فقد تعذر عليهم تقليد الشافعي
في مثل هذه المسائل ووجب عليهم الكف عن الحكم فيها، فإنهم ليسوا مجتهدين وقد
تعذر عليهم التقليد وكذلك الكلام في المسائل ذوات الوجوه المنقولة عن الأصحاب
وعند ذلك يجب عليهم الكف عن الكلام في معظم مسائل المذهب.
ثم إن قولهم: (ترجيح أحد القولين على الآخر على الإطلاق) ، خطأ فإن
الترجيح لا يتصور في المذاهب بوجه من الوجوه، فإن كون هذا حرامًا أو مباحًا
فما في التحريم نقصان ولا في الإباحة زيادة ولا يتصور الزيادة والنقصان في
الأحكام بوجه من الوجوه وإنما يكون الترجيح بزيادة في أحد الأمرين لم يوجد في
الثاني وهذا إنما يتصور في الأدلة بأن يختص أحدهما بزيادة تؤكد الظن الحاصل
فيه ولم توجد الآخرة، فإن أرادوا هذا المعنى فقد أصابوا في المراد وأخطئوا في
الإطلاق. وإذا آلَ الأمر إلى الترجيح في الأدلة فلا بد للمرجح من معرفة الدليل
وشروطه وأوصافه، وبعد هذا يتحقق عنده مقابل الأدلة، وإلا كيف يتصوّر ممن لا
يعرف الأدلة وشروطها أن يكون بحكم مقابلها ثم يخوض بعد ذلك في ترجيح بعضها
على بعض. وأنتم قد حكمتم على أنفسكم بالعجز عن استخراج الأدلة وإذا فُقد معرفة
الأدلة التي هي شرط معرفة الترجيح لزم ضرورة انتفاء الشرط وهي معرفة
الترجيح.
ثم إن المسألة إذا كان فيها قولان مختلفان يحرم على العامي العمل بها إذا لم
يعرف المتقدم من المتأخر وتصير في حقه كأن لم يكن للمنقول فيها عنه قول أصلاًُ،
وتعين عليه أن يراجع المنقول عنه إن أمكن أو تقليد غيره ممن يجوز الاعتماد
عليه، والمسائل التي قد نقل فيها قولان عن أبي حنيفة والشافعي كثيرة وربما يكون
معظم المذهب، وكان يجب عليكم الكف عن الكلام فيها ولو فعلتم ذلك لذهبت
شهامتكم، واختلت مناصبكم، ونُسبتم إلى قلة العلم.
فإن قيل: كيف يجوز لكم الفتوى فيما لم ينقل عن مقلدكم فيه حكم وأنتم لستم
بأهل الاجتهاد باعترافكم قالوا: نقيسها على مسألة مسطورة وربما تحدث فيحدث
ويقول: أصول الشافعي تقتضي كذا في هذه المسألة. فيقال لهم: أتردّون الحكم إلى
اجتهادكم أو إلى اجتهاد الشافعي؟ الأوّل لا تعترفون به، وأما الثاني فيقال عليه:
قد افتريتم على الشافعي فإنه لم يتكلم في هذه المسألة فكيف يحل لكم أن تنسبوا إليه
ما لم يقل؟ فإن قالوا: نعني بكونها منسوبة إليه أنها مقاسة على ما نص عليه.
فاعلم أن في هذا الإطلاق تدليسًا فإنه يفهم منه حكم الشافعي وقد علمتم أن سائلكم
إنما سأل عما ذكره الإمام الشافعي فيحق لكم أن لا تطلقوا النسبة إليه، وأيضًا قولكم
هذا إن كان عن اجتهاد فلا يمكنكم أو عن تقليد فلا يمكن أيضًا؛ لأنه انطوى بساط
الاجتهاد بالشافعي أو بابن سريج كما زعمتم فما بعدهما لا يجوز الاعتماد على
اجتهاده.
(ثم قال) : اعلم أن الاجتهاد جنس تندرج تحته أنواع متعددة فإن الاجتهاد
في المسائل القياسية غير الاجتهاد في المسائل التي مستندها ألفاظ الشارع، غير
الاجتهاد في المسائل التي مستندها أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وكل نوع من
هذه الأنواع يمكن العلم به مع عدم العلم بغيره فيمكن أن يكون الواحد ماهرًا في
القياس وشروطه ومراتبه وموارده ولا يكون عالمًا بتفاصيل الأخبار ولا مطلعًا على
صحيحها وفاسدها والعكس، هذا بالنظر إلى جملة الأنواع وكل نوع مشتمل على
صور أيضًا فإن القياس يستعمل في مسائل متعددة في البيوع والنكاح والقصاص
فيمكن أن يكون الواحد منا مطلعًا على مسائل النكاح عالمًا بأقيستها معتنيًا فيها، ولا
يكون مطلعًا على مسائل البيع فليس الاجتهاد خطة واحدة لا تقدر أنواعه، ولا تتكثر
مسائله، فعند هذا يمكن أن يكون الواحد مجتهدًا في بعض المسائل مجيبًا على
البعض ولا يكون عالمًا بالبعض فليس من شرط المجتهد أن يكون مجيبًا عن كل ما
يُسأل عنه، ولذلك توقف كثير من الأئمة في الجواب عن بعض المسائل فلا يجوز
لأحد أن يفتي في مسألة من المسائل إلا إذا كان محيطًا بأدلتها وما لا فيمسك عن
الفُتيا فيها ولا يبقى بعد هذه الحالة إلا تحصيل الأدلة الجزئية في آحاد المسائل من
نصوص أو أقيسة، فإذا اطلع على دليل مسألة كان من أهل الفتيا في تلك المسألة
ولا يضر كونه غير مطلع على دليل المسألة الأخرى.
(ثم قال) : واعلم أن الاجتهاد عبارة عن بذل الجهد في طلب حكم من
الأحكام الشرعية مما هو عارف سلوك طرقها وله شروط وهي قسمان قسم في
المنظور فيه وقسم في الناظر، أما المنظور فيه فيشترط فيه أن لا يكون في محل
القطع، فإن محالَّ القطع لا مجال للاجتهاد فيها كأصل وجوب الصلاة والزكاة
والحج وغير ذلك مما يحكم فيه بأدلة قطعية لا يسوغ خلافها، وأما الناظر فيشترط
فيه أمران:
أحدهما: أن يكون عارفًا بقوانين الأدلة وشروطها وكيفية استخراجها،
والثاني: أن يكون متمكنًا من استخراج الدليل خاصة في المسألة التي يجتهد
فيها، ثم أطال الكلام في ذلك اهـ.
__________
(1) لعلها مسالكه.(15/183)
الكاتب: جبر ضومط
__________
اللغة العربية [*]
من هم الأصليون في الجزيرة العربية
القحطانيون [1] أم العاديون [2]
هذه المسألة على ما يخيل لي من المسائل الصعبة التي لم يتصد لها أحد بعد
فيما أعلم ليزيح عنها الخفاء أو ليقطع فيها الالتباس وكأني بالشائع المتعارف أن
العاديين والعمالقة وغيرهن من القبائل العادية هم الأصليون وأن القحطانيين تغلبوا
عليهم وحلوا محلهم فانقرض هؤلاء وبقي أولئك. والذي أراه أن القحطانيين هم
قرارة سكان العربية والأصليون في اليمن وجباله وما يليها من المواطن كحضرموت
ونجد وأرض البحرين وجنوبي الحجاز مما يتصل باليمن. وأن العاديين جاءوا
إليها متأخرين، ومع الأيام وبالاستيلاء على طريق التجارة تقوَّوا شيئًا فشيئًا إلى أن
دانت لهم العربية كلها وأخضعوا القحطانية لسلطتهم واستمروا على ذلك زمانًا إلى
أن أصابت إحدى دولهم جائحة سماوية في الراجح فذلوا وقامت القحطانية تطلب
الملك والاستيلاء ورفع سلطة العاديين عنها فتم لها ذلك.
وما زال النزاع بين الفريقين يتجدد من زمن إلى زمن إلى أن قام الفرع
الحِميري الظِّفاري فتغلب على البلاد واشتدت وطأته على أهل مأرب فارتحلوا في
البلاد فمنهم من قصد نجران ومنهم من أمّ عمان ومنهم من استمرت به رحلته حتى بلغ
العراق وهم لخم وغسان، وأذلوا من بقي في البلاد من العاديين وأشياعهم من
العدنانيين في الحجاز ونجد واليمامة وأرض البحرين ذلاًّ شديدًا فاشتدت بسبب ذلك
البغضاء بين القحطانيين والعدنانيين حتى ضرب بها المثل واستمر ذلك فيهم إلى أن
ظهر الإسلام فأخمد ظهوره شيئًا من تلك الثائرة بما كان له من التأثير في نفوسهم
وبما شغلهم به من المغازي والفتوحات وامتداد السلطة والغلب. على أن تلك العداوة
لم تلبث أن عادت إلى شدتها في أيام المروانيين من بني أمية وانتقلت مع
القوم حيث انتقلوا.
وبلغ من حدتها في الجيل الرابع للهجرة المبلغ الذي وصفه أبو الطيب المتنبي
في إحدى كافورياته حيث يقول في شبيب الخارجي وكان خرج فيمن
تبعه من قيس على كافور وحاصر دمشق وكاد يفتحها عنوة.
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني
والذي يظهر لي أيضًا أن العدنانيين الذين بقيت فيهم اللغة العربية كانوا من
العاديين (إلا من انضم إليهم بأخرة من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل) ولذلك
أذلتهم القحطانية وناصبتهم العداء من حين ظهرت على العاديين أسلافهم في أوائل
المسيحية ولم تألُ جَهدًا عن إذلالهم والتحكم فيهم إلى أن عادت لهم الدولة بواسطة
قريش وبفضل الإسلام.
فإن لم يكونوا أي العدنانيون من العاديين العمالقة في النسب فلا أقل من أنهم
كانوا حلفاءهم ينقلون لهم تجارتهم وبقوا على ذلك أحقابًا متطاولة جعلت لسانهم
وعصبيتهم مع لسان العاديين وعصبيتهم أمرًا واحدًا. أقول هذا وأنا أرجح ما قلته
أولاً أي: أن العدنانيين (معظمهم إن لم يكن كلهم) عاديون [3] دارًا ولسانًا. وإقامة
الدليل على ذلك خارج عن موضوعي، ولعلي أعود إليه في فرصة أخرى.
***
بيان أن القحطانية أصلية في شبه الجزيرة العربية
وأن قرارة دارهم اليمن
قلت: إن المسألة صعبة الحل لما في الأخبار المنقول إلينا من التشويش
والتضارب وكان يمكنني أن أضرب عنها صفحًا إلا أني لا أرى هيئة من أهل العلم
والأدب أرقى من الهيئة التي أمامي الآن تستطيع أن تتبعني في هذه المزالق
التاريخية؛ ولذلك لا أرى بدًّا من الإشارة إلى البراهين التي حملتني على ترجيح ما
قلت أي أن القحطانيين هم أصليون في جزيرة العرب وقراراتهم منها اليمن وهم
سابقون فيها على العاديين. وبيانه:
(أولاً) : إنه لا خلاف أصلاً بين العدنانيين والقحطانيين لا في تاريخ ولا
في تقليد أن القحطانية هي العريقة بسكنى اليمن، وأنها هي التي بقيت في البلاد بعد
انقراض الدولة العادية. وقد أجمع المؤرخون عن آخرهم على تسمية العاديين
بالعرب البائدة بعدما نقلوا عنهم ما نقلوه من الغنى والقوة وضخامة الملك. ولو كانوا
عريقين في البلاد كالقحطانيين ولهم مثل ما لهم من العدد والتأصل في السكنى لكان
يستحيل انقراضهم حتى لا يبقى من يشار إليه منهم، فالأقرب إلى المعقول إذن أن
المعنيّ بانقراضهم انقراض دولتهم , ولما انقرضت دولتهم وزالت السلطة من أيديهم
ظهر بعدهم بالضرورة سكان البلاد الذين كانوا خضعوا لدولتهم وظهورهم معناه
خروجهم من ربقة العاديين واسترداد استقلالهم أولاً ثم منازعة العاديين الغلبة والملك
في ديارهم التي نزلوها إلى أن تم لهم ذلك وذهبوا بالملك والسيادة من أيديهم جملة ,
وهذا معنى انقراضهم.
(ثانيًا) كانت عاد في هذا الرمل من الأحقاف بين عمان واليمن إلى
حضرموت فكيف يُعقل أنهم انقرضوا ولغتهم باقية في هذه البلاد لحد هذه الساعة
ثم كيف ينقرض أهل اللغة وتبقى اللغة نفسها؟ إن هذا لغريب وأغرب منه أن يكون
العاديون الذين انقرضوا هم أهل البلاد الأصليون والذين قرضوهم من القحطانيين
دخلوا عليهم البلاد فاتحين ولهم لغة خاصة بهم ثم بعد أن استمر ملكهم ولغتهم مئات
سنين عدنا فرأينا في آخرها أن لغة البلاد حينئذ كانت لغة العاديين الذين انقرضوا لا
القحطانيين الذي بقوا.
(ثالثًا) يكاد يكون كالمجمع عليه أن اليمن دار القحطانية وإليك ما نقل في
ذلك:
قال الإمام العلامة الطبري: وولد لعابر ابنان أحدهما فالغ ومعناه بالعبرية
قاسم وإنما سمي بذلك؛ لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه وسمي الآخر
قحطان فولد لقحطان يعرب ويقطان ابنا قحطان بن عامر بن شالح فنزلا أرض
اليمن وكان قحطان أول من ملك اليمن (جزء أول طبع ليبسك وجه 217) وقال
أيضًا: وجه 222 ولحقت بنو قحطان ابن عامر باليمن فسميت اليمن حيث تيامنوا
إليها.
وقال ابن خلدون: فأما عاد فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن
وعمان إلى حضرموت. ويقال: إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب باديةً مخيمين ثم
كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور حسبما نذكره إلى أن غلب عليهم بنو
يعرب بن قحطان. (قال) : وكان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب
وطال عمره وكثر ولده - وعاش ألف سنة ومئتي سنة - وذكر المسعودي أن الذي
ملك من بعد عاد وشداد منهم هو الذي سار في الممالك واستولى على كثير من بلاد
الشام والهند والعراق (الجزء الثاني طبعة بولاق وجه 19) وقال أيضًا: وجه
20 ثم ملك لقمان ورهطه من قوم عاد واتصل لهم الملك فيما يقال ألف سنة أو
يزيد. ولم يزل ملكهم متصلاً إلى أن غلبهم عليه يعرب بن قحطان واعتصموا
بجبال حضرموت إلى أن انقرضوا.
وقال أيضًا: (قال ابن سعيد) - فيما نقله عن كتب التواريخ التي اطلع
عليها في خزانة الكتب بدار الخلافة من بغداد - قال: كانت مواطن العمالقة تهامة
من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النماردة من بني حان وجه
27 وقال أيضًا: وأما (جُرْهم) فقال ابن سعيد: إنهم أمتان أمة على عهد عاد وأمة
من ولد جرهم بن قحطان ولما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز
- وجه 31.
وظاهر من هذه النقول وغيرها أن القحطانيين أصليون في الجزيرة وقرارتهم
منها اليمن، وأما العاديون وإخوانهم العمالقة فجاءوا على أثر مضايقة الملوك
النماردة لهم. فنزل العاديون أحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت
والشحر ونزل بقية إخوانهم من العمالقة وطسم وجديس وجاسم أرض البحرين
وعمان ونجد والحجاز إلى تيماء. ولم يلبثوا مدة بعد دخولهم حتى صار لهم الغلب
على كل الجزيرة وشادوا لهم دولة من أعظم وأقوى الدول التي قامت في تلك البلاد
ومن ثم غزوا [4] الشام ومصر والهند والعراق ومازال الملك فيهم إلى أن ضعفوا
في أواخر دولتهم الثانية فغلبهم على الملك يعرب بن قحطان وأزال سلطتهم عن
اليمن.
***
نتيجة ما ذكرناه
إن المتدبّر ما مرّ بنا (أن مهد السامية هو جزيرة العرب وأن القحطانيين هم
الأصليون في البلاد وقرارتهم اليمن، وأن العاديين قدموا عليهم من أرض بابل)
يحكم على ما أرجح أن القحطانية الأولى انشعبت إلى فرعين فرع بقي في شبه
جزيرة العرب وفرع ذهب شمالاً إلى العراق واستعمر بابل وهناك تأثل هذا الفرع
وما زال أهله حتى زاحمهم النماردة أبناء كوش [5] فخرج من هناك آشور وبني
نينوى ورحوبوت عير وكالح وراسن بين نينوى وكالح على ما جاء في التاريخ
المقدس الإصحاح العاشر من سفر التكوين. وخرج أيضًا عاد وعماليق وقبائلهما
فعادوا إلى العربية بعد زمن طويل ونزلوا بين أظهر القحطانيين وكان قد تحيز
لسانهم واستقل كما تحيزت قبائلهم واستقلت عن غيرها أيضًا.
والأرجح أن الذين رحلوا إلى نينوى وكالح كانوا من الحضر أهل المدن
والقرى بدليل أنهم بنوا المدن حالاً، وأما الذين رحلوا إلى الجنوب فكان أكثرهم
أهل طعن وخيام وعبارة العلامة ابن خلدون واضحة في ذلك فإنه ذكر أنهم لما
زاحمهم بنو حام انتقلوا إلى جزيرة العرب وسكنوها بادية مخيمين. ويقوي ذلك ما
هو متواتر مشهور من سكنى العاديين رمال الأحقاف بين عمان واليمن إلى
حضرموت والشحر. وسكنى بديل وراحل وغفار من العمالقة بنجد وبنو الأرقم
منهم بالحجاز إلى تيماء. وكل هذه البلاد من منازل أهل البادية والغالب على أكثر
أهلها الترحل والانتقال كانوا ولا يزالون لحد هذه الساعة.
وأرى أني وصلت على غير قصد مني إلى التقليد المشهور الذي يجعل
السريانية أقدم من العربية؛ لأننا رأينا الدليل التاريخي في جانب أن القحطانية
متقدمة على العادية وسابقتها في الزمان. والقحطانية كما بينا من نص المؤرخين
هي السريانية كما أن العادية هي العربية.
***
تجريح ما قاله العلامة نولدكي
لنرجع الآن إلى ما قاله العلامة نولدكي في شأن لغة سبأ. قال هذا العلامة:
ما يؤخذ منه أن اللغة السبئية هي قسيمة اللغة العربية وأخت لها انشعبتا من الفرع
الجنوبي ونسبتها إلى العربية كنسبة الحبشة إليها أي إلى العربية. وأنا أقول: إن
كان يقصد بالسبئية الحميرية فبه لكن تكون السبئية والحبشية شعبتين من القحطانية
أو السريانية؛ لأن القحطانية والسريانية كما بينا بالنص التاريخي هما لغة واحدة أو
هما شعبتان من جذم واحد هو القحطانية القديمة. وإن كان يريد أن السبئية هي لغة
أخرى غير الحميرية الظفارية أي لغة الدولة التي قامت قبل التاريخ المسيحي بقليل
وتعرف عند القوم الآن بدولة سبأ وريدان وأنها كانت أيضًا لغة بلاد سبأ التي
عاصمتها مأرب وفيها السد المشهور فالأستاذ نولدكي وَاهِم والتاريخ يعارض رأيه؛
لأن لغة أهل هذه البلاد أعني أرض سبأ [6] كانت منذ أوائل التاريخ المسيحي ولا
تزال إلى الآن اللغة العربية العادية العدنانية والتاريخ مؤيد ذلك وإليك البيان:
جاء في كتاب وصف جزيرة العرب للعلامة الهمداني طبع ليدن وجه 134
إلى 136 قطعة خصها هذا العلامة بوصف لغات أهل الجزيرة العربية في أيامه
(فليطالع هذه القطعة في موضعها من أراد) والذي يظهر منها أن الحميرية كانت لا
تزال لغة حية في كثير من جبال اليمن وإليك ما يقول في لغة بعض تلك البلاد:
(حقل قتاب فإلى ذمار) الحميرية القحة المتعقدة (وظفار مدينة هذا القسم) . حراز
والأخروج وشم وماضح والأحبوب والجحادب وشرف أقيان والطرف
وواضع والمعلل - خليطي من متوسط بين الفصاحة واللكنة وبينها ما هو أدخل في
الحميرية المتعقدة لا سيما الحضورية من هذه القبائل - نجديّ بلد همدان البون منه
المشرق والخشب - عربي يخلط حميرية - من ذمار إلى صنعاء متوسط - صنعاء
في أهلها بقايا من العربية المحضة ونبذ من كلام حِمير - شبام أقيان والمصانع
وتخلى حميرية محضة.
والنفيس في هذه القطعة لهذا العلامة أنه فرق بين الحميرية والعربية. وسمى
البلدان التي كان يُتكلم فيها بالعربية أو بالحميرية إلى أيامه. وأنفس منه أنه بين
الفرق بين لغات المتكلمين بالعربية فقال في بعضهم: إنهم فصحاء وفي آخرين:
إنهم أفصح وفي آخرين: إن لغتهم متوسطة أو خليطي كما بين الفرق بين لغات
المتكلمين بالحميرية فقال عن بعضهم: إنهم غتم وعن آخرين: إن لغتهم حميرية
محضة وعن آخرين: إنها حميرية متعقدة وعن آخرين: إنها داخلة في الحميرية
المتعقدة أو فيها عسرة من اللسان الحميري.
ثم إليك ما قاله في لغات أهل حضرموت وسبأ قال ما نصه بالحرف الواحد:
حضرموت ليسوا بفصحاء وأفصحهم كندة وهمدان وبعض الصدف. سر
ومذحج [7] ومأرب وبيحان وحريب (وهي من بلاد سبأ) فصحاء ورديء اللغة
منهم قليل. سكن الجوف [8] فصحاء إلا من خلطهم من جيرة لهم تهاميين. ثم
الفصاحة من العرض في وادعة فجنب فيام فزبيد فبني الحارث فما اتصل ببلد شاكر
من نجران إلى يام فأرض سنحان فأرض نهد اهـ همداني وجه 134 و135
و35.
يظهر من شهادة هذا العلامة أن أهل مأرب والجوف ونجران وهي البلاد التي
كانت فيها الدولتان السبئية والمعينية كانوا في أيامه أفصح من الكنديين قبيلة امرئ
القيس وقبيلة المتنبي أشهر شاعرين قبل الإسلام وبعده. وكذلك كانوا في صدر
الإسلام. فإن مذحج وبني مرة وطيء والأشعريين أبناء عريب بن زيد بن كهلان
بن سبأ والهمدانيين أبناء مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ كلهم كانوا من فصحاء أهل
العربية العدنانية المضرية في صدر الإسلام وقبله ومع أنهم كانوا يدعون أنهم هم
والحميريين أبناء عم؛ (لأن كهلان بن سبأ وحمير بن سبأ) لم يكن في لسانهم
شيء من الحميرية بل كانوا في فصاحتهم العربية كفصاحة قبيلة امرئ القيس
المشهور إن لم يكونوا أفصح منهم. وإذا نظرنا إليهم أي الكهلانيين من ولد سبأ
وممن كان منهم يسكن مأرب والجوف في الجيل الأول للمسيح أو في بدء الجيل
الثاني رأيناهم أيضًا عربًا يتكلمون بهذا اللسان العربي. وبيانه أن الأزد من ولد
كهلان، وكانوا في مأرب فلما اشتدت عليهم وطأة الحميريين ملوك ظفار على
الأرجح ارتحلوا من ديارهم جماعات كثيرة فمنهم من وصل العراق ومنهم من وصل
الشام ومنهم من وقف بنجران ومنهم بمكة ومنهم بيثرب وهم الطائيون (وكانوا
يسكنون الجوف) رحلوا أولاً إلى فيدو سميرا ثم احتلوا الجبلين أجا وسلمى وكل
هؤلاء كانوا عربًا ومن الفصحاء الذين ترتضى فصاحتهم في العربية لم يسمع ولم
يعرف أصلاً عن ملوك الحيرة من المناذرة ولا عن ملوك الشام من الغساسنة ولا
عن الأوس والخزرج من أهل المدينة ولا عن الطائيين في جبليهم (وهؤلاء هم
الذين ارتحلوا من أرض سبأ قبل سيل العرم أو بعده بقليل) إنهم تكلموا غير هذا
اللسان العربي المضري. ولو كانت لغتهم الحميرية (أو السبئية) لاستحال أن
تنقرض فلا يبقى لها أثر في مدى أربعة قرون كما لم تنقرض الحميرية من ظفار
ولا من بلاد صنعاء في مدى أربعة قرون مع أنهم كانوا في ملكة المضريين ودولتهم
الغالبة القاهرة بعزها وعز الإسلام، وقد أسلم القوم عن آخرهم منذ بدء الإسلام.
***
ماذا نصدق إذًا التاريخ والعقل
أم الآثار التي وجدها القوم مؤخرًا في مأرب والجوف ونجران
الجواب: أولى بنا أن نصدق التاريخ والعقل من غير أن نجرح في صدق
الآثار وذلك بأن نقول: إن دلالة الآثار مغلوط في تأويلها ويمكننا أن نأولها بما
يوافق التاريخ والعقل - وبيانه أن الآثار التي اكتشفها القوم (العلامة إدوارد غلارز
ويوسف هاليفي ويوليوس أوتين وتومس أرنو وآخرون) على ما نقله العلامة
زيدان في كتابه النفيس (العرب قبل الإسلام) هي آثار واقعية لا نشك بها. ولا
يُشك أيضًا أنها من آثار الدولة الحميرية الظفارية التي استولت على بلاد سبأ في
الجيل الأول قبل المسيح. نسلم بكل ذلك. ولكنا نقول: إن هذه الدولة كان حكمها
في بلاد سبأ حكم دولة الأتراك الأخيرة في اليمن فإنا لا نعدم آثارًا ونقوشًا كثيرة في
صنعاء وغيرها من مدن اليمن مكتوبة باللغة التركية، وكما لا يصدق الاستدلال
بمثل هذا الآثار على أن لغة اليمن هي اللغة التركية كذلك لا يصدق الاستدلال بهذا
القدر الذي وجده القوم من النقوش على أن لغة بلاد سبأ أعني بلاد مأرب والجوف
كانت لغة حميرية. وهذا التلميح يرى منه العارف المتدبر ما يغنيني عن إطالة
الشرح والإسهاب فإن مقالتي والغرض منها لا يحتملان من إطالة الشرح فوق ما
أطلته. ولكني أرجح أن المستقبل سيكشف لنا آثارًا غير التي اكتشفت لحد الآن
وتكون دلالتها وفقًا لما نظنه وفوق كل ذي علم عليم.
***
في سبب غنى اللغة العربية واتساع دائرة ألفاظها وعباراتها
(واقتدارها على التعبيرات الفلسفية والاجتماعية وما إلى ذلك)
(مما قامت به سائر أخواتها ولا تقل فيه عن أعظم وأشهر لغات العالم سواها)
إن العلامة نولدكي يعجب باتساع قاموس هذه اللغة الشريفة، ويذهب إلى أن
ذلك مقتبس عن الآرامية بما كان لأهلها من مخالطتهم الآراميين بالتجارة والجوار.
والذي حمل العلامة المُومأ إليه على هذا التعليل هو على الراجح ما كان يظنه أن
اللغة العربية هي لغة القبائل العدنانية في الحجاز ونجد فاستبعد من ثم أن يكون لمثل
هؤلاء القوم الذين غلبت عليهم البداوة مثل هذه اللغة الواسعة. أما وقد تبين لنا أن
هذه اللغة كانت لغة الدولة العادية ودولة غلبت على البلاد العربية كلها وامتدت
سلطتها إلى الشام ومصر وأفريقيا ودامت سيدة التجارة على ما نظن ما يزيد على
ألف وخمسمائة سنة أولاً تحت اسم الدولة العادية وعلى نحو من ثمانمائة سنة تحت
اسم الدولة السبئية [9] فلا داعي لمثل تعليل العلامة نولدكي. وما زال العاديون ومن
خلفهم باسم السبئيين أرباب تجارة وزراعة حتى بعد أن غلب عليهم الغِفاريون
بمئات من السنين، وسدُّهم شاهد يؤيد ما ذكرنا. إن الأمة التي بنت مثل سد مأرب
وقصر غمدان وغير هذين من السدود والقصور والمصانع، ووصلت من الغِنى إلى
الدرجة التي ضُربت بها الأمثال لا يستبعد أن تكون لغتها في الغنى والاتساع كاللغة
العربية.
والمرجح عندي أنه لم يقم في سوريا ومصر والعراق دولة أعظم غِنى وتجارة
من الدولة العادية في عمان وحضرموت واليمن , ولم يقتصر العاديون على
التجارة - والتجارة لوحدها من أكبر الأسباب لارتقاء لغة الأمة واتساع دائرة
ألفاظها وتراكيبها - بل كان لهم في الزراعة شأن لم يبلغ البابليون ما هو أعظم
منه على خصب بلادهم، وإن فيها النهرين العظيمين الفرات والدجلة فإنهم بنوا سد
مأرب وثمانين سدًّا غيره في يحضب العلو.
وبالربوة الخضراء من أرض يحضب ... ثمانون سدًّا تقلس الماء سائلاً [10]
وسد مأرب هو إحدى أعاجيب الدنيا، وكان لهم عن يمينه وشماله الجنتان
اللتان ما زال صدى ذكرهما يتردد في أودية التاريخ مئات سنين بعد خرابهما.
ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن نسبة سد أسوان على ضخامته في عصرنا
الحاضر إلى سد مأرب هي كنسبة الصبي الصغير إلى الرجل الكبير، وأما
قصورهم وهياكلهم التي بنوها فمنهما قصر غمدان. وقد بقي هذا القصر والهيكل
قائمًا إلى خلافة عثمان بن عفان وكان من الفخامة والضخامة على ما يضارع أعظم
القصور البابلية. وإليكم ما جاء في وصفه نقلاً عن ياقوت الحموي.
قال ما نصه: - فقال (ليشرح) : ابنوا القصر في هذا المكان فبُني هناك
على أربعة أوجه وجه أبيض ووجه أحمر ووجه أصفر ووجه أخضر. وبنى في
داخله قصرًا على سبعة سقوف بين كل سقفين منها أربعون ذراعًا. وكان ظله إذا
طلعت الشمس يُرى على عينان [11] وبينهما ثلاثة أميال. وجعل في أعلاه مجلسًا بناه
بالرخام، وجعل سقفه رخامة واحدة وصير على كل ركن من أركانه تمثال أسد من
شبه كأعظم ما يكون من الأسود. فكانت الريح إذا هبت إلى ناحية تمثال من تلك
التماثيل دخلت من مؤخره وخرجت من فيه فيسمع له زئير كزئير السباع. وكان
يأمر بالمصابيح فتُسرج في ذلك البيت ليلاً فكان سائر القصر يلمع من ظاهره كما
يلمع البرق فإذا أشرف عليه الإنسان من بعض الطرق ظنه برقًا أو مطرًا ولا يعلم
أن ذلك ضوء المصابيح اهـ.
وقد نقل ياقوت هذا الوصف عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي ولا يبعد
أن يكون هشام هذا قد أخذ ما نقل عنه من الوصف عمن شاهدوا القصر قبل أن هُدم
بأمر الخليفة عثمان. ويوافق هذا الوصف المنثور ما جاء منظومًا عن ذي جدَن
الهمداني قال:
دعيني لا أبا لك لن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي
وهذا المال ينفد كل يوم ... لنزل الضيف أو صلة الحقوق
وغمدان الذي حدثت عنه ... بناه مشيدًا في رأس نيق
بمرمرة وأعلاه رخام ... تحامٌ لا يغيب بالشقوق
مصابيح السليط يلُحن فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق
فأضحى بعد جِِدَّته رمادًا ... وغيَّر حسنه لهب الحريق
والظاهر مما قاله هذا الشاعر في بيته الأخير أن آثار هذا القصر كانت ظاهرة
في أيامه، وكان يظهر عليها أثر النار؛ لأنهم استخدموها في هدمه على ما يرجح.
وقد ذكر الهمداني عدة محافد وقصور في كتابه وصف جزيرة العرب، وإليك
ما قال: - ونذكر الآن المشهور منها ذكرًا مرسلاً فأولها وأقدمها غمدان ثم تلفم.
وناعط. وصرواح. وسلحين بمأرب. وظفار وهكر. وضهر. وشبام.
وغيمان. وبينون وريام وبراقش. ومعين. وروثان. وإرياب. وهند وهنيدة.
وعمران والنجير بحضرموت اهـ 203.
والأرجح عندي أن معظم هذه الآثار كان في أيام الدولة العادية والسبئية الأولى
دون الحميرية، فإن هذه كانت دولة ظلم وبغي أكثر مما كانت دولة تجارة وزراعة
أو دولة عدل وأمن. فإن في زمانها خرب السد المشهور وأقفرت الجنتان في أرض
سبأ وفي أيامه كانت ملوك حمير تسطو على الأعراض وتحرق المخالفين في الدين
وتذل الكهلانيين والعدنانيين وتسومهم كل نوع من الخسف فاضطروا إلى مهاجرة
أوطانهم مرة وإلى الاستنجاد بالحبشة مرة أخرى ومازال سوء الحال والتدبير وشدة
الظلم مرافقًا هذه الدولة حتى انقرضت ولم تطل أيامها كثيرًا. ولعل الأحباش كانوا
خيرًا منها للبلاد. فاتني أن أذكر أن هذه الدولة أعني العادية أولاً والسبئية ثانيًا
اعتنت بالتعدين كما اعتنت بالتجارة والزراعة والصناعة ولا تزال آثار عشرات من
معادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والحجارة الكريمة في اليمن
ونجد والحجاز وعلى جانب أفريقيا المقابل شاهدة على ما كان لهذه الدولة والأمة من
الاقتدار والهمة والنشاط. وأرجح أن المستقبل سيرينا من آثارهم التي لا تزال تحت
الردم والرمال ما يزيد عن آثار إخوانهم الكنعانيين والفينيقيين.
قلت وأعيد القول: إن أمة كهذه الأمة وشعبًا كهذا الشعب الذي من بقاياه
العرب العدنانية في نجد والحجاز والكهلانية في أرض سبأ وحضرموت وعمان
حري بأن يكون له لغة كاللغة العربية سيدة اللغات السامية. ولعلها سيدة اللغات
القديمة كلها فقد ماتت تلك وبقيت هذه وستبقى بَعْدُ أجيالاً لا يعلمها إلا الله مهما
عورضت واضطهدت أو صودرت واتهمت.
أرى أني استوفيت كل ما في وسعكم من الإصغاء فلا يليق بي من ثم أن
أحملكم فوق ما حملتم فدعوني أختم بذكر خلاصة ما أراني وصلت إليه بالمسلك
التاريخي الذي سلكته في شأن الأرومة السامية ونسبة اللغات المعروفة منها بعضها
إلى بعض فأقول:
(1) إن اللغة السامية كان مهدها في البلاد العربية والأرجح أن قراراتها
كانت بلاد اليمن وما إليها من السروات.
(2) انشعب منها فرع إلى بلاد بابل وبقي فرع في قرارته الأولى وهم
القحطانية الأولى. ثم الفرع الذي اتجه شمالاً إلى العراق انشعب منه شعبتان شعبة
تسكن المدن وأخرى تسكن البدو.
(3) مازال هذان الفرعان متجاورين إلى أيام دولة النماردة [*] فضيقت هذه
الدولة عليهما واضطرَّت كثيرين منهم إلى الجلاء عن البلاد فجلا أهل بابل العظيمة
وغيرها من مدن العراق إلى أرض الجزيرة وعمَّروا راسن وكالح ونينوى وغيرها
من المدن الآشورية، وجلا كثيرون آخرون معظمهم من أهل البدو إلى جزيرة
العرب موطن أسلافهم الأقدمين ونزلوا الحجاز ونجد وأرض سبأ وعمان. وكانت
لغتهم قد استقلت وتمايزت عن القحطانية التي فارقها أجدادهم الأولون في اليمن ثم
ما لبثوا أن استولوا على ملك القحطانيين وضيقوا عليهم في يمنهم كما كان النماردة
قد ضيقوا عليهم في جوار بابل فهاجر جماعة كبيرة منهم إلى الحبشة، وكان هاجر
قبلها أو أثناءها جماعة أخرى إلى الأمهرة والشطوط المقابلة من أفريقيا فكان منهم
هناك الأمهرية والحبشية ثم هاجرت جوال أخرى من العمالقة والعاديين إلى الشام
وشطوط المتوسط إما رأسًا من العراق هربًا من النماردة أو من البلاد العربية بقصد
التجارة والاستعمار والأرجح أن كان الأمران معًا.
ومن هؤلاء المهاجرين كان العبرانيون وأمم الشام من الكنعانيين والفينيقيين.
وعليه تكون العبرانية الفينيقية والعربية شعبتين من الفرع العادي، والحميرية
والحبشية من الفرع القحطاني.
هذا ما تدل عليه التقاليد وما وصلنا إليه من شذرات التواريخ، وأظن أن
الأبحاث الفيلولوجية لا تنافيه إن لم تطابقه. ومعرفتي القليلة بالعبرانية والسريانية
تسوغ لي بعض التسويغ أن أقول: إن العبرانية أقرب إلى العربية مما هي إلى
السريانية. ولو لم يكن بينهما من المقاربة إلا أن في كلتيهما أداة للتعريف (ها) في
العبرانية و (آ) في العربية فوقف عند العرب مع الحروف القمرية على اللام بدلاً
من المدّ وأدغم أي حرف المد بالحروف الشمسية - لكفى ذلك شبهًا في أن يجعل
اللغتين صِنوين من فرع واحد. وكذلك أقول: إن الآرامية ويدل فيها على التعريف
بالوقوف على الألف (أي حرف المد) ينبغي أن تكون صنوًا لتلك التي يدل فيها
على التعريف بالوقوف على حرف الغنة أي (النون أو الميم) فإن هذين الحرفين
أعني حرف المد وحرف الغنة يبدل أحدهما بالآخر. وفي العربية ما يدل عليه
ويسمى تنوين الغنة ومعناه الوقوف على حرف الغنة بدلاً من الوقوف على حرف
العلة. وأظن أن الحميرية (وهي التي سموها السبئية) هي التي رأوها وفيها هذا
الضرب من الدلالة على التعريف أعني الوقوف على حرف الغنة (أي النون)
فالأولى من ثم أن تقرن بالسريانية وتجعل صنوًا لها.
لكن هنالك من المشابهة بين العربية والعبرانية في الإضافة ما يؤيد المشابهة
الحاصلة من حرف التعريف ويدعمها فإن طريقة الإضافة في هاتين اللغتين أعني
العربية والعبرانية واحدة. وكذلك هي في السريانية والحميرية (أو التي سموها
السبئية) قريبة الشبه جدًّا إن لم تكن واحدةً.
ومما يزيد المشابهة بين العربية والعبرانية طريق استعمال الفعل فإن الماضي
والمضارع يوضع أحدهما موضع الآخر كثيرًا في كلتيهما، كما يظهر ذلك لمن تأمل
وهو عارف باللغتين. ويقل اعتمادها على الصفة وإقامتها مقام الفعل كما هو الشائع
أو الكثير في السريانية. ومن التهجم أن أقول: إن السريانية في هذا تشابه
الحميرية نظرًا لقلة ما وقفت عليه من هذه اللغة ولكني أوجه أنظار الباحثين إلى هذا
الأمر.
وهناك مشابهات أخرى بين العربية والعبرانية في الضمائر وحروف
المضارعة مما لو جمعت كلها معًا لرجح بها جانب الكِّفة من الوجهة الفيلولوجية كما
رجح من الوجهة التاريخية، أي أن العربية والعبرانية صنوان من جذم واحد.
إن كنت وصلت في طريقة بحثي هذا إلى الحقيقة أو ما يقاربها أو إلى ما يدل
على الوجهة التي هي فيها فحسبي ذلك. وإلا فيكفيني أني نبهت إلى أهمية مقارنة
البحث التاريخي بالبحث الفيلولوجي، ولعل الحقيقة أقرب أن تكون في الجانب الذي
يتفقان فيه أو على الأقل في الجانب الذي لا يعارض فيه أحدهما الآخر أو ينافيه.
واسمحوا لي أن أختم بتقديم مزيد تشكراتي لرئيسنا الفاضل الدكتور هورد بلس الذي
دعاني إلى درس هذا الموضوع أولاً ولكم على ما أوليتموني من المجاملة وحسن
الإصغاء ثانيًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته اهـ.
__________
(*) تابع لما نشر في الجزء السابق وهو خطاب للأستاذ جبر أفندي ضومط
(1) أعني بالقحطانيين هذا الفرع الذي كان يتكلم بالقحطانية السريانية والحميرية التي خلفتها.
(2) وأعني بالعاديين الذين كانوا يتكلمون بالعربية تسمية بأشهر قبائلهم عاد.
(3) من أكبر الفروع العدنانية قيس عيلان، وقيل في عيلان هذا: إنه عبد القيس وقيل: فرس له، ولكنني أرجح أن عيلان تحريف عيلام، وعيلام بلاد شرقي رأس خليج فارس وهي خوزستان أو قسم من خوزستان، وخوزستان تركيب فارسي يعني به بلاد خوز، وخوز وكوش أحدهما محرف عن الآخر، وكوش وقيس كذلك في الأرجح، وعليه فقيس عيلان نعني به كوش عيلام أي أضيفوا إلى المكان الذي جاءوا منه وهو ليس ببعيد.
(4) لا يبعد أن يكون غزوهم الهند غزو تجارة ومهاجرة أكثر منه غزو قهر وتغلب.
(5) كانت البلاد تسمى باسم الشخص أو الشخص يسمى باسم البلاد وعليه فكوش هذا إما تسمى باسم البلاد كوش أو البلاد تسمت به فيكون أصل النماردة من كوش أو خوز وتعرف اليوم بالأهواز أو خوزستان وهي بلاد عيلام القديمة أيضًا.
(6) أرض سبأ على ما يظهر من الهمذاني هي بلاد عاد؛ لأنها الفلاة التي يشرع عليها بيحان ومأرب والجوف ونجران والهجيرة همداني وجه 27 وصف جزيرة العرب.
(7) وفي الصحاح مَذْحِج مثال مسجد أبو قبيلة من العرب وهو مذحج بن مالك بن زيد بن كهلان بن
سبأ.
(8) فمن أراد حضرموت من نجران والجوف جوف همدان ومأرب فمخرجه العبر. همداني وجه
84.
(9) إذا كان يعتمد على إشارات اللغة البعيدة فأرجح أن اسم سبأ جعل لقبًا لهذه الأمة التاجرة لأن
معنى (سبأ) تاجر أو تجارة وأن الحبشة ومن جاورهم من البلدان لقبوهم بهذا اللقب وفقًا لما عرفوه
عنهم. فإن هذا الأصل أي (سبأ) يفيد في اللغة الحبشية معنى التجارة على ما سمعت ولا يزال
مألوفًا بهذا الاستعمال، أما في لغتنا العربية فقد خرج عن هذا المألوف وبقي فيه ما يدل على سابق
استعماله في قولهم سبأ الخمر وسباها. وفي السباء بمعني بياع الخمر وفي السبأة بمعني السفر
البعيد الذي كان تقتضيه تجارة العاديين. وفي السبأ بمعني العود يحمله السيل من بلد إلى بلد. وشاع
هذا الاستعمال حتى أطلق على بلادهم الأصلية فعرفت به أخيرًا عند الحبشة والقحطانيين من أهل اليمن.
(10) همداني وجه 101.
(11) أرجح غيمان على ما في وصف جزيرة العرب.
(*) النماردة ملوك كوشيون من كوش أو خوز وهي بلاد خوزستان الآن وكانت لغتهم الآرامية كما
يظهر فإن نمروذ أو نمروذو مصغر نمر في اللغة الآرامية وأرجح أنهم جاءوا من بلاد العرب من اليمن
عن طريق البحرين عبروا الخليج الفارسي من هناك ثم لما قويت شوكتهم غزوا بابل وطردوا من كان
سبقهم إلى هناك فذهب بعضهم شمالاً إلى بلاد آشور وذهب آخرون جنوبًا إلى الحجاز ونجد والأحقاف
وهي بلاد سبأ كما مرت بنا الإشارة إلى ذلك.(15/187)
الكاتب: السر هنري جونستون
__________
العالم الإسلامي [1]
بقلم: السر هنري جونستون
(مقالة مهمة عنه في العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة)
يذكر قراء الأفكار الكرام أن السر جونستون هذا قد كتب مقالات شتى عن
السياسة الشرقية خصوصًا، وعن الإسلام والمسلمين عمومًا، فكانت كتاباته تقيم
الدوائر السياسية في أوروبة وتقعدها، ليس لأنه ضليع بالمواضيع الهامة فقط، بل
لأنه ذو مكانة سامية أيضًا في عالم الأدب والاجتماع والسياسة فضلاً عن سعة
معارفه الجيوغرافية؛ لأنه قضى نحوًا من عشرين سنة في البلدان الإسلامية يبحث
وينقب ويراقب.
والسر جونستون هذا هو أول من جهر بأسرار مقابلة ريفال بين المرحوم
الملك إدوارد والقيصر نقولا الروسي واتفاقهما على أملاك تركيا في أوروبة حلاًّ
لمشاكل مقدونيا والآستانة. وهو من كتب في العام الماضي يمتدح من أعمال
فرنسة وإنكلترة التمدينية في المستعمرات الإسلامية بقارة أفريقيا ويقول بوجوب
تسليم ألمانيا لفرنسة في إعلان حماية هذه على مراكش حتى يصبح العالم الإسلامي
كله في أفريقيا تحت رايات الدول الإفرنجية القادرة على ترقيته وتمدينه [2] بعكس
الحكومات الإسلامية التي لا تتمكن من ذلك لمجرد كونها إسلامية - على قوله -
وأخيرًا رأيناه يجهر بعبارة صريحة قائلاً: إن العالم كله سوف يعترف بعد مئة سنة
بحقيقة واضحة وهي أن ظهور النبي محمد كان أعظم ضربة على التمدن في كل
الممالك التي استولى عليها المسلمون [3] .
وليس المقام مقام أخذ ورد في هذه المقالة ولا هو مقام انتقاد وتخطئة فإن
المستشرقين النزيهين من علماء الفرنجة ذواتهم يسفهون هذه الآراء ويقولون: إن
الأديان كلها كانت في كثير من الأزمنة آلات بيد السياسة الخدّاعة تهدم هياكل
العمران والرقي بمعاول التعصب الذميم فتترك وراءها الجهل العميم. والجهل أبو
المصائب كلها وأولها التأخر والانحطاط.
بَيدَ أن نشر مقالات كهذه بين معاشر الشرقيين تخطها أقلام الباحثين من علماء
الإفرنج وكبار ساستهم له فوائد جلية لا تخفى على أحد. وطالما رأينا كثيرًا من
وصيفاتنا الجرائد العربية المعتبرة تنقل عن الأفكار تعريب هذه المقالات الهامة علمًا
منها بفائدة نشرها بين عموم المشارقة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين وأمامنا اليوم
العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر وفيها مقال عنوانه (أوربة والعالم
الإٍسلامي) بقلم السر جونستون ذاته هذا تعريبه باختصار وتصرف (ليت الجريدة
لم تتصرف) : -
إن الحرب الإيطالية العثمانية الحاضرة قد جدَّدت المباحث عن الشرق والغرب
وعلى الخصوص عن علاقة الدول العظمى بملايين عديدة من البيض والصفر
والسود يدينون بدين الإسلام , وهؤلاء المسلمون متحدون بعض الاتحاد - وليس
اتحادًا كاملاً كما يزعم فريق من الكتاب بجهل حقائق الأمور؛ لأنه لم يبرح بلاده
قط، أي أن هذا الفريق لا يكتب عن تحقيق واختبار - واتحاد المسلمين الجزئي
هذا مُوَجَّه ضد أوروبة النصرانية وخصوصًا ضد الدول المستعمرة منها.
وإذا نظرنا إلى عمل إيطالية الأخير في غزوتها طرابلس الغرب نظرة
عمومية نرى أنها مخطئة خطأ فاحشًا؛ لأنها شهرت الحرب على تركيا فجأة ومن
دون سابق مفاوضات تجيز لها هذا العمل، فضلاً عن أن جنودها بعد احتلالهم
طرابلس أجروا من الفظائع البربرية على النساء والأولاد ما ذعر له العالم المسيحي
قبل العالم المحمدي، ولا عذر للإيطاليين سوى قولهم إن امتلاكهم ولاية طرابلس
الغرب ضروري لكيانهم كأمة مستقلة , وهذا العذر غير مقبول منطقيًّا، ولا جائز
شرعًا، أو في عرف الدول , بيد أن الصحافة الطليانية وساسة الإيطاليين الذين
حادثتهم في هذا الموضوع كانوا يقولون لي: إن النمسا وألمانيا كانتا عاقدتين اتفاقًا
سريًّا مع تركيا على امتلاك طرابلس الغرب برضاها وإنهما إذا امتلكتا هذه الولاية
القريبة منا تصبح حياتنا القومية مهددة بالأخطار المميتة ويصير استقلالنا تحت
رحمة ألمانيا والنمسا , وسواء صح هذا القول أو لم يصح فإن إيطاليا تظل مخطئة
لدى الشرائع والحقوق الدولية؛ لأنها فاجأت تركيا بهذه الحرب من دون أن تمهلها
ريثما تُكذب هذه الإشاعة أو تثبتها [4] .
على أن الطليان ما برحوا يؤكدون مزاعمهم قائلين: (إن الألمان كانوا أشد
الناس حنقًا علينا وأكثرهم تهجمًا، وليس ذلك حبًّا بسواد عيون الأتراك، بل لأننا
منعناهم من تحقيق آمالهم ألا وهي بسط نفوذهم السياسي والتجاري من طرابلس
الغرب شمالاً حتى الكونغو والقمران جنوبًا) .
وإيطالية غير قادرة على تمدين الغير بعد، فلذلك لم يتجاسر أحد من ساستها
الذين باحثتهم على القول أمامي بأنهم غزوا طرابلس بقصد تمدينها وترقيتها. فإن
كثيرًا من السياح الألمان وسائحين من الإنكليز قد كتبوا مرارًا أن إيطالية لم تأتِ
عملاً تمدينيًّا هامًّا لا في مصوع ولا في مقاطعة إرترية بالحبشة، ليس ذلك فقط،
بل إن السائح في بلاد الصومال يرى البون شاسعًا بين الصومال الطلياني
والصومال الفرنسوي مثلاً. فالبلاد الأولى باقية على ما كانت عليه قبل الاحتلال
الإيطالي من حيث الفقر والجهل والتأخر. أما الصومال الفرنسوي ففيه الخطوط
الحديدية والمزارع الجميلة وكل آثار الارتقاء والتمدن في العلم. ومثل فرنسة في
إسعادها مستعمراتها مثل الإنكليز في السودان وألمانيا في زنجبار.
ولكن تسرع إيطالية الأخير في طرابلس الغرب لا يحوج أوربة أنْ تناوئها
وتقاومها في أعمالها الاحتلالية هذه، بل بالعكس، يجب على أوربة أن تناصرها
وتؤيدها بكل قوتها؛ لأن إيطالية إذا عادت خاسرة من هذه الحرب، فالعار لا يلحق
بها وحدها بل يعم كل الدول الأوربية النصرانية. فالمسلمون إذا نجحوا يصيرون
يضمرون طرد الإنكليز من مصر والسودان وطرد الفرنسيين من تونس والجزائر
ومراكش وطرد الروس من أواسط آسيا الإسلامية. وعليه فمن الواجب على
إيطالية خصوصًا وعلى أوروبة كلها عمومًا أن تبقى ساعية جهدها في الحرب
الحاضرة كي ترسخ قدم الإفرنج في شمالي إفريقية من دون نظر إلى كميات
الخسائر الباهظة من المال والرجال في سبيل تحقيق هذه الأمنية [5] .
يعسر على الباحث الغربي أن يقترب من موضوع المسألة الإسلامية من دون
حذر زائد. فإن المسلمين يعدون اليوم 230 مليونًا بينهم أقوام من البيض تجمعنا
وإياهم جامعة الأصل الأبيض الواحد (الأصل الآري) و60 مليونًا منهم هم مثل
الإفرنج تمامًا من حيث جمال الهيئة وقوة البنية والاستعداد الكامل للارتقاء العقلي ,
وبعض المسلمين هو من أصل أوروبي بحت؛ لأن كثيرًا من الغوط والإيطاليين
والأروام والسلاف، والأرناؤط والقوقاسيين اعتنقوا الدين الإسلامي سابقًا بحكم
أحوال قاهرة وهم الآن في مقدمة أتباع محمد رقيًّا وتهذيبًا لا يقلون عن إخوانهم
نصارى الإفرنج قوة ونشاطًا وجمالاً وحسن استعداد لقبول التمدن الصحيح وفي
الهند وحدها 64 مليونًا من المسلمين هم أرقى الشعوب الهندية على الإطلاق.
ومجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين في الرعية البريطانية يجعل الحكومة
الإنكليزية أن تكون أكثر حكومات الأرض اهتمامًا بالحرب الحاضرة.
فإن إنكلترة إذا رفضت السعي لأجل مصلحة تركية مركز الخلافة الإسلامية
العظمى تكون قد أحدثت سببًا لإغضاب رعاياها مسلمي الهند الذين تعتمد إنكلترة
عليهم وحدهم عند الخطوب في تلك البلاد، وإذا هي سعت لمصلحة تركية فتتضرر
إيطالية وبضرر الإيطَالْيَانِ يزيد المسلمون حركة وهياجًا ضد الإفرنج النصارى
ويعلق في أذهان زعمائهم سهولة النجاح في محاولتهم التخلص من حكم النصارى
الإفرنج في تركستان ومصر وتونس والجزائر، وعندي أن إنكلترة وغيرها من
دول الاستعمار العظمى تفعل حسنًا إذا سعت بضمير صالح في سبيل تعليم المسلمين
العلوم الطبيعية التي تحارب العلوم الدينية علمًا منا بأن آفة الإسلام العظمى هي
العلوم الدينية المبنية على القرآن وحده وهذه سدوتها الجمود ولحمتها التقيد بقيود
الخرافات والأوهام [6] .
وحالما يتحرر المسلمون من ربقة الاستعباد للعلوم الدينية عندهم يصيرون
قادرين على إدراك الحقائق السياسية بأكثر جلاء ووضوح أي إنهم يصيرون
يميزون بين المصالح السياسية والأغراض الدينية كما صارت أوربة تفهم ذلك بعد
أن تحررت من ربقة الاستعباد للتعاليم الدينية التقليدية التي كانت ضاغطة على
حرية القول والعمل والفكر. ولما يصل المسلمون إلى هذه الدرجة من الارتقاء
العلمي فتصير مساعدتنا لهم نافعة للفريقين أي إنهم لا يعودون يمزجون الدين
بالسياسة وبكل شيء بل يصبحون عالمين أسرار المنافع الاقتصادية والسياسية
فيصادقون من ينفعهم نصرانيًّا كان أم مسلمًا ويعادون من يضرهم بقطع النظر عن
دينه ومعتقده.
***
كلامه عن الأديان الثلاثة
والقرآن ليس سوى مجموعة أقوال مقتبسة عن التوراة والإنجيل وبعض تعاليم
المجوس [7] . ولما كان محمد يكره يهود بلاد العرب كرهًا شديدًا صارت آياته في
القرآن أشد وطأة عليهم مما هي على النصارى. وتعاليم القرآن فيها بعض المنافع
مثل النظافة وعدم وأد البنات والامتناع عن المسكر والزكاة والصدق في المعاملات
ولكن ازدراءه بالنساء وإباحة تعدد الزوجات وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالمرأة
تجعل تلك التعاليم الإسلامية حجر عثرة في سبيل الارتقاء العقلي والاجتماعي كيف
لا والقرآن يحتقر المرأة والمرأة هي أم الرجل [8] .
نعم إن الدين اليهودي لم يحسن التصرف تجاه النساء وهن نصف الجنس
البشري، ولكن التوراة صارت اليوم مرنة بيد الحاخاميين يفسرونها كما يشاءون
مما يطابق روح العصر ولا يخالف التمدن. وكذا الكنيسة الكاثوليكية في القرون
الوسطى على الخصوص فإنها كانت تضطهد العلم وتعيق مسير العرفان ولكنها لم
تمكث على هذا الاضطهاد زمنًا طويلاً بل رأيناها بعد ذلك تبني المراصد الفلكية
وتنشط نشر العلوم الطبيعية والطبية واللغوية والجيوغرافية وبالاختصار فإن التعاليم
المسيحية في أي مذهب من المذاهب لا تبقى جامدة بل نراها تتكيف وتتبدل حتى
تطابق مجرى الأحوال بمرونة وليونة تامة.
ليس ذلك فقط بل إننا نرى الكنيسة الباباوية كانت ومازالت تؤيد الفنون
الجميلة كالنقش والتصوير والموسيقى والكنائس البروتستانتية تؤيد الأعمال الخيرية
الآئلة إلى منفعة بني الإنسان وتخفيف ويلات المصابين وسد عوز المحتاجين وذلك
في إنشائها الجمعيات الخيرية لبناء المستشفيات والمدارس والملاجئ، والكنيسة
الأرثوذكسية نراها على أشدها في روسيا والرُّوس رغمًا عن شيوع السكر بينهم
شيوعًا عامًّا معيبًا وعن تفشي الرشوة والمحسوبية وسائر ضروب الفساد في
محاكمهم فهم أرقى بكثير من جيرانهم الأتراك علميًّا واجتماعيًّا وأفضل آدابًا وأخلاقًا
هذا مع علمنا بأن روسيا حديثة العهد نوعًا في العمران.
وإذا أمعنا النظر جيدًا نرى البون شاسعًا بين الممالك المسيحية والممالك
الإسلامية من حيث العلوم والصنائع والفنون والاقتصاد والتدابير الصحية والعلاقة
الزوجية بين الجنسين - أي أننا نرى البلدان المسيحية والبلدان التي هي تحت حكم
النصارى أرقى بكثير من البلدان الإسلامية [9] ليس ذلك فقط بل إننا إذا نظرنا إلى
المجر مثلاً نرى أن المجريين والأتراك هم من أصل واحد قدِموا إلى أوروبة من
أواسط آسيا في بدء القرون الوسطى وكانت لغتهم واحدة وبعد أن حلّ المجر في
النمسا واعتنقوا الدين المسيحي صاروا على تمادي الأجيال أرقى من إخوانهم
الأتراك الذين حلوا في مقدونيا وعلى ضفاف البوسفور وبقوا معتنقين مذهبهم
المحمدي، وترى الفرق كبيرًا اليوم بين المجر والأتراك من حيث الارتقاء والتمدن،
فالأولون نبغوا في الموسيقى والشعر والنقش والبناء والآداب والاقتصاد بينما
الأتراك لا يزالون على حالة واضحة من التأخر في كل هذه الفنون.
ورُب معترض يقول: إن الإسلام أبقى على كثير من العلوم والصنائع التي
كانت النصرانية تحاربها على زمن الروم والأقباط والسوريين والرومان، فالإسلام
أبقى آداب الروم والرومان وعلومهم وأنعش العلوم الطبية والفلكية والرياضية وزاد
في فنون البناء والهندسة وزخرفة القصور والجوامع وكان صلة متينة بين علوم
الشرق والغرب بل كان الحلقة الوحيدة التي وصلت علوم اليونان والرّومان بالإفرنج
في القرون الوسطى، ولولا هذه الحلقة لضاعت العلوم الطبية والفلكية وغيرها كثير،
نعم إنني أعترف بصحة هذا الاعتراض ولكني أجيب عليه قائلاً: إن علماء
المسلمين الذين عنوا بالعلوم والمعارف ونشطوا الحركة الفكرية والعقلية من القرن
الثامن إلى القرن الثالث عشر للميلاد لم يكونوا عربًا ولا أتراكًا بل كانوا يهودًا أو
فرسًا أو قبطًا أو أروامًا جبروا على اعتناق الدين المحمدي [10] وبعضهم بقي على
دينه؛ لأن أميره أنعم عليه في إمكانية ذلك البقاء منة وكرمًا، (وهنا يسهب السر
هنري جونستون في وصف البلدان الإسلامية وما هي عليه من التأخر كمصر وتونس
وطرابلس الغرب والجزائر ومراكش وأواسط أفريقيا وتركيا وبلاد العرب زاعمًا أن
علة هذا التأخر الوحيدة هي الدين الإسلامي، إلى أن يأتي إلى مسألة طرابلس
الغرب فيقول: إن سبب انحطاطها هو حكم المسلمين عليها أيضًا؛ لأنها من
الزمن الذي دخلت به في حوزتهم من القرن الثامن للميلاد حتى الساعة لم ترَ إلا
عوامل التخريب والتدمير فتركيا لذلك غير محقة بمحافظتها على هذه الولاية من
النظرة الأدبية كما أن إيطاليا غير محقة في اعتدائها عليها) ثم يستأنف الكلام
فيقول:
ويظهر من كل ذلك أن الأديان كلها قاومت التقدم الإنساني زمنًا من الأزمان
ولكن الدين الإسلامي اشتهر بكونه غير قابل التكيف لما يطابق أحوال الزمان
والمكان كالدين النصراني والدين اليهودي [11] ولو فقه المسلمون ذلك، وصار
علماؤهم يبحثون عن طريق لحل تعاليمهم الدينية من قيود الجمود هذه لما تأخروا عن
اللحاق بإخوانهم المسيحيين في السير نحو الارتقاء والنجاح، أي من عليهم البحث
في إيجاد طريقة لجعل دينهم مرنًا لينًا يقبل التكيف والتأويل والتفسير لما يطابق
روح الزمان والمكان.
أما من حيث قضية طرابلس الغرب فأكرر القول: إن إيطاليا مخطئة في
اعتدائها عليها من دون مسوغ شرعي أو أدبي قط، ولكن غيرها من دول الاستعمار
فعل ذات الشيء عينه إنما بهيئة مختلفة، فإطلاقنا القنابل على الإسكندرية سنة
1882 واحتلالنا وادي النيل وغزو فرنسا مراكش الآن وزحف روسيا على شمالي
العجم وامتلاك ألمانيا جزءًا من شرقي أفريقيا - كل ذلك يؤيد حجة إيطاليا في قولها
للدول: إنها فعلت ما فعلته تلك الدول ذاتها، وعندي لو كانت طرابلس الغرب
سهلت دخول الأجانب إليها واستثمار أموالهم فيها لما أقدمت إيطاليا على غزوتها،
فإن البرتوغال وأسبانيا أقفلتا باب مستعمراتها الأمركانية في وجه الأجانب وكانت
النتيجة أن العلمين الإسباني والبرتوغالي اختفيا عن القارة الأمريكية، وأملاك
البرتوغال الباقية لها في أفريقيا مهددة بالضياع إلا إذا كانت البرتوغال ترعوي
فتفتح باب الاتجار والاستثمار أمام المتمولين وأصحاب الشركات الأجانب.
ورغمًا عن كل ذلك فإن الأمم الضعيفة والدول الصغيرة لم تتمكن من
المحافظة على كيانها أو على أملاكها إلا لأنه يوجد في هذه الدنيا شيء يُدعى
(الضمير الأدبي) هي وحدها التي منعت فرنسا وألمانيا من تقسيم سويسرا وبلجيكا
بينهما، وهي التي منعت النمسا من ابتلاع الصرب وإنكلترا من زيادة أملاكها في
غينيا على حساب فنزويلا، وليس من يريد موت هذه المحكمة الأدبية أو ضعفها
وخصوصًا نحن المسيحيين الذين نعتقد أن للأديان علاقة مهمة في ارتقاء البشر
وتمدنهم.
نعم إن بالدين المسيحي كثيرًا من الخرافات والزوائد المضرة، وبالدين
المحمدي كثيرًا من الحسنات والفضائل، ولكن البلدان التي تدين بالنصرانية لم
تضطهد المسلمين وخصوصًا في القرنين الآخرين كما أنها لم تجبرهم على رفض
طقوسهم وعاداتهم مطلقًا، فالمسلمون لهم تمام الحرية في السفر إلى أية جهة أرادوها
في أربعة أقطار المسكونة ولهم تمام الحرية في الدخول إلى معابد النصارى واليهود
في كل مدن الأرض ولكن النصراني لا يقدر حتى هذه الساعة على الدخول إلى مكة
والمدينة كما أنه لا يقدر على الدخول إلى جوامعهم إلا ويكون معرضًا في أغلب
الأحيان إلى الإهانة، وماذا نقول عن نوع المعاملة التي يلاقيها النصارى
الموجودون تحت حكم دولة مسلمة حتى في هذه الأيام، فإن حالة أقباط مصر الآن
كحالة مسيحية سوريا وأرمينيا ومكدونيا - ليست مما تشرح الصدر وتفرح القلب.
نعم إنني لا أعتقد بإمكانية صيرورة المحمدي مسيحيًّا وخصوصًّا في هذه الأيام
كما أنني لا أتوقع من اليهودي في القرن العشرين أن يعود فيعترف بالمسيح حالة
كون المسيح يهوديًّا من النظرة البشرية بل هو أعظم يهودي على الإطلاق ولكني
أعتقد أن عقلاء المسلمين وعلماءهم يقدرون على اقتفاء خطوات علماء النصارى
واليهود في القرون الأخيرة وأعني حذف الزوائد المضرة من دينهم والاستغناء عن
كثير من تقاليدهم وعاداتهم وخرافاتهم العديدة حتى يجعلوا دينهم أهلاً لكل حالة
وصالحًا للاتباع في كل زمان ومكان - أي حتى يفكوا عنه قيود الجمود كما فككناها
نحن عن ديننا من قبلهم فيصير من السهل عليهم السير في سبيل الارتقاء
والتقدم اهـ.
__________
(1) منقولة عن جريدة الأفكار العربية التي تصدر في البرازيل.
(2) قد كاد يمر قرن كامل على الجزائر ولم نر فرنسة مدنت أهلها ولا رقتهم.
(3) هذه المكابرة دليل على تعصب المصنف فما استولى المسلمون في القرون الأولى على بلاد إلا وصارت خيرًا مما كانت عليه علمًا ومدنية، وهل اقتبس هو وقومه المدنية إلا من مسلمي الأندلس والشرق؟ .
(4) قد نشرت السفارة العثمانية في لندن تكذيبًا رسميًا لهذه الإشاعة التي راجت لأول مرة في الصحف الإنكليزية ومجرد عدم وجود ألمان ونمسويين في طرابلس الغرب وعدم ذكر ألمانيا اسم طرابلس الغرب أمام الباب العالي في كل السنين الماضية كان لتفنيد مزاعم الإيطاليين في هذه الأفكار الفاسدة.
(5) ليعتبر المعتبرون بتعصب هؤلاء القوم وخذلهم للحق ونصرهم للباطل فإن الكاتب على اعترافه ببغي إيطاليا وكونها ليس لها عذر ما في الاعتداء على طرابلس يحث أوربة كلها على نصرها وتأييد باطلها؛ لأنها نصرانية تريد الاستيلاء على المسلمين، ولئلا يطمع المسلمون الآخرون بتحرير أنفسهم من رق النصارى! !
(6) لا يوجد كتاب ديني في الأرض كالقرآن يطهر العقول من الخرافات والأوهام ويكسر قيود التقاليد ويزلزل أركان الجمود وهذا هو السبب الحقيقي في حث هذا الكاتب قومه على مقاومة كل تعليم بني على القرآن لئلا يرتقي المسلمون به فيخرجوا من العبودية التي يريدها لهم كما علم من سابق قوله ولو كان القرآن كما قال لكان هو وأمثاله أشد الناس حثًّا للمسلمين على اتباعه ليدوم ذلهم وقبولهم للعبودية ولكن المسلمين كفوه مؤنة التنفير عن العمل بالقرآن من عدة قرون فهم يحرمونه على أنفسهم؛ لأنهم يسمونه من الاجتهاد الممنوع عند جماهيرهم.
(7) هذه فرية افتراها الكاتب فليأتنا من تلك الكتب بمثل ما في القرآن من التوحيد الخالص المفصل بالبراهين العقلية والطبيعية، ومن هدم بناء التقليد وفك العقول من رق الرؤساء ليأتنا منها بجعل أمر الأمة شورى بينها وشرعًا بين جماعة أهل الحل والعقد من أفرادها إلخ.
(8) هذه فرية أخرى وحسبنا في ردها قوله تعالى: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ] (البقرة: 228) .
(9) لم تكن الحبشة النصرانية أرقى من مصر الإسلامية قبل الاحتلال، ولم تكن إنكلترة وفرنسة لتبلغ حذاء الأندلس أيام كانت الأندلس إسلامية، فالحضارة لها سنن اجتماعية بينها القرآن وما عمل بها المسلمون كانوا أرقى البشر ثم تركوها فهبطوا بعد أن أخذتها عنهم أوروبة دون دينهم الذي هداهم إليها.
(10) كذب مبني على مثله فإن العرب كانوا أئمة هذه العلوم وعنها أخذها إخوتهم الذين تبعوهم في دينهم من الأمم الأخرى والتاريخ شاهد عدل، وعلماؤه المجردون من التعصب الديني والسياسي عدول أيضًا كالدكتور غوستاف لوبون مؤلف (حضارة العرب) فليرجع إليه من شاء، ثم إن العرب لم يجبروا أحدًا على الإسلام كما فعلت أوروبة في الأندلس وغيرها ولا خادعوا كما يخادع غيرهم الآن في كل مكان.
(11) الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي يتفق بأصوله مع العلم والمصلحة العامة في كل زمان ومكان من غير حاجة إلى ترك شيء منه ولا تحريفه، وأبعد الأديان عن ذلك المسيحية التي هي نقيض الحضارة والمدنية المبنية على توفير الثروة وإباحة الطيبات والزينة وهي تأمر بالتجرد من الغنى ومن كل زينة ونعمة والحضارة الأوروبية الحاضرة لا تتفق مع تعاليم الإنجيل قط.(15/201)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أخبار العالم الإسلامي
(روسيا ومسلمو تركستان)
نشرت جريدة (نوفي فريميه) الروسية الشهيرة مقالات بإمضاء (يا. ذ.
ف) عنوانها (سياسة عدم الالتفات) أو سياسة الإغضاء خَطَّأَ فيها التعجيل بتغيير
الإدارة في تركستان بأخذها من الإدارة العسكرية وتسليمها إلى الإدارة الملكية وبَيَّنَ
أنه لا يجوز النظر إلى تركستان من حيث إنها سوق تحضر قطنًا للروسية فقط، بل
يجب أن ينظر إليها من حيث هي بمنزلة القلب للعالم الإسلامي في الشرق الأقصى
ولها أهمية سياسية كبيرة بالنسبة إلى الروسية، وهو يوجس خيفة من تركها على
حالها قال:
يستيقظ الشرق، وليست مسألة اتحاد المسلمين جميعًا على أساس المدنية
الحديثة الإسلامية - وهي بغي (في الأصل تجاوز) ظهر من جهة الأتراك محبي
الجامعة الإسلامية - من المسائل التي تمر من غير التفات من الروسية التي يسكن
فيها قدر ثمانية عشر مليون مسلم. كانت نتيجة عدم الالتفات إلى أحوال التتر
المعنوية في أطراف فولغا أنهم سقطوا تدريجيًّا في نفوذ الأتراك المستنيرين. مسلمو
تركستان هم متأخرون في المدنية عن التتر في أطراف نهر فولغا والقريم، ومع
ذلك أخذوا ينهضون من نومهم الطويل الذي مر عليه قرون كثيرة ونرى مع الأسف
أن الآخذين في إيقاظهم ما كانوا منا بل من الأغيار وعلى وجه غير مطلوب ألبتة.
ولا شك أن لذلك أسبابًا: أن مسلمي تركستان كانوا أولاً يخافون الروس جدًّا
ويعدونهم أصحاب القوة والسطوة، وقد ضعف هذا الاعتقاد فيهم بمرور الأيام،
وبعد أن غلبنا في حرب اليابان وظهر عدم الانتظام بين المأمورين نقص نفوذ شوكة
الروس من أنفسهم، وارتقت حالهم من جهة الاقتصاد وغنوا فكان ذلك أيضًا سببًا
في ضعف شوكة الروس شيئًا فشيئًا. هم لم يتربوا في روسية فقط بل ساحوا في
الممالك الأجنبية وأخذوا بعد رجوعهم ينتقدون إدارة تركستان التي فيها شيء كثير
من الخلل حقيقة , ظهر لهم وجه الحاجة إلى المعارف العصرية وعدم إمكان
تحصيلها في المكاتب والمدارس القديمة، وبهذه الكيفية تولد فيهم الميل إلى المعارف
المنيرة للأفكار , وإن ذلك الانقلاب المعنوي التدريجي في مسلمي تركستان لم يظهر
لعمال الحكومة فيها من أول وقته ولكن جمعية الاتحاد والترقي من الأتراك والتتر
من أهل وطننا قد راقبوا ذلك من زمان ودققوا النظر فيه.
حقًّا إن تركية الجديدة تدقق النظر من زمان بعيد في آسيا الوسطى , وإن آمال
الترك فيها كبيرة جدًّا حتى إنهم فتحوا قبل عدة سنين جمعية مخصوصة في الآستانة
لنشر المعارف في تركستان ومقصدهم الأصلي من ذلك نشر فكرة الاتحاديين
المسلمين جميعًا. والتتر من أطراف قزان وأورنبورغ أخذوا يشتغلون بنشاط
وينشرون أدبيات اتحاد الإسلام بين مسلمي تركستان بصفة معلمين في المكاتب
الجديدة هناك وكذا أصحاب المطابع وتجار الكتب. وعمالنا في تركستان لم يروا
تلك الحركات إلا في الوقت الذي تعذر فيه عدم الرؤية، وبعدما عرف ذلك الأجانب
والحال أن ذلك الانقلاب الآخذ في الظهور بين ستة ملايين من مسلمي تركستان مهم
جدًّا لا يصح عدم الإحاطة به.
إن الضغط والتضييق على الأفكار الجديدة قد جعل القشر الثخين المحيط
بالعالم الإسلامي ينشق من بعض جهاته ويرى من وراء شقوقه انقلاب عظيم جدًّا
بين مسلمي تركستان. وكان المحرك الأول لأولئك المسلمين والسبب في ذلك
الانقلاب إنما هو نحن معشر الروس: أدهشنا خيال وأفكار أولئك الأهالي بمعجزات
المدنية الحاضرة مثل السكة الحديدية والتليغراف والكهرباء ولكن لم نقدر على
التقرب من حياتهم المعنوية ولم نخطر في بالهم بعد التقرب منهم كيف ينبغي أن
تكون المدنية وجهاتها المعنوية، وكان يجب ذلك علينا عندما كانوا يفركون عيونهم
من ذلك النوم الذي لبثوا فيه عدة قرون، فبقيت أحوالهم المعنوية في ناحية من
نظرنا.
فاتح تركستان (نون قا أوفمان) الذي هو أكثر الولاة نشاطًا وعملاً كان في
ضلال مؤسف إذ فكر في مكاتب ومدارس المسلمين التي لا تناسب اقتضاء الزمان
في شيء فجزم بأنها ستفنى وتزول من تلقاء نفسها، وهذا القدر من فكره وحكمه
معقول صحيح ولكنه ما فكر في أن محلاتها لا تبقى خالية أبدًا. فها هي ذي قد
أخذت تتجدد ببناء المدارس الجديدة على أنقاض القديمة بقصد معين معلوم وبرنامج
يمهد السبيل لاتحاد المسلمين عامة تحت نفوذ تركية الفتاة.
الحكام الروسيون يعلنون للناس أن الأحوال هناك حسنة للغاية والأمن في
نصابه، ولكن الحقيقة أن الخلاف الآن فيها والجدال مدهش جدًّا بين الروحانيين
(علماء الدين) وأصحاب الأفكار الجديدة: الروحانيون يحافظون على المكاتب
والمدارس القديمة الأصول ويحرصون على بقائها وأما الأغنياء والتجار فهم أشياع
المكاتب الجديدة، ومن المؤسفات أن عمال الحكومة هناك لا يتداخلون في تلك
المحاولات والاختلافات السياسية المهمة بين المسلمين بل يكتفون بالتفرج عليها من
بعيد. ما علمَ الحكام الروسيون هناك بوجود مكاتب جديدة قصدها نشر فكرة اتحاد
الإسلام إلا منذ سنتين فقط. على أنهم ما علموا ذلك بنفسهم مباشرة، بل بالمصادفة
وقت تفتيش (عراف بالين) والحال أن تلك المكاتب وجدت منذ عشرات من
السنين.
مسألة تربية مسلمي تركستان بروح القومية الروسية دون روح الترك
(الجامعة الإسلامية) مسألة مهمة جدًّا لا يجوز تركها على حالها من غير التفات
ولا عناية. ولكن يؤسفنا أن كثيرًا من الفرص السياسية المهمة فاتت من غير التفات
من الحاكمين اهـ , المقالة الأولى من مقالات نوفي فريمية الروسية مترجمة عن
جريدة وقت، ومنها يعلم مقدار يقظة روسيا وقطعها طريق العلم على المسلمين قبل
أن يسلكوه ويعرفوا العالم وما فيه وما فتح لها باب الحذر والخوف إلا ما يظهره
أغرار الاتحاديين من الميل إلى جذب مسلمي تركستان إليهم لتقوية العنصر التركي
وبهذا يضرون أنفهسم ودولتهم وأولئك المساكين، وعملهم هذا مخالف للجامعة
الإسلامية ولكن روسية تتهمهم بها وإن أعلنوا في جريدتهم طنين براءتهم منها.
(حركة الجامعة الإسلامية وسياسة ألمانية)
تقول جريدة نوفيه فريميه الروسية في مقالتها الأولى (عدد 12840)
المعنونة بهذا العنوان:
منذ زمان غير بعيد قبل عاهل ألمانيا رسميًّا مقابلة رئيس المبشرين الكاثوليك
في مستعمراتها في إفريقية وحاوره طويلاً في حركة الجامعة الإسلامية. وما قاله
الرئيس للإمبراطور في ذلك، وما في اللائحة التي قدمها إليه غير معلوم لأحد [1]
أما ما نشرته شركة (فولف) من الخبر الرسمي فهو أن الإمبراطور ويلهلم ما وجد
من الضروري أن يعدّ الجامعة الإسلامية شيئًا يخاف منه على مستعمرات ألمانية ولا
أرى حاجة إلى المقاومة الجدية لحركة الجامعة الإسلامية الحربية.
هذه المذاكرة في حركة الجامعة الإسلامية بين الإمبراطور ويلهلم ورئيس
المبشرين لم تهتم بها جرائد روسية اهتمامًا يذكر ولكن جرائد ألمانيا كتبت فيها كثيرًا
وأوفتها حقها.
فجرائد حرب الكاثوليك اللاتي لهن ولع دائمًا بإثارة شيء من الحركة الصليبية
اهتممن جدًّا بقبول الإمبراطور لرئيس المبشرين - ذلك الرجل الذي قدم من إفريقية
خصيصًا لإثارة الأفكار العمومية الألمانية ضد الجامعة الإسلامية. أما جرائد حزب
المحافظين البروتستان فلا يرين اندفاع ألمانية في مقاومة الجامعة الإسلامية لأفكار
فرقة (الكاثوليك الحربي) من الرأي السديد. فمن مجموع ذلك بينهم أن سياسة
ألمانية فيها شيء من التردد في اختيار أي خطة من الخطط التي يجب السير عليها
بإزاء الإسلام. حقًا إن المسألة فيها نزاع إلى الآن مثاره هذا السؤال: هل يمكن
للجامعة الإسلامية أن تلعب دورًا مهمًّا في سياسة العالم. أم هي خيال محض طلع
من رءوس شراذم قليلة من متعصبي المسلمين البعيدين عن حقيقة الأحوال؟ فهذه
المسألة لم يقطع فيها بعد.
منذ زمان غير بعيد نشرت في جريدة (الطان) الفرنسية مقالة ذات أساس
متين [2] لواحد من علماء العرب في مسلك الجامعة الإسلامية وبروجرامها المفصل.
تلك المقالة تجيب جوابًا قريبًا من الصحة عن كون هذه الجامعة ذا روح أو شبحًا
من غير روح. ويفهم من تلك المقالة أن الدول اللاتي لهن السلطة على المسلمين
ومن جملتهن دولة الروسية لا ينبغي لهن ترك الاهتمام بحركة الجامعة الإسلامية.
وقال صاحب المقالة أيضًا: إن مؤسسها الأول رجل أفغاني ولد سنة 1839 في بلدة
كابل وباشر الحروب الدموية كلها في الأفغان (يريد السيد جمال الدين) .
ذلك الرجل ساح في بلاد الهند وإيران وجزيرة العرب وبلاد تركية ومصر
ونشر فيها فكرة اتحاد الإسلام. كما أنه انتحل مذهب الماسونية في جهة أخرى.
وذلك يدل على أنه ما نظر إلى الإسلام من جهة الاعتقاد فقط بل اتخذه آلة وتَكِأَة
للمقاصد السياسية. ولرنان الشهير من محرري فرنسة ثناء مهم جدًّا على الأفغاني.
وفي آخر عهده جاء الآستانة ولقي فيها احترامًا عظيمًا ثم توفي فيها. وظهر كثير
من العلماء المروجين لفكر الأفغاني فأسسوا في الآستانة مسلكًا مخصوصًا لنشر فكرة
الاتحاد الإسلامي وظهرت آثارهم بين المسلمين لا في تركية وحدها بل أخذت تُرى
في جميع بقاع العالم التي يوجد فيها المسلمون وسهل أمرهم هذا كثيرًا كون لغة
العرب لسانًا عموميًّا بين المسلمين أجمعين. فبناء على ذلك لا يستغرب وقوع
الدعوة إلى مؤتمر إسلامي عام من إسماعيل غصبر نسكي محرر (جريدة إسلامية
تصدر في بلدة باغجة سراي) .
تنشر مجلات الاتحاد الإسلامي مثل (المقتبس) في نواحي العالم كلها ويقرؤها
المسلمون في جزيرة العرب وبلاد الهند حتى جزر البحر المحيط الكبير وفي أمريكا.
وبواسطة أمثال تلك المجلات يعيش مسلمو لاهور الهندية مثلاً ومسلمو تركية وهم
متعارفون عن كتب وتشتد رابطة الأخوة بينهم.
ليست حركة الجامعة الإسلامية في طور العدوان الآن بل هي خفية ومقتنعة
بنشر فكرة الأخوة بين المسلمين جميعًا وليس عليها عيب في الظاهر. ولكن مع
ذلك لا يمكن للدول اللاتي لهن منافع تمس بالسوء من ناحيتهم غير المقاومة لهم في
صورة قطعية.
نعم يظهر بين المسلمين حينًا بعد آخر بعض الآثار الحادة في نشر فكرة
الاتحاد الإسلامي مثل (أم القرى) ولكن الجامعة الإسلامية ترى الآن وجوب
الامتناع عن كشف الستار عن خريطتها وتجتهد قبل كل شيء في تحصيل التعاون
والأخوة بين المسلمين في أطراف شتى. على أن أرباب هذه الجامعة ليسوا جاهلين
بالسياسة. ومن برنامج سياستهم المدبرة أن ما تسميه أوروبة (خطر الجنس
الأصفر) ينبغي أن يبقى بمثابة ألعوبة صبيانية. وهم يستفيدون من جميع الفرص
لإخراج بروغرامهم من القوة إلى الفعل وإثارة أفكار أبناء جنسهم بعد اتحاد الأفكار
بينهم. وتلك الفرص توجد دائمًا وتزيد عما يحسبه الموظفون والسياسيون
الأوربيون أضعافًا مضاعفة.
مثال ذلك في حرب تركية وإيطالية الآن أن الإيطاليين قتلوا بالرصاص كثيرًا
من عربان طرابلس الذين استولوا عليهم وهم عراة لوجود الأسلحة الممنوعة عندهم،
والعربي عند الأوروبيين يعد في الدرجة الثانية بالنسبة إلى جزاء الإعدام، وليس
له كبير أهمية، ولكنه يعد أمرًا كبيرًا وتحقيرًا دينيًّا عند المسلمين، لذلك أثر على
الطليان هذا تأثيرًا سيئًا جدًّا في العالم الإسلامي فحصل بينهم هياج وغليان في
الأفكار واستفظعوا عمل إيطالية فوق العادة.
كان الإمبراطور ويلهم إلى الآن عونًا كبيرًا لحركة الجامعة الإسلامية وكان
الألمان يظنون أن هذه الحركة تصل إلى درجة توجب الخوف عليهم في الوقت
القريب وأنها على ذلك تحدث صعوبات جمة للإنكليز في الهند ومصر، وتكون
عونًا لهم لقرارهم في الأناضول. ذلك كان ظنهم فسياحة الإمبراطور ويلهلم في
الشرق وذهابه إلى مراكش وإلقاء خطبته في طنجة كل ذلك كان مبنيًّا على ما ذكر
من الاعتقاد في أمر الجامعة الإسلامية. لكن تبين الآن وجود هوة عميقة لا يسهل
اقتحامها مع الصداقة للمسلمين والمحافظة على منافعهم الحقيقية، ولذلك ضحت
ألمانيا بمنافع الملايين من المسلمين في مراكش توصلاً إلى امتلاك قطعة من
الأرض في الكونغو. فكسرة مطروحة لها في إفريقية كانت كافية لهدم تلك الصداقة.
ويوجد أيضًا كثير من المسلمين في مستعمرات ألمانية نفسها في إفريقية، فكل
حركة يراد بها الضرر على إنكلترة من مساعدة الجامعة الإسلامية وإزالة العقوبات
من سبيلها تكون من غير شك حركة ضد موظفيها ومبشريها في إفريقية. والذي
قاله الإمبراطور ويلهلم للرئيس المار ذِكره هو عبارة عن تدبير وقتي فقط.
(وبعد ذلك كله) هل تريد ألمانية أن تسلك في مسلك واحد مع أوربا جمعاء؟
أم هي تقصد أن تهيج تعصبات المسلمين الدينية وتخلق مشاكل وصعوبات هائلة
وتلقيها على رأس أوروبة؟ عن قريب تضطر ألمانية إلى الإجابة على واحد من
هذين الشقين اهـ مترجمًا عن جريدة (وقت) الروسية.
__________
(1) المنار نقلت البرقيات العمومية أن الإمبراطور صرح بوجوب الضغط على الإسلام ودعاته ثم صححت بصفة رسمية ذلك البلاغ وقالت: إنه وقع فيه غلط.
(2) قد نشرنا ترجمة هذه المقالة في جزء سابق مع التعليق عليها.(15/210)
الكاتب: محمد توفيق صدقي
__________
الدين كله من القرآن [*]
نكتب هذه الكلمة المختصرة بيانًا للنصارى الذين يطعنون على القرآن
ويرمونه بالتحريف لعدم وجود ذكر لرجم الزاني المحصن فيه فنقول:
قد استنبط رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أحكام شرعية قليلة تخفى
مآخذها لأول وهلة على الناظر في الكتاب العزيز وهذه المسائل مع كونها قليلة جدًّا
معروفة ومتواترة بين المسلمين وأهم هذه المسائل هي:
(1) تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها.
(2) رجم الزاني المحصن.
(3) تحريم استعمال أواني الذهب والفضة.
(4) تحريم لبس الحرير على الرجال.
(5) النهي عن أكل الحمر الأهلية (وكان ذلك في واقعة خيبر) .
(6) منع بيع الأَمَة إذا افترشها سيدها وولدت له.
أما الأمر بقتل المرتد فهو كما قلنا وقال السيد صاحب المنار: كان خاصًّا
لظروف خاصة تقتضيها الحالة في ذلك الوقت لمنع تشكيك ضعاف المسلمين في
دينهم بتلاعب بعض الناس بالدين ودخولهم وخروجهم منه كما قالوا: {آمِنُوا بِالَّذِي
أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران:
72) ولمنع إفساد أمرهم وإفشاء أسرارهم وتشتت كلمتهم وإضعافهم بإظهارها أمام
أعدائهم شاكين منقسمين متفرقين ولمنع عبث المعتدين بهم الذين كانوا يظهرون
الإسلام إذا تمكن المسلمون منهم ثم يرتدون ويؤذونهم إذا أفلتوا من أيديهم أو قووا
عليهم. أما في غير هذه الأحوال فلا يجوز للمسلمين قتل أحد لمجرد الارتداد قال
تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) وقال:
{وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) وأوجب
تأمين المشرك الذي كان أبيح لهم دمه إذا جاءهم تاركًا الأذى راغبًا النظر في الدين
وطالبًا البحث فيه لكي لا يدخله مكرهًا كما قال تعالى في سورة التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ
مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6) أي يجب تركه حتى يسمع القرآن ثم نرده إلى أهله آمنًا
مطمئنًّا ليتروى فيه ويتدبر فإن شاء آمن بعد ذلك وإن شاء لم يؤمن بشرط أن يَعِد
ونعرف منه أنه لا يعود لإيذاء المسلمين فإن ذلك كان كل مقصودهم. وأما الإيمان
والكفر فهما متروكان لحرية الشخص {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) فهل بعد ذلك يقال:
إن الإسلام يُكره الناس على الدخول في الدين؟ ؟ ! !
أما تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها؛ فذلك لأن العمة أو الخالة تعتبر
كالأم وتسمى أمًّا كما أن العم والخال يُسمى كل منهما أبًا قال تعالى في يوسف:
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ} (يوسف: 100) مع أن أمه كانت ماتت من قبل.
وورد أيضًا في سفر التكوين تسمية خالته أمًّا له (راجع إصحاح 35: 19
مع 37: 10) وقال تعالى عن لسان بني يعقوب: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً} (البقرة: 133) فسموا إسماعيل عمه
أبًا له.
أما رجم الزاني المحصن؛ فهو لأن الزنا مع الإحصان إفساد في الأرض
وموجب لخلط الأنساب [3] وإضاعة حقوق العباد في المواريث ومؤد لوجود الشحناء
والبغضاء والاقتتال بين الأشخاص والبيوتات وذلك يُضعف الأمة ويفرق كلمتها.
والقتل في القرآن لا يباح إلا قصاصًا للقتل وللإفساد في الأرض قال تعالى: {مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32) وهذا هو حكم لنا أيضًا لقوله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا} (المائدة: 33) الآية ولا شك أن الزنا محاربة لله ولرسوله بالعصيان وسعي في
الأرض بالفساد. وقوله: {يُقَتَّلُوا} (المائدة: 33) يشعر بأن القتل لا يكون
دفعة واحدة بل تدريجيًا كما في الرجم والرجم معروف في الشرائع الإلهية القديمة
كالموسوية كما لا يخفى فلا عيب فيه. فبهاتين الآيتين خصص رسول الله صلى الله
عليه وسلم الحكم العام الوارد في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) الآية أي أن ذلك خاص بغير المحصن ونقل
المسلمون عنه هذا التخصيص نقلاً متواترًا. أما عدم التصريح في القرآن برجم
المحصن فهو للإشارة إلى أن الزنا مع الإحصان ومع ما في الإسلام من التسهيل في
مسائل النكاح من حقه أن لا يكون معروفًا بين المسلمين ولا فاشيًا فيهم، ومن
الواجب أنه إذا وقع فلا يكون إلا نادرًا جدًّا وعجيبًا غريبًا بينهم فكأنه لا يحتاج
لتشريع خاص به لشدة ندرته. وكأن لفظ الزاني إذا أطلق لا ينصرف عندهم إلا
إلى غير المحصن وفي القوانين الوضعية كثيرًا ما يدمجون الأشياء النادرة الوقوع
في حكم واحد مع غيرها بحيث لا يتيسر إلا للمتضلع فيها استنباط حكمها من النص
العام فكذلك مسألة رجم الزاني المحصن في الإسلام التي لم يذكرها القرآن للتنزه
عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين.
وعليه فالرجم حق مما كتبه الله علينا في شريعته وإن لم يصرح به في القرآن
لما وضحنا. هذا وفي اللغة العربية كثيرًا ما يراد بلفظ (كتاب) المكتوب أي
المفروض كما في قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (النساء: 24) في سورة
النساء وقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103)
أي فرضًا له أوقات معينة وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة: 183) الآية. فمن ذلك نشأ خطأ كثير من
المحدثين والرواة إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه يقول
مثلاً: (إن الرجم من كتاب الله تعالى) أي مما فرضه الله على المسلمين. فظنوا
حديث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) [4] أنه آية من القرآن وشتان ما
بين ألفاظ القرآن وتراكيبه العالية وما بين هذا الحديث. وكذلك أخطئوا وخلطوا في
كثير من الأحاديث الواردة في هذه المسألة كقول عمر ما مثاله: إن الرجم فريضة
من كتاب الله تعالى ولولا أن يقول الناس: (زاد عمر في كتاب الله لكتبتها فيه) أي
هذه الفريضة. فلو كان هذا الحكم معروفًا بين المسلمين أنه من القرآن لكتبه عمر فيه
ولَمَا خشي أحدًا ولَمَا قال الناس: إن عمر زاده. فقوله هذا يدل على أنه ليس من
القرآن وإنما يريد عمر به المبالغة في أنه فرض كفروض القرآن ولولا أنه ليس منه
لكتبه فيه يعني أنه حكم كأحكام القرآن لا يجوز الشك فيه لعدم ذكره في القرآن
(كتاب الله) . فلفظ كتاب الله في هذه العبارة الممثل بها هنا له معنيان (الأول)
بمعنى: المفروض الواجب (والثاني) بمعنى: القرآن وفي اللغة من مثل هذا
كثير كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (النور: 43-44) فالأبصار الأولى بمعنى: العيون
والثانية بمعنى: البصائر والعقول. وقال علي -رضي الله عنه- فيمن جلدها
ورجمها: (جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله) أي لأن الجلد صريح
في القرآن والرجم صريح في السنة، وهذا يدل على أن الرجم ما كان معروفًا بين
المسلمين أن فيه آية صريحة في القرآن وإنما هو يستنبط منه استنباطًا. وجميع
الأحاديث التي تدل على أنه كان من (كتاب الله) إما أن يكون منشؤها ما ذكرت
فخلط فيها الرواة وخبطوا لعدم فهمهم المراد منها، وإما أن تكون من الأكاذيب التي
أدخلها المنافقون على الغافلين من المحدثين افتراء على الله وعلى رسوله وعلى
أصحابه (وكثير ما هي) وإلا فإن القرآن بإجماع المسلمين نقل متواترًا عن
رسول الله لفظًا ومعنًى مكتوبًا في السطور ومحفوظًا في الصدور عند جماهير الأمة
في كل زمان ومكان وكل ما ليس متواترًا فهو ليس بقرآن كما لا يشك في ذلك
أحد من المسلمين وإنما هو من الأكاذيب والمفتريات لغش المسلمين في دينهم أو
تشكيكهم فيه أو لتأييد رأي أو مذهب لبعض أهل الأهواء والأغراض أو لبعض
الفرق الضالة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة أي شيء آخر
عنه سوى القرآن لمنع مثل هذا الخلط وأن يختلط كلامه بكلام الله تعالى.
وأما تحريم استعمال أواني الذهب والفضة فهو لأن ذلك إسراف وكنز لهما
مؤدٍّ إلى الحرج على الأمة والعسرة المالية. وكل من الإسراف والكنز مذموم في
القرآن الشريف. قال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأنعام:
141) وقال: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (الإسراء: 27) وقال:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34) .
وأما تحريم استعمال الحرير على الرجال فهو لأنه ينافي الرجولية والشهامة
ويؤدي إلى الإعجاب بالذات والفخفخة والخيلاء والغرور وإلا كانت محرمة كما في
الآيات السابقة.
وأما النهي عن أكل الحمر الأهلية فهو إما أنه كان للحاجة إليها في ذلك الوقت
أو لمرض فيها يخشى منه على المسلمين إذا أكثروا من الاقتراب منها وتناولها
بالأيدي (كالسقاوة والسراجة Glanders) أو لأن أكلها مكروه؛ لأنها لم تخلق
لذلك كما في قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (النحل: 5) إلى قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (النحل: 8) والخلاصة أن حرمتها لا يمكن أن تكون كحرمة لحم
الخنزير بالإجماع فهي (إذا سلم أن النهي عنها كان عامًّا) إما أن تكون مكروهة
وإما أن تكون من الصغائر؛ ولذلك لم يذكرها الله تعالى في آيات تحريم المأكولات
كقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ} (البقرة: 173) الآية
وغيرها وهذه الآية واردة في السور المكية والمدنية فلا يأتي فيها قولهم: (إنها
نسخت) .
وأما منع بيع الأمة إذا ولدت لسيدها؛ فذلك لأن بيعها تقطيع للأرحام وذلك
مذموم بقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد: 22-23)
فليتأمل في هذه الآية المكثرون من الطلاق! !
والخلاصة أن الإسلام كله من القرآن وقد تخفى مآخذ بعض شرائعه اللهم إلا
بعض المسائل العملية القليلة التي توضيحها بالعمل خير من توضيحها بالقول وكانت
تتكرر بين المسلمين كثيرًا ككيفية الصلاة والحج فلم يأت تفصيلها في القرآن
الشريف فأين تذهبون أيها النصارى. وبماذا تطعنون في الدين الحنيف؟ ؟ اهـ.
__________
(*) للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي.
(1) حاشية: عند كثير من أمم الإفرنج على ما نعرف لا يسمى جماع غير المتزوجات (بالزنا) ويخصون هذا الاسم بوطء المتزوجات فقط؛ لأنه هو الذي يجر إلى خلط الأنساب ونسبة الأبناء لغير أبيهم وفي الإنكليزية اسم الزنا (Adultery) يفيد معنى الخلط فلذا كان في الشريعة الإسلامية عقاب الزاني غير المحصن من الذكور والإناث أخف من عقاب المحصن؛ لأن الأول لا يؤدي إلى الفساد الذي يؤدي إليه الثاني ويلتمس لفاعله بعض العذر، وكذلك في الشرائع المدنية لا يعاقبون الزوج إذا قتل زوجته والزاني بها ولا عقاب عندهم للزاني في غير المتزوجات إذا كان لا يرضاهن وكن رشيدات ويعاقبون قاتله، ولو كان أباها أو أخاها فإن حق العصمة بيد الزوج فقط.
(2) حاشية هذه العبارة رويت في كثير من كتب الحديث على أنها حديث لا على أنها قرآن كما في الجامع الصغير.(15/215)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(معيار العلم)
كتاب معيار العلم في المنطق لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي سارت بذكره
الركبان، وكان المشار إليه دون كتب هذا العلم بالبنان، ثم طوت صحفه أيدي
الحدثان، حتى لم تعد تكتحل برؤيته عينان، إلى أن ظفر به وطبعه في هذا العام
الشيخ محيى الدين صبري الكردي وشريكاه وهو متن مبسوط تبلغ صفحاته 175
صفحة كصفحات المنار، وناهيك بعبارة الغزالي في بسطها وسهولتها وانسجامها
وجلاء أمثلتها وما فيها من إيقاظ العقل، وتحريك الفكر، والحث على العمل بالعلم،
وترتيب هذا الكتاب مخالف لترتيب الكتب المتداولة في المنطق فهو يقدم
التصديقات على التصورات، فيبدأ بمقدمات القياس فالقياس، ثم يتكلم على الحد
والنظر، ويختم الكتاب بأقسام الوجود وهي المقولات العشر.
لا تكاد تجد أحدًا قرأ المنطق في هذه البلاد يستعمل أقيسته وحدوده أو يراعي
اصطلاحاته في الاستدلال والمناظرة، أو يشير إليها في مسامرة أو محاضرة، بل
لك أن تجزم بأنها قلما تخطر في بال أحد منهم في المواطن التي يحتاج إليها فيها.
وسبب ذلك قراءة تلك المتون الموجزة التي يشتغلون عند قراءتها بحل عباراتها
وفهم اصطلاحاتها لأجل أداء الامتحان بها، فإذا وصلوا إلى هذه الغاية واقتحموا
عقبة الامتحان، تم القصد، وقضي الأمر، وليس في تلك الكتب جاذب يجذب
الفكر إلى الاشتغال بهذا العلم ومراجعته وترقية العقل به كما ترى في مثل هذا
الكتاب للغزالي.
مثال ذلك اختصارهم المخل في مادة القياس تراهم يكتبون فيها أسطرًا قليلة
ويذكرون لكل منها مثالاً واحدًا، وأما الغزالي فقد كتب في (المجربات) زهاء
صفحتين كصفحات المنار وفي (المشهورات) صحفتين ونصفًا بين فيها خمسة
أسباب لإثبات الذهن لها ووضح ذلك بالأمثلة المتعددة، ومن مزايا أسلوبه أنه يورد
المسائل مورد الاستعمال والوقوع تارةً بالخطاب وتارةً بالحكاية عن الغائب أو
المتكلم، وهذا الأسلوب أوقع في النفس وأقوى في تقرير المعاني فيها من الأسلوب
المعهود في الشمسية والبصائر وغيرهما وهو تحديد المطالب مجردة من لباس
الاستعمال.
وقد صدر هذا الكتاب بترجمة مطولة للمؤلف وهو يطلب من مكتبة المنار
بشارع عبد العزيز بمصر.
(جواهر القرآن)
مصنف للغزالي مشهور طبع من قبل وأعاد طبعه في هذا العام الشيخ محيي
الدين صبري الكردي كما طبع من قبل صنوه المسمى كتاب الأربعين وهما في
الحقيقة كتاب واحد ينبغي جمعهما في غلاف واحد وقد سبق لنا تقريظ كتاب
الأربعين.
(تاريخ آداب اللغة العربية)
تاريخ آداب اللغة العربية فن توجهت إليه نفوس المعلمين والمتأدبين حديثًا بعد
أن رأوا الإفرنج يعنون به ويصنفون فيه، وقد كنا قرظنا في أول المجلد الرابع
(1318) كتابًا بهذا الاسم الذي جعلناه عنوانًا هنا من تأليف محمد بك دياب.
وقد ظهر في هذا العام جزء من كتاب آخر بهذا الاسم للكاتب المؤرخ المشهور
جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال قال: إنه (يحتوي على آداب اللغة
العربية في عصر الجاهلية وعصر الراشدين والعصر الأموي - أي من أقدم أزمنة
التاريخ إلى سنة 132 هـ) وسيعززه بجزء آخر أو أجزاء في تاريخها فيما بعد
ذلك إلى زماننا هذا.
بدأ المؤلف هذا الجزء بمقدمة في تاريخ التأليف في هذا الموضوع بين فيها أن
الإفرنج لم يكونوا يعرفون هذا العلم وإنما التفتوا إليه وعنوا به أخيرًا وأن العرب قد
سبقوا إلى التأليف فيه (مثل سبقهم في غيره من المواضيع) وعد من كتبه (كتاب
الفهرست) لابن النديم، وكتاب (مفتاح السعادة ومصباح السيادة) المعروف
بموضوعات العلوم، و (كشف الظنون) و (أبجد العلوم) ولكن هذه الكتب ليست
على النهج الحديث الذي سبق إلى التأليف فيه المستشرقون من الإفرنج بلغاتهم،
ورجَّى المؤلف أن يكون هو أول من كتب على هذه الطريقة بالعربية وأول من سماه
بهذا الاسم.
ثم بين فيها الغرض من الكتاب وهو:
(1) بيان منزلة العرب بين سائر الأمم الراقية من حيث الرقي الاجتماعي
والعقلي.
(2) تاريخ ما تقلبت عليه عقولهم ...
(3) تاريخ كل علم من علومهم على اختلاف أدواره ...
(4) تراجم رجال العلم والأدب ...
(5) وصف الكتب العربية باعتبار مواضيعها وكيف تسلسل بعضها من
بعض.. (ثم بين تقسيم الموضوع وما يشتمل عليه هذا الجزء وهو الأول منها -
وهو ما بيناه في أول الكلام.
ونحن نرى أن هذه الأغراض لا يضطلع بها رجل واحد يريد التحقيق
والتحرير فإن تاريخ كل علم من هذه العلوم - وهو أحد الأغراض - لا يحرره إلا
من عرف هذه العلوم كلها، فلا بد من الاستعانة فيه إلا لمن يقنع بمثل ما كتبه ابن
خلدون في مقدمته أو يزيد عليه قليلاً مما كتبه ابن النديم أو غيره وإن لم يفهم الكاتب
ذلك حق الفهم لعدم تلقيه لهذه العلوم عن أهلها.
وجملة القول أن هذا الكتاب مفيد لقراء العربية في ترتيبه وأسلوبه ومسائله
فنشكر لمؤلفه عنايته ولعلنا نوفق إلى توفيته حقه من التقريظ بعد إتمامه.
(الحراب، في صدر البهاء والباب)
كتاب جديد أتمه وطبعه في هذا العام محمد أفندي فاضل بعد مجيء عباس
أفندي زعيم البابية البهائية إلى القطر المصري ذكر في مقدمته مجيئه وما كتبته
الجرائد فيه ثم قسمه إلى مناطق في تاريخ البابية وديانتهم وكتبهم وهدم أصولهم ورد
أباطيلهم وقولهم بألوهية ميرزا حسين الملقب بالبهاء.
وذكر في المقدمة أنه عرف من دعاة هذه الديانة بمصر أناسًا يحذر المسلمين
أربعة منهم هم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وهم:
(1) المرزا حسن الخراساني التاجر بالقاهرة وهو عميدهم في أمورهم
المدنية.
(2) المرزا أبو الفضل محمد بن محمد رضى الجرفادقاني الإيراني وهو
داعيتهم ومؤلفهم.
(3) فرج الله زكي الكردي صاحب مطبعة كردستان (وهو داعية كبير) .
(4) حسين أفندي روحي ابن الملا علي التبريزي وهو صاحب مجلة تدعو
إلى هذا الدين … كان يصدرها في القاهرة باسم (لسان الأمم) - إلى أن قال -:
وهو الآن صاحب مدرسة في القاهرة بخط الحسينية تسمى (المدرسة العباسية)
نسبة إلى عباس أفندي زعيمهم , ومن الغريب أن يلقي المسلمون أولادهم في هذه
المدرسة وهي - إذا صح أنها للبابية كما هو الظاهر - فإنها أشد إفسادًا لعقائدهم من
مدارس دعاة النصرانية؛ لأن جعل المسلم نصرانيًّا عسر جدًّا وأما إفساد عقيدته
بتأويل القرآن وتحريف كلِمِه عن مواضعه كما تفعل الباطنية والبهائية منهم فهو
أسهل من كل إفساد ولكن أي غفلات المسلمين ليس بالعجيب؟ ؟
قبل كتابة هذه أخبرني بعض نبهاء النجديين عن فرج أفندي الكردي أنه حذف
من بعض فتاوى ابن تيمية التي طبعها حديثًا على نفقة بعض أهل الخير والدين
فتواه البديعة في بيان كون سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، وما كنت أظن أن
التعصب للبابية يحمله على التصرف في كتب المتقدمين التي يطبعها؛ لأن هذا
يبطل الثقة بجميع مطبوعاته.
(بشرى، بترك المحاربات واتفاق الأمم)
رسالة لفرج زكي أفندي الكردي ادعى أنها (تتضمن البشارات الإلهية،
والبراهين العقلية، بقرب حصول السلام، بين الأنام) وهي عبارة عن إيهام وإبهام،
واستمساك بعرى الأوهام، وجمجمة وغمغمة منها ما لم يفهم، ومنها ما يفهم ولا
يعقل، نشرها يبشر بها المسلمين بالسلام العام، وصواعق المدافع تمزق منهم
الأجسام، وتدرك المعاقل والآطام، وقد استولى الإفرنج على مملكة الغرب الأقصى
من ممالكهم، وزحفت جيوشهم إلى بلاد فارس وطرابلس الغرب؛ لأجل القضاء
على الدولتين الباقيتين لهم، كما صرحت بذلك صحفهم.
وقد بث كاتب هذه الرسالة روح دعوة البابية البهائية في رسالته، والظاهر
أنه ما كتبها إلا لأجل هذا، وأظهر بشارته عنهم فيها هو ما نقله عن القس (وليم
مور) أنه (أخبر بأن الرب ينزل في سنة 1843 ميلادي) كذا (وتبعه) كذا
(ألوف من الناس) (قال فرج) : (وهذا الكتاب مطبوع في أمريكا فعلى رأي هذا
القائل يكون قد مضى من ظهوره لهذا العام) أي سنة 1905 (اثنان وستون سنة)
اهـ يعني بهذا ظهور الباب والبهاء فإن الباب أظهر دعوته الباطلة بالقرب من تلك
السنة التي ذكر ذلك القس أن الرب ينزل فيها ولعلهم يطبقونها عليها. وتلك السنة
توافق سنة 1259 للهجرة وهي السنة التي قالوا: إن الباب أراد أن يحج فيها
ويظهر دعوته بمكة. ولكن الله صرفه فلم يتح له ذلك.
فيا تعسًا لدين هذه دلائله، والقس وليم ميلر وأمثاله أنبياؤه، ويا شقاء من
يضيع شيئًا من وقته بقراءة أمثال هذه السخافات إلا من يحذر الأغرار منها، وإلى
الله المشتكى.
__________(15/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأخبار والآراء
(سفر صاحب المنار إلى الهند)
إجابةً لدعوة جمعية ندوة العلماء إياه لحضور احتفالها السنوي
جمعية ندوة العلماء في لكنوء أشهر من نار على علم وقد سبق لنا التنويه بها
في المنار والكلام عن احتفالها بتأسيس مدرستها (دار العلوم) فهي جمعية إصلاحية
من أنفع ما توجهت إليه همم المسلمين في هذا العصر لإحياء العلوم الدينية ووسائلها
بأخذها من لغتها (العربية) مباشرة والعناية بتعليم هذه اللغة بل جعلها لغة المدرسة
الرسمية. وبنشر هداية الإسلام والتأليف بين أهله، كل ذلك معروف مشهور،
وأمراء المسلمين وعقلاؤهم في الهند يؤيدون الندوة ويمدونها بالمال، وحكومة الهند
نفسها راضية عنها وتعطيها من خزينتها إعانة سنوية.
كتب إلي صديقي العلامة الشهير الشيخ شبلي النعماني أحد الأساطين التي قام
عليها بناء هذه الجمعية ومحرر مجلتها (ندوة العلماء) بأن أركانها وأعضاءها
العاملين قرروا دعوة هذا العاجز إلى حضور احتفال الندوة الذي يكون في أول
أبريل من هذا العام، والتصدر في محفلها الشريف الذي يحضره العلماء الأعلام،
والأمراء الكرام، وقال أعزه الله: إنهم يرجون بإجابتي لدعوتهم، مزيد الإقبال من
عظماء البلاد على ندوتهم، وهذا من المبالغة بحسن ظنهم بهذا العاجز أو المجاملة
له.
تعارض في إجابة هذه الدعوة الشريفة المانع والمقتضي بل ثم موانع كثيرة
أهمها قرب العهد بتأسيس مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) وشدة الحاجة إلى أن
يكون ناظرها ومديرها هو الذي يتولى أمرها بيده، ولكن حق هؤلاء الإخوان
العظام أركان ندوة العلماء مما لا يمكن التقصير فيه، ولسائر إخواننا مسلمي تلك
الأقطار حقوق علينا يجب أداؤها وإن لم يطالبوا بها، كما أننا نرجو أن نستفيد في
مثل هذه الرحلة من علومهم ومعارفهم، ومن مشاهدة اهتمامهم بالعلم والإصلاح ما
نحن في أشد الحاجة إليه، فإن مسلمي الهند ومسلمي مصر هم الذي يتمتعون
بالحرية التي يمكنهم أن يخدموا بها دينهم وأنفسهم دون سائر المسلمين.
شاورت في هذه الدعوة إخواني أعضاء مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد
فأجمعوا على استحسان الإجابة وأن أكون فيها ممثلاً لهم؛ لأن مقصدنا ومقصد
الندوة واحد وهو إصلاح التعليم الإسلامي وترقية شأن الإسلام والمسلمين. وكذلك
شاورت غيرهم من الإخوان فكانت كلمة الجميع واحدة فأجبت الدعوة وعزمت،
وعلى الله توكلت.
وكان سفرنا من القاهرة إلى بورسعيد قبل ظهر يوم الثلاثاء 23 ربيع الأنور
وركبنا الباخرة (مولتان) من بواخر الشركة الشرقية الإنكليزية وفيها كتبنا هذه
السطور، ونسأل الله التوفيق وبلوغ المقصود.
* * *
(مدرسة دار الدعوة والإرشاد)
اخترنا أن يكون فتح دار الدعوة والإرشاد في ليلة تذكار المولد النبوي
الشريف تفاؤلاً وتيمنًا بأن تكون هذه المدرسة مجيبة لدعوته صلى الله عليه وسلم في
العالمين، وناشرة لهداية سنته بين أحق الناس بها من المسلمين، وقد وفق الله عز
وجل وأقبل طلاب القسم الداخلي في تلك الليلة المباركة على المدرسة فباتوا فيها
وكانت ليلة الجمعة الشريفة. ثم بُدِئَ بإلقاء الدروس فيها للقسمين الداخلي والخارجي
يوم السبت 13 لربيع الأنور ولله الحمد، ويتذكر القراء أننا نشرنا النظام الأساسي
لجماعة الدعوة والإرشاد في ليلة المولد النبوي من العام الماضي أيضًا.
وقد كان من قضاء الله وقدره أن أسافر إلى الهند في هذا الشهر بعد افتتاح
المدرسة وانتظام الدروس فيها، فاخترت أن ينوب عني في أعمالها الإدارية المؤقتة
الشيخ أحمد العبد (ابن الشيخ سليمان العبد شيخ الشافعية في الجامع الأزهر) وهو
مدرس للعربية والفقه وأن يكون ذلك تحت مراقبة لجنة المدرسة، وأن يكون الذي
يمضي عني والمسئول عن عمل الناظر هو من يعينه مجلس إدارة الجماعة نائبًا
عني في رياسة اللجنة مدة سفري. وقد عرضت هذا الاختيار على مجلس الإدارة
فأقره.
* * *
(مدرسة علمية في الكويت)
العرب أعرق الأمم في العلم والمدنية والفضائل تدل على ذلك لغتهم الراقية
الواسعة. ويشهد لهم به التاريخ، فشريعة حمورابي أقدم الشرائع المعروفة كانت
عربية والشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع ومكملتها عربية، والمدنيتان الآشورية
والمصرية أصلهما عربي وكل ما بعدهما مقتبس منهما ومبني على أساسهما كالمدنية
اليونانية والرومانية.
وللعرب في التاريخ القديم نومات طويلة، تتلوها هبات ووثبات قوية، وكانت
نومتهم قبل الإسلام أطول نوماتهم زمنًا، وهبتهم بعدها أشرفها وأعلاها أثرًا، وقد
عادوا إلى النوم بعدها وتاريخهم يصيح بهم من ورائهم، وتلاميذهم في الحضارة
يهبون من أمامهم: النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات، ومن مات فات،
ونحمد الله أن نراهم يستيقظون، وإن أنشئوا يفكرون ويعملون، ولكنهم في عملهم
متحيرون.
ومن أكبر المشروعات العلمية التي هي مناط الرجاء وموضع الأمل ما
توجهت إليه همة الشيخ مبارك آل الصباح صاحب الكويت من إنشاء مدرسة علمية
دينية في بلده تكون مثابة للتربية القويمة والتعليم النافع الذي يحيي البلاد ويرقي
أهلها في أنفسهم وفي أعمال معايشهم، ويَسْتَوْري زناد الذكاء العربي الكامن في
فطرتهم، وإن هذا الشيخ الجليل في عقله وغيرته وسعة تجاربه ومكانه من الندرة
في الأمة العربية لجدير بأن يأتي هذا العمل من بابه، وينوطه بأربابه.
اختار أن يكون لهذه المدرسة لجنة تتولى جمع المال لها، وتتعاون على
إنشائها وإدارتها، ليكون ذلك من تربية الأمة على الأعمال الاجتماعية التي يرجى
دوامها، ويجعل كثيرًا من الفضلاء يغار عليها، ولو شاء لأنشأها من ماله الخاص
وما ذلك على كرمه وسخائه ونجدته بكبير، وما اختاره هو الأولى والأنفع إن شاء
الله تعالى.
تألفت اللجنة برياسة نجله الكريم الشيخ ناصر مبارك الصباح وجمعت من
التبرعات لأول وهلة ما يبشر بحسن العاقبة ونجاح العمل. وكان أول من لبى
الدعوة، وسبق إلى تأييد هذه المبرة، صديقنا المحسن العظيم، الشيخ قاسم بن
محمد آل إبراهيم، فقد تبرع لها بألفي جنيه وتبرع غيره من آل بيته الكريم بمبالغ
عظيمة يليه منهم الشيخ عبد الرحمن إبراهيم.
وقد كتب إليّ هذا الصديق الأبرّ الأوفى من بومباي أن لجنة المدرسة كلفته أن
يطلب مني وضع برنامج للتعليم في هذه المدرسة وأن أختار لها المعلمين الأكفاء
فكان هذا الطلب نعمة له ولأعضاء اللجنة أن يمنوها عليّ إذ رأوني أهلاً
لمشاركتهم في هذه الخدمة الجليلة. وقد كتبت إليه ثم إلى اللجنة أسأل عن وقت
فتح المدرسة وعدد من يُرجى أن يكون فيها من الطلاب ودرجة معرفتهم، وغير ذلك
من المسائل التي يتوقف عليها تنفيذ ما شرفوني بطلبه مني. وقد كتبت هذه النبذة
قبل أن يجيئني الجواب منهم ببيان ما سألت عنه، وكنت أخرت الكتابة انتظارًا
لجوابهم ليكون الكلام أوسع فائدة.
واتفق في أثناء ذلك أن جاءتني دعوة جمعية ندوة العلماء الهندية إلى حضور
احتفالها السنوي في هذا العام، واقتضت الحال أن أجيب الدعوة وأن أزمع السفر
قبل مجيء الجواب من الكويت في بيان ما سألت عنه، وستكون المذاكرة الأولى
في ذلك بعد وصولنا إلى بومباي إن شاء الله تعالى.
* * *
(الحرب في طرابلس الغرب وبنغازي)
بلغت أخبار انتصار المسلمين على الإيطاليين في طرابلس الغرب وبنغازي
إلى درجة التواتر لكثرتها وتعدد رواتها بالبرقيات والرسائل ومشافهة مَنْ حضروا
مِنْ ميادين القتال وهم كثيرون.
وقد قال لنا غير واحد ممن شهدوا الوقائع بأنفسهم: إنهم لو لم يشاهدوا
بأعينهم لما صدقوا أن الأمر وصل إلى هذا الحد الذي يكاد يكون من خوارق العادات.
وقد علمنا منهم أن الموسم في هذه السنة لم ير أهل البلاد مثله من أعوام كثيرة
وأن الغنائم عظيمة، وأن الإيطاليين قد أسرفوا في إطلاق قذائف مدافعهم من البر
والبحر من غير حاجة في الغالب حتى إن العرب صاروا يقولون: هلموا بنا
نضحك عليهم: فينصبون لهم قبل الفجر أشباحًا فإذا رأوها في أول النهار بنظاراتهم
أمطروا عليها نارًا من مدافعهم قبل أن يتبينوها، وأن الشجاعة التي ظهرت من
العرب قد أدهشت العالم كله، فنسأل الله تعالى حسن العاقبة.
* * *
(في مستقبل إيران [*] )
كتب مينشيقوف في جريدة (نوفيه فريمه) بمناسبة إرسال الجنود الروسية
إلى إيران هكذا.
يجب أن نتبصر ونتأمل جيدًا في فرقنا الجزائية المرسلة إلى إيران حتى لا
تكون النتيجة جزاء علينا، ربما يستقبل الفدائيون عساكرنا في شمال إيران بعد
الاتحاد مع أهل الخيام وعامة الإيرانيين ويثورون جميعًا علينا في جهات شتى وهذا
الشكل من الحرب أصعب من الحروب النظامية الكبيرة لاسيما في بلاد مثل إيران
التي ليس فيها شيء من السكك الحديدية وأبناؤها لايزالون بين التوحش والتمدن
وهم مسلحون ببنادق الروس , وإيران الشمالية ليست قوقاسًا ولكنها تشابه القوقاس
مشابهة تامة من جهة طبائع أبنائها وانتسابها إلى مدنية الإسلام وأحوالها الأخرى.
حروب فرقنا الجزائية في القوقاس امتدت 50 عامًا وأنفق عليها من الأموال أكثر
مما أنفق على حرب بروسية في زمن القيصرة يليزاويته ولكن كانت نتيجة تلك
الحروب أن ملكنا تلك البلاد الواسعة والأراضي الجيدة. لو كان الإنكليز في محلنا
أو النمساويون لكانوا استفادوا فوائد حتى بنسبة الألف إلى المئة مما أنفقوا من
الأموال لأجل استيلائهم عليها. أما إيران فأي فائدة يمكننا أن نستفيد منها؟ ومن
المعلوم أننا لا نحارب حكومة إيران؟ فإذًا كيف نسترد الأموال التي ننفقها هناك؟
توجد عساكر الروس في إيران منذ ثلاث سنين فإذا لم يكن وجودها فيها من غير
شغل سببًا في استتباب الأمن بل سببًا في تقوية الحكومة الاحتلالية فلا تكون نتيجة
سكوت عساكرنا الجدد الآن غير الذي عرفنا من قبل وإن كانوا الآن قد ازدادوا عددًا.
وأما إذا أظهرت جنودنا شيئًا من الحركة الفعالة فهذا يعد من الحرب.
أسأل مرة ثانية من أين نسترد أموالنا التي ننفقها في إيران وجرت العادة أن
يستولي المحاربون على أراضي العدو ضمانًا للنفقات التي ينفقونها على الحرب؟
فالواجب علينا إذًا إما أن ننفق النفقات الكبيرة لأجل الإيرانيين تبرعًا ونخمد لهم
الثورات في بلادهم وإما أن نحارب حقيقة ونستولي على مقاطعتي أذربيجان
وخراسان ولكن إنفاق الذهب وإراقة الدماء لنفع الأجانب عادةً قد قدمت فلا نعلم هل
ترضى بذلك وكالة الأمة (مجلس الدوما) أم لا ترضى؟
يظهر أن المقصد من إرسال فرق الجزاء هو استتباب الأمن تمامًا في شمال
إيران وذلك لا يتم إلا بإقامة عساكر الروس فيها مدةً طويلةً كما هي الحال في مصر
وولايتي بوسنة وهرسك , ولا يخفى أن إشغال إيران بالجنود على هذه الكيفية يكون
مقدمة لتقسيمها تمامًا , وأرى أن عمل ما هو المقصود بالذات حالاً من غير تأخير
أولى وأحسن من التطويل في الأمر من غير فائدة.
لم يتداخل أحد في ضم اليابان لكوريا، ولا في ضم النمسة لولايتي البوسنة
والهرسك. وكذلك عملت فرنسة ما أرادت في مملكة فاس - وإن تداخلت بعض
الدول - وبقيت تركية وحدها (من غير نصير) في تسلط إيطالية من غير حق
على طرابلس الغرب وهكذا ...
فينبغي لروسيا إذا كانت تتوقع منافع دولة كبيرة في إيران أن لا تحجم عن أي
شيء ولا عن إنفاق النقود الكثيرة. لو صادف روسيا في إيران أدنى شيء من عدم
التوفق وسوء الحظ ولو وقتيًّا يتولد منه ثلاث فتن وهي من جهة تركية والقوقاس
وتركستان فيجب علينا إنهاء العمل في إيران بسرعة زائدة وبصورة توافق
مصالحنا.
حفظنا الله إذا كانت تشبه حركة جنودنا في إيران الآن بحركتها في حرب
(تكة التركمان) وامتد بها الزمان حينئذ يجب أن نحسب أن قيام الثورات في
القوقاس وفي تركستان واقع لا محالة. رؤساء الحركة ضد الروس في القوقاس هم
الأرمن وفي تركستان اليهود. أهالي تركستان أخذوا ينسون الآن تمام النسيان ما
رأوا من يرمولف وأسقوبلف ويفدو كيموف وشير نايف وما دهاهم من ضربات
هؤلاء الأبطال.
ومن الأسف أنه لا يرى في الدور الأخير في تاريخ الروس مثل أولئك
البواسل , وفي السنين الأخيرة أخذت البغضاء والعداوة بالتيقظ في تركستان لكل
شيء أتى من جهة الروس , ووقائع أنديجان وبخارى تدلان على وجود النار تحت
الرماد , ومما يندهش له الإنسان عدم القبض على سليم خان في القوقاس إلى الآن.
فإذا أصاب عساكر الروس شيء من الهزيمة في إيران فمن المؤكد بدء دور
جديد لسليم خان يشبه دور الشيخ شامل في السنين الماضية. فيلزم مع إرسال
العساكر إلى إيران في آن واحد تقوية جنودنا في حدود تركية وفي القوقاس
وتركستان. وإذا لم نفعل ذلك يمكن ظهور أحوال مؤسفة جدًّا.
وقال مينشيقوف في آخر مقالته هذه: الإنكليز والروس لا يستعبدون الأقوام
الذين يستولون على بلادهم بل يخلصونهم تخليصًا وأنا أمين ومطمئن جدًّا أن أهالي
بولونيا والهند ومصر وكوريا وفاس يستقلون من جديد بعد قرون عديدة وتكون
كل واحدة من هذه الأمم دولة متمدنة بعد الفوضوية الأولى ويصرن ذوات اقتدار
على حفظ استقلالهن لعل ذلك يكون أحسن وأمثل طريق لإيران.
* * *
(أخبار شتى عن أحوال العالم الإسلامي)
أخبار بخارى
يستعدون لإصلاح الطرق ورصف شوارع بخارى، وعدد الشوارع التي يراد
رصفها بالحجارة ثلاثة وستون شارعًا على ما يسمع. ولكنه بناء على احتمال أن
بعض العلماء يوهمون الأهالي عدم جواز ذلك في الشريعة استنسبوا الآن إصلاح
بضعة شوارع فقط. وكذلك ينقلون كراهة بعض العلماء ومعارضتهم لمشروع تدابير
وتنوير البلد بالكهربائية. ومن العجب أن أرمنيا استأجر قصرًا كبيرًا لمدة عشر
سنين يريد فتح سينماتوغراف فيها ولم يسمع من أحد كلمة في جواز ذلك أو عدمه.
* * *
(بخارى)
ستة من ضباط أركان الحرب يتنقلون في بلاد بخارى حيث يفتشون الأحوال
ويأخذون الحساب. كثير من هؤلاء المأمورين اشتهروا بموالاتهم وتحقيقاتهم في
بخارى ومعهم كثير من الفرسان اهـ عن وقت نمرة 836 أغسطس سنة 912.
* * *
(السكة الحديدية الجديدة في بخارى [*] )
فرقة من أغنياء تركستان رئيسهم اسكوتسكي (روسي) أخذوا الرخصة من
حكومة بخارى لوصل كثير من بلاد بخارى بالسكك الحديدية القصيرة محطات
السكك الحديدية في آسيا الوسطى. وكذلك صدق السفير الروسي هذه الرخصة.
* * *
(إيركوتسكي)
قر رأي مجلس بلدية إيركوتسكي على إعطاء 1680 روبل لمدرسة المسلمين
هناك كل سنة. وصدق الوالي ذلك القرار بشرط افتتاح قسم اللغة الروسية للبنين
والبنات في المدرسة. والمسلمون الآن هناك يطلبون أن يكون المعلم والمعلمة من
المسلمين لتعليم اللغة الروسية في تلك المدرسة.
* * *
(حول دار المعلمين)
هي مدرسة روسية خاصة بالتتر تهيئ منهم المعلمين لتعليم اللغة الروسية ,
كان في بلدة قزان في يومي الثاني والثالث من شهر أغسطس امتحان الدخول في
دار المعلمين والذين يريدون الدخول فيها في هذه السنة يزيدون على سبعين. ولا
يقبل منهم إلا خمسة وعشرون تلميذًا. وبينهم كثير من طلبة المدارس الإسلامية
حتى من الذين أتموا الصنوف العالية فيها واستلموا شهادة التدريس من المشيخة
الإسلامية في بلدة أوفا. وكانت تلك تحار في أول افتتاحها من جهة عدم وجود
الطلبة الراغبين بالانتساب إليها.
* * *
(مسلمو الصين في منشورية)
بناء على دعوة إسماعيل أفندي إمام بلدة خاربين في منشوريا ذهبنا إلى بلدة
(فودزه دن 9 وتفرجنا على مساجد مسلمي الصين ومكاتبهم. الفرق قليل بين
مساجدهم ومساجدنا. وهذا الفرق هو مثل عدم وجود المنارة وصورة الهلال في
مساجدهم ووجودها في مساجدنا، ومزين داخل مساجدهم بأنواع البسط وخصوصًا
بمصابيح الكهرباء (كذا) .
يرى الداخل قرب الباب من الطرف الأيمن صورة ثعبان كبير من الحجر
مصبوغ بعدة ألوان وهو شعار دولة الصين، وقد بلغنا أنهم مجبرون على وضعه
في كل مسجد من مساجدهم , وهم لا يُصلون في مساجدهم غير الجُمع والأعياد ,
ولا يوجد في الجُمع أكثر من ثمانين شخصًا.
ورأينا في فناء المسجد بيتًا للمسافرين يوجد فيه في كل وقت مقدار عشرة من
الغرباء والمسافرين. ويبلغ عددهم في أيام الجمع والأعياد أربعين أو أكثر والخدمة
في هذا البيت وإطعام الضيوف (المسافرين) فيه مجانًا في يد واحد من أغنيائهم،
وسائر الحاجات منوطة بأهالي المحلة , ويوجد بقرب دار المسافرين حمام ذو ثمان
حجرات لاغتسال من يريد. وفيه الماء الفاتر والمناشف والخدمة وهو مفتوح في
كل وقت، ودخلنا مكتبهم فإذا هو أحط وأدنى من حمامهم , ولكن بنوا في هذه السنة
مكتبًا بهمة واحد من أغنيائهم ولا بأس به. وعمروا القديم وجعلوه لسكنى الإمام ,
والطلبة في مكتبهم قليلون جدًّا وكان عددهم في الشتاء عشرة فقط وهم أولاد أئمة
القرى. أما التجار والزراع فهم لا يفكرون في تعليم أولادهم ولا يشعرون بالحاجة
إليه فلا يوجد في المكتب تلميذ واحد من هذه البلدة وفيها 300 بيت فيقاس على حال
تلك البلدة أحوال مسلمي بلاد الصين الأخرى.
مسلمو هذه البلاد لا يطلبون العلم إلا بقدر ما يوجد إمام بعد موت كل إمام وهم
مع جهالتهم هذه متعصبون لدينهم غاية التعصب فهم لا يختلطون بالتتر قط؛ لأنهم
أي (التتر) يأكلون لحم الفرس ويشربون الدخان ومنهم من لا يقصون الشارب
حتى إنهم يعدونهم من الكافرين , يوجد في محلة التتر عشرة من بيوت مسلمي
الصين رجال بيتين منهم قد يصلون الجُمع والأعياد في مسجد التتر أما الباقون فهم
يذهبون إلى مساجدهم في (فودزه دن) وإن بعدت عليهم الشُّقَّة.
* * *
(تفتيش كتبخانة شيلاني)
فى 11 يوليو وقت الظهر تمامًا أجرت شرطة شيلاني تفتيشًا في دار كتب
(كتب خانة) المسلمين ودام التفتيش ساعة ونصف ساعة وأخذوا الكتب التي تذكر
أسماؤها بعد للنظر والمطالعة وهي: تفسير الفاتحة، الإسلام والنصرانية، ترجمة
تاريخ أفغان، فرياد، سياحت الكبرى، وجدان محاكمه سي خيوه، صلاح الدين
أيوبي، دور عالم، أوكي بالألر (يعني الأيتام) ، يابون محاربه سي، روسيه
مسلمًا نلرينك احتياجلرى، روسيه أيله تركيه محاربه سي، زندان، ملت قايفوسى،
مرآت مجله سي، دارونكيكة رديه يعني (الرد على دارونكين 9، حقيقت
يازغى توياش، الشمس الربيعية، أشعار مير عزيز الأوقماصي، صبح صادق،
مجلات المنار، العصر الجديد 57 كتابًا أيضًا جلدت بتلك الكتبخانة المار ذكرها.
وكان التفتيش بسعاية واحد من شبان التتر المستفيد باستعارة بعض الكتب من هذه
الكتبخانة.
* * *
(الإعانات الطبية)
خصصت الحكومة لصحة المهاجرين في ولايتي أورغال وتورغاي 181000
روبل وقد لا يصيب جميع مسلمي الولايات الشرقية هذا المقدار من الإعانات الطبية.
* * *
(استفادة الناس من الكتبخانة)
استفاد بمطالعة الكتب في الكتبخانة الإسلامية (نجات) ببلدة طرويسكي من
أول السنة إلى شهر يوليو (أو أغسطس) أحد عشر ألف شخص وأكثر الاستفادة
كان في شهري فبراير ومارس ثم يناير وفي يونيو كان 734 شخصًا فقط.
* * *
(وفاة عالم مأسوف عليه)
توفي في أول أغسطس إمام قرية بيوك قارامالي في لواء تتوش التابع لولاية
(قزان) محمد عالم بن خالد وكان عمره خمسًا وثمانين سنة رحمه الله. ومدة
إمامته في تلك القرية 55 سنة. كان رحمه الله على ما يروون يشتغل زمن شبابه
في الصيف على شاطئ نهر فولغا بسبب فقر أبيه أو يعلم أولاد القوزاق ويكسب من
ذلك شيئًا من النقود ثم يدخل المدرسة ويجتهد في تحصيل العلم. وبعد إمامته كان
مثالاً حسنًا لقومه باجتهاده وجوده وأعماله المفيدة الأخرى. بنى باجتهاده مدرسة
لتعليم أولاد المسلمين وعلم كبار القرية علم تربية النحل وتربية الحدائق والأشجار
المثمرة. وكان لا يطمع بشيء من الناس وفضلاً عن ذلك كان ينفق كثيرًا من أمواله
في الخيرات مثل تعمير المسجد والمدرسة ومجاري المياه.
منذ زمان غير بعيد بنى أهالي هذه القرية التي كانت أولاً مشهورة بالفقر
المدقع مسجدًا كبيرًا ومدرسة جيدة من غير طلب إعانة من الخارج. ويعلمون
أولادهم فيها على الأصول الجديدة. وكذلك فتحت فيها مدرسة ابتدائية لتعليم اللغة
الروسية ويوجد الآن فيها كثير من متخرجي المدارس الثانوية الروسية، كل ذلك
باجتهاد وإرشاد ذلك العالم الفاضل الذي توفي يوم الإثنين أول هذا الشهر.
وخلف أربع بنات وستة بنين، واحد منهم الآن في مدرسة الصنائع في بلدة
قزان والثاني في مكتب التجارة والآخرون أئمة مثل أبيهم، وكان رحمه الله حليمًا
سخيًّا ولم يدع مدة عمره أحدًا جاء بيته من طالبي المعروف من غير أن يسعفه حتى
إنهم ينقلون عنه أنه دفع عدة مرات ثوبه الأخير للمحتاجين، وكان يشتغل إلى حد
مرض موته في حديقته وهو محتذ حذاء الفلاحين وكان جيد السمع ويطالع الكتب
والجرائد من غير عوينات (نظارات) ولم يترك صلاة ولا صيامًا منذ بلوغه جعله
الله في رحمته الواسعة وألهم أهل بيته الصبر الجميل.
... ... ... ... ... ... ... واحد من الحاضرين لجنازته
__________
(*) عن وقت أيضًا.
(**) معربة عن جريدة (وقت) نمرة 895 في 23 ديسمبر الشرقي سنة 911 الموافق 16 محرم
سنة 1330.(15/225)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيد حسين وصفي رضا
أقوال أهل الفضل فيه
وعَدْنا في الجزء الماضي بكتابة نموذج من تعازي سائر البلاد والأقطار
وإنجازًا للوعد ننشر ما يلي:
(12)
وكتب إلينا علم العلم والفضل في العراق العربي العلامة السيد محمود شكري
أفندي الآلوسي الحسني.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الإمام الهمام، وقدوة العلماء الأعلام، سيدي السيد محمد رشيد
رضا، ألهمه الله الصبر والرضا على ما قدر وقضى، أما بعد فقد طَرَقَ سمْعي، ما
أجرى دمعي، من الخبر الذي نشرته صحف بلاد الشام، وكدرت به قلوب الإسلام،
من نعي الصنو الكريم، والأخ البر الرحيم، سمي جده الإمام الحسين، ووارثه
في الفوز بالشهادتين، ووالله لقد تجددت عليّ مصيبة ابن العم فابتليت بمصيبتين
وفي كل يوم للمنايا رزية ... تكاد لها الأكباد أن تتفطرا
تهيّج أحزانًا وتبعث زفرة ... وترسل في فقد الأحبة منذرا
تكدر إخوان الصفا في انبعاثها ... وأي صفاء لامرئ ما تكدرا
فأسفا على شبابه، ولهفًا على فضائله وآدابه، ولعن الله قاتله وضاعف عليه مزيد عذابه، ولعمري إنها لمصيبة تتفتت لها القلوب، وتتصدع منها الصخور وتذوب، -ألهمك الله الصبر الجميل، وضاعف لك الأجر الجزيل، وصرف عنك فوادح الضراء، ووقاك محذور الأرزاء، ووفقك فيما أصابك لعزائم العزاء-، وأحق كلمة يقولها المحزون: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... بغداد في 20 صفر سنة 1330
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... العبد
... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد محمود شكري
(13)
وكتب الفاضل المخلص والعامل في سبيل الإصلاح السيد عوض سعيدان
الحمد لله
مولاي الأستاذ الرشيد أدام الله وجوده
سلام الله عليكم أهل البيت
قرأت بالجرائد نعي أخينا السيد حسين وصفي شقيقكم الفاضل فأظلمت الدنيا
في عين محبكم هذا. وقد حصل لنعيه رنة أسف بين أدباء هذه البلاد وستقام صلاة
الغائب عليه بكها (يوم الجمعة) بالجامع الكبير وقد عُرف السيد هذا بعلو الهمة
والغيرة الوطنية التي تجلت فيه عند بزوغ شمس الدستور بالبلاد العثمانية وإن مثل
الفقيد إذا ظهر بذاك المظهر فهو أليق الناس به إذ هو من صميم السادات الأشراف
الذين لهم على الناس الإشراف، فهم صنائع ربهم، والناس بعدُ صنائع لهم. فأحسن
الله عزاكم وعظم أجركم وأخلفه علينا وعليكم بخلف صالح. وقد وصلتني كتب
أعظم تعزية من بعض الإخوان وأحدهم يقول: إن المسلمين بهذه الأطراف يكابدون
من أنواع الهموم ما الله عالم به وزادهم نعي ثقة الإسلام بفاس وذبول غصن الأدب
بالشام. (يعني الفقيد) فإنا لله وإنا إليه راجعون. رحمه الله وغفر له آمين.
... ... ... ... ... ... ... سنغافورة 19 سفر سنة 1330
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محب الفقيد
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عوض سعيدان
(14)
وكتب العالم العامل السيد عبد الله بن محمد بن صالح الزواوي مدرس التفسير
في الحرم المكي الشريف الحمد لله وحده.
حضرة محترم المقام الفاضل الأمجد الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا
أفندي حفظه الله.
بعد إهداء جزيل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته موجبة.
بعد السؤال عن عزيز الخاطر العاطر إعلامكم بتكدر خاطرنا مما رأيناه في
جريدة الحضارة بوفاة من قدس الله روحه إلى الجنة أخيكم المرحوم المغفور له السيد
حسين وصفي رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار،
ولقد ساءني جدًّا هذا النبأ الفاجع عظم الله أجركم وأحسن عزاكم وطرح البركة في
عمركم وعملكم وفي عمر إخوانكم وتكونون خير خلف لخير سلف.
ثم إنني واجهت محب الطرفين الشيخ محمد حسين أفندي نصيف وزاد كدري
ما أخبرني به من أنه رأى في جريدة طرابلس أنه كان وفاة الفقيد المرحوم العزيز
بيد أثيمة كافأها الله سبحانه بعدله بما تستحقه، وأنال الفقيد المرحوم بها السعادة
وفاز بها، فلقد كان في حياته مجاهدًا أعز جهاد وعضدًا لفضيلتكم في جهادكم الذي
أرجو من الله سبحانه وتعالى لكم به زيادة الأجر وحصول النتاج الظاهري الذي
ترونه وتقر به عينكم مع طول عمركم وحصول البركة في أعمالكم وتنالوا بذلك
سعادة الدارين ويحصل لكل محبيكم كل ما أمّلوه من النتائج الحسنة، ثم إني أرجو
إبلاغ جزيل سلامي مع سنة العزاء إخوانكم الكرام وكل من تحبون وأن لا تروا
علي في عدم المكاتبة فإنكم لا تزالون في خاطري على الدوام وقائم بوظيفة الدعاء
لكم تجاه بيت الله الحرام ولما ذكر حرر والسلام.
... ... ... ... ... من مكة المشرفة 15 ص سنة 1330
... ... ... ... ... ... ... عبد الله محمد صالح الزواوي
(15)
وكتب العالم المحقق والدراكة المدقق السيد هبة الدين الشهرستاني الحسيني
صاحب مجلة (العلم) بالنجف. ننشر من كتابه ما يأتي قال:
بتاريخ 24 شهر صفر 1330 هـ.
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 156-157) إلخ. قرآن عظيم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
حضرة العلامة الكامل أستاذ الأفاضل دام ظله وكثر مثله
بعد إهداء أسنى سلام وأزكى تحية، إلى تلك الحضرة القدسية، أدامها رب
البرية، وبث الأشواق الخالصة القلبية، ولا يذهب عن فطنتكم ما أصابنا لما
أصابكم فأحزن القلب وأجرى الدمع ومن مصيبة ما أعظمها ورزية ما أكبرها
وأمضّها وقد أثارت في صدورنا الأحزان بها الشرار، وأسدلت الهموم على قلوبنا
منها الأستار.
منذ أبلغتنا الصحف نعي سعادة الأخ الفاضل قطب رحى الفضايل وأنه مضى
شهيدًا بعدما عاش سعيدًا ولا غروَ فإنه من أهل بيت أصبح القتل لهم عادة،
وكرامتهم من الله الفوز بالشهادة، وقد أخذ الحزن منا مأخذه، وأسفنا عليه أسفًا فايق
الوصف لولا سلوتنا بمثل سيادتك، ملاذًا للأمة، ومعاذًا من كل غمة، ومقدًا آمال
الباقين، وجمالاً للإسلام وثمالاً للمسلمين، وقد بلغني هذا النبأ الموحش، وإنا إذ
ذاك في كاظمية بغداد مهاجرًا إليها مع علماء النجف فذكرت لهم ذلك النبأ المفجع
ليشتركوا معي في الحزن فعمنا الأسف جميعًا والتفجع على فقيد العلم والدين والأدب
إلخ.
(16)
وكتب العالم المستشرق الفرنسي موسيو لويز ماسنيون وهو من أصدقاء الفقيد
الخُلَّص ننشر كتابه كما ورد وهو:
إلى حضرة الشيخ الأفضل، شقيق صديقنا المرحوم وصاحب القلم الصدوق
السيد رشيد رضا الأفخم سلمه الله تعالى.
أما بعد السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقد وجعنا كثيرًا خبر وفاة
شقيقكم المرحوم: السيد حسين وصفي رضا؛ لأن له في قلوب أصحابه مقامًا خاصًّا
من الخواص وكان في رجائي أن ألتقي معه لو شاء الله عن قريب لتتجدد
بالمخاطبات صداقتنا، كان فتى كامل الفتوة من أشرف الناس همة ومنصبًا، ولما
كنا بلطف الرب عز وجل نجتمع معه في مصر كنا نفهم أنه فوقنا رتبة عند الله
تعالى لشجاعته واجتهاده وصفاء نيته رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
زكي النفس أزكى الحياة مثله مثل الذين (كانت مطاياهم من مكمد الكظم)
مضوا ولا عين ولا أثر وراءهم إلا الألم يبقى في قلوبنا تحت توكل عقولنا للخالق
مثل خمود نار الغبوق تحت الرماد في الليلة بين الأثافي مثل الموت مثل الغروب
وما أنسى ما قال أبو بكر الشبلي البغدادي في المعنى:
(إنما تصفرُّ الشمس عند الغروب؛ لأنها عزلت عن مكان التمام فاصفرت
لخوف المقام وهكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه فإنه يخاف المقام،
وإذا طلعت الشمس طلعت مضيئة منيرة كذلك المؤمن إذا خرج من قبره خرج
ووجهه مشرق مضيء) .
هذا ولكم منا السلام وكل احترام لكم ولآلكم ولمن يعز عليكم ودمتم سالمين
مجتهدين مع (مناركم) المنير.
الفقير إليه سبحانه عبده لويز ماسنيون
في باريز يوم السبت 10 شباط سنة 1912 21 صفر سنة 1330.
(للتعازي بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(15/236)